انبعاث الإسلام في الأندلس

علي المنتصر الكتاني

انْبعَاثُ الإِسْلاَم في الأندلُسْ بقَلم الأسْتَاذ الدّكتورْ عَلي المنتَصر الكتّاني دار الكتب العلمية

الكتاب: انبعاث الإسلام في الأندلس المؤلف: الدكتور علي المنتصر الكتاني الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت عدد الصفحات: 464 سنة الطباعة: 2005 م بلد الطباعة: لبنان الطبعة: الأولى

الإهداء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الإهداء أهدي هذا الكتاب إلى أرواح المجاهدين الذين سقوا أرض الأندلس الطاهرة بدمائهم عبر القرون ليحافظوا على دينها وكرامتها، وإلى السيد الوالد الشيخ العلامة محمد المنتصر بالله الذي علّمني منذ نعومة أظافري حب الإسلام والأندلس، والذي أحب أهل الأندلس فأحبوه ونصحهم فأعزوه، فكان أول من افتتح مسجد القاضي أبو عثمان بقرطبة، وأول من توجه ناصحًا لمجلس قرطبة البلدي. كما أهدي كتابي هذا إلى والدتي السيدة أم هانىء بنت الشيخ عبد السلام الفاسي الفهري، سلالة بني الجد المنحدرين من لبلة بأرض الأندلس. وإلى زوجي السيدة نزهة بنت عبد الرحمن الكتاني وأبنائي حسناء والحسن وحمزة والحسين الذين تابعوا جميعًا الأحداث المفصلة في هذا المصنف، متمنيًا أن يتابعوا المسيرة في الذود عن الإسلام والعطف على الأندلس كواقع حي دائم دوام الأمة.

تقديم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تقديم إن في تاريخ الأندلس - ذلك الفردوس المفقود - لَدروسًا وعِبَرًا لا نجدها في تاريخ غيرها من البلاد. ولا شك أن ازدهار المسلمين في الأندلس ثم انهيار دولتهم وسقوط حضارتهم يشكل جزءًا هامًا من تاريخ الإسلام السياسي والحضاري. كانت الأندلس نموذجًا أمثل لرقي المسلمين الثقافي والحضاري والعلمي والفكري في أوج ازدهارها وعصرها الذهبي. ولم يستطع التاريخ أن يقدم نظائر لما أنتجته الأندلس من علماء نوابغ ومفكرين عباقرة. فأنى للزمان أن يجود بمثل أبي عبد الله القرطبي في علم التفسير، وأن يأتي بنظير لبقي بن مخلد في علم الحديث، وأن يقدم قرينًا لأبي إسحق الشاطبي في علوه في التفكير الفقهي، وأن يأتي بعديل لابن رشد وابن باجة في الفكر الفلسفي، ومن ذا الذي يسبق أبا محمدِ بن حزم في شرحه للفقه الظاهري شرحًا وافيًا مبسطًا. وهل في العالم الإسلامي من يفوق ابن العربي في تفكيره البديع وسعة اطلاعه على الأدب الصوفي بجميع أبعاده ونواحيه. وليس بِخافِ على مَن له إلمام بتاريخ الأندلس أن الانهيار الذي تلى هذا الازدهار لا نظير له ولا مثيل في تاريخ سقوط الأمم وانهيار الحضارات. إن تاريخ المسلمين يقدّم أمثلة كثيرة لسقوط الحكومات والانهزامات العسكرية. فعانت الدولة المغولية في الهند مشاكل على أيدي الهندوس والإنجليز أدّت في نهاية المطاف إلى سقوط الدولة الإسلامية وهزيمتها العسكرية. وسقطت حكومات إسلامية في بخارى وسمرقند ومدن أخرى من مدن آسيا الوسطى - منطقة ما وراء النهر - وانهارت دول الإسلام المتعددة في بلاد إفريقيا، وانقضت حضارات إسلامية في منطقة الشرق الأقصى. ولكن هناك فرقًا كبيرًا وبونًا شاسعًا بين هذا السقوط وبين سقوط المسلمين في الأندلس، وبين هذا الانهيار وبين انهيار دولة الإسلام في

الأندلس. كان السقوط والانهيار في كل هذه البلاد سقوطًا عسكريًّا. وانهيارًا سياسيًّا فقط ولم يتعد إلى الجانب الفكري والنفسي والعاطفي والديني. ولم يؤد إلى تصفية الوجود الإسلامي تصفية كاملة كما أدى ذلك في الأندلس. ومن الأسف الشديد أن دراسة أسباب هذا الانهيار الكامل دراسة جدية موضوعية لا تزال أمانة في أعناق علماء المسلمين. نعتبر سنة 1492 م عمومًا كأنها تمثل نقطة نهاية سقوط المسلمين في الأندلس - السنة التي سقطت فيما دولة غرناطة - آخر دول الإسلام سقوطًا - حيث تنازل أبو عبد الله عن قصر الحمراء ومدينة غرناطة لفرديناند وأزابيلا - ولكن كانت هذه نقطة نهاية سقوطهم سقوطًا سياسيًّا. ولكن العالم الإسلامي مع الأسف ظن أنه نهاية باب من أبواب التاريخ الإسلامي وافترض أن التواجد الإسلامي في الأندلس انتهى بنهاية دولتهم. فأصبحت القضية عندهم نسيًا منسيًّا وصارت أمرًا مفروغًا منه. ومن هنا بدأت الكارثة الكبرى وشاهدت الأندلس مشاهد لم ترها العيون من المذابح والمجازر التي استمرت أكثر من قرنين كاملين. كانت سنة 1494 نقطة بداية لما يسمى بمحاكم الاستجواب والتفتيش التي تمثل أسوأ وأحلك وأظلم ما قدّمه رجال الكهنوت من ظلم واضطهاد باسم دين يدّعي بكونه دين التسامح. والتضحيات التي قدمها المسلمون خلال هذا الظلام الحالك من الظلم والاضطهاد تشكل جزءًا هامًّا من تاريخ الدعوة والعزيمة وتاريخ النظريات والديانات. ولا يمكن لتاريخ البشرية كلها أن تقدم نظيرًا لهذه التضحيات. ولكن التاريخ تناسى هذا العصر الهامّ من تار - صلى الله عليه وسلم - يين المتعصّبين لتصفية أجيال المسلمين. وكأن أهل العلم تجاهلوا المذابح والمجازر التي أتت على حياة آلاف بل ملايين الأبرياء من المسلمين. كأن أهل الأدب لا يهمّهم ضياع ملايين الكتب القيمة التي أحرقها أعداء العلم والمعرفة من الكاثوليكيين المتعصبين. وكأن زعماء حركة حقوق الإنسان لا يعطون وزنًا لحياة الآلاف الذين أحرقوا وهم أحياء دون أي سبب إلا أن يقولوا ربنا الله. إن مدن قرطبة وإشبيلية وغيرها لا تزال فيها شوارع وميادين تعرف بالمحرقة التي أحرق فيها المسلمون الأبرياء ودمرت فيها المكتبات بدرجة لم يمكن لهذه المدن أن تنساها فبقي اسم المحرقة على ألسن الناس ذكرى ودليلاً على هذه المجازر.

لعلّ صديقنا الأستاذ الفاضل المفكّر الإسلامي البارز الدكتور علي المنتصر الكتاني أول من أخذ على عاتقه الوفاء بهذا الواجب الجماعي وجمع معلومات قيمة مستقاة من المصادر الأصيلة عن الظلم والقتل والتشريد والتعصب الذي عانى منه المسلمون طوال هذا العصر الحالك، واستوعب بدراسته العميقة الملامح العامة للتضحيات التي قدمها المسلمون خلال هذه المدة، وجمع فأوعى، جزاه الله خيرًا، ونرى في هذا الكتاب القيم كل ما قام به أهل الإسلام من جهود للحفاظ على هويتهم الإسلامية وشخصيتهم العربية. والكتاب يجمع بين حماسه الدعوى الدفاق وجديته العلمية وأسلوبه الأدبي الرائع ومنهجه التاريخي المحايد. ولا شك أن هذه المزايا ضمنت للكتاب مكانة مرموقة بين الأدب الإسلامي المعاصر. وقبل أن أختم كلمتي المتواضعة أسجل شكري العميق للمؤلف الفاضل على تفضله بالسماح لمجمع البحوث الإسلامية لطبع هذا الكتاب، كما أقدم شكري وتقديري لأكاديمية الدعوة على مساعدتها المالية في طبع الكتاب وذلك في ضمن برنامجها للبحث والنشر في قضايا الأقليات الإسلامية. والله ولي التوفيق. ظفر إسحق الأنصاري إسلام آباد 15 محرم الحرام 1413 هـ

مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني

مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني "انبعاث الإسلام في الأندلس "! الله أكبر! ولا غالب إلا الله! نعم، ذلك ما حدث في الأندلس بالفعل، بعد موت الديكتاتور الإسباني الجنيرال فرانكو. الصليبي الصميم، وإعلان إسبانيا دولة ملكية دستورية لا مركزية، اعترفت بالقوميات المختلفة، ومن بينها القومية الأندلسية، واعترفت بالدين الإسلامي. فأعلن بعض الأندلسيين عن إسلامهم، وأسسوا المساجد والجمعيات والمراكز الإسلامية، وأعلنوا الآذان لصلاة الجماعة والجمعة، واحتفلوا بالأعياد الإسلامية، وعقدوا الندوات والمؤتمرات الإسلامية بمشاركة مسلمين غير أندلسيين. وإذا كانت هذه الأمور قد أصبحت عادية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في كل أنحاء العالم، كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأستراليا واليابان وأمريكا الشمالية والجنوبية وغيرها. فإن الأمر في الأندلس يختلف عن ذلك اختلافًا كبيرًا. فقد أسّس الإسلام في الأندلس دولة عظيمة، وأقام حضارة شامخة، ساهم فيها الأندلسيون والمغاربة والمشارقة والمولدون والموالي واليهود، وكان لها إيجابياتها وسلبياتها، وأنجبت أعلامًا فطاحل في مختلف فروع المعرفة بدون استثناء، فأغنوا الخزانة العلمية الإسلامية العربية بآلاف المجلدات، ونشروا المعرفة على نطاق واسع حتى لم يبق في الأندلس كلها أمي ولا أمية، كما يؤكد ذلك " دوزي "، المستشرق الهولاندي. ومع أن دولة الأندلس الإسلامية كان يعيش فيها مع المسلمين اليهود والنصارى في أمن وسلام، يتمتعون بحريتهم الدينية التي ضمنها لهم الإسلام، وينهلون من معين المعرفة على أوسع نطاق، فإن الصليبية الجهولة المتوحشة المشركة الوثنية أعلنتها

حرب إبادة شرسة ضد المسلمين والإسلام، وحضارته وثقافته وعلومه، في معركة، استمرت عدة قرون. نعم عدة قرون. وذلك ما يتحدّث عنه هذا الكتاب "انبعاث الإسلام في الأندلس "بقلم الدكتور علي بن المنتصر الكتاني، معتمدًا على حوالي خمسمائة مصدر أغلبها مصادر إسبانية بأسمائها وصفحاتها، وبذلك يملأ فراغاً في المكتبة العربية والإسلامية. لقد قرر الطغاة الصليبيون منع الإسلام بالأندلس، فهاجر منها مَن هاجر من المسلمين، وهجروا مَن هجروا، وقرر مَن لم يهاجروا، أو بعضهم، أن يخضعوا للتنصير ظاهريًّا، ويحتفظوا بإسلامهم خفية، في انتظار أن يأتيهم الفرج من عند الله. ولكن الكنيسة لم تنخدع، فكانت تحاكم مَن ظهر عليه إخفاء الإسلام، كالاغتسال أو الامتناع عن أكل الخنزير أو شرب الخمر، وقد تحكم عليه بإحراقه حيًّا في ساحة المدينة بحضور الجماهير! وأذكر بالمناسبة أنني قرأت عن رسالة جامعية قُدِّمت لكلية الآداب بجامعة محمد الخامس استنادًا إلى وثائق برتغالية عن محاكمة نساء بإخفائهن الإسلام. وقد تحدّث الشهاب الحجري عن تربية والده له على الكتمان، بتعاون مع أُمه وعمه، قبل أن يلقّنه العقيدة الإسلامية، وتوصيته بإخفاء ما يقوله عن أمه وعمه. وإني لأذكر أني في أول زيارة لي في غرناطة كنت مارًّا بحيّ البيازين، فمررت بدار يدخلها السّوّاح، فدخلت معهم، ووجدت شابة جالسة في "برطال" الدار، وبين يديها "مرمة" تطرز فيها منديلاً طرز "الغرزة"، كأنما هي في دار فاسية. وقد لفت نظري أن الشابة كانت مقبلة على عملها من غير أن تبالي بالواقفين حولها أو ترفع رأسها للنظر إليهم. وخطر ببالي إذ ذاك أن ذلك من بقايا التربية الإسلامية التي كانت الفتيات المسلمات يتربين عليها، ولم يخطر لي ببال أنه ما يزال بالأندلس مسلمون يخفون إسلامهم. وحدَّثني صديقنا الأديب الكبير خير الدين الزركلي - رحمه الله - أنه كان في زيارة للأشبونة واستدعاه أحد وجهائها، وأثناء الحديث قال له: "إننا ما نزال مسلمين نتوارثه عن جدودنا منذ العهد الإسلامي". وأخبرني الدكتور محمد الناصري، أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن شابين سلاويين أخبراه أنهما كانا في إسبانيا، فلقيهما رجل في

إحدى المدن فسلم عليهما وسألهما عن بلدهما. ولما عرف أنهما مغربيان استدعاهما لتناول طعام الفطور عنده وأعطاهما عنوانه. فلما ذهبا وجدا دارًا نظيفة مثل دور المسلمين، ورحبت بهما العائلة المحتشمة، وقالوا لهما: "إننا مسلمون نخفي إسلامنا ". ولم يفهم الشابان معنى لهذا. وأخبرتني الدكتورة آمنة اللوه أنها كانت في الأندلس صحبة زوجها، صديقنا الأستاذ إبراهيم الألغي - رحمه الله -، فالتقيا في الطريق بأسرة أندلسية لاحظا أن نسائها يرتدين ثيابًا محتشمة، فتعارفا، وأخبرتهما أنهم مسلمون يخفون إسلامهم. وقرأت في جريدة "النور" الإسلامية التي تصدر بتطوان مقالاً بقلم مديرها صديقنا الدكتور إسماعيل الخطيب يتحدث فيه عن حضوره أول صلاة للعيد أقامها المسلمون بمدينة غرناطة بعد إعلان الحرية الدينية بإسبانيا، وذكر أن من بين الذين حضروا الصلاة شخص كان يحمل حقيبة أخرج منها ثوبًا إسلاميًّا لبسه بعد أن نزع ثوبه النصراني، وأنه من المسلمين الذين كانوا يخفون إسلامهم. وقد اهتز كياني واقشعرّ جلدي وأنا أقرأ هذا الخبر، وأسفت أسفًا شديدًا أن الدكتور لم يتصل بهذا الرجل ويسأله عن شعوره في هذه المناسبة، وعن تجاربه الإسلامية في المرحلة السابقة. وبهذه المناسبة أشير إلى أن المكتبة الأندلسية، والإسلامية على العموم، في حاجة أكيدة إلى معلومات وافية يُدلي بها هؤلاء الذين عاشوا هذه الحياة المزدوجة بين النصرانية في العَلَن والإسلام في السّرّ. فإن استمرار جماعة من المسلمين الأندلسيين، يعيشون مدة خمسة قرون حياة مزدوجة، يتظاهرون فيها بالنصرانية ويسرّون الإسلام، مُتَعَرّضين في ذلك لمختلف الأخطار والأهوال التي تحدث عنها الكتاب ليعتبر ظاهرة فريدة في المجتمع البشري، وخارقة للعادة بكل المقاييس، تبين بكل وضوح أن الدين الإسلامي هو دين الفِطرة التي فطر الناس عليها، كما قال الله سبحانه، وهو أصدق القائلين، وأنه استطاع أن يمتزج بأرواح وشغاف قلوب أفراد هذا الشعب الأندلسي النبيل، رجالاً ونساء وأطفالاً، بدوًا وحضرًا، ويكون منهم أمة إسلامية حقيقية استطاعت أن تحقق للإسلام هذه المعجزة العظمى، فتصمد في ميدان التحدّي خمسة قرون، لا سلام لها إلا إيمانها الذي لا يغلب. لقد تبيّن بما لم يبق معه شك ولا لَبْس ولا إبهام، أن جماعة من مسلمي الأندلس الذين لم يغادروا الأندلس عندما استولى الصليبيون عليها، قد تنصروا ظاهرًا

مرغمين، واستمروا مسلمين مختفين، إلى أن "انبعث الإسلام بالأندلس "من جديد، فأظهروا ما كانوا يخفون. وتمثلت هذه الظاهرة الخارقة في ذلك المؤمن الأندلسي المجهول الذي شاهده الدكتور إسماعيل الخطيب يحضر صلاة العيد في غرناطة حاملاً حقيبته التي فيها ثوبه الذي كان يصلي به. واستمر المسلمون الأندلسيون يخفون إسلامهم خمسمائة عام إلى أن عادت الحرية الدينية لإسبانيا، واعترفت حكومتها بالدين الإسلامي، وبالقومية الأندلسية المتميزة التي جذورها الإسلام والعربية حسبما قرره بطلها في العصر الحديث الشهيد بلاس انفانتي، تغمده الله بواسع رحمته. فنؤكد أن التعرف على هؤلاء والتعريف بهم أمر شديد الأهمية لدرجة قصوى سواء من لا يزال منهم حيًّا لحد الآن، أو من أدركه أجله منذ "انبعاث الإسلام بالأندلس "، وكذلك كل من عرف أنه كان مسلمًا أيام "التقية ". وقد تحدّث الدكتور علي الكتاني في الكتاب عن الشهيد أنفانتي - رحمه الله - حديثًا مستفيضًا، ومهمًّا جدًّا. وأخبرني أحد التطوانيين أنه كان يزور كثيرًا شمال المغرب، وكان له أصدقاء مغاربة. وذكر الكتاب أن خليل ابن أمية، - رحمه الله -، غامر بإعلان إسلامه في وقت لم يكن يجرؤ على ذلك أحد، وكان - رحمه الله - معروفًا بيننا بخليل ابن أمية، وكان صديقًا حميمًا لبطل الإسلام الخالد الأمير شكيب أرسلان - رحمه الله -، كما كان عضوًا في جمعية إسبانية أسستها الحركة الوطنية المغربية من الإسبان الذين يعطفون على الحركة الوطنية، ولعلها كانت تسمى "بيت المغرب ". كما تحدث الكتاب عن البطل الشهيد محمد ابن أمية (فرناندو دي بالور) الذي قاد الثورة الإسلامية العظمى في جبال البشرات. وهل مَرَدّ عدم إعلان عدد أكبر من الأندلسيين إسلامهم يعود إلى أنهم ما زالوا لم يطمئنوا إلى هذا الإعلان، أو يخشون أن يحدث انقلاب جديد يلغي هذا الإعلان ويعود الوضع إلى ما كان عليه من قبل، خصوصًا والكتاب يتحدث عن أن الكنيسة تقيم الاحتفالات بذكريات احتلال المدن وما ارتكبته فيها بتلك المناسبات من مذابح وجرائم!؟ وفي السبعينات من القرن الميلادي الجاري عقد رهبان مسجد قرطبة (الكاتدرائية)، برئاسة مطران قرطبة، لقاء دعوا له مسلمين من المغرب والمشرق، وقالوا إنه حوار بين الإسلام والمسيحية، وإنهم نظموه من تلقاء أنفسهم لم يستشيروا فيه مع الفاتيكان! وقالوا إنهم يعترفون بأن محمدًا رسول الله حقًا وصدقًا، وإنه صادق

أمين، وإنهم يعترفون بأنهم كذبوا عليه، وشوهوا سمعته، ونسبوا إليه ما هو - صلى الله عليه وسلم - منه بريء، وإنهم فعلوا ذلك بعد أن لاحظوا أنه لم يبق في شمال إفريقيا نصراني واحد، فحتى لا يقع في الأندلس ما وقع في بلدان المغرب فعلوا ما فعلوا. وقالوا إنهم يعترفون أن عندهم في دينهم أشياء غير معقولة تلقوها عن قدمائهم، فهم يؤمنون بها من غير أن يفهموها. كما أن عند المسلمين في دينهم أشياء يعترفون بأنها غير مفهومة. ثم اقترحوا على المسلمين أن يلغوا فكرة الجهاد حتى يمكن للنصارى أن يتعايشوا مع المسلمين. ثم أذنوا للمسلمين بصلاة الجمعة في مسجد قرطبة لأول مرة من استيلاء النصارى عليه. ذلك ما وعته ذاكرتي من مقال نشرته مجلة"العربي" الكويتية، ولست أدري بماذا أجاب المسلمون الحاضرون. ولعل من المناسب أن أذكر رأي الإسلام في بعض ما قاله الرهبان: إن ما وقع في إفريقيا الشمالية (المغرب العربي) بعد الفتح الإسلامي، من تخلي السكان عن النصرانية حتى لم يبق في البلاد نصراني واحد، فمن المقطوع به أن ذلك لم يكن ناشئًا عن جهاد ولا ضغط ولا إرغام، وإنما كان أمرًا تلقائيًّا، يمكن البحث عن سببه أو أسبابه خارج نطاق الجهاد والإكراه. ولعل من أسباب ذلك ما يتحدث عنه هذا الكتاب من صمود جماعة من مسلمي الأندلس طوال خمسمائة عام متمسكين بإسلامهم مستهينين بالأهوال التي تحدث عنها الكتاب. وأما ما قالوه عن اللامعقول في المسيحية والإسلام فنحيلهم على كتابين، أحدهما"كتاب الملل والنحل"تأليف العالم القرطبي المسلم أبي محمد بن حزم، وهو أول كتاب وضع في علم تاريخ الأديان المقارن. وقد درسه جيدًا أو ترجمه إلى الإسبانية المستشرق القس أسين بلاثيوس، ونشرته الأكاديمية الملكية الإسبانية في مجريط في خمس مجلدات. وأما الكتاب الثاني فهو"الكتب المقدسة والعلم الحديث"تأليف الجراح الفرنسي المعاصر المسلم موريس بوكاي. هو مطبوع بالفرنسية في طبعة عادية وأخرى شعبية للجيب وبالعربية وبالإنجليزية. وأما قولهم عن الجهاد، فنقول إنه تشريع اضطر إليه الإسلام للدفاع عن نفسه وعن المسلمين. والجهاد كما يكون بالسلام يكون بالحوار والمحاججة. وقد قال الله لرسوله عن القرآن:"وجاهدهم به جهادًا كبيرًا". وما يزال القرآن من أعظم الأسلحة التي لا تغلب. وقد دخل في الإسلام في هذا العصر ما لا يعد في مختلف أنحاء العالم ممن اطلعوا عليه مترجمًا إلى غير العربية، وأحيانًا تكون الترجمة غير دقيقة، بل

وأحيانًا غير أمينة! وصدق الله العظيم إذ يقول: {سَنُرِيهِمْءَايَاتِنَا فِى اَْلآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} [فصلت: الآية 53]. ونعود إلى الحديث عن جامع قرطبة، فبعد أن أخذ الإسلام يظهر علنًا بين مواطني قرطبة، وتكوّنت أول جماعة إسلامية لهم بها، تنكّر مطران قرطبة لكل كلماته المعسولة، وأخذ يتهجم على الإسلام وأهله كما ذكر الكتاب، ويرجع بالمسلمين الأندلسيين إلى أسوأ الذكريات من أعمال سلف المطران سيئي الذكر. ووصل الحقد بالمطران والكنيسة إلى منع المسلمين، بما فيهم أهل قرطبة، من الصلاة في مسجد قرطبة الأعظم منعًا باتًا. وانقطعت بعد ظهور الإسلام في قرطبة علانية مؤتمرات الكنيسة مدعية الحوار مع المسلمين. وذكرت جريدة"العلم"المغربية في عددها الصادر بتاريخ 25 أكتوبر 1990 م خبرًا ورد في أثنائه أن مسجد النور بمجريط شيد قبل حوالي سنة بفضل هبات الجالية المغربية المقيمة بمجريط، وأن ملحقًا بسفارة المغرب بإسبانيا يشرف على تعليم اللغة العربية للجالية المغربية. وقالت عن المسجد إنه أحد مساجد مجريط! وذلك مظهر آخر من مظاهر"انبعاث الإسلام بالأندلس". وبضواحي مدينة مربلة (مقاطعة مالقة) بني أحد الأمراء السعوديين مسجدًا بالقرب من قصر له هناك، وقد صليت فيه بعض الأوقات. ولعل من طريف مظاهر"انبعاث الإسلام بالأندلس"نصب تماثيل لبعض رموز الوجود الإسلامي ببعض المدن الأندلسية. وقد كنا رأينا صورة تمثال للإمام أبي محمد بن حزم نصب في قرطبة، وقرأنا عن الاحتفال بنصبه، وسمعنا عن نصب تمثال بقرطبة للفيلسوف ابن رشد. ورأيت في إحدى ساحات مالقة تمثالاً لشخص عربي لم أدر من هو. وقد وقف الشاعر المغربي محمد الحلوي بمدينة المنكب (مقاطعة غرناطة) على تمثال لعبد الرحمن الداخل، فأوحى له برائعة عنوانها"أما آن للفارس أن يترجل؟ " (جريدة"العلم"23/ 10/ 1990 م، ص 10) يقول فيها: أما آنَ للصقر المحلّق في العُلا على قمم الفردوس أن يترجَلا؟ مُطِلاًّ من الماضي بقامة فارس ومرهف سيف كان في اليد مِشعَلا وفي هامة شمَّاء شَدَت حمامة تظلّل وجهًا أسمرًا قد تهلّلا .. شددت إلى تمثاله ورأيت في ملامحه عزًّا ومجدًا تَمَثَّلا

تجشّمت أن أرقى إليه فلم أجد وقد ملأ الإجلال قلبي أرجلا فقبّلت بُردًا لف أطيب منكب وأكرم به بُردًا وإن شفَّه البلا كأن على أكتافه كلّ ما بُنِي وما شُيِّد من مجد أخيرًا وأوّلا فللَّه نحّات أعاد حقيقة بإزميله ما كان لي متخيَّلا .. سلامٌ على غرناطة وقصورها وماضٍ سِنِي مستطاب بها حلا والأندلس الإسلامية مغربية، وكذلك سمي النصارى الإسبان جميع المسلمين بالمغاربة"المورو"، وسمي عرب المشرق الأندلسيين مغاربة، وأدخلوهم في أوقاف المغاربة في الحجاز وبيت المقدس، وفي رُواق المغاربة في الأزهر بمصر. فبمجرد ما أكرم الله المغاربة بالدخول في الإسلام سارعوا إلى إدخاله إلى الأندلس بقيادة طارق بن زياد المغربي. واستشهد الكثيرون منهم، واستقر كثيرون آخرون هناك للدفاع عن الإسلام والمسلمين. وتوحد الشعبان في نطاق الإسلام والثقافة الإسلامية، ولم يؤثر اختلاف الأنظمة الحاكمة في هذه الوحدة الشعبية إطلاقًا. وكذلك كان التنقل بين "العدوتين"، الأندلسية والمغربية، عبر البوغاز، أو المجاز، أمرًا عاديًا مستمرًا في الاتجاهين. وكان الأتقياء من المغاربة يذهبون إلى المرابطة في الأندلس في مواعيد محددة، ثم يعودون إلى ديارهم. وأكتفي بإيراد مثل واحد، هو عالم فاس دراس بن إسماعيل - رحمه الله - الذي تعلم في فاس وقرطبة والقيروان وبغداد، وأدخل مدونة سحنون للمغرب، وكان يدرسها بفاس. وكان يتردد على الأندلس ليرابط بها. والمرابطة نظام إسلامي طبقه المسلمون في المشرق والمغرب، كما هو معلوم. وكما قال لسان الدين ابن الخطيب: حتى إذا سلك الخلافة انتثر وذهب العين جميعًا والأثر قام بكل بلدة مليك وصاح فوق كل غصن ديك ولكن هذه الديكة عجزت عن الدفاع عن نفسها، فاستغاثت بيوسف بن تاشفين، فقاد معركة الزلاقة المظفرة التي زادت في عمر الإسلام بالأندلس أربعة قرون، وأصبحت الأندلس جزءًا من الإمبراطورية المرابطية ثم الموحدية، التي كانت تمتد شرقًا إلى حدود مصر، وغربًا إلى حدود غانة وراء الصحراء الإفريقية الكبرى. وكان الأندلسيون يتولون فيها مناصب سامية، وفضل بعضهم مغادرة الأندلس والاستقرار في مختلف أنحاء هذه الإمبراطورية الشاسعة الأطراف، بل فيهم من تجاوزها إلى الاستقرار في أنحاء المشرق العربي.

وحتى عندما انفصلت الأندلس عن المغرب على عهد الدولة المرينية، بقي المغرب مرتبطًا ارتباطًا عضويًا متينًا بمشاكل الأندلس. وقد نشرت أكاديمية المملكة المغربية ديوان ابن فركون، وقد تضمن مضامين تاريخية، وهي مضامين تعرف لأول مرة وتكشف النقاب عن محنة دولة مجيدة هي دولة بني مرين التي قدّمت الكثير لأهل الجزيرة اليتيمة، وضحّت بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الإسلام بالفردوس المفقود، فلم تلق إلا نكران الجميل، وحبك الدسائس، والمؤامرات كما ذكر الأستاذ محمد بن شريفة. ولقد أدّى المغرب ثمنًا باهظًا جدًّا لدفاعه عن الأندلس كاد أن يكون قاتلاً، فاحتلت شواطئه الأطلسية والمتوسطية من قبل الإسبانيين والبرتغاليين الذين جعلوا من الجديدة وآسفى منطلقًا للعبث في الأرض المغربية حتى أنهم وصلوا مرة إلى ضواحي عاصمة مراكش. وكان فضل الدولتين السعدية أولاً، والعلوية ثانيًا، لا يقدر في المحافظة على الإسلام بالمغرب وضد الاعتداءات الصليبية عليه، ومحاولة تحرير شواطئه المختلفة، وكانت وقعة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاثة)، التي قضت على الدولة البرتغالية بانضمامها إلى العرش الإسباني، بعدما كانت دولة عالمية، معركة فاصلة في إفشال المخطط الصليبي الجهنمي الهادف إلى القضاء نهائيًّا على الإسلام في المغرب العربي، شرقه وغربه. وتعتبر مشاركة الأندلسيين في المعركة من باب مشاركة جميع العناصر المغربية التي ساهمت بصفة طبيعية فيها، كل من موقعه الخاص. كما اعتاد المغاربة طوال القرون السابقة أن يتسابقوا تلقائيًّا إلى المشاركة في مختلف المعارك الأندلسية باعتبارها معاركهم الخاصة. وهنا ينساق بنا الحديث إلى ظاهرة المفاخرات بين المدن والحارات والأمم. ففي باريس يعتبر سكان"جزيرة فرنسا" (ليل دوفراس) وسط باريس، حيث كاتدرائية نوتردام، نفسهم الباريسيين الحقيقيين، ومن عداهم طارئين، وكذلك المفاخرة بين سكان ضفتي نهر السين بها. وقد كان لي طبيب بباريس يسألني مازحًا إذا وصلت عنده:"في أية ضفة تنزل حتى نعرف هل أنت من جهتنا أو من خصومنا!؟ ". والمفاخرات بين الفرنسيين والألمانيين، وبينهم وبين البريطانيين والإسبانيين، مما سارت بذكره الركبان، وكذلك بين الحجازيين واليمنيين، والمصريين والشاميين، والسلاويين والرباطيين، والطنجيين والتطوانيين. ويخترق مدينة فاس وادي الجواهر، ويسكن إحدى عدوتيه اللمطيون، ويسكن الأخرى الأندلسيون، ومن حارات عدوة

اللمطيين الطالعتان الكبرى والصغرى، فإذا تحدث سكان عدوة الأندلس عن سكان الطالعة قالوا بصيغة التحقير:"إنه من سكان الطوالع". ولكن شاعرًا من سكان الطالعة قال: إذا كنت في فاس ولم تكن ساكنًا ... بطالعها الأعلى فما أنت من فاس ومن أروع مظاهر تعلق المغاربة بأندلسهم وأهلها ما ورد في الكتاب من وصول مائتي متطوع مغربي للمشاركة في ثورة الأندلسيين الكبرى بقيادة ابن أمية. فلنفكر جيدًا في الظروف والملابسات والصعوبات التي سبقت هذا الوصول. فهم ليسوا جنودًا نظاميين، ولم تبعثهم دولة، فكيف وصلتهم الدعوة؟ وكيف اجتمعوا؟ وكيف هيأوا السفن التي أقلتهم؟ ومن أين أقلعوا، والشواطىء المغربية ومراسيها يحتلها الأعداء؟ والمهم بعد كل ذلك أنهم ما جاؤوا طامعين في أي مكسب مادي أو معنوي، وإنما جاؤوا يطلبون الشهادة في سبيل الله، ويسعون لإنقاذ إخوانهم المسلمين مما هم فيه. وقد قال الشاعر: والجود بالنفس ... أقصى غاية الجود! ثم مَن هم؟ ما هي أسماؤهم أو قبائلهم؟ وماذا كان مآلهم؟ وكلها أسئلة، وكثير غيرها، تبقى بدون جواب. - رضي الله عنهم وأرضاهم -، وأنعم عليهم بما وعد به الشهداء في سبيله. وذكر الكتاب في فصول عديدة فظائع من التعذيب والتنكيل التي لقيها المسلمون الأندلسيون. وقد وقع اكتشاف في السنين الأخيرة لكهف مليء بجثث عديد من المسلمين المصفدين في الأغلال أدخلهم إليه النصارى وأغلقوه عليهم. وقد نشر صديقنا الدكتور عبد الرحمن الحجي العراقي مقالاً في الموضوع في مجلة"منار الإسلام"الإماراتية مصحوبًا بعدة صور، كان سبق له أن أهداني نسخًا منها. وأشار الكتاب إلى الوثائق التي عثر عليها في أحد الكهوف بالأندلس. وكانت الدكتورة آمنة اللوه قد ألقت في كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط محاضرة عمومية عن هذا الموضوع ونشرتها بمجلة"البحث العلمي". وتحدّث الكتاب عن الأندلسيين خارج الأندلس. ففي الكلام عنهم في المغرب أشار إلى عددهم الضخم، وهو أمر طبيعي في بلد عاشوا مواطنين فيه عدة قرون، مقابل عدد ضخم من المغاربة الباقين بالأندلس. وقد ذكر منهم بعض العائلات التي

نسبها إلى الأندلس كالقصرى نسبة للقصر، وعائلات منسوبة إلى قبائل مغربية انتقل بعض أفرادها إلى الأندلس مدة ثم عاد منهم من عاد، وذكر من الأندلسيين شخصًا اسمه أزمور كان البرتغاليون أخذوه معهم لأمريكا الجنوبية، مع أن أزمور مدينة مغربية تقع بالقرب من مدينة الجديدة التي كانوا يحتلونها (مازنغان). وذكر كثيرًا من العائلات الموجودة بتونس، مثل عائلة ابن عاشور التي ينتمي إليها صديقنا الشيخ الفاضل ابن عاشور ووالده الشيخ محمد الطاهر رحمهما الله. ومن الشخصيات الأندلسية عبد الله الترجمان (القرن التاسع الهجري) الميورقي. كان نصرانيًّا، والتحق بمدرسة لتكوين الرهبان، وتخلف الراهب المدرس عن الحضور في أحد الأيام لمرض اعتراه، فذهب الطالب يعوده. وتنوع الحديث بينهما إلى أن لاحظ المدرس ذكاء الطالب وحرصه على التعلم، فقرر أن يعترف له بسر بعد أن يعاهده على أن لا يذيعه ما دام المدرس حيًّا، مع أنه إذا أذاعه فلن يصدقه أحد! ثم قال له إنه توصل إلى أنهم في ضلال مبين، وأن الدين الصحيح هو دين الإسلام. ولما سأله الطالب لم لا يعلن هذه الحقيقة على الملأ؟ قال له إن نفسه لم تسمح بالتضحية بحياة الرفاهية والبذخ التي يحياها. فأقبل الطالب على البحث إلى أن توصل للنتيجة التي توصل إليها أستاذه. اهتبل فرصة رحلة سياحية في البحر المتوسط، فشارك فيها. وفي تونس طلب مقابلة أميرها الحفصي أبي العباس أحمد، وبين يديه أعلن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم طلب اللجوء السياسي، وألف رسالة"تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب"فرغ من تأليفها سنة 823 هـ وطبعت بتونس في 1290 هـ، وفي مصر 1895 م في 68 ص. وعند كلامه على الأندلسيين بالشام ذكر من بينهم مغربيًّا صميمًا هو أبو الحسن الحرالي المولود بمراكش والمتوفَّى بمدينة حماة من بلاد الشام سنة 638 هـ. قال عنه دارسه الأستاذ محمادي الخياطي في رسالته"أبو الحسن الحرالي المراكشي"التي نال بها تحت إشرافي شهادة الدكتوراه بدار الحديث الحسنية بالرباط:"فالحرالي مراكشي نشأة ودراسة وفكرًا وثقافة". وشد الرحلة من مراكش إلى مدينة فاس، فأخذ عن أعلامها كابن الكتاني الفندلاوي، وأبي محمد القرطبي الذي تلقى عنه نظريته في مناسبات الآيات القرآنية، الذي يعرف اليوم"بوحدة الموضوع في السورة القرآنية"، وألف فيها"مفتاح الباب المقفل لفهم الكتاب المنزل". وقد درسه محمادي الخياطي المذكور في دراسته التي أشرت إليها. وشرع الحرالي في وضع تفسير للقرآن يبين فيه

المناسبات بين الآيات ولكنه لم يتمه، فأدخله البقاعي في تفسير وضعه في الموضوع وأتمه، وسمعت أنه طبع في الهند. سبقت الإشارة إلى المساهمة العلمية الممتازة والمتميزة التي ساهم بها علماء الأندلس المسلمون في الميدان العلمي، والتي كان لها تأثيرها الفعال في مسيرة التطور العلمي على نطاق عالمي. كما سبقت الإشارة إلى الجريمة الشنيعة التي ارتكبها الرهبان المتوحشون الجهلة ضد الإنسانية جمعاء، وضد الحضارة البشرية، عندما أحرقوا مئات الآلاف من المجلدات العلمية الأندلسية في مختلف ميادين المعرفة في نوبة جنون هستيري مسعور، الأمر الذي أضاع على البحث العلمي حلقات مهمة، يمكن أخذ صورة مصغرة عنها من مراجعة كتب التراجم التي لم تضع فيما ضاع. وأشير مثلاً إلى"كتاب النبات"لأبي العباس بن الرومية، ومؤلفات بقي بن مخلد وابن حزم، وآلاف الأمثلة! أنها فاجعة إنسانية من نوع القنبلة الذرية في هيروشما وناكازاكي في اليابان. وكما أخفى المسلمون إسلامهم، أخفوا مخطوطاتهم في انتظار فرج الله، خشية أن يحرقوها كما أحرقوا غيرها. فقد ذكر لي الباحث التونسي المرحوم عثمان الكعاك أن أحد الأندلسيين هدم سقف بيته وبنى سفله سقفًا ملأه كتبًا، ثم بنى فوقه سقفًا آخر حتى لا يكتشفه أحد، فبقي كذلك إلى أن اكتشف في هذا العصر عندما انهدم المنزل. وقد جاءني مرة الملحق الثقافي الإسباني، وكان زميلاً لي بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، بأوراق عربية حملها معه من إسبانيا، وقع العثور عليها مدونة في طليطلة، لأطلعه على موضوعها، فإذا هي أذكار ودعوات. وقد كنت اطلعت في مدرسة الدراسات العربية بمجريط على مخطوطات عربية احترقت أطرافها بالرطوبة، فلعلها كانت مدفونة بهذه الطريقة. ومن الألطاف الإلهية أن آلاف المؤلفات الأندلسية كانت قد انتقلت من الأندلس إلى مختلف المراكز العلمية في العالمين الإسلامي والمسيحي، فكونت الوجود الحي والمستمر للإسلام الأندلسي عبر العالم تحقيقًا لوعد الله الصادق:"يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره، ولو كره المشركون". ونظمت الكنائس العالمية غاراتها على العالم الإسلامي لاختلاس مخطوطاته المهمة، في مختلف الموضوعات، ونقلها بالغدر واللصوصية والخيانة إلى الخزائن الأوروبية في الجامعات والأديرة والكاتدرائيات، والتجند للترجمة والدراسة والتزوير

والتضليل والنشر. وفي هذا الإطار وقع الاهتمام في إسبانيا النصرانية ببعض المخطوطات العربية في بعض الجامعات والكاتدرائيات، كجامعة إشبيلية وكاتدرائية طليطلة وجامعة غرناطة ومكتبة الجبل المقدس وأكاديمية العلوم في قرطبة وأكاديمية التاريخ بمجريط والمكتبة الوطنية وكاتدرائية ليون. وقد كنت نشرت عن بعض المخطوطات المغربية في هذه المراكز المجريطية في"دعوة الحق"المغربية. ولكن سمعة إسبانيا العالمية في ميدان المخطوطات العربية ستأتيها عن طريق خزانة مغربية ملكية بواسطة خيانة بحارة فرنسيين استأجرهم السلطان زيدان السعدي لينقلوا له خزانته الملكية، ففروا بها إلى فرنسا. ولكن القرصان الإسبانيين استولوا في البحر عليها، ووضعتها الحكومة الإسبانية في دير الأسكوريال. واهتمت الدراسات الاستشراقية بصفة خاصة بتاريخ الأندلس وحضارتها وثقافتها. وتأسست المطابع العربية في البلاد الأوروبية، ومن بينها إسبانيا، لنشر المخطوطات العربية. ومن بين ما نشر بها ما عرف بالمكتبة الأندلسية، وهو تواريخ لعلماء الأندلس لابن الفرضي وابن بشكوال وابن الأبار والضبي وفهرسة ابن خير، إلى جانب دراسات المستشرقين الإسبان بالإسبانية عن جوانب مختلفة من الفكر الإسلامي في الأندلس، على علاتها. ومن المعلوم أن من المستشرقين من يتحامل على التاريخ الأندلسي الإسلامي منطلقًا من وجهة نظر نصرانية، ومنهم من أنصفه منطلقًا من وجهة نظر إسلامية مثل دوزي الهولاندي وديسي ميراندا (صديقي بالمراسلة) وغيرهما. وذلك مظهر من مظاهر"انبعاث الإسلام بالأندلس"على نطاق ثقافي بعد أن توهم الفاتحون المبيدون استطاعتهم القضاء عليه. وقد ذكر كتاب"انبعاث الإسلام بالأندلس"مجلة"الأندلس"وسمعنا عن"الموسوعة الأندلسية"وقرأنا مقالاً معربًا منها عن"عباس بن فرناس"أول إنسان طار في الجو. وكذلك استمر الوجود الثقافي الأندلسي قويًا، وعلى نطاق واسع خارج الأندلس. عن طريق المخطوطات والمطبوعات والدراسات الأندلسية، وهو موضوع شاسع أكتفي بالإشارة إليه. وقد عاشت الأندلس الإسلامية في ضمير جميع المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وأحدث سقوطها جرحًا عميقًا في قلب كل مسلم، فلا تذكر إلا مقرونة بدعاء:"ردها الله دار إسلام! ".

ومن مظاهر الوجود الأندلسي في المغرب كتاب "الاكتفاء في مغازي المصطفى والثلاثة الخلفاء " للشهيد الأندلسي أبي الربيع الكلاعي، الذي استشهد مدافعًا عن مدينته " بلنسية "، وهو على بغلته يثبت المجاهدين، ويقوي معنويتهم، مقبلاً غير مدبر. فقد أوقف المغاربة الكراسي في مختلف المساجد لتتلى صفحات منه بعد صلاة الجمعة، في فاس ومكناس مثلاً، وجعلته الدولة المغربية كتاب تربية روحية للجيش المغربي. وكان مجلس الملك يفتتح بتلاوة قطعة منه. وكانت خارج باب أبي الجنود بفاس ساحة كبرى، على غرار جامع الفنا بمراكش، تجتمع فيها الجماهير الشعبية للاستماع للقصاصين (الفداوية) الذين يقصون المغازي الإسلامية. وقد ذكر الرحالة الجواتيمالي في كتابه الحفيل " فاس الأندلسية " أنه استمع إلى قاص بها يتحدث عن وقعة إقليش الأندلسية، وكانت زيارته لفاس سنة 1917 م (مجلة " البحث العلمي "). ومن المعلوم أن مدينة فاس تنقسم إلى عدوتين: عدوة اللمطيين وفيها درب يسمى " طريانة "، وهو اسم أندلسي لمدينة على الضفة اليمنى للوادي الكبير من مدينة إشبيلية، وهي اليوم حي من أحيائها. وعدوة فاس الثانية هي عدوة الأندلس، وفيها جامع الأندلس. وفي كثير من مدن المغرب جامع الأندلس. والأندلس موجودة في المغرب بصفة واسعة على نطاق حضاري. فموسيقى الآلة وصلت المغرب من الأندلس وتمغربت في المغرب. ومن فواكه وخضر المغرب الفول المالقي، والبرقوق البلنسي، والرمان السفري، وهو رمان لا عجب (عظم) له جاء به إلى قرطبة من الشام شخص اسمه سفر، نسب إليه، ونقل لفاس وتازة باسمه القرطبي، وطعام " البسطيلة " الفاخر المغربي ذو شهرة عالمية في الحفلات المغربية. وكلمات " البرطال " بمعنييه و " الكوفري " و " المريو " وغيرها كثير. وفي فاس قصور ومدارس ومساجد يقال عنها إنها أندلسية. ولكن المستشرق الفرنسي ليفي بروفانسال، الذي أقام في المغرب مدة وكتب عن الأندلس كثيرًا، نقل في محاضرة ألقاها بالقاهرة عن الراهب الإسباني المؤرخ الشديد التعصب ضد الإسلام مرمول، أن القصور الحمراء في غرناطة كانت تقليدًا لقصور بني مرين الملكية بفاس عكس ما يتوهم. وفي أندونيسيا، أقصى نقطة في العالم الإسلامي، توجد منطقة اسمها الأندلس حسبما أخبرني بذلك أحد كبار علماء أندونيسيا وهو متخرج من جامعة القاهرة. وغير

بعيد عن أندونيسيا، بماليزيا، توجد مدينة ومقاطعة مالقة، تقع على الساحل الجنوبي الغربي لشبه جزيرة الملايو، وتطل على مضيق مالقة الذي يصل المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي. نشأت حوالي 1400 م، وأصبحت مركزًا تجاريًّا هامًّا بجنوب شرقي آسيا. وفي القرن الخامس عشر الميلادي، بسط ملوك مالقة نفوذهم على جزء كبير من شبه جزيرة الملايو وسومطرة، ونشروا الإسلام في العالم الملاوي. استولى البرتغاليون عليها ثم الهولنديون ثم البريطانيون. ومن المعلوم أن في الأندلس مدينة مالقة. وعندما احتل الإسبان الأراضي المسلمة التي أطلقوا عليها اسم"الفيلبين"أطلقوا كذلك على سكانها اسم"المورو" الذي يطلقونه على مسلمي الأندلس. وقد أشرنا سابقًا إلى تأسيس مصر للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمجريط وما ينشره من دراسات أندلسية من أهمها"فجر الأندلس"للدكتور حسين مؤنس. وقد زار الأمير شكيب أرسلان - رحمه الله - الأندلس، وطلب من حكامها السماح له بالصلاة في جامع قرطبة، وأخذت له صورة رائعة بثياب إسلامية، ولعله أول مسلم صلى فيه منذ الاستيلاء عليه. وكذلك فعل محمد إقبال الباكستاني - رحمه الله -. وذكر لي صديقنا الدكتور عبد الله المنصوري - رحمه الله -، وهو تلمساني عاش معنا في فاس حوالي ربع قرن، أنه يزور مع عائلته وأولاده الأندلس كل سنة حتى لا تنسى ... (هذا آخر مقال كتبه الأستاذ المجاهد سيدي محمد إبراهيم بن أحمد الكتاني في حياته، انتهى منه إلى هذا الحد دون أن يكمله، صبيحة يوم وفاته الأحد 29 ربيع الثاني عام 1411 هـ (18/ 11/ 1990 م). سويعات قبل وفاته، - رحمه الله - بواسع رحمته).

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلِّف بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المُرسَلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فعند معظم المسلمين اليوم ينتهي تاريخ الأندلس بسقوط غرناطة سنة 1492 م. وكأن الأندلسيين اختاروا الخروج عن الإسلام بعد انهزامهم، وقبول أمر الواقع من الهجرة من ديارهم أو الاندماج في القوى النصرانية الغازية. أما عند الغرب، فيمر التاريخ الإسباني على طول الحقبة الإسلامية من تاريخ الأندلس، وكأنها حقبة عابرة لا قيمة لها في تكوين الشخصية الأندلسية المعاصرة. ولم تبتدىء هذه النظرة تتغير عند المفكرين في الأندلس إلا اليوم. وكِلا الفئتين تتجاهل الواقع التاريخي الأندلسي. إذ أن الإسلام لم ينقرض في الأندلس بسقوط غرناطة، بل دخل الأندلسيون في حقبة طويلة من الدفاع المرير عن شخصيتهم وعقيدتهم الإسلامية دامت قرونًا وبقيت آثارها في المجتمع الأندلسي إلى اليوم. وقد برهن الشعب الأندلسي في صراعه المتواصل بطريقة لم يبرهنها مثله شعب من الشعوب الإسلامية، على تشبثه بالإسلام دينًا، وبالعربية لغة، لدرجة أصبح فيها مزدوج الشخصية، يتظاهر بدين ويضمر خلافه. أما تجاهل الغرب للحقبة الأندلسية الإسلامية الطويلة في تكوين الشخصية الأوروبية فهو جهل وظلم وغباء لأن واقع هذا التأثير لا يمكن أن يتجاهله عاقل. ولا يؤدي ذلك إلا إلى دفع أجيال الغرب الصاعدة إلى المزيد من الجهالة والتعصب والانفصام عن الحضارة والفكر الإسلامي اللذان كان لهما عبر أرض الأندلس وشعبها أكبر تأثير في تحرير أوروبا من كثير من جهالتها وتأخرها ووحشيتها.

فالشخصية الأندلسية التي بقيت كثير من معالمها ثابتة إلى اليوم في الأندلس المعاصرة، استجابت لدعوة التوحيد منذ التاريخ السحيق. فالأندلسيون قبلوا الرسالة العيسوية بشكلها الأرياني الموحدي ورفضوا قبول الثالوث وما رافقه من بدع زائغة عن التوحيد رغم اضطهاد الحكومة القوطية في طليطلة وإجبارهم على التنصير الثالوثي في القرن الخامس الميلادي. ولمّا ظهر الإسلام في شمال إفريقيا، انجذب إليه الأندلسيون بفطرتهم السليمة، وساندوه، وقاموا بثورة إسلامية شاملة ساهم فيها طارق بن زياد وموسى بن نصير المساهمة الفعالة للتخلص من الاضطهاد الثالوثي، وفتح الأندلس للرسالة المحمدية التي رأى فيها الأندلسيون التكملة الطبيعية لرسالة عيسى عليه السلام الحقيقية. وهكذا افتتح الأندلسيون حقبة غراء من تاريخهم، دامت ثمانية قرون، أعزهم الإسلام فيها وأعزوا الأمة الإسلامية بفكرهم واجتهادهم وورعهم وجهادهم، حتى أصبحوا رواد الفكر البشري في العلوم والتقنية والتنظيم والأدب والأخلاق لقرون عدة. ولم تمهلهم قوى الشرّ الداخلية والخارجية طويلاً. ففي الداخل تحول حب الأندلسيين للحرية وشهامتهم، من المشاركة إلى التشتت، واختل التوازن بين الدنيا والآخرة إلى التلذذ بالحاضر وعدم أخذ الحيطة للمستقبل. وأما في الخارج، فقد اتحدت قوى الثالوث الغربي ضدهم بوحدة وثبات ومواصلة لمدة قرون، لم يمهلوا فيها فترة، حتى قضت على وجودهم المستقل سنة 1492 م بسقوط غرناطة آخر معقل لهم ذي سيادة. ولم يستسلم الأندلسيون بل قاوموا قوى الغدر والإدماج حفاظًا على إسلامهم رغم الاضطهاد المزدوج للكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية عبر محاكم التفتيش التي قتلت منهم كل من رفض التنصير حرقًا بالنار، وعملت على طمس الشخصية الأندلسية الإسلامية في أشكالها العقيدية والثقافية واللغوية بحرق الكتب ومنع التكلم باللغة العربية وارتداء الزي الإسلامي، وهدم الحمامات وإجبار الإنسان الأندلسي على التخلي عن كل مقومات شخصيته، بما في ذلك اسمه ولقبه وعاداته وتاريخه. فقاوم الأندلسيون لمدة قرن وربع تارة سلبًا وأخرى حربًا في الجبال التي تتوجت بثورة غرناطة العظمى سنة 1569 م.

وطوال هذه الحقبة، وأجيال الأندلسيين تستغيث بالعالم الإسلامي، شرقًا وغربًا، فلم تصل استغاثاتهم إلا إلى آذان صماء ووعود كاذبة في معظم الأحيان، وخيانات صارخة في بعضها، وكأن العالم الإسلامي أقنع نفسه أن الأندلس أصبحت في عالم الخيال وأنه لا حول له ولا قوة في نصرة إخوانه الأندلسيين الذين يستغيثون به. وثبتت الإرادة الأندلسية أمام هذا الخذلان والخيانات. ففي سنة 1609 م، قرر الطاغية بمباركة الكنيسة طرد ما يزيد على ربع مليون من مفكّري الأندلسيين ومثقفيهم ليترك جماهيرهم هملاً سهلة الإدماج فتشتت الأندلسيون على أطراف المعمورة، داخل العالم الإسلامي وخارجه، ووصل منهم إلى شواطىء المغرب الأقصى والجزائر وتونس نصيب الأسد، فزادوا المجتمع المغربي ثراء وقوة وحضارة وإيمانًا. وادعت إسبانيا أن الطرد شمل جميع مسلمي الأندلس وأنها أحلت محلهم مهاجرين نصارى من شمال البلاد. وما أبعد هذا الادعاء عن الحقيقة التاريخية التي وردت في المصادر الإسبانية نفسها. ثم دخل النضال الأندلسي حقبة جديدة بعد هذا الطرد، تابع فيها دفاعه عن بعض مقومات شخصيته المتأثرة بالإسلام ثم ظهر هذا النضال في القرن التاسع عشر على شكل دفاع عن وجود قومية أندلسية متميزة تعتز بتاريخها الإسلامي، وتحاول استرجاع هويتها، مستعملة اللغة القومية المقبولة آنذاك في المجتمع الغربي. ثم ظهرت في أوائل القرن العشرين شخصية بلاس انفانتي الفذة الذي اعتنق الإسلام وعمل حسب طاقته في ذلك الحين على توعية المجتمع الأندلسي، وإزاحة الغشاء المظلم الذي أنزله أعداؤه على تاريخه وماضيه الإسلامي. فأدت أفكار بلاس انفانتي إلى استشهاده سنة 1935 م. ثم رجعت هذه الأفكار إلى الظهور بعد نهاية الحكم الدكتاتوري في إسبانيا بموت فرانكو سنة 1975 م. فتحركت القوى التحررية إلى تخليص إسبانيا من الهيمنة الكاثوليكية والاعتراف بالتعددية القومية، فتحولت إسبانيا من دولة مركزية إلى دولة اتحادية اعترف فيها بالثقافات المختلفة. فظهرت من جديد القومية الأندلسية تطالب بالاستقلال الذاتي لمنطقتها، والاعتراف بشخصيتها، متمركزة حول أفكار بلاس انفانتي السياسية وبعض أفكاره الثقافية. وهكذا كان تأسيس منطقة الأندلس سنة 1980 م، وعاصمتها إشبيلية، نصرًا لتلك الأفكار. فاستعادت المنطقة بعض

الرموز الإسلامية كالعلم والنشيد الوطني والاعتزاز بالتاريخ الإسلامي. ثم أعطت الدولة الإسبانية حرية العقيدة للجميع، فظهر الإسلام الأندلسي من جديد لأول مرة بعد سقوط غرناطة، وأخذ العائدون إليه ينتظمون في جمعيات إسلامية. وكانت هذه العودة عبر طريقين: الصوفي، الذي يعم باقي أوروبا، الناتج عن بحث عميق بسبب الضياع العقيدي والروحي والأخلاقي الذي يعيش فيه شباب الغرب؛ والأندلسي، وهو الأقوى، الناتج بصفة طبيعية عن الوجود الإسلامي الأندلسي المتواصل. وقد تبنى هذا الاتجاه الأخير أفكار بلاس انفانتي كاملة، بما فيها ضرورة رجوع شعب الأندلس إلى الإسلام عقيدة وإلى العربية لغة كي يستعيد شخصيته كاملة، ويحرر نفسه من الهجمة الصليبية التي مزقت لعدة قرون شخصيته وعقيدته وثقافته وشرفه وتاريخه وحاضره. ويسرد هذا الكتاب قصة الوجود الإسلامي في الأندلس منذ سقوط غرناطة إلى اليوم، ويفسر الصحوة الإسلامية المعاصرة، ويحاول تحديد ملامحها. وهو مجزأ إلى اثني عشر فصلاً. يلخص الفصل الأول نشأة دولة الإسلام في الأندلس منذ الفتح الإسلامي إلى سقوط غرناطة سنة 1492 م، ويفصل الفصل الثاني اضطهاد الكنيسة والدولة للشعب الأندلسي بالتنصير الإجباري منذ سقوط دولتهم إلى سنة 1568 م. ويلخص الفصل الثالث مراحل ثورة غرناطة الكبرى (1568 - 1570 م) التي حاول فيها الشعب الأندلسي بأكبر مجهود ممكن استعادة سيادته وطرد المستعمر. ويقص الفصل الرابع ما تلا انهزام ثورة غرناطة من تشتيت لأهلها وزيادة قهر لجميع الأندلسيين وطمس لشخصيتهم ومتابعة من طرف الدولة والكنيسة. ويعطي الفصل الخامس نظرة إجمالية عن طرد المسلمين الجماعي في الفترة (1608 - 1614 م) بهدف القضاء على الطبقة الرائدة وتسهيل إدماج الجماهير الباقية. ثم يفصل الفصل السادس ديموغرافية الأندلسيين في القرن السادس عشر الميلادي وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وقد أصبحوا يسمون في ذلك الحين من طرف أعدائهم بالمورسكيين. ودرس الفصل السابع استمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بينما وضح الفصل الثامن عوامل تكوين القومية الأندلسية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ثم وصف الفصل التاسع انبعاث القومية الأندلسية منذ سنة 1975 م، ووضح الفصل العاشر الانبعاث الإسلامي في الأندلس وتياراته

المختلفة، بينما ركز الفصل الحادي عشر على دراسة التيار الأندلسي الذي تبنته " الجماعة الإسلامية في الأندلس". وانتهى الكتاب في الفصل الثاني عشر بإعطاء فكرة موجزة عن الشتات الأندلسي المعاصر. وقد اعتمدت في كتابة هذا المؤلف على مراجع معظمها إسبانية، وبعضها لمؤلفين مسلمين من أندلسيين وغيرهم أو غربيين. وقد أتيت في آخر كل فصل بالمراجع المستعملة، التي يزيد عدد جميعها على الخمسمائة. وهدفي الأول من إخراج هذا التصنيف هو التعريف بالنضال الأندلسي المتواصل منذ سقوط غرناطة إلى اليوم، وتوضيح جذور الشعب الأندلسي المعاصر المتأصلة في الهوية الإسلامية، وتسليط النور على القوى الدافعة للانبعاث الإسلامي داخل الشعب الأندلسي. فالأندلس ليست خيالاً فقط كما يتصوره الكثيرون، وليست أشعار ابن زيدون وابن الخطيب وغيرهما كما يتخيلها البعض، وليست قصر الحمراء ومسجد قرطبة الأعظم كما يمكن أن يراها آخرون. فأشعار ابن زيدون وابن الخطيب وقصر الحمراء ومسجد قرطبة الأعظم وخيال الأندلس وغناه، كلها معالم من إنتاج شعب مسلم ناضل في سبيل الإسلام وتغنّى للإسلام وتحمس للإسلام وعاش للإسلام لمدة قرون. وذلك الشعب لا زال حيًّا قائمًا له ذكرى وإن كانت مشوشة وآمال وإن كانت غير واضحة وشخصية وإن كانت مقزمة، وهو القائم اليوم تحت أسماء مستعارة وبشكل يتنافى مع ماضيه، ولكن تحت تلك الأشكال لا زال وميض من شخصيته الإسلامية قائمًا، أصبح يقوى عند الكثير من شبابهم المثقف وينتقل إلى شعلة موذنًا بصحوة إسلامية يخرج نورها من بين الرماد، مظهرة في آن واحد عظمة الإسلام وأصالة الشعب الأندلسي، فهذا الشعب جدير باهتمام الأمة الإسلامية وجدير بها أن تحتضن صحوته وتنهي يتمه. ويعود سبب عزمي إلى تصنيف هذا الكتاب إلى مطالبة بعض الأخوة الأندلسيين المتواصلة، منهم: الأخ الكريم الأستاذ عبد الرحمن مدينة مليرة، والأخ الكريم الأستاذ عبد الرحمن معنان حبصاوي، وغيرهم، كما طلبني عدة مرات لتصنيفه عدد من الإخوة في شرق البلاد الإسلامية وغربها. منهم: الدكتور الأستاذ ظفر إسحق الأنصاري، مدير عام مركز الدراسات والأبحاث الإسلامية بالجامعة الإسلامية بإسلام آباد، باكستان، والأستاذ الدكتور سيد زين العابدين رئيس مركز دراسات الأقليات الإسلامية، بلندن، بريطانيا، ورئيس تحرير مجلتها العلمية، والأستاذ الدكتور حسن

معايرجي رئيس مركز الأبحاث بجامعة قطر بالدوحة، والسيد العم الأستاذ الدكتور إدريس بن محمد بن جعفر الكتاني أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، المغرب، وغيرهم من الأخوة الكرام. فلولاهم لما ظهر هذا التصنيف إلى الوجود. فمني لهم الشكر الجزيل والامتنان. كما يعود شكري لكل مَن ساندني على إنجاز هذا العمل بالمراجعة والرأي، خاصة زوجي السيدة نزهة بنت عبد الرحمن الكتاني وابني الحسن وشقيقي يحيى. كما يعود شكري إلى السيدة عائشة ودغيري حسني لطباعة النسخ المتعددة لهذا الكتاب وتصحيحه. وللجميع شكري الجزيل. جعل الله عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وله الشكر والمِنَّة قبل كل أحد، ولا غالب إلا الله. علي المنتصر الكتاني الرباط في 6 محرم الحرام 1411 هـ موافق 29 - 7 - 1990 م

الفصل الأول نشأة وسقوط دولة الإسلام في الأندلس

الفصل الأول نشأة وسقوط دولة الإسلام في الأندلس 1/ 1 - الأمة الأندلسية وتكوينها: كانت شبه الجزيرة الإيبرية قبل الفتح الإسلامي تحت حكم الفيزيقوط، أي القوط الغربيون، وهم قبيلة ألمانية. وقد بدأ احتلال القوط للجزيرة الإيبرية في أوائل القرن الخامس الميلادي بعد طردهم للوندال، وهي قبيلة ألمانية أخرى احتلت شبه الجزيرة الإيبرية في القرن الثالث الميلادي. وقد استبد القوط بالحكم وعاملوا أهل البلد الأصليين معاملة العبيد طوال حكمهم، إلى أن طردهم المسلمون. وكانت عاصمتهم مدينة طليطلة في وسط شبه الجزيرة، على نهر تاجه. كان أهل شبه الجزيرة الإيبرية وثنيين كما كان القوط إلى أن أخذت الديانة النصرانية تدخل البلاد شيئًا فشيئًا في أواخر القرن الثالث الميلادي. وانتشر الدين المسيحي في شبه الجزيرة على أصله الموحد على مذهب"آريوس"، في القرن الرابع الميلادي. وهكذا أصبح أهل شبه الجزيرة الإيبرية يؤمنون بالله الواحد (لا يؤمنون بالثالوث) ويؤمنون بالسيد المسيح كنبي لله مرسل. وانضم الحكام القوط في طليطلة إلى نفس المذهب الموحد"الآريوسي"الذي أصبح مذهب الدولة الرسمي. وفي القرن الثالث أدخلت في الدين المسيحي أفكار جديدة حرفته من دين التوحيد إلى التثليث المعروف به اليوم، وذلك في اجتماع"نيكيا"الكنسي. وساندت الدولة الرومانية هذه المبادىء الدخيلة وحاربت بالقوة كل من عارضها، خاصة أتباع مذهب آريوس الموحدين. وفي سنة 400 م عقد الرهبان القوط في طليطلة اجتماعهم الأول وقرروا الانضمام إلى مبادىء الثالوث المعلنة في"نيكيا". وهكذا وقع في شبه الجزيرة الإيبرية

نزاع حاد بين أصحاب الثالوث والموحدين أتباع مذهب آريوس، واشتبكوا في حرب أهلية لا هوادة فيها. وانضم معظم أهل شبه الجزيرة الإيبرية الأصليين إلى الموحدين بينما انضم الرهبان إلى مذهب التثليث، غير أن الدولة بقيت على مذهب آريوس. وبقي الوضع على هذا الحال إلى 8 مايو سنة 589 م حيث عقد اجتماع مجمع طليطلة الكنسي الثالث، الذي انضم إليه الملك"ريكاردو". وقد شجب القساوسة والملك مذهب آريوس في هذا الاجتماع، وتحولت الدولة من التوحيد إلى التثليث. وتبع ذلك اضطهاد متواصل للموحدين دام سنين طويلة. وتشبث أهل الأندلس، جنوب شبه الجزيرة الإيبرية، بمذهب التوحيد ولم يرضوا عنه بديلاً. واضطروا بعد سنين من العذاب إلى إخفاء عقيدتهم الحقيقية. وفي هذا الجو من السخط العارم وصل الإسلام إلى شمال إفريقيا، فرأى أهل الأندلس المسلمين إخوانًا لهم في الدين، واتصلوا بهم اتصال المستغيث. وهكذا هيىء فتح الأندلس بتعاون كامل بين المسلمين من عرب وأمازيغ في الضفة المغربية وأهل الأندلس الأصليين في الضفة الأندلسية، مما سهل تحرير شبه الجزيرة الإيبرية من سيطرة القوط وأهل التثليث في ظرف لم يتعد ثلاث سنين، وذلك من سنة 92 إلى 95 هـ (711 - 714 م)، أي 122 سنة فقط بعد الانقلاب الثالوثي، لدرجة أن بعض المفكرين الإسبان المعاصرين نعتوا هذا الفتح الإسلامي للأندلس بثورة إسلامية في الغرب. وهكذا دخلت منطقة لا تقل مساحتها عن 700.000 كيلومتر مربع دار الإسلام. وهي تضم معظم دولة إسبانيا الحالية، عدا منطقة جبلية شمال غربية التي تغطيها اليوم مقاطعتا البسك وآشتورياش، كما كانت تضم كل دولة البرتغال وقسمًا كبيرًا من جنوب فرنسا بما في ذلك مدن أربونة وقرقشونة ونيمش. ولقد أعطى المسلمون الحرية المطلقة للأهالي في اختيار دينهم، فبقيت قلة على المذهب الثالوثي النصراني، ورجعت الأكثرية إلى المذهب الموحدي الأريوسي. ومع مر الزمن، وفي ظرف لم يتعد القرن الواحد، انضم جميع الموحدين إلى الإسلام ودانوا به، وأصبحت اللغة العربية لغة حضارتهم وثقافتهم بينما حافظوا على اللغة الأعجمية في مخاطباتهم الخاصة. وانضم إلى هذه الملايين من أهل البلد الأصليين الذين أسلموا اختيارًا وحبًّا في الإسلام سيل صغير من المهاجرين العرب والأمازيغ وغيرهما اندمجوا فيهم. كما حدث بالضبط بالنسبة للمغرب.

وهكذا تكوّنت في الأندلس لهجة عربية خاصة تتصف بالأمالة الشديدة كبعض لهجات لبنان وتونس اليوم، لكنها انقرضت بعد ذلك بانقراض الإسلام في الأندلس في ظروف سنوضحها، كما كان أهل الأندلس يتكلمون لغة أعجمية من أصل روماني انقرضت هي كذلك اليوم. وقد سجلت هاتان اللغتان تسجيلاً موثقا في الكتب الأندلسية: في الأمثال والأزجال والموشحات. ومما يدل على أن الشعب الأندلسي كان مزدوج اللغة هو تكون الأزجال الشعبية باللغتين في آن واحد. ومثال ذلك هذا المقطع من القرن الثاني عشر للزجال القرطبي ابن قزمان، وهو باللهجة العربية والأعجمية الأندلسية في آن واحد: أين ذيك الأيام وذيك الليالي؟ كأنن باش لفاج أباد مالي إنما القاضي رجل من رجالي عالي الهمّة يضرّ وينفع الأسطر الأول والثالث والرابع بالدارجة الأندلسية والثاني بالأعجمية الأندلسية ومعناه:"أين تلك الأيام وتلك الليالي؟ التي لا ترى وجهها وإنما ترى شرها، إنما القاضي رجل من رجالي عالي الهمة يضر وينفع". وهكذا تكوّن شعب جديد مسلم العقيدة عربي اللغة له خصاصيته متأصل في بلده. ولم يكن بذلك الفتح الإسلامي غزوًا لأمة أخرجت أمة أخرى أو إجبار أمة على دين ولغة لم ترتضيهما. وإنما الشعب الأندلسي هو نفسه اختار الإسلام دينًا واللغة العربية لغة حضارة ورحب بالفاتحين المسلمين الأوائل ترحيب المقهور للمنقذ. وأصبحت الأندلس أول الفتح الإسلامي مقاطعة تابعة لولاية المغرب في الدولة الإسلامية وعاصمتها القيروان. ثم أصبحت ولاية قائمة بنفسها وعاصمتها إشبيلية. ثم انفصلت الأندلس عن الدولة العباسية في المشرق سنة 756 م تحت زعامة عبد الرحمن الداخل الأموي الذي أسس دولة أموية في الغرب بعد ست سنوات من سقوط الدولة الأموية في دمشق، واتخذ عاصمة لها مدينة قرطبة على الوادي الكبير. وأصبح المسلمون أكثرية ساحقة في البلاد تحت الحكم الأموي حين وصلت الأندلس أوج حضارتها وقوتها، لا تضاهيها دولة في العالم الأوروبي حينذاك. وأصبح النصارى أقلية صغيرة أضاعت لغتها وتعربت أسماؤها. وهؤلاء الذين يسمون"المستعربون"وقد

بقوا طابورًا خامسًا داخل الدولة الإسلامية يظهر كلما ضعفت شوكتها. ووصلت الدولة الأموية الأندلسية أوجها أيام عبد الرحمن الناصر الذي حكم البلاد 49 سنة بين 912 وسنة 961 م استتب في أيامه الأمن وتقدم العلم والأدب. نزلت مساحة الدولة الأندلسية أيام عبد الرحمن الناصر إلى حوالي 440.000 كيلومتر مربع بعد أن فقد المسلمون أربونة سنة 751 م وقرقشونة سنة 759 م وبمبلونة سنة 798 م وبرشلونة سنة 801 م وبرغش وليون وأبيط وكل جليقية وسمورة وغيرها من المدن شمال غرب الجزيرة الإيبرية. تنظمت الفلول النصرانية التي بقيت في الجيوب الشمالية الغربية في دويلات نصرانية كانت مركز مقاومة ضد الدولة الإسلامية منذ بدايتها. وأول هذه الدويلات هي مملكة جليقية وأشتورياش التي أصبحت بعد ذلك مملكة ليون عندما نقلت عاصمتها من أبيط إلى ليون. وانفصلت عن ليون سنة 359 هـ (970 م) مملكة قشتالة، وعاصمتها الأولى برغش. وانفصلت عن ليون قبل قشتالة مملكة نبارة، وعاصمتها بمبلونة، حوالي سنة 836 م. وأخذت هذه الدويلات الثلاثة تتسع على حساب الدولة الأندلسية كلما سنحت لها الفرصة وبمساندة أوروبا بأكملها. وبدأ الضعف يسري في الدولة الأموية عندما سيطر على الحكم حاجب هشام الثاني المؤيد (حفيد الناصر) المنصور بن أبي عامر. وكان المنصور هذا من أحسن القواد المسلمين ومن أبرع رجال الدولة. فأعاد للبلاد قوتها الأولى ووحدها تحت راية الإسلام من جديد. لكن أبناء المنصور لم يكونوا في مستوى أبيهم ولا كان أحفاد الناصر في مستوى جدهم. يزيد على ذلك أن المجتمع الأندلسي أصبح مجزأ عنصريًّا. فالمنصور بن أبي عامر لم يثق بأهل بلده فأدخل أعدادًا كبيرة من الأمازيغ المغاربة والمماليك السقالبة في جيشه، وكان السقالبة يجلبون من فرنسا وايطاليا وشمال أوروبا ويعتنقون الإسلام عند وصولهم إلى الأندلس. فعندما ضعفت الدولة الأندلسية أخذت هذه العناصر الأربعة (العرب والأمازيغ والأندلسيون والسقالبة) تتطاحن مع بعضها. فانهارت الدولة الأموية سنة 1031 م بعد حروب أهلية طاحنة. وتجزأت الأندلس إلى مجموعة متعددة من الدويلات العنصرية تحت حكم ملوك الطوائف قضت على الوحدة الأندلسية وفتحت المجال للإمارات النصرانية الموحدة تحت إرشادات بابا روما بغزوها الواحدة تلو الأخرى. وأصبح عدد هذه الدويلات الإسلامية الأندلسية 23 دولة، منها العربية كبني عباد في إشبيلية وبني هود في

سرقسطة، ومنها الأمازيغية كبني الأفطس المكناسيين في بطليوس وبني النون الهواريين في طليطلة، ومنها السقلبية كبني مجاهد وبني غانية في شرق الأندلس. وعندما انهارت مقاومة الدويلات الأندلسية أمام الغزو النصراني استنجد الأندلسيون بأمير المسلمين بالمغرب يوسف بن تاشفين المرابطي، فانتقل إلى الأندلس عدة مرات وهزم القوات النصرانية في معركة الزلاقة سنة 1086 م في عبوره الأول. ثم ضم الأندلس إلى المغرب، وقضى على ملوك الطوائف. غير أن هذه الأحداث أدت إلى ضياع مناطق شاسعة من أرض الأندلس الإسلامية التي تقلصت مساحتها إلى 250.000 كيلومتر مربع فقط أيام دولة المرابطين. وكانت أهم القواعد الإسلامية التي سقطت في هذه الحقبة ولم يستعدها المرابطون مدينة طركونة التي سقطت سنة 960 م وبراغة شة 1040 م وقلمرية سنة 1064 م ووادي الحجارة ومجريط وخاصة طليطلة سنة 1085 م، الخ ... وفي أواخر القرن الحادي عشر الميلادي تغير الوضع كذلك بالنسبة للدويلات النصرانية فأصبحت أكبرها مملكة نبارة. ثم توحدت قشتالة وليون في مملكة واحدة سنة 1035 م. ثم انفصلت مملكة أراغون من مملكة نبارة وانفصلت عن قشتالة مملكة البرتغال. وكانت هذه الدويلات كلها رغم حروبها مع بعضها تنسق حربها ضد دولة الأندلس وتكبر على حسابها بانتظام، وكثيرًا ما كانت هذه الحروب بزعامة قشتالة. ولمّا ضعفت الدولة المرابطية أخذت الأندلس تتجزأ إلى ممالك طوائف مرة ثانية. فاستنجد الأندلسيون بالموحدين المغاربة فأنجدوهم سنة 1145 م وضموا الأندلس للدولة الموحدية بعدما ضاعت مناطق أخرى كبيرة ومدن مهمة أهمها مدينة سرقسطة سنة 1118 م. ثم ضعفت الدولة الموحدية وانهزم المسلمون انهزامًا فادحًا سنة 1212 م (609 هـ) في معركة العقاب، واجتمعت جيوش الممالك النصرانية الإسبانية كلها (قشتالة ونبارة والبرتغال وليون وأراغون) ضد الجيوش الموحدية. واستطاعت بعد هذه المعركة أن تفرض قشتالة هيمنتها على باقي الممالك النصرانية إما بالضم كجليقية وليون أو ببسط حمايتها عليها. ولولا الحروب الأهلية بين الدويلات النصرانية لقضي أمر المسلمين بعد معركة العقاب. غير أن الأندلس توزعت من جديد إلى دويلات طوائف متناحرة. فغلب ابن هود على مرسية وشرق الأندلس، وغلب ابن الأحمر على

1/ 2 - قيام مملكة غرناطة

بسطة وجيان ووادي آش ... وتمخضت هذه الأحداث، كما سنرى فيما بعد، على مولد مملكة غرناطة الأندلسية. 1/ 2 - قيام مملكة غرناطة: بعد انهيار الدولة الموحدية بالأندلس عمل كل من ابن هود وابن الأحمر على توحيد الأراضي الأندلسية لمقاومة الغزو الصليبي. وكان ابن هود، وهو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود الجذامي، من أصل سرقسطي. بدأ حركته من مرسية سنة 625 هـ (1228 م). فأطاعته مرسية وقرطبة وإشبيلية ومالقة والمرية وغيرها من البلاد. لكن ربما لم يكن ابن هود على مستوى الآمال المعقودة عليه فهزم في معارك مع النصارى الواحدة تلو الأخرى، ولم يستطع نجدة قرطبة، عاصمة الخلافة، وتركها تسقط في يد النصارى في 23 شوّال سنة 633 هـ (29/ 6/1236 م) ورفع الصليب فورًا على مئذنة مسجدها الأعظم. وكان سقوط قرطبة ضربة قاهرة للمسلمين فتت من عزيمتهم، ولم يعش ابن هود بعدها طويلاً، إذ توفي في ثغر المرية سنة 635 هـ (1237 م) في ظروف غامضة بعد أن احتلت أراغون الجزر الشرقية من يد المسلمين. أما ابن الأحمر، منافس ابن هود، فهو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر، من مدينة أرجونة، وهي حصن من حصون المسلمين تقع بين جيان وأندوجر، وهي اليوم بولاية جيان، ولد بها سنة 595 هـ (1198 م) وكان جنديًّا وافر الشجاعة والعزم. فظهرت حركته في نفس الفترة التي ظهر فيها ابن هود، وكان منافسًا له. غير أن ابن الأحمر كان سياسيًّا ماهرًا شجاعًا. فأطاعته جيان ووادي آش وما حولهما فور ظهوره. فاتجه محاولاً ضم الثغور والقواعد الأندلسية الجنوبية. فنادت قرمونة وقرطبة وإشبيلية بطاعته أواسط سنة 629 هـ (1232 م) لمدة قصيرة، ثم انتقلت قرطبة وإشبيلية إلى طاعة ابن هود. ثم أطاعته شريش ومالقة والمناطق المجاورة لهما سنة 630 هـ (1233 م). ولما توحّد الأندلسيون حول ابن هود أظهر ابن الأحمر الانحياز إليه سنة 631 هـ (1234 م) وطاعته. وبعد وفاة ابن هود قام ابن الأحمر لتوحيد الأندلس بمفرده فانضمت إليه غرناطة في رمضان سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م) فاتخذها حاضرته ومركز حكمه. ثم افتتح ابن الأحمر مدينة المرية وطرد منها حاكمها ابن الرميمي. وهكذا نشأت مملكة غرناطة في ظروف مأساوية غامضة، وكل من حولها من صديق وعدو يتوقع لها الانهيار السريع.

ولم يتوقف الزحف النصراني على الأراضي الأندلسية، بل سقطت بلنسية في يد الأراغونيين سنة 636 هـ (1238 م) وتبعتها شاطبة ودانية ولقنت وأريولة وقرطاجنة بين سنتي 641 و 644 هـ (1243 - 1246 م). ثم استسلم أهل مرسية صلحًا لملك قشتالة سنة 640 هـ (1243 م). وهكذا ضاع شرق الأندلس بأكمله من يد المسلمين، وأصبحت بوادر فناء الأندلس ظاهرة. واستنجد الأندلسيون من جديد بالمغاربة، لكن لم يكن المغرب في وضع يمكنه من مساعدة الأندلس، إذ كان فريسة حروب أهلية طاحنة شغلته عن نجدة الإسلام بالأندلس كعادته - فاستنجد المسلمون بالدولة الحفصية بتونس وكانت أضعف من أن تنجد. وقد ترك لنا التراث الأندلسي قصيدة ابن الأبار القضاعي سفير أبي جميل زيان حاكم بلنسية الذي أرسله إلى السلطان أبي زكريا الحفصي قبيل سقوط بلنسية يستصرخه قائلاً: أدرك بخيلك خيل الله أندلسًا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عز النصر ما التمست ... فلم يزل عز النصر منك ملتمسا وحاشَ مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للحادثات وأمسى جدها تعسا في كل شارقة المام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا وكل غاربة أجحاف نائبة ... تثني الآمان حذارا والسرور أسى تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلّها الإشراك مبتسمًا ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا وصيّرتها العوادي العابثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا الخ ... وسرعان ما ضم ابن الأحمر المرية إلى مملكته غرناطة، ثم انتقل إلى محاربة النصارى بمنطقة جيان فحاصر قلعة مرتش سنة 636 هـ (1239 م) فلم يستطع أخذها. فاشتبك في معركة حامية مع النصارى استولوا أثرها على حصن آرجونة، مقر أجداد بني الأحمر. ثم حاصر النصارى غرناطة نفسها سنة 643 هـ (1244 م) فردوا عن أسوارها بخسائر فاحشة.

فلما رأى ابن الأحمر أنه لا قبل له بمحاربة النصارى، ولا أمل له في نجدة المغرب أو تونس، آثر مصانعة ملك قشتالة فراندو وقدم له الطاعة مقابل أن يسمح له أن يحكم مملكته وأراضيه باسم ملك قشتالة، وأن يؤدي له جزية سنوية قدرها مائة وخمسون قطعة من الذهب، وأن يكون حليفه في كل حروبه مع أعدائه، مسلمين وغير مسلمين، وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابي (الكورتس) باعتباره تابعًا من أتباع العرش القشتالي. وسلم ابن الأحمر لقشتالة جيان وأرجونة وبلكونة وبيغ والحجار وقلعة جابر ومناطق شاسعة أخرى. وهكذا عقد طاغية قشتالة الصلح مع ابن الأحمر سنة 643 هـ (1245 م) وأقره على ما بقي بيده من حصون على الوجه المذكور. وترك ابن الأحمر ما تبقى من أرض الأندلس إلى مصيره المحتوم، بل ساعد قشتالة على الاستيلاء عليه، حسب الاتفاق. ففي سنة 645 هـ (1247 م) استسلم غرب الأندلس إلى قشتالة بما في ذلك مدن طبيرة وشلب (اليوم بالبرتغال) وغيرهما. ثم احتل فراندو مدينة قرمونة مستعدًا بذلك الاستيلاء على إشبيلية بمعاونة ابن الأحمر. وكان يقوم ابن الأحمر بموقف الناصح للمسلمين في تلك المدن والقرى والحصون بالاستسلام للنصارى مقابل حقن دماء المسلمين. وحاصر فراندو مدينة إشبيلية بداية من أغسطس سنة 1247 م (جمادى الأولى سنة 645 هـ) بقوات عظيمة اشترك فيها معظم أمراء النصرانية في إسبانيا وأوروبا في حرب صليبية لا مثيل لها. وأرسل أسطولاً بحريًّا داخل الوادي الكبير. وساند ابن الأحمر طاغية قشتالة في هذا الحصار حسب اتفاقهما بإرسال قوة من الفرسان له. وصمم أهل إشبيلية على الدفاع في بسالة مستميتة. وطال حصار إشبيلية ما يقرب من الثمانية أشهر اضطرت بعدها إلى الاستسلام في أوائل رمضان سنة 646 هـ (23/ 12/ 1248 م)، فحول النصارى مسجدها الأعظم فورًا إلى كنيسة كالعادة. ونقل فراندو عاصمة مملكته من طليطلة إلى إشبيلية. وهكذا أخذت مدن غرب الأندلس تسقط الواحدة تلو الأخرى بعد سقوط إشبيلية. فاستولى النصارى على شريش وشذونة وقادس وشلوقة وغليانة وغيرها من القواعد والمدن والحصون. وقد أعان ابن الأحمر النصارى على الاستيلاء على كثير من هذه الحصون بما فيها قادس. وهكذا ظهر ابن الأحمر في شكل شاذ مؤلم مذل كحليف للنصارى في احتلال مدن الإسلام وتخريب حصونه، وكمشجب لكل مقاومة

ومشجع لكل تنازل وانهزام. وكانت أستجة إحدى المدن الأخيرة التي استسلمت للنصارى أواخر سنة 662 هـ (1263 م). وكان النصارى ينوون الغدر بابن الأحمر لاستئصال ما تبقى بيده من أرض الأندلس، فاستغاث الأندلسيون بأهل المغرب وقبائله عندما يئسوا من حكامه. وعندما رأى ابن الأحمر ضعف الاستجابة خطا خطوة جديدة في مهادنة طاغية قشتالة، فتنازل له في أواخر سنة 665 هـ (1267 م) عن عدد كبير من الحصون والقرى قدرت بأكثر من مائة موضع. وبذا عقد السلم مع قشتالة. وقضى ابن الأحمر ما تبقى من حياته في توطيد مملكته وتنظيمها، وتوطين المهاجرين، وعين ولده محمدًا وليًّا للعهد من بعده. ولم تعكر صفوه حروب في أواخر أيامه سوى تمرد مالقة وتحرش النصارى بالجزيرة الخضراء. وتوفي محمد بن الأحمر في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة 671 هـ (ديسمبر عام 1272 م) عن 76 سنة. تقلصت دولة الأندلس في أقل من قرن من مساحة مقدارها حوالي 250.000 كيلومتر مربع إلى ما لا يزيد عن 30.000 كيلومتر مربع، وهي المناطق التي تضم اليوم ولايات مالقة وغرناطة والمرية وقسمًا من ولايات قادس وقرطبة وجيان. وهي مناطق جبلية غير قابلة للزراعة جعلت منها العبقرية الأندلسية مركزًا حضاريًّا لا يضاهى زراعة وصناعة ومناعة. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بعبقرية محمد بن الأحمر الذي مهر في سياسة الممكن وتمكن من الظفر بقطعة من الأندلس تجمع شتات الأمة وإن كان ذلك بطرق من الذل لا يمكن أن يتحملها غيره. وأدّت هذه الأحداث المأساوية إلى تغير جذري في الأمة الأندلسية. فكلما احتل النصارى أراض إسلامية من أراضي الأندلس هاجرت الطبقة المثقفة وأهل الصناعة والحرف إلى ما تبقى من الأراضي الإسلامية، أي غرناطة وأرضها، وبقي عامة الشعب في البلاد، منهم من أجبر على التنصير ومنهم من بقي على دينه، وهؤلاء هم الأكثر. وأتى النصارى بمهاجرين نصارى لتعمير أراضي المسلمين. وهكذا أصبح المسلمون أقلية في عقر دارهم. وكان الأندلسيون يسمون المسلمين الذين بقوا تحت حكم النصارى بالمدجنين. وقد نظم هؤلاء أنفسهم في جماعات إسلامية، وكانوا في كثير من المناطق يكونون أكثرية السكان خارج المدن، خاصة في أراغون وفي منطقة

بلنسية إلى أوائل القرن السابع عشر الميلادي. وقد حافظ المدجنون على دينهم الإسلامي في ظروف سيئة للغاية تشبه العبودية. وضعفت مع السنين اللغة العربية بينهم، وأصبحوا يكتبون كتبهم ورسائلهم باللغة الأعجمية. وهذه اللغة تختلف عن اللغة التي رأيناها في أيام الدولة الأموية أو ملوك الطوائف كالتي في أزجال بن قزمان. بل هذه لغة دارجة تكتب بالحروف العربية وهي حسب المناطق أما قشتالية (إسبانية اليوم) أو برتغالية أو أراغونية (اندثرت اليوم) أو كتلانية. وأصبح لهذه اللغة أهمية كبيرة بين المسلمين بعد سقوط غرناطة. أما سكان مملكة غرناطة فكان عددهم يساوي، على صغر رقعتها، عدد سكان ما تبقى من الجزيرة الإيبرية أو يقاربه. وكانوا جميعًا مسلمين إذ لم تبق بينهم أقليات نصرانية، كما أن اللغة الأعجمية اندثرت وأصبحت اللغة العربية بلهجتها الأندلسية هي لغتهم الوحيدة، بينما لم تكن الإسبانية سوى لغة أجنبية. وكانت مملكة غرناطة هي ملجأ الأندلسيين المدجنين وغيرهم، فحدودها دائمًا مفتوحة لهم، وتستقبل كل سنة عددًا كبيرًا من المهاجرين من الشمال ومن المجاهدين من المغرب. وفي هذه الفترة المظلمة التي أدت إلى ظهور مملكة غرناطة كتب أبو الطيب صالح بن شريف الرندي رائيته الشهيرة التي يصف فيها أوضاع الأندلس أرضًا وشعبًا من ظلم وبؤس وهلاك، إذ يقول: دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وانهد ثهلان أصابها العين في الإسلام فارتزأت ... حتى خلت منه أقطار وبلدان إلى أن قال: تبكي الحنيفية البيضاء من أسف ... كما بكى لفراق الألف هيمان على ديار من الإسلام خالية ... قد أقفرت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما ... فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة ... حتى المنابر ترثي وهي عيدان ثم يقول: يا من لذلّة قوم من بعد عزّهم ... أحال حالهم كفر وطغيان بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم ... واليوم هم في بلاد الكفر عبدان

1/ 3 - جهاد مملكة غرناطة المتواصل

إلى أن قال: لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان 1/ 3 - جهاد مملكة غرناطة المتواصل: ثبتت غرناطة ولم تنهزم تحت ضربات النصارى بسبب مساندة المغاربة مرة أخرى. وكان الوضع في المغرب قد تحسن والتفت الكلمة فيه حول الدولة المرينية. وكان ابن الأحمر مؤسس الدولة النصرية قد أوصى قبل وفاته ولي عهده ومن أتى بعده بالتشبث بالمغاربة والتحالف معهم لضمان الوجود الإسلامي في الأندلس. كما استغاث بالسلطان أبي يوسف المريني لصد هجوم النصارى على الجزيرة الخضراء. وجاء الإنجاد المغربي بعد وفاة ابن الأحمر وتولى ابنه أبو عبد الله محمد الفقيه سنة 671 هـ (1273 م) فخرج السلطان أبو يوسف المنصور من عاصمته فاس سنة 673 هـ وعبر إلى الأندلس في صفر سنة 674 هـ (يوليوز عام 1275 م) في جيش كثيف من المغاربة داعيًا إلى الجهاد لحماية الإسلام وأهله في الأندلس، وانضم إليه جيش الأندلسيين وعلى رأسه السلطان النصري. ووقع اللقاء بين الجيوش الإسلامية والنصرانية قرب أستجة بين إشبيلية وقرطبة في يوم 25 ربيع الأول سنة 674 هـ (9/ 9/ 1275 م) وكان الفوز فيه للمسلمين على النصارى الذين سقط رئيسهم"دون نونيو" ولحقت بهم خسائر فادحة. ثم رجع السلطان أبو يوسف إلى المغرب في أواخر رجب عام 674 هـ، بعد أن رفع معنويات الأندلسيين. ثم عاد السلطان أبو يوسف المريني مرة ثانية إلى الأندلس سنة 677 هـ وتوغل بجيشه في الأراضي التابعة للنصارى إلى ضواحي إشبيلية. لكن سلطان الأندلس أوجس خيفة من المغاربة وحاول التحالف مع النصارى ضدهم، فسلم للقشتاليين الجزيرة الخضراء، فأرسل السلطان أبو يوسف المريني جيشًا بإمرة ابنه أبي يعقوب، عبر المضيق سنة 678 هـ وهزم النصارى وحرر الجزيرة الخضراء، ثم فكر في التحالف مع النصارى ضد الأندلسيين فنهاه والده السلطان، وعادت المياه إلى مجاريها. وفي صفر سنة 684 هـ عبر جيش مغربي المضيق للمرة الرابعة برئاسة السلطان أبي يوسف المنصور، وغزا مناطق النصارى من شريش إلى أحواز إشبيلية وحتى لبلة وأستجة. ونتج عن ذلك عقد هدنة مع النصارى. وتأسست في نفس الوقت مشيخة الغزاة في غرناطة برئاسة شيخ من بني مرين تنظم المتطوعين المغاربة الذين يدافعون عن أرض الأندلس. وقفل السلطان أبو يوسف راجعًا إلى

المغرب، لكن أصابه المرض ووافاه الأجل المحتوم في الجزيرة الخضراء، وخلفه على عرش المغرب ابنه السلطان أبو يعقوب. فتوثقت بينه وبين السلطان أبي عبد الله الفقيه العلاقات الطيبة والتحالف التام. ولما نكث النصارى بعهودهم وهاجموا الأراضي الإسلامية، قاد السلطان أبو يعقوب جيشًا عبر به المضيق سنة 690 هـ واقتحم أراضي النصارى إلى أحواز إشبيلية ثم عاد إلى المغرب أوائل سنة 691 هـ. وزاغ السلطان أبو عبد الله مرة ثانية وتحالف مع النصارى ضد المغاربة وسلم لهم مدينة طريف سنة 692 هـ (1292 م). لكنه أفاق من زلته وجاز إلى سلطان المغرب معتذرًا مستسمحًا، فصفا الجو من جديد. ثم تابع السلطان أبو عبد الله الجهاد بمفرده على رأس جيشه الأندلسي وضم أراضٍ وقلعًا ومدنًا كثيرة في منطقة جيان إلى الأراضي الإسلامية بين سنتي 695 و 699 هـ (1295 - 1299 م). وقبيل وفاته بدأ سياسة أندلسية جديدة بالتقارب مع مملكة أراغون النصرانية على حساب مملكة قشتالة. وهكذا وجدت مملكة غرناطة توازنها في تحالفها مع المغرب وأراغون قبالة قشتالة التي كانت تمثل الخطر النصراني عليها. وتوفي السلطان أبو عبد الله الفقيه في شعبان سنة 701 هـ (1302 م) بعد حكم دام ثلاثين سنة عن عمر يناهز 68 عامًا. فخلفه ولده أبو عبد الله محمد المخلوع الذي كان ضريرًا، أديبًا وفقيهًا، لكن لم يكن رجل دولة. فغلب عليه وزيره، وساءت أمور الدولة الداخلية، كما ساءت علاقة مملكة غرناطة في أيامه مع المغرب. وتحالف المخلوع مع قشتالة ضد المغرب. فثار عليه أهل غرناطة سنة 708 هـ (1309 م) وخلعوه وبايعوا مكانه أخاه أبو الجيوش نصر. وكان هو كذلك أديبًا ولوعًا بالرياضة والفلك، لكنه لم يحسن تدبير الدولة. فتوالت الأزمات، وانتهز النصارى هذه الفرصة فغزوا أراضي المسلمين سنة 709 هـ (1309 م). فتحالفت قشتالة وأراغون، وحاول الأراغونيون احتلال المرية ففشلوا، لكن القشتاليين احتلوا الجزيرة الخضراء وجبل طارق. ولما وافق السلطان نصر على أداء الجزية لطاغية قشتالة، ثار أهل غرناطة عليه وخلعوه سنة 713 هـ (1314 م). وانقرض بذلك الملك من عقب مؤسس الدولة، وانتقل إلى عقب أخيه أبو الوليد إسماعيل بمبايعة السلطان أبو الوليد إسماعيل بن الرئيس أبو سعيد فرج بن أبي الوليد إسماعيل أخي أبي عبد الله محمد بن الأحمر. امتاز عصر السلطان أبو الوليد إسماعيل بتوطيد الدولة الأندلسية واستقرار الأمور وإحياء عهد الجهاد وصفو العلاقات مع المغرب. وفي سنة 716 هـ هجم القشتاليون

على غرناطة وعانوا في أراضيها فسادًا، ثم هاجموا غرناطة سنة 718 هـ (1318 م)، فخرج لهم الجيش الأندلسي فهزموه. ثم عمد السلطان أبو الوليد إسماعيل على تحصين مدينة الجزيرة الخضراء. وفي سنة 721 هـ جدد معاهدة الصلح مع أراغون، ثم قام بغزو أراضي النصارى في منطقة جيان: بياسة سنة 724 هـ، ومرتش سنة 725 هـ. لكنه اغتيل بعد هذه الموقعة بقليل من طرف أحد الأمراء. فخلفه ولده أبو عبد الله محمد. فساء السيرة، إذ نشب بينه وبين مشيخة الغزاة خلاف أدى إلى حروب داخلية استغلها القشتاليون لغزو أراضي المسلمين. فعبر السلطان أبو عبد الله البحر إلى المغرب سنة 732 هـ مستنجدًا بالسلطان أبي الحسن المريني. فاستجاب السلطان أبو الحسن وأرسل جيشًا بإمرة ابنه، وتعاون المغاربة والأندلسيون في تحرير جبل طارق من يد النصارى سنة 733 هـ (1333 م). ولكن السلطان أبو عبد الله اغتيل بعد هذا النصر من طرف مشيخة الغزاة قبل رجوعه إلى غرناطة. فخلفه أخوه أبو الحجاج يوسف، وكان من أعظم ملوك بني نصر رغم حداثة سِنِّه (16 سنة عند بيعته). كان عالمًا شاعرًا بناءً، وقد اكتسب قصر الحمراء في أيامه كثيرًا من أبهته المعروفة به اليوم. فأبقى في تسيير أمور الدولة وزيره أبو النعيم رضوان. وكان من بين وزرائه الكاتب والشاعر أبو الحسن بن الجياب. ولما توفي ابن الجياب في الوباء الكبير سنة 749 هـ خلفه في الوزارة لسان الدين بن الخطيب. ولمّا بويع السلطان أبو الحجاج يوسف اشتدت وطأة القشتاليين على أراضي المسلمين، فاستنجد بالسلطان أبي الحسن المريني الذي أرسل جيشًا بإمرة ابنه أبي مالك، فهزمه النصارى سنة 740 هـ (1339 م) وقتل أبو مالك. فعبر السلطان أبو الحسن بنفسه البحر إلى الأندلس، فهزمه النصارى شر هزيمة في موقعة نهر سلادو في جمادى الأولى سنة 741 هـ (30/ 10 / 1340 م)، ووقع معسكر سلطان المغرب في يد الأعداء وذبح أولاده، فارتد إلى المغرب. ورجع السلطان أبو الحجاج بفلول الجيش الأندلسي إلى غرناطة. وكانت موقعة نهر سلادو أقبح هزيمة للمسلمين لم يعبر بعدها المغاربة البحر قط، وبقي الدفاع على أرض الأندلس في يد الأندلسيين ومن انضم إليهم من المتطوعين المغاربة. وتابع القشتاليون ضغطهم على المسلمين، فاستولوا على قلعة يحصب سنة 742 هـ. واستمر أبو الحجاج يوسف يعالج أمور غرناطة في سلام وأمن إلى سنة 755 هـ (أكتوبر سنة 1354) حينما اغتاله مخبول بعد

يوم عيد الفطر في المسجد الأعظم دون سبب مفهوم، وعمره لم يتجاوز السابعة والثلاثين. فخلفه في الملك ابنه أبو عبد الله محمد الغني بالله، وكان حدثًا فاستأثر بالحكم الحاجب رضوان، وكان من بين كتابه لسان الدين بن الخطيب الذي أرسله إلى سلطان المغرب أبي عنان المريني فور توليه يستنصره على النصارى. وشغلت قشتالة بحوادثها الداخلية فأمنت غرناطة بعض الوقت. لكن ثورة داخلية قامت ضد السلطان أبي عبد الله محمد الغني بالله، فخلع ونصب محله أخوه أبو الوليد إسماعيل سنة 760 هـ فالتجأ السلطان المخلوع مع ابن الخطيب إلى فاس عند السلطان أبي سالم المريني. ثم قامت ثورة أخرى سنة 761 هـ في غرناطة وأطاحت بأبي الوليد إسماعيل فقتل ونصب محله أبو سعيد ألبرميخو (الأحمر) بن إسماعيل بن محمد بن الرئيس أبي سعيد فرج. فعمل الغني بالله على استعادة ملكه بمساعدة المغاربة، ففر أبو سعيد إلى قشتالة وبويع السلطان أبو عبد الله محمد الغني بالله من جديد سنة 763 هـ (1362 م)، والتحق به وزيره لسان الدين بن الخطيب. وأول ما عمله الغني بالله عند عودته لملكه إلغاء خطة مشيخة الغزاة من بني مرين، وصار أمر الغزاة والمتطوعة المجاهدين إلى السلطان مباشرة. وأمنت غرناطة لمدة وجيزة من شر قشتالة التي التهت بحروبها الداخلية. وفي سنة 773 هـ هاجر ابن الخطيب إلى المغرب عندما رأى أن الغني بالله تغير عنه، وأخذ مكانه في غرناطة تلميذه ابن زمرك. وقتل ابن الخطيب في فاس سنة 776 هـ في ظروف مأساوية. تابع الغني بالله الجهاد ضد قشتالة بعد هجومها على ضواحي مدينة رندة سنة 767 هـ. فغزا بين سنة 768 إلى 771 هـ (1370 م) مناطق جيان وإشبيلية وأطريرة. وركز الغني بالله فيما تبقى من حكمه على البناء والتصميم والتشييد. ووقع معاهدة سلام مع مملكة أراغون تعهدت فيها أراغون بالسماح بهجرة المدجنين الراغبين في ذلك إلى غرناطة. وكان عهد الغني بالله عهد تقدم في الآداب والعلوم إلى أن وافاه الأجل المحتوم سنة 793 هـ (1391 م). ولمّا توفي الغني بالله خلفه ولده أبو الحجاج يوسف، فاستبد بالأمر وزيره خالد وقتل أخوته، ثم سخط السلطان على وزيره فقتله وهادن قشتالة. وثار ولده محمد عليه ففشل. ورغم هذه الأحداث الداخلية المؤلمة قام المسلمون بالإغارة على النصارى في أحواز مرسية ولورقة كما صدوا بقوة هجومًا نصرانيًّا على مرج غرناطة. وتوفي السلطان يوسف في أوائل سنة 797 هـ (1394 م).

وخلف يوسف ولده أبو عبد الله محمد، فسعى إلى مهادنة قشتالة. لكن سرعان ما نكث القشتاليون بالعهود وأغاروا على غرناطة، فصدهم المسلمون وأغار السلطان محمد على ولاية الغرب. ثم صارت الحرب بين القشتاليين والأندلسيين سجالاً إلى أن عقدت الهدنة في 6/ 10 / 1406 م لمدة عامين، فنكثت بعد شهور. ثم عقدت هدنة أخرى لمدة ثمانية أشهر سنة 811 هـ (1408 م)، توفي أثرها السلطان أبو عبد الله بعد عودته إلى غرناطة. وهكذا أصبحت الحرب بين غرناطة وقشتالة متواصلة بدون انقطاع، ودون مساندة من المغرب، وغرناطة تحاول الحفاظ على توازنها بالتعاهد مع أراغون، الدولة النصرانية في الجزيرة الإيبرية المنافسة لقشتالة. فعقد السلطان محمد معها معاهدة صداقة وتحالف لمدة خمس سنوات سنة 808 هـ (1405 م). وخلف السلطان محمد بعد وفاته أخوه السلطان يوسف، فسعى إلى تجديد الهدنة مع قشتالة لمدة سنتين. لكن بعد انتهاء الهدنة ابتدأ القشتاليون الحرب بالهجوم على أنتقيرة فاحتلوها سنة 1412 م بعد حصار طويل، وعاث النصارى في أراضي المسلمين فسادًا. فسعى السلطان يوسف إلى الهدنة مرة أخرى مع قشتالة دون أن يسترجع أنتقيرة، فساد الوئام لمدة وجيزة بين قشتالة ومملكة غرناطة. وتوفي السلطان يوسف سنة 820 هـ (1417 م)، وكان سلطانًا عاقلاً فارسًا، سياسيًّا ماهرًا مخلصًا لأمته. وخلف السلطان يوسف ابنه أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر، وكان سيىء الأخلاق متباعدًا عن شعبه يحكم عن طريق وزيره يوسف بن سراج. فساءت أحوال غرناطة واشتد سخط الشعب، وتكاثرت الثورات بتشجيع من قشتالة مما أدى إلى إضعاف الدولة الإسلامية والتعجيل بفنائها. وعندما زحف النصارى على وادي آش سنة 831 هـ (1428 م) وعاثوا فيها دون أن يردهم السلطان الأيسر ثار عليه الأهالي وخلعوه ونصبوا ابنه أبا عبد الله محمدًا الزغير، بينما فر الأيسر إلى تونس في أهله. ورغم خصائله لم يفلح الزغير في إخماد الدسائس المستمرة. فتحالف ضده يوسف ابن سراج وعمل، بالاتفاق مع طاغية قشتالة، على إرجاع السلطان الأيسر سنة 833 هـ (1430 م). فأعاد السلطان الأيسر بني سراج وحاول أن يهادن قشتالة، فشرطت شروطا مؤداها ضياع استقلال الأندلس، وعند رفضه أغارت قشتالة على غرناطة سنة 1431 م وعاثت فيها فسادًا. فزاد ذلك في الفتن الداخلية.

وفي سنة 835 هـ (1432 م) قامت قشتالة بمؤامرة للإطاحة بالسلطان الأيسر ووضع محله سلطانًا يوسف بن المول، وهو سبط السلطان أبي عبد الله محمد عم الأيسر، الذي وقع مع قشتالة معاهدة خضوع وولاء. فنجحت الثورة بمساندة قشتالة وأصبح ابن المول سلطانًا على غرناطة. لكنه توفي بعد ستة أشهر من توليه، فاتفق الجميع على رد الأمر للسلطان الأيسر. وقام الأيسر لقتال القشتاليين، فهزمهم غير ما مرة. وفشلت محاولة النصارى لأخذ جبل طارق سنة 840 هـ (1436 م). وهكذا كانت الحروب سجالاً بين غرناطة وقشتالة. فاستنجد السلطان الأيسر بمصر عندما اشتدت وطأة النصارى عليه ولم ينجده المغاربة لدخول الدولة المغربية مرحلة انحلال. فلم يفز من مصر بطائل. وتتابعت الفتن إلى أن ثار أبو عبد الله محمد الأحنف بن نصر بن أبي عبد الله الغني بالله على السلطان سنة 845 هـ (1441 م) وخلعه وبويع محله. ولم تهدأ الفتن ببيعة الأحنف إذ كان بنو سراج يعارضونه ويساندون أبا الحجاج يوسف بن أحمد بن إسماعيل بن أبي الحجاج بن الغني بالله، فتغلب هذا الأخير على غرناطة بمساندة النصارى. ولكن لم يمكث شهورًا حتى استرجع الأحنف ملكه سنة 849 هـ (1446 م)، وانتقم من النصارى بغزوهم، وهزمهم عدة مرات خاصة سنة 852 هـ (1450 م). وتابع النصارى مساندتهم لأبي الحجاج يوسف، وبقي الأحنف سلطانًا إلى سنة 863 هـ (1458 م). ثم خلفه في الحكم الأمير سعد بن محمد بن أبي الحجاج يوسف بن الغني بالله، وبقي سلطانًا إلى سنة 867 هـ (1462 م). تم عزل وبويع من جديد أبو الحجاج يوسف بن أحمد بن إسماعيل وظل سلطانًا إلى سنة 868 هـ (1463 م) حيث بويع من جديد الأمير سعد. وفي هذه السنين المضطربة المليئة فتنًا داخلية وتواطؤًا مع النصارى وحروبًا متواصلة معهم، استنزفت مملكة غرناطة قواها وضاعت منها قلاع ومدن متعددة. وكانت الضربة المؤلمة سقوط جبل طارق في يد النصارى سنة 867 هـ (1462 م)، فانقطع بذلك حبل النجاة مع المغرب. وهكذا راجعنا باختصار تاريخ مملكة غرناطة ورأينا كيف أنها خرجت من ضعف إلى قوة، وصمدت أمام حرب صليبية متواصلة لمدة قرنين بفضل صمود الجبهة الداخلية ومساندة المغاربة وسياسة التوازن بين الدولتين النصرانيتين، أراغون وقشتالة. رأينا كيف ساءت أوضاع المملكة الإسلامية بسبب ضعف الجبهة الداخلية وكثرة الفتن

1/ 4 - اتحاد الممالك النصرانية

وتشتت العائلة الحاكمة وكثرة التواطؤ مع العدو الصليبي مع انهيار السند المغربي بسبب مشاكله الداخلية. ولم يطل عمر غرناطة في هذه السنين العصيبة إلا ثبات الأندلسيين على الجهاد مع مشاكل قشتالة الداخلية وتنافسها مع أراغون، الدولة النصرانية الأخرى. فلنر وضع إسبانيا النصرانية في هذه الفترة قبل أن ندرس الأيام الأخيرة لمملكة غرناطة. 1/ 4 - اتحاد الممالك النصرانية: رأينا كيف توحدت الممالك النصرانية المتعددة التي تأسست على أنقاض الأراضي الإسلامية في شبه الجزيرة الأندلسية بعد انهيار الدولة الموحدية وأصبحت ثلاثة دول: قشتالة وأراغون والبرتغال. وكانت قشتالة هي أكبر عدو للدولة النصرية بعد تأسيسها. ولندرس أولاً تطور الوضع في قشتالة إبان العهد النصري في غرناطة. بعد الانهيار الموحدي تولى الملك في قشتالة فرانده الثالث سنة 611 هـ (1214 م)، ثم ضم إليه مملكة ليون والده ألفونش التاسع سنة 628 هـ (1230 م). وكان فرانده الثالث قائد الجيوش القشتالية التي احتلت قرطبة (633 هـ). وجيان (643 هـ) وإشبيلية (646 هـ)، ونقل عاصمة قشتالة من طليطلة إلى إشبيلية بعد احتلالها. توفي فرانده الثالث سنة 650 هـ (1252 م) أيام ابن الأحمر، مؤسس الدولة النصرية، فخلفه ابنه ألفونش العاشر الملقب بالعالم. فتابع خطة أسلافه في محاربة الدولة الإسلامية في الأندلس، فاحتل قادس من يد المسلمين في أول حكمه وقد أعانه على ذلك ابن الأحمر. وفي أواخر عهد ألفونش العالم خرج عليه ولده سانشو، فقامت حرب أهلية في قشتالة فانتصر الابن على أبيه والتجأ ألفونش إلى السلطان المريني أبي يوسف سنة 681 هـ (1282 م). واستمر سانشو الرابع ملكًا على قشتالة بدون معارض إلى أن دخل في نزاع مع النبلاء وبعض أمراء عائلته، فاضطر إلى الاستجابة لمهادنة غرناطة مما أعطى مملكة غرناطة بضعة أعوام من السلام. ولما توفي سانشو الرابع سنة 696 هـ (1292 م) خلفه ولده الطفل فراندو الرابع تحت وصاية أمه. وكان عهده عهد اضطراب وفوضى في قشتالة. ولما اشتد عضده ساءت علاقة قشتالة مع غرناطة من جديد، وهو الذي احتل جبل طارق الاحتلال الأول من يد المسلمين سنة 709 هـ.

ولمّا توفي فراندو سنة 712 هـ (1312 م) خلفه على عرش قشتالة ولده الطفل ألفونش الحادي عشر تحت وصاية زعيمين من زعماء النبلاء. ورغم الفوضى التي كانت تعم قشتالة آنذاك فقد تابعت الدولة النصرانية غزواتها لمملكة غرناطة، لكن المسلمين الغرناطيين هزموا القشتاليين في موقعة حاسمة سنة 719 هـ (1319 م). ولما رشد ألفونش الحادي عشر وتولى أمور البلاد بنفسه عاث فسادًا بالقتل والانتقام في بلده وتابع هجومه على الأراضي الإسلامية وهو الذي هزم الجيوش الإسلامية بقيادة السلطان أبي الحسن المريني في موقعة نهر سلادو سنة 741 هـ (1340 م). وكانت هذه هي آخر مرة يجتاز فيها جيش مغربي مضيق جبل طارق لإغاثة الأندلسيين. واستولى ألفونش الحادي عشر بعد ذلك على طريف والجزيرة الخضراء. لكن المسلمين استعادوا في عهده حصن جبل طارق. ولمّا توفي ألفونش الحادي عشر بالوباء سنة 751 هـ (1350 م)، خلفه ولده بطره الثاني الملقب بالقاسي. وهو الملك الذي وفد إليه ابن خلدون سفيرًا عن سلطان غرناطة وهو كذلك الطاغية المعاصر للسان الدين بن الخطيب. وقد بسط بطره نظامًا دمويًّا على قشتالة وعلى أهله حيث لجأ إلى قتل زوجته ليتزوج خليلته. وقد أنشأ لنفسه حرسًا خاصًّا من المسلمين المدجنين. وكما قامت حروب أهلية طاحنة بينه وبين إخوته، تدخلت فيها فرنسا لمساندة أخيه أنريكي وإنجلترا لمساندته. وأخيرًا هزم بطره وقتل سنة 769 هـ (1368 م) أيام السلطان النصري الغني بالله الذي كانت تربطه به معاهدة صداقة وتحالف. وكانت غرناطة إلى جانب بطره القاسي في حربه مع أخيه. واعتلى العرش القشتالي أنريكي الثاني هذا فاستتب الأمر في قشتالة وقويت شوكتها أيامه. لكنه وجه قواتها ضد البرتغال وإنجلترا. وأمنت أيامه غرناطة بعض الشيء، بل أخذت المبادرة في غزو الأراضي القشتالية. ولما توفي أنريكي الثاني سنة 780 هـ (1379 م) خلفه ولده خوان الأول. وقامت في عهده نزاعات بين قشتالة وإنجلترا من جهة وبين قشتالة والبرتغال من جهة أخرى. وقد هزم البرتغاليون القشتاليين سنة 1385 م. وتوفي خوان الأول قتيلاً سنة 792 هـ (1390 م) فخلفه ولده الحدث أنريكي الثالث، وكان سقيمًا عليلاً. ورغم ذلك وطد نظام قشتالة وتابع حربه ضد غرناطة إلى أن توفي سنة 709 هـ (1406 م). فخلفه ولده خوان الثاني طفلاً تحت وصاية أمه الملكة كونستانس الإنجليزية وعمه فراندو الذي احتل مدينة أنتقيرة من يد المسلمين

سنة 815 هـ (1412 م). وكان خوان الثاني ضعيف الرأي إذ تسلط على الحكم وزيره بعد رشده. ولكن إبان حكمه الطويل ساد نوع من السلام بين قشتالة وغرناطة، بينما اشتغلت غرناطة بنزاعاتها الداخلية التي كان يتدخل فيها القشتاليون باستمرار مما أضعف الدولة الإسلامية وهيأ سقوطها. ولمّا توفي خوان الثاني سنة 858 هـ (1454 م) خلفه ولده أنريكي الرابع. وكان في ضعف أبيه، منحل الأخلاق والعزيمة حتى لقب بالعاجز، وسادت الفوضى أيامه مملكة قشتالة. ومع ذلك فقد تابع إرهاقه لدولة غرناطة مستفيدًا من نزاعاتها الداخلية كما رأينا. وقد احتل للمرة الثانية والأخيرة جبل طارق سنة 1462 م. وعند وفاة أنريكي الرابع سنة 879 هـ (1474 م) عارض النبلاء تولية ابنته الوحيدة خوانا عرش قشتالة لما كان يحيط نسبتها إليه من شكوك واجتمعوا على أخته إيزابيلا التي كانت قد تزوجت رغم أخيها سنة 1469 م بفراندو ملك أراغون. وتوحدت بهذا المملكتان النصرانيتان بينما تجزأت مملكة غرناطة. وإيزابيلا وفراندو هما اللذان احتلا غرناطة آخر معقل إسلامي بالأندلس كما سنرى، وقد لقبا بعد ذلك بالملكين الكاثوليكيين. بعد الانهيار الموحدي تولى الملك في أراغون جايمش الأول سنة 610 هـ (1213 م)، وطال ملكه إلى سنة 675 هـ (1276 م). وهو الذي احتل بلنسية سنة 636 هـ (1238 م) والجزر الشرقية من يد المسلمين وتعاون تعاونًا كاملاً مع قشتالة في تحطيم الوجود الإسلامي في الأندلس، ولذلك لقبه مواطنوه بالفاتح، وكانت عاصمة مملكته سرقسطة. وعند وفاة جايمش الأول خلفه على عرش أراغون ولده بطره الثالث الذي مد سلطان أراغون إلى صقلية وجنوب إيطاليا (مملكة نابل)، ولذلك لقب بالأكبر. وعند وفاة بطره الثالث كانت الأراضي الأراغونية علاوة على المناطق الأندلسية: قطلونيا وسرقسطة وبلنسية والجزر الشرقية، تضم جنوب إيطاليا وصقلية ومنطقة البروفانس جنوب فرنسا. وكانت وفاته سنة 684 هـ (1285 م). فخلفه ابنه ألفنش الثالث وكان ضعيفًا أمام مطالب النبلاء، فاضطربت أحوال أراغون أيامه. ولما توفي ألفونش الثالث سنة 690 هـ (1291 م) دون عقب، خلفه أخوه جايمش الثاني. وكان عهده عهد استقرار وإصلاح. وبعد وفاته سنة 727 هـ (1327 م) خلفه ولده ألفنش الرابع، وكان ضعيفًا. فتسلط عليه النبلاء واستصدروا منه ما يسمى

بمرسوم الاتحاد الذي تنازل لهم فيه على كثير من سلطات العرش الأراغوني. وتوفي ألفنش الرابع سنة 736 هـ (1336 م) فخلفه ولده بطره الرابع، الذي كان على عكس والده قويًّا، فدخل في حرب أهلية مع النبلاء انتصر فيها عليهم في موقعة آبلة سنة 1348 م، وأرغمهم على التنازل على المرسوم الذي استصدروه من أبيه. وتدخل بطره الرابع في نزاعات قشتالة الداخلية. وتوفي بطره الرابع سنة 789 هـ (1387 م)، فترك دولة قوية لولده وخليفته من بعده خوان الأول. وكان أميرًا ضعيفًا لا تهمه أمور الدولة، وانتهت أيامه في حادث توفي أثره سنة 798 هـ (1395 م)، فخلفه أخوه مرتين الأول. وكان عهده عهد استقرار وسلام. وقد تحالف مع غرناطة في معاهدة صداقة وتحالف سنة 1405 م. ْولما توفي مرتين الأول دون عقب سنة 813 هـ (1410 م) ثار نزاع حول من يخلفه في عرش أراغون فتولى مجلس الكورتيس حكم البلاد لمدة سنتين. وأخيرًا وقع الاختيار على فراندو القشتالي بن خوان الأول ملك قشتالة، أخو أنريكي الثالث ملك قشتالة، وابن الينور أخت مرتين الأول المتوفى. وفراندو هذا هو محتل مدينة أنتقيرة من يد المسلمين. ولبى فراندو الدعوة وأصبح ملك أرغون تحت اسم فراندو الأول سنة 815 هـ (1412 م). وهكذا انتقل عرش أراغون إلى العائلة الحاكمة في قشتالة مما سيكون له أسوأ الأثر على مستقبل مملكة غرناطة. وكان فراندو الأول ملكًا قويًّا يريد إدخال عادات قشتالة الاستبدادية في حكم أراغون. ولما توفي فراندو الأول سنة 818 هـ (1416 م) خلفه ولده ألفونش الخامس الملقب بالشهم. لكن ألفونش الخامس اهتم أكثر بجنوب إيطاليا وصقلية واستقر بنابل وترك حكم الأراضي في شبه الجزيرة الإيبرية لأخيه خوان يحكم باسمه. ولما توفي ألفونش الخامس سنة 846 هـ (1442 م) تجزأت مملكة أرغن إذ ورثه في نابل ابنه غير الشرعي فراندو. وورثه في الأراضي الواقعة في شبه الجزيرة الإيبرية أخوه خوان الثاني الذي كان قويًّا مستبدًا. تابع صراعه للحصول على عرش نباره، ثم دخل في حرب أهلية مع ابنه كارلوس انتهت بوفاة الابن سنة 1461 م. ثم ثارت قطلونية عليه تطالب باستقلالها، فتغلب عليها سنة 1472 م. ونشبت في أيامه حرب بين أراغون وفرنسا من أجل منطقة الروسيون، وهزمت فرنسا خوان الثاني غير ما مرة. ثم عمل خوان على تزويج ولده فراندو بالأميرة إيزابيلا

القشتالية. وقد نجح هذا الزواج كما سبق أن ذكرنا. ودام حكم خوان الثاني حتى سنة 884 هـ (1479 م) فأصبح شيخًا هرمًا كف بصره وضعفت قواه، فتنازل على العرش لولده فراندو. وهكذا تزوجت إيسابيلا التي أصبحت فيما بعد ملكة قشتالة بفراندو الذي أصبح ملك أراغون بشروط سرية يتعهد فيها فراندو بأن يحترم قوانين قشتالة وتقاليدها وأن يجعل مقر إقامته بها وألا يغادرها دون إذن إيسابيلا، وأن لا يجري أي تعيينات أو قرارات دون إذنها. وتعهد بمتابعة الحرب ضد مملكة غرناطة الإسلامية. وعندما أعلنت إيسابيلا ملكة لقشتالة وليون عقب وفاة أخيها سنة 1474 م قام الفريق المناهض لها بمحاربتها، وكان على رأسهم مطران طليطلة، فغزا ملك البرتغال الأراضي القشتالية بقواته لكنه اضطر إلى الرجوع سنة 1476 م. وهكذا استقر فراندو وإيسابيلا معًا على عرش قشتالة بدون منازع. وعندما اعتلى فراندو سنة 1479 عرش أراغون اتحدت المملكتان النصرانيتان في ظل عرش واحد وتكونت بذلك الدولة الإسبانية التي اجتمعت كلمتها بعد شتات طويل. وكان الهدف الأساسي لفراندو وزوجه إيسابيلا هو القضاء على مملكة غرناطة والوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبرية كما سنرى. وفي هذا الوقت الذي اتحدت فيه إسبانيا النصرانية دخلت غرناطة الإسلامية في حقبة من الصراعات الداخلية والتشتت والتمزق استفاد منها الإسبان أكبر استفادة لتحقيق مآربهم. كما كان المغرب الدولة الحليفة تاريخيًّا للأندلس في فترة ضعف وتشتت داخلي منعها من أية مساندة للأندلس الإسلامية حين حل بها البلاء. أما فراندو الخامس الكاثوليكي فكان ذا عزم ومكيدة وصاحب مقدرة فائقة في الإدارة والسياسة والحرب. لكنه في نفس الوقت كان غدارًا لا يفي بوعد ولا يوثق لكلمة أعطاها، وكان عديم الأخلاق في معاملاته مع خصومه. أما زوجه إيسابيلا فكانت ذات نزعة دينية متعصبة، تشتعل بغضًا للمسلمين. وكانت ألعوبة في يد المطارنة المتعصبين الذين استعملوها للوصول إلى غايتهم وهي القضاء على الإسلام بكل الوسائل الهمجية واللاإنسانية والإجرامية. ولنرَ الآن الأيام الأخيرة لمملكة غرناطة والدور الماكر الذي قام به الملكان الكاثوليكيان للإجهاز عليها.

1/ 5 - الحرب الأهلية وسقوط غرناطة

1/ 5 - الحرب الأهلية وسقوط غرناطة: إن تفكك الأسرة المالكة الكامل في غرناطة، وتشتت الطبقة المثقفة والحاكمة، وعدم ورع الجميع من التعاون مع العدو النصراني القشتالي للتغلب على خصمه المسلم، أدى كل ذلك أخيرًا إلى سقوط غرناطة بعد جهاد طويل ومتواصل دام ما يقرب من القرنين. وهذه المرة توحدت القوى النصرانية في إرادتها للقضاء على الإسلام في الأندلس بينما انعدم مغيث المسلمين من وراء البحر. في سنة 768 هـ (1463 م) ثار أبو الحسن علي على والده الأمير سعد وخلعه ونفاه إلى المرية حيث مات من سنته، وصفا الجو لأبي الحسن بهذه الطريقة البغيضة. ومنذ البداية، دخل أبو الحسن في حروب أهلية مع أخويه، أبو الحجاج يوسف وأبو عبد الله محمد الزغل، اللذين نازعاه الملك، كل على حدة. ولما توفي أبو الحجاج بقي أبو عبد الله الزغل المنازع الوحيد. ورغم الحروب الأهلية، قام أبو الحسن أول أمره بتحصين الحصون وتنظيم شؤون البلاد، وتولى وزارته وزير أبيه أبو القاسم بن رضوان بنيغش. وخرج الزغل إلى ملك قشتالة أنريكي الرابع يستنصره على أخيه. والتقى به في أرشذونة سنة 874 هـ (1469 م)، فوعده بالعون والتأييد مقابل ولائه له. فرد أبو الحسن على ذلك بغزو بعض الأراضي القشتالية واسترجاع بعض المواقع المغتصبة، وفي تلك الأثناء ثارت مالقة على أبي الحسن واستدعت الزغل من قشتالة ونادت به ملكًا. وهكذا انقسمت المملكة الإسلامية الصغيرة إلى قسمين متخاصمين في الوقت الذي توحدت فيه أراغون وقشتالة (1474 م). وعندما لم يحسم السيف النزاع بين المملكتين المسلمتين تهادنتا إلى حين. وحاول اأبو الحسن سنة 883 هـ (478 1 م) تجديد الهدنة مع فراندو وإيسابيلا ملكَا قشتالة وأراغون المتحدتين. فوافقا بشرط أن تعترف غرناطة بطاعتهما وتؤدي الجزية لهما. فلما رفض أبو الحسن الشرط، أغار القشتاليون على غرناطة واستولوا على حصن بللنقة قرب رندة. فرد أبو الحسن على هذا التعدي بالزحف على بلدة الصخرة واستردها سنة 1481 م. وهكذا اشتعلت الحرب من جديد بين قشتالة (المتحدة هذه المرة مع أراغون) وغرناطة (المجزأة هذه المرة نصفين). ولولا سوء سيرة أبي الحسن لتابعت غرناطة مقاومتها. غير أنه كان، رغم فروسيته، أسير هواه وملذاته، مما جعل الشعب ينفر منه. وكان وزيره يجاريه في ذلك. وكانت زوجته الأولى عائشة، ابنة عمه السلطان الأيسر، ووالدة ابنيه أبي عبد الله

محمد (الريشيكو) وأبي الحجاج يوسف. ثم تزوج أبو الحسن بفتاة نصرانية، أسلمت تحت اسم ثريا، وهي ابنة القائد القشتالي سانشو خمينس دي سوليس، وولدت منه ولدين سعد ونصر. ففضل أبو الحسن ثريا وولديها وأقصى ابنة عمه وولديها واعتقلهم في برج قمارش بقصر الحمراء. فزاد ذلك في انقسام المجتمع الغرناطي وسخطه عليه. ورأى القشتاليون في ذلك فرصة سانحة للتدخل. وفي ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة 887 هـ (1482 م). استطاعت الأميرة عائشة الفرار من سجنها مع ولديها محمد ويوسف، بمساندة بني سراج، وظهروا بعد حين في وادي آش حيث أعلن أبو عبد الله محمد (الريشيكو) العصيان على والده. فاغتنم النصارى فرصة هذه الحرب الأهلية الجديدة بين المسلمين لمهاجمة أراضي غرناطة. فأغاروا على حامة غرناطة، وهي مدينة غنية متوسطة في مملكة غرناطة، وملكوها في محرم سنة 887 هـ (1482 م) بعد أن قتلوا أهلها ونكلوا بهم. ثم زحف القشتاليون على لوشة، فردهم أبو الحسن بخسائر فادحة في جمادى الأولى 887 هـ (1482 م). ولما رجع إلى غرناطة عزل وبويع مكانه ابنه أبو عبد الله محمد فانتقل إلى مالقة عند أخيه الزغل. وبعد فشل القشتاليين أمام لوشة هجموا على مالقة. لكن الزغل دافع عنها دفاعًا مستميتًا ورد النصارى بعد هزيمتهم في صفر سنة 888 هـ (1483 م) في موقعة الشرقية. وخرج أبو عبد الله ملك غرناطة الجديد، أسوة بعمه ملك مالقة، لغزو الأراضي النصرانية، فاجتاح بعض الحصون والقرى. لكن النصارى أدركوه خارج قلعة أليسانة التي كان يزمع غزوها، فهزموه وأسروه. فاستقبل النصارى أسيرهم بحفاوة في قرطبة، ورجع جيش المسلمين إلى غرناطة دون سلطانه، فاجتمعت الكلمة على مبايعة الزغل سلطانًا على مملكة غرناطة بكاملها. وهنا تمخض عقل فراندو، طاغية قشتالة، على فكرة داهية للقضاء على غرناطة، بإذكاء الحرب الأهلية وتشتيت القوى الإسلامية. فبعد امتناع طويل قرر إطلاق سراح أبي عبد الله بعد أن وقع معه معاهدة سرية مفادها أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملكين فراندو وإيسابيلا وأن يدفع لهما جزية سنوية وأن يقدم ولده رهينة مع عدد من أبناء الأمراء ضمانًا لوفائه بالعهد. وتعهد الملكان الكاثولكيان بالمقابل بالإفراج عنه فورًا وإعانته على استرجاع ملكه على أن تبقى المدن المفتوحة تحت طاعة قشتالة. وهكذا أفرج القشتاليون على أبي عبد الله في شوّال سنة 890 هـ (أوائل

سبتمبر سنة 1485 م) وأرسلوه مع سرية قشتالية إلى بعض الحصون الغرناطية الحدودية التي قامت بدعوته. وكان أبو عبد الله ضعيف العزم، إذ اقتنع أن الطريق الوحيد لإنقاذ غرناطة هو مسالمة قشتالة وليس مهاجمتها مما فتت من عزائم المسلمين في الوقت الذي كانوا فيه في أشد الحاجة إلى التكاتف والاستماتة في الدفاع. وفي نفس الوقت تابع القشتاليون غزوهم لأراضي مملكة غرناطة، فاحتلوا حصن ذكوان وقرطبية في أوائل سنة 890 هـ (1485 م)، فقطعوا بذلك الطريق بين رندة ومالقة. ثم اضطرت رندة نفسها إلى الاستسلام لهم في جمادى الأولى سنة 890 هـ (أبريل 1485 م)، فكان ذلك ضربة شديدة على المسلمين. ثم هاجموا حصن مقلين، وكان يدافع عنه السلطان الزغل فاستطاع ردهم في شعبان عام 890 هـ (يوليو 1485 م). ولما رجع الزغل إلى غرناطة اشتعلت الحرب الأهلية من جديد بعد إطلاق سراح أبي عبد الله الذي سار إلى بلش وأعلن نفسه سلطانًا على غرناطة مشيدًا بمحاسن الصلح مع قشتالة. فقام حي البيازين من حاضرة غرناطة بالدعوة له. وهكذا اشتغل الغرناطيون عن مقاتلة النصارى بمقاتلة بعضهم البعض، وهذا ما كان يخطط له ملك قشتالة. وبعد فتنة دامت شهرين اتفق أبو عبد الله والزغل على تقسيم المملكة فيختص أبو عبد الله بغرناطة ومالقة والمرية والمنكب، ويختص الزغل بالمناطق الشرقية. وانتهز القشتاليون فرصة هذه الفتنة وزحفوا على لوشة مرة أخرى، فحاصروها، وكان بها أبو عبد الله. ثم دخلوها في 26 جمادى الأولى سنة 891 هـ (مايو سنة 1486 م)، وأخذوا معهم مرة أخرى أبا عبد الله. ثم استولى النصارى على سلسلة من الحصون، منها مقلين واليورة وقلنبيرة، وضيقوا بذلك الحصار على غرناطة. وفي شوال سنة 891 هـ (سبتمبر عام 1486 م) ظهر أبو عبد الله من جديد في المناطق الشرقية، ثم ظهر فجأة في ربض البيازين، وأمده طاغية قشتالة بالعدة والرجال فضيق على عمه الزغل وأذاع عقد الصلح مع النصارى. وفي نفس الوقت سير النصارى جيشًا على بلش مالقة في ربيع الثاني 892 هـ (مارس 1487 م) فهرع الزغل إلى حمايتها لأهميتها الكبرى، لكنه لم يفلح في إنقاذها من السقوط في يد النصارى في جمادى الأولى سنة 892 هـ (أبريل 1487 م). وإبان غيابه قامت غرناطة بمبايعة أبي عبد الله في 5 جمادى الأولى سنة 892 هـ (28 أبريل 1487 م)

الذي أقنعهم بسياسة المهادنة مع النصارى. فارتد الزغل إلى وادي آش. وهكذا انقسمت المملكة الصغيرة مرة أخرى إلى مملكتين: الزغل في وادي آش، وأبو عبد الله في غرناطة. وتحقق بذلك ما أراد طاغية قشتالة. فبدء الحرب مركزًا على أراضي الزغل، بينما ينادي أبو عبد الله بالسلام مع النصارى. ثم ارتد النصارى عليه بعد قضائهم على الزغل. وأول مدينة من مدن السلطان الزغل التي هاجمها النصارى هي مالقة التي كانت أهم ميناء في الدولة النصرية. فقطعها أولاً النصارى عن باقي الأراضي الأندلسية باحتلالهم لوشة والحامة وبلش مالقة. ثم طوقوها. بعد احتلال رندة وذكوان واليورة. وهكذا حاصروها برًّا وبحرًا في جمادى الثانية سنة 892 هـ (يونيه 1487 م). ودافع أهالي مالقة عن مدينتهم دفاع المستميت حتى سقطت في أواخر شعبان عام 892 هـ (غشت 1487 م). فأصدر طاغية قشتالة أمره باسترقاق جميع أهلها، ذكورًا وإناثًا، بعد أن أثخن فيهم جنوده قتلاً وسفكًا. وأرسل نخبة من بناتها هدية لبابا روما. واستغاث الزغل بدول الإسلام جميعًا: المغرب وتونس ومصر وقسطنطينية، ولا من مغيث إلا بعض متطوعة المغاربة. ثم تحوّل النصارى إلى احتلال أراضي الزغل الشرقية، فاستولوا في ربيع سنة 1488 م (893 هـ) على بيرة وبلشيف وأشكر. واستسلم أهل المنكب بعد حصار طويل في محرم عام 895 هـ (1489 م)، فكان ثاني أهم موانىء المسلمين وقوعًا بيد العدو بعد مالقة. ثم أحكم النصارى حصارهم على بسطة، أهم مدن الزغل الشرقية في مستهل شهر رجب سنة 894 هـ، فاستسلمت في محرم سنة 895 هـ (ديسمبر سنة 1489 م). ثم استسلمت المرية في ربيع الأول سنة 895 هـ (فبراير 1490 م). وهكذا سيطر القشتاليون على جميع أراضي الزغل سوى وادي آش مقر ملكه. فحاصره النصارى فيه. فلما لم ير الزغل مناصًا من الاستسلام خرج إلى معسكر فراندو يعرض عليه طاعته والانضواء تحت لوائه. فاستجاب له فراندو، فبايعه الزغل بالخضوع والطاعة هو وسائر قواده، ودخل القشتاليون مدينة وادي آش في أوائل صفر عام 895 هـ (30/ 12 / 1489 م). وعقد الزغل معاهدة سرية مع النصارى نص فيها على طائفة من المنح والامتيازات على أن يستقر سيدًا في مدينة أندرش، وأن ينضم إليه ألف من أتباعه، وأن يُعطي راتبًا سنويًّا سخيًّا مع منحه نصف دخل ملاحات بلدة الملاحة، وأن يعان

على استحضار أبنائه من غرناطة، وأن ترجع له جميع أملاكه بها. لكن الزغل لم يطق حياة الذل هذه مدة طويلة، فتنازل على جميع حقوقه للطاغية، وجاز البحر إلى وهران، ثم انتقل إلى تلمسان حيث كان استقراره. وهاجر معه إلى تلمسان عدد من قواده. ولم يبقَ على الملكين الكاثوليكيين للقضاء على دولة الإسلام في الأندلس سوى الاستيلاء على ما بيد أبي عبد الله، خاصة مدينة غرناطة ففي أوائل صفر عام 895 هـ (فاتح سنة 1490 م) أرسل فراندو سفارة إلى أبي عبد الله يطلب منه تسليم قصور الحمراء على أن يبقى مقيمًا في غرناطة تحت حمايته، وأن يمده بالمال الكثير. فرفض أبو عبد الله الطلب برسالة مؤرخة ب 29 صفر 895 هـ (22/ 1 / 1490 م) أرسلها مع القائد أبي القاسم المليخ إلى الملكين الكاثوليكيين، فاستؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى. تهيأت غرناطة لحصار طويل، وخرج طاغية قشتالة في جيش كبير في ربيع سنة 1490 م (895 هـ)، وزحف على مرج غرناطة محطمًا ومحرقًا، وبرز المسلمون لقتاله عدة مرات، واستولوا أول الأمر على عدة حصون. وثار المسلمون الذين كانوا تحت الاحتلال النصراني في البشرات وغيرها، ودب الأمل في نفوسهم. فاستولى أبو عبد الله على أندرش ومنطقتها. ثم حرر حصن همدان وحصن شلوبانية على البحر وحاول تحرير المنكب. فخاف طاغية قشتالة من هذه الانتصارات الإسلامية، وهيأ جيشًا ضخمًا خرج أوائل سنة 1491 م إلى حاضرة غرناطة عدته خمسون ألف مقاتل، ووصل مرج غرناطة في 12/ 6 / 896 هـ (23/ 4 / 1491 م) وعسكر على ضفاف نهر شنيل، وضرب حصارًا صارمًا حول غرناطة، وبنى مدينة لمعسكره سماها شانتافي (العقيدة المقدسة). فقاوم الغرناطيون، وخرجوا عدة مرات لمحاربة عدوهم في شجاعة وبسالة. فاشتد الجوع والبلاء على المحاصرين عندما طال الحصار دون أمل لفكه. وعندما فشلت كل محاولات المسلمين من رد المحاصرين، أخذ اليأس يدب في نفوسهم، ووقع الاتفاق على التفاوض مع النصارى على التسليم. وكلف الوزير أبو القاسم المليخ في أواخر سنة 896 هـ (أكتوبر 1491 م) بالقيام بهذه المهمة. فاستقبله الملك فراندو في معسكره بشانتافي. فتفاوض الطرفان: أبو القاسم المليخ والوزير يوسف بن كماشة عن غرناطة، والقائد كنسالبو دي قرطبة والأمير فراندو دي الصفراء

عن النصارى. وانتهت المفاوضة بتوقيع معاهدة التسليم بتاريخ 31 محرم عام 897 هـ (25/ 11 / 1491 م). تضمنت هذه الوثيقة 47 مادة أولها تحدد ضرورة تسليم غرناطة قبل 25/ 1 / 1492 م للملكين الكاثوليكيين. وتحدد المواد الثالثة إلى الخامسة أدب دخول النصارى إلى غرناطة عند التسليم، وإرجاع ابن السلطان أبي عبد الله، وضمان احترام أبي عبد الله على دينه وعاداته، وعدم مصادرة أسلحة المسلمين باستثناء الذخيرة. وتحدد المادتان السادسة والسابعة تسهيلات لمن يريد الهجرة من المسلمين. وتضمن المواد الثامنة إلى الحادية عشرة عدم إرغام المسلمين وأعقابهم على وضع شارات خاصة، وألا تؤخذ منهم أتاوات لمدة ثلاث سنوات، وألا يستخدموا دون رغبتهم أو دون أجر. وتضمن المواد الثانية عشرة إلى السابعة عشرة بعدم السماح للنصارى بدخول المساجد تحت طائلة العقاب، وألا يولى اليهود على المسلمين، وأن يعامل جميع المسلمين معاملة شريفة، وألا يجبر المسلمون على استضافة النصارى، وألا يدخل النصارى لبيوت المسلمين قسرًا وإذا دخلوا عوقبوا، وأن يقضي القضاة المسلمون في القضايا التي تجري بين المسلمين حسب الشريعة الإسلامية. وحددت المواد الثامنة عشر إلى الحادية والعشرين للنظر في تركات المسلمين حسب الشرع الإسلامي، وضمان أوقاف المساجد بأن تظل بيد الفقهاء وألا تصادر قط، وأن تشمل هذه المعاهدة مدينة غرناطة وكل المدن والقرى التابعة لها، وألا يعاقب أحد بذنب غيره. وتضمن المواد 22 إلى 24 عدم متابعة من حارب النصارى قبل الاستسلام، بما في ذلك من قتل في الاشتباكات، وألا ترجع الغنائم التي بيد المسلمين، ويحرر جميع الأسرى المسلمين الغرناطيين الذين بيد النصارى. وتضمن المادة 25 بألا يدفع المسلمون أتاوات أكثر مما كانوا يدفعونها لسلاطينهم. وتحدد المواد 26 إلى 29 تسهيلات الهجرة إلى المغرب أو العودة في ظرف ثلاث سنوات لمن يود ذلك، وتسهيل تصرف المهاجرين في أموالهم وتجارتهم. وتؤكد المواد 30 إلى 33 بألا يرغم أي مسلم على اعتناق النصرانية حتى لو كان من أصل نصراني، وألا يستجاب لمن يريد اعتناق النصرانية من المسلمين إلا بعد وعظه من طرف الفقهاء حسب الشريعة الإسلامية. وتؤكد المادة 34 على عدم إرغام أحد على إرجاع الغنائم السابقة، والمادة 35 ألا يساءل أحد عن إهانات للنصارى سابقة. وتحدد المادتان 36 و 37 دفع ضرائب الأملاك بعد ثلاث سنوات حسب المعاهدة، بما في ذلك أملاك الفرسان والقادة المسلمين. وتؤكد المادة 38 شمول المعاهدة اليهود كذلك، وأن يطبق عليهم

ما يطبق على المسلمين. وتؤكد المادة 39 على الحفاظ على امتيازات القواد والقضاة والحكام المسلمين. وتضمن المادة 40 ألا يطالب أحد من ذرية الملكين الكاثوليكيين أبا عبد الله بأي شيء مضى. وتضمن المادة 41 ألا يولى على أبي عبد الله وأتباعه أحد من أتباع الزغل. وتنظم المادة 42 مجلسًا قضائيًّا مكونًا من مسلم ونصراني في النظر في الخصومات التي تقع بين نصراني ومسلم. وتحدد المواد 43 إلى 46 ضمان حقوق أبي عبد الله وتسريح أسرى المسلمين وتسهيل فتح الموانىء لبواخر المسلمين. وقد ذيلت المعاهدة بتأكيد ملكي قشتالة وأراغون ضامنين بدينهما وشرفهما القيام بكل ما يحتويه هذا العقد. ثم ذيلت بتاريخ 30/ 12 / 1492 م (أي بعد تسليم غرناطة) بتأكيد جديد موقع من ولي العهد وسائر عظماء المملكة الإسبانية باحترام المعاهدة من الآن وإلى الأبد. وفي نفس اليوم 25/ 11 / 1491 م الذي وقعت فيه معاهدة تسليم غرناطة أبرمت معاهدة أخرى سرية يضمن فيها الملكان الكاثوليكيان حقوق وامتيازات ومنح السلطان أبي عبد الله وأفراد أسرته وحاشيته من حق ملكية أبدية لمنطقة البشرات حول أندرش وعذرة، ومنحة قدرها 30 ألف جنيه قشتالي، وأن يحتفظ بأملاك أبيه أبي الحسن، الخ ... وقرر أبو عبد الله ورجاله تسليم غرناطة قبل التاريخ المتفق عليه (25/ 1 / 1492 م) بعد أن خاف من غضب شعب غرناطة، فاتفق أن يكون التسليم بتاريخ 2/ 1 / 1492 م. وهكذا سلمت الحاضرة الإسلامية التاريخية بقصورها وأرباضها ومساجدها وأسواقها ومدارسها للعدو الحاقد في يوم مشؤوم وصفه القشتاليون في كتبهم وصفًا دقيقًا من فرح شديد في المعسكر النصراني بشنتافي وألم أشد منه في المدينة المنكوبة. واستلم الكاردينال مندوسة مفاتيح الحمراء من يد الوزير ابن كماشة. كان أول عمل قام به الكاردينال عند دخول الحمراء هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها وترتيل صلاة "الحمد" الكاثوليكية. وقدم أبو عبد الله خاتمه الملكي للكونت دي تندليا، وسار في صحبه وأهله إلى معسكر شانتافي مسلمًا على الملكين الكاثوليكيين ومؤكدًا ولاءه لهما، ثم ذهب إلى أندرش حيث كان مقامه إلى حين. وهكذا انقرضت دولة الإسلام بالأندلس وابتدأت محنة الأندلسيين العظمى.

مراجع الفصل الأول

مراجع الفصل الأول 1/ 1 - . Thompson "Los Godos en Espana" Alianza Editorial, Madrid, Espana, 1969 1 / 2 - A. Ziegler "Church and State in Wisigotic Spain" The Catholic Uni- versity of America. Washington, D.C., 1930 1 / 3 - G. Villada"Historia Eclesiatica de Espana". 1 / 4 - أبو بكر محمد ابن القوطية "تاريخ افتتاح الأندلس" تحقيق الدكتور عبد الله أنيس الطباع. بيروت 1957. 1/ 5 - I. Olague "La Revoluction Islamica en Occidente". Espana. 1 / 6 - ف. كورينطى "ديوان ابن قزمان، نصًّا ولغة وعروضًا" المعهد الإسباني العربي للثقافة، مدريد، عام 1980. 1/ 7 - عبد الرحمن علي الحجي"التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة" دار الإصلاح، القاهرة (مصر) 1983. 1/ 8 - محمد عبد الله عنان "دول الطوائف" القاهرة (مصر) 1969. 1/ 9 - محمد عبد الله عنان "دولة الإسلام في الأندلس" القاهرة (مصر) 1969. 1/ 10 - لسان الدين ابن الخطيب "الإحاطة في أخبار غرناطة" القاهرة (مصر) 1319 هـ. 1/ 11 - محمد عبد الله عنان"نهاية الأندلس" القاهرة (مصر) 1966. 1/ 12 - المقري "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" القاهرة (مصر)، مجلد 4، ص 578.

1/ 13 - لسان الدين ابن الخطيب"اللمحة البدرية في الدولة النصرية" القاهرة (مصر) 1347 هـ. 1/ 14 - مؤلف مجهول "الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية" الجزائر 1920. 1/ 15 - M. Lafuente "Historia General de Espana", Madrid, 1882. 1 / 16 - w. Irving "A Chronicle of the Conquest of Granada", Everyman's. 1 / 17 - M. Gaspar y Remiro"Documentos Arabes de la Corte Nazari de Granada". 1 / 18 - مؤلف مجهول"أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر" نشر بعناية المستشرق ميلر، غوتنغن، 1863. 1/ 19 - . Archivo General de Simancas, P.R. 11-12 1 / 20 - M.G. Atienza,"Las Capitulaciones para la Entrega de Granada", Granada ' (Espana) , 1910. 1 / 21 - Archivo General de Simancas, P.R. 11-207. 1 / 22 - Archivo General de Simancas, P.R. Leg. II, Fol. 206. 1 / 23 - محمد عبده حتاملة "التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين" شركة المطابع النموذجية، عمان (الأردن) 1980.

الفصل الثاني الاضطهاد والتنصير 1492 - 1568 م

الفصل الثاني الاضطهاد والتنصير 1492 - 1568 م 2/ 1 - بداية الغدر وتنصير مسلمي غرناطة (1492 - 1502 م): بعد استيلائه على غرناطة وقضائه على آخر دولة إسلامية بالأندلس عين فراندو وزوجه إيسابيلا الكونت دي تانديا حاكمًا على غرناطة، وعينا إيرناندو دي طلبيرة مطرانًا لها وكان قبل ذلك مطرانًا لآبلة. وأوصاهما بالرفق بأهل غرناطة والتقريب بين العناصر واحترام بنود معاهدة الاستسلام، وبدأ الأمر وكأن الملكين الكاثوليكيين على نية احترام تعهدهما. أما أهل غرناطة فقد اختلف مصيرهم حسب ثباتهم على الإسلام وإمكانياتهم. وأما السلطان أبو عبد الله فقد استقر في أندرش مع أتباعه وأهله بعد تسليمه غرناطة، وكأنه في مملكة صغيرة. غير أن الملكين الكاثوليكيين لم يكونا مرتاحين لبقائه بالأندلس ويفضلان خروجه منها. ففي مارس سنة 1493 م وقعت مفاوضات جديدة بين الوزيرين السابقين أبي القاسم المليخ ويوسف ابن كماشة وبين فراندو دي صفراء أمين الملكين الكاثوليكيين على الشروط التي يغادر بها السلطان أبو عبد الله وحاشيته الأندلس إلى المغرب. وتوصل الاتفاق بتعهد السلطان أبي عبد الله بالعبور إلى المغرب في موعد أقصاه أكتوبر سنة 1493 م، وتنازله عن جميع ضياعه في أندرش وباقي مناطق البشرات وجميع أملاكه في غرناطة وغيرها مقابل ثمن إجمالي قدره واحد وعشرون ألف دوقة قشتالية من الذهب الخالص، كما قبل التنازل عن جميع اختصاصاته، على أن يحمل إليه المال قبل رحيله بثمانية أيام، ويقدم إليه الملكان الكاثوليكيان عربيتين لحمل متاعه وسفنًا ينتقل فيها مع أهله وحاشيته إلى المغرب. ووقع هذا الاتفاق بتاريخ 15/ 4 /

1492 م. كتب الاتفاق بالقشتالية وذيله بالموافقة السلطان أبو عبد الله بالعربية بخط يده بعبارات ذليلة مؤلمة. وكانت زوجة أبي عبد الله قد توفيت في أندرش، فغادر في أوائل أكتوبر سنة 1493 م بأهله وأتباعه من ثغر عذرة، كما غادر في الوقت نفسه عدد كبير من وزرائه وقواده ميناء المنكب إلى ميناء مليلة بالمغرب، ومنه إلى حاضرة فاس. كان عدد من هاجر مع السلطان أبي عبد الله إلى فاس 1132 شخص. وكان سلطان المغرب آنذاك أبو عبد الله الوطاسي. وهاجر في السنين الأولى من احتلال القشتاليين لغرناطة عدد جم من كبار أهلها وقوادها وفقهائها وعلمائها وساداتها وأعيانها، وباعوا أملاكهم لكبار القشتاليين المحتلين. فعبر بنو سراج إلى فارس، وعبر أشراف المرية إلى وهران ومنها إلى تلمسان، وأشراف الجزيرة الخضراء إلى طنجة، وأعيان رندة وبسطة إلى أحواز تطوان، كما هاجر أعيان لوشة وبعض أهل غرناطة ومرشانة وجبال البشرات إلى قبيلة غمارة بالمغرب، وجاز أعيان بيرة وبرجة وأندرش إلى منطقة طنجة، وأعيان بليش إلى سلا، وأعيان طريف إلى آسفى وآزمور، كما هاجرت أعداد كبيرة إلى بجاية وتونس وقابس وصفاقص وسوسة والمشرق. وهاجر أحد قواد الجيش الأندلسي الغرناطي أبو الحسن علي المنظري إلى جنوب سبتة واستأذن من سلطان المغرب إعادة تأسيس تطوان التي كانت خربة. فأذن له سنة 898 هـ (أواخر 1492 م). فأعاد تعميرها بعدد كبير من المهاجرين الغرناطيين الذين حصنوها حتى أصبحت ملاذًا للمهاجرين الأندلسيين ما يقرب من قرن ونصف وحصنًا ضد الغزو النصراني من حصون المغرب الثابتة. واعتنق النصرانية طواعية بعد الاحتلال جماعة من الأمراء والأعيان. فقد تنصر الأميران سعد ونصر ابنا السلطان أبي الحسن كما رجعت أمهما ثريا إلى دينها النصراني فأصبحت تعرف باليزابيث دي سوليس، وغير اسم الأمير سعد إلى"دوق فراندو دي غرناطة" وعمل قائدًا في الجيش القشتالي، وأصبح الأمير نصر"دون خوان دي غرناطة". وتنصر الأمير يحيى النيار ابن عم أبي عبد الله الزغل وقائد المرية عقب تسليمه المرية وتسمى بـ"دون بدرو دي غرناطة"، وتنصرت زوجته وتنصر ابنه علي تحت اسم "دون ألونسو دي غرناطة بنيغش" وتزوج وصيفة الملكة الكاثوليكية. وتنصر معظم آل بنيغش بما فيهم الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش. وتنصر الوزير يوسف بن كماشة وأصبح راهبًا، وغيرهم كثير.

لكن الكنيسة الكاثوليكية حاربت بقوة سياسة الاعتدال الأولى. وكان لها في إسبانيا آنذاك نفوذ عظيم على الدولة، كما كانت توجه من طرف البابا إسكندر السادس. وكان الرهبان يتأججون حقدًا على الإسلام والمسلمين، وأكبر آمالهم هو سحق دين الإسلام. فعملوا على إقناع الدولة بأن لا خلاص لها إلا بتنصير المسلمين عن رضى أو قهر. وكان الملكان الكاثوليكيان يشاركان الكنيسة هذا الرأي، وما كانت العهود التي قطعاها لتعوقهما عن الغدر. وهكذا لم تمر على احتلال غرناطة أكثر من بضع سنين حتى بدت أهداف الدولة الإسبانية والكنيسة الكاثوليكية واضحة جلية. كان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة وكذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كتدرائية. ثم نظمت الكنيسة في السنين الأولى فرقًا تبشيرية من رهبان وراهبات للقيام بنشر النصرانية. وكان ظنهم أول الأمر أن المسلمين سيعتنقون النصرانية بسهولة، خاصة عندما هاجر زعماؤهم وارتد الكثير من كبارهم. ولما مرت السنون ولم تأت هذه الفرق بنتيجة تذكر أخذت الكنيسة والدولة تفكر في تغيير سياستها من اللين إلى العنف، ملغية كل بنود معاهدة التسليم الواحدة تلو الأخرى. وهكذا تغيرت سياسة الدولة فجأة، إذ استدعى الملك فراندو الكاردينال فرانسيسكو خيمنس دي سيسنيروس سنة 1499 م، مطران طليطلة، ليعمل على تنصير المسلمين بصرامة أكبر. فوفد على غرناطة في شهر يوليوز من السنة نفسها، ودعا مطرانها الدون إيرناندو دي طلبيرة إلى اتخاذ وسائل فعالة لتنصير المسلمين. فأمر بجمع فقهاء مدينة غرناطة والمدن الأخرى ودعاهم إلى ترك الإسلام واعتناق النصرانية ليكونوا أسوة لغيرهم، وأغدق المنح على من قبل ذلك وهدد بالوعيد والعقوبة لمن رفض. فضعف بعضهم وقبل التنصير وتبعهم بعض العامة. وتمركز التنصير في حي البيازين من أحياء غرناطة الشعبية، وحول جامعها الأكبر إلى كنيسة "سان سلباطور". ثم ركّز سيسنيروس على المسلمين من أصول نصرانية (ويسميهم البعض العلوج) وقرر أن كل من ارتد عن النصرانية يعامل هو وأبناؤه وأحفاده وسلالته معاملة المرتدين، فاحتج المسلمون من أصل نصراني بأن معاهدة غرناطة صريحة نحوهم وأنهم مسلمون لا فرق بينهم وبين غيرهم من المسلمين. فبدأ أعوان سيسنيروس بملاحقة العائلات المسلمة من أصل نصراني والزج بها في السجون

رجالاً ونساء وأطفالاً إن رفضوا التنصير. وكان الفتيل الذي أشعل الثورة في حي البيازين في 18/ 12 / 1499 م انتهاك شرطة سيسنيروس لحرمة إحدى المسلمات من حي البيازين التي اعتنق والدها الإسلام، فسيقت للسجن هي وأولادها. فتجمع المسلمون لحمايتها وقتلوا الشرطي وحرروا المرأة وهرب القسس. ثم انطلق المسلمون ينادون بالثورة للحفاظ على عقيدتهم، فاحتلوا أبراج البيازين وأقاموا المتاريس. وفي الليل هاجم الثوار قصر سيسنيروس قرب الحمراء فلم يكن فيه إذ فر قبل ذلك إلى الحمراء. ثم نظم الثوار أنفسهم وانتخبوا حكومة من أربعين ممثلاً. فأرسلت الحكومة جيشًا لإخماد الثورة، ففضل رئيسه المفاوضة مع الثوار ووعدهم بالوعود المعسولة. وعنف الملكان الكاثوليكيان سيسنيروس على عدم لباقته، وتركا المفاوضة في يد دي طلبيرة، كاردينال غرناطة. فتعامل مع الثوار باللين، وقدم لهم زوجته وعائلته رهائن ضمانًا على حسن نيته، ووعدهم بقبول كل مطالبهم وعدم متابعتهم. فهدأ الثوار واستسلموا، وذلك عشرة أيام بعد بداية الثورة. وقد نقضت تلك الاتفاقات كلها بعد هدوء الثورة. ورفض الاستسلام عدد من قواد الثورة، فهرب منهم قرابة 1500 رجل، وتحصنوا بقلعة قولجر بجبال البشرات حيث أعلنوا من جديد الثورة في شهر يناير عام 1500 م، وانتخبوا إبراهيم بن أمية رئيسًا لهم. وبدؤوا يقومون بحملات ضد الحاميات الإسبانية في مرج غرناطة. فانضم إليهم كثير من المجاهدين. فأرسل لهم الملكان الكاثوليكيان جيشًا تحت رئاسة القائد تانديلا بعد أن استولى الثوار على عدة حصون جبلية وأخرى شاطئية. فحاصر الجيش بلدة قولجر وقتل جميع من وجد بها من نساء وأطفال وشيوخ. ودافع الثوار قدر جهدهم، ولما استسلموا استرقوا جميعًا. ثم تحركت قوة إسبانية من 5000 رجل نحو عذرة وكاستل فيرو وبنيول التي بقيت تحت يد الثوار على شاطىء البحر. فلم يفلح الجيش في إزاحتهم. ثم استولى الثوار على معظم قرى ومدن البشرات، من أندرش شرقًا إلى لانجرون غربًا. فتوجه الملك بجيش ضخم مكون من 80.000 راجل و 15.000 فارس، فمر من وادي الإقليم وحاصر مدينة لانجرون، ثم احتل قرى البشرات الأخرى إلى أن وصل إلى مدينة أندرش التي استبسلت استبسالاً منقطع النظير قبل أن تستسلم. وأخيرًا خمدت ثورة البشرات في أواخر فبراير عام 1500 م، بعد أن تعهد الملكان الكاثوليكيان باحترام بعض شروط معاهدة تسليم غرناطة.

وعندما استعمل القسس مع أهل منطقة المرية لتنصيرهم نفس العنف الذي عاملوا به أهل غرناطة، قامت الثورة في جبال فلابرش شمال المرية. وبلغت الثورة أشدها في شهر نوفنبر عام 1500 م، فطرد الثوار القسس واحتلوا الحصون الجبلية وتمركزوا في مدينة بلفيق. فأرسل الملك جيشًا لقمع الثورة، قاتله الثوار المسلمون قتالاً شديدًا حتى اضطروا إلى الاستسلام. فقضى الملك الكاثوليكي بقتل جميع رجال بلفيق وسبي النساء والأطفال ومصادرة جميع الأموال. وهكذا عمد قهرًا ما تبقى من أهالي جبال فلابرش ونهر المنصورة المجاور. ثم ثار بعد ذلك سكان ثلاثة من قرى وادي المنصورة، فأُخضعوا بالقوة. ثم ثارت مدينة عذرة مرة أخرى، فهاجمها الجيش وحاصرها حصارًا طويلاً حتى دخلها، فاسترق جميع أهلها. ثم توبعت سياسة التنصير القسري في منطقة رندة، فقامت الثورة في جبالها من يناير إلى أبريل عام 1501 م، وانتخب المجاهدون سليم الأزرق رئيسًا لهم. فأرسل الملكان جيشًا لإخماد الثورة، فهزم الثوار الجيش في بللونقا وقتلوا رئيس الحملة الدون الفونسو دي أغيلار، قتله مجاهد اسمه الفهري. فأرسل الملكان جيشًا أكبر لمفاوضة الثوار، فوقع الاتفاق في 14/ 4 / 1501 م بإنهاء الثورة على أن يهاجر القواد إلى المغرب ويعمد الباقون بالقوة. وفي هذه الأثناء تابعت الكنيسة والدولة سياستهما في التنصير القسري. وفي أواخر يوليوز ذهبت الملكة إيزابيلا إلى غرناطة لمتابعة عمليات التنصير والإشراف عليها. ووقعت الدولة مع جميع قرى ومدن مملكة غرناطة مراسيم تجبر الأهالي فيها على التنصير مقابل معاملتهم ماليَّا مثل معاملة النصارى القدامى. وهكذا تم تعميد أهالي طبرنش في 18/ 9 / 1500 م وبسطة في 30/ 9 / 1500 م وأشقر في 26/ 1 / 1501 م الخ ... وفي نفس هذه المواثيق يمنع النصارى الجدد من ذبح الحيوانات على الطريقة الإسلامية ومن أن يلبس رجالهم أو نساؤهم اللباس الإسلامي، وأجبروا على تغيير أسمائهم الإسلامية وحتى تقاليدهم وعاداتهم بعادات وتقاليد نصرانية، وسمح لهم مؤقتًا باستعمال الحمام والاغتسال (ولم يكن النصارى يغتسلون). ولم تنته سنة 1500 م حتى عم التنصير جميع أنحاء مملكة غرناطة القديمة من رندة إلى المرية مرورًا بوادي آش وبسطة والبشرات. ثم صدر قرار بتحويل جميع المساجد إلى كنائس ومصادرة جميع الأوقاف الإسلامية، وفي 12/ 10 / 1501 م صدر مرسوم بحرق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة، أكبر ساحات

غرناطة، ثم تتابع حرق الكتب إلى أن وصل عدد ما حرق منها حوالي مليون كتاب. فكانت هذه الجريمة من أكبر جرائم الكنيسة والدولة الإسبانية في الأندلس وفي حق الحضارة الإنسانية. وتتابعت في نفس السنة المراسيم التعسفية بمنع استعمال اللغة العربية. وصدر قرار في سبتمبر يمنع"المتنصرين الجدد" من حمل السلاح وامتلاكه، وينص على معاقبة المخالفين لأول مرة بالحبس والمصادرة ولثاني مرة بالإعدام. ثم استغاث الأندلسيون مرة أخرى بالعالم الإسلامي، فلا من يجيب! استغاثوا أولاً بسلطان المغرب أبي عبد الله محمد بن يحيى الوطاسي، ثم بسلطان مصر، الأشرف قانصو الغوري (المماليك البرجيون). فأرسل الأشرف رسولاً إلى الملكين الكاثوليكيين يهددهم بإجبار النصارى الذين تحت حكمه على الإسلام إذا لم يعطوا الأندلسيين حرية بقائهم على دين الإسلام. فأرسل الملكان الكاثوليكيان سفيرهما له أقنعه بسهولة أن المسلمين بالأندلس بخير وأن حقوقهم مضمونة. ففضل الأشرف تصديق ادعاءات الملكين الكاثوليكيين عوضًا عن نصرة إخوانه المستضعفين، والاستيقاظ على الواقع الأليم الذي وضحه له المبعوثون الأندلسيون. ثم استغاث الأندلسيون بالسلطان بايزيد العثماني في المرة الأولى سنة 1499 م. لكن بايزيد كان مشغولاً بخلافات أسرته، فاكتفى بإرسال كتاب إلى الملكين الكاثوليكيين، لم يعملا به، واستغاث الأندلسيون بالسلطان بايزيد مرة ثانية سنة 1502 م، فلم تأت هذه الاستغاثة بنتيجة. وهذه الاستغاثة هي عبارة عن وثيقة شعرية من 103 بيت يصف فيها كاتبها المجهول وضع الأندلسيين وصفًا مؤثرًا، إذ يقول مستهلاًّ بعد بضعة أبيات: سلام عليكم من عبيد تخلّفوا ... بأندلس بالغرب في أرض غربة أحاط بهم بحر من الروم زاخر ... وبحر عميق ذو ظلام ولجة سلام عليكم من عبيد أصابهم ... مصاب عظيم يالها من مصيبة ثم يقول: غُدرنا ونصّرنا وبدّل ديننا ... ظُلمنا وعوملنا بكل قبيحة وكنّا على دين النبي محمد ... نقاتل عمال الصليب بنيّة ثم يقول: فلما دخلنا تحت عقد ذِمامهم ... بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة

2/ 2 - محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا:

وخان عهودًا كان قد غرّنا بها ... ونصّرنا كرهًا بعنف وسطوة وأحرق ما كانت لنا من مصاحف ... وخلطها بالزبل أو بالنجاسة وكل كتاب كان في أمر ديننا ... ففي النار ألقوه بهزء وحقرة ثم يقول بعد وصفه لمنعهم كل شعائر الإسلام: وقد أمرونا أن نسبّ نبينا ... ولا نذكره في رخاء وشدة وقد سمعوا قومًا يغنّون باسمه ... فأدركتهم منهم أليم المضرة ثم يقول: وقد بدّلت أسماؤنا وتحوّلت ... بغير رضًا منّا وغير إرادة فآهًا على تبديل دين محمد ... بدين كلاب الروم شرّ البرية ثم يختتم: وصرنا عبيدًا لا أسارى نُفتدى ... ولا مسلمين نطقهم بالشهادة فلو أبصرتْ عيناك ما صار حالنا ... إليه لجادت بالدموع الغزيرة فيا ويلنا يا بؤس ما أصابنا ... من الضّرّ والبلوى وثوب المذلّة وهكذا أعلن الإسبان رسميًّا انقراض الإسلام في الأندلس، ولم يعودوا يذكرون اسم المسلمين بها إلا بـ"النصارى الجدد" أو المورسكيين، وهي كلمة تصغير"مورو" للتحقير، و"مورو" عندهم المسلم. ويسمي الأندلسيون أنفسهم في هذه الحقبة بالغرباء إشارة إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، رواه مسلم. ولكن مصائب هؤلاء الغرباء لم تكن إلا في بدايتها، إذ بقي الإسلام في قلوبهم وهم صامدون عليه. فنظمت الدولة والكنيسة جهازًا جهنميًّا للقضاء على الإسلام حتى في قلوبهم، يسمى ب"محاكم التفتيش". 2/ 2 - محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا: ظهرت فكرة محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر الميلادي مع تزايد غطرسة الكنيسة الكاثوليكية واجتهادها في مراقبة ضمائر الناس في الدول التي كانت تحت سيطرتها. فكان بابا روما يكلف بعض الأساقفة بتعقب من كانت أفكاره مخالفة لتعاليم الكنيسة وطبق هذا النظام في البداية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا حيث كان يتجول مندوبو البابا في أنحاء البلاد لتقصي أخبار الناس واتهام كل مخالف بالكفر ثم القبض

عليه ومعاقبته. وكانت تعقد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت بمثابة محاكم التفتيش المبدئية. ثم تحل المحكمة بعد مطاردة المتهمين والقضاء عليهم. وهكذا عذبت الكنيسة الكاثوليكية أجيالاً كاملة من المفكرين والعلماء في أنحاء أوروبا بكل قساوة وبطرق إجرامية لا تمت للإنسانية بصلة. ثم أنشئت في أديرة الفرانسسكان والدومنيكان محاكم ثابتة حيث كان يتولى الأساقفة رئاستها بسلطة مطلقة. أما التحقيقات والمرافعات فكانت تجري بطريقة سرية، ولم يكن الحكم قابلاً للنقض بعد إصداره. وكان يسمح للأطفال والعبيد والنساء بالشهادة ضد المتهم في الوقت الذي لم يكن يسمح لهم بالشهادة له. وكثيرًا ما كانت الأحكام ترتكز على اعترافات المتهم التي كانت تؤخذ منه بالتعذيب والمكر. وتفننت تلك المحاكم في طرق التعذيب التي كثيرًا ما كانت تؤدي بحياة المتهم أو تعوقه فيما تبقى من حياته. ولم تكن لتلك المحاكم سجون ثابتة، بل كان يرمى المتهمون في سجون مؤقتة مظلمة قليلة الهواء مصفدين في الأغلال، يذوقون الأمرين من العطش والحر أو البرد والجوع والآلام النفسية. وكانت أكثر العقوبات ترتكز على المصادرة لإغناء خزائن محاكم التفتيش والقائمين عليها أو السجن المؤبد أو الجدف على السفن أو الخدمة في المناجم أو الإعدام حرقًا، والسعيد منهم من يفلت بغرامة ضخمة. وكانت محاكم التفتيش تصدر أوامرها الإجرامية بإحراق الكتب المحرمة، وكم أحرقت من كتب العلماء والفلاسفة. وهكذا تابعت محاكم التفتيش الكاثوليكية في كل أنحاء أوروبا المذاهب غير الكاثوليكية مثل الألبيين واليهود. ثم أخذت تطارد كل من ظهرت عليه بوادر الشك في العقيدة الكاثوليكية حسب قرارات الكنيسة المتغيرة. فطورد العلماء والمفكرون وشرد وأحرق جم غفير ممن اتهموا بالسحر والعرافة. وأنشئت أول محكمة للتفتيش في شبه الجزيرة الإيبرية في مملكة أراغون في القرن الثالث عشر الميلادي وحدد نظامها سنة 1242 م، عرفت بالديوان القديم. واستعمل هذا الديوان بكل قساوة ضد الألبيين حتى أصبح اسمه مدعاة للإرهاب والفزع. ثم فكرت مملكة قشتالة في تأسيس محاكم التفتيش لملاحقة النصارى من أصل يهودي الذين سما شأنهم في الدولة والكنيسة، وأصبحوا محط أنظار الحساد والمبغضين، وأصبح لهم نفوذ مالي كبير ومكانة مرموقة في المجتمع القشتالي. فأخذت الكنيسة الكاثوليكية تنظر إليهم بريب وتتهمهم بمزاولة الشعائر اليهودية سرًّا

وبالدس ضد النصرانية. فأصدر الملك أنريكي الرابع، ملك قشتالة، سنة 1459 م، أمرًا ملكيًّا للأساقفة بالبحث والاستقصاء في دوائرهم عن المارقين المضمرين لأفكار مخالفة للكثلكة. وهكذا ابتدأ الاضطهاد الكنسي ضد اليهود المتنصرين فأحرق منهم الجم الغفير قبل سقوط غرناطة. ولم تشمل هذه المحاكم آنذاك المسلمين أو المدجنين بعد، بل أرسل سكتوس الرابع، بابا روما، مرسولاً كلفه بالتحقيق والقبض على الخارجين على الكنيسة ومعاقبتهم. فخاف الملكان فراندو وايسابيلا أول الأمر على سلطتهما ووقفا ضد هذه المحاولة البابوية، فأوقفا القساوسة من متابعة النصارى من أصل يهودي. لكن مقاومة الملكين الكاثوليكيين لم تدم طويلاً إذ أرسلا سفيرهما إلى البابا سنة 1478 م في هذا الأمر. فأصدر البابا مرسومًا في شهر نوفمبر من سنة 1478 م بإنشاء"محكمة التفتيش"في قشتالة وتعيين المفتشين "لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين". وندب المفتشون الثلاثة الأولون في شهر سبتمبر عام 1480 م إلى إشبيلية، عاصمة قشتالة آنذاك. وهكذا ابتدأت محاكم التفتيش عملها الجهنمي ضد المسلمين في إسبانيا. وطالبت المحكمة في أول عملها الجميع بالتحول إلى جواسيس للكنيسة وذلك بالبحث عن "الملحدين" و"الكفرة" والمساعدة على جمع الأدلة ضدهم. وكان أول ضحايا هذه المحاكم النصارى من أصل يهودي، فحوكم اللآلاف منهم وصودرت أموالهم وأحرق بالنار مئات من الأبرياء بينما جرد الباقون من حقوقهم وحتى إنسانيتهم. وتوسع "ديوان التفتيش" في فبراير عام 1482 م بتعيين سبعة مفتشين جدد بمرسوم بابوي استصدره الملكان الكاثوليكيان. كما أنشئت بعد ذلك محاكم للتفتيش في بلد الوليد وشقوبية وطليطلة وقرطبة وجيان، ثم عمت المحاكم مملكتي قشتالة وأراغون. ثم صدر مرسوم بابوي سنة 1483 م بإنشاء مجلس أعلى لديوان التفتيش يتكون من أربعة أعضاء أحدهم المفتش العام رئيس المجلس، لهم تفويض كامل في كل الشؤون الدينية. وصدر مرسوم بابوي في أكتوبر من نفس السنة بتعيين معترف (أي الراهب الذي يصرح له بالذنوب ليغفرها حسب معتقدات النصارى) الملكين، القس توماس دي توريكمادا (أي البرج المحروق)، مفتشًا عامًّا، كلف بوضع نظام جديد للديوان المذكور.

فعيّن توريكمادا في إشبيلية لجنة من المفتشين العامين وضعت سنة 1485 نظام الديوان الجديد مع مجموعة من القرارات واللوائح. ثم اجتمعت لجنة ثانية سنة 1488 م في بلد الوليد، وثالثة سنة 1498 م في آبلة. ثم تولى بعد ذلك المجلس الأعلى صياغة اللوائح وتنظيمها. وهكذا تكونت محاكم التفتيش الكاثوليكية الإسبانية التي تجمع بين الصفتين الدينية والقومية والتي ذاق منها المسلمون بعد ذلك صنوفًا لا توصف من العذاب والإذاية والظلم. وكان أول"مفتش عام"، توريكمادا، رجلاً ظالمًا متعصبًا، لا يعرف الرحمة ولا الشفقة، مع شغفه بالبذخ والأبهة والترف والسلطة. وقد ندب البابا له سنة 1494 م أربعة من المفتشين العامين وخولهم نفس السلطة التي لديه. وعندما مات سنة 1498 م خلفه في منصب"المفتش العام"القس "دييغو ديسا"، أسقف جيان. تبدأ محكمة التفتيش عملها بالتبليغ إما من طرف شخص بعينه أو بدونه. فحينما يكون المبلغ معروفًا يستدعى لتقديم شهادته التي تعتبر"تفتيشًا تمهيديًّا". ويمكن اتهام شخص عن طريق التهمة أو عن طريق الاعتراف لدى قس. إذ على كل كاثوليكي أن يعترف بكل ذنوبه لقس ليغفر له، ويمكن للقس أن يستعمل هذه الاعترافات ضد المعترف. ثم تعرض نتائج"التفتيش التمهيدي"على"الرهبان المقررين"الذين يقررون إذا كانت التهم الموجهة ضد المتهم تدخله في الكفر أم لا. وحيث كان معظم الرهبان من الجهلة المتعصبين، فقد كانت قراراتهم تتجه إلى الإدانة في غالب الأحيان. وفي حالة الإدانة، يقبض على المتهم ويرمى به في سجن الديوان السري، وتصادر أمواله وتصفى على الفور، وتقطع علاقاته مع العالم الخارجي إلى أن تنتهي المحاكمة التي كانت تستغرق السنوات الطوال. وتدفع نفقات سجن المتهم ومحاكمته من أملاكه المصفاة. وأحيانًا تصادر أموال المتهم حتى قبل الإدانة. ولا يعلم المتهم سبب سجنه عند القبض عليه، بل يمنح ثلاث "جلسات إنذار" في ثلاثة أيام متوالية يطلب منه فيها أن يقرر الحقيقة، ويوعد بالرأفة إذا قرر كل شيء وبالشدة والعذاب إذا أنكر. وكان هذا الوعد في الحقيقة غدرًا فاضحًا، فلو اعترف المتهم بذنب لم يقترفه عوقب به دون رحمة ولا شفقة، وإذا اعترف بالكفر فلا مناص له من الموت حرقًا. أما إذا رفض المتهم الاعتراف بأي ذنب بعد الجلسات الثلاثة فإنه يحال إلى التعذيب. وأحيانًا يحال إلى التعذيب حتى لو اعترف بذنوبه، إذًا يفترض أنه أخفى أشياء أخرى. وكانت ضروب التعذيب تصل إلى درجة من الوحشية

لا تخطر على بال، كثيرًا ما يعترف إبانها المتهم بكل ما يطلب منه مفضلاً الموت على ما هو فيه. وأحيانًا يموت المتهم في يد القساوسة المعذبين. ويتنوع العذاب من إغراق وجر وربط وإدخال أسياخ وسحق عظام وسلخ جلود وتمزيق أطراف وفسخ فك وغيرها من ضروب العذاب. ويحضر التعذيب الجلادون والرهبان المفتشون. ولا يعرف المتهم سبب تعذيبه وما يطلب منه بالضبط الاعتراف به. ويعد كل ما يعترف به المتهم إبان التعذيب اعترافًا كاملاً لا يمكن الرجوع عنه. ولا يكف القساوسة المفتشون عن تعذيب المتهم إلا إذا رضوا باعترافاته. وإذا تمادى المتهم في عدم الاعتراف ونجا من الموت إبان التعذيب فإن صبره لن يفيده شيئًا، إذ تطبق عليه التهم المنسوبة إليه على أي حال. وعندما ينتهي القساوسة المحققون من جلسة التعذيب يطلب من المتهم أن يتقدم في اليوم التالي بتصريحاته التي اعترف بها إبان التعذيب. فإذا ناقض نفسه أعيد إلى التعذيب. وبعد الانتهاء من الاعتراف يسأل المتهم عن دفاعه. فمان لم يكن له دفاع اختارت له المحكمة محاميًا من المسجلين في الديوان للدفاع عنه. ولم يكن الدفاع إلا مهزلة، إذ يتعهد المحامي بالتخلي عن موكله في أية مرحلة من مراحل المحاكمة إذا رأى أن الحق ليس معه، ولا يمكنه الاطلاع على ملف القضية أو الجلوس بانفراد مع المتهم. وإذا تعاطف المحامي مع المتهم فإنه يتعرض لنفس تهمة موكله. وبعد المرافعة والاستجواب يرفع الموضوع إلى القساوسة المفتشين ليعطوا رأيهم من جديد تمهيدًا للحكم النهائي. وفي غالب الأحيان لا يختلف الحكم الجديد عن سابقه. فإذا كانت الإدانة فإنه يسمح للمتهم طلب الاستئناف، وقليلاً ما كان الاستئناف يؤدي إلى نقض حكم سابق. ويمكن للمتهم أن يعلن التوبة ويطلب العفو من البابا مقابل أموال طائلة إن كانت له أموال. وإذا حُكم للمتهم بالبراءة، وقليلاً ما يحدث ذلك، فإنه يعطي شهادة بطهارته من الذنوب كتعويض على ذهاب ماله وشرفه وصحته ظلمًا وعدوانًا. أما إذا كانت التهمة كبيرة فيؤخذ المتهم من السجن دون أن يدري مصيره ويمر"بمرسوم الإيمان" (أيوتو دافي) فيلبس الثوب"المقدس"ويوضع في عنقه حبل وفي يده شمعة ويؤخذ إلى الكنيسة للتوبة ثم إلى ساحة التنفيذ، وهناك يتلى عليه لأول مرة الحكم: سجن مؤبد ومصادرة كاملة للأموال، أو حكم بالإعدام حرقًا بالنار في حال"الكفر

2/ 3 - ذروة اضطهاد المسلمين 1502 - 1567 م:

الصريح". أما إذا كانت التهمة صغيرة فيحكم عليه بالسجن لمدة محدودة أو بغرامة مالية ويسمون ذلك حكم"التوفيق". كانت أحكام الإعدام بالنار كثيرة، وتكون في مهرجانات عظيمة يتفرج فيها القساوسة ورجال الدولة والأهالي تمامًا كما كان يتفرج رعاع روما على النصارى الأوائل الذين كان يرمى بهم للأسود المفترسة في حفلات كبرى. وكثيرًا ما كان يشهد حفلات الحرق هذه الملك نفسه وكبار رجال دولته. وكان يحرق المتهمون جماعيًّا في مواكب الموت وأحيانًا أسر بأكملها من أب وأم وأطفال. وكان الملك فراندو من عثاق التفرج على المسلمين وهم يحرقون. كانت محاكم التفتيش تحاكم أحيانًا الموتى فتنبش قبورهم وتخرج جثثهم لتعاقب. وتتابع محاكم التفتيش الغائبين كذلك. وكان لأعضاء هذه المحاكم حصانة كاملة من أية متابعة. وكانوا في غالب الأحيان ذوي أخلاق سافلة لا يتورعون عن ارتكاب جميع الموبقات والجرائم أقلها الارتشاء واختلاس أموال الأبرياء وأكثرها اغتصاب النساء والرجال وقتلهم كما ذكرته الكتب التي تعرضت لهذا الموضوع في إسبانيا وخارجها. ولما أكره الأندلسيون على التنصير واستحالوا من أمة مسلمة إلى أمة المورسكيين، المسلمين سرًّا النصارى ظاهرًا، وعندما فشلت كل ثوراتهم بعد سنة 1502 م أصبحوا لقمة سائغة في يد محاكم التفتيش هذه التي عدتهم نصارى وأصبحت تلاحقهم جماعات وفرادى لتنزع عنهم أي أثر للإسلام عقيدة أو ثقافة أو لغة. وقد أُخضع مسلمو غرناطة إلى محاكم التفتيش منذ إعلان تنصيرهم القسري سنة 1499 م، وجعلت محكمة غرناطة من اختصاص محكمة التفتيش في قرطبة. ولنرَ الآن مأساة المورسكيين في يد محاكم التفتيش. 2/ 3 - ذروة اضطهاد المسلمين 1502 - 1567 م: لما أخمدت الثورات وألغي الإسلام رسميًّا في جميع أنحاء مملكة غرناطة دخل الأندلسيون مرحلة جديدة في تعاملهم مع مضطهديهم. فعاشت الدولة والكنيسة في بادىء الأمر تحت أمل خاطىء وهو أن الأندلسيين سيعترفون بالأمر الواقع بعد قتل أو هجرة أو استرقاق كثير من زعمائهم وبمجهود بسيط من التعليم الديني النصراني سيصبحون هم أو أبناؤهم نصارى كغيرهم. بينما عاش الأندلسيون كذلك في أمل

خاطىء آخر وهو أنه يمكنهم المحافظة على الإسلام في قلوبهم سرًّا متظاهرين بالنصرانية إلى أن يأتي فرج من الله. وكان فقهاؤهم ينشرون قصصًا مؤملة تعدهم برجوع سطوة الإسلام إلى الأندلس لإنقاذهم. وكان الأندلسيون على صلة وثيقة بإخوانهم في المغرب، وكان المتطوعة في غياب مساندة دول المغرب يقطعون البحر باستمرار لمساعدة إخوانهم أو تهريبهم وإيصال المراسلات إليهم من تشجيع وفتاوى. وهكذا أرسل مفتي وهران، أحمد بن بوجمعة المغراوي، وهو أندلسي من بلدة المغرو بمقاطعة قلعة رباح، فتوى بتاريخ غرة رجب سنة 910 هـ (18/ 11 / 1504 م) هذا نصها: " الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابهم فيما لقوا في ذاته، وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جناته، وارثو سبيل السلف الصالح في تحمل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى التراق. نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعاة حقه بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا. بعد السلام عليكم من كتابه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده، وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد بن بوجمعة المغراوي ثم الوهراني، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم من الأبرار". " مؤكدًا عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به من بلغ من أولادكم إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم. فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى. فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود لا يضر ولا ينفع، وأن الملك الله ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله. فاعبدوه، واصطبروا لعبادته. فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء. لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم. والغسل من الجنابة ولو عومًا في البحور. وإن منعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحًا بالأيدي للحيطان، فإن لم يمكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد، إلا أن يمكنكم الإشارة إليه

بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله عليه السلام:"فآتوا منه ما استطعتم"". " وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام، أو حضور صلاتهم، فأحرموا بالنية وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم ومقصودكم الله. وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام. وإن أجبروكم على شرب الخمر، فاشربوه لا بنية استعماله. وإن كلفوا عليكم خنزيرًا، فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم ومعتقدين تحريمه. وكذا إن أكرهوكم على محرّم. وإن زوجوكم بناتهم فجائز لكونهم أهل الكتاب. وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيرتموه. وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام، فافعلوا منكرين بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رؤوس أموالكم، وتتصدقون بالباقي إن تبتم لله تعالى". " وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والألغاز فافعلوا. وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك. وإن قالوا اشتموا محمدًا، فإنهم يقولون له ممد، فاشتموا ممدًا، ناوين أنه الشيطان، أو ممد اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم، وانووا إسقاط مضاف أي عبد الله مريم معبود بحق. وإن قالوا قولوا المسيح ابن الله فقولوها إكراهًا، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزم أن يسكنه أو يحل به. هان قالوا قولوا مريم زوجة له فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل ثم فارقها قبل البناء، قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن، أو زوجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفي بالصلب، فانووا من التوفية والكمال والتشريف من هذه، وأمانته وصلبه وإنشاء ذكره، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو". " وما يعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون به. وأنا أسأل الله أن يبدل الكره للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهرًا بحول الله من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام. ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله ورضيتم به. ولا بد من جوابكم. والسلام عليكم جميعًا. بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة، عرف الله خيره. يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى".

وهكذا تظاهر المسلمون مكرهين بقبول دين النصارى، يقومون بما يجبرون عليه من الترداد إلى الكنائس وتعميد الأطفال. لكنهم ظلوا مسلمين سرًّا يقومون بشعائر الإسلام من صلاة وصيام وتحاشي المنكرات. فكانوا يغسلون أبناءهم من التعميد، ويقومون بالزواج الإسلامي بعد الزواج في الكنيسة، ويربون أبناءهم سرًّا على الإسلام. وعملوا جهدهم للتكيف مع هذا الوضع الشاذ الحرج الخطر إلى أن يأتي الله بفرج من عنده. وتحولت الكنيسة والدولة من أمل تنصير المسلمين بالتبشير إلى أمل تنصيرهم بالإكراه والعنف والقوة. وتجددت القوانين الجائرة والإجراءات الصارمة لتطبيقها بعنف. ففي سنة 1508 م جددت لائحة ملكية منع استعمال اللباس العربي بين المورسكيين. كما أصدر الملك فراندو خمس لوائح سنة 1511 م أولها بتاريخ 20/ 5 / 1511 م تحدد استعمال المورسكيين لبعض الأدوات التي يمكن أن تستعمل كأسلحة، كالسكاكين وغيرها، ولائحة بتاريخ 10/ 6 / 1511 م تحدد ضرورة إحراق ما تبقى من الكتب العربية، وثلاثة لوائح بتاريخ 20/ 6 / 1511 م حول منع ذبح الحيوانات بالطريقة الإسلامية وحول"البادرينو" و" المادرينة"أي ولي الرجل أو ولية المرأة في الشعائر النصرانية عند التعميد والزواج إلى غير ذلك، وكانت هذه القوانين تهدف إلى تحطيم الخاصية الثقافية للمورسكيين بعد إلغاء عقيدتهم الإسلامية. وبما أن هذه الإجراءات لم تطبق بالصفة المرضية للكنيسة والطاغية جددت لوائح في فبراير سنة 1512 م تؤكد منع الذبح واللباس الإسلامي كما تمنع المورسكيين من مزاولة مهنة الصرافة لمنعهم من الاتصال بالمتطوعة المغاربة الذين هم على صلة بهم. وقد صدرت قوانين أخرى مكملة في 29/ 7 / 1513 م. وأخذ فراندو الكاثوليكي يتنكر للوعود التي قطعها على نفسه بمعاملة النصارى الجدد في موضوع الضرائب معاملته للنصارى القدامى حتى قبل سنة 1510 م حيث طبق على المورسكيين ضرائب خاصة بهم سميت ب"الفارضة" تنقسم إلى أربعة أجزاء، ثلاثة منها تسمى"بالفارضة العظمى" وتضم غرامة سنوية قدرها 21.000 دوقة ذهبية، وأخرى فوق العادية قدرها 5.000 دوقة، وضريبة من 10.000 دوقة لبناء قصر للملك في غرناطة. والفارضة الرابعة، وتسمى"الفارضة الصغرى" أو"فارضة البحر" لتمويل حراس البحر. ومات فراندو الكاثوليكي في 23/ 1 / 1516 م وهو يوصي أولاده بالقضاء على الإسلام وتحطيم بقايا الديانة المحمدية في إسبانيا، بعد أن ذاقت الأمة الأندلسية من

ظلمه وغدره وتعسفه الأمرين. وكانت الملكة إيسابيلا قد سبقته إلى حتفها في 26/ 11 / 1504 م ودفنت على هضبة الحمراء، ودفن فراندو بقربها حسب وصيته. ثم نقل حفيدهما كارلوس الخامس رفاتهما إلى كنيسة غرناطة الكاتدرائية القائمة فوق مسجد غرناطة الأعظم. لما هلك فراندو الكاثوليكي خلفه سبطه كارلوس الخامس، أولاً تحت وصاية الكاردينال سيسيزوس، ثم انفرد بالحكم بعد سنة 1519 م. وتنفس الأندلسيون الصعداء بعد موت فراندو، إذ واجههم ابنه في أول أمره بشيء من اللين وخفت حدة محاكم التفتيش بعض الشيء. لكن هذا الوضع لم يدم طويلاً، إذ تحولت أوضاع الأندلسيين من جديد إلى الأسوأ سنة 1524 م، وظهر كارلوس الخامس كأكبر عدو للإسلام في أوروبا والبحر الأبيض المتوسط. وفي سنة 1518 م أصدر الملك أحكامًا قاسية بحق المسلمين فأوفد الأندلسيون للملك وفدًا للشكوى من تظلمهم. فلم يأت ذلك بطائل. وصدر مرسوم جديد في 12/ 3 / 1524 م يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه وإخراج كل من أبى التنصير من إسبانيا، وأن يعاقب كل من أبى التنصير أو الهجرة في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تحول جميع المساجد الباقية إلى كنائس. فأرسل المورسكيون وفدًا إلى الملك بمجريط (التي أصبحت عاصمة إسبانيا الجديدة) يلتمسون منه من جديد حمايته وعدله ويستغيثون به. فانتقل كارلوس الخامس في يونيو عام 1526 م إلى غرناطة وبقي فيها إلى غاية ديسمبر من نفس السنة لمتابعة الموضوع بنفسه وإيجاد حل له. فندب الملك محكمة كبرى مكونة من النواب والقساوسة والقادة وقضاة التفتيش برئاسة"المفتش العام"لتنظر في ظلامة المورسكيين، ولتقرر فيما إذا كان تنصير المسلمين قسرًا صحيحًا وملزمًا أم لا. فإذا كان هذا التنصير صحيحًا عوقب المخالف بالموت حرقًا كمرتد. وقد قدمت المحكمة تقريرها في سبتمبر عام 1526 م أكدت فيه أن المورسكيين هم فعلاً ضحية اعتداءات متواصلة من طرف النصارى القدامى الذين يشتمونهم في الطرقات ويستغلونهم شر استغلال ويهينونهم رجالاً ونساء دون حماية القانون. لكن المحكمة قررت كذلك أن تنصير المسلمين القسري صحيح ولا طعن فيه. وفي 29/ 9 / 1526 م وقع الملك على حوالي 40 لائحة لتحديد تظلم

المورسكيين، لكنه أصدر قانونًا بتاريخ 7/ 12 / 1526 م أعلن فيه أن جميع المورسكيين نصارى يتحتم منعهم من الخروج من إسبانيا ويجبرهم على تنصير جميع أبنائهم، وقضى على من تنكر منهم للنصرانية بالمصادرة والإعدام. كما قرر القانون تحريم التخاطب بالعربية أو الكتابة بها وتعليم الإسبانية لجميع المورسكيين الذين طلب منهم أن يتقدموا بجميع الوثائق المكتوبة بالعربية للمفتش العام. وطلب منهم اجتناب كل ما له صلة بالعقيدة الإسلامية، وأمر بهدم الحمامات، وبأن تبقى بيوت المورسكيين مفتوحة على الدوام ليرى الجميع ماذا يجري فيها، وأن تزيل المورسكيات حجابهن، الخ ... وكتب الملك رسالة بتاريخ 14/ 12 / 1526 م إلى بابا روما الذي كان يحثه على الصرامة مع المورسكيين، قائلاً:"لم يكن اعتناق النصرانية من طرف المورسكيين بإرادتهم ولا عن اقتناع، ولم يعلموا عقيدة إيماننا الكاثوليكي كما يجب". وزاد أسقف غرناطة على قانون الملك تعليمات مؤرخة بـ 10/ 12 / 1526 م حاولت تأطير المورسكيين في أقرب وقت تأطيرًا دينيًّا كاملاً لتنصيرهم. وعرض المورسكيون على الملك دفع 90.000 دوقة ذهبية في ست سنين لتخفيف هذه الإجراءات دون جدوى. ثم التمس المورسكيون مرة أخرى من الملك الرأفة، ودفعوا له 80.000 دوقة ذهبية، فوافق على وقف تنفيذ هذه الإجراءات لمدة أربعين سنة، يحتفظ خلالها المورسكيون بلغتهم العربية وثيابهم الإسلامية وبعض التسهيلات الأخرى مقابل دفع ضريبة سنوية. وكان يجمع من هذه الضريبة أموالاً طائلة. وهكذا توصل الموركسيون إلى نوع من التوازن مع كارلوس الخامس تأرجح فيه وضعهم بين المد والجزر رغم اضطهاد"محاكم التفتيش" المتواصل، خاصة سنة 1529 م بغرناطة، وسنة 1532 م حين منعت الحفلات ذات الطابع الإسلامي وأنشأت الحملات التنصيرية المتتابعة. وانتقل مركز"محاكم التفتيش" سنة 1526 م من قرطبة إلى غرناطة. كما جمع معظم المسلمين في أحياء خاصة اسمها"موريرا" لكي لا يختلطوا بالنصارى القدامى. وتغير هذا التوازن إلى الأسوأ بموت كارلوس الخامس وتسلم الملك ابنه فليبي الثاني سنة 1555 م. وكان هذا الأخير متعصبًا ضعيف الشخصية أمام الرهبان. فاغتنمت الكنيسة فترة ملكه للتشديد مرة أخرى على الأندلسيين والرجوع إلى سياسة

الاضطهاد المتواصل. وشجع الملك على تطرفه هذا خوفه من قوة الدولة العثمانية الصاعدة وعلاقات الأندلسيين بها. ابتدأ فليبي الثاني ضغطه على المورسكيين سنة 1560 م بمنعهم من اقتناء العبيد والرقيق السود، وسبب ذلك أن هذه الطبقة كانت في أغلبها مسلمة وكان الهدف من هذا القرار منعهم من التأثر بالتعاليم الإسلامية. فالتمس المورسكيون من الملك الرجوع عن هذا القرار، لكنه رفض الاستجابة لمطالبهم نهائيًّا سنة 1563 م. وفي 14/ 5 / 1563 م أصدر الملك قرارًا بمنع المورسكيين من امتلاك الأسلحة أو حملها، وفرض عليهم تسليم أسلحتهم في مدة أقصاها خمسون يومًا من تاريخه. وحدد المرسوم عقوبة المخالفين بالأشغال الشاقة لمدة ست سنوات. ولم يستثن القرار أحدًا إلا بأمر وختم من الحاكم العام. وطبق القرار بغاية الشدة والحزم، فأصبح المورسكيون أكثر عرضة لكل معتد وظالم. فسلم بعض المورسكيين أسلحتهم لكن الغالبية العظمى رفضت تسليمها وأخفتها. فأصدرت الحكومة سنة 1564 م مرسومًا يلغي حصانة المورسكيين المقيمين في أراضي النبلاء ويحدد حصانة من يقيم منهم في الأديرة والكنائس بثلاثة أيام. فازدادت شراسة محاكم التفتيش وتتبعها للمسلمين. ابتدأ الضغط الكبير في مايو سنة 1566 م بعد مضي أربعين سنة من صدور قانون كارلوس الخامس، حين أراد فليبي الثاني العودة إلى تطبيقه بكل صرامة. قضى هذا القانون المجدد بمنح المورسكيين ثلاث سنين لتعلم اللغة الإسبانية يمنع بعدها التكلم بالعربية وتلغى كل العقود المكتوبة بالعربية. وقضى القانون بتسليم ما تبقى من الكتب العربية في ظرف ثلاثين يومًا، ومنع خياطة أثواب عربية جديدة، وألا يخاط من الثياب الحريرية لمدة عام واحد، والصوفية لمدة عامين، على أن يمنع استعمالها بعد ذلك. ومنع القانون المورسكيات من التحجب وأجبرهن على التزيي بلباس النصرانيات. ومنع القانون إجراء أية شعائر إسلامية وأجبر المورسكيين على أن تكون كل حفلاتهم مطابقة للتعاليم الكنسية وأن تظل بيوتهم مفتوحة في الحفلات وأيام الأعياد والجمع. ومنع القانون الغناء والرقص العربي واستعمال آلات الطرب العربية والتخضب بالحناء والاستحمام، وأمر بهدم الحمامات. وحرم القانون على المورسكيين استعمال الأسماء العربية واقتناء العبيد. وفرض القانون على المخالفين أقصى العقوبات من السجن والنفي والتعذيب والمصادرة والإعدام حرقًا.

2/ 4 - وضع المسلمين في مملكتي البرتغال وقشتالة:

أمر الملك رئيس المجلس الملكي، ديسا، بإذاعة هذا القانون الغاشم في 1/ 1 / 1567 في غرناطة وأحيائها وجميع أنحاء المملكة الإسلامية القديمة. وتولى إذاعته موكب من قضاة"محاكم التفتيش"تتبعهم الطبول والزمور. وبدأ تطبيق القانون بكل صرامة. فهدمت الحمامات وملئت السجون وتناثرت الجثث في شوارع غرناطة وقراها ونشطت"محاكم التفتيش". ولم تفد المورسكيين أية شفاعة، فوصلوا إلى حالة من اليأس الكامل أدت إلى ثورة عارمة جمعت فيها الأمة الأندلسية ما تبقى من قواها، وكادت تنتصر لولا خذلان العالم الإسلامي مرة أخرى. وقبل أن نتطرق إلى تفاصيل ثورة غرناطة العظمى لنر وضع المدجنين خارج مملكة غرناطة وما آلوا إليه في ممالك البرتغال وقشتالة وأراغون إلى سنة 1567 م. 2/ 4 - وضع المسلمين في مملكتي البرتغال وقشتالة: البرتغال دولة من الدول النصرانية في شبه الجزيرة الإيبرية التي تأسست وتوسعت على حساب الدولة الأندلسية. تأسست البرتغال كإمارة صغيرة على حدود الدولة الإسلامية الشمالية الغربية. وقد استولى على هذه الإمارة المنصور بن أبي عامر، لكنها اغتنمت فرصة سقوط الدولة الأموية فاحتلت براغة سنة 1040 م، وهي بلدة مجاورة لعاصمتها الأولى"أبورتو" أو"بورتوغال" التي أعطت اسمها للبلاد وتجزأ غرب الأندلس إلى عدة ممالك أيام الطوائف. فأصبح الجنوب تحت بني هارون سنة 1026 م، وعاصمتهم شنتمرية الغرب (الفارو اليوم)، ووسط البلاد في يد بني الأفطس سنة 1022 م، وعاصمتهم بطليوس (بإسبانيا اليوم). وتابع البرتغاليون غزوهم للأراضي الإسلامية على حساب بني الأفطس. فاحتلوا مدينة قلمرية سنة 1064 م ونقلوا إليها عاصمتهم. وتجزأت دولة بني هارون في شنتمرية الغرب إذ نشأت دولة بني مزين وعاصمتها شلب سنة 1068 م وانضم الباقي إلى دولة بني عباد وعاصمتهم إشبيلية (بإسبانيا اليوم). ثم قضى المرابطون على بني الأفطس وبني عباد ووحدوا البلاد واستقرت الحدود لمائة وخمسين سنة بعد أن احتل البرتغاليون مدينة الأشبونة سنة 1093 م. وحلّت الدولة الموحدية محل الدولة المرابطية فاحتل البرتغاليون مدينة يابورة سنة 1166 م. ولما ضعفت الدولة الموحدية سيطر البرتغاليون على مدن إسلامية أخرى، فغزوا قصر بني دنيس سنة 1217 م ثم باجة وشنتمرية وشلب وجميع غرب

الأندلس سنة 1249 م، فنقلوا عاصمتهم من قلمرية إلى الأشبونة واستقرت حدود البرتغال على ما هي عليه اليوم. وعند احتلال الأراضي الإسلامية، صادر البرتغاليون جميع أراضي المسلمين وبيوتهم ووزعوها على نبلاء النصارى. فهاجر عدد كبير من المسلمين إلى ما تبقى من الأراضي الإسلامية بينما استقر معظم الباقين كمدجنين بنسب عالية في الجنوب. ولما أرغمت إسبانيا المسلمين على التنصير تبعتها البرتغال سنة 1502 م بتنصير المدجنين. فهاجر منهم عدد كبير إلى شمال المغرب وسمحت لهم إسبانيا بعبور أراضيها بينما استقر الباقون كنصارى ظاهرًا ومسلمين سرًّا. وبقيت هذه الجاليات إلى سنة 1540 م عندما تزوج ملك البرتغال بأخت ملك إسبانيا. وكان شرط الزواج طرد المسلمين. فهاجر عدد كبير منهم إلى العرائش والقصر الكبير والمناطق المجاورة لهما بشمال المغرب. بينما بقي الباقون كنصارى في البرتغال. وينتمي اليوم معظم سكان البرتغال جنوب الأشبونة إلى أصول إسلامية وهم لا يختلفون عن الأندلسيين. عند سقوط طليطلة سنة 1085 م هاجر إلى باقي الأراضي الإسلامية عدد كبير من المسلمين، بينما بقي الآخرون تحت حكم النصارى كمدجنين. وكثرت أعداد هؤلاء بعد سقوط أراض إسلامية واسعة في القرن الثالث عشر في يد قشتالة، منها عواصم الإسلام مرسية وقرطبة وإشبيلية. وكان القشتاليون الذين يوقعون عقودًا مع المغلوبين يضمنون فيها حقوقهم الدينية، ينكرونها بسرعة بعد تمكنهم، ويعاملونهم معاملة ظالمة. في سنة 1258 م وضع ألفونسو العاجز قانونًا عامًا لمملكته سماه"الأقسام السبعة" صنف فيها المسلمين إلى أربع فئات وجعل لكل فئة منها معاملة خاصة، وهم المتنصرون والعبيد والمعتقون والمدجنون. أما المتنصرين فكانوا موضع احتقار من طرف النصارى القدامى، فوحد القانون بين الفئتين، وأعطى ميراث الأب المسلم لأولاده المتنصرين دون غيرهم من الأبناء. وعقوبة من يرتد منهم الموت وفقدان الحقوق ومصادرة الأموال. أما الأرقاء المسلمون فكانوا معرضين لكل أنواع الظلم والإيذاء، وكان لسيدهم عليهم حق الموت والحياة والتعذيب والاغتصاب والتفريق بين الأقارب وبيع من شاء منهم. ولم يكن حال المعتقين أفضل بكثير من حال الرقيق. أما المدجنين فكانت حريتهم الدينية تحترم لحد ما، وكانوا يعيشون في أحياء خاصة

بهم لهم شرائعهم وقضاتهم وتقاليدهم ومساجدهم وأعيادهم، وإن كانوا دائمًا عرضة للاضطهاد حسب أهواء طاغية الوقت وسياسته الخارجية. نتيجة هذه المعاملة السيئة، ثار المدجنون سنة 1261 م وانقضوا على جميع الحصون الممتدة بين شريش غربًا ومرسية شرقًا، ورفعوا علم مملكة غرناطة وأعلنوا انضمامهم لها. وساند ابن الأحمر هذه الثورة بادىء الأمر. كان الفونسو العاشر في شقوبية، فطلب من ابن الأحمر مساعدته على القضاء على الثورة حسب الاتفاق الذي بينهما، فاعتذر، وسانده خايمي الأول، ملك أراغون. وضرب ملك قشتالة الحصار على شريش في مايو سنة 1264 م، فاستسلمت بعد ستة شهور فطرد أهلها. ثم احتل الفونسو من جديد شلوقة وشذونة والبريجة وأركش وأخيرًا قادس سنة 1266 م. واحتل ملك أراغون لقنت سنة 1263 م، ثم قرطاجنة. ثم فرض الحصار على المرية مع جيش قشتالي برئاسة ابن ملك قشتالة، فاستسلمت المدينة في 13/ 2 / 1266 م. وفي 5/ 6 / 1266 م فرق ملك قشتالة بين مسلمي ونصارى مرسية في حيين وبنى بينهما سورًا. وكان يسمى الحي الإسلامي الرشاقة، وبقيت إدارته بيد بني هود المسلمين إلى سنة 1308 م حيث انتقلت الإدارة إلى يد القشتاليين. ثم توالت القرارات التي تحد من حقوق المسلمين، يشرع كل ملك عند توليته تشريعات جديدة ضد المسلمين. ففي سنة 1348 م أصدر الفونسو الحادي عشر أمرًا من قلعة النهر يحرم فيه على المسلمين أن يتعاملوا بالمال أو يقرضوا بالفائدة، ثم حرم عليهم في قرار من مجريط أن يشغلوا وظيفة مالية مع الحكومة أو مع النبلاء، ومنعهم من المحاماة في القضايا القائمة بين النصارى. وحدد عقوبة من يخالف بمصادرة جميع الأموال والتعذيب الجسدي. وجدد الملك أنريكي الثاني في برغش سنة 1368 م التحريمات السابقة وأصدر أمرًا آخر سنة 1371 م يحرم فيه على المسلمين التسمي بأسماء نصرانية ويفرض عليهم وضع إشارة مميزة في ثيابهم. وأصدر خوان الأول في شوربة مرسومًا سنة 1387 م يجدد فيه منع المسلمين من الوظائف المالية ويمنع شتم المتنصرين وإهانتهم بتسميتهم بالكلاب والخنازير، ويعاقب من يخالف بغرامة قدرها 300 مرابطي أو الحبس 15 يومًا. كما يحرم على النصارى تربية أولاد المسلمين ويعاقب من يخالف بغرامة قدرها 600 مرابطي، وسمح

للمزارعين النصارى بالعمل لدى المسلمين وحمايتهم في أسفارهم. ويقرر المرسوم بألا يعتق الرق المسلم بيد اليهودي إذا اعتنق اليهودية بل يسترق سيده. وأصدر خوان الأول مرسومًا آخر سنة 1387 م يمنع فيه المسلمين من العيش مع النصارى أو العكس، ويعاقب المخالف بالتعذيب ومصادرة الأموال. ويحرم على النصارى استعمال المسلمين إلا إذا كانوا عبيدًا لديهم، ويعاقب من يخالف بغرامة قدرها 6000 مرابطي إلا إذا كان المسلم طبيبًا. ويحرم على المسلمين العمل يوم الأحد علنًا، ويعاقب المخالف بغرامة قدرها 30 مرابطي. يجبر المرسوم المسلمين على إخلاء الطريق التي يمر بها الصليب، وإذا تعذر عليهم ذلك وجب عليهم الركوع للصليب، وعقوبة المخالف مصادرة ثيابه وإعطائها للنصراني الذي يقبض عليه ويسلمه للقاضي. ثم أصدر خوان الأول مرسومًا ثالثًا سنة 1388 م في بلد الوليد يجدد منع النصارى من معايشة المسلمين أو تربية أبنائهم، ويعاقب من يخالف بالجلد. ويمنع المرسوم المسلمين مرة أخرى من دخول الوظائف العامة خاصة المالية منها. وأصدر خوان الثاني مرسومًا في بلد الوليد سنة 1408 م يكرر فيه منع المسلمين من دخول الوظائف المالية، ويعاقب كلاً من المسلم المخالف ومستخدمه النصراني بغرامة قدرها 2000 مرابطي. كما يمنع المرسوم المسلمين من الأكل أو الشرب مع النصارى ويعاقب من يخالف بالجلد مائة جلدة. ويحرم على المسلمين استخدام النصارى ويعاقب من يخالف بالجلد مائة جلدة. وإذا تكررت المخالفة في هذه الحالة والحالة السابقة يدفع المخالف ألف مرابطي، يمنح ثلثها للمخبر النصراني. ويمنع المرسوم المسلمين من الحضور في أعياد النصارى كما يمنعهم من أن يكونوا عرابين في حفلات التعميد، ويعاقب من يخالف بغرامة قدرها 2000 مرابطي. ويمنع المرسوم المسلمين من زيارة المرضى النصارى، ويعاقب من يخالف بغرامة قدرها 300 مرابطي. ويمنع المسلمين من مزاولة مهنة الجراحة أو العطارة أو الصيدلة أو بيع المواد الغذائية أو الأدوية. ويعاقب من يخالف بدفع غرامة قدرها 2000 مرابطي وبالجلد. ويجبر المرسوم المسلمين على السكن في أحياء خاصة، ويلغي المحاكم الشرعية الإسلامية ويوصي القضاة النصارى أن يقضوا بين المسلمين وفقًا للحقوق التي منحتهم إياها امتيازاتهم. ويمنع المرسوم النبلاء من قبول المسلمين الذين يغيرون محل إقامتهم، ويعاقب المخالف بغرامة قدرها 200

مرابطي، ولمن يكرر المخالفة غرامة قدرها 100.000 مرابطي، وتصادر كل أملاك وإقطاعات من يخالف للمرة الثالثة. ويقضي المرسوم على المدجن المسلم الذي يقبض عليه وهو هارب إلى مملكة غرناطة بأن يسترقه النصراني القابض عليه. وتصادر أملاكه لصالح النصراني المذكور. ثم أصدر خوان الثاني مرسومًا ثانيًا في نفس السنة أجبر فيه المدجنين في طليطلة وغيرها من المدن على ترك منازلهم وأموالهم والانتقال إلى قشتالة القديمة. وأصدر خوان الثاني مرسومًا سنة 1422 م يقضي فيه بالإعدام على كل مسلم يمنع آخر من اعتناق النصرانية ولو كان ابنه، ويقضي باسترقاق المسلم القادم من مملكة غرناطة لصالح النصراني القابض عليه. ثم أصدر أمرًا سنة 1435 م يحرم فيه على النصارى توقيع كتب التزام وإقرار بدين لمسلم إلا إذا كان خاليًا من شرط دفع فائدة عن هذا الدين. وأصدر أمرًا سنة 1438 م يعتبر فيه يمين النصراني أمام القاضي الذي يقر فيه بدين لمسلم باطلة إلا إذا كان المقر له مزارعًا. ثم أصدرت الملكة إيسابيلا في مجريط سنة 1476 م مرسومًا تلغي فيه ما تبقى من المحاكم الشرعية الإسلامية، وتمنع فيه المسلمين من لبس الجوخ أو الحرير أو الذهب أو الفضة، كما حرمت عليهم أن يكون ذلك في جهاز خيولهم، وتعاقب من يخالف بمصادرة ذلك. ويجبر المرسوم المسلمين على وضع قطعة ثوب حمراء على أكتافهم، وقلنسوة أو قبعة خضراء على رؤوسهم، والمسلمات على حمل قطعة ثوب أزرق عرضها أربعة أصابع. ثم أصدرت الملكة إيسابيلا في طليطلة أمرًا آخر سنة 1480 م أكدت فيه على عزل المسلمين عن النصارى في السكن، وكررت فيه الأمر باسترقاق المسلمين الهاربين إلى غرناطة لحساب القابض عليهم. وسمحت للمسلمين ببناء مساجد جديدة في أحيائهم. هذه هي الأوضاع التي كان يعيشها المسلمون المدجنون في مملكة قشتالة قبل سقوط غرناطة. أما بعد سقوطها، فقد أخذت الدولة الإسبانية تعاملهم بكيفية أسوأ بكثير على غرار معاملتها لمسلمي غرناطة، إلى أن قرر الملكان الكاثوليكيان إرسال أمر إلى حاكم قرطبة سنة 1502 م يطلبان منه فيه اتخاذ قرار حازم يقضي بقتل المسلمين الرافضين للتنصير أو طردهم خارج البلاد. كما أصدرا أمرًا يحرمان فيه على مسلمي قشتالة الاتصال بمسلمي غرناطة أو الاختلاط بهم. ثم صدر قرار ملكي بتاريخ

2/ 5 - وضع المدجنين في مملكة أراغون

12/ 2 / 1502 م نشر بإشبيلية يأمر بتنصير جميع مسلمي قشتالة وليون وإخراج من يرفض التنصير. فتنصر ظاهرًا معظمهم. ظلت قشتالة تخاف من تأثير الثبات الغرناطي على مورسكيي قشتالة. فصدر مرسوم ملكي في فبراير سنة 1515 م أعلن في طليطلة يحرم فيه بتاتًا على المنصرين حديثًا في أية جهة من مملكة قشتالة أن يخترقوا أراضي مملكة غرناطة أو يتصلوا بمورسكيي غرناطة، وعقوبة المخالف الموت والمصادرة. وحاول كارلوس الخامس معاملة المورسكيين القشتاليين بشيء من الرأفة، فأبلغ سنة 1543 م "المفتشين العامين" في "ديوان التفتيش" بأنه تحقيقًا لرغبة مطران طليطلة أصدر عفوه على أهل "مدينة دل كامبو" وبلدة "أريفالو" فيما ارتكبوه من ذنوب الكفر والمروق (أي إخفاء الإسلام) ويكتفي بأن يطلب منهم الاعتراف بذنوبهم أمام الديوان ثم ترد إليهم أملاكهم المصادرة. هذه هي أوضاع مسلمي قشتالة قبيل ثورة غرناطة العظمى. ولنر الآن أوضاع مسلمي مملكة أراغون الذين كانوا أكثر عددًا ونفوذًا من إخوانهم في قشتالة. 2/ 5 - وضع المدجنين في مملكة أراغون: كانت مملكة أراغون تنقسم إلى أربع مناطق إدارية: أراغون القديمة وقطلونية ومملكة بلنسية والجزر الشرقية. وقد تكونت مجموعات كبيرة من المدجنين في كل هذه المناطق عند احتلالها من يد المسلمين. بقيت في القرن السادس عشر مجموعات إسلامية على مصب نهر أبرة في منطقة طرقونة وطرطوشة التابعتان لقطلونية، منذ سقوط الأولى من يد المسلمين سنة 960 م والثانية سنة 1200 م. وبقيت مجموعة كبيرة من المدجنين في منطقة أراغون القديمة منذ سقوط سرقسطة سنة 1118 م حتى أصبحوا يكونون في القرن السادس عشر خمس السكان، وكانت نسبهم أعلى خارج المدن وفي السهول. وسقطت مملكة بلنسية في يد النصارى سنة 1238 م، ورغم الهجرة والطرد فقد بقي ثلث سكانها مسلمين في القرن السادس عشر، بينما كونوا أكثرية السكان في كثير من مناطقها. واحتل النصارى أكبر الجزر الشرقية، ميورقة، سنة 1220 م، ويابسة سنة 1235 م، ومنورقة سنة 1286 م، وبقي بها عدد من المدجنين. وكان معظم مدجني مملكة أراغون مزارعين يعملون في أراض يملكها نبلاء

نصارى يعيشون عالة عليهم. ولذا عمل النبلاء على حمايتهم دفاعًا عن مصالحهم. ولنر وضع هؤلاء المدجنين قبل سقوط غرناطة وبعده. احتل خايمي الأول ملك أراغون بلنسية سنة 1238 م بعد أن عقد مع أهلها معاهدة يتعهد فيها بصيانة المسلمين وأموالهم وعقيدتهم ولغتهم والشريعة الإسلامية وأن يهادن ما تبقى من منطقة بلنسية في يد المسلمين لمدة ثمان سنين. لكن خايمي غدر بعهوده فور تملكه المدينة، فلاحق المسلمين داخلها وخارجها، وحول أجمل المساجد وأكبرها إلى كنائس، وأتى بمهاجرين نصارى من الشمال، وأسكن المسلمين في أحياء خاصة بهم. وأخذ النصارى القادمون يزعجون المسلمين دون ردع من الدولة. ثم صادر خايمي الأول أموال المسلمين وأقطعها للنبلاء من النصارى الوافدين حتى أصبح جميع المسلمين شبه أرقاء يعملون لساداتهم من النصارى. وفي سنة 1248 م نشر خايمي الأول تشريعات خاصة بالمسلمين لا تختلف عن مثيلاتها المطبقة في قشتالة، وكانت معارضة تمامًا لمعاهدات الاستسلام. وفي سنة 1251 م احتل خايمي الأول مدينة شاطبة فأصدر منشورًا بتاريخ 23 / 11/ 1251 م يتضمن شروطًا سخية لهم مماثلة لتلك التي وقعها مع بلنسية عند استسلامها. ثم أخذ بابا روما يضغط على خايمي الأول لإبادة العنصر الإسلامي الموجود في مملكته. فحاول ملك أراغون طاعته في ذلك، لكنه واجه معارضة من الإقطاعيين النبلاء الذين رأوا في المسلمين عنصرًا لإغنائهم، كما تعارضت أوامر البابا مع سياسة أراغون المتظاهرة بمعاملة أفضل للمسلمين من قشتالة لتنافسهما على غزو ما تبقى من الأراضي الإسلامية، كما أن العنصر الإسلامي كان يكون أكثرية السكان والطبقة العاملة منهم يصعب ملء الفراغ الذي يتركونه إذا طردوا. وأمام هذه المعاملة السيئة والغدر الصريح للمعاهدات ثار المسلمون سنة 1254 م تحت زعامة رجل اسمه الأزرق واستولوا على عدد من الحصون بين شاطبة ودانية ولقنت، وسيطروا على الجبال الواقعة جنوب نهر شقر. فتوجه خايمي الأول على رأس جيش إلى بلنسية، وعقد فيها مجلس النواب (الكورتس) الذين قرروا طرد المسلمين من مملكة أراغون، وسمحوا لهم أن يحملوا ما يستطيعون حمله من أموالهم وأمتعتهم. فشجع ذلك المترددين من المسلمين على الانضمام إلى

الثورة. فاندلعت الثورة شمال نهر شقر، وانضم المطرودون إلى الثوار واستولوا على 12 حصنًا، لكن مسلمي مدينة بلنسية وضواحيها فضلوا النزوح إلى مرسية على الثورة. ودامت الثورة بمساعدة مملكة غرناطة بين مد وجزر إلى سنة 1257 م حيث اضطر الأزرق وباقي المسلمين إلى الاستسلام على أن ينزح من أراد من قواد الثورة إلى غرناطة ويبقى من يريد البقاء في أرضه دون أن يشمله الطرد. واستغل البابا كليمانت الرابع مساعدته للملك خايمي الأول في إخماد ثورة بلنسية بالمال لفرض شروطه، وأعلن أن الكنيسة مستعدة أن تتنازل عن حصتها في الضرائب المسماة بالعشر شرط أن يقسم الملك أمام مذبح العذراء في كنيسة بلنسية بأن يبيد المسلمين الموجودين في مملكته جميعًا. فأقسم الملك على ذلك والتزم به علنًا، لكنه تردد في تطبيق ذلك خوفًا من أن تقلص مملكته، وتوصل إلى حل إجرامي وهو رفع حماية الدولة عن المسلمين نهائيًّا. فأصبح المسلمون عرضة للاعتداءات وهجوم الجنود النظاميين لأخذ أبنائهم وبناتهم وبيعهم كعبيد. ولم يرد الملك على شكاوى المسلمين بل زاد على ذلك بقوانين تعسفية سنة 1268 م حدد فيها حق اللجوء إلى الكنائس بثلاثة أيام، وكان كثير من ضعفاء المسلمين يهربون إلى الكنائس من ظلم المعتدين عليهم فيحصلون مقابل التنصير على حماية دائمة. وعندما يئس المسلمون من إنصاف الملك خايمي الأول قرروا الثورة مرة ثانية في شهر مارس عام 1276 م جنوب نهر شقر، واحتل الثوار أربعين حصنًا واستغاثوا بسلطان غرناطة، أبو عبد الله. فعامل خايمي أولاً الثوار بالحيلة، إذ هادن الحصون التي لا ترفع علم غرناطة وحارب الحصون الأخرى، وبهذا شجع النزاعات الداخلية بين المسلمين. ثم حاصر الملك خايمي مدينة شاطبة عاصمة الثوار، فاختار الثوار رئيسًا لهم الأزرق مرة ثانية ولما استشهد أمام حصن الكيل تسلم ابنه القيادة فاستشهد بدوره. ورغم ذلك لم يستطع النصارى احتلال شاطبة ونجح الثوار في تحرير حصن الكيل. ومرض خايمي الأول إبان الثورة، فنشر عند احتضاره منشورًا في 18/ 7 / 1276 م ضمن فيه وصيته لابنه وخليفته بدرو الثالث جاء فيها: "لقد تقدمنا بالوعد أمام مذبح العذراء في بلنسية بأن نخرج المسلمين من أرضنا، وذلك لقاء تنازل البابا عن العشر، فإننا نرجو من ولي العهد دون بدرو بأن يطرد جميع المسلمين من

مملكة بلنسية وأن لا يبقي منهم فيها أحدًا لأي سبب كان، حتى ولو دفعوا ما عليهم ... "، وحينما قربت وفاته سلم ابنه سيفه وأوصاه أن يستعمله ضد المسلمين دون توقف ولا هوادة إلى أن يقضي عليهم جميعًا ويطردهم من المملكة. ومات خايمي الأول في 27/ 7 / 1276 م وثورة المسلمين في أوجها. وعندما تسلم السلطة بدرو الثالث تفاوض مع الثوار، واتفق معهم على هدنة مدتها ثلاثة شهور، باستثناء ستة حصون نجح في احتلالها في شهر أبريل سنة 1277 م. ثم احتل مويلة في 29/ 9 / 1277 م وأخيرًا استسلمت له منتيسة، فتلاشت الثورة. فأمر الملك بنزع سلاح الثوار دون معاقبتهم، ووزعهم على أنحاء المملكة لإعمارها دون أن يأبه بوصية أبيه. وفي سنة 1283 م أصدر الملك بدرو الثالث قانونًا يسمح فيه للمسلمين بالانتقال والإقامة حيثما شاؤوا في مملكته والتجارة بحرية، لكنه حرم عليهم وظائف القضاء والشرطة والمال، وألزمهم بأن يقسموا يمينًا أن لا يقرضوا أحدًا بأكثر من 20% سنويًّا، ويعاقب المخالف بغرامة قدرها خمس دوقات ذهبية، ومنع قبول شهادة المسلم إلا بشروط حددها، وقضى بسقوط الدين غير المعقود أمام القضاء بعد ست سنين إن كان المقرض مسلمًا. وفي سنة 1301 م أصدر الملك خايمي الثاني قانونًا ينص فيه على أنه تكفي شهادة نصرانيين بحق المسلم دون حاجة لشهادة مسلم معهما كما كان يجري به العمل من قبل. وفي عام 1311 م، أيام هذا الملك، دعا البابا كليمنت الخامس إلى عقد مجمع كنسي في فيينا طالب فيه ملوك أراغون وقشتالة والبرتغال بإخلاء ممالكهم من الإسلام، وإن لم يفعلوا أوعدهم بنزول غضب الله عليهم. وفي سنة 1328 م أصدر الملك الفونسو الرابع قانونًا في بلنسية يعطي فيه السلطة المطلقة للسيد الإقطاعي أن يقضي بين المسلمين الذين تحت حكمه، وأن يعاقب ويبتر الأعضاء ويجلد ويقتل ويصادر ويحتفظ بما يصادره لنفسه أو يقتسمه مع القاضي في أحيان محددة. أما ابنه بدرو الرابع فقد سن عام 1342 م قانونًا يؤكد فيه القانون السابق. وفي سنة 1370 م سن قانونًا يمنع فيه المسلمين من الهجرة إلى غرناطة أو إلى المغرب حتى لو دفعوا خمس ممتلكاتهم كما كانوا يفعلون من قبل. وسن قانونًا ثالثًا سنة 1371 م يمنع فيه فرض مراقب نصراني على المسلمين كما كان من قبل. وفي سنة 1389 م أصدر الملك خوان الأول قانونًا يحرم فيه على الأسرى

المسلمين أن يفتدوا بأموال من مملكة بلنسية إن كانوا خارجها، وإن فعلوا تعرضوا لعقوبة الاسترقاق. وفي سنة 1403 م أصدر الملك مارتين الأول قانونًا يؤكد فيه ما شرع من قبل حول فدية أسرى المسلمين، ويقضي بمصادرة أموال كل من هاجر من المسلمين، واسترقاق من يقبض عليه منهم، وتوزيع أموالهم ثلاثة أثلاث: للملك، وللإقطاعي الذي كان يسكن عنده المهاجر، وللإقطاعي الذي قبض على أرضه. ويمنع القانون المسلمين من الانتقال من أرض إقطاعي إلى أرض غيره إلا بشروط، ويوجب على الإقطاعي الذي يلجأ عنده مسلم بأن يسلمه خلال ثمانين يومًا من الإنذار النهائي لتسليمه وإلا غرم 1000 فلوران. وفي سنة 1418 م أصدر الملك فراندو الأول قانونًا يحرم فيه على المسلمين الخروج من مملكة أراغون إلا لخدمة سيدهم النصراني ودون اصطحاب أبنائهم. وقرر القانون بان المسلمة المسترقة التي تحمل من سيدها لا تصبح حرة إلا إذا اعترف السيد النصراني بأنه منها، وإذا حملت من غير سيدها، إن كان نصرانيًّا تظل مسترقة ويجبر النصراني على أخذ ابنه، هان ماتت المرأة عند الولادة دفع ثمنها لسيدها. وأمر القانون أن توضع أحياء المسلمين تحت إشراف مراقب نصراني، وحرم على المسلمين الآذان تحت طائلة الإعدام، وفرض عقوبة الموت على المسلم الذي يجرح نصرانيًّا في غير الدفاع المشروع، وغرامة تعادل ضعفي الغرامة التي يدفعها النصراني في حالة الدفاع المشروع. وأصدر الملك الفونسو الخامس قانونًا يمنع فيه هجرة المسلم حتى لو حصل على موافقة سيده الإقطاعي. وأصدر سنة 1428 م قانونًا أكد فيه حق السادة الإقطاعيين في القضاء بين جميع أتباعهم بما فيهم المسلمين، وأصدر أمرًا يقضي بأنه لا يحق للمسلم أن يدعي الفقر ليتخلص من قضاء سيده وليطالب بمحاكمته أمام محاكم الدولة كما هو الوضع بالنسبة للفقراء. وقرر أن المسلم إذا بدل مقر سكناه من إقطاع إلى إقطاع آخر دون تصفية حساباته صودرت كل أملاكه المنقولة وغير المنقولة، وإذا بدل مقره دون موافقة سيده الإقطاعي فرض عليه الرق وعلى زوجته وأولاده. هذا هو الوضع الذي كان عليه المسلمون في مملكة أراغون قبل سقوط غرناطة. وكانوا يعيشون كمسلمين تحت حكم النصارى لمدة تتراوح بين القرنين

والثلاثة قرون يعملون كمزارعين لساداتهم النصارى لهم عليهم سيطرة تشبه سيطرة السادة على العبيد. ونظموا أنفسهم دينيًا في جماعات تعيش حول مساجدها، لها فقهاؤها وعلماؤها. لكن هذا التوازن الذي تعود عليه المدجنون في مملكة أراغون سيختل إلى الأسوأ بعد سقوط غرناطة. أصبحت مخاوف مسلمي أراغون تتزايد منذ صدور الأمر بتنصير مسلمي غرناطة ثم مسلمي قشتالة سنة 1502 م. فتدخل السادة الإقطاعيون الذين يعمل المسلمون في أراضيهم أمام مجلس الكورتس في برشلونة سنة 1503 م لحمايتهم من التنصير الإجباري أو الطرد. ولقد جاءت هذه الحماية ببعض النتائج في أول الأمر حتى أن الملك كارلوس الأول اضطر سنة 1517 م أن يكذب الشائعات التي تنسب إليه نية طرد المسلمين من مملكة أراغون. لكن عداوة الكنيسة وعامة النصارى للمسلمين كانت قوية، كما أن الدولة سلحت عامة النصارى سنة 1509 م لرد هجوم المجاهدين الأتراك على السواحل ومنعت المسلمين من سكنى السواحل. وأصبح هذا العداء يظهر بشكل واضح ودموي بعد حادث قتل عبدين من طرف مسلمين في 20/ 5 / 1521 م. فهاجم النصارى قرى إسلامية في منطقة بلنسية في شهر يونيو سنة 1521 م، وفي 15/ 7 / 1521 م هاجمت قوة من النصارى قوامها 400 شخص بلدة مربيط الإسلامية، وفي شهر غشت من نفس السنة أجبر النصارى 15.000 مسلم على التنصير بالقوة خاصة في بلدة بولوب وضواحيها، وفي مارس سنة 1522 م قامت قوة من النصارى بالإغارة على قريتين مسلمتين هما البركة والكوثر. ومنذ مارس سنة 1523 م أخذت "محاكم التفتيش "تناقش موضوع تشبث المورسكيين بالإسلام، فقام المفتش العام دون ألونسو منريكي بعقد اجتماع لمحاكم التفتيش في شهر يناير عام 1524 م لدراسة موضوع رجوع الذين تنصروا منذ عام 1521 م إلى الإسلام. وتأجل الاجتماع عدة مرات، ثم عقد أولى جلساته في 19/ 2 / 1525 م ودامت الاجتماعات إلى 22/ 6 / 1525 م. فقرر الجمع بأن المسلمين الذين أجبروا على التنصير هم نصارى وجب عليهم أن يعيشوا حياة النصارى، وعلى " محاكم التفتيش "أن تعاملهم معاملة المرتدين إذا رفضوا ذلك. وفي نفس الوقت طلب كارلوس الخامس رأي البابا في الأمر. فأصدر البابا كليمنت السابع أمرًا بتاريخ 12/ 5 / 1524 م يتضمن إحلال الملك من قسمه في

المحافظة على حقوق المسلمين ومطالبة الملك بتحويل المسلمين إلى النصرانية بالقوة ومنحه حق فرض الرق على من رفض ونصحه باستعمال محاكم التفتيش لإرهاب المسلمين وإجبارهم على التنصير. وفي 16/ 11 / 1525 م أصدر الملك أمرًا بتنفيذ مضمون الأمر البابوي وقضى بتنصير المسلمين ونزعهم من السلاح وتحويل جميع المساجد إلى كنائس تحت طائلة إيقاع المعارضين في الرق بعد 8/ 12 / 1525 م. وفي 10/ 12 / 1525 م طلب مفوض ديوان التفتيش من المسلمين الرافضين للتنصير الاستعداد لترك بيوتهم والخروج من المملكة في موعد أقصاه 21 / 1/ 1526 م. أوفد المسلمون شخصين إلى الملك يسترجعونه في هذا الأمر فرفض الرجوع عنه. لكن مقابل غرامة له منهم قدرها 40.000 دوقة خفف عليهم شروط التنصير، إذ منحهم حق الاستمرار في استعمال اللغة العربية لمدة أقصاها عشر سنين، ووعدهم بإبطال نزع السلاح، وبأن يساويهم بالنصارى القدامى في الضرائب. فدخل اليأس نفوس المسلمين ولم يعودوا يفكرون إلا في الثورة، فثار بعضهم في أحواز سرقسطة. وانطلقت الثورة في منطقة بلنسية من بلدة بني الوزير وانتشرت إلى القرى المجاورة. ثم ثار المسلمون على ضفاف نهر شقر وفي الأراضي الواقعة بين دانية وغاندية وتحصنوا في حصن بولبه. ثم تحرك الثوار إلى مدينة بيكوك. وفي 15/ 2 / 1526 م أعلن المنادون في شوارع بلنسية باسم نائب الملك الحرب على المسلمين، فتقدم 5.000 متطوع نصراني، حاصروا حصن بولبه، فاضطر المدافعون عنه إلى الاستسلام في 18/ 3 / 1526 م. فاسترق النصارى من وجدوا فيه من مسلمي أراغون وأجبروا الباقين على التنصير ودفع غرامة قدرها 12.000 دوقة من الذهب. لكن معظم الثوار اتجهوا شمالاً إلى بلدة شقوربة وتحصنوا بجبال "أشالدان " الواقعة بقربها وبايعوا سلطانًا عليهم سليم المنصور. ونشطوا في تحصين تلك الجبال وتعاهدوا على الجهاد حتى الشهادة. فجاء الملك على جيش إلى بلنسية وبدأ هجماته على الثوار في شهر أبريل 1526 م ثم استنجد بالمتطوعة الألمان، فالتحق بجيشه 3.000 جندي ألماني في 7/ 9 / 1526 م، وتزايد عدد جنود الجيش المهاجم حتى زادوا على 8.000 جندي دون الفرسان. فانهزم المسلمون واستشهد سلطانهم سليم المنصور. ثم قضي على الثوار المسلمين في منطقة دانية، ففر منهم حوالي ألفي شخص على بواخر مجاهدي البحر للجزائر والمغرب.

وهكذا قضى كارلوس الخامس على مقاومة المسلمين في مملكة أراغون وسار في مخططه التنصيري بينما عمل المسلمون كإخوانهم في غرناطة على الحفاظ على إسلامهم سرًّا والتظاهر تحت واقع القهر بالنصرانية. وأخذ كثير منهم يهاجر إلى بلاد الإسلام في بلدان المغرب. ففي سنة 1529 م وحدها أرسل خير الدين الحاكم العثماني على الجزائر عدة سفن بقيادة نائبين، ايدين ريس وصالح ريس، فرست بقرب مرفأ أوليفة شمال دانية ونزلت منها إلى البر قوة استطاعت أن تحرر 600 مسلم أندلسي ممّن يرغب في الهجرة وهاجمت السفن التركية سفنًا إسبانية أغارت عليها في طريق الرجوع. ويقدر عدد من هاجر في سفن الأتراك من مملكة أراغون وحدها في هذه الفترة ما يقارب 70.000 مورسكي. كما حمل في سنة 1559 أمير البحر طورغود من شاطىء بلنسية 2.500 مورسكي. كما حاولت الدولة الإسبانية قطع الصلة بين المسلمين في المناطق المختلفة خاصة بين مسلمي مملكة بلنسية ومسلمي مملكة غرناطة. ففي سنة 1541 م حرم على مسلمي غرناطة النزوح إلى بلنسية وحرمت الهجرة من بلنسية إلا بترخيص ملكي مقابل غرامة باهظة. هذه هي الأحوال التي كان عليها مسلمو مملكة أراغون قبيل ثورة غرناطة العظمى: مسلمين سرًّا ونصارى ظاهرًا، منهم من يأمل في قوة خارقة تحررهم من الظلم الذي هم عليه، ومنهم من لا يفكر إلا في الهجرة إلى ما تبقى من دار الإسلام في البحر الأبيض المتوسط خاصة شمال إفريقيا.

مراجع الفصل الثاني

مراجع الفصل الثاني 2/ 1 - A. de Santa Cruz "Cronica de los Reyes Catolicos" Edition y estudio por Juan de Mata Carriazo, Tomo, Sevilla 1951, Capt. XLIV, Page. 193. 2 / 2 - Lafuente Alcanta "Historia de Granada", Granada, 1904. 2 / 3 - مؤلف مجهول "نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر" طبع بالعرائش سنة 1940 م بتحقيق الفريد البستاني. 2/ 4 - محمد داود "تاريخ تطوان" 8 أجزاء، تطوان والرباط، 1959 - 1979. 2/ 5 - Hernando de Baeza "Las Cosas de Granada", ed. por M. Muller, Gottingen, 1863. 2 / 6 - Luis del Marmol Carvajal "Historia del Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada", Biblioteca de Autores Espanoles. 2 / 7 - محمد عبده حتاملة "التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين" عمان، الأردن، عام 1980 م. 2/ 8 - M. A. Ladero Quesada "Los Mudejares de Castilla en Tiempo de Isa- bell" Valladolid (Espana) , 1969. 2 / 9 - A. Gallego Burin y A. Gamir Sandoval "Los Moriscos del Reino de Granada segun el Sinodo de Guadix en 1554" Granada, 1968. 2 / 10 - A. Dominguez Ortiz y Bernard Vincent "Historia de los Moriscos" Revista de Occidente, Madrid, 1978. 2 / 11 - علي محمد حمودة "تاريخ الأندلس السياسي والعمراني والاجتماعي" الطبعة الأولى سنة 1957 م.

2/ 12 - المقري "أزهار الرياض في أخبار عياض" الجزء الأول، الصفحات 109 إلى 115، القاهرة سنة 1939 م. 2/ 13 - A. C. Lea "History of the Inquisition in Spain" 4 Volumes, New York (USA) , 1906-1907. 2 / 14 - يوجد النص العربي بمكتبة الفاتيكان ( Borgiano Arabo) رقم 171 من الورقة 2 إلى 4. 2/ 15 - Pedro Longas "Vida Religiosa de los Moriscos" Madrid, 1915. 2 / 16 - Archivo Municipal de Granada (A. M. G., Provisiones) , I, Fol. 471 vo. 2 / 17 - A. M. G. (Provisiones) , I, fol. 202 vo. 2 / 18 - Ref. (2.9) , pp. 171-175. 2 / 19 - A. M. G. (Provisiones) I, 254 vol, fol, 247, fol, 468. 2 / 20 - Archivo General de Simancas (A. G. S., Canasa) Cedules, Libro 27. 2 / 21 - J. Caro Baroja "Los Moriscos del Reino de Granada" Madrid, 1976, p. 52-53. 2 / 22 - أسعد حومد "محنة العرب في الأندلس" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة 1988. 2/ 23 - محمد رزوق "الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 و 17" إفريقيا الشرق، الدار البيضاء (المغرب)، 1989، ص 90 - 91. 2/ 24 - Ref. (2.6) , t. XXI, p. 123 y ss. 2 / 25 - Ref. (2.8) , p. 15-26. 2 / 26 - A. G. S., P. R. Leg. 8, Fol 120. 2 / 27 - A. G. S., P. R. Leg. 28, Fol 49. 2 / 28 - Conte de Circourt "Histoire des Arabes d'Espagne" Paris 1846. 2 / 29 - E. Ciscar y R. Garcia Carcel "Moriscos i Agermanats" Valencia, 1974, p. 31-32. 2 / 30 - Ref. (2.29) , p. 122-125. 2 / 31 -A. Redondo "Fray Antonio de Guerera et l'Espagne de son temps" Paris, 1976, Section 2, Chapitre 5. 2 / 32 - Ref. (2.28) , vol. 2, p. 203-209. 2 / 33 - H.C. Lea "History of the Moriscos of Spain, their Conversion and Expulsion" London, 1901.

الفصل الثالث ثورة غرناطة الكبرى (1568 - 1570 م)

الفصل الثالث ثورة غرناطة الكبرى (1568 - 1570 م) 3/ 1 - تهيىء الثورة: لما أعلنت السلطات الإسبانية في 1/ 1 / 1567 م القانون الغاشم الذي استهدف ما تبقى من السِّمات الحضارية للأمة الأندلسية المسلمة، شرعت بملاحقة المسلمين لتنفيذه في كل أنحاء البلاد. فحاول الأندلسيون أولاً تخفيف ما أصابهم بالتفاوض. فرفعوا احتجاجاتهم إلى الرئيس ديسا، رئيس المجلس الملكي (كورتس) يطلبون منه إلغاء هذا القانون، أو على الأقل تأجيل تنفيذه. فتقدم باسمهم وفد يرأسه رئيس جماعتهم مولاي فرانسيسكو نونيز. لكن ديسا قابل الوفد بكل غطرسة وإهانة وإهمال. فأرسل المسلمون آنذاك وفدًا إلى الملك فليبي الثاني وإلى وزيره المفتش العام الكاردينال سبينوزا، العدو اللدود للمسلمين. ترأس الوفد خوان أنريكز، وهو رجل نصراني يعطف على المسلمين ويدافع عنهم. وتضمن الوفد مسلمين من أعيان الأندلسيين هما خوان فرناندس من غرناطة وفراندو الحبقي من وادي آش. اجتمع الوفد بأعضاء الكرتس وبالكاردينال أسبينوزا، دون فائدة، إذ أجاب الكاردينال أن الملك مصمم على تنفيذ القانون وأن العرائض يجب تقديمها لديسا على أي حال. وطلب ديسا من جهته من الكاردينال تنفيذ القانون بصرامة وقسوة بصفته المفتش العام. وتقدم الماركيز دي مندوجر، حاكم غرناطة، بعريضة إلى الملك أوضح فيها خطورة الموقف لاعتراض المورسكيين على القانون واحتمال ثورتهم بسبب اليأس وطلبهم مساعدة أتراك الجزائر. فلم تأت عريضته بنتيجة، وأخذت السلطات الكنسية تنفذ الأحكام الجديدة في المواعيد المخصصة لها بكل شدة.

وتقدم وفد من مسلمي مملكة بلنسية بالتماسات مماثلة إلى الملك، برئاسة زعيمهم كوزمي ابن عامر الذي كان مقربًا للملك. فنجح بعض الشيء في التخفيف من تطبيق هذا القانون، إذ تقرر معاملة المتهمين بالردة (عن النصرانية) ببعض الرفق، بعدم نزع ممتلكاتهم بتهمة المروق عن الدين، مقابل غرامة سنوية قدرها 2.500 مثقال ذهب يقدمها المورسكيون إلى ديوان التفتيش. ولم يعد يفكر أهل غرناطة إلا في الثورة للحفاظ على دينهم الإسلام والدفاع عن بلدهم الأندلس بعد أن يئسوا من التعايش مع النصارى تحت هذه الأوضاع المأساوية. واعتصم عدد كبير من مسلمي مملكتي غرناطة وبلنسية وغيرهما بالجبال للإغارة على قوافل الحكومة وقواتها وضرب مصالحها، وكانوا يسمونهم بالمنفيين. فكانوا أول من ابتدع حرب العصابات ضد الدولة من طرف الشعوب المستضعفة. وحدد قانون 1/ 1 / 1567 م نهاية عام 1567 م كموعد نهائي لتخلي المسلمين، نساء ورجالاً، عن لباسهم الإسلامي ولغتهم العربية، الخ ... وألف ديسا قوة من الشرطة لمراقبة المسلمين وألزمهم بنفقاتها. لكن الماركيز مندوجر حل هذه القوة لكسب عطفهم. ثم أمر ديسا بإقصار جميع المورسكيين عن حي البيازين وأمر بعقوبات صارمة لكل من يتعاون مع المنفيين في الجبال. ثم أصدر أمرًا بتاريخ 1/ 1 / 1568 م يقضي بأن يسلم المسلمون أولادهم الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و 15 سنة إلى السلطات الكنسية لتعليمهم الدين النصراني واللغة القشتالية. فأدى هذا القرار الأخير إلى دفع ما تبقى من المؤمنين بحل سلمي إلى التفكير في الثورة. عمل زعماء المسلمين في غرناطة حينئذٍ على إشعال ثورة شاملة تعيد للأندلس دولتها وللمسلمين عقيدتهم. فاجتمعوا سرًّا أواخر سنة 1567 م في حي البيازين، وتوصلوا إلى شرطين أساسيين لإنجاح الثورة، وهما: أولاً ضرورة مشاركة جميع مسلمي الدولة الإسبانية في الثورة، إن أمكن، أو جميع مسلمي مملكة غرناطة على الأقل؛ ثانيًا ضرورة الحصول على العون المادي بالسلاح والرجال والمال من المغرب والجزائر. وكانت الجزائر آنذاك تابعة للدولة العثمانية، والمغرب تحت حكم الدولة السعدية. ارتكز أمل الثوار الأندلسيين على الدولة العثمانية، خاصة بعد حصارها لمالطة سنة 973 هـ (1565 م). وكان سلطانها حينذاك سليم الثاني، بويع بعد وفاة والده

السلطان سليمان القانوني يوم 20 صفر عام 974 هـ (5/ 9 / 1566 م). وكان السلطان سليم في حرب مع الدول الكاثوليكية في البحر الأبيض المتوسط، وأصبح هدفه الأول تحرير قبرص من البندقيين لتأمين طريق الحج البحرية. وكانت الحرب متواصلة بينه وبين القوى الصليبية للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط، نتجت عنها هزيمة العثمانيين في لبانتو بتاريخ 17/ 10 / 1571 م. وكان الإسبان يحتلون مناطق واسعة من الشواطىء المغربية والجزائرية والتونسية والليبية بما في ذلك طرابلس وتونس والجزائر. وأمام الخطر الذي كان يهدد أهل شمال إفريقيا بنفس المصير الذي آل إليه الأندلسيون، استغاثوا بالدولة العثمانية. فحرر العثمانيون الجزائر سنة 1519 م وطرابلس سنة 1551 م وتونس سنة 1568 م، وعملوا على تحرير الشواطىء الأخرى من الوجود الإسباني. وأصبحت الجزائر منذ ذلك الحين مركزًا قويًّا للوجود الإسلامي في البحر الأبيض المتوسط، وعاصمة لولاية عثمانية قوية. وأسند السلطان سليم الثاني في ذي الحجة عام 974 هـ (يونيو 1566 م)، منصب بيلرباي الجزائر للرئيس محمد بن صالح محل الرئيس حسن بن خير الدين، وعين هذا الأخير قائدًا عامًا للأسطول العثماني. ثم خلف الرئيس محمد بن صالح في 14 صفر عام 976 هـ (18/ 8 / 1568 م)، الرئيس العلج علي، وهو مسلم من مواليد كاستل بجنوب إيطاليا. وكان المغرب يقاوم كذلك الاحتلالين الإسباني لشواطئه المتوسطية والبرتغالي لشواطئه الأطلسية. وكانت تتنازعه الدولتان الوطاسية والسعدية، فانتهى الصراع بينهما بتوحيد المغرب تحت الدولة السعدية في 24 شوّال عام 961 هـ (22/ 9 / 1554 م). وكان أبو عبد الله الغالب، سلطان المغرب من سنة 964 هـ إلى سنة 981 هـ (1557 - 1574 م)، متهمًا بالتواطؤ مع الإسبان وتسليمهم مدينة بادس (بالمغرب)، وبالانسحاب بدون سبب ظاهر من محاصرة البرتغاليين بالبريجة (الجديدة). وعلى أي حال فقد كان المغرب مشغولاً بتحرير أرضه والدفاع عن وجوده مما أدى إلى انتصاره على البرتغال في معركة وادي المخازن سنة 986 هـ (1578 م). ومما يؤسف له أن العلاقات المغربية العثمانية لم تكن طيبة، وكانت دائمًا تتسم بالمصلحة العليا للطرفين أمام الغزو الصليبي ومخاطره. ثم اتصل منظمو الثورة بالسلطات العثمانية في الجزائر والسعدية في المغرب بسرية كاملة، وبالشخصيات الشعبية في البلدين لطلب العون والمساندة. وقد وصلتنا

بعض هذه الرسائل، نأتي بمقتطفات من اثنين منها: الرسالة الأولى، وهي على شكل قصيدة، قال فيها كاتبها محمد بن محمد بن داود، أحد زعماء الثورة، بعد أن افتتحها بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله الكريم: "استمعوا إلى قصة الأندلس المحزنة، وهي تلك الأمة العظيمة التي غدت اليوم ضعيفة متهيضة، يحيط بها الكفرة من كل صوب، وأضحى أبناؤها كالأغنام الذين لا راعي لهم. وفي كل يوم نسام سوء العذاب ولا حيلة لنا إلا المصانعة حتى ينقذنا الموت مما هو أشر وأدهى، وقد حكموا فينا اليهود الذين لا عهد لهم ولا ذمة، وفي كل يوم يبحثون عن ضلالات وأكاذيب وخدع وانتقامات جديدة. ونرغم على مزاولة الشعائر النصرانية وعبادة الصور، وهو مسخ للواحد القهار، ولا يجرؤ أحد على التذمر أو الكلام. وإذا ما قرع الناقوس ألقى القس عظته بصوت أجش، وفيها يشيد بالنبيذ ولحم الخنزير، ثم تنحني الجماعة أمام الأوثان دون حياء ولا خجل ... ومن عبد الله بلغته قضي عليه بالهلاك، ومن ضبط ألقي في السجن وعذب ليل نهار حتى يرضخ لباطلهم" ثم يصف جرائم محاكم التفتيش ضدّهم من اعتقال وتعذيب وقتل بالحرق، ثم يقول: "وقد علقوا يوم العيد (ذكرى سقوط غرناطة) في ميدان باب البنود قانونًا جديدًا وأخذوا يدهمون الناس في نومهم ويفتحون كل باب، يزمعون تجريدنا من ثيابنا وقديم عاداتنا، ويمزقون الثياب ويحطمون الحمامات. ونحن إذ نيأس من عدل البشر نستغيث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - معتمدين على ثواب الآخرة، وقد حثنا شيوخنا على الصلاة والصوم والاعتصام بالله فهو الذي يرحمنا في نهاية الأمر". والرسالة الثانية موجهة من أحد زعماء الثورة في البيازين إلى أحد رؤساء المغرب، يناشد كاتبه إخوانه المغاربة ويستغيث بهم بحق روابط الدين والعرق ويصف ما قرره النصارى "من إرغامهم على ترك اللغة والشريعة، وكشف الوجوه الحيية المحتشمة، وفتح الأبواب، وما أنزل بهم من محن السجن والأسر ونهب الأملاك" ويطلب إيصال استغاثته للسلطان العثماني. ثم يقول: "لقد غمرتنا الهموم وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا لكم في ليال تفيض بالعذاب والدمع، وفي قلوبنا قبس من الأمل. إذا كانت ثمة بقية من الأمل في أعماق الروح المعذبة". جاءت الأجوبة من الجزائر والمغرب تعد بالمساندة. فقد وعد سلطان المغرب بالنجدة عندما تعلن الثورة ووعد بيلرباي الجزائر بإرسال قوات مساندة تنزل على

شواطىء الأندلس أثر إعلان الثورة، وأرسل مع المبعوثين المال والسلاح، ولحق بهم من الجزائر والمغرب بعض المتطوعة للجهاد. فشجعت ردود الفعل هذه منظمي الثورة وقوت عزيمتهم على القتال. وفي نفس الوقت قام منظمو الثورة بالاتصال بمدن وقرى مملكتي غرناطة وبلنسية بتكتم شديد. وكان المورسكيون قد أسسوا جمعية خيرية صرح لها بجمع المال لبناء مستشفى خارج غرناطة للفقراء المرضى. ولم يكتمل بناء المستشفى، فاقترح منظمو الثورة على رئيس الجمعية أن يبعثوا تحت ستار جمعيته وفودًا لجمع المال تعمل في الحقيقة على تنظيم الثورة في المناطق المختلفة، وحصلوا على ترخيص بذلك من الرئيس ديسا. فذهب ثلاثة من زعماء المسلمين لهذه المهمة في وفد عمل على تقصي مستوى مساندة الأندلسيين للثورة بتكتم شديد. وقدروا عند رجوعهم عدد من يمكن أن ينضم إلى الثورة ب 45.000 رجل ممن تتراوح أعمارهم بين 20 و 45 سنة. وتبين أن جميع مناطق مملكة غرناطة القديمة تساند الثورة، لكن مسلمي مملكتي مرسية وبلنسية رفضوا المشاركة فيها لعدم ثقتهم بنجاحها ولدوام أملهم في تحرير العثمانيين لهم. ورغم تستر منظمي الثورة الشديد، فقد أخذت الإشاعات تنطلق بقرب ثورة المسلمين. لكن لا الرئيس ديسا، رئيس الإدارة المدنية، ولا المركيز دي مندوجر، القائد العام للجيش، صدقا هذه الإشاعات. ولإبعاد الشك، أرسل منظمو الثورة ممثلاً عنهم إلى الرئيس ديسا يشتكي من هذه الإشاعات وادعى أنها كاذبة، واقترح باسم المورسكيين تقديم 300 رهينة عنوانًا على حسن نيتهم. ثم اجتمع زعماء الثورة للمرة الثانية في البيازين ودرسوا ردود الوفود إلى الأندلس وإلى المغرب والجزائر. فقرر المجتمعون إعلان الثورة يوم الخميس المقدس (14/ 4 / 1568 م)، ووزعوا بينهم مسؤوليات إخبار المناطق الأندلسية المختلفة والمغرب والجزائر. ولم تسر الخطة حسب ما قرر لها، إذ قام أحدهم بتبليغ الرئيس ديسا في 5/ 4 / 1568 م، فاضطر المنظمون لتأجيل موعد إشعال الثورة. واعتقل ديسا عددًا من وجهاء المسلمين، وألغى تصاريح اقتناء الأسلحة، كما ذهب القائد العام إلى حي البيازين يأمر الناس بالهدوء والسكينة والحفاظ على الأمن. فطمأن بعد ذلك زعماء المسلمين الرئيس ديسا والماركيز دي مندوجر، ثم حددوا موعدًا آخر لإعلان الثورة الذي أجل مرة أخرى.

وفي 27/ 9 / 1568 م عقد هرناندوا بن جهور الصغير، أحد قواد الثورة الذي كان "وزيرًا" في بلدة قديار بالبشرات، جمعًا في حي البيازين لقادة الثورة في بيت رجل شماع اسمه "عدلت"، حضره 26 ممثلاً عن المناطق الأندلسية المختلفة. فشرح لهم ضرورة بيعة سلطان الأندلس قبل إعلان الثورة ليجتمع الناس حوله، ورشح لهم ابن أخيه فراندو دي بالور وقرطبة، وكان هرناندوا وفراندو ينحدران من الأمويين، خلفاء قرطبة. كان فراندو في الثانية والعشرين من عمره، ذا شجاعة ورجاحة عقل، ولد في بلدة بالور بجبال البشرات وأصله من قرطبة. وكان يعمل ممثلاً في بلدية غرناطة. وكان متزوجًا من مسلمة اسمها برياندة بريز، وكانت هي ونساء المسلمين من أول وهلة يشاركن في تهيىء الثورة بكل كتمان وتشجيع. فبايعه الحاضرون، وحول اسمه إلى محمد بن أمية. ثم نهض وصلى بالحاضرين وأقسم أمامهم على القيام بالجهاد حتى النصر أو الاستشهاد. وعين السلطان محمد بن أمية عمه هرناندو ابن جهور الصغير قائدًا عامًّا للثورة. واتفق الحاضرون على إعلان الثورة يوم 1/ 1 / 1569 م، على النحو التالي: ينتظم الثوار في حي البيازين إلى ثلاث فرق عند ظهور إشارة محددة واضحة فوق مرتفع جبل قصر الحمراء، الأولى تحمل العلم الأحمر، والثانية العلم الأصفر، والثالثة العلم الأزرق. ومن جهة أخرى، يجتمع ألفان من الثوار لتسلق أسوار قصر الحمراء واحتلاله. يحتل حاملو العلم الأحمر باب فج اللوزة، ثم يتجهون من باب سري إلى المستشفى الملكي ويدخلون من باب البيرة لاحتلال محكمة التفتيش لسجن أعضائها وتحرير سجنائها. ويحتمل حاملو العلم الأصفر ساحة باب البنود ثم يتجهون إلى السجن لتحرير السجناء. ويأخذ حاملو العلم الأزرق طريقهم عبر مدخل وادي آش ونهر هدره، ويتجهون إلى مركز الرئيس ديسا لقتله. وتلتقي الفرق الثلاثة في ساحة باب الرملة. وحينئذٍ يتجه 8000 متطوع من أهل مرج غرناطة ووادي الإقليم للدخول إلى المدينة واحتلالها مرتدين ملابس الجند العثماني والمغربي للتمويه على النصارى وجعلهم يعتقدون قدوم الجنود العثمانيين والمغاربة. ويحتل قصر الحمراء ألفان من المنفيين برئاسة القائدين البرطال والناقص عن طريق وادي شنيل بعد تسلق أسوار الحمراء من ناحية جنة العريف. وهكذا وقع تخطيط الثورة وتحديد مسؤولية كل من حضر.

3/ 2 - إعلان الثورة وبيعة ابن أمية:

من البداية، عمل زعماء الثورة على التغلب على الانقسامات الأندلسية بين العائلات وبين سكان المناطق المختلفة، التي كان معظمها ممثلاً في زعامة الثورة: فرج بن فرج ومحمد بن داود وابن عبو من مدينة غرناطة، ومحمد بن أمية وابن جهور وميغال روخاس وهرناندو الحبقي والرامي والمليح وغيرهم من البشرات. كما حدد الثوار موعد الثورة في الشتاء ووقت انتشار الثلوج لمعرفتهم بالأرض الغرناطية أكثر من النصارى والجيوش القشتالية. 3/ 2 - إعلان الثورة وبيعة ابن أمية: ابتدأت الاصطدامات بين الأندلسيين والقشتاليين قبل إعلان الثورة. ففي 23/ 12 / 1568 م، خرجت كوكبة من حراس محكمة غرناطة وكتبتها لقرية بقيرة بالبشرات لقضاء أعياد رأس السنة يصحبهم خمسون جنديًّا مسلحين بالبنادق، فاتجهوا من مرسى مطريل إلى حصن هريرا لحمايته. كانت عادة الجنود الإسبان عند مرورهم بالقرى الأندلسية القيام باعتداءات لا حصر لها من سلب وقتل واغتصاب. فعندما نزلوا قرب بلدة قديار وأخذوا يعتدون على أهلها، هاجمتهم مجموعة من المنفيين برئاسة استبان البرطال، فأبادتهم واستولت على أسلحتهم، فكانت هذه المعركة هي الشرارة الأولى التي أعلنت الثورة. وفي ليلة 23 ديسمبر غادر خفية السلطان محمد بن أمية غرناطة متجهًا إلى البشرات. وفي نفس الليلة أخبر شخص أحد القسس بأنه يعمل بالحمراء وأنه أعطى بعض المسلمين معلومات عن مقاييس سلالمها. فأبلغ القسيس فورًا الرئيس ديسا والقائد العام دي مندوجر اللذان زادا في عدد الدوريات والحرس. ولم تستمر الثورة على مخططها الأول إذ هطلت ثلوج غزيرة على جبال شلير فقطعت الطريق إلى غرناطة، فلم يتمكن الثوار من الوصول إلى غرناطة من البشرات في التاريخ المحدد، أي في 24/ 12 / 1568 م. لكن بيلرباي الجزائر، علج علي، أرسل حسب الموعد إمدادات نزلت للمجاهدين في جهتي المرية ومربلة، ووصلت إلى أماكنها في جبال البشرات. ولم يحسب فرج بن فرج للثلج حسابًا. فتحرك من البشرات على رأس 180 مجاهد، ونفذ إلى حي البيازين ليلاً، وحاول إقناع أهله بالثورة وتنفيذ الخطة التي اتفق عليها ووعد بوصول الرجال. غير أن أهل البيازين رفضوا نصرته عندما رأوا قلة أعداد المجاهدين الذين معه. واضطر فرج بن فرج، بعد محاولات يائسة طول الليل،

الرجوع إلى البشرات وانضمت إليه جموع المجاهدين. وكان خذلان أهل حاضرة غرناطة للثورة أول نكسة لها. لكنها لم تفت في عزيمة المجاهدين الذين ركزوا عملياتهم بعد ذلك على جبال البشرات. وتوجه محمد بن أمية إلى وادي الإقليم حيث جددت بيعته يوم 29/ 12 / 1568 م ملكًا للأندلس ورئيسًا للثورة في بلدة برذنار. فأعاد تعيين عمه رئيس للجيش وفرج بن فرج رئيسًا للوزراء. وأرسل الوفود لكل طاعات (محافظات) البشرات الاثنى عشر، فبايعته جميعها. ثم توجه محمد بن أمية إلى البشرات، واستقر في لوشر حيث اتخذ عاصمته الموقتة. ولم تدخل سنة 1569 م حتى احتل المجاهدون جميع جبال البشرات ووادي الإقليم بعد طرد الحاميات القشتالية والإرساليات النصرانية أو القضاء عليها. وأخذ السلطان محمد بن أمية في تعيين قواد المناطق ومستشاريه العسكريين. فعين شعبان ميكيل دي غرناطة قائدًا لوادي الإقليم، وماركوس الزمار قائدًا لمنطقة قولجر، وماتيو الرامي قائدًا لمنطقة المرية، وفراندو الغري قائدًا لوادي المنصورة، وفرانسسكو بوركرير بن مكنون قائدًا للمنطقة الشرقية، وجرنيمو بن المليح قائدًا لمنطقة وادي آش، ومارتين قائد قائدًا لمنطقة عذرة، الخ ... واختار ثلاثة من المجاهدين مستشارين عسكريين له، هم الناقص والرنداتي والأرشذوني. ومنذ بداية الثورة، أخذ فرج بن فرج يقوم بعمليات انفرادية بين شواطىء بيرة شرق شمال المرية وجبل طارق دون تنسيق مع القيادة، فأزاحه محمد بن أمية وعين مكانه عمه ابن جهور. وكان في انسحاب هذا القائد الفذ من الثورة في أولها نكسة ثانية لها، ولكنها مرت بسلام ودون انشقاق في صفوف المجاهدين. وتابع فرج بن فرج جهاده دون رئاسة مما يدل على إخلاصه وحسن طويته. أخذ ابن أمية يدعو المجاهدين والأهالي للرجوع إلى الأصالة الإسلامية، ونبذ الألقاب والأسماء النصرانية المفروضة، وإعادة الألقاب والأسماء الإسلامية، والاهتمام بالصلوات الخمس وبإحياء المساجد. ووقعت نقمة الثوار على الكنيسة وممثليها من قسس ورهبان وعلى موظفي الحكومة الذين أذاقوا المسلمين شر العذاب. فانقض عليهم الثوار ومزقوهم شر تمزيق، وقتلوا القسس وقضاة محاكم التفتيش وعمال الحكومة. وعمل محمد بن أمية على منع المجاهدين من الانتقام وقتل الأبرياء.

ثم أرسل ابن أمية البعثات للعالم الإسلامي يطلب العون والمساندة. فأرسل أخاه عبد الله بن أمية إلى الجزائر، وفراندو الحبقي إلى المغرب. وصادر أموال الكنائس وقدمها غنيمة لمصاريف الجهاد. جاء رد فعل الدولة الإسبانية في فوضى ناتجة عن نزاع قواد الجيش، وإطلاق العنان للجنود والأهالي النصارى للانتقام من المسلمين العزل الذين يقعون في يدهم، من أطفال ونساء، لنهبهم وقتلهم وتشريدهم بكل شراسة. وكان بين الرئيس ديسا والماركيز دي مندوجر، القائد العام للجيش، عداوة ثابتة. كان ديسا وأعوانه يشتكون للملك بمندوجر، ويتهمونه بشتى التهم، فعمد، نكاية في مندوجر، إلى إجراءين: أولهما تأليف حرس وطني تحت رئاسة أحد ضباط البلدية الذين ينتمون إلى عائلة معادية لعائلة مندوجر؛ ثانيهما إرسال كتاب إلى الملك يطلب منه فيه تكليف ماركيز بلش، قائد منطقة مرسية، بمهاجمة البشرات من المنطقة الشرقية، وينتمي هذا الماركيز هو كذلك إلى عائلة معادية لعائلة مندوجر. وهكذا تكون جيشان معاديان: أحدهما تحت قيادة دي مندوجر لينطلق من غرناطة في اتجاه البشرات شرقاً؛ والثاني تحت قيادة ماركيز بلش لينطلق من مرسية في اتجاه البشرات غربًا. فانطلق الجيش الثاني في 4/ 1 / 1569 م ومر على المرية ثم وصل إلى سفح جبال البشرات، فقطع الصلة بين ثوار وادي المنصورة ومناطق ولاية المرية الأخرى وثوار البشرات. وفي 11/ 1 / 1569 م تلقى ماركيز بلش أمر الملك بتعيينه قائدًا عامًّا فوق العادة لمنطقة المرية. وخرج جيش مندوجر من غرناطة بتاريخ 2/ 1 / 1569 م يصحبه عدد من القواد من أصل إسلامي كلويس دي قرطبة وألونسو دي غرناطة بنيغش. وطلب الملك مساعدات لإنهاء الثورة من الممالك النصرانية خاصة لومبارديا ونابل وصقلية. اتجه مندوجر بجيشه نحو وادي الإقليم وعسكر في البذول. فواجهه المسلمون برئاسة شعبان في وادي الإقليم. وفي 4/ 1 / 1569 م وجه نحوه السلطان محمد بن أمية جيشًا برئاسة "شابَّا"، عسكر في بقيرة ومنها أخذ يهاجم طلائع جيش الماركيز مندوجر في دورقال. وفي 9/ 1 / 1569 م زحف جيش مندوجر إلى جسر طبلاتة الذي دمره الثوار المسلمون احتياطًا. فوقعت أول معركة كبرى بين المسلمين وجيش مندوجر عند هذا الجسر، نجح بعدها القشتاليون في عبور الجسر ومتابعة تقدمهم نحو لانجرون، ثم أرجبة، ثم بقيرة حيث تمركز جيش الثوار برئاسة السلطان محمد بن أمية في حاضرتها بوبين. وهناك جرت المعركة الثانية بين الثوار وجيش مندوجر اضطر

بعدها محمد بن أمية إلى الانسحاب، فقام الجيش الإسباني بجرائم لا تخطر على بال من قتل وسبي العزل من النساء والأطفال ونهب الممتلكات. وفي 17/ 1 / 1569 م وصل جيش مندوجر إلى بلدة جبيلش، فاستسلمت قلعتها، وكان بها حوالي 300 مجاهد، وتقول الروايات إن صهر (والد زوجة) محمد بن أمية أخذ يفاوض مندوجر على الاستسلام مقابل ضمانات كافة له ولأتباعه، كما تتهم الروايات ابن جهور بالضعف وبأنه عرض على مندوجر في جبيلش الاستسلام مقابل العفو عنه وعن أتباعه. ولم يستطع مندوجر البت في الأمر قبل مراجعة الملك. وفي ليلة 18/ 1 / 1569 م سجن الماركيز دي مندوجر داخل كنيسة جبيلش وحولها جميع الأهالي المسلمين الذين وجدهم في البلدة، وعددهم حوالي 2400 طفل وامرأة و 300 رجل مسن. وفي الليل، انقض عليهم النصارى قتلاً حتى أتوا عليهم جميعًا. فكانت مذبحة مروعة دامت حتى الصباح، وفتحت سجلاً جديدًا من المذابح التي سيتعرض لها المسلمون في هذه الحرب. وعند وصول هذه الأخبار إلى الملك، أرسل فرانسيسكو دي قرطبة إلى المرية بصفته قائدًا عامًّا، وأرسل دييكو دي مندوسة للاطلاع على الأوضاع في جبيلش. وترك مندوجر جبيلش بجيشه يوم 23/ 1 / 1569 م مطاردًا الثوار في بسيط أجيجر. وكان محمد بن أمية معسكرًا بجيشه في أندرش. فطلب مندوجر من ألونسو دي غرناطة بنيغش، وهو من أصل إسلامي، التوسط لدى محمد بن أمية ليستسلم ويسلم أسلحته مقابل العفو العام على جميع الثوار، وفي نفس الوقت تابع مندوجر تحرشاته بالمجاهدين إذ اشتبك معهم قرب بطرنة يوم 27/ 1 / 1569 م. ثم احتل الجيش القشتالي بطرنة واعتقل مئات من المسلمات بما فيهن والدة محمد بن أمية وشقيقتاه، وتابع الجيش سيره إلى أن احتل أندرش، ناشرًا النهب والرقة والخراب والموت في طريقه. ثم رجع جيش مندوجر إلى أجيجير وبقي بها خمسة أيام يجهز حملته على مناطق شلوبانية والمنكب وجبل واجر للقضاء على قوة من المجاهدين أعلاه تحت قيادة الزمار. ففي يوم 11/ 2 / 1569 م قام جيش مندوجر بثلاث هجمات لاحتلال ذلك الجبل الوعر، فقاومه المجاهدون في قلعة واجرش إلى أن هزموا، وقبض الإسبان على القائد الزمار وابنته واقتادوه إلى غرناطة وقتلوه ومثلوا به شر تمثيل بعد

أن عذبوه شر عذاب. وقتل جنود مندوجر كل من وقع بأيديهم من أهل المجاهدين، نساء وأطفالاً وشيوخًا، وانتشروا في البلدة يسرقون وينهبون. واعتقد مندوجر أن القضاء على الثورة أصبح وشيكًا وأراد القبض على محمد بن أمية. فلاحقه بجيشه على رؤوس الجبال، وقد علم من جواسيسه أن ابن أمية يقضي الليل في بيت محمد بن عبو في بلدة مشينة. فهجم الجيش على بيت ابن عبو، لكن ابن أمية تمكن من الإفلات. وكان فراندو الغرمي، قائد المجاهدين في الجبهة الشرقية، قد عسكر في بلدة جسيقة على وادي أندرش. فتوجه جيش الماركيز دي بلش على رأس جيش قوامه خمسة آلاف رجل وثلاثمائة فارس، وصفهم المؤرخون الإسبان أنهم كانوا جميعًا لصوصًا وقتلة، لا يهمهم إلا السلب والنهب وإزهاق أرواح العزل. فوصل الجيش إلى جسيقة يوم 12/ 1 / 1569 م واشتبك في أكبر معركة له مع المجاهدين، اضطر فيها الثوار إلى الانسحاب إلى أندرش. فلحقهم الجيش، لكن فرقة من المجاهدين اتجهت نحو المرية بقيادة ابن مكنون، واستقرت بضواحيها في بلدة فليش. فتحول نحوها جيش دي بلش خوفًا على سقوط المرية في يد المسلمين. فاشتبك الجيش مع فرقة ابن مكنون في 18/ 1 / 1569 م وأرغمها على الانسحاب بعد أن استبسلت في الدفاع على الحصن في معركة شارك فيها النساء والأطفال. وقد قتل جيش دي بلش في هذه المعركة عدة آلاف من المسلمين وأسر نحو 2.000 من النساء والأطفال وباعهم كعبيد، من بينهم ابن وأختان للقائد ابن مكنون. ثم اتجه الجيش نحو أندرش وأوهانش. هكذا كان وضع الثورة الأندلسية في أواخر شهر فبراير عام 1569 م: حرب غير متكافئة، لا هوادة فيها، يدافع فيها المسلمون بأسلحة بالية دون تدريب عسكري مسبق ضد جيشين كبيرين لأقوى دولة آنذاك في أوروبا. وللتغلب على حرب العصابات التي مهر فيها المسلمون عمل جيش النصارى على قتل عائلاتهم من نساء وأطفال وسبيهم وبيعهم رقيقًا في الأسواق. ولم ينج المسلمون الذين رفضوا الانضمام إلى الثورة، كأهل غرناطة، من هذه المعاملة، إذ تابعهم النصارى بمضايقات لا حدود لها كانت أفظعها مذبحة سجن غرناطة. في مارس عام 1569 م انتشرت إشاعات مفادها أن ابن أمية سيحتل غرناطة على رأس قوة من المجاهدين. فهجم حرس السجن في 17/ 3 / 1569 م على

السجناء يذبحونهم دون سابق إنذار، ثم فتحوا أبواب السجن لعامة النصارى، ومضوا الليل جميعًا قتلاً في المسلمين العزل حتى أتوا على ما لا يقل عن 150 سجينًا من أعيان غرناطة الذين احتفظ بهم الإسبان رهائن للضغط على المجاهدين. ولم ينج من هذه المذبحة الشنيعة سوى والد محمد بن أمية أنطونيو دي بالور وأخيه فرنسسكو. ثم بعد هذه المذبحة قامت محاكم التفتيش بالحكم على القتلى بمصادرة أموالهم. ولما علم أهل مملكة غرناطة بهذه الجريمة، ثاروا في عدة مدن، كطرش وعذرة، ضد الجيش وقتلوا عددًا من الجنود والضباط. بينما قضى جيشا دي مندوجر ودي بلش معظم شهر مارس في القتل والسلب والنهب، وشتتا المجاهدين على أعالي الجبال بعد أن كبدوا النصارى خسائر كبيرة في الأرواح. وكان مصير من استسلم من المجاهدين الاسترقاق. غير أن شراسة النصارى ضد المسلمين، المسالمين منهم والمحاربين، أدت بالمسلمين إلى تفضيل الموت في معركة الدفاع عن الدين والشرف على الموت دون سبب، مما أذكى روح الجهاد من جديد. ولم يلتحق بالمجاهدين من الدول الإسلامية إلا بعض المتطوعة المغاربة والجزائريين والأتراك، وقليل من المال والعتاد من الجزائر. وهذا نص رسالة جوابية من السلطان سليم للمجاهدين الأندلسيين في هذه الفترة: "مهمة دفتري رقم 14 حكم رقم 231 بتاريخ 24 شوال عام 977 هـ موافق 20/ 1 / 1569 م، أعطي إلى خليل جاوخي في 10 ذي القعدة. حكم إلى أهالي الأندلس". "وصل إلى أستانة سعادتنا عرض حالكم الذي جاء فيه أن الكفارة، دمرهم الله وأضلهم، قد سلبوكم أسلحتكم ومنعوكم من التحدث بالعربية، وأنهم يتعرضون لنسائكم ويمارسون كل أنواع الظلم والتعدي عليكم. وتعلمون أنه يوجد حاليًّا لديكم عشرون ألف رجل مسلم كما أن هناك مائة ألف رجل قادر على حمل السلاح. وعلمنا باستلامكم مقدارًا من السلاح من الجزائر، وأن ذلك قد ربط على قلوبكم، وتمكنتم بذلك من تكبيد الكفار العديد من الخسائر. فالحمد لله على نصر أهل الإسلام، وليكتب لهم الفوز الدائم على الكفار، أضلهم الله. وقد عرض بالتفصيل كل ما جاء في عرض حالكم من تحريرات وتقريرات على سرير سعادتنا، وأحاط علمي الشريف الملوكي وشمل كل ما يتعلق بأحوالكم وأخباركم، وأن أنظاري منصرفة دائمًا نحوكم".

3/ 3 - انتشار الثورة واستشهاد ابن أمية:

"ولكن كفرة جزيرة قبرص القريبة من ممالكي المحروسة، والتي كانت على العهد والأمان منذ زمان أجدادي العظام، أنار الله براهينهم، نقضوا تلك العهود وأخذوا بالتعدي على التجار وأهل الإسلام والمسافرين بحرًا لطواف بيت الله الحرام وزيارة تربة حضرة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام بخلوص النية وصفاء الطوية. وبذلك فإنهم مصرون على العصيان والطغيان. لذا بعد التوكل والاعتماد على علو عناية الحق سبحانه وتعالى والتوسل والإسناد إلى المعجزات كثيرة البركات لفخر الموجودات صلوات الله عليه وسلامه. وكذلك بالاستمداد بالأرواح الطاهرة لسائر الصحابة الكرام، عليهم رضوان الله تعالى أجمعين، فقد استقرت نيتنا الملوكية على فتح وتسخير الجزيرة المزمورة في الربيع الآخر القادم. ونضرع إلى عتبة حضرة الحق جل وعلا أن ييسر لنا فتح وتسخير تلك الجزيرة وأن يبسط أيدينا عليها حتى تؤهل بأهل الإسلام، كما كانت عليه، وكي تقام فيها شعائر الشرع الشريف، وحتى يأمن التجار في غدوهم ورواحهم، وينصرفوا للدعاء بثبات ومجد ورفعة الدولة". "وبما أن الوضع على هذا الحال، فإن إرسال الأسطول الهمايوني المظفر لحمايتكم سيتأخر ريثما يتم إيصال المراكب للعساكر المنصورة للجزيرة المزبورة. وسيتم ذلك أثر إنهاء الأسطول لمهمته بعناية الحق. وقد أرسل أمري الهمايوني المؤكد إلى أمير أمراء الجزائر الذي تتجه أنظاره وأفئدته نحوكم لإرسال النجدة والمعونة لكم، إما بإرسال العساكر المظفرة أو بإرسال العدة والعتاد، وبموجب أمري الشريف فإن أمير أمراء الجزائر سيكون خير معين وظهير لكم". "كما أننا نتوخى من خلال حميتكم الإسلامية المتأصلة في حلبتكم عدم التراخي عن إظهار غيرتكم على الدين المتين، فلتظهروا أنواع أخدامكم وأصناف اهتمامكم في الحرب والقتال والجدال ضد الكفار الأذلاء. والمأمول ألا يضن علماء وصلحاء وسائر أهل الإسلام في تلك الديار بالدعاء ليل نهار بتيسير الفتح والنصر للغزوة المظفرة. ولا تتوانوا عن إعلامنا باستمرار عن أحوال وأوضاع تلك الديار". 3/ 3 - انتشار الثورة واستشهاد ابن أمية: قرر الملك فليبي الثاني الاتجاه إلى البشرات لإخضاعها بنفسه، عندما رأى صعوبة القضاء على الثورة، أسوة بسلفه الملكين الكاثوليكيين. فاقترح عليه الكاردينال اسبينوزا بدل ذلك، إرسال أخيه "غير الشرعي"، دون خوان النمساوي، على رأس جيش جديد. فعينه الملك في 17/ 3 / 1569 م ووضع تحت إمرته مجلسًا حربيًّا. ثم

أرسل إلى دي مندوجر يخيره بين البقاء تحت إمرة دون خوان أو الانتقال إلى المجلس العسكري في غرناطة كأحد أعضائه. ففضل مندوجر الانتقال إلى غرناطة. وفي 6/ 4 / 1569 م ودع دون خوان أخاه الملك وتوجه إلى غرناطة التي وصلها في 13/ 4 / 1569 م، فاستقبله نصارى غرناطة مستصحبين أيتامهم وثكلاهم وأراملهم تحريضًا له على إخراج المسلمين. وفي 14/ 4 / 1569 م اجتمع بزعماء الأندلسيين الذين اشتكوا إليه من سوء المعاملة والاحتقار ونزع الممتلكات وإزهاق الأرواح بدون سبب، فوعدهم بحماية كل من خلص منهم للنصرانية. وفي 22/ 4 / 1569 م عقد دون خوان مجلسًا حربيًّا لتخطيط القضاء على الثورة، حضره الماركيز مندوجر والرئيس ديسا. واختلفت الآراء في المجلس، فصوت دي مندوجر إلى جانب الذين فضلوا الهدنة والمفاوضة مع المجاهدين، بينما صوت ديسا ومعظم أعضاء المجلس الآخرين على تهجير الأندلسيين من حي البيازين ومن مرج غرناطة ونقلهم إلى قشتالة. ورغم أن دون خوان لم يدل بصوته فقد أبدى ارتياحه للحل الثاني. وأمام هذه المخاطر الجديدة التي تهدد الأندلسيين، والأعمال الهمجية التي قام بها العسكر القشتالي ضد المجاهدين وعائلاتهم، والتجاوزات المتناهية ضد كل أندلسي من طرف رعاع النصارى، خاصة المجزرة الرهيبة التي كان ضحيتها رهائن سجن غرناطة، فقد أخذت أفواج المتطوعين تنضم إلى المجاهدين مفضلة الموت والسلاح في يدها على العبودية أو الموت في الشوارع والبيوت. وانزرعت بذلك في الجهاد روح جيدة من الحماس والقوة. وطلب ملك إسبانيا العون من الممالك النصرانية، فتقاطر عليه المتطوعون والمرتزقة في كل أطراف أوروبا: جاء دون لويس دي ريكسنس من إيطاليا على رأس قوة بحرية تتكون من 24 سفينة نزلت على شاطىء البشرات واشتبكت مع الثوار المسلمين في 28/ 4 / 1569 م. فهزمت القوة وخسرت كثيرًا من قوادها قبل أن ترتد إلى فرجليانة. وفي 13/ 5 / 1569 م سمح نائب الملك في مقاطعة قطلونية للمتطوعين بالالتحاق بالجيش الإسباني لمحاربة المجاهدين، كما سهل في 18/ 5 / 1569 م على الجنود الفرنسيين الاتجاه إلى البشرات. وهكذا اشترك آلاف المتطوعين النصارى من كل أنحاء أوروبا في حرب صليبية حاقدة ضد الأندلسيين، وتقاطروا على مملكة غرناطة برًّا وبحرًا.

كان ابن أمية يقيم في طاعة أجيجير بالبشرات وخطط مع قواته الهجوم على جيش النصارى محاولاً الحفاظ على المبادرة بالاستفادة من المعارك السريعة المباغتة وتجنب المعارك المكشوفة. ووزع المجاهدون فرقهم المقاتلة في ضواحي المرية ووادي المنصورة ووادي آش ووادي شنيل ومرج غرناطة ووادي الإقليم وجبال البشرات وجبال ابن طوميز شرق مالقة ومنطقة رندة، أي كل نواحي مملكة غرناطة القديمة، حتى أنه قيل إن بعض فرق المجاهدين دخلت حاضرة غرناطة نفسها. وأخذ المجاهدون المبادرة في كثير من الأحيان: فاجأ المجاهدون كتيبة من 400 جندي تحت إمرة حاكم وادي آش الذي تحرك بأمر من ماركيز دي بلش لاحتلال مضيق رياحة، فهزموها وقضوا عليها. ثم شتت المجاهدون قوة تحت إمرة حاكم بلش أرادت أن تحتل صخرة فرجليانة، فهزموها وتابعوها إلى بلش. وبقيت فرجليانة في يد المسلمين إلى أن احتلتها قوة دي ريكسنس المتطوعة في 11/ 6 / 1569 م. فأبادت حاميتها التي استبسلت في الدفاع عنها بمشاركة النساء والشيوخ. هكذا حرر المجاهدون في ظرف أسابيع المئات من الحصون والقرى والمدن في كل أنحاء مملكة غرناطة. تقدم جيش الماركيز دي بلش إلى برجة، فزحف إليه ابن أمية في أوائل يونيو عام 1569 م على رأس عدة آلاف من المجاهدين منهم حوالي 400 متطوع مغربي. وكان قائد المعارك المجاهد مشكر. فاشتعلت في برجة أول معركة كبيرة في هذه المرحلة من الجهاد، اضطر ابن أمية على أثرها إلى الانسحاب إلى قديار بعد أن حمّل جيش دي بلش خسائر فادحة. وقد ادعى كل من المجاهدين والنصارى النصر في معركة برجة التي استشهد فيها حوالي 1500 مجاهد. وفي 23/ 5 / 1569 م انضمت منطقتا الحامة ورندة وجبال بني طوميز شرق مالقة إلى الثورة، فطرد مجاهدو تلك المناطق الحاميات القشتالية بقوات تحت قيادة الشريران وفراندو الدرة، وردوا هجومًا شنه حاكم المرية عليهم واضطر إلى الالتجاء إلى بلش مالقة ولم يعد يخرج منها. وسيطر مجاهدو وادي المنصورة، شرق المرية، على سلسلة من الحصون والقرى. وحاصروا قلعة صيرون، أكبر تلك الحصون وأمنعها، منذ 10/ 6 / 1569 م، إلى أن حرروها في 11/ 7 / 1569 م بعد أن هزموا قوة قشتالية برئاسة حاكم بسطة حاولت إنقاذها. كما حرر المجاهدون قصور أرية، ثم حاصروا بيرة في سبتمبر

وأرجبة في أكتوبر، وفي شهر يوليوز توفي أحد قواد الجهاد محمد ابن جهور الصغير، عم محمد بن أمية. بينما كان المجاهدون ينتشرون في كل أنحاء مملكة غرناطة تواجههم قوات دي بلش وفرق المتطوعة النصارى تحت قيادة حكام المناطق، كان دون خوان النمساوي مقيمًا في حاضرة غرناطة منشغلاً عن المعارك بحضور جلسات المجلس العسكري بأمر من أخيه الملك. فوصلته أوامر بتهجير المورسكيين من حاضرة غرناطة في 23/ 6 / 1569 م. وأيد هذا القرار جميع أعضاء المجلس، بما فيهم دي مندوجر. فانتشر الجيش القشتالي في حاضرة غرناطة ومرجها، وبعد فجر ذلك اليوم مباشرة خرج المنادون على أصوات الطبول يعلنون وجوب التحاق المورسكيين بالكنائس، ومنح الرئيس ديسا الأمان لكل من يطيع الأمر. فأذعن أهل غرناطة دون مقاومة، وتجمعوا في الكنائس وقضوا يومهم وليلتهم تحت الحراسة. وفي الصباح فرق الجنود النساء عن الرجال، ثم فرقوا الرجال ما بين الذين تقل أعمارهم عن عشر سنين أو تزيد على الستين وبين الآخرين، وأخذوا هؤلاء بين صفين من الجنود إلى المستشفى الملكي خارج المدينة. ثم انتقوا منهم بعض الصناع والمهرة من العمال الذين سمحوا لهم بالمكوث في غرناطة. وأخذوا الجميع إلى قشتالة، بما فيها مناطق الأندلس التي احتلت قديمًا ومنطقة بطليوس. وعومل المهجرون في الطريق أسوأ معاملة من نهب وقتل، بينما صودرت منازلهم وأملاكهم وأموالهم التي تركوها في غرناطة. ويقدر عدد المهجرين ب 7.000 امرأة و 3.500 رجل لم تصل منهم إلى المناطق المعينة لهم إلا أعداد قليلة، بينما قتل الباقون أو ماتوا جوعًا ومرضًا وتعبًا، أو بيعوا في أسواق النخاسة كعبيد. وزادت هذه الجريمة النكراء على جرائم النصارى في حق أهل الأندلس مستوى جديدًا، وزادت من كره الأندلسيين للقشتاليين النصارى. وانضمت للمجاهدين بسببها أعداد جديدة من المتطوعين الأندلسيين. وفي 3/ 8 / 1569 م تمكنت قوة من المجاهدين بقيادة الناقص من القضاء على قوة قشتالية في وادي الإقليم كانت متجهة إلى أرجبة بالمؤن، وأباد المجاهدون كتيبة قشتالية كانت تحرس جسر الطبلات. وضاعف الأرشذوني هجماته على الحصون التي لا زالت بيد الجيش الإسباني، وشدد ابن المليح قائد منطقة وادي المنصورة هجماته على مدينة أرية، وأصبح المجاهدون على أبواب مدينة المرية.

تم تحرك جيش دي بلش بأمر من دون خوان غرناطة من ميناء عذرة الذي أخذه من يد المجاهدين، وتوجه إلى أشيجر. فأمر محمد بن أمية بيدرو مندوسة الحسين، أحد قواده، باعتراض الجيش المهاجم، فلم يستطع. وفي 3/ 8 / 1569 م سار جيش دي بلش نحو بالور حيث تجمعت قوات المجاهدين تحت قيادة ابن أمية. فقامت بين الطرفين معركة ضارية أرغمت المجاهدين على الانسحاب، وأحرق الجيش بيت ابن أمية في بالور. وفي غشت عام 1569 م أرسل ابن أمية هرناندو الحبقي إلى أمير أمراء الجزائر، علي باشا، مستغيثًا وطالبًا منه مد المجاهدين بالمال والرجال والسلاح فأذاع علي باشا بيانًا يطلب فيه التطوع، فاستجابت له أعداد كبيرة من الجزائريين، اختار منهم 400 رجل سلحهم بالبنادق وأرسلهم في ست سفن مع هرناندو الحبقي تحت قيادة ضابط تركي اسمه حسين، وأرسل معهم كمية مهمة من الذخائر والأسلحة. بينما ذهب علي باشا بباقي المتطوعين لتحرير تونس من الإسبان. وطاف القائد حسين، عند وصوله إلى الأندلس، على تجمعات المجاهدين، وأخبرهم أنه يدرس حاجياتهم، فشد ذلك من عزائمهم. وفي نفس الوقت وصل للمجاهدين متطوعون بالأسلحة والمؤن من المغرب، خاصة من منطقة تطوان. وفي حاضرة غرناطة انتشرت الخلافات في المجلس العسكري لدرجة أدت إلى إيقاف العمليات الحربية ضد المجاهدين. فدعا الملك فليبي الثاني الماركيز دي مندوجر لمقابلته، ولم يعد بعد ذلك إلى غرناطة. ثم اختار المجلس العسكري الحرب ضد المجاهدين كحل وحيد لإنهاء الثورة. وبينما كانت المبادرة في يد المجاهدين وقع قوادهم في مؤامرة خطيرة أدت إلى انكسارهم. وهي أن الإسبان عندما قاموا بمذبحة سجن غرناطة الرهيبة حقنوا دم والد وأخ ابن أمية للضغط على سلطان الأندلس وقائد ثورتها، فسلموهما لمحاكم التفتيش لتعذيبهما. فأرسل ابن أمية رسالة إلى خوان النمساوي يعرض فيها عليه تسليمهما له مقابل ثمانين أسيرًا من النصارى، وإلا انتقم من النصارى الذين تحت سلطته. فاتفق المجلس الحربي في غرناطة على عدم الإجابة، وأرغموا والد ابن أمية بالكتابة لابنه ناهيًا إياه عن متابعة الثورة ونافيًا أية إساءة أو تعذيب. فاغتنم ذلك بعض المتعاملين مع العدو الناقمين على ابن أمية للعمل على قتله، على رأسهم دييكو الوزير، وهو أخ زوجة ابن أمية. فأخذوا يبثون الشك بين ابن أمية

والمتطوعين القادمين من الجزائر. فطلب ابن أمية من قريبه وقائده محمد بن عبو (واسمه الإسباني دييغو لوبيز) ضم الأتراك إلى قوته والسير بهم إلى البنيول ولينتظر هناك أوامره. وكانت غاية ابن أمية تحرير ميناء مطريل دون أن يتسرب خبر اتجاه قوة المجاهدين، للحفاظ على المبادرة. فمر حامل الرسالة على أجيجر، فعلم الوزير منه مضمونها، فتآمر مع كاتب ابن أمية في تزوير رسالة أخرى، وأمر بقتل حامل الرسالة الأولى. فوصلت الرسالة المزورة إلى ابن عبو تأمره بتجريد المتطوعين من السلاح وإعدامهم. فاستنكر ابن عبو هذا الأمر، وآمن بالشائعات التي نشرها العدو حول ابن أمية بأنه يريد مهادنة الإسبان لتحرير والده وأخيه. واعتقد المتطوعون أن ابن أمية قد خان، فقرروا عزله وإعدامه دفاعًا عن الثورة. وسار ابن عبو والمتطوعة الأتراك إلى مقر ابن أمية في لوشر، فقبضوا عليه وواجهوه بالتهم التي يتهمونه بها، وأطلعوه على الرسالة التي بيدهم. فتبرأ ابن أمية من التهم الموجهة ضده، وأكد لهم أن الرسالة مزورة ولم يأمر بكتابتها قط، وأنه ما خان أمته ولا دينه أبدًا. فلم يفده دفاعه عن نفسه، فسجنوه في غرفة، وكلفوا بحراسته دييكو الوزير، كبير المتآمرين عليه، ودييكو أركش، كاتبه. وفي ليل 20/ 10 / 1569 م، قتله هاذان الخائنان خنقًا. وهكذا استشهد قائد ثورة الأندلس ضحية الدسائس والغدر، على يد أبناء أمته، تلك الأمة التي ضحى في سبيلها بالغالي والرخيص والتي بسببها شرد أهله وقتلت أمه وأخوته وزوجته وسجن أبوه وأخوه وما وهن ولا استكان، وأجره عند الله. وكان قتله، والمبادرة في يد المجاهدين، انتكاسة كبيرة للثورة. واقترح قواد الثورة بعد اغتيال ابن أمية، بيعة أحد قائدي المتطوعين، حسين أو أخيه. فرفضا واقترحا مبايعة ابن عبو شرط أن يوافق أمير أمراء الجزائر على ذلك. فوصلت موافقة هذا الأخير مع بعض التعزيزات العسكرية بعد ثلاثة شهور. فنصب ابن عبو سلطانًا للأندلس تحت اسم عبد الله محمد بن عبو. وقد استاء بعض قواد الثورة، كابن مكنون والأرشذوني، من اغتيال ابن أمية، فانسحبوا من الجهاد واختاروا الهجرة إلى أرض الإسلام، وقد انضم إلى الثورة في أوجها ما يقارب ثلاثين ألف مقاتل، منهم حوالي 5.000 من المتطوعين الأتراك والجزائريين والمغاربة.

3/ 4 - مراحل الثورة تحت قيادة ابن عبو:

3/ 4 - مراحل الثورة تحت قيادة ابن عبو: أعاد ابن عبو فور مبايعته، تنظيم جيش المجاهدين. فعين ابن المليح قائدًا على وادي المنصورة ومنطقة بسطة، والشعيبي على البشرات وجبال شلير، وبولود على منطقة المرية. واستقدم السلاح والذخيرة من موانىء المغرب والجزائر. ثم نظم ابن عبو جيشًا، قوامه عشرة آلاف مجاهد، اتجه بهم لحصار مدينة أرجبة وقلعتها أواخر شهر أكتوبر سنة 1569 م، بعد محاولات فاشلة لاقتحام أسوارها. فطلب قائد حاميتها النجدة من خوان النمساوي في غرناطة، فأنجده بقوة تحت قيادة دوق دي سياسة. فلم تفلح هذه القوة في فك حصار المجاهدين الذين قطعوا الطريق إليها في لانجرون. فنجح المسلمون في تحرير أرجبة، ثم حرروا غليرة، وهي قلعة ذات موقع استراتيجي رفيع. فأتت من أشكر قوات مساندة لجيش دوق دي سياسة فهزمهم المجاهدون في معركة عنيفة. واستتبت وحدة المجاهدين حول ابن عبو الذي انتشر سلطانه إلى مناطق مالقة ورندة وكثرت هجماته على مرج غرناطة. وفي أوائل نوفمبر عام 1569 م، حررت قوة من المجاهدين بقيادة خريمينو بن المليح حصن أرية بعد معركة عنيفة، إذ كانت حامية أرية النصرانية تغير على قرى المسلمين المجاورة لها، خاصة منتربة. وفي هذه الأثناء كانت المعارك مشتعلة بين الدولة العثمانية وإسبانيا على الشواطىء التونسية والجزائرية. وفي 19/ 1 / 1570 م أفلح أمير أمراء الجزائر، علي باشا، في تحرير مدينة تونس من يد الإسبان والقضاء على ما تبقى من الدولة الحفصية التي أصبحت تحت حماية الإسبان. لذا جمع ملك إسبانيا أقصى ما يمكن من قواته للقضاء على الثورة الأندلسية. فجهز ثلاثة جيوش: أكبرها تحت قيادة أخيه خوان النمساوي، وثانيها تحت قيادة دوق دي سياسة، وثالثها تحت قيادة أنطونيو دي لونا. ونجحت هذه الجيوش الثلاثة في أخذ المبادرة من يد المجاهدين، وقد تزعزعت وحدتهم بعد مقتل ابن أمية، وقلت الإمدادات التي كانت تصلهم. وقرر الملك حسم الموقف مهما كان الثمن خوفًا من أن ينضم مسلمو بلنسية ومرسية إلى المجاهدين. فأمر الملك في أواخر ديسمبر عام 1569 م، جيش خوان النمساوي بالتحرك. فانطلق الجيش من غرناطة إلى حصن أبشر، ومنه إلى وادي آش، ووصل إلى بسطة في 29/ 12 / 1569 م حيث أقام بضعة أيام لتنظيم خطته. ثم اتجه خوان النمساوي بقوة تعدادها 12.000 جندي إلى حصن غليرة، واحتل في طريقه من يد المسلمين

حصن غولجر. وكان يدافع على غليرة حوالي 3.000 من المجاهدين، من بينهم فرقة من المتطوعين العثمانيين، وساهم في الدفاع عنها النساء الأندلسيات بأسلحتهن. وكان ماركيز دي بلش قد حاصر غليرة مدة طويلة، وعجز عن احتلالها، فأقاله خوان النمساوي في ديسمبر عام 1569 م. قاوم المدافعون عن غليرة جيش خوان النمساوي مقاومة عنيفة، ومنعوه من اقتحام الحصن والبلدة. فحفر الجيش خندقًا حول البلدة، واستعمل المدفعية ضد حصنها، ثم حاصرها حصارًا طويلاً تكبد فيه مئات القتلى والجرحى. وفي 10/ 2 / 1570 م انهارت مقاومة المجاهدين ودخل الجيش البلدة في حمى جنونية من القتل والسلب. وأمر خوان النمساوي بقتل جميع الأسرى من رجال ونساء وأطفال، قتل منهم 1400 بحضوره، وخربت البلدة، وشتت الملح على أرضها. وفي نفس الشهر توجه جيش خوان النمساوي شرقًا، وزحف على بلدة صيرون، فتوجهت إليه قوة تعدادها حوالي ستة آلاف مجاهد بقيادة الحبقي وابن المليح. ووقعت معركة طاحنة حول البلدة، قتل فيها المجاهدون عددًا كبيرًا من الجنود والضباط الإسبان على رأسهم دون لويس كيخادا، مربي خوان النمساوي قائد الجيش، وكان يعده في رتبة والده، كما كان كيخادا صديقًا مقربًا للملك شارل الخامس. فهزم المجاهدون جيش خوان النمساوي وشتتوه وكادوا أن يقتلوا قائده. ثم وصلت تعزيزات جديدة للجيش الإسباني فعاد إلى حصار صيرون، ونجح في 5/ 3 / 1570 م في اقتحام البلدة. فنجا الحبقي مع قلة من المجاهدين، بينما فشا القتل والسلب والنهب والاسترقاق فيمن وقع في يد الجيش. ثم توجه جيش خوان النمساوي غربًا، فاحتل حصن نجولة واسترق فيه 400 طفل وامرأة، ودمره. ثم احتل على التوالي حصون برشانة وكنتورية وتهالي. وفي أواخر أبريل وصل الجيش إلى سهل البدول بالبشرات، وانتظر قدوم جيش دوق دي سياسة. خرج جيش دوق دي سياسة من غرناطة في شهر فبراير وعبر جبال البشرات من الغرب إلى الشرق ينشر القتل والرعب والدمار في طريقه إلى أن وصل في أواخر شهر أبريل إلى سهل البدول بالبشرات حيث التقى بالجيش الأول. وخرج جيش أنطونيو دي لونا من أنتقيرة، فوصل في أوائل شهر مارس إلى جبال بني طوميز شرق مالقة لإخضاعها.

وفي 14/ 3 / 1570 م، أمر خوان النمساوي باقي المسلمين في حاضرة غرناطة ومرجها بالخروج منها إلى قشتالة. وفي 19 مارس جمعهم الجيش في قوافل ووزعهم على قرى قشتالة النائية، وقد مات أكثرهم في الطريق مرضًا أو قتلاً، وبيع عدد كبير منهم في أسواق النخاسة. وأمام هذا الوضع الحرج أخذ السلطان ابن عبو يستغيث بالدولة العثمانية من جديد. فأرسل كتابًا إلى أمير أمراء الجزائر، علي باشا، وآخر إلى مفتي القسطنطينية مؤرخًا بـ 11 شعبان عام 977 هـ (11/ 2 / 1570 م) هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم، العزة لله، من عبد الله المتوكل على الله، الحي بفضله وقدرته، المجاهد في سبيله، أمير المؤمنين، المستمسك بشريعة الله، مبيد الكفار وقاهر جيوش العاصين لله، مولاي عبد الله محمد بن عبو، بارك الله مسعاه، وسدد خطاه ليسترد عزة الأندلس، ويجدد نهضتها، نصرها الله القدير، وهو القادر على كل شيء، إلى صديقنا وحبيبنا الخاص، السيد العظيم، والشريف الكريم، السامي المتقدم، العامل المحسن، الخائف من الله، أنعم الله عليه بنعمة الغفران". "أما بعد فسلام الله عامة على دولتنا العلية، ونعمته وبركاته الوفيرة. أيها الأخ العزيز، لقد بلغتنا أنباء دولتكم العلية، وشخص السلطان الكريم، وما صدر عنه العطف على التعساء البائسين، وأنه سأل عنا، مهتمًا لمعرفة ما يجري لدينا، وأنه اهتم وتألم لما أصابنا من ضنك ونصب على أيدي أولائك النصارى، وأن صاحب الجلالة والعظمة السلطان قد أرسل إلينا كتابًا مختومًا بخاتمه يعدنا فيه بالنصرة بعدد وافر من الرجال المسلمين، وبما نحتاج إليه من العون والعدد التي تسمح لنا بالحفاظ على هذه الأرض". "وبما أننا نقاسي المتاعب الشديدة في هذه الأزمة المريرة، فإننا نلجأ من جديد إلى الباب العالي، نطلب النجدة والمعونة والنصر عن يدكم. فالنجدة النجدة، بالله القاهر فوق الناس جميعًا. ونرجو من سيادتكم إعلام السلطان القادر بأحوالنا وإخباره بأخبارنا، بالحرب الكبرى التي نخوضها، وقولوا لعظمته إنه إذا أراد أن يشملنا برعايته وعطفه فليبادر إلى إنجادنا بسرعة قبل أن نهلك، فهناك جيشان قويان يتجهان إلينا لمهاجمتنا من جهتين. وإننا إذا ما اندحرنا في المعركة، فإن الله سبحانه سيحاسبه على ذلك حسابًا عسيرًا يوم القيامة، يوم لا تنفع القوة في الحجة. والسلام عليكم ورحمة

الله وبركاته. حرر يوم الثلاثاء في الحادي عشر من شهر شعبان 977 هـ. مولاي عبد الله محمد بن عبو". وخذل العالم الإسلامي مرة أخرى الأمة الأندلسية. ففي هذه الثورة الأخيرة التي ضحى فيها الأندلسيون تضحية لم يضحها شعب في التاريخ قبلهم، للحفاظ على دينهم الإسلام ولغتهم العربية وحضارتهم، لم تبعث الدولتان الإسلاميتان في البحر الأبيض المتوسط حينذاك، العثمانية والسعدية، إلا بمساعدات ضئيلة ومتأخرة. ومعظم من انضم إلى المجاهدين الأندلسيين من أتراك وجزائريين ومغاربة إنما تطوعوا للجهاد في سبيل الله وطلب الاستشهاد وقد استبسلوا في القتال واستشهدوا بالآلاف. كانت الدولة العثمانية أكثر قوة من الدولة السعدية ومقدرة على مناصرة الأندلسيين. فلماذا لم تفعل؟ يظهر أن أمير أمراء الجزائر اهتم أكثر باستعمال ثورة الأندلسيين لتحرير تونس والشواطىء الجزائرية والتونسية من الإسبان من أن يساعد الأندلسيين على النصر. فهل نوى العثمانيون فعلاً مساعدة الأندلسيين على تحرير أرضهم، أم أنهم أرادوا فقط الضغط على إسبانيا لتحسن وضعهم، أو استعمالهم لكسب مكاسب ضد إسبانيا خارج الأندلس؟ كانت الحكومة العثمانية عارفة بأوضاع الثورة الأندلسية معرفة جيدة، وعلى صلة وثيقة ومتواصلة مع زعمائها. لكنها كانت مجزأة بين فكرتين: مساعدة الثورة الأندلسية حتى تنتصر، أم فتح قاعدة البندقيين، جزيرة قبرص، التي كانت تسبب متاعب جمة للدولة. كان الصدر الأعظم، محمد الصقلي، من أنصار الهجوم على إسبانيا وتحرير الأندلس، واقترح على السلطان سليم الثاني تأجيل فتح قبرص. بينما كانت بطانة السلطان تؤيد استخلاص قبرص أولاً من البندقية، إذ بدا لها فتح قبرص أسهل من تحرير الأندلس. وكان سليم الثاني يأمل في التحالف ضد الإسبان مع ملك فرنسا، شارل التاسع. وحيث ظهر تردد ملك فرنسا في قبول هذا التحالف تحت ضغط الكنيسة، فقد رجح السلطان رأي الذين فضلوا البداية بفتح قبرص. وفعلاً فتحت الدولة العثمانية قبرص في غشت عام 1571 م بعد أن انهزمت الثورة الأندلسية وانقضى أمرها. كان سلطان المغرب أبو محمد عبد الله الغالب السعدي متهمًا من طرف الأندلسيين بالتواطؤ مع الإسبان مخافة توسع الدولة العثمانية. فربما لم يكن يرى

بعين الرضى قيام دولة أندلسية شمال المغرب تحت النفوذ العثماني. وقد سبق له سنة 970 هـ (1563 م) أن أدخل بالقوة 14.000 مهاجر أندلسي في الجيش وأسكنهم حي رياض الزيتون بمراكش. فأصبح بذلك الغالب بالله مكروهًا لدى جميع الأندلسيين، إذ اعتبروا تجنيدهم بالقوة استرقاقًا لهم. ولما قامت الثورة الأندلسية، أرسل قائدها، ابن أمية، سفارة برئاسة فراندو الحبقي إلى السلطان السعدي. وأشار إلى هذه السفارة المؤرخ الجنابي قائلاً: "وأرسل هؤلاء (يعني المجاهدين الأندلسيين) إلى الشريف مولاي عبد الله يستمدونه فلم يمدهم بسبب قلة الأغربة والمراكب عنده ولعلة أخرى". وكان صاحب "تاريخ الدولة السعدية"، الكاتب الأندلسي المجهول، أكثر وضوحًا إذ قال عن المجاهدين الأندلسيين: "فصاروا يكتبون إلى ملوك المسلمين شرقًا وغربًا وهم يناشدونهم الله في الإغاثة، وأكثر كتبهم إلى مولاي عبد الله لأنه هو القريب إلى أرضهم، وكان قد قوي سلطانه وصحت أركانه وجندت أجناده وكثرت أعداده. فأمرهم غشًّا منه بأن يقوموا على النصارى ليثق بهم في قولهم بظهور فعلهم. فلما قاموا على النصارى تراخى عمّا وعدهم به من الإغاثة، كذب عليهم غشًّا منه لهم ولدين الله عز وجل، من أجل مصلحة ملكه الزائل ... وكانت بينه وبين النصارى مكاتبات في ذلك ومراسلات وأنه استشار معهم، وأشار عليهم أن يخرجوا أهل الأندلس إلى ناحية المغرب. وقصده بذلك تعمير سواحله، ويكون له منهم بمدينتي فاس ومراكش جيش عظيم ينتفع به في مصالح ملكه. فلما قاموا على النصارى عن إذنه وانشغلوا معهم بالقتال، أرسلوا رؤساءهم وكبراءهم وذوي شأنهم إلى العدوة ليستغيثوا بالسلطان وبجماعة المسلمين في الإعانة، وتركوا أهل الأندلس كلهم متمنِّعين في جبال غرناطة وهم يقاتلون النصارى. فلما وصلوا إليه تراخى عنهم وطوّل عليهم مقامهم. فأتتهم المكاتبة من أهلهم بأنهم اطلعوا على مكاتبات بين السلطان وبين النصارى ومصادقة وتدبير على المسلمين. فصح عندهم ذلك، وظهر بالإمارات الدالة عليه من كثرة قعودهم ومرور الأيام عليهم بلا فائدة، فأمرهم أن يصطلحوا مع النصارى على أن يتركوهم يجوزوا لهذه العدوة". هذا هو وضع المساندة التي كان يتوقعها الأندلسيون من إخوانهم، وبسببه غامروا بحياتهم ووجودهم. وفي أبريل سنة 1570 م، أصبح هذا الوضع واضحًا

3/ 5 - الانهزام والاستسلام:

لقواد المجاهدين. فأخذت العزائم تخور، والأمل بالنصر يضعف، والشعور بخذلان العالم الإسلامي ينتشر. 3/ 5 - الانهزام والاستسلام: بعد التقاء جيشي خوان النمساوي ودوق دي سياسة في سهل البدول، اتجها جنوبًا إلى أندرش حيث وصلا في شهر مايو. وتوجهت من أندرش كتائب بقيادة دوق دي سياسة لإخضاع حصون كمبيتة ومارو ونرجة وبرجة وقمارش وكوثر وبني مرغوشة، فاحتلوها ونقلوا أهلها الذين سلموا من القتل والاسترقاق إلى قشتالة. وتتابعت المعارك في منطقة رندة غربًا، وحرر المجاهدون حصن الحصينة وقصر بنيرة، وحاصروا أربوطو في الجبل الأحمر. فتوجه إليهم جيش بقيادة دوق دي أركش دخل معهم في معارك أدت إلى انهزامهم واستسلامهم في 20/ 9 / 1570 م. وأمام هذه الانهزامات المتواصلة، ويأس المجاهدين من أي عون فعال من العثمانيين والسعديين، افترق المجاهدون بين ثلاثة آراء: منهم من آثر متابعة الجهاد إلى الاستشهاد، مفضلاً ذلك عن الاستسلام وما يتبعه من تنصير واسترقاق أو الموت ذلاًّ تحت سلطة الأعداء، وكان ابن عبو على رأس هذا الفريق. ومنه ممن رأى عدم جدوى متابعة الجهاد ورجح التفاوض مع النصارى للاستسلام بأفضل الشروط الممكنة، وكان فراندو الحبقي على رأس هذا الفريق. ومنهم من آثر الهجرة بنفسه وأهله إلى السواحل الجزائرية والمغربية والخروج من الجحيم الذي هم فيه، فعبر البحر منهم عدد كبير منذ فبراير عام 1570 م. وفي 5/ 2 / 1570 م اجتمع في مرتفعات جبل شلير هرناندو برادة، أحد وجوه وادي آش الأندلسيين، بالحبقي الذي أصبح قائدًا عامًا لجيوش المجاهدين بعد استشهاد ابن المليح في غليرة. دخل برادة وسيطًا بين الإسبان والمجاهدين بموافقة خوان النمساوي، وعرض على الحبقي إنهاء القتال مقابل العفو العام عن المجاهدين. وتتابعت المفاوضات، فاقترح الحبقي على خوان النمساوي إقناع ابن عبو وباقي زعماء الأندلسيين بالاحتفاظ بالبشرات والتخلي عن جميع ما بيدهم من مناطق خارجها، بما فيها وادي المنصورة، وإعلان الهدنة، مقابل إعطاء الأمان على أرواح جميع المجاهدين. وافق خوان النمساوي مبدئيًّا على ذلك، واستصدر أمرًا ملكيًّا بالعفو عمن يسلم سلاحه من الأندلسيين في ظرف عشرين يومًا من إعلانه، شرط أن يكون عمره بين الخامسة عشرة والخمسين عامًا، وأن ينضوي تحت قيادة وطاعة الملك فليبي

الثاني. ويسمح القرار لكل من يستسلم بتقديم شكواه ويعد ببحثها بعناية. كما وعد القرار بإعطاء جائزة لكل من يستسلم، وإطلاق سراح شخصين من عائلته. وحكم القرار بالإعدام على من يرفض الاستسلام، عدا النساء والأطفال دون الخامسة عشرة. وعين القرار مراكز للاستسلام تابعة لخوان النمساوي والدوق دي سياسة. ووزعت بين الأندلسيين مناشير مزورة باسم أحد الفقهاء تدعو المجاهدين إلى الاستسلام "تخلصًا من المصائب التي جرها عليهم ابن عبو". وفي نفس الوقت تابع خوان النمساوي القتل والسبي بين الأندلسيين مسالمين كانوا أو محاربين. وفي هذا الجو القاتم تتابعت المفاوضات. ورفض معظم المجاهدين الاستجابة لنداء خوان النمساوي لعدم ثقتهم بوعود النصارى. ومال ابن عبو إلى التفاوض للحصول على أحسن ظروف الاستسلام، عندما عجز عن الدفاع عن قومه وتخليصهم مما أصابهم. أمر خوان النمساوي دون ألونسو دي غرناطة بنيغش، أحد زعماء الأندلسيين، بالكتابة إلى صديقه ابن عبو لحثه على الاستسلام. فكتب له رسالة بتاريخ 18/ 4 / 1570 م حاول فيها إقناعه بإنهاء "هذه الحرب المشؤومة"، ويطلب منه إرسال وفد باسمه للتفاوض على شروط الاستسلام والمصالحة. فرد ابن عبو رسالة بتاريخ 24/ 4 / 1570 م يرمي فيها مسؤولية إشعال الثورة ومآسي الحرب على القشتاليين بسبب اضطهادهم للأندلسيين وإرغامهم على التنكر لدينهم، وأكد في رسالته عدالة الجهاد، ورفض الاستسلام بدون شرط. ثم طلب ابن عبو من بنيغش الحصول على أمان من الملك للحبقي ليتفاوض مع القشتاليين باسم المجاهدين لإنهاء الحرب. وهكذا عين ابن عبو الحبقي مفاوضًا رسميًّا باسم الثورة الأندلسية، وجعله ممثلة المؤتمن. وتتابعت المفاوضات بين الإسبان والحبقي عن طريق هرناندو برادة وألونسو بنيغش. ثم اجتمع الحبقي مع مندوبي الملك عدة مرات. وفي 13/ 5 / 1570 م اقترح الحبقي على بنيغش في فندون أندرش شروط الاستسلام. فنقلها بنيغش إلى خوان النمساوي الذي جمع المجلس العسكري. فطلب المجلس أن يأتي الحبقي بتفويض من قادة المجاهدين بتمثيلهم. فعاد الحبقي إلى فوندون أندرش يوم 19/ 5 / 1570 م بتفويض من ابن عبو، وتم الاتفاق مع ممثلي الإسبان على أن ذهب باسم ابن عبو وباقي قواد الجهاد إلى الأمير خوان النمساوي ويسلم إليه السلاح والعلم ويطلب الصفح والرحمة. وبعد ذلك يعفو عنه الأمير باسم الملك، ويصدر العفو العام عن

الأندلسيين، ويضمن لهم حياتهم وأملاكهم، ويؤمنهم من الاعتداء عليهم، ويسمح لهم بإقامة العلاقات الاجتماعية فيما بينهم من زواج إلى آخره ... ويرسل المحاربين المستسلمين مع نسائهم وأطفالهم إلى الأماكن التي تحدد لهم على أن تخلى جبال البشرات منهم. وقبل الحبقي الشروط جميعها. وتنفيذًا للاتفاق، تقدم الحبقي في 22/ 5 / 1570 م على رأس 300 مجاهد إلى خيمة خوان النمساوي في أندرش، وسلمه سيفه وعلم الاستسلام باسم ابن عبو. فقبله الأمير، وأرجع له سيفه، ومنحه الأمان بألا يتعدى عليه ولا يزعج ولا يلاحق ولا ينهب، وسمح للمستسلمين بالإقامة أينما أرادوا في مملكة غرناطة خارج البشرات. ثم عاد الحبقي إلى ابن عبو ليخبره بما تم، وأرسل معه خوان النمساوي مندوبين لقبول الاستسلام من ابن عبو. فلما اطلع ابن عبو على الشروط التي وافق عليها الحبقي اتهمه بتجاوز التفويض الذي أعطاه إياه، واتهمه بالغدر والخيانة، إذ لم يحصل للأندلسيين على شيء، كإلغاء قرارات التنصير ومحو اللغة العربية. وفوق كل ذلك، وافق الحبقي على تهجير الأندلسيين من البشرات. فلم الجهاد؟ ولم التضحيات؟ وفي 25/ 5 / 1570 م عاد الحبقي إلى معسكر خوان النمساوي وأخبره بمعارضة ابن عبو للاتفاقية، ثم اقترح عليه تنفيذها دون ابن عبو، وأن يأتي به موثوقًا. فوافق خوان النمساوي، وأرسل في نفس الوقت ممثلاً عنه إلى ابن عبو يوم 28/ 5 / 1570 م يحاول إقناعه بالاستسلام، فلم يفلح. وساند المتطوعون موقف ابن عبو، فعمل الحبقي على إرجاعهم إلى بلدانهم، وأخذ يروج للاستسلام. فتوجه على رأس قوة للقبض على ابن عبو، لكن المجاهدين هزموه وقبضوا عليه وسلموه موثوقًا لابن عبو الذي اتهمه بالخيانة وأمر بإعدامه. فأعدم الحبقي وأخفى ابن عبو موته لمدة ثلاثين يومًا. وتابع ابن عبو المفاوضات مع خوان النمساوي على شروط أفضل بواسطة هرناندو برادة، وتابع في نفس الوقت جهوده في إعادة بعث الثورة، فأرسل رسله إلى المناطق المختلفة يحثون الأندلسيين على متابعة الجهاد. وقد احتفظ التاريخ برسالة جوابية مؤثرة من ابن عبو إلى برادة بتاريخ 3/ 7 / 1570 م، وهي بالدارجة الغرناطية، وهي آخر وثيقة عربية أتت من الأندلس، هذا نصها: "الحمد لله وحده قبل الكلم، أسلم مكرمو على من كرمهو سيدي وحبيب وعز من عندي دن هرنتدو، وني نعلم حرمتكم ين. أكن أنت تقول تجي عندي، تجي عند أخكم وحبيبك، وتجي مطمئن، وكل ميجكم فملي وذيمتي. وكن أنت تريد تترطل

فذى المبركم مين سلح، كل متعمل تعملو معي، وني نعمل معك كل متريد بحق وبل غدر. ودهر لي من الحبقي بن أشمكن يعمل معلمن ولطلعن ي على حق. وذهر لي يذ اسم للمطلب يرحو وينسو وتسحبو وبعد رعي. وديب أني نعرف حرمتك بهذا شي وكرمتك، اعمل الذي يذهر لكم عمل ميسلح بصرر. ويذ وعسي يقذيا الله خير بينين، وتكن حرمتكم أسبب فهذا شيء ومحملن مفدتكم بل آش كن معي من يكتيلي يل كنكن كتبلكم أكثر. وسلم وعليكم ورحمتو الله وبركتو الله. كتيب الكتب يوم الثليث فشهر أليو فعم 70". وفي 30/ 7 / 1570 م أرسل خوان النمساوي مبعوثًا ليتفاوض مع ابن عبو وعرض الاستسلام عليه مقابل عروض مغرية لشخصه. فأجاب ابن عبو بأنه يشهد الله أنه لا يرغب في الملك، وحيث إن الأمة الأندلسية انتخبته سلطانًا عليها فإنه لن يستسلم ولو ظل مجاهدًا وحده في البشرات، وأن لديه ما يكفي من الغذاء والماء لمدة ست سنوات، وإذا انتهت مؤونته فهو يفضل عبور البحر لأرض المسلمين على الاستسلام. وعندما رأى خوان النمساوي هذا الموقف من ابن عبو، وعلم مقتل الحبقي، قرر إنهاء الثورة بالقوة. فحاول ابن عبو تنظيم المقاومة من جديد في البشرات، وأرسل أخاه غالب إلى منطقة رندة لقيادة الجهاد فيها. بينما اتجه خوان النمساوي بقواته إلى وادي آش حيث التقى بقوات دوق دي سياسة. وخرج من غرناطة جيش ثالث بقيادة دون ركيصانص في اتجاه البشرات. وسار جيش رابع بقيادة دوق دي أركش إلى بسائط رندة وجبالها فقضى على المجاهدين في تلك المنطقة في 20/ 9 / 1570 م. وفي نفس الشهر شن دون ركيصانص هجومه الشامل على البشرات، فقتل وحرق وحطم وأباد الشيوخ والأطفال والنساء، ووزع على الجنود كعبيد من نجا من نساء وأطفال المسلمين من الموت. ومن أفعاله الشنيعة إشعال النيران على مداخل الكهوف لخنق المختبئين فيها. وأمام هذه الهجمة الجديدة لم يبق للجهاد قوة تذكر للدفاع عن الأندلس. فأخذت جيوش قشتالة تمزق كل السرايا المقاومة فانهارت المقاومة، وامتلأت الشواطىء المغربية والجزائرية باللاجئين الفارين بدينهم وأرواحهم. وتابع ابن عبو المقاومة في أعلى وأوعر منطقة من البشرات، لم يبق معه سوى 400 مجاهد، من بينهم برناردينو ابن عامر وكونسالفو الشنيش. وضاقت رقعة

المجاهدين بين برشول وترفلش، فأوعز الإسبان إلى الشنيش بقتل ابن عبو مقابل عفوهم عليه. وكان الشنيش يحقد على ابن عبو لأنه منعه من عبور البحر إلى المغرب. وكان الإسبان قد قبضوا عليه وأطلقوا سراحه ومنحوه الأمان ووعدوا بتسليمه زوجته وابنتيه الأسيرات مقابل الإتيان بابن عبو حيًّا أو ميتًا. وفي 13/ 3 / 1571 م نجحت المؤامرة إذ هجم الشنيش وستة من أتباعه على ابن عبو في الكهف الذي كان مختبئًا فيه، فقاوم حتى استشهد. فسلم الخونة جثمانه للإسبان الذين حملوه إلى غرناطة، وأدخلوه المدينة في حفل ضخم، ووضعوه في قفص حديدي بعد أن ألبسوه لباسًا كاملاً وكأن صاحبه حي، ثم حملوه على فرس، وقطعوا به المدينة تتبعه أفواج من أسرى الأندلسيين. ثم حمل الجثمان إلى النطع. وأجرى فيه حكم الإعدام، فقطعوا الرأس وسحلوا الجسم في الشوارع فمزق أطرافًا ثم أحرق في أكبر ساحات غرناطة بهمجية لا تضاهى. ووضعوا الرأس في قفص من حديد رفع فوق باب المدينة باتجاه البشرات حيث بقي معلقًا لمدة ثلاثين سنة. ولم تنته الثورة تمامًا إلا سنة 1573 م باستسلام مناطق غليرة وصيرون وبرشانة ومناطق وادي المنصورة في ولاية المرية. وابتدأت بعد انهيار ثورة غرناطة الكبرى مأساة جديدة لم ير الشعب الأندلسي مثيلاً لها من قبل، إذ أعلن الملك فليبي الثاني في 28/ 10 / 1570 م، قبل استشهاد ابن عبو، قرارًا بنفي الأندلسيين من مملكة غرناطة إلى مختلف مناطق قشتالة وليون. وقبل إنهاء هذا الفصل، لنر خصائص هذه الثورة الفريدة في الاستماتة والتنظيم والشجاعة ضد أقوى جيش في أوروبا آنذاك، بأقل الإمكانيات وأقل مساندة خارجية. استعمل المجاهدون الأندلسيون تضاريس الجبال ومعرفتهم بالبلاد أحسن استعمال، فكانوا يضربون العدو ضربات سريعة ينتقلون بعدها بسرعة من جبل إلى آخر، ويتحاشون المعارك الطويلة، فكانوا مبدعين حتى في محنتهم، إذ اخترعوا حرب العصابات وأتقنوها. فخارت في أول الأمر معنويات الجيش الإسباني الذي كان يخوض حربًا كلاسيكية، خاصة بعد أن عمل المجاهدون على تجويعه بحرق المحاصيل الزراعية. ثم تحول الجنود الإسبان إلى مجرمين بقتل أو استعباد جميع من يقع في يدهم من أسر المجاهدين، من أطفال وشيوخ ونساء للقضاء على معنوياتهم. ومن ناحية أخرى، لم يستطع زعماء الجهاد التغلب على نزاعاتهم الجانبية بين أهل حاضرة غرناطة مثلاً وأهل البشرات. وربما كانت تلك النزاعات هي سبب تقاعس

قاعدة غرناطة ومرسية عن الانضمام إلى الثورة في أول أمرها. ولم يكن الجانب الإسباني موحدًا كذلك، إذ كانت العداوة قوية بين ديسا ومندوجر، وبين سياسة وبلش. وكانت القوات المتحاربة ضخمة بالنسبة لمجموع عدد السكان، إذ كان عدد المجاهدين في أول الثورة حوالي 4.000 مجاهد، ووصل إلى 30.000 مجاهد في قمتها. وتدل هذه الأرقام على المجهود الضخم الذي قام به الأندلسيون لتحرير بلدهم، كما يدل على إجماعهم على المقاومة. ولم يقل عدد القوات النظامية التي جابهتهم عن ثلاثين ألفًا، مسلحة بسلاح أفضل بكثير. ووقع ضحية هذه الثورة عشرات الآلاف من الأندلسيين، خاصة النساء والأطفال، كما قتل عدة آلاف من الإسبان. ولقد انضمت للثورة جميع أراضي مملكة غرناطة عدا المدن الكبيرة كحاضرة غرناطة والمرية ووادي آش وبسطة وأشقر ومطريل.

مراجع الفصل الثالث

مراجع الفصل الثالث 3/ 1 - Diego Hurtado de Mendoza "Guerra de Granada" ed. B. Blanco Gonzalez, Madrid, 1970. 3 / 2 - L. del Marmol Carvajal "Historia de la Rebelion y Castigo de los Moriscos del Reino de Granada" Biblioteca de Autores Espanoles, t. XXI, p. 123 y ss. 3 / 3 - Gines Perez de Hita "Guerra Civiles de Granada" Primera Parte, Madrid, 1913. 3 / 4 - نبيل عبد الحي رضوان "جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث" رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1987 م. 3/ 5 - محمد حجي "الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين" الرباط، 1976. 3/ 6 - Ref. (3.2) t. III, Cap. IX. وترجمتها بالعربية من كتاب محمد عبد الله عنان "نهاية الأندلس" الطبعة الثالثة، ص 362 - 363. 3/ 7 - عبد الجليل التميمي "الدولة العثمانية وقضية المورسكيين" المجلة التاريخية المغربية، تونس، العدد 23 - 24، نوفمبر، 1981. 3/ 8 - محمد عبده حتاملة "التهجير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملك فليب الثاني" 1527 - 1598 - عمان، الأردن، 1982. 3/ 9 - Julio Caro Baroja "Los Moriscos del Reino de Granada" Ediciones Isfmo, Madrid, 1976, Cap. 6. 3 / 10 - أسعد حومد "محنة العرب في الأندلس" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1988، ص 389 - 336.

3/ 11 - Ref. (3.2) t. IV, Cap. IV, p. 185. 3 / 12 - Luis Cabrera de Cordoba "Felipe Segundo, Rey d e Espana" Ma- drid, 1876-77, Vol. I. p. 554 (Lib. VII, Cap, XXI) . 3 / 13 - Compte de Circourt "Histoire des Arabes d'Espagne" Paris, 1846, Vol. 2, p. 316-443. 3 / 14 - مرجع (3 - 4) ملحق رقم 2. 3/ 15 - DACB, Dietari de l'Antic Consell Barceloni, V, 85, 86. 3 / 16 - Diego Hurtado de Mendoza "De la Guerra de Granada" Edicion Critica preparada por Manuel Gomez Moreno, Memorial Historico Espanol, XLIX (Madrid) , 1948, p. 158-204. 3 / 17 - Ref. (3.2) , Lib. VI-X. 3 / 18 - Ref. (3.2) , Vol. 21, p. 317. الترجمة العربية من المصدر (3 - 10)، ص 331. 3/ 19 - أبو القاسم الزياني "الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب" مخطوط الخزانة العامة بالرباط (المغرب) رقم 658 د. ص 350. 3/ 20 - مصطفى بن حسين الجنابي "البحر الزخار والعيلم التيار" مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط، عدد 1507، ص 535. 3/ 21 - مؤرخ مجهول "تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية" نشره جورج كولانا بالرباط (المغرب) سنة 1934، ص 37 - 38. 3/ 22 - Ref. (3.16) , p. 215. 3 / 23 - M. Alarcon "Miscelaneo de Estudios y Textos Arabes" 1915, p. 691 Madrid. ( صورة عن الرسالة)

الفصل الرابع التشتيت وزيادة القهر (1570 - 1608 م)

الفصل الرابع التشتيت وزيادة القهر (1570 - 1608 م) 4/ 1 - إخراج المورسكيين من مملكة غرناطة: في 5/ 3 / 1570 م، وقبل انتهاء ثورة غرناطة الكبرى، قرر المجلس الملكي الإسباني إقصاء المورسكيين جميعًا من مملكة غرناطة وتوزيعهم على قشتالة، خارج حدود دولة بني الأحمر القديمة. وقد رأينا أن جماعة من أهل حاضرة غرناطة رحلوا منذ 29/ 3 / 1570 م في ظروف قاسية، ونقلهم الجيش الإسباني إلى بلدة مونتيلا (مقاطعة قرطبة) ومنطقة قلعة رباح جنوب طليطلة. وفي 28/ 10 / 1570 م أرسل فليبي الثاني إلى أخيه خوان النمساوي أمرًا مجددًا بإخراج جميع المورسكيين، المحارب منهم والمسالم، من مملكة غرناطة. ومنذ 1/ 11 / 1570 م ابتدأ جيش خوان النمساوي يجمع بالقوة سكان القرى والمدن المورسكيين، كل جماعة في بلدة سكناها، ليقودهم إلى أماكن تهجيرهم في قشتالة، وفي مناطق الأندلس المحتلة قديمًا. وصدر القرار بمصادرة جميع أملاك المهجرين الثابتة، وسمح لهم بنقل أملاكهم المنقولة. وقد اعتقدت إسبانيا النصرانية، حكومة وكنيسة، أن إخراج الغرناطيين قاطبة من ديارهم وتشتيتهم على أنحاء مملكة قشتالة في مناطق لا يعرفونها هو الحل النهائي والوحيد للقضاء على روح المقاومة والجهاد فيهم. وجزّأ القائمون على التهجير مملكة غرناطة إلى سبع مناطق، جعلوا كل منطقة تحت إدارة مسؤول (أو مسؤولين أو ثلاثة) يقوم بتهجير سكان تلك المنطقة، كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالاً. واختاروا مركزًا للتجمع لكل منطقة من المناطق السبعة، وهي: رندة ومالقة في ولاية مالقة، وغرناطة ووادي آش وبسطة في ولاية غرناطة،

والمرية وبيرة في ولاية المرية. واختار القائمون على التهجير لكل نقطة تجمع من النقاط السبعة حوالي 12 نقطة تجمع ثانوية، عينوا عليها ضابطاً تحت إمرة المسؤول العام في نقطة التجمع المركزية مسؤولاً عن تجميع السكان. ودامت هذه المرحلة من تجميع المورسكيين أسبوعًا واحدًا، حاول الاختفاء خلالها الكثيرون، بينما حاول آخرون البرهنة على حسن نصرانيتهم، وانضم آخرون إلى المقاومة. وعمل الجيش بكل قساوة وطغيان على جمع أكبر عدد من المورسكيين في المستشفيات والكنائس والأديرة حتى وصل عددهم إلى حوالي 5.000 موريسكي في ولاية مالقة (مالقة ورندة) و 26.400 في ولاية غرناطة (12.000 في غرناطة و 12.000 في وادي آش و 2.400 في بسطة) و 14.500 في ولاية المرية (8.500 في المرية و 6.000 في بيرة)، أي يكون المجموع حوالي 46.000 مورسكيا. وهذا هو العدد الذي أخبر به فرنسيسكو كوتيرس دي كويلار الكاردينال دي سيكونزة في رسالة قال فيها: "كنت قلت لك في رسالة سابقة بأن عدد المسلمين الذين طردوا هذه المرة من هذه المملكة (يعني غرناطة) يزيد على 35.000 نفس، لكني علمت بعد ذلك أن زيادة على الرقم الذي ذكرته لك فلقد أخرج من وادي المنصورة حوالي 11.000 شخص آخرين، وبهذا يكون مجموع من أخرج من المملكة ما يقارب 50.000 نفس". وبعد مرحلة التجميع ابتدأت المرحلة الثانية وهي نقل المهجرين "في رحلة طويلة مشيًا على الأقدام بمعدل عشرين كيلومترًا في اليوم باتجاه الشمال أو الغرب. ورتب الجيش أول الأمر هذا الانتقال في تنظيم عسكري محكم، فقسم المهجرين إلى قوافل. تتكون كل قافلة من 1500 أندلسي مؤطرين من طرف 200 عسكري قشتالي، تتبعها عربات تحمل أمتعة المهجرين المسموح لهم بحملها. وأخذت الترتيبات لتوزيع الغذاء، وجبة خفيفة في الصباح وثانية كبيرة في المساء. وأمر الجيش بتهدئة المهجرين وحثهم على المشي بالكلام الطيب حتى لو أدى ذلك إلى الكذب عليهم باختلاق وعود بالعودة، كما يدل على ذلك الرسالة التالية إلى ألونسو كاربخال، المسؤول عن التهجير في بسطة: "عم النقص في هذه الولاية (يعني بسطة) في كل شيء بسبب عدم زراعة الأرض نتيجة اضطرابات الحرب والقحط الذي حل هذه السنة، لدرجة لا يمكن معها أن يغطي حاجيات المعيشة الضرورية ... وقد قرر صاحب الجلالة في الوقت الراهن

أن يخرج النصارى الجدد (يعني المورسكيين) من هذه المملكة (يعني غرناطة) وينقلوا إلى قشتالة والولايات الأخرى حيث جاءت السنة غنية بالخيرات، ولم تفسد الحروب المحاصيل، وحيث يمكن للمهجرين بكل سهولة التغذية وتغطية حاجاتهم في هذه السنة، والتفكير في الوقت المناسب والطريقة المثلى في الرجوع إلى ديارهم الأصلية .... وكذلك يمكنهم حمل أموالهم المنقولة دون أن يؤخذ منها شيء البتة مع إغداقهم بكل الكلمات الطيبة التي يعرفونها". لم يتفق الواقع بتاتًا مع هذا التخطيط الإنساني للمرحلة الثانية من التهجير. كان يقضي التخطيط بنقل جماعة من الغرناطيين إلى إشبيلية غربًا وأخرى إلى البسيط شمالاً. لكن سوء الأحوال الجوية على طريق البسيط أرغمت منظمي التهجير على تغيير المخطط الأول، كما تعذر نقل المهجرين عبر البحر إلى إشبيلية. وهكذا أجبر الجيش المهجرين على المشي على الأقدام تحت المطر والثلج والبرد لأسابيع متواصلة، رغم أن جلهم كان من الشيوخ والأطفال والنساء. وقد أدى ذلك بالمهجرين إلى متاعب مهلكة مما أثار شفقة جلاديهم أنفسهم، كما جاء في كتاب فرومينو دي فونتس من البسيط إلى الكاردينال دي سيكونزة، حيث قال: "إنه لمن المؤثر جدًّا أن نرى أن العدد الكبير من الأطفال الصغار والنساء، يعمهم الفقر والحرمان اللذان لا ينتهيان، مع سوء الأحوال الجوية وكثرة العدد ... حتى أصبح من الصعب إكمال كل ما يجب إكماله للاستجابة لكل الحاجات مهما كان المجهود ... ". وانتهت المرحلة الثانية من التهجير بوصول 21.000 غرناطي إلى البسيط، و 12.000 إلى قرطبة، و 6.000 إلى طليطلة، و 5.500 إلى إشبيلية، أي ما مجموعه 44.500 غرناطي، وبهذا يكون قد مات حوالي عشر المهجرين من الإعياء والتعب. وكان في نية الدولة الإسبانية تشتيت المهجرين من نقط تجمعهم الجديد، التشتيت الكامل في قرى ومدن قشتالة لتكسير عزيمتهم وإجبارهم على نسيان هويتهم وعقيدتهم ولاضمحلال عصبيتهم حتى يذوبوا في المجتمع النصراني المحيط بهم. وابتدأت المرحلة الثالثة من التهجير وهي التشتيت، فأجبر الجيش 7.000 غرناطي ممن وصلوا إلى قرطبة على متابعة السير إلى منطقة بطليوس، و 7.500 ممن وصلوا إلى البسيط على السير إلى وادي الحجارة وطليطلة وطلبيرة، و 6.000 ممن وصلوا إلى طليطلة على السير إلى شقوبية وبلد الوليد وبالنسية وطلمنكة في الشمال.

وتبعت هذه المرحلة من التهجير مرحلة رابعة، وهي تشتيت المهجرين على المدن والقرى الثانوية حتى تصل نسبهم من بين السكان إلى أصغر قدر ممكن. وبهذا دام التهجير شهرين متواصلين ولم ينته إلا في 20/ 12 / 1570 م. ويقدر عدد الذين ماتوا بالطريق أو بعد الوصول بقليل، بين 1/ 11 / 1570 م وربيع سنة 1571 م، بثلث المهجرين، أي حوالي 17.000 غرناطي. فلم يبق ممن هجروا من ديارهم سوى 33.000 غرناطي، في حالة يرثى لها من الجوع والفقر والمرض والبؤس. ولضعفهم انتشرت فيهم الأوبئة، خاصة التيفوس، فأخذت المدن والقرى التي وصلوها تعاملهم أسوأ معاملة، وتحاول التخلص منهم بإرسالهم إلى المناطق النائية. ومنع المهجرون من الاتجاه إلى مملكة مرسية حتى لا يتصل أندلسيو غرناطة بمسلمي أراغون. وفي 22/ 11 / 1571 م قررت الحكومة الإسبانية مرة أخرى إخراج المورسكيين الغرناطيين المهجرين في منطقة الأندلس القديمة إلى مناطق قشتالة المختلفة. فأخرج مورسكيو ولاية جيان إلى وادي الحجارة وطليطلة وبالنسية. ولم تنته هذه المراحل المتتالية من التهجير إلا بعد أن كادت تقضي على المهجرين. ولم يكن تهجير سنة 1570 م لأهل مملكة غرناطة من طرف القشتاليين أول تهجير، وإن كان أكبرها. فقد طردت السلطات الإسبانية إبان ثورة غرناطة الكبرى سنة 1569 م أعدادًا كبيرة من الأندلسيين من مدن مختلفة: في يونيو من حي البيازين في غرناطة: وفي نوفمبر من مدينة أشكر، وفي ديسمبر من باقي أحياء غرناطة. وتابعت السلطات طردها للأندلسيين سنة 1570 م: فطردت في فبراير أهل كهوف المنصورة، وفي مارس أهل البرج وقمارش، وفي مايو أهل بسطة وطلوش ومندة، وفي يوليو أهل غرناطة مرة أخرى. ويقدر عدد من هجر قبل تهجير سنة 1570 م الكبير بحوالي عشرين ألف أندلسي، منهم 7.000 من حاضرة غرناطة، و 6.000 من مرجها، و 7.000 من باقي مدن وقرى مملكة غرناطة. وبعد تهجير سنة 1570 م الكبير، هجر عدد آخر من أهل مملكة غرناطة، ابتداء من 3.500 أندلسي هجر من حاضرة غرناطة ومرجها في ديسمبر عام 1570 م إلى 51 أندلسي نقلوا من بلش إلى طليطلة في أبريل عام 1574 م، بما مجموعه حوالي 10.000 أندلسي. فيكون مجموع من هجر من مملكة غرناطة إبان ثورتها

الكبرى وبعدها ما مجموعه 80.000 مسلم أندلسي شتتوا على جميع أنحاء مملكة قشتالة (عدا مملكة مرسية). فهل هجر جميع مسلمي مملكة غرناطة بعد ثورتها العظمى سنة 1570 م كما تدعيه الكنيسة؟ سنجيب على هذا السؤال بتفصيل فيما بعد، ونكتفي هنا بتقديم شهادتين لمن قاموا بالتهجير أنفسهم: الأولى لبدرو لويز دي ميسا في رسالة كتبها للكاردينال دييغو دي اسبينوزا تكلم فيها عن الأندلسيين الذين رحلوا من البيازين في يونيو سنة 1569 م، إذ قال: " ... يصل رقم المهجرين بين المحجوزين والذين في السجون إلى حوالي 4.000 شخص عدا المُسِنِّين والأطفال. ولقد تغيب عدد كبير منهم (يعني المسلمين أهل البيازين) واختبأ الآخرون. لكننا سعداء لهذا العدد من المطرودين الذي توصلنا إليه، لأن إخراج 4.000 عدو من غرناطة، من بينهم ذوي المال والقيادة سيكون له أكبر الأثر، إذ سيتركون نساءهم وأطفالهم وأموالهم لنا كرهائن بعد خروجهم". والشهادة الثانية أيضا لبدرو لويز دي ميسا في رسالة كتبها للكاردينال المذكور يصف فيها تهجير أهل بعض أحياء غرناطة في ديسمبر سنة 1569 م، حيث قال: "أمرني دون خوان النمساوي أن أحتجز كل المورسكيين الذين بقوا في هذه المدينة في أربع كنائس لإخراجهم من المملكة (يعني غرناطة). وقد احتجزنا 2.800 شخص؛ ومن هؤلاء أخرجنا أكثر من النصف؛ أما الباقون فلقد تركناهم لكونهم من المرضى والعجزة. وبقي كذلك 150 حرفيًّا بين خبازين وفرانين وحدادين وأصحاب مهن أخرى، وتركنا غير هؤلاء من التجار وشخصيات ذات أهمية ليصفوا أماكن عملهم وأملاكهم غير المنقولة فأمهلناهم خمسة عشر يومًا. وكلهم قاموا بالتخلص من أموالهم، وفي كل يوم يخرج البعض منهم ... ". يدل هذا على أن الدولة الإسبانية كانت تعمل على القضاء على القوى الحية في المجتمع الغرناطي بتهجيرها وتشتيتها وليس على تفريغ مملكة غرناطة من سكانها المورسكيين. وسنقدر فيما بعد أعداد الأندلسيين التي بقيت في مملكة غرناطة بعد هذا التهجير.

4/ 2 - أوضاع المسلمين في مملكة قشتالة من سنة 1570 م إلى سنة 1608 م:

ولنر الآن وضع المسلمين في كل من مملكة قشتالة ومملكة أراغون إلى سنة 1609 م، مبتدئين بمملكة قشتالة التي تضم مملكة غرناطة القديمة وكذلك كل مناطق الأندلس القديمة. 4/ 2 - أوضاع المسلمين في مملكة قشتالة من سنة 1570 م إلى سنة 1608 م: بعد طرد عدد كبير من أهل مملكة غرناطة سنة 1570 م وتوزيعهم على قشتالة، صدر مرسوم ملكي بتاريخ 24/ 2 / 1571 م يقضي بمصادرة أملاكهم. وشملت المصادرة المجاهدين وغيرهم من الأندلسيين، كما شملت جميع الأملاك، المنقولة وغير المنقولة، وجميع الحقوق المالية. ونص المرسوم على أن "تصبح جميع الممتلكات التي كانت للمورسكيين في مملكة غرناطة ملكًا لجلالة الملك، مهما كان نوعها وحالتها". ثم كلفت الحكومة موظفين لتنفيذ القرار الملكي بالاستيلاء على الممتلكات باسم الملك، وأصدرت قرارًا بإجراء تحقيق شامل مخافة أن يخفي الأندلسيون ممتلكاتهم المنقولة. وكتب الموظفون سجلات دقيقة لتلك الممتلكات، ثم بيع الكثير منها بالمزاد العلني، ووزع بعضها على مهاجرين نصارى من الشمال. وعين الملك مجلسًا لإعادة تعمير مملكة غرناطة، يتكون من بدرو ديسا، رئيس محكمة التفتيش العليا في غرناطة، رئيسًا له، ومن شخصين آخرين، وضع شروط استلام الأملاك باسم الملك، وأرسل مبعوثين إلى جليقية وبرغش وليون لجلب السكان الجدد. وفي أول الأمر، تمكن المجلس من استقطاب 50.000 شخص وزعهم على 260 مستوطنة. وفي 31/ 5 / 1572 م صدر أمر ملكي بتوزيع الأملاك المصادرة في مملكة غرناطة على النصارى القادمين من الشمال، كما أمر بتأجير أملاك حاضرة غرناطة ومرجها وما جاورها، أو بيعها لهم. وقد فشلت حركة الاستيطان هذه فشلاً ذريعًا، إذ لم تكن للمستوطنين الجدد دراية بفنون الزراعة، فلم يتمكنوا من دفع الضرائب الباهضة المطلوبة منهم. ولذا أخذوا يهجرون مستوطناتهم ويرجعون إلى قراهم في الشمال أو يهاجرون إلى أمريكا الجنوبية، حتى خرج معظمهم من مملكة غرناطة، بينما رجع خفية كثير من المهجرين المسلمين. وبقي في مملكة غرناطة معظم مسلميها، إما متسترين كنصارى قدامى أو مختبئين في الجبال. وكونوا فرقًا فدائية تزرع الرعب في أوساط الدولة والكنيسة

والمستوطنين الجدد. ودامت حركة الفداء إلى آخر القرن السادس عشر الميلادي، وشملت كل أنحاء إسبانيا. وكان فدائيو غرناطة يعرفون البلاد تمام المعرفة، مما سهل عليهم التمون من الأرض وسكانها والصمود طويلاً في المقاومة. ولم تستطع الدولة القضاء عليهم رغم مجهوداتها الضخمة. فبين سنتي 1571 م و 1573 م، نشرت فرق الزريق الرعب في منطقة المرية، مما اضطر الحكومة إلى التفاوض معها على أساس انتقال الزريق ومعظم الفدائيين الذين معه إلى المغرب. وبين سنتي 1573 م و 1576 م جاهدت فرق فدائية برئاسة خوان أسبلاي وماركوس ابن المليح في منطقتي مالقة ورندة، انتهى نشاطها بعد المفاوضة مع الحكومة أدت إلى العفو على الفدائيين بما فيهم زعيميهما المذكورين، غير أن الدولة عادت وقبضت على ابن المليح سنة 1579 م. ومن جهة أخرى، ارتعبت الحكومة من تجمع المسلمين في مناطق الأندلس القديمة بعد أن أسكنت بها بعض المهجرين الغرناطيين، ومنذ مارس عام 1571 م بدأ التفكير في تهجيرهم منها من جديد، وصدر الأمر بذلك في 22/ 11 / 1571 م وطبق في شهر ديسمبر الذي تلاه كما ذكرنا آنفًا. وعم التهجير من الأندلس القديمة حوالي عشرة آلاف غرناطي، شتتوا على قشتالة القديمة والجديدة. غير أن العاطفة الإسلامية الكامنة في نفوس كثير من أهل الأندلس القديمة، رغم تظاهرهم بالنصرانية، دفعت بسلطاتهم المحلية في قرطبة وأسباجة والقبذاق وبراغة وغيرها من المدن، إلى الدفاع عن المهجرين ورفض إخراجهم، ولم يهجر من الغرناطيين إلا عدد قليل من جيان، بينما تدخلت في سنتي 1579 م و 1580 م مدن أندلسية أخرى، كقرمونة وبياسة ومرتش وأستجة، في إبقائهم. ثم تكاثر عدد المسلمين في الأندلس بعد عودة كثير من المهجرين إليها، فتكونت جاليات كبيرة في إشبيلية وقرطبة وغيرهما من المدن الكبيرة. وفي مملكة مرسية كذلك، تدخلت السلطات المحلية لمنع تنفيذ أمر إخراج الغرناطيين منها، كما يظهر من الرسالة التالية الصادرة عن سلطات مرسية إلى الملك بتاريخ 12/ 1 / 1580 م: "إن قرار مجلسكم الآن بإخراج المورسكيين وإعادتهم إلى مساكنهم القديمة (يعني في قشتالة) يشكل ضررًا كبيرًا لهذه المدينة وخطرًا عليها، كما سيؤدي إلى نزول في الضرائب التي ندفعها لكم وإضعاف للأملاك الملكية. لذا نتوسل إلى جلالتكم أن لا يسمح أبدًا بإخراج الخمسمائة عائلة المسجلة في لوائح هذه المدينة منذ زمن بعيد ... ".

ورجع عدد كبير من المهجرين، خاصة من ولاية جيان، إلى مملكة غرناطة، وعملت الدولة والكنيسة، فيما تبقى من القرن السادس عشر، على مقاومة رجوعهم بدون جدوى. وكان الأهالي في مملكة غرناطة والسلطات المحلية كثيرًا ما يساندون رجوعهم بحجة الضرورة الاقتصادية، وواقع الأمر هو أن معظم هؤلاء أندلسيين من أصل إسلامي، فهم يعطفون بطريقة بديهية على المهجرين. ففي سنة 1573 م تدخلت سلطات قلعة يحصب (ولاية جيان) لمنع إخراج مئات من الأندلسيين المستعبدين، وكذلك فعلت سلطات أنتقيرة (ولاية مالقة) سنة 1574 م. وفيما يخص قلعة يحصب، ذكر دون بدرو ديسا ما فعله الأهالي بمسؤول الحكومة الذي تقدم لإخراج المورسكيين، في رسالة بتاريخ 2/ 11 / 1574 م للملك، قال فيها: "إن السكان أرادوا رجمه، لأنهم جعلوا إخراجه لهم (يعني المورسكيين) وكأنه إخراج لأبناء صلبهم. هذا هو مستوى حبهم لهم وغضبهم على من يريد تنفيذ أوامركم". تدل هذه الرسالة دلالة واضحة على أن سكان قلعة يحصب كمعظم سكان الأندلس الآخرين هم من أصول إسلامية، لا زالوا يضمرون العطف على الإسلام وأهله رغم المخاطر التي يتعرضون لها. وهكذا كان الوضع في مدن مملكة غرناطة الأخرى. قدرت الحكومة عدد المورسكيين الباقين في مملكة غرناطة سنة 1577 م بحوالي 7.000 شخص، وتزايد سنة 1580 م إلى ما يقارب 9.000 شخص، منهم حوالي 3.000 مورسكي في حاضرة غرناطة، نصفهم من المستعبدين. وتتابعت أوامر الطرد بتاريخ 6/ 5 / 1576 م و 21/ 7 / 1578 م و 4/ 5 / 1579 م و 26/ 1 / 1581 م، دون نتيجة تذكر، إذ قليلاً ما كانت تطبق. وفي سنة 1584 م هجرت الحكومة 3.500 مورسكي إلى قشتالة، منهم حوالي مئتين إلى مناجم المعدن الرهيبة التي لم يكن يمكث فيها العامل أكثر من سنتين ويموت بسبب أوضاع العمل السيئة. وفي تلك السنة قاوم هذا التهجير موظفو الكنيسة المحليين في حاضرة غرناطة ووادي آش وأنتقيرة ولوشة وقلعة يحصب، لأن معظمهم كانوا من أصول أندلسية. وفي غشت سنة 1585 م هجرت الحكومة حوالي 404 مورسكي من مملكة غرناطة إلى منطقة بطليوس وماردة. كانت السلطات الإسبانية، الحكومية والكنسية، تخاف خوفًا شديدًا من تجمع الأندلسيين، خاصة الغرناطيين منهم، في أي مكان، عبيدًا كانوا أم أحرارًا. فهي

تشتتهم كلما اجتمعوا، وتمنعهم من الاتصال بمسلمي مملكة أراغون فتحرم عليهم الهجرة إلى أراغون، وتمنعهم من الاتصال بمسلمي شمال إفريقيا فتخرجهم من المدن والقرى الشاطئية. وكانت السلطات الإسبانية تخاف أكثر ما تخاف من ثورة مورسكية شاملة تعم إسبانيا كلها تساندها الدولة العثمانية. وكانت ترى في غرناطة، آخر معقل للسيادة الأندلسية، مركز عصبيتهم، فلذا كانت تركز على منع تجمع المورسكيين بها. أدّى نقل عدد كبير من الغرناطيين إلى قشتالة إلى عدة نتائج تعارض الأهداف التي خططتها الدولة لنفسها. أولاً، أدى توزيع الغرناطيين، ذوي الهوية الأندلسية الإسلامية الثابتة، إلى إحياء جاليات قشتالة المدجنة التي أجبرت على التنصير كذلك. ومن أهم هذه الجاليات أهل فرنجوش (ولاية بطليوس) التي كان لها، فيما بعد، دور كبير في تعمير مدينة الرباط، عاصمة المغرب اليوم. ثانيًا، أدى تشتيت الغرناطيين إلى سهولة انتقالهم بين جاليات إسبانيا الإسلامية المختلفة وسرعة تحركهم الدائم، مما جعلهم الرباط القوي بين هذه المجموعات التي أخذت تشعر بوحدة مصيرها وتنسق مقاومتها لإجراءات التنصير، وذلك ما حاولت الدولة الإسبانية تحاشيه بتشتيت الغرناطيين، فكانت نتيجة عملها عكس ما أرادت. ثالثًا، أدى طرد الغرناطيين إلى عداوة قوية بين النصارى القدامى و"النصارى الجدد" (أي المسلمين) مما كرس الهوة بينهما وقوى عصبية الجماعة عند المسلمين وجعل إدماجهم في النصارى القدامى أمرًا مستحيلاً. رابعًا، أدت هجرات الغرناطيين المتواصلة إلى سهولة ربط علاقة مسلمي إسبانيا بإخوانهم في الخارج، خاصة المغرب والدولة العثمانية. خامسًا، أدى استرقاق عدد كبير من المسلمين إلى انتشار روح الفداء فيهم، فعمت حركة الفداء معظم مناطق إسبانيا وانعدم الأمن فيها. عاش المسلمون في قشتالة بالأمل الذي رفع من روحهم المعنوية وساعدهم على المقاومة: أمل إحياء الدولة الأندلسية؛ وأمل العودة إلى غرناطة (بالنسبة للغرناطيين): وأمل انتصار الدولة العثمانية (أقوى دولة إسلامية)، مما سهل انتشار الشائعات المختلفة. ففي أبريل سنة 1577 م انتشرت شائعة بين غرناطيي قشتالة، مفادها أن الملك على وشك السماح لهم بالعودة إلى غرناطة مقابل غرامة مالية كبيرة، وأن المفاوضات التي يشارك فيها ألونسو بنيغش (أحد وجهاء المورسكيين) في تقدم مستمر. وأخذ المسلمون يتكاتبون في هذا الموضوع من بلد لآخر، ومثال ذلك الرسالة التي كتبها ثمانية من وجهاء مسلمي طليطلة بتاريخ 11/ 4 / 1577 م إلى

جماعة من وجهاء مسلمي إشبيلية، منهم هرناندو مولاي وجرومينو أنريكز دي بيدراهيتا وألونسو هرناندس حامد. تقول الرسالة إن القرار يشمل كل من لم يشارك في ثورة عام 1570 م. وربما شمل جميع الغرناطيين، مع إرجاع كل الأموال المصادرة. فطلب كتاب الرسالة أموالاً لدفع الغرامة المذكورة، وأخذوا فعلاً في جمعها. وتبعت مثال أهل طليطلة جماعات إسلامية أخرى، في قلعة النهر وبلد الوليد ووادي الحجارة وجيان وقرطبة وإشبيلية وغيرها من المدن. ولا يعرف بالضبط هدف هذه الإشاعة، التي صدقها حتى المسؤولون الإسبان المحليون، إذ كتب قاضي طليطلة، مركز الإشاعة، إلى الملك يثنيه عن تنفيذ هذا القرار قائلاً: "سيصعب جدًّا معالجة الأضرار التي سيحدثونها (يعني الغرناطيين) في الشاطىء من جديد (يعني إذا أعيدوا إلى مملكة غرناطة). ولا يوجد شيء يتمنّاه الأتراك أكثر من نزولهم على هذا الشاطىء، لأنهم لا زالوا مسلمين اليوم كما كانوا في اليوم الأول. ويبدو أنهم يتصرفون بنصيحة الأتراك ورأيهم. وأنا أتكلم في هذا الموضوع كرجل، عمره أكثر من سبعين سنة، له خبرة طويلة، ورأى أتعابًا كثيرة في هذه المملكة"؛ واضطرت الحكومة بعد ذلك إلى تكذيب هذه الإشاعة، مستعملة الخداع مخافة انفجار جديد. اتهم عدة زعماء مورسكيين كمصدر لهذه الإشاعة، منهم الأخوان لورنزو بريو وملشور بريو، غاسبار رايا، وكلهم من سكان طليطلة. أما الأخوان بريو فكانا يتجران في الشمع، ولهما ثروة طائلة، وأصلهما من حي البيازين بغرناطة، وكانا قد اتهما بالمساهمة في ثورة عام 1570 م وبمصادقة محمد بن أمية، زعيمها، فسجنا في أبريل سنة 1569 م، ثم نقلا إلى طليطلة في أكتوبر سنة 1572 م. فهل كان لهذه الإشاعة هدف سياسي؟ وما هو؟ المهم هو أن الإشاعة قوت العصبية الأندلسية، وأظهرت بوضوح الرباط القائم بين جميع مورسكيي إسبانيا. ولم يكتفِ المسلمون بالإشاعات، بل حاولوا عدة مرات الثورة في مناطق مختلفة من مملكة قشتالة. وحدث أول استنفار هام في يونيو سنة 1580 م في الأندلس القديمة. ويقال إن المؤامرة ابتدأت في إشبيلية بالتخطيط في إنزال جماعة من المتطوعين المغاربة على مصب الوادي الكبير، ثم تفرعت إلى قرطبة وجيان وأستجة وغيرها من مدن الأندلس الأخرى. لكن زعماء المؤامرة اكتشفوا قبل أن يشرعوا في إنجازها، وكانوا يفكرون في حالة فشلها الالتجاء إلى الجبال أو إلى البرتغال. وكان

زعيمهم فراندو أنريكز مولاي الذي اتهم كذلك في موضوع إشاعة عام 1577 م. وأدى إعلان اكتشاف المؤامرة إلى موجة من الرعب بين النصارى الذين أخذوا ينتقمون من المورسكيين في إشبيلية وجيان وغيرهما. ثم انتشرت إشاعة مفادها أن عدة مئات من المورسكيين اجتمعوا في الجبال الواقعة شمال رندة، يتهيؤون للانتقال إلى مالقة ومربلة لتحريرهما. فأرسلت الحكومة كتيبة عسكرية لملاحقتهم، فلم تجد منهم أحدًا. فقررت حجز جميع المستعبدين الأندلسيين والمغاربة في مالقة، كإجراء احتياطي. وفي مايو سنة 1581 م، قبض في إشبيلية على ثلاثة مورسكيين بتهمة التآمر، لكن اكتشف بعد ذلك أنهم أبرياء. وهكذا بقيت الإشاعات تغذي جوًّا من الرعب بين النصارى خوفًا من الأندلسيين. واختار كثير من المورسكيين متابعة الجهاد ضد النصارى في قشتالة بتنظيم جماعات فدائية مما يسمى بـ "المنفيين" تضرب مصالح الدولة والكنيسة، خاصة بعد سنة 1577 م، نشطوا لمدة سنين في مناطق بلد الوليد وبشترنة وبطليوس وأبدة وإشبيلية. ولم يكن من السهل القبض على "المنفيين" لإتقانهم حرب العصابات ودعم جاليات قشتالة الإسلامية لهم. وكلفت الحكومة الدكتور فرانسسكو هرناندس دي ليبانا، رئيس محكمة بلد الوليد العامة، بالقضاء على الفدائيين. وفي أواخر سنة 1582 م، قدم دي ليبانا تقريرًا ادعى فيه النجاح في مهمته، وأثبت مقتل 200 شخص على يد أفراد سبع عصابات فدائية بين سنتي 1577 م و 1581 م، لكن لم يكن نجاحه إلا مؤقتًا. ومنذ 6/ 10 / 1572 م أخذت الدولة الإسبانية تقنن طرق اضطهاد المهجرين الغرناطيين في قوانين همجية لا تخطر على بال: فعلى كل بلدة بها مهجرين غرناطيين تسجيلهم في سجل بأسمائهم وأوصافهم الجسدية ونبذة عن حياتهم، ومراقبة تحركاتهم وعدم السماح لهم بالتنقل، إلا لفترات قصيرة، ومنعهم من السكن في أحياء خاصة بهم، وإجبارهم على السكن بين النصارى القدامى. وشرعت الدولة قوانين صارمة وعقوبات ظالمة لكل من يحاول الرجوع إلى غرناطة، أو يلبس اللباس الإسلامي، أو يتكلم اللغة العربية، أو يملك سلاحًا، أو يظهر أي عادة عربية. وقررت الكنيسة أخذ جميع أطفال المسلمين لتعليمهم الدين النصراني، وجعلتهم يعملون في محلات النصارى القدامى الذين كلفوا بتدريبهم على العادات النصرانية،

4/ 3 - أوضاع المسلمين في مملكة أراغون من سنة 1570 م إلي سنة 1608 م:

كما أن عددًا كبيرًا منهم بيعوا للنصارى كعبيد، وأصبحوا موضع تجارة خسيسة بين النصارى القدامى والكنيسة. وتابع ديوان التفتيش مطاردة المسلمين دون هوادة طول هذه الفترة، أي بين سنة 1570 م وسنة 1609 م، في كل من مملكة قشتالة ومملكة أراغون. وقد سجلت وثائق ديوان التفتيش 291 قضية ضد المورسكيين سنة 1591 م، و 117 قضية سنة 1592 م. وظهر في حفل "الأوتودافي" الذي أقيم في 5/ 9 / 1604 م حوالي 68 مورسكيًّا نفذت فيهم أحكام مختلفة، وظهر في "أوتودافي" يوم 7/ 1 / 1607 م حوالي 33 مورسكيًّا أحرقوا أحياء، وعذب أكثرهم إبان محاكمتهم. ولنرَ الآن وضع المسلمين في مملكة أراغون وكيف قاوموا محاولات الإدماج والتنصير في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. 4/ 3 - أوضاع المسلمين في مملكة أراغون من سنة 1570 م إلي سنة 1608 م: أدى تهجير كثير من أهل مملكة غرناطة إلى قشتالة إلى إضعاف الدور القيادي لأهل غرناطة بين الأندلسيين، وأصبح بالمقابل دور مورسكيي مملكة أراغون من أهم مشاغل الدولة الإسبانية. فقد عاشوا عدة قرون مع النصارى كمدجنين، حتى قبل تأسيس دولة بني الأحمر في غرناطة. ولم يقل تشبثهم بالإسلام عن تشبث إخوانهم في غرناطة، رغم رفضهم المشاركة في ثورة غرناطة الكبرى سنة 1568 م. وكانت أعدادهم كبيرة، ونسبهم بين مجموع السكان مرتفعة، خاصة في مملكة بلنسية ومملكة أراغون القديمة، حيث كانوا يكونون معظم السكان في مناطق مختلفة منها. وكانوا أهل زراعة يعملون للنبلاء النصارى ويدفعون ضرائب باهضة لهم مقابل حمايتهم. أدت ثورة غرناطة الكبرى إلى تقوية الشعور الإسلامي بين مورسكيي مملكة أراغون، وكان أقصى ما تخشاه الكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية، هو تأثير أهل غرناطة "السلبي" على مورسكيي مملكة أراغون، لذا منعوا أهل غرناطة من دخول مملكة أراغون. لكن رغم المنع، فقد دخل أراغون ما لا يقل عن 3.000 غرناطي، ووجدوا فيها الحماية التامة والمساندة الكاملة من طرف أهلها المسلمين. وتزعم مورسكيو مملكة أراغون التفكير في الثورة وتحرير المسلمين. وكان كثير من زعمائهم

يتجولون عبر الأراضي الإسبانية، لتقوية صلات التضامن بين الجماعات الإسلامية المختلفة، كما ربطوا علاقات قوية مع المغرب والدولة العثمانية وبروتستانت فرنسا. لذا أصبحت الكنيسة والدولة ترى في مسلمي أراغون طابورًا خامسًا في وسطهما، كما ظلت الإشاعات تنتشر حول قرب قيام ثورة إسلامية شاملة. ومثال هذه الإشاعات ما كتبه الملك فليبي الثاني في رسالة بعثها سنة 1570 م إلى نائبه على جزيرة سردانية، التابعة حينذاك لإسبانيا، قال فيها: "وقد هددت في شتاء هذه السنة البحرية التركية هذه المناطق بسبب ثورة غرناطة، آملة أن يقوم المورسكيون في مملكتينا أراغون وبلنسية بنفس الثورة. وظهر لهم (أي العثمانيين) كذلك أنهم إذا سيطروا على هذه الجزيرة (أي سردانية) سيصبحون على قرب من الساحل الإفريقي لدرجة تسهل عليهم التعاون مع هؤلاء". ولمواجهة هذا الوضع أمر الملك فراندو دي لواسس، كاردنال بلنسية، بالاجتهاد في تنصير الموركسيين في بلنسية تنصيرًا كاملاً وعدم التهاون في ذلك. واغتنم بعض النصارى حرب غرناطة للهجوم على الغرناطيين لسلب أموالهم وسبي أبنائهم ونسائهم وبيعهم عبيدًا. وقد كتب بيمنتيل، نائب الملك على بلنسية، رسالة من بلنسية بتاريخ 14/ 4 / 1569 م إلى الملك يخبره بما يحدث ويطلب منه التعليمات لمواجهة الوضع. فأمر الملك بجرد كل الغرناطيين الذين استعبدوا بهذه الطريقة، ثم أمر بتركهم عبيدًا في يد مشتريهم. وبعد القضاء على ثورة غرناطة، ومنذ الشهور الأولى لسنة 1570 م، أخذ اللاجئون الغرناطيون يتدفقون على مملكة بلنسية، وكلما قبض على أحدهم استعبد وبيع في سوق النخاسة. واجتهد مسلمو مملكة أراغون في شرائهم لعتقهم أو حمايتهم. فعندما علمت الحكومة ذلك، أمرت بمنع المورسكيين من اقتناء العبيد. فتحايل المورسكيون للتهرب من هذا المنع، لدرجة أن بيمنتيل، نائب الملك، أظهر تخوفه من العدد الكبير من الغرناطيين الذين دخلوا مملكة بلنسية بهذه الطريقة. وفي أواخر سنة 1570 م منعت الحكومة جلب المستعبدين الغرناطيين إلى مملكة أراغون، بدون جدوى. فمثلاً تذكر الوثائق أن ثلاثة نصارى من جزيرة يابسة (من الجزر الشرقية التابعة لمملكة أراغون) اشتروا من مرسية خمسة مستعبدين غرناطيين، فسجنوا جميعًا بسبب ذلك بأمر من محكمة آريولة، لكن نائب الملك أمر بإطلاق سراحهم وسمح لهم بنقل "العبيد" الخمسة معهم.

ورغم الانتصار النصراني على القوات البحرية العثمانية في ليبانتو سنة 1571 م، لم يتوقف التخوف من مسلمي مملكة أراغون، بل زاد حدة بعد أن حرر العثمانيون حلق الوادي مدخل مدينة تونس من يد الإسبان سنة 1574 م. ففي 9/ 10 / 1575 م كتب الملك إلى كونساكا، نائب الملك على مملكة بلنسية، يأمره بمنع المورسكيين من السكنى قرب البحر، ولا حتى المرور بجانبه دون حراسة مشددة من طرف "النصارى القدامى". وهكذا أجلى نائب الملك المورسكيين من كل شواطىء مملكة بلنسية. ووصل إلى الملك سيل من التحذيرات من مسلمي بلنسية خاصة، كالرسالة التالية المرسلة إلى الملك بتاريخ 17/ 3 / 1582 م من طرف أسقف طليطلة، يقول فيها: "أرجو من جلالتكم بكل تواضع أن تأخذوا بعين الاعتبار احتمال قدوم الأسطول التركي إلى بحارنا وسيجد في مملكة بلنسية وحدها من الأعوان خمسين ألف مقاتل دون الذين في أراغون (أي القديمة) وغرناطة، وهذا عدد ضخم وإذا تعاونوا جميعًا، مع معرفتهم للطرق بدقة. فستصبح بذلك مشكلة هذه الممالك عظيمة مع نقص في الخيول والأسلحة والرجال المدربة. وهذا ما لا يجهله المورسكيون الذين برهنوا في الماضي أنهم دققوا في كل شيء وحسبوه. فإذا اتحد كل هؤلاء مع "الهوكونوت" (بروتستانت فرنسا) والمرتدين الآخرين وضايقونا فستكون مشكلتنا أكبر". وكتب المفتشون العامون في سرقسطة، عاصمة مملكة أراغون، رسالة بتاريخ 15/ 3 / 1582 م إلى الملك، يقولون فيها: "وسبب توصلهم (يعني المورسكيين) بأمر الثورة هو أن دون أنطونيو البرتغالي وأمير أورانج اتفقا مع مسلمي المغرب عن طريق بعض التجار والمورسكيين الغرناطيين الذين يترددون على تلك البلاد. وكذلك فإن أمير بيارن (رئيس الهوكونوت) شوهد مع ملك فرنسا يطلب منه إنجاز وعده له عندما تزوج بأخته بإعطائه الرجال لاحتلال نبارة. وأنه تفاوض مع مورسكيي أراغون (القديمة) لمساعدته، وكذلك مع مورسكيي بلنسية لحراسة أسطول الأتراك الذي لا يعرفون من أين سيأتي لكن يعرفون أنه يجب أن يكون في الجزائر بتاريخ 11/ 8". وكانت الإشاعات المتواصلة تنتشر في مملكة أراغون (بأقسامها الثلاثة: أراغون القديمة وبلنسية وقطلونية) مفادها قرب تحالف ثلاثي بين المورسكيين والعثمانيين والهوكونوت. وكانت هذه الإشاعات تقوي عزيمة مسلمي مملكة أراغون على

المقاومة والثبات، وفي نفس الوقت تجعل النصارى يعيشون في جو من الإرهاب، مما زاد العلاقات بين المجموعتين المتساكنتين سوءًا. وكان لرجوع إسكندر كستيانو، أحد مسلمي بلدة كلاندة من ولاية طرويل (مملكة أراغون القديمة) أعظم الأثر في نفوس مسلمي أراغون. كان كستيانو قد هاجر إلى تركيا ورجع إلى بلاده بأخبار انتصارات المسلمين على النصارى في كل مكان، وانهيار ممالكهم أمام الزحف الإسلامي. وجاء لهم بتنبؤات الخلاص على يد غلام سيولد بأطراف غير متناسقة وسيموت والده وعمره لا يزيد على خمسة شهور، ويصبح هذا الفتى قبل سن الثلاثين زعيمًا للمورسكيين يخلصهم من قهر النصارى وظلمهم، في حرب ينتصرون فيها عليهم. ويكون الموضوع أحيانًا أكثر من إشاعة. ففي 23/ 1 / 1582 م قبضت محاكم التفتيش في بلدة كوديل بمملكة بلنسية، شمال شقورب، على مورسكي اسمه شمس الدين، أدى استنطاقه إلى اكتشاف شبكة اتصالات سرية بين المسلمين، مركزها أراغون، تربطها بقشتالة وببيارن في فرنسا وبشمال إفريقيا. وضبطت المحكمة مع شمس الدين رسائل مكتوبة باللغة العربية واللغة الأعجمية توضح دور المورسكيين المقيمين في الجزائر. أبحر شمس الدين في قرطاجنة واجتمع سرًّا مع زعماء المورسكيين في مرسية وفي شقورب. وفي مارس سنة 1583 م اكتشفت محاكم تفتيش بلنسية مؤامرة أخرى اشترك فيها المورسكيون وأهل بيارن (فرنسا) البروتستانت. زادت الدولة والكنيسة من اضطهادها للمسلمين أمام هذه الشائعات والحوادث. فمنذ سنة 1575 م أمرت الدولة بنزع سلاح المورسكيين في مملكة أراغون خوفًا من تحالفهم مع المغاربة والهوكونوت، فجمعت منهم حوالي 11.000 بندقية. وقام النبلاء أنفسهم بنزع سلاح المورسكيين الذين يعملون عندهم. وكان هؤلاء السادة دائمًا يدافعون على خدامهم المسلمين، فرفض بعضهم، كدوق بلاهرموزا وكوندي آرندة ودوق فرانسيس دي آرينيو، التعاون مع الدولة في جمع السلاح. وأدى تجريد مورسكيي أراغون القديمة من السلاح إلى تركهم فريسة للمجرمين والمنتقمين والطامعين من النصارى.

وفي سنة 1585 م اندلعت حرب أهلية بين نصارى أراغون القديمة الساكنين في الجبال الفقيرة ومسلميها القاطنين في سهول وادي أبرة الغنية، دامت ثلاث سنين، إلى سنة 1588 م. ساند المسلمين النبلاء الذين يعملون في أراضيهم، كما ساندهم الهوكونوت أهل بيارن الفرنسية وأميرهم (أصبح فيما بعد هانري الرابع ملك فرنسا). وظلت الدولة الإسبانية في غياب تام عن هذه الأحداث، مما جعل أحد رهبان دير الروضة البندكتي يقول: "رغم أن هجمات الفرق المسلحة لمدة تسعة أشهر أدى إلى مقتل عدد كبير من الناس في هذه المملكة، لم يعاقب في سرقسطة إلا رجل واحد فقير لمخالفة قرار الطرد (من غرناطة)؛ فكم هي سيئة العدالة هنا". وقام النصارى عدة مرات بهجوم عام على القرى الإسلامية، ككودو وساستاكو وبينة وهم يصرخون "الكلاب المسلمون"، كلما وقعت أحداث ضد النصارى، كما حدث في غشت سنة 1586 م عند مصرع نصرانيين على يد مسلم من كودو، وفي أكتوبر سنة 1588 م عند مصرع 15 نصرانيًّا في مضيق الروميرة. وذهب ضحية هذه الأحداث عدد كبير من المسلمين. تزعم المجاهد توريركو المقاومة الإسلامية في الحرب الأهلية بين المسلمين والنصارى في مملكة أراغون القديمة. فتابعته السلطات بعد انتهاء الحرب وقبضت عليه في يونيو عام 1591 م. وكتب مجلس أراغون بذلك كتابًا إلى الملك فليبي الثاني يبشره فيه بهذا الحدث الهام وينعت توريركو بأنه "شرير وسفاح ومسبب الصراع بين الجبليين (أي النصارى) والمورسكيين، وقد أتى به أحد البغالين (أي المسؤولين على النقل بين المدن) من البرتغال بأمر من ماركيز المنارة". ورفض كثير من المسلمين، كما حدث في قشتالة، تحمل هذا الذل والهوان، فاختاروا الثورة المتواصلة في الجبال حيث يغيرون في عمليات فدائية على مصالح الكنيسة والدولة. وانتشر الفداء بين سنتي 1580 م و 1590 م، خاصة في مملكة بلنسية. ففي 1/ 10 / 1584 م قتل بعض المسلمين "سيدهم" بسكوندي شلبة. وفي 18/ 1 / 1585 م أعدم شنقًا في بلنسية ستة غرناطيين عقابًا لهم على أعمالهم الفدائية ضد النصارى. وقام المجاهد صليح وجماعته الفدائية بعمليات متعددة زرعت الرعب في كل أنحاء مملكة بلنسية. كما قام نائب الملك بمجهود عسكري كبير للقضاء على المقاومة المورسكية المسلحة في مملكة بلنسية. ففي 7/ 6 / 1586 م أصدر قانونًا يحدد عقوبات شديدة ضد أعضاء العصابات الفدائية، وأفراد عائلاتهم، حتى إذا لم

يشاركوا في أي عمل فدائي، بنقلهم إلى قشتالة، وكذلك ضد من يحميهم وحتى من لا يحاربهم. ثم أخذ نائب الملك يتفاوض مع عائلات صليح وأتباعه ووعدهم بعدم قتلهم إذ استسلموا. واضطر صليح بذلك إلى الاستسلام في صيف سنة 1586 م إلى سلطات بلنسية، ومعه 21 فدائيًّا. وطبعًا غدرت تلك السلطات بالمستسلمين، وحكمت عليهم في 4/ 11 / 1586 م بالموت البطيء، وهو الخدمة الشاقة في مناجم المعدن لمدة ثلاثين سنة. وتابعت الكنيسة اضطهادها لمسلمي مملكة أراغون. ففي سنة 1587 م، قامت الكنيسة في مملكة بلنسية بحملات تنصير جديدة. وفي سنة 1599 م، أخذت الكنيسة والدولة تتبعان طرقًا قمعية أكثر شراسة للقضاء على العادات الإسلامية رغم يأسهما من تنصير المسلمين تنصيرًا حقيقيًّا. وكأن التنصير أصبح في يد الرهبان سلاحًا لاستفزاز الأهالي المسلمين وتهديدهم واستنزاف أموالهم. ثم تتابعت قرارات الدولة التي تأمر بنزع سلاح مورسكيي مملكة أراغون، في 16/ 6 / 1567 م ثم في سنة 1573 م و 1575 م و 1578 م و 1581 م و 1588 م و 1593 م و 1596 م، الخ ... وفي 6/ 10 / 1575 م اتخذت الدولة قرارًا بمنع المورسكيين البلنسيين من الاقتراب من الشواطىء، ومعاقبة كل مخالف بثلاث سنوات خدمة تجديف في السفن. وفي 1/ 8 / 1586 م صدر قانون، يؤكد قانونًا سابقًا بتاريخ 1559 م، بمعاقبة كل من يغير محل إقامته، وبطرد كل المورسكيين الذين ليسوا من أصل بلنسي من مملكة بلنسية. ولم ينج من متابعات محاكم التفتيش لا أقوياء المسلمين ولا ضعفاؤهم. وتابعت تلك المحاكم حتى أفراد أسرة بني عامر، من وجهاء بلدة بني وزير من أعمال بلنسية، الذين كان لهم نفوذ كبير وغنى وجاه وصداقة مع البلاط الملكي. ففي مايو سنة 1567 م صدر قرار محكمة التفتيش بالقبض على الأخوة الثلاثة كوزمي وخوان وهرناندو، وتابعت ملاحقتهم إلى سنة 1577 م. ولم ينج من الموت حرقًا إلا بعد استنزاف جميع أموالهم وتدخل ذوي الجاه لصالحهم. وكانت تهمتهم إخفاء العقيدة الإسلامية. ولم تتركهم محاكم التفتيش إلا بعد إعلانهم الإخلاص للنصرانية والتوبة من جريمة إضمار الإسلام. وكانت هذه طريقة محاكم التفتيش في متابعة ذوي المال من المورسكيين لاستنزاف أموالهم واقتسامها بين قضاتها.

4/ 4 - علاقات مسلمي إسبانيا الخارجية من 1570 م إلى 1608 م:

ولم يكن يدافع عن المورسكيين من وقت لآخر ضد تجاوزات الكنيسة والحكومة سوى النبلاء الذين كانوا يعملون في أراضيهم. لأنهم كانوا يعيشون عالة عليهم، وكان اضطهاد المورسكيين يؤدي إلى نقص في إنتاجيتهم، وبالتالي في دخل السادة. فمثلاً، في سنة 1570 م، أدانت محكمة التفتيش في مملكة بلنسية دون سانشو دي كاردونا، أمير بحر أراغون، بتهمة التعاطف مع المسلمين. وقد اكتشفت المحكمة أنه ساعد المسلمين الذين يعملون عنده على الصلاة سرًّا، وجدد بناء مسجد مهدم في قرية ادزانيتة. كما استعمل بعض النبلاء رغبة عمالهم في الحفاظ على الإسلام لأخذ ضرائب باهظة منهم مقابل عدم الوشاية بهم، كما حدث سنة 1580 م عندما اكتشفت محاكم التفتيش أن دوق سقوربة كان يسمح لخدامه بالأذان مقابل دفع غرامة له. هكذا أصبح المورسكي في مملكة أراغون ضحية كل من أراد استغلاله من كبير أو صغير، فالكنيسة تتابعه، والدولة تغرمه، والنبلاء يستغلون عمله، وصغار النصارى يسرقون ماله ويبيعون أطفاله عبيدًا. فلا غرابة أن يحاول التحالف مع أي قوة تنقذه من هذا الوضع المخزي. 4/ 4 - علاقات مسلمي إسبانيا الخارجية من 1570 م إلى 1608 م: كانت للمورسكيين في هذه الحقبة علاقات مع ثلاث جهات: الدولة العثمانية، كأكبر قوة إسلامية في البحر الأبيض المتوسط حينذاك؛ والمملكة المغربية، التي كونت الدعم الطبيعي لمسلمي الأندلس عبر التاريخ؛ وهوكونو فرنسا، الذين كانوا يشتركون مع المورسكيين في العداوة للكاثوليكيين، ويشاطرونهم نفس الاضطهاد من نفس العدو. كانت العلاقة بين المورسكيين والدولة العثمانية متواصلة، وكان لهم في الدولة العثمانية أكبر الأمل في تخليصهم من الاستعباد الذي أسقطتهم فيه الكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية. وكانت الدولة العثمانية تستجيب دائمًا لنداءات الأندلسيين، لكن ليس بالمستوى الذي كانوا يأملونه. وهكذا خيب السلطان سليم الثاني (1566 م - 1574 م) آمال الأندلسيين إبان ثورة غرناطة الكبرى، وخذلهم بتفضيل فتح قبرص على إنجادهم جديًّا. ورغم ذلك فتحت الدولة العثمانية على الدوام أراضيها، خاصة في شمال إفريقيا، للمهاجرين الأندلسيين. وعمل العثمانيون على إنقاذ إخوانهم بالرسو على الشواطىء الإسبانية ونقل من يريد الهجرة من الأندلسيين إلى الجزائر. وقدر عدد

الحملات العثمانية على الشواطىء الإسبانية بين سنة 1528 م وسنة 1584 م بحوالي 33 حملة. وبعد انهيار ثورة غرناطة الكبرى سنة 1570 م، عملت السفن العثمانية على حمل اللاجئين، كما حدث في بالميرة في نفس السنة حيث نقلت السفن العثمانية جميع أهلها. وبعد انهزام ثورة غرناطة الكبرى، تحول مركز المقاومة إلى بلنسية، ولم يفقد الأندلسيون الأمل في إنزال عسكري عثماني. ففي سنة 1573 م ادعت السلطات الإسبانية أنها وقفت على أنباء وبراهين حول هجوم بحري من الجزائر على ساحل بلنسية يتزامن مع ثورة الموركسيين البلنسيين، فنزعت سلاحهم. وفي سنة 1574 م بويع السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني سلطانًا على الدولة العثمانية، فتابع سياسة والده في مساندة أهل الأندلس. وتجددت في عهده إشاعات غزو قريب للبحرية العثمانية. ففي سنة 1575 م توصل قضاة محاكم التفتيش في سرقسطة وبلنسية بأخبار مفادها أن مسلمي المملكتين (بلنسية وأراغون القديمة) يهيؤون ثورة شاملة، بتأطير غرناطي وإنزال بحري عثماني. كما أرسل في نفس السنة مورسكيو سرقسطة سفارة إلى الباب العالي يطلبون منه المساندة المادية والسلاح. وفي سنة 1575 م أسر سرفانتس، أحد كبار الكتاب الإسبان حينذاك، في الجزائر، وبقي أسيرًا خمس سنوات. وبين سنتي 1578 م و 1580 م تجددت أنباء قرب قيام ثورة مورسكية بمساندة الدولة العثمانية، وتوصلت محاكم التفتيش بمعلومات مفادها أن العثمانيين أرسلوا مبعوثًا للمورسكيين اسمه خوان دوارتي، أخذ يتجول في قرى بلنسية وأراغون القديمة المورسكية، ويعقد الاجتماعات للتخطيط للثورة. وفعلاً كان المورسكيون ينتظرون قدوم الأسطول العثماني منذ سنة 1577 م. وكانوا دائمًا على اتصال مع الجزائر والقسطنطينية. ولم ييأسوا من قدوم العثمانيين إلا سنة 1583 م. لكن البحرية العثمانية الراسية في الجزائر تابعت نقلها للمورسكيين الذين يودون اللجوء إلى أرضها. ففي سنة 1584 م استطاعت حملة بحرية عثمانية منطلقة من الجزائر مكونة من عدة سفن صغيرة من نقل 2.300 مورسكي من شواطىء بلنسية، و 2.000 مورسكي من منطقة لقنت. وفي سنة 1585 م حملت السفن العثمانية المغيرة على الشواطىء البلنسية جميع سكان بلدة كلوسة.

وظلت السفارات بين المورسكيين والدولة العثمانية متواصلة، وأخذ مسلمو بلنسية يجتازون البحر كل ربيع إلى شواطىء الجزائر. واجتمع كثير من المهاجرين الأندلسيين في مدينتي شرشال والجزائر. وأسسوا أساطيل كبيرة مكونة من مراكب خفيفة تعبر البحر دوريًّا إلى الشواطىء الإسبانية لإنقاذ المورسكيين أو أسر النصارى، مما أدى بالحكومة الإسبانية إلى إصدار الأوامر سنة بعد سنة بمنع المورسكيين من الاقتراب من الشواطىء، كما حدث في سنتي 1579 م و 1586 م، لكن دون جدوى. ولم يكن عهد أحمد الأول (1595 م - 1603 م) يختلف عن عهد سابقيه. أما الطرد الجماعي للمورسكيين سنة 1609 م، فقد حدث أيام السلطان مصطفى الأول (1603 م - 1617 م). أما علاقة الأندلسيين بالدولة السعدية، فقد رأينا موقف السلطان أبي محمد عبد الله الغالب (1557 م - 1574 م) من ثورة غرناطة الكبرى. وصلت الدولة السعدية إلى المغرب وهو يقاوم أطماع النصارى البرتغاليين والإسبان على أرضه، ويخاف على استقلاله من الدولة العثمانية على حدوده الشرقية، وكان مجزأ الأطراف متفرق الكلمة. وتم توحيد المغرب على يد السلطان محمد الشيخ عندما قتل آخر سلاطين بني وطاس يوم السبت 24 شوّال عام 961 هـ (22/ 9 / 1554 م). كان لانتصارات محمد الشيخ ضد البرتغاليين أحسن الأثر لدى الأندلسيين، المقيمين منهم في الأندلس والمهاجرين إلى المغرب. فأيدوه تأييدًا كاملاً كرجل الجهاد الذي يستحق أن يلتف حوله المسلمون للدفاع عن الإسلام في المغرب والأندلس. وحاول محمد الشيخ التحالف مع الدولة العثمانية لإنقاذ الأندلسيين. لكن لم يكتب لهذا التحالف النجاح لتخوفات السلطان السعدي من القوة العثمانية. فانقلبت هذه السياسة إلى خيانة أيام الغالب بتحالفه الضمني مع الإسبان ضد المصالح العليا لكل من المغرب والأمة الأندلسية. مما جلب لنفسه عداوة الأندلسيين في إسبانيا والمغرب. وخلف أبا عبد الله الغالب السلطان محمد المتوكل (المسلوخ) (1574 م - 1576 م)، فتبع نفس سياسة الانحياز إلى النصارى، إسبان وبرتغاليين، على حساب المصالح العليا للمغاربة والأندلسيين، مما أدى به إلى الخيانة الصريحة عندما التجأ إلى البرتغال وطلب مساندته في استرداد عرشه، وقدومه بالجيش البرتغالي غازيًا

المغرب، فانهزم هو وحلفاؤه في معركة وادي المخازن سنة 986 هـ (1578 م)، فأنقذ الله المغرب من مصير لا يختلف عن مصير الأندلس. وعمل بسبب ذلك أندلسيو المغرب على الإطاحة بمحمد المتوكل إلى أن نجحوا. وساند الأندلسيون أبا مروان عبد الملك المعتصم (1576 م - 1578 م) إلى أن بويع سلطانًا على المغرب. وكان عبد الملك وأخوه أحمد (المنصور فيما بعد) قد أمضيا سنوات عديدة في الدولة العثمانية، وساهما في معاركها العسكرية وتأثرا بنظامها وترتيبها. فاتصل الأندلسيون العاملون في الجيش المغربي بعبد الملك وهو في الجزائر وشجعوه على دخول المغرب. وقد قال مؤرخ معاصر في هذا الصدد: "وكان معه (المتوكل) في الجيش ألف وثمانمائة من أهل الأندلس. وكان رؤساؤهم يكتبون لمولاي عبد الملك بالقدوم عليهم غير مرة لأنهم كانوا يكرهون مولاي عبد الله وولده مولاي محمد لخيانته لهم في الاتفاق معه على القيام على النصارى (ثورة غرناطة الكبرى) وخذله لهم بعده. فكانت عداوتهم له ومكرهم به في قلوبهم إلى أن يجدوا فرصتهم فيه أو في ولده". وصل الوضع حينذاك بالجالية الأندلسية في المغرب إلى تمكنها من خلع سلطان والإتيان بآخر، فاجتمعت كلمتها على مساندة عبد الملك. وكان أبو الفضل الغري صلة الوصل بين عبد الملك وأندلسيي المغرب. وهو رجل هاجر من غرناطة قبيل ثورتها الكبرى إلى الجزائر، فكسب مكانة كبرى عند كبار الدولة العثمانية. فاقترب من المعتصم في الجزائر، فأرسله للاتصال سرًّا بأندلسيي المغرب وبأتباعه لمساندة دعوته. فانتقل الغري في صورة تاجر إلى مراكش وفاس. كما هاجر إلى الجزائر بعد فشل ثورة غرناطة الكبرى، محمد زرقون، أحد قوادها، فاتصل بعبد الملك وجهز جيشًا من الأندلسيين لإدخاله إلى المغرب. ولما انتصر عبد الملك وجلس على عرش المغرب، عين زرقون رئيسًا أعلى لما يسمى بـ "فرقة النار" في الجيش المغربي. وهاجر من غرناطة بعد فشل ثورتها الكبرى سعيد بن فرج الدغالي، إلى تطوان، ومنها إلى فاس حيث اتصل بالغالب وأصبح رئيس فرقة الأندلسيين بالجيش المغربي. فعند دخول عبد الملك إلى المغرب، انحاز سعيد بن فرج بفرقته إليه مما رجح كفة الصراع إليه. هكذا أصبح الأندلسيون ركنًا قويًّا من أركان الدولة المغربية وجيشها أيام المعتصم. وبنى الأندلسيون كذلك أسطولاً مغربيًّا، خاصة في العرائش وسلا، للجهاد في البحر ضد سفن الإسبان والبرتغاليين.

ولما استغاث محمد المتوكل بالبرتغاليين ليستعيد ملكه مقابل احتفاظهم بسواحل المغرب، انضم أندلسيو المغرب إلى عبد الملك المعتصم ضد البرتغاليين. وكانت لهؤلاء الأندلسيين صلات وثيقة بإخوانهم في الأندلس الذين كانوا يخبرونهم بالنوايا البرتغالية. وكانت مشاركة عدد كبير من الجنود والمتطوعة الأندلسيين في معركة وادي المخازن سنة 1578 م عاملاً أساسيًّا في انتصار المسلمين. لذا لم يكن ذلك انتصارًا للمغرب على البرتغال فقط، بل كان كذلك انتصارًا للأندلسيين على الإسبان الذين حاربوا بأعداد كبيرة ضد المغرب في الجيش البرتغالي. وفعلاً ارتعبت بعده إسبانيا من تدخل مغربي في الأندلس لصالح المسلمين. ونتج عن معركة وادي المخازن مقتل ملك البرتغال ومحمد المتوكل والسلطان عبد الملك المعتصم، وبويع المتوكل أبو العباس أحمد المنصور خلفًا لهذا الأخير. كما نتج عنها ضياع استقلال البرتغال التي اندمجت بعدها في إسبانيا لمدة طويلة. هذه مساعدة الأندلسيين للسلطان عبد الملك المعتصم فما هي مساعدته لهم في الدفاع عن الأندلس؟ في الحقيقة، لم يهتم عبد الملك بمساعدة الأندلسيين في مقاومتهم ضد الإسبان، بل كان يرى فيهم مخزن الرجال لجيوشه ولتعمير مدن المغرب. وكباقي السلاطين السعديين، أدى الخوف من الدولة العثمانية بعبد الملك إلى التحالف مع الإسبان، ضد مصالح المغرب العليا، وعلى حساب الأندلسيين. ووصل به الحال إلى أن عرض مرتين على الملك فليبي الثاني، أعدى عدو للإسلام والمسلمين، مشروع حلف مغربي - إسباني دفاعي - هجومي ضد الدولة العثمانية، يتضمن فتح البلدين لتجارة رعاياهما وعدم مساعدة أي طرف لمعارضي الطرف الثاني، أي يتعهد عبد الملك بعدم مساعدة المورسكيين مقابل مساندة إسبانيا في مقاومته للعثمانيين. وبعد استشهاد عبد الملك المعتصم في معركة وادي المخازن بويع أخوه أبو العباس أحمد المنصور (1578 م - 1603 م) الذي تابع سياسة سلفه في علاقته مع الأندلسيين. إذ كان هو الآخر يرى في الدولة العثمانية عدوه الأول، وفي الهجرة الأندلسية الرجال لجيشه والسكان لمدن المغرب. ولذلك تركزت آمال الأندلسيين أكثر فأكثر على العثمانيين، مما جعلهم مشبوهين لدى المنصور. فقتل زعماءهم الذين أبلوا معه البلاء الحسن في معركة وادي المخازن وكانوا سببًا في انتصار المسلمين، وهم سعيد بن فرج الدغالي وابن أخيه محمد ومحمد زرقون وأبو الفضل الغري وغيرهم.

وقام بتلك المذبحة في يوم واحد من شهر رجب عام 986 هـ (شتنبر عام 1578 م)، فور الانتهاء من المعركة ومبايعته سلطانًا. ووصل الأمر بالمنصور سنة 1570 م إلى إفشاء سر تخطيط المورسكيين للثورة، فأخبر الدولة الإسبانية بذلك كبرهان لتحالفه معها ضد الأندلسيين وضد العثمانيين. واستعمل المنصور العاطفة الشعبية نحو مأساة الأندلس لتقوية سلطانه في المغرب. فبينما كان يتكلم جهرًا عن استعادة الأندلس، كان يتحالف سرًّا مع الإسبان ضد الأندلسيين، ويرمى عبر الصحراء الكبرى بجيوشه وآلاف الأندلسيين، على رأسهم الأندلسي جودر، لاحتلال مملكة إسلامية مسالمة في السودان، بينما يستغيث المورسكيون في الأندلس. وهكذا لم تكن الدولة السعدية على مستوى الدولة المرابطية والموحدية والمرينية في إنجاد الأندلس، ولا في الدفاع عن مصالح المغرب العليا. كان المسلمون في مملكة أراغون القديمة يكونون أقرب تجمع إسلامي من فرنسا في إسبانيا، لا تفرقهم عنها وعن حركة الهوكونو البروتستانتية في ولاية بيارن بها سوى جبال البرت. وكان الملك فليبي الثاني، ملك إسبانيا، يخاف دائمًا من تحالف الهوكونو ومورسكيي أراغون القديمة. وفعلاً، منذ سنة 1570 م، أخذ هؤلاء يرسلون سفراءهم إلى بيارن للتفاوض في ربط تحالف مع البرتستانت ضد إسبانيا، وصرح موسيو دو روس، حاكم بيارن: "سنغزو قريبًا إسبانيا، وننتصر عليها، ونستعيد منها نبارة". وفي سنة 1573 م توصلت الدولة الإسبانية بأخبار مفادها قرب وقوع هجوم على السواحل البلنسية من الجزائر مقترن بغزو لأراغون القديمة من طرف حاكم بيارن المذكور سابقًا. وفي سنة 1575 م، اقترح حاكم بيارن على مسلمي أراغون القديمة مساندته العسكرية إذا قاموا بثورة ضد إسبانيا، وطلب منهم عشرة إلى اثنى عشر ألف أسكودو مقابل مساعدته. وبعد تدارس العرض، وجد المورسكيون أن المال المطلوب فوق طاقتهم، فطلبوه من الدولة العثمانية، لكن دون جدوى. فأخبروا حاكم بيارن أن لديهم كميات كبيرة من السلاح المخبأ، وطلبوا منه قبولها عوضًا عن المال. وقد ساند هوكونو بيارن مسلمي أراغون القديمة في حربهم الأهلية ضد النصارى الجبليين في الفترة بين سنة 1585 م و 1588 م. وفي سنتي 1592 م و 1593 م، انتشر الرعب في إسبانيا مرة أخرى عندما لجأ أنطونيو بيريز، أحد زعماء المورسكيين الأراغونيين، إلى فرنسا، وحصل على وعد بالمساندة من أمير بيارن (الذي أصبح فيما

4/ 5 - التفكير في الطرد:

بعد هنري الرابع، ملك فرنسا) في حال ثورة المورسكيين، مقابل مساندتهم له إن غزا أراغون. وفي سنة 1605 م، اكتشف ديوان التفتيش تخطيطًا لثورة المسلمين في مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، يتزامن مع إنزال فرنسي على سواحل مملكة بلنسية. واتفق سفراء المورسكيين على موعد الثورة مع بانيسو، سفير دوق دولا فورس، حاكم ولاية بيارن، لديهم. واكتشف الراهب بليدة المؤامرة فبلغ عنها. فقبضت الدولة على عدد كبير من زعماء المورسكيين الذين اتهمتهم بالتآمر، وأعدمتهم شنقًا. ثم أصدر نائب الملك على بلنسية الأمر بالقبض على كل مورسكي يحاول الخروج منها برًّا أو بحرًا. وباختصار، يبدو أن الفرنسيين أرادوا استعمال المورسكيين لتخويف الإسبان، وخلق المشاكل لهم عند الضرورة، للحصول على مكاسب منهم بأرخص الأثمان. لذا لم يقدموا أية مساعدة عملية لمسلمي مملكة أراغون تساعدهم على الثورة. وهكذا تبين للمورسكيين عدم جدية حلفائهم المحتملين، الواحد تلو الآخر، في إنقاذهم، وأنهم يستعملونهم لأغراضهم السياسية. 4/ 5 - التفكير في الطرد: وصلت الكنيسة والدولة في إسبانيا إلى اليأس التام من تنصير المسلمين، قبل أن ييأس الأندلسيون من تخليص أنفسهم من الاستعباد النصراني القشتالي الذي وقعوا فيه، ومن مساندة إخوانهم المسلمين من وراء البحار. فبعد إرغام الأندلسيين على التنصير، وحرق كتبهم، ومسخ ثقافتهم، ومصادرة أموالهم، واستعباد أبنائهم ونسائهم، وقتل رجالهم، وقمع ثوراتهم، ومتابعتهم لأتفه الأسباب، ومنعهم من لغتهم العربية وعاداتهم وأسمائهم، ومتابعة تشريدهم وتشتيتهم، وحرق زعمائهم، ثم خذلان الدول الإسلامية عبر البحار لهم، لم تصل الكنيسة الكاثوليكية ولا الدولة الإسبانية إلى النتيجة المبتغاة منهم. فانهزمت الكنيسة أمام تصميمهم على الثبات على الإسلام، وارتعبت الدولة منهم على ضعفهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس كلما اكتشفت أو تخيلت مؤامرة ضدها من طرفهم. اطمأنت الدولة الإسبانية من وقوع ثورات جديدة في مملكة غرناطة بعد أن طردت عددًا كبيرًا من الغرناطيين سنة 1570 م وشتتتهم على أنحاء قشتالة، فوجهت اهتمامها إلى مسلمي مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، تهدد تجمعاتهم بالطرد

والتشتيت. وعندما رأى رجال الدولة والكنيسة، بعد بضع سنين من نفي الغرناطيين، أن ذلك النفي لم يؤد إلى نتيجة، بل ساعد المسلمين في مناطق أخرى على التشبث بالإسلام وقوى عزمهم على المقاومة، استنتجوا استحالة إخلاص الأندلسيين للنصرانية وأخذوا يفكرون في عدة اقتراحات لحل مشكلة المورسكيين حلاًّ جذريًّا. وانقسمت الاقتراحات إلى ثلاثة حلول: جمع المورسكيين في أحياء خاصة بهم؛ أو إفناؤهم جميعًا؛ أو طردهم خارج إسبانيا. أما الحل الأول، فقد اقترحه سنة 1582 م الراهب فرانسسكو دي رباس، إذ اقترح أن يخير المورسكيون بين النصرانية والإسلام. فالذين يختارون النصرانية والاندماج في المجتمع النصراني، تتابع حراستهم ومراقبتهم من طرف النصارى القدامى. والذين يختارون الإسلام، يجمعون في أحياء خاصة بهم، ويسمح لهم باتباع دينهم، وبهذا ينتهي الجدال حول عقيدتهم وغموض وضعيتهم. وتراقب الأحياء الإسلامية بعدد من الجنود النصارى يمولون من طرف المسلمين، ويكون قضاتهم من النصارى. وفي سنة 1588 م، أرسل ألونسو كوتييرس من إشبيلية اقتراحًا شبيهًا بالأول. فهو يقترح تجميع كل مائتي عائلة موريسكية في تجمع سكني خاص بها تحت مراقبة متواصلة لنصراني موثوق به. ولا يقومون بشيء من شعائرهم الدينية، ولا يتزوجون إلا بإذنه، وينزع منهم السلاح، وتضاعف عليهم الضرائب، ويؤخذ منهم خمس الميراث، ويعاقبون عقوبات شديدة في حالة المخالفة، تتراوح بين الاستعباد والمصادرة والأعمال الشاقة في السفن والمناجم، ويمنعون من التنقل دون علامة واضحة على وجوههم تبين أنهم مسلمين. أما الحل الثاني، فقد اقترحه سنة 1573 م الراهب تريخوس الذي كان من أب نصراني وأم مورسكية، وحمته عائلة أمه من القتل إبان ثورة غرناطة الكبرى. وقد قدم خطة للقضاء على المورسكيين باختطاف كل الأطفال الذين لا تتعدى أعمارهم ست سنوات وتسليمهم للنصارى القدامى لتربيتهم على دين النصرانية، ومنعهم من الزواج حتى لا يتناسلوا، وبهذا ينقرضون مع الأيام. واقترح المطران ربيرا القضاء على المورسكيين بالاسترقاق، وأخذ كل سنة بضعة آلاف رجل منهم للعمل في السفن والمناجم حتى يتم إفناؤهم. واقترح بعض وزراء فليبي الثاني جمع كل المورسكيين وحملهم على السفن ثم إغراقهم في عرض البحر. واقترح مارتين دي سالبتيرة، أسقف سقوربة بمملكة بلنسية، إخصاء كل الذكور المورسكيين، كبارًا وصغارًا، وبهذا

ينقرضون بسرعة. واقترح ألونسو كوتييرس، السابق الذكر، نفس الحل، ولكن فقط لتحديد نسلهم، وليس للقضاء عليهم جميعًا. واقترح أحدهم قتل المورسكيين دفعة واحدة، أو قتل البالغين منهم واسترقاق الباقين وبيعهم. وفي سنة 1581 م اقترح بدرو بونسي دي ليون، الذي قضى عشرين عامًا في خدمة الملك، إرسال شباب المورسكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 40 سنة للعمل في السفن، وبإبعاد الشباب عن المجتمع المورسكي يقل نسلهم وينقرضون مع الوقت، لأن الذين تتجاوز أعمارهم الأربعين تكون خصوبتهم محدودة. أما الحل الثالث، فهو الذي كان له أكثر المساندين من بين رجال الدولة والكنيسة. ابتدأت فكرته تتبلور منذ اجتماعات الأشبونة التي حضرها فليبي الثاني، ملك إسبانيا، لتنصيبه ملكًا على البرتغال كذلك بعد هزيمتها في وادي المخازن. ففي 4/ 12 / 1581 م كون الملك لجنة لدراسة وضع الدولة الداخلي والخارجي الناتج عن "الخطر المورسكي"، فدرست الحلول المقترحة. وعقدت اللجنة اجتماعين آخرين في 19/ 6 / 1582 م و 13/ 9 / 1582 م، توصلت فيهما إلى قرار توصية الملك بطرد جميع المورسكيين خارج إسبانيا. وقدمت اللجنة التوصية لمجلس الدولة (الكورتس) بتاريخ 19/ 9 / 1582 م. وتعاطف الملك مع هذه التوصية من أول وهلة إذ، منذ سبتمبر عام 1582 م، أخذ يتصل سرًّا بكبار نبلاء الإقطاع في مملكة بلنسية لإقناعهم بفائدة إخراج المورسكيين. وتدارس مجلس الدولة محاسن ومساوىء طرد المورسكيين. فرأى أعضاؤه أن معظم المساوىء اقتصادية بسبب انخفاض دخل الملك والنبلاء إذا طرد المورسكيون، وسياسية بسبب احتمال حدوث اضطرابات عند إخراجهم، ودينية بسبب خسارة أرواح المورسكيين نهائيًّا للدين النصراني، ورأى أعضاء المجلس أن كل هذه المساوىء لا تساوي المحاسن التي تترتب عن هذا الطرد، وهي أن يعم السلام البلاد وأن تتوحد دينيًّا. لذا أجمع رجال الكنيسة على الموافقة على الطرد، بما فيهم أسقف طليطلة وأسقف بلنسية وقضاة التفتيش بهما. واقترح أسقف سقوربة طردهم إلى جزيرة جرداء كالأرض الجديدة (التابعة لكندا اليوم) حتى لا يزيدوا من قوة المسلمين إذا طردوا إلى أرضهم. وبقيت فكرة الطرد بين المد والجزر، وقد اقتنع بها الملك ولكن تهيب من تنفيذها خوفًا من معارضة نبلاء مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، أمثال ماركيز دانية،

وانتظارًا لتوفير المصاريف الهائلة الضرورية لمثل هذا الطرد الجماعي، وكذلك لعدم موافقة الأوضاع الدولية. وحاصر كبار الدولة الملك بالرسائل التي تحرضه على الإسراع بطرد المورسكيين، كالرسالة التي توصل بها من طليطلة سنة 1584 م التي يقترح فيها كاتبها على الملك إخراج المورسكيين من طليطلة لتحصينها وإحلال النصارى مكانهم. ولما تيقن الملك فليبي الثاني أن معظم الأهالي النصارى يساندون فكرة طرد المورسكيين، وأن الكنيسة تكاد تكون مجمعة عليه، وأن من السادة من اقتنع به ومعظمهم لن يعارضه، أصدر أمرًا ملكيًّا بتاريخ 18/ 1 / 1585 م بطرد جميع المورسكيين في ظرف شهرين، والحكم بالإعدام شنقًا لكل متخلف منهم. واستثنى الأمر أطفال المسلمين من الطرد وقرر أخذهم من آبائهم وتسليمهم للكنيسة لتنشئهم على الدين النصراني. ورغم أن مجلس الدولة أوصى بتطبيق هذا الأمر في شتاء السنة نفسها، فقد تردد الملك في تنفيذه، وبقي الوضع معلقًا. وعادت الكنيسة إلى أمل تنصير المورسكيين. ففي 17/ 9 / 1587 م أصدر مجلس الدولة بمجريط توصية بإجراء حملة تنصير جديدة بين المورسكيين، رغم عدم اقتناعه بجدواها. وظل الوضع هكذا إلى أن مات فليبي الثاني في سنة 1598 م. وخلف فليبي الثاني على عرش إسبانيا ولده فليبي الثالث (1598 - 1621 م)، الذي كان يختلف عن سلفه اختلافًا كبيرًا. فبينما كان فليبي الثاني قوي الشخصية، كامل الاستبداد، كان فليبي الثالث منعدم الشخصية، تام المسالمة، فأصبح ألعوبة في يد الرهبان، وتحت نفوذ وزيره، دوق دي ليرما. وكانت الملكة مرغريتة النمساوية من طينته، ضعفًا وتعصبًا. وعند تولية فليبي الثالث، دخلت إسبانيا مرحلة سلام في علاقاتها الدولية بعد أن عقدت معاهدة مع فرنسا سنة 1598 م. كما اقتنع حينذاك نبلاء مملكتي بلنسية وأراغون القديمة بإمكانية استبدال عمالهم المسلمين بمهاجرين نصارى من فرنسا. وفي 30/ 1 / 1599 م عقد مجلس الدولة اجتماعًا بحث فيه موضوع طرد المورسكيين، وأوصى هذه المرة بطرد الرجال الذين تزيد أعمارهم عن الستين سنة، والنساء، إلى شمال إفريقيا. أما الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 60 سنة، فيحكم عليهم بالأشغال الشاقة فوق السفن مدى الحياة كعبيد، وبمصادرة جميع

أملاكهم، ويسلم الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة للكنيسة لتنشئهم على الديانة النصرانية. وفي 2/ 2 / 1599 م تقدم الوزير الدوق دي ليرما لمجلس الدولة بمشروع للخلاص من المورسكيين، قال فيه إن المورسكيين الآن مسلمون كما كانوا وسيظلون. وأوصى بإعدام كل من هم بين الخامسة عشرة والستين من العمر منهم، أو استعبادهم أو إرسالهم للعمل فوق السفن مع مصادرة أملاكهم. وأوصى الوزير بإرسال الرجال الذين جاوز عمرهم الستين، والنساء، إلى شمال إفريقيا، وتسليم الأطفال للكنيسة ليتعلموا الدين النصراني. وتابع مجلس الدولة دراسة الموضوع طوال سنة 1599 م في سرية تامة مخافة ثورة المورسكيين، واقترح تهيىء قوة عسكرية كبيرة للإشراف على الطرد، وإحصاء جميع المورسكيين الموجودين في ممالك إسبانيا. وفي عام 1599 م، اجتمع مجلس مملكة بلنسية الإقليمي بحضور أسقفها وأسقف إسبانيا، الكاردينال كاسبار دي قرطبة، وكبار رجال الكنيسة، ودرس مرة أخيرة طرق تنصير المورسكيين، وفي نفس السنة تزوج الملك فليبي الثالث بمرغرينة النمساوية عند صديقه دوق دانية، في مملكة بلنسية، حيث درس وضع المورسكيين عن كثب. وبعد زيارته، كتب رسالة بتاريخ 23/ 5 / 1599 م إلى الكاردينال خوان دي ربيرا، أسقف بلنسية، يأمره فيها بالعمل من جديد على تنصير المورسكيين، وتعيين قساوسة جدد، وتدريب الوعاظ، وطبع الكتب لتعليم العقيدة النصرانية، وتأسيس مدرسة للراهبات المورسكيات لتعملن في الأديرة وبيوت النصارى القدامى. وهذا الأمر يدل على أن الملك لم يكن حينذاك يفكر جديًّا في طرد المورسكيين. ولكن أسقف بلنسية كان يعتقد استحالة تنصير المورسكيين، ويساند قرار مجلس الدولة بتاريخ 30/ 1 / 1599 م بطردهم. وفي 19/ 2 / 1600 م، درس مجلس مملكة بلنسية الإقليمي اقتراح أسقف إسبانيا، الكاردينال دي قرطبة، بإخراج مسلمي بلنسية وتوزيعهم على قشتالة، فنصحه ونصح الكاردينال دي ريبيرا بالاعتدال، وشدد على ضرورة الاكتفاء بطرد فقهاء الإسلام كلما اكتشفوا، واختصار مدة العفو التي صدرت من بابا روما من سنتين إلى سنة واحدة. ثم طلب المجلس من الكنيسة أن تعقد اجتماعًا على مستوى مملكة بلنسية لدراسة تنصير المورسكيين وإنشاء ميلشيات لقمع أي تمرد يصدر عنهم.

لكن الكاردينال دي ربيرا ظل يطالب الملك بطرد المورسكيين. فكتب في أواخر عام 1601 م رسالة إلى الملك يشكو فيها عنادهم وتماديهم في عدم الإخلاص للنصرانية، ويؤكد فيها خطرهم على الدين النصراني والدولة الإسبانية، إلى أن قال إنهم إن لم يطردوا "فسأرى في حياتي ضياع إسبانيا" ويصر في رسالة ثانية بتاريخ يناير 1602 م على ضرورة طردهم لأنهم "ملحدون عنيدون وأعداء للتاج الملكي". وفي 3/ 1 / 1602 م، بعد فشل هجوم إسبانيا على الجزائر، عقد اجتماع لمجلس الدولة، حضره كبار رجالها، اقترح فيه أعضاؤه طرد جميع المورسكيين، ابتداءً من مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، لعلاقاتهم السرية مع الفرنسيين، ووافق بعضهم على نقلهم إلى شمال إفريقيا شرط الاحتفاظ بأطفالهم. ورأى الوزير دي ليرما والكاردينال دي قرطبة أنه من الفظاعة طرد رجال نصروا إلى بلاد المسلمين وإجبارهم بذلك على الدخول في الإسلام، واقترحا أخذ رأي بابا روما في الموضوع، كما تخوفا من ثورة مسلحة. أما فليبي الثالث فقد أجاب على الاقتراح كتابة بقوله: "إذا أمكن طردهم بدون تأنيب الضمير فإني أعتقد أن ذلك هو الحل الأفضل". وتتابعت الاجتماعات، وتشعبت الآراء. وفي سنة 1604 م، اجتمع مجلس الدولة ببلنسية بحضور الملك، وركز مرة أخرى على ضرورة تقوية مجهودات التنسيق. وفي مايو سنة 1606 م، أرسل بابا روما رسائل إلى أسقف بلنسية وغيره، يطلب فيها من رجال الكنيسة في مملكة بلنسية تدارس طرق تنصير المورسكيين تنصيرًا جديًّا. ولم تأخذ الأوضاع مجرى جديدًا إلا بدخول سنة 1608 م كما سنرى في الفصل القادم.

مراجع الفصل الرابع

مراجع الفصل الرابع 4/ 1 - محمد حتاملة "التهجير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملك فليب" عمان (الأردن) عام 1982، ص 69 - 78. 4/ 2 - B. Vincent "L'Expultion des Morisques du Royaume de Grenade et leur Repartition en Castille (1570-1571) " Melanges de la Casa Velaz- quez, Vol. VI, 1970, p. 210-246. 4 / 3 - Archivo del Instituto de Valencia de Don Juan, Madrid, Espana, en- vio 62, p. 515. 4 / 4 - Ref (4.3) , envio 62, p. 466, documento del 1570 / 11 / 14. 4 / 5 - Ref. (4.3) , envio I, p. 35. 4 / 6 - Ref. (4.3) , envio I, p. 49. 4 / 7 - Lapeyre "Geographie de l'Espagne Morisque" SEVPEN, Paris, 1959, p. 125. 4 / 8 - B. Vincent "Combien de Morisques ont-ils ete Expulses du Royaume de Grenade?" Melanges de la Casa Velasquez, Vol. VII, 1971, p. 397-398. 4 / 9 - Archivo de la Casa de Medinaceli (Sevilla) , Marquesado de Co- mares. 4 / 10 - Ref. (4.3) , envio I, p. 68. 4 / 11 - Francisco Oriol Catena "La Repoblacion del Reino de Granada de- spues de la Expulsion de los Moriscos" Boletin de la Universidad de Granada, Ano VII (Feb. 1933) , no 32, p. 499-500. 4 / 12 - Ref. (4.11) , p. 315-331 y 510-513.

4/ 13 - B. Vincent "Les Bandits Morisques en Andalousie au XVIe Siecle" Revue d'Histoire Moderne et Contemporaine, 1974, p. 397-399. 4 / 14 - A.G.S., Camara de Castilla, leg. 2172, 2178y 2187. 4 / 15 - Ref. (4.14) , leg. 2174. 4 / 16 - Ref. (4.14) , leg. 2182. 4 / 17 - Ref. (4.14) , leg. 2175. 4 / 18 - N. Cabrillana "Esclavos Moriscos en la Almeria del Siglo XVI" Al- Andalus, 1975, p. 53-128. 4 / 19 - Ref. (4.14) , leg. 2179. 4 / 20 - Ref. (4.14) , leg. 2178. 4 / 21 - Ref. (4.14) , leg. 2182. 4 / 22 - I. Bauer Landner "Papeles de Mi Archivo, Relaciones y Manuscri- tos (Moriscos) , Madrid, 1923, p. 141-156. 4 / 23 - Ref. (2.13) . 4 / 24 - Archivo de la Corona de Aragon, Reg. 4353, p. 129 y ss. 4 / 25 - Archivo del Reino de Valencia, Reg. 1332, fol. 12-13. 4 / 26 - Ref. (4.25) , Reg. 1333, fol. 272. 4 / 27 - Ref. (4.25) , Reg. 1337, fol 204. 4 / 28 - Archivo del Instituto de Valencia de Don Juan, Madrid, envio I, p. 138. 4 / 29 - Ref. (4.28) , envio I, p. 144. 4 / 30 - Ref. (4.28) , envio I, p. 163. 4 / 31 - Ref. (4.28) , envio I, p. 183. 4 / 32 - S. Garcia Martinez "Bandolerismo, Pirateria y Control de Moricos en Valencia durante el Reinado de Felipe II" Estudis, 1972, p. 144. 4 / 33 - Ref. (4.28) , envio I, p. 185. 4 / 34 - A. Melon "Lupercis Latras y la Guerra de Moriscos y Montaneses en Aragon en Fines del Siglo XVI" Zaragoza, 1917.4 / 35 - J. Regla "Estudios Sobre los Moriscos" 2e ed., Valencia, p. 150-151. 4 / 36 - Ref. (4.32) , p. 150-154.

4/ 37 - T. Halperin Donghi "Un Conflicto National: Moriscos y Cristianos Viejos en Valencia" Cuadernos de H. de Espana, Buenos Aires XXV-XXVI, 1957, p. 117. 4 / 38 - P. Boronat y Barrachina "Los Moriscos Espanoles y su Expulsion" Valencia, 1901, 2 Volumes, vol. I, p. 285. 4 / 39 - Mercedes Garcia Arenal "Los Moriscos" Editoria National, Ma- drid, 1975, p. 177-215. 4 / 40 - Raphael Carrasco "Peril Ottoman et Solidarite Morisque" Revue d'Histoire Maghrebine, no. 25-26, Juin 1982, p. 33-47. 4 / 41 - Fray D. Haedo "Topografia en Historia General de Argel" Vallado- lid, 1612, Sociedad de Bibliofilos Espanes, Madrid, 1928. 4 / 42 - F. Braudel "Conflits et Refus de Civilisation: Espanols et Moris- ques au XVIIe Siecle" Annales, Economies, Societes, Civilization, II, Octobre-Decembre 1947, no.4, p. 402. 4 / 43 - مؤلف مجهول "تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية" نشره جورج كولان بالرباط سنة 1934 م، ص 44. 4/ 44 - مرجع (4 - 42)، ص 53. 4/ 45 - محمد العربي الخطابي "أمير سعدي في خدمة البلاط الإسباني" مجلة المناهل، العدد 13، دجنبر 1978 م. 4/ 46 - عبد العزيز القشتالي "مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفا" تحقيق عبد الله كنون، تطوان 1964، ص 43 - 52. 4/ 47 - F. Braudel "La Mediterranee de la Monde Mediterraneen" 4e edi- tion, Paris, 1979, Vol. 2, p. 126. 4 / 48 - A. Dominguez Ortiz y B. Vincent "Historia de los Moriscos" Revis- ta de Occidente, Madrid, 1979, p. 61. 4 / 49 - L. Cardaillac "Morisques et Protestants" Al-Andalus, 1971, p. 44. 4 / 50 - H.C. Lea "The Moriscos; Their Conversion and Expulsion" Londres, 1901, New York, 1968, p. 281-288. 4 / 51 - Ref. (4.3) , envio I, p. 183. 4 / 52 - Ref. (4.38) , p. 634 y ss. 4 / 53 - Ref. (4.14) , leg. 2178. 4 / 54 - Ref. (4.50) , p. 296-299.

4/ 55 - Ref. (4.38) , p. 346. 4 / 56 - Ref. (4.38) , p. 634. 4 / 57 - Ref. (4.38) , envio I, p.110. 4 / 58 - Ref. (4.48) , p. 71-72. 4 / 59 - Ref. (4.38) , p.606 y p.633. 4 / 60 - M. Danvila y Collado "La Expulsion de los Moriscos Espanoles" Madrid, 1889, p. 205. 4 / 61 - Ref. (4.60) , p. 230.

الفصل الخامس طرد المسلمين الجماعي عن إسبانيا (1608 - 1614 م)

الفصل الخامس طرد المسلمين الجماعي عن إسبانيا (1608 - 1614 م) 5/ 1 - قرار الطرد سنة 1608 م: في 30/ 1 / 1608 م اجتمع مجلس الدولة بكامل أفراده، ووافق بالإجماع على طرد المورسكيين جميعًا من الأراضي الإسبانية. ووافق على هذا القرار هذه المرة أعضاء المجلس الذين ترددوا في اتخاذه من قبل، فرجعوا في رأيهم وساندوه. وكان دوق ليرما رئيس المتحمسين في اتخاذ قرار الطرد بحجة فشل كل حملات التنصير في مملكة بلنسية، وساند رأي ريبرا في إرسال الشباب المورسكي للتجديف فوق السفن، والنساء إلى شمال إفريقيا، والأطفال لبيوت النصارى القدامى. وظهر له أن الوقت أصبح مناسبًا لإنجاز هذا الطرد بسبب أوضاع الدولة العثمانية والمغرب. واقترح جمع السفن التي تنقل المطرودين في مختلف الموانىء، دون إعلان السبب. وقال: "بما أن محاكم التفتيش متعودة على القبض على كثير من المورسكيين، فيمكنها بهذه المناسبة القبض على زعمائهم لإزالة حمايتهم للجماهير المورسكية ورجاحة رأيهم". وبقي على المجلس النظر في حل مشكلة الخسارة المادية التي ستلحق بالنبلاء بسبب طرد خدامهم المورسكيين في مملكة بلنسية. ففكر المجلس في ضرورة تعويضهم بسخاء بأموال المورسكيين المطرودين. ولم يتكلم بتفصيل في جلسات المجلس هذه إلا عن طرد مورسكيي بلنسية. وأما مورسكيي مملكة أراغون القديمة (سرقسطة)، فقد قرر المجلس إرسال كتب في الوقت الراهن إلى نبلائها لإخبارهم بعدم حدوث أي قرار جديد في أمرهم. أما فيما يخص مورسكيي مملكة قشتالة (بما فيها الأندلس)، فقد رأى المجلس أن "إخراجهم من جبال البشرات كان خطأ كبيرًا، وكان الضرر أقل لو تركوا هناك عوضًا عن توزيعهم على كل أنحاء المملكة. وعند الانتهاء من طرد مورسكيي بلنسية يمكن النظر في إمكانية إرجاعهم إلى البشرات أو

توزيعهم على النصارى القدامى، مع منعهم من الحصول على أملاك ثابتة أو الاتجار أو الحصول على وظائف تساعدهم على إلحاق الضرر بالدولة". ولم تطبق الدولة هذا القرار إلا بعد مضي سنة كاملة على اتخاذه، لأنها أرادت تهيىء الجو وترتيب الوضع قبل تطبيق قرار في هذه الأهمية. ومع أنه من حق ملوك إسبانيا اتخاذ أي قرار يؤثر على أملاك وأرواح رعاياهم، في إطار نظام الملكية المطلقة حينذاك، فإنهم لم يستعملوا في الماضي هذا الحق إلا في حالات فردية. لذا فضل الملك فليبي الثالث، لأسباب انتهازية، أن يكون قراره في طرد طائفة بكاملها من رعاياه مبنيًّا على حكم قضائي، على الأقل ظاهرًا، ناتج عن دولة يسودها العدل، حتى يبين للجميع أن الأندلسيين طردوا من إسبانيا نتيجة حكم "عادل" لكونهم "كفرة" بالدين النصراني و"خونة" للدولة الإسبانية. أما "كفرهم" فلا يمكن أن تشهد به إلا الكنيسة الكاثوليكية وبما أن بابا روما رفض إصدار قرار بتكفير جماعي لكل المورسكيين، رفع الملك الموضوع إلى لجنة كنسية. وفي 22/ 11 / 1608 م، اجتمعت اللجنة في بلنسية برئاسة نائب الملك لمملكة بلنسية وعضوية ماركيز قرسينة وأساقفة سقربة وبلنسية وأريولة وطرطوشة. وتتابعت اجتماعات اللجنة حتى مارس سنة 1609 م. ولم توافق اللجنة على قرارات مجلس الدولة الأعلى ولا على رأي رئيس الأساقفة، بل أوصت بمتابعة مجهودات التنصير باللين، ومطالبة البابا بفترة عفو جديدة تدوم عدة سنوات تتوقف إبانها محاكم التفتيش عن متابعة المورسكيين. ولم يعجب الملك رأي المجلس الكنسي الذي عينه إذ لم يتماشى مع ميله إلى الطرد، لهذا "فإن الملك الكاثوليكي، وقد رأى أنه من أجل الوصول إلى نتيجة غير أكيدة وجب عليه المرور بكل هذه الأتعاب، وإذا لم يطبق قراره المقدس في طرد المورسكيين فسيكتسبون الوقت اللازم لإنجاز خياناتهم وقراراتهم في القضاء على إسبانيا، ولإنجاز أمر الطرد فقد أمر بالإسراع بتنفيذ رأي دوق ليرما". ويتبين من هذا أن دوق ليرما هو الرجل القوي وراء قرار الطرد، وأن الملك لم تعد تهمه المجادلات الدينية، فهو قرر أن المورسكيين مسلمين وأنهم خطر على الدين والدولة. ويتلخص خطرهم على الدولة في علاقاتهم مع ثلاث دول، هي فرنسا والمغرب والدولة العثمانية. ومما يزيد تخوف الدولة الإسبانية من المورسكيين إظهار عواطفهم نحو المسلمين في الخارج، فكانوا يحتفلون لانتصارات الدولة العثمانية على

النصارى ويحزنون لنكساتها، كما كانوا يفرحون لانهزامات إسبانيا على يد أعدائها، كانهزام بحريتها على يد الإنجليز، ويتعاطفون مع بروتستانت جنوب فرنسا الذين كانوا كذلك ضحايا القمع الكاثوليكي. أما علاقة المورسكيين مع فرنسا، فقد رأينا تخوف فليبي الثاني من مسلمي مملكة أراغون القديمة، خاصة بعد سنة 1580 م، ففي سنة 1588 م، أمر بتحصين الحدود بين أراغون القديمة وبيارن الفرنسية، وبين مملكة أراغون القديمة ومملكة بلنسية، حتى يعزل مسلمي أراغون القديمة عن البرتستانت الفرنسيين (الهوكونو) وعن المسلمين البلنسيين. ورغم تحول هنري دي بوربون، زعيم الهوكونو، إلى الدين الكاثوليكي عندما أصبح ملكًا على فرنسا تحت اسم هنري الرابع، فقد بقي على عدائه لإسبانيا، وتابع علاقته بالمورسكيين، وأصبحت الدولة الإسبانية تنظر إلى علاقة هنري الرابع بالمورسكيين بتخوف أكبر، إذ أصبحت سياسة لدولة مجاورة ومنافسة. وفي سنة 1602 م، فكر الهوكونو في مساعدة مسلمي أراغون على الثورة، فأرسل دوق دي لافورس، حاكم البيارن الفرنسية، مرسولاً اسمه سانسيستبان إلى بلنسية للاتصال بفرنسي يسكنها اسمه مرتين دي إيريوندو بصفته وسيطًا بين الهوكونو والمورسكيين. وشكل المورسكيون لجنة مكونة من خمسة ممثلين لتمثيلهم في المفاوضة مع الفرنسيين بهدف تهيىء ثورة مورسكية شاملة. ثم أرسلت اللجنة ميغيل ابن الأمين، أحد أفرادها، إلى الملك هنري الرابع. وأخذ ابن الأمين معه للملك الفرنسي تقريرًا يشتكي فيه المورسكيون من سوء معاملة محاكم التفتيش التي تضاعف ضرائبها على المورسكيين بأخذ ريالين من كل رب بيت، وتستولي على أموالهم. وبيّن التقرير ضعف الوجود العسكري الإسباني في مملكة بلنسية وسهولة تنظيم ثورة إسلامية شاملة بكل سرية، لقلة الوجود النصراني في القرى الإسلامية. لذا، يؤكد المورسكيون في تقريرهم إلى الملك الفرنسي، إذا وصلت البحرية الفرنسية إلى مرفأ دانية وزودت المورسكيين بالسلاح، فسيمكنهم تسليح 60.000 رجل، ويصبح بذلك تحرير بلنسية من الإسبان شيئًا مؤكدًا. كما أكدوا في التقرير مقدرتهم على تسليح 40.000 رجل من مسلمي أراغون القديمة. وأكد التقرير أنه في حالة إبحار فرنسي، فسيجد الفرنسيون مساندة ليس من المسلمين فقط، بل حتى من اليهود والبروتستانت والكاثوليك غير الراضين على الأوضاع.

وفي سنة 1603 م، افتضحت المحاولة المورسكية عند موت الملكة إيسابيلا، ملكة إنكلترا، التي حاولت فرنسا الحصول على مساندتها في غزو إسبانيا. وخلف إيسابيلا على الملك جاكوب الأول الذي وقع معاهدة صداقة مع إسبانيا، وقدم للملك فليبي الثالث جميع الوثائق الخاصة بعلاقته مع المسلمين البلنسيين، كعلامة على حسن نيته. وكان المطلوب من إنكلترا أن تهجم ببحريتها على جليقية، بينما يثور مسلمو بلنسية وأراغون القديمة، وتغزو فرنسا إسبانيا عبر الحدود المشتركة بحجة حمايتهم. لكن هذا المخطط فشل بموت الملكة إيسابيلا. عاد ميغيل بن الأمين من فرنسا بعد انتهاء مهمته، مصحوبًا برسول من دوق دي لافورس، اسمه دي بانيسو، وتوجها إلى بلنسية مختفين في زي تاجرين. وفي ديسمبر عام 1605 م، عقد زعماء المورسكيين اجتماعًا في بلدة توغة حضره 66 ممثلاً عنهم وعشرة جزائريين وميغيل بن الأمين ودي بانيسو. انتخب المورسكيون في ذلك الاجتماع لويس عسكر رئيسًا عليهم، وهو مسلم من بلدة الأقواس بمملكة بلنسية، وخططوا للثورة يوم الخميس المقدس من سنة 1605 م حيث يثور عشرة آلاف مسلم يساندهم الفرنسيون المقيمون في بلنسية، فيحرقون الكنائس ويستولون على مدينة بلنسية، وفي نفس الوقت تصل ميناء الغراو أربع سفن فرنسية محملة في الظاهر بالقمح وفي الحقيقة بالأسلحة للثوار. وعند سقوط مدينة بلنسية، يحتل الثوار باقي مملكتها، ثم إسبانيا كلها. هكذا رجع بانيسو بهذا المخطط إلى فرنسا. لكن أحد المشتركين في الاجتماع أوصل الخبر إلى السلطات الإسبانية، فقبضت على أكثر زعماء المورسكيين الذين حضروا الاجتماع، وعذبتهم حتى اعترفوا، ثم أعدمتهم. يبدو أن هنري الرابع لم يكن جادًا في مساعدة مسلمي بلنسية على الثورة، بل أراد فقط الاحتفاظ بعلاقته معهم في حالة قيام حرب بينه وبين إسبانيا. أما الدولة الإسبانية، فقد كانت تأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، لكن رغبة الوزير دوق دي ليرما في طرد المورسكيين كانت بدافع طمعه في مالهم أكثر من مصلحة الدولة الإسبانية أو الكنيسة. أما العلاقة مع المغرب، فقد رأينا معاملة أحمد المنصور للمجاهدين الأندلسيين الذين انتصر المغاربة بفضلهم على الجيوش البرتغالية (مع المتطوعين الإسبان) في معركة وادي المخازن، وكيف أعدم زعماءهم مباشرة بعد الانتصار وبيعته، وأرسل بآلاف الأندلسيين عبر الصحراء عوضًا عن الدفاع عن الأندلس، وكيف تحالف مع

الإسبان ضد الدولة العثمانية والمصالح العليا للمسلمين في المغرب والأندلس. لذا لم يكن الأندلسيون في إسبانيا والمغرب يأملون منه خيرًا. وإثر وفاة السلطان أحمد المنصور سنة 1603 م، تقاتل أبناؤه الثلاثة (أبو محمد الشيخ المأمون، وأبو المعالي زيدان الناصر، وأبو فارس عبد الله الواثق) على خلافته، فأدخلوا المغرب في محن لا توصف من الحروب الأهلية والتجزئة مما جعله ضحية سهلة للأطماع النصرانية. كان المأمون ولي عهد أحمد المنصور، لكن بعد وفاة المنصور، بايع أعيان فاس وعلماؤها ولده زيدان، بينما بايع أهل مراكش ولده أبا فارس. فاندلعت الحرب بين زيدان والمأمون وانتهت بهزيمة زيدان واستيلاء المأمون على فاس. ثم توالت الحروب بين الأخوة الثلاثة وانتهت في آخر المطاف سنة 1608 م بانتصار زيدان على أخويه واستيلائه على المغرب بأجمعه. وقتل في هذه الحروب أبو فارس. وفر المأمون بأهله وولده إلى إسبانيا مستنصرًا بها ضد زيدان. فوعده فليبي الثالث بالمساندة على استرجاع ملكه مقابل تنازله لإسبانيا عن ثغر العرائش المغربي. وفعلاً استرجع المأمون ملكه بمساعدة إسبانيا وسلم لها العرائش بعد أن أجلى أهلها عنها بالقوة، وكان ثغر العرائش قد أصبح مركزًا للجهاد البحري الأندلسي ضد إسبانيا. كما غدر المأمون بالأندلسيين عندما طلبوا معونته في الثورة، فأوصل الخبر إلى فليبي الثالث، وكان مصيره أن قتله الأندلسيون قرب تطوان في رجب سنة 1022 هـ (1613 م). وفي بداية هذه الأحداث أرسل مورسكيو بلنسية رسلهم إلى زيدان يخبرونه بعلاقات المأمون بفليبي الثالث، ويطلبون منه تحرير الأندلس، ويحاولون إقناعه بسهولة ذلك، ويؤكدون استعدادهم لتقديم ستين ألف مقاتل متى أبحر جنوده في أحد الثغور الإسبانية. لكن السلطان زيدان لم يهتم بهذا العرض، ولم يحرك ساكنًا. ولما علمت الدولة الإسبانية بالخبر، ازدادت حقدًا على مسلمي الأندلس عامة ومسلمي مملكة بلنسية خاصة. وفي هذه الحقبة، اقتصرت علاقة الدولة العثمانية مع المورسكيين على الهجوم المتواصل على شواطىء الأندلس الشرقية ومملكة بلنسية لإنقاذ الراغبين فى الهجرة إلى الجزائر. وكانت الدولة العثمانية منشغلة بحروبها مع الدولة الصفوية في إيران شرقا.

وهذا هو ما رأته الدولة الإسبانية من الجو الدولي المناسب في طرد المورسكيين: فالمغرب مشغول في حروبه الداخلية، والدولة العثمانية مشغولة في حربها مع الصفويين في حدودها الشرقية، وإنكلترا عقدت معاهدة صداقة مع إسبانيا، وفرنسا لن تهاجم إسبانيا بمفردها. إذا كان قرار إسبانيا المصرح به في طرد المورسكيين يعود لاتهامهم بعدم الإخلاص للديانة النصرانية والدولة الإسبانية، فهناك سبب ثالث لم يذكر إلا قليلاً، وذكره الشهاب الحجري، أحد المورسكيين المهاجرين إلى المغرب في هذه الحقبة، والذي كتب بلغة عربية تكاد تكون دارجة، إذ أجاب إبان سفارته لهولاندا عن سبب طرد المورسكيين بما يلي: "اعلم أن (أهل) الأندلس كانوا مسلمين في خفاء من النصارى، ولكن يظهر عليهم الإسلام ويحكمونه فيهم. ولما تحقق منهم ذلك لم يأمن فيهم ولا كان يحمل منهم أحدًا إلى الحروب، وهي التي تفني كثيرًا من الناس. وكان أيضًا يمنعهم من ركوب البحر لئلا يهربوا إلى أهل ملتهم، والبحر يفني كثيرًا من الرجال. وأيضًا في النصارى كثيرون قسيسون ورهبان ومترهبات، وبتركهم الزواج ينقطع فيهم النسل. وفي (أهل) الأندلس لم يكن فيهم قسيسون ولا رهبان ولا مترهبات، إلا جميعهم يتزوجون ويزداد عددهم بالأولاد وبترك الحروب وركوب البحر. وهذا الذي ظهر على إخراجهم لأنهم بطول الزمن يكثرون". ومنذ سنة 1608 م، ابتدأت الإشاعات بقرب قرار الطرد تنتشر، وأخذ المورسكيون القادرون على الهجرة يبيعون ممتلكاتهم ويهاجرون في ظروف أفضل من الطرد القسري. وهكذا عبرت أعداد كبيرة من المورسكيين البحر إلى شمال إفريقيا، وعبرت أعداد أخرى جبال ألبرت إلى فرنسا. وأزعجت هذه الهجرة الدولة الإسبانية لأنها تود طرد المورسكيين دون أموالهم. لذا طلب مجلس الدولة بتاريخ 24/ 6 / 1608 م، من ممثله: "الكتابة إلى نائب الملك بقطلونية فيما يخص المورسكيين الذين يمرون عبر فرنسا، يجب التعرف عليهم إذا كان من بينهم أغنياء يختفون، فينبغي احتجازهم وحراستهم وأخذ ما لديهم من مال. أما الفقراء فيخلى سبيلهم، لأنه كلما قل عددهم بيننا كلما كان ذلك أفضل" ولكن عددًا كبيرًا من أغنياء المورسكيين نجحوا في الإفلات من جرائم الطرد المفاجىء الذي سيحدث للباقين.

5/ 2 - طرد مسلمي مملكة بلنسية:

5/ 2 - طرد مسلمي مملكة بلنسية: بعد اتخاذ قرار الطرد سنة 1608 م، ظلت الدولة الإسبانية مترددة في اختيار المملكة التي يبدأ بها الطرد، فوقع الإجماع تقريبًا على مملكة بلنسية. لكن في آخر لحظة، تردد أسقف بلنسية خوفًا من عواقب الطرد على الاقتصاد البلنسي (وكان عدد المورسكيين يكون ثلث سكان مملكة بلنسية). فألح على الابتداء بقشتالة لأن، كما قال: "تعتمد المدن والقرى الكبرى (يعني في مملكة بلنسية) في تموينها على ما يأتي به هؤلاء (المورسكيون)، فالكنائس والأديرة والمستشفيات والطوائف الدينية والنبلاء والسادة والمواطنون وأخيرًا جميع الذين هم ضروريون لإدارة الدولة ولراحتها الروحية والدنيوية، كلهم يعتمدون على خدمات المورسكيين". وبينما واصلت اللجنة الكنسية مشاوراتها في بلنسية، أصدر مجلس الدولة قرار الطرد بتاريخ 4/ 4 / 1609 م، "للمحافظة على أمن الدولة" بينما أهمل الموضوع الديني كسبب في اتخاذ القرار. وتذرع مجلس الدولة بخطر انتصارات مولاي زيدان على أخويه في المغرب، رغم أنه كان يعرف أن لا خطر على إسبانيا منه، خاصة وأن معظم موانىء المغرب كانت بيد الإسبان والبرتغاليين. وقرر مجلس الدولة الابتداء بطرد مورسكيي مملكة بلنسية على أن يبقى القرار سرًّا إلى حين. وفورًا ابتدأت أجهزة الدولة تهيىء للطرد بغاية السرية، فجمعت سفن إيطاليا في جزيرة ميورقة (الجزر الشرقية) حيث يسهل توجيهها إلى موانىء الترحيل بمملكة بلنسية، وتأهبت القوات العسكرية في مملكة بلنسية في حالة مقاومة المورسكيين لإجراءات التهجير. فلم يصل صيف سنة 1609 م حتى اجتمعت خمسون سفينة في ميورقة، و 4.000 جندي في مملكة بلنسية، بالإضافة إلى حرسها وخيالة قشتالة لمراقبة حدودها البرية، وقوات الميليشيا. وكلف الأسطول الإسباني في المحيط الأطلسي بمراقبة شواطىء شمال إفريقيا، بقيادة أمير البحر أوكندو. وفي غشت عام 1609 م افتضح سر قرار الطرد عندما ظهرت الاستعدادات، فاختلت الأوضاع في مملكة بلنسية، ودخل الرعب قلوب أهلها لما توقعوه من تأثير سلبي على مجرى حياتهم، وخاف النصارى، رعاعهم ونبلاؤهم، الفقر. فقدم النبلاء تقريرًا للملك يوضحون له فيه الخراب الذي سيعم مملكة بلنسية بطرد المورسكيين، والمضار التي ستلحق بهم، وقالوا إنهم يفضلون الموت في الحرب عن الموت فقرًا. لكن الملك لم يزد في رده عليهم على أن قرار الطرد قد اتخذ دون رجعة، ولم يبق

إلا تنفيذه. وانقلب النبلاء إلى مساندة قرار الطرد عندما اطلعوا على بنوده التي تعطيهم، كتعويض لهم، أملاك المورسكيين غير المنقولة، والأملاك المنقولة التي لا يمكنهم حملها. وترك المسلمون العمل، وانعزلوا في بيوتهم يهيئون أنفسهم للطرد. وقع الملك قرار الطرد في 11/ 9 / 1609 م. وفي اليوم التالي، صدر في بلنسية أمر ملكي يقضي بمعاقبة كل من يسيء معاملة المورسكيين. وفي 15/ 9 / 1609 م، اجتمع مجلس الدولة برئاسة الملك، وقرر ما يلي: "الاستمرار في تنفيذ أمر طرد المورسكيين تحقيقًا لخدمة المسيح ولأمن إسبانيا؛ وعدم تنفيذ أمر الطرد في قشتالة إلا بعد أن تتبين نتيجة تنفيذه في بلنسية؛ وتأليف لجنة للنظر في وضع أبناء المورسكيين؛ وتوزيع القوات المسلحة؛ واتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة تحركات المورسكيين؛ ومصادرة الثمار والأموال التي يتركونها لتربية أطفالهم المتخلفين؛ واستثناء النساء النصرانيات المتزوجات بمورسكيين، وأطفالهن، والمورسكيين المخلصين للنصرانية، من الطرد". وفي 17/ 9 / 1609 م، رست السفن الإيطالية في موانىء مملكة بلنسية، وتولت القوات العسكرية حراسة حدودها مع مملكة أراغون القديمة. وفي 21/ 9 / 1609 م، اجتمع الملك مع أعضاء مجلس الدولة والنبلاء وكبار رجال الدولة، وفي اليوم التالي أعلن قرار الطرد، وهذه أهم بنوده: ابتدأ القرار بالإشارة إلى "خيانة" المورسكيين واتصالهم بأعداء إسبانيا، وفشل كل الجهود التي قامت بها الكنيسة لتنصيرهم، لذلك استقر رأي الملك على طردهم إلى بلاد البربر (شمال إفريقيا) وتقرر إخراجهم جميعًا من مملكة بلنسية، رجالاً ونساء وأطفالاً، خلال ثلاثة أيام. وإذا عثر على أحد منهم بعد هذه المهلة، يقبض عليه ويجرد من كل أمتعته، وإذا قاوم يقتل. وعلى مورسكيي بلنسية، في ظرف الثلاثة أيام، المكوث في بيوتهم في انتظار مسؤولي الدولة الذين ينفذون الأمر. وقضى القرار بالإعدام على كل من يخفي مال المورسكيين. ولم يسمح للمورسكيين إلا بحمل أموالهم المنقولة التي يستطيعون حملها شخصيًّا، وكل من يحاول حمل أكثر من ذلك يعرض نفسه لعقوبة الإعدام. أما الأموال التي لا يستطيعون حملها فتسلم للنبيل الذي كان المورسكي تابعًا له. ويستثني القرار من الطرد ستة أشخاص من كل مئة لتعليم مهنهم للنصارى، على أن يكونوا من أكثر المورسكيين إخلاصًا للنصرانية، وأكبرهم سنًّا (وقد ألغي هذا البند فيما بعد). ويلغي القرار الأمر السابق

بعدم الإساءة للمورسكيين بعد مهلة الثلاثة أيام، ويسمح لعشرة من الذين سافروا في الفوج الأول بالعودة لإخبار باقي المورسكيين بالمعاملة التي لاقوها في رحلتهم من طرف ممثلي الدولة. ويسمح القرار بإبقاء أطفال المورسكيين الذين يودون ذلك شرط موافقة أوليائهم، كما يسمح بإبقاء الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات والذين هم من أب نصراني أو أم نصرانية، وتبقى معهم أمهم إن كانت مورسكية ويطرد الأب المورسكي. كما استثنى القرار من الطرد المورسكيين الذين كفوا عن الاختلاط بالجماعات المورسكية منذ أكثر من سنتين، واندمجوا في المجتمع النصراني. وقد اختلف موقف النبلاء من المورسكيين المطرودين بعد أن ساندوهم لمدة قرون. فمنهم من عاملهم في محنتهم أحسن معاملة، وحرسهم إلى أن ركبوا السفن، ومنهم من عاملهم بقساوة ونهب أموالهم، ككونت قسطنطينة الذي سلب المورسكيين المهجرين من منطقته أموالهم وملابسهم الخاصة. أما المورسكيون، فمنهم من اعتبر هذا الطرد فرجًا من الله كما قال الشهاب الحجري: "وبعد ذلك باثنتي عشرة سنة (1018 هـ) فرج الله تعالى على مسلمي الأندلس الذين كانوا فيها تحت قهر سلطان البلاد المسمى بفليبي الثالث". وقال ابن عبد الرفيع: "ولا يخفى أن هذا أمر عظيم ومحال عادة، لما كنا فيه معه من الشدة والضيق في الدين والنفس والمال. فسبحان رب السماوات والأرض الذي إذا أراد أمرًا قال له كن فيكون؛ فيا لها من أعجوبة ما أعظمها؛ ومن فضلية ما أشرفها". بينما رفض آخرون الخروج وحاولوا الاختفاء قدر ما أمكن. واجتمع فقهاء الجماعات الإسلامية ونصحوا المسلمين بالصبر، وقالوا لهم إن هذا الطرد فرج من الله لهم، وإنقاذ لعقيدتهم، ونهوهم عن المقاومة التي لا فائدة منها، فأخذت جماعات المورسكيين تتأهب للرحيل. لكن أملهم في الخروج بسلام لم يتحقق، إذ لم يرحمهم عدوهم، فصاحبت عمليات الطرد جرائم وفظائع لا تصور. فقد أمرتهم السلطات بحمل ما استطاعوا من أمتعتهم، على ظهورهم. ثم عندما أخذوا يبيعون مواشيهم ودوابهم ومنتوجاتهم الزراعية، من حبوب وزيوت وغير ذلك، للنصارى بأبخس الأثمان، منعوا وأعطي ذلك للنبلاء النصارى. ثم تكونت في الطرقات عصابات من النصارى، تسطوا عليهم وتجردهم مما يحملون من حلي ومال ويقتلون منهم من شاؤوا، وشارك في النهب والسبي والقتل أفراد الجيش الذين

يحرسونهم. ثم قررت الدولة أن يكون ترحيلهم على حسابهم بحيث يدفع غنيهم عن فقيرهم. وأغرق أصحاب السفن النصارى كثيرًا من المورسكيين الذين نقلوهم، لسلب أموالهم، بينما كان في مأمن أكبر من نقلتهم سفن الحكومة. وعومل الكثير منهم عند الوصول إلى شمال إفريقيا أسوأ المعاملة من طرف عصابات الأعراب الذين قتلوا ونهبوا ما شاؤوا. فأخذ كثير من المورسكيين يرجع إلى إسبانيا ويتستر لكي لا يقبض عليه، أو يهب نفسه عبدًا لمن أراد. وقد وصف قوافل المرحلين المورسكيين شاعر إسباني معاصر بأبيات مؤثرة: "فرقة من المسلمين والمسلمات تمشي وهي تسمع من الجميع الشتائم هم يحملون الثروة والأموال وهن يحملن زينتهن والملابس والعجائز بأحزان وبكاء التوى وجههن وشكلهن محملات بجواهر مزيفة وأواني الطبخ ومقلات وقرب وقنادل وعجوز يحمل طفلاً بيده والآخر على صدر أمه الحنون وثالث شاب قوي كالطرياني لا يتأخر عن حمل أبيه" أما الثروة والأموال التي ذكرها الشاعر، فهي من باب التهكم إذ لم تترك الدولة منها للمورسكيين شيئًا. ولم يصل شهر أكتوبر حتى عمت موانىء مملكة بلنسية، من لقنت جنوبًا إلى بني عروس شمالاً، حركة كبيرة، تحمل منها السفن الحكومية والخاصة مئات المورسكيين. فبين سبتمبر سنة 1609 م ويناير سنة 1610 م، رحل حوالي 30.000 مورسكي من ميناء لقنت، و 47.144 من مينائي دانية والجابية، و 17.776 من رصافة بلنسية، و 5.690 من منكوفر، و 15.208 من بني عروس، و 1.646 من موانىء أخرى وعبر فرنسا. أي يقدر مجموع الراحلين عن مملكة بلنسية بحوالي 117.464 شخص، أو 120.000 مورسكي تقريبًا.

وعندما تعدت تجاوزات الأهالي النصارى في مملكة بلنسية الحد المحتمل، ووصل الراجعون بأخبار سوء معاملة النصارى للمورسكيين فوق السفن، وسوء معاملة الأعراب لهم في بر شمال إفريقيا، أدى اليأس بجماعات من المورسكيين إلى ثورة انتحارية في القرى الجبلية، ككورتش وكوفرانش وآيورة، وغيرها من القرى جنوب نهر شقر وعلى حدود قشتالة. فاجتمع عدد كبير منهم في مشارف كورتش القاحلة جنوب نهر شقر، وبايعوا شيخًا مسنًّا من زعماء بلدة تريزة ملكًا عليهم. فرفض البيعة لما رأى من استحالة المهمة المنوطة إليه. ثم بايع الثوار مسلمًا آخر من وجهاء بلدة كتادو اسمه الطريقي. فقبل البيعة، وعين فقيهًا من فقهاء المورسكيين نائبًا عنه، فاجتمع حولهما عدة آلاف من المجاهدين المسلحين، وتحصنوا في الجبال. فأرسل ملك إسبانيا لملاحقتهم جيشًا من الجنود الإيطاليين. وبعد مقاومة عنيفة، قتل فيها العديد من الطرفين، أرغم الجوع والعطش المجاهدين في تلك الجبال الجرداء على الاستسلام، فاستسلم منهم 3.000 مجاهد، طردوا من البلاد، وبقي الطريقي يقاوم مع بعض مئات من المجاهدين إلى أن قبض عليه، وأعدم بعد التعذيب. وقام المورسكيون بثورة أخرى في منطقة لقنت، حيث ترك حوالي عشرون ألفًا منهم قراهم بعد أن أحرقوا بعضها، وهجموا على قرى النصارى المجاورة وتزودوا منها وقتلوا عددًا منهم، ثم التجأوا إلى الجبال المجاورة. فهجم عليهم الجيش الإسباني، مصحوبًا بعدد كبير من رعاع النصارى الطامعين في أموالهم وأبنائهم، فأثخنوا فيهم قتلاً بينما قضى العطش على عدد آخر منهم. وبعد سحق الثورة، وزع النصارى بينهم أطفال المسلمين لبيعهم عبيدًا، وساقوا إلى السفن عراة من نجا منهم من الموت بعد أن أخذوا أطفالهم ونساءهم، وسلبوهم كل شيء حتى ملابسهم التي يرتدونها. وفي مايو سنة 1611 م، أصدر ماركيز كورسينا قرارًا إجراميًّا للقضاء على المتخلفين من المورسكيين، قال فيه: "نهب لكل من يخرج في متابعة هؤلاء المسلمين: ستين ليرة ثمن كل مورسكي يُؤتى به حيًّا، وثلاثين ليرة ثمن رأس كل مورسكي يقتل. ولمن يأتي بمورسكي حيًّا الحق في الاحتفاظ به كعبد من عبيده، هبة منا إليه". وبهذا بقي عدد هام من المورسكيين البلنسيين عبيدًا في البلاد. كم بقي من المورسكيين في مملكة بلنسية بعد الطرد؟ ذكرنا أنه نص قرار الطرد بإبقاء ست أسر لكل مائة ترحل، لكن هذا البند ألغي تحت ضغط ريبيرا الذي أراد

5/ 3 - طرد مسلمي أراغون القديمة وباقي مملكة أراغون:

إخراج الجميع. وكان ريبيرا يرغب في الاحتفاظ بأطفال المسلمين الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة لتربيتهم على النصرانية، لكن مجلس الدولة قرر الاحتفاظ فقط بالأطفال دون ست سنوات من العمر لكي لا يحتفظوا بأي ذكرى للتربية الإسلامية بعد بقائهم. وعندما رفض أهلهم التخلي عنهم، أخذ النصارى، كبيرهم وصغيرهم بما فيهم زوجة نائب الملك، يختطفون أبناء المسلمين لإنقاذهم من "الكفر". وفي 19/ 6 / 1610 م درس مجلس الدولة تقريرًا تقدم به نائب الملك يقول فيه إنه قد بقي في المملكة حوالي ألف مورسكي، من بينهم رجال ونساء عجزة يفضلون الموت على دين النصارى، ومنهم من تعاون مع السلطات ضد إخوانهم. وقد قدر عدد من أخرجوا بـ 130.000 شخص، قتل منهم قبل الإبحار حوالي 10.000 شخص. وسنعرض في الفصل القادم عدد من بقي من المورسكيين في مملكة بلنسية بتفصيل. كان الكاردينال خوان دي ريبيرا الرجل الأول وراء قرار الطرد. وقد ألقى خطاب "شكر لله" في كتدرائية بلنسية عند إعلان القرار، نبه فيه على المصاعب التي ستواجه البلاد نتيجة الطرد، ووعد بالتغلب عليها. ثم قال بأن كل المصاعب تهون أمام القضاء على هذه "البذرة الخبيثة (يعني المسلمين) الموجودة بيننا". ولم يعش عدو المسلمين هذا طويلاً بعد إنجاز رغبته، فمات غمًّا في 6/ 1 / 1611 م لعدم تمكنه من الاحتفاظ بكل الأطفال وتنشئتهم على الدين النصراني. 5/ 3 - طرد مسلمي أراغون القديمة وباقي مملكة أراغون: بعد مملكة بلنسية، قررت الدولة الإسبانية طرد مسلمي غرناطة ومرسية وجيان والأندلس ثم قشتالة والاسترمادورا، ولم تذكر، في هذه الفترة، شيئًا عن مصير مسلمي مملكه أراغون القديمة، حيث كانت نسبتهم تتعدى خمس مجموع السكان. بل حاولت الدولة تخديرهم إذ كتب الملك فليبي الثالث إلى غاستون دي مونكادا، ماركيز دي أيتونا، نائب الملك في أراغون القديمة، رسالة بتاريخ 20/ 10 / 1609 م يأمره بطمأنة المسلمين، وإخبارهم بعدم وجود أية نية للحكومة في طردهم. لكن لم يصدق مسلمو أراغون القديمة رسالة الملك، لما رأوه من تهجير متواصل لمسلمي مناطق إسبانيا الأخرى، وظل الاضطراب قائمًا بين المسلمين والنصارى. ففي 25/ 11 / 1609 م، كتب مجلس مملكة أراغون القديمة رسالة إلى الملك فليبي الثالث يخبره فيها أن المورسكيين في حالة كبيرة من التوتر، وأنهم خائفون مما سيحدث

لهم، وأن ممثلي المملكة يودون إرسال سفارة إلى الكورتس لإخبارهم "بالضرر الكبير الذي سيلحق بهذه المملكة إن طرد مورسكيوها منها"، وإن كان ولا بد طردهم "فليكن ذلك على يد نفس النبلاء الذين يعمل عندهم المورسكيون". ولم تحصل هذه السفارة على نتيجة تذكر. أخذت تنتشر الاضطرابات في المناطق التي يكثر فيها المورسكيون، كسرقسطة وبرجة. وأهمل المورسكيون مزارعهم، وابتدؤوا ببيع ممتلكاتهم بأبخس الأثمان، والتهيىء للهجرة. وأحدث اضطراب أوضاع المورسكيين الرعب بين النصارى، مما جعل الماركيز دي أيتونا كتب للملك بتاريخ 5/ 12 / 1609 م، يخبره بأن "أهل هذه المملكة لهم قلة من السلاح لمواجهة الأحداث التي يمكن أن تقع لخدمة جلالتكم وللدفاع عن أنفسهم، وخاصة فيما يخص الإشاعات المنتشرة حول الموركسيين"، ثم يطلب السلاح لبلدتي طرسونة وقلعة أيوب بصفة خاصة. وفي 11/ 12 / 1609 م، كتب الماركيز للملك مرة أخرى يقول: "إن مورسكيي هذه المملكة في خوف كبير من أن يعاملوا بما عومل به مورسكيو مملكة بلنسية، فأخذوا يبيعون ما استطاعوا من أمتعتهم، ويرفضون زراعة الأرض ... ويعاملهم النصارى القدامى معاملة سيئة ... أرجو أن يأمرني جلالتكم بطمأنة النصارى الجدد (المسلمين) ومعاقبة النصارى القدامى الذين يسيئون معاملتهم، لأنه لا يستحسن وضعهم في موقف اليأس". وفي 31/ 1 / 1610 م كتب نائب الملك إلى دوق دي ليرما يطلب منه التعليمات حول معاقبة المتسترين على المورسكيين الراجعين من المنفى (من مناطق أخرى في إسبانيا)، فأجاب الدوق بأن الملك يرى أن يقرر ذلك مجلس أراغون. وفي 27/ 1 / 1610 م، كتب الدوق إلى نائب الملك يخبره بأن الملك علم بأن المورسكيين يبيعون أملاكهم ومنتوجاتهم الزراعية، وهو يأمر بمنع ذلك منعًا باتًا، كما يأمر بمنع المتاجرة مع المورسكيين ومعاقبة المخالف بالمصادرة الكاملة. وعندما تأخر وصول أمر طرد مورسكيي أراغون القديمة، رغم توقع الجميع وصوله، أخذت السلطات الكنسية والمدنية في أراغون القديمة تستعجل الملك في اتخاذ القرار، للخلاص من الوضع المضطرب الذي شمل المملكة. ففي 6/ 4 / 1610 م كتب ميغيل سانتوس دي سان بيدرو، مفتش سرقسطة العام، رسالة إلى نائب الملك في أراغون القديمة يقول فيها إن المورسكيين الأراغونيين، عندما رأوا ما حل بإخوانهم في بلنسية وقشتالة، أخذوا يرفضون زراعة الأرض، ويبيعون أملاكهم،

ويرسلون أموالهم إلى فرنسا، وأنه إذا لم يطردوا فورًا فسيصبحون ضحية للمجاعة، مما يجعلهم ينهبون ويقتلون النصارى القدامى. وأن كثيرًا منهم أخذوا يهاجرون إلى فرنسا، ويطلب منعهم من ذلك، وتسليح المدن الحدودية، وتحويل هجرتهم إلى البحر الأبيض المتوسط، حتى "لا يعطي للفرنسيين رجال تعرف شؤون الحرب وأوضاع هذا البلد". ووافق مجلس الدولة على اقتراح مفتش سرقسطة العام. وفي 17/ 4 / 1610 م، وقع الملك فليبي الثالث في بلد الوليد أمرًا بطرد مسلمي مملكة أراغون القديمة. وفي 29/ 5 / 1610 م، نشر الماركيز دي أيتونا، نائب الملك، الأمر في سرقسطة، وهذه أهم بنوده: 1 - أمر جميع مورسكيي أراغون القديمة، رجالاً ونساء وأطفالاً، بالخروج من منازلهم في ظرف ثلاثة أيام من نشر هذا الأمر، والذهاب إلى النقاط التي يأمرهم بالاتجاه إليها المسؤولون على الإبحار. ويسمح لكل واحد منهم حمل ما استطاع على ظهره، وعليه كذلك حمل ما يقتات به إبان رحلته. 2 - إعدام كل مورسكي يخفي الممتلكات التي لا يستطيع حملها معه، أو يدفنها، أو يحطمها، أو يحرقها. 3 - السماح بالبقاء للأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم أربع سنوات، شرط أن يسمح لهم بذلك آباؤهم أو أولياء أمرهم. 4 - السماح بالبقاء: للنصارى القدامى المتزوجين بمورسكيات وأزواجهم وأبنائهم؛ وللعرب القادمين من بلاد البربر بمحض إرادتهم لاعتناق النصرانية، ولسلالتهم؛ وللعبيد. 5 - طرد المورسكيين المتزوجين من نصرانيات قديمات، مع السماح لأبنائهم بالبقاء مع أمهم إذا كان عمرهم أقل من ست سنوات، وإذا اختارت البقاء. 6 - السماح بالبقاء للذين برهنوا علنًا على تمسكهم بالنصرانية، شرط إثبات ذلك بمعلومات كافية ومقبولة. 7 - منع النصارى القدامى من إخفاء المورسكيين، أو الائتمان على ممتلكاتهم، أو نصحهم في أي موضوع لهم فيه مصلحة. ويعاقب المخالف بالأشغال الشاقة لمدة ست سنوات فوق السفن، وبعقوبات أخرى يقررها نائب الملك.

8 - منع الإساءة إلى المورسكيين. وتهيأ نائب الملك لعملية إجلاء المورسكيين بإجراء إحصاء عام لهم في أراغون القديمة. فأمرهم بالتجمع في 35 نقطة، ثم التوجه إلى خمس مدن على حدود أراغون القديمة، وهي: فبارة، ومايلة، وبال دي روبلس، وبنياروجا، وأغوا بيبا. وفي 30/ 5 / 1610 م، توصل نائب الملك برسالة من الملك فليبي الثالث يسمح فيها "لبعض المورسكيين بالذهاب إلى فرنسا ... مما يسهل كثيرًا هذا الأمر"، خاصة وأن كثيرًا من المورسكيين الأراغونيين هاجروا إلى فرنسا سنة 1608 م عن طريق جبال البرت، فغير نائب الملك برنامج الطرد المخطط أولاً. وفي 19/ 6 / 1610 م، وافق مجلس الدولة على الإجراءات التي اتخذها نائب الملك لطرد المورسكيين الأراغونيين. خرج معظم المورسكيين الأراغونيين من ميناء الفاقش. وعوملوا في طريقهم إلى الميناء من طرف حراس الدولة أسوأ معاملة باعتداء على أشخاصهم وأملاكهم. وكتب دون أغوستين ميجيا لقبطانية بلنسية رسالة يقول فيها إن طرد المورسكيين الأراغونيين والقطلانيين تم في هدوء تام وأن أغنياءهم أجبروا على دفع تكاليف نقل فقرائهم. وفي 1/ 9 / 1610 م كتب من طرطوشة موظف لميجيا يقول إن 6.000 مورسكي قد خرجوا مؤخرًا، ودفعوا مصاريف نقلهم. وأن مجموع ما أخذ من الذين أبحروا، وعددهم أكثر من أربعين ألفًا، يعادل 24.000 مرابطي (عملة ذهبية). وحددت الوثائق عدد المورسكيين الذين أبحروا من ميناء الفاقش ب 41.952 شخص، منهم 38.286 مورسكي آراغوني و 4.000 مورسكي قطلاني. وقدرت الوثائق عدد المورسكيين الذين هاجروا إلى فرنسا بـ 22.532 شخص، خرجوا من نقاط الحدود الثلاثة التالية: بيرة، ورونسفالس، وسومبوت. فيكون مجموع المطرودين من أراغون القديمة حوالي 61.000 مسلم، ولم يبق منهم في البلاد إلا عدد محدود جدًّا. ثم صدر الأمر بإعدام المتخلفين والراجعين من المورسكيين، فاقترح مجلس الدولة تعويض الإعدام بالطرد، فوافق الملك. مرّت عملية طرد المورسكيين الأراغونيين دون ثورات، وبمصاعب أقل مما حدث في مملكة بلنسية. غير أنها مرت على المورسكيين الأراغونيين في جو من البؤس والآلام، وصفه وصفًا دقيقًا أزنار كاردونا حيث قال: "كانت جماعاتهم تمر في فوضى كاملة، يختلط فيها الراجلون مع الفرسان، يتجاذبون وهم يتقطعون بالآلام

وينفجرون بالدموع، يرتفع منهم ضجيج كبير وصراخ محملون بأطفالهم ونسائهم ومرضاهم وعجزتهم، يغطيهم العرق والغبار، بعضهم يركب فوق العربات يزاحم أمتعته، الثمينة منها والتي لا قيمة لها ... وآخرون يمشون على الأقدام، منكسري الجناح، لباسهم رديء ... وكلهم ينظرون إلى النصارى الذين يتفرجون عليهم، ويقولون لهم: "ليحرسكم الله أيها السادة، استودعناكم الله" ... وتمشي النساء بين الرجال، منهن فتيات مثقلات بألبسة ... تغطي الآلام قلوبهن ... وأخريات تمشين على الأقدام، تظهر علامات التعب والألم والضياع على وجوههن. يتألم الجميع آلامًا شديدة، وتتقطعهم مرارة عظيمة، وكثير منهم يتساقط على جانب الطريق ميتًا من الحزن، بينما يضطر الباقون إلى دفع ثمن الماء والظل، لأن الفصل كان صيفًا". وفي 17/ 4 / 1610 م، في بلد الوليد، وفي نفس اليوم الذي وقع فيه الملك فليبي الثالث الأمر بطرد مسلمي أراغون القديمة، وقع كذلك الأمر بطرد مسلمي قطلونية. وأعلن دون هكتور ببغناتلي، دوق دي منت ليون، نائب الملك في قطلونية، الأمر في برشلونة. ولم يكن تأثير هذا الطرد على قطلونية كبيرًا مثل ما كان في مملكتي أراغون القديمة وبلنسية اللتين بقيت فيهما مناطق شاسعة خالية من السكان بعد طرد المورسكيين. أما في قطلونية، فلم يكن عدد المسلمين يزيد على 2 أو 3 في المائة من مجموع السكان، أو حوالي 7.000 مورسكي، طرد منهم حوالي 4.000 مورسكي، واستثني من الطرد حوالي 3.000 مورسكي بتدخل من مطران طرطوشة الذي دافع عنهم وشهد لهم بالإخلاص للنصرانية. وحيث إن معظم المسلمين كانوا يسكنون مصب نهر الإبرة، لم يتأثر باقي سكان قطلونية كثيرًا بما حدث، فكتب ممثلو برشلونة إلى الملك يهنئونه "بالقرار المقدس الذي اتخذه" في حق المورسكيين. ولم يمنع هذا، في الحقبة ما بين 1609 م و 1610 م، قطاع الطرق النصارى من الاعتداء على المورسكيين، المقيمين منهم في قطلونية والعابرين بها من أراغون القديمة إلى ساحل البحر، مما جعل نائب الملك في قطلونية يعين قاضيًا خاصًّا للنظر في هذا الموضوع ومعاقبة المعتدين. وفي 3/ 5 / 1611 م، أرسل الملك فليبي الثالث إلى نائب الملك في قطلونية وفدًا معه رسالة يأمره فيها بـ "الانتهاء من طرد المورسكيين الذين مكثوا". وفي 14/ 6 / 1611 م، أخبر بدرو سولير، قاضي المحكمة الملكية المكلفة بالقبض على

5/ 4 - مسلمي مملكة قشتالة:

المورسكيين "الذين طردوا ثم عادوا"، نائب الملك بأن كل النصارى الجدد الذين وقعوا في يده هم مرضى يحتاجون احتياجًا ماسًّا إلى الإنقاذ. أما الجزر الشرقية، فلم يكن فيها عدد مهم من المسلمين، وحاول الاستقرار بها الذين عبروها من مسلمي وادي رقوط (ولاية مرسية). وسنرى وضعهم عندما نتطرق لمنطقة مرسية في الفصل القادم. يرتفع إذن عدد المسلمين الذين طردوا من مملكة أراغون بأكملها إلى حوالي 195.000 شخص، منهم 130.000 شخص طردوا من مملكة بلنسية، و 61.000 شخص من مملكة أراغون القديمة، و 4.000 شخص من إمارة قطلونية. 5/ 4 - مسلمي مملكة قشتالة: كانت تنقسم مملكة قشتالة إلى المناطق التالية: الأندلس، ومملكة مرسية، واسترمادورا، وباقي المملكة. في 9/ 12 / 1609 م، وقع الملك فليبي الثالث الأمر بطرد مورسكيي الأندلس ومرسية وبلدة فرنجوش (هورناشوس) في منطقة استرمادورا، وكلف دون خوان دي مندوسة، ماركيز دي سان جرمان، بتطبيقه. وفي 18/ 1 / 1610 م، نشر أمر الطرد في مملكة مرسية، وكلف مجلس الدولة دون لويس فاخاردو، عضو الجيش البري والبحرية الإسبانية، بتطبيقه. ونص الأمر بأن الطرد يخص "كل النصارى الجدد المورسكيين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، عدا العبيد ... والمورسكيين القدامى المتأصلين من مملكة مرسية المعروفين بالمدجنين شرط أن يعيشوا حياة نصرانية". واكتفى الأمر أولاً بطرد الغرناطيين فقط من مملكة مرسية، بسبب مقاومة أهل مرسية النصارى لطرد المورسكيين المرسيين الذين كان معظمهم يسكن وادي رقوط، وهي منطقة تضم ست قرى في مرج وادي شقورة تابعة للويس فاخاردو، ماركيز بليش. وقد عارض ممثلو مرسية النصارى طرد الغرناطيين، لما سيؤدي من "ضياع في العلوم وترك للزراعة"، إذ كان الغرناطيون هم القائمون على صناعة الحرير في البلاد. فظل تدخلهم دون جدوى. فطرد من مملكة مرسية، في المرحلة الأولى، حوالي 15.000 مورسكي، بينما بقي حوالي 2.500 منهم في وادي رقوط. وفي 8/ 11 / 1611 م، غير الملك رأيه، وأصدر أمرًا بطرد جميع مورسكيي مرسية بما فيهم

المدجنين. فعاود ممثلو مرسية الدفاع عنهم بحجة أنهم نصارى مخلصين، وانتخبوا الراهب خوان فراي ممثلاً عنهم في هذه المهمة. فكتب فراي للملك تقريرًا مفصلاً عن مورسكيي مرسية وأوضاعهم، برهن فيه على إخلاص مورسكيي وادي رقوط للنصرانية. وبعد نشر قرار الطرد، قام نصارى مرسية بمظاهرات احتجاج توجهوا فيها للكنائس حيث قاموا بدعوات لمورسكيي وادي رقوط. وألقوا خطبًا عامة دافعوا فيها عنهم بحجة أنهم نصارى مخلصين يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ولا يعرفون اللغة العربية، عدا الكهول. فأدت هذه المظاهرات بالملك إلى تأجيل تنفيذ أمر الطرد. ثم وصلت تقارير إلى مجلس الدولة مفادها أن مورسكيي وادي رقوط هم في الحقيقة مسلمون يتظاهرون بالنصرانية تقية. وفي 8/ 10 / 1613 م مال الملك لهذا الرأي، ووقع أمرًا جديدًا بالايسكوريال بطرد جميع مورسكيي وادي رقوط ومن تخلف من باقي مورسكيي مملكة مرسية، وكلف الكوندي سلازار بتنفيذه. وأمهل الأمر المورسكيين ثلاثين يومًا للخروج من البلاد، "لأنه قد عرف الآن بالتأكيد ... بأن بعضهم يعملون بكل وقاحة ضد تعاليم الإله وتعاليمي، وبسبب العدد القليل جدًّا من النصارى القدامى الذين يعيشون بينهم مما يظهر نياتهم السيئة". وقرر الملك طرد جميع المورسكيين، "رجالاً ونساء من كل الأعمار، المتأصلين من مرسية وغير المتأصلين ... مع أبنائهم وبناتهم، وخدامهم وخادماتهم، وأصدقاء قومهم، كبارًا وصغارًا ... ومنعهم من الخروج من أي ميناء سوى قرطاجنة، ومن الدخول لأية مملكة أخرى من ممالكنا" ولم يستثن الأمر من الطرد سوى العبيد. وقرر الأمر "بأن الذين يسمون بالمورسكيين القدامى ويعيشون في قرى وادي رقوط، وغيرهم من الذين ينفصلون عن النصارى القدامى في مملكة مرسية، يمكنهم في ظرف 30 يومًا التصرف في أملاكهم الثابتة، وحمل نصف ثمنها معهم شرط أن يتركوا لممتلكاتي الملكية النصف الآخر، وتقديمها ليد المسؤول بذلك في مملكة مرسية. أما المورسكيون الذين ليسوا قدامى فلا يسمح لهم بالتصرف إلا في أملاكهم المنقولة، ويسمح لهم بحمل نصف ثمنها معهم وترك نصفها الآخر لممتلكاتي الملكية مع جميع ما لديهم من أموال غير منقولة". وطرد من جديد هذه المرة من مملكة مرسية حوالي 7.000 مورسكي. وهرب بعضهم إلى مملكة بلنسية، "وعندما لوحقوا هناك، رجعوا من جديد إلى مرسية حيث

تزايد عددهم لدرجة أن مجلس الدولة أخذ منذ منتصف سنة 1615 م في البحث عن وسائل طرد المتخلفين إلى الممالك الأجنبية". واتجه بعض المورسكيين المرسيين الآخرين إلى الجزر الشرقية، فكتب نائب الملك في ميورقة (قاعدة الجزر الشرقية) في 18/ 3 / 1614 م إلى الملك فليبي الثالث يستأذنه في السماح لهم بالإقامة. وفي 19/ 4 / 1614 م، أجاب الملك بما يلي: "اعلموا نائب الملك بأنه لا يسمح بأي حال من الأحوال أن يمكث المورسكيون هناك، فليخرجهم، لأن تلك الجزيرة مجاورة لإسبانيا وقريبة من الجزائر، فلتطبق أوامري عليهم الآن وعلى غيرهم من المورسكيين في المستقبل". وفي 26/ 7 / 1614 م وصل الأمر إلى نائب الملك بميورقة بطرد مورسكيي وادي رقوط الذين التجأوا إلى الجزر الشرقية، وإعطائهم مهلة ثلاثين يومًا للخروج. وفي 18/ 8 / 1614 م، أخبر نائب الملك على الجزر الشرقية فليبي الثالث بخروج آخر مجموعة من مورسكيي وادي رقوط، مؤلفة من حوالي 200 امرأة متزوجة، ولم يبق سوى 30 نصرانيًّا جديدًا فقيرًا في الجزيرة تعذر عليهم السفر لفقرهم. فأجاب الملك بما يلي: "آمرك أن تخرج هؤلاء المتخلفين، وتعطيهم المركب والتسهيلات الممكنة". هكذا تابع الملك فليبي الثالث ورجال دولته بكل قسوة وانعدام الرحمة حتى العجزة المستضعفين من الأمة الأندلسية، مستميتًا في طردهم، وكأن دافعه ليس دفع الخطر ولكن الحقد الدفين في قلبه والخوف غير المنطقي الذي يجعله يقترب من مرحلة الجنون. وبهذا يمكن تقدير عدد المورسكيين الذين أخرجوا من مملكة مرسية بحوالي 22.000 شخص. نص قرار الطرد الذي وقعه الملك فليبي الثالث بتاريخ 9/ 12 / 1609 م على بلدة فرنجوس بالذات، وهي توجد اليوم في ولاية بطليوس (منطقة الاسترمادورا). وكان كل أهلها، وعددهم 5.000 نسمة، مسلمين محليين، أي مدجنين. وكان أهل فرنجوس منظمين تنظيمًا جيدًا، استطاعوا بسببه السيطرة على تجارة الطرق في المنطقة. ولاحقتهم محاكم التفتيش دون أن تنال منهم شيئًا. لذلك أرسل مجلس الدولة القاضي ماديرا لمتابعتهم، فحكم على العديد منهم بالإعدام شنقًا أو بالتجذيف فوق السفن. وعندما صدر قرار الطرد كلف ماديرا بتنفيذه، فبدأ بتهجير مورسكيي فرنجوس في شهر يناير عام 1610 م مستثنيًا الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات. وكان نقلهم عبر ميناء إشبيلية، وأخذ ماديرا منهم 22.000 دوقة ثمن نقلهم.

واستقر مورسكيو فرنجوس بعد ذلك في مدينة الرباط (عاصمة المغرب اليوم) التي عمروها بعد أن كانت خرابًا، وكان لهم فيها تاريخ مجيد في الجهاد البحري ضد الإسبان. هكذا أخرج ماديرا حوالي 3.000 مورسكي من فرنجوس، كما خرج حوالي 5.000 موريسكي آخرين من مدن استرمادورا الأخرى عن طريق قشتالة القديمة. فيكون مجموع من خرج من منطقة استرمادورا حوالي 8.000 موريسكي. أما في الأندلس، فلقد حاول المسؤولون والأهالي النصارى جهدهم منع طرد المسلمين منها، كما حدث في مملكة مرسية، مما يدل دلالة قاطعة أن معظم هؤلاء ينحدرون من أصول إسلامية ويضمرون العطف على إخوانهم في محنتهم. فادعى ماركيز الغابة أن المورسكيين التابعين له لهم حقوق يجب احترامها، وبين حسن سيرتهم حيث لم يسبق لمحاكم التفتيش أن عاقبت أحدًا منهم. وفي أرشذونة (مقاطعة مالقة) احتج المورسكيون أمام المسؤولين بأمر في يدهم سبق أن منحه لهم الملك يعفيهم من ضريبة "الفارضة" التي كانت مطبقة على النصارى الجدد. وفي قاعدة غرناطة عمل الأهالي على إخفاء المورسكيين بينهم. وفي مالقة تدخل الأهالي لإعفاء العبيد المسلمين من الطرد. كما أن عددًا من المورسكيين الذين تعاونوا مع السلطات ضد إخوانهم طلبوا المكوث في البلاد خوفًا على حياتهم. ففي بسطة (مقاطعة غرناطة) طلبت محكمة التفتيش العليا من محكمة غرناطة إعفاء جيرو مينو ومغدلينة دي كابيدو من الطرد "أو على الأقل عدم إرسالهما مع أهل بسطة". ومع ذلك، اتخذ الملك فليبي الثالث قرار الطرد المذكور بتاريخ 9/ 12 / 1609 م الذي أعلن عنه في إشبيلية بتاريخ 12/ 1 / 1610 م ينص القرار على "أن الملك حدد فترة قدرها ثلاثون يومًا لكي يبيع المطرودون أملاكهم المنقولة ويتهيؤون للإبحار". لكن ماركيز سان جرمان، المكلف بإنجاز الأمر، قلص هذه الفترة إلى عشرين يومًا فقط. وأذن الماركيز لمورسكيي الأندلس "باصطحاب أبنائهم مهما كانت أعمارهم إذا كانت هجرتهم إلى بلدان كاثوليكية، أما إذا كانت هجرتهم إلى إفريقيا فلن يسمح لهم باصطحاب أطفالهم الذين تقل أعمارهم عن سبع سنوات، وعليهم تركهم في إسبانيا". ويقدر عدد من أخرج من المورسكيين من الأندلس بحوالي 32.000 فقط. لكن يظهر أن هذا العدد أقل من الواقع، إذ خرج حوالي 20.000 شخص قبل أمر الطرد، فيكون إذن مجموع من أخرج من الأندلس حوالي 52.000 شخص.

وفي 22/ 3 / 1611 م نشر الملك أمرًا ملكيًّا ينبه فيه على رجوع عدد من المورسكيين الأندلسيين الذين يدعون بأنهم نصارى، ويأمر فيه بإخراج جميعهم دون استثناء، حتى العبيد المسلمين الموجودين في الأندلس، في ظرف سنتين. "ولم يكن عند المحاكم والأشخاص الذين كلفوا بهذا الأمر في الأندلس، في مملكة غرناطة وخارجها، حماس لإخراج من مكث منهم (المورسكيين) ولا معاقبة من رجعوا كما يجب". وفي 28/ 12 / 1609 م، وقع الملك فليبي الثالث بمجريط أمرًا ملكيًّا يوافق فيه على خروج المورسكيين "الفوري والحر" من قشتالة القديمة والجديدة ومن المانشا والاسترمادورا. فأدى هذا الأمر إلى إخراج حوالي 16.713 شخص من المنطقة المذكورة، بينما بقي عدة آلاف من المورسكيين الذين لم يستطيعوا أو لم يريدوا الخروج بسبب الاستقبال السيىء الذي كان ينتظرهم في فرنسا عبر الحدود البرية مع إسبانيا. فأمر الملك في 1/ 5 / 1610 م بقطع طريق برغش المؤدية إلى فرنسا على المورسكيين، وإرغام المتخلفين على الاتجاه إلى ميناء قرطاجنة شرط إبحارهم إلى الممالك النصرانية. خرج من ميناء قرطاجنة حوالي 16.642 مورسكي قدموا من قشتالة. لكن السلطات الإسبانية علمت أنهم، رغم اتجاههم أولاً إلى الموانىء النصرانية بفرنسا وإيطاليا، تحولوا بعد ذلك إلى الموانىء الإسلامية بشمال إفريقيا. وفي نفس اليوم (1/ 5 / 1610 م)، استدعى الملك الكوندي دي سلازار إلى طليطلة، وكلفه بطرد ما تبقى من المورسكيين في طليطلة والمانشا واسترمادورا. وفي 10/ 5 / 1610 م، وقع الملك أمرًا بطرد المورسكيين الذين التجأوا إلى قشتالة القديمة والجديدة واسترمادورا والمانشا من بلنسية والأندلس وغرناطة وقطلونية ومرسية وأراغون القديمة. غير أن السلطات المحلية لم تتحمس لطرد المورسكيين، كما يظهر من تسلسل الأوامر بالطرد في السنوات الثلاثة التالية. ففي 22/ 3 / 1611 م، وقع الملك أمرًا بطرد من تخلف من المورسكيين في الأندلس ومن عاد إليها منهم. فأخرج من برغش حوالي 11.317 مورسكي، ومن قرطاجنة حوالي 10.000 مورسكي، منهم عدد كبير من الغرناطيين العائدين، أو القاطنين بقشتالة. وفي 31/ 5 / 1611 م، جدد أمرًا بطرد المتخلفين، وآخر في 21/ 8 / 1611 م، وثالث في 19/ 9 / 1612 م، ورابع في 16/ 1 / 1613 م، وخامس في 20/ 4 / 1613 م. ورغم كل هذه الأوامر، فقد ظل مورسكيو سهل قلعة رباح معفيين من الطرد.

5/ 5 - المورسكيون المطرودون في مناطق هجرتهم:

يمكن إذًا تقدير مجموع من طرد من المسلمين من قشتالة القديمة والجديدة والمانشا بحوالي 50.000 شخص. ويكون مجموع من طرد من مملكة قشتالة حوالي 132.000 مسلم، منهم 50.000 شخص من القشتالتين، و 52.000 شخص من الأندلس، و 22.000 شخص من مرسية، و 8.000 شخص من استرمادورا. وبهذا يكون مجموع من طرد من المسلمين من إسبانيا في الحقبة بين سنتي 1609 م و 1614 م حوالي 327.000 شخص، منهم 195.000 شخص من مملكة أراغون، و 132.000 شخص من مملكة قشتالة. وقد اختلف المؤرخون في تقديراتهم للمسلمين المطرودين، فتفاوتت ما بين مائة ألف والمليون. لكن معظم من عايشوا الأحداث برهنوا على أن الإحصائيات أعطت أرقامًا تتراوح بين 270.000 و 340.000 مورسكي. وتعود صعوبة تقدير عدد المطرودين بالضبط إلى أسباب كثيرة، منها أن عددًا كبيرًا منهم طرد عدة مرات، ومنهم من عد من المطرودين دون أن يترك البلاد. وسنقدر في الفصول التالية أعداد المورسكيين الذين بقوا في إسبانيا والذين عادوا بعد قرار الطرد. وفي يوم 25/ 3 / 1611 م خرج الملك فليبي الثالث على رأس رجال الدولة، وفي أحسن أبهة، مرتديًا الألبسة البيضاء، وقام بمسيرة "شكر لله" على انتهاء عملية طرد المسلمين بسلام التي ابتدأها قبل سنتين. 5/ 5 - المورسكيون المطرودون في مناطق هجرتهم: أخرجت الحكومة الإسبانية من أرضها في الفترة ما بين سنتي 1609 م و 1614 م حوالي 327.000 مسلم أندلسي ومدجن. استقر العدد الأكبر منهم في المغرب والجزائر وتونس. وانتقل آخرون إلى فرنسا، ومنها إلى البلاد الإسلامية. كما انتقل البعض الآخر، إما مباشرة أو عبر فرنسا، إلى موانىء الدولة العثمانية. أما المغرب، فيقدر عدد الأندلسيين الذين دخلوه في هذه الفترة ما بين 40.000 أندلسي في المصادر الإسبانية و 60.000 أندلسي في المصادر الأندلسية، والرقم الأعلى هو الأرجح. استقر حوالي 30.000 أندلسي (نصف الوافدين إلى المغرب) في المناطق الشمالية المجاورة لمضيق جبل طارق، إذ استوطن منهم حوالي 10.000 أندلسي بمدينة تطوان، وحوالي 20.000 أندلسي بمدن الشمال الأخرى، كشفشاون

والقصر الكبير، وقراه وباديته. واستقر حوالي 10.000 أندلسي آخرون على مصب وادي أبي رقراق، في سلا، وخاصة في مدينة الرباط التي عمروها بعد أن كانت خرابًا. واتجه حوالي 10.000 أندلسي آخرين إلى مدينة فاس، بينما توزع الباقون، أي حوالي 10.000 أندلسي، على مدن المغرب الأخرى، كمكناس ومراكش وآسفى ووجدة، وعلى موانئه وبواديه. وكان انتقال الأندلسيين إلى المغرب عن طريق المراكز التي استعمرتها إسبانيا على شواطئه، كطنجة وسبتة، ومنها انتقلوا إلى المناطق الأخرى. ولقد قدم معظم الأندلسيين المهاجرين إلى المغرب من الأندلس والقشتالتين واسترمادورا، بينما قدم آخرون من مرسية وبلنسية وأراغون القديمة وقطلونية. واتجه معظم أهل القشتالتين واسترمادورا إلى مصب وادي أبي رقراق، خاصة الرباط حيث انتقل كل من أتى من فرنجوس بعد أن أراد مولاي زيدان استعمالهم في حروبه الصحراوية، وانتقل معظم الغرناطيين إلى فاس وشمال المغرب، بينما استقر أهل بلنسية ومرسية وأراغون القديمة وقطلونية في تطوان والرباط. وعمل السلطان السعدي مولاي زيدان على تيسير استيطان المهاجرين الأندلسيين، إذ رأى فيهم عنصرًا مفيدًا للمغرب، لتعمير مدنه، وتحسين أوضاع بواديه، والاستفادة من رجالهم وخبراتهم في الجيش. وتدخل مولاي زيدان للدفاع عنهم ضد مناوئيهم داخل المغرب وخارجه. ففي المغرب، أذن لهم بالاستيطان حيثما شاؤوا وبإعادة تعمير مدينة الرباط، وقدم لهم التسهيلات اللازمة لذلك. وخارج المغرب، دافع على حقوقهم، وتابع المعتدين عليهم عند انتقالهم إليه. مثال ذلك السفارة التي أرسلها مولاي زيدان برئاسة الشهاب الحجري، أحد المهاجرين الأندلسيين، إلى باريز لأخذ حقوق الركاب الأندلسيين الذين اعتدى عليهم أصحاب السفن الفرنسيون، إذ "كان الأندلسيون يقطعون البحر في سفن النصارى بالكراء، ودخل كثير منهم في سفن من الإفرنج من أربع سفن، وبعث رجل أندلسي من بلاد فرنجة يطلب منهم وكالة ليطلب بالشرع عنهم ببلاد الفرنج، واتفق نظرهم أنهم يبعثون خمسة رجالاً من المنهوبين لهم، واحدًا من الأندلس الذين سبقوهم بالخروج، واتفقوا أني نمشي لهم، وأعطاني السلطان كتابه وركبنا البحر المحيط بمدينة آسفى". ولم يستقبل الأندلسيون المهاجرون استقبالاً جيدًا من طرف الأهالي المغاربة إلا في مدينتي فاس وتطوان حيث كانت بهما جالية أندلسية قديمة كبيرة وذات نفوذ. أما

في مدن المغرب الأخرى، كسلا والقصر الكبير، وبواديه، فقد كان استقبالهم فيها فاترًا إن لم يكن سيئًا. وسبب ذلك أن معظم الأندلسيين الوافدين على المغرب في هذه الفترة كانت قد مرت عليهم أجيال من الاضطهاد النصراني جعلت جلهم يجهل اللغة العربية ولا يتكلم إلا الإسبانية، ويحمل أسماء إسبانية، ويتاثر بالعادات النصرانية، كما كانت معرفتهم بالتعاليم الإسلامية ضعيفة بالنسبة للمغاربة، حتى أن أعداءهم أصبحوا ينعتونهم بـ "نصارى قشتالة". وقد أدى هذا الوضع بالتجمعات الأندلسية الكبيرة، خاصة في تطوان والرباط، إلى الاستقلال عن الدولة المغربية لفترة، وتكوين جمهوريات اختصت بالجهاد البحري ضد الإسبان وغيرهم من النصارى في البحر الأبيض المتوسط (تطوان)، وفي المحيط الأطلسي (الرباط وسلا). وبرز من بين الأندلسيين المهاجرين إلى المغرب في هذه الفترة شخصيات مهمة. منهم عدد كبير ممن عملوا في الترجمة والسفارة، كالشهاب أحمد بن قاسم الحجري الذي كان ترجمانًا وسفيرًا للسلطان مولاي زيدان، ويوسف بسكيانو، ومحمد بنيغش. ومنهم الأطباء، كأبي القاسم الوزير بن محمد الغساني، وأحمد بن معيوب، وغيرهم. ومنهم من برز في فنون أخرى. وأخذ الأندلسيون معهم إلى المغرب تقنيات متقدمة في الزراعة والهندسة والحرف أكدت التأثرات الأندلسية القديمة، وأثرت على الشخصية المغربية ومكوناتها الثقافية تأثيرًا دائمًا جعلت من المغرب الوارث المعاصر للحضارة الأندلسية الإسلامية. أما الجزائر، فيقدر عدد من هاجر إليها في هذه الفترة من الأندلسيين بحوالي 65.000 أندلسي. استقر حوالي 25.000 أندلسي منهم في الجزائر العاصمة وحدها، وتوزع عدد منهم على المدن المجاورة لها، كالبليدة. ودخل حوالي 22.000 أندلسي الأراضي الجزائرية عبر ميناء وهران، الذي كان مستعمرة إسبانية حينذاك، فانتقلوا إلى المدن الجزائرية المجاورة، خاصة تلمسان ومستغانم. ويقدر بحوالي 18.000 أندلسي عدد الذين هاجروا إلى السواحل الجزائرية الأخرى، كبجاية وشرشال وبونة (عنابة) وغيرها. وقدم معظم الأندلسيين الذين توجهوا إلى الجزائر من مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، وقدم بعضهم من مملكة مرسية. استقبلت الدولة العثمانية في الجزائر المهاجرين الأندلسيين استقبالاً جيدًا، ويسرت لهم سبل الاستيطان. ووجد المهاجرون الاستقبال الرحب من طرف الأهالي في المدن الجزائرية الكبيرة، كالجزائر العاصمة وتلمسان وبجاية ومستغانم وغيرها.

لكن المهاجرين الأندلسيين عوملوا من طرف الأعراب في بوادي الجزائر، خاصة عند انتقالهم من مستعمرة وهران إلى الأراضي العثمانية أسوأ المعاملة. فقد قتل الأعراب منهم عددًا كبيرًا، ونهبوا قوافلهم وسلبوها، كما وصف ذلك المقري قائلاً: "فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهب أموالهم". وزاد البوعبدلي قائلاً: "وقد انتهى بهم (أي الأعراب) الأمر إلى قتلهم (أي الأندلسيين) وبقر بطونهم مما يظنون ابتلاع الجوهر". وقاومت السلطات العثمانية في الجزائر العاصمة هذه الجرائم أشد المقاومة، كما تصدى لها العلماء. ودافعت بعض القبائل الواعية عن الأندلسيين، كما فعلت مثلاً قبيلة سويد التي قامت لمقاتلة القبائل المعتدية على الأندلسيين، كقبيلة هبرة، على جرائمها. وقد أثّرت هذه الهجرة على الجزائر تأثيرًا دائمًا، خاصة في الزراعة والفنون العسكرية والإدارية. كما قام الأندلسيون المستقرون في شواطىء الجزائر بتنظيم الجهاد البحري ضد المصالح الإسبانية في البحر الأبيض المتوسط. أما تونس، فيقدر عدد الأندلسيين الذين هاجروا إليها في هذه الفترة بحوالي 50.000 أندلسي. وقد استقر عدة آلاف منهم في تونس العاصمة وأرباضها، فسكن وجهاؤهم في "زقاق الأندلس" داخل الأسوار، وبنى عامتهم أرباضًا خارجها في باب الجزيرة وباب قرطاجنة وباب السويقة وحومة الأندلس. أما العدد الأكبر من المهاجرين الأندلسيين فقد ساعدتهم السلطات العثمانية في تونس على تأسيس مدن زراعية في أربع مناطق من الولاية التونسية، وهي: 1 - ضواحي تونس العاصمة؛ 2 - والوطن القبلي؛ 3 - ووادي المجردة؛ 4 - ومنطقة بنزرت. وقدم معظم الأندلسيين الذين هاجروا إلى تونس من مملكتي بلنسية وأراغون القديمة. وقد انتقل معظم الأراغونيين، أو الثغريين كما كانوا يسمون أنفسهم، إلى تونس عن طريق ميناء أغد بفرنسا. استقبلت السلطات العثمانية في تونس، وعلى رأسها حاكمها عثمان داي، المهاجرين الأندلسيين استقبالاً جيدًا ومنظمًا، ورأت فيهم عنصرًا مهمًا لإعادة تعمير البلاد والوقوف أمام عبث الأعراب. فسهل عثمان داي عليهم سبل العيش، وحماهم من هجوم الأعراب، وأقرهم على الولاة الذين ينتخبونهم من بين زعمائهم، وأعفاهم من الضرائب لمدة كافية لاستقرارهم. ثم تابع ولاة الدولة العثمانية في تونس الذين

خلفوا عثمان داي سياسته اتجاه الأندلسيين. وشرع عثمان داي منصب رئيس الأندلسيين بالانتخاب فيما بينهم، يسمى بـ "شيخ الأندلس". وأول من تولى هذا المنصب هو مصطفى بن عبد العزيز كردناش، دام فيه مدة ثلاثين سنة، قدم إلى تونس من بسطة بمقاطعة غرناطة. واستقبل أهالي مدينة تونس المهاجرين الأندلسيين استقبالاً جيدًا، ولم تسأ معاملتهم إلا من طرف الأعراب، لكن الدولة حمتهم من تجاوزاتهم حماية كافية. كان تأثير الهجرة الأندلسية على تونس إيجابيًّا ودائمًا، خاصة في تعمير مدنها وبواديها، وإنعاش الصناعة والزراعة بها، وإحياء اقتصادها. ففي ضواحي تونس العاصمة، سلم عثمان داي للأندلسيين جميع المزارع المهجورة فأسسوا العديد من القرى الزراعية، كأريانة وسوكرة ومنوبة والباردو ورادس ومرناق وغيرها. فأدخلوا إلى تلك المناطق زراعة التوت وصناعة الحرير. وأسسوا في الوطن القبلي المدن والقرى الزراعية التالية: حمام الأنف وسليمان وقرنبلية وتركي وبلي ونيانو وزعوان ومنزل بوزلفى ومنزل تميم ودار شعبان ونابل وغيرها. أما في وادي المجردة، فقد أسس الأندلسيون المهاجرون في هذه الفترة سلسلة من المدن والقرى الزراعية، وهي: تستور والسلوقية ومجاز الباب وقريش الوادي وتبوربة والجديدة وقلعة الأندلس وعوسجة والعالية والماتلين ورأس الجبل وغار الملح ومنزل جميل وماطر. وأحيوا مدينة بنزرت وأسسوا في منطقتها بلدة منزل عبد الرحمن. وقد فشل الأندلسيون، رغم مجهودهم، في إعادة تعمير مدينة المهدية (عاصمة الدولة الفاطمية قديمًا) وقد أصبحت خرابًا، بسبب انتشار الأوبئة وتجاوزات الأعراب. ومجمل القول، فقد أدت الهجرة الأندلسية إلى تونس في هذه الحقبة بالذات إلى انتعاش كبير في المجالات الزراعية والصناعية وفي العلوم. فأدخل الأندلسيون صناعة الشاشية وصناعة الحرير، وأحيوا أراضي موات شاسعة، نشروا زراعة الزيتون، وتسببوا في ازدهار التجارة. وقد نشطت الثقافة الأعجمية بتونس على يد جماعة من المثقفين الأندلسيين المهاجرين إليها، منهم: عبد الكريم بن علي بريز، وإبراهيم التايبلي بيريز، وأصله من طليطلة، والحاج محمد روبيو، وأصله من أراغون القديمة، وغيرهم كثير. كما ظهر في الدبلوماسية عدد كبير من الأندلسيين، من بينهم أحمد بن قاسم بجرانو الأندلسي الذي خدم مولاي زيدان، سلطان

المغرب، قبل هجرته لتونس، وفي العلوم الحربية إبراهيم بن أحمد، وغيرهم في شتى الفنون والعلوم. أما ليبيا، فقد هاجر إلى طرابلس والمناطق المجاورة لها عدة آلاف من الأندلسيين، إما مباشرة أو عن طريق تونس. وهكذا يكون مجموع الأندلسيين المهجرين من بلادهم قسرًا والذين وصلوا إلى شمال إفريقيا في الحقبة بين سنتي 1609 م و 1614 م حوالي 180.000 أندلسي، منهم 60.000 أندلسي استقروا في المغرب، و 65.000 أندلسي في الجزائر، و 50.000 أندلسي في تونس، وبضعة آلاف منهم في ليبيا. فإلى أين اتجه الباقون؟ يمكن تقدير عدد الأندلسيين الذين تركوا إسبانيا عن طريق فرنسا بحوالي 50.000 أندلسي على أقل تقدير. وقد استقبلهم الفرنسيون، أول الأمر، استقبالاً حسناً. ففي فبراير سنة 1610 م، سمح لهم هنري الرابع، ملك فرنسا، بالمكوث فيها شرط اعتناق الدين الكاثوليكي والإخلاص له. وعندما تكاثرت أعداد الوافدين منهم، وهم على ما هم عليه من الفقر والتعب والمرض، أخذ الأهالي الفرنسيون يشتكون إلى الملك من وجودهم ففي 25/ 4 / 1610 م، أمر الملك مدن جنوب فرنسا بتوجيه اللاجئين الأندلسيين إلى الموانىء المجاورة لإبحارهم خارج البلاد. وزادت معاملة اللاجئين الأندلسيين المقيمين في فرنسا سوءًا بعد وفاة الملك هنري الرابع في مايو سنة 1610 م. فقررت بلديتا طلوشة (تولوز) وبايون إقفال الحدود عنهم، وهدد برلمان اللانكدوق بتعذيب من يرفض منهم الخروج من فرنسا، ومنعت مقاطعة البروفانس عبورهم نهر الردانة (الرون). لم يزد معظم الأندلسيين الذين دخلوا فرنسا على عبورها إلى بلدان أخرى، معظمها إسلامية. ولم يبق بفرنسا سوى ألف موريسكي تقريبًا. وقد ذكر آغرفوي، وهو مؤرخ فرنسي معاصر، "أن عددًا منهم (أي الأندلسيين) سمح لهم بالإقامة في المدن، حيث عمل بعضهم في التجارة وعمل آخرون منهم في الطب، بينما ظل كثيرون يعملون في الزراعة". ودخل عدة آلاف من الأندلسيين المطرودين إلى إيطاليا، ولم يستقر منهم بها سوى حوالي ألف أندلسي، أقام معظمهم في صقلية جنوبًا وفي تسكانيا شمالاً. واتخذ الآخرون إيطاليا طريقًا للاتجاه إلى الدولة العثمانية. وقد قام السلطان العثماني

أحمد الأول بمجهود كبير في تسهيل انتقالهم، فكتب لحكام فرنسا وبريطانيا والإمارات الإيطالية رسائل يطالبهم فيها بتسهيل نقل الأندلسيين إلى الأراضي العثمانية. كما أرسل إلى ماري دي ميدسيس، الوصية على ابنها ملك فرنسا لويس الثالث عشر، رسالة يطلب منها توفير عدد من السفن لمساعدة الأندلسيين المقيمين في جنوب فرنسا على التوجه إلى الأراضي العثمانية. فاستجابت الوصية لطلب السلطان. وأرسل السلطان سفيره الحاج إبراهيم آغا إلى جاك الأول، ملك بريطانيا، لمساعدة الأندلسيين وكذلك تسهيل انتقالهم إلى الدولة العثمانية. فرفض جاك الأول الاستجابة لطلب السلطان. وكذلك ناشد السلطان أحمد الأول دوج البندقية بمساعدة الأندلسيين على الوصول إلى الأراضي العثمانية عن طريق البر، وطلب منه "ألا يتدخل في أمورهم، أو يتعرض لأشخاصهم، أو لأرزاقهم، أو لأموالهم، أو لدوابهم، إنجازًا لما بيننا من العهد والأمان، وذلك أثناء مرورهم بالمنازل والمراحل والمعابر (التي تحت حكمكم)، حتى يصلوا عندنا آمنين سالمين ... لتقوية أواصر المصالحة وتمديد المعاهدة (بيننا) ". وقد اختار معظم الأندلسيين الذين دخلوا فرنسا من إسبانيا، ومعظمهم من مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، الطريق التالية للوصول إلى الأراضي العثمانية: دخلوا بلدة طارب في فرنسا، ثم توجهوا إلى طلوشة (تولوز) فلذن (ليون)، ومنها خرجوا من فرنسا عبر وادي الردانة (الرون)، فدخلوا الأراضي السويسرية في جنيف، ومنها إلى وادي الفالي (سويسرا)، حيث أقام عدد منهم، ثم دخلوا الأراضي الإيطالية متجهين إلى مدينة ميلانو (إيطاليا)، ومنها إلى البندقية، فبلاد البوسنة والهرسك (في يوغسلافيا اليوم) بالدولة العثمانية. وهكذا عبر آلاف الأندلسيين هذه الطريق الطويلة، فاستقر بعضهم في بلاد البوسنة والهرسك، وتابع الباقون طريقهم إلى سلانك (في اليونان اليوم) حيث استقر عدة آلاف منهم، ثم تابع الباقون طريقهم إلى القسطنطينية (اسطنبول)، عاصمة الدولة العثمانية. ومنهم من توجه بعد ذلك إلى بلاد الشام، خاصة دمشق والساحل اللبناني. وقد عمر الأندلسيون أحياء كاملة في القسطنطينية، منها حي كلاطة المشهور اليوم. وأصبح للأندلسيين نفوذ كبير في القسطنطينية، لاحظه المراقبون الأوروبيون المعاصرون. ويقدر عدد الأندلسيبن المطرودين في الحقبة بين سنتي 1609 م و 1614 م الذين هاجروا إلى الأراضي العثمانية الآسيوية والأوروبية بحوالي 40.000 أندلسي.

وهاجر عدد من الأندلسيين إلى القارة الأمريكية كما يظهر من سجلات محاكم التفتيش ومن الآثار المعمارية التي تركوها هناك. غير أن هجرة معظم الأندلسيين إلى جنوب أمريكا كانت قبل طرد سنة 1609 م. وهكذا يمكن تقدير عدد الأندلسيين المطرودين الذين وصلوا إلى أرض المهجر بحوالي 230.000 شخص، استقر منهم بشمال إفريقيا حوالي 180.000 أندلسي، وفي الأراضي العثمانية الآسيوية والأوروبية حوالي 40.000 أندلسي، وفي الدول النصرانية بأوروبا وأمريكا حوالي 10.000 أندلسي. فماذا حدث لـ 97.000 أندلسي الباقين الذين أخرجوا من إسبانيا؟ يمكن تقدير عدد من مات منهم، غرقًا في البحار أو قتلاً في الطرقات أو بسبب المرض والجوع والفاقة، بحوالي عشرين في المائة من مجموع المطرودين، أو حوالي 65.000 أندلسي، بينما رجع ال 32.000 أندلسي الباقون إلى الأندلس بطريقة ما واندمجوا في أهاليها.

مراجع الفصل الخامس

مراجع الفصل الخامس 5/ 1 - Boronat y Barranchina "Los Moriscos Espanoles y su Expulsion" Valencia, 1901, Vol. II, Apendice 4. 5 / 2 - J. Bleda "Cronica de los Moros de Espana" Valencia, 1618, p. 975. 5 / 3 - Duc de la Force "Memoires Authentiques de Jacques Nompar de Caumont, Duc de la Force" Tome I, Paris, 1843. 5 / 4 - L. Cabrera de Cordoba "Relaciones de las Cosas Sucedidas en Espana desde 1599 Hasta 1614" Madrid 1857, p. 240 (Abril de 1605) . 5 / 5 - L. Cardaillac "Morisques et Protestants" Al-Andalus, XXXVI, 1971, p.29-63. 5 / 6 - أبو عبد الله محمد اليفرني "نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي" طبع فاس، المغرب. 5/ 7 - H.C. Lea "The Moriscos, Their Conversion and Expulsion" Londres, 1901, New York, 1968, p. 289-290. 5 / 8 - شهاب الدين أحمد بن قاسم الحجري "ناصر الدين على القوم الكافرين" تحقيق محمد رزوق، الدار البيضاء، 1987، ص 103 - 104. 5/ 9 - Ref. (5.1) , Vol. II, p. 490-91, y Apendice 7. 5 / 10 - Ref. (5.1) , Vol. II, Apendice 9. 5 / 11 - M. Danvila y Collado "La Expulsion de los Moriscos Espanoles" Madrid, 1889, p. 274-277. 5 / 12 - M. Garcia Arenal "Los Moriscos", Madrid, 1975, p. 252-255. 5 / 13 - Gaspar de Aguilar "Expulsion de los Moriscos de Espana por la S.C.R Magestad del Rey Don Phelipe Tercero" Valencia, 1610.

5/ 14 - المرجع (5 - 8)، ص 2. 5/ 15 - محمد بن عبد الرفيع "الأنوار النبوية في آباء خير البرية" مخطوط الخزانة العامة بالرباط، عدد 1239 ك، ص 336. 5/ 16 - Ref. (5.13) . 5 / 17 - H. Lapeyre "Geographie de l'Espagne Morisque" SEVPEN, Paris, 1969. 5 / 18 - Damian Fonseca "Justa Expulsion de los Moriscos de Espana, Con la Instruccion, Apostasia y Traicion dellos: y Respuesta alas Dudas que se Ofrecieron acerca desta Materia" Roma, 1611, Capitulos 4 y 5. 5 / 19 - Ref. (5.1) , Vol. II, p.272-273. 5 / 20 - Ref. (5.1) , Vol. II, p. 246, y Apendices 24 y 25. 5 / 21 - Ref. (5.1) , Vol. II, p. 277-279. 5 / 22 - A. Dominguez Ortiz y Bernard Vincent "Historia de los Moriscos" Revista de Occidente, 1979, p. 186. 5 / 23 - Ref. (5.22) , p. 195. 5 / 24 - Archivo de la Corona de Aragon, Corona de Aragon, 221 III 2. 5 / 25 - Ref. (5.1) , Vol. II, p. 296-297. 5 / 26 - Ref. (5.24) , 221 IV, 7. 5 / 27 - Ref. (5.24) , 221 IV, 6. 5 / 28 - Ref. (5.24) , 221 VII, 4. 5 / 29 - Ref. (5.24) , 221 II, 12. 5 / 30 - Ref. (5.1) , Vol, II, p. 298-299. 5 / 31 - Ref. (5.24) , 221 II, 17. 5 / 32 - Ref. (5.24) , 221 V, 12. 5 / 33 - Ref. (5.24) , 221 II, 14. 5 / 34 - Ref. (5.1) , Vol. II, p. 301-302. 5 / 35 - Ref. (5.24) , 221 III, 7. 5 / 36 - Ref. (5.24) , 221 VI, 7. 5 / 37 - Aznar Cardona "Expulsion Justificada de los Moriscos Espanoles" Parte 2, Capitulo 2. 5 / 38 - Archivo de la Corona de Aragon, Reg. 5189, 43v-44v.

5/ 39 - Ref. (5.38) , Reg. 5210, 319v. 5 / 40 - Ref. (5.38) , Reg. 5210, 238. 5 / 41 - Ref. (5.1) , Vol. II, p. 281-282. 5 / 42 - F. Janer "Condicion Social de los Moriscos en Espana, Causas de su Expulsion y Consecuencias que esta Produjo en el Orden Politico y Economico", Madrid, 1857, p. 284-285. 5 / 43 - Ref. (5.42) , p. 305. 5 / 44 - Ref. (5.17) , Apendice XVI. 5 / 45 - Ref. (5.1) , Vol. II, p. 285-287. 5 / 46 - Ref. (5.42) , 221 VI, 4. 5 / 47 - Ref. (5.42) , 221 VI, 2. 5 / 48 - Ref. (5.42) , 221 VI, 3. 5 / 49 - Ref. (5.17) , p. 147. 5 / 50 - Ref. (5.42) , p. 176 y ss. 5 / 51 - Archivo Historico National, Inquisition, (Espana) , Libro 586, Fo- lio 320. 5 / 52 - Munoz Gaviria "Historia del Alzamiento de los Moriscos, su Expul- sion de Espana y sus Consecuencias en todas las Provincias del Re- ino" Madrid, 1881, p. 182. 5 / 53 - Marcos de Guadalajara "Memorable Expulsion u Justisimo Destier- ro de los Moriscos de Espana" Pamplona, 1613, Fols 120v-122v. 5 / 54 - Marcos de Guadalajara "Proclicion y Destierro de los Moriscos de Castilla hasta el Valle de Ricote. Con las Disensiones de los Herma- nos Xarifes y Presa en Berberia de la Fuerca y Puerto de Alarache' Imp. Nicolas de Assiayn, Pamplona, 1614, Fol. 41v-42v. 5 / 55 - Ref. (5.42) , p. 339-340. 5 / 56 - Ref. (5.1) , p. 291-292. 5 / 57 - Ref. (5.54) , fol. 34v-37v. 5 / 58 - Ref. (5.54) , fol. 44v-45v. 5 / 59 - Ref. (5.1) , p. 303. 5 / 60 - Don Diego de Guzman "Vida y Muerte de Dona Margarita de Aus- tria" 2e parte, Capitulo 20. 5 / 61 - Ref. (5.18) , p. 200.

5/ 62 - الشهاب الحجري، مخطوط المكتبة الجامعية بمدينة بلونيا (إيطاليا) ورقة 156 ظ. 5/ 63 - Juan Penella Roma "Los Moriscos Espanoles Emigrado Al Norte de Africa" Thesis, Barcelona, 1971. 5 / 64 - مرجع (5 - 8)، ص 30. 5/ 65 - محمد رزوق "الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب" مطبعة إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1987. 5/ 66 - Jean Monlaii "Les Etats Barbaresques" Collection Que Sais-Je? No. 1097, p. 108. 5 / 67 - Ref. (5.17) , p. 55-56. 5 / 68 - أحمد المقري "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب" نشرة إحسان عباس، بيروت، 1968، المجلد 4، ص 528. 5/ 69 - المهدي البو عبدلي "مقدمة كتاب الشعر الجماني" ص 27. 5/ 70 - ناصر الدين السعيدوني "الجالية الأندلسية بالجزائر" مجلة أوراق، مدريد، العدد 4، ص 117. 5/ 71 - J.D. Latham "Muçtafa de Cardenas et L"Apport des Morisques a la Societe Tunisienne du XVII Siecle" Les Africains (Edition Jeune Afrique) , Paris, Vol. 7, p. 201-229. 5 / 72 - Guiy Turbet-Delof "Un Morisque Andalou Refugie en Tripolitaine: Le Marabout Issouf" Etudes sur les Morisques Andalous, ed. S.M. Zbiss, A. Gafsi, M. Boughanni et M. de Epalza, Tunis, 1983, p. 195-200. 5 / 73 - L. Cardaillac "Morisques en Province" Revue des Langues Ro - manes, 1971. 5 / 74 - Juan Pignon "Etudes sur les Morisques Andalous" Tunis 1983, p. 75. 5 / 75 - عبد الجليل التميمي "رسالة من السلطان العثماني أحمد الأول إلى دوج البندقية حول المورسكيين" مجلة التاريخ المغربي، تونس، عدد 7 و 8، ص 7 - 13.

الفصل السادس ديموغرافية المورسكيين وحياتهم الاجتماعية

الفصل السادس ديموغرافية المورسكيين وحياتهم الاجتماعية 6/ 1 - ديموغرافية المورسكيين: يجد الباحث صعوبة في إحصاء عدد المورسكيين عند محاولته للتعرف على من هو المورسكي في إسبانيا القرن السادس عشر. فمعظم الأندلسيين الذين أجبروا على التنصير أظهروا التنصر تقية واحتفظوا بالإسلام سرًّا وتنظموا للدفاع عنه ولتعليمه لأبنائهم. وأدى هذا الوضع إلى عدم ثقة النصارى القدامى في كل المتنصرين قهرًا، حتى في الأقلية الصغيرة منهم التي أخلصت للنصرانية. وشرعت الحكومة الإسبانية لمقاومة الأندلسيين مفهومًا عنصريًّا غريبًا، هو نقاوة الدم النصراني. ويعني ذلك أن كل من تنسل من أجداد مسلمين يعد دمه غير نقي، ويصبح بذلك مشكوكًا في ولائه للدين النصراني والدولة الإسبانية، فيبعد عن مسؤوليات الدولة. وهذا ما حدث فعلاً لعدة شخصيات اشتهرت في التاريخ الثقافي والفكري الإسباني، كسرفانتس، مؤلف قصة دون كيشوطي. ومن جهة أخرى، لم يكن المورسكيون مجموعة عرقية مختلفة عن النصارى. فكلاهما من عرق واحد، ولا يمكن التعرف على المورسكيين إلا باختلاف اللباس والعادات، بينما معظم نصارى الأندلس آنذاك كانوا من أصول إسلامية وهذا ما يجعل تقدير عدد المورسكيين صعبًا، عدا في مملكتي بلنسية وأراغون القديمة حيث كانوا منظمين في جماعات محددة المعالم، ولم يكونوا أول الأمر مضطهدين بمستوى اضطهاد أهل الأندلس في الجنوب. سندرس أولاً ديموغرافية مسلمي مملكة أراغون بمناطقها الثلاثة: مملكة بلنسية، ومملكة أراغون القديمة، وقطلونية.

أما مملكة بلنسية، فقد طرد منها عدد من المسلمين عدة مرات منذ احتلالها في القرن الثالث عشر الميلادي، كما هاجرت منها أعداد كبيرة من المسلمين عبر القرون. ورغم ذلك، بقي في مملكة بلنسية عدد كبير منهم كمدجنين بينما تنصرت أعداد أخرى، طمعًا أو قهرًا. وفي سنة 1510 م، كان عدد سكان مملكة بلنسية حوالي 273.000 شخص، وأصبح عددهم سنة 1550 م حوالي 432.000 نسمة موزعين على 84.504 بيت، من بينهم حوالي 159.000 مورسكيًّا موزعين على 31.515 بيت. أي أن نسبة المورسكيين من مجموع سكان مملكة بلنسية كانت سنة 1550 م تعادل حوالي 37.6 في المائة. وفي سنة 1600 م، قدر عدد سكان مملكة بلنسية بحوالي 509.000 نسمة يسكنون 101.792 بيتًا، منهم حوالي 140.000 مورسكيًّا يسكنون 28.071 بيتًا، وبهذا نزلت نسبة المورسكيين من مجموع السكان في ظرف أربعين سنة إلى 27.7 في المائة. لكن الأرقام التي قدمت عن عدد المورسكيين سنة 1600 م ليست موثوقة، إذ ذكر المؤرخون النصارى المعاصرون "بأن السكان المورسكيين في بلنسية أصبح يتزايد عددهم بطريقة مهولة لدرجة أن الكورتس (مجلس الدولة) أمر في أوائل القرن السابع عشر عدم إحصاء عددهم لكي لا يعرفوا مدى قوتهم العددية". بل قدرت نسبة زيادة مسلمي مملكة بلنسية بحوالي 69.7 في المائة في الحقبة بين سنتي 1563 م و 1609 م، بينما قدرت نسبة زيادة النصارى في نفس الحقبة بحوالي 44.7 في المائة فقط. وإذا اعتبرنا عدد المورسكيين المنشور في مملكة بلنسية سنة 1550 م قريبًا من الواقع وطبقنا عليه نسبة زيادة المورسكيين المذكورة، وجدنا أن عدد المورسكيين المحتمل في مملكة بلنسية يعادل حوالي 280.000 مورسكيًّا سنة 1600 م، ويمكن تقدير من هاجر منهم إلى البلاد الإسلامية في نفس الحقبة بحوالي 80.000 مورسكيًّا. فيكون إذن عدد المورسكيين المقيمين في مملكة بلنسية سنة 1600 م حوالي 200.000 مورسكيًّا، أي ما يعادل حوالي 40 في المائة من مجموع سكانها. وهذا ما يفسر رعب السلطات الكنسية والحكومية من تزايدهم. ويقدر عدد سكان مملكة بلنسية سنة 1609 م، باعتبار الزيادة الطبيعية، بحوالي 580.000 نسمة، منهم حوالي 230.000 مورسكيًّا. وقد قدرنا عدد من طرد منهم سنة 1609 م، وما قبلها مباشرة، بحوالي 130.000 مورسكيًّا، بينما قتل منهم في مقاومتهم لهذا الطرد حوالي 10.000 مورسكيًّا، فيكون المجموع حوالي 140.000

مورسكيًّا. لذا يمكن تقدير من بقي من المورسكيين في مملكة بلنسية بعد الطرد بحوالي 90.000 شخص. أي أن عدد سكان مملكة بلنسية نزل بسبب طرد ربع سكانها في بضعة شهور، من 580.000 نسمة إلى 440.000 نسمة، خمسهم ممن تبقى من المورسكيين، الأطفال والمستعبدين والمخفيين والهاربين، في حالة يرثى لها من الفقر والقهر والتشتيت بعد أن قضي على تنظيمهم وزعمائهم، طردًا وقتلاً. فمن المورسكيين المتخلفين من اندمج في السكان النصارى، ومنهم من التحق بقبائل الغجر، ولم يبق لهم اليوم من الإسلام إلا ذكراه والحنين إليه. وكان مسلمو مملكة بلنسية يقطنون بنسب كبيرة في المناطق الجبلية، إذ طرد معظمهم من المدن والسهول، عدا منطقة شاطبة، بعد احتلال البلاد في القرن الثالث عشر الميلادي. وكان معظم المسلمين يعيشون في قرى صغيرة تحت سيادة نبلاء مدنيين، وأقلهم تحت سيادة الكنيسة الكاثوليكية. وأظهر إحصاء سنة 1550 م أنهم كانوا يقطنون في 450 قرية إسلامية، أكبرها بونيول (3.800 نسمة) في مقاطعة بلنسية، والدا (3.500 نسمة) في مقاطعة لقنت، وآسب (2850 نسمة) جنوب الدا في مقاطعة لقنت كذلك. وكان عدد سكان مدينة بلنسية حوالي 50.000 نسمة، لم يكن منهم سوى عدد قليل من المسلمين. أما مملكة أراغون القديمة، فقد طرد عند احتلالها المسلمون من مدنها الكبرى، وهاجر عدد كبير منهم إلى الأراضي الإسلامية، بينما بقيت أعداد أخرى في السهول الزراعية، خاصة حول نهر ابرة. وعلى عكس مملكة بلنسية، كانت نسبة المسلمين في أراغون القديمة مرتفعة في السهول ومنخفضة في الجبال. وكان "معظم سكان القرى في المنطقة التي تكون ولاية سرقسطة اليوم مسلمين" عند احتلال النصارى للثغر الأعلى. وفي سنة 1495 م، أظهر أول إحصاء أجري في مملكة أراغون القديمة أن عدد سكانها 200.000 نسمة، من بينهم حوالي 50.000 مسلم، أي ربع مجموع سكانها. وفي سنة 1575 م، أصبح عدد المورسكيين في أراغون القديمة يقارب 54.000 مورسكي يقطنون في 10.825 بيت. وفي سنة 1593 م، وصل مجموع سكان مملكة أراغون القديمة إلى 302.000 نسمة، من بينهم حوالي 84.000 مورسكي يعيشون في 16.865 بيت، أي ما يعادل حوالي 28 في المائة من مجموع السكان. وفي إحصاء سنة 1603 م، نزل عدد المورسكيين إلى 71.000 مورسكي فقط، يقطنون في 14.109 بيت، من مجموع 332.000 نسمة،. يقطنون في 66.547

بيت. أي أن نسبة المورسكيين من مجموع سكان مملكة أراغون القديمة نزلت سنة 1603 م إلى حوالي 21 في المائة. وكما ذكرنا بالنسبة لمملكة بلنسية، فهناك أسباب وجيهة للشك في صحة هذه الأرقام الأخيرة، والاعتقاد بأنها أقل من الواقع. إذ وجد أن عدد المعمدين في مملكة أراغون القديمة في الفترة ما بين سنتي 1590 م و 1609 م، أي قبل طرد المورسكيين، يساوي 3.05 طفل لكل زوجين، وأصبح يساوي 2.94 طفل لكل زوجين في الفترة ما بين سنتي 1610 م و 1650 م، أي بعد الطرد. فإذا فرضنا أن الفرق بين الرقمين يعود إلى إخراج المورسكيين، نجد أنه يولد لكل زوجين مورسكيين 3.51 من الأطفال، ولكل زوجين نصرانيين 2.94 من الأطفال، أي أن نسبة زيادة المسلمين كانت أعلى من نسبة زيادة النصارى بحوالي 16 في المائة. وباعتبار نسبة التزايد هذه منذ سنة 1593 م، يصبح عدد المورسكيين في أراغون القديمة سنة 1603 م حوالي 103.000 مورسكي، أي حوالي 31 في المائة من مجموع السكان. وفي سنة 1609 م، أصبح مجموع سكان مملكة أراغون القديمة حوالي 352.000 نسمة، منهم حوالي 110.000 مورسكي. وطرد من هؤلاء سنة 1609 م وما بعدها، كما رأينا، حوالي 61.000 مورسكي، أي حوالي 17 في المائة من مجموع سكان أراغون القديمة. فيكون قد مكث في البلاد حوالي 49.000 مورسكي من مجموع 291.000 نسمة، أي نزلت نسبتهم بعد الطرد إلى 17 في المائة من مجموع السكان. وكان معظم المورسكيين المتخلفين في أراغون القديمة من الأطفال والعبيد والمشردين والمختفين، بعد أن طرد جميع فقهائهم ومنظميهم، فاندمجوا في الأهالي النصارى ولم يبق اليوم من الإسلام إلا ذكراه، كما حدث في مملكة بلنسية. وفي سنة 1603 م، كان مورسكيو أراغون القديمة يقطنون في حوالي 130 قرية مورسكية، أكبرها إيجيا (2260 مورسكي)، وبيلا فليش (2230 مورسكي)، وبريا (2165 مورسكي)، وكلها في مقاطعة سرقسطة. أما المدن الكبيرة فلم يكن يقطن في كل من سرقسطة وطرويل سوى 750 مورسكي. أما قطلونية، بما فيها منطقة الروسيون (الفرنسية اليوم)، فكان عدد سكانها سنة 1552 م حوالي 358.000 نسمة يقطنون في 71.680 بيت. وكان معظم مورسكييها

يقطنون في مصب نهر ابرة في مقاطعة طرقونة، حيث كان يقطن سنة 1587 م حوالي 6.275 مورسكي. وفي نفس السنة، كان يقطن حوالي 1.500 مورسكي ثلاث قرى في مقاطعة لاردة. فيكون مجموع مورسكيي قطلونية حوالي 10.000 مورسكي إذا اعتبرنا أن حوالي 2.000 مورسكي آخرين يقطنون مناطق أخرى من الإمارة. وفي سنة 1609 م، كان مجموع عدد سكان قطلونية حوالي 488.000 نسمة، منهم حوالي 13.000 مورسكي، أي 2.7 في المائة من مجموع السكان. طرد منهم بعد سنة 1609 م، كما رأينا، حوالي 4.000 مورسكي، وتخلف 9.000 مورسكي من مجموع 484.000 نسمة في قطلونية، أي 1.9 في المائة من مجموع السكان، اندمجوا في المجتمع النصراني مع مرور السنين. أما الجزر الشرقية، فلم يذكر عن وضع مُسلِمِيها شيء كثير. ولا شك أن عددهم كان يُعَدُّ بالآلاف، تخلفوا واندمجوا في المجتمع النصراني كذلك. ونلخص في الجدول التالي عدد المسلمين في ممالك أراغون الثلاثة، قبيل الطرد وبعده. عدد سكان مملكة أراغون سنة 1609 م مملكة بلنسية قبل الطرد: المجموع: 580.000 المسلمون: 230.000 نسبة المسلمين: 39.7% بعد الطرد: المجموع: 440.000 المسلمون: 90.000 نسبة المسلمين: 20.5% مملكة أراغون القديمة قبل الطرد: المجموع: 352.000 المسلمون: 110.000 نسبة المسلمين: 31.2% بعد الطرد: المجموع: 291.000 المسلمون: 49.000 نسبة المسلمين: 16.8% مملكة قطلونية قبل الطرد: المجموع: 488.000 المسلمون: 13.000 نسبة المسلمين: 2.7% بعد الطرد: المجموع: 484.000 المسلمون: 9.000 نسبة المسلمين: 1.9% المجموع العام لمملكة أراغون قبل الطرد: المجموع: 1.420.000 المسلمون: 353.000 نسبة المسلمين: 24.9% بعد الطرد: المجموع: 1.215.000 المسلمون: 148.000 نسبة المسلمين: 12.2% لتقدير عدد مسلمي مملكة قشتالة، يجب تقدير عدد المدجنين القدامى بمفردهم، ثم تقدير عدد الغرناطيين الذين شتتوا بعد ثورة غرناطة الكبرى. ولنبدأ بتقدير عدد مورسكيي مملكة قشتالة خارج مملكة غرناطة.

فيما يخص الاسترمادورا قدرت إحصائية محاكم التفتيش لسنة 1594 م عدد المورسكيين القدامى (أي من أصل مدجن) في مقاطعتي فرنجوس وليرينة بحوالي 14.000 مورسكي، أو حوالي 17.000 مورسكي سنة 1609 م. أما مملكة مرسية، فقد قدرنا عدد المورسكيين الذين طردوا منها بحوالي 22.000 مورسكي، فيكون عدد المورسكيين القدامى بها حوالي 38.000 مورسكي سنة 1609 م. أما القشتالتين، القديمة والجديدة، فقد قدرت محاكم التفتيش سنة 1594 م عدد المورسكيين القدامى في منطقة بلد الوليد بقشتالة القديمة بـ 8.336 مورسكي، وفي منطقة كونكة بقشتالة الجديدة بـ 4.753 مورسكي، أي ما مجموعه 13.089 مورسكي، أو حوالي 16.000 مورسكي سنة 1609 م. وفي سنة 1501 م، قدر عدد المورسكيين القدامى في مملكة طليطلة بقشتالة الجديدة بـ 19.819 مورسكي، أي أن عددهم أصبح يقارب 68.000 مورسكي سنة 1609 م، إذا أخذنا بعين الاعتبار زيادتهم الطبيعية في مدة تزيد على القرن. وكان جل هؤلاء يقطنون مدينة طليطلة وجنوب قشتالة الجديدة في قرى هضبة قلعة رباح التي يشعر أهلها إلى اليوم بالانتماء إلى الأندلس. وأما لامانشا فكان بها أواسط القرن السادس عشر الميلادي حوالي 8.340 مورسكي قديم، أو حوالي 17.000 مورسكي قديم سنة 1609 م. وهكذا نرى أن عدد المدجنين سنة 1609 م في مملكة قشتالة، خارج الأندلس الحالية، حوالي 156.000 مورسكي قديم، وهو مجموع المورسكيين القدامى الذين يقطنون الاسترمادورا ومرسية وبلد الوليد وكونكة وطليطلة والمانشا. أما منطقة الأندلس، خارج مملكة غرناطة، فقد كان عدد المدجنين القاطنين بها كبيرًا في معظم مقاطعاتها، ويكونون نسبًا عالية من مجموع سكانها. ففي سنة 1580 م، كان يسكن حوالي 5.000 مورسكي قديم في قرطبة، 8.000 مورسكي قديم في إشبيلية، و 2225 في جيان، و 2.000 في بياسة، و 2.000 في براغة، و 1.100 في أستجة، و 1.000 في أبدة، الخ ... أي أن عدد المورسكيين القدامى في مدن الأندلس الكبيرة يقارب 25.000 مورسكي، وإذا أخذنا في الاعتبار سكان القرى، وصلنا إلى ضعف هذا الرقم أو حوالي 50.000 مورسكي قديم في منطقة الأندلس خارج غرناطة سنة 1580 م، أو حوالي 70.000 مورسكي قديم سنة

1609 م. مع العلم أن معظم نصارى مناطق الأندلس كانوا من أصل إسلامي، أجبروا على التنصير بضغوط متواصلة عبر القرون. أما مملكة غرناطة، فكان عدد سكانها قبل انهيارها في أواخر القرن الخامس عشر حوالي نصف مليون نسمة، هاجر نصفهم، أو قتل، في الأحداث التي أدت إلى سقوطها، وبعدها. وتزايد، بعد ذلك، عدد سكان غرناطة، رغم الهجرة المتواصلة إلى المغرب، حتى وصل سنة 1561 م، أي قبيل ثورة غرناطة الكبرى، إلى حوالي 304.000 نسمة يسكنون في 60.827 بيت. منهم حوالي 180.000 مورسكي (أي 59.2 في المائة من مجموع السكان) يسكنون في 35.681 بيت. فيكون عدد النصارى حوالي 124.000 نصراني، معظمهم من أصول إسلامية. ولو افترضنا التزايد الطبيعي للنصارى والمسلمين حسب ما ذكرناه آنفًا لمملكة أراغون القديمة، يكون عدد سكان مملكة غرناطة المحتمل سنة 1587 م حوالي 390.000 نسمة، 240.000 مورسكي (61.5 في المائة من مجموع السكان)، و150.000 نصراني. غير أن أحداث ثورة غرناطة الكبرى أدت إلى طرد حوالي 80.000 مورسكي إلى قشتالة، منهم 46.000 فور انتهاء الحرب، و 34.000 إبان الحرب وبعد انتهائها ببضع سنين. وإذا قدر عدد المستشهدين في الحرب بحوالي 20.000 مسلم، وعدد المهاجرين إلى شمال إفريقيا بحوالي 20.000 آخرين، فيكون عدد المورسكيين في غرناطة سنة 1587 م حوالي 120.000 شخص. ويمكن تقدير عدد قتلى النصارى بـ 15.000 شخص، وعدد الهاربين منهم بـ 25.000 شخص، فيكون عددهم سنة 1587 م 110.000 شخص، وعدد مجموع سكان مملكة غرناطة 230.000 شخص، أي أن نسبة المسلمين أصبحت 52.2 في المائة. وقد عد المرجع السابق عدد بيوت غرناطة سنة 1587 م بـ 44.481 بيت يسكنها حوالي 222.405 نسمة. ولا شك أن هذا التقدير الأخير، يقل عن الواقع بالنسبة للمورسكيين، بسبب تشتتهم في الجبال وفي بيوت النصارى والكنائس والأديرة كعبيد وأطفال. يمكن إذن تقدير عدد سكان مملكة غرناطة سنة 1609 م بحوالي 285.000 نسمة، منهم 155.000 مورسكي (54.4 في المائة من مجموع السكان)، و 130.000 نصراني.

6/ 2 - حياة المورسكيين الدينية:

وأصبح الغرناطيون المطرودون إلى قشتالة يعيشون عيشة الرحل، وعددهم 80.000 غرناطي، كما رأينا، مات منهم الربع إبان التهجير، أي 20.000 شخص. وأصبح عدد الباقين سنة 1609 م حوالي 95.000 غرناطي. ويبين الجدول التالي عدد مسلمي قشتالة سنة 1609 م، قبيل الطرد مباشرة وبعده. ديموغرافية مسلمي مملكة قشتالة وتوابعها سنة 1609 م القشتالتان قبل الطرد: 85.000 عدد المطرودين: 50.000 الباقون: 35.000 نسبة المطرودين: 59% الاسترمادورا قبل الطرد: 17.000 عدد المطرودين: 8.000 الباقون: 9.000 نسبة المطرودين: 53% مرسية قبل الطرد: 38.000 عدد المطرودين: 22.000 الباقون: 16.000 نسبة المطرودين: 58% الأندلس قبل الطرد: 320.000 عدد المطرودين: 52.000 الباقون: 268.000 نسبة المطرودين: 16% المجموع العام قبل الطرد: 460.000 عدد المطرودين: 132.000 الباقون: 328.000 نسبة المطرودين: 29% يبين هذا الجدول عدم صحة خرافة الطرد النهائي لمسلمي إسبانيا سنة 1609 م، خاصة بالنسبة للأندلس حيث لم يطرد سوى 16 في المائة من مجموع المورسكيين، بينما لم يطرد سوى 29 في المائة من مجموع مورسكيي مملكة قشتالة وملحقاتها. وبسبب ذلك ينحدر اليوم معظم سكان منطقة الأندلس في حدودها الحالية من أصول إسلامية، على عكس ما حدث في مملكتي أراغون القديمة وبلنسية حيث لم يبق فيها بعد الطرد سوى خمس مسلميها. وهذا ما يفسر الشعور السائد في منطقة الأندلس الحالية بالانتماء إلى التاريخ الإسلامي، مما كون القاعدة الأساسية للقومية الأندلسية المعاصرة. 6/ 2 - حياة المورسكيين الدينية: ارتبط المورسكيون بالإسلام ارتباطًا كاملاً. وكمسلمين، حاولوا جهدهم اتباع تعاليم دينهم سرًّا، جيلاً بعد جيل، رغم ما يصيبهم بسبب ذلك من بلوى. وكرهوا

الدين النصراني الذي أجبروا على التظاهر به، كما كرهوا القائمين عليه كراهية لا حد لها. فهم آمنوا بالله الواحد، وبرسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتعلقوا بحبه. كان للمورسكيين تنظيم سري جيد مكون من مجموعات تسمى الواحدة منها "جماعة"، لها فقيه يقوم مقام الإمام والمعلم والمرشد والقاضي بين جماعته. ويكون هؤلاء الفقهاء السريون، في كثير من الأحيان، زعماء الجماعة الإسلامية. وكان معظم المورسكيين يحافظون على الصلوات الخمس، ويقومون بها خفية من النصارى، ويحفظون من أجل ذلك الفاتحة، على الأقل. ويوم الجمعة كانوا يغتسلون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويكثرون الصدقات أو يصومون، كما كانوا يتجهون إلى مساجد سرية لصلاة الجمعة كلما أمكن ذلك، أو يصلون جماعة في بيوتهم. وفي مساء الجمعة، كانوا يجتمعون للأكل جماعة والغناء والذكر. وكان المورسكيون يصومون شهر رمضان، ويحتفلون بعيد الفطر، ويخرجون الزكاة لفقرائهم. كما كانوا يحتفلون بعيد الأضحى، ويذبحون الأضحية. وكانوا يحتفلون بيوم عاشوراء ويصومونه، وبذكرى مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم يذهب منهم إلى الحج إلا بعض المحظوظين فقد وجد مخطوط في أراغون القديمة باللغة الأعجمية تحت عنوان "قصائد الحاج بوي مونثون عن سفره إلى مكة في القرن السادس عشر"، مما يدل على أن كثيرًا من المورسكيين سافروا ثم رجعوا إلى بلادهم، ومنهم من حج بيت الله الحرام ورجع. وكان المورسكيون يمتنعون امتناعًا تامًّا عن أكل لحم الخنزير. ولا يأكلون إلا لحم الحيوانات التي يذبحونها بالطريقة الإسلامية. وكانوا يمتنعون كذلك عن شرب الخمر أو التعامل به. ويحرصون على النظافة، حتى أصبح الحمام علامة من علاماتهم حاربتهم محاكم التفتيش بتحطيمها. فهم كانوا يتوضؤون قبل كل صلاة، ويغسلون أفواههم قبل الأكل وبعده، ويحرصون على أن يكون ماء الوضوء طاهرًا لا رائحة فيه ولا لون. وكانت معظم عادات المورسكيين إسلامية. ففي اليوم السابع من ولادة الطفل، تقام له حفلة "فدا" (عقيقة)، فيغسل، وتكتب شهادة الإسلام على جبهته، وتعلق على عنقه "أحراز" (تمائم) بها آيات قرآنية، وتقام له عقيقة يعطى فيها اسمه الإسلامي السري بعد ذبح الأضحية. ويختن الطفل الذكر في اليوم الثامن. لكن

ختان الذكور أخذ يتأخر بين المورسكيين إلى السن الثامنة في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. ويغتسل الزوجان قبل حفل الزواج، وتغطي العروس رأسها بسترة، وعندما تذهب لبيت عريسها تدخله بالقدم اليمنى تيمنًا. ويغسل المورسكيون جثمان الميت، ويعطرونه، ويلبسونه الكفن، ويقرؤون عليه آيات من القرآن الكريم. ثم يدفن في أرض نظيفة في اتجاه القبلة في مقبرة خاصة بالمورسكيين خارج البلدة، ويرفضون دفنه مع النصارى في مقابر الكنائس. ويترك المورسكيون فوق القبر الماء والخبز وعناقيد من العنب، وأحيانًا بعض النقود. وهي عادة للأندلسيين اشتركوا فيها مع النصارى الذين يعيشون بينهم. وكانت للمورسكيين عادات خاصة بهم، ورثوها عن أجدادهم كاحتفالهم بعيد ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام وبشهر يناير. وكان لهم تقديس لبعض الينابيع، كعين الصحة بالقرب من نهر هدره قرب غرناطة. ولهم مقابر يسمونها "الرابطات"، كانت مقدسة عندهم بسبب وجود قبر عالم أو مجاهد حارب النصارى يتبركون بروضته، كرابطة "كنيلش الزيتون" التي كانت روضة لأربعة من المجاهدين، فأصبحت محجًّا للمورسكيين. وظل المورسكيون يحتفظون ببعض مساجدهم، خاصة في مملكة بلنسية، إلى غاية سنة 1525 م، حيث زاد بعد ذلك الاضطهاد، ومنعت العبادات الإسلامية منعًا باتًا. فأصبحت العبادات تمارس في سرية تامة داخل البيوت، وفي بعض المساجد السرية النائية. ففي 22/ 3 / 1574 م، اكتشف بين الجبال القريبة من بلدة كلاندا بأراغون القديمة مسجد سري، ورغم ذلك تابع المورسكيون الذهاب إليه إذ حوكم فقيهه آمادور سامبرفيلو سنة 1593 م بتهمة تدريس القرآن به. وفي سنة 1609 م، اكتشفت مساجد في عدة قرى بأراغون القديمة، كبلافليش وبوروي التي وجد الفقيه ميغال كالبو يعلم القرآن في مسجدها عند طرد أهلها. وكان فقهاء المورسكيين يؤطرون الجالية المسلمة، ويعملون على تربيتها التربية الإسلامية، وتعريفها بأمجادها، ومساعدتها على الصمود ضد دعايات الرهبان ضد العقيدة الإسلامية. فهم يعلمون جماهير المسلمين مبادىء دينهم، ويلقنونهم القرآن الكريم وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويدربونهم على الحرف العربي. وكان الفقهاء يقومون بنسخ المصاحف والكتب الإسلامية، ويعودون المرضى، ويدفنون الموتى ويزوجون

الشباب. كما كانوا، لمعرفتهم باللغة العربية، الصلة بين المورسكيين والأمة الإسلامية في الخارج. وكان المورسكيون يساندون فقهاءهم على العيش بالهبات، كما كان معظم الفقهاء يمتهنون حرفًا متواضعة يعيشون عليها. وقام الفقهاء بدور هام إبان الأزمات، كطرد سنة 1609 م، في تأطير المسلمين ومواساتهم وتشجيعهم على الهجرة إلى أرض المسلمين للحفاظ على دينهم. وقد برع المورسكيون في تطبيق التقية لدرجة كبيرة. فعندما يجبر الزوجان على الزواج باللباس النصراني في الكنيسة بإشراف الرهبان، يفعلان ذلك ثم عندما يرجعان إلى بيتهما يزيلان لباسهما النصراني ويلبسان لباسًا إسلاميًّا، ويعاد الزواج بالطريقة الإسلامية بحضور الفقيه. "وعندما يعمد الأطفال (في الكنيسة) يغسلونهم سرًّا بالماء الساخن لإزالة الزيت المقدس عنهم، ثم يقومون بشعائرهم (الإسلامية) ويعطونهم اسمًا إسلاميًّا"، الخ ... هذه حياة المورسكيين الإسلامية السرية، أما مقاومتهم للضغوط التنصيرية لمحاكم التفتيش والكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية فقد كانت أساسًا عقائدية. فقام فقهاء المورسكيين بكتابة اللغة الأعجمية بالحروف العربية للبرهنة للمورسكيين والنصارى على السواء أن الإسلام هو الدين الحق وأن النصرانية دين محرف خاطىء، كما كتبوا كتبًا في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتبيين عظمته وأخلاقه الكريمة. وكان هذا المجهود الثقافي ردًّا على سيل المنشورات والكتب الكنسية التي تهاجم بين الأوساط المورسكية الإسلام ومبادئه والقرآن الكريم وشخص سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ككتاب "آنتي القرآن" لبرناردو بيريز دي شينشون الذي نشر في إشبيلية سنة 1528 م، وفي بلنسية سنة 1532 م، وكتاب "أمبروباسيو القرآن" للراهب ريكولدو دي مونتيكروسي، وغيرهما كثير. وعمل الرهبان على تعليم المسلمين الدعوات النصرانية، حتى أصبح معظم المورسكيين يحفظونها في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وركزوا على أطفال المسلمين وزعمائهم. وتأثرت طبقة ضئيلة من المورسكيين بهذه الدعاية المعادية. منهم خوان أندريس الذي كتب كتابًا يتهجم فيه على الإسلام والنبي الكريم، طبع أولاً في بلنسية سنة 1515 م، ثم في إشبيلية سنة 1537 م، وفي غرناطة سنة 1560 م. وكان خوان أندريس فقيهًا لمدينة شاطبة اسمه ابن عبد الله وابن فقيهها كذلك، ارتد عن الإسلام سنة 1487 م بمحض إرادته وترهب، وكرس حياته لمحاربة الإسلام.

وزاد تمسك المورسكيين بالإسلام وشعائره بزيادة اضطهاد الكنيسة والدولة ومحاكم التفتيش. وحافظوا على طهارتهم وصلاتهم حتى في السجون وفي طريقهم إلى الإعدام حرقًا. وحافظوا على قدسية يوم الجمعة بارتداء أحسن الملابس والامتناع عن التجارة رغم المضايقات. وأصروا على صيام رمضان، حتى قبيل الطرد سنة 1609 م، وكانوا ينعزلون عن النصارى في ورشات العمل وفي المزارع لكي لا يفسدوا عليهم صيامهم. كما تشبث المورسكيون بالامتناع عن أكل لحم الخنزير حتى بعد الطرد وهم بفرنسا. وقد اشتكى جماعة منهم لبعض الرهبان الإسبان في فرنسا قائلين: "بأن الخنازير تمشي في الشوارع بين الأهالي، ويصعب عليهم الابتعاد عنها لكي لا تنجس ملابسهم. كما أنهم يأنفون من أكل الخبز الذي يطبخ في مطابخ الفرنسيين لأنهم يستعملون فيها شحوم الخنازير، ولذا أسسوا فرنًا خاصًّا بهم في دار أحدهم، يطبخون فيه الخبز ويقلون اللحم". وتمادوا في الامتناع عن شرب الخمر رغم ضغوط محاكم التفتيش، حتى أنهم كانوا يزرعون العنب ويعصرونه تقية. وهكذا قبضت محاكم التفتيش بطليطلة على خوان هراندو لأنه يزرع العنب ويعصر الخمر لـ "إخفاء سوء نيته، وهو في الواقع لا يشرب خمرًا". ولم يكن التمسك بالدين الإسلامي بالأمر الهين. فلقد كانت تحيط به مخاطر جمة مصدرها محاكم التفتيش التي وصفها أحد فقهائهم بأنها "يترأس جلساتها الشيطان بذاته، ويكون من بين مستشاريه الغش وعمى البصيرة"، أو كما قال فقيه آخر: حيث يعمل "قضاة التفتيش الكفرة بطرقهم الشيطانية، يدفعهم إبليسهم ليقيموا أنفسهم قضاة على ضمائر الخلق، ويجبرونهم بالقوة على اتباع معتقداتهم الملعونة الكافرة الضالة". وقد عملت محاكم التفتيش منذ البداية على أخذ أموال المسلمين رشوة لتغض الطرف عن بعض ممارساتهم الإسلامية. فمنذ سنة 1571 م، أخذ المورسكيون البلنسيون يدفعون 50.000 دوقة ذهبية سنويًّا لمحاكم التفتيش من أجل ذلك. وفي سنة 1543 م، دفع المورسكيون الغرناطيون 12.000 دوقة ذهبية للمحكمة وللملك. وفي سنة 1555 م دفعوا لهما 200.000 دوقة ذهبية. ومنذ سنة 1558 م، أخذوا يدفعون 100.000 دوقة ذهبية للملك و 3.000 دوقة سنوية للمحكمة. وفي الفترة بين سنتي 1550 م و 1580 م، حكمت محاكم التفتيش في الاثني عشر "أتودافي" المعروفة بغرناطة على 998 شخص، منهم 780 مورسكي، أي 78

في المائة من المجموع. وكانت نسب المورسكيين من بين المحكوم عليهم في المدن الأخرى مماثلة لغرناطة، إذ ركزت محاكم التفتيش غضبها ضد المسلمين في سرقسطة وطليطلة ومرسية وكونكة وغيرها من المدن. وطبقت محاكم التفتيش على المتهمين بالإسلام إحدى العقوبتين: أولهما العفو عند التوبة، ويعني ذلك مصادرة جميع أموال المتهم. وكان ذلك مصير جميع من وقع بيد هذه المحاكم. ثانيها الإعدام حرقًا بعد المصادرة الشاملة. وطبقت هذه العقوبة بصفة خاصة على فقهاء المورسكيين وزعمائهم. ونذكر من بين هؤلاء الشهداء فقيه بلدة مويل "جوان الحاج" الذي أحرق في سرقسطة سنة 1546 م، وماريا الغرناطية فقيهة مورسكية أحرقت في لغرونيو سنة 1576 م، وبياتريس باديا فقيهة أركش التي أحرقت في 13/ 12 / 1598 م في كونكة. وأحرق في غرناطة 12 مورسكيًّا في الـ 12 "أتودافي" المذكورة أعلاه، الخ ... وثبت المورسكيون على الإسلام رغم هذه الصعاب، بل أكثر من ذلك قاموا بدعوة النصارى إلى اعتناقه والانضمام معهم إلى الحالة التي هم عليها، وقبول مشاركتهم مصابهم. فقد نقل أحدهم، وهو الشهاب الحجري، محادثة جرت بينه وبين قس في غرناطة عن الزواج بين المورسكيين والنصارى فقال: "كان بمدينة أنتقيرة رجل من قرابتي عشق بنتًا نصرانية، وفي اليوم الذي مشوا فيه بالعروسة إلى الكنيسة ليتم النكاح احتاج بلبس العروس الزرد المهندس من تحت الحوائج، وأخذ عنده سيفًا لأن قرابتها حلفوا أنهم يقتلونه في الطريق، وبعد أن تزوجها بسنين لم يدخل إليها أحد من قرابتها بل يتمنون موته وموتها ... وأسلمت على يده وحسن إسلامها غاية الحسن، وأسلمت على يدها أمها العجوزة". وفي سنة 1565 م، وصل إلى إسبانيا فرنسي من تولوز، واختلط بالمورسكيين، ثم اعتنق الإسلام، واستقر في بلدة سان كليمانتي بمقاطعة كونكة. فشكت محاكم التفتيش في أمره. وكشف قاضيها عورته، ولما وجده مختنًا حكم عليه بالتجذيف في السفن. وفي سنة 1571 م، حكمت محاكم التفتيش على لويس بالاس، وهو نبيل من بلنسية، بالسجن لمدة غير محددة وبمصادرة أمواله ومنعه من الإقامة في بارونية "كورتس" والسكنى في أية منطقة يوجد فيها المورسكيون. وكانت تهمته أنه اعتنق "دين محمد" وطبق شعائره وفضله على الديانات كلها.

وفي سنة 1601 م، اكتشف في سجن طليطلة أن الفقيه "خيرومينو روخاس" كان يدعو المساجين النصارى إلى الإسلام ويقول لهم إنه "يرغب في إنقاذ أرواحهم، وأن الله سوف يهديهم وينقذهم من العمى والجهل". وفي سنة 1606 م، قبض على نصراني قديم اسمه "فرانسسكو دسكالسو" في بلدة قسطنطينة بمملكة بلنسية بتهمة اعتناق الإسلام. وكان يعيش كالمسلمين، ويكتب لهم أغاني حماسية يغنيها بالعود تحضهم على صوم رمضان. ثم تزوج مسلمة، كان ينتقل معها من بلدة إلى أخرى. كما قبض على يهودي في أراغون لأنه اعتنق الإسلام وتزوج مسلمة. وقد وردت في الوثائق أمثلة كثيرة على اعتناق غير المسلمين الإسلام، مما يدل على قوة المورسكيين الروحية التي لم تقهر ولو بقهر أجسامهم وسلب أموالهم. وفي سنة 1610 م، حكمت محكمة مرسية للتفتيش على خوان فرانسسكو لاسال، وكان شابًّا عمره 21 سنة، أصله من سرقسطة حيث عاش مع المورسكيين واعتنق الإسلام وكتب كتابًا ضد الديانة النصرانية وضد شرب الخمر. وفي سنة 1619 م، حكمت محكمة غرناطة للتفتيش على الطبيب آلونسو دي لونا، من أصل نصراني قديم، الذي اعتنق الإسلام في بلده غرناطة ومارسه سرًّا في بيته. وكان رجلاً مثقفًا يجيد اللغات اللاتينية والإيطالية والعربية، وطبعًا الإسبانية، ويحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب. وكان محافظًا على صلواته الخمس وصيامه في شهر رمضان. وكتب سرًّا كتيبات يفسر فيها المبادىء الإسلامية ويدعو فيها أهل غرناطة إلى اعتناق الإسلام. وقد حصلت المحكمة منه على هذه الاعترافات بعد أن عذبته بشر أنواع العذاب في سجونها. وبصفة عامة، فقد قبضت محاكم التفتيش، طوال القرن السادس عشر، على 110 نصراني قديم على الأقل، اعتنقوا الإسلام وهاجروا إلى شمال إفريقيا. وتقدر نسبة الذين قبض عليهم بحوالي نصف في المائة من عدد الذين أسلموا وهاجروا فعلاً. فيكون عددهم الإجمالي 22.000 شخص، عدا آلاف المورسكيين. وفي سنة 1588 م، اكتشفت صحيفة رق قديمة في صومعة تربيانة بغرناطة تؤكد أن المسيح عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، وليس ابنًا لله كما يدعيه النصارى.

6/ 3 - حياة المورسكيين الاجتماعية:

ومن فبراير سنة 1595 م إلى آخر سنة 1597 م، أخرجت من تحت أرض التلة الغرناطية المسماة بعد ذلك بـ "التلة المقدسة" (ساكرو مونتي) مجموعة من الصفائح الرصاصية نقشت عليها كتابات مجهولة، منها ما هو بالعربية وما هو باللاتينية، كونت مكتبة كاملة تعود إلى القرون النصرانية الأولى. أما النصوص اللاتينية، فهي تقص استشهاد "القديس هيسكيوس"، رفيق "القديس شنت ياقو" من طرف "القديس سيسيل" في غرناطة. أما النصوص العربية فهي كتابات دينية مفادها أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وتكرر فيها عبارة "لا إله إلا الله عيسى روح الله" وبها أدعية "شنت ياقو" وقصة حياته ودراسة عن الملائكة وحياة سيدنا عيسى عليه السلام وحياة السيدة مريم وتاريخ الإنجيل، الخ ... وقد شكل دون بدرو دي كاسترو، لجنة كنسية كاثوليكية لدراسة الموضوع، فقررت أن الصفائح "رسائل إلهية"، وأنها "عقيدة سامية موحاة". لكن مجلس قشتالة طالب بنقل الصفائح إلى مجريط لترجمتها ودراستها من جديد. واتهمت الحكومة بعض الأطراف المورسكية بتزييف هذه الصفائح لإظهار باطل المسيحية الحالية، واتهم بذلك بصفة خاصة الموريسكيان "ألونسو دي قشتيليو" و"ميغال دي لونا". وقد أشار الشهاب الحجري إلى رق غرناطة الذي قام بترجمته عند اكتشافه، إذ قال: "ففرح القسيس فرحًا عظيمًا بما ترجمت، وعلى أنه الحق، وأعطاني ثلاثمائة ريال وأيضًا كتابًا بالإذن بالترجمة من العربي إلى العجمي وبالعكس، وامتد الخبر عند النصارى، حين كانوا يشيرون عليّ ويقولون: هذا هو الذي فهم الرق الذي وجد في الصومعة". ولا شك أن الاكتشافين يدخلان في الحرب العقائدية التي كانت قائمة في إسبانيا بين المسلمين والنصارى. وملخص القول ما قاله الشهاب الحجري، أحد رجالهم: كان المورسكيون "يعبدون دينين: دين النصارى جهرًا، ودين المسلمين في خفاء من الناس. وإذا ظهر على أحد شيء من عمل المسلمين يحكمون فيهم الكفار الحكم القوي، يحرقون بعضهم كما شاهدت". 6/ 3 - حياة المورسكيين الاجتماعية: لم يكن المورسكيون يختلفون كثيرًا في عاداتهم عن المجتمعات الإسلامية الأخرى، رغم ضروريات التقية التي كانوا يمارسونها. فيقوم الفقيه بواجبه الإسلامي

سرًّا، ويظهر بين الناس في شكل عامل من العمال. ويتظاهر رئيس الجماعة بضعف الحيلة، والغني بالفقر، ويخفي التقي المسلم تقواه الإسلامية بمظاهر نصرانية. وكانت للمورسكيين، خاصة الغرناطيين منهم، عصبية عائلية قوية، فكان كل واحد منهم ينتمي إلى عائلة يعرف اسمها الإسلامي السري رغم تظاهره بالاسم النصراني المرغم عليه. وكان لشباب المورسكيين احترام كبير لشيوخهم، والأبناء لآبائهم. وكان لكل عائلة شيخها الذي يجمع شملها، فيطيعونه ويحترمون أوامره. وكانت تجتمع العائلات المختلفة في قبائل ينظم شؤونها مجلس مكون من شيوخ العائلات المختلفة. وكان لهذه المجالس دور كبير في أخذ القرارات الهامة، كالقيام بثورة غرناطة الكبرى وغيرها. وكان أهل البشرات من أشد الأندلسيين ارتباطًا بالإسلام، وأحسنهم تنظيمًا. وكانت "الطاعة" في البشرات تقوم مقام القبيلة في المدينة، يترأسها قائد يقوم بأمور الدنيا، وفقيه يقوم بأمور الدين. وكانت تتجزأ كل طاعة إلى عدة قرى، وكل قرية إلى عدة حارات. ولما استعمر النصارى جبال البشرات أقاموا نصرانيًّا قائدًا أعلى للبشرات ونصارى قوادًا للطاعات، بينما تركوا رئاسة القرى لـ "وزراء" مورسكيين. كان المورسكيون يحتفلون بالعقيقة والختان والزواج والجنازة، ويعطون لاحتفالاتهم طابعًا إسلاميًّا. وكانت لهم أسماء إسلامية سرية يعرفون بها بعضهم البعض، بينما يُعرفون في الشارع بالأسماء النصرانية المجبورة عليهم. ومع الأيام، اختلطت الأسماء عليهم فمحمد بن أمية مثلاً كان يعرف كذلك بفراندو البالوري (نسبة إلى بالور بلدة في البشرات)، كما اختلطت الأسماء الإسلامية والأعجمية بين المدجنين خارج مملكة غرناطة قبل سنة 1492 م. ويعلم الآباء أبناءهم، منذ نعومة أظفارهم، الحذر من النصارى، ويلقنونهم مبادىء الإسلام، ويؤكدون عليهم التستر والتقية. ويعلمونهم تاريخ أمتهم الأندلسية، والإهانات التي ذاقوها على يد النصارى المحيطين بهم، ويزرعون في نفوسهم الافتخار بعقيدتهم وأخلاقهم وعاداتهم، وأنها أفضل مما لدى النصارى. وكانت العلاقة القائمة بين المورسكيين والنصارى تتلخص في ثلاثة مشاعر، وهي: الاحتقار والخوف والكراهية، تشعر بها كل طائفة نحو الطائفة الأخرى، فالثقة كانت منعدمة تمامًا بين أفراد الطائفتين، حيث إن أي كلمة فاه بها المورسكي سرًّا لنصراني أو رأي عابر عبر به له، يمكن أن يؤدي بالمورسكي إلى محاكم التفتيش.

فمثلاً، زار بلنسية خيرومينو قربون، وهو نجار مورسكي من برغش، فمكث بها عدة أشهر، وقبل عودته لبلده دعاه صديق له نصراني إلى حفلة عشاء تكريمًا له، وقدم له لحم الخنزير. فلما رفض المورسكي أكله فضحه "الصديق" النصراني لمحاكم التفتيش، مما أوصله إلى أتعس المهالك. ومثال آخر، أسرّت مورسكية لجارتها النصرانية بأن النصارى لا يحبونها ولا يحبون ابنتها لأنهما مورسكيتين، فأدى ذلك بها إلى محاكم التفتيش كذلك. وكان النصارى يتهمون المورسكيين بحب المال وبالبخل وبالحرص على العمل، ويغارون منهم. وكانت العائلة المورسكية أكثر تماسكًا من العائلة النصرانية، والأمة المورسكية في مجملها أمة مجاهدة، نظيفة الملبس والعادات، لا يشرب أفرادها خمرًا ولا يتعاطون قمارًا، ولا يهجرون زوجاتهم ولا يتركون أطفالهم كما كان يفعل عامة النصارى في ذلك الوقت. كان عامة النصارى يهابون المسلمين، خاصة بعد ثورة غرناطة الكبرى، ويتهمونهم بالتعاون مع مجاهدي البحر المغاربة والأتراك، ويخافون من ثوراتهم ومنفييهم في الجبال. وفي أواخر القرن السادس عشر الميلادي وأوائل القرن السابع عشر، أخذت تنتشر بين النصارى الإشاعات المتواصلة بأغرب الأخبار. ففي أوائل القرن السابع عشر، انتشرت إشاعة في بلنسية مفادها أن المورسكيين يسرقون أطفال النصارى لإرسالهم إلى شمال إفريقيا وتربيتهم على الإسلام، وأنهم يرسلونهم ليلاً في البواخر بعد تكميم أفواههم. وتبين بعد ذلك أن الإشاعة ليس لها أساس. وفي أوائل القرن السادس عشر الميلادي، كان معظم المورسكيين يتكلمون العربية بلهجات تختلف باختلاف المدن والمناطق. وكان لكل طاعة من طاعات البشرات لهجة خاصة بها. وتحت الضغط الصليبي، أخذت اللغة العربية تضعف بين المورسكيين، خاصة في مملكة أراغون القديمة. أما في جبال البشرات، فقد ظلت اللغة العربية منتشرة إلى قيام ثورة غرناطة الكبرى سنة 1569 م. وبقي كثير من المورسكيين يعرفون اللغة العربية إلى سنة 1609 م إبان الطرد الجماعي. وكان المورسكيون يتكلمون كذلك اللغة "الأعجمية"، ويكتبونها بالحروف العربية. واللغة الأعجمية هي اللغة الدارجة بين المورسكيين حينذاك، القشتالية أو الأراغونية أو القطلانية. وكان المورسكيون يتكلمون هذه اللغات بلكنة خاصة بهم تدل على تأثير

اللغة العربية عليها. وقد أثرت هذه اللكنة على اللهجة الأندلسية التي يُتكلم بها اليوم. أما اللباس المورسكي، فقد تغير كثيرًا منذ سقوط غرناطة سنة 1492 م إلى الطرد الجماعي سنة 1609 م. وقد وصف أحدهم لباس المورسكيات في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي وأوائل القرن السادس عشر الميلادي قائلاً: "كلهن يلبسن سراويل من الكتان مرخاة ومثنية تصل إلى الخاصرة على مستوى السرة حيث تربط برباط يشبه رباط الكهان، ويلبس فوق السراويل قميصًا واسعًا من الكتان، وفوقه "بدعية" من الصوف أو الحرير، كل واحدة وإمكاناتها المالية. وعندما تخرجن إلى الشارع، تغطين أجسامهن بغطاء أبيض ناصع من الكتان أو القطن أو الحرير، ويغطين به وجههن ورأسهن لدرجة لا يرى منها إلا عيناهن". وكانت المورسكيات تتزين بدماليج وأطواق وأخراس من الذهب والفضة ذات صنع خاص، وبالمجوهرات. وقد رسم بعض المعاصرين مورسكيات بألبستهن هاته، تشبه ألبسة مغربيات مدن الشمال القديمة، كسلا وتطوان وفاس ووجدة. والغطاء الأبيض هو ما يسمى في المغرب بالحايك، وكان في الأندلس أقصر مما كان عليه في المغرب. وكانت العائلات الأندلسية تحتفظ عبر الأجيال بالألبسة النسائية الفاخرة التي تستعمل في المناسبات، كالزواج والأعياد الكبرى. أما الرجال، فكانوا يلبسون اللباس القشتالي، خاصة في المدن، ولم يرجعوا إلى اللباس الإسلامي إلا إبان الثورات، كثورة غرناطة الكبرى. وقد قاومت الدولة اللباس الإسلامي، خاصة بالنسبة للرجال. كانت حالة المورسكيين الاجتماعية تختلف من مدينة لأخرى. فمدينة إشبيلية مثلاً أصبحت عاصمة الدولة القشتالية منذ احتلالها إلى سنة 1505 م، وكان مدجنوها يعيشون في حي خاص اسمه "الدريبغو" (أي الدرب الصغير). وفي سنة 1483 م تكونت "موريرية" (أي حي إسلامي) في ربض "سان ماركوس". وعندما أجبر المسلمون على النصرانية في سنة 1505 م، حول مسجد الدريبغو الكبير إلى كنيسة، وأصبح المسلمون أحرارًا في السكن في أي حي من أحياء المدينة، لكن ظل تجمعهم أكبر في الدريبغو وسان ماركوس طيلة القرن السادس عشر الميلادي. وبعد ثورة غرناطة الكبرى سنة 1569 م وطرد عدد كبير من الغرناطيين، استقر بعضهم في إشبيلية حتى كاثروا المدجنين الأصليين، ووصلت نسبة المورسكيين إلى

أكثر من عشرة في المائة من مجموع السكان، أي حوالي 7.500 مورسكي، أكثرهم أحرار، وقليل منهم عبيد، وكان معظمهم شبابًا متزوجين، رجالهم أكثر من نسائهم بقليل. وكانت نسبة الموالي مرتفعة، كما كانت نسبة الوفيات من بين الأطفال مرتفعة كذلك، بسبب سوء أحوالهم الصحية الناتجة عن الاضطهاد المتواصل وسوء التغذية. كان المورسكيون في إشبيلية يقطنون بيوتًا غير صحية أو غرفًا مؤجرة في أحياء إشبيلية الفقيرة. أحيانًا تتكدس عدة عائلات مورسكية في بيت واحد. ففي سان ماركوس، كان يقطن البيت الواحد من 15 إلى 20 مورسكيًّا (خلاف نسبة 5 مورسكي للمسكن الواحد التي كنا اتخذناها سابقًا). كانت عصبية الجماعة قوية جدًّا بين مورسكيي إشبيلية. فكان زواجهم مع النصارى نادرًا، وعندما يحدث يكون في غالب الأحيان زواج رجل نصراني بمورسكية، فيسكن معها ويندمج كلية في المجتمع المورسكي. وكان معظم مورسكيي إشبيلية عمالاً فقراء، بعضهم يعمل كخدم في بيوت النصارى، والبعض الآخر في المزارع القريبة من إشبيلية. واختصوا بمهنتي الخبازة والبستنة. وكان من بينهم بعض التجار المتجولين، كبائعي الخبز والزيت والخضر والبطاطس المقلية والكستنة المشوية، الخ ... ونبغ بعض العمال المهرة، خاصة في طريانة حيث أقام بعض الغرناطيين صناعة الخزف. وبصفة عامة، فقد كان وضع المدجنين الأصليين في إشبيلية أفضل من وضع اللاجئين الغرناطيين. وكان المورسكيون الإشبيليون يختلطون مع النصارى في النهار لدرجة توهم المراقب السطحي باندماجهم التام في المجتمع النصراني. غير أنهم كانوا في الحقيقة حريصين على الاحتفاظ بهويتهم الإسلامية، فكانوا يتكلمون فيما بينهم اللغة العربية، ويمتنعون عن أكل لحم الخنزير بل مآكل النصارى كلها، ويقيمون الشعائر الإسلامية. وحاولت سلطات إشبيلية كسر عصبية الجماعة بتشتيتهم في أحياء المدينة، وذلك بتحديد عدد من يسكن منهم في الحي الواحد، وفي المسكن الواحد، وتلاحقهم دائمًا من أجل ذلك، وتتهمهم بالإخلال بالأمن في المدينة وضواحيها. أما وضع المورسكيين في بلدة "دايميال" الواقعة في مقاطعة قلعة رباح بقشتالة الجديدة، فقد كان يختلف عن وضع مورسكيي إشبيلية. وكان يسكنها أوائل القرن السادس عشر الميلادي، أي قبل حركة التنصير القسرية، حوالي 400 مدجن، أي 15 في المائة من مجموع سكان البلدة، يكونون جالية منظمة، لها عاداتها وفقهاؤها

6/ 4 - حياة المورسكيين الاقتصادية:

وزعماؤها. وكان حي "البريو نويبو" (أي الحي الجديد) مركز هذه الجالية، وبه يقع مسجد المدينة العتيق. ولم يكن مدجنو دايميال يتكلمون سوى القشتالية، ويلبسون كجيرانهم النصارى. وكان انتماؤهم للإسلام هو الفارق الوحيد بينهم وبين جيرانهم، رغم التنصير القسري. وبعد طرد الغرناطيين وانتقال بعضهم إلى دايميال، تضاعف عدد المورسكيين بها، وأصبحوا يكونون نسبة كبيرة من مجموع السكان في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. كان عدد مسلمي فرنجوس بمقاطعة بطليوس بالاسترمادورا حوالي 5.000 مدجن، أي كل سكان البلدة. وكانوا أغنياء يعيشون على الفلاحة والنقل. كما كانوا منظمين تنظيمًا محكمًا في شبه جمهورية صغيرة، لها مجلسها الذي يجتمع في أحد الكهوف المجاورة للبلدة. وبسبب عملهم في النقل، فقد كانوا يتنقلون في أنحاء إسبانيا، ويربطون العلاقات الوثيقة مع الجاليات المورسكية المبعثرة. وسمح لهم الملك فليبي الثاني بالحفاظ على سلاحهم مقابل غرامة قدرها 30.000 دوقة ذهبية. وكان أهل فرنجوس يتكلمون العربية ويعلمونها لأبنائهم، كما يعلمونهم القرآن الكريم، ويحرصون على القيام بالشعائر الإسلامية رغم التنصير القسري. تعطي هذه الأمثلة الثلاثة فكرة عن التنوع الكبير للجماعات المورسكية المبعثرة، وتغير أوضاعها الاجتماعية بتغير الزمان والمكان. لم يكن المورسكيون يختلفون في شكلهم عن الأندلسيين القدامى ولا عن أندلسيي اليوم. وهذا دليل آخر على كذب ما ادعته الكنيسة من تبديل كامل لسكان الأندلس بعد الطرد سنة 1609 م. ولا يرتكز هذا الادعاء على أية حقائق تاريخية، بل ظل، إلى يومنا هذا، يختلف شكل الأندلسي عن شكل إسباني الشمال، كما أن الأمة الأندلسية ظلت شاعرة بوجودها رغم ما مرت به من محن. وقد قال "لوبي دي بيكا" إنه يمكن التعرف على المورسكي في شمال إسبانيا من بين النصارى بسحنته، ولا يمكن ذلك بتاتًا في جنوبها. 6/ 4 - حياة المورسكيين الاقتصادية: كان المجتمع المورسكي يختلف عن المجتمع النصراني اقتصاديًّا كما يختلف عنه اجتماعيًّا. فلم تتكون بين المورسكيين طبقات اجتماعية متسلطة على اقتصاد

الجماعة كما حدث في المجتمع النصراني. ولم يؤد الاختلاف في الأصل والغنى والمهنة بين مورسكي وآخر إلى تكوين طبقات مستغلة للجماعة. لذا لم تحدث في المجتمع المورسكي نزاعات طبقية، واقتصر نضال الجماعة المورسكية على نزاعها مع المجتمع النصراني. وهكذا كان المجتمع المورسكي مترابطًا موحدًا. وكان المورسكيون يحبون العمل ويخلصون في مهنهم، بشهادة أعدائهم، على خلاف معاصريهم من النصارى. وقد نقل أحد النصارى على لسان موريسكي من البشرات قوله: "عندما تشرق الشمس يلفع وجهي شعاعها عند خروجي من بيتي إلى المزرعة، وعند رجوعي مساء يلفع قفاي شعاعها عند غروبها. ولست كالنصارى القدامى الذين يعملون في الظل". وقال نصراني معاصر آخر عن المورسكيين: "خلقهم الله ليعيشوا بأكل رديء وقليل، ويكفي أنهم لا يشربون خمرًا ليكونوا أوفر حظًّا منا". وقد اتهم الراهب "بليدة"، عدو المسلمين اللدود، مورسكيي بلنسية بالكسل، واتهمهم بقلة العمل لقلة أكلهم، وأنهم لا يعملون سوى ثلاث إلى خمس ساعات في اليوم. وإذا كان ذلك صحيحًا، رغم تحامل بليدة المذكور على كل ما له صلة بالمسلمين، فسببه أن مورسكيي بلنسية كانوا يعملون لحساب ساداتهم من نبلاء النصارى الذين كانوا يستنزفون عرق جبينهم ويستفيدون من كل ما زاد من اجتهادهم، على عكس مورسكيي مملكة غرناطة، خاصة منطقة البشرات منها، الذين كانوا يملكون أرضهم ويكسبون من جهدهم. ورغم ذلك، فقد انهار اقتصاد مملكة بلنسية بعد طرد المورسكيين سنة 1609 م. زار الرحالة الألماني "منذر" منطقة أراغون القديمة أيام الملكين الكاثوليكيين، وقال إن المورسكيين السرقسطيين كانوا أقوياء البنية ومتعودين على العمل الشاق، ومن أهم مهنهم الحدادة والبناء وصناعة الخزف والنجارة وتجارة الزيت، الخ ... وذكر أنه يمكن لستين منهم العيش على أرض لا تغذي سوى ربع عددهم من النصارى بسبب حبهم للعمل وقدرتهم عليه. وكان المورسكيون في مدن إسبانيا المختلفة يحترفون كذلك بعض المهن الضرورية كالخياطة، وصناعة الحبال، والخرازة، والبيع بالمفرق، وبيع الخضر بالتجوال، الخ ... وكان هناك تباين كبير في مستوى حياة المورسكيين ونوعية أعمالهم حسب المناطق المختلفة، وفي كل منطقة حسب مدنها وقراها. فالغرناطيون الذين وزعوا

على قشتالة أصبحوا رحلاً ينتقلون من بلدة إلى أخرى، ومن الصعب عليهم اكتساب الأرض الزراعية. فتوجهوا إلى المهن التي تتطلب التنقل كالنقل والتجارة بين المدن والقرى. أما المورسكيون الذين لم يطردوا من أرضهم، كالبلنسيين والمرسيين والأراغونيين، فقد توجهوا إلى كل المهن التي يحتاج إليها المجتمع، خاصة الحرف في المدن. وبرع مورسكيو منطقة سرقسطة في صناعة السيوف والأسلحة الأخرى. وبصفة عامة، كان أكثر المورسكيين يعملون في قطاع الاقتصاد الأول، خاصة الزراعة. ولم يكونوا يعملون في الصيد البحري إذ منعتهم الدولة من الاقتراب من الشواطىء. كما لم يهتموا بتربية المواشي. وعمل عدد منهم في صناعة الفحم والخشب في الجبال والصيد البري، كما عمل آخرون في القطاع الثاني، خاصة المهن. أما القطاع الثالث، كالنقل والتجارة، فقد برع فيها عدد مهم من أغنيائهم. أما الزراعة، فقد اختص المورسكيون فيها بزراعة السواني والحدائق، فركزوا بذلك على الزراعة المكثفة بسبب صعوبة حصولهم على الأرض، كما كان الوضع على ضفاف نهر أبرة وروافده في أراغون القديمة. وركز المورسكيون في مملكة بلنسية، بعد طردهم من السهول الغنية إلى الجبال الجرداء، على الزراعة المكثفة ببناء الأسطحة المدرجة في الجبال واستصلاحها. وقاموا بأعمال هندسية رائعة لجلب الماء واستغلاله أفضل استغلال. كما كان المورسكيون في بلنسية يقومون بمهنة حراسة مزارع النصارى الكبيرة من الماشية. وقد اتهم فقراء النصارى في مملكة بلنسية المورسكيين الذين لا أرض لهم بقبول أبخس الأجور للعمل في أراضي النبلاء، مما جعلهم منافسين خطرين لهم. وكان المورسكيون ذوي كفاءة عالية في الزراعة. وعندما طرد عدد منهم سنة 1609 م، وشتت الباقون، انقرضت بعض الزراعات نهائيًّا في إسبانيا. ففي مملكة بلنسية، كان إنتاج الأرز في القرن السادس عشر الميلادي مرتفعًا بسبب عمل المورسكيين، وضعف في القرن السابع عشر لدرجة كاد ينقرض معها، إلى أن عادوا إلى زراعته في القرن الثامن عشر. وكذلك الحال بالنسبة لقصب السكر الذي تماسكت زراعته في هضاب مملكة بلنسية، وانقرضت في سهولها بسبب طرد المورسكيين. وفي مملكة مرسية وبعض مناطق مملكتي بلنسية وغرناطة، اختص المورسكيون في تربية دودة القز وصناعة الحرير. ولم تنقذ هذه الصناعة من الفناء المحقق إلا

لتخلف المورسكيين المختصين فيها رغم أوامر الطرد. واختص مورسكيو أراغون القديمة أكثر من غيرهم في الزراعة السقوية، لذا انخفض إنتاج القمح من الأراضي السقوية انخفاضًا هائلاً بعد طردهم. ولم يختص المورسكيون في الزراعة الشتوية إلا في منطقة الاسترمادورا، كما اختصوا في زراعة أشجار الفواكه رغم رداءة أرض الاسترمادورا وصعوبة مناخها. أما في مملكة غرناطة، فقد تحول مسلموها إلى عمال متجولين ومزارعين في أراضي النصارى وعبيد بعد ثورة غرناطة الكبرى ومصادرة أراضيهم. كان المورسكيون أحدق من النصارى في المهن التي اختصوا فيها. كما اختصوا في الصناعات الغذائية وفي بيع الغذاء الجاهز في القرى والمدن، بينما عمل بعضهم كميكانيكيين ونحاسين وحدادين وخرازين، وصانعي الصابون، وحمالين. وكان عدد آخر منهم يعمل في صناعات الجلد بأنواعها، والخشب والحديد والخزف. ولم يكن منهم سوى عدد قليل في صناعة الأثواب. وعملت الدولة الإسبانية على إبعاد المورسكيين عن المهن الحرة ومراكز المسؤولية طوال القرن السادس عشر. فشرعت عدة قوانين تمنع استخدامهم في التعليم وفي وظائف الحكومة، كما تمنع النصارى من تدريبهم. وشرعت الدولة قوانين أخرى تمنع المورسكيين من دخول المهن ذات المستوى الاجتماعي الرفيع، كالصيدلة والطب والصياغة والسمسرة، الخ ... ورغم ذلك، استطاع كثير منهم مزاولة عدة حرف ممنوعة عليهم، كصناعة الحرير والخياطة، نظرًا لمهارتهم وجودة عملهم، وكانت لبعضهم مصانع ناجحة في المدن الكبرى، خاصة إشبيلية. ولقد ترك المورسكيون روائع معمارية تسمى بالفن المدجن، أهمها قصور مدينة إشبيلية التي ابتدىء ببنائها سنة 1505 م، وصومعة سرقسطة الجديدة التي بنيت في نفس السنة، وغيرهما. وأدى جهل النصارى بروعة الفن المدجن إلى تحطيم كثير من النفائس المعمارية في القرون الأخيرة، بما فيها صومعة سرقسطة. وكان المدجنون في أراغون القديمة يعتزون بانتمائهم الإسلامي قبل التنصير القسري، ويوقعون الأبنية التي يبنونها، بما فيها الكنائس، بـ "لا إله إلا الله محمد رسول الله". وكان النصارى يحترمون كبار معلمي البناء المدجنين، ويسمحون لهم بالسكن معهم خارج أحياء المدجنين. ومن بين كبار "العارفين" (أي كبار الفنيين) المعروفين العارف زونزونغي الذي بنى عدة قصور وأبنية عامة في مدينة المرية في القرن السادس عشر.

واحتكر المورسكيون في بعض المدن، ككونكة وقرطبة وإشبيلية وبلاسنسية وآبلة، صناعتي الحديد والنحاس. ومن أشهر العارفين فيهما العارف خوان رودريكز الذي بنى أبواب كتدرائية إشبيلية البرونزية، والعارف إبراهيم، والعارف زيد، والعارف حامد، وغيرهم من المورسكيين. وبرع مورسكيو أراغون القديمة في الصناعات الجلدية، كالأحذية، خاصة في بلدة برية الموركسية. وبرع مورسكيو بلنسية في صناعة السلل والحصير، وكانوا يصدرونها من مملكة بلنسية إلى كل أنحاء إسبانيا. كما اختص المورسكيون في صناعة "نيران الألعاب البهلوانية" وبقيت هذه الصناعة قائمة إلى اليوم في غرناطة وبلنسية ومرسية. ومهر المورسكيون الأراغونيون في صناعة البارود والبنادق، وكانوا يصدرونها إلى مناطق إسبانيا الأخرى. واحتكر الغرناطيون في قشتالة مهنة النقل على البغال، وكان البغالون يعملون لحسابهم الخاص في التجارة بين مناطق إسبانيا ومدنها. وحاولت الدولة الإسبانية عرقلة هذا النشاط بمنع الغرناطيين من تغيير أماكن سكناهم، فلم تستطع تطبيق قرارها، ونجح الغرناطيون في السيطرة على طرق النقل في القشتالتين، لدرجة تضرر معها النقل في المنطقة بأكملها بعد طرد سنة 1609 م. واستطاع مورسكيو مملكة أراغون القديمة السيطرة على النقل النهري على نهر أبرة وروافده. وقد جعل بعض المراقبين ذلك سببًا في براعة المورسكيين المطرودين إلى شمال إفريقيا في الجهاد البحري. ونجح كثير منهم في الالتحاق بالبحرية الإسبانية وتعلم علوم البحر، رغم منع السلطات الإسبانية. كما نجح بعض المورسكيين في المدن، كآبلة وليرينة وكونكة، في الوصول إلى أعلى المراتب ككتاب وأطباء وصيادلة وغير ذلك، رغم المنع المفروض عليهم. وكانت الدولة الإسبانية والكنيسة الكاثوليكية تمنعان المورسكيين من مزاولة مهنة الطب بصفة خاصة. وكانوا يتهمونهم بقتل النصارى، وعدم معالجة النفس، والتحالف مع الشيطان. ورغم ذلك، جلبت مهارتهم أعدادًا كبيرة من مرضى النصارى إليهم. لدرجة أن الملكين فليبي الثاني وفليبي الثالث اضطرا إلى الالتجاء إلى أطباء مورسكيين، كالطبيب بنتريتي والطبيب خيرومينو باشق من بلنسية، ولم ينج هذان الطبيبان من متابعات محاكم التفتيش. وبسبب الاضطهاد المتواصل للمورسكيين، لم يكن وضعهم الاقتصادي جيدًا، عدا قلة منهم نجحت رغم ذلك في تحسين مواردها. ورغم هذا الوضع الاقتصادي

6/ 5 - الثقافة المورسكية:

السيىء، فقد اتهم النصارى المورسكيين بالبخل وبإخفاء غناهم تحت مظاهر الفقر، لتبرير صمودهم المتواصل. وكان معظم المورسكيين يسكنون بيوتًا غير صحية، كالأكواخ في مملكة بلنسية والكهوف في مملكة غرناطة. واستطاع المورسكيون الصمود بسبب اقتصادهم وحسن عاداتهم الاجتماعية. ففي سنة 1609 م، أحصت الدولة الإسبانية أموال المورسكيين المطرودين من القشتالتين ومدنهما. ككونكة وآبلة، فوجدتها تعادل حوالي 430 مليون مرابطي، وهو قدر أقل بكثير من الواقع، إذ لم تستطع الدولة إحصاء لا الأموال المنقولة ولا كل الأموال غير المنقولة. وكان من بين المورسكيين تباين كبير بين القلة الغنية والكثرة الفقيرة. وقد اشتهر بعض أغنيائهم الذين كانوا فريسة لمحاكم التفتيش، كايسابيلا الرميمية، زوجة تاجر حرير، والأخوين ميغال وخيرومينو لوبيز، تاجرا حرير بقرطبة، وفراندو الزيت، تاجر توابل بقرطبة كذلك، وفيسنتي دي لاطوري، صاحب مزارع عنب وزيتون في منطقة إشبيلية. اضطرت هذه القلة الغنية إخفاء غناها أمام خطر تسلط محاكم التفتيش والكنيسة والملك عليهم بشتى الطرق لأخذ أموالهم. وكان المورسكيون المستعبدون في حالة يرثى لها من التشريد في كل أنحاء إسبانيا. فقد كانت المدن تعج بأعدادهم، وكان وضعهم بصفة عامة أسوأ بكثير من وضع المورسكيين الأحرار على سوء حاله. 6/ 5 - الثقافة المورسكية: كانت الأمة الأندلسية إبان محنتها الكبرى، في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، تناضل بكل ما لديها من إمكانات للحفاظ على خصوصيتها وشخصيتها الذاتية بالسلاح كلما تمكنت من ذلك، وبالكلمة عندما يصبح جهاد السلاح مستحيلاً. وقد ارتبط الأندلسيون في هذه الفترة ارتباطًا وثيقًا باللغة العربية، فلقنوها لأبنائهم، وتدارسوها فيما بينهم، وكتبوا بها حسب المستطاع. وفسر أحدهم، الشهاب الحجري هذا الارتباط بما يلي: "وكل لسان مختلف عن غيره، وهذه العربية وحيدة في الدنيا. وقالوا الحق في ذلك. فهو كلام مبارك، ومن تكلم بها لا بد يذكر الله. ولذلك كان يقول بعض من الأندلس (أي أهل الأندلس): لا عربية بلا الله، ولا عجمية بلا شيطان، لأن النصارى يذكرونه في كلامهم، ولا يكره

العربية والكلام بها إلا من لا يعرف فضلها وبركتها". وقال في موضع آخر: "وأقول: اعلم أن أول ما تكلمت به ببلاد الأندلس كان العربية. وكانت النصارى ... تتحكم فيمن يجدون يقرأ العربية. فتعلمت القراءة الأعجمية (يعني الإسبانية) للأخذ والعطاء". والشهاب الحجري هو من المورسكيين المعروفين الذين كتبوا باللغة العربية بعد خروجهم من الأندلس قبيل طرد سنة 1609 م. واسمه العربي أحمد بن قاسم بن أحمد الفقيه قاسم بن الشيخ الحجري، ويعرف بالشهاب الحجري وبآفوقاي، ولا يعرف اسمه المورسكي. وقد استطاع الهجرة من أحواز غرناطة سنة 1007 هـ (موافق 1598 م)، وانتقل إلى المغرب، وعمل ترجمانًا لدى السلطان زيدان السعدي ولأولاده من بعده. وكتب بعد خروجه من الأندلس كتاب "ناصر الدين على القوم الكافرين" وصف فيه أوضاع المورسكيين في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وترجم كتاب "العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع" من اللغة الأعجمية، وهو كتاب في فن المدفعية. كما كتب الشهاب الحجري عدة كتب أخرى منها كتاب "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب"، وقد ضاع كما ضاعت كتب أخرى له. وتوفي الشهاب الحجري بعد سنة 1051 هـ (1641 م). ولم يكتب باللغة العربية من المورسكيين إلا ثلة بعد هجرتها إلى البلاد الإسلامية، منهم، عدا الشهاب الحجري، محمد بن عبد الرفيع المتوفى سنة 1052 هـ (1643 م)، صاحب كتاب "الأنوار النبوية في آباء خير البرية". ومنهم من كتبوا لإخوانهم في بلاد هجرتهم، وليس لأمتهم الأسيرة التي أصبح أكثر أفرادها، في أوائل القرن السابع عشر، يجهلون اللغة العربية بسبب الحرب المتواصلة التي شنتها الكنيسة الكاثوليكية والدولة الإسبانية عليها وعلى من يتكلم باللغة العربية. أدى ذلك القهر إلى تحول الكتاب الأندلسيين إلى لغة التخاطب بينهم، وهي اللاتينية المحلية بلهجتها الإسلامية: القشتالية في غالب الأحيان (الإسبانية القديمة)، أو الأراغونية أو القطلانية أو البرتغالية أحيانًا أخرى، حسب مناطقهم. فولدت بذلك لغة إسلامية جديدة، كتبوها بالحرف العربي، وسموها اللغة الأعجمية. تكونت هذه اللغة في القرن الرابع عشر الميلادي بين مدجني مملكتي أراغون وقشتالة، واندثرت في القرن الثامن عشر، فكان عمرها 400 سنة تقريبًا. وجعل المورسكيون هذه اللغة وسيلة تعبيرهم ومتنفسًا لجهادهم طيلة هذه الحقبة الطويلة. فكتبوا بها شعرًا ونثرًا في

فنون شتى: التفسير والحديث والفقه والسيرة النبوية والعلوم التجريبية والتاريخ والجغرافيا والآداب، الخ ... وردوا بها هجوم النصارى على الإسلام ومبادئه ورموزه. وانتشرت الكتب الأعجمية بين مسلمي الأندلس انتشارًا كبيرًا رغم محاربة السلطات الكنسية والحكومية لها، ومطاردتها لمن يكتبها أو يقرأها أو ينسخها أو يحتفظ بها. ويجتمع منها اليوم في المكتبات الإسبانية وغيرها آلاف المجلدات التي تكون وعاء لتراث إسلامي يتيم، يجهله المسلمون العرب لعدم معرفتهم اللغة الأعجمية، كما يهمله الإسبان لعدم معرفتهم حرفه العربي وعدم تعبيره عن الحضارة السائدة بينهم اليوم، فأصبح في خطر الضياع. وهذا التراث جدير بأن يخرج إلى الوجود ويعرف به كتراث إسلامي فريد، يدل على تجربة أمة مسلمة تفانت في الحفاظ على عقيدتها الإسلامية ولغتها العربية وكل ما يتعلق بها من عبارات وحروف عندما أصبح الاحتفاظ باللغة العربية نفسها مستحيلاً. ومن أهم وأقدم الآثار الأعجمية في الشعر قصيدة سيدنا يوسف عليه السلام لشاعر مدجن مجهول عاش بأراغون القديمة في القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل سقوط غرناطة بحوالي قرن ونصف. وتتكون القصيدة من 1220 بيت مجزأة في 305 رباعية. وهي تقص قصة سيدنا يوسف عليه السلام حسب ما جاء في القرآن الكريم، لتعليم الناشئة المسلمة مبادىء الإسلام وأخلاقه بطريقة مشوقة، كما يبدو جليًّا من افتتاحيتها التالية: حديث دا يوسف عليه السلام بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لو ميانت أد الله، أللت ياش أبارددار أنرد اقنبلد، شانر دارايترار شانر داتد، أن شل اشانر فرانكو ابدارشه، أرداندر شارتار

غرن باش ال، شبدار تد ألمند أبرق نن شلا أنقبرا كشه كا أنالمند نسق شقيارا ان لمرن يان تد لكمرق ن يان لتيار برياته ن يان لبلنق فغبش أشبار، أيداش، مش أمدش لك كنتاشيه ان لش تيانبش بشدش أجق اييوسف ايشش داش ارمنش بر كبدشيه أنبدية أبيارن أشايار ملش الخ ... وترجمتها: قصة يوسف عليه السلام بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله العلي الحق العزيز الكامل الملك العادل ربّ العالمين الواحد الأحد الصمد الكريم القوي القيوم هو الأكبر، تعم قوته كل شيء ولا تخفى عليه خافية في الكون لا في البر ولا في البحر لا في الأرض السوداء ولا البيضاء اعلموا واسمعوا يا أحبائي ما حدث في الأيام الغابرة ليعقوب ويوسف وأخوته العشرة الذين بالطمع والغيرة أصبحوا شريرين

وعبر علي بيريز، أحد كبار شعراء الأعجمية، في شعره القوي على الثورة الكامنة لدى الشعب الأندلسي المضطهد المقهور في عقيدته وجسمه وشرفه ومأكله ومشربه ووطنه، وفي كل ما يجعل الإنسان إنسانًا، فيصيح علي بيريز بأبيات قوية نأتي بترجمة بعضها: ذئاب سارقة عديمة الخير، همها الكبرياء والعجرفة واللواط والفسق والكفر والانتقام والغدر والظلم والسرقة كل ذلك بدون عدل. أنا لا أبكي على ما مضى لأن لا يمكن الرجوع إلى الماضي ولكن يبكي لما سنرى من نتانة ومرارة كل من يفهم؛ هاجر علي بيريز في أوائل القرن السابع عشر إلى تونس، وعبّر عن هذه الهجرة بقوله: "أخرجنا الله بعظيم قوته من يد الفراعنة الكفرة وقضاة التفتيش الملعونين". وبكى شعراء آخرون بأبيات محزنة على ما آل إليه وطنهم من تدمير، ومثال ذلك هذه الأبيات المترجمة لشاعر أعجمي مجهول يبكي فيها بلدته الحامة (القريبة من غرناطة) عند سقوطها في يد النصارى: آه على بلدي الحامة؛ الرجال والنساء والأطفال كلهم يبكون هذه الخسارة العظمى كما بكت كل سيدات غرناطة

آه على بلدي الحامة؛ لا ترى من نوافذ بيوتها في أزقتها إلا مأتمًا كبيرًا ويبكي الملك ما عساه يبكي لأن ما ضاع كثير آه على بلدي الحامة؛ ويعد خوان ألونسو الأراغوني من أكبر شعراء اللغة الأعجمية. وقد ترك ديوانًا يتكون من رباعيات يدافع فيها عن العقيدة الإسلامية وعن شخصية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويرد فيها بلغة قوية واضحة على الكنيسة ويسفِّه عقيدتها وآراءها. ويدل شعر الأراغوني على معرفة واسعة بالإسلام والمسيحية على حد سواء. وقد هاجر الأراغوني في آخر حياته إلى تطوان بالمغرب. ومنهم محمد رمضان، وهو من بلدة الرويضة بين سرقسطة وقلعة أيوب، في أراغون القديمة. وقد اشتهر في شعره بأمداحه النبوية بلغة شاعرية مؤثرة. وطرد محمد رمضان سنة 1610 م من بلده، فاستقر في تونس. ومنهم أيضًا "بوي دي مونسون" الذي حج إلى بيت الله الحرام، وسجل رحلته في قصائد شعرية تعبّر على شوقه لمكة المكرمة والمدينة المنورة وأرض الإسلام الحرة، وأمله في الرجوع إليها. ويوجد في الأدب الأعجمي كثير من الشعراء المجيدين الآخرين الذين لا يتسع المجال إلا لذكر بعضهم: كإبراهيم التايبيلي، وإبراهيم دي بلغاد، ومحمد الخرطوش البياني، دون الكثيرين الذين نجهل أسماءهم ونقدر إنتاجهم، كناقد مسرحيات لوبي دي بيغا وغيره. ولم يعبّر الشعر الأعجمي على جهاد الشعب الأندلسي فقط ونضاله من أجل البقاء والحفاظ على عقيدته الإسلامية، بل عبر كذلك على المشاعر الإنسانية من تهجد وحب وحنان ووصف للطبيعة. وارتباط بأرض الأندلس.

وكتب الأندلسيون بالنثر الأعجمي في كل المجالات المذكورة أعلاه. ومن أشهر كتابهم فيه "المنسيبو دي أبيرالو" (أو فتى ابيرالو)، وهو فقيه من أعلم فقهائهم، كتب في التفسير والسنة النبوية، ووصف أوضاع الأندلسيين تحت الاضطهاد الكاثوليكي عبر إسبانيا كلها. ومنهم فقيهة أبدة وفقيهة آبلة، ولا يعرف اسماهما بالضبط. وظل كثير من الكتاب الآخرين مجهولي الاسم، بسبب الخطر الذي تتعرض إليه حياتهم أمام محاكم التفتيش. وطور كتاب الأعجمية أدب القصة كوسيلة بيداغوجية لتدريب الناشئة المسلمة سرًّا على المبادىء والأخلاق الإسلامية، زرع روح الثقة بالنفس فيهم، وتدريبهم على الثبات أمام المصاعب. ومن أهم هذه القصص التي نجت من الضياع: "قصة العصر الذهبي" و"قصة علي والأربعين جارية" و"قصة الإسكندر ذي القرنين". ومن أمثلة الكتب التي كتبت بالأعجمية في العلوم التقنية كتاب إبراهيم المرباش المسمى "العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع"، وهو في التقنية العسكرية. وقد ترجمه الشهاب الحجري من الأعجمية إلى العربية. وكتب الأندلسيون باللغة الأعجمية أوراقهم الخاصة من رسائل وتقاييد وعقود وغير ذلك. ولنأت الآن بمقتطفات من النثر الأعجمي: أولها من كتاب "الأدعية النبوية" للفقيه علي بن محمد شكار الذي انتهى من كتابته بتاريخ 30 جمادى الثانية عام 998 هـ (موافق 23/ 3 / 1589 م)، وهو يفتتح بما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وعلى آله وسلم تسليمًا، لش ماشاش ذا لش ألكنت ذا عربيى كاشا كوانتن بر لنش شن اشتش: ألبرمار شالم ألمحرام، ألبارمار ذا شتا ماش أشذيا ذامي غرنذا ذين ياش دلبر ذا لش شياتاذيش كا شن بر ألنبى محمد - صلى الله عليه وسلم -، الخ ... ". وترجمتها باللغة العربية: "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وعلى آله وسلم تسليمًا، إن الدعوات التي يدعى بها في الشهور العربية هي التالية: الشهر الأول يسمى محرم، وأول يوم منه هو يوم مهم جدًّا، وهو من الأيام السبعة عشرة من أيام النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ... ".

والمثال الثاني من كتاب في التاريخ، هذا مطلعه: "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وآله وسلم تسليمًا، ار أن ذي دا لش يشياتا دا لن بانتشنكان ذا ذو ألقياد، فوارون أجنتدش أن شرغش أو كنبن دا أنردش مشلماش يأنتار ألش سياتا عليماش دكتش افصالدش ادابواش دا الظهر كمانسرون أترتر دا نواشترش ذو الش اكد أن ذيش ... " وترجمتها باللغة العربية: "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وسلم تسليمًا، في أحد أيام الشهر السابع من السنة خمسة وعشرين اجتمع في سرقسطة جماعة من المسلمين المحترمين، ومن بينهم سبعة علماء فقهاء مقتدرين. وبعد الظهر ابتدؤوا بمعالجة مشكلتنا، وكل واحد منهم ... ". والمثال الثالث من تقييد خاص لتاجر مورسكي من مدينة سالم بمقاطعة سرقسطة، قيد فيه ما لديه من ديون عند زبائنه. والتقييد في 54 صفحة يقول في إحدى صفحاته: "يال، بسم الله الرحمن الرحيم، دابا مرتن لباز كم سنك ماديش دا تارغه، كن لماديه رايل، يواشته ان مكشه، إن شاء الله. ادابا مش سنك مربادش كالا بارشتا ... ". وترجمتها: "يال (اسم بلدة)، بسم الله الرحمن الرحيم، استدان مني مارتين لوبيز خمسة أمداد من القمح، بالمد الملكي، ووضعتها في بيتي، إن شاء الله. واستدان مني كذلك خمسة مرابطية أدنتها له ... ".

مراجع الفصل السادس

مراجع الفصل السادس 6/ 1 - Henri Lapeyre "Geographie de l'Espagne Morisque", SEVPEN, Paris, 1959. 6 / 2 - Ramon Carande "Carlos V y sus Banqueros" Madrid, 1943, p. 43. 6 / 3 - Joan Regla "Estudios Sobre los Moriscos", Barcelona, 1974, p. 1533 - 170 6 / 4 - J. Munoz Gavira "Historia del Alzamiento de los Moriscos, su Expul- sion de Espana y Consecuencias en todas las Provincias del Reino" Madrid, p. 157-159. 6 / 5 - Ref. (6.1) , p. 27. 6 / 6 - Jone Maria Lacarra "La Reconquista y Repoblacion del Valle del Ebro" Zaragoza, 1951, p. 142 - 143. 6 / 7 - Antonio Dominguez Ortiz y Bernard Vincent "Historia de los Moris - cos" Madrid, 1979, p. 77. 6 / 8 - Alfonso Alvarez Vazquez "Notas sobre la Poblacion Morisca de Ara - gon a Fines del Seglo XVI" Estudios, Zaragoza, 1976. 6 / 9 - Josep Iglesias "Pere Gil, S.I. ila Seva Geografia de Catalunya" Bar - celona, 1949, p. 118 y ss. 6 / 10 - J. Fernandez Nieva "Un Censo de Moriscos Extremenos de la Inqui- sicion de Lierena (ano 1594) " Revista de Estudios Extremenos, 1973, p. 151-169. 6 / 11 - J.P. Le Flem "Les Morisques du Nord-Ouest de l'Espagne en 1594 d'apres un Recencement de l'Inquisition de Valladolid" Melanges, 1965, p. 223-240.

6/ 12 - M. Garcia-Arenal Rodriguez "Los Moriscos y la Inquisicion de Cuenca" Tesis, Madrid, 1975. 6 / 13 - M. A. Ladero Quesada "Los Mudejares de Castilla en Tiempo de Isabel I" Valladolid, 1969, p. 17-21. 6 / 14 - Ref. (6.1) , p. 158-163. 6 / 15 - Ref. (6.1) , p. 147-157. 6 / 16 - F. Ruiz Martin "Movimientos Demograficos y Economicos en el Re- ino de Granada durante la Segunda Mitad del Siglo XXV" Annario de H. Economica y Social, I, 1968, p. 127-173. 6 / 17 - Ref. (6.7) , p. 79. 6 / 18 - Pedro Longas "Vida Religiosa de los Moriscos" Madrid, 1915. 6 / 19 - Louis Cardaillac "Morisques et Chretiens, un Affrontement Polemi- que (1492-1640) " Paris, 1977. 6 / 20 - Ref. (6.7) , p. 92. 6 / 21 - Fray Marcos de Guadalajara "Memorable Expulsion y Justissimo Destierro de los Moriscos de Espana", Navarra, 1613, Fol, 158v. 6 / 22 - Julio Caro Baroja Los Moriscos del Reino de Granada" Madrid, 1976, p. 125-131. 6 / 23 - Marmol Carvajal "Historia" Granada, 1573, p. 268, Lib. VI, Cap. XVII y p. 352, Lib IX, Cap. XI. 6 / 24 - Jaqueline Fournel-Guerin "Les Morisqus Aragonais et L'Inquision de Saragosse (1540-1620) " These, Montpellier III, 1980, p. 128-130. 6 / 25 - Ref. (6.23) , p. 157. 6 / 26 - Ref. (6.23) , Lib. IIm Cap. I. 6 / 27 - Louis Cardaillac "La Polemique Anti-Chretienne du Manuscrit Alja- miado No. 4944 de la Bibliotheque Nationale de Madrid" Ejemplar Mecanografiado, Tomo I, p. 15 y ss. 6 / 28 - Ref. (6.24) , p. 132-133. 6 / 29 - Jaime Bleda "Cronica de los Moros de Espana" Valencia, 1618 Cap. 39. 6 / 30 - Ref. (6.19) , p. 24. 6 / 31 - P. Boronat y Barranchina "Los Moriscos Espanoles y su Expulsion" Valencia, 1901, 2 Vol., Vol. I, p. 274-277.

6/ 32 - K. Garrad "La Inquisicion y los Moriscos Granadinos (1528-1580) " MEAH, 1960, p. 55-75. 6 / 33 - Ref. (6.7) , p. 105. 6 / 34 - الشهاب أحمد بن قاسم الحجري "ناصر الدين على القوم الكافرين" تحقيق محمد رزوق، الدار البيضاء، 1987، ص 21. 6/ 35 - Ref. (6.30) , p. 65-67. 6 / 36 - Bartolome Bennassar et Lucile Bennassar "Les Chretiens d'Allah" Perrin, Paris, 1989, p. 265-266. 6 / 37 - Ref. (6.18) , p. 226. 6 / 38 - Cabezudo Astrain "Noticias y Documentos sobre Moriscos Aragon- eses" MEAH, t. V, p. 107. 6 / 39 - Ref. (6.36) , p. 201. 6 / 40 - Dario Cabanelas "El Morisco Granadino Alonso de Castillo" Gran- ada, 1965. 6 / 41 - مرجع (6 34)، ص 11. 6/ 42 - مرجع (6 34)، ص 3 4. 6/ 43 - Ref. (6.23) , p. 232 (Lib V, Cap XV) , 235 (Lib V, Cap XX) . 6 / 44 - Ref. (6.22) , p. 102-103. 6 / 45 - Ref. (6.22) , p. 121-122. 6 / 46 - Ref. (6.30) , p. 14. 6 / 47 - Ref. (6.30) , p. 44. 6 / 48 - Ref. (6.20) , Fol. 69. 6 / 49 - Jeromino Munzer "Viaje por Espana y Portugal 1494-1495" Tra- duccion de Jose Lopez Toro, Madrid, 1951, p. 51. 6 / 50 - Ruth Pike "An Urban Minoritry: the Moriscos of Seville" Int. Jour- nal Middle East Studies. Vol. 2, 1971, p. 368-377. 6 / 51 - C. Lopez Martinez "Mudejares y Moriscos Sevillanos" Seville, 1935. 6 / 52 - Jean-Pierre Dedieu "Morisques et Vieux-Chretiens a Daimiel au XVIe Siecle" Religion. Identite et Sources Documentaires sur les Morisques Andalous, Tunis, Vol. 1, p. 199-214.

6/ 53 - Julio Fernandez Niera "El Enfrentamiento entre Moriscos y Cristia- nos Viejos, el Caso de Hornachos en Extremadura" les Morisques et leur Temps, Paris, 1983, p. 269-295. 6 / 54 - Ref. (6.23) , p. 192 (lib. IV, Cap X) . 6 / 55 - Ref. (6.22) , p. 87-91. 6 / 56 - P. Pedro de Leon "Crisis y Decadencia de la Espana de los Aus- trias", p. 32-33. 6 / 57 - Pedro de Valencia "Tratado acerca de los Moriscos de Espana" B.N. Ms. 8888. 6 / 58 - Ref. (6.29) , Cap. 38. 6 / 59 - Ref. (6.7) , p. 109-128. 6 / 60 - Archivo Historico National, Osuna, legajo 2252, e hojas impresas. 6 / 61 - P. Ponsot "Les Morisques, la Culture de Ble et le Problem de la Decadence de l'Agriculture Espagnole au XXVIIe Siecle" Melanges de la Casa de Velazquez, Tomo VII. 6 / 62 - Jose Gestoso "Historia de los Barrios Vidriados Sevillanos" Sevilla, 1904, p. 331. 6 / 63 - Tores Balbas "Arte Mudejar" Vol. IV, de "Atrs Hispanae", 1949. 6 / 64 - Klaus Wagner "Un Pardon Desconocido de los Mudejares de Sevilla y la Expulsion de 1502" Al-Andalus, Vol. 36. 6 / 65 - Gonzalez Davila "Teatro Eclesiastico de Avila (1618) e Historia de Felipe III" Obra Postuma, Madrid, 1771. 6 / 66 - المرجع (6 34)، ص 94. 6/ 67 - الشهاب الحجري "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب" نقلها منه صاحب كتاب "زهرة البستان في نسب أقوال سيدنا المولى زيدان" نسخة خطية، خزانة الرباط الملكية رقم 3274. 6/ 68 - محمد بن عبد الرفيع "الأنوار النبوية في آباء خير البرية" مخطوطة الخزانة العامة بالرباط رقم 1237 ك. 6/ 69 - Tomas Ivring "El Cautiverio Babilonico de Andalucia", Cedar Ra- pids, lowa, USA, 1989.

6/ 70 - Tomas Ivring "El Poema de Jose" Cedar Rapids, lowa, USA, 1988. 6 / 71 - توجد مخطوطة منه باللغة العربية في الخزانة العامة بالرباط عدد 87 ج. 6/ 72 - توجد مخطوطة منه بالمكتبة الوطنية الإسبانية بمجريط رقم 5306. 6/ 73 - M.J. Viguera Molins "Un Cuaderno Aljamiado de Deudas" Home- naje a Don Jose Maria Lacarra, Zaragoza, Ed. Anubar, t. V, p. 213-268, 1982.

الفصل السابع استمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر

الفصل السابع استمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر 7/ 1 - إسبانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر: كان القرن السادس عشر قرن توسع إسبانيا وقوتها تحت هيمنة قشتالة ولغتها، ولذلك سماه الإسبان بالقرن الذهبي. فبعد اتحاد قشتالة وأراغون في مملكة إسبانية واحتلال مملكة غرناطة آخر دولة أندلسية مستقلة، غزت إسبانيا معظم القارة الأمريكية، وقضت على ممالكها، وأرغمت جميع أهلها على اعتناق الكاثوليكية، وكونت بها إمبراطورية استعمارية. ثم نقلت الأموال الأمريكية المنهوبة، من ذهب وفضة، إلى أرضها، وأجبرت الأهالي على العمل في الزراعة والمناجم في ظروف قاتلة. ولما قل عددهم بسبب انتشار الأوبئة وسوء المعاملة، أخذت إسبانيا تستعبد الأفارقة وتنقلهم إلى مزارع المستعمرين في أمريكا. ودامت تجارة العبيد هذه التي اشتركت فيها معظم دول أوروبا إلى القرن التاسع عشر. وتوسعت إسبانيا في آسيا باحتلال جزر الفلبين وتابعت حربها على الإسلام في تلك المناطق النائية. وأخذت إسبانيا تتوسع في أوروبا والبحر الأبيض المتوسط أولاً بضم منطقة الروسيون الفرنسية سنة 1493 م، ثم مملكة نبارة سنة 1512 م. وفي سنة 1516 م، بويع كارلوس الخامس خلفًا لجده فراندو الكاثوليكي، وهو ابن ابنته خوانا المجنونة من إيسابيلا الكاثوليكية وفليبي الجميل ملك هولاندا ابن الإمبراطور مكسمليان هابسبورغ إمبراطور النمسا وماريا برغونيا التي ورثت من والدها شارل المغامر ممالك هولاندا واللوكسمبورغ والفرانش كونتي (بفرنسا اليوم) وقسمًا من الألزاس. وهكذا ضمت لإسبانيا بولاية كارلوس الخامس، أول ملوك السلالة النمساوية في إسبانيا، إمبراطورية أوروبية شاسعة تضم النمسا وهولاندا واللوكسمبورغ والفرانش كونتي وما

جاورها، ومنطقة ميلانو الإيطالية، وجنوب إيطاليا وجزيرتي سردانية وصقلية. وفي سنة 1580 م، بعد معركة وادي المخازن، انضمت البرتغال بجميع مستعمراتها إلى إسبانيا. ثم احتلت إسبانيا شواطىء شمال إفريقيا ومرانئها كطرابلس وتونس والجزائر ووهران ومليلة، وبعد ذلك سبتة وطنجة والمهدية والجديدة والصويرة، الخ ... وخلف كارلوس الخامس ابنه فليبي الثاني (1556 - 1598 م)، ثم خلفه ابنه فليبي الثالث (1598 - 1621 م)، وهو الذي قام بطرد المورسكيين من إسبانيا سنة 1609 م. فكان لهذا الطرد أسوأ الأثر على اقتصاد إسبانيا، خاصة في مملكة أراغون، حيث أدى إلى تردي صناعات كثيرة كانت من اختصاص المورسكيين، كصناعة الحرير والسكر. فأخذت إسبانيا تتقهقر، وحدودها تتقلص. فطردت هولاندا الإسبان، وكونت جمهورية مستقلة أصبحت تهدد البحرية الإسبانية. وخلف فليبي الثالث ابنه فليبي الرابع (1621 - 1665 م)، وكان عهده منعوتًا بالضعف والفوضى. ترك فليبي الرابع السلطة لوزيره كوندي ودوق دي أليبارس، فانتشر الظلم وعمت المجاعة والأوبئة في البلاد، فتزعزعت وحدتها وقل سكانها. وفي سنة 1640 م انفصلت البرتغال عن إسبانيا، وثارت عليها قطلونية. وفي سنة 1643 م، انهزمت الجيوش الإسبانية في روكروا. وفي سنة 1647 م، ثارت صقلية ونابل. وفي سنة 1648 م، وقعت إسبانيا على معاهدة وستفاليا التي اعترفت فيها باستقلال "الأراضي المنخفضة" وبما ضمنه السويد وفرنسا وبراندبرغ والساكس وبفاريا من أراضيها. وفي سنة 1659 م، بعد انهزامات متواصلة على يد فرنسا وانكلترا برًّا وبحرًا، اضطرت إسبانيا في معاهدة "البرت" إلى التخلي لفرنسا عن منطقتي الأرتوا والروسيون، والموافقة على زواج بنت فليبي الرابع الكبرى بلويس الرابع عشر، ملك فرنسا. وبهذه المعاهدة حلت فرنسا محل إسبانيا في الهيمنة على أوروبا. وخلف فليبي الرابع ابنه كارلوس الثاني (1665 - 1700 م)، وكان أضعف ملوك السلالة النمساوية إذ تابعت إسبانيا تقهقرها في أيامه. وطالب لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، فور وفاة فليبي الرابع بإرثه الإسباني بصفته زوج ابنته الكبرى، فاحتل المناطق البلجيكية التي كانت في حوزة الإسبان. لكن الدول الأوروبية الأخرى عارضت هذا التوسع الفرنسي، فاضطر لويس الرابع عشر في معاهدة آخن سنة 1668 م، إلى إرجاع معظم الأراضي التي احتلها، عدا مدينة ليل وبعض المدن الفلامنكية الأخرى. وفي معاهدة نيميك سنة 1678 م، اضطرت إسبانيا بعد حرب

مع فرنسا إلى التخلي لها عن الفرانش كونتي ومنطقة من مقاطعة الهينو وأخرى من الفلاندرز. وفي سنة 1681 م، احتلت فرنسا بالقوة مناطق أخرى من إسبانيا أهمها اللوكسمبورغ. وفي سنة 1686 م، تحالفت إسبانيا مع إمبراطور ألمانيا والسويد والساكس وبفاريا في "رابطة أوقسبرغ" في حرب ضد فرنسا، فانهزمت "رابطة أوقسبرغ" وفي سنة 1700 م، تحاشيًا لغزو فرنسي، اضطر الملك كارلوس الثاني الذي كان عقيمًا، قبل وفاته بقليل، إلى تعيين دوق آنجو، حفيد الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا، وليًّا للعهد شرط تنازله عن عرش فرنسا. وفي سنة 1700 م، انقرضت السلالة النمساوية بوفاة كارلوس الثاني ومبايعة حفيد ملك فرنسا تحت اسم فليبي الخامس، أول ملوك سلالة البربون في إسبانيا. فخافت دول أوروبا من خطر توحيد العرشين الفرنسي والإسباني، فتحالفت بريطانيا وهولاندا والإمبراطورية الألمانية في "معاهدة لاهاي"، وأعلنوا الحرب على فرنسا. فانهزمت في أول الأمر فرنسا أمام الحلف، واحتلت بريطانيا جبل طارق وبرشلونة، بينما طرد فليبي الخامس من مجريط في سنة 1708 م. وفي سنة 1713 م، توصلت فرنسا إلى توقيع معاهدة أوتريخت مع الحلفاء، بعد أن أحرزت بعض الانتصارات، تنازلت لبريطانيا بموجبها على مستعمراتها في أمريكا. وتنازل فليبي الخامس، مقابل حفاظه على عرش إسبانيا، لإمبراطور ألمانيا على ممتلكات إسبانيا في الأراضي المنخفضة ومنطقة ميلانو ونابل وجزيرة سردانية، ولدوق السافوا على جزيرة صقلية، واعترف لبريطانيا بحيازتها لجبل طارق. وتحسنت أوضاع إسبانيا إلى حد ما أيام فليبي الخامس. فارتفع عدد سكانها من ثمانية ملايين في أوائل القرن السابع عشر، وستة ملايين في أوائل القرن الثامن عشر، إلى أحد عشر مليونًا في أواخره. وأخذت إسبانيا تحاول الاعتماد على عمل أبنائها عوضًا عن الاتكال على الذهب والفضة المجلوبة من أمريكا الجنوبية. وأوقفت الحكومة الإسبانية الاضطهادات الدينية وطرد المواطنين، وازدادت أهمية طبقات الشعب المنتجة في المجتمع الإسباني، وانتشرت الزراعة في قطلونية وقشتالة بعد طول إهمال نتيجة طرد المورسكيين، وعادت الحياة للموانىء، وانتشرت التجارة فتكونت رؤوس أموال مهمة، وأخذت الصناعة تنتشر نتيجة الرغبة في الحد من الاستيراد. وعمل فليبي الخامس على تركيز وحدة البلاد حول قشتالة، فقضى على ثورة قطلونية (1700 - 1714 م)، وألغى ما كان يتمتع به نبلاؤها من امتيازات، وأنهى

المؤسسات المستقلة لولايات المملكة المختلفة. وحمت الدولة في أيامه التجار، وألغت الضرائب على الإنتاج، وسهلت المواصلات مع أمريكا الجنوبية. وأخذت العاصمة مجريط تستقطب الكفاءات البشرية من الولايات المختلفة. وفي عهد فليبي الخامس، انتشر العداء للكنيسة الكاثوليكية بزعامة الطبقة المتنورة من التجار وأصحاب المال، فحدّت الدولة من امتيازات الكنيسة الضخمة، وطردت اليسوعيين. ورغم ذلك شجع الملك ووزراؤه محاكم التفتيش، التي كانت تعيش آخر أيامها، على متابعة كبار القوم ومحاسبتهم على أفكارهم. وخلف فليبي الخامس ابنه كارلوس الثالث (1746 - 1790 م). وفي أيامه قامت حرب السبع سنوات (1756 - 1763 م) بين فرنسا والنمسا وروسيا والسويد والساكس من جهة، وبريطانيا وبروسيا من جهة أخرى، بسبب تنافس فرنسا وبريطانيا على الهيمنة على أوروبا والتجارة العالمية. وانتهت الحرب بمعاهدة باريز التي تنازلت بموجبها فرنسا لبريطانيا عن الهند، عدا خمس مدن منها، وكندا والضفة الشرقية لنهر المسيسيبي، وتنازلت لحليفتها إسبانيا عن الضفة الغربية للنهر مقابل تنازل إسبانيا عن فلوريدا لبريطانيا، واسترجعت إسبانيا جزيرة ميورقة من بريطانيا. وتابع كارلوس الثالث داخل البلاد سياسة سلفه، فعمم حرية التجارة سنة 1778 م، وانتعشت بسبب ذلك الموانىء، بما فيها ميناء إشبيلية بالأندلس، وتوسع نشاط ميناء برشلونة ونجح تجاره في إنشاء صناعة محلية. وقوى كارلوس الثالث سيطرة إسبانيا على مستعمراتها الأمريكية. وخلف كارلوس الثالث ابنه كارلوس الرابع (1790 - 1808 م). وكان ملكًا ضعيفًا تدهورت في أيامه أوضاع إسبانيا، وسيطر على الدولة شاب من الاسترمادورا اسمه قودوي، بسبب تدخل الملكة، فكان له أسوأ الأثر، خاصة في السياسة الخارجية. وتحالفت إسبانيا مع فرنسا إبان ثورتها سنة 1789 م، فأضاعت كثيرًا من مصالحها. ففي معاهدة "باسل" انسحبت إسبانيا من جزيرة سانتو دومنقو، وتنازلت لبريطانيا عن جزيرة ترينداد ولويزيانا. وأخذت إسبانيا تفقد استقلالها بعد بروز نابليون في فرنسا سنة 1799 م. فاحتل الفرنسيون الأشبونة، عاصمة البرتغال، ثم قطلونية ونبارة. وفي هذه الأثناء، حاول معارضو الملك كارلوس الرابع خلعه وتولية ابنه فراندو مكانه. فاكتشف كارلوس الرابع المؤامرة بينما كان الجيش الفرنسي بقيادة "مورات" يغزو البلاد.

7/ 2 - معاملة الدولة للمورسكيين:

وفي 17/ 3 / 1808 م، بينما كان الجيش الفرنسي يتقدم نحو بلدة أرانخويز الملكية، جنوب مجريط، قامت مظاهرة شعبية كبيرة وخلعت الملك كارلوس الرابع الذي كان يفكر في الفرار مع وزيره قودوي، ونصبت ابنه خلفًا له تحت اسم فراندو السابع. لم يعترف مورات، رئيس الجيش الفرنسي الغازي، بخلع كارلوس الرابع، بل أرسله هو وابنه إلى نابليون في بلدة بايون على حدود إسبانيا. الذي خلعهما ونصب أخاه جوزيف بونابارت ملكًا على إسبانيا. وفي 8/ 5 / 1808 م، ثار الإسبان ضد الجيش الفرنسي وبدؤوا حرب تحرير شعبية، فتمردت أشتورياش وأراغون وجليقية على السلطات المتعاونة مع الفرنسيين، ثم انضمت كل الولايات إلى الثورة. وتكون مجلس للثورة (كورتس) برئاسة فلوريدا بلانكا اي جوفلانوس، واجتمع في قادس بالأندلس. لم يتصرف جوزيف بونابارت وقواده بحكمة أمام هذه الثورة، بل واجهوها بالنهب والسلب والقتل، فتعطلت الإدارة، وتشتتت السلطة، وعادت إسبانيا إلى عادتها من استقلال الولايات في مواجهة العدو الغازي. وأخذ الكورتس الثوري يخطط لمستقبل إسبانيا: تحرير إسبانيا من تسلط الكنيسة مع احترام الدين، إلغاء محاكم التفتيش؛ تحديد أملاك الكنيسة الكاثوليكية؛ إعلان السيادة الوطنية؛ تفريق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ ضمان الحريات الأساسية؛ إنشاء مجلس بالانتخاب العام لمدة سنتين يوافق بالأكثرية على مشروعات الميزانية؛ إلغاء الملكية المطلقة وتعويضها بالملكية الدستورية مع حق النقض للملك؛ تنظيم الولايات. وفي 6/ 8 / 1811 م، اتخذ الكورتس الثوري قرارًا بإلغاء امتيازات النبلاء. وهكذا أدى الغزو الفرنسي إلى ثورة اجتماعية في إسبانيا غيرت طريقة تنظيم المجتمع الإسباني. وفي سنة 1814 م، نجحت الثورة بانهزام فرنسا، ورجوع فراندو بن كارلوس الرابع إلى بلنسية ثم إلى مجريط، فاستقبلته الجماهير وأعادته ملكًا على إسبانيا تحت اسم فراندو السابع. وكان أول عمل قام به هو إلغاء الإصلاحات التي تقدمت بها كورتس قادس الثورية، ومتابعة المتعاونين مع فرنسا والطبقة المتحررة والمفكرة، فأعاد إسبانيا إلى تعصبها القديم. 7/ 2 - معاملة الدولة للمورسكيين: رأينا أن طرد المسلمين من إسبانيا سنة 1609 م لم يكن جماعيًّا، خاصة في الأندلس حيث بقي معظم سكانها ذوي أصول إسلامية أندلسية، منهم من لم

يخرج أصلاً من الأندلس، ومنهم من عاد إليها بعد خروجه منها. وفي سنة 1612 م، أعفي الكوندي دي سلازار، الرجل الذي كان وراء الطرد، من مناصبه، بعد أن تمت المرحلة الأساسية من إجراءات الطرد، وأسندت القضايا المتعلقة بالمورسكيين إلى مجلس قشتالة. لكن المتطرفين عارضوا هذا القرار، خوفًا من رجوع كثير من المورسكيين أو بقاءهم دون ملاحقة. لذا أصدر الملك لائحة بتاريخ 20/ 4 / 1613 م يقول فيها: "نظرًا لعودة كثير من المورسكيين إلى هذه الممالك، وعدم خروج أحد ممن تخلفوا، وبما أني أرى من المناسب، لخدمة الله وخدمتي ولمصلحة هذه الممالك، إتمام هذه المهمة (أي طرد المورسكيين) ... فإنني قررت تكليف الكوندي دي سالازار من جديد بمتابعة كل ما يخص هذا الطرد، إلى جانب ما كان مكلفًا به". وكلف الملك الكوندي دي سالازار بحل كل القضايا المتعلقة بـ "استعجال وحسم"، كما أمر الملك السلطات المدنية بوضع هذه القضايا بين يدي سالازار، وسمح له بمراجعة التصاريح المعفية للطرد التي أعطيت لعدد من المورسكيين. واستعمل الكوندي دي سالازار السلطات التي حصل عليها من الملك أسوأ استعمال لتعصبه ضد المورسكيين وعداوته لهم، مما أدى بالملك إلى الرغبة في انتهاء الموضوع، فأصدر أمرًا بتاريخ 19/ 4 / 1614 م، وزعه دوق ليرما على نواب الملك في المقاطعات، جاء في أهم نقاطه ما يلي: "أ - لقد انتهت عملية الطرد (المورسكيين). فنظرًا لما حدث مؤخرًا في مملكة مرسية ولأسباب عدلية حدثت في لجنة الكوندي دي سالازار فإن الأمر قد وصل إلى نهايته". "ب - لتؤمر محاكم هذه الممالك وأراضي النبلاء بألا يقبل، من اليوم فصاعدًا، أي موضوع للمورسكيين قديم أو جديد، عدا ملفات الذين رجعوا منهم بعد طردهم أو سيرجعون. فهؤلاء يبحث عنهم، ويعاقبون بكل صرامة وجدية. ولتقم كل محكمة في منطقتها بالبحث عن المورسكيين العائديين. وإن اكتشفت أحدهم، فإن كان عمره يسمح له بالخدمة بالتجذيف في السن فليحكم عليه بذلك، وإن كان امرأة أو عجوزًا أو لا يصلح للخدمة في السفن لسبب آخر، يجلد 200 جلدة وتصادر أملاكه ويطرد من جديد. ويعاقب نفس العقوبة (الجلد والمصادرة والطرد) الذين يحكم عليهم بالتجذيف في السفن بعد نهاية مدة خدمتهم. وإذا ما طبقت العقوبة على أحدهم

وطرد، ثم عاد إلى هذه الممالك أو إلى أراضي النبلاء، يحكم عليه بالإعدام وتصادر أمواله، ويطبق عليه ذلك بكل جد ودون تهاون". "ج - ورغم الأمر بعدم قبول قضايا جديدة، فليطرد من البلاد الذين أنهوا عقوبتهم بعد أن حكمت عليهم المحاكم من قبل، كما يطرد من اشتهروا بأنهم مورسكيون وأدرجوا في لوائح المورسكيين، والذين خرج آباؤهم وإخوانهم ولم يخرجوا لأنهم اختفوا، لأنه لا يجوز أن يستفيد المتمردون بما لم يستفد به المطيعون". يبين هذا القرار حرص الحكومة على إنهاء موضوع الطرد والتذكير على متابعة المورسكيين الذين رجعوا بعد طردهم والمشهور بكونه موريسكي دون سواهما من الفئات. وتدل عبارة "مشهور" على حرص الحكومة الإسبانية على طرد وجهاء المورسكيين المتخلفين دون غيرهم. وفي نفس القرار، عين الملك الكوندي دي سالازار مفتشًا عامًا مكلفًا بتطبيقه. وفي 27/ 6 / 1614 م، اتصل دوق ليرما بنواب الملك، بما فيهم القائم على أراغون القديمة، يخبرهم بتوصله بأوامر الكوندي دي سالازار، ويطلب منهم البقاء على صلة وثيقة به لإنهاء موضوع طرد المورسكيين. وتجددت حملات مطاردة المورسكيين في إسبانيا، خاصة في منطقة طرطوشة بقطلونية، لدرجة أدت إلى تقديم شكوى من طرف نائب الملك إلى الملك من تصرفات الكوندي دي سالازار والماركيز دي المازان لأنهما حاولا طرد مورسكيي طرطوشة للاستيلاء على ممتلكاتهم. فأجاب الملك فليبي الثالث كاتبًا: "لقد أمرت نائب الملك بألا يزعجوا، بل يتركوا ليستفيدوا بحرية من النعمة التي أنعمتها عليهم، ولتكتبوا إلى المطران ليستقصي وضعهم ويعطي رأيه في تركهم". لا تدل الوثائق على تنفيذ حكم الإعدام على من قبض عليه من المورسكيين المتخلفين، لكن عوقبوا بما هو أصعب من الإعدام الفوري، وهو الخدمة في مناجم "المعدن" في ظروف قاسية كانت دائمًا تنتهي بالموت البطيء. وفي 6/ 2 / 1615 م، أرسل الكوندي دي سالازار رسالة إلى دوق ليرما تظهر تفكيره جليًّا، إذ قال: "وأني حريص على الحرص بأن لا نتراجع فيما قمنا به أحسن

قيام، وهو طرد المورسكيين من إسبانيا، بتركهم يرجعون إليها، لذا أقوم بالإمكانيات البسيطة التي بقيت لي على تتميم هذا العمل تتميمًا جيدًا ... فلقد كلمت نائب الملك في أراغون في أهمية طرد مورسكيي طركونة ... وكذلك مورسكيي جزيرة ميورقة والذين التحقوا بهم من مملكة مرسية ومناطق أخرى بما مجموعه ستون بيتًا ... ومورسكيي جزيرة سردانية ... وكناريا. أرجو من معاليكم أن تأمروا بتطبيق القرار الذي اتخذه". وفي 24/ 9 / 1616 م، كتب دوق ليرما إلى نواب الملك في مملكة أراغون يأمرهم بطرد ما تبقى من المورسكيين بالاتصال بالكوندي دي سلازار: "حتى تبقى جميع هذه الممالك نظيفة من هؤلاء الناس كما يجب". وخلف فليبي الثالث ابنه فليبي الرابع (1621 - 1665 م)، فلم يهتم بموضوع المورسكيين كثيرًا. وفي 22/ 10 / 1621 م، توصل مجلس أراغون بتقرير أرسله إلى الملك بدرو آلوس، مفتش الأملاك الملكية في قطلونية وتوابعها، اشتكى فيه آلوس للملك من وجود أعداد كبيرة من المورسكيين في كل ممالك أراغون، بلنسية وأراغون القديمة وقطلونية: بعضهم لم يخرج أصلاً، والبعض رجع، وأنهم يعيشون في سلام وطمأنينة، تحميهم شخصيات كثيرة ذات نفوذ، "مما يضر بجلالتكم ويضر بممتلكاتكم التي يقدر ثمنها بأكثر من مائتي ألف دوقة ذهبية، معظمها على شكل أموال جارية يصلح استعمالها من طرف جلالتكم في الحملات العسكرية. وحيث يوجد هؤلاء المورسكيون بأعداد كبيرة، يكون من الأفضل استخدامهم في التجذيف على السفن، فتنتهي بذلك البطالة بين الأهالي (النصارى) الذين يدافعون عنهم لمصلحتهم، إذ يعمل المورسكيون في الزراعة ويتركونهم (أي النصارى) يقومون بأعمال أخرى". كما ادعى آلوس أن لهؤلاء المورسكيين علاقات وثيقة بالأتراك والمغاربة. ولم يأبه فليبي الرابع بهذه الشكوى ولا بغيرها من الشكاوي التي قدمت إليه في هذا الشأن. وكان يعتقد، هو وحاشيته، أن قرار الطرد كان خاطئًا ومضرًّا بإسبانيا، فاتسم بالواقعية، ولم يعد يرى فيمن تخلف من المورسكيين أي خطر يستحق الذكر. وساد الكورتس نفس الشعور، إذ أعلن سنة 1623 م بأنه "ارتكبت عدة تجاوزات بحجة عودة بعض المورسكيين؛ لذا يرجى من صاحب الجلالة بأن يأمر بألا يعاد إلى ارتكاب هذه الأمور من الآن فصاعدًا، وأن تنتهي كل التحقيقات التي لا زالت متعلقة

بهذه المواضيع، ولا تقبل أية شكاوي جديدة لا بشأن الموجودين الآن في هذه الممالك ولا بشأن من يقال إنهم رجعوا، باستثناء الذين يعيشون أقل من عشرة فراسخ من موانىء البحر". وكتب الملك مجيبًا على هامش هذا الطلب: "ليس من المناسب أن يتم هذا بقانون. وأمر صاحب الجلالة المجلس بأن يكتب رسائل للولاة يطالبونهم بالتساهل في هذه الأمور". وفي سنة 1624 م، ألح مجلس الكورتس على نفس الطلب، فأجاب الملك مرة أخرى بأنه من غير المناسب إجراء قانون خاص بهذا الموضوع، ولكن الأنسب أن تُأمر المحاكم بعدم قبول اتهامات جديدة في شأن المورسكيين، وبأن تتابع المتهمين لا كمورسكيين ولكن كمتسكعين. وركز الوشاة بصفة خاصة على أهالي منطقة قلعة رباح التي تعد تابعة للأندلس الطبيعية. وقد عاد إلى هذه المنطقة معظم المورسكيين الذين هجروا منها، غير عابثين بالعقوبات القاسية التي تهددتهم، ومنهم من رفع قضايا أمام المحاكم محتجين بالامتيازات التي مُنحوها في السابق. ففي عام 1625 م، تقدم بدرو دي جبينس، عن نفسه وعن جماعة من مورسكيي منطقة قلعة رباح، برسالة إلى الملك يشتكي فيها من طريقة طرده وتجريده من ممتلكاته دون سماع ما عساه أن يقول، ودون إعطائه الوقت الكافي للدفاع عن نفسه. وجاء في الرسالة: "وأخيرًا، يا صاحب الجلالة، أمرتم في رسالتكم من مجريط بتاريخ 25/ 6 / 1624 م بعدم طرد المتأصلين من المدن الخمسة (التابعة لقلعة رباح) لأنهم من سلالة أشخاص منحوا امتيازات خاصة. وعوضًا عن أن تنفذ لهم تلك الامتيازات، فإنهم يُشتمون ويُسخر منهم وتُلغى شهاداتهم بحجة أنهم طردوا فحُسبوا ممن شملهم أمر الطرد، كل ذلك بهدف إهانتهم". ثم طلب بدرو دي جبينس من الملك في الرسالة إعادة امتيازاته وامتيازات من وكله من المورسكيين، وقبولهم في الوظائف العامة دون تحيز، كما نبه جبينس الملك بأن عددًا كبيرًا من مورسكيي قلعة رباح يخدم في الجيش: "ويوجد الآن منهم في المليشيات عدد كبير، كقبطان الفلاندرس دييكو لوبيز صارميانتو وأخيه القبطان ألونسو، ومن بينهم خمسون عسكريًّا (أي من مورسكيي قلعة رباح)، ومنهم قساوسة وقانونيون وراهبات حافيات". وأعطى مجلس قشتالة، التي تتبعها منطقة قلعة رباح، بعد دراسة هذه الشكوى، رأيه كالتالي: "نظرًا لقلة سكان تلك الممالك، يرجى من صاحب الجلالة أن يُبقي

على الامتيازات التي أعطيت للنصارى الجدد (أي المورسكيين) الذين يسكنونها". وصدرت موافقة ملكية بذلك، ولم يعد أحد يزعج مورسكيي قلعة رباح. وفي سنة 1625 م، نشرت بلدية إشبيلية تقريرًا حول مسلمي منطقتها، الأحرار والعبيد. يشير التقرير إلى وجود "عدد كبير" من المسلمين والمسلمات الذين انتقلوا إلى داخل البلاد حيث منعوا من الإقامة على الشواطىء، وأنهم يجتمعون في جماعات عديدة ويعيشون في المزارع المجاورة لإشبيلية، ويتجرون بالمواد التي تحتاج إليها المدينة. ويتهم التقرير المورسكيين بسرقة الأطفال لتعليمهم العقيدة الإسلامية، ويقول إنه توجد في إشبيلية أعداد كبيرة من المورسكيين الأحرار الذين اندمجوا بين أهاليها دون أن يزعجهم أحد. وفعلاً تركزت سياسة الحكومة حينذاك على عدم إزعاج المورسكيين. ففي سنة 1626 م، صدر بيان واضح بذلك في مجريط يقول: "لقد صدر من المجلس الملكي في الأيام الأخيرة قرار يأمر بأن لا يتجرأ أحد على الإساءة للمورسكيين الذين بقوا في البلاد وأن لا يسبب لهم أي ضرر ما داموا يعيشون في مناطق تبعد عشرين فرسخًا عن السواحل البحرية". وفي سنة 1626 م، اشتكى فرانسسكو مالدونادو، وهو مسؤول في غرناطة، من كثرة العبيد المسلمين في غرناطة قائلاً: "إنه من المزعج جدًّا ترك هذا العدد الكبير من المسلمين في الأندلس، ومنهم من هو منصر، وكلهم "كرتادو" (أي عبيد يعملون بحرية ويدفعون مغرمًا دوريًّا لأسيادهم)، ويدفعون أجورًا (لأسيادهم)، ويقومون بأعمال البلدة الدنيئة كنقل القمح والخمر، والإتيان بكراسي الجلوس، وكحمالين، والاتجار بالأشياء الصغيرة، كلها أعمال تأتي بمال كثير دون جهد كبير. وهم لا يعملون في الحقول، ولا يربون المواشي، وهي أعمال تحتاج أيدي عاملة كثيرة. وهذا يجعلهم يحصلون على مكاسب كبيرة تمكنهم في ظرف سنين قليلة من عتق أنفسهم بما لا يزيد عن 200 دوقة، ويتركون قدرًا يسيرًا لكي لا يطردوا حسب القانون". وقد نبّه التقرير بأن المشكلة كبيرة بصفة خاصة في بلدة لوشة (مقاطعة غرناطة) مما جعل الكورتس يوافق على إخراج العبيد المسلمين المحررين من لوشة. وفي سنة 1628 م، عندما لخصت كالعادة الشروط المطلوبة لتأجيل دفع الضرائب، اشترط على منطقة الأندلس بأن لا يكون فيها مسلمون "كورتادو"، منصرين كانوا أم لا. ولكن لم تأخذ الأندلس هذا الشرط بعين الاعتبار.

7/ 3 - معاملة محاكم التفتيش:

ولم تنس الدولة الإسبانية موضوع المورسكيين نهائيًّا رغم القرار المذكور أعلاه. ففي سنة 1634 م، كتب المسمى "خيرومينو مدينة" تقريرًا عن زيارته لمنطقة مرسية، قال فيه بأن مدن وقرى مرج مرسية مليئة بالمورسكيين، وأن لهم اتصالاً بمورسكيي مملكة بلنسية، خاصة في بلدة جزيرة شقر. وكتب ماركيز دي بلش، نائب الملك في مرسية، تقريرًا آخر يفرق فيه بين مورسكيي مرسية الذين "لم يعد منهم أحد" ومورسكيي وادي رقوط الذين ذهبوا إلى فرنسا وإيطاليا حين الطرد دون أراضي المسلمين وعادوا، لأنهم في الحقيقة نصارى وإن كان "آباؤهم تزوجوا بمسلمات"، وبعد قرار سنة 1626 م بعدم متابعة المورسكيين، أعيدت لهم أموالهم التي أخذت منهم. ويطلب التقرير من الملك عدم الانتباه إلى تقرير خيرومينو مدينة وترك مورسكيي وادي رقوط على حالهم. فوافق مجلس الدولة على الطلب، وقال إنه يكفي أن يطلب مطران قرطاجنة (ميناء مملكة مرسية) بمراقبة هؤلاء المورسكيين والتأكد من أنهم يعيشون كنصارى. فوافق الملك ولم يعد أحد يزعج مورسكيي منطقة مرسية. وفي 20/ 9 / 1712 م، كان آخر قرار اتخذه مجلس الدولة الإسباني ضد المورسكيين يأمر فيه "بطرد المسلمين الكورتادو الفوري" إلى شمال إفريقيا. لكن لم يطبق القرار إلا في بعض المناطق المحدودة، حيث حدد لهم القضاة المحليون مواعيد ترحيلهم وسمحوا لهم باصطحاب أسرهم وأموالهم. 7/ 3 - معاملة محاكم التفتيش: لم تعد محاكم التفتيش تهتم بملاحقة المسلمين بعد سنة 1609 م بنفس الدرجة التي كانت عليها قبلها، بعد أن استخلصت جميع أموالهم وأنزلتهم إلى أدنى مستوى من الفقر. فلم تعد للكنيسة، ولا لقضاة محاكم التفتيش، مصلحة مالية من ملاحقة المسلمين، لذا تحولت إلى المتأصلين من اليهود الذين لا زالت بأيديهم أموال طائلة. ورغم ذلك، قدمت لمحاكم التفتيش أعداد كبيرة من المسلمين، في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ففي سنة 1616 م، طلب ممثل محاكم تفتيش بلنسية في دانية تعليمات حول معاقبة المورسكيين المستعبدين الذين يخططون الفرار إلى بلاد المسلمين بشمال إفريقيا.

وفي سنة 1620 م، حكمت محكمة التفتيش في طليطلة على المورسكية أنا مارية دي ريكاس بتهمة تعاطي السحر. وفي سنة 1625 م، اتهمت المحكمة بالسحر كذلك المورسكية إيناس نارناخو في طليطلة. وفي 3/ 10 / 1625 م، أخرجت محكمة التفتيش من سجن إشبيلية الملكي مورسكيًّا محكومًا عليه بالإعدام، فألبسه راهبان يسوعيان ألبسة فاخرة واصطحباه إلى الساحة العامة حيث عمدوه بمحضر جمع غفير من المتفرجين، ثم أعدماه شنقًا. وفي 17/ 11 / 1625 م، حكمت المحكمة على مورسكي مستعبد، اسمه دومنغو بيسنتي، بمائتي جلدة ثم الخدمة أربع سنوات في السفن ثم السجن المؤبد. وذلك لأنه ألصق ملصقًا على باب كنيسة في إشبيلية كتب عليه "عاش موسى وعاشت شريعته، كل ما سواهما جنون". وتعطي محاكمة محاكم التفتيش في كونكة للمورسكي دييكو دياس سنة 1633 م، فكرة عن معاملتها للمورسكيين الذين بقوا في إسبانيا بعد سنة 1609 م. كان دييكو دياس جزارًا في بلدة بلمونتي (مقاطعة كونكة) وكان متزوجًا بمورسكية اسمها ماريا دل قشتيليو. قدم دياس لمحكمة التفتيش نتيجة شكوى خادمته التي اتهمته بما يلي: يطبخ غداءه بالزيت عوضًا عن شحم الخنزير؛ ويأكل اللحم أيام الجمعة بدون سبب وجيه؛ لا يذهب للكنيسة، لا هو ولا زوجه؛ ولا يعلمان الديانة النصرانية لأولادهما؛ ويغسلان أيام الجمعة ويلبسان ملابس فاخرة؛ ويأوي إلى بيتهما مورسكيو مرسية، من بغالين وغيرهم، فيتكلمان معهم باللغة العربية ويقفلان عليهم الغرفة الساعات الطوال. ودافع دييكو دياس عن نفسه مبتدئًا بعرض قصة حياته. ولد دييكو دياس سنة 1592 م في بلدة دايميال (مقاطعة قلعة رباح) من أبوين مدجنين. وكان عمره 17 سنة عند قرار الطرد، فانتقل مع والديه إلى فرنسا، ثم عاد إلى دايميال. فقبضت عليه السلطات ونقلته إلى قرطاجنة (مقاطعة مرسية) حيث سجنته لمدة شهرين، ثم نفته إلى الجزائر. وفي الجزائر أجروا له الختان، وألبسوه اللباس اللائق، وجعلوه يعمل في الميناء مع موركسيين آخرين من طليطلة وغرناطة. وبعد شهور في الجزائر ركب دييكو في سفينة صيد لمسلمين أراغونيين نقلته إلى شاطىء قطلونية، قرب طرطوشة. ومنها سافر إلى سرقسطة ثم إلى مدينة أبنيون بفرنسا للبحث عن أبيه وأخوته. وحينما لم يعثر على أثرهم، رجع إلى إسبانيا، واستقر في بلنسية حيث تعلم مهنة الجزارة. ثم

سكن عدة مدن، منها أريولة (مقاطعة لقنت) ومنزنارس (مقاطعة قلعة رباح) وموتة دل كوربو (مقاطعة كونكة)، وأخيرًا استقر في بلمونتي (مقاطعة كونكة) حيث فتح فندقًا، وبها قبض عليه. وعندما سألت المحكمة دييكو دياس: "هل لك أعداء؟ "، أجاب: "ربما مارية هرناندس التي كانت تعمل خادمة في بيتي، فطردتها لأنها دخلت البيت سكرانة، وكذلك رجل اسمه أنطونيو مالو وزوجه ماريا دي لاغونا، لهما فندق ينافسونني في مهنتي به". وادعى دياس أنه لا يتكلم اللغة العربية، بل كان يتكلم اللغة البلنسية التي تعلمها إبان إقامته في مملكة بلنسية. ثم ركز قضاة محكمة التفتيش على موضوع ختانه في الجزائر، وهل كان ذلك بمحض إرادته أم كان مجبرًا عليه. واحتج محامي دياس بأن الدعوى غير كاملة لغياب الشهود الرئيسيين. فلم يعثر على أثر لأنطونيو مالو ولا لزوجه ولا يعرف أين ذهبا، ويستغرب المحامي كيف يصعب العثور عليهما. كما لم تعثر المحكمة على الخادمة رغم علاقتها بالشاهدين الآخرين اللذين كانت تعمل عندهما. لكن القاضي احتج بشكه في أن المتهم من "طبقة المسلمين الذين يحتفظون في قلوبهم سرًّا بدين محمد لذا طردوا من إسبانيا"، وقدم خمسة شهود يشهدون ضد المتهم بأنهم رأوه، خاصة سنة 1632 م، يأكل اللحم في الأيام الممنوعة خاصة وكذلك "السمك والجبن وأشياء أخرى مضرة بالصحة". فأتى المتهم بعدة شهود آخرين شهدوا له بأنه لم يأكل اللحم إلا بنصيحة الطبيب لضعف كان به، وشهد له الطبيب باسكس بذلك. وشهد أربعة شهود آخرون بأن المتهمين الثلاثة، أنطونيو مالو وزوجه والخادمة، هم أعداء لدياس، يغار منه الأولان لنجاحه في مهنته، وتحقد عليه الثالثة لأنه طردها من بيته. أما تهمة دياس بعدم حضور الكنيسة أيام الأعياد، فقد شهد له البعض بأنه يحضر على عكس ما اتهم به. أما عدم أكله للخنزير، فلم يتهمه بذلك سوى الخادمة التي عاشت في بيته سبعة شهور. أما عدم تعليمه الدين النصراني لأبنائه، فقد تقدمت ابنة له عمرها ست سنوات للمحكمة، وتلت على القضاة الدعوات النصرانية. وأما ارتياده اللباس النظيف أيام الجمعة وغسله، فقال دياس إنه يعمل قصابًا، ويوم الجمعة هو يوم عطلة القصابين (لأن البابا كان قد حرم على النصارى أكل اللحم أيام الجمعة وقد أزيل هذا التحريم مؤخرًا)، لذا فمن الطبيعي أن يغتسل ويلبس لباسًا حسنًا يوم

عطلته. لكن المحكمة قالت إن الخادمة اتهمت كل أهل بيت دياس بالنظافة وارتداء فاخر الثياب أيام الجمعة وليس دياس بمفرده. فركزت المحكمة على موضوع ختانه في الجزائر. فادعى المتهم أنه أجبر على ذلك. فأجابه القاضي بأن المسلمين لا يرغمون أحدًا على اتباع دينهم ولا يرغمون أحدًا على الختان، ولذلك فالختان برهان على ترك دين النصارى والانضمام إلى دين المسلمين. ولكن تقدم عدد من الشهود لصالح دياس، يشهدون أنه رجل صالح يوزع الصدقات من ماله الخاص على الفقراء، وبعامل جميع الناس معاملة طيبة. وفي أواخر سنة 1634 م، انتهت المحاكمة ببراءة دييكو دياس شرط أن يستغفر علنًا عن ذنب الختان في الجزائر. ويبين هذا المثال أن محاكم التفتيش في القرن السابع عشر تعبت من ملاحقة المورسكيين، خاصة عندما لا يكون للمتهم مال يمكن مصادرته. كما يبين المثال أساليب التقية التي اتبعها المورسكيون للحفاظ على هويتهم، ومدى المساندة التي يحصلون عليها من طرف جم غفير من الشهود مما يدل على أن الكثير منهم من أصول مورسكية. وتجدر الإشارة في هذا المثال إلى أن منطقتي بلمونتي ودايميال هما من المناطق التي مكث فيها المسلمون بعد الطرد، والتي لا زال يشعر أهلها إلى اليوم بالانتماء الأندلسي. ورغم ذلك، لم تقتنع محاكم التفتيش بالكف نهائيًّا عن متابعة المسلمين. ففي سنة 1667 م، حكمت محكمة بلدة المعدن على مورسكي بالجلد لأنه سخر من القداس. وفي سنة 1680 م، أحرق رجل من قادس حيًّا في "أوتودافي" رهيب بمجريط لاتهامه بالارتداد عن النصرانية واعتناق الإسلام ومساعدة مجاهدي البحر. وفي سنة 1689 م، تابعت محكمة قرطبة عدة مسلمين مستعبدين هم: اسكرمان وحميد وعثمان ومنساوس وبلقاش ومحمد وحميد آخر. وكلهم من سكان قرطبة، تزوجوا بها ولهم أبناء وأحفاد. وشهد لهم الدفاع أنهم يعيشون عيشة طيبة، لم يزعجوا أحدًا قط. ورغم ذلك حكمت المحكمة بإخراجهم من المدينة مع عدد آخر من الذين اتهموا بالإسلام، دون أن يُعطَوا الوقت الكافي لجمع أغراضهم ولا للدفاع عن أنفسهم. وقصت المحكمة حياة كل واحد منهم: فاسكرمان وحميد الأول هم من سلالة قبيلة الخفة التابعة لمستعمرة وهران (بالجزائر اليوم) الإسبانية، وقد ولد اسكرمان في الأندلس في بلدة بلاي (مقاطعة قرطبة) وتزوج بها وله ولدان وعدة

حفدة. أما بلقاش وحميد الثاني فهما من سلالة قبيلة ريان السفلية التابعة كذلك لوهران. وفي 11/ 1 / 1689 م، تدخلت محكمة غرناطة إلى سلطات قرطبة القضائية تطلب منها إلغاء حكم نفيهم. وقبضت محاكم التفتيش طوال القرن السابع عشر على ما لا يقل عن 177 نصراني قديم، اعتنق الإسلام وهاجر إلى بلاد المسلمين، ثم رجع لمحاربة إسبانيا. وهذا يعني أن حوالي 35.000 إسباني من أصول غير إسلامية هاجروا إلى بلاد المسلمين طيلة هذا القرن واعتنقوا الإسلام. وقد أجبرت محاكم التفتيش في أوروبا كلها كل من قبضت عليه منهم على الرجوع إلى النصرانية بعد أن طبقت عليه أنواع التعذيب والأحكام الجائرة المعتادة من سجن وخدمة في التجذيف بالمراكب ومصادرة الأملاك. وحرقت بالنار كل من رفض منهم الرجوع إلى النصرانية. ورغم اتهام محاكم التفتيش للمورسكيين بتزوير صفائح الرصاص التي وجدت بغرناطة، ظل دون بدرو دي كاستور، مطران غرناطة يخرج "الأرواح الشريرة" من أجسام المصروعين وبيمينه صفيحة من الصفائح الرصاصية وهو يقول باللغة العربية: "لا إله إلا الله عيسى روح الله"، وأصبح المكان الذي اكتشفت فيه الصفائح مزارًا يتبرك به أهل غرناطة حتى بعد وفاة المطران سنة 1623 م. ورأت الكنيسة الكاثوليكية في شعبية هذه الصفائح مؤامرة إسلامية فحاربتها. وفي سنة 1682 م، أمر البابا إينوسانتي الحادي عشر بإحضار الصفائح إلى روما. فقبل البابا الصفائح المكتوبة باللغة اللاتينية، لكنه أعلن أن الصفائح المكتوبة باللغة العربية "مكذوبة ومزورة للقضاء على العقيدة الكاثوليكية ... لأن بها كثير من الأشياء المستوحاة من المعتقدات المحمدية المأخوذة من القرآن والكتب المحمدية الأخرى الزائفة (كذا) ". ورغم كل ذلك فقد نشر رهبان كلية ساكرو مونتي بغرناطة سنة 1741 م ترجمة حياة المطران دون بدرو دي كاسترو، وعظموا نشاطه، ولم يزيفوا الصفائح المكتوبة باللغة العربية بل ذكروا فقط أنها محرمة. وظلت محاكم التفتيش تتابع المسلمين في القرن الثامن عشر. فقد ذكر سونيبورن، الرحالة الإنكليزي، أن في سنة 1724 م تابعت محاكم التفتيش "بقايا الأمة الأندلسية" وطردت منهم جماعة.

ونقل تاوسند، رحالة إنكليزي آخر، أن في سنة 1726 م حاكمت محاكم التفتيش 360 عائلة غرناطية، أي ما لا يقل عن 1800 شخص، بتهمة اتباع الإسلام سرًّا. وتدل هذه الأعداد الضخمة على وجود كثيف للمسلمين في العواصم الأندلسية في القرن الثامن عشر. ونقل كاتب إسباني أخبار محاكمة أخرى وقعت في غرناطة سنة 1727 م، حيث إنه اشترى منزلاً كبيرًا في حي "مدخل هدره" كانت محكمة التفتيش قد صادرته من عائلة "أرندا" المورسكية الغنية، وهي من "بقايا النصارى الجدد الذين تابعوا تشبثهم بدينهم الخاطىء". وأعطى الكاتب وصفًا دقيقًا للبيت، منه وجود صورة للعذراء على رأس الدرج، وكان هذا شعارًا سريًّا بين المسلمين للتعرف على بعضهم البعض. وفي 9/ 5 / 1728 م، احتفلت غرناطة بـ "أوتودافي" ضخم في كنيسة "مرسداريوس"، حيث حكمت محكمة التفتيش على 46 مورسكيًّا، 35 امرأة و 11 رجلاً، بالتوفيق بتهمة "الانتماء إلى الإسلام". منهم نقولا دياس (67 سنة) صباغ، وفرانسسكو فرناندس دي قبارة (20 سنة) موظف، ووالده ايزيدور (53 سنة) كاتب، وأخوه خوان (21 سنة) طالب في كلية الحقوق، ووالدته سرافينة انريكز لارا التي حوكمت مع ستة من أخواتها بتهمة الإسلام، كان لاثنتين منهما أجيلا (30 سنة) وإيسابيلا (35 سنة) دكانًا في ساحة باب الرملة من غرناطة. أما المتهمون الآخرون فهم لورنسو فلبي دي مندوسة (46 سنة) مدير شؤون الأملاك الملكية، وقد عوقب بأشد عقوبة، وكارلوس دي مندوسة (51 سنة) صائغ ويصنع صورًا من الفخار، وبدرو اسطبان (27 سنة) تاجر حرير، وجبرائيل تشابيس (31 سنة) تاجر حرير، وكريكوريو مارشينة (53 سنة) صباغ، وجوزف قومس دل قشتيليو (40 سنة) تاجر، وكريستوبال خمينس (50 سنة) صباغ. وتبرهن لائحة المتهمين هاته على انتشار الإسلام سرًّا في القرن الثامن عشر بين أوساط الطبقة الوسطى من المجتمع الغرناطي، من صناع وتجار وموظفين وأصحاب مهن حرة، رغم القتل والسبي والطرد والتهجير والتشريد والمصادرات المتواصلة التي كانوا ضحيتها لما يقرب من القرنين والنصف. وأصبحت بعض الأسماء الإسبانية كاسم "مندوسة" شعارًا للعائلات المسلمة.

7/ 4 - مؤامرات وثورات:

وتنتمي النساء المتهمات بالإسلام في هذه المحاكمة إلى مجموعات عائلية مترابطة: المجموعة الأولى مكونة من أخوات أنريكز لارا السبعة؛ والمجموعة الثانية مكونة من الأخوات دياس الأربعة، إحداهن كابريلة كانت زوجة للورنسو فليبي دي مندوسة؛ والمجموعة الثالثة مكونة من الأخوات بويرتا وهن أنطونيا وإيسابيلا وبترونيلا وآنا مارية. وكانت معظم النسوة سيدات بيت لا تعملن خارج بيوتهن. غير أن لبعضهن الآخر نشاط مهني: فمارية بوهوركز (70 سنة) كانت صيدلية، ومنويلا أنطونيا الفارس (58 سنة) كانت حرارة، وكذلك أنطونيا دي لا بويرتا (57 سنة)، ومارية دي كويباس (60 سنة)، وأنا مارية دي لا بويرتا (55 سنة) كانت خياطة، وروزا دي سييرا (48 سنة) كانت صباغة، وليونور الفارس (60 سنة) كانت صاحبة دكان توابل، وكانت خاسنتا فرنندس صاحبة دكان ألبسة. وتدل مهن النساء والرجال هذه، كصناعة الحرير ومشتقاتها من صباغة وخياطة وكالصياغة، على استمرارية الوجود الإسلامي في الأندلس رغم طرد سنة 1609 م، لأنها كانت المهن التي اختص بها المسلمون. وقد ألبست محكمة التفتيش المتهمين "السانبنيتو"، وطافت بهم في شوارع غرناطة. وكان المورسكيون يعدون، على عكس النصارى، الحكم بلبس السانبنيتو شرفًا يدل على ثباتهم على الإسلام وتمسكهم به، وكان لابسوه منهم موضع اعتزاز وافتخار بين قومهم وأهلهم. وفي 10/ 10 / 1728 م، حكمت محكمة غرناطة مرة أخرى على ثمانية وعشرين شخصًا بتهمة الانتماء إلى الإسلام، وصادرت أموالهم بكميات كبيرة لدرجة جوزي معها المخبر براتب سنوي قدره مائة دوقة. وتابعت محاكم التفتيش في غرناطة القبض على المتهمين بالإسلام إلى أن طلبت بلدة غرناطة سنة 1729 م من الملك طرد كل المورسكيين المحكوم عليهم خارج إسبانيا حتى تبقى المملكة نقية من هذا "الدم الفاسد". وفي سنة 1769 م، تلقى ديوان التفتيش معلومات عن وجود مسجد سري في مدينة قرطاجنة (مقاطعة مرسية) مما يدل على وجود تنظيمات سرية للمسلمين إلى هذا التاريخ. 7/ 4 - مؤامرات وثورات: من دلالات استمرارية الوجود الإسلامي بكثافة في إسبانيا بعد طرد سنة 1609 م، استمرار الأمل عند كثير من أهل الأندلس في الثورة والاستقلال ومحاولتهم الحصول

على السند من الخارج من أجل ذلك. وكانت تقوم معظم هذه المحاولات في الجنوب الذي حافظ على اسم الأندلس إلى اليوم، والذي ظل المسلمون به أكثرية مضطهدة أجبرت على التنصير، وبقيت ذكراها الجماعية قائمة. وسنعرض فيما يلي ثلاثة أحداث وقعت في إسبانيا في القرن السابع عشر الميلادي. ففي 9/ 2 / 1624 م، تقدم مجلس الدولة بتقرير عن مدينة غرناطة يخبر فيه أن بها أسرتين، كويار ومدريد، لهما وضع اقتصادي جيد لاحتكار أفرادهما صناعة الحرير، والجميع يعرف أن العائلتين مورسكيتين. وقد اتهم أفرادهما، بسبب الحسد والمنافسة، أمام محاكم الجرائم بأن لديهم علاقات مع مسلمي شمال إفريقيا ويتآمرون معهم ضد الدولة الإسبانية. فأمر القاضي بتفتيش منازلهم، فلم يجد شيئًا يشتبه فيه سوى خريطة لمملكة غرناطة. وأخبر قاضي غرناطة بكل ذلك قاضي مجريط الذي اعتبر الاتهامات مجردة من أي دليل وأمر وزارة المالية بتفضيل المؤجرين. انتشرت المجاعات في عصر فليبي الرابع، وعمت الدولة الفوضى، وثارت الولايات. ففي سنة 1640 م، انفصلت البرتغال عن إسبانيا بعد أن توحدت معها أثر معركة وادي المخازن، وأعلن دوق دي براغانسا نفسه ملكًا عليها. وفي سنة 1648 م، نشبت ثورات ضد الدولة في أراغون. وفي نفس الوقت، قلت كميات الفضة المرسلة إلى إسبانيا من أمريكا الجنوبية، فجفت صناديق الدولة من المال، وضعفت إمكاناتها. وأدت هذه الأحداث إلى أوضاع لا تطاق، خاصة في الأندلس، حيث سيطرت الكنيسة وبعض العائلات الغنية الوافدة من الشمال على خيراتها، بينما أصبحت جماهير المنحدرين من أصول إسلامية تعيش حياة الجوع والمرض. وقد شجع انفصال البرتغال الأندلسيين على محاولة تحرير أنفسهم من سلطة قشتالة وعلى الثورة. فقامت مظاهرات في إشبيلية تنادي: "عاش الملك دون خوان (ملك البرتغال المنفصل)، وليسقط الملك فليبي الرابع (ملك إسبانيا) وحكومته السيئة". كان لملك البرتغال المنفصل علاقة وثيقة بالأندلسيين، إذ تزوج بدونيا لويزا بيريز دي عثمان، وهي امرأة أندلسية عريقة، أخت الدون ألونسو بيريز دي عثمان، دوق مدينة شذونة، القائد العام للأسطول الإسباني في المحيط الأطلسي والشواطىء الأندلسية. ففكر الدوق في تحرير الأندلس وإعلان نفسه ملكًا عليها، وذلك بتشجيع من أخته وبمساندة صديقه ماركيز أيامونتي، وهو أندلسي عريق كذلك.

كانت لدوق مدينة شذونة، الذي عينه ملك إسبانيا حاكمًا عسكريًّا للأندلس، علاقات وثيقة بحكومة البرتغال الجديدة وملكها زوج أخته وبفرنسا وبريطانيا وهولاندا الذين وعدوه جميعًا بالمساندة. كما كان يملك أراض شاسعة بمنطقة شلوقة غرب قادس، وكان له ثروة هائلة وأتباع مسلحون كثيرون. واتصل دوق مدينة شذونة وماركيز أيامونتي بملك البرتغال عن طريق الراهب نقولا دي بلاسكو، الذي كان موضع ثقة لدى ملك البرتغال. وكان سانشه، خادمه، الواسطة بينه وبين نبلاء الأندلس. اتصل المتآمرون بأمير مورسكي من ذرية سلطان غرناطة أبي عبد الله الأيسر الذي حكم البلاد بين سنتي 820 و 845 هـ عدا حقبتين قصيرتين بين سنتي 831 هـ و 833 هـ وبين سنتي 835 هـ و 836 هـ. وكان هذا الأمير يسكن جبال قادور، شمال مدينة المرية، فانضم إلى الثورة تحت اسم طاهر الحر، وأعلن نفسه ملكًا على شرق الأندلس. فسانده دوق مدينة شذونة، ووعده أندلسيو المغرب بإرسال جيش منهم لمساندة الثورة الأندلسية. ويظهر من علاقة دوق مدينة شذونة وأندلسيي الرباط في تلك الفترة، أنه كان يأمل في مساندتهم لمشروعه. وفعلاً اتبع دوق مدينة شذونة سياسة والده في الدفاع عن أندلسيي الرباط كلما ضاق بهم الأمر، وكان يبرر مساندته، تقية، أمام ملك إسبانيا بأنهم نصارى في الخفاء. وفي 21/ 4 / 1641 م سيطر الدلائيون على قصبة الرباط، فضاعت المبادرة من يد الأندلسيين، لكن زعماءهم ظلوا على اتصال بزعماء الثورة بالأندلس. لم يكتب لهذا المشروع النجاح بسبب خيانة سانجه، خادم الراهب نقولا بلاسكو. فمرة طلب سانجه من الملك خوان، ملك البرتغال، الإذن بالذهاب إلى إشبيلية للانضمام إلى الثورة، والاتصال بدوق مدينة شذونة ليسلم له أخبارًا هامة. لكن، عوضًا عن إشبيلية، اتجه سانجه إلى مجريط، وسلم المراسلات التي لديه إلى كوندي ودوق أليبارس، وزير الملك فليبي الرابع المتصرف في الدولة آنذاك. وعند اكتشاف المؤامرة، أخبر الوزير الملك، وأمر دوق مدينة شذونة بالقدوم إلى القصر الملكي. لكن دوق مدينة شذونة اعتذر عن القدوم بحجة توعك صحته. فأمر الوزير حينذاك ماركيز أيامونتي بالقدوم إلى مجريط. فاستجاب الماركيز، لكن الوزير أمر بقبضه في الطريق إليها، فقبض عليه في ضواحي قرطبة وسجن في قلعة منتية.

وعندما أيقن الوزير أن ماركيز أيامونتي أصبح بيده، أرسل أمرًا بتاريخ 4/ 9 / 1641 م بالقبض على دوق مدينة شذونة. فلما علم الدوق بالأمر، اختار الذهاب بنفسه إلى مجريط لتحاشي ما هو أعظم. فاستقبله الوزير أليبارس مع ماركيز أيامونتي، واستنطقهما، ثم استجوبهما مجلس الشورى الملكي. فأمر الملك بإعطاء مكافآت لمن فضحوا المؤامرة، وحكم على ماركيز أيامونتي بالإعدام، فأعدم في قصر سقوبية. أما دوق مدينة شذونة، بسبب علاقاته الدولية ولكونه سلم نفسه، أنقذت حياته وحكم عليه بمصادرة أملاكه في شلوقة وإعلان توبته والكتابة ضد مسانده، ملك البرتغال. فبقي طاهر الحر وحده في الثورة. فاتجه إلى منطقة أشتبونة لاستقبال القوات الأندلسية من المغرب. لكن الوزير أليبارس أرسل من يقتله غيلة في منطقة أشتبونة. وهكذا أنهت آخر محاولة أندلسية في التحرير، والجدير بالذكر أن علم طاهر الحر ودوق مدينة شذونة هو الآن علم منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي. لم تستقر الأوضاع بالأندلس بعد القضاء على حركة طاهر الحر. فانتشرت بعد ذلك عبر مدن الأندلس وقراها المناشير التي تشتم الملك فليبي الرابع وتحث الأندلسيين على الثورة. ومنذ سنة 1644 م، أخذت العامة تتعرض لقوافل الفضة القادمة من ميناء إشبيلية إلى مجريط، وتوزع حمولاتها على الفقراء، كما حدث في أستجة سنة 1645 م، وفي غيرها. وفي سنة 1647 م، وقعت حوادث خطيرة في الحامة واليسانة وأردالس في منطقة الأندلس، كما وقعت مظاهرات احتجاج في غرناطة سنة 1648 م. وفي يونيو سنة 1650 م، اكتشفت الحكومة مؤامرة لثورة شعبية، واتهمت المورسكيين بتنظيمها والتخطيط لها، وبتجهيز جيش من ثمانية آلاف رجل داخل غرناطة وخارجها للاستيلاء عليها، وحكمت بأحكام مختلفة على مدبريها، منهم أربعة بالإعدام بعد التعذيب، وواحد بالإعدام بالسيف، وتقول رواية معاصرة للأحداث إن "محركي (المؤامرة) كانوا مورسكيين، وأغلبهم من سكان البيازين، وهو الآن يكاد يكون خاليًا من السكان، بسبب العدد الكبير من أهله الذين سجنوا أو هربوا منه، ولم يبق فيه سوى الدخلاء والأجانب عن البلد". ومن زعماء المؤامرة ألونسو فرناندس دي ماهاندون، وكان مورسكيًّا غنيًّا يعمل صباغًا في البيازين. وبعد غرناطة اشتعلت قرطبة، وكان الطاعون يسفك بأهلها منذ سنة 1649 م. وازداد وضع قرطبة تأزمًا سنتي 1651 م و 1652 م بضياع المحاصيل الزراعية بسبب

الجفاف، مما سبب مجاعة فظيعة بين أهلها وهجرة أعداد هائلة من أهل البادية إليها، دون أن يحرك والي المدينة من طرف الحكومة ساكنًا للتخفيف من معاناة المواطنين. وفي 6/ 5 / 1652 م، في هذا الجو المحموم، خرجت امرأة جليقية في حي سان لورانزو بقرطبة، تصيح وبيدها جسد ابنها الذي مات جوعًا. فتجمهرت حولها نساء الحي، وأخذن يصحن بالرجال ويشتمنهم لجبنهم في الوقوف ضد الظلم. فتسلح الرجال بالسكاكين والفؤوس والمطارق، وتوجهوا إلى بيت الوالي فحطموه. بينما التجأ الوالي إلى إحدى الكنائس. ثم هجم المتظاهرون، نساء ورجالاً، على بيوت النبلاء، وعلى بيت دون بدرو دي طابية، مطران قرطبة، وأخذوا منها القمح ووزعوه على الأهالي. وبعد يومين، انضم للثورة كل سكان قرطبة، وتحولوا من المطالبة بالغذاء إلى المطالبة بإجراء إصلاحات في حكم قرطبة وبطرد النبلاء منها. ثم كون الثوار مجلسًا ثوريًّا وانتخبوا رجلاً منهم محترمًا جدًّا بينهم اسمه دييكو فرنادس دي قرطبة. حاكمًا على قرطبة، وعزلوا بدرو ألونسو فلورس دي مونتنقرو، المعين من طرف الحكومة. فوافقت الكنيسة والملك على هذا الانتخاب لتهدئة الثورة. ثم أمر الملك بإرسال مائة ألف دوقة لشراء القمح لأهل قرطبة. وعندما رأى الملك أن هذين الإجراءين لم يفيدا في تهدئة الثورة، قرر في 16/ 5 / 1652 م العفو عن زعمائها، وفي 20/ 7 / 1652 م العفو عن جميع المشاركين فيها. وبعد قرطبة، دخلت إشبيلية ومنطقتها، خاصة قلعة جابر وقرمونة، في تمرد شامل ضد الدولة، احتجاجًا على تسلط النبلاء على ماء الري وحرمان الفقراء منه. وكان الغلاء قد فاق ما يحتمل، إذ وصل ثمن الخبزة الواحدة خمس إلى ست ريالات، بينما كان راتب العامل في البناء مثلاً في اليوم الواحد أربع إلى خمس ريالات. ففي 22/ 5 / 1652 م، ثار أهل إشبيلية بقيادة خياطين هما ايزديرو طريس وفرانسسكو هورتادو، وهجموا على بيوت النبلاء. ثم هجموا على مطران إشبيلية وحاكمها، وطلبوا منهما التدخل لتحرير المساجين وإلغاء الضرائب على المواد الغذائية وحرق ملفات الشرطة. ثم تحول المتظاهرون إلى المطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية. وفي 30/ 5 / 1652 م، سيطرت الحكومة بكتيبتين عسكريتين على حي الفيريا حيث قام التمرد. ثم قبضت على زعماء الثورة، وقدمتهم للمحاكمة، فحكمت على

7/ 5 - شواهد الرحالة:

خمسة منهم بالإعدام فورًا، ثم أعدمت عددًا من الباقين في الأيام التالية، وأرسلت عددًا آخر للتجذيف فوق السفن. ثم أعطت الحكومة مكافآت للنبلاء الذين شاركوا في قمع التمرد وخسمت لهم خمسين في المائة من الضرائب المستحقة على أملاكهم. وقد تزعم هذه الأحداث الدامية المنحدرون من أصول إسلامية الذين ظلوا يكونون أكثرية أهل الأندلس المعذبين، الذين كانوا يرزحون تحت استغلال الكنيسة واضطهاد رجالها وتسلط النبلاء الذين استغلوا أموالهم وسيطروا على أملاك أجدادهم عند احتلال الأندلس. وكلا الطبقتين، رجال الكنيسة والنبلاء، قدما من خارج الأندلس، من قشتالة وأراغون وحتى من خارج إسبانيا. وبزغت، نتيجة هذه الحركات الثورية، بوادر هوية جديدة للشعب الأندلسي المعاصر الذي لم يعد عنده الإسلام إلا ذكرى طيبة في المخيلة، أو انتماء مستورًا في الأعماق. 7/ 5 - شواهد الرحالة: زار الأندلس في القرنين الميلاديين السابع عشر والثامن عشر، عدة رحالة، مسلمين ونصارى، كتبوا مرثياتهم بطريقة حية تستحق التسجيل. وهي شهادات من معاصرين تشهد بالوجود الإسلامي المستتر والمتواصل في الأندلس بعد طرد سنة 1609 م. بل راقب الرحالة بقية الوجود الإسلامي حتى في مناطق وجودهم التاريخية الأخرى، كمنطقتي بلنسية وأراغون القديمة. ففي سنة 1660 م، لوحظ في سجلات كنيسة إحدى المدن البلنسية التي كان جل سكانها من المورسكيين، وجود عبارة "نصراني جديد" بكثرة أمام أسماء المواليد الجدد، وهي عبارة تطلق كما رأينا، على المورسكيين. ويعتقد أن المذكورين في السجلات هم من سلالة الأطفال الذين مكثوا في بلنسية بعد طرد سنة 1609 م، والذين بقي القساوسة يسجلون أصولهم إلى التاريخ المذكور أعلاه، ثم توقفوا عن ذلك بعده. وفي سنة 1690 م (1102 هـ)، أرسل مولاي إسماعيل، سلطان المغرب، سفيره الوزير محمد بن عبد الوهاب الغساني إلى كارلوس الثاني، ملك إسبانيا، لمعالجة موضوع افتكاك مائة أسير نصراني، وأرسل معه رسالة يقول فيها: "وذكرونا (العلماء) في مسألة غدر أسلافكم بأهل غرناطة وغيرهم، وهي لما يزيد على الأربعين

ألفًا بعد تعدد الشروط على ستين شرطًا، ولم يوفوا لهم بواحد منها، إلى غير ذلك من الغدر والمكر بأهل غرناطة وغيرهم من أهل الأندلس، في كل بلد وقرية، فألفيناهم ما تكلموا إلا بالحق". لذلك حدد مولاي إسماعيل شرطه لإطلاق سراح الأسرى النصارى بأن: "تعطونا في الخمسين نصرانيًا من هذه المائة خمسة آلاف كتاب ... وتعطونا خمسمائة أسير من المسلمين في الخمسين الأخرى". وقد فشل الغساني في الرجوع بالكتب بحجة احتراق قصر الأسكوريال الذي كانت الكتب العربية مخزونة فيه، واكتفى بالرجوع بالأسرى المسلمين، لكن الغساني سجل رحلته في كتاب، نقل فيه ما عاينه بنفسه من الوجود الإسلامي ثمانين سنة بعد الطرد في عدة مدن أندلسية. ففي البريجة (مقاطعة إشبيلية)، ذكر الغساني أن "فيها انتسب لنا البعض إلى الأندلس (أي المسلمين) بإشارة خفية لم يقدر على التصريح بغير كلام خفي، والغالب على جل سكانها أنهم من بقايا الأندلس إلا أن العهد طال عليهم وربوا في بحبوحة الكفر، فغلبت عليهم الشقاوة والعياذ بالله". وفي أطريرة (مقاطعة إشبيلية)، التقى الغساني ببنتين من سلالة بني الأحمر، ملوك غرناطة، عن طريق أمهما، إحداهما بنت القاضي والأخرى بنت حاكم البلد، كما التقى بأهلهما في مجريط، عاصمة إسبانيا، إذ قال: "ولقد أخبرني بمدينة مدريد رجل يسمى ضون ألونص، حفيد موسى أخي السلطان حسن المتغلب عليه بغرناطة، أن البنتين بأطريرة من دمه، وضون ألونص هذا رجل حسن الأخلاق، حسن الثياب، له قوة وشجاعة معروفة عند النصارى، وهو معدود من فرسانهم وشجعانهم ... ومع هذا فهو مائل إلى من تلقاه من أهل الإسلام، ويذكر نسبه، ويعجبه ما سمعه من الحديث عن الإسلام وأهله". وعن مرشانة (مقاطعة إشبيلية)، يقول الغساني إن معظم سكانها من سلالة المسلمين القدماء. وعن أندوجر (مقاطعة جيان)، يقول الغساني: "والغالب أنهم (أهلها) من بقايا الأندلس، وجلهم من أولاد السراج الذين كانوا انتصروا على السلطان أبي الحسن آخر ملوك غرناطة". وقال الغساني إنه بينما كان يفتخر بعضهم بأصله الإسلامي، يتبرأ آخرون من هذا الأصل ويدعون النسبة إلى نبارة. وقال الغساني إن الموظفين من الأصول

الإسلامية الذين لقيهم في المراكز العامة، لا يخفون أصولهم ويعتزون بها. ثم قال: "إن من يكون من نسل هؤلاء القوم الذين تنصروا أن يرث عمل الصليب على كتفه برحمة في ثوبه المتدثر به ... والخطط التي يتولونها بقايا هذا الجنس المذكور هي الكتابة وحكمة البلدان والشرطة وغيرها، مما ليست له وجاهة كبيرة وولاية شنيعة، مثل التصرف في المحال أو الولاية للأقاليم الكبيرة والمدن والقواعد مثل إشبيلية وما شاكلها. وعلى كل حال فهم في هذه النواحي كثيرون لا يحصون، فمنهم من ينتسب، ومنهم من ينفر من سماعه الانتساب ذلك". ولم يعثر الغساني على الوجود الإسلامي إلا في الأندلس ومجريط حيث سمع من المنحدرين من أهل الأندلس انتقادًا كبيرًا لقرار طرد سنة 1609 م. ولو مر الغساني على مناطق أخرى خارج منطقتي جيان وإشبيلية من مناطق الأندلس الطبيعية، بما فيها سهل قلعة رباح، لخرج بنفس الانطباعات التي وجدها في المنطقتين المذكورتين. وفي سنتي 1766 م و 1767 م، أرسل سيدي محمد بن عبد الله، سلطان المغرب، سفيره أحمد بن المهدي الغزال الأندلسي المالقي إلى ملك إسبانيا، للمفاوضة في إطلاق سراح الأسرى المغاربة وتحسين أوضاع بقية الأسرى المسلمين. وقد نجحت هذه السفارة، وتتوجت في مايو سنة 1867 م بعقد معاهدة صداقة بين البلدين. وقد دون الغزال رحلته في كتاب سماه "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد"، ذكر فيه ما لاحظه من آثار إسلامية. فلاحظ عن أهل أطريرة (مقاطعة إشبيلية) أن: "دمهم دم العرب، وأخلاقهم مباينة لأخلاق العجم، وميلهم للمسلمين وتحننهم للجنس وأسفهم عند التشييع يقطع أنهم من بقايا الأندلس، وقد طال عليهم العهد وربوا في بحبوحة الكفر والعياذ بالله ... والكثير من ألقابهم موجودة عندنا في الإسلام، كقبريرة وقرطناش وبريشة وأرميرو وأفريركو واللمب وأولاد خويا وخيرون وراغون وبائص ومنضوصة وغير ذلك". ثم تحدّث الغزال عن بلدتي بلاسيوس وبلافرانكا المتجاورتين (مقاطعة إشبيلية) على مسافة قريبة غرب أطريرة بما يلي: "ولا مرية في أنهما من بقايا الأندلس، وقد التقينا برجل من طلبة المدينتين اسمه بلاشكو، وهو من أعيان العدول عندهم، وقد

أظهر من الميل إلينا ما غلب على الظن أنه مسلم، وصار يشير بإشارة خفية، ويكثر من الالتفات حال مخاطبته إيانا، ولم يستطع التصريح بما في باطن الأمر". وقال الغزال عن أهل إشبيلية: "ومما غلب على الظن من ظهور انقيادهم وامتثالهم وفرحهم بالمسلمين، أنهم إذا عرض عليهم الإسلام لأجاب جميعهم لو لم تكن بين ظهورهم الفرايلية (الرهبان) ... وهذا ما أبدته الفراسة في القوم عند مباشرتهم واختبار أحوالهم من غير لفظ ولا إشارة إلا ما كان من بعض بقية الإسلام. فمنهم من لفظ ومنهم من أشار. نسأل الله تعالى أن يهدي جميعهم للإسلام". وقال الغزال عن أهل أندوجر (مقاطعة جيان): "وأهلها أهل حضارة، وقد أخذوا نصيبهم من الحسن، وأُخبرنا أن الكثير منهم من بقية الأندلس، ولا يستبعد ذلك، لأن أخلاقهم ليست كأخلاق الروم، وفي ميلهم للإسلام ومحبتهم ما فيه أكبر علامة لذلك". وقال الغزال عن أهل الشر (مقاطعة لقنت): "ميلهم للمسلمين بالقلب والقالب، والظاهر دال على الباطن، ولا شك أن فيهم عرقًا عريقًا في الإسلام، حيث إن أسلافهم على الدين القويم. فهم يستأنسون بذلك ويقرون بأن الدين الإسلامي أشرف الأديان، وأن المسلمين هم على الحق ومن سواهم على الباطل، لكن لم تصلهم الدعوة. وعلى تقدير وصولها إليهم الآن لم يمكنهم حفظها والعمل بها. هذا في مقام العسر، وأما إن جهر أحد بذلك، فلا يستتاب عندهم ولا يحكم عليه إلا بالقتل". وقال الغزال عن أهل لورقة (مقاطعة مرسية): "ولهم محبة كبيرة في الإسلام". وقال الغزال عن أهل لوشة (مقاطعة غرناطة): "فهم على قدم غرناطة في الميل للمسلمين والمحبة الدالة على أن فيهم عرقًا يشم للإسلام بالخصوصية، رجالاً ونساء وصبيانًا، بزيادة على غيرهم، والكثير من ألقابهم موجود عندنا في الإسلام. فمنهم من يشير إشارة خفية ومنهم من يجهر بذلك. ولا مرية في أنهم من بقايا الأندلس، وقد طال عليهم العهد فغلبت عليهم الشقاوة والعياذ بالله". وفي سنتي 1775 م و 1776 م زار الأندلس الرحالة الإنكليزي هانري سوينبورن، وكتب عدة رسائل واصفًا مرئياته فيها، وفي إسبانيا عامة، جمعت في كتاب. وبعد أن ذكر إجراءات محاكم التفتيش سنة 1724 م ضد ما تبقى من

المورسكيين في الأندلس، قال سوينبورن إنه عندما زار غرناطة تعرف على عدة عائلات من أصول إسلامية. وفي سنة 1779 م (1193 هـ)، أرسل سيدي محمد بن عبد الله، سلطان المغرب، سفيره محمد بن عثمان المكناسي إلى ملك إسبانيا في شأن افتكاك الأسرى المغاربة. وقد زار السفير الأندلس وكتب ملاحظته في كتاب. قال المكناسي في رحلته عن غرناطة: "وبهذه المدينة من بقايا الأندلس شيء كثير، فمنهم من ينتسب ومنهم من لا ينتسب. وقد تعرف إلينا أحد أصحاب الشرطة ممن له غلظة وتجبر، وقد رأيت فيه ظلمًا كثيرًا يضرب النصارى ويشتمهم، وقد أتاني ذات يوم فقال: إني من المسلمين وإنما جعلت هذه الخطة بيدي سببًا للوصول إلى إذاية هؤلاء الكفرة، وأنا من أولاد صيرون". ثم تحدّث المكناسي عن أحد أعيان بلدة لوشة (مقاطعة غرناطة) قائلاً: "ففرح بدخولنا إلى داره فرحًا كثيرًا وقال: أنا من أولاد رغوان وأنا محب في المسلمين، فقلت له: إن إخوانكم عندنا في بلدنا من خيار الناس فهلا قدمت عليهم؟ فقال: أقدم إن شاء الله لرؤية البلد بقصد التجارة". وفي سنتي 1786 م و 1787 م، زار الأندلس الرحالة الإنكليزي جوزف تاوسند، ووثق رحلته في كتاب. وقد اجتمع تاوسند عند مروره بغرناطة بغاردوكي، قاضي محكمة التفتيش، وكانت له علاقة وثيقة معه، وقد أطلعه على متابعة محاكم التفتيش للعائلات المورسكية سنة 1726 م ثم قال: "وفي يومنا هذا يعتقد الجميع أن كلا المسلمين واليهود كثيرون في إسبانيا؛ فالمسلمون يعيش أكثرهم في الجبال، واليهود في المدن الكبيرة. وهما يختفيان اختفاء كاملاً، ويتظاهران بالانتماء إلى تعاليم الكنيسة في مظاهرهما الخارجية. ويعتقد بعض الأشخاص أن بعض الرهبان الأكثر ورعًا وحتى بعض موظفي محاكم التفتيش هم في الحقيقة يهود". وفي سنة 1787 م، كتب بورو: "إن عدد اليهود والمسلمين لا زال كبيرًا في إسبانيا، فالمسلمون لجؤوا إلى الجبال، بينما لجأ اليهود إلى المدن الكبيرة". وفي سنة 1809 م، زار الأندلس رحالة إنكليزي آخر واستقر في بلدة الحامة (مقاطعة غرناطة) حيث لاحظ كثرة المنحدرين من المسلمين، وتعرف على صاحب شركة بغالين فوجده وجميع أهله ذوي أشكال عربية رغم ما يدعونه من الدم القشتالي.

ولذا يعتقد الجميع، كما يقول الرحالة، أن معظم أهل الأندلس من أصول إسلامية، إن لم يكن ذلك عن طريق الآباء فعن طريق الأمهات. وفي سنة 1828 م، كتب منيانو عن بلدة أجيجر (مقاطعة غرناطة)، معقل المجاهدين القديم في جبال البشرات، ما يلي: "يقال بأنه رغم الشدة التي طبقت في طرد المورسكيين، لم يمكن اجتناب ترك عائلات مختلفة". وفي سنة 1847 م، كتب فورد عن أجيجر كذلك ما يلي: "أجيجر الإسلامية، عاصمة البشرات، محاطة بالجبال وهي تحلق فوق عذرة ... ونصف أهلها مسلمين رغم أنهم يتكلمون الإسبانية. وتنظر النساء ذوات الخدود الوردية والعيون السود والشعر الأسود بشراسة إلى الغريب الذي يمر من وقت بعيد إلى آخر من نوافذ لا تزيد عن كونها ثقبًا ليست أكبر من رأس الواحدة منهن". هذا عدا الأسماء العائلية المشهورة إلى اليوم في إسبانيا، والدالة على أصول أصحابها الإسلامية، كالزكري وابن النجار وابن أمية وابن جمعة وبنيغش وغيرها من الأسماء الكثيرة. وقد تكلم عن المورسكيين، وما آلوا إليه، عدد من الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين في القرن الثامن عشر، مثل فولتير، المفكر الفرنسي الذي كان المورسكيون بالنسبة إليه أهل الأندلس الأصليين، ومن سلالة ساداتها، وأصبحوا مواطنين إسبان مضطهدين ومطاردين، مما دفعهم إلى الثورة والهجرة، رغم ضرورة وجودهم بالنسبة لاقتصاد إسبانيا، ورغم حبهم للعمل وإتقانهم له. كما يرى فولتير أنهم ضحية التطرف الصليبي الذي أجبرهم على التظاهر بالنصرانية. وقارن فولتير محنة المسلمين في إسبانيا بمحنة البروتستانت في فرنسا وأشار إلى أن "عدة عائلات (مورسكية) ممن أخلصوا للنصرانية استقرت في منطقة البروفانس باللانكودوق، ومنهم من وصل إلى باريز، وأخيرًا استقر هؤلاء اللاجئون في البلاد (فرانسا)، واندمجوا في الأمة (الفرنسية) التي استفادت منهم بسبب غلط إسبانيا، والتي اتبعت أخيرًا مثالها (السيىء) في تهجير البروتستانت". كما ذكر المورسكيين عدد من المفكرين الفرنسيين، من بينهم ديدرو والراهب راينال، في كتاب "تاريخ مراكز التجارة في الهندين الفلسفي والسياسي" الذي صدر في القرن الثامن عشر الميلادي. ذكر الكتاب المورسكيين "كمحمديين" من "أتباع القرآن" الذين تحاول إسبانيا جعلهم نصارى، ووصف وضعهم بعد سنة 1609 م بأنهم

مواطنون لا يثق بهم، أو لاجئون، أو مبعدون، أو قراصنة، أو مخربون، أو خارجون على القانون، أو مستعبدون للغير. وبتلخيص، يعبر الكتاب عن رأي الكنيسة الكاثوليكية في المورسكيين، ومن يفكر تفكيرها. ورغم ذلك يعترف الكتاب بأن لدى المورسكيين قوة تحمل كبيرة، وكفاءات عالية، ومعرفة جيدة بفنون التجارة والزراعة. وأخيرًا، هرب عدد من المورسكيين من المدن والقرى بعد قرار طرد سنة 1609 م، وانضموا إلى جماعات الغجر الرُّحَّل في إسبانيا، مما جعل عددًا كبيرًا من هؤلاء اليوم يتأصلون من أصول إسلامية. وهذا ما يفسر أصل غناء "الفلامنكو" الذي يعد غناء مورسكيًّا. ولذا تساءل بعضهم عن السرية في الغناء الفلامنكي وقال: "وهلا تفهم هذه السرية إذا تذكرنا أنه إلى أيام كارلوس الثالث كان سيف المنع مسلطًا على الموسيقى والغناء المورسكي؟ ". فهل يعقل إذًا أن يكون هناك موسيقى وغناء مورسكيًّا دون وجود مورسكيين؟.

مراجع الفصل السابع

مراجع الفصل السابع 7/ 1 - Jaime Bleda "Cronica de los Moros de Espana" Valencia, 1618, p.1021., 7 / 2 - Archivo de la Corona de Aragon, Corona de Aragon, 221 II 3. 7 / 3 - Ref. (7.2) , 221 II 4. 7 / 4 - Joan Regla "La Expulsion de los Moriscos y sus Consequencias en la Economia Valanciana" Hispania, 1953, p. 133. 7 / 5 - Boronat y Barrachina "Los Moriscos Espanoles y su Expulsion" Va- lencia, 1901, Vol. II. p. 306. 7 / 6 - Ref. (7.2) , 221 II 2. 7 / 7 - Ref. (7.2) , 221 II 1. 7 / 8 - Actas de la Cortes, XL, 406. 7 / 9 - Actas de las Cortes, XLII, 194 y XLIII, 299. 7 / 10 - A. Dominguez Ortiz "Felipe IV. y los Moriscos" MEAH, and VII, No. 8. 7 / 11 - "Informe Sobre los Moros Esclavos y Libres de Sevilla" Biblioteca National, Madrid, Ms. 18735. 7 / 12 - Actas de la Cortes, XLV, 222. 7 / 13 - Actas de la Cortes, XLVII. 7 / 14 - Archivo General de Simancas, Estado, Espana, 2653. 7 / 15 - Archivo Historico National, Inquisicion de Toledo, Leg 2106. 7 / 16 - Ref. (7.15) , Leg. 92, No. 13.

7/ 17 - Manuel Barrios "Sociedades Secretas del Crimen en Andalucia" Tec- nos, Madrid, 1987, p. 76. 7 / 18 - Archivo Diocesano de Cuenca, Leg. 437, No. 6169. 7 / 19 - Anales de Granada, Vol. II, p. 735 y ss. 7 / 20 - Antonio Dominguez Ortiz y Bernard Vincent "Historia de los Mor- iscos" Madrid, 1978, Apendice XI, p. 286-287. 7 / 21 - Bartolome Bennassar et Lucile Bennassar "Les Chretiens d'Allah" Perrin, Paris, 1989, p. 148-201. 7 / 22 - Andre Henri Argaz "Histoire Inattendue des Arabes en Espagne" Editions Cremille et Famot, Geneve, 1983, p. 260-263. 7 / 23 - Henry Swinburne "Travels Through Spain in the Years 1775 and 1776" p. 154. 7 / 24 - Joseph Towsend "A Journey Through Spain in the Years 1786 and 1787" (3 volumes) , Vol. III, p. 82 - 84. 7 / 25 - Juan F. Perez de Herrasti "Historia dela Casa de Herrasti" Grana- da, 1750 p. 284. 7 / 26 - Henry Charles Lea "A History of the Spanish Inquisition" Vol. III, p. 406. 7 / 27 - Henry Charles Lea "The Moriscos of Spain, their Conversion and Expulsion" Londres, 1901, New York, 1968, Vol. III, p. 406. 7 / 28 - Archivo Municipal de Granada. 7 / 29 - Biblioteca National, Madrid, Ms, 18196. 7 / 30 - Fernando Repiso "Simbolos y Derechos Andaluces" Sevilla 198a. 7 / 31 - Guillermo Gozelbes Busto "La Republica Andaluza de Rabat en Si- glo XVII" Madrid. 7 / 32 - Ref. (7.29) , p. 169-171. 7 / 33 - Antonio Domingo Ortiz "Alteraciones Andaluzas", Madrid, Nar- cea, 1973, p. 78. 7 / 34 - Juan Diaz del Moral "Historia de las Agitaciones Campesinas Anda - luzas" Alianza Editorial, Madrid, 1984, p. 63-72. 7 / 35 - Ref. (7.30) , p. 118-122.

7/ 36 - Antonio Mestre "Estudio de la Demografia de Oliva, a Traves de los Archivos Parroquiales Despues de la Expulsion de los Moriscos" Estudis 1, 1972, p. 169-184. 7 / 37 - عبد الرحمن بن زيدان "إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس" المطبعة الوطنية الرباط، 1933، (خمسة أجزاء)، الجزء الثاني، الصفحتان 63 و 64. 7/ 38 - محمد بن عبد الوهاب الغساني "رحلة الوزير في افتكاك الأسير" مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط، عدد 11329. 7/ 39 - أحمد بن المهدي الغزال "نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد" تحقيق إسماعيل العربي، بيروت، 1980 م. 7/ 40 - Ref. (7.23) . 7 / 41 - محمد بن عثمان المكناسي "الأكسير في افتكاك الأسير" تحقيق محمد الفاسي، الرباط، 1965. 7/ 42 - Ref. (7.24) . 7 / 43 - George Borrow "Los Zincali" Turner, Madrid, 1979. 7 / 44 - Robert Semple "A Second Journey in Spain, in the Spring of 1809" London, 1809, p. 199-200. 7 / 45 - Sebastian Minano "Diccionario Geografico-Estadistico de Espana y Portugal" IX, Madrid, 1828, p. 110a. 7 / 46 - R. Ford "A Handbook for Travellers in Spain" Second Edition London, 1847, p. 160. 7 / 47 - Voltaire "Essais sur les Moeurs" Tome II, p. 426-427. 7 / 48 - Abbe Raynal "l'Histoire Philosophique des Etablissements du Com- merce dans les Deux Indes". 1770-1771. 7 / 49 - Manuel Barrios "Los Oscuras Raices del Flamenco", Sevilla, 1986.

الفصل الثامن تكوين القومية الأندلسية (في القرنين التاسع عشر والعشرين)

الفصل الثامن تكوين القومية الأندلسية (في القرنين التاسع عشر والعشرين) 8/ 1 - إسبانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين: اتسم حكم فراندو السابع (1814 - 1833 م) بعد تحرير إسبانيا من الوجود الفرنسي باضطهاد المعارضة وسوء معاملة المواطنين من طرف جماعة من الجنرالات المنتفعين الذين كانوا يحومون حوله. وأدت تجاوزات الجيش الإسباني بقيادة الجنرال موريو في جنوب أمريكا إلى استقلال كلومبيا عن إسبانيا، ثم تحررت معظم مستعمرات إسبانيا بعد هزيمة أياشوكو سنة 1824 م. وفي سنة 1820 م، تمرد الكلونيل ريكو في قادس بالأندلس، وأخذ ينتقل بين مدن الأندلس يطالب الملك بتنفيذ دستور قادس لسنة 1812 م، الذي حررته في قادس المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي. ثم ثارت جليقية على الملك. وفي 10/ 3 / 1823 م، قبل الملك شروط المتمردين بما فيها دستور قادس، لكن المتعصبين من بين حاشيته عارضوه في ذلك باسم الدفاع عن الدين الكاثوليكي، فرجع الملك في قراره وأزال مرة ثانية دستور قادس، وعاد إلى الاستبداد، ثم أعدم الكلونيل ريكو وعددًا كبيرًا من زملائه. ثم تتابعت الإعدامات، فأعدمت الدولة الألبسنادو، أكثر زعماء المعارضة شعبية. وفي سنة 1826 م، أعدم الأخوة بازان. وفي سنة 1831 م، أعدم تريفوس وماريتانا بينيدة بتهمة خياطة علم المعارضة، ثم اجتمع المتعصبون النصارى حول دون كارلوس، أخي الملك الذي كان يتعاطف مع أفكارهم، بنية مبايعته بعد وفاة أخيه. وفور وفاة فراندو السابع سنة 1833 م، قامت حرب أهلية بين الذين بايعوا ابنته إيسابيلا الثانية (1833 - 1868 م) تحت وصاية أمها مارية كريستينا، زوجة فراندو

الثالثة، وبين المتطرفين النصارى الذين بايعوا دون كارلوس. وقامت ما تسمى الحرب "الكارلية" الأولى التي دامت إلى سنة 1840 م، وشملت ولايات الشمال والشرق كنبارة وقطلونية وبلنسية. ولم تؤثر الحرب الكارلية على الأندلس التي أصبحت مركز عداوة للكنيسة وامتيازاتها. وفي سنة 1835 م، أدى انتشار الوباء إلى ثورة في مجريط عمت بعد ذلك أنحاء إسبانيا، في سرقسطة وبرشلونة والأندلس. وركز الثوار غضبهم على الكنيسة وسلطتها، فحرقوا الأديرة والكنائس، وكونوا لجانًا ثورية في أنحاء إسبانيا تطالب بالعودة إلى دستور قادس. فأدت الثورة إلى إحلال تورينو مكان مارتينز دي لاروزا في رئاسة الحكومة، ثم خلفه منديزابال الذي لاحق الكنيسة وصادر ممتلكاتها. وفي سنة 1836 م، أجبرت مارية كريستينا على قبول دستور قادس، ثم رجعت في قرارها سنة 1837 م، وعادت إلى السلطة المطلقة سنة 1839 م. وفي سنة 1840 م، أزاح مارية كريستينا وزيرها اسبرتيرو، وحل محلها كوصي على الملكة إيسابيلا الثانية. ولكن اسبرتيرو نشر الرعب في البلاد، فأعدم عدة جنرالات، وضرب برشلونة بالقنابل عندما تظاهر أهلها، ثم ضرب إشبيلية، وفي سنة 1843 م، اضطر إلى ترك السلطة والفرار إلى لندن. وفي سنة 1843 م، رشدت إيسابيلا الثانية. فمالت إلى المعتدلين ضد التقدميين. فأسس وزيرها كونزلز برابو الحرس المدني سنة 1843 م، وفي سنة 1845 م كتب ناربايز دستورًا جديدًا أعطى فيه اختصاصات مطلقة للسلطة التنفيذية. وفي سنة 1847 م، اشتعلت الحرب الكارلية من جديد. وفي سنة 1848 م، قضى الوزير ناربايز على ثورة في البلاد بمجزرة دامية. ثم وقع نزاع بين الزعماء الإسبان حول تزويج الملكة، فوقع اختيار الأطراف المختلفة على شخص غير معروف زوجًا لها. وفي سنة 1851 م، خلف سارتوريوس الوزير ناربايز، لكنه أبعد بدوره نتيجة سلسلة من الفضائح المالية والفساد، وحل محله شخصان يمثلان التقدميين والمعتدلين. وفي سنة 1856 م، أعادت الملكة إلى الوزارة ناربايز الذي يمثل المعتدلين، بعد اضطرابات حدثت في الأندلس. وفي سنة 1859 م، خرج الجيش الإسباني من سبتة واحتل تطوان. ولم يخرج منها إلا بعد شروط مجحفة للمغرب، أدت إلى انهيار اقتصاده واتساع رقعة الاحتلال حول مدينتي سبتة ومليلة.

وفي سنة 1868 م، توفي ناربايز فعمت الاضطرابات البلاد، انتهت في سبتمبر سنة 1868 م بثورة شاملة بقيادة سرانو، أعلنت الحريات الأساسية وطالبت بالانتخابات العامة. فهزم الثوار جيش الملكة التي أصبحت مبغوضة لدى العامة بسبب تجاوزاتها في حياتها الخاصة، فخلعت وأرغمت على اللجوء إلى فرنسا. حكم سرانو، زعيم الثورة، إسبانيا بالتعاون مع بريم، وعقد اجتماعًا للكورتس وافق فيه على دستور ملكي دستوري ثم اختاروا الأمير أميديو دي سابوا، ابن ملك إيطاليا، ملكًا لإسبانيا. وفي 30/ 12 / 1870 م، يوم وصول الأمير إلى مجريط، اغتيل بريم. وفي فبراير سنة 1873 م، تنازل الأمير أميديو عن العرش بسبب انقسامات الطبقة الحاكمة من جهة، وعودة الحرب الكارلية والاضطرابات الشعبية من جهة أخرى. فأعلنت الجمهورية بدستور اتحادي، وانتخب رئيسًا لها القطلاني بي اي مارغال. وعندما انقسمت الولايات إلى كنتونات صغيرة تكاد تكون مستقلة، قدم بي استقالته من رئاسة الجمهورية، فخلفه سلمرون، ثم قسطلار الذي أعاد للجمهورية مركزيتها. وفي 3/ 1 / 1874 م، ثار الجنرال بافيا وألغى الكورتس، وأقام دكتاتورية في البلاد لمدة قصيرة، ثم أعاد الملكية. وأتى بافيا من إنكلترا بألفونسو ابن الملكة إيسابيلا الثانية، صحبة معلمه كانوباس دل قشتيليو، فبويع ملكًا على إسبانيا تحت اسم الفونسو الثاني عشر (1875 - 1885 م). ثم تعاقب على الحكم حزب المحافظين يعارضه في أقصى اليمين الكارليون، والحزب التقدمي يعارضه الجمهوريون. وانتهت الحرب الكارلية أيام الفونسو الثاني عشر. وفي سنة 1885 م، مات الملك وترك زوجه مارية كريستينا حاملاً. بويع الابن إثر ولادته تحت اسم الفونسو الثالث عشر (1885 - 1931 م) تحت وصاية أمه، وفي أيامها فقدت إسبانيا ما تبقى لها من مستعمرات. ففي سنة 1898 م، تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في ثورتي كوبا والفلبين، وطردت إسبانيا منهما. ثم انتشرت الاضطرابات في أنحاء البلاد، خاصة في بلاد الباسك وفي قطلونية. وفي سنة 1902 م، رشد الفونسو الثالث عشر، فزادت الاضطرابات خاصة في قطلونية حيث انتشرت "الأناركية" العالمية والقومية المحلية. وظهر التضامن القومي القطلاني بوضوح في انتخابات سنة 1906 م. وفي سنة 1909 م، قامت مظاهرات في برشلونة ضد تجنيد الشباب للذهاب إلى المغرب،

قضت عليها الحكومة بمذبحة بين المتظاهرين وإعدام فرير، أحد زعماء قطلونية، لأفكاره القومية. فأدت تلك الأحداث إلى عزل الوزير ماورا وتنصيب التقدمي كناليخاس (1910 - 1912 م) محله، فحاول حل المشكلة المغربية، والحد من سلطة الكنيسة، وإعطاء القطلانيين بعض الحريات، لكن اغتاله أحد الأناركيين قبل إتمام برنامجه. فتسلسل الوزراء على الحكم إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى. فتجزأ الإسبان بين مساندين لألمانيا ومساندين للحلفاء، إلا أن الحكومة استطاعت الحفاظ على حيادها إبان الحرب. وفي سنة 1917 م، أدى غلاء المعيشة إلى اضطرابات وحوادث غيرت أوضاع إسبانيا نهائيًّا. كان القرن التاسع عشر في إسبانيا قرن اضطراب وانكماش، لم يلعب ملوكها فيه الدور الرائد الذي توقعه منهم الإسبان، بينما انقسمت الطبقة الرائدة بين ملكيين يمينيين متطرفين (الكارلي) ومعتدلين من جهة، وبين تقدميين معادين للكنيسة من جهة أخرى، دون أن تجد الديموقراطية موطنًا لها. فلم يطبق دستور قادس إلا لفترة قصيرة، وكذلك دستور سنة 1869 م. وطبقت دساتير سنة 1834 م و 1837 م و 1845 م و 1856 م بالإكراه دون إرادة شعبية. ودام دستور سنة 1876 م إلى سنة 1923 م، وقد قبل فيه مبدأ الانتخابات العامة في سنة 1890 م. وكان يتحكم الضباط في الجيش الإسباني الذي لم تكن له قاعدة شعبية. واختلف الضباط في الرأي، وانتمى كثير منهم إلى الخلايا الماسونية، فكثرت الانقلابات العسكرية بالعشرات، نجح منها 12 انقلابًا، دون أن تكون لها علاقة بالثورات الشعبية. وكثرت في القرن التاسع عشر الثورات الشعبية في إسبانيا، منها، في أقصى اليمين، ما سببته التعاليم الكاثوليكية المتطرفة كالحركة الكارلية التي انتشرت في المناطق الكاثوليكية كبلاد الباسك، ونبارة، وقطلونية، ومنها ثورات الأندلسيين الذين لم يرضخوا قط للدولة، منذ ضياع استقلالهم، والقضاء على دينهم الإسلامي، ومسخ هويتهم القومية، وإفقار أراضيهم، ونهب خيراتهم. وكانت حركتهم دائمًا ضد الدولة والكنيسة في آن واحد، ومن أجل تحقيق حكم ذاتي للأندلس. ومنها اضطرابات المدن المختلفة التي تنتج عن أسباب متعددة، أهمها الثورة ضد الفقر والفساد، وهي كذلك توجه غضبها على الكنيسة، فيحرق الثوار الأديرة ويلاحقون الرهبان.

تزايد عدد سكان إسبانيا من 11 مليون نسمة سنة 1808 م إلى 15.5 مليون سنة 1857 م و 18.5 مليون سنة 1900 م، و 24 مليون سنة 1935 م قبيل الحرب الأهلية. ولم يتقدم اقتصاد إسبانيا ولا تقنياتها بنفس السرعة التي تقدم بها عدد سكانها. فعم الفقر، واتسع الفرق بين طبقات المجتمع، وانتشرت الأمراض والأوبئة. وبقيت ملكية الأرض في يد النبلاء والكنيسة، خاصة في الأندلس حيث ظلت جماهير المزارعين دون أرض. وبقيت طرق استغلال المعادن والصناعة متخلفة أو في يد الأجانب. واتسم القرن التاسع عشر بانبعاث القوميات، كالقطلانية والباسكية والأندلسية، وانقسام الطبقة المثقفة بين المركزية والاتحادية. وفي سنة 1917 م، قامت حركة عسكرية ضد الفساد والرشوة، فأخذت المعارضة تجتمع في كل أنحاء البلاد وتكون مجالس حكومية شعبية. فقضت الحكومة على التمرد بالقوة، وقبضت على معظم رؤسائه. ثم مرّت الحكومة بأزمات متواصلة إلى سنة 1923 م. وسهل غلاء المعيشة انتشار الاشتراكية والشيوعية والأناركية. ثم كانت الكارثة بالنسبة لإسبانيا في 20/ 7 / 1921 م، عندما انهزم جيشها في أنوال على يد المجاهدين المغاربة بقيادة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقتل فيها الجنرال سلبستر، رئيس الجيش، مع رجال أركانه العامة وقتل وأسر 14.000 جندي، لم يعش بعدها النظام طويلاً. فأخذ الملك والجنرالات والوزراء يرمون بعضهم البعض بالتهم حول مسؤولية الكارثة. وطالب الجنرال بريمو دي ربيرا في مجلس الشيوخ إسبانيا بالانسحاب من المغرب نهائيًّا. وفي 13/ 9 / 1923 م، كون الجنرال بريمو دي ربيرا "مجلس رئاسة عسكري" بقيادته، اعترفت به جميع الطبقات السياسية، كما اعترف به الملك والجيش، فأصبح دكتاتور إسبانيا. وتحالف دي ربيرا ضد الثورة الريفية مع فرنسا، التي اقتسمت المغرب مع إسبانيا سنة 1912 م، فقضوا عليها سنة 1925 م، واستعادت إسبانيا منطقة حمايتها بالمغرب. وفي سنة 1925 م، تحول "مجلس الرئاسة العسكري" إلى "مجلس رئاسة مدني". وفي سنة 1927 م، عين دي ربيرا مجلسًا استشاريًّا، وفي سنة 1929 م، حاول كتابة دستور جديد. ولم يتمكن دي ربيرا من حل المشاكل التي كان يتخبط فيها المجتمع الإسباني، كملكية الأرض والقوميات المحلية والتباين الاقتصادي

بين طبقات المجتمع خاصة في الأندلس. فقرر في 30/ 1 / 1930 م الانسحاب من الحكم والهجرة إلى باريز حيث توفي. خلف دي ربيرا في الحكم الجنرال بيرنغر، فكثرت الاضطرابات في عهده. ثم تعاهد الجمهوريون في "خلف سان سبستيان" على إلغاء الملكية في إسبانيا. وفي 14/ 4 / 1931 م، انسحب الجنرال بيرنغر بعد انتخابات عامة نجح فيها الجمهوريون، فأعلنوا الجمهورية، واضطر الملك الفونسو الثالث عشر إلى التنازل ومغادرة البلاد. أعلنت في إسبانيا "جمهورية العمال" بدستور عد، في وقته، من أكثر دساتير أوروبا ديموقراطية الذي أعطى المناطق المختلفة حق طلب الحكم الذاتي، وأنشىء مجلس للنواب بالانتخاب العام شارك فيه لأول مرة النساء والجنود. وانتخب نيساتو القلعة سمورة رئيسًا للجمهورية، وانضمت إسبانيا إلى هيئة الأمم. وعمّمت الجمهورية التعليم العلماني، وحدت من هيمنة الكنيسة في التعليم والسياسة والاقتصاد حتى أعلن بعض قاداتها، كأثاينا، "بأن إسبانيا لم تعد كاثوليكية"، وانتشر في البلاد عداء الكنيسة، خاصة في الأندلس. وفي 11/ 5 / 1931 م، أخذت الجماهير تحرق الأديرة وتزيل الصلبان عن المقابر والمدارس، فعوقب من احتج على ذلك من رجال الكنيسة. ثم ركّزت الجمهورية على تحويل إسبانيا إلى دولة اتحادية بإعطاء قطلونية وأوسكادي (بلاد الباسك) الحكم الذاتي. ثم أسست قوة جديدة سمتها "حراس الهجوم" لتنافس قوات "الحرس المدني" التي أصبحت مكروهة لدى الشعب. ثم حاولت الجمهورية معالجة المشكل الزراعي. لكن مذبحة "كاساس بيخاس" (الدور القديمة بالأندلس) في 12/ 1 / 1933 م ضد الأناركيين الأندلسيين أدت إلى إضعاف مساندة الشعب للجمهورية. فجوبهت الحكومة من طرف الملكيين والكنيسة في اليمين، ومن طرف العمال والشيوعيين في اليسار. وفي ديسمبر عام 1933 م، عمت الاضطرابات الأراغون والاسترمادورا. وفي أكتوبر سنة 1934 م، ثارت قطلونية وآشتورياش، فقضى على الثورتين بالقوة. وفي سنة 1935 م، تدهور الوضع بسبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وسياسة رئيس الجمهورية والفضائح التي سببها بعض المسؤولين فتتابعت الاضطرابات. وفي 18/ 7 / 1936 م، قام الجيش بانقلاب عسكري، بقيادة الجنرال سان خورخو، ومساهمة الجنرالين فرانكو وغودو. فرفضت حكومة الجمهورية الانقلاب،

8/ 2 - الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية:

كما رفضته فئات كثيرة من الشعب الإسباني، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية طاحنة في البلاد بين الجيش والكنيسة التي أعلنتها حربًا صليبية من جهة، وبين التقدميين الجمهوريين من جهة أخرى، انتهت سنة 1939 م بانتصار اليمين بقيادة الجنرال فرنسسكو فرانكو الذي أصبح دكتاتور إسبانيا إلى وفاته سنة 1975 م. وأدّت هذه الحرب الأهلية إلى مقتل حوالي 600.000 شخص، وهجرة حوالي 400.000 آخرين إلى فرنسا، وخراب كبير في البلاد بأجمعها. وكانت حربًا طاحنة بين الكنيسة وأعدائها قتل فيها أكثر من 20.000 راهب، كما قامت الكنيسة وحلفاؤها بمذابح مفجعة بين الأهالي. اشتعلت الحرب العالمية الثانية بعد انتصار فرانكو بقليل، فاحتل طنجة، واجتمع بهتلر وموسوليني، لكنه بقي في الحياد إبان الحرب، رغم أن الكتائب التي ارتكز عليها في الحرب الأهلية، والتي جعلها بعد ذلك ركيزة نظامه، اقتبست نظامها من الحزب النازي الألماني. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بقي نظام فرانكو منبوذًا من طرف أوروبا، فأغلقت فرنسا حدودها مع إسبانيا، ورُفضت إسبانيا من دخول الأمم المتحدة. وبعد مفاوضات مع دون خوان (كوندي دي برشلونة فيما بعد) ابن الفونسو الثالث عشر، أعلن فرانكو نفسه وصيًّا لعرش المملكة الإسبانية. وفي الخمسينات، ابتدأت عزلة النظام تضعف بعد توصله بمساعدات اقتصادية من الولايات المتحدة. وشهدت الستينات انطلاقة اقتصادية مهمة في إسبانيا. وفي يوليوز سنة 1970 م، عين فرانكو الأمير خوان كارلوس حفيد الفونسو الثالث عشر (ابن ابنه خوان) وليًّا للعهد. وفي 20/ 11 / 1975 م، توفي فرانكو بعد مرض طويل، فانفتح على إسبانيا والأندلس عهد جديد. 8/ 2 - الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية: قضى طرد سنة 1609 م للنخبة المورسكية على التنظيم المورسكي الذي حافظ على الإسلام في الأندلس لمدة مائة وعشرين سنة بعد سقوط غرناطة، فاندثر الإسلام ظاهرًا وبقي حيًّا في قلوب المجتمع الأندلسي، بل ظل كثير من الأندلسيين مسلمين سرًّا. ولم تنجح الكنيسة في تحويل الشعب الأندلسي إلى ما أرادته: كاثوليكي الديانة، إسباني الهوية، بل تكونت منه شخصية جديدة، هي القومية الأندلسية المعاصرة، ذات الجذور الإسلامية الواضحة. أما خرافة تبديل سكان الأندلس بآخرين من الشمال بعد طرد سنة 1609 م، بينت البراهين التاريخية، كما رأينا، والواقع المشاهد، أن لا

أساس لها من الصحة. ولنوضح فيما يلي أهم ما بقي من الآثار الإسلامية في المجتمع الأندلسي المعاصر. أولاً، تنطق كل مظاهر الأندلس الخارجية، في المدن والقرى والقلاع، بالوجود الإسلامي. وبقي الفن المعماري الأندلسي حيًّا، يعتز به أهل الأندلس ويتذوقه غيرهم، كما حافظ البيت الأندلسي المعاصر على طابعه الإسلامي القديم. ويرى اليوم زائر حي البيازين بغرناطة على الشكل الذي وصفه به دي خرقيرا حيث قال بأنه عبارة عن شبكة من الأزقة، منها ما له مخرج ومنها ما لا يخرج منه "وببناءاته ذات الطابع المورسكي، وأزقته الضيقة لدرجة لا يمكن معها أن يمر بها أكثر من شخصين في آن واحد، ومنها ما لا يمكن أن يمر بها إلا شخص واحد". وظلت الحديقة الأندلسية إلى اليوم، فنًّا قائمًا بنفسه، كما أصبحت الشرفة (البلكون) من علامات الهندسة المعمارية الأندلسية المعاصرة. وتشهد أسوار المدن القديمة والمساجد المحولة إلى كنائس، والكنائس المبنية على شكل مساجد، والقصور القديمة، والجديدة التي تحاكي شكل القديمة، كلها تشهد بتواصل الحضارة الأندلسية المعمارية. ولم تتغير قط قرى البشرات، والمنطقة الشرقية وجبال رندة بمقاطعة مالقة، ووادي المنصورة بمقاطعة المرية، منذ سقوطها في يد الجيوش القشتالية. ولكن كل تلك القصور والمساجد إنما هي، كما قال أحد المسلمين الأندلسيين المعاصرين، بقايا قافلة الأندلس التي مرت عبر التاريخ وتركت تلك الآثار، ولكن القافلة الحية هي التي لا زالت قائمة لم تندثر وبقيت الآثار الإسلامية في شخصية أفرادها وتكوين مجتمعها. قام باحث سويدي بدراسة فصائل دم أهل الأندلس، فوجد أن نسب الفصائل المختلفة بينهم تختلف عن باقي إسبانيا وتشابه النسب الموجودة في شمال إفريقيا. ولا حاجة، في الحقيقة، لهذا البحث الدقيق، إذ يمكن لكل ملاحظ أن يرى أن أوصاف أهل الأندلس اليوم تتطابق مع أوصاف الأندلسيين القدامى المحررة في الكتب القديمة، مدينة مدينة ومنطقة منطقة. قال أبو الفضل النيقاشي: "جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب (الموحدي)، بين الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأُريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات مطرب بقرطبة

فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية". وأهل إشبيلية هم كذلك اليوم يحبون الطرب والغناء، كما أن أهل قرطبة اليوم موسومون بالجد والنفور من اللهو. وقال الحجاري عن مدينة شريش: "لأهلها همم وظرف في اللباس وإظهار الرفاهية وتخلق بالآداب، ولا تكاد ترى بها إلا عاشقًا ومعشوقًا". وهي كذلك اليوم، إذ تعد نسبة الشباب فيها من بين السكان أعلى نسبة في القطر الإسباني. ووصف لسان الدين ابن الخطيب أهل غرناطة بأنهم بيض الوجوه، سود الشعور. وهم كذلك اليوم. كما تحدث القدامى عن التنافس القائم بين أهل إشبيلية وجيرانهم أهل طريانة. والحال كذلك اليوم. وبصفة عامة يمكن التعرف على أهل الأندلس بسهولة من بين غيرهم من أهل إسبانيا، لاختلاف سماتهم عن القشتاليين والقطلانيين وغيرهم. وأهم ظاهرة في الهوية الأندلسية المعاصرة هو موقف أهلها من الإسلام. فبعد طرد سنة 1609 م، ظلت الذاكرة الجماعية الأندلسية تحن إليه وتكره الكاثوليكية التي أجبروا عليها وكل ما له صلة بها. وهذا الشعور هو الذي دفع أهل قرطبة إلى الدفاع عن مسجدها الأعظم عندما أراد ملك قشتالة هدمه لبناء كنيسة قوطية على أنقاضه. وظهرت كراهية الأندلسيين للكنيسة إبان ثوراتهم الشعبية المتواصلة والحروب الأهلية في القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين، التي كانوا يطالبون فيها بتحجيم سلطة الكنيسة وتحرير البلاد من هيمنتها، بل ذهب الكثير منهم إلى حرق الأديرة والكنائس وملاحقة الرهبان. بل حتى التراث الصوفي الأندلسي المتظاهر بالنصرانية بعد سقوط غرناطة وإلى اليوم هو تراث إسلامي. فـ "سان خوان دي لا كروس" المتوفَّى سنة 1591 م في أبدة، والذي أعلن قديسًا من طرف البابا سنة 1726 م، و"دكتورًا للكنيسة" سنة 1926 م، إنما هو في كل أفكاره وأعماله من أتباع الشيخ ابن عباد صوفي رندة، المولود بها سنة 1371 م، والذي هو بدوره من أتباع الشيخ المربي أبي الحسن الشاذلي. وكذلك الوضع بالنسبة للصوفية الأندلسيين المسمين بالمتنورين (آلومبرادوس)، فهم في الحقيقة أتباع للطريقة الشاذلية. وبعد سنة 1975 م، وحصول إسبانيا على الديموقراطية وفصل سلطة الكنيسة عن الدولة، أظهر الأندلسيون شعورهم الحقيقي بالنفور من الكنائس وهيمنة أية سلطة على ضمائرهم. وقد ظهر في بحث قامت به الكنيسة أن أقل نسب زوار الكنائس من

بين مجموع السكان في إسبانيا توجد في المقاطعات الأندلسية الثمانية، وأقلها على الإطلاق مقاطعة قادس حيث لا تزيد فيها هذه النسبة على الخمسة في المائة من مجموع سكانها. ومن جهة أخرى نفر الأندلسيون المعاصرون من الرهبنة، حتى أصبحت معظم كنائس الأندلس مقفلة أو مفتوحة للسيّاح. ولا يعني هذا أن الأندلسيين المعاصرين لا يؤمنون بالله، بل عكس ذلك، هم شعب يؤمن، لكن تجربته التاريخية أدت إلى ذكرى جماعية لديه جعلته ينفر من الكنيسة ويقترب من الإسلام. ففي العادات الشعبية المعاصرة في منطقة البشرات، تخيف الأم طفلها قائلة له: "سيأتيك رجل السمن"، وذلك لأن الرهبان في القرن السادس عشر الميلادي كانوا يأتون بشحم الخنزير للبيوت، ويجبرون أهلها على أكلها، ويعاقبونهم إذا رفضوا ذلك. ومن مظاهر اعتزاز الأندلسيين المعاصرين بجذورهم الإسلامية ما قامت به بلدية فرجليانة بمنطقة الشرقية (مقاطعة مالقة). فقد أقامت في كل أزقة المدينة وشوارعها رسومًا من الزليج تحتها كتابات بالإسبانية تذكر المقاومة الإسلامية أيام ثورة غرناطة الكبرى. ومثال ذلك هذه الكتابة: "وعم السكوت الرهيب قرية فرجليانة. وظل المرتفع مهجورًا، والأجسام ميتة، وصوت مارتين الوزير (زعيم المقاومة الإسلامية المحلية) يقول: إذا متنا في سبيل الدفاع عن حريتنا ونحن نجاهد، فستستقبل أمنا الأرض ما أنتجته، ومن لم يغطه كفن فلن تبخل عليه السماء بغطاءها. لم يشأ الله أن يقال إن رجال بني طوميز (منطقة فرجليانة) هابوا الموت في سبيل الدفاع عن وطنهم". ومثال ذلك احتفال بعض المدن السنوي بانتصار المسلمين على النصارى كما تفعل بلدة قمارش (بالشرقية كذلك) يوم 25 مارس من كل سنة إلى اليوم، وقد حضر هذا الاحتفال بدعوة من البلدية كاتب هذه السطور سنة 1990 م. ومثال ذلك أيضًا الكتب التي تنتجها المدن الكبيرة والصغيرة تبين فيها أصولها الإسلامية، كما فعلت قمارش ومنطقة الشرقية وعذرة والمرية وغيرها من المدن والقرى والمناطق. وأجبر الأ - صلى الله عليه وسلم - إلى تكوين لهجة أندلسية لها سمات خاصة ورثتها عن اللغة العربية. ولمدة

طويلة، كان الأندلسيون مزدوجي اللغة، يتكلمون الأعجمية الأندلسية واللهجة العربية الأندلسية في آن واحد، بينما كانت العربية الفصحى لغة حضارتهم. وقد أثرت الأعجمية الأندلسية في العربية الأندلسية، ثم اندثرت بانتشار اللغة العربية في مملكة غرناطة. وفي القرن السادس عشر، عندما أرغم الأندلسيون على التكلم بالقشتالية، كانت لغتهم الدارجة العربية الأندلسية، وكانت اللغة القشتالية غريبة عنهم، فتأثرت مع الأيام بها. ويظهر هذا التأثير بالنسبة للحروف في نطق الهاء مثلاً، في اللهجة الأندلسية المعاصرة. ودخلت في اللهجة الأندلسية المعاصرة مفردات عربية أكثر مما دخل في اللغة القشتالية الفصحى، مثل "القفيقة" و"البطانة" و"البديل" و"شيشارو"، و"الكافر" و"المجاعة"، الخ ... عدا الـ 4.000 كلمة عربية التي دخلت اللغة القشتالية نفسها كـ "القاضي" و"القائد" و"دار الصناعة" و" الضيعة" و" الفندق "و"البناء" و"السطيحة" و"القنديل "و"المعصرة" و"الجبلي" (أي الخنزير البري)، الخ ... كما دخلت في اللهجة الأندلسية تراكيب نحوية عربية كعبارة "دوينيو دي" بمعنى "صاحب كذا" في عبارة "دينيو دي راثون"، أي "صاحب عقل"، التي جاءت من "ذو" في العربية الأندلسية، الخ ... وأثرت العربية كذلك على معاني الكلمات القشتالية، ككلمة "كمبنيرو" بمعنى "صاحب" في اللهجة الأندلسية، وفعل "ببليكار" بمعنى "نشر" في اللهجة الأندلسية. ويعتقد أن تحريف اللام القشتالية إلى راء أندلسية هو من تأثير الدارجة العربية كنطق "أرما" عوضًا عن "ألما" (الروح) أو "سارتار" عوضًا عن "سالتار" (إخراج)، الخ ... وكذلك نطق "الياء" القشتالية "جيمًا" في الأندلسية كـ"جو" عوضًا عن "يو" (أنا)، وإلغاء الدال في وسط الكلمات كنطق "غرنا" عوضًا عن "غرنادا" (غرناطة) و"ينايرو" عوضًا عن "بناديرو" (خباز)، أو في آخرها كـ "بردا" عوضًا عن "برداد" (حقيقة)، إلى آخر التأثيرات التي درستها الكتب المختصة. ويمكن تلخيص التأثير العربي على اللهجة الأندلسية المعاصرة بما قاله أحد الأندلسيين المعاصرين عندما تكلم عن فرض اللغة القشتالية على الأمة الأندلسية: "كان ذلك كما لو أجبرنا على لبس حذاء غير متناسب مع قدمنا، وفوق ذلك كان صغيرًا عليها، مما ضيق علينا جدًّا. فتحول مع الأيام وتبدل إلى أن وصلنا من نظام تفاهم مفروض وعدم ملائم إلى نظام يتناسب أكثر مع خصاصيتنا".

وبرز الأندلسيون المعاصرون في نفس المهن التي برز فيها قبلهم أجدادهم المورسكيون. فالنجارة، مثلاً، كانت مجزأة عند الأندلسيين في العصر الإسلامي إلى ست حرف: النجارة الفنية، والنجارة الخارجية، والنجارة المتواضعة كإصلاح النواعير والطواحين، وما إلى ذلك. وبقي نفس الترتيب في الأندلس إبان القرن السابع عشر كما دل على ذلك كتاب "مختصر نجارة العارفين" الذي نشر سنة 1633 م وهو كتاب تعليمي للنجارة على الطريقة المتبعة أيام الدولة النصرية، وأعيد طبع الكتاب مرة ثانية سنة 1727 م، ومرة ثالثة سنة 1867 م. وقال الناشر في مقدمة هذا الكتاب إن فنون النجارة الموضحة فيه كانت منتشرة في غرناطة وسرقسطة إلى أواخر القرن الثامن عشر. فمن جعل هذا التراث حيًّا سوى أبناء المورسكيين وأحفادهم الذين مكثوا في الأندلس؟ وبقي طابع اللباس والصناعات المتصلة به إسلاميًّا في غرناطة وجبال البشرات إلى آخر القرن التاسع عشر. وبقيت صناعة الحرير حيّة في يد عائلات من أصول إسلامية رغم تأثرها السلبي الشديد بطرد سنة 1609 م. وبقيت صناعة الخزف التي كانت ببلدة فج اللوزة (مقاطعة غرناطة) أيام الدولة الأندلسية إلى ما هي عليه إلى اليوم. والأمثلة على ذلك كثيرة في مناطق أخرى من الأندلس. وكانت الزراعة في الأندلس نتيجة عبقرية المسلمين الأندلسيين في خدمة الأرض وتجميلها، فاشتهروا ببراعتهم في إنشاء الحدائق وتزيينها، وزراعة أشجار الفواكه، فاشتهر وادي آش إلى اليوم بالتفاح (التفاح الجلياني)، ومالقة بالتين، وشرف إشبيلية بالزيتون، الخ ... ويتهم الغرب الأندلسيين اليوم بما يتهم به جميع الشعوب الإسلامية من التواكل والكسل وحب اللهو، والتمادي في الخيال وحب الشعر. ويُنعت الأندلسيون إلى اليوم خارج منطقتهم في إسبانيا بكلمة "مورو" (مسلم)، وهذا يدل على أن صورة الأندلس في نظر باقي إسبانيا لا زالت إسلامية. وهكذا يراهم السياح الأوروبيون، كالفرنسي فيلار الذي زار إسبانيا بين سنتي 1679 م و 1681 م، فقال عندما حضر في مباراة لعب الفرسان بالثيران: "وهذه اللعبة من بقايا المسلمين الذين لم تطرد بطردهم من إسبانيا أفكارهم ولا طرق تعاملهم نهائيًّا". وطريقة توزيع ملكية الأرض في الأندلس المعاصرة هي أكبر شاهد لاستمرارية الأمة الأندلسية عبر محنتها. فبعد سقوط مدن الأندلس ومقاطعاتها المختلفة، صودرت

8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م):

أراضي الأهالي ووزعت على طبقتين من المستفيدين: الكنيسة والنبلاء، وكلاهما من الشمال النصراني. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وزعت أراضي شاسعة على أجانب فرنسيين وإنكليز. فأصبحت أرض الأندلس في يد عدد صغير من الملاك الأجانب عن الأندلس، بينما ظلت الجماهير الأندلسية، المنحدرة من أصول إسلامية، تعمل دون أرض، وتعيش مآسي الاستغلال والحرمان. ففي أوائل القرن العشرين، كان واحد في المائة من أصحاب الأرض في الأندلس يملكون 42 في المائة منها. وفي شريش، يملك ثلاثة في المائة من أصحاب الأرض 67 في المائة منها. وتتوزع 45 إلى 81 في المائة من المزارع الغنية بمناطق إشبيلية وأطريرة وأستجة وقرمونة على الملاك الغرباء. وأدى هذا الوضع إلى مشكلة أخرى، وهو أن الملاك، الكنيسة والنبلاء، الذين يملكون أراضي الأندلس ومزارعها ومناجمها، لا تربطهم بها رابطة، فينقلون ما يستثمرونه من أرضها إلى مناطق أخرى في إسبانيا لبناء المصانع واستثمار الأموال. لذا نرى حتى اليوم أن اقتصاد منطقة الأندلس اقتصادًا استعماريًّا، تصدر فيه الأندلس المواد الأولية المعدنية والزراعية إلى باقي إسبانيا، ثم تعود إلى شرائها منها مصنوعة بأغلى الأثمان. فتصدِّر بذلك عمل أبنائها، الذين يضطرون إلى الهجرة إلى قطلونية وأوسكادي ومجريط للعمل في أحطِّ المِهَن، لدرجة أصبح يكوِّن فيها الأندلسيون اليوم النصف الأكثر فقرًا من سكان قطلونية، ونسبة كبيرة من سكان أوسكادي ومجريط، وأصبح عدد الأندلسيين في إسبانيا، خارج الأندلس يساوي عددهم في الأندلس (سبعة ملايين). كما اضطر عدد كبير من الأندلسيين إلى الهجرة إلى غرب أوروبا، يشاركون إخوانهم المغاربة مرارة الغربة وصعوبة العيش، وكذلك العنصرية والاضطهاد. وأصبحت من أهم أنشطة الأندلس السياحة الجماعية التي غيرت شكل سواحلها وثقافة أبنائها، والصناعة الملوثة التي نشرت الخراب والمرض في كثير من مناطقها كمنطقة ولبة. رأينا إذن أن جميع المعالم الجغرافية والإثنية واللغوية والحضارية والأخلاقية والاقتصادية المعاصرة للشعب الأندلسي كلها ذات جذور إسلامية، فمتى شعر الأندلسيون المعاصرون بهوية خاصة بسببها؟ 8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م): ظل الشعور بالانتماء الأندلسي دفينًا في نفوس أهل الأندلس دون تعبير واضح إلى أن غزت، سنة 1808 م، جيوش نابليون الفرنسية إسبانيا، بما فيها الأندلس،

وعاثت فيها فسادًا، فانهارت أمامها مقاومة الملك والنبلاء والحكومة والدولة في مجريط، وتركوا البلاد لمصيرها. فقامت الشعوب الإسبانية تدافع عن نفسها، كل شعب من جهته يعود في نضاله إلى أصالته. وثار أهل الأندلس ضد الغزو الفرنسي كأندلسيين. وفي 14/ 7 / 1808 م، استسلمت لهم البحرية الفرنسية في قادس. وفي 19/ 7 / 1808 م، كسبت المقاومة الأندلسية معركة مصيرية في بايلن (مقاطعة جيان) ضد الجيش الفرنسي. وفي 17/ 12 / 1808 م، تكونت حكومة سرية في إشبيلية تحت اسم "المجلس الأعلى المركزي" اعترفت بها كل قوى المقاومة في البلاد كممثل عنها. وبعد سنتين من المقاومة المتواصلة، عمت المجاعة مقاطعات الأندلس. واستطاعت مدينة قادس تحرير نفسها رغم الحصار الذي فرضه الفرنسيون عليها ورغم غاراتهم البحرية والبرية المتواصلة. وصمد سكان قادس بمساعدة إنكلترا، فخططوا مع المقاومين الأندلسيين الآخرين لبناء إسبانيا جديدة بعد خروج الفرنسيين، وذلك بكتابة دستور جديد للبلاد، عرف فيما بعد بدستور قادس، أعلن في 19/ 3 / 1812 م. جعل هذا الدستور إسبانيا مملكة دستورية، وحدّ من سلطات الملك والكنيسة، وقرر الديموقراطية في المعاملة بين الأفراد والجماعات والشعوب الإسبانية، واعترف، لأول مرة، بالأندلسيين كإحدى الشعوب الإسبانية ذات الشخصية المميزة. ظل دستور قادس مطلب الحركات التصحيحية في إسبانيا طوال القرن التاسع عشر. وفي سبتمبر سنة 1812 م، اضطر الفرنسيون إلى الرحيل تاركين وراءهم الفقر والخراب. لكن الملك فراندو السابع سرق ثورة الأهالي بعد رجوعه، وخيب آمالهم، فألغى دستور قادس الذي لم ير نور التطبيق قط، وعاد إلى النظام المركزي والاستبدادي البالي من تحكم الكنيسة وقشتالة في البلاد بأكملها. وفي 1/ 1 / 1820 م، اندلعت الثورة من "لاس كبساس دي سان خوان" (مقاطعة إشبيلية) بقيادة رفائيل دل رييغو، طالب الثوار فها بالعودة إلى دستور قادس. فانضمت إليهم القوات العسكرية في إشبيلية وقادس وشريش وباقي الأندلس. ثم انضمت إلى الأندلس مناطق إسبانيا الأخرى. وفي 7/ 3 / 1820 م، اضطر الملك فراندو السابع ومجلس الكورتس إلى قبول دستور قادس على مضض. وفي سنة 1821 م، حاول خوزي مورينو كيرا إعلان جمهورية قادس، وتحويل الأندلس إلى جمهورية مستقلة.

ولم يكن فراندو السابع مخلصًا في قبوله لدستور قادس، فاستغاث بالكنيسة وبالفرنسيين فاتحدا وكونا قوة غزت إسبانيا من بلدة "بايون" تحت صرخات: "عاش الملك المستبد عاش الدين (يعني الكاثوليكي) عاشت محاكم التفتيش". واجتمع جيش من اليمينيين قوامه أربعون ألف رجل استطاع أن يطرد مساندي دستور قادس والقبض على رييغو، قائد الثورة. وفي 3/ 10 / 1823 م، أصدر الملك أمرًا بالعودة إلى ما قبل 7/ 3 / 1820 م، وألغى بذلك دستور قادس. فثار الأهالي في إشبيلية وغيرها من المدن الأندلسية، وهجموا على محكمة التفتيش وحطموا آلات التعذيب بها. وفي 28/ 2 / 1831 م، قام الجنرال طريخوس بحركة عسكرية للمطالبة بدستور قادس، فأنزل قواتًا بحرية قرب الجزيرة الخضراء. لكنه اضطر إلى الالتجاء إلى جبل طارق حيث اتصل به حاكم مالقة العسكري، ووعده بالمساندة شرط قدومه إلى مالقة. فصدقه طريخوس وأبحر في خمسين من مسانديه قرب ميناء سهيل. ولكن حاكم مالقة غدر به عند اقترابه منها، فقبض عليه وأعدمه. وتتابعت محاولات العودة إلى دستور قادس كالإنزال البحري الذي قام به الجنرال مانزنارس على شواطىء قادس، وثورة استانسلو فرناندس وأهل بلدة لوس باريوس (مقاطعة قادس). وثورة أهل قادس ضد حاكمها العسكري وإعدامهم له، وغيرها من ثورات الأفراد والجماعات، كمريانة دي بنيدا التي أعدمت لرفعها للعلم الأخضر، الذي يمثل الأندلس الإسلامية، والذي أصبح شعارًا للأندلسيين. تابعت وصية إيسابيلا الثانية سياسة زوجها، وعينت سيا برمودس وزيرًا لها. فثارت عليه الأندلس وطالبت بطرده وإجراء إصلاحات سياسية. فأقصته الوصية وأحلت محله مرتينز دي لا روزا الذي لم يرض هو الآخر المطالبين بالإصلاح، فخلفه الكوندي دي تورينو دون أي تغيير في السياسة. وفي مارس سنة 1835 م، انطلقت الثورة من مالقة، فتكوّنت قوة شعبية طردت ممثلي الحكومة، وانتخبت مجلسًا ثوريًّا لإدارة مقاطعة مالقة حسب دستور قادس، ومطالبة الحكومة المركزية بتطبيقه كذلك. وتبعت المدن الأندلسية الأخرى مثال مالقة، المدينة تلو الأخرى: إشبيلية (مقاطعة إشبيلية)، وقادس والجزيرة الخضراء وشنت رخ وميناء شنتمرية وشريش وشلوقة (مقاطعة قادس)، ورندة وأندوجر (مقاطعة مالقة)، وجيان (مقاطعة جيان)، والمرية (مقاطعة المرية)، وقرطبة (مقاطعة قرطبة)، وغرناطة

(مقاطعة غرناطة). وهكذا ثارت معظم مقاطعات الأندلس ضد الحكومة المركزية في مجريط. ولم يصل شهر غشت عام 1835 م، حتى عمت ثورة الأندلس جميع مناطق إسبانيا الأخرى، عدا قشتالة القديمة التي بقيت موالية للحكومة، فتكونت فيها مجالس ثورية محلية. ثم اتحدت المجالس الثورية المختلفة في الأندلس، وكونت جيشًا شعبيًّا أندلسيًّا بقيادة بيلاباديرنا لإزاحة الحكومة المركزية في مجريط بالقوة. فأرسلت الحكومة لملاقاته، ومنعه من الوصول إلى العاصمة، جيشًا بقيادة الجنرال لاستر. والتقى الطرفان في وادي دسبينيا بروس (مرمى الكلاب)، على حدود الأندلس مع قشتالة الجديدة. وسمي هذا الوادي بهذا الاسم أيام اضطهاد المسلمين حيث كان النصارى يرمون جثثهم في هذا الوادي. فانضم عدد كبير من جنود الحكومة إلى الجيش الأندلسي، مما ساعده على إلحاق هزيمة ساحقة بجيش الحكومة. فرجع الجنرال لاستر إلى مجريط في ثلة من أتباعه، وقرر الجيش الأندلسي عدم ملاحقته. وأدى انهزام الحكومة إلى إحلال منذيزابال محل دي تورينو في رئاسة الحكومة في سبتمبر سنة 1835 م، وكان رجلاً تقدميًّا، له حنكة سياسية كبيرة وسمعة طيبة، وكان قد قضى على الثورة الكارلية سنة 1833 م. فنجح في إقناع المجالس الثورية قبول تعيين الحكومة لها. كما قرر إلغاء أفضلية الابن الأكبر في الوراثة، ومصادرة أراضي الكنيسة وذلك لإرضاء الطبقة البورجوازية الصاعدة التي كانت عمود الثورة الفقري. وفي 2/ 9 / 1835 م، رفضت المدن الأندلسية أن ترضخ لمطالب منديزابال، بل توحدت عبر "مجلس أعلى للثورة" مقره بلدة أندوجر (مقاطعة جيان) يمثل جميع الأندلس عبر ممثلين من جميع مقاطعاتها. وانتخب المجلس الكوندي دي دوناديو، ممثل مدينة جيان، رئيسًا له، وأرسل إنذارًا للحكومة في مجريط يعبر فيه عن رغبة الأندلسيين في حكم ديموقراطي على أساس دستور أندوجر وجعل الحكومة مسؤولة أمام الإرادة الشعبية. ثم كون المجلس جيشًا أندلسيًّا للدفاع عن الأندلس. لكن منديزابال نجح ببراعته السياسية في إقناع المدن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى بالرجوع للحكومة. وفي 19/ 10 / 1835 م، اضطر مجلس الثورة الأعلى الأندلسي في أندوجر أن يحل نفسه.

كانت أحداث سنة 1835 م مهمة في تكوين القومية الأندلسية المعاصرة، إذ تحركت فيها الأندلس لأول مرة منذ ثورات المورسكيين كأمة واحدة أمام الحكم المركزي في مجريط، وكانت الثورات قبل ذلك إسبانية في الأندلس وليست أندلسية. وخير تقدير لأهمية ثورة 1835 م ما قاله بلاس انفانتي، مؤسّس القومية الأندلسية المعاصرة، إذ قال: "لقد أعطت الأندلس سنة 1835 م برهانًا واضحًا عن وجود شعور وحدة مصيرية في منطقتها، تنبض فيه رغبتها في المساهمة، كوحدة تشعر بنفسها، في سيادة الدولة المركزية. وقد كونت الولايات الأندلسية الموحدة أكبر وأقوى مقاومة لمنديزابال، وأنشأت أمام القوى المركزية قوة جهوية فاعلة، لها جيشها الخاص، تعاملت ندًّا لند مع كرستينا (الوصية على العرش). وأعلنت أسس الحكم الشعبي، وتصرفت بشرف وأخلاق". ودرس أكوستا سانشس دستور أندوجر لسنة 1835 م، فوجده "أكثر الأنظمة أصالة للتفكير الكنفدرالي". تكون مجلس الثورة الأعلى في أندوجر من ممثلين عن كل واحدة من المقاطعات الأندلسية الثمانية، وأعطى الدستور لكل مقاطعة حكمها الذاتي. فأساس دستور أندوجر هو تمثيل المدن الأندلسية المشترك أمام العالم الخارجي دون التدخل في شؤونها الداخلية. لذا كان لكل مجلس ثوري محلي شعور كامل بسيادته المحلية، وبانتمائه في نفس الوقت للأندلس في وحدة متكاملة. وقال أكوستا: فقد كان مجلس أندوجر الأعلى "أول بداية حكومة أندلسية، بل الوحيدة، في القرون الأخيرة". وبعد ثورة عام 1835 م، رجعت إسبانيا إلى فسادها الأول: سيطرة الكنيسة عبر رهبان متعصبين وجهلة، وفساد الإدارة، وانتشار الرشوة. وأخذت الحكومة تحشد الفقراء في جيشها لقتلهم في حروب خاسرة، وتتخذ قرارات بإصلاح زراعي لا يستفيد منه إلا الأغنياء. وظلت الأندلس أفقر مناطق إسبانيا، يرزح مزارعوها تحت تجاوزات النبلاء الشماليين الذين يملكون الأرض، أو من مآسي البطالة حيث كانت الحكومة تفضل تنمية قطلونية كمركز لصناعات النسيج، وأوسكادي للصناعات الثقيلة. وإذا كان تأسيس "مجلس أعلى للثورة" الأندلسية سنة 1835 م تعبيرًا عن انبعاث الهوية الأندلسية في المدن، فقد بقي الفلاح الأندلسي جاهلاً، جائعًا، غير قادر على التعبير عن آرائه. وفي 30/ 6 / 1857 م، توجه عدد من الفلاحين الأندلسيين بقيادة مانويل كارو، إلى بلدتي الرحى وأطريرة (مقاطعة إشبيلية) يطالبون بأرض أجدادهم. فاحتلوا

البلدتين، وأحرقوا سجلاتهما العقارية. فلاحقهم الجيش إلى جبال بني عوجان (مقاطعة مالقة)، وقتل منهم 25 فلاحًا، وسجن الباقين. وفي 12/ 7 / 1857 م، أعدم الجيش منهم 25 فلاحًا آخرين. وأدى هذا الحدث الدامي إلى تغير في موقف الفلاح الأندلسي الذي أخذ يتغلب على عقدة الخوف المسيطرة عليه، ويطالب بحقوقه المهضومة. وفي أواخر سنة 1861 م، اشتعلت اضطرابات جديدة بين فلاحي الأندلس، ابتدأت في ملينة (مقاطعة مالقة) حيث جمع رفائيل بيريز دل ألامو، وهو من مواليد بلدة أركش (مقاطعة قادس) يعمل بيطريًّا في بلدة لوشة (مقاطعة غرناطة)، عددًا من الفلاحين، واحتلوا بلدة حصن آشر (مقاطعة غرناطة) حيث انضم إليهم أهلها، ثم لوشة. فانضم إليهم عدد من فلاحي الحامة وحصن آشر وأنتقيرة وما جاورها من مقاطعتي غرناطة ومالقة. فأرسل بيريز منشورًا إلى الحكومة يقول فيه: "لتعرفوا أن هدفنا هو الدفاع عن حقوق الإنسان واحترام أرضه وسكنه وأفكاره". ونظم بيريز حكومة شعبية، مقرها لوشة، وجيشًا مكونًا من 10.000 فلاح أندلسي للدفاع عنها. فلاحقه جيش الحكومة من لوشة إلى الحامة، حيث اضطر إلى الاستسلام خوفًا على الأهالي. وفي سنة 1911 م، توفي بيريز فقيرًا منسيًّا في أركش، جاهلاً دوره الأساسي في تقوية الهوية الأندلسية لدى الفلاحين. وفي سنة 1857 م، أسس في إشبيلية فرانسسكو مارية دي توبينو، وهو أندلسي من قادس، جريدة "الأندلس"، وهي "جريدة السياسة والتجارة والزراعة والمعادن والفنون والآداب والخطوط الحديدية والأهداف الاتحادية" كما وصفت نفسها. ثم تابعت الجريدة بقيادة خوان، أخي مؤسسها، نشاطها في نشر التوعية الأندلسية إلى سنة 1899 م. وفي سنة 1869 م، ظهرت جريدة "الفدرالية الأندلسية" في قادس، ثم جريدة "الدولة الأندلسية". وفي 18/ 9 / 1868 م، أعلنت البحرية الثورة في قادس (الأندلس) ضد إيسابيلا الثانية، بقيادة الجنرال بريم. فانضمت إليها إشبيلية ثم المدن الأندلسية الأخرى: قرطبة ومالقة وغرناطة وولبة وأنتقيرة وطريف وقرمونة وغيرها، وكونت مجلسًا للثورة. وفي 21/ 9 / 1868 م، أرسلت الحكومة الجيش للقضاء على الثورة، فالتقى مع جيش الثوار الأندلسيين أمام القليعة، قرب قرطبة، فانهزم جيش الحكومة. وفي 30/ 9 /

1868 م، توصل مجلس الثورة ببرقية من مجريط تقول "ذهبت دونيا إيسابيلا دي بوربون (الملكة) وكل عائلتها إلى فرنسا"، وبهذا انتصرت الثورة. ولم يرضَ الجمهوريون عن انتخاب الجنرال سرانو رئيسًا للثورة. وفي 3/ 12 / 1968 م، اجتمع عدد منهم في البيارة (مقاطعة قرطبة) لنشر أفكارهم، وهي المطالبة بتأسيس جمهورية اتحادية في إسبانيا تعترف بالحكم الذاتي للأندلس، وإلغاء الدين الكاثوليكي كدين الدولة الرسمي، فمنعتهم السلطات بالقوة مما أدى إلى قتل اثنين منهم. وفي 4/ 12 / 1868 م، تمرد عمال ميناء شنتمرية (مقاطعة قادس)، فقضى الجيش عليهم في مذبحة كبيرة، هرب بعدها الناجون منها إلى الجبال لمتابعة المقاومة. وفي 6/ 12 / 1868 م، ثار أهل قادس وضواحيها، برئاسة فرمين سالبوشيا، واحتلوا المدينة، ثم انتشر التمرد إلى مالقة وغرناطة وإشبيلية وشريش. فكونت الحكومة جيشًا خاصًّا لمقاومة التمرد في الأندلس، نجح في مهمته بعد قتل أكثر من ثلاثة آلاف أندلسي. وفي 1/ 1 / 1869 م، ثارت مالقة فاحتلتها الحكومة في اليوم التالي. وفي 3/ 1 / 1869 م، لحقتها شريش وإشبيلية. وكان لهذه الأحداث دور كبير في تركيز الهوية الأندلسية بين جميع أهل الأندلس، إذ اجتمع فيها، لأول مرة، أهل المدن وأهل البادية لمطالب أندلسية واحدة. وأصبحت ذكرى 4 ديسمبر يومًا للأندلس يحييه سنويًّا الوطنيون الأندلسيون، بما فيهم المسلمون. وفي 18/ 5 / 1869 م، وقع ممثلون عن أراغون وقطلونية وبلنسية والجزر الشرقية "حلف طرطوشة الاتحادي" الذي تبنى أفكار بلانتين آلميرال في إنشاء جمهورية إسبانية كنفدرالية، أو فدرالية، تدخل فيها "الدول" المذكورة أعلاه كوحدات ذات سيادة. وفي 12/ 6 / 1869 م، تبعت الأندلس مثال قطلونية باجتماع ممثليها مع ممثلي مرسية واسترمادورا وتوقيع "حلف قرطبة الاتحادي"، الذي انضمت إليه فيما بعد الجزر الخالدات، مساندين أفكار بي اي مارغال الجمهورية الاتحادية. وتابعت حكومة الجمهورية، التي أعلنت سنة 1873 م، نفس السياسة المركزية. فثارت المدن الأندلسية مرة أخرى، وكونت كنتونات في مالقة وإشبيلية وقادس وقرطبة وغرناطة. وفي 21/ 7 / 1873 م، نشرت هذه الكنتونات منشورًا من دسبنيا بروس أعلنت فيه عدم ثقتها بحكومة مجريط، ونعتتها بأنها أكثر مركزية من سابقاتها، وطالبت "بالتأسيس الفوري للولايات الكنفدرالية". وانتهى المنشور قائلاً:

8/ 4 - بروز الحركة الأندلسية ودور بلاس إنفانتي:

"تقع فوق دسبنيا بروس قلعة الحرية التاريخية التي لا تقهر. قد زرعنا البارحة علم الدولة الأندلسية المستقلة، وأسسنا كنتونات الدولة الأندلسية". فتنازل بي إي مارغال عن رئاسة حكومة الجمهورية التي سيطر عليها اليمينيون المركزيون برئاسة سلمرون الذي أرسل الجيش ضد الأندلس، وقضى على السيادة الأندلسية لإعادة المركزية إلى إسبانيا. بعد 3/ 1 / 1874 م، ورجوع الملكية، أصبحت الحركات الجمهورية والاتحادية سرية من جديد، وساد الجوع والفقر في الأندلس، فتنظم الفلاحون الجائعون في منظمات إرهابية، كاليد السوداء وغيرها، زرعت الرعب في البلاد لمدة سنتين. وفي 20/ 5 / 1874 م، التقى ممثلون عن أربعين مقاطعة إسبانية، بما فيها الأندلسية، في جمع عام تأسيسي لـ "الحزب الجمهوري الاتحادي". وفي 31/ 5 / 1883 م، عقد هذا الحزب اجتماعه العام الثاني في سرقسطة، حضره ممثلون عن 44 مقاطعة إسبانية، منها خمسة من المقاطعات الأندلسية الثمانية، وانتخبوا القطلاني بي إي مارغال رئيسًا للحزب، واتفقوا على الشكل الذي يريدونه للدولة الإسبانية. وفي 27/ 12 / 1883 م، اجتمع الجمهوريون الاتحاديون الأندلسيون في مدينة أنتقيرة (مقاطعة مالقة)، وانتخبوا لرئاستهم أنطونيو أزواغا، واتفقوا على مشروع "دستور أنتقيرة" الذي خطط لإنشاء دولة أندلسية اتحادية، ديموقراطية تمثيلية، مستقلة ذات سيادة، تضمن فيها الحريات الشخصية بتنسيق مع الحريات الجماعية، تفصل فيها السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، تكون عضوًا في كفندرالية إيبيرية. وأصبح "دستور أنتقيرة" أساس المشاريع الاتحادية التي اقترحها المفكرون الأندلسيون فيما بعد. 8/ 4 - بروز الحركة الأندلسية ودور بلاس إنفانتي: تتلخص أهم سمات الحركة الأندلسية في القرن التاسع عشر في الانتماء إلى منطقة واحدة (الأندلس)، وأمة واحدة (الأندلسية)، والمطالبة بحقوقها، والوقوف في وجه تجاوزات الدولة المركزية، والكنيسة الكاثوليكية، والإقطاع الزراعي. ولم يدرس أحد من المفكرين الأندلسيين حينذاك مقومات الأمة الأندلسية الخاصة بها. فهل الأندلسيون يرتبطون فقط بمصالح خاصة متصلة بمنطقتهم؟ أم هم قومية تختلف

عن كل القوميات الأخرى بخاصيات مميزة؟ وإن كان كذلك فما هي هذه الخاصيات؟ الأندلسي الذي أجاب على هذه الأسئلة لأول مرة بما هو مقبول عند معظم الأندلسيين هو بلاس إنفانتي بيريز الذي يعده جميع الأندلسيين، بما فيهم المسلمون، أبا قوميتهم ومفكر انبعاثهم المعاصر. ولد بلاس إنفانتي في بلدة قشريش (مقاطعة مالقة) في 5/ 7 / 1885 م، أمه خنيزة بيريز رومو، وهي امرأة قوية ودينة، سليلة عائلة تزعمت الحركات الثورية في بلدة قشريش منذ حركتي طاهر الحر وتريخوس ومن تبعهما ممن حاولوا الدفاع عن الأندلس، فهي ابنة اغناسيو بريز دي بركاش إي سلاس، رجل ثقافة وقانون، ومارية رومو بيرا. أما والد بلاس إنفانتي فهو لويس إنفانتي أندرادس، رجل مستقيم يعيش من أملاكه الزراعية، وهو ابن بلاس إنفانتي كلورادو وأنطونيا أندرادس لويس. وبعد سنتين، ولد شقيقه ايغناسيو الذي أصبح فيما بعد قاضيًا ببلدة قزلون (مقاطعة جيان). درس بلاس دراسته الابتدائية في قشريش، وتربى في بيت والده على المبادىء العليا والاستقامة. وفي سنة 1896 م، دخل مدرسة "خسوس نزارينو" (اليسوع الناصري) الداخلية، التابعة للرهبان "الاسكلابيين" بمدينة أرشذونة (مقاطعة مالقة). وفي يونيو سنة 1897 م، تقدم لدخول "معهد المقاطعة للدراسة الثانوية" بقبرة (مقاطعة قرطبة) كمسجل حر. فتخرج منه سنة 1900 م، بشهادة "الباشلراتو" للدراسة الثانوية. وكان بلاس إنفانتي يعلم الفلاحين الأندلسيين الكتابة والقراءة في عطله، فتعلم الكثير عن مشاكلهم وحياتهم الاجتماعية. وبعد تخرجه، رجع بلاس إنفانتي إلى قشريش حيث عمل مساعدًا لأبيه الذي التحق بأمانة محكمة قشريش بعد أن فشلت أعماله الزراعية. فتكلف جده لأمه بتوجيهه لمتابعة دراسة القضاء، فالتحق بقسم الحقوق من كلية الفلسفة والآداب بجامعة غرناطة، وتخرج منه بامتياز في أكتوبر سنة 1906 م. فتعرف بلاس إنفانتي إبان مقامه في غرناطة، على التراث الإسلامي الأندلسي، فزار المدرسة الشرعية التي بناها بنو الأحمر قرب مسجدها الأعظم الذي بنيت على أنقاضه كتدرائية المدينة. فدخل الإسلام أعماق الشاب الأندلسي الذي رأى ما رآه فراندو باسكس أوكانيا: "من ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وابن عربي الذي قلده

دانتي، ومن ابن شهيد، كاتب الرسالة التي قص فيها سياحة شاعر عبر الجنة، وابن حزم الذي ترك لنا طوق الحمامة، أو كتاب الحب، إلى الوزير الغرناطي ابن زمرك الذي بقيت قصائده مسجلة على جدران الحمراء". ففتحت أزقة غرناطة وأهلها وأرواح شهدائها عيني بلاس إنفانتي على عظمة الإسلام وحضارته الأندلسية، وأخذ شعوره الفطري بالهوية الأندلسية يأخذ شكل شعور الهوية الإسلامية الأندلسية. رجع بلاس إنفانتي بعد تخرجه من جامعة غرناطة إلى قشريش حيث هيأ نفسه لمباراة العدالة. فسافر إلى غرناطة وإشبيلية وقرطبة ومجريط لتهيىء امتحاناته. فاجتمع في تلك المدن بزعماء الحركة الأندلسية، وتعرف فيها على مزيد من التراث الإسلامي الأندلسي. وأصبح يفكر في أن الهوية الأندلسية ليست هوية عرق أو دم ولكن هوية "وجود" و"معرفة" وآمن بوحدانية الله الواحد الذي هو إله أهل الجمعة والسبت والأحد. دخلت الأندلس السنوات الأولى من القرن العشرين وهي في حركة مصيرية من اكتشاف النفس. ففي سنة 1905 م، صدر كتابان، أحدهما "مأساة الأندلس" لآثورين، والثاني "هذه الشمس الأم الطاغية" لخوزي أندرس باسكس، يصفان مآسي المجاعة والبطالة في المقاطعات الأندلسية، خاصة إشبيلية وقادس وولبة، وعدم مبالاة الحكومة المركزية بتخفيفها، ولا الأحزاب الوطنية الكبرى، اليمين منها واليسار. وفي سنة 1907 م، زار بلاس إنفانتي إشبيلية، فوجد فيها نشاطًا فكريًّا كبيرًا: جمعيات شباب لدراسة تاريخ الأندلس، و"ألعاب وردية" تلقى فيها الخطب الحماسية الأندلسية، وجو ثقافي وسياسي حي يشارك فيه المحامون والأطباء والكتاب والفنانون. ولم يتمكن بلاس إنفانتي من الحصول على عمل ككاتب عدل رغم تفوقه، حيث كان سنه أقل من 25 سنة، سن العمل القانوني. وفي سنة 1909 م، تحولت "الألعاب الوردية" في "أتينيو" إشبيلية إلى احتفال قومي أندلسي، خطب فيه ماريو ماندس بخارانو خطبة حماسية مؤثرة عن الشخصية الأندلسية كان لها تأثير عميق في البلاد، فتدارسته الجرائد والجمعيات الثقافية. وكان تجاوب المفكرين مع ذلك الخطاب برهانًا على أن الأمة الأندلسية لا زالت حية. وفي شهري سبتمبر وأكتوبر سنة 1912 م، نشرت جريدة "اللبيرال" (المحرر) اليومية الإشبيلية سلسلة مقالات عن "ضرورة إنشاء كيان سياسي جهوي في الأندلس" عناوينها: "ماذا تفكر الأندلس؟ "، "من أجل مجلس أندلسي"، الخ ...

وفي سنة 1910 م، عين بلاس إنفانتي عدلاً في بلدة قطنيانة (مقاطعة إشبيلية)، وسكن في إشبيلية القريبة منها صحبة شقيقه إغناسيو الذي كان يهيىء مباراة العدالة. وابتدأ بلاس إنفانتي ينتقل بين قطنيانة وإشبيلية حيث يحضر المحاضرات، ويداوم على ريادة أتينيو إشبيلية مشاركًا في نشاطه الثقافي الأندلسي. وتعرف في قطنيانة على مهندسين زراعيين كان لهما تأثير عميق في تفكيره لا يقل عن تأثير الفلاح الأندلسي الذي عاش معه بلاس إنفانتي ورأى فقره وعذابه تحت الظلم والطغيان. فالأول، أنطونيو ألبندين أورخون، أصله من رندة، كانت له مجلة اسمها "الأمبوستو أونيكو" (الضريبة الوحيدة) نشر فيها أفكار الأمريكي هانري جورج حول "الاقتصاد الطبيعي" وطبقها لأول مرة على الأندلس ليبرهن على أنها منطقة اقتصادية طبيعية. والثاني، خوان سانشز ميخيا. ثم شارك بلاس إنفانتي في "المؤتمر الدولي الأول للاقتصاديين الفيزوقراطيين" الذي انعقد في رندة بتاريخ 26 - 28/ 5 / 1913 م حيث التقى ببشكوال قريون، أحد المختصين في مشاكل الأرض والإصلاح الزراعي الأندلسي الذي أصبح فيما بعد زميل إنفانتي في كفاحه. ألقى إنفانتي في المؤتمر أول خطبة سياسية اجتماعية له عن الأندلس، افتتحها بتحية أندلسية، ثم قال بصوت المحتج: "إن أغنى أرض في إسبانيا مقفلة عن العمل. فالثيران الهمجية (يعني نبلاء الشمال) تسمن، والأراضي تمنع من أبنائها الذين يجبرون على الهجرة، والاحتكار ينمو ويترعرع بهمجية، ويصعب التعريف بهذا الوضع أمام أنانية السادة وعدم مبالاة العبيد". ثم قال: "وقد جاءت الساعة لكي يتحرر الإنسان من سيطرة الإنسان". وانتهى مؤتمر رندة بتأسيس "الرابطة الأندلسية الجورجية" التي ساهم أعضاؤها، كشيكو كانكا والبارس أزوريو وليسوس أورتيقا، مساهمة فعالة في الحركة الأندلسية في بداية القرن العشرين الميلادي. وفي سنة 1913 م كذلك، شارك خوزي ماري اسكيردو في "أتينيو" مجريط في إحدى الاجتماعات السياسية حول اللامركزية، وألقى فيه خطابًا تاريخيًّا طالب فيه بنظرية متكاملة للقومية الأندلسية، كما طالب أن تكون الأندلس منطقة حرة على المستوى الذي تستحقه من كونها وارث المملكة الإسلامية الأندلسية. وهكذا ربط مفكر أندلسي لأول مرة القومية الأندلسية بماضيها الإسلامي. ثم قال: "وهذه الديموقراطية ليست إلا ديموقراطية الممالك النصرانية الغازية (يعني الشمال) فهل سينتهي غزو الأندلس؟ ". وكان لهذا الخطاب تأثير عميق في فكر بلاس إنفانتي.

وفي سنة 1913 م، زار إشبيلية فرانسسكو كامو، زعيم الحركة القطلانية في برشلونة بدعوة من "أتينيو" إشبيلية لإلقاء خطاب افتتاح "الألعاب الوردية"، فأعطى بذلك للحركة الأندلسية جدية، وزكاها بمساندة الحركة القطلانية لها. لكن بلاس إنفانتي لم يرتح لعلاقة القطلاني كامبو بالحركة الأندلسية. فالقومية القطلانية تختلف في أساسها عن الأندلسية، وللبورجوازية القطلانية مصلحة في استغلال موارد الأندلس الطبيعية ويدها العاملة الرخيصة لصناعتها وكأن الأندلس مستعمرة لقطلونية. فلم ير إنفانتي أنه من الممكن التعاون في المرحلة الراهنة بين القومية القطلانية والقومية الأندلسية الناشئة. وفي 21/ 11 / 1913 م، قُبل إنفانتي في مجلس المحامين. وفي 23/ 3 / 1914 م، ألقى خطابًا في قسم العلوم الأخلاقية والسياسية في "أتينيو" إشبيلية عن "النظرية الأندلسية"، كان أساس كتابه التاريخي عن القومية الأندلسية. وتسبب الخطاب في مجادلة حادة بينه وبين خوزي مارية اسكيردو، أحد القوميين الأندلسيين، حول مواضيع دينية. وفي نفس السنة فتح إنفانتي مكتب محاماة في ساحة أرغويلس بإشبيلية. وفي سنة 1914 م، ظهرت الطبعة الأولى من كتاب "النظرية الأندلسية" في إشبيلية، يوضح فيه إنفانتي نظريته حول القومية الأندلسية، مما جعله كتاب الفكر الأندلسي الأساسي. ضم الكتاب عدة مقالات عن انبعاث الأندلس، و"حول الجهوية الأندلسية". وفي نفس السنة، ابتكر إنفانتي فكرة تأسيس المراكز الأندلسية، وأسس أولها في إشبيلية سنة 1916 م، تبعته مراكز أخرى في مدن وقرى المقاطعات الأندلسية الثمانية. وكان قد أصدر عدد من القوميين الأندلسيين مجلة "بتيكا" (اسم الأندلس القديم) في 20/ 11 / 1913 م. فلم يرتح إنفانتي للمجلة، فأصدر سنة 1916 م، بعد أن تعاون معها، مجلة "الأندلس" كلسان حال المراكز الأندلسية والحركة القومية الأندلسية كما يراها إنفانتي. صدرت المجلة في طبعة إشبيلية شهرية بمركز إشبيلية الأندلسي، وأخرى قرطبية أسبوعية، أصغر من سابقتها، بمركز قرطبة. واختلفت مجلة "الأندلس" عن مجلة "بتيكا" بكون الأخيرة كانت تتطرق للمجالات الثقافية والنظرية، بينما تطرقت مجلة "الأندلس" بصفة أوضح للمبادىء، والتعريف بها وتعميمها بالطرق السياسية.

ومع الأيام تحول "مركز إشبيلية الأندلسي" إلى مركز أنشطة أندلسية، تثقيفية وتخطيطية، ومنه خرج المنشور الداعي إلى "اجتماع المقاطعات الأندلسية" في رندة، الذي استعمل عبارة "الأمة الأندلسية" لأول مرة، بينما بقي "أتينيو إشبيلية" مركزًا للنخبة المثقفة فقط. وتحولت المراكز الأندلسية إلى مدارس مجانية لتعريف الأندلسيين بأمجادهم وتقوية الهوية الأندلسية فيهم. وهكذا أصبح بلاس إنفانتي، بأفكاره وحركيته، رئيس تيار جديد للقومية الأندلسية. وفي 16/ 6 / 1917 م، ألقى إنفانتي بصفته رئيس "مركز إشبيلية الأندلسي" محاضرة أساسية أعطت لأفكاره نضوجًا ثوريًّا، حيث قال: "لقد قلت فيما مضى، وأكرر اليوم، بأن إسبانيا الكلاسيكية، إسبانيا التي نعرفها، قد ماتت، لأنها اليوم يعوزها الشعور بالقضاء على نهم من أنهوا حياتها ... قبل الحرب وبعدها، لم تتمكن إسبانيا في المجتمع الأوروبي أن تبرهن على قوميتها". وقال بأن إضرابات العمال دفاعًا عن مطالبهم إنما تدل على أنهم لا زالوا أحياء. ثم قال: "إن الأحزاب السياسية الحالية لا تتجاوب اليوم مع طلبات الشعب. تحتاج إلى رجال جدد. ومن هؤلاء الرجال نحن في المركز الأندلسي. هل تعرفون ما هو روح الحياة؟ إنه القومية الجديدة. فجذور الشعب توجد في وطنية أبنائه. وهذه الوطنية هي التي تدفعنا نحن لتحقيق عمل إنقاذ وطني". ثم تتحول لهجته، فيقول: "لقد مر قرن منذ أن أعلنت الجمهورية الفرنسية الحرية فمن عمل بهذه الحرية؟ نحن نريد الحرية الاقتصادية. لنا الحرية السياسية، ولكن ما عسانا أن نفعل بها؟ ألنكون عبيدًا للإقطاعيين؟ ". ثم قال: "القاعدة الأساسية لإنقاذ الأندلس هي حرية الأرض". وأخيرًا صرح بوضوح: "نحن لسنا بصدد إنشاء حزب، نحن نريد إنشاء شعب قادر أن يحكم نفسه بنفسه ... وإذا أدى نضالنا إلى حتفنا، فسنموت سعداء لكوننا قمنا بالواجب". وفي 13 - 14/ 1 / 1918 م، انعقد اجتماع "مجلس المقاطعات الأندلسية" في رندة وحضره كامبو ممثلاً عن الحركة القومية القطلانية وقد حدد الاجتماع معالم القومية الأندلسية في حركتها المستقبلية في النقاط التالية: 1 - الاعتراف بالأندلس كبلد وقومية ومنطقة ذات حكم ذاتي ديموقراطي على أساس دستور أنتقيرة لسنة 1883 م؛ 2 - اختيار العلم الأخضر والأبيض (خطوط أفقية أخضر فأبيض فأخضر) علم الأمة الأندلسية، ورمز قادس شعارًا لها؛ 3 - إعطاء المساندة الكاملة لما يسمى "مجلس البرلمانيين" السرية في مجريط وبرشلونة، التي أقامت إبان الحرب العالمية الأولى سنة

8/ 5 - تطور الحركة الأندلسية: إسلام بلاس إنفانتي واستشهاده:

1916 م اجتماعًا في لوزان (سويسرا) للقوميات التي ليست لها دول، حضرها ممثلون عن بريطانيا (الفرنسية) وسكوتلاندة، وقطلونية وأوسكادي. ثم تقدم إنفانتي وخوزي أندرس باسكس، باسم المؤتمر، لهيئة الأمم طالبين منها الاعتراف بالقومية الأندلسية. وهكذا حاولت القومية الأندلسية إيجاد حلفاء لها داخل إسبانيا وخارجها. وقد كان لإنفانتي دور كبير في قرارات رندة حيث لخص الموقف السائد في المؤتمر بما يلي: "إن القوميين الأندلسيين لا يبتكرون شيئًا جديدًا: نحن نقتصر فقط على الاعتراف بوجود أمتنا كما صنفها تاريخنا". وفي أواخر سنة 1918 م، خطب إنفانتي الآنسة أنغوستياس غارسيا بارياس، ابنة صديقه الخاندرو غارسيا، أديب من بلدة بنيافلور (مقاطعة إشبيلية)، وتزوجها في 9/ 2 / 1919 م في بيت أهل العروس ببلدة بنيافلور. وعارضت هذا الزواج عائلة أم العروس، إذ هم أحفاد أنطونيو بارياس كرة، رجل كاثوليكي صاحب مال وجاه، فلم يروا بعين الرضا زواج بنتهم بالعدل الأندلسي المعادي للكنيسة. ولكن والد العروس تغلب على تحفظات زوجه وأهلها. فكانت أنغوستياس نعم الزوج المساندة لزوجها في نضاله من أجل هوية الأندلس. واستقر إنفانتي بعد زواجه في إشبيلية. 8/ 5 - تطور الحركة الأندلسية: إسلام بلاس إنفانتي واستشهاده: ومنذ سنة 1918 م واجتماعات "مجلس المقاطعات الأندلسية" في رندة، دخل إنفانتي اللعبة السياسية للتعريف بأفكاره القومية الأندلسية. فتقدم لانتخابات منطقة غسان - أشتبونة (مقاطعة مالقة) حيث توجد قشريش. فلم يفز في الانتخابات. وفي يناير سنة 1919 م، شارك إنفانتي في اجتماع "المجلس الإداري الأندلسي" التأسيسي برئاسة القومي الأندلسي ديونيسو باستور الذي كان إنفانتي يكن له احترامًا كبيرًا. وانتهى الاجتماع بالاتفاق على "تخطيط نظري للقومية الأندلسية" كان له تأثير هام على مجرى الفكر القومي الأندلسي. ثم رجع إنفانتي إلى قرطبة لحضور "مجلس العلاقات بين المراكز الأندلسية" الذي انعقد في 23 - 25/ 3 / 1919 م. وفي منتصف سنة 1919 م، تقدم إنفانتي لانتخابات مجلس النواب في مقاطعة غسان باسم "الديموقراطية الأندلسية". فهيأ لها أكثر من سابقتها، وأظهر فيها آراءه بوضوح، إذ قال في منشور انتخابي: "سيسترجع الشعب والفلاح الأندلسي أرضه، أراد الذين يعيشون من دم الأمة أم لم يريدوا؟ أراد ذلك الإقطاعيون وزعماء السوء

الذين يخاطرون حياة الأمة ويطردون جماهير الشعب الجائعة جسمًا وروحًا، الهاربة من ظلمهم، يشدها الجوع والألم، إلى الموانىء للهجرة، أم لم يريدوا". وقال في خطاب أمام أهالي غسان: "نريد حرية الأندلس، داخل اتحاد ايبيري، حتى تتمكن الأندلس من اختيار طريقة حياتها بنفسها واختيار طريق تقدمها دون أن يحكمها قانون أجنبي عنها وعن مصالحها". وهكذا قام إنفانتي ضد مصالح القوى المركزية التي كانت تقرر في مجريط من ينجح في الانتخابات عبر نفوذها المالي والإقطاعي. ورسب إنفانتي مرة ثانية في هذه المحاولة الانتخابية. ثم تقدم في نفس السنة لانتخابات أشبلية لـ 31/ 5 / 1919 م، إذ كون قبل ثلاثة أيام "الديموقراطية الأندلسية" كإئتلاف بين الجمهوريين الاتحاديين والقوميين الأندلسيين والاشتراكيين المستقلين. ولم يحصل إنفانتي سوى على 1.331 صوت، لكن غضبت عليه السلطة الحاكمة واليمين، واتهموه وأتباعه من القوميين الأندلسيين بالتآمر على أمن الدولة ووحدتها، وقرروا منعهم من دخول مجلس النواب بإطلاق الإشاعات الكاذبة ضدهم، وشراء ضمائر ضعفاء أتباعهم، والسخرية من مبادىء القومية الأندلسية. ثم أسس إنفانتي في إشبيلية دار ومكتبة "أبانتي" (التقدم) للنشر، نشر فيها عدة كتب له، منها "كتاب الشاطىء"، و"هيئة الأمم"، و"ادعاء الأندلس أمام مؤتمر السلام" و"الدكتاتورية التعليمية" حول النظام الشيوعي والتعريف به، وأصبحت المكتبة بيتًا للأندلس، ومجمعًا للمثقفين القوميين، كما أسس "مركز الدراسات الأندلسية". وفي سنة 1920 م، ظهر كتاب إنفانتي "المعتمد ملك إشبيلية الأخير". وهي قصة مسرحية تاريخية، عرّف إنفانتي عن طريقها بجذور الهوية الأندلسية الإسلامية، ودفع القارىء إلى التعاطف مع الإسلام والانتماء إلى حضارته، مما جعل المعتمد ابن عباد موضوع حب وأغاني في إشبيلية إلى يومنا هذا. وقد استند إنفانتي في مسرحيته على تاريخ أبي القاسم بترجمة "دوزي". تبتدىء المسرحية في "مراعي الفضة" بإشبيلية في يوم سوق من أيام الربيع في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، وتنتهي عند قبر المعتمد ابن عباد في بلدة أغمات بالمغرب في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي. وفي سنة 1921 م، ظهر كتابان لإنفانتي: "قصص الحيوانات". و"الاختيار والدين والأخلاق". أما الكتاب الأول فتحاكي قصص الحيوانات فيه أدوار البشر،

وتربط القارىء الأندلسي بأرضه، وتقوي محبته لها ورغبته في الدفاع عنها. أما الكتاب الثاني فلقد عبر إنفانتي فيه عن إيمانه بالله الواحد الخالق، الأول والآخر، وعن كراهيته لكل من يجعل نفسه وسيطًا بين الإنسان وخالقه، خاصة الكنيسة الكاثوليكية، إذ قال: "رائحة القداس تحطم شذا عطر الحقيقة"، وأن التنظيم الكنسي يتعارض مع مبدأ الإيمان. عبر بذلك إنفانتي في الكتاب عن مبادىء إسلامية في عمقها، ورثها عن أجداده عبر قرون الاضطهاد، كما ورثها أفراد أمته الأندلسية، فأصبحت عنصرًا مهمًّا من عناصر الهوية الأندلسية. وكانت سنة 1921 م سنة أمل للقوميين الأندلسيين رغم الأوضاع السياسية المضطربة في مجريط. فانتشرت "المراكز الأندلسية" في المدن والقرى، وانتشر معها الفكر الأندلسي في المجالات الثقافية والاجتماعية، بينما ضعفت الحركة السياسية. وتحمس إنفانتي في هذه الحقبة إلى عدة مشاريع: "مجلس الشيوخ البيتيقي" كهيئة لوحدة الأندلس الثقافية والاجتماعية؛ و"أكاديمية قومية" حقيقية في الأندلس للآداب والعلوم والفنون؛ ونفق يربط المغرب بالأندلس عبر مضيق جبل طارق. ثم فكر إنفانتي في إنشاء مركز نشر عربي إسباني، ومركز نشر جهوي إسباني أمريكي، ومركز أندلسي سينمائي. وبصفة عامة، فكر إنفانتي في إنشاء روابط ثقافية قوية تربط الأندلسيين بعضهم البعض، وبالمغرب ذي الثقافة الإسلامية، وبأمريكا الجنوبية ذات الثقافة الأندلسية. وفي سنة 1923 م، سافر إنفانتي وزوجه إلى بيت أخيه في مجريط حيث كان والده مريضًا، فتوفي أثر مرضه. ألحت العائلة على بلاس بالبقاء في مجريط خوفًا عليه من الرجوع إلى إشبيلية، وقد ساءت الأحوال السياسية فيها، وأصبحت الدكتاتورية وشيكة. وكانت زوجة بلاس إنفانتي قد ضاقت من نشاطه السياسي، وأرادت أن يهتم أكثر بعائلته. وافق إنفانتي على الانتقال من إشبيلية بعد أن سيطر على الحكم الديكتاتوري الجنرال بريمو دي ريبيرا (الذي كان أندلسيًّا) في 13/ 9 / 1923 م، لكنه أصر على البقاء في الأندلس. فنقل عمله كموثق عدل، في أواخر سنة 1923 م، من قطنيانة (مقاطعة إشبيلية) إلى إيسلا كريستينا (مقاطعة ولبة)، قرب حدود البرتغال. قضت الدكتاتورية على الحريات بما فيها حرية التعبير، وأقفلت "المراكز الأندلسية"، واتهمت القوميين الأندلسيين بمقاومة الدولة، وأسكتت القوى المعادية

للكنيسة والقوى اليسارية. فانسحب إنفانتي من العمل السياسي، ونصح أتباعه بذلك، ورفض المشاركة في المؤسسات الأندلسية الكاذبة التي أسسها النظام، وجعلها في يد اليمينيين. وركز إنفانتي على التفكير في مصير الأندلس، وفي جذور الهوية الأندلسية. فأدت هذه الحقبة إلى تحول هام في حياته، وبالتالي في مسار الحركة الأندلسية. ففي 15/ 9 / 1923 م، في ذروة معارك الريف، قرر إنفانتي زيارة قبر المعتمد ابن عباد في أغمات بالمغرب، رغم المخاطر. فصحبه رجل اسمه بيدال، وموسى بن عبد المؤمن، ترجمان مسلم من وهران. وصل إنفانتي إلى أغمات، وزار قبر الأمير الأندلسي، وشعر بانطواء الزمن، وحلم برهة وكأن سنين الآلام لم تكن، ولم يكن اضطهاد للشعب الأندلسي، ولا قُضي على شخصيته ودينه ولغته وهويته وأرضه وكرامته وعرضه وشرفه، ولم تكن هناك لا قشتالة ولا كنيسة. وتعرف إنفانتي في أغمات على بعض أبناء الأندلس، منهم عمر الدكالي ورجل ينحدر من بني الأحمر، فأشهر بلاس إنفانتي على يديهما إسلامه، وبكى من عظمة اللحظة، فأهداه صديقاه جلبابًا وخنجرًا، هديتين رمزيتين ظلتا مع بلاس إنفانتي إلى آخر حياته، الأولى إعادة لما عمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بإعطاء برده عليه السلام إلى كعب بن زهير عندما قال: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول والثانية شعارًا للنضال الذي ينتظر إنفانتي من أجل تحرير الشعب الأندلسي من الشتات والضياع والمسخ الثقافي والحضاري، وإرجاعه إلى أصالته وينابيعها الإسلامية. وحاول إنفانتي بعد إسلامه ربط الحركة الأندلسية بالحركات الإسلامية والعربية. ابتدأ إنفانتي، عند رجوعه إلى إيسلا كريستينا بكتابة "جذور الفلامنكو وأسرار الكانتي هوندو". وهو كتاب برهن فيه عن الجذور الإسلامية للأغنية "الفلامنكية" و"الهوندية"، وأنها تعبير لآلام وصيحات الشعب الأندلسي المظلوم أمام إرهاب محاكم التفتيش وتسلط الدولة الإسبانية. وبهذا يكون "الفلامنكو" و"الكانتو هوندو" خيطين من خيوط الهوية الأندلسية التي تربط حاضر الأندلس التعس بماضيها المجيد. وفي صيف سنة 1925 م، رجع إنفانتي مع زوجه إلى منطقة قشريش حيث قضى الصيف مع شقيقه وأهله ووالدتهما. ومرت السهرات في وسط عائلي في الحديث عن الأندلس وأمجادها حول كؤوس القهوة. أما الخمر فلم يكن بلاس إنفانتي يشربه قط، كما كان تام الاستقامة في حياته الخاصة، لا يعرف عنه أي زيغ.

وفي صيف سنة 1926 م، التحق ببلاس إنفانتي في إيسلا كريستينا شقيقه وأبناء أخواله فرانسسكو سالاس وليوكارديو بريز دي بركاش وأخت سالاس مع زوجها الجنرال سانتالا. فذهب الجميع في رحلة سياحية على مشارف وادي يانه يتذكرون أحاديث الصبا، وكلها تدور حول الأندلس وتاريخها. ويعتقد الدارسون لحياة بلاس إنفانتي أنه ورث حبه للأندلس عن أمه وأهلها، وهي التي كانت تقص عليه في صباه مآسي أجدادها المورسكيين، وعظمة الأندلس القديمة، وتضحيات الثورات الإسلامية الرافعة للأعلام الخضراء والبيضاء، وثورة طاهر الحر. فبقيت تلك الأحاديث عالقة بذهنه، كما بقيت مثيلاتها عالقة بأذهان الملايين من مواطنيه الأندلسيين. وفي 28/ 5 / 1928 م ازدادت لبلاس إنفانتي وزوجه، "لويزا خنيزا" ابنتهما الأولى، ثم "مارية" (4/ 8 / 1930 م) و"الكريا" (24/ 9 / 1935) و"لويس بلاس"، ابنه الوحيد (26/ 11 / 1931 م). وفي سنة 1929 م، اتصل إنفانتي في جليقية بزعماء حركتها القومية المجتمعين حول جريدة "نوس"، كما ظل على صلة بزعماء الحركة القومية القطلانية. ومنذ هذه السنة أخذ إنفانتي يكتب رسائل إلى صديقيه "فرانسسكو شيكو كانكا" و"رفائيل أشوا بيلا" حول مبادىء القومية الأندلسية، وإمكانية الرجوع إلى الحركية بعد انتهاء الدكتاتورية المتوقع. أظهرت هذه "الرسائل الأندلسية" تحولاً جديدًا لفكر إنفانتي إلى وضوح أكبر، وخططت لمسار القومية الأندلسية بعد سنة 1931 م. ومن أقواله فيها: "إن المسؤولية متساوية للجميع أمام الهدف المشترك، لكل واحد حسب مقدوره وكفاءته. يختار كل واحد نضاله بحرية في أعمال مختلفة كل حسب ميوله. نريد أن نؤسس أمة". ثم يقول: هدفنا هو "تحرير الشعب الأندلسي روحيًّا واقتصاديًّا". وفي سنة 1930 م، انتهت الدكتاتورية. فأخذ إنفانتي يفكر في الرجوع إلى إشبيلية وإعادة تنظيم المراكز الأندلسية على أسس جديدة. فنقل عمله كموثق عدل إلى بلدة قورية بالقرب من إشبيلية. وفي سنة 1931 م، أسس إنفانتي "مجلس الأندلس التحرري" عوضًا عن المراكز الأندلسية القديمة. وكان نشاط سياسي أكبر منها دون أن يكون حزبًا جديدًا. وفضل إنفانتي الدخول في حزب يسهل المبادىء الأندلسية دون أن يكون أندلسيًّا. فانضم إلى "الحزب الجمهوري الاتحادي"، وتقدم باسمه للانتخابات التشريعية في

قرطبة وإشبيلية، بعد إعلان الجمهورية، مستعملاً برنامجه الثوري الأندلسي. فألح في خطبه على ضرورة الرجوع إلى الأصالة الأندلسية، ومجد بجامعة قرطبة الإسلامية التي علمت أوروبا كلها الحضارة والتمدن، وطالب الأندلسيين باستعادة الهوية والتاريخ والأرض، وطالب بإزاحة هيمنة الكنيسة على الدولة والتفريق بينهما. كما طالب بحرية التعليم ومجانيته. وهاجم الكنيسة التي عد من أكبر جرائمها طردها للمسلمين الأندلسيين، وقضاءها بذلك على "زهرة ما تبقى من ثقافتنا". ثم هدد، إذا لم تستجب الحكومة المركزية لمطالب الشعب الأندلسي، بإعلان الجمهورية الأندلسية، "والدفاع عنها ولو أدى ذلك إلى استشهادنا، لإنهاء الاستعمار الخبيث الذي قضى على الأندلس كشعب شرقي". ورفض إنفانتي الانضمام إلى الشيوعية أو التعامل معها لإيمانه بالإله الواحد الأحد، وأخذ إنفانتي في هذه الحقبة يذكر أمجاد الأندلس القديمة في خطبه، ونضال المسلمين الأندلسيين، بما فيهم المورسكيين، وعظمة مسجد قرطبة الأعظم وقصر الحمراء، ويطالب بتحرير الناس والقلوب والثقافة والأرض والاقتصاد. كلام خطير حينذاك. وفي أبريل سنة 1930 م، انعقد في دهلي بالهند مؤتمر "الشعوب التي لا دول لها"، شارك فيه عن القوميين الأندلسيين الشاعر الأندلسي المسلم آبل قدرة، الذي بيّن في خطبته للحاضرين أن نضال تحرير الأندلس هو جزء من نضال شعوب آسيا وإفريقيا المغلوب على أمرها، وأبان أن جذور القومية الأندلسية هي الإسلام، وقال: "والإسلام هو الدوام؛ ماذا بقي لنا من الإسلام؟ بقي لنا الشعور بقوة الله وتوازنها. فالإسلام ليس روحانية فقط، بل هو حركية كذلك؛ وإذا كان نبوة، بل رسالة، فهي ليست تنبؤًا للمستقبل، بل تخطيطًا لمستقبل أفضل عبر الجهاد المتواصل؛ والدوام ليس فكرة فقط، بل هو عقيدة؛ وهذه العقيدة هي تجربتنا تجربة الأندلس أيام عزها؛ نحن في المجلس الثوري قضاة ضد الجريمة التي ضحيتها القدس، قضاة ضد جرائم الغرب ضد أرض هي شرقية أساسًا: أرض الأندلس". وقال آبل قدرة في خطابه المذكور، منذرًا بقرب انبعاث إسلامي في الأندلس، مشيرًا إلى المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القدس بفلسطين، ما يلي: "وعندما سُأل أحدهم في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد سابقًا عن ديوان الأندلسيات الذي يرمز إلى نضال الأرض، كان الجواب فمن نحن؟ وإلى من ننتمي؟ فكالشيعي الذي يتحرق دائمًا على قبر الحسين، نحن في قلوبنا حرقة تسمى الأندلس ... الأندلس ... شرقية في

أقصى الغرب. الأندلس ليست أوروبا، فأوروبا هي أوروبا ... والأندلس مستعمرتها؛ ... ويجب أن نعرف كيف نوازي تجربتنا الفلسطينية بتجربتنا العظيمة الزكية الأندلسية". ثم التقى إنفانتي بالحركات التحررية العربية عبر مجلة "الأمة العربية" (لاناسيون آراب) في جنيف (سويسرا) التي كان ينشرها الأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري. هذه أفكار إنفانتي والقوميين الأندلسيين الواضحة بعد عشرينات القرن العشرين الميلادي: هوية الأندلس إسلامية، وليست غربية، مما دفع أعداءهم إلى رميهم بالاتهامات المتواصلة. فبسبب دخول بعض الطيارين مع إنفانتي في انتخابات إشبيلية، اتهمت الحكومة المركزية الحركة الأندلسية بالقيام بمؤامرة ضد أمن الدولة فيما يسمى بـ "مؤامرة طبلاتة" (وطبلاتة قاعدة جوية في الأندلس). فأوقفت الحكومة الحملة الانتخابية الأندلسية، وأمرت مدير عام الحرس المدني بإلقاء القبض على زعماء الحركة الأندلسية بتهمة التآمر للقيام بثورة وإعلان الجمهورية الأندلسية. فقبض مدير عام الحرس المدني على بعض ضباط طبلاتة، وعندما لم يجد دليلاً على اتهامات الحكومة أطلق سراحهم. ورد إنفانتي على هذه الاتهامات في كتاب سماه "بيان حقيقة حول مؤامرة طبلاتة ودولة الأندلس الحرة". وكانت "مؤامرة طبلاتة" في الحقيقة مؤامرة حكومية، تلاعبت بعدها الحكومة بأوراق الاقتراع لمنع القوميين من النجاح في الانتخابات. ورغم ذلك حصل إنفانتي في إشبيلية على 7.800 صوت، وفي مقاطعتها على 5.955 صوت. وفي سنة 1932 م، ركزت "مجالس الأندلس التحررية" عملها في كتابة مشروع "دستور حكم ذاتي للأندلس". وفي 29 - 31/ 1 / 1933 م، اجتمعت في قرطبة مجالس المدن والقرى المختلفة برئاسة خوزي أندرس باسكس للوصول إلى مشروع نهائي، وكونوا "مجلس الحركة الأندلسية" لتطبيق قرارات قرطبة لسنة 1933 م. وفي نوفمبر سنة 1933 م، تقدم إنفانتي صحبة إدواردو أورتيقة أي كاسي لانتخابات مقاطعة مالقة كقومي أندلسي مستقل، فلم يحصل على أصوات كافية. ولم يكن ذلك هدفه، بل كان هدفه التعريف بمبادئه عبر الحملة الانتخابية. وفي نفس السنة بنى إنفانتي بيتًا في قورية ذا طابع أندلسي سماه باسم عربي "دار الفرح". ولم تتحرك الحركة الأندلسية طوال سنة 1935 م بسبب مقاومة اليمين واليسار لها. وتابع إنفانتي كتاباته: "حكم منتخب جديد" و"الكتاب" و"السفر إلى النهاية"

و"التضامن والانفصال". واجتمع إنفانتي في هذه السنة في إشبيلية ببريمو دي ربيرا. الدكتاتور السابق، وكانت نتائج الاجتماع سلبية. حاول رئيس مجلس الأندلس التحرري في إشبيلية، بعد انتخابات فبراير سنة 1936 م، تطبيق قرارات قرطبة. وفي 6/ 7 / 1936 م، انتخب المجلس إنفانتي رئيسًا له. وفي الأسبوع التالي، حضر إنفانتي اجتماعًا أندلسيًّا في قادس رفع فيه العلم الأندلسي (الأخضر والأبيض) على بلديتها. وفي 14/ 7 / 1936 م، رفع العلم الأندلسي في اجتماع مماثل على مبنى بلدية إشبيلية. وفي 18/ 7 / 1936 م، انفجرت الحرب الأهلية الإسبانية. وفي يوم الأحد 2/ 8 / 1936 م، هجمت فرقة من الكتائب التابعة لفرانكو على إنفانتي في "دار الفرح" وساقته إلى إشبيلية، حيث سجنته. وحاولت زوجه مع خالها بدرو بارياس كونسالس، حاكم إشبيلية، إنقاذه، دون جدوى بل سيق إنفانتي إلى سينما خاوركي. وفي فجر يوم الاثنين 10/ 8 / 1936 م، سيق إلى طريق قرمونة وأعدم رميًا بالرصاص، فمات شهيدًا - رحمه الله - وهو يصرخ مرتين "عاشت الأندلس حرة! ".

مراجع الفصل الثامن

مراجع الفصل الثامن 8/ 1 - Piere Vilar "Histoire de l'Espagne" Que Sais-je, Paris, 1986. 8 / 2 - Francisco Henriquez de Jorquera "Anales de Granada, Description del Reino y Ciudad de Granada. Cronica de la Reconquista (1482- 1492) , Sucesos de los Anos 1588 a 1646", Edition de Don Antonio Marin Oceto, 2 Volumenes, Granada, 1934. 8 / 3 - R.A. Reyment "Moros y Cristianos" Lamalif, Vol. 1, p. 13-24, 1989, Cordoba, Espana. 8 / 4 - أحمد المقري "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1966 م، المجلد الأول، صفحة 155. 8/ 5 - مرجع (8 - 4)، المجلد الأول، صفحة 184. 8/ 6 - Miguel Asin Palacios "Empreintes de l'Islam" Al-Andalus, XXIIe, 1957, p. 117-130. 8 / 7 - Manuel Tellez Laguna "Comares: Un Marquesado en la Axarquia" Malaga. 1987. 8 / 8 - Juan de Dios Mellado "Axarquia: Luz del Mediteraneo" Malaga, 1989. 8 / 9 - Victoria Cuenca Gnecco "Adra la Vieja: Siglo XVI" Adra, 1985. 8 / 10 - Cristina Segura "Bases Socioeconomicas de la Poblation de Almeria (S.X) " Madrid, 1979. 8 / 11 - A. Medina Molera "La Herencia Islamica y Arabe en La Lengua y Literatura Aljamiado" Primero Congreso Mundial Andalusi, Castel- lar de la Frontera (Cadiz) , 2-5 / 9 / 1989.

8/ 12 - J. Croninas "Dicconario Critico Etimologico de la Lengua Castella- na"Madrid. 8 / 13 - "Breve Compendio de la Carpinteria de lo Blanco, y Tratado de Alarifes" Sevilla, 1633. 8 / 14 - Manuel Gomez Moreno "La Faience de Falauza (Grenade) " Art Populaire (Travaux Artistiques et Scientifiques du Premier Congres International des Arts Populaires) , Paris, 1931, p. 236-237. 8 / 15 - Marquis de Villars "Memoires de la Cour d'Espagne de 1679 a 1681 Publies et Annotes par M.A. Morel Fadio" Paris, 1893. 8 / 16 - J. Zurita y Calafat "La Verdad Sobre el Campo Andaluz", Madrid, Tup Fortanet, 1916. 8 / 17 - Ref. (8.1) , p. 63. 8 / 18 - J.M. Cuenca Toribio "El Colonialismo de la Economia Andaluza Contemporanea: Una Version Heterodoxa" Cordoba, Escudero, 1976. 8 / 19 - P. Janke"Mendizabal y la Instauration de la Monarquia Constitu- tional en Espana (1790-1853) " Madrid, Siglo XXI, 1974. 8 / 20 - I. Obarri "La Cuestion Regional en Espana, 1808-1939" La Espana de las Autonomas, Madrid, 1981, Vol. 1. 8 / 21 - Fernando Repiso "Simbolos y Derechos Andaluses" Sevilla, 1980, p. 122-144. 8 / 22 - Juan Antonio Lacomba Abellan "Regionalismo y Autonomia en la Andalucia Contemporanea (1835-1936) , Granada, 1988, p. 23-31. 8 / 23 - Blas Infante "Ideal Andaluz" Reed, Sevilla Junta Andalucia / Fonda- tion Blas Infante, 1982, p. 185-186. 8 / 24 - J. Acosta Sanchez "La Constitution de Antequera, Estudio Teorico- Critico" Sevilla, Fondation Blas Infante, 1983. 8 / 25 - Ref. (8.22) , p. 33-39. 8 / 26 - J.J. Trias y A. Elorza "Federalismo y Reforma Social en Espana (1840-1870) " Madrid, Seminarios y Editiones, 1975, p. 432-450. 8 / 27 - Ref. (8.26) , p. 411-431. 8 / 28 - J. Acosta Sanchez "Andalucia. Reconstrucion de una Identidad y la Lucha Contra el Centralismo" Barcelona, Anagrama, 1978, p. 146.

8/ 29 - Ref. (8.22) , p. 41-52. 8 / 30 - J.L. Ortiz de Lanzagorta "Blas Infante, Vida y Muerte de un Hom- bre Andaluz" Sevilla, 1979. 8 / 31 - Ref. (8.30) , p. 90. 8 / 32 - Blas Infante Perez "Ideal Andaluz" Madrid, 1914. 8 / 33 - Ref. (8.30) , p. 158-161. 8 / 34 - Ref. (8.30) , p. 170-180. 8 / 35 - Ref. (8.30) , p. 188-189. 8 / 36 - Ref. (8.30) , p. 200-201. 8 / 37 - Blas Infante Perez "Motamid, Ultimo Rey de Sevilla" Sevilla, 1920. 8 / 38 - Blas Infante Perez "Cuentos de Animales" Sevilla, 1921. 8 / 39 - Blas Infante Perez "Reeletion, la Religion y la Moral" Sevilla 1921. 8 / 40 - Manuel Ruiz Lagos "El 98 Andaluz: Joaquim Costa y Blas Infante. Progresso y Regeneration" Paiz Andaluz, Jerez de la Frontera, 1978. 8 / 41 - La Voz (Cordoba) , 19 / 6 / 1931. 8 / 42 - Ref. (8.30) , p. 210. 8 / 43 - Abel Gudra Discurso de Delhi "Acerca del Reino de Andalucia y de su Position en el Comite Insurrectional de los Pueblos de Oriente" Ms Inedito, 1930. 8 / 44 - Manuel Ruiz Lagos "Blas Infante" Fondation Blas Infante, 1984, p. 72-75.

الفصل التاسع انبعاث القومية الأندلسية 1975 - 1990 م

الفصل التاسع انبعاث القومية الأندلسية 1975 - 1990 م 9/ 1 - دكتاتورية فرانكو (1939 - 1975 م): قضى بلاس إنفانتي شهيدًا للقضية الأندلسية كما ضحى معه في سبيلها طائفة من المفكرين الأندلسيين بحياتهم؛ منهم فدريكو غارسيا لورقا، شاعر غرناطة الفذ، الذي ولد في بلدة "فونتي باكيروس" (عين رعاة البقر) بمقاطعة غرناطة في 5/ 6 / 1898 م. وكان فدريكو غارسيا يعبر عن حب أهل الأندلس للحرية في أشعاره، فاقتادته كتائب فرانكو وأعدمته رميًا بالرصاص في 18/ 8 / 1936 م. وأصبح بلاس إنفانتي بعد استشهاده أب الأندلسيين الروحي، وباعث نهضتهم، والمثال المناضل من أجل حريتهم. وقد شردت قوى الشر أهله بعد اغتياله، وطردت زوجته وأطفاله الصغار من "دار الفرح" بيت سكناهم. وطالبت أرملة بلاس إنفانتي سلطات فرانكو بشهادة قتل زوجها، فما كان من تلك السلطات إلا أن حاكمت بلاس إنفانتي بعد قتله، وأصدرت "المحكمة الجهوية للمسؤوليات السياسية" حكمها في إشبيلية بتاريخ 4/ 5 / 1940 م تجدد حكمها بإعدام بلاس إنفانتي وتغريمه ألفي بسيطة، تدفعها عنه أرملته، واحتفظت السلطات بـ "دار الفرح" رهنًا حتى تدفع الغرامة. ولم تحصل الأرملة واليتامى على بيت أبيهم في قورية إلا سنة 1943 م بعد أن دفعت الغرامة المطلوبة. وتوفيت أرملة بلاس إنفانتي في 8/ 2 / 1954 م، أما أبناؤه فلا زالوا بقيد الحياة. ترك بلاس إنفانتي عدة كتب طبعت حديثًا، منها كتيب "أساسيات الأندلس"، كتبه بين سنة 1930 م وسنة 1936 م وطبع سنة 1984 م. يقول إنفانتي في أول الكتيب إن الهوية الأندلسية تعتمد على مبدأ القوميات ومبدأ الثقافات، وأن الأندلس

أمة ذات ثقافة ذاتية، وأن ثقافتها تتكون من جذور أصلية وأخرى مبتكرة، وأن الطابع الأندلسي ذو تواصل تاريخي، كما يجب أخذ وضع الأندلس الحالي بعين الاعتبار. ثم قال إن إعادة إحياء الأندلس ترتكز على الأساسيات التالية: 1 - الأندلس الإسلامية كأساس مطلق 2 - الاتجاه الروحي 3 - الاتجاه الاقتصادي 4 - الاتجاه السياسي. ثم فصل كل موضوع على حدة، وكأنه خطط لمن بعده وترك لهم برنامج انبعاث أندلس إسلامية. وخرج اليمين منتصرًا من الحرب الأهلية وأعلن الجنرال فرانكو نفسه رئيسًا للدولة سنة 1937 م. فألغى كل القوانين الجمهورية، وقضى على الحريات، وأسس في إسبانيا دولة قومية استبدادية مركزية صليبية، أساسها التاريخ الإسباني القديم بكل سلبياته التي ناضلت شعوب إسبانيا من أجل التحرر منه. فورث فرانكو بلدًا فقيرًا جريحًا، أدمَته الحرب الأهلية، التي قتل فيها أو طرد خمس السكان، وتعاطف في أول أمره مع القوى الإيطالية الفاشية والألمانية النازية مما جعله مبغوضًا من طرف جميع القوى الحية الأوروبية. ولم تنفرج مقاطعة العالم للنظام الدكتاتوري الفرانكوي إلا سنة 1953 م بـ "اتفاق المساعدة والتعاون" مع الولايات المتحدة الأمريكية. غير أن فرانكو فتح بذلك الاتفاق المجال الواسع للنفوذ الأمريكي العسكري والاقتصادي على إسبانيا، إذ ساهمت أمريكا بذلك الاتفاق في الاقتصاد الإسباني بـ 141 مليون دولار كمساعدة عسكرية، و 85 مليون دولار "لتقوية القاعدة الاقتصادية للتعاون العسكري". وفي سنة 1943 م، حاول دون خوان، المطالب بالعرش البوربوني، إقناع فرانكو بإعادة الملكية إلى إسبانيا، وأعاد الطلب دون جدوى سنة 1945 م. وفي سنة 1947 م، أعلن فرانكو نفسه وصيًّا على العرش الإسباني دون تحديد مدة الوصاية ولا تعيين المُوصى عليه. وفي يوليوز سنة 1970 م، اختار فرانكو الأمير "خوان كارلوس" ابن دون خوان خلفًا له وملكًا من بعده. أما الكنيسة الكاثوليكية فقد ساندت الحركة الفرانكوية منذ أيامها الأولى مساندة تامة، وظلت تساند فرانكو دون شرط إلى سنة 1962 م عند انعقاد "مجلس الفاتيكان الثاني". وبالمقابل حصلت الكنيسة من الدولة الفرانكوية على مزايا باهظة، كالامتيازات المالية، والزواج الكاثوليكي الإجباري لكل المواطنين، والتعليم الكاثوليكي الإجباري في المدارس، والموقع السائد للكنيسة في التعليم الابتدائي

والثانوي والجامعي، والبحث العلمي، دون إعطاء أي حق للديانات الأخرى، خاصة الإسلام. وظلت الديانة الكاثوليكية دين الدولة الرسمي، ودين الشعب الإسباني برمته، أراد أم كره. وبعد سنة 1963 م، تنظم مساندو الكنيسة في جمعية "أوبوس ديي" التي أصبح لها النفوذ الأكبر في السنين الأخيرة للنظام الفرانكوي، فأخذت محل الكتائب في السلطة، ومحل "الآباء اليسوعيين" و"الحركة الكاثوليكية" في الهيمنة الدينية المتطرفة. وفي سنة 1956 م، أخذت إسبانيا تؤسس قاعدة متواضعة للصناعة. وأدى هذا المجهود إلى اضطرابات عمالية وطلابية أجبرت نظام فرانكو على مضاعفة طاقته القمعية. لكن قبول إسبانيا في الأمم المتحدة والمنظمات الأوروبية أدى إلى انفراج في الحصار الذي كان مضروبًا عليها. وفي أواخر الخمسينات، حاول فرانكو إنجاز "برنامج توازي" للاقتصاد بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة هروب العملة الصعبة، مما أدى إلى جمود الحركة الاقتصادية وربط البلاد أكثر بعالم الدولار. وفي سنة 1962 م، انفجرت سلسلة من الاضطرابات العمالية في مقاطعة الأشتورياش. وبعد سنة 1963 م، دخل الاقتصاد الإسباني فترة نمو متواصل عبر سلسلة من "المخططات" الاقتصادية. وفي سنة 1964 م، احتفل النظام بذكراه الفضية لمرور 25 سنة على إنشائه. وفي سنة 1966 م، جدد "القانون التنظيمي" تركيز فرانكو رئيسًا للدولة، ونظم مجالس "الكورتس". وقدم "القانون التنظيمي" لاستفتاء شعبي، ورغم مقاومة المعارضة قُبل بسبب اتباع النظام لأسلوب الغش لدرجة أن عدد المنتخبين كان أعلى من عدد المسجلين. وألغيت في تلك السنة الرقابة على الصحافة، لكنها عوضت بسلسلة من المتابعات "القانونية" ضد الجرائد التي لا ترضي النظام. وبعد انتصار فرانكو وكتائبه سنة 1939 م، ضعفت المعارضة ضعفًا شديدًا، إذ أعدم عدد كبير من زعمائها واضطر من نجا منهم إلى الهجرة حيث ظلت كتاباتهم دون تأثير. وبين سنتي 1940 م و 1953 م، تنوعت أشكال المعارضة للنظام: حروب عصابات في بعض المناطق، ومنظمات عمالية سرية، وقدماء الكتائبيين المنقلبين على النظام، وتحرريون وملكيون، لكنهم أُسكتوا جميعًا نتيجة الاضطهاد المتواصل، وظلت كبار أطر المقاومة إما في القبر أو المهجر أو السجن. وألجم

الرعب الطبقات الاجتماعية المتوسطة عن المقاومة واكتفائها بالمقاومة الكلامية في البيوت. ولم تحل المشاكل السياسية أيام فرانكو، بل زادت حدة. فالنظام الفرانكوي كان يرى في ظهور القوميات المحلية خطرًا على وحدة الدولة، فحاربها بكل قواه، ولم يسمح في آخر أيامه إلا ببعض الحريات الثقافية. فاستغلت قطلونية ذلك الانفراج، ونشرت لغتها في منطقتها وفي منطقة بلنسية والجزر الشرقية، وحتى في منطقة الروسيون الفرنسية، بمساندة الكنيسة المحلية. وتكون "مجلس قطلونية" لتشجيع الثقافة القطلانية رغم منعه في أول أمره. وكانت مقاومة القومية البشكنجية للنظام أعنف من القطلانية، إذ تزعمتها أقلية شابة اختارت طريق عنف المقاومة مقابل عنف الدولة، وقادت مجهود تحرير وطني بالثورة الاجتماعية. ونظم الثوار الباسك أنفسهم في جمعية عسكرية اسمها "إيتا" (أي "أوزكادي" تا أسكتاسونا"، أو "بلاد البسكنج والحرية" باللغة البسكنجية). ولم يسمح للقومية الأندلسية أن تعبر عن نفسها، لا من قريب ولا من بعيد. وفي مجال الاقتصاد، نزل في سنة 1962 م إنتاج الحبوب للشخص الواحد إلى 65 في المائة مما كان عليه سنة 1935 م، وظلت في سنة 1960 م نسبة العاملين في الزراعة 47 في المائة من مجموع العاملين، ينتجون 33 في المائة من مجموع الدخل القومي، بينما لم تكن الزراعة تستهلك أكثر من 13 في المائة من الأموال المستثمرة. وكان اقتصاد إسبانيا متخلفًا حتى في المجال الزراعي: أراضي بدون سكان، وسكان بدون أراضي. وبعد سنة 1962 م، ابتدأ الوضع الاقتصادي يتحسن: فتضاعف عدد الجرارات الزراعية تسع مرات، من 26.000 جرار إلى 223.000 جرار، في ظرف 15 سنة، وارتفع الإنتاج الزراعي. وتقدمت شرائح الاقتصاد الأخرى، فنزلت نسبة العاملين في الزراعة إلى 26 في المائة من مجموع اليد العاملة، وإلى 15 في المائة من مجموع الإنتاج. ورغم ذلك، بقي استثمار الأرض ضعيفًا بالنسبة لباقي أوروبا. وأدى هذا التحول إلى مشاكل اجتماعية مختلفة، كالهجرة إلى المدن وانتشار البطالة. وأنشأ فرانكو لتشجيع الصناعة "المعهد القومي الصناعي" (ايني) الذي كان يتبع المبادىء الكتائبية من مركزية في الإدارة والاستثمار، فزاد في حدة التباين بين المناطق وبين المجالات الصناعية. وبعد سنة 1953 م، فتح فرانكو إسبانيا لرأس

المال الأجنبي، فأخذت اللبرالية مكان الاستبداد المركزي. وأدت المساعدات الأمريكية والتقدم الاقتصادي الأوروبي إلى صعوبات في الاقتصاد الإسباني، منها التضخم المالي، وارتباك توازن المبادلات التجارية. فارتفعت الأسعار بسرعة أجبرت الحكومة على إنجاز مخطط لتوازن النمو وكبح جماحه. فبين سنتي 1957 و 1964 م، تقدم معدل دخل الفرد بنسبة 18 في المائة، ثم بنسبة 35 في المائة بين سنتي 1964 م و 1969 م. وبين سنتي 1959 م و 1969 م، تضاعف استهلاك الطاقة، وتزايد إنتاج الصلب، وتطورت المدن والبوادي. وصاحبت هذه الانطلاقة مشاكل أساسية جديدة، هي: 1 - ارتباط الرأسمال الأجنبي بمصالح القائمين على النظام الدكتاتوري. 2 - هجرة الكفاءات إلى الخارج 3 - تزايد دور السياحة السلبي على المجتمع. 4 - ارتفاع الواردات بالنسبة للصادرات 5 - تزايد التضخم وارتفاع الأسعار. أدى كل ذلك إلى أزمات اجتماعية حادة: فبين سنتي 1940 و 1955 م، قضى النظام على الطبقة العاملة فسهل تجمع الأموال في البنوك للاستثمار. وفي أواخر الخمسينات، أدت الانطلاقة الاقتصادية إلى تباين كبير بين القطاعات الاقتصادية المختلفة. ففي الزراعة، زاد فقر الفلاح وغنى الإقطاعي صاحب الأرض، ولم يتماش رفع أجور الفلاحين مع ارتفاع الأسعار مما أدى بالفلاحين إلى الخيار بين الهجرة والبطالة، خاصة في منطقة الأندلس. وهددت الصناعات البالية، كمعادن أشتورياش، والمتجهة للأسواق الخارجية، كصناعة الأحذية، بالإغلاق وعمالها بالبطالة. فحاولت النقابات الرسمية السيطرة على الوضع، والتحكم في النزاعات حتى لا تؤدي إلى الانفجار. وتكونت "لجان عمالية" سرية للمناقشة والمقاومة، طاردها النظام بعنف في غرناطة والفيرول ومجريط وبرشلونة عدة مرات. وركزت الدولة على جمع المال السهل بتشجيع الهجرة، كان ضحيتها عشرات الآلاف من الأندلسيين، والسياحة التي حولت الشباب، الأندلسي خاصة، إلى خدم للسياح أو فساق لإشباع رغباتهم، كما قضت الصناعات الملونة الرخيصة، خاصة في الأندلس، على البيئة في كثير من المناطق وأضرت بصحة الأهالي. وظهرت مع الاضطرابات العمالية المعارضة الثقافية ضد الدكتاتورية. فاضطر النظام إلى تحملها أحيانًا ومحاربتها أحيانًا أخرى عن طريق جمعيات شبه حكومية بالمراقبة والسجن والإرهاب. وشارك في هذه المقاومة الكتاب والفنانون، وحتى

9/ 2 - رجوع الديموقراطية وانبعاث القومية الأندلسية:

صغار الرهبان. وبعد سنة 1970 م، أخذ الشباب المنتمي للنظام، ككالبو سرير وفراغة إيريبارني، يهجره ويتحول ضده. وأخذ زعماء الأحزاب التي كانت موجودة قبل الحرب الأهلية، بما فيهم القوميون الأندلسيون، ينتظمون سرًّا من جديد، كما تكونت مجموعات حزبية سرية جديدة. وقابل النظام هذه التحركات بطرق مختلفة، فمثلاً تقبل النظام مشاركة خيل روبلس سنة 1962 م في مؤتمر دولي طالب فيه بروابط أقوى مع أوروبا، بينما أعدم الشيوعي خوليان غريماو. وأدى اضطهاد القوميات واليسار إلى إنشاء حركات إرهابية، كـ "إيتا" بالنسبة للقومية الباسكية و"فراب" بالنسبة لليسار، التي ركزت على مقاومة جهاز النظام القمعي عسكريًّا. فضاعف النظام قمعه للمعارضة، مما أدى بإسبانيا إلى دوامة من المزايدة في العنف بين الحكومة رالجماعات الإرهابية. وفي ديسمبر سنة 1973 م، قتل الإرهابيون الأميرال كريرو بلانكو، رئيس الوزراء، الذي كان من أول المخلصين للجنرال فرانكو، فتزعزع بمقتله النظام. وتزامن ذلك مع أزمة البترول الدولية التي أضعفت الاقتصاد الإسباني. وفي سبتمبر سنة 1975 م، أدى إعدام خمسة من المتهمين بالإرهاب بعد محاكمة صورية تنافت مع أبسط قواعد العدالة، إلى اشمئزاز من النظام الفرانكوي في العالم أجمع. وعند مرض فرانكو، أخذت كل الأطراف السياسية تستعد لما بعده. فالتفت حول اليمين الطبقات المستفيدة من النظام، منها الكنيسة الكاثوليكية وجمعية "أوبوس ديي" والطبقات الأرستوقراطية والإقطاعية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبنوك والصناعة. وبقي الجيش والشرطة قاعدة النظام المخلصة. وفي أكتوبر سنة 1975 م، تحول مرض فرانكو إلى احتضار أدى إلى موته في 20/ 11 / 1975 م، وتولية خوان كارلوس ملكًا على إسبانيا في 22/ 11 / 1975 م. وبموت فرانكو مات نظامه، وانفتح عهد جديد على إسبانيا والقومية الأندلسية والإسلام في الأندلس. 9/ 2 - رجوع الديموقراطية وانبعاث القومية الأندلسية: عندما تولى الملك خوان كارلوس السلطة ترك رئاسة الحكومة في أول الأمر لآرياس نبارو، رئيس وزراء فرانكو قبل وفاته. وكان نبارو يمثل نهج فرانكو بكل إخلاص. وفي نفس الوقت، كلف الملك ثلاث وزراء سفراء، وهم فراغة وغاديغس

والرايلسا، بدراسة إمكانية ضم إسبانيا إلى المسار الأوروبي، كاليونان والبرتغال، وبموافقة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي 3/ 7 / 1976 م، قبل الملك استقالة نبارو من رئاسة الحكومة، وكلف أدولفو سوارز بتشكيل حكومة جديدة. وكان سوارز آنذاك شابًّا مجهولاً خرج من أوساط "الحركة" الفرانكوية. عمل سوارز على تحويل النظام إلى الديموقراطية، فركز على الإصلاح السياسي بتهيىء استفتاء شامل لبرنامجه: إطلاق سراح المساجين السياسيين، والسماح برجوع المنفيين، وإجراء الانتخابات الحرة، وتشكيل كورتس جديدة ومجلس للشيوخ بالانتخاب عدا أربعين عضوًا يعينهم الملك. وفي 15/ 12 / 1976 م، قدمت الإجراءات الإصلاحية لاستفتاء شعبي شارك فيه 77 في المائة من الناخبين المسجلين، صوت عليها بنعم 94 في المائة منهم. فكان هذا الاستفتاء نصرًا كبيرًا لسياسة الحكومة الجديدة وموافقة شعبية على مجهودها نحو الانفتاح دون الانفصال عن الماضي. وتتابعت قرارات الحكومة، أهمها إلغاء محكمة الأمن العام، والعفو الشامل عن جميع السياسيين. ولم يعكر صفو هذا التحول الجذري والسلمي سوى العمليات الإرهابية لبعض الجماعات المتطرفة، منها حجز رئيس مجلس الدولة ورئيس المجلس الأعلى للعدالة من طرف أعضاء فرقة "غرابو" (مجموعة الفاتح من أكتوبر الثورية المعادية للفاشية)، ومقتل أربعة محامين للجان العمالية من طرف منظمة إرهابية يمينية اسمها "الرابطة الكنسية المعادية للشيوعية". ثم تحول سوارز بإصلاحاته إلى صفوف الجيش وقوات الشرطة التي أخذت تواجه المظاهرات الشعبية والاضطرابات العمالية. وقررت الحكومة قبول كل الأحزاب السياسية الشرعية، فسجلت حوالي 200 حزب سياسي. وفي أوائل سنة 1977 م، أسس خوزي دي الرايلسا وبيو كبانياس "اتحاد المركز الديموقراطي" كبديل للتجمع الفرانكوي الجديد المسمى بـ "الرابطة الشعبية" الذي كانا يتزعمانه، فانضم إليهما عدد من اللبراليين والمسيحيين الديموقراطيين والاشتراكيين الديموقراطيين، بما فيهم سوارز وجماعته الذي أصبح زعيمًا له. ثم ظهر إلى الوجود "الحزب الشيوعي الإسباني" وطلب الاعتراف به، كما تكون من جديد الحزب التاريخي المسمى "الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني". فاعترفت الحكومة بكل هذه الأحزاب وبغيرها، تسجل منها في انتخابات

سنة 1977 م 33 حزبًا. واعترفت الحكومة كذلك بالدول الشيوعية في شرق أوروبا. أدى الاعتراف بالحزب الشيوعي الإسباني وإلغاء الأمانة العامة للحركة الفرانكوية إلى مقاومة اليمين وأقصى اليمين للحكومة، وإلى اضطرابات في مجلس الجيش الأعلى. لكن الحكومة لم تعر لذلك انتباهًا، وتابعت مسيرتها التحررية. وفي 15/ 6 / 1977 م، أجريت انتخابات تشريعية أسفرت عن فوز "اتحاد المركز الديموقراطي" بـ 166 مقعدًا في مجلس الكورتس، و"الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني" بـ 118 مقعدًا. ولم تحصل "الرابطة الشعبية" اليمينية برئاسة فراغة إلا على 16 مقعد، وحصل الحزب الشيوعي الإسباني برئاسة سانتياغو كريليو على عشر مقاعد فقط. وكانت النتائج في بعض المناطق غير متوقعة. ففي قطلونية حصل الشيوعيون على عشرين في المائة من الأصوات، بينما حصل الاشتراكيون على 35 في المائة منها، ولم يستقطب الوسط وأحزاب اليمين إلا نسب ضعيفة. وأخذ وضع سوارز يضعف حتى قبل الانتخابات التشريعية، بسبب ضعف القاعدة اليمينية التي كان مستندًا عليها، وأصبح "الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني" أكبر قوة معارضة. وواجهت سوارز مشاكل سياسية لا يمكنه التأخر في مجابهتها، أولها مشكلة مركزية الدولة أو عدم مركزيتها. ففي 11/ 9 / 1977 م، وهو اليوم القومي القطلاني، تظاهر أكثر من مليون شخص في شوارع برشلونة تحت شعار "نريد قانون الاستقلال الذاتي". فاستجابت حكومة سوارز بإنشاء حكومة محلية قطلانية "جنرالتات" برئاسة ترادلاس الذي أتي به من المنفى. ثم تحركت "أوسكادي" (بلاد الباسك) التي أصبح فيها لليسار القومي أكبر تأثير، بما فيه قسمه العسكري "إيتا" الذي أقسم على الحصول على استقلال "أوسكادي" ولو بالعنف إذا اقتضى الحال. ولمواجهة الأزمتين الاقتصادية والسياسية، عقد سوارز اجتماعًا للناطقين باسم التنظيمات السياسية في البرلمان لإنقاذ الموقف. فتوصلوا إلى ما يسمى بـ "اتفاق مونكلوا" الذي يربط بين الحكومة والمعارضة في المسؤولية، وهو بمثابة هدنة بين أصحاب المعامل والمنظمات العمالية. ومنذ سنة 1978 م، ابتدأت المحادثات الدستورية، حصل فيها الاتفاق على الحفاظ على وحدة إسبانيا، ولكن في نفس الوقت الاعتراف بقومياتها واحترام

تعدديتها. كما وقع الاتفاق على سيادة الشعب ولكن مع احترام مقام الملك، وعلى ضمان حرية رأس المال ولكن مع التخطيط. ونجح الوسط بالأكثرية في الكورتس في انتخابات مارس سنة 1979 م، بينما فاز الشيوعيون والاشتراكيون والقوميون الباسك في كثير من المدن الكبيرة. ووقع الاستفتاء على قانون الحكم الذاتي لقطلونية ولأوسكادي، لكن بمستوى من الاستقلال أقل مما حصلت عليه المقاطعتان في الثلاثينات، لذلك لم يستجب الأهالي للاستفتاء بحماس، وعكف أربعون في المائة منهم عن الإدلاء بأصواتهم. وفاز في انتخابات البرلمان القطلاني "حزب التلاقي والوحدة" الوسط، وانتخب جوردي بوجول، رئيسه، رئيسًا للحكومة المحلية. وفي أوسكادي حصل "الحزب القومي الباسكي" على نسبة كبيرة من الأصوات، بينما فازت الأحزاب الإسبانية في المنطقة بنسب مرتفعة من الأصوات، فقررت منظمة "الإيتا" متابعة المقاومة العسكرية ضد الوجود الإسباني، ورفضت التفاوض إلى أن تخرج قوى الأمن الإسبانية من أوسكادي. وفي نفس السنة، وافق البرلمان على قانون "التنسيق بين الأنظمة ذات الحكم الذاتي"، مما جعل القوميين المحليين يخافون استعماله من طرف الحكومة المركزية لتقليص سلطاتهم. وفي 23/ 2/ 1981 م، هاجم الكلونيل تيخيرو الكورتس بفرقة من الحرس المدني، حاملاً مسدسه، وأجبر النواب على الاختفاء وراء الكراسي أمام عدسات التلفزيون التي نقلت المنظر الغريب إلى العالم أجمع. لكن هذه المحاولة الانقلابية اليمينية فشلت بسبب موقف الملك الصارم ضدها، فتنصل كبار قواد الجيش، كالجنرال ميلانس في بلنسية والجنرال أرمادا في مجريط، من مساندتها. فقبض على تيخيرو وحوكم وسجن، وتابعت إسبانيا مسيرتها نحو الديموقراطية. وتشتتت أحزاب الوسط في انتخابات أكتوبر سنة 1982 م، بينما تمحور الناخبون حول "الرابطة الشعبية" برئاسة فراغة إيريبارني، في اليمين، التي أزاحت أقصى اليمين، وحول "الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني" برئاسة الأندلسي فليبي غونزالس، في اليسار الذي أزاح أقصى اليسار. وحصل هذا الأخير على أكثرية المقاعد المطلقة في الكورتس، وأصبح غونزالس رئيسًا للحكومة إلى الآن (سنة 1992 م). فتبع سياسة معتدلة في المجال الاجتماعي، رغم بعض الاضطرابات في صفوف الجيش، وفي الاقتصاد رغم انهيار شركة "الروماسة"

وتزايد البطالة والإرهاب، خاصة من طرف منظمة الإيتا، والعنف البوليسي. لكن الحزب الاشتراكي فشل في انتخابات أوسكادي وقطلونية المحلية، بينما فاز في الأندلس. ونجح "الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني" الحاكم في ربط إسبانيا بأوروبا بشكل وثيق، ولأول مرة أخذت فرنسا تنسق مع إسبانيا مقاومة إرهاب منظمة الإيتا. وفي سنة 1981 م، دخلت إسبانيا منظمة حلف شمال الأطلسي رغم أن الحزب الاشتراكي وعد في انتخابات سنة 1982 م بإخراجها منه، ولما وصل للحكم أجرى استفتاء حول الموضوع بتاريخ 12/ 3/ 1986 م، فأجاب 52 في المائة من المصوتين بنعم على ترك إسبانيا في الحلف الأطلسي. وفي 1/ 1/ 1986 م، قُبلت إسبانيا في السوق الأوروبية المشتركة، فحبذت ذلك معظم المناطق الإسبانية، عدا المناطق النائية التي خافت من التهميش داخل المجموعة الأوروبية. وأدى النظام الديمقراطي بإسبانيا إلى تقدم شامل في الثمانينات. ففي سنة 1985 م، أصبح سكان إسبانيا حوالي 35 مليون نسمة بنسبة للولادة تعادل 13.4 في الألف، ونسبة للوفيات تعادل 7.6 في الألف، أي بنسبة زيادة طبيعية تساوي 5.8 في الألف، أو حوالي 200.000 إسباني جديد كل سنة. وتحسنت الأوضاع الصحية في البلاد، فنزلت نسبة وفيات الأطفال إلى 8.6 في الألف. وارتفع الإنتاج في كل المجالات: فوصل إنتاج القمح إلى 6 مليون طن، والصلب إلى 13 مليون طن، والكهرباء إلى 3.35 كيلوواط ساعي لكل فرد، والسيارات إلى 1.3 مليون وحدة. وانتشرت الطرق السريعة والفنادق الرفيعة في طول البلاد وعرضها. ورغم ذلك التقدم بقيت بعض المشاكل الأساسية دون حل: فمعدل دخل الفرد الواحد سنة 1983 م لم يكن سوى 4.800 دولار، ولم يزد على ما كان عليه سنة 1980 م إلا بنسبة 1.7 في المائة. وظلت نسبة البطالة مرتفعة جدًّا حوالي 21 في المائة من مجموع القوى العاملة. وتضررت الصناعات التقليدية كتربية الماشية وزراعة الفواكه والنسيج، بينما اختلفت الإنتاجية الزراعية باختلاف السنين والمناطق. وتضررت منطقة الأندلس بصفة خاصة، إذ بقيت الأراضي الزراعية بها في يد كبار الملاك القادمين من الشمال بينما انتشر الفقر بين الأندلسيين وتزايدت هجرتهم، كما تضاعف التباين الصارخ بين المناطق الفقيرة في القرى والمدن الداخلية

والشواطىء الغنية ذات السياحة الجماعية أو بعض المدن الكبرى كإشبيلية ومالقة وغرناطة. وتحولت إسبانيا من دولة مركزية إلى دولة اتحادية، لكن حصلت الوحدات المختلفة في الاتحاد الجديد على مستويات متفاوتة من الحكم الذاتي. وحرصت بعض المناطق على الاعتراف بها ليس كمنطقة ذات حكم ذاتي فقط، بل على خصوصيتها كقومية قائمة بذاتها. فنجحت إسبانيا في تحويل نفسها إلى ولايات إسبانية متحدة، ولكنها لا زالت تبحث طريقها كاتحاد لقوميات مختلفة. ومن بين قوميات إسبانيا بل وأوروبا الغربية كلها، تجد القومية الأندلسية نفسها في وضع فريد لأنها ركزت وجودها على قاعدة تاريخية إسلامية، بينما قامت جميع القوميات الأخرى على ذكرى الدول النصرانية التي قامت في القرون الوسطى ضد الوجود الإسلامي، وعلى أفكار الكنيسة الكاثوليكية التي كانت أساسها. لذا كان اعتراف الحكومة المركزية الإسبانية بالقومية القطلانية أو الباسكية أسهل بكثير من الاعتراف بالقومية الأندلسية. فمملكة أراغون التاريخية انقسمت اليوم إلى أقسامها الأربع، وهي: 1 - قطلونية، عاصمتها برشلونة ولغتها القطلانية، وهي وريثة إمارة قطلونية في القرون الوسطى، وليس فيها أي تأثير إسلامي معاصر سوى بعض الاهتمام بالتاريخ الإسلامي في مصب نهر الابرة. 2 - أراغون، عاصمتها سرقسطة ولغتها القشتالية (انقرضت اللغة الأراغونية)، وهي وريثة دولة أراغون التاريخية، وتضم أرضها معظم الثغر الأعلى في الدولة الإسلامية، ولأراغون اليوم بعض الاهتمام بتاريخها الإسلامي لكنها لا تعد هذا التاريخ أساسيًّا في هويتها. 3 - بلاد بلنسية، عاصمتها بلنسية ولغتها البلنسية (وهي قريبة من القطلانية)، وهي، كشقيقتها أراغون، تعد نفسها وريثة الوجود النصراني ولا تهتم بالوجود الإسلامي فيها إلا اهتمامًا عابرًا، كما لا تعده أساسيًّا في هويتها. 4 - الجزر الشرقية، عاصمتها ميورقة ولغتها البليارية (وهي قريبة من القطلانية)، وهي كذلك وريثة الوجود النصراني وتعد تاريخها الإسلامي ثانويًّا في تكوين هويتها. وانقسمت مملكة نبارة التاريخية إلى منطقتين: 1 - نبارة، عاصمتها بنبلونة ولغتها القشتالية وإن كان قسم كبير من أهلها في الشمال يتكلم البشكنجية، وهويتها تعود إلى

دولة نبارة النصرانية في القرون الوسطى. 2 - أوسكادي، عاصمتها بتورية ولغتها البشكنجية، وهي مركز القومية البشكنجية وتاريخها نصراني مثل نبارة وهي تطالب بانضمامها إليها. وأعيد تنظيم مناطق جديدة للثلاث ممالك النصرانية الأساسية التي تكونت لمقاومة الفتح الإسلامي، وتعتمد هويتها بصفة مطلقة على تاريخها النصراني، وهي: 1 - جليقية، عاصمتها لاكرونيا ولغتها الجليقية. 2 - أشتورياش، عاصمتها أبيط ولها لغة محلية كادت تندثر تحاول إحياءها. 3 - قنتبرية، عاصمتها شنت أندر ولغتها القشتالية. وانقسمت القشتالتان، القديمة والجديدة، إلى أربع مناطق، لغتها جميعًا القشتالية وانتماؤها كاثوليكي، وهي: 1 - لاريوخا، عاصمتها لوغرونيو. 2 - وقشتالة ليون، عاصمتها ليون. 3 - مجريط، منطقة العاصمة. 4 - قشتالة مانشة، عاصمتها طليطلة، وهي تضم منطقة الثغر الأوسط في الدولة الإسلامية، وآثارها الإسلامية كثيرة. ثم تكونت منطقة الاسترمادورا، عاصمتها ماردة، ومنطقة مرسية، عاصمتها مرسية، ومنطقة الأندلس، عاصمتها إشبيلية، ومنطقة الجزر الخالدات، عاصمتها لاس بالماس. ولغة جميع هذه المناطق القشتالية. ويبين الجدول التالي المناطق الإسبانية ذات الحكم الذاتي، ومساحاتها، وعدد سكانها حسب إحصاء سنة 1981 م.

مناطق إسبانيا ذات الحكم الذاتي الأندلس سكانها سنة 1981 م: 6.442.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 87.268 عاصمتها: إشبيلية لغتها: القشتالية قطلونية سكانها سنة 1981 م: 5.958.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 31.930 عاصمتها: برشلونة لغتها: القطلانية مجريط سكانها سنة 1981 م: 4.727.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 7.990 عاصمتها: مجريط لغتها: القشتالية بلنسية سكانها سنة 1981 م: 3.647.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 23.305 عاصمتها: بلنسية لغتها: البلنسية قشتالية - ليون سكانها سنة 1981 م: 2.478.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 94.247 عاصمتها: ليون لغتها: القشتالية أوسكادي سكانها سنة 1981 م: 2.135.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 7.261 عاصمتها: بتوريا لغتها: البشكنجية قشتالة - مانشة سكانها سنة 1981 م: 1.628.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 79.226 عاصمتها: طليطلة لغتها: القشتالية الجزر الخالدات سكانها سنة 1981 م: 1.445.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 7.273 عاصمتها: لاس بالماس لغتها: القشتالية أراغون سكانها سنة 1981 م: 1.213.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 47.669 عاصمتها: سرقسطة لغتها: القشتالية أشتورياش سكانها سنة 1981 م: 1.127.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 10.565 عاصمتها: أبيط لغتها: الأشتورية استرامدورا سكانها سنة 1981 م: 1.050.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 41.602 عاصمتها: ماردة لغتها: القشتالية مرسية سكانها سنة 1981 م: 958.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 11.317 عاصمتها: مرسية لغتها: القشتالية الجزر الشرقية سكانها سنة 1981 م: 685.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 5.014 عاصمتها: ميورقة لغتها: البليارية قنتبرية سكانها سنة 1981 م: 511.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 5.289 عاصمتها: شنت أندر لغتها: القشتالية نبارة سكانها سنة 1981 م: 507.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 1.421 عاصمتها: بنبلونة لغتها: القشتالية لاريوخا سكانها سنة 1981 م: 253.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 5.034 عاصمتها: لوغرونيو لغتها: القشتالية المجموع سكانها سنة 1981 م: 37.617.000 مساحتها بالكيلومتر مربع: 504.750 عاصمتها: مجريط لغتها: القشتالية

9/ 3 - إنشاء منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي:

9/ 3 - إنشاء منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي: في سنة 1978 م، ابتدأت المحادثات الدستورية في إسبانيا، وقررت الأكثرية على أن تكون إسبانيا ملكية دستورية اتحادية. وبعد انتخابات مارس سنة 1979 م، اعترف الكورتس بالقوميات المسماة "التقليدية" أي الباسكية والقطلانية، ووقعت الموافقة بالاستفتاء على دستوري الحكم الذاتي لمنطقتي قطلونية وأوسكادي. وفي سنة 1979 م بالذات، أخذ الأندلسيون يطالبون بالاعتراف بقوميتهم واعتبارها قومية "تقليدية"، أي يريد الأندلسيون الحصول على حكم ذاتي بنفس المستوى الذي حصل عليه القطلانيون والباسك. وفي 11/ 8/ 1979 م، عقدت القوى السياسية الأندلسية المختلفة اجتماعها الأول في قشريش، بلدة بلاس إنفانتي، في الذكرى الثالثة والأربعين لاستشهاده، بدعوة رفائيل أسكوديرو، رئيس مجلس الأندلس حينذاك. واستجابت للدعوة الفروع الأندلسية للأحزاب التالية: الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، واتحاد الوسط الديموقراطي (الحاكم حينذاك في مجريط)، والحزب الشيوعي الإسباني، وحزب العمل الأندلسي. بينما رفض الحزب الاشتراكي الأندلسي (الحزب القومي الأندلسي فيما بعد) الاستجابة للدعوة، واجتمع زعماؤه بمفردهم في رندة، في نفس التاريخ، مما كان له التأثير السيىء في شعبية هذا الحزب في المستقبل. اتفقت الأحزاب المذكورة على نسيان نزاعاتهم الحزبية في قشريش، وتوحيد الكلمة السياسية كأندلسيين للاتفاق على خطة واحدة تجعل الحكومة الإسبانية تعترف بالقومية الأندلسية كقومية "تقليدية" وتعطي منطقة الأندلس حكمًا ذاتيًّا بنفس المستوى الذي حصلت عليه قطلونية وأوسكادي. وأظهر أسكوديرو الاتجاه العام لاجتماع قشريش في خطابه الافتتاحي، إذ قال: "في 11 غشت عام 1936 م، صاح بلاس إنفانتي في لحظة استشهاده: "عاشت الأندلس حرة"، فلخص بصيحته هذه حلمًا قديمًا للأندلسيين: وهو تأسيس أندلس ذات حكم ذاتي، أندلس تحكم نفسها بنفسها، أندلس ذات رجال ونساء مستعدين أن يخرجوا من هوان القرون للمشي في طريق التحرر الاجتماعي والثقافي، ولا زالت صيحة التحرير هذه قائمة. واليوم وفي هذه الساعة، يجب على الشعب الأندلسي أن يستعد ليأخذ حقه من التاريخ، عبر طريق طويلة ... ". وانتهى اجتماع قشريش بإجماع السياسيين الأندلسيين على ما يلي: "إن مجلس الأندلس في ذكرى وفاة بلاس إنفانتي، ينهج طريقه ويتبنى إرثه السياسي، ويتابع

رسالته التاريخية باقتراحه على الشعب الأندلسي مشروعًا نبيلاً للوصول إلى دستور الحكم الذاتي الكامل للأندلس. وكما قال بلاس إنفانتي شهورًا قبل وفاته: "يكون الدستور الأندلسي كما يريده كل الأندلسيين، لذلك نطلب من الأندلسيين جميعًا أن يتدارسوا بالطريقة السهلة التي يريدونها وبدون تعقيد، شكل الحكومة التي يريدونها لأنفسهم ... ". ووقع الإجماع في قشريش على المطالبة بالحكم الذاتي عن طريق المادة 151 من الدستور الإسباني، التي تعطي استقلالاً ذاتيًّا كاملاً كالذي حصلت عليه قطلونية وأوسكادي، عوضًا عن المادة 143 التي تؤدي إلى شيء من المسؤولية المحلية فقط. وكانت الحكومة المركزية تود إعطاء الأندلس حكمًا ذاتيًّا حسب المادة 143. وحضر اجتماع قشريش كذلك كلابيرو أريبالو، وزير الثقافة الإسباني، وهو أندلسي عضو في اتحاد الوسط الديموقراطي الحاكم، كما حضره عمداء سبع عواصم أندلسية من الثمانية المجتمعة، ولم يغب سوى عمدة إشبيلية الذي حضر اجتماع الحزب الاشتراكي الأندلسي في رندة. واستقبل عمدة قشريش وأهلها المؤتمرين بحماس فائق. وفي 11/ 8/ 1976 م، أصبحت قشريش أول بلدة أندلسية تجرأت بعد موت فرانكو على إحياء ذكرى بلاس إنفانتي عندما دشن عمدتها حينذاك نصبًا في ذكراه، فأزاحته الحكومة المركزية، ولكن النصب أعيد لمكانه بعد ذلك. وبعد انتهاء الاجتماع، وعد الوزير أريبالو بنقل رغبة الشعب الأندلسي إلى الحكومة المركزية، وقال: "يجب أن يعامل الأندلسيون في المجال الاقتصادي معاملة أفضل من أي شعب من شعوب إسبانيا". وبعد اجتماع قشريش، أخذ أسكوديرو، رئيس المجلس الأعلى، وزعماء الأحزاب الأندلسيون يتجولون في أنحاء الأندلس لإخبار الأهالي بقراراته، وحثهم على المطالبة بالحكم الذاتي للأندلس. ولم تكن الحكومة المركزية برئاسة حزب "اتحاد الوسط الديموقراطي" ترى بعين الرضى نهوض القومية الأندلسية، ولا كانت تحبذ حصول الأندلس على الحكم الذاتي. وكان الحل الدستوري الوحيد للمشكل هو إجراء استفتاء شعبي في الأندلس يُستفتى فيه الأهالي عن رأيهم في الحصول على الحكم الذاتي. وفي 3/ 10/ 1979 م، اجتمع أسكوديرو بأدلفو سوارز، رئيس الوزراء، واتفقا أن يكون موعد الاستفتاء بتاريخ 28/ 2/ 1980 م.

وبعد تحديد الموعد، أخذت الأحزاب الأندلسية تقوم بالترتيبات اللازمة لتفسير معنى الحكم الذاتي للجماهير وحثها على التصويت، بينما ابتدأت الحكومة المركزية تفكر في إفشال الاستفتاء أو تأخيره، وحددت شروطًا تعجيزية وقاسية لإنجاحه، منها أن يجري الاستفتاء في ثمان مقاطعات (ولبة وإشبيلية وقادس وقرطبة ومالقة وجيان وغرناطة والمرية)، وأن تجيب كل واحدة منها بأكثر من خمسين في المائة من الناخبين المسجلين بالموافقة على السؤال التالي: "هل توافق على المضي في المبادرة المذكورة في المادة 151 من الدستور (الإسباني) وتنفيذ الإجراءات المنصوص عليها في تلك المادة؟ ". وإذا كانت الإجابة أقل من خمسين في المائة في إحدى المقاطعات، عد الجواب سلبيًّا في كل الأندلس. ولم تطبق هذه الشروط المجحفة في أية منطقة من مناطق إسبانيا، لا في أوسكادي ولا في قطلونية ولا في غيرهما. وحث الزعماء الأندلسيون، وعلى رأسهم أوسكوديرو، الشعب الأندلسي على التظاهر سلميًّا يوم 2/ 12/ 1979 م، في مدن الأندلس وقراها للتعبير عن رغبته الجماعية في الحصول على اعتراف الحكومة الإسبانية بالأمة الأندلسية كقومية قائمة بنفسها والحصول منها على الحكم الذاتي. فاستجابت الجماهير وخرجت في مظاهرات شعبية كبيرة أدت إلى اشتباكات مع الشرطة في قرطبة وإشبيلية. وعلق الرئيس أسكوديرو على هذه الأحداث بقوله: "يجب أن تعد الأحداث التي وقعت في مظاهرات قرطبة وإشبيلية في إطار سياسة الاستفزازات التي تهدف إلى كسر وحدة الشعب الأندلسي وخلق الفوضى بين صفوفه حتى ينفر من استفتاء 28 فبراير". وفي 7 - 8/ 1/ 1980 م، زار الملك خوان كارلوس مقاطعتي جيان وغرناطة، فصاحبه الرئيس أوسكوديرو. وفي جيان صاح الملك: "عاشت الأندلس" فكان هتافه بمثابة مساندة للمطالب الشعبية الأندلسية. وفي 14/ 1/ 1980 م، قررت اللجنة التنفيذية للحزب الحاكم (اتحاد الوسط الديموقراطي) أن أحسن طريقة لحصول الأندلس على الحكم الذاتي هو عبر المادة رقم 143، وقررت عدم مساندة استفتاء 28/ 2/ 1980 م ومطالبة الأهالي بعدم التصويت. فكانت هذه القرارات ضربة قاسية للمطالب الأندلسية وغدرًا من طرف

الحزب الحاكم للأندلس وضعت أتباعه الأندلسيين في موقف حرج. ومن هؤلاء منويل كلابيرو أريبالو، وزير الثقافة، وهو الأندلسي الذي شارك في كتابة الدستور الإسباني بما فيه المادتين 143 و 151، فقرر تقديم استقالته والرجوع إلى إشبيلية للمساهمة في تشجيع الشعب الأندلسي على الجواب على سؤال الاستفتاء بنعم، كما قرر فرع حزب "اتحاد الوسط الديموقراطي" في الأندلس مساندة الاستفتاء على عكس قرار لجنة الحزب التنفيذية. وهكذا وقع إجماع الأحزاب في منطقة الأندلس على مساندة الاستفتاء والإجابة عليه بالموافقة. وابتدأت حملة الاستفتاء متأخرة في كل أنحاء الأندلس، ولم يكن الزعماء الأندلسيون يخافون من الجواب بـ "لا"، ولكنهم كانوا يخافون من عدم التصويت، خاصة وأن ثلث الأندلسيين امتنعوا عن التصويت في الانتخابات والاستفتاءات الماضية لأسباب متعددة، أهمها كثرتها، وعقلية الشعب الأندلسي الناتجة عن الاضطهاد المتواصل التي تجعله سلبيًّا أمام كل ما يأتي من الحكومة، فلم يتعود بعد على التغير، خاصة في القرى النائية. وواجه الأندلسيون مشكلة كبيرة أخرى: وهي عدم دقة اللوائح الانتخابية التي كان أساسها إحصاء سنة 1975 م، وقد عدلت في أواخر 1976 م و 1977 م و 1978 م. وأهم خطأ في هذه اللوائح يعود إلى كون البلديات اعتادت قديمًا على تكثير أعداد سكانها للحصول على مساهمات أكبر من الحكومة في ميزانياتها، وذلك بعدم شطب أسماء الموتى والمهاجرين. وطبعًا سيعد هؤلاء في الاستفتاء من بين المسجلين الذين لم يصوتوا، مما سيكون له أكبر الخطر على نتائجه. كما أجرت الحكومة ضغوطًا على مقاطعة المرية لسحبها من الأندلس وجعلها تنضم إلى منطقة مرسية، كما كان هناك خطر على مقاطعة جيان لكثرة المهاجرين إليها من خارج الأندلس. وأجري الاستفتاء في المقاطعات الثمانية في التاريخ المحدد. وقد وصلت النتيجة إلى النسب المذكورة في الجدول التالي بالنسبة لجميع الناخبين المسجلين في كل مقاطعة:

نتائج الاستفتاء الأندلسي بتاريخ 28/ 2/ 1980 م إشبيلية المصوتون: 72.7 الموافقون: 64.9 المعارضون: 3.0 الأوراق الملغاة: 4.8 غير المصوتين: 27.3 قادس المصوتون: 61.4 الموافقون: 55.4 المعارضون: 2.0 الأوراق الملغاة: 4.0 غير المصوتين: 38.6 مالقة المصوتون: 59.3 الموافقون: 52.4 المعارضون: 3.2 الأوراق الملغاة: 3.7 غير المصوتين: 40.7 غرناطة المصوتون: 62.5 الموافقون: 53.0 المعارضون: 3.8 الأوراق الملغاة: 5.7 غير المصوتين: 37.5 قرطبة المصوتون: 69.6 الموافقون: 60.0 المعارضون: 3.9 الأوراق الملغاة: 5.7 غير المصوتين: 30.4 جيان المصوتون: 63.2 الموافقون: 50.1 المعارضون: 6.3 الأوراق الملغاة: 6.8 غير المصوتين: 36.8 ولبة المصوتون: 60.6 الموافقون: 53.9 المعارضون: 2.2 الأوراق الملغاة: 4.5 غير المصوتين: 39.4 المرية المصوتون: 51.0 الموافقون: 42.1 المعارضون: 4.0 الأوراق الملغاة: 4.9 غير المصوتين: 49.0 المجموع المصوتون: 64.2 الموافقون: 55.7 المعارضون: 3.4 الأوراق الملغاة: 5.1 غير المصوتين: 35.8 كان عدد الناخبين المسجلين في المقاطعات الثمانية 4.435.195 شخص. إذن، رغم معارضة الحزب الحاكم والحكومة، شارك في الاستفتاء حوالي ثلثا المسجلين، وكانت أعلى نسبة مشاركة في مقاطعة إشبيلية وأضعفها في مقاطعة المرية، ولم تعارض الحكم الذاتي في جميع المقاطعات إلا نسبًا ضئيلة من الناخبين. وقد شاركت أكثرية أعضاء الأحزاب اليسارية في الاستفتاء، كما شارك فيه عدد هام من أعضاء الأحزاب اليمينية. لذا عدّ المراقبون السياسيون استفتاء 28/ 2/ 1980 م انبعاثًا للأمة الأندلسية، إذ صوت الأندلسيون بنسبة 56 في المائة تقريبًا على أنهم قومية قائمة بنفسها وبذلك تبنوا أفكار بلاس إنفانتي 43 سنة بعد استشهاده. وكانت نسبة الموافقين أعلى في مقاطعتي إشبيلية وقرطبة المركزيتين. وحتى جيان، التي خيف عليها، صوتت بالموافقة بنسبة تساوي 50.073 في المائة من المسجلين، أي بـ 344 صوت أكثر من النصف

9/ 4 - رموز منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي:

المطلوب. ولم ينخفض على النصف سوى المرية، ورغم ذلك لم يصوت بـ "لا" فيها سوى 4 في المائة من مجموع الناخبين المسجلين فيها. ولذا عد الأندلسيون استفتاء 28/ 2/ 1980 م نصرًا تاريخيًّا للأندلس ووجودها. ورغم محاولة الحكومة رفض نتيجة الاستفتاء بسبب تصويت المرية، اضطرت إلى قبوله لما كان لموقفها من غرابة، إذ من بين الذين أدلوا بأصواتهم في المرية صوت 82.5 في المائة بالموافقة على السؤال المطروح. وبعد الاستفتاء، ابتدأ زعماء الأندلس في تخطيط نظم منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي ودستورها ونشيدها الوطني وعلمها، الخ ... 9/ 4 - رموز منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي: تكونت منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي من المقاطعات الثمانية التي شاركت في الاستفتاء وهي: ولبة وإشبيلية وقادس وقرطبة ومالقة وجيان وغرناطة والمرية. واختيرت إشبيلية عاصمة لها، كما وافقت الحكومة الإسبانية على دستورها (بما في ذلك مدى حكمها الذاتي) ورموزها (الترس والعلم والنشيد الوطني) وحقوقها. كان ترس الأندلس الرمزي الأول هو الذي وجد على باب قصبة قرطبة، والذي يعود تاريخه إلى عهد عبد الرحمن الناصر الأموي. ويمثل الترس المذكور مئذنة مسجد قرطبة الجامع تعلوها ثلاثة كويرات نحاسية، وتحيط بالمئذنة أسوار مدينة قرطبة وأربع نخلات، ويمر تحت الأسوار الوادي الكبير عليه جسر وبشاطئه ناعورة. يرمز هذا الترس إلى معاني الأندلس الأزلية، وقد أحياه القوميون الأندلسيون وجعلوه شعارًا للأندلس الحديثة، وزادوا عليه هذا البيت مكتوبًا باللغة العربية والحرف الكوفي: قرطبة موطن الحرب والفرسان ... ومورد الحكمة الصافي والعرفان أما الترس الذي اتخذه الأندلسيون شعارًا للأندلس ذات الحكم الذاتي هو كذلك من ابتكار بلاس إنفانتي في مجلس رندة سنة 1918 م حيث قدمه بالعبارات التالية: "لكي نتفق على ترس للأندلس، نستلهم رموزه من ترس قادس، مولد شعبنا منذ أيام الطرطيسيين في السنين الغابرة؛ وهو يعبر عن مجهود انبعاث وطن على المستوى الثقافي. وتظهر في الترس صورة لهرقل شابًّا، رمز القوة الشابة الدائمة للعقل الذي يتحكم وينسق القوة المادية الحيوانية المتمثلة في أسدين (تحت قدم هرقل). ويكتب

على قدم الترس: "الأندلس لنفسها ولإسبانيا وللبشرية". وباللغة اللاتينية على رأس الترس (فوق ساريتين) "هرقل المؤسس الحاكم" التي تلخص ترس قادس". نرى تركيز هذا الترس على تاريخ ما قبل إسلام الأندلس، وعلى مدينة قادس بالذات التي كانت مركز الانطلاقة للقومية الأندلسية في أوائل القرن التاسع عشر بعد الغزو النبليوني الفرنسي. ولقد وافق الأندلسيون المعاصرون على تبني هذا الترس بعد أن أجروا عليه تغييرات خفيفة في صورة هرقل. أما العلم الأندلسي المعاصر فيعود إلى جذور إسلامية محضة، وهو مكون من ثلاثة هوامش أفقية متساوية، خضراء في الأعلى والأسفل وبيضاء في الوسط. وقد وافق عليه كذلك مجلس رندة سنة 1918 م. ويرمز اللون الأخضر في العلم الأندلسي إلى الدولة الأموية في الأندلس التي كان علمها أخضر، بينما يرمز اللون الأبيض إلى الدولة الموحدية ذات العلم الأبيض. وبما أن الأمويين استعملوا العلم الأخضر منصوبًا على أعلى مئذنة الجامع الأعظم بقرطبة للدعوة إلى الصلاة، وأن الموحدين أدخلوا العلم الأبيض لتوحيد الأندلس بعد شتاتها إلى طوائف، اختار بلاس إنفانتي اللونين رمزًا للأندلس الجديدة: الأخضر رمزًا لدعوة الحوار والشورى، والأبيض رمزًا للائتلاف والوحدة والسلام. وبعبارة بلاس إنفانتي في خطاب ألقاه في قادس سنة 1936 م قبل استشهاده بقليل: "إن العلم الأندلسي الذي رفعناه هنا هذا المساء، رغم أنه رمز الأمل والسلام، لن يأتي لنا لا بالأمل ولا بالحرية اللتين نتطلع إليهما إلا إذا رفعناه عاليًا في قلوبنا". ويعود تاريخ العلم الأخضر والأبيض على شكله الحالي الذي استعاده بلاس إنفانتي ووافق عليه الشعب الأندلسي، وأصبح اليوم علم منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي إلى السلطان أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي الذي رفع مثل هذا العلم على مئذنة مسجد إشبيلية الأعظم في 18/ 7/ 1195 م بعد انتصاره على الجيوش النصرانية في معركة الأرك معلنًا بذلك انتصار الشعب الأندلسي (الأخضر) المسلم الموحد (الأبيض). وبقي هذا العلم في مخيلة الأندلسيين، فرفعوه عاليًا في مقاومتهم المريرة لغزو غرناطة من طرف نصارى قشتالة حتى سقوطها سنة 1492 م. فكان هذا العلم، الأخضر والأبيض، علم السلطان أبي عبد الله عندما قبض عليه القشتاليون على أبواب

اليسانة. وقد غنم القشتاليون 22 علمًا من هذه الأعلام النصرية، بقي بعضها في المتاحف الإسبانية إلى يومنا هذا. ولم يسقط العلم الأخضر والأبيض بسقوط غرناطة، بل ظل في قلوب الأندلسيين شعارًا لهم يخرجونه في ثوراتهم المتتالية. فقد ظهر هذا العلم مرة أخرى سنة 1641 م كعلم ثورة طاهر الحر ودوق مدينة شذونة، كما كان علم معظم الثورات الشعبية الأندلسية في القرن التاسع عشر الميلادي. وهكذا نرى أن العلم الأندلسي المعاصر هو علم إسلامي محض، رجع فيه الأندلسيون المعاصرون باختياره إلى ينابيعهم الإسلامية وكل ما فيها من رموز عليا من الأخوة والمحبة والوحدة والإيمان بالله واحترام خلق الله ومحبتهم. وظل اللونان الأخضر والأبيض في المخيلة الأندلسية الجماعية محبوبين ممثلين النور والأمل. أما النشيد الوطني الأندلسي فيعود اختياره كنشيد القومية الأندلسية إلى اجتماع رندة كذلك في يناير سنة 1918 م. وهو من تأليف بلاس إنفانتي موسيقى وكلمات، بالتعاون مع المعلم قشتيليو، مدير الجوق البلدي الإشبيلي حينذاك. أما الكلمات فهي عبارة عن أربع رباعيات باللغة القشتالية هذه ترجمتها: الراية البيضاء والخضراء ... تعود عبر قرون من الحرب لتعلن السلام والأمن ... تحت شمس أرضنا أيها الأندلسيون قوموا ... اطلبوا الأرض والحرية ليكونا للأندلس الحرة ... إسبانيا والبشرية نحن الأندلسيون نريد ... أن نعود كما كنا رجال ضياء، الذين للعالم ... أعطوا أرواح الرجال أيها الأندلسيون قوموا ... اطلبوا الأرض والحرية ليكونا للأندلس الحرة ... إسبانيا والبشرية وقد اقتبس بلاس إنفانتي موسيقى النشيد الوطني الأندلسي من التقاليد الموسيقية الأندلسية المتوارثة منذ أيام المسلمين، والتي حافظت على بعضها موسيقى "الفلامنكو"، وهي عبارة عربية أصلها "فلاح منكوب"، وظل النشيد الوطني الأندلسي

فريدًا من نوعه من بين الأناشيد الوطنية لكونه ليس نشيدًا عسكريًّا بل يوحي بالحنين إلى الأصالة والسلام. استوحى الأندلسيون دستورهم الحالي من المحاولات الحديثة للحصول على نظام خاص للأندلس يضمن لها الحكم الذاتي، أولها دستور أنتقيرة لسنة 1883 م الذي نصت فقرته الأولى على أن الأندلس أمة ذات سيادة وحكم ذاتي، تنظم نفسها في جمهورية ديموقراطية تمثيلية، لا تحصل على قوتها من أية سلطة خارجة عن المجموعات الكانتونية المستقلة التي تكونها حسب هذا الاتفاق. وتوصل اجتماع قرطبة في 29 - 31/ 1 / 1933 م إلى تحرير دستور جديد للأندلس تسترجع به شخصيتها وتبني مستقبلها مع احترام خصوصيتها. وقد عالج دستور قرطبة قواعد التنظيم الجهوي في الأندلس وتمثيل المناطق ومسؤوليات الحكومة الأندلسية، وسلطات البلديات، وشروط الجنسية الأندلسية، والشؤون المالية. كما عالج الدستور الترتيبات التنفيذية والتشريعية والعدلية. وقرر الاجتماع عدم تغيير الدستور الأندلسي أو تبديله إلا بنفس الضمانات التي حرر بها. أما الدستور الأندلسي الحالي، الذي يسمى بدستور قرمونة، فيعود تحريره إلى ديسمبر سنة 1978 م، حين اجتمع المجلس الأندلسي (الخونتا) برئاسة بلاسيدو فرناندس بياغاس، فوقع الحاضرون على "اتفاق حكم ذاتي" يتعهدون فيه على العمل لحصول الأندلس على أكبر قدر من الحكم الذاتي في أقصر مدة ممكنة. وفي 23/ 6 / 1979 م، وافق جمع الخونتا الأندلسية المنعقد في غرناطة بالإجماع على المطالبة بالحكم الذاتي عن طريق المادة 151 من الدستور الإسباني. وفي 15/ 8 / 1979 م، حرر "دستور الأندلس" في قرمونة بموافقة الأحزاب الحاضرة حينذاك: الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، واتحاد الوسط الديموقراطي، والحزب الشيوعي الإسباني، والحزب الاشتراكي الأندلسي (الحزب القومي الأندلسي فيما بعد). ويمكن ترجمة أهم بنود دستور قرمونة الحالي في النقاط التالية: تلخص المواد 1 إلى 12 النقاط العامة للدستور، فتقول المادة الأولى إن "الشعب الأندلسي قرر تنظيم نفسه كجماعة ذات حكم ذاتي كتعبير عن هويته التاريخية والسياسية وإنجازًا كاملاً لحقه في حكم نفسه بنفسه، وذلك بموافقة الدستور (الاسباني) ومع هذا الدستور (الأندلسي) الذي هو القاعدة التشريعية لنظامه". وتنص المادة الثانية على أن الأندلس تتكون من جميع أراضي المقاطعات التالية: المرية وقادس وقرطبة وغرناطة

وولبة وجيان ومالقة وإشبيلية. وتنص المادة الثالثة على أن "الجماعة البلدية" هي القاعدة التنظيمية للمجتمع الأندلسي ولها شخصيتها القانونية المستقلة ووظائفها في إطار اختصاصاتها. وحددت المادة الرابعة دور المقاطعة وخصوصياتها، كما نصت المادة الخامسة على إمكان تجميع عدة "جماعات بلدية" متجاورة في "كور" ذات مصالح مشتركة. وحددت المادة السادسة العلم الأندلسي، والسابعة عاصمة المنطقة الأندلسية، وحددت المادة الثامنة الجنسية الأندلسية، وحددت المواد التاسعة إلى الحادية عشرة حقوق الأفراد والمؤسسات و"الجماعات البلدية" في الأندلس، ونصت المادة الثانية عشرة على المبادىء العليا التي تنوي الوصول إليها منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي، منها التركيز على الأصالة الثقافية. وبينت المواد 13 إلى 23 مسؤوليات "جماعة الأندلس ذات الحكم الذاتي" بما فيها تشجيع الثقافة الأندلسية في كل أشكالها ومظاهرها وتقويتها، والحفاظ على التراث التاريخي والفني والمعماري والآثاري والعلمي للشعب الأندلسي. وبينت المواد كذلك المسؤوليات الاقتصادية والتجارية والصحية والتدريبية، وفي مجالات الطاقة والمعادن والبنوك والشؤون الاجتماعية والزراعية والشرطة المحلية والأمن الداخلي. وحددت المواد 24 إلى 45 التنظيم الإداري للجماعة ذات الحكم الذاتي، بما فيها "مجلس الممثلين" و"الحكومة المحلية" (خونتا) ورئيس محكمة الأندلس العليا. وتطرقت المواد 46 إلى 53 بتفصيل إلى إدارة العدالة في الأندلس وتحديد طرق تكوين محكمة الأندلس العليا ورئيسها وحدود مسؤولياتها. وتطرقت المواد 54 إلى 69 إلى الاقتصاد والمالية، بينما بينت المواد 70 إلى 72 العلاقة بين الأندلس والحكومة المركزية الإسبانية، والعلاقة بين الأندلس والمناطق ذات الحكم الذاتي الأخرى. وتطرقت المادتان 73 و 74 إلى الطرق القانونية لتعديل الدستور. وهكذا، ولأول مرة بعد سقوط غرناطة وضياع استقلال ما تبقى من الأندلس، أصبح لأهل الأندلس صوت في شؤون بلادهم ورأي في تخطيط مصيرهم. ولم تعد الأندلس تعامل كمستعمرة تباع وتشترى لمصالح أوروبا العليا. ولكن هل مسحت آثار الماضي القاسية بهذه السهولة؟ لقد حصلت الأندلس على حكمها الذاتي ولم يكن ذلك إلا بداية. فماذا عن شخصيتها القومية واستعادة هويتها وإعادة كرامة أهلها وإعادة

9/ 5 - إحصائيات الأندلس المعاصرة:

كتابة تاريخها؟ فلقد أعلن الزعماء الأندلسيون بلاس إنفانتي أبًا للأمة وتبنوا كثيرًا من أفكاره ومجدوه بعد استشهاده بما يقرب من نصف قرن، ولكن ماذا عن رغبته في إعادة بناء الأمة الأندلسية وانبعاث شخصيتها التاريخية واستعادة هويتها الإسلامية وتراثها العريق؟ لقد نجح برنامج بلاس إنفانتي السياسي ولكن بقي برنامجه الحضاري لانبعاث الأمة الأندلسية ينتظر من يحققه. 9/ 5 - إحصائيات الأندلس المعاصرة: تنتشر الأندلس الحالية جغرافيًّا حول سهول الوادي الكبير، وتضم جبال الشارات الجنوبية المكونة من النظام الجبلي البيتيقي الموازي لجبال الريف بالمغرب، كما تضم هضاب جبل العروس الشمالية، وهي مطلة على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي ويفرقها عن المغرب مضيق جبل طارق. وبالأندلس تنوع كبير في المناخ، من البارد الذي يشبه القطبي في أعالي جبل شلير إلى مناخ شبه استوائي في بعض الأودية أو شبه صحراوي في وادي المنصورة. أما مناخ الوادي الكبير فهو معتدل يتناسب مع زراعة غنية واستيطان كثيف. وتتكون منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي المعاصرة من المقاطعات الثمانية المذكورة أعلاه، ومجموع مساحتها 87.268 كيلومتر مربع، وسكانها سنة 1981 م 6.442.000 نسمة، وعاصمتها إشبيلية. ويضم القوميون الأندلسيون إلى المنطقة الحالية منطقة مرسية (مساحتها 11.317 كيلومتر مربع وسكانها 958.000 نسمة سنة 1981 م)، ومقاطعة بطليوس (مساحتها 21.657 كيلومتر مربع وسكانها 635.000 نسمة سنة 1981 م)، والنصف الجنوبي لمقاطعة قلعة رباح (مساحتها حوالي 10.000 كيلومتر مربع وسكانها حوالي 200.000 نسمة سنة 1981 م)، والنصف الجنوبي لمقاطعة البسيط (مساحتها حواي 6.000 كيلومتر مربع وسكانها حوالي 150.000 نسمة سنة 1981 م)، والثلث الجنوبي من مقاطعة لقنت (مساحتها حوالي 2.000 كيلومتر مربع وسكانها حوالي 350.000 نسمة سنة 1981 م). فتكون مساحة منطقة الأندلس الطبيعية حوالي 140.000 كيلومتر مربع (28 في المائة من مساحة إسبانيا) وسكانها حوالي 8.735.000 نسمة سنة 1981 م. ويقدر عدد الأندلسيين النازحين إلى مناطق إسبانيا الأخرى خارج منطقة الأندلس بحوالي عددهم في الأندلس الطبيعية، فيكون عدد الأندلسيين في إسبانيا حوالي 17.500.000 نسمة سنة 1981 م (أي حوالي 46 في المائة من سكان إسبانيا). ولنقتصر على المقاطعات الثمانية التي

تكون منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي مبينين في الجدول التالي مساحتها بالكيلومتر مربع وسكانها سنة 1981 م. إشبيلية المساحة بالكيلومتر مربع: 14.001 السكان سنة 1981 م: 1.477.428 مالقة المساحة بالكيلومتر مربع: 7.276 السكان سنة 1981 م: 1.036.261 قادس المساحة بالكيلومتر مربع: 7.385 السكان سنة 1981 م: 1.001.716 غرناطة المساحة بالكيلومتر مربع: 12.531 السكان سنة 1981 م: 761.734 قرطبة المساحة بالكيلومتر مربع: 13.718 السكان سنة 1981 م: 717.213 جيان المساحة بالكيلومتر مربع: 13.498 السكان سنة 1981 م: 627.598 ولبة المساحة بالكيلومتر مربع: 10.085 السكان سنة 1981 م: 414.492 المرية المساحة بالكيلومتر مربع: 8.774 السكان سنة 1981 م: 405.313 المجموع المساحة بالكيلومتر مربع: 87.268 السكان سنة 1981 م: 6.441.765 ويبين الجدول التالي تزايد السكان في المقاطعات الثمانية منذ سنة 1860 م: إشبيلية سكانها سنة 1860 م: 473.920 1900 م: 555.256 1940 م: 963.44 1980 م: 1.415.153 مالقة سكانها سنة 1860 م: 446.659 1900 م: 511.989 1940 م: 677.474 1980 م: 964.933 قادس سكانها سنة 1860 م: 391.206 1900 م: 452.659 1940 م: 600.440 1980 م: 1.012.981 غرناطة سكانها سنة 1860 م: 441.404 1900 م: 492.460 1940 م: 737.690 1980 م: 735.636 قرطبة سكانها سنة 1860 م: 358.657 1900 م: 455.859 1940 م: 761.150 1980 م: 707.953 جيان سكانها سنة 1860 م: 362.466 1900 م: 474.490 1940 م: 753.308 1980 م: 629.368 ولبة سكانها سنة 1860 م: 176.626 1900 م: 260.880 1940 م: 366.526 1980 م: 400.764 المرية سكانها سنة 1860 م: 315.450 1900 م: 359.013 1940 م: 359.730 1980 م: 396.174 المجموع سكانها سنة 1860 م: 2.966.388 1900 م: 3.562.606 1940 م: 5.219.362 1980 م: 6.262.962

وكانت كثافة السكان في الأندلس سنة 1981 م حوالي 74 شخص للكيلومتر المربع، وهي في ارتفاع مستمر، يقطن منهم حوالي 37 في المائة في المناطق القروية، و 63 في المائة في المناطق الحضرية، وهذه النسبة الأخيرة في ارتفاع مستمر. وأهم مدن الأندلس هي عواصم المقاطعات الثمانية، أكبرها العاصمة إشبيلية تليها مالقة ثم قرطبة فغرناطة. ويبين الجدول التالي تزايد عدد سكان العواصم الثمانية منذ سنة 1860 م: إشبيلية سكانها سنة 1860 م: 118.298 1900 م: 148.315 1930 م: 228.729 1980 م: 628.331 مالقة سكانها سنة 1860 م: 94.732 1900 م: 130.109 1930 م: 188.010 1980 م: 445.345 قرطبة سكانها سنة 1860 م: 45.963 1900 م: 58.275 1930 م: 103.106 1980 م: 273.253 غرناطة سكانها سنة 1860 م: 67.326 1900 م: 75.900 1930 م: 118.179 1980 م: 236.841 قادس سكانها سنة 1860 م: 71.521 1900 م: 69.382 1930 م: 75.769 1980 م: 147.778 المرية سكانها سنة 1860 م: 29.426 1900 م: 47.326 1930 م: 53.977 1980 م: 127.259 ولبة سكانها سنة 1860 م: 9.805 1900 م: 21.359 1930 م: 44.872 1980 م: 125.681 جيان سكانها سنة 1860 م: 22.938 1900 م: 26.434 1930 م: 39.787 1980 م: 89.489 ومن خصوصيات سكان الأندلس سنة 1975 م أن 30.5 في المائة منهم أقل من 15 سنة (33.1 في المائة سنة 1900 م)، و 60.1 في المائة تتراوح أعمارهم بين 15 و 64 سنة (62.1 في المائة سنة 1900 م)، و 9.4 في المائة تزيد أعمارهم عن 65 سنة (4.8 في المائة سنة 1900 م). وكانت نسبة المواليد في الحقبة بين 1961 م و 1970 م بمعدل 20.79 مولود لكل ألف ساكن في السنة (38.25 في الحقبة 1901 - 1910 م) ونسبة الوفيات 8.58 متوفَّى لكل ألف ساكن في السنة (28.87 في الحقبة 1901 - 1910 م)، وبذلك تكون الزيادة الطبيعية 12.21 شخصًا لكل ألف ساكن في السنة في الحقبة المذكورة (9.38 في الحقبة 1901 - 1910 م)، وهي نسبة مرتفعة بالنسبة لباقي أوروبا، وإن كانت تتجه إلى الانخفاض. لذلك فالأمة الأندلسية المعاصرة هي أمة شابة يكثر فيها الشباب ويقل العجزة.

ولا زالت الأمية مرتفعة بين الأندلسيين، إذ كانت نسبة الأميين من مجموع السكان 10 في المائة سنة 1975 م (68 في المائة سنة 1900 م) ويتوقع أن تصل إلى الصفر في المستقبل القريب. وفي سنة 1979 م كان يعمل 30.3 في المائة من السكان العاملين في الزراعة (57 في المائة سنة 1950 م) و 16.1 في المائة في الصناعة (11.1 في المائة سنة 1950 م) و 10.3 في المائة في التجارة (5.4 في المائة سنة 1950 م). غير أن نسبة البطالة ظلت مرتفعة مما أدى إلى هجرة متواصلة للأندلسيين لباقي إسبانيا وخارجها. وتدل الأرقام أعلاه على أن الأندلس بلاد زراعية أكثر من باقي إسبانيا. كما أن دخل الفرد في الأندلس بقي أقل منه في باقي إسبانيا، إذ وصل سنة 1977 م إلى حوالي 150.000 بسيطة فقط للفرد الواحد، وهو في ارتفاع سريع ومستمر. والأندلس أرض زراعية تستثمر 91.4 في المائة من مساحتها، وهي نسبة أعلى بقليل منها في باقي إسبانيا. وأهم المنتوجات الزراعية سنة 1982 م هي الحبوب (معظمها القمح والذرى والأرز)، خصصت لها 1.174.740 هكتار (27 في المائة من الأراضي المستثمرة) وهي في زيادة، والزيتون، خصصت له 1.282.198 هكتار (29 في المائة من الأراضي المستثمرة) وهي في انخفاض، بينما خصصت باقي الأراضي (44 في المائة) لزراعة العنب والقطن والشمندر والفواكه والقطنيات والزهور، الخ ... أما المواشي فكان عددها في الأندلس سنة 1972 م 1.400.000 من الغنم و 710.000 من الماعز و 480.000 من البقر و 460.000 من الخنازير. وتقدمت الزراعة في السنين الأخيرة بشكل ملحوظ، إذ تضاعف فيها استعمال الآليات الزراعية عدة مرات، وانتشرت الزراعة المغطاة خاصة بعد انضمام إسبانيا للسوق الأوروبية المشتركة. أما الصناعة فقد بقيت محدودة، عدا في منطقة ولبة حيث انتشرت الصناعات الكيماوية، وأثرت تأثيرًا سيئًا على البيئة. ويذهب إلى المدارس في الأندلس حوالي 750.000 طالب (سنة 1979 م) يعلمهم حوالي 25.000 معلم مسجل، يدرس حوالي 40 في المائة منهم في المدارس الخاصة و 60 في المائة في المدارس الحكومية. وتوجد في الأندلس عدة جامعات (في غرناطة وإشبيلية ومالقة وقرطبة) تدرس فيها شتى العلوم، كما بها عدة مؤسسات للتعليم العالي علمية وفنية في مدن متعددة.

والأندلس اليوم منطقة سياحية كذلك. وقد جلبت السياحة دخلاً كبيرًا من العملة الصعبة، لكن كثيرًا من المفكرين الأندلسيين انتقدوها لتأثيرها السيىء على الثقافة والقيم والبيئة الأندلسية، ولكون معظم المستفيدين منها من غير الأندلسيين أو طبقات خاصة منهم مما أدى إلى تحويل المجتمع الأندلسي إلى خدمة المقاهي والملاهي؛ وقد انتشرت التسهيلات الفندقية في كل الأندلس، خاصة الشواطىء، إذ اقترب عدد الغرف الفندقية سنة 1977 م إلى المائة ألف غرفة وتعدتها بكثير اليوم (سنة 1990 م)، بينما وصل عدد السياح سنة 1974 م وحدها إلى 3.5 مليون سائح (وتضاعف هذا العدد سنة 1990 م). أما النقل، فقد كان في الأندلس سنة 1975 م 132.550 شاحنة و 5.189 حافلة و 525.927 سيارة خاصة (86 سيارة لكل ألف مواطن، و 41 سنة 1970 م)، وهي في ارتفاع كبير، و 203.624 دراجة نارية (33 دراجة لكل ألف مواطن) وهي في انخفاض، و 154.260 دراجة عادية (25 دراجة لكل ألف مواطن، و 33 سنة 1970 م) وهي في انخفاض. وسجلت سنة 1978 م وحدها 70.529 سيارة خاصة جديدة و 4.580 دراجة نارية. كما توجد في الأندلس شبكة طرق مهمة، وقد ابتدىء في بناء شبكة للطرق السريعة تربط العواصم الأندلسية المختلفة. كما توجد بالأندلس عدة موانىء كبيرة، أهمها مالقة وإشبيلية والمرية والجزيرة الخضراء وولبة، وعدة مطارات، منها الدولية في مالقة وإشبيلية، والوطنية في غرناطة وشريش (مقاطعة قادس) والمرية.

مراجع الفصل التاسع

مراجع الفصل التاسع 9/ 1 - Blas Infante "Fundamentos de Andalucia" Fondation Blas Infante, Sevilla, 1984. 9/2 - Enrique Soria Medina "Los Cuarenta Anos" Andalucia dijo Si, Au - gusto Llorca, Sevilla, 1980. 9/3 - Augusto Llorca "Andalucia dijo Si" Sevilla, 1980, p. 17-18. 9/4 - Ref. (9.3) , p. 15. 9/5 - Ref. (9.3) , p. 19 9/6 - Ref. (9.3) , p. 28. 9/7 - Fernando Repiso "Simbolos y Derechos Andaluces" Sevilla, 1980. 9/8 - Ref. (9.7) , p. 19-30. 9/9 - Ref. (9.7) , p. 31-48. 9/10 - Ref. (9.7) , p. 49-53. 9/11 - Ref. (9.7) , p. 61-70. 9/12 - Enrique Soria Medina "Andalucia: Datos para su Historia: 1900- 1979" Sevilla, 1980.

الفصل العاشر الانبعاث الإسلامي على مفترق الطرق (منذ سنة 1970 م)

الفصل العاشر الانبعاث الإسلامي على مفترق الطرق (منذ سنة 1970 م) 10/ 1 - الجمعيات الإسلامية للوافدين: غاب الإسلام، ظاهرًا عن أرض الأندلس منذ سنة 1609 م، واحتفظ به في القلوب من تبقى من المسلمين الأندلسيين. وكان التنصير شرطًا للإقامة لمن وفد من المسلمين إلى إسبانيا. وخف هذا الوضع بعد الحرب العالمية الثانية وهجرة عدد من أهل منطقة الحماية الإسبانية بشمال المغرب إلى إسبانيا، كجنود مع جيش فرانكو. وكان فرانكو قد وعدهم بتسليمهم مسجد قرطبة الجامع إن هو انتصر. فلم يف بالوعد، وعوضًا عن المسجد الجامع، بنى لهم في ساحة عامة بوسط قرطبة مسجدًا صغيرًا مقابل مستشفى للصلاة على موتاهم. وقد أقفل المسجد الصغير (المسمى عند أهل قرطبة بالمرابطو) بعد الحرب الأهلية بقليل، وأصبح مخزنًا لآليات الحديقة العامة، ولم يفتح من جديد للصلاة إلا مؤخرًا. وتكاثرت أعداد المسلمين الوافدين إلى إسبانيا بعد سنة 1960 م. إلى أن وصلت سنة 1990 م إلى حوالي مائتي ألف مسلم، معظمهم من العمال المغاربة، والطلبة المشارقة الذين مكثوا بعد تخرجهم وحصلوا على الجنسية الإسبانية. ولم يتمكن هؤلاء من تنظيم أنفسهم إلا مؤخرًا. ففي 24/ 12 / 1964 م، صدر قانون الجمعيات الذي سمح للجمعيات الدينية غير الكاثوليكية بشيء من التنظيم لأول مرة. وفي 28/ 6 / 1967 م، أصدرت الحكومة الإسبانية قانونًا جديدًا تسمح فيه بحرية الأديان، أصبح معه من الممكن تأسيس جمعيات إسلامية لأول مرة منذ سقوط غرناطة، رغم نقصه، إذ لا يسمح بممارسة الشعائر غير الكاثوليكية إلا جزئيًّا، ولا يسمح للمجموعة الإسلامية بإجراء

مفاوضات مع الدولة للمطالبة بالحقوق الدينية أو المدنية. فجعل هذا القانون ممكنًا تنظيم جمعية إسلامية من طرف غير الإسبان، ولكنه لم يسهل أي وجود إسلامي منظم بين المواطنين الأندلسيين. فاستفاد من هذا القانون الطلبة العرب المشارقة ذوو الاتجاه الإسلامي إذ أسسوا جمعية طلابية إسلامية في غرناطة سنة 1966 م، بعد أن اقترح ذلك عليهم الأستاذ أبو الحسن الندوي عند زيارته سنة 1965 م، وسجلوها رسميًّا سنة 1971 م بوزارة العدل الإسبانية، تحت اسم (الجمعية الإسلامية في إسبانيا). وفي 22/ 4/ 1974 م، عدل نظام الجمعية لتمكينها من بناء المساجد والمراكز الإسلامية عبر إسبانيا. ثم فتحت الجمعية فروعًا متعددة في مدن إسبانيا المختلفة: مجريط، وأبيط (آشتورياش)، وسرقسطة (أراغون)، وبلنسية (بلنسية)، وشنت آندر (كانتابريا)، وشنت ياقو (جليقية)، ومالقة وغرناطة بالأندلس. ابتدأت الجمعية نشاطها في شقة متواضعة في غرناطة، وكان من أبرز أعضائها رمزي الأتاسي ورياج الططري. ثم انتقل مقر الجمعية الأساسي إلى مجريط في شقة متواضعة، ثم انتقلت إلى شقة في شارع فرانكوس رودريكز تحتوي على مصلى يتسع لحوالي 200 شخص ومكتبة صغيرة وغرفة للنشاط الإداري وصفوف للتدريس. ثم بنت الجمعية مركزًا إسلاميًّا متكاملاً اسمه "مسجد أبو بكر" في شارع أنستيزيو هريرو من حي تطوان، وهو أول مسجد يُبنى حديثًا في مجريط. أما مراكز المدن الأخرى فكلها شقق متواضعة مؤجرة أو مشتراة من طرف الجمعية. ومعظم أعضاء هذه الجمعية طلبة من سوريا وفلسطين، تخرجوا بعد ذلك وتزوج كثير منهم بإسبانيات وحصلوا على الجنسية الإسبانية وانخرطوا في الحياة العامة. ويعود الفضل إلى كثير من هؤلاء الذين ضحوا بنشاطهم المهني للدعوة إلى الله بين المهاجرين المسلمين، خاصة الطلبة العرب، فأنقذوا منهم أجيالاً لم يتعلموا أمور دينهم إلا في المهجر. وقاموا بمجهود ضخم في تعليم الشباب المسلم أمور الدين، وطبع نشرات بالعربية والإسبانية، وإعطاء دروس إسلامية، وإحياء الشعائر الدينية، وتعليم الأطفال مبادىء الإسلام. وإلى سنة 1978 م، ظلت الجمعية داخل الجامعات كجمعية طلابية فقط. وبعد ذلك التاريخ، أخذ معظم الطلاب يتخرجون ويتزوجون، فأخذت الجمعية تكتسب طابعًا لجمعية جالية إسلامية. وتركز نشاطها الإعلامي في إصدار دوريتين بالإسبانية كل

شهرين: العروة الوثقى (حوالي ألف نسخة) والإسلام (حوالي 750 نسخة). وتقوم الجمعية بتنظيم جداول مواقيت الصلاة وتوزيعها، كما أن لها نشاطًا في وسائل الإعلام الإسبانية ومشاركة في ندوات دينية. ويشتمل برنامج الجمعية الثقافي على حلقات دروس أسبوعية في الفقه واللغة العربية، وندوات شهرية. كما طبعت الجمعية باللغة الاسبانية عددًا من الكتب المؤلفة أو المترجمة، منها: "عيسى عليه السلام في القرآن" لسليمان مفسر، و"الأسرة الإسلامية" لخورشيد أحمد، و"روح الإسلام" لمحمد أسد، و"ما قدم الإسلام للحضارة الغريبة" لأبي الأعلى المودودي، وغيرها من الكتب. ومن أبرز أنشطة الجمعية الاجتماعية تنظيم عقود الزواج الإسلامي ووثائق إشهار الإسلام، كما تفعل ذلك الجمعيات الإسلامية الأخرى. وفي سنة 1978 م، انفصلت عن "الجمعية الإسلامية في إسبانيا" جمعية سمت نفسها "المركز الإسلامي في إسبانيا" بسبب خلافات. وتتكون الجمعية المنفصلة كذلك من قدماء الطلاب العرب المشارقة، من أهمهم بهيج ملاحويش ومحمد سلامة. ويقع المركز الأساسي "للمركز الإسلامي في إسبانيا" في مجريط في شقة بشارع ألونسو كانو بها مسجد ومكتبة ومكاتب. وللمركز فروع في برشلونة (قطلونية) بشارع مريديان، ولاس بالماس (الجزر الخالدات). وغرناطة (شقة مشتراة)، وإشبيلية (شقة مؤجرة)، ومالقة (بيت مشترى)، وقرطبة (حصلت الجمعية على المسجد الذي بناه فرانكو للجنود المغاربة والمسمى مرابطو) بالأندلس. وفي سنة 1990 م، كلفت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة "المركز" بإدارة مسجد الملك عبد العزيز الذي بني سنة 1981 م بمربلة (مقاطعة مالقة) بالأندلس، يقوم به بجدارة مقام الإمام والرئيس المغربي علال بشر. ومن أهم أنشطة "المركز الإسلامي في إسبانيا" المحاضرات واللقاءات العامة، وتوزيع الكتب الإسلامية باللغة الإسبانية، وإعطاء دروس أسبوعية في مراكزه المختلفة، وأخرى للطلاب العرب لتقوية لغتهم الإسبانية، وتنظيم رحلات جماعية، وإحياء الشعائر الدينية. كما يقوم "المركز" بتنظيم مخيمات سنوية يشارك فيها أكثر من مائة شاب مسلم من إسبانيا وباقي أوروبا. كما يقوم "المركز" بترجمة عدد من الكتب الإسلامية إلى اللغة الإسبانية ونشرها، منها:، الأربعون النووية". وكتب نزار الصباغ كـ "الصلاة" و"تعدد الزوجات في الإسلام" و"التوحيد" و"الزواج والطلاق في الشريعة الإسلامية" و "القاديانية"، وأبي الحسن الندوي كـ "بين الشرق والغرب"، وسيد قطب

كـ "معالم في الطريق" و"هذا الدين"، ومحمد قطب كـ "المرأة في الإسلام" (من كتاب شبهات حول الإسلام)، وأبي الأعلى المودودي كـ "الأمم المريضة والعصر الحديث" و"النظرية السياسية في الإسلام" و"مبادىء الإسلام" و"كتاب السنة" و"مبادىء أساسية لفهم القرآن"، وكتاب "حياة محمد صلى الله عليه وسلم" لمحمد حسين هيكل، و"الإسلام تحت الضوء" لحمودة عبد العاطي، وغيرها من الكتب. وأنشأ "المركز" مدرسة إسلامية في غرناطة وأخرى في برشلونة لتدريس الدين الإسلامي واللغة العربية لأبناء الجالية الإسلامية الوافدة. لكن فشل المشروعان بعد جهد كبير. كما اشترى "المركز" قطعة أرض على بعد 12 كيلومتر من مطار مجريط مساحتها 6.25 هكتار لإقامة مخيم دائم للطلبة المسلمين. وفي 28/ 6 / 1973 م، قدم عمدة مجريط للهيئات السياسية الإسلامية قطعة أرض مساحتها 1500 متر مربع في شارع كوستاريكا بإحدى أحياء مجريط الجديدة القريبة من وسط المدينة، لإقامة مسجد جامع عليها. وانتهت المدة المحددة ولم يُبن على الأرض شيء، فاستعادت البلدية الأرض. ثم بعد تعهد السفراء المسلمين في مجريط ببناء المسجد، قدمت البلدية أرضًا أخرى بضواحي مجريط الشرقية مساحتها 10.465 متر مربع بشارع السلام. وفعلاً تبنت المملكة العربية السعودية مشروع المسجد الذي انتهى ببنائه سنة 1990 م تحت إشراف سفارتها. وقد أصبح هذا المسجد أكبر مركز إسلامي في إسبانيا. وقد كلف بناؤه على مساحة 20.000 متر مربع حوالي 1.500 مليون بسيطة. ويتكون المركز من ستة طوابق، ثلاثة منها تحت الأرض، ومئذنة علوها 36 مترًا، ومسجد مساحته 650 مترًا مربعًا يسع لـ 830 مصل، ومكاتب وقاعة محاضرات ومركز ثقافي ومكتبة، الخ ... وكُلفت جمعية "المركز الإسلامي في إسبانيا" بإدارة هذا المركز. وتأخر المسلمون المغاربة في تنظيم أنفسهم رغم أعدادهم الكبيرة نسبيًّا، إذ يكونون حوالي ثمانين في المائة من مسلمي إسبانيا، معظمهم عمال في المناطق الصناعية خاصة مجريط وبرشلونة، وكثير منهم يقيمون في البلاد بطريقة غير قانونية. ولا زال التنظيم الإسلامي المغربي ضعيفًا، وهو يرتكز حول محورين: الأول التعاضديات، ولها مراكز في طورى مولينوس (مقاطعة مالقة) بالأندلس وفي برشلونة ومجريط. ولم تتحول مراكز التعاضديات إلى مراكز إسلامية متواضعة إلا مؤخرًا، وهي تتكون عادة من قاعة للصلاة ومقهى ومدرسة للأطفال. والثاني لجماعة التبليغ،

ظهر في السنين الأخيرة على شكل مساجد متواضعة، أهمها في منطقة الأندلس بالجزيرة الخضراء، كما يوجد مسجد في سكن العمال بمستعمرة جبل طارق. أما في منطقة قطلونية فأهم المساجد التي أسستها جماعة التبليغ هي: مسجد سان بيزانتي دي كالديرس (مقاطعة طركونة)، ومسجد طارق بن زياد ببرات (مقاطعة برشلونة)، رمسجد رمضان ببيش (مقاطعة برشلونة)، ومسجد أبو بكر ببيغيراس (مقاطعة جرندة)، ومسجد حمزة بروزاس (مقاطعة جرندة). كما أسس المغاربة جمعية "الجماعة الإسلامية المغربية في مجريط" و"الجماعة الإسلامية" في لاس بالماس بالجزر الخالدات. ويكون الباكستانيون المجموعة الإسلامية الوافدة الثالثة، ومعظمهم عمال مناجم. أما في الأندلس فيتمركزون في ثلاثة مدن: وهي قزلون (لينارس) بمقاطعة جيان ولاكاولينا المجاورة لها، وفي بنياروجا بمقاطعة قرطبة. وفي سنة 1982 م، أسس الباكستانيون بمساعدة كاتب هذه السطور جمعية إسلامية في قزلون سجلت رسميًا تحت اسم "جمعية جيان الإسلامية"، كان رئيسها الأول رجا محمد إقبال. وللباكستانيين في الأندلس دور في مساندة الجماعات الإسلامية الأندلسية في قرطبة وغرناطة في بداية نشأتها. رتوجد كذلك تجمعات إسلامية باكستانية في بمليبري بمقاطعة ليون (قشتالة ليون) وفي مونتالبان بمقاطعة طرويل (أراغون). وأسس الباكستانيون كذلك مركزًا إسلاميًّا في برشلونة بشارع ريفومير. ويكون السنغاليون المجموعة الوافدة الرابعة، وهم يعملون في الزراعة خاصة في قطلونية، منهم في بلدتي لامارزوم وماتارون بمقاطعة برشلونة، وفي بلدة آمبوردان بمقاطعة جرندة. لكن لا تنظيم إسلامي لهم يذكر. وبصفة عامة، لم يؤثر التنظيم الإسلامي للوافدين على الانبعاث الإسلامي لأهل الأندلس إلا هامشيًّا، وذلك لأسباب متعددة أهمها أن الوافدين يأتون بعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم مما يجعل الأندلسي المسلم يشعر بالتبعية عند الانضمام لهم، فيؤدي ذلك إلى نفوره. ومنها أن معظم الوافدين، حتى لو استقروا في إسبانيا وأخذوا جنسيتها، لا يندمجون في واقع المجتمع الإسباني وليست لهم الجرأة على المطالبة بجميع حقوقهم فتبقى الجمعيات الإسلامية للوافدين إما مشرقية أو مغربية أو سنغالية أو باكستانية، ولا تستطيع أية واحدة منها جلب الأهالي الإسبان إليها. وقد أدى هذا الوضع مع الأيام إلى النفور بين المسلمين الأندلسيين والإسبان الآخرين من جهة

10/ 2 - الطريقة الدرقاوية في غرناطة:

والمسلمين الوافدين من جهة أخرى، يعمل العاقلون من الطرفين على الحد منه. وبصفة عامة، لا يُتوقع أن يكون للجماعات الإسلامية الوافدة تأثير كبير على مسار الانبعاث الإسلامي الأندلسي، وسيقتصر تأثيرها على جماعات الوافدين فقط. ولا تختلف هذه الجمعيات الإسلامية عن مثيلاتها بين التجمعات الإسلامية الوافدة في غرب أوروبا. وجاء الانبعاث الإسلامي في الأندلس عن غير طريق الوافدين. وسنرى في الفصول التالية الخطوات الأولى للانبعاث الإسلامي في الأندلس وفي باقي المناطق الإسبانية، ونتابع نشأتها. كما سندرس التيارات العاملة في هذا الانبعاث الإسلامي، وتحديد التيارات ذات الجذور العريقة في الأندلس. 10/ 2 - الطريقة الدرقاوية في غرناطة: احتفظ عدد كبير من أهل الأندلس بدينهم الإسلامي سرًّا وبعد سنة 1960 م، تجرأ بعضهم على إعلان إسلامه عند هجرته إلى المغرب، أو حتى في الأرض الإسبانية نفسها، كالمحامي خليل بن أمية الذي كان يعيش في مجريط، وغيره كثير ممن ليست له شهرته. ومنهم من هاجر إلى خارج الأندلس كالمسلم الغرناطي الذي التقيت به في كوبنهاكن (الدانمارك) في 5/ 11 / 1973 م. وقد ولد ونشأ في برشلونة وأسلم سنة 1969 م في باكستان، وتزوج بمسلمة سويدية، ثم هاجر إلى الدانمارك حيث ساهم في تأسيس جمعية إسلامية، ثم إلى لوس أنجليس (كالفورنيا) بالولايات المتحدة الأمريكية حيث يقيم اليوم (1990 م). ولما سألته حينذاك عن سبب إسلامه، أجاب: "كنت طفلاً صغيرًا عند احتضار جدتي فجذبتني إليها وهمست في أذني قائلة: "إن الدين النصراني ليس ديننا وليس هو الدين الحق، عندما تكبر حاول أن تعرف دينك". فلما كبرت درست تاريخ إسبانيا وفهمت قصد جدتي، فتعلمت الدين الإسلامي واقتنعت به، وأعلنت إسلامي في باكستان حيث أمضيت سنتين لأتقن تعليمي". وهكذا أسلم عدد كبير من الأندلسيين، منهم من مكث بإسبانيا ومنهم من هاجر منها، كل واحد منهم أسلم لنفسه دون أن يفكر في تنظيم جماعة إسلامية في الأندلس. وكانت مدينة مكناس بالمغرب منبع التنظيم الأندلسي الأول بطريقة غير مباشرة. فقد فتح هناك قبل ربع قرن الشيخ ابن الحبيب، شيخ الطريقة الدرقاوية بمكناس، زاويته لعدد من الأوروبيين الذين انجذبوا للإسلام، منهم رجل اسكوتلاندي اسمه "يان

دالاس"، كان يعمل مع فرقة "البتلز" (الخنافس) الإنكليزية. فترك مجرى حياته السابق، واعتنق الإسلام، وأقام بالزاوية الدرقاوية بمكناس حيث أصبح مريدًا للشيخ ابن الحبيب الذي سماه عبد القادر، فأصبح يعرف بعبد القادر الصوفي. ثم أمره شيخه بالتوجه إلى بلده ونشر الإسلام به فرجع عبد القادر الصوفي إلى بريطانيا وأسس في نورويش (بالقرب من لندن) جالية إسلامية بريطانية. وفي سنة 1975 م، نفس السنة التي مات فيها فرانكو، توجه إلى بريطانيا ثلاثة من الشباب الأندلسي من بلدة بورتيانو (مقاطعة قلعة رباح) بمنطقة قشتالة - مانشة، من بينهم محمد دل بوثو الأندلسي، واعتنقوا الإسلام على يد الشيخ عبد القادر الصوفي، وأصبحوا من أتباعه في الطريقة الدرقاوية ومريديه. ثم التحق بجماعة نورويش عدد من الإسبان الذين أسلموا، من بينهم عبد السلام منصور أسكوديرو من غرناطة وعمر كوكا دومينيكز من إشبيلية وأبو الحسن كستنييرا باردو وغيرهم. فأمرهم الشيخ عبد القادر الصوفي بالاتجاه إلى قرطبة بالأندلس وتأسيس جالية إسلامية بها. وفي سنة 1977 م، توجه أعضاء الجماعة إلى قرطبة، واستأجروا بيتًا قديمًا سكنوا فيه جميعًا مع أزواجهم وأبنائهم، وأخذوا يقومون بأعمال متواضعة كباعة متجولين لإعالة أنفسهم. وحرصوا، رجالاً ونساء، في تلك الحقبة على ارتداء الزي الإسلامي. وانضم إلى هذه الجماعة في قرطبة عدد من الأندلسيين وغيرهم من الأسبان، زاد على الأربعين. وارتكزت فلسفة الجماعة على كونهم يعيشون في مجتمع كافر يجب الخروج عنه، فكان على كل من يعتنق الإسلام أن يترك أهله وعمله لينضم إلى الجماعة. ومنذ البداية، كان تنظيم الجماعة شبه عسكري، حيثما كان شيخها الأكبر، الشيخ عبد القادر الصوفي، يأمر فيُطاع، وينظم حياة كل أفراد الجماعة، ويطرد من الجماعة كل من يبدي أي تحفظ على أمر من أوامره. وكان إمام الجماعة محمد دل بوثو الأندلسي. وكان حينذاك يدّعي مونسينيور إنفانتي فلوريدو، مطران قرطبة، التسامح الديني، ويشجع الحوار الإسلامي المسيحي، ويستدعي علماء الإسلام للصلاة في مسجد قرطبة الأعظم بعد مؤتمرات سنوية للحوار كان ينظمها. فاستأذنت الجماعة من المطران إقامة صلاة عيد الأضحى سنة 1398 هـ (1978 م) بمسجد قرطبة الأعظم، فأذن لهم. وكان ذلك أول نشاط علني عرفت به الجماعة. وانضم إلى الجماعة في صلاة العيد عدد من العمال المغاربة والباكستانيين (من بنياروجا وقزلون ولاكرولينا)

وبعض الطلبة العرب. وكان إمام العيد نزار أحمد الصباغ، رئيس "المركز الإسلامي في إسبانيا" الذي اغتيل رحمه الله سنة 1981 م في برشلونة. وفي سنة 1979 م، قررت الجماعة الانتقال من قرطبة إلى إشبيلية آملة أن يكون المجال أفضل للدعوة الإسلامية. وفي إشبيلية، أقامت الجماعة لأول مرة الصلاة في حديقة جامع المنصور، وصعد أحد أفراد الجماعة إلى أعلى مئذنة المسجد (لاخير الدا) وأذن منها. وحاولت الجماعة الحصول من بلدية إشبيلية على المسجد الذي بناه المغرب في إشبيلية في معرض دولي قبل الحرب العالمية الثانية، فرفض طلبهم، وفي 4/ 4/ 1980 م، بمناسبة "مسيرة النصارى" في "الأسبوع المقدس"، قام أفراد الجماعة بتوزيع مناشير على المتفرجين وهم يصيحون "أوقفوا محاكم التفتيش". تقول المناشير: "هذه الأثواب هي أثواب محاكم التفتيش. إنكم تحتفلون بالإعدامات الجماعية وتقدمون الاحترام للمجرمين المقنعين. إن الأندلس الإسلامية كانت أندلسًا حرة. ثم جاء القتلة أصحاب القبعات الطويلة (قضاة التفتيش). هذه المسيرة هي ذكرى لمحاكم التفتيش وحفلاتها الإجرامية التي تمثل الإرهاب والقتل الجماعي ... ". فتدخلت الشرطة وقبضت على عبد النور كوكا دومينكر (أخي عمر الأصغر)، أحد المسلمين الأندلسيين، ثم أطلقت سراحه بعد بضعة أيام. وبعد هذه الحادثة، وقع تحول جديد في الجماعة إذ قررت الانتقال إلى مقاطعة ولبة حيث حصلت على مزرعة بين ولبة والرصينة حاولت تأسيس مجتمع إسلامي عليها بدون نجاح. ثم انتقلت الجماعة إلى غرناطة بعد أن أعلنت اسمها الجديد "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا"، كما أسمت نفسها في بعض مناشيرها "جماعة المسلمين الإسبان". وفي 22/ 9 / 1980 م، سجلت الجمعية نفسها بوزارة العدل الإسبانية بمقتضى قانون سنة 1967 م الذي يضمن حرية العقيدة، تحت اسم "الجمعية الدينية لنشر الإسلام في إسبانيا" قام بتسجيل الجمعية خوزي ميكيل (عمر) كوكا دومينغز وخيسوس (محمد) دل بوثو لوبز وآنا مارية لانشاس ريس ودولورس كونتريراس كانو وماريا خيسوس أوريبي آلاسترا. استأجرت الجماعة عمارة في شارع سرابيا بغرناطة. وأقامت فيها مسجدها ومكاتبها ومشاريعها الاقتصادية. وقرر زعماؤها أن يرتدي رجالها الزي الأوروبي عوضًا عن الزي الإسلامي لتسهيل قبولهم من طرف المجتمع الغرناطي.

وقامت الجماعة بأول نشاط لها علني في غرناطة عندما أذن لها فراسسكو سانتشس رولدان، القيم على قصر الحمراء، بإقامة صلاة عيد فطر سنة 1400 هـ (13/ 8 / 1980 م) في حدائقه. فحضر الصلاة حوالي مائتي شخص، رجالاً ونساء وأطفالاً، من بينهم بعض الطلبة العرب والعمال الباكستانيين. وكان إمام الصلاة محمد دل بوثو. وبعد صلاة العشاء جماعة، قدم العشاء للجميع في جو ديني واجتماعي جميل كان له أحسن الأثر على المجتمع الغرناطي، وساعد على التعريف بالجماعة وانضمام أعداد جديدة من العائدين إلى الإسلام إليها. وفي عيد الأضحى الذي تلاه طلبت الجماعة من إنفانتي فلوريدو، مطران قرطبة، الإذن لها بإقامة صلاة العيد في المسجد الأعظم. فرفض المطران هذه المرة الطلب خطيًّا، مدعيًا أن ذلك يؤدي "إلى تخوفات وانشقاقات وحتى إلى الفضيحة"، وصحبت ذلك الرفض حملة ضد المسلمين الإسبان في الصحافة الإسبانية. ورد محمد علي، أحد ممثلي الجماعة، على هذه الحملة قائلاً: "ليس الإسلام ملكًا للعرب، فاعتناق الإسلام لا يعني أن الإنسان أصبح عربيًّا. نحن مثلاً مسلمون إسبان كما أن هناك مسلمون روسيون وفليبينيون، الخ ... ومن أجل ذلك ليست لنا علاقة مع البلاد الغنية بالبترول إلا علاقة المسلم مع أخيه المسلم، ليس أكثر". وكان مطران قرطبة قد أذن سنة 1979 م للمشاركين الأجانب في مؤتمر حول الحضارة الإسلامية بالصلاة في المسجد. وبعد رفض مطران قرطبة، توجهت الجماعة بطلب المساعدة من مجلس قرطبة البلدي. فسلم خوليو أنغيتا، عمدة قرطبة (رئيس الحزب اليسار المتحد حاليًّا)، للجماعة المسبح البلدي لإقامة صلاة العيد. وهكذا أقيمت حفلة إسلامية كبيرة في المسبح البلدي حضرها أعضاء مجلس قرطبة البلدي بما فيهم أنطونيو ثوريتا، نيلاب العمدة، نكاية في المطران والكنيسة الكاثوليكية المتعصبة، وتعاطفًا مع المسلمين. وكان خطيب العيد الطبيب النفسي الدكتور منصور عبد السلام اسوديرو، أمير الجماعة حينذاك، فألقى خطبة عصماء قال في آخرها: "أصبح مجتمع الكفر في حالة إفلاس: ثقافة منحلة، وفشل ذريع في الميدان السياسي، وأزمة اقتصادية متواصلة ... أقول لجميع الذين يبحثون بصدق عن سبيل يفضي بهم إلى معرفة ذواتهم ويتيح لهم التعاون مع الآخرين بثقة ... الإسلام هو الأمل المضيء، أدعوكم لاكتشافه، أدعوكم لإثبات الحقيقة الإلهية الواحدة ...

أبشركم: بإذن الله ستعود الأندلس إلى الإسلام". ووقعت العبارة الأخيرة موقع الصاعقة على أوساط اليمين المتعصبة، بما فيهم كثير من المستشرقين الإسبان. فقاموا بحملة صحافية ضد الجماعة دامت شهورًا. وفي غرناطة، صلت الجماعة صلاة العيد، بإذن من مسجل غرناطة البلدي، في مسجد المدرسة الشرعية القديمة، المسجد الوحيد المتبقى في المدينة، وقد حول إلى متحف بلدي. وفور هذه الأحداث، أخذت أعداد أفراد الجماعة تتضاعف، فابتدأت الجمعية ترسل الوفود إلى البلاد العربية. منها إلى دول الخليج في غشت عام 1980 م، والمغرب في ديسمبر عام 1980 م، وشرعت الجمعية في إقامة المشاريع الإسلامية: من أهمها مسجد في حي البيازين، حصلت الجمعية على مساندة المجلس البلدي لبنائه، إذ كتب لها أنطونيو خارا أندرو، عمدة غرناطة، رسالة بتاريخ 7/ 11 / 1980 م قال فيها: "أيها الأصدقاء. في هذا التاريخ استقبلت في المجلس البلدي السيد عمر عبد الحق كوكا دومينكز والسيد عبد الكريم كراسكو اللذين فسرا لي باختصار فكرة جاليتهما في بناء مسجد في حي البيازين من هذه العاصمة، وأريد أن أوضح في هذه الرسالة مساندة المجلس البلدي، الذي أتشرف برئاسته، لهذا المشروع، ومساندتي الشخصية بالطبع، آملين أن نفرح بإنجاز هذا المشروع". وسرعان ما اشترت الجمعية أرضًا بحي البيازين مساحتها 2.140 متر مربع لبناء المسجد. لكن المشروع لم ينجز. كما اشترت الجمعية بيتًا كبيرًا في حي البيازين بشارع سان غريغوريو، وحولته إلى زاوية ومدرسة ومركز إسلامي. وحصلت الجمعية على أرض حولتها إلى مقبرة للمسلمين في غرناطة. وابتدأت الجمعية بإنجاز مشاريعها الاقتصادية، معظمها في المركز المؤجر في شارع سرابيا بغرناطة، منها مشروع "نور الأندلس" لنشر الكتب وتوزيعها ولطبع الأفلام والأشرطة عن الإسلام مع التركيز على القرآن الكريم، ومشروع تأسيس مدرسة إسلامية للكبار والصغار، ومستوصف للطب الطبيعي والصحة العقلية، و"دكان الحكيم" لتهيىء الأغذية الطبيعية والأعشاب، كما فتحت الجمعية مخبزة إسلامية وملحمة. وباختصار، حاولت الجمعية إنشاء المؤسسات الثقافية والاقتصادية التي يحتاجها مجتمع متكامل مستقل بنفسه.

وتكاثر أعضاء الجمعية حتى أصبحوا عدة مئات، وأخذ الطابع الإسلامي يظهر بوضوح في غرناطة، خاصة في حي البيازين التاريخي منها. ونظمت الجمعية مؤتمرين مهمين في الفقه المالكي، حضرهما نخبة من علماء المسلمين. عقد المؤتمر الأول سنة 1982 م في زاوية الجماعة بالبيازين، والثاني في 7 - 11/ 11/ 1983 م في قاعة "مانويل دي فالا"، التي سهلتها بلدية غرناطة لمنظمي المؤتمر. وقد مولت هذا المؤتمر الإمارات العربية المتحدة. وفي يونيو سنة 1984 م، أرسلت رئاسة محاكم أبو ظبي الشرعية على حسابها معلمين موريتانيين لتعليم الجماعة المبادىء الإسلامية. ونشطت الجماعة في مجال النشر، فنشرت كتبًا باللغة الإسبانية، منها كتب الشيخ عبد القادر الصوفي: "كتاب الإسلام والإيمان والإحسان" و"اتجاه العلامات" و"محمد رسول الله" و"كتاب الكفر"، كما أصدرت الجماعة مجلة شهرية اسمها "البلاد الإسلامية". يعود سبب انتشار هذه الجماعة، في أول أمرها، إلى تضامن أعضائها حول مذهب واحد واضح عبر الطريقة الدرقاوية، وكذلك لاستعمالها الشعارات الأندلسية مما جعل أعدادًا كبيرة من أهل الأندلس ينضمون إليها. لكن ما كادت تشتهر هذه الجماعة حتى أخذت تتقهقر لأسباب متعددة. منها طريقة تنظيمها المبنية أساسًا على المركزية المطلقة حول الشيخ الأكبر (الشيخ عبد القادر الصوفي) وأمير الجماعة (الدكتور منصور عبد السلام اسكوديرو ثم محمد دل بوثو الأندلسي). ومنها الطريقة الخشنة والعنيفة في تعامل الجماعة مع الغير. ومنها مطالبة الجماعة المنضمين إليها بالانسحاب من المجتمع الأندلسي الذي تعده كافرًا. ومنها اتهام الجماعة لكل من سواهم من المسلمين بالضلال وحتى الكفر. ومنها شدة الشيخ عبد القادر المتناهية في تعامله مع أتباعه، إذ كان لا يتورع في طرد كل من يتردد في طاعة أوامره مما جعله يطرد بانتظام أعضاء الجمعية، بما فيهم كثير من مؤسسيها كالدكتور منصور عبد السلام نفسه، وكان يأمر الباقين من أتباعه بعدم التعامل مع المطرودين أو التحدث إليهم، فأضعفت هذه العقوبة القاسية الجماعة. ثم أدت العلاقات مع دول الخليج إلى تغير كبير في الجمعية. أولاً، عد الاهتمام بالأندلس قومية يجب الابتعاد عنها، فغيرت الجمعية اسمها من "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا" سنة 1981 م إلى "الطريقة الدرقاوية" ثم إلى "الجماعة الإسلامية في إسبانيا" سنة 1982 م. ثانيًا، عُد التصوف خروجًا عن الإسلام، فأعلن الشيخ

عبد القادر تركه للتصوف وخروجه عن الطريقة الدرقاوية، واعتناقه للفكر السلفي، وأخضع أتباعه لذلك، مما أدى إلى بلبلة كبيرة في صفوفهم، وطرد عدد جديد منهم، وغير اسمه من عبد القادر الصوفي إلى عبد القادر المرابط. فخرج عن الجماعة معظم أعضائها، منهم من تركوا إسبانيا ومنهم من كونوا جمعيات إسلامية أخرى، ومنهم من بقي مسلمًا لنفسه، ومنهم عدد صغير ارتد عن الإسلام. وفي سنة 1987 م، حرض المدرسان الموريتانيان أتباع الشيخ عبد القادر على طرده من مركز الجماعة في البيازين. فتبع ذلك نزاعات في المحاكم مكلفة أدت إلى انتصار الشيخ عبد القادر ومن بقي مخلصًا له، وطرد المنشقين الذين كونوا جمعية أخرى مع الموريتانيين متمركزة في بناء مؤجر تحت اسم "مسجد التقوى" في أحد أحياء غرناطة القديمة القريبة من نهر هدره. ودخلت الجمعية في طور جديد بعد أن لم يبق فيها في غرناطة سوى حوالي خمسين عضوًا، يتسم بالنفور المطلق من الدول العربية والجمعيات الإسلامية الأخرى. وغيرت الجمعية مرة أخرى اسمها وأصبحت تسمى "المرابطون"، كما غيرت اسم مجلتها من "البلاد الإسلامية" إلى "المرابطون". وارتبطت الجماعة بشكل أوثق بالمراكز التابعة للشيخ عبد القادر المرابط في بريطانيا والدانمارك والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلاد. أما في إسبانيا فأصبحت زاوية البيازين بغرناطة مركزًا للجماعات التابعة للمرابطين في أنحاء إسبانيا: إشبيلية (الأندلس)، وبالمة ميورقة (الجزر الشرقية)، وبلباو (أوسكادي). كما أخذت الجماعة تعود إلى تنظيمها الصوفي بإحياء حفلات الذكر عامة كما فعلت في إشبيلية في شهر يوليوز سنة 1990 م. وأنشأت الجماعة مؤسسات اقتصادية مثل شركة "السابقة" بغرناطة. وهكذا فشلت هذه المحاولة الجريئة في نشر الإسلام في الأندلس رغم البداية المشجعة. ويعود هذا الفشل إلى أسباب عدة، منها: أخطاء أساسية في تنظيم الجماعة المعتمد على المركزية والتأطير والطاعة المطلقة عوضًا عن الشورى؛ وضعف في التواضع الإسلامي بين زعمائها؛ وانفصام الحركة عن المجال الأندلسي الموجودة فيه بعدم تبنيها للتاريخ الأندلسي واستجابتها لشعور الأمة الأندلسية المعاصرة؛ والتذبذب بين المشارب الإسلامية نتيجة الضغوط الخارجية؛ وعدم نشر حساباتها مما أضاع ثقة من كانوا يساندونها. لكن ستبقى هذه الجماعة، بدون شك، عنصرًا مهمًّا في التركيبة الإسلامية الأندلسية، غير أن مركز ثقلها سينتقل إلى خارج منطقة الأندلس.

10/ 3 - جمعية قرطبة الإسلامية:

وجدير بالذكر أن موقف "الجمعية الإسلامية في إسبانيا" و"المركز الإسلامي في إسبانيا"، من هذه الحركة كان سلبيًّا منذ البداية، لأنهما لم تكونا تريان بعين الرضى قيام حركة إسلامية في الأندلس خارجة عن نفوذهما. وظل موقف الجمعيتين هذا سائدًا بالنسبة لكل الحركات الإسلامية المحلية، وهو سبب النفور القائم بين المسلمين المحليين والوافدين الشرقيين في إسبانيا. 10/ 3 - جمعية قرطبة الإسلامية: نشأت فكرة تأسيس جمعية إسلامية في قرطبة عند زيارتي لمجريط في 19 - 21/ 11 / 1973 م في إطار رحلتي لتقصي شؤون الأقليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا، حيث اطلعت على موضوع مسجد قرطبة الجامع. ففي مارس سنة 1972 م، طلب عمدة قرطبة حينذاك، كوزمن رانية، باسم المجلس البلدي القرطبي من منظمة اليونسكو أن تعتبر مسجد قرطبة الجامع أثرًا إنسانيًّا وترجعه إلى أصله كمسجد، مما أثار نقاشًا حادًّا في الصحافة الإسبانية. ففي مقال بجريدة "الآ بي سي" بتاريخ 10/ 12/ 1972 م طلب رفائيل كاستيغون دي الرسالة، مدير المجمع الملكي الإسباني للعلوم والفنون الجميلة، إعادة المسجد إلى أصله الإسلامي بنقل الكتدرائية المقامة فيه إلى مكان مناسب وإعادة المسجد لقيمته الدولية، وقدر مصاريف هذا النقل بحوالي عشرة ملايين دولار أمريكي. فاهتم الملك فيصل، ملك المملكة العربية السعودية بالموضوع، وأرسل مع الشيخ محمد أحمد النعمان رسالة شفوية للجنرال فرانكو في شهر يوليو سنة 1973 م مبديًا استعداده لتحمل مصاريف النقل. وكان تقديري للموضوع أن ذلك غير ممكن أصلاً بسبب ملكية المسجد للكنيسة الكاثوليكية التي لن تتخلى عنه بأي حال. لكن موقف مجلس قرطبة البلدي أثار انتباهي، وجعلني أعتقد أن أهل قرطبة يعطفون على الإسلام، وأن من بينهم من هم مسلمون سرًّا. وصدر سنة 1979 م الدستور الإسباني الجديد محتويًا على مادة تتعلق بتنظيم الأديان، وُضعت تفاصيلها بعد ذلك. وفي 5/ 7 / 1980 م، وافق الكورتس على أول قانون لحرية الأديان، ولم يعد هناك سبب للتقية بين مسلمي الأندلس. وفي يوم الأربعاء 26 شعبان عام 1400 هـ (9/ 7 / 1980 م) زرت قرطبة واجتمعت بعدد من مسلميها، منهم الإسبان ومنهم المغاربة المقيمون، فطرحت عليهم فكرة تأسيس "جمعية قرطبة الإسلامية" حسب القوانين الإسبانية الجديدة، وساعدتهم على كتابة

قوانين الجمعية. فتزعم العمل على إنشاء الجمعية "خايمي سيان"، الموظف في بلدية قرطبة. وهو مسلم مغربي متجنس إسبانيًّا من مواليد تطوان (15/ 11 / 1922 م)، كان يعرف بها باسم عبد الحميد بن عبد السلام البلغيثي، وانتقل سنة 1971 م إلى سكنى قرطبة، وتسمى بها باسم "خايمي سيان". وهو يتقن الإسبانية إتقان أهلها، ومندمج في المجتمع القرطبي الاندماج الكامل، يحفظ القرآن الكريم وله معرفة جيدة بالمبادىء الإسلامية. وجدير بالذكر أن بإسبانيا الآلاف من الإسبان من أصول مغربية حديثة، غيروا أسماءهم واعتنقوا المسيحية، على الأقل ظاهرًا، للحصول على حق البقاء في البلاد، فاندمج أبناؤهم في المجتمع الإسباني وأصبحوا إسبانًا لغة ونصارى دينًا. وفعلاً، تابعت النواة التي اجتمعت بها في قرطبة عملها. ففي 30/ 9 / 1980 م، سُجلت "الجمعية الإسلامية العربية" باسم خايمي سيان التلمساني، وخوزي خوان دلكادو فرناندس دي سانتائيلا، وأنطونيو سالسيدو بخرانو، وزهرة الفاسي الرياحي (زوجة الأول)، وكلهم إسبانيو الجنسية. وفي 6/ 11 / 1980 م، غير الاسم إلى "جمعية قرطبة الإسلامية ومقاطعتها". وفي 5/ 11 / 1981 م، تسجلت الجمعية رسميًّا في وزارة العدل. ثم ابتدأت بيني وبين خوليو أنغيتا كونزالز، عمدة قرطبة، سلسلة من الرسائل. ففي 24/ 8 / 1980 م، كتبت له من الظهران (السعودية) أحثه على مساندة تجمع المسلمين بقرطبة فأجابني بتاريخ 18/ 9 / 1980 م، قائلاً: "منذ مدة أني أرى باهتمام مصالح الجالية الإسلامية، ونحن باتصال مع ممثل لها بمجريط ولقد أنهينا تسليم مسجد لها في قرطبة ليتمكنوا من مزاولة شعائرهم. فعلاقتنا التاريخية مع العالم الإسلامي هو السبب في رغبتنا لربط معكم صلات الأخوة والصداقة والمحبة". فأجبته بتاريخ 11/ 10/ 1980 م شاكرًا. وفي 6/ 10/ 1980 م كتب لي العمدة أنغيتا يخبرني بتأسيس "جمعية قرطبة الإسلامية" ويستدعيني لزيارته في قرطبة للتدارس معه في إمكانية تسلم مسجد القاضي أبو عثمان (كنيسة سنتا كلارا) التاريخي ليكون مركزها الإسلامي، وأكد دعوته برسالة أخرى بتاريخ 11/ 11 / 1980 م. فأجبته بتاريخ 10/ 11 / 1980 م شاكرًا على الدعوة، وزرته لأول مرة في قرطبة يوم الاشين 24/ 11 / 1980 م. وكان اجتماعًا وديًّا رائعًا، بيّن فيه العمدة أنه معتز بارتباط مدينته بالإسلام وأنه حريص على تنظيم الجالية الإسلامية بالمدينة، وأخبرني أن مجلس قرطبة البلدي

وافق على إعطاء مسجد القاضي أبو عثمان لجمعية قرطبة الإسلامية على شرط أن يُرمَّم ويصبح مركز إشعاع إسلامي. واتفقنا على الاجتماع يوم 26/ 12 / 1980 م مع سيدي الوالد الشيخ محمد المنتصر الكتاني لاستلام المسجد رسميًّا وتدشينه بالصلاة فيه. بُني مسجد القاضي أبو عثمان أيام الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر في الحي العتيق من مدينة قرطبة، على بعد حوالي مائة متر من المسجد الأعظم. مساحته حوالي ألف متر مربع، في شارع يسمى اليوم "ري هيريديا". وعندما احتل النصارى مدينة قرطبة حولوه إلى كنيسة سموها "سنتا كلارا". ثم باعت الكنيسة البناء العتيق إلى بلدية قرطبة، التي تمكنت بذلك من التصرف فيه. وهو مسجد كبير يحتاج إلى ترميم كبير، معالمه الإسلامية لا زالت قائمة، فيه طابقان ومئذنة، ويصلح أن يكون مركزًا إسلاميًّا متكاملاً. وفي صباح يوم الجمعة 26/ 12 / 1980 م استلم السيد الوالد مفتاح المسجد في حفل بمجلس قرطبة البلدي، وسلمه بدوره لرئيس "جمعية قرطبة الإسلامية" ثم توجه الجميع إلى المسجد حيث صلينا صلاة الجمعة وأُذن من أعلى مئذنة المسجد. ومكثنا في ضيافة بلدية قرطبة إلى 2/ 1/ 1981 م. ورحب المجلس البلدي بالسيد الوالد بحضور كل أعضائه الـ 24. فخطب فيهم السيد الوالد حاثًّا لهم على العودة إلى الإسلام دين أجدادهم، فكان التأثير باديًا على وجوه جميعهم، وأُقيمت لنا حفلات من طرف عدد من زعماء قرطبة. لم يعجب ما حدث السلطات الكنيسة، ففي 6/ 1 / 1981 م كتب إنفانتس فلوريدو، مطران قرطبة، رسالة مفتوحة إلى خوليو أنغيتا كونسالز، عمدة قرطبة، قائلاً: "إن تسليم المساجد والبناءات التاريخية من طرف البلدية لجماعة إسلامية عمل خطير ... يجعلنا نشعر بتيار إسلامي على مدينتنا القرطبية". تضايق المطران من جواب السيد الوالد لصحافي عند سؤاله عن مدى اهتمام المسلمين بمسجد قرطبة الأعظم في الوقت الذي حصلوا فيه على المسجد الصغير قائلاً: "إن المسجدين ملك لأهل الأندلس، وعندما تصبح أعداد أهل الأندلس العائدين إلى الإسلام مئات الآلاف يصبح بإمكانهم استعادة مساجدهم كلها". واتهم المطران الإسلام بأنه يعتقد أن "الجنة تحت ظلال السيوف"، وقال بأن تشجيع الإسلام في قرطبة من طرف السلطات المحلية هو غلط تاريخي وكذلك النزول بالقرطبيين من "مستوى نصراني رفيع" إلى

"مستوى إسلامي متأخر". واتهم المطران عمدة قرطبة والمجلس البلدي بالاستهتار بمشاعر القرطبيين المسيحية. فرد العمدة على المطران في اليوم التالي برسالة قوية قاسية نشرتها الصحف (18 و 19)، قال فيها إن الدستور الإسباني يحترم معتقدات جميع المواطنين ويضمن حرية العقيدة، وأن لا فرق بين الدين الكاثوليكي والديانات الأخرى أمام الدستور الإسباني، وقال بأنه كعمدة منتخب من واجبه تطبيق الدستور في مدينة قرطبة، وأنه سبقت لبلدية قرطبة أن ساعدت الكنيسة الكاثوليكية وأصبح من واجبها أن تساعد المسلمين. وقال العمدة للمطران إنه انقضى عهد تحكم الكنيسة في الأهالي والدولة بدون رجعة، وأن الكنيسة الكاثوليكية ليست في مستوى أخلاقي يسمح لها بانتقاد الإسلام في إسبانيا. أما عن شعور أهل قرطبة فقال العمدة "هم قد انتخبوني عمدة ولم ينتخبك أحد من أهل قرطبة، يا السيد المطران مطرانًا عليها"، وقال العمدة إن موقفه وموقف المجلس البلدي هو العدل لمصلحة المدينة، وأنه شخصيًّا لا انحياز له لأي دين، إذ ليس نصرانيًّا ولا مسلمًا. وأنهى العمدة رسالته المفتوحة بقوله: "أنا عمدتك وأنت لست مطراني". وقامت بعد ذلك حملة صحافية حول الموضوع بين معارض للعمدة ومساند له دامت شهورًا، وعمت جميع صحف إسبانيا. وكان لهذه الحملة، في أول الأمر، تأثير طيب على الجمعية الجديدة، إذ اشتهر وجودها، فتكاثرت أعدادها من بضعة أفراد إلى حوالي الخمسين شخصًا في بضعة شهور، وأصبحت الصحافة تتكلم عن الجالية الإسلامية في قرطبة كواقع بديهي بعد أن كانت منعدمة. وحاربت الجمعية الجديدة بدون هوادة عدة أوساط: أولاً اليمين الإسباني والكنيسة بالطبع؛ ثانيًا، وهذا مما يدعو للأسف، "الجمعية الإسلامية في إسبانيا" و"المركز الإسلامي في إسبانيا" وذلك بكتابة التقارير السلبية التي تشوه بالجمعية للبلاد العربية والمؤسسات الإسلامية؛ ثالثًا الإرساليات الدبلوماسية العربية في مجريط. وعملت "جمعية الرجوع إلى الإسلام في إسبانيا" إلى ربط الصلة مع "جمعية قرطبة الإسلامية"، فوقعت عدة اجتماعات بين رؤساء الجمعيتين كانت تحرص فيه الجمعية الأولى ضم الثانية إليها. ولم يكن ذلك ممكنًا بسبب شكل تنظيم الجمعية الغرناطية الهرمي، بينما كانت الجمعية القرطبية مبنية على الشورى. وفي 1/ 5 / 1981 م، توصلت الجمعيتان إلى توقيع اتفاق تعاون بينهما في غرناطة هذا نصه،

بعد البسملة والتصلية: "نقسم بالله العلي العظيم وبهذا القرآن الكريم على العمل يدًا واحدة على نصرة الإسلام في أرض الأندلس (إسبانيا والبرتغال) وإعادة شريعة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وأن نكون كما أمرنا الله أخوة في الله وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألا نخذل بعضنا البعض وألا يغتاب بعضنا البعض، والله خير شاهد لنا على هذا وهو نعم الولي ونعم النصير". ووقع عن الجمعية الأولى أميرها منصور عبد السلام وعن الثانية رئيسها خايمي سيان وشاهدان هما كاتبه والمحامي محمد بن إدريس الحلو من الدار البيضاء. وكان على "جمعية قرطبة الإسلامية" القيام بثلاثة أعمال ضرورية، هي: 1 - التوصل إلى اتفاق خطي مع بلدية قرطبة للحصول على مسجد القاضي أبي عثمان وشروطه وجمع الأموال لترميمه؛ 2 - الحصول على مركز مؤقت للجمعية؛ 3 - استدعاء إمام لتعليم الداخلين في الإسلام أمور دينهم. ففي 17/ 7 / 1981 م، قدمت وزارة الثقافة متطلباتها لترميم مسجد القاضي أبي عثمان. وقدمت الجمعية للبلدية دراسة متكاملة لترميم المسجد كلفتها أكثر من خمسة ملايين بسيطة، ردت عيها البلدية بتاريخ 29/ 9 / 1981 م محددة رأيها في المشروع. ولم يكن هناك مشكل كبير من الناحية الفنية للوصول إلى اتفاق مع البلدية. المشكلة الكبرى كانت في شروط الحصول على المسجد. ففي 20/ 6 / 1981 م، قدمت البلدية مشروع اتفاق فيه نقاط مجحفة لا يمكن قبولها، منها: إجبار الجمعية على ترك المسجد للسياح، وفتح باب التنافس مع أية جمعية أخرى تود الحصول على المسجد، وتحديد استعمال المسجد لمدة 49 سنة يعود بعدها للبلدية، وحق البلدية في استعادة المسجد إبان الحقبة المذكورة عندما تشاء، الخ ... مما جعل المفاوضات تصل إلى باب مقفول. فأخذت الجمعية تفكر في بناء مسجد يكون ملكًا لها، وترك مسجد القاضي أبي عثمان أمام هذه الشروط الناتجة عن ضغوط الأوساط المتطرفة. كما أن البلدية أرادت أن تسلم للجمعية بناء "القلعة الحرة" لاستعماله كمؤسسة دينية. ولم تتابع الجمعية الموضوع لعدم مقدرتها عليه. وفي 14/ 8 / 1981 م، ابتدأت حملة صحفية ضد خايمي سيان اشترك فيها عرب وإسبان. فنشرت الصحافة شهادة اعتناقه المسيحية بتاريخ 6/ 12 / 1979 م وإعادة زواجه في الكنيسة وفتشت عن تفاصيل حياته الخاصة والعامة، وشتمه مناوئوه بكل الشتائم. فأجاب خايمي على الاتهامات بأنه أجبر على اعتناق الكاثوليكية ظاهرًا

لأنهم "سحبوا من زوجتي جنسيتها الإسبانية التي كانت تتمتع بها منذ 27 سنة عند زواجها بي، ورفضوا إعطاء الجوازات لأبنائي، ورفضوا تجديد الورقة الوطنية لواحد منهم، أجبروني على عمل ما عملته، ولكنني مسلم الآن كما كنت مسلمًا في الماضي، وسأبقى مسلمًا إلى أن ألقى الله". وفي 1 - 2/ 1 / 1982 م، نظمت "جمعية قرطبة الإسلامية" في مركز البلدية بقصر الخليفة القديم بقرطبة "لقاء الصداقة العربي القرطبي"، أول مؤتمر لها، افتتحه العمدة أنغيتا، واشتركت فيه شخصيات عربية وإسبانية. افتتح المؤتمر بقراءة القرآن الكريم تبعته محاضرات لكاتب هذه السطور وللأساتذة عبد السلام الهراس وإسماعيل الخطيب من المغرب، وأنطونيو رباسكو وأنطونيو سالسيدو ولاورو ألموس من إسبانيا، وغيرهم. وأقام مرة أخرى المطران إنفانتس فلوريدو ضجة في الصحافة، ظلت عدة أسابيع، بسبب صلاة بعض الحاضرين تحية المسجد في المسجد الأعظم، وعدّ ذلك إهانة للكاثوليكية. وفي 11/ 1 / 1982 م، زار الرئيس الجزائري السابق، الرئيس أحمد بن بلا، وزوجه، المحامية زهراء السلامي، قرطبة بدعوة من "جمعية قرطبة الإسلامية". وفي أواخر يناير عام 1982 م، زار المغرب وفد من الجمعية اجتمع بعدة شخصيات رسمية وغير رسمية. وفي أوائل فبراير عام 1982 م، زار المغرب وفد قرطبي برئاسة العمدة أنغيتا وزوجه، وعضوية خايمي سيان وعدد من أعضاء المجلس البلدي القرطبي، بدعوة من بعض العائلات الأندلسية لشكر العمدة وأهل قرطبة على مواقفهم الشجاعة في مساندة الإسلام بها. وألقى أنغيتا محاضرة بالدار البيضاء عن "قرطبة ماضيها وحاضرها ومستقبلها"، كان لها أعمق الأثر، كما استقبلت عدة شخصيات مغربية الوفد في بيوتها، منهم الدكتور عبد الكريم الخطيب بالرباط، والأستاذ عبد الله كنون رحمه الله بطنجة، والحاج إدريس الحلو بالدار البيضاء وغيرهم. وانتهت زيارة الوفد في مدينة فاس حيث احتفل به أهلها. ثم ذهب وفد "جمعية قرطبة الإسلامية" برئاسة سيان إلى المشرق حيث زار بعض دول الخليج واجتمع بالمسؤولين فيها، من بينهم الشيخ أحمد المبارك، رحمه الله، رئيس القضاء الشرعي بأبو ظبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة.

وفي يونيو سنة 1982 م، افتتحت "جمعية قرطبة الإسلامية" مركزًا لها في شقة مؤجرة بشارع أنخيل سابدرا، وسط مدينة قرطبة، بعد أن كان أعضاؤها يجتمعون في بيت رئيسها، بعد أن يئست من استرجاع مسجد القاضي أبي عثمان بشروط معقولة. ثم فكرت الجمعية في استقدام إمام من المغرب يعرف الإسبانية والتربية الإسلامية لتعليم أعضاء الجمعية أمور دينهم. وبعد الاستشارة، اختير الإمام الذي التحق بعمله في يوليوز عام 1982 م. وفي 2/ 9 / 1982 م، اشترت الجمعية أرضًا في قرطبة لبناء مسجد عليها. ولكن الإمام المغربي أساء السيرة والتصرف منذ وصوله، فأدخل للجمعية عناصر عربية مشبوه فيها وشجع رئيس الجمعية على الابتعاد عن طريق الحرص والحيطة. فقررت الجمعية اشتراء بيت في قرطبة لتحويله إلى مركز إسلامي، وسلم رئيسها، سيان، شيكًا بتاريخ مؤجل في حساب لا رصيد فيه. وفي 27/ 9 / 1982 م، عند انتهاء الأجل وعدم دفع الثمن، قبض على خايمي سيان وأدخل السجن. واغتنم "الإمام" الفرصة فقدم باسم الجمعية شكوى بسيان أنه أساء التصرف بأموال الجمعية. وأزيح سيان من رئاسة الجمعية وانتُخب مكانه عبد العزيز (خوليان) مرالس غارسيا. وبقي سيان في السجن 87 يومًا، ثم أطلق سراحه في 23/ 12/ 1982 م بعد تبرئته من التهم التي اتهم بها. بعد إزاحة سيان من رئاسة "جمعية قرطبة الإسلامية"، أكملت الجمعية شراء البيت المذكور. لكن الإمام المغربي أساء السيرة وقدم شخصًا مشرقيًّا مشبوه فيه لرئاسة الجمعية. فعمل هذا الأخير على تجميدها. وفي فبراير عام 1983 م، أُرجع الإمام إلى المغرب، وفي شهر أبريل الذي تلاه، أُقفل المركز الإسلامي. وجمدت الجمعية نهائيًّا وتشتت أفرادها إلى أن انضموا إلى "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في شهر مايو عام 1990 م التي حصلت على ممتلكاتها كذلك بعد جمع عام لجميع أفرادها. يجدر بنا أن نستنتج بعد هذا العرض أسباب فشل "جمعية قرطبة الإسلامية" وإيجابيات هذه التجربة. كان تأسيس هذه الجمعية مفيدًا للغاية في إرجاع الإسلام إلى الأندلس. فقد أثبتت الوجود الإسلامي لأول مرة في قرطبة. واعتنق الإسلام عن طريقها عدد مهم من القرطبيين، ظلوا مسلمين بعد فشلها كتنظيم، مما سهل إعادة

10/ 4 - محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس:

تنظيم مسلمي قرطبة على أسس أفضل. كما أظهر وجود هذه الجمعية القوى القرطبية العاملة، المعارضة للإسلام منها والمساندة له. لم تنجح "جمعية قرطبة الإسلامية" في أن تكون انطلاقة الانبعاث الإسلامي في الأندلس لأسباب متعددة، منها ما هو داخلي للجمعية، وما هو خارجي عنها. فأما الداخلي فيعود إلى ضعف الاحتياط في إدخال عناصر غير أندلسية للجمعية، كالإمام المغربي ورئيس الجمعية المشرقي الذي جمدها، وكان من الأحوط عدم قبولهما أصلاً في الجمعية، كما أن رئيسي الجمعية، الأول والثاني، قاما بأخطاء كبيرة استفاد منها أعداء الإسلام في الأندلس. ومن جهة أخرى لم تتمكن الجمعية من تبني برنامج واضح إسلامي أندلسي يستجلب للإسلام الجماهير الأندلسية. أما السبب الخارجي فيعود إلى مناهضة كثير من الأوساط المسلمة الوافدة لهذه التجربة. 10/ 4 - محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس: قامت في الأندلس محاولات إسلامية تنظيمية أخرى، منها ما ظل محدودًا، ومنها ما كانت حياته قصيرة، ومنها ما ظل حبرًا على ورق، ومنها ما انضم إلى تنظيمات أخرى. وكل هذه التنظيمات محلية لا تخرج عن مدينة من مدن الأندلس. وقد تفرعت كل التنظيمات الإسلامية الموجودة اليوم في مدينة غرناطة عن "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا". وقد أسسها أفراد أو جماعات طردوا من الجمعية الأم. فهذه الجمعيات المنشقة لا تختلف في تنظيمها عن الجمعية التي تفرعت عنها. أول هذه الجمعيات هي "الجماعة الإسلامية في إسبانيا - مسجد التقوى"، وهي التي يعمل فيها المعلمان الموريتانيان. وقد انضم لها أكثر من خمسين عضوًا، فتحوا أعمالهم في منطقة غرناطة القديمة بين نهر هدره ومنحدر حي البيازين. ويقع مركز الجماعة في مكان مستأجر يستعمل مركزًا إسلاميًّا. وتقوم الجمعية بمجهود جيد في نشر المعرفة الإسلامية بين أفرادها، لكن نشاطها محدود في غرناطة. الجمعية الثانية هي "جماعة الأندلس المسلمة"، وهي أول جمعية أسست في غرناطة بعد "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا". أسسها عدد من الذين طردوا من الجمعية السابقة في 28 رمضان عام 1401 هـ (موافق 31/ 7/ 1981 م). وتكوّن مجلسها التنفيذي الأول من السادة عمر عبد الحق كوكا دومنكز (الرئيس) (أصله من

إشبيلية)، عبد الكريم محيي الدين كراسكو ساستر (نائب الرئيس)، زهراء كونتريراس كانو (أمينة سر)، عبد النور كوكا دومنكز (أمين الصندوق) محمد خان (عضو)، عائشة دياس برمودس (عضوة)، محمد مبين مدينة رودريكز (عضو). وجاء في منشور إعلان تأسيس هذه الجمعية ما يلي: "إن تأسيس جمعية "جماعة الأندلس المسلمة" بغرناطة كمركز لها من طرف رجال ونساء اعتنقوا الإسلام في السنين الأخيرة كان لتغطية فراغ ناتج عن إلغاء "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا" وتحويلها إلى طريقة صوفية درقاوية. هذا التغير من جمعية للجميع إلى طريقة، التي هي بطبيعتها للأقلية المختارة، أدى إلى جعل المسلمين الذين ليسوا أعضاء في الطريقة والذين هم بطبيعة الحال جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، غير منظمين وبدون مركز يجتمعون فيه لتأدية شعائرهم الدينية. تود جماعة المسلمين هذه في غرناطة التعبير عن احترامها المستحق لأي طريق يختاره المسلم في إطار الشريعة الغراء لعبادة الله تعالى حسب تعاليم القرآن الكريم وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتسعد لانتشار الدين الإسلامي الحنيف وتقوية جذوره في قلوب سكان هذا الوطن". ثم فتحت الجمعية مركزًا لها في شقة بشارع كاستنيدا، ثم انتقلت إلى شقة أكبر بشارع شنيل بوسط غرناطة، بها مكاتب وبيت لسكن الإمام ومصلى. وانضم إليها عدة عشرات من مسلمي غرناطة. وحاولت الجمعية أن تنوع نشاطها خارج غرناطة. وكانت للجمعية مشاريع حول تأسيس مزرعة للمسلمين في جبال رندة، لكن لم تتمكن من إنجازها بسبب ضعف إمكانياتها المالية. وفي مايو عام 1983 م، انضمت هذه الجمعية إلى "الجماعة الإسلامية في الأندلس" التي مركزها إشبيلية. ثم انفصلت في أواخر سنة 1984 م عنها، كما سنرى، وأصبح هارون كراكويل روميرو أحد رؤسائها. وهي الآن جمعية صغيرة من بين جمعيات غرناطة الإسلامية ذات نشاط محدود. والجمعية الثالثة هي "جماعة غرناطة الإسلامية" المسجلة رسميًّا بوزارة العدل جمعية دينية. أسست هذه الجمعية سنة 1984 م من طرف بعض المسلمين الذين كانوا أعضاء في "جماعة الأندلس المسلمة"، ممن انضموا إلى المذهب الاثني عشري، فانفصلوا عن الجمعية المذكورة عند انضمامها إلى "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وكونوا جمعية ذات اتجاه شيعي، على عكس الجمعيات الأخرى التي تتبع

جميعها المذهب السني. وكان محمد مبين مدينة رودريكز أول رئيس للجمعية. ويوجد مقرها في شارع نوبيا دي لابرخن بغرناطة، ولا يزيد عدد أعضائها على العشرة بكثير، ونشاطها محدود. والجمعية الرابعة هي "مسجد البيضاء" التي أسست في ساحة البيضاء من غرناطة، وإمامها ورئيسها هو أحمد عبد الله فوثمديانو، وهو كذلك من قدماء أعضاء "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا". وللجمعية بضعة عشرات من الأعضاء، ولا يتعدى نشاطها غرناطة. أما الدكتور منصور عبد السلام اسكوديرو، الذي كان أميرًا لـ "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا"، فبعد طرده من الجمعية المذكورة انتقل إلى مطريل، على شاطىء البحر بمقاطعة غرناطة، مع جماعة من الأطباء المسلمين، وأسس معهم مركز الطب المتكامل. فتكونت بذلك مجموعة إسلامية في مطريل دون تنظيم أو نشاط آخر سوى في مجال الطب. ثم تعاون مؤخرًا مع قنصل المملكة العربية السعودية في مالقة في بناء مسجد في بلدة سهيل (مقاطعة مالقة). وأول من فكر في تكوين جماعة إسلامية خارج مقاطعة غرناطة هو رجل من جيان متقدم في العمر سبق له أن عمل في الجيش الإسباني، اسمه الإسلامي مولاي محمد بن علي الأندلسي، واسمه النصراني أميليو أكوثر أنايا، يقول إنه من سلالة أمراء المسلمين، كالن يعلن في السبعينات الميلادية أنه خليفة المسلمين في الأندلس. لم يكن له أتباع، بل كان من أوائل من تجرأ على إعلان إسلامه من بين الإسبان وحاول نشره بطريقته. لم يكن له مقر، وكان يتجول عبر إسبانيا كلها. اجتمعت به في أوائل الثمانينات في قرطبة. وفي يناير عام 1983 م، أُسست "جماعة المرية الإسلامية" في المرية من طرف بلال كيلس ميزا، أندلسي من أصل إشبيلي أسلم في بلجيكا سنة 1975 م، وسجلت في وزارة العدل. لكن هذه الجمعية بقيت إلى اليوم حبرًا على ورق، إذ ليس فيها إلا بلال وحده الذي انتقل هو نفسه من المرية. وكل مسلمي المرية الأندلسيين هم اليوم أعضاء "الجماعة الإسلامية في الأندلس". وفي منتصف سنة 1982 م، أسس "جماعة مالقة الإسلامية" عبد السميع أريانا. وهو مسلم مالقي كان من أعضاء "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا". وهو كاتب وباحث في الشؤون الأندلسية، أسلم في أواخر السبعينات بعد تعمق في دراسة تاريخ

الأندلس، وتعرف على الشيخ أحمد الحجي من علماء جامعة القرويين بفاس. ومكث في بيته زهاء العام يتعلم أمور دينه. وفي سنة 1984 م اشترت الجمعية بناية من ثلاثة طوابق بشارع سان أغوستين، وسط مدينة مالقة، وحولتها إلى مركز إسلامي به مكتب ومسجد وبيت للإمام، وحصلت على إمام مغربي بتمويل من دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية. ولا يزيد أعضاء الجمعية الإسبان على العشرة بكثير، وقد كاثرهم الوافدون من المغرب. ويقوم المركز بنشاط يحمد عليه في تعليم مبادىء الدين الإسلامي لأعضائه. وفي سنة 1986 م، أصبح عبد السميع أريانا موظفًا في القنصلية السعودية في مالقة وسلم المركز لجمعية "المركز الإسلامي في إسبانيا" فأصبح أحد فروعها. وبمقاطعة مالقة تجمع إسلامي آخر في بلدة "سان بدرو دي القنطرة" غرب مدينة مربلة، تكوّن سنة 1983 م تحت اسم "الطريقة الإسلامية" من طرف خالد عبد الكريم، وهو عمدة سابق لبلدة مودة، بمقاطعة مالقة، كان عضوًا في "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا". أعضاء الجمعية قليلون لا يزيدون على العشرة، ولهم مركز خاص بهم، ولا يتعدى نشاطهم بلدتهم. انضم إلى "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا" عند مرورها بإشبيلية سنة 1979 - 1980 م عدد من الإسبان. وعندما انتقلت الجماعة إلى غرناطة سنة 1980 م، رفض عدد منهم الانتقال من إشبيلية، فطردهم الشيخ عبد القادر الصوفي من جماعته. وعند زيارتي للجمعية المذكورة أعلاه في غرناطة في أوائل مايو عام 1981 م التقيت بوفد منهم أتى لزيارة زاوية البيازين، فطُردوا بمساعدة الشرطة. وكانوا في حالة من الأسى يرثى لها، فاقترحت عليهم تأسيس جمعية خاصة بهم، فأسسوا في 6/ 12/ 1981 م "جماعة إشبيلية الإسلامية". وكانت لجنتها التنفيذية الأولى تتكون من عبد الهادي سانز كمينو (رئيس) وعبد المغني غارسيا أرتاشو (أمين سر) ومحمد أحمد علي الشرقي (أمين صندوق) وهو من سبتة، وعثمان برسابي غونزالس (عضو) وعمر ألابونت تورمس (عضو). وسجلت الجمعية رسميًّا كجمعية دينية في وزارة العدل بتاريخ 13/ 5 / 1982 م. وكان أعضاؤها حينذاك حوالي عشرون. وكان مركز الجماعة، عند تأسيسها، في شقة بشارع كوندي دي توريخون قرب ساحة أوروبا، في حي فقير من أحياء إشبيلية، بها "مقهى أو خلا" لهم. وفي أواخر سنة 1982 م، انتقلت الجمعية إلى مقر أفضل في حي لائق بشارع آمور دي ديوس

(محبة الله) وهو عبارة عن بيت قديم من طابقين به مسجد ومدرسة ومكاتب للجمعية. ثم بعد الانشقاق الذي أدى إلى ولادة "الجماعة الإسلامية في الأندلس" (كما سنرى) انتقلت الجمعية إلى مركز أصغر بشارع ميسون دل مورو (فندق المسلم). وظل نشاط "جماعة إشبيلية الإسلامية" محدودًا في مركزها الإسلامي، ولم يتزايد عدد أعضائها منذ نشأتها. وتوجد طريقة صوفية إنكليزية في بلدة أركش، بمقاطعة قادس، بها إسبان وإنكليز، مسلمون وغير مسلمين. ولا تعد هذه الجماعة نفسها مسلمة بكل ما في الكلمة من معنى، ولا تتعامل مع الجماعات الإسلامية الأخرى. وفي 10/ 2 / 1982 م، زار روجي كارودي قرطبة قبل إسلامه، بصفته مدير "المركز الدولي لحوار الحضارات"، واستقبله عمدتها خوليو أنغيتا. فتحدث كارودي عن قرطبة كمركز للحوار الحضاري وعن إمكانية تأسيس جامعة إسلامية بها. ثم استدعت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" روجي كارودي لـ "المؤتمر الإسلامي الأول للمسلمين الأوروبيين" الذي عقد بإشبيلية في 19 - 22/ 7 / 1985 م، فحضره وانتُخب رئيسًا له. ثم تابع مفاوضته مع بلدية قرطبة للحصول على "القلعة الحرة" التي كانت عرضتها على "جمعية قرطبة الإسلامية"، فوافقت البلدية على تسليمها له لاستعمالها متحفًا ثقافيًّا. وقد ساعده في إنشاء المتحف عبد الرحمن مدينة موليرة، أحد زعماء "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وأول مدير للمتحف. وافتتح المتحف في أوائل مارس عام 1987 م بحضور عدة شخصيات إسلامية وغير إسلامية من المشرق والمغرب في مؤتمر لحوار الديانات والحضارات. ولم يكن المتحف إسلاميًّا، وإن كانت فيه بعد الظواهر الإسلامية كمجسم لمسجد قرطبة الجامع ولقصر الحمراء، صنعهما المسلمان الأندلسيان يوسف بغراس رولدان وزوجه مريم. ومُول المشروع كله بأموال من المملكة العربية السعودية وأقطار الخليج الأخرى. والمتحف ليس مركزًا إسلاميًّا، ويديره منذ أوائل سنة 1988 م رجل نصراني. وليس للمفكر الفرنسي المسلم روجي كارودي نشاط في الجالية الإسلامية في الأندلس. ذكرت في هذا الباب حوالي عشر جمعيات إسلامية أسسها في أوائل الثمانينات الراجعون إلى الإسلام في مدن الأندلس المختلفة. فما هي سلبياتها وإيجابياتها؟ من السلبيات تعدد التنظيمات الذي يدل على تشتت الكلمة وعدم التنسيق، وربما التصادم، وهذا لا يليق بحركة ناهضة يعلق عليها المسلمون الآمال الكبيرة. ولكن لهذا

10/ 5 - محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس:

التعدد فائدة، وهي أنه بعد فشل التجارب المذكورة آنفًا (تنظيم الوافدين المسلمين، وتنظيم الشيخ عبد القادر الصوفي، وتنظيم جمعية قرطبة الإسلامية) في استقطاب جميع الراجعين إلى الإسلام، أصبح من المفيد أن يتقدم كل من له أفكار جديدة بأفكاره، وينظم الجماعة التي تتجمع حولها حتى يظهر مع الوقت الناجح من الفاشل منها. وفعلاً قامت هذه الجمعيات بمجهود مشكور، كل واحدة على طريقتها، بالدعوة إلى الإسلام بين الأندلسيين وغيرهم من الإسبان. فمعظم من اعتنق الإسلام ظل مسلمًا حتى لو غير انتماءه من جمعية إلى أخرى. أو غيرت الجمعية اسمها، أو خرج من كل الجمعيات وبقي بمفرده. لذا أصبح عدد الراجعين إلى الإسلام بالأندلس يعد حوالي 4.000 مسلم سنة 1990 م. وقد اتبعت كل جمعية من الجمعيات المذكورة أعلاه مصيرًا مختلفًا. فمنها من ولد ميتًا (جماعة المرية الإسلامية)، ومنها من انضم لغيره (جماعة مالقة الإسلامية)، ومنها ما انبثقت عنه جماعة أخرى أصبحت من أكبر جماعات الأندلس والأمل في قيادة المسيرة الإسلامية بها (جماعة إشبيلية الإسلامية)، كما سنرى فيما يلي. 10/ 5 - محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس: تعد "الجماعة الإسلامية في إسبانيا" بشارع أوخنيو كاشس بمجريط، أقدم جمعية إسلامية إسبانية خارج الأندلس. وقد سجلت في وزارة العدل في 17/ 12/ 1979 م من طرف البارو ماتشوردوم كوتر (أمين عام)، وخابير نيكولاس كوبيوس نييطو، وطوماس باريو غبريال (الرئيس)، وكلهم من سكان مجريط. ويعد أحمد عبد الله ماتشوردوم كومينز، أمينها العام، مؤسسها الأساسي، وهو كاتب وصحافي أصله من بلنسية، كتب عددًا من المقالات في الجرائد الإسبانية يدافع فيها عن الإسلام وقضاياه، كما كتب كتابًا حول سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وله علاقة وثيقة بوزارة الخارجية الإسبانية كمستشار في الشؤون الإسلامية، كما له علاقات طيبة مع السفارات العربية بمجريط. ويحدد نظام هذه الجمعية الأساسي أن هدفها هو "نشر الإسلام كما جاء في القرآن والسنة، بين جميع مسلمي إسبانيا، والتعريف به لدى جميع الأشخاص الذين يودون الحصول على معلومات عنه؛ وتأسيس فروع "الجماعة الإسلامية في إسبانيا" في كل مناطق المساحة الوطنية؛ وتشجيع تعليم اللغة العربية، لغة القرآن ولغة 21 دولة تربطنا معها علاقات قوية من الصداقة التاريخية؛ وربط العلاقات الأخوية في

جميع المجالات بين الشعوب الإسلامية والشعب الإسباني؛ وإعانة جميع المسلمين الإسبان على بناء شخصية إسلامية حقيقية باتباع أركان الإسلام وقراءة القرآن وفهمه والاقتناع بتعاليمه، الخ ... ". وفي 26 - 28/ 12 / 1979 م، أقامت الجمعية أول مؤتمر للمسلمين الإسبان بفندق براغا بمجريط. ويحتوي مركز الجمعية بمجريط على مسجد ومكاتب، ولها به نشاط محدود. وفي سنة 1980 م، توصلت الجمعية إلى اتفاق مع بلدية قرطبة حول مسجد "المرابطو" الذي بناه فرانكو في ساحة حديقة "المرسد" بقرطبة للجنود المغاربة. وقد سلمت البلدية المسجد لهذه الجمعية تحت الشروط التالية: 1 - يستعمل البناء للعبادات الإسلامية فقط؛ 2 - تكون كل أعمال الترميم أو التغيير على حساب الجمعية بموافقة البلدية المسبقة؛ 3 - يدوم استعمال المركز لخمس سنوات؛ 4 - على الجمعية الحفاظ على المسجد بحالة جيدة؛ 5 - يرجع البناء وكل الإصلاحات التي أجريت عليه للبلدية بعد فترة الخمس سنوات دون تعويض للجمعية. وبعد انتهاء المدة، استرجعت البلدية البناء وسلمته في شهر مارس سنة 1986 م إلى سفير المملكة العربية السعودية بمجريط الذي سلمه بدوره إلى جمعية "المركز الإسلامي في إسبانيا"، وبهذا أصبح المسجد الصغير فرعًا لتلك الجمعية في قرطبة. لـ "الجماعة الإسلامية في إسبانيا" حوالي مائة عضو في إسبانيا كلها، ويقول مسؤولوها إن لهم أتباع في المرية وبلنسية وبرشلونة. وللجمعية فرع في مدينة سبتة يرأسه أحمد الزبير، رئيس الجماعة الحالي. وبصفة عامة، فتأثير هذه الجماعة محدود اليوم على مركزها في مجريط وبنشاط رئيسها بسبتة وأمينها العام بمجريط بالكتابة والنشر والدفاع عن الإسلام في الصحافة. وليس لهذه الجماعة تأثير في منطقة الأندلس، خاصة بعد إعادتها لـ "المرابطو" إلى بلدية قرطبة. وفي 23/ 7 / 1983 م، تأسست "جماعة بلنسية الإسلامية" من طرف عبد الرحمن عباد أبالوس (رئيس) وفرنسسكو مرين رودريكز (أمين عام) ويوسف عباد أبالوس (أمين الصندوق). وحدد نظام الجمعية أهدافها بالدعوة إلى الإسلام حسب القرآن الكريم وسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي شهر فبراير سنة 1984 م فتحت الجمعية مركزًا لها في شقة كبيرة، بشارع سان مارتين ببلنسية.

وكان عبد الرحمن عباد أبالوس، مؤسس الجمعية، صحافيًّا يعمل في برشلونة ثم سكن مالقة، مسقط رأسه. وقد عمل في الجيش الإسباني بتطوان في الحقبة 1953 - 1954 م، وتعرف لأول مرة هناك على المجتمع الإسلامي. وبعد عودته من تطوان أخذ يقرأ عن الإسلام، فاعتنقه سرًّا سنة 1959 م بعد اقتناع، ولم يشهره إلا سنة 1977 م، وأسلم بإسلامه جميع أهله. وفي سنة 1978 م، زار القاهرة حيث التقى بعدد من المفكرين المسلمين. ثم رجع إلى مالقة حيث عمل صحفيًّا بجريدة "سور" (الجنوب). وانضم عبد الرحمن عباد إلى "جمعية عودة الإسلام إلى إسبانيا" ثم انفصل عنها وأسس الجمعية المذكورة. وظلت هذه الجمعية ذات نشاط محدود لصعوبات مالية عانتها منذ البداية، فلم يزد عدد أفرادها على العشرة. وأساء السيرة الإمام المغربي الذي أتت به الجمعية لتعليم أفرادها أمور دينهم. ثم غيرت الجمعية مقرها إلى مكان آخر، ومنذ سنة 1989 م ظلت بدون مقر. تأسس كذلك بمجريط سنة 1982 م "المعهد الغربي الإسلامي للثقافة" كمؤسسة ثقافية برئاسة الدكتور المغربي عبد الرحمن جاه الشريف. ينتمي لهذا المعهد عدد من المفكرين الإسبان المسلمين، وله مركز ثقافي بشارع فرانسسكو رتي. ويقوم المعهد بمجهود مشكور في التعريف بالحضارة الإسلامية خارج منطقة الأندلس بإسبانيا. ومن أهم نشاطاته تحضيره لمؤتمرين ثقافيين مهمين، أحدهما سنة 1987 م بطليطلة (عاصمة قشتالة مانشة) تحت اسم "الأندلس الإسلامية، تاريخ ثمانية قرون" والثاني في 22 - 25/ 9/ 1988 م بطرويل بأراغون تحت اسم "أراغون تستعيد تاريخها". ركز المؤتمر الأول على دراسة الإسلام في قشتالة، والثاني على دراسته في أراغون. وينوي المعهد إنجاز دراسات وبحوث حول الثقافة الإسلامية في إسبانيا في مجالات التاريخ والفنون الإسلامية، وربطها بالواقع الإسباني المعاصر، ونشر نتائجها وتوزيعها. ويلخص رئيس المعهد فلسفته فيما يلي: "إن العلاقة القائمة بين اهتمامنا الثقافي والواقع الإسباني تتحدد من خلال الوعي بأسس الحضارة الإسلامية في هذا البلد ونشر حقائق الإسلام في الأوساط الإسبانية، لأن الثقافة الإسلامية تمثل ثقافة الشعب الإسباني كذلك رغم أن الظروف التاريخية التي مر بها تجعله يجهل هذه الثقافة". أما الجمعية الإسلامية الموجودة في مرسية فهي تابعة "للجماعة الإسلامية في الأندلس" التي تعد منطقة مرسية تابعة للأندلس الطبيعية، رغم أنها ليست تابعة

لمنطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي، بل هي تكون منطقة ذات حكم ذاتي قائمة بنفسها. وسندرس نشاط هذه الجماعة مع "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في الفصل القادم. ويُستحسن أن نعطي الآن موجزًا عن الوجود الإسلامي المعاصر في البرتغال، حيث إنها كانت قسمًا من بلاد الأندلس. كما أن التأثير الإسلامي لا زال واضحًا في المنطقة الواقعة جنوب الأشبونة، في مقاطعات شنتمرية الغرب (فارو اليوم) وباجة ويابورة. يوجد بالبرتغال حوالي عشرون ألف مسلم (سنة 1990 م)، هاجر إليها معظمهم من المستعمرات البرتغالية التي حصلت على استقلالها بعد سنة 1974 م. ولمعظمهم الجنسية البرتغالية، ولهم بذلك كامل حقوق المواطنة. ويمكن تصنيف مسلمي البرتغال إلى خمس فئات: 1 - الأفارقة المتأصلون من موزمبيق؛ 2 - الآسيويون المتأصلون من شبه الجزيرة الهندية والقادمون من غوا ومكاو وتيمور؛ 3 - الأفارقة المتأصلون من غينيا بيساو؛ 4 - العرب، خاصة المغاربة والجزائريون والمصريون؛ 5 - والبرتغاليون الراجعون إلى الإسلام حديثًا. تأسست سنة 1968 م "جماعة الأشبونة الإسلامية"، أول جمعية إسلامية في البرتغال، وسجلت رسميًّا في 28/ 3/ 1969 م. ونعتت الجمعية نفسها أنها دينية ثقافية غير سياسية. وحددت أهدافها في بناء جماعة إسلامية برتغالية متكاملة، وتأسيس أول مسجد في البلاد، والدفاع عن الإسلام ونشر تعاليمه باللغة البرتغالية، ونشر تعليم اللغة العربية والمبادىء الإسلامية في البرتغال. ومؤسس الجمعية ورئيسها إلى اليوم هو الدكتور سليمان ولي محمد، وهو من أصل موزنبيقي، ذو نشاط كبير، وهو مؤسس جمعية الصداقة العربية البرتغالية كذلك. أما أعضاء مجلس الإدارة الآخرون فهم: الدكتور إدريس محمد وكيل (أمين سر)، وعبد الستار داود جمال (أمين الصندوق)، وفاروق علي جادت، ومحمد حسين موسى. وفي يوليوز سنة 1978 م، نشرت الجمعية، لأول مرة، ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة البرتغالية في مجلدين، ونشرت طبعة ثانية للترجمة في سبتمبر سنة 1979 م. ومنذ سنة 1980 م، أخذت تنشر مجلة إسلامية باللغة البرتغالية اسمها "الإسلام". وقامحت الجمعية بنشر سلسلة من الكتب الإسلامية باللغة البرتغالية منها: "من أجل فهم الإسلام"، و"الإسلام تحت الضوء"، و"القرآن المعجزة الأخيرة" لأحمد

ديدات، و "مصدر القانون الإسلامي" و"محمد والإسلام" و "الإسلام والقانون"، و "الإسلام في البرتغال اليوم"، و"فلسطين مأساة العصر"، و "الفكر الإسلامي"، و "القرآن والثقافة البرتغالية"، و"الإسلام في العالم"، و"الزواج في الإسلام"، و "النهضة في العالم الإسلامي"، و"علاقات البرتغال بالعالم العربي"، الخ ... معظمها من تآليف الدكتور سليمان ولي محمد، رئيس الجمعية. وفي 22/ 6 / 1979 م، حصلت الجمعية من الحكومة البرتغالية على مسجد مؤقت. وهو عبارة عن قصر قديم في وسط مدينة الأشبونة. وعملت الجمعية بالتعاون مع السفارات الإسلامية في البرتغال على تأسيس مركز إسلامي في أرض بالقرب من ساحة إسبانيا، بتكاليف قدرت بحوالي أربعة ملايين دولار أمريكي، وتأسس من أجل إنجازه مجلس للسفراء المسلمين المقيمين في الأشبونة. ولم ينته بعد بناء المركز. للجمعية هيئة إدارية، وجمعية عمومية، وهيئة المراقبة، كما تتبعها لجان مختلفة لتدبير شؤون المسجد المؤقت، والشؤون الاجتماعية، والشؤون الثقافية، والشؤون المالية، وشؤون المرأة، والشبيبة والرياضة، والمقبرة الإسلامية. وللجمعية إمامان، أحدهما مبعوث من رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، والثاني من الهند. وتقوم الجمعية على إحياء الشعائر الإسلامية من صلاة الأوقات الخمس والجمع والأعياد والاحتفال بالمناسبات الإسلامية. وفي 27/ 1 / 1984 م، تأسست "جماعة جنوب التاجه الإسلامية"، كما تأسست جمعيات إسلامية أخرى في ضواحي الأشبونة: كأوديبلاش، وبوبوا، وشنت أندريان، وشنت أنطونيو دوش كبليروش، وكلينا دو سول، وبوتيلا دو سكييم، وفورت دي كاسا إي بيالونغا، وكذلك في الجنوب، خاصة في مدينة يابورة. كما يوجد مسجد ثاني مؤقت في بلدة المعدن المجاورة للأشبونة في منطقة لانجيرو قرب طريرو (مقاطعة ستوبال). ويوجد مسجد ثالث في كلينا دو سول، ومسجد رابع في أديبلاش في بناء قدمته عائلة مسلمة للجماعة الإسلامية. وفي سنة 1988 م، تكونت في بلدة لورش، شمال الأشبونة، جمعية إسلامية، قدمت لها بلدية لورش أرضًا لبناء مسجد، في منطقة شنت أنطونيو دوش كباليروش. وتنشر الجمعية مجلة مستقلة اسمها "الفرقان" يديرها محمد يوسف آدمجي. وينتمي إلى هذه الجمعية عدد من المسلمين من أصل آسيوي وكذلك بعض الراجعين إلى

الإسلام من البرتغاليين، من بينهم الدكتور محمد لويس مادوريرا، وهو أستاذ رياضيات اعتنق الإسلام سنة 1983 م. تنتمي كل الجمعيات البرتغالية التي ذكرناها إلى المذهب السني، ومعظم مؤسسيها من الوافدين. وتوجد مجموعة من الإسماعليين من أصول هندية. ومن جهة أخرى أُسس مركز الدراسات العربية في جامعة يابورة. يظهر أن التنظيم الإسلامي في البرتغال، رغم أنه ابتدأ قبل إسبانيا، ظل متأخرًا عليه، إذ لا زالت معظم التجمعات في يد الوافدين بينما بقي البرتغاليون الراجعون إلى الإسلام أفرادًا في الجمعيات الإسلامية القائمة. غير أن هناك إرادة، خاصة في الجنوب، لتأسيس جمعيات إسلامية بين الراجعين إلى الإسلام شبيهة بالتي أسست في الأندلس. أما جبل طارق فحوالي عشرة في المائة من سكانه الثلاثين ألف، مغاربة مسلمون، غير أنهم ليسوا مواطنين لجبل طارق، وبالتالي ليست لهم الحقوق الكاملة في المستعمرة، وأهمها حق الإقامة. فمعظمهم رجال دون عائلاتهم، كما أنهم يمتهنون أدنى المهن. ولهم مسجد في مقر سكناهم الذي هو قشلة قديمة بوسط البلدة، وهو عبارة عن مخزن كبير رتب كمسجد تديره جماعة التبليغ. ويظهر أن الوجود الإسلامي في جبل طارق قديم، إذ ذكر مولانا الجد سيدي محمد الزمزمي الكتاني في مذكراته عند زيارته لجبل طارق سنة 1934 م ما يلي: "وبهذا البلد اليوم من المسلمين جماعة قليلة، أجلهم الشرفاء مولاي أحمد ومولاي الهادي أولاد ابن عجيبة الذين يتجرون هناك في مصنوعات المغرب الوطنية، والذين كنا في ضيافتهم، ثم الشريف سيدي عبد السلام بن علال العمراني، ونحو العشرين آخرين من تطوان وطنجة وغيرهما، يبيعون البيض والخضر. وبها محل بدار القنصلية المغربية سابقًا، يدعى مسجدًا، وهو عبارة عن بيت صغير أمامه ميضة وبئر ومحل للوضوء، بقي بهذا الحال على ما كان عليه أيام المخزن والاستقلال المغربي، وأمامه أيضًا غرفة قد جلس بها اليوم فقيه يعلم ولد العمراني السابق الذكر القرآن. وهذا الشريف تعرفنا عليه واستدعانا لداره مرة، فذهبت إليه منفردًا رغمًا عما بينه وبين من نحن بضيافتهم من العداوة والمخاصمة". ولا يظهر أن المسلمين تنظموا في جبل طارق حديثًا رغم وجود المصلى المذكور، ولا أن عددًا من مواطني جبل طارق عادوا إلى الإسلام.

مراجع الفصل العاشر

مراجع الفصل العاشر 10/ 1 - Jacinto Boch Vila "The Muslims of Portugal and Spain" Journal of the Institute of Muslim Minority Affairs, Vol. 7, No. 1, Jan. 1986. 10/2 - هشام شيشكلي "الإسلام ينتشر من جديد في إسبانيا" المسلمون، 8 ذي القعدة عام 1402 هـ (28/ 2 / 1982). 10/ 3 - " El Centro Islamico de la M-30 sera Abierto en Primavera" El Pais (Madrid) , 19/11/1989. 10/4 - Lisbeth Rocher et Fatima Cherqaoui "D'une Foi l'Autre" Seuil, Paris, 1986, p. 175-184. 10/5 - "Spaniards Rediscover the Relevance of Islam" Arabia, October 1983. 10/6 - Juan Bustos "La Fiesta Musulmana del Final del Ramadan, Celebra- de en la Alhambra" Patria (Granada) , Agosto 4, 1980. 10/7 - Juan Bustos "No han Negado La Mezquita de Cordoba para Cele- brar la Fiesta del Sacrificio: Mohammed Ali" patria, Oct. 16. 1980. 10/8 - " خطبة عيد الأضحى بقرطبة" ملحق خاص لجريدة النور (تطوان). ذي الحجة عام 1400 هـ. 10/ 9 - " Fiesta Musulmana en El Recinto de la Piscina Municipal" Cerdo- ba, 18/10/1980. 10/10 - "En Granada Existe La Unica Comunidad Musulmana, Integrada par Espanoles, que Existe en el Pais" Hoja de Lunes (Granada) , 20/ 10/1980.

10/ 11 - " Une Association de Musulmans Espagnols Repand l'Islam dans la Peninsule Iberique" Matin du Sahara (Maroc) , Dec. 1980. 10/12 - علي المنتصر الكتاني "المسلمون في أوروبا وأمريكا" دار إدريس، 1976 م، الجزء الأول. 10/ 13 - " Interes Arabe por la Cesion de Uso de la Antigua Mezquita de Santa Clara" Cordoba, 25/11/1980. 10/14 - "Entregada la Liave de la Antigua Mezquita de Santa Clara al Se- nor al-Kettani" Cordoba, 27/12/1980. 10/15 - , 8 / 1 / 1981."Precisiones Historicas Sobre la Iglesia de Santa Clara" Cordoba. 10/16 - "Tras Siete Siglos Vuelve la Oracion Islamica a la Antigua Mezqui- ta de Abu Otman" Cordoba, 3/1/1981. 10/17 - "Alentar El Islamismo Seria un Grave Error Historico" Cordoba, 6/1/1981. 10/18 - "Cordoba: El Alcalde Replica Al Obispo Sobre las Cesiones de Edi- ficos a Los Musulmanes" A.B.C., 7/1/1981. 10/19 - "Julio Anguita Responde a Monsenor Infantes" Cordoba, 7/1/1981. 10/20 - "Jaime Sellan es Catolico" Cordoba, 14/8/1981. 10/21 - "Conozco a Jaime Sellan desde que Llego a Cordoba" Cordoba 20/ 8/1981. 10/22 - "Jaime Sellan Calificado de Farsante" Cordoba, 23/8/1981. 10/23 - "Jaime Sellan se Deslara Musulman" Cordoba, 20/8/1981. 10/24 - "Se Celebro el I Encouento de Amistad Arabe-Cordobes" Cordoba, 3/1/1982. 10/25 - "Protesta del Obispado por los Resos Musulmanes en la Mezquita Catedral" Cordoba, 3/1/1982. 10/26 - "El Expresidente Argelino Ben Bella Visito Ayer Nuestra Ciudad" Cordoba, 12/1/1982. 10/27 - "Mr Hachmi Filali Reçoit une Delegation de l'Association Islami- que Autonome de Cardoue" le Matin, 21/1/1982. 10/28 - "San la Tolerance entre les Communautes.." Maroc-Soir, 12/2/ 1982. 10/29 - "Sellan Encarecelado" La Voz de Cordoba, 28/9/1982.

10/ 30 - " Sellan, Excarcelado, Centro de la Lucha por el Oro del Moro" La Voz de Cordoba, 29/12/1982. 10/31 - Manuel Pelaez del Rosal "La Universidad Musulmana" Cordoba 9/2/1982. 10/32 - "Roger Garaudy" El Pais (Madrid) , 25/7/1985. 10/33 - "Trigo va a Ceder La Mezquita del Morabito a un Grupo Saudi" Diario-16, 20/3/1986. 10/34 - "Musulmanes Valencianos Abren un Nuevo Centro Islamico" Le Vante, 4/5/1984. 10/35 - " إسبانيا حلقة وصل بين الغرب والعالم الإسلامي" الشرق الأوسط، 8/ 9/ 1989 م. 10/ 36 - محمد قشتيليو "انبعاث الإسلام في البرتغال" دعوة الحق (المغرب) نوفمبر عام 1980 م.

الفصل الحادي عشر الجماعة الإسلامية في الأندلس

الفصل الحادي عشر الجماعة الإسلامية في الأندلس 11/ 1 - الأيام الأولى في إشبيلية: انبثقت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" عن تجربة أندلسية بحتة، وتكونت كنتيجة طبيعية للحركة القومية الأندلسية ذات الجذور الإسلامية. وتعد "الجماعة" نفسها حركة إسلامية أندلسية ذات أصالة في أرض الأندلس، وترى في بلاس إنفانتي مؤسسها الأول، ووالدها الروحي. وتعتقد "الجماعة" أن القوميين الأندلسيين المعاصرين المدعين اتباع إنفانتي، لم يطبقوا إلا بعض أفكاره السياسية وتجاهلوا أفكاره حول الهوية الأندلسية وضرورة استعادتها بتعريف أهل الأندلس بتاريخهم الإسلامي وبالعقيدة الإسلامية وتعليمهم اللغة العربية وفتح مجال الرجوع إلى الإسلام لمن يريد ذلك. مرّ مؤسّسو "الجماعة" بثلاثة مراحل: ابتدؤوا حياتهم العامة في الأحزاب اليسارية، ثم تحولوا إلى الأحزاب القومية الأندلسية، ومنها إلى الإسلام. وانحدر معظمهم من عائلات مثقفة، كان لها نشاط في الحركات اليسارية والأناركية والقومية. وولد معظمهم بعد سنة 1950 م أو 1960 م. وبعد سنة 1965 م، انضم عدد منهم إلى "اتحاد الشبيبة الشيوعية" أو "لجان الشبيبة العمالية" أو "الحزب الشيوعي الإسباني". وكانت الأحزاب اليسارية آنذاك، خاصة الحزب الشيوعي، تستقطب الشبيبة الأندلسية المتأثرة بانتفاضة مايو عام 1968 م للحركة الطلابية الفرنسية، والتي كانت تؤمن بقدرتها على مجابهة حكم فرانكو الدكتاتوري. وعندما تحررت الساحة السياسية الإسبانية بعد وفاة فرانكو سنة 1975 م، أخذ يشعر بعض الشباب الأندلسي المنخرط في الحزب الشيوعي بخيبة الأمل فيه، ويرونه

كالأحزاب الأخرى في تنظيمه الهرمي ودكتاتوريته الداخلية، كما اكتشفوا عدم وجود برنامج خاص بالأندلس له ولا أي شعور بالهوية الأندلسية المميزة. فانضم بعض هؤلاء الشباب إلى أحزاب أكثر يسارية كـ "شباب الحراس الحمر لإسبانيا" و"حزب العمل الإسباني"، وأسس البعض الآخر حركة ثقافية لاسترجاع الثقافة الأندلسية. وفي سنة 1976 م، تحولت الحركة الثقافية إلى حركة سياسية تحت اسم "حزب الأندلس الاشتراكي الموحد". ولم يعش هذا الحزب طويلاً، فانحل واجتمعت بعض عناصره بعناصر منشقة من "الحزب الأندلسي" في مالقة وغرناطة وإشبيلية، وأسسوا جميعًا، في نفس السنة، "جبهة تحرير الأندلس"، كحزب ذي اتجاه قومي صريح يطالب باستقلال الأندلس والعودة إلى أصالتها. وفي سنة 1977 م، توسع هذا التجمع في اجتماع عام ضم جماعات منفصلة عن "اتحاد الشبيبة الشيوعية في الأندلس" و"شباب الحراس الحمر لإسبانيا" و"الحزب العمالي للتوحيد الماركسي" و"الكنفدرالية القومية للعمل" ذات الاتجاه الأناركي، فتحولت "جبهة تحرير الأندلس" بدخول العناصر المذكورة إلى "الجبهة الأندلسية للتحرير" برئاسة أنطونيو مدينة مليرة، وأصبحت أهم منظمة شبابية أندلسية. وقد اضطهدت حكومة سوارز هذه الجبهة وتابعت أفرادها، خاصة رئيسها. وواجهت الجبهة صعوبات مادية جمة، أدت بعد مدة وجيزة إلى انقسامها إلى ثلاثة فصائل: 1 - القوميون الأندلسيون الذين يطالبون بتعريب الأندلس لغويًّا، واسترجاع الهوية الأندلسية على أساس عقيدة التوحيد. 2 - البيئيون ذوو الصلة الوثيقة بالحركات الأوروبية البيئية (الخضر) والحركات التي تسمى بالجديدة. 3 - مجموعة صغيرة من التابعين للحركات العمالية التقليدية في تنظيمها وبرامجها وطريقة نضالها. وفي سنة 1978 م، أدت هذه الانشقاقات إلى حل "الجبهة الأندلسية للتحرير"، كما انحل "حزب العمل الإسباني"، فتوحدت عناصر من الحزبين المنحلين في تنظيم جديد: "حزب التحرير الأندلسي". وكان داخل الحزب الجديد اتجاهان سياسيان، أحدهما قومي أندلسي والثاني شيوعي. وأصبح القوميون يستعملون داخل الحزب الشعارات الإسلامية ورسموها مرة على إحدى كنائس إشبيلية، فعارض ذلك شيوعيو

الحزب مما أدى إلى انشقاق الحزب وحله سنة 1980 م. فكوّن القوميون "مجموعة الأزهر" بهدف العمل على إعادة بناء أندلس مستقلة عن طريق البحث عن الهوية الضائعة، دون العمل السياسي، وركزوا على دراسة كتابات "بلاس إنفانتي" و"إقناسيو إيلاكوي" وغيرهما. وفي شهر غشت عام 1981 م أشهر أنطونيو مدينة مليرة إسلامه في مركز "جماعة إشبيلية الإسلامية" وانضم بذلك إليها، وسمى نفسه عبد الرحمن. وصل عبد الرحمن مدينة مليرة إلى الإسلام بعد نضال طويل واقتناع كامل بمبادئه. فقد ولد في 8/ 5 /1952 م بمدينة غافق (مقاطعة قرطبة)، من رفائيل مدينة مسة، أحد تجار غافق الميسورين، ومارية مليرة قومس. وتعتز عائلتا أمه ووالده بجذورهما المورسكية، كما كان لهما نشاط في الحركات الأناركية. وقد نشأ عبد الرحمن نشأة علم ودراسة، وتخرج من أفضل الجامعات في التاريخ الأندلسي ومقارنة الأديان. وفي سنة 1965 م، ابتدأ عبد الرحمن مدينة حياته العامة، ولا يزيد عمره عن 13 سنة، كعضو في "لجان الشبيبة العالية" و"اتحاد الشبيبة الشيوعي" و"الحزب الشيوعي"، وسجن وعذب أيام فرانكو. وفي سنة 1975 م، كان مدينة رئيس الجماعة التي تركت "الحزب الشيوعي" لتكوين "حزب الأندلس الاشتراكي الموحد" ثم "جبهة تحرير الأندلس" ثم "الجبهة الأندلسية للتحرير". وفي سنة 1978 م، ترأس "حزب التحرير الأندلسي". ثم ابتعد مدينة عن السياسة، وأسس شركة نشر سماها "مكتبة المنشورات الأندلسية" حيث نشر كتابيه "تاريخ الأندلس العام" في ست مجلدات و"المعجم الأندلسي". وبعد محاولة جديدة لإحياء "جبهة تحرير الأندلس" سنة 1979 م، توصل مدينة إلى الاقتناع بالإسلام كدين متكامل لتحرير الإنسان من الظلم والعدوان. وفي غشت سنة 1981 م، قرر إشهار إسلامه والانضمام إلى "جماعة إشبيلية الإسلامية"، واختار اسم عبد الرحمن تيمنًا باسم عبد الرحمن الغافقي. كان قرار عبد الرحمن مدينة باعتناق الإسلام قرارًا فرديًّا، ولم يكن يفكر أول الأمر في دعوة أصدقائه للإسلام. وبعد شهور، أخذ زملاؤه في الحركة القومية الأندلسية يسألونه عن سبب تغيره. وفي 17/ 1 / 1982 م، قرر اثنان آخران من زملائه اعتناق الإسلام، هما حمد المعتمد شانشس كستيانوس (كان اسمه ألفونسو) وأبو ياسر رينا أندرادي (كان اسمه سالبطور)، وذلك بمركز "جماعة إشبيلية الإسلامية" على يد عبد الحق اسبينوزا وعبد الهادي سانز كمينو. ولد محمد المعتمد في 10/ 5 / 1961 م

في إشبيلية من المهندس فرانسسكو سانشس دلفيون وروزاريو كستيانوس كوركويرة وفي سنة 1975 م، ابتدأ نشاطه السياسي في "شباب الحراس الحمر لإسبانيا" و"حزب العمل الإسباني". وانضم سنة 1976 م إلى "حزب التحرير الأندلسي". وفي سنة 1980 م، كان ممن أسسوا مجموعة "الأزهر". وولد أبو ياسر بإشبيلية في 11/ 4 / 1962 م من سلبطور رينا كالدرون، وهو مدير صناعي أصله من بلدة مورور، وروزاريو أندرادي غاندولفو، أصلها من رندة. وفي سنة 1979 م، ابتدأ حياته العامة بالانضمام إلى "حزب التحرير الأندلسي". ثم اعتنق الشباب القومي الأندلسي، الواحد تلو الآخر، الإسلام: فتيحة بيادراس مارتش، وأمية لاهوس بارياس، وأختها مريم، ومنصور القرطبي، الخ ... وأدى دخول هذه الأعداد الجديدة في "جماعة إشبيلية الإسلامية" إلى مشاكل جمة: فمؤسسو "الجماعة" قدم معظمهم من أوساط ذات مستوى ثقافي محدود خارج الأندلس، من مجريط وأوسكادي وسبتة وغيرها، وكانوا لا يرون في تاريخ الأندلس فائدة لعودة الإسلام لها، ويعتقدون أن الانتماء الأندلسي إنما هو عصبية قومية تفتت من وحدة مسلمي إسبانيا، وأن الأندلسيين القدامى أضاعوا الأندلس لضعف إسلامهم. وكان تنظيمهم هرميًّا، ينتخبون أميرًا ينظم أمورهم. أما المجموعة الأندلسية الجديدة، فكان معظمهم جامعيين ذوي تاريخ في الحركة القومية الأندلسية، رغم صغر سنهم. وكان تنظيمهم شوريًّا، يكرهون كل ما له صلة بمركزية في السلطة. وكانوا يرون في الإسلام قوة محررة لأشخاصهم وبلدهم الأندلس. فهم، مع إيمانهم بعالمية الإسلام، يرون أن الأندلسيين المعاصرين شعب مسلم اضطر إلى نسيان عقيدته وهويته نتيجة الجهل الذي أجبر عليه بعد قرون من الاضطهاد. فواجب المسلمين الأندلسيين هو الاندماج في المجتمع الأندلسي ومساعدته على التعرف على جذوره. لذا اعتقدوا، من أول وهلة، أن الحركة القومية الأندلسية لا محالة تصل إلى الإسلام، وأنهم هم نخبة المجتمع الأندلسي بقبولهم الإسلام كقوة محررة بعد قرون من الجهل والظلم، وأن من واجبهم مساعدة مواطنيهم على اتباع نفس الطريق. وفي يناير سنة 1982 م، أدت هذه التناقضات إلى انشقاق الطرفين، حيث توقف الأندلسيون من الذهاب إلى مركز "جماعة إشبيلية الإسلامية". وفي 22/ 6 / 1982 م، فتح الأندلسيون مركزًا خاصًّا بهم في بيت برقم 3 شارع بردي (الأخضر) بإشبيلية. وكان عددهم آنذاك لا يزيد على الستة المذكورين أعلاه، وأصبحوا يسمون

أنفسهم "الجماعة الإسلامية في الأندلس" (ويستعملون دون غيرهم اللفظ العربي لكلمة الجماعة). أخذت أعداد "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تتكاثر بعد الانتقال إلى مركزها الخاص، بانضمام أعداد متزايدة من الشباب الأندلسي لها، بينما لم يزد عدد أعضاء "جماعة إشبيلية الإسلامية"، مما أزم العلاقة بين المجموعتين. وعملت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" على تعلم الدين الإسلامي بمجهود طالب فلسطيني عضو في فرع إشبيلية لـ "الجمعية الإسلامية في إسبانيا" اسمه هلال أبو جمل، عمل معلمًا للجماعة ومرشدًا لها وإمامًا. وأخذت تظهر "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في الصحافة عن طريق كتابات عبد الرحمن مدينة. وذلك أن أحد مشاهير المؤرخين المتعصبين، واسمه كلاوديو سانشس البرنص (1892 - 1984 م)، كتب مقالاً في شهر أبريل سنة 1982 م في جريدة "دياريو 16 " حول "إعادة احتلال الأندلس" (أي من طرف المسلمين)، قال فيه عن التاريخ الأندلسي: "كان المجتمع الإسلامي في إسبانيا عقيمًا، همجيًّا، عديم الحضارة والحريات، فاسدًا. ومن حسن الحظ أن المسلمين طُردوا". ثم قال: "لا، يا أصدقائي الأندلسيين انسوا تلك الساعات القائمة الماضية: وأنتن، يا لولا ويا كارمن ويا روزاريو ويا آنا، أنتن اللاتي يتغنى بكن مانولو ماشادو، اللاتي تُضئن الأندلس، هل تردن من جديد أن تصبحن أدوات لذة بين الحريم؟ هل تودن العودة إلى سوق النخاسين؟ ". وتبعث ذلك المقال حملة ضد الإسلام والجمعيات الإسلامية التي أسسها الراجعون إليه. فرد عبد الرحمن مدينة على كلاوديو سانشس ردًّا مقنعًا، كان له الأثر الطيب، كما رد عليه غيره من زعماء المسلمين الأندلسيين. ثم نشر عبد الرحمن مدينة سلسلة من المقالات في الصحافة الإسبانية، يدافع فيها عن الإسلام والشخصية الأندلسية، ويربط بينهما، كالمقال الذي كتبه حول موقف السلطة الإسبانية الحاكمة من الأندلس، إذ قال في افتتاحيته: "كانت الأندلس دائمًا ضحية الأشكال المحددة التي يطلقها عليها الاحتكار القيادي الثقافي والسياسي من مجريط، خاصة فيما يخص منبع الحضارة الأكثر ضياء التي عرفتها أوروبا: الثقافة الإسلامية الأندلسية". ثم أنهى مقاله بقوله: "نحن الأندلسيون لم يعد ينظر إلينا كمجموعة بشرية لها شخصيتها الخاصة، ولكن كمجموعة مندمجة في كتلة بشرية متشابهة لا شخصية لها، وذلك منذ أن صاح "الله أكبر" آخر مؤذن أندلسي من

11/ 2 - الإنطلاقة من إشبيلية:

أعلى منارته، منذ ذلك الحين قطر الندى من فوق الياسمين كالدموع المنهمرة من الجفون". وفي يناير سنة 1983 م، وصل عدد "الجماعة الإسلامية في الأندلس" إلى 60 مسلمًا، من بينهم 15 طفلاً، فضاق مركز "الجماعة" بها. فانتقلت إلى مركز جديد أكبر من الأول بشارع لبيس. ومن جهة أخرى، ساءت علاقتها مع "جماعة إشبيلية الإسلامية"، فتدخل كاتب هذه السطور والأستاذ محمد بن إدريس الحلو وسيطين بينهما إلى أن وقعا في 23/ 1/ 1983 م الاتفاق التالي: "بسم الله الرحمن الرحيم نحن ممثلو الجمعيتين نتعهد أمام الله على احترام المبادىء الإسلامية التي تطلب التعاون والتآخي بينهما، وعلى توحيد مجهودهما للدعوة إلى القرآن الكريم والسنة المشرفة والعمل على صلاة الجمعة مجتمعين. نطلب من الله أن يضيء شؤوننا ويلهمنا الطريق السوي، آمين. عن "الجماعة الإسلامية في الأندلس" عبد الرحمن مدينة ويحيى ريس وهلال أبو جمل، وعن "جماعة إشبيلية الإسلامية" عبد الهادي سانز ومحمد أحمد وعثمان برسابي، والشاهدان محمد الحلو وعلي الكتاني. في إشبيلية 23/ 1/ 1983 م". 11/ 2 - الإنطلاقة من إشبيلية: وبعد انتقالها إلى مركزها الجديد، أخذت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تفتح فروعًا لها في مختلف المدن الأندلسية. ففي 22/ 1/ 1983 م، اجتمع ممثلو "الجماعة" في غرناطة مع عدد من مسلميها، منهم جابر بيلار خيل، مدير مكتبة الطب بجامعة غرناطة، وهارون كراكويل روميرو، ومحمد جمعة بلايزي وغيرهم، بحضور كاتبه، تقرر أثره فتح فرع لها في غرناطة. وفي 1/ 3/ 1983 م، فتح رسميًّا مركز غرناطة الإسلامي التابع للجماعة، بشقة كبيرة في عمارة سكنية من شارع "الخندقة" في المدينة القديمة. وفي 1/ 5/ 1983 م، انضمت رسميًّا "جماعة الأندلس الإسلامية" برئاسة عمر كوكا إلى "الجماعة". فأصبحت "الجماعة" بأكملها تسمى "جماعة الأندلس الإسلامية" عوضًا عن "الجماعة الإسلامية في الأندلس". وفي يونيو عام 1983 م، أسس جماعة من مسلمي شريش (مقاطعة قادس)، منهم عبد العزيز غارسيا فرناندس وعبد الكريم خيل كيروس، فرعًا جديدًا افتتح مركزه في 1/ 8/ 1983 م في 9 شارع باسورتو بشريش. وفي يونيو عام 1983 م كذلك، أسس جماعة من مسلمي مالقة، منهم أسد الله دل ميلاغرو بيريز، ومولود حامد

بشير، وإسماعيل خوركيرا آمورس، وصلاح الدين غياردو مورينو، فرعًا رابعًا للجماعة، وفي 1/ 9/ 1983 م، افتتحوا مركزه الإسلامي في شقة بـ 26 شارع مارمولس. وفي أكتوبر سنة 1983 م، أسس عدد من مسلمي قرطبة منهم أحمد صلاح الدين، وعبد الله الفاتح، وعبد الشكور، وعبد الملك، فرعًا خامسًا للجماعة، وافتتحوا مركزه الإسلامي بشقة في 12 شارع الملكين الكاثوليكيين بقرطبة. وكانت هذه المحاولة الثانية لتأسيس جماعة إسلامية أندلسية بقرطبة. وهكذا، لم تنته سنة 1983 م حتى أصبح "للجماعة الإسلامية في الأندلس" خمسة فروع في المدن التالية: إشبيلية (وهي المركز) وغرناطة وشريش ومالقة وقرطبة، وأصبحت "الجماعة" بذلك أول جمعية إسلامية أندلسية منتشرة خارج مدينة تأسيسها في جميع منطقة الأندلس، كما نجحت في ضم الجمعية التي أسسها عمر كوكا في غرناطة. وقد تنظمت "الجماعة" على أساس شوري لا مركزي، فلها مجلس أعلى يتكون من ممثلي فروعها في المدن المختلفة، يرأسه رئيس منتخب. وكان جابر بيلار من غرناطة أول رئيس له. ولكل فرع مجلس محلي يمثل فيه مسلمو الفرع المذكور. وتؤخذ كل القرارات بالتشاور. وفي سنة 1983 م كذلك، قررت "الجماعة" التعريف بوجودها للعالم، فقررت لذلك الاحتفال بذكرى مرور تسعمائة سنة على وفاة المعتمد ابن عباد ملك إشبيلية، وذلك بتنظيم حفل ثقافي إسلامي أندلسي على مستوى رفيع. وطلبت "الجماعة" من بلدية إشبيلية تسليمها قصر الخلفاء القديم لإقامة الحفل، فرفضت بلدية إشبيلية الطلب. فتوجهت "الجماعة" بطلب المساندة من بلدة طريانة (شقيقة إشبيلية عبر الوادي الكبير)، فاستجاب ممثلوها، وعلى رأسهم عمدتها فرانسسكو أركاس، وسلمت بلدية طريانة "للجماعة" قصر "فندق طريانة" لإقامة الحفل. وقد وقعت مشادة صحافية بين "الجماعة" ووزير الثقافة في الحكومة المحلية الأندلسية حيث ادعى الأخير أن عدم إعطاء قصر إشبيلية "للجماعة" هو لأسباب فنية فقط، وأن طريانة ليست إلا حيًّا من أحياء إشبيلية، ولا يمكن تسليم قصر فيها دون موافقة بلدية إشبيلية. وفي مساء يوم الجمعة 14/ 10/ 1983 م، ابتدأ الحفل على ضفة الوادي الكبير قرب برج الذهب (من بناء الموحدين)، حضره كاتبه والأستاذ محمد الحلو من الدار البيضاء. وعند غروب الشمس، وقف أسد الله دل ميلاغور (من مالقة) مؤذنًا لصلاة

المغرب بصوت جميل، فألقيت الزرابي، وصلى المغرب حوالي مائة من الأندلسيين بإمامة عمر كوكا. تحت حراسة عشرات من رجال الشرطة، ونظرات الإجلال والاحترام من آلاف المتفرجين من أهل إشبيلية. وتجمع في هذا الحفل معظم أعضاء "الجماعة الإسلامية بالأندلس" الذين قدموا من مدن الأندلس المختلفة. وبعد صلاة المغرب والدعاء، أطلق المسلمون الأندلسيون على ضفاف الوادي الكبير سربًا من الحمام الأبيض رمزًا للسلام وحرية العقيدة والمحبة بين البشر التي يدعو لها الإسلام. ثم انتقل الجميع عبر الوادي الكبير إلى قصر "فندق طريانة" وزين بالمناسبة أهل طريانة بيوتهم، وأخرجوا ملاحفهم على الشرفات كما هي عادتهم أيام الأعياد. وكان "فندق طريانة" غاصًّا بالحاضرين، يقدر عددهم بحوالي خمسة آلاف. وابتدىء الحفل في جو نشاط وحماس، باسم الله العلي القدير وبالصلاة على نبيه الكريم. ثم تناول الكلام رئيس الجماعة حينذاك جابر بيلار، وبيّن أهداف "الجماعة" وبرنامجها: جماعة إسلامية أندلسية على خطا السلف الأندلسي الصالح، تحاول إرجاع الهوية العقيدية والثقافية والقومية للشعب الأندلسي المظلوم، وتكون بذلك الوريث المعاصر لنضال شعب دام قرون ولبرنامج بلاس إنفانتي لاستعادة الهوية الأندلسية. وعندما آن وقت العشاء، فسّر المنظمون معنى الأذان للحاضرين، وطلبوا منهم الإنصات إليه باحترام، وذكّروهم أنه كان يطلق من مآذن الأندلس جميعها خمس مرات يوميًّا لمدة قرون. وأذّن أسد الله، فطأطأ الحاضرون رؤوسهم بخشوع، ثم صفقوا بحرارة بعد الأذان تعبيرًا على ابتهاجهم به. ثم تكلم عبد الرحمن مدينة عن المبادىء الإسلامية وعن حياة المعتمد بن عباد فقال: "سنقرأ عليكم بعض أشعاره بلغتكم العربية التي أُجبرتم على نسيانها ونترجمها للغة القشتالية التي فرضت عليكم". فقرأ باللغة العربية محمد جمعة بلايزي (من غرناطة) أشعار المعتمد وقرأ الترجمة الإسبانية جابر. ئم ألقى الشاعر الأندلسي "خوزي لويس أورتيز نويبو" قصيدة مجد فيها الأندلس وتاريخها، وبكى على ما آلت إليه من تفسخ في الهوية وانحطاط. ثم قدم الفنان الأندلسي "بيبي روميرو" قطعة موسيقية على البيانو. وحضر الحفل فنانون أندلسيون آخرون كـ "خوزي مولا طوماسا" و"بنيتو مورينو" وغيرهما. وقد حرصت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" على إشراك شخصيات أندلسية معروفة في الحفل حتى تجعل الحفل الإسلامي حفل جميع الأندلسيين وتعرّفهم بدينهم القديم وبجذورهم.

ونجح الحفل في الأهدف التي أرادتها "الجماعة" منه، وهي: 1 - التعريف بوجود "الجماعة" في الأندلس. 2 - تعريف برنامجها للشعب الأندلسي كجماعة مسلمة أندلسية. 3 - ربط الصلة بين "الجماعة" والقوى الأندلسية الحية. 4 - تقوية ثقة أعضاء "الجماعة" بأنفسهم ومقدرتهم على تنظيم عمل مشترك ناجح. وفي الحقبة 28/ 11 - 3/ 12/ 1983 م، أظهرت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" وجودها في مالقة بتنظيم "أسبوع الثقافة الأندلسية" في جامعة مالقة، بالتعاون مع جامعتي مالقة وغرناطة. واحتوى البرنامج الثقافي سلسلة من المحاضرات: الاثنين 28/ 11، "العلوم في الأندلس الإسلامية" لجابر بيلار خيل؛ الثلاثاء 29/ 11، "الآداب في الأندلس الإسلامية" لـ ج. م. هاكرتي، أستاذ اللغة العربية بكلية آداب جامعة غرناطة؛ الأربعاء، 30/ 11، "الطريقة الإسلامية في كتابة تاريخ الأندلس" لعبد الرحمن مدينة مليرة؛ الخميس 1/ 12، "نظرة عامة تاريخية حول اللغة الأندلسية" لفتيحة بيادراس مارتش؛ الجمعة 2/ 12، صلاة الجمعة للمسلمين الحاضرين، وفي المساء محاضرة بعنوان "تطور ومستقبل الاقتصاد الأندلسي" لأورورا قومس ومنويل دلكادو، وأنطونيو مرياس، أساتذة بكلية الاقتصاد بجامعة مالقة؛ والسبت 3/ 12، "احتلال الأندلس الإسلامية وسقوط حضارة" لأنطونيو زيدو نرانخو، مدير مكتبة دور النشر الأندلسية، ثم عرض فيلم بعنوان "أسد الصحراء"؛ والأحد 4/ 12، الموافق ليوم الأندلس عند القوميين الأندلسيين؛ أقيمت سهرة أدبية بمشاركة جوق تطوان الأندلسي، و"الجامعة"، وهو جوق أندلسي من مالقة، والشاعرة الأندلسية كارمن آبنسا. وقد شارك في هذا الأسبوع الأندلسي عدد كبير من أفراد الطبقة المثقفة في مالقة. وقد نشر في الصحافة عبد الرحمن مدينة بأن هدف "الأسبوع الثقافي هو التعريف بوجوه الثقافة الأندلسية المختلفة، ثقافة الشعب الأندلسي الذي نحن ورثاؤه". وأكد: "بالنسبة لنا فالوجود القومي الأندلسي واقع حي يجب أن يكون فوق المنافسات السياسية، وملخصه أنه يوجد شعب له جذور وتاريخ". وهكذا نجحت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في نشاطها العام الثاني في اكتساب الاحترام لدى المثقفين الأندلسيين مما مكنها من التعامل معهم وجذبهم لأفكارها، وبذلك القيام بالدعوة الإسلامية على أعلى مستوى.

وفي بداية سنة 1984 م، تابعت "الجماعة" توسعها الجغرافي والعددي. فأسست فرعين لها في ولبة (مقاطعة ولبة) وذكوان (مقاطعة مالقة)، وأخذت تفكر في فتح مركزين جديدين لهما. وفي فبراير عام 1984 م، انتقل مركز إشبيلية الإسلامي التابع "للجماعة" من البيت المؤجر في "شارع لبيس" إلى مركز أكبر بكثير في 4 شارع دون ألونسو السابيو في وسط المدينة القديمة، حيث مقرها إلى اليوم (سنة 1992 م). كما انتقل مركز "الجماعة" في مالقة من شارع مارمولس إلى مركز أكبر في وسط المدينة بشارع سالبتو. وفي مستهل سنة 1984 م، ابتدأت "الجماعة" بإنجاز برنامج لتعريف الجماهير الأندلسية بتاريخها وربطها به. فمنذ أيام فرانكو، أخذت الدولة والكنيسة في إسبانيا تحتفلان في كل عاصمة من عواصم الأندلس بذكرى احتلالها من طرف نصارى قشتالة. ورأى المسلمون الأندلسيون في هذه الاحتفالات إهانة لتاريخهم وشتيمة لحاضرهم، وعمل غير معقول في إسبانيا المعاصرة حيث اعتُرف بالقومية الأندلسية وبحرية العقيدة. وكان يوم 2 يناير، ذكرى سقوط غرناطة في يد الملكين الكاثوليكيين وانهيار آخر دولة إسلامية بالأندلس. فقررت "الجماعة الإسلامية بالأندلس" القيام بمظاهرة معاكسة لما تقوم به الحكومة والكنيسة، وهدفها إيقاف الاحتفالات بذكرى سقوط غرناطة أو على الأقل تعريف الرأي العام الغرناطي بهويته. وسمّت "الجماعة" احتفالها المعاكس بـ "البكاء على غرناطة". فنشر أعضاؤها على برج قمارش بقصر الحمراء علم الأندلس، ومرت سياراتهم بالأبواق في المدينة تصيح بالمواطنين قائلة: "هذا يوم حزن وليس يوم فرح؛ ففي 12/ 1/ 1492 م، احتُلت غرناطة ولم تحرر؛ لتحترم الدولة والكنيسة أرواح أجدادنا الشهداء؛ لتحترم أولئك الذين دافعوا عن أرض الأندلس؛ فسقوط غرناطة هو سقوط السيادة الأندلسية". ونظمت "الجماعة" حفلاً في ساحة "باسيو دي لوس تريستس". (ممر الأحزان) حيث حضر عدة آلاف من الغرناطيين (أكثر من الذين حضروا في الحفل الرسمي)، ألقى فيه مفكرون أندلسيون، مسلمون وغير مسلمين، خطبًا حول عظمة الأندلس الإسلامية. كما شارك في الحفل عدد من الفنيين والأدباء الأندلسيين كمجموعة "كورنكاس غراناديناس" لكارلوس كانو. ثم ألقى الشعراء الغرناطيون، على رأسهم خوان دي لوشة، قصائد في تمجيد الأندلس، كما غنى للحاضرين المغني المعروف "بيبي ال دي لاطوماسا".

وكان لهذا الحفل صدى كبير وطيب في الأندلس وإسبانيا، إذ لأول مرة جهر المسلمون الأندلسيون بشعورهم، وبرهنت "الجماعة" على قدرتها على تزعم الشعور القومي الأندلسي. واستطاعت "الجماعة" عبر هذه التظاهرة الإسلامية الأندلسية التنسيق بين عدة منظمات أندلسية غرناطية كجمعية "التضامن الأندلسي" وجمعيات الأحياء الشعبية وعدد كبير من أعضاء "الحزب القومي الأندلسي". وسنّت الجماعة الإسلامية بعملها هذا سنة إقامة حفل إسلامي معارض لحفلات ذكرى سقوط المدن الأندلسية التي تقوم بها الكنيسة والدولة، في غرناطة وولبة وقرطبة وإشبيلية ومالقة، وغيرها من المدن الأندلسية. وفي 14/ 3/ 1984 م، أقامت "الجماعة" حفلاً ثقافيًّا في شريش، حضره عدد كبير من مثقفي المدينة وأهاليها، شارك فيه جوق "آخو كالينتى" الأندلسي، كما ألقيت فيه المحاضرات التي تعرف بتاريخ المدينة الإسلامي وتشجع الأهالي على تعلم العربية، لغة أجدادهم. وأصبح هذا النشاط الثقافي متواصلاً في عدة مدن أندلسية. ثم قررت "الجماعة" عقد مؤتمر عالمي لتعرف الأمة الإسلامية بوجودها، سمّي بـ "المؤتمر الأول للمسلمين الأندلسيين". وقررت عقده في 20 - 22/ 7/ 1984 م (موافق شوّال عام 1404 هـ) بكلية "أميليو مونيوس" ببلدة "ققولش بيغا" بجبال غرناطة. واستدعت "الجماعة" للمؤتمر جميع أعضائها، وكذلك ممثلي الجمعيات الإسلامية الأخرى بإسبانيا وبعض الشخصيات المغربية كالأستاذ محمد الحلو ووالده الحاج إدريس الحلو والأستاذ محمد بن المكي الوزاني، والمشرقية كالشيخ فؤاد الخطيب، نائب أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي آنذاك، وعائلته، والدكتور محمد محمد عمر جمجوم. وحضر كاتبه المؤتمر، كما حضره والده الشيخ سيدي محمد المنتصر الكتاني وابن كاتبه الحسن وحضر من الأندلسيين حوالي 200 مسلم، قدموا من كل مدن الأندلس. كانت الإقامة في الكلية المؤجرة طيلة أيام المؤتمر، حيث كانت المنامة والأكل والصلوات الخمس في أوقاتها. وافتتح المؤتمر بالقرآن الكريم ثم النشيد الوطني الأندلسي، ثم قرئت الفاتحة على أرواح الشهداء الأندلسيين الذين ضحوا بحياتهم عبر القرون للدفاع عن الإسلام في الأندلس. وألقيت المحاضرات، طيلة الأيام الثلاثة، من طرف مفكرين من الأندلس وخارجها، حول المبادىء والفكر

11/ 3 - النكسة والانطلاقة الجديدة:

الإسلامي مثل المواضيع التالية: "العقيدة الإسلامية"، "الإسلام وتحرير الشعوب"، "الصلاة شكلها ومعناها"، "الصهيونية وفلسطين"، "النضال الأندلسي"، وغيرها. وصرح أحد منظمي المؤتمر للصحافة عن معنى المؤتمر قائلاً: "نحن لسنا جزيرة دينية في هذه الأرض؛ فإسلامنا حي؛ فمن واجبنا الدخول في المجتمع الأندلسي وإقناع الجماهير ... فالإسلام يُشم في هواء هذه الأرض وسينتشر حتى يعمها كما كان في الماضي". كان مؤتمر "ققولش بيغا" نقطة تحول هامة في تاريخ "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، قررت بعده عقد جمعًا عامًا لتخطيط مستقبلها. وهكذا في ظرف سنتين أصبح عدد أعضاء "الجماعة الإسلامية في الأندلس" يقارب خمسمائة، لهم فروع في سبعة مدن أندلسية هي: إشبيلية وغرناطة وشريش ومالقة وقرطبة وولبة وذكوان. وأصبح المسلمون الأندلسيون ينظرون إلى المستقبل بحماس، كما أظهروا ذلك في اجتماع "جمعية الإسلام والغرب" الذي انعقد في إشبيلية في الحقبة 10 - 12/ 9 / 1984 م وشاركوا فيه. 11/ 3 - النكسة والانطلاقة الجديدة: أدت نشاطات "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في سنتي 1983 م و 1984 إلى شهرتها داخل إسبانيا وخارجها، مما جعل كثيرًا من الجمعيات الإسلامية القديمة تغار منها وتهاجمها. فأخذت جمعية "المركز الإسلامي في إسبانيا" تكتب التقارير السلبية إلى سفارات الدول الإسلامية، ونشرت "جماعة إشبيلية" مقالات في الصحافة تهاجم فيها "الجماعة"، خاصة بعد "ذكرى المعتمد بن عباد". وأدت تأثيرات بعض الأوساط الإسلامية غير الأندلسية إلى انشقاق داخل "الجماعة". أما الضغوط الخارجية، فقد قررت "الجماعة" عدم الرد على هجمات تلك الجمعيات للحفاظ على الأخوة الإسلامية مهما كان موقف الآخرين. أما الانشقاق الداخلي، فلم يكن له حل. وفي أواخر سبتمبر عام 1984 م، عقدت "الجماعة" اجتماعًا عامًّا في مقرها بإشبيلية للتخطيط لمستقبلها وتثبيت تنظيمها، فظهر في الاجتماع انشقاق جذري خطير بين طرفين من أطراف "الجماعة". الطرف الأول، برئاسة جابر بيلار خيل، رئيس مجلس الجماعة حينذاك، تبنى فكرة التنظيم الهرمي قائلاً بأن تنظيم "الجماعة" المبني

على الشورى ليس تنظيمًا إسلاميًّا وأنه تقليد للأنظمة الديموقراطية الغربية. واقترح جابر "بيعة" أمير للجماعة والتفويض له في قيادة أمورها، على أن يعيّن الأمير المسؤولين عن النشاطات المختلفة حسب قدراتهم وتقواهم. أما الطرف الثاني، بقيادة عبد الرحمن مدينة مليرة، فأراد المحافظة على تنظيم "الجماعة" الأفقي، وتقوية الروابط مع القوى الحية في المجتمع الأندلسي. وتشبث كل طرف برأيه، وتبادل تهم الخروج عن روح الإسلام مع الطرف الآخر. وللحفاظ على وحدة الصف، اتفقا على استفتاء أعضاء "الجماعة". وعندما أسفر الاستفتاء عن مساندة الطرف الثاني، رفض الطرف الأول قبول تصويت النساء المسلمات، مما أدى إلى الانشقاق الكامل رغم تدخل كاتبه. كان هذا الانشقاق كارثة على "الجماعة". فقسم منها "بايع" جابر بيلار خيل أميرًا، وانتظم تحت اسم "جماعة الأندلس الإسلامية"، بينما رجع القسم الآخر إلى الاسم القديم "الجماعة الإسلامية في الأندلس" وركز تنظيمَه الأفقي بتكوين مجالس في المقاطعات ومجلس عام للجماعة، وانتخاب رئيس للمجلس ليس له من سلطة سوى تنسيق الاجتماعات وإدارتها. ثم تلى الانشقاق، معركة بين الطرفين للسيطرة على المراكز المختلفة، مما أدى إلى تشتيت هائل في أفراد "الجماعة". فبعد أن كان عدد المنتمين إليها يقارب الخمسمائة، هجر أكثرهم الطرفين. ومن بين المراكز السبعة في "الجماعة"، تشتتت جماعات ذكوان وولبة وقرطبة وأغلقت مراكزها. أما المراكز الأربعة الباقية فانضمت غرناطة وشريش إلى جابر، وإشبيلية ومالقة إلى عبد الرحمن. ونزل أفراد المراكز الأربعة إلى نصف عددهم قبل الانشقاق. وهكذا انتهت سنة 1984 م بكارثة في تنظيم المسلمين الأندلسيين. أما "جماعة الأندلس الإسلامية" التابعة لجابر، فقد قل عدد أعضائها مع الأيام، واضطرت إلى قفل مركز شريش. وبقيت هذه الجماعة في غرناطة فقط رغم قلة أعضائها وإقفال مركزها في غرناطة كذلك. وأما "الجماعة الإسلامية في الأندلس" فانطلقت انطلاقة جديدة بتنظيم أفضل وسياسة أوضح وخبرة أكبر، ورغبة أكيدة في الحفاظ على المسار الإسلامي والأندلسي والغيرة على استقلال "الجماعة" من أي نفوذ خارجي. ثم عملت من جديد على بناء قاعدتها بزيادة نشاطها في المجالات المختلفة للدعوة إلى الإسلام.

وفي 19 - 21/ 7 / 1985 م، قررت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تنظيم "المؤتمر الدولي الأول للمسلمين الأوروبيين" في إشبيلية بهدف ربط الصلة بين المسلمين الأوروبيين لدراسة دور الإسلام في مستقبل أوروبا، وجعل الأندلس مركز إشعاع إسلامي لكل القارة الأوروبية، وإعطاء الصحوة الإسلامية في أوروبا دفعة محلية. فشكلت "الجماعة" لجنة تنظيمية للمؤتمر، وأرسلت بعثات إلى أقطار أوروبا للاتصال بالشخصيات والجماعات الإسلامية المحلية وتفسير أهداف المؤتمر واستدعائها إليه. وما إن انتشر خبر عقد المؤتمر، حتى نُظمت حملة ضد "الجماعة" وشخصياتها البارزة من طرف المراكز الإسلامية الرسمية في أوروبا والجمعيات الإسلامية في إسبانيا. فأرسلوا رسائل إلى جميع المراكز الإسلامية في أوروبا لتشويه سمعة "الجماعة" وأهدافها. كما قامت حملة ضد "الجماعة" ومسانديها من طرف أعداء الإسلام في إسبانيا، لهدف إفشال المؤتمر وتشتيت "الجماعة". ووصلت الحملة حدًّا لا يُطاق عندما أخذت بعض الجرائد الإسبانية المعادية للإسلام تنشر مقالات تخيف فيها الإسبان من المسلمين الأندلسيين وتتهمهم بأنهم يحاولون "إعادة احتلال" إسبانيا باسم الإسلام. وقررت "الجماعة" المضي في تنظيمها للمؤتمر وعدم الرد على المهاجمين. وفي 9/ 6 / 1985 م، ظهرت جريدة "دياريو 16" في صفحتها الأولى بعناوين ضخمة بمقال كاذب تحت عنوان "اكتشاف شبكة جاسوسية مغربية جنوب إسبانيا"، ادعت فيها الجريدة بأن المخابرات الإسبانية اكتشفت الشبكة برئاسة عبد الرحمن مدينة ومساندة كاتبه وصديقه محمد الحلو وجاءت بأكاذيب. وتابعت الجريدة حملتها في الصفحة الأولى لما يقارب الأسبوع. وانضمت "جماعة إشبيلية الإسلامية" إلى هذه الحملة، ورددت الصحافة الإسبانية اتهامات "دياريو 16". وكان لهدف هذه الحملة عدة وجوه: أولاً، إشعال الفتنة بين الجمعيات الإسلامية في إسبانيا؛ ثانيًا، تخويف مساندي "الجماعة الإسلامية في الأندلس" من الاقتراب إليها؛ ثالثًا، تشويه سمعة "الجماعة" في المجتمع الأندلسي؛ وأخيرًا زرع الفتنة بين أفرادها. وجابهت "الجماعة" هذه الحملة بالتكذيب وبحملة صحافية معاكسة، وأجبرت "دياريو 16" على نشر رد "الجماعة" حيث أعلن عبد الرحمن مدينة "إنني أعتقد أن هناك حملة ضد الإسلام من طرف الأوساط الصهيونية داخل الحزب الاشتراكي

العمالي الإسباني (الحاكم) "، وبالمتابعة القانونية. كما أجبر كاتبه الجريدة المذكورة عن طريق محام في إشبيلية نشر تكذيب لما نشر. ورغم انتهاء الحملة بالفشل، تابعت بعض الجمعيات الإسلامية التائهة حملتها ضد "الجماعة" في الصحافة الإسبانية. وقررت "الجماعة" عدم الرد على أية جمعية إسلامية تحاشيًا للسقوط في مخطط أعداء المسلمين الذين يودون إشعال نار الفتنة بينهم. ورغم هذا الجو المكهرب تابعت "الجماعة" تنظيم "المؤتمر الدولي الأول للمسلمين الأوروبيين". وفي 19/ 7 / 1985 م، افتتح المؤتمر بفندق "مقرينة"، أحد أكبر فنادق إشبيلية، تحت حراسة الشرطة. وقد حضر المؤتمر حوالي مائة شخصية إسلامية من كل أنحاء الأندلس، ومن عدة أقطار أوروبية، منها البرتغال وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا وقبرص، وغير الأوروبية كالبلاد العربية والمكسيك. وحضر من البلاد العربية كاتبه وأهله والأستاذ محمد الحلو وأهله والدكتور عبد الله عمر نصيف وأهله والشيخ محمد العويني، وغيرهم. كما حضرت المؤتمر عدة شخصيات أندلسية ونواب في البرلمان الأندلسي، منهم دييغو دي لوس سانطوس، رئيس الحزب القومي الأندلسي، ولويس أورنويلا، عمدة إشبيلية السابق، ومانويل ايلونانس، وزير الثقافة في حكومة الأندلس. كما توصلت أمانة المؤتمر ببرقيات مساندة من خوليو أنغيتا، عمدة قرطبة، وبدرو رويز برديسو، نائب رئيس "وقفية بلاس إنفانتي"، وغيرهم. وكان للمؤتمر إشعاع في الصحافة الإسبانية والتلفزيون والراديو. وألقيت محاضرات في المؤتمر في المواضيع التالية: دراسة حول وضع المسلمين الأوروبيين الحالي وعن الإسلام في أوروبا؛ ضرورة إنشاء منظمة عالمية للمسلمين الأوروبيين؛ الشريعة والآداب الإسلامية في المجتمعات ما بعد الصناعة والتكنولوجية ومشاريع للمسلمين الأوروبيين؛ معرض 1992 م الدولي في إشبيلية؛ المذاهب الإسلامية ودورها في انبعاث الإسلام في أوروبا؛ الخ ... وانتخب المؤتمر روجي كارودي رئيسًا له، كما اتخذ قرارات هامة لمساندة المسلمين البلغار، وقبول دعوة قبرص (التركية) لعقد الاجتماع الثاني في مغوشة، وفتح مركز في قرطبة لتنسيق العمل بين المسلمين الأوروبيين، وإنشاء اتحاد بينهم والاجتماع كل ثلاث سنوات. قررت "الجماعة" بعد نجاحها في تنظيم "المؤتمر العالمي الإسلامي الأوروبي الأول" استئناف توسعها بعد أن لم يبق لها سوى مركزي مالقة وإشبيلية. فأعادت

فتح مركز إسلامي لها في شريش (مقاطعة قادس) بزنقة كامبانيا في شهر سبتمبر عام 1985 م، ثم عملت على شراء بيت في قرطبة لتحويله إلى مركز إسلامي بها. ثم تابعت "الجماعة" إحيائها لذكرى المعتمد بن عباد سنويًّا في إشبيلية. ففي يوم الأحد 13/ 10 / 1985 م، نُظمت رحلة ثقافية بالباخرة على الوادي الكبير من إشبيلية إلى شلوقة واصطحبت جوقًا للموسيقى الأندلسية. وشارك في هذه الرحلة حوالي 200 شخص. بما فيهم المسلمون الأندلسيون ورجال الصحافة. وانتهت الرحلة بعشاء على ضيافة بلدية شلوقة. وفي يوم الاثنين، أقيم احتفال بساحة "التوزانو" بطريانة بمساندة مجلسها البلدي، ألقيت فيه القصائد الشعرية والمقطوعات الموسيقية من طرف أشهر أدباء الأندلس. وحضر الحفل ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص لدرجة سمّت الصحافة بسببها عمدة طريانة، باكو أركس، بخليفة طريانة. ومرة أخرى، لم يتراجع أعداء المسلمين عن الهجوم على "الجماعة" واتهامها باستعمال ذكرى المعتمد بن عباد للدعوة إلى الإسلام. ومن نتائج "المؤتمر العالمي الإسلامي الأوروبي الأول" والأحداث التي سبقته أن أخذت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" تفكر في تنويع عملها في المجالات المختلفة بتأسيس جهاز لكل مجال. ففي المجال الثقافي، أسست "الجماعة" "وقفية الإسلام والأندلس"، وقد اعترفت بها حكومة الأندلس المحلية كمؤسسة تعمل للمصلحة العامة. ومن نتائج "المؤتمر" كذلك اقتناع "الجماعة" بضرورة عمل سياسي يعرّف الجماهير الأندلسية بتاريخها الإسلامي ووجودها المنفصل باستعمال الإمكانات السياسية. وفي 29/ 11 / 1985 م، بعد اتصالات عبر الأندلس ومناطق إسبانيا الأخرى، سُجّل "حزب التحرير الأندلسي" كمنظمة سياسية تعبر عن آراء المسلمين الأندلسيين، وتعلن أن الشعب الأندلسي شعب قائم بنفسه له حضارته (الإسلامية) ولغته (العربية) الخاصة به. وقرر الحزب تقديم مرشحين للانتخابات المحلية والأوروبية. ولم تنته سنة 1985 م حتى نسيت "الجماعة" نكسة سنة 1984 م، وانطلقت بانطلاقة جديدة في جميع المجالات. وفي سنة 1986 م، استهلت "الجماعة" السنة باصطدام مع روجي كارودي. فمشروع الفيلسوف الفرنسي المسلم كان حوار الحضارات، ولم تكن تهمه "الجماعة الإسلامية في الأندلس" التي اعتقدت بأنه

استعمل "المؤتمر العالمي للمسلمين الأوروبيين الأول" لتركيز وجوده في قرطبة، فحصل على مساعدات مالية من البلاد العربية لتأسيس "جامعة إسلامية في قرطبة"، أسس بها آخر المطاف متحفًا للحوار بين الحضارات، بينما عملت "الجماعة" على تأسيس مركز إسلامي يعيد جمع شتات المسلمين القرطبيين، ويجعل من قرطبة مركز إشعاع إسلامي في الأندلس وأوروبا. وقررت "الجماعة" مساعدة روجي كارودي في مشروعه رغبة منها في توثيق الأخوة الإسلامية معه. وفي مارس عام 1986 م، اشترت "الجماعة" بيتًا قديمًا في قرطبة بشارع ري هريديا، قرب المسجد الأعظم، في شارع مسجد القاضي أبو عثمان، وحولته إلى مركز إسلامي بعد الترميمات الضرورية، وتبنت برنامجًا للدعوة إلى الإسلام في قرطبة. وفي يوليوز عام 1986 م، فتحت "الجماعة" مركزها الخامس في بلدة "دوس هرماناس" (الخلدونية)، على بعد عشرين كيلومترًا من إشبيلية. وفي أكتوبر عام 1986 م، فتحت "الجماعة" مركزًا إسلاميًّا سادسًا في مرسية. فلم تنته السنة حتى أصبح "للجماعة" ستة مراكز إسلامية في خمس مقاطعات مختلفة: إشبيلية ودوس هرماناس وشريش ومالقة وقرطبة ومرسية. وفي يوم الأحد 22/ 6 / 1986 م، شارك "حزب التحرير الأندلسي" في انتخابات البرلمان الأندلسي، مطالبًا بتحرير الأندلس واستقلالها والاعتراف باللغة العربية كلغة لها، وتطبيق اتفاقية الاستسلام عند سقوط غرناطة سنة 1492 م، الوثيقة القانونية الوحيدة التي تبرر انضمام الأندلس لإسبانيا، ورجوع المهجّرين الأندلسيين. وقد قدم "الحزب" ما يزيد على مائة مرشح في كل المقاطعات الأندلسية، أهمهم: عائشة هرموزين زمبرانو في المرية، وخوان بدرو رنكون غياردو في قادس، وعبد الرحمن مدينة مليرة في قرطبة، وإسماعيل خرقيرة آمورس في غرناطة، ومريم بارياس لاهوز في ولبة، والمنصور بيريز كالفانتي في جيان، وياسر كالدرون دياس في مالقة، والمعتمد سانشس كاستيانوس في إشبيلية. ونتجت الانتخابات البرلمانية الأندلسية إلى فوز 109 نائبًا، منهم 60 للحزب الاشتراكي العمالي الإسباني (الحاكم) و 28 للتحالف الشعبي (يمين) و 2 للحزب القومي الأندلسي. ولم تحصل الأحزاب السبعة الأخرى التي تقدمت للانتخابات على مقاعد في البرلمان. وحصل "حزب التحرير الأندلسي" على 5683 صوت أو 0.17 في المائة من الناخبين. وكان أقرب حزب لأفكار الجماعة الإسلامية هو "الحزب

11/ 4 - العودة إلى قرطبة:

القومي الأندلسي" الذي لم يحصل إلا على المقعدين المذكورين لغلطة سياسية ارتكبها (كما رأينا) عند تأسيس منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي. فقد أظهر ضعفًا كاد أن يضيّع على الأندلس فرصة تكوينها، في الوقت الذي تبنى الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني مبدأ الحكم الذاتي للأندلس وكافح من أجله. وقد حافظ الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني على موقعه في انتخابات يونيو عام 1990 م إذ حصل على 61 مقعدًا، وحصل حزب التحالف الشعبي (يمين) على 27 مقعدًا، واليسار المتحد (شيوعي) على 11 مقعدًا، بينما ارتفع عدد مقاعد الحزب القومي الأندلسي إلى 10 مقاعد. 11/ 4 - العودة إلى قرطبة: قررت الكنيسة الكاثوليكية جعل 1986 م سنة الذكرى المئوية الثانية عشرة لتأسيس مسجد قرطبة الأعظم، ونظمت لذلك احتفالات شاركت فيها أوساط ثقافية مختلفة. فقررت "الجماعة" إقامة مؤتمر بهذه المناسبة تحت عنوان "الإسلام منهج حياة"، بهدف التعريف بمركز قرطبة الإسلامي الجديد، والمشاركة في ذكرى بناء المسجد الجامع بطريقة إسلامية، وجعلها بداية انطلاقة جديدة إسلامية في عاصمة الخلافة الأندلسية. أقيم المؤتمر في الفترة 12 - 15/ 12 / 1987 م، في قاعة من قاعات قصر الخلافة المجاور للمسجد الأعظم وكان غذاء المؤتمرين في المركز الإسلامي. وحضر المؤتمر حوالي 150 شخص من الأندلس وخارجها، منهم كاتبه والأستاذ محمد الحلو، من المغرب، والدكتور محمد عمر جمجوم، من جدة، والشيخ الحبيب بن الخوجة مفتي تونس السابق، وقد انتخب رئيسًا للمؤتمر، والأستاذ محمد الوازاني من تطوان، وغيرهم. افتتح المؤتمر بصلاة الجمعة (5/ 12) في المركز الإسلامي تبعها الغداء، ثم محاضرة حول "أساليب الدعوة في الأندلس" لكاتبه، ثم محاضرة حول "الإسلام منهج حياة في الغرب" للمحامي المسلم الأندلسي إسماعيل خرقيرا، ثم كونت لجان حول الدعوة والتعليم والشؤون المالية والصياغة. وخصص يوم السبت للمحاضرات ساهم فيها محاضرون من البلاد العربية كالشيخ الحبيب بن الخوجة، ومن الأندلس ابن قزمان البلوطي، ومن فرنسا عائشة موجون، وغيرهم. وانتهى المؤتمر يوم الأحد 7/ 12 بالتوصيات، وباجتماع مصغر لمجلس الجماعة بحضور الضيوف غير الأندلسيين.

كان مؤتمر قرطبة ناجحًا رغم هجمات صحيفة "دياريو 16" على عادتها، والمقالات السيئة التي نشرتها مجلة "كامبيو 16" تحت عنوان مرعب "الإسلام يدخلنا". ومن أهم قرارات "الجماعة" بعد المؤتمر جعل قرطبة عاصمة "للجماعة الإسلامية في الأندلس" عوضًا عن إشبيلية، رغم أن المركز الإسلامي في إشبيلية ظل أكبر مراكز "الجماعة" الإسلامية، ومن أكثرها عددًا وأنشطها. وفي 12 - 15/ 2 / 1987 م، افتتح روجي كارودي "اللقاء العالمي الإبراهيمي" في المتحف الذي أقامه في "القلعة الحرة"، القلعة الإسلامية على ضفة الوادي الكبير بقرطبة التي قدمتها له البلدية لهذا الغرض. ولم يستدع للمؤتمر أعضاء "الجماعة" ولا حتى الذين ساهموا في المشروع بما فيهم مديره. وقررت "الجماعة" متابعة مساندة هذا المشروع الذي أسس بأموال المسلمين حتى لا يضيع نهائيًّا. وبعد لقاء قرطبة، راجعت "الجماعة" برنامجها التعليمي. وكانت في الماضي قد حرصت حرصًا كبيرًا على تيسير التعليم الإسلامي لأفرادها بإنشاء مدارس إسلامية في كل مراكزها وتوظيف معلمين من المغرب. ولم ترض "الجماعة" على نتائج هذه التجربة، لقلة العارفين بالدعوة الإسلامية واللغة الإسبانية في آن واحد، فقررت إرسال بعثات من شبابها إلى البلاد الإسلامية لتكوين أطر تعليمية من الأندلسيين أنفسهم. وهكذا وقع اتفاق بين "الجماعة" ورابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة لإرسال وفد من الشباب الأندلسي في شهر رمضان عام 1407 هـ (مايو عام 1987 م) إلى الديار المقدسة، وتنظيم حلقة تعليمية لهم مع إقامة شعائر العمرة وزيارة روضة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وذلك بتمويل من الرابطة وتطوع عدد من أساتذة جامعة الملك عبد العزيز بجدة. وقد خطط الدرس وترأسه كاتبه كأحد المتطوعين. شارك في هذا الوفد خمسة من معلمي "الجماعة"، منهم عبد الرحمن حبصاوي وزوجه رشيدة كروم (وهي معلمة كذلك)، وعبد السلام أصريح، ومحمد الوزاني، وأحمد قمقوم، ومن الشباب الأندلسي أبو ياسر رينا أندرادي، وعبد العزيز غارسيا فرناندس، ومنصور بيريز كالبينتي، ويوسف الحبيب فيغراس رولدان، وعرفات باريا باريرا. وقد حصلوا في آخر الحلقة الدراسية على شهادة. وكانت الحلقة ناجحة، عاش أثرها الأندلسيون حياة إسلامية محضة في جو شهر رمضان المبارك بالديار المقدسة: الدراسة في النهار والعبادة في الليل. مما كان فيه لهم أحسن الأثر.

وفي 10/ 5 / 1987 م، شارك "حزب التحرير الأندلسي" في الانتخابات البلدية في الأندلس، ففاز بثلاثة مقاعد في مدينة الجزيرة الخضراء من مجموع 24 مقعد، فاز منها الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني بـ 13 مقعد والائتلاف الشعبي بـ 4 مقاعد واليسار المتحد (الشيوعي) بمقعدين والوسط الديموقراطي والاجتماعي بمقعدين، والجزيرة الخضراء مدينة على مضيق جبل طارق بمقاطعة قادس يزيد عدد سكانها على المائة ألف. وممثلو "حزب التحرير الأندلسي"، الفائزون هم: أنور استبان باوتستا، وهو عمدة سابق للجزيرة الخضراء وألفونسو أرتيغا، وسلبيا آلونسو. وهكذا برهن "حزب التحرير الأندلسي" استطاعته إيصال مرشحيه إلى مقاعد المجالس البلدية. وبعد هذا النجاح، قررت "الجماعة" فتح مركز إسلامي لها في الجزيرة الخضراء بعد إقفال مركزها في دوس هرماناس لقربه من إشبيلية ولترشيد مصاريفها. وظل بذلك "للجماعة" ستة مراكز في المدن التالية: إشبيلية وقرطبة وشريش ومالقة ومرسية والجزيرة الخضراء. ثم حاول "حزب التحرير الأندلسي" المشاركة في انتخابات منطقة استرمادورا بمقاطعة بطليوس مطالبًا بضمها مع منطقة مرسية لمنطقة الأندلس. ولم يسمح له بالمشاركة بحجة أن مرشحيه ليسوا من سكان المقاطعة. فقدم "الحزب" شكوى بلجنة بطليوس الانتخابية إلى المحكمة التشريعية التي أكدت قرار اللجنة. وفي 10/ 7 / 1987 م، تقدم "الحزب" لانتخابات البرلمان الأوروبي، معلنًا أن "الأوروبية" ربما أدت إلى العنصرية وقطع شعوب أوروبا، خاصة الشعب الأندلسي، عن الشعوب الإسلامية المجاورة. فحصل على 9.881 صوت، منها 3.533 صوت في الأندلس، و 2.081 صوت في قطلونية، و 1.232 صوت في بلنسية، و 2.935 صوت في مناطق إسبانيا الأخرى. فبرهنت هذه النتائج على أن الأفكار الإسلامية لها صدى في المجتمع الأندلسي ومساندين رغم ضعف الإمكانات. وتابعت "الجماعة" نشاطها الثقافي والإعلامي، منها، منذ يونيو عام 1987 م، نشر ورقة "الدعوة" الإعلامية بين أفرادها. وفي 28 - 29/ 6 / 1987 م، قام وفد من "الجماعة" بالمكوث على أبواب مسجد قرطبة الكبير في ذكرى سقوط قرطبة بتاريخ 29/ 6 / 1236 م، وذلك كما قال ابن قزمان البلوطي، أحد منظمي "المكوث"، لأن "احتلال قرطبة في الذاكرة الأندلسية" هو "مثال تاريخي للتعدي على شعب بالقوة وإزاحة الحضارة الإسلامية الأندلسية لمدة 751 سنة وإحلال محلها الثقافة النصرانية

القشتالية"، وأن "المكوث" هو "التركيز 24 ساعة على السلام والحوار بين الشعوب، وبرهنة أن الفكر الأندلسي هو دائمًا فكر تعاون وسلام، وأننا مستعدون لمد يدنا لأي جماعة من أي جنس أو دين أو ثقافة، مثلما كنا في العصور الماضية". وقام المسلمون بالصلوات الخمس جماعة في الشارع بداية من مغرب يوم 29/ 6. ثم قررت "الجماعة" معارضة الاحتفالات بسقوط المدن الأندلسية في يد النصارى في كل مدن الأندلس. وهكذا بعد قرطبة، في 19/ 8 / 1987 م، عارضت "الجماعة" الاحتفال الرسمي بذكرى سقوط مالقة، وردّت على عمدة المدينة قائلة بأن هذا الاحتفال شتيمة للشعب الأندلسي المعاصر لذكرى أجداده والاحتفال بمذبحة شعب آمن. وساند حزب "اليسار المتحد" الموقف الإسلامي وقاطع الاحتفالات. وفي 23/ 11 / 1987 م، ذكرى سقوط إشبيلية، قامت "الجماعة" بمظاهرة غنت فيها النشيد الوطني الأندلسي. وساند المسلمين الحزب القومي الأندلسي واليسار المتحد واللجان العمالية. وصرح المسلمون أن من العيب أن تحضر شخصيات أندلسية هذا الاحتفال الذي هو "عمل كاثوليكي عسكري يحتفل بذكرى مذبحة أهل إشبيلية". وفي 4/ 12 / 1987 م، ذكرى "يوم الأندلس"، نظم "حزب التحرير الأندلسي" و"الجماعة الإسلامية في الأندلس" مظاهرة سلمية في قرطبة. فاجتمع المتظاهرون في "ساحة كولون" في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، حاملين الأعلام الأندلسية، واتجهوا نحو المسجد الجامع. وساندت "النقابة الأندلسية للعمال" ومنظمات أخرى هذه التظاهرة، فنجحت بذلك "الجماعة" أن تتزعم الحركة القومية الأندلسية. وبعد هذه المظاهرة، وقع اصطدام بين روجي كارودي و"الجماعة الإسلامية في الأندلس". فخيّر كارودي عبد الرحمن مدينة بين بقائه في "الجماعة" وبين "بقائه كمدير متحف القلعة الحرة". ولما رفض عبد الرحمن ترك جماعته، طرده كارودي من عمله في 21/ 12 / 1987 م، وعين محله راهبًا سابقًا ليس له علاقة بالأندلس وتاريخها فقدم موظفو المتحف المسلمون استقالتهم، وتظاهر مسلمو قرطبة ضد كارودي واتهموه بخيانة المسلمين الأندلسيين، وتابعوه في المحكمة طالبين منه حقوق عبد الرحمن مدينة. ثم هدأت الأحوال واتبع كل واحد من الطرفين طريقه. ولم تؤثر أزمة "الجماعة" مع كارودي في نشاطها. ففي 2/ 1 / 1988 م، عارض المسلمون حفلات ذكرى سقوط غرناطة، وتظاهروا هذه المرة ضد الاحتفال الذي

تصر الكنيسة والدولة على إحيائه رغم المعارضة. وفي 23/ 1 / 1988 م، أعلنت حكومة الأندلس المحلية أن "مؤسسة الإسلام والأندلس" مؤسسة ذات مصلحة عامة للمجتمع. وفي فبراير سنة 1988 م، ابتدأت "الجماعة" بإرسال بعثات طلابية لتعلم الإسلام واللغة العربية في البلاد الإسلامية، فأرسلت أول بعثة من خمسة طلاب إلى الجامعة الأردنية، لمدة سنتين ونصف، اثنان منهم من قرطبة، وواحد من مرسية، وواحد من شريش، وواحدة من إشبيلية. وقد توسع هذا البرنامج حتى أصبح عدد المبعوثين يقارب الأربعين إلى عدة بلدان إسلامية، عربية وغير عربية. وفي مستهل سنة 1988 م ط قامت "الجماعة" بتنظيم مظاهرات في مدن الأندلس المختلفة لمساندة الانتفاضة الفلسطينية. ففي 21/ 3 / 1988 م، أقيم الحفل في "دار الشباب" بمدينة المرية حضره عدة آلاف من شباب المدينة وألقيت فيه الخطب والمحاضرات. وفي الحقبة 15 - 22/ 4 / 1988 م، أقيمت التظاهرات في "مركز خوان 23 الثقافي" بقرطبة حضرها عدة آلاف من الأشخاص لمدة أسبوع كامل. وتبع هذا النشاط، فتح مركز إسلامي جديد "للجماعة" في المرية، فأصبح مركزها السابع. وفي أبريل سنة 1988 م، اشتركت "الجماعة" و"حزب التحرير الأندلسي" في قرطبة في التظاهرة ضد دفن النفايات النووية في منطقة "الكبريل" بمقاطعة قرطبة. وفي 29/ 6 / 1988 م، مناسبة سقوط قرطبة، طلبت "الجماعة" من أنطونيو إنفانتس فلوريدو، مطران قرطبة، الإذن بإقامة الأذان وصلاة المغرب والخطبة داخل المسجد الجامع. فرفض المطران بحجة أنه "لا يمكنه أن يسمح بصلاة غير نصرانية في كتدرائية كاثوليكية". لكن "الجماعة" رأت أن قرار المطران مبني على "حق مأخوذ بالقوة والتسلط"، وقررت إقامة الصلاة في الشارع أمام المسجد في التاريخ المذكور. وفي الأسبوع 15 - 22/ 6 / 1988 م، قامت جماعة الجزيرة الخضراء بأول نشاط لها على المجال الأندلسي، وهو تقديم معرض صوتي وبصري حول مدينة الزهراء وتاريخها وآثارها. وبهذا النشاط ابتدأ المركز الإسلامي بالجزيرة الخضراء سلسلة من النشاطات الثقافية الهامة.

11/ 5 - العلاقة مع الشتات الأندلسي:

وهكذا تعددت أوجه نشاطات "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، وأخذت تفكر في تقوية علاقاتها خارج إسبانيا وداخلها. أما خارجها، فبإقامة روابط الأخوة بالجماعات الإسلامية بصفة عامة، وبالشتات الأندلسي بصفة خاصة. أما في الأندلس، فبالتعاون مع كل القوى الحية الأندلسية بصفة عامة، وبالجمعيات الإسلامية الأخرى بصفة خاصة. كما أخذت "الجماعة" تفكر في تأسيس مراكز أبحاث ونشر المجلات. كما ظلت "الجماعة" حريصة على تقوية صفها، وعدم السماح لأحد أن يشتت وحدتها. 11/ 5 - العلاقة مع الشتات الأندلسي: منذ النصف الثاني من سنة 1988 م، أخذت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" بربط علاقتها بالشتات الأندلسي، خاصة في إفريقيا وجنوب أمريكا. ففي 14/ 7 / 1988 م، استدعت "الجماعة" السيد إسماعيل بن عثمان بن بركة من قبيلة "الآرما"، وهي قبيلة متأصلة من الجيش المغربي الأندلسي الذي غزا تمبكتو برئاسة الأندلسي جودر في القرن السابع عشر الميلادي، لإلقاء سلسلة من المحاضرات في المركز الإسلامي بقرطبة، حضرها جم غفير من القرطبيين. وقد حضر إسماعيل وكاتبه احتفال عيد الأضحى في قرطبة، كما حضره عدد كبير من مسلمي قرطبة. وفي 3/ 8 / 1988 م، أقامت بلدة قسطلة (مقاطعة قادس) حفلاً تكريميًّا لسيدي الوالد، الشيخ محمد المنتصر الكتاني، حيث أعطت اسمه للشارع الرئيسي بالبلدة، فأصبح يسمى "شارع المنتصر الكتاني"، تكريمًا له لخدمته للجماعة الإسلامية بالأندلس ومساعدة الأندلسيين في استعادة شخصيتهم وهويتهم وحضارتهم. ولقد سلم المجلس البلدي لكاتبه، ممثلاً عن السيد الوالد، رسالة رسمية تقول إن المجلس اتخذ هذا القرار "اعترافًا للحب والمساعدة التي أظهرها الأستاذ الكتاني للأندلس". وقد حضر كاتبه قسطلة، كما حضر شقيقه محمد الزمزمي، وعدد من المسلمين الأندلسيين. وأقام العمدة حفلاً للضيوف في إحدى فنادق البلدة بهذه المناسبة التي اتخذتها البلدة يوم عيد. وكان هذا التكريم للسيد الوالد هو في الحقيقة تكريمًا "للجماعة الإسلامية في الأندلس" التي حرصت على الاعتراف بالجميل للسيد الوالد الذي أبدى لها النصح والتشجيع منذ بداية نشاطها. ثم نظم مركز الجزيرة الخضراء الإسلامي التابع "للجماعة"، أسبوعًا ثقافيًّا أندلسيًّا بمدينة طريف المجاورة، شاركت فيه أجواق أندلسية من الأندلس والمغرب،

كما قُدم فيه فن البناء والطبخ الأندلسيين. وقد حضر احتفال الافتتاح عمدة طريف وعمدة سبتة والمدن المجاورة للجزيرة الخضراء. وفي 23/ 11 / 1988 م، تظاهر مسلمو "الجماعة" بمعارضة احتفالات ذكرى سقوط إشبيلية في يد النصارى برئاسة فراندو الثالث، ملك قشتالة. وفي أوائل ديسمبر شاركت "الجماعة" عبر مركزها الإسلامي بمرسية في ندوة حوار بين الديانات الإسبانية، كما احتفل المسلمون في 4/ 12 / 1988 م في قرطبة بيوم الأندلس على عادتهم. وفي آخر شهر ديسمبر استدعت "الجماعة"، في إطار ربط علاقتها بالشتات الأندلسي، الشاب المهندس رضوان الرشيكو، من بلدة سليمان بتونس، وهو من سلالة أبي عبد الله، آخر ملوك غرناطة. ومكث رضوان في ضيافة "الجماعة" مدة شهر، زار إبانها المراكز الإسلامية المختلفة وألقى المحاضرات عن الهجرة الأندلسية إلى تونس. وفي 2/ 1 / 1989 م، شارك في معارضة "الجماعة" لاحتفالات سقوط غرناطة بدخول قصر الحمراء رافعًا العلم الأندلسي على رأس جماعة من الأندلسيين، في استرجاع رمزي لقصر الحمراء. ومنذ سنة 1988 م، أخذت "الجماعة" تفكر في عقد مؤتمر عالمي أندلسي إسلامي تجمع فيه الشتات الأندلسي بالمسلمين الأندلسيين في أرض الأندلس، يكون فاتحة للتعاون بين من بقوا في الأندلس ورجعوا إلى الإسلام ومن طردوا من بلادهم وبقيت الأندلس حية في أشخاصهم وفي قلوبهم. وفي 25/ 1 / 1989 م، أعلن قرار عقد المؤتمر رسميًّا في الصحافة الإسبانية بتاريخ 1 - 3/ 9 / 1989 م في بلدة قسطلة (مقاطعة قادس). ثم تكونت لجنة لتهيىء المؤتمر برئاسة محمد رميرز فرج، والي "الجماعة" على فرع الجزيرة الخضراء. وفي 10/ 3 / 1988 م، أقام هذا الأخير مؤتمرًا صحفيًّا في أحد فنادق الجزيرة الخضراء الكبرى، فسّر فيه للصحافيين أهداف المؤتمر وأهميته، مما كان له الأثر الطيب في الصحافة الإسبانية، ورددت صداه الصحافة المغربية الناطقة بالفرنسية. وفي سنتي 1988 م و 1989 م، كلفت الحكومة الإسبانية "الجماعة" بالمشاركة في تعليم العاطلين عن العمل وتأهيلهم. وهكذا نظمت "الجماعة" نفسها، ونجحت في إعطاء دروس للمئات من المواطنين بتمويل من الدولة في مراكزها بإشبيلية وقرطبة

ومالقة ومرسية والجزيرة الخضراء في اختصاصات مختلفة، بما فيها تعليم اللغة العربية كلغة من اللغات القومية الإسبانية، لكونها لغة الأندلس القديمة. وفي 19/ 6 / 1989 م، شارك "حزب التحرير الأندلسي" في الانتخابات الأوروبية، فحصل على 9.419 صوتًا في كل إسبانيا، أي أقل بـ 462 صوت من عدد الأصوات المحصلة في انتخابات سنة 1987 م، منها 2.216 صوت من الأندلس و 1.999 صوت من قطلونية و 5.204 صوت من مناطق إسبانيا الأخرى. ولم ترض هذه النتيجة لا "الجماعة" ولا أعضاء "حزب التحرير الأندلسي". فاجتمع مجلس الجماعة في الجزيرة الخضراء يوم السبت 15/ 7 / 1989 م وتدارس فائدة العمل السياسي في الوقت الراهن، موازيًا محاسنه بمساوئه. وكان رأي الأكثرية أن هدف تأسيس "حزب التحرير الأندلسي" كان التعريف بالمبادىء الإسلامية والهوية الأندلسية لأكبر عدد من الأندلسيين، وأن عدد المقتنعين بهذه الأفكار لم يزدد حسب الانتخابات بينما ازدادت أعداد أعداء "الجماعة" بسبب الحركة السياسية. لذا رأوا أن مضار "الحزب" في الوقت الراهن هي أكثر من محاسنه، فقررت "الجماعة" أن تطلب من "الحزب" أن يلغي نفسه، فصوت بالأكثرية قرار إلغاء "حزب التحرير الأندلسي"، وقررت "الجماعة" التعاون مع كل الأحزاب السياسية التي تعطف على الشعب الأندلسي والهوية الأندلسية والمبادىء الإسلامية. وفي 14/ 7 / 1989 م، اعترفت "اللجنة الاستشارية للحرية الدينية" في إسبانيا بالإجماع بالإسلام كدين ذي جذور إسبانية وثيقة. ويعني هذا الاعتراف بالدين الإسلامي بعد سقوط غرناطة بـ 497 سنة، وبعد الطرد الكبير بـ 380 سنة، حصول المسلمين على نفس المساعدات التي تحصل عليها الأديان الأخرى المعترف بها، كالكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية، شرط أن تتوحد جميع الجماعات الإسلامية في إسبانيا في اتحاد للتعامل كمسلمين مع السلطة الإسبانية بصوت واحد. وفي نفس الشهر، أسست "الجماعة" في قرطبة مركزًا للدراسات الأندلسية، ومجلة "لام ألف". وهي مجلة إسلامية علمية ذات مستوى رفيع تقدم باللغة الإسبانية أبحاثًا أندلسية إسلامية ومواضيع تهم الحاضر والتاريخ والهوية الأندلسية. رئيس تحرير المجلة هو عبد الرحمن مدينة مليرة ومدير النشر هو عبد الرحمن محمد معنان الحبصاوي. وقد نشرت الجماعة 5.000 نسخة للمجلة التي ظهر منها لحد منتصف سنة 1991 م خمسة أعداد.

وفي أوائل آب سنة 1989 م، زار بعض مراكز "الجماعة" في الجزيرة الخضراء وشريش وإشبيلية وقرطبة ومالقة وفد من المفكرين السعوديين منهم الأساتذة كامل سلامة الدقس، نائب أمين عام رابطة العالم الإسلامي، وخليل محمد حمد، أمين عام هيئة الإغاثة الإسلامية بالكويت، ومحمد عمر جمجوم، أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وحامد الرفاعي مستشار برابطة العالم الإسلامي. وفي يوم الجمعة 1/ 9 / 1989 م، افتتح "المؤتمر الأندلسي الأول" في مقر المريمة ببلدة قسطلة (مقاطعة قادس) بآيات من القرآن الكريم بقراءة الحسن ابن كاتبه، ثم النشيد الوطني الأندلسي بحضور أنطونيو كونزالس اسبينوزا، عمدة قسطلة، وأنطونيو رويز خمينيس، عمدة طريف، ومحمد رميرز فرج، رئيس اللجنة المنظمة للمؤتمر، وعبد الرحمن محمد معنان الحبصاوي، رئيس مجلس "الجماعة الإسلامية في الأندلس"، كما حضر المؤتمر ما يزيد عن المائتين من أعضاء "الجماعة" وأصدقائها، وحوالي مائة ممثل عن الجاليات الأندلسية في الشتات الأندلسي، منهم الدكتور عبد الكريم كريم ممثلاً عن جمعية رباط الفتح، وعائلته، وكاتبه وعائلته، وأندلسيون من تونس على رأسهم رضوان الرشيكو ومن الجزائر والمكسيك وتركيا وغيرها من البلاد. وغطى المؤتمر أكثر من 30 صحافيًّا من عدة دول. وكان الجميع مقيمًا في مقر المؤتمرات بالمريمة، حيث أقيمت الصلوات الخمس جماعة في مسجد هيأ للمناسبة، طيلة أيام المؤتمر. وبعد الحفل الافتتاحي، تقدم عبد الرحمن معنان بالترحيب بالحاضرين ثم قدم رؤساء الوفود كلمات جمعياتهم: رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وجمعية رباط الفتح بالرباط، ومركز الدراسات الإسلامية بمربلة، وكلية العلوم الإسلامية بإسطنبول، ومسجد باريز بفرنسا، والجمعية الثقافية الإسلامية بتطوان، وغيرها من الجمعيات. ثم قدم في الجلسة الأولى عبد الرحمن مدينة بحثًا عن الجذور الأندلسية وتاريخ الأندلس، وفرنسيسكو سانشس روانو عن الأندلسيين في جزيرة أقريطش، وحاج الدين ساري الغوشي (جزائري من فرنسا) عن التصوف في الأندلس، ثم أقيمت صلاة الجمعة بإمامة عبد الرحمن معنان. وقدم كاتبه بحثًا في الجلسة الثانية عن الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية المعاصرة، كما قدم الأستاذ محمد بن شقرون (من الدار البيضاء) بحثًا في الأدب الأندلسي. وبعد المناقشات، توجه المؤتمرون إلى بلدة طريف حيث صلوا صلاة المغرب في الساحة العامة، ثم استقبلهم العمدة والمجلس

البلدي ورحبوا بهم، ثم استقبلتهم "مدرسة جنوب أوروبا للفنون" حيث أقام لهم فيها مديرها، هارون قومس دي أبلانيدا (عضو في الجماعة)، عشاء فاخرًا. وفي يوم السبت، افتتحت الجلستان الثالثة والرابعة للمؤتمر بمحاضرة الأستاذ إدريس بن محمد بن جعفر الكتاني عن الثقافة الأندلسية، وأخرى لكارلوس بوساكمون عن الآثار الأندلسية، وثالثة للشيخ علال البشر عن الواقع الأندلسي، ورابعة للمهندس رضوان الرشيكو عن الهجرة الأندلسية إلى تونس، وخامسة للأستاذ المأمون الفاسي الفهري عن تاريخ عائلة أندلسية في المغرب، وسادسة للأستاذ خابير كبلو لارا، وسابعة للأستاذ جعفر بن محمد الزمزمي الكتاني عن الشتات الأندلسي، وثامنة للشريف علي الريسوني، من شفشاون، وتاسعة للأستاذ علي أوزاك، من جامعة إسطنبول بتركيا. وانتهى برنامج اليوم بزيارة إلى قشريش (مقاطعة مالقة)، بلدة بلاس إنفانتي، فأقام جميع سكان البلدة وعلى رأسهم عمدتها احتفالاً رائعًا بالمؤتمرين. انتهى المؤتمر يوم الأحد بتأسيس مجلس أعلى أندلسي يجمع بين أهل المهجر وأهل الأندلس، انتخب له رئيسان (محمد رميرز فرج وكاتبه) وحدد له مهام تقوية الثقافة الأندلسية في المهجر، وربط أبناء السلالات الأندلسية بإخوانهم في الأندلس. كما تقرر عقد المؤتمر الثاني في الرباط والثالث في إشبيلية وتأسيس جامعة إسلامية في قرطبة، عينت لها لجنة منظمة، من بين أعضائها كاتبه. وفي 18/ 11 / 1989 م، عقدت أول اجتماعها في مقر "الجماعة" بالجزيرة الخضراء. ولقد حصل المؤتمر على تغطية جيدة في الصحافة الإسبانية والتلفزيون والراديو. وكان له الأثر الطيب، خاصة في منطقة الأندلس، كما غطي المؤتمر تغطية لا بأس بها في المغرب. وقامت "الجماعة الإسلامية في الأندلس" بمجهود كبير في تنظيم هذا المؤتمر وعملت على تمويله دون مساعدة. وفي الأسبوع 1 - 8/ 2 / 1990 م، زار وفد من "مؤسسة الإسلام والأندلس" حكومة مرسية، واجتمع مع وزير الثقافة بها للمساهمة في ذكرى الشيخ محيي الدين ابن عربي الذي تود مدينة مرسية إحياءه. كما زار الوفد بلدة بليش مالقة، عاصمة منطقة الشرقية (مقاطعة مالقة) واجتمع بخوزي منويل سلسيدو عمدتها، للمساهمة في إحياء الثقافة الأندلسية الإسلامية بها، وكان كاتبه صحبة الوفد. ثم ألقى كاتبه محاضرة عن المسلمين في الاتحاد السوفياتي بقرطبة، حضرها جم غفير.

وفي الحقبة 3 - 5/ 5 / 1990 م، أقامت "الجماعة" بمركزها بقرطبة مؤتمراً للحوار الديني بين عدة ديانات إسبانية، حضره عدد كبير من أهل البلد، كان مناسبة هامة لتقديم الإسلام للحاضرين. وفي يوليوز سنة 1990 م، فتحت "الجماعة" مركزها الثامن في مدينة قبرة، جنوب مقاطعة قرطبة. كما تابعت "الجماعة" الحوار مع الجماعات الإسلامية الأخرى في إسبانيا لتأسيس اتحاد شامل لمسلمي إسبانيا يكون فيه الدور الفعال لأهل البلد من الأندلسيين. كما استطاعت الجماعة الحصول على بيت "جماعة قرطبة الإسلامية" وضم أعضائها إليها، وبهذا لم يضع المجهود الأول الذي بسببه ابتدأ النشاط الإسلامي في قرطبة. هذا هو المجهود الضخم الذي قامت به "الجماعة الإسلامية في الأندلس" في ظرف عشر سنوات من العمل الشاق، حتى أصبحت أهم جماعة إسلامية منظمة في إسبانيا. وذلك بدون عون يذكر من العالم الإسلامي، بل رغم كثير من المثبطات والعراقيل التي جعلتها بعض الجمعيات الإسلامية الوافدة في طريقها. وللجماعة أمل كبير في أن تتابع مسيرتها حتى يصبح الإسلام حي ورائد من جديد في أرض الأندلس المجاهدة، بإذن الله.

مراجع الفصل الحادي عشر

مراجع الفصل الحادي عشر 11/ 1 - Claudio Sanchez Albornoz "Los Neuves Musulmanes Andaluces" Diario - 16 (Madrid) , 3 / 5 / 1982. 11 / 2 - Claudio Sanchez Albornoz "En el Haren del Califa" Diario - 16, 18 / 5 / 1982. 11 / 3 - Josquin Ibarz "El Coran. Una Pantalla Para Lograr Objectivos poco Claros" La Vanguardia (Barcelona) , 11.12. 13 / 8 / 1982. 11 / 4 - Antonio Medina Molera "Milenarismo y Misterio Andaluz" Diario - 16, 10 / 12 / 1982. 11 / 5 - "El Ayuntamiento Sevillano se Niega a Apoyar un Homenaje a Al - Mu'tamid" Diario - 16, 6 / 10 / 1983. 11 / 6 - "El Ayuntamiento Sevillano Cedera un Local por el Homenaje a Al - Mu'tamid" Diario - 16, 7 / 10 / 1983. 11 / 7 - "Los Musulmanes Rezaron por Al - Mu'tamid en la Torre del Oro" Diario - 16, 15 / 10 / 1983. 11 / 8 - "Al - Mu'tamid, Ultimo Rey Arabe de Sevilla, Homenajeado al Pie de la Torre del Oro" ABC, 16 / 10 / 1983. 11 / 9 - "Manana Comienza la I Semana de Cultura Andalusi Organizada por un Grupo de Andaluces Musulmanes" Diario Sur, 27 / 11 / 1983. 11 / 10 - "Granada Conmemoro el 492 Aniversario de la Toma de la Ciudad por los Reyes Catolicos" Diario de Granada, 3 / 1 / 1984. 11 / 11 - Francisco Vigueras "Reconstruir Al - Andalus" Diario de Granada, 3 / 1 / 1984.

11/ 12 - " Un Grupo Islamico: la Otra Cara de la Toma" El Defensor, 3 / 1 / 1984. 11 / 13 - "Presentation de la Comunidad Musulmana Al - Andalus" Diario de Cadiz, 15 / 5 / 1984. 11 / 14 - Angela J. Maldonado "El Islam se Apederara de Al - Andalus Hasta que Vuelva a Ser lo que Era" Diario de Granada, 21 / 7 / 1984. 11 / 15 - Elisa Nunez "Queremos Hacer de Andalucia una Comunidad Isla - mica" El Defensor, 31 / 7 / 1984. 11 / 16 - "Con un Mensaje del Rey Comenzaron en Sevilla las Jornadas so - bre el Islam" ABC, 11 / 9 / 1984. 11 / 17 - Diario - 16, 10 / 10 / 1983. 11 / 18 - Juan Enrique Gomez "Los Grupos Islamicos Espanoles Preparan ya la Reconquista" Tiempo, 27 / 5 / 1985. 11 / 19 - Alvaro Vega "Marruecos esta Estructurando una Red de Espionaje sobre el Sur de Espana" Diario - 16, 9 / 6 / 1985. 11 / 20 - Alvaro Vega "El Principal Responsable, el Abogado Lahlou Tiene Accesso Al Monarca Alauita, Hassan II" Diario - 16, 10 / 6 / 1985. 11 / 21 - Juan Teba "Canapes para un Espia" Diario - 16, 11 / 6 / 1985. 11 / 22 - "Musulmanes Sevillanos Confirman que Hay una Red Andaluza de Espias Marroquies" Diario - 16, 10 / 6 / 1985. 11 / 23 - Ignacio Romero de Solis "Ahora, una de Espias" ABC, 11 / 6 / 1985. 11 / 24 - "Antonio Medina Niega Cualquer Tipo de Relation" Diario - 16, 10 / 6 / 1985. 11 / 25 - Manuel Prados "Abderraman Medina Asegura que no Es un Espia de Marruecos" Diario de Granada, 11 / 6 / 1985. 11 / 26 - "Creo Que Hay una Ofensiva de Sectores Sionistas de PSOE con - tra El Islam" Diario - 16, 17 / 6 / 1985. 11 / 27 - "Ali Kettani y Muhammad Lahlou Rectifican" Diario - 16, 31 / 7 / 1985. 11 / 28 - "Comunidad Islamica de Espana Advierte a la Junta sobre la Con - ducta de Medina" Diario - 16, 13 / 7 / 1985. 11 / 29 - "Manana, I Congreso International de Musulmanes Europeos" El Correo de Andalucia, 18 / 7 / 1985.

11/ 30 - Jose Maria Gomez "El Califa de Triana" El Correo de Andalucia, 16 / 10 / 1985. 11 / 31 - Fauto Botello "Pobre Almotamid" El Correo de Andalucia, 17 / 10 / 1985. 11 / 32 - Antonio Burgos "Almotamid Como Pretexto" ABC, 19 / 10 / 1985. 11 / 33 - Alfredo Valenzuela "Los Musulmanes Quieren Tener Representa - tion en el Parlamento Europeo" El Pais, 23 / 7 / 1985. 11 / 34 - Guillermo Lopez - Vera "La Comunidad Islamica Prepara un Parti - do Piolitico" El Diario de la Costa del Slo, 30 / 11 / 1985. 11 / 35 - مرزوق هلال "جامعة إسلامية في قرطبة مكان إحدى قلاع الأندلس"، الأخبار، 31/ 2 / 1986 م. 11/ 36 - " Cordoba Sera Sede de la Futura Union International de Musul - manes Europeos" Cordoba, 26 / 5 / 1986. 11 / 37 - "Los Musulmanes Quieren que Se Cumplan Las Capitulaciones" El Dia de Granada, 5 / 6 / 1986. 11 / 38 - "Liberacion Andaluza Exige la Vuelta de Los Exiliados de Al - An - dalus" El Correo de Andalucia, 3 / 6 / 1986. 11 / 39 - "Los Musulmanes Celebran en Cordoba el XII Centenario de la Mezquita" Cordoba, 6 / 12 / 1986. 11 / 40 - Sebastian Cuevas "Servicios de Informacion han Vigiado el Congre - so Islamico que Hoy Concluye" Diario - 16, 7 / 12 / 1986. 11 / 41 - "El Islam Nos Penetra" Cambio - 16, 9 / 2 / 1987. 11 / 42 - " مشروع جارودي في قرطبة يستحق الدعم" الشرق الأوسط، 7/ 3 / 1987 م. 11/ 43 - "دورة تدريبية مكثفة في السيرة والعلوم الإسلامية، جريدة المدينة، 27/ 6 / 1987 م. 11/ 44 - "المئات يعتنقون الإسلام في إسبانيا لسماحته" جريدة المدينة، 20/ 6 / 1987 م. 11/ 45 - " Liberacion Andaluza" El Pais, 7 / 5 / 1987. 11 / 46 - El Ex Alcalde Francisco Esteban Encabeza la Lista de Liberacion Andaluza - Cadilatura por Algesiras" Diario Sur, 2 / 5 / 1987.

11/ 47 - Liberacion Andaluza Obtiene en Algesiras Tres Concejales" El Correo de Andalucia, 12 / 8 / 1987. 11 / 48 - Liberacion Andaluza Quiere la Fusion de Badajoz y Murcia en Andalucia" Correo de Andalucia, 7 / 5 / 1987. 11 / 49 - Rechazada La Candidatura de Liberacion Andaluza en Badajoz" Hoy de Badajoz, 12 / 5 / 1987. 11 / 50 - "Liberacion Andaluza Volvio a Recurrir" Diario de Extremadura, 19 / 5 / 1987. 11 / 51 - "Liberacion Andaluza se Propone Lograr la Independencia y la Re - cuperacion de Murcia" Diario - 16, 23 / 5 / 1987. 11 / 52 - "Liberacion Andaluza Considera que el Europeismo es una Concep - cion Nefasta de la Vida" Diario Sur, 28 / 5 / 1987. 11 / 53 - C. Aumente "Musulmanes Andalusies Recuerdan Junto a la Mez - quita la Conquista de Cordoba" Cordoba, 30 / 6 / 1987. 11 / 54 - "Francisco Acedo "Malaga Afronte su Pasado desde la Feria" La Vanguardia, 30 / 8 / 1987. 11 / 55 - Jose Bejarano "Los Nationalistas Interrumpen un Acto en la Cate - dral de Sevilla" La Vanguardia, 3 / 11 / 1987. 11 / 56 - "El Ayuntamiento Conmemoro Ayer la Conquista de la Ciudad" El Correo de Andalucia. 24 / 11 / 1987. 11 / 57 - Liberacion Andaluza Convoca en Cordoba una Manifestacion" Nuevo Diario, 5 / 12 / 1987. 11 / 58 - "Manifestacion de LA para el Dia de Andalucia" Cordoba, 5 / 12 / 1987. 11 / 59 - Carmen Garijo "Cesado Antonio Medina Como Conservador de la Torre de la Calaborra" Nuevo Diario, 22 / 12 / 1987. 11 / 60 - Juan M. Niza "Los Empleados de la Torre de la Calaborra Presen - tan su Dimision" Diario Cordoba, 24 / 12 / 1987. 11 / 61 - "El Colectivo Musulman Cordobes Tacha de Traidor a Garaudy" Nuevo Diario, 18 / 1 / 1988. 11 / 62 - Maria Olemo "La Yamaa Islamica Acusa a Garaudy de Traicionar a Los Musulmanes Andaluces" Cordoba, 18 / 1 / 1988.

11/ 63 - C. Aumente "Abderraman Medina Reclama su Puesto de Trabajo Como Tecnico en la Calaborra" Cordoba, 22 / 1 / 1988. 11 / 64 - "Independentistas Andaluces Alteraron la Conmemoracion de la Toma de Granada" Ideal, 3 / 1 / 1988. 11 / 65 - فيصل شبول "الشعب تلتقي طلابًا من إسبانيا في الأردنية أشهروا إسلامهم" الشعب، 13/ 2 / 1988 م. 11/ 66 - " Hoy Acto Publico en Apoyuo a la OLP" Ideal 21 / 3 / 1988. 11 / 67 - "Manifestacion en Solidaridad con el Peublo Palestino" Nuevo Dia - rio, 16 / 4 / 1988. 11 / 68 - Sebastian Cuevas "Quinientas Personas se Manifestaron Ayer Con - tra el Cementerio Nuclear de El Cabril" Diario - 16, 10 / 4 / 1988. 11 / 69 - Sebastian Cuevas "Musulmanes Piden la Mezquita para Conme - morar su Derrota" Diario - 16, 18 / 6 / 1988. 11 / 70 - "El Obispo no Accede a la Peticion de la Comunidad Islamica" Nuevo Diario, 28 / 6 / 1988. 11 / 71 - "Musulmanes Oran Frente la Mezquita" Nuevo Diario, 30 / 6 / 1988. 11 / 72 - "Clausurada Exposicion sobre Medina Azahara" Diario - 16, 23 / 6 / 1988. 11 / 73 - "El Primer Eercito que Atraveso El Sahara era de Origen Andalu - si" Nuevo Diario, 15 / 7 / 1988. 11 / 74 - Sole Guinea "En Cordoba, Tambien se Esta Celebrando la Fiesta del Cordero" Cordoba. 26 / 7 / 1988. 11 / 75 - "El Ayuntamiento Aprueba Conceder el Nombre de Muntaser Ket - tani a una Calle" Diario de Cadiz, 4 / 8 / 1988. 11 / 76 - Isidoro Jimenez "Finaliza Hoy la Primera Semana Andalusi de Tarifa" El Pais, 21 / 8 / 1988. 11 / 77 - "El Ayuntamiento Conmemora Hoy la Conquista de Sevilla" Cor - doba, 23 / 11 / 1988. 11 / 78 - "Un Obispo, Tres Pastores y Un Musulman" La Opinion de Mur - cia, 3 / 12 / 1988. 11 / 79 - Maria Victoria Madrid "Liberacion Andaluza Celebro el Dia de la Patria Andalusi" Nuevo Diario, 5 / 12 / 1988.

11/ 80 - Jesus Cabrea "Un Descendiente de Boabdil Recorre Andalucia Bus - cando su Identidad" Nuevo Diario, 20 / 12 / 1988. 11 / 81 - Juan Enrique Gomez "Ridwan Rachico, Descendiente de Boabdil, Tremolo la Bandera de Al - Andalus desde la Torre de la Alhambra" Ideal (Granada) , 3 / 1 / 1989. 11 / 82 - "Se Celebrara el I Congreso Mundial Andalusi que Tendra Como Sede Castellar" ARES, 25 / 1 / 1989. 11 / 83 - "Presentado en Algesiras el I Congreso Mundial Andalusi" Sur, 13 / 3 / 1989. 11 / 84 - "La Diaspora Andalouse s'Organise" Le Matin du Sahara, 14 / 3 / 1989. 11 / 85 - "El Partido Liberacion Andaluza Anuncia su Dislucion por Proble - mas Economicos y de Falta de Apoyo" Diario de Cadiz, 19 / 7 / 1989. 11 / 86 - "La Comision de Libertad Religiosa Reconoce Oficialmente la Con - fesion Musulmana" El - Pais, 15 / 7 / 1989. 11 / 87 - "Una Delegacion de Arabia Saudi Visito el Castello de Guzman el Bueno" Europa sur, 2 / 8 / 1989. 11 / 88 - Ana Rosa Jaragua "Numerosas Personalidades de la Cultura Isla - mica se Dieron Cita en la Jarandilla" Europa Sur, 2 / 9 / 1989. 11 / 89 - "Ana Rosa Jaragua "El Congreso Mundial Andalusi Rindio Home - naje a Blas Infante" Europa Sur, 3 / 9 / 1989. 11 / 90 - "Ana Rosa Jaragua "Musulmanes y Andalusies Podran Integrarse en un Consejo Internacional" Europa Sur, 4 / 9 / 1989. 11 / 91 - Javier Martinez "La Fundacion Islam y Al - Aldalus de Algesiras Quiere Crear una Universidad" Sur, 18 / 11 / 1989. 11 / 92 - Aziz Yacoubi "Un Succes au - dela des Previsions" Le Matin su Sa - hara, 14 / 9 / 1989. 11 / 93 - J. Herrero "Reunion del Alcalde de Velez con la Fundacion Islam y Al - Aldalus" La Gacetta, 11 / 2 / 1990. 11 / 94 - "Ali Kettani: La Perestroika Favorece la Libertad de culto de los Musulmanes" Cordoba, 14 / 2 / 1990. 11 / 95 - C. Aumente "Representantes de Diez Religiones Hablan de la Mis - tica en Cordoba" Cordoba, 4 / 5 / 1990.

الفصل الثاني عشر الشتات الأندلسي اليوم

الفصل الثاني عشر الشتات الأندلسي اليوم 12/ 1 - الأندلسيون في المغرب: كانت علاقة المغرب بالأندلس وثيقة، لدرجة كان البلدان يسميان بالعدوتين: عدوة الأندلس وعدوة المغرب، كما كوّن البلدان دولة واحدة أيام الدولتين المرابطية والموحدية. وكانت الطبقة المثقفة في البلدين تكاد تكون واحدة، إذ كان ينتقل كثير من الأفراد والعائلات المغربية إلى الأندلس، وينتقل أفراد وعائلات أندلسية إلى المغرب. بينما هاجر الأندلسيون في كل الحقب إلى مدن المغرب المختلفة، ظلت ثلاثة مدن، فاس والرباط وتطوان، تحتفظ اليوم بالتراث الأندلسي في أبنائها وثقافتها أكثر من غيرها من المدن والبوادي. أما فاس فقد أسسها مولاي إدريس الأول من بلدتين، إحداهما لإيواء المهاجرين القرطبيين، من حي الربض الذي ثار على الخليفة الأموي، والثانية لإيواء مهاجري القيروان. وكانت المدينة الأولى تسمى بـ "الأندلس" والثانية بـ "القرويين"، وهما يحملان هذا الاسم إلى اليوم، وفي كل حي من الحيين مسجده الأعظم المسمى به. وظلت فاس تستقطب نخبة المهاجرين الأندلسيين، قبل سقوط غرناطة وبعدها، مباشرة أو عن طريق مدن أخرى. وأصبحت للعائلات الأندلسية الفاسية الدور الهام والرائد في المجالات العلمية والمالية والسياسية والثقافية والحرفية. وتوجد اليوم بفاس مئات العائلات الأندلسية، منها من حافظ على اسمه العجمي، ومنها من تغير اسمه، ومنها من نسب إلى مدن الأندلس وقراه. ويبين الجدول التالي بعض أشهر هذه العائلات وتاريخ انتقالها إلى فاس، وموطنها بالأندلس، ونسبتها المعروفة بها هناك:

بعض العائلات الفاسية الأندلسية الاسم الحالي: الدباغ تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 690 موطنها بالأندلس: غرناطة النسبة بالأندلس: الإدريسي الاسم الحالي: ابن عاشر تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 750 موطنها بالأندلس: شمينة النسبة بالأندلس: - الاسم الحالي: السراج تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 750 موطنها بالأندلس: رندة النسبة بالأندلس: - الاسم الحالي: ابن سودة تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 754 موطنها بالأندلس: غرناطة النسبة بالأندلس: المري الاسم الحالي: الفاسي تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 880 موطنها بالأندلس: مالقة النسبة بالأندلس: ابن الجد الفهري الاسم الحالي: القادري تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 890 موطنها بالأندلس: وادي آش النسبة بالأندلس: الشريف الحسني الاسم الحالي: صفيرة تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 993 موطنها بالأندلس: غرناطة النسبة بالأندلس: صفري الاسم الحالي: ابن الحاج تاريخ الهجرة إلى فاس (بالهجري): 1020 موطنها بالأندلس: بلفيق النسبة بالأندلس: السلمي وكان لعائلات أندلسية كثيرة دور هام في التاريخ المغربي، منها من انقرض، ومنها من لا زال قائمًا. منها من ينتسب إلى قرى ومدن ومناطق أندلسية: الإبريني (أبرينة) والأرجبي (أرجبة) والأندرشي (أندرش) والأندلسي (الأندلس) واللإشبيلي (إشبيلية) وابن سليمان الغرناطي (غرناطة) والباجي (باجة) والبرجي (برجة) والبلجي (بلج) والقرموني (قرمونة) والأطريري (أطريرة) والقمارشي (قمارش) والبلنسي (بلنسية) والبيجري (البيجر) والبيري (البيرة) والجرندي (جرندة) والرندي (رندة) والنريدة (ناردة) والطرياني (طريانة) والطليطلي (طليطلة) والمارسي (لمارس) واللوشي (لوشة) والليريني (ليرينة) والماروري (مورور) والمالقي (مالقة) والمرسي (مرسية) والشقوري (شقورة) والقرطبي (قرطبة) والشاطبي (شاطبة) والشرفي (الشرف) وصالاج (صالاص)، وبرادة، الخ ... وتحمل عدة عائلات أسماء عجمية أندلسية: باسو، بردلة، البسة، التماو، تيميرو، الطرون، اللب، اللرول، المنطرش، فنجيرو، الغندوش، قزمان، قلمون، سنكليو، الخ ... وحافظت بعض العائلات على الأسماء التي كانت تعرف بها في الأندلس: الأحمر والأبار والأزرق والأموي وابن الأمين والبلاج والبزار والبواب والبيار والبيطار والجنان والدراج وابن عزمون وابن شقرون

وابن حيون وابن جلون وابن المليح والكوي والمدجن والكاتب والغرسيس وابن فرحون وابن وعدون، الخ ... وغالبًا لا يزيد عدد أجداد الأندلسيين الموجودين بفاس إلى الجد المهاجر على العشرة. فوالدتي السيدة أم هاني الفاسي الفهري هي بنت الوزير عبد السلام بن الوزير عبد الله بن الخطيب عبد السلام بن الخطيب علال بن العالم عبد الله بن الكاتب عبد الرحمن المجذوب بن العالم عبد الحفيظ بن الكاتب العالم أحمد ابن الشيخ أبي مدين ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن الولي المشهور الشيخ عبد القادر ابن الشيخ علي بن أبي المحاسن الشيخ يوسف بن محمد بن أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن الداخل إلى فاس من مالقة سنة 880 هـ بسبب الفتنة الناشئة عن ثورة القائد محمد القرسوطي قبيل إجهاز النصارى عليها. وعبد الرحمن هذا من آل ابن الجد المشاهير المناضلين من لبلة غرب الأندلس. ومن بين الشخصيات الأندلسية في المجتمع المغربي المعاصر الأستاذ علال الفاسي الفهري رحمه الله فهو علال بن عبد الواحد بن عبد السلام جد سيدنا الجد الشيخ عبد السلام بن عبد الله الفاسي. وللأستاذ علال الفاسي دور معروف ومشكور في الحركة الوطنية المغربية. ومنهم الأستاذ أحمد بن سودة مستشار الديوان الملكي الذي له دور هام في الحركة الوطنية والإدارة المغربية بعد الاستقلال. وغيرهما كثير كما تظهر من الأسماء العائلية المذكورة أعلاه. وعمل يعقوب المنصور منذ تأسيسه للرباط على تسهيل استيطان الأندلسيين بها. غير أن معظم أندلسيي الرباط اليوم ينحدرون من هجرة سنة 1609 م. وقد تفوقت من بين أندلسيي الرباط شخصيات علمية وإدارية ومالية وعسكرية. وتنتسب كثير من العائلات الرباطية إلى مدن أندلسية: باينة (بيانة) ودينية (دانية) والرندة (رندة) واللوشي (لوشة) وفنجيرو (فوانخرولا: سهيل) والدغمي (بني دغم) والقرطبي (قرطبة) والقسطالي (قسطلة) والقصري (القصر) وقوريا (قورية) والمغراوي (الماغرو) والبريجي (البريجة) والبليدي (البليدة) وبيسير (بشر) وطريدانو (طليطلة) والساهلي (السهلة) والمدور (المدور) وسنتياك (شنت ياقو) والبابوري (يابورة)، وغيرها من البيوتات. ولا زالت تحتفظ كثير من البيوتات الرباطية باسمها العجمي: بلانكو ( Blanco) وبرادو ( Prado) وبركاش ( Vargas) وبربيش ( Barbes) وبلافريج ( Palafren) وبلامينو

( Palomino) وباليسيو ( Palacio) وبريس ( Perez) وبيرو ( Pilo) وبونو ( Bono) وتكيتو ( Chiquito) وتمورو ( Chamorro) وجوريو ( O sorio) وكديرة ( Goderia) ودياس ( Diaz) ورودياس ( Rodriguez) وكسوس ( Jesus) والدك ( Duque) والرينكة ( Rienga) وروان ( Roan) وكراكشو ( Carrasco) وكريسبو ( Crespo) وكليطو ( Querido) والكمرا ( Carmarra) ولوباريس ( Olivares) ولزارو ( Lazaro) ولاميرو ( Romero) ومرسيل ( Marcelo) وملين ( Molina) ومورينو ( Mareno) ومولاطو ( Morato) ومراس ( Miras) وصندال ( Sandalio) وفرشادو ( Farchado) وفلوريش ( Flores) وقريون ( Carrion) وقمرادة ( Camarada) وسباطة ( Zapata) وساكالانطو ( Escalant) وغيرها من الأسماء. ولبعض بيوتات الرباط الأندلسية أسماء عربية احتفظت بها من الأندلس، أو حدثت بعد انتقالها، منها: الأبيض وبنطاهر وبندهاق وبنطوجة وبندورو وبلفقيه وبنقدور وبنعمرو وبلكاهية والتونسي والحداد والزبدي والزهراء وزطوط وطيفور ومتجنوس ومدون وضاكة وعاشور والعماني وغنام وفرج (بفتح الراء) وغيرها. ومن بين العائلات الرباطية التي لها دور مهم في تاريخ الرباط عائلة مرينو، فمنهم الفقيه الأديب أحمد حجي بن محمد مرينو، عامل الرباط، ومنهم القاضي الأديب العالم الحاج محمد بن محمد مرينو، ترك أشعارًا لو جمعت لكوّنت ديوانًا كاملاً، ومنهم الفقيه القاضي محمد المهدي ابن القاضي محمد مرينو، من أعلام القرن الثاني عشر الهجري، ومنهم الفقيه الحيسوبي الموقت الحاج محمد المسناوي بن محمد مرينو المتوفَّى في ذي الحجة عام 1207 هـ، ومنهم القاضي العلامة عبد القادر بن المهدي مرينو المتوفَّى حوالي سنة 1240 هـ. ومنهم الفقيه العدل المعطي بن المهدي مرينو، وغيرهم. ومنها عائلة بركاش، فمنهم القائد الحاج عبد الله ابن الحاج علي بركاش، كان قائ@د الرباط في أواخر القرن الثاني عشر. ومنهم الفقيه القاضي حجي بن الغازي بركاش، المتوفَّى في 21 رجب عام 1294 هـ ومنهم النائب السلطاني محمد ابن الرئيس المجاهد الحاج عبد الرحمن بركاش، المتوفَّى في 17 محرم عام 1336 هـ. ومنهم أبناؤه الحاج العباس والحاج محمد والحاج عبد المجيد والصديق الذين كان لهم جميعًا دور مهم في الإدارة المغربية، وغيرهم. ومن الشخصيات الأندلسية الرباطية التي لها دور هام في أحداث المغرب المعاصرة الحاج أحمد بلافريج، أمين عام حزب الاستقلال والمناضل المغربي

المعروف، رحمه الله. ومنهم الأستاذ أحمد رضا قديرة مستشار في الديوان الملكي. ومنهم الحاج علال كراكشو المقاول الرباطي. وغيرهم كثيرون في مجالات السياسة والقضاء والعلوم والصحافة والمال والجيش، حيث برعوا وناضلوا من أجل تقدم المغرب. أما المدينة الثالثة تطوان، فلقد أسسها، كما رأينا، المهاجرون الغرناطيون إبان سقوط غرناطة فنقلوا لها الحضارة الغرناطية برمتها قبل إضعافها من طرف الاستعمار القشتالي ومحاكم التفتيش. ولذا كانت تطوان شبيهة بفاس في كثير من مظاهرها. وكما قال الفقيه داود: "كانت تطوان نسخة من أخريات المدن الإسلامية العربية في بلاد الأندلس". ولحقت الهجرة الأولى سلسلة من الهجرات عبر القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد ذكر الفقيه الرهوني 475 اسم لعائلات تطوانية عريقة منها 355 عائلة لا زالت قائمة وقد ذكر أصول 251 من هذه العائلات منها 75 عائلة أندلسية. ومن بين أندلسيي تطوان عائلات تحمل أسماء عجمية: البانزي ( Ponce) وبايص ( Paez) والرويز ( Ruiz) وغارسيا ( Garcia) ومارتيل ( Martine) ولوقاش ( Lucas) ، الخ ... ومنها ما هو نسبة إلى بلدة أو منطقة: الأندلسي واللبادي (أبدة) والمنظري وراغون (أراغون) والركاينة والرندي، والغرناطي (غرناطة) والقرطبي (قرطبة) وقشتيليو وقبريرة ومدينة ومندوصة ومراريش وصالاس وبورطو والطريس ومولينا والرينة، الخ ... ومنها ما هو نعوت: اللب ومولاطو ومرينو والسوردو والسكيرج ( Esquiles) والراندو والدليرو، الخ ... ومنها ما هو عربي: ابن الأحمر والتبين والرزيني وزكري والخضري والخطيب وداود والرفاعي وغيلان والفخار والموفق ونصر والعطار والقطان والقيسي والوزير والسراج وقريش، الخ ... ومنها ما هو أمازيغي: أجزول وأشعاش وأفوقاي، الخ ... وقد مرت علينا في أحداث القرنين الخامس عشر والسادس عشر كثير من الأسماء التي لا زالت الآن موجودة بتطوان (وفاس والرباط)، كأجزول والخطيب والوزير وداود والأزرق وابن المليح (زعماء ثورة البشرات) وقشتيليو (أحد مترجمي الحاكم ديزا أيام محاكم التفتيش). كما تذكرنا بعائلات غرناطية شهيرة أسماء الأحمر وزكري والعطار والسراج وفرج والأبار، الخ ... وقد نبغ عدد كبير من أندلسيي تطوان المعاصرين، منهم الأستاذ عبد الخالق الطريس، الرجل الوطني المعروف، والفقيه محمد داوود صاحب التاريخ وغيرهما.

أما في القرون الماضية فنذكر الفقيه أبا عبد الله محمد الرزيني المتوفَّى سنة 934 هـ، قاضي تطوان، والأديب محمد بن عبد الرحمن الكراسي المتوفَّى سنة 964 هـ، والفقيه القاضي أحمد بن محمد طانية المتوفَّى سنة 1063 هـ، والأديب علي مندوصة من رجال القرن الحادي عشر، وغيرهم. وانتشر الوجود الأندلسي إلى جل مدن المغرب وبواديه. فمن أهم البيوتات الأندلسية بمدينة سلا: زنيبر، أهل علم ووجاهة، قدموا إليها من غرناطة بعد سقوطها؛ وفنيش، ذوو دور قيادي في تاريخ المدينة؛ وحصار، قدموا من غرناطة؛ وابن عطية، قدموا في القرن التاسع الهجري من إشبيلية إلى الرباط ثم إلى سلا ففاس؛ وخالص، قدموا من رندة وانتقل معظمهم إلى الرباط؛ والأبيض أو بلانكو، هم بالرباط كذلك؛ وحمدون، كان منهم عدد من رؤساء البحر؛ والعطار؛ وغيرهم. وبمكناس عائلات أندلسية، منها: الوقاد، قدمت إلى فاس من إشبيلية في منتصف القرن السابع الهجري ثم انتقلت إلى مكناس؛ والبجيري، اشتهر من بين أفرادها عدة علماء؛ وغريط، استوزر الملوك العلويون عدة أفراد منها وأنتجت عدة شعراء مجيدين؛ وعائلات أخرى ذكرت في ديوان خاص بأمر من السلطان مولاي إسماعيل: ابن إبراهيم وابن حليمة وابن الحاج وابن عبد الكريم (من مالقة) وأبو الرخا (من غرناطة) وأزويزر وأنفاع والأزرق (من إشبيلية) وأمسامح وأصقال والأشقر والبجيري وبوراس والباروا والبتولي والبياني وبرقوق والبياض (من بلش مالقة) وجابر والحزماري والدقيوق والزناتي وطوجة وكديش واللمتوني والمسطاسي والصفار وصفندلة والغرناطي والغماري والفخار وفيدقة والقراص والقلفط والقبري والقباب والقصري وشبليون وهارون وهلال والوقاد وغيرهم. واستقر بمراكش عدد من العائلات الأندلسية، اندمج معظمهم في المجتمع المغربي ونسي أصله. وأسس شفشاون الشرفاء العلميون بالتعاون مع الأندلسيين، وقد بقي فيها اليوم بعض العائلات الأندلسية، كالمفرج والبيطار والعاقل وغيرها. واستقرت أسر أندلسية بآسفى، منها اليوم باجدوب والركوش (نسبة إلى أركش) ومرحبو وميته والغمار القلعي والشقوري وغيرهم. كما استقرت عائلات أندلسية في البوادي المغربية، منها رابون في بني مدان، وآرياش في مرتيل، وأوجدة في ابن قريش، وأروين في بني صالح، وكرابيلا في

12/ 2 - الأندلسيون في تونس:

المزمة (الحسيمة)، ومارسو في واد لاو، ومراليش في باب تازة، وغارسيا في جبل حبيب، وبايزا في بو أحمد، وأراغون في الجبهة، ومرسية في تارغيست، وابن الصديق في غمارة وهم علماء طنجة المعروفون اليوم، وآيت الناظر وبركاش في وادي سوس، والوقاد في بني ملال، الخ ... ويمكن تقدير عدد المغاربة من أصل أندلسي بحوالي عشر سكان المغرب أو 2.5 مليون نسمة على الأقل، معظمهم نسي أصله الأندلسي، ولم يزل يتذكرها منهم سوى عشرهم، أو حوالي 250.000 نسمة على أقل تقدير. 12/ 2 - الأندلسيون في تونس: اتجه الأندلسيون إلى تونس من شرق الأندلس بنفس الكثافة التي اتجهوا بها إلى المغرب من غربه، واستقر عدد منهم في العاصمة ومنطقتها. وظل الأندلسيون التونسيون يحتفظون بشخصية مميزة أيام الحكم العثماني الذي أعطاهم الحكم الذاتي تحت زعيم ينتخبونه يسمى شيخ الأندلس. ولم تُضع الجاليات الأندلسية، التي حافظت على لغاتها العجمية (القطلانية والقشتالية) إلى القرن التاسع عشر، هويتها إلا منذ بداية الاستعمار الفرنسي. ويمكن تقدير عدد التونسيين المنحدرين من أصل أندلسي الآن بحوالي مليون نسمة من مجموع سبعة ملايين، لم يعد يتذكر أصله الأندلسي منهم سوى نسبة ضئيلة، أو حوالي خمسون ألف شخص. عمل جو العاصمة على صهر السكان أكثر من باقي المناطق التونسية، ولم تحتفظ فيها بذكراها الأندلسية اليوم سوى بعض العائلات العلمية الكبيرة، من أهمها عائلة ابن عاشور التي أعطت لتونس عددًا من العلماء والكتاب وفقهاء المذهب المالكي. فالشيخ محمد الفاضل بن عاشور (1909 - 1970 م)، الذي عمل قاضيًا للعاصمة ومفتيًا للجمهورية وعميدًا لكلية الشريعة بجامعة الزيتونة، هو ابن الشيخ محمد الطاهر (1879 - 1973 م) الذي كان كذلك قاضيًا وأستاذًا بالزيتونة، ومن أهم إنتاجه العلمي "تفسير التقرير والتنوير" للقرآن الكريم، وكان أول فقيه مالكي اعتلى منصب شيخ الإسلام سنة 1932 م الذي كان مقتصرًا على فقهاء المذهب الحنفي، ابن محمد (1860 - 1920 م)، رئيس إدارة الأحباس، ابن الشيخ محمد الطاهر (1815 - 1868 م)، أستاذ الفقه والآداب بجامعة الزيتونة، وفي سنة 1851 م عينه أحمد باي قاضيًا مالكيًّا للعاصمة، ثم مفتيًا بعد سنة 1861 م، ابن العدل محمد بن الشاذلي ابن الشيخ عبد القادر، شيخ طريق له زاوية في العاصمة، ابن الشيخ محمد بن

عاشور (1620 - 1698 م) أول قادم من سلا بالمغرب إلى تونس، ومؤسس عائلة ابن عاشور بها. ولد الشيخ محمد بن عاشور سنة 1030 هـ (1620 م) لوالدين هاجرا إلى سلاك (لا شك سلا الجديدة أي الرباط) من فرنجوش (مقاطعة استرمادورا)، وقد ظل أقرباء له بالعاصمة المغربية حيث توجد عائلة عاشور إلى اليوم. وذهب محمد بن عاشور إلى الحج، ثم رجع إلى تونس حيث استقر وتزوج وعمل لكسب عيشه في صناعة الشواشي وانضم إلى الطريقة الشاذلية حيث كان يقصد زاويتها المسماة بزاوية الزواوي خارج باب المنارة، وأصبح مريدًا للشيخ محمد القجيري. واشتهر الشيخ محمد بن عاشور بدينه وعفته وحسن أخلاقه، فأصبح شيخًا للزاوية بعد وفاة الشيخ الزواوي دون عقب. اشتهرت في العاصمة التونسية في القرن الثامن عشر شخصيات أندلسية منها محمود خزندار، المتوفَّى سنة 1726 م، رئيس وزراء الباي حسين بن علي، وقد ذكر مناقبة الرحالة الإسباني فرنسيسكو خمينيس، كما ذكر أخاه محمد السريري. ولا يعرف اليوم اسم العائلة المنحدرة منهما، غير أن أصلهما من سرقسطة (أراغون القديمة). ومنهم الشريف سليمان القسطلي، أصله من قلعة النهر (مقاطعة مجريط اليوم) حيث كانت تسمى عائلته كنطريراش، وقد التقى به خمينيس. كان من كبار مجاهدي البحر، له مستشفيات في العاصمة ونفوذ كبير. ومنهم علي بن عياد وعلي قطلينا اللذان كانا من أكبر أغنياء العاصمة. واجتمع الرحالة خمينيس بالشيخ عبد القادر بن عاشور وذكره في رحلته كشيخ طريقة صوفية. وذكر خمينيس شخصيات أندلسية أخرى لا زال حفدتها موجودين، منها الحاج مصطفى الباي وعلي برغيت ومحمد الوزير (مات سنة 1819 م) ومحمد المشاط (مات سنة 1834 م) وعلي الشريف (مات سنة 1849 م) شيخ الطريقة العيساوية، وغيرهم كبني الحداد وقسطلي وقريذو والتومي والعروصي وسيدا. وتدل هذه الأسماء أن كثيرًا من العائلات الأندلسية اتخذت أسماء عربية أو تركية بعد إقامتها في تونس، من بينها اليوم عائلة كشك التي ينتمي إليها عدة تجار ورجال أعمال. ترجم المؤرخ ابن ضياف لـ 21 أندلسي من بين الـ 407 شخصية تونسية في القرن التاسع عشر، منهم 19 شخصية توفيت بين 1815 و 1872 م، منهم اثنان من بيت الحداد: أحمد (المتوفى سنة 1817 م) وعلي (1856 م) وستة من بيت الوزير: محمد (1818 م) وأحمد (1827 م) وحسن (1827 م) وحسونة (1832 م) ومحمد

(1856 م) وأحمد (1868 م)، ومحمد قريذو (1819 م) ومحمد المشاط (1834 م) ومحمد العروصي (1837 م) ومحمد التومي (1840 م) ومحمد قسطلي (1849 م) ومحمد شلبي (1842 م) وحمدان سيدا (1846 م) ومصطفى ماظور (1848 م) وعلي الشريف (1849 م) واثنين من بيت العصفوري: محمد (1856 م) ومحمد الشاذلي (1868 م). وهكذا نرى أن من بين العائلات الـ 12 المذكورة، 4 فقط لها أسماء أندلسية عجمية واضحة (قريذو وقسطلي وماظور وسيدا). وتنحدر عائلة لاخوا ( La Joa) التونسية من بني السراج الغرناطيين. كان جدهم، موسى لاخوا، ضحية محاكم التفتيش بغرناطة حوالي سنة 1727 م، التي حكمت عليه بالسجن أربع سنوات، فهرب مع أخوته إلى أزمير (بتركيا اليوم)، وكتب إلى الشريف القسطلي يطلب المساعدة للانتقال إلى تونس، فساعدهم الشريف على ذلك. وأثمرت عائلة لاخوا اليوم جماعة من المثقفين والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال. ومن أهم مواطن التواجد الأندلسي الوطن القبلي، حيث مدينة سليمان التي تأسست سنة 1610 م على أنقاض كسولة القديمة، وفي سنة 1731 م، كان سكانها حسب خمينيس حوالي 4.500 نسمة، ثلثهم، أو حوالي 1.500 نسمة، أندلسيين. وفي سنة 1862 م، كانت أحوال البلدة قد ساءت بسبب هجوم الأعراب المتكرر، حتى أصبح عدد سكانها 700 شخص، أكثرهم غير أندلسيين. واليوم، انقرضت جل عائلات سليمان الأندلسية، إما بسبب الهجرة أو بنسيان تاريخها أو بعدم الولادة. ومن هذه العائلات المنقرضة، اللونقو، والمسنيكو، وبلانكو، وتنداليكو، وباتستا، وروجو، وبونيو، والركلي، وقشتليانو، وقرال، وغيرها. ولم يبق اليوم من مجموع 20.000 نسمة سوى حوالي 700 أندلسي موزعين على 11 عائلة هي: الريشيكو ( Rey Chico) وماظور ( Almador) وابن إسماعيل وبشكوال والري والأسبرسو والبنديكو وجحا وكريمو وسكالين وابن الحاج. وتنتسب عائلة الرشيكو إلى أبي عبد الله آخر ملوك غرناطة. ومن أبرز أعضائها أخونا المهندس في المياه رضوان الرشيكو (ولد سنة 1960 م). وهو ابن معلم الأجيال الشيخ محمد المتوفَّى يوم 10 رجب عام 1410 هـ (6/ 2 / 1990 م) رحمه الله، ابن محمود بن مصطفى بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد، المهاجر من فارس إلى سليمان، بن محمد بن أحمد بن يوسف بن أبي عبد الله

الرشيكو الذي هاجر إلى فارس من غرناطة. وعدد أفراد هذه العائلة في سليمان اليوم حوالي 30 شخصًا، ولهم بها مقبرة خاصة. وأنجبت عائلة ماظور علماء أجلاء وأئمة، منهم القاضي الشيخ مصطفى ماظور المتوفَّى سنة 1848 م، ابن القاضي أحمد ماظور المتوفَّى سنة 1812 م. وتنتمي هذه العائلة إلى القاضي محمد بن منظور التيمي. وقد حافظت عائلات سليمان الأندلسية الباقية على عاداتها في اللهجة والمأكل والملبس وفي الاعتزاز بالانتماء إلى الأندلس. ويكاد الوجود الأندلسي ينقرض في مدن الوطن القبلي الأخرى، كتركة ونيانو وبلي وقرمبلية، رغم أن معظمها كان من تأسيس الأندلسيين الذين بقيت نسبهم فيها مرتفعة إلى القرن الثامن عشر حسب خمينيس، حيث قال إن قرمبلية من إنشاء مصطفى قردناش وإن بها حوالي 150 نسمة، معظمهم أندلسيون، منهم عائلة ورفالة الموجودين في مناطق أخرى كذلك. وقال عن بلي بأن بها حوالى 1500 نسمة، كثير منهم أندلسيون. وقد استقطبت مدن الوطن القبلي الكبيرة، كنابل ومنزل بوزلفي، عدة عائلات أندلسية، كعائلة مورو، ومنها الشيخ عبد الفتاح مورو، أحد زعماء الاتجاه الإسلامي بتونس. وأسّس زغوان، وهي امتداد للوطن القبلي، الأندلسيون الحاج علي كتالينا وعلي بن عياد وشيخ الأندلس الشريف القسطلي. وفي سنة 1276 هـ (1859 م)، كانت تدفع فيها الضرائب حوالي 178 عائلة (790 نسمة)، منها 25 عائلة (125 نسمة) أندلسية، (14 في المائة من السكان)، منها عائلة محفوظ التي كان لأفرادها مسؤولية توزيع مياه البلدة على الأهالي. وفي القرن السابع عشر أسس الأندلسيون تستور، أهم مدينة أندلسية في وادي المجردة، وعمروها. وفي سنة 1631 م، قدر عددهم طوماس داركوس بحوالي 7.500 نسمة. وفي سنة 1731 م، أصبح عددهم، حسب خمينيس، حوالي 4.000 نسمة، معظمهم أندلسيين، بما فيهم عاملها الحاج أحمد أريسا. وكانوا لا زالوا يتكلمون اللغة العجمية (قطلانية غالبًا وقشتالية كذلك). وفي سنة 1276 هـ (1859 م)، كانت تدفع ضرائب تستور 177 عائلة فقط، ثلثهم أندلسيون. واليوم، فعدد سكان تستور حوالي 10.000 نسمة، وهي تضيع بسرعة خواصها الأندلسية. وتوجد بها حوالي 100 عائلة ذات أصول أندلسية محققة، أي حوالي عدة آلاف من الأشخاص، منها: برفينو وبرتيلة وبلنسين ( Valenciano) وبلانكو ( Blanco) وبكيل

وبومست وزبيس والحورشي ورمتانة وكامش وكاشيمي ولكانتي ( Alicante) ومركيكو ومورشكو ( Morisco) ومدينة وساكنة وهنديلي وهشيش وماركو ( Marco) وباتيس والكوندي ( Conde) وسريسو وفليبو ( Philipo) ، الخ ... وتمتاز الأُسر الأندلسية في تستور، كما في باقي المدن والقرى التونسية، بمستوى حضاري رفيع وباحتفاظها على العادات الأندلسية في المأكل والمشرب. وقد هاجر منهم عدد كبير إلى العاصمة حيث انصهر مع باقي السكان وضاعت هويته الأندلسية. ومن أبناء أندلسيي تستور المعاصرين السيد سليمان مصطفى زبيس، الكاتب التونسي المختص في الدراسات الأندلسية والعضو المراسل للمجمع الملكي للتاريخ بمجريط. ومن أهم مدن وادي المجردة طبربة، التي حافظت بعض الشيء على تراثها الأندلسي في المسكن والمأكل والعادات. وبها كثير من العائلات الأندلسية منها من انقرض: بشكوال وكندوير ولوصانو وجبليشكة ومانس وابن النجار؛ أو انتقل إلى العاصمة أو غيرها: برزون والجورشي والطبائري والحداد (أو الزنايدي)؛ أو تغير اسمه فضاعت هويته الأندلسية. ومن العائلات الأندلسية الباقية في طبربة: تينسة ومانية والبطيري ومندرانو وبيشالبي وفتوح وابن عاشور وابن رمضان وابن براهم وكبير والزين وابن الحاج سالم وابن عيسى ووحمة الأندلسي. كان القرن التاسع عشر شاقًّا على المدن الأندلسية التونسية بسبب هجمات الأعراب التي قضت على الأمن وبالتالي على اقتصاد المدن والقرى. فانتشرت الأوبئة، وفر عدد كبير من الأهالي الأندلسيين إلى المدن الكبرى خاصة العاصمة، حيث تشتتوا وضاعت هويتهم. فلم يبق من مؤسسي سليمان الـ 10.000 سوى 700، وهجر الجديدة وتبرنق سكانها، وانهار المستوى الديموغرافي في كل قرى وادي المجردة والوطن القبلي الأندلسية لدرجة مأساوية. وتابع الاستعمار الفرنسي سياسة تشتيت الأندلسيين وإدماجهم. وفي سنة 1271 هـ (1855 م)، قطع باي تونس الامتياز الذي كانت تعطيه الدولة للأندلسيين بإلغاء منصب "شيخ الأندلس" في وقت تزامن مع هجمات الأعراب. فكان بذلك نهاية معاملتهم كمجموعة حضارية قائمة بنفسها. وتوجد اليوم أعداد مهمة من العائلات الأندلسية في كل مدن تونس الكبرى، كبنزرت وسوسة ومنستير (حيث بيت قديرة الأندلسي) وصفاقس، خارج مناطق

12/ 3 - الأندلسيون في باقي القارة الإفريقية:

هجرتهم الأولى، وبقيت الأندلس ذكرى فقط وعادات يتوارثها الأبناء عن الآباء. ومن العائلات الأندلسية التي يمكن التعرف عليها في المدن التونسية المختلفة: كونكة ( Cuenca) ومانوشو والصوردو ( Sordo) ومرياح وصنديد وكراندي ( Grande) وحجاج وعمروسي والوافي وكعاك والسراج وكبادو وكبادي وكراباكا ( Caravaca) وبسطي (نسبة إلى بسطة) والريكلي ودرمول ونوباينة ( Novaina) وداوود ورحال والسباعي وابن زكري وشبيل وحرميلو والحشايشي والشريف والكاهية، الخ ... 12/ 3 - الأندلسيون في باقي القارة الإفريقية: وصلت إلى الجزائر أعداد كبيرة من الأندلسيين عبر العصور، لا تقل عن الأعداد التي نزحت إلى المغرب وتونس. انتقل منهم أيام صولة الإسلام بالأندلس، قبل سقوط غرناطة، عدد كبير من العلماء، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن علي النجيبي، من أهل إشبيلية، تجول بلاد الأندلس ثم حج ثم استقر بتلمسان حيث توفي بها في جمادى الأولى سنة 611 هـ، وله تآليف كثيرة. ومنهم أبو بكر محمد الزهري، المعروف بابن محرز، ولد ببلنسية سنة 539 هـ، ثم هاجر إلى مصر، وبرع في الفقه والأدب والشعر ثم قدم بجاية حيث استقر بها، وغيرهما كثير، ووصلت إلى الجزائر أعداد كبيرة من الأندلسيين بعد سقوط غرناطة، وبعد طرد سنة 1609 م، منهم غارسيا دياس (من طليطلة) وربدان رودريكز (كان راهبًا بأركش بإسبانيا وتابعته محاكم التفتيش) ولويس الأستجي (من أستجة)، وغيرهم كثير. ويمكن تقدير عدد الجزائريين من أصل أندلسي بعشر السكان على الأقل، أو مليونان ونصف جزائري، لا زال الكثير منهم يتذكر أصوله الأندلسية، خاصة في العاصمة وتلمسان ووهران وبجاية وبليدة وعنابة وغيرها من المدن. وكان للحقبة الاستعمارية الفرنسية التي عملت على القضاء على التراث الجزائري، أثر سيىء على التراث الأندلسي الجزائري. وتنتمي اليوم شخصيات جزائرية مؤثرة إلى أصول أندلسية، منها الشيخ أحمد المدني مثلاً الذي أجاب الأمير شكيب أرسلان سنة 1930 م عن سؤال مماثل لهذا بقوله إن بعض العائلات الجزائرية لا زالت تحافظ على أصولها الأندلسية، ذكر من بينها عائلة الشيخ أحمد بن أبي الركايب المنبثقة عن عائلة ابن عمر التي هي في الحقيقة عائلة المدني نفسه باسمها القديم. ومن بين هذه العائلات كذلك ابن سوسان والمسرار والسيستي وغيرها.

ويحتاج الوجود الأندلسي المعاصر في الجزائر إلى دراسة معمقة. ونرى تأثيره في انتشار فرق الموسيقى الأندلسية في المدن ذات الهجرة التاريخية القديمة، كما أن هناك كثيرًا من العائلات التي تنتمي إلى عائلات أندلسية شهيرة، بما فيها بنو الأحمر، ملوك غرناطة. كما أن الهجرة الأندلسية إلى الجزائر تركت آثارًا واضحة في اللباس والطبخ واللهجة، خاصة في تلمسان والمدن المجاورة لها. توجه بعض الأندلسيين إلى منطقة طرابلس الغرب، وبها اليوم بعض العائلات الأندلسية، لكن التأثير الأندلسي في المجتمع الليبي المعاصر، هو الآخر يستحق دراسة معمقة. وهاجر إلى برقة وطرابلس عدد من علماء الأندلس أيام عزة الإسلام بها، منهم أبو بكر محمد بن أحمد بن إبراهيم الصدني الإشبيلي، كان أديبًا بارعًا له نظم جيد وموشحات رائعة، رحل إلى مصر ثم أقام ببرقة وتوفي بها. وانتقل إلى مصر جم غفير من الأندلسيين، عبر العصور، ترجم المقري في "نفح الطيب" لحوالي 37 عالمًا وفقيهًا وأديبًا من أشهرهم. منهم في القرنين الرابع والخامس الهجري، الوليد بن هشام، المعروف بأبي ركوة، الذي هاجر إلى برقة (بليبيا اليوم) فثار على الحاكم العبيدي وجمع الناس حوله، فغلبته عساكر الحاكم وأتت به إلى القاهرة حيث أعدم في 13 رجب عام 399 هـ، وقد خلَّف أبو ركوة أشعارًا كثيرة. ومنهم عبد الله بن رشيق (من قرطبة)، كان أديبًا شاعرًا عفيفًا خيِّرًا، رحل أولاً إلى القيروان ثم حج ورجع إلى القاهرة حيث توفي سنة 419 هـ. ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن أحمد ابن السيد ابن المغلس القيسي (من بلنسية)، كان عالمًا باللغة العربية، انتقل في البلاد ثم استوطن مصر حيث توفي سنة 427 هـ. ومن أندلسيي القرن السادس الذين استوطنوا مصر أبو بكر محمد بن الوليد الفهري المعروف بابن أبي رندقة (من طرطوشة)، صاحب "سراج الملوك"، انتقل إلى الإسكندرية وبها توفي سنة 520 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الأموي المعروف بالنقاش (من طليطلة)، نزل مصر وقعد للإقراء في مسجد عمرو بن العاص إلى أن توفي بها سنة 529 هـ. ومنهم أبو زهر ثابت بن الفرج الخثعمي (من بلنسية)، كان شاعرًا أديبًا، استقر بمصر وبها توفي في رجب سنة 545 هـ ومنهم أبو بكر محمد بن عبد الملك بن السراج (من شنتمرية الغرب)، كان من أئمة اللغة العربية المبرزين ومن أشهر النحويين، قدم القاهرة سنة 515 هـ وجلس لتعليم النحو في جامعها الأزهر، وبها توفي في رمضان سنة 549 هـ. ومنهم أبو العباس أحمد بن

معد بن وكيل (من أقليش)، رحل من مولده دانية إلى بلنسية حيث أخذ العربية والآداب والحديث، ثم إلى المشرق سنة 542 هـ، ثم استقر بمكة المكرمة، ثم قفل راجعًا إلى مصر حيث توفي بمدينة قوص سنة 550 هـ. ومنهم أبو يحيى اليسع بن عيسى الغافقي (من جيان)، صاحب كتاب "المعرب في أخبار محاسن أهل المغرب" الذي جمعه للسلطان صلاح الدين الأيوبي، انتقل إلى مصر سنة 560 هـ، وتوفي بها سنة 575 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الخزرجي (من قرطبة)، من أشياخ ابن بشكوال، استوطن مصر وتوفي بها سنة 588 هـ. ومنهم الإمام العلامة أبو القاسم بن خيرة الشاطبي (من شاطبة) صاحب "حرز الأماني" و"العقبة" وغيرهما، كان فقيهًا حافظًا، دخل مصر سنة 572 هـ وتوفي بالقاهرة يوم الأحد 28 جمادى الآخرة سنة 590 هـ، ودفن بالتربة الفاضلية بسفح المقطم. ومن أندلسيي القرن السابع الذين استوطنوا مصر أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي (من إشبيلية)، حفيد القاضي الحافظ أبي بكر بن العربي، حج ورحل إلى الشام والعراق، ثم رجع إلى إشبيلية للتدريس، وفي سنة 612 هـ تصوّف وتعبد وانتقل إلى الإسكندرية حيث توفي سنة 617 هـ. ومنهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية (من دانية)، كان من أعلام اللغة العربية والحديث، صنف كتبًا كثيرة منها "التنوير في مولد السراج المنير"، رحل إلى تونس سنة 595 هـ وعمره 55 سنة، ثم حج وعاد إلى مصر فاستأدبه الملك العادل لولده وأسكنه القاهرة، وبها توفي سنة 633 هـ. ومنهم أخوه الأكبر أبو عمرو عثمان بن الحسين (من دانية)، كان حافظ للغة العربية، انتقل إلى القاهرة ورتبه الملك الكامل مكان أخيه أبي الخطاب في دار الحديث الكاملية، وبقي بها إلى أن توفي سنة 634 هـ. ومنهم أبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن صافي (من قيسانة من عمل غرناطة)، فقيه مالكي قدم القاهرة وناب في الحسبة، توفي بها سنة 634 هـ عن سبعين سنة. ومنهم أبو مروان محمد بن أحمد اللخمي (من إشبيلية)، ولي القضاء بإشبيلية، ثم رحل إلى المشرق فحج وزار الشام، ثم استقر بالقاهرة حيث توفي سنة 635 هـ عن 71 سنة. ومنهم أبو القاسم بن حاضر (من جزيرة شقر)، كان عالمًا بصناعة التوريق، قدم قوص واستوطنها وتوفي بها سنة 639 هـ. ومنهم موسى بن سعيد العنسي (من قلعة يحصب)، والد أبي الحسن علي متمم كتابه "المغرب في أخبار المغرب"، كان أديبًا مفكرًا راجح العقل، انتقل بولده إلى مصر وتوفي بالإسكندرية سنة 640 هـ بعد أن أوصاه بالرجوع إلى الأندلس. ومنهم الشاعر أبو محمد القرطبي (من قرطبة)، انتقل إلى القاهرة وبها توفي سنة

643 هـ. ومنهم الطبيب أبو محمد عبد الله بن البيطار (من مالقة)، ترك كتبًا هامة في الأدوية المفردة، جال في الأرض يبحث عن الأعشاب ثم استقر في مصر وجعله الملك الكامل رئيسًا على جميع العشابين وأصحاب البسطات، ثم خدم ولده الملك الصالح إلى أن توفي في شعبان سنة 646 هـ. ومن أندلسيي القرن السابع الذين استوطنوا مصر أبو بكر محمد بن أحمد الخزرجي (من مالقة)، من الزهاد الورعين المتقين، انتقل إلى القاهرة وبها توفي سنة 651 هـ ودفن بقرافتها. ومنهم أبو بكر حميد بن أبي محمد الأنصاري (من قرطبة)، نزل مالقة ثم انتقل إلى القاهرة، كان من الزهاد الصالحين، توفي سنة 652 هـ عن 46 سنة ودفن بسفح المقطم. ومنهم أبو عبد الله التجيبي الدهان (من غرناطة)، كان تاجرًا عدلاً فاضلاً، ومات بقوص سنة 653 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله السلمي (من مرسية)، مفسر فقيه جال بلاد الإسلام من المغرب إلى خراسان واستقر بمصر، مات قرب العريش سنة 655 هـ عن 85 سنة. ومنهم أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي (من قرطبة) صاحب "المفهم في شرح مسلم"، فقيه محدث مدرس، ولد بقرطبة سنة 578 هـ وسمع بها، ثم انتقل إلى المشرق وقدم مصر واختصر بها الصحيحين، توفي بالإسكندرية سنة 656 هـ. ومنهم الطبيب أبو عبد الله محمد اللوشي (من لوشة)، استقر بمصر وبها توفي سنة 660 هـ. ومنهم المحدث أبو عبد الله محمد بن سراقة (من شاطبة)، انتقل في طلب العلم إلى الشام والعراق، واستقر بمصر حيث تولى مشيخة دار الحديث الكاملية سنة 643 هـ إلى أن توفي في شعبان سنة 662 هـ. ومنهم أبو جعفر محمد بن بندار القيسي (من مالقة)، كان دينًا خيرًا فاضلاً له مشاركة في عدة علوم، توفي بالقاهرة سنة 662 هـ عن 37 سنة. ومنهم الصوفي الشهير أبو الحسن علي الششتري (من ششتر من عمل وادي آش)، كان مجودًا للقرآن قائمًا عليه عارفًا بمعانيه، جال الآفاق وآثر التجرد للعبادات وصنف الكتب الكثيرة في التصوف، وله ديوان شعر، توفي في دمياط في 17 صفر عام 668 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن فرح (من قرطبة)، كان من الصالحين والعلماء العارفين الورعين، له تآليف عدة في التفسير والتصوف، توفي بمنية ابن خصيب سنة 671 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري المعروف بابن الربيع (من شاطبة)، من أهل التصوف الأولياء الصالحين، استقر بالإسكندرية وبها توفي سنة 672 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن يوسف الأنصاري (من شاطبة)، له تصانيف جيدة وشعرًا، توفي بالقاهرة سنة 684 هـ. ومنهم الولي الشهير سيدي

أبو العباس المرسي (من مرسية)، انتقل إلى الإسكندرية وتوفي بها سنة 686 هـ، لأهل مصر فيه اعتقاد كبير حتى أصبح اسم "المرسي" شائعًا إلى يومنا هذا بين أهل مصر. ومنهم الشاعر الأديب أبو القاسم التجيبي (من بلش)، استوطن القاهرة وتوفي بها سنة 695 هـ عن 72 سنة. ومنهم أبو سلمة البياسي (من بياسة) كان عارفًا بعلم الحديث ظاهري المذهب، استوطن القاهرة وبها توفي سنة 703 هـ. ومن أهل القرن الثامن الذين استقروا بمصر أبو عبد الله الراعي (من غرناطة)، كان فقيهًا أصوليًّا، هاجر إلى مصر وبها توفي سنة 753 هـ عن 71 سنة. وهاجر بعد ذلك إلى مصر عدد من الأندلسيين، خاصة بعد سقوط غرناطة وبعد سنة 1609 م، استقر كثيرون منهم في الإسكندرية التي أصبحت مركزًا مهمًا لهم، أتوا إليها في غالب الأحيان عن طريق تونس، وتوجد أسماء أندلسية كثيرة في وثائق المحكمة الشرعية بالإسكندرية في العقود التجارية والبيع والشراء والزواج والميراث. وكان الأندلسيون يكتبون دائمًا أسماءهم متبوعة بلقب الأندلسي أو النسبة إلى البلدة التي أتوا منها في الأندلس. كما استقر عدد من الأندلسيين في مدن مصر الأخرى كالقاهرة ودمياط ورشيد والسويس والمنصورة وأسيوط. وانتقل إليها عدد من البيوتات الأندلسية المغربية في القرنين الأخيرين كبيت برادة وغيره. ويقتضي استقصاء الوجود الأندلسي المعاصر في مصر بحثًا في الوثائق الشرعية وبين العائلات المغربية، ومنها الأندلسية. كانت علاقات ملوك "كاو" بالأندلس وثيقة منذ أيام الدولة الأموية. وقد انتقل إلى مدنها، خاصة تنبكتو، عدد من علماء الأندلس أيام الدولة النصرية، منهم أبو إسحق الساحلي، المعروف بالطويجن، كان عالماً مشهورًا وشاعرًا وصالحًا. وهو من بيت صلاح وثروة وعلم بغرناطة، كان والده أمين العطارين بها. وقد ارتحل أبو إسحق من بلده إلى الحج، ثم انتقل إلى مملكة السونغاي بالسودان الغربي، فاستوطنها وأصبح له الجاه المكين عند سلطانها، وبنى المساجد الكثيرة بها، منها مسجد جنكورايبر بتنبكتو بين سنتي 1325 و 1330 م. وتوفي بتنبكتو في يوم الاثنين 27 جمادى الثانية عام 747 هـ. لكن الوجود الأندلسي المعاصر على ضفاف نهر النيجر من تنبكتو إلى كاو يعود إلى الحملة التي أرسلها المنصور الذهبي عبر الصحراء الكبرى في أكتوبر سنة 1590 م برئاسة جودر، وهو أندلسي من وادي المنصورة بمقاطعة المرية. عبر

جودر الصحراء على رأس 5.600 رجل، أندلسيين ومغاربة، يصحبهم 8.000 جمل وألف فرس لاحتلال مملكة السونغاي، مات منهم في الطريق كثيرون ولم يصل إلى مملكة السونغاي سنة 1591 م سوى حوالي 3.000 رجل. فتحصن ضدهم الأسكية (السلطان) إسحق الثاني في عاصمته كاو، على نهر النيجر، بينما كانت تنبكتو مركز المملكة الثقافي والتجاري مرسى قوافل الصحراء من سجلماسة. وفي 14/ 3 / 1591 م وقعت معركة حاسمة في تونديبي بين جنود الأسكية المسلحة بالرماح والأسلحة البيضاء وعددها 40.000 رجل والجيش المغربي المكون من 3.000 رجل المسلح بالأسلحة النارية التي لم يكن يعرفها أهل السونغاي، انهزم أثرها الأسكية واستقر جيش جودر في البلاد التي ضمها إلى المغرب. استقر الأندلسيون والمغاربة على ضفاف نهر النيجر وتزوجوا من نساء البلاد وكونوا الطبقة الحاكمة إلى سنة 1660 م، وجعلوا من تنبكتو عاصمة حكمهم. وكون الأندلسيون طبقة ثقافية متميزة، وأصبحوا يتزاوجون مع بعضهم، وانتشرت لغة السونغاي بينهم، واحتفظوا بثقافتهم الأندلسية. وبعد أن هجمت قبائل الطوارق على تنبكتو في القرن التاسع عشر الميلادي، طردوا منها معظم الأندلسيين فكونوا في منطقتها قبيلة اسمها "الآرما" (أو الجيش باللغة العجمية الأندلسية أو الإسبانية). ومع السنين ضاع نفوذ قبيلة الأرما في المنطقة، لكنها حافظت على كثير من عاداتها الأندلسية في المأكل والمشرب والمسكن ودخلت لغتهم السونغية كثير من الكلمات الإسبانية عدت بحوالي أربعين. وعند دخول الاستعمار الفرنسي إلى المنطقة ركزت قبيلة الأرما على الزراعة على ضفاف نهر النيجر وعلى تربية المواشي. ورجع كثير منهم إلى تنبكتو حيث تعلموا في المدارس العصرية وتخرجوا في كثير من الفنون. وبعد استقلال مالي سنة 1960 م، تنوسيت منطقة تنبكتو مرة ثانية، وهاجر كثير من مثقفي الأرما إلى العاصمة باماكو. ثم جاء الجفاف والمجاعة فأضر ضررًا كبيرًا بالآرما. يقدر اليوم عدد الآرما المنحدرين من أصول أندلسية ومغربية بحوالي 80.000 شخص منهم حوالي الثلثان من أصول أندلسية وهم يعيشون في المدن والقرى المنتشرة بين تنبكتو وكاو. ويوجد اليوم من الآرما في مدينة تنبكتو حوالي ألفان من مجموع 20.000 نسمة، أي حوالي عشر سكان المدينة. استقروا، منذ القرن الثامن عشر، في حي

خاص بهم، توزعوا فيه حسب فيالقهم العسكرية التي أتوا معها. فالزايويون، وهم فرقة مراكش، يسكنون في حي جنكرايبر حيث يوجد المسجد العتيق الذي بناه الساحلي، المهندس الغرناطي، وجماعة مبارك الدرعيين، وهم فرقة وادي درعة، يسكنون حي سراكينا؛ والتورقينيون، وهم فرقة فاس، الذين اضطروا إلى مغادرة تنبكتو سنة 1800 م، يسكنون حي الفاسيين كوندا حول مسجد سيدي يحيى، حيث توجد مقابر باشاوات تنبكتو الذين خلفوا الرئيس جودر. ومن الشخصيات "الآرما" المعروفة اليوم بابا أحمد حساية، رئيس مكتب التراث الثقافي بتنبكتو، وكذلك إسماعيل دياديا، الباحث في مركز أحمد بابا للدراسات الإسلامية بتنبكتو، والباحث الآن في مركز الدراسات الأندلسية التابع "للجماعة الإسلامية بالأندلس" في قرطبة، والذي له الدور الهام في التعريف بالسلالة الأندلسية في مالي. وقد أخذت الأوساط الأندلسية في الأندلس اليوم تهتم بأندلسيي مالي. فقد أرسلت "الجمعية الثقافية الحرة لسنة 2020"، وهي جمعية إسبانية غير حكومية، بعثة إلى مالي سنة 1986 م، واقترحت على مسؤوليها برنامج تعاون للحفاظ على التراث الأندلسي في مالي. ويحتوي هذا البرنامج على ترميم مسجد جنكورايبر الذي بناه الساحلي، وقد أبدت وزارة الثقافة الإسبانية واليونسكو اهتمامًا بهذا المشروع، وعلى إرسال أدوية لأطفال تنبكتو ومنطقتها بالتعاون مع الصليب الأحمر الإسباني. وعبر السنين، انتقل كثير من الأندلسيين التنبكتيين إلى البلدان المجاورة، خاصة النيجر والسنغال وموريطانيا، حيث توجد بعض العائلات الأندلسية، منها التي لم تضع ذكراها بعد، كما هاجر عدد من الأندلسيين من مصر ومن المغرب إلى السودان. وتستحق كل هذه الهجرات دراسة مستفيضة للتعرف على آثارها السكانية المعاصرة. 12/ 4 - الأندلسيون في القارة الآسيوية: كان لبلاد الشام موقع خاص في نفوس المغاربة والأندلسيين لما ورد في فضلها من أحاديث صحيحة، هاجر إليها عبر القرون عدد كبير من خاصتهم وعامتهم، قبل سقوط غرناطة وبعدها. وممن ذكر المقري في "نفح الطيب" أبو إسحق إبراهيم بن عبد الله بن حصن، هاجر إلى بلاد الشام وولي الحسبة بها أيام الحاكم العبيدي سنة 395 هـ، وتوفي بدمشق سنة 404 هـ. ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن عبد الله السعدي (من شاطبة)، قدم دمشق وصنف غريب الحديث على حروف المعجم، توفي

بحوران سنة 465 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء الأنصاري (من بلغي بالثغر الأعلى)، أخذ القراءات ورحل حاجًّا فقدم دمشق وأقرأ بها القرآن بالسبع، وتوفي بها سنة 512 هـ. ومن أندلسيي القرن السادس الذين قدموا إلى بلاد الشام أبو حامد محمد بن عبد الرحيم المازني (من غرناطة)، رحل إلى مصر وخراسان، ثم رجع إلى الشام واستقر في حلب، وكان حافظًا عالمًا أديبًا، توفي بدمشق سنة 565 هـ عن 92 سنة. منهم أبو الحكم عبيد الله بن المظفر المغربي (من المرية)، جمع بين الأدب والطب، وله ديوان شعره، توفي بدمشق سنة 459 هـ عن 63 سنة. منهم أبو الأصبح عبد العزيز بن علي بن الطحان (من إشبيلية)، رحل إلى مصر ثم بلاد الشام حيث استقر بحلب، واختص في القراءات والتجويد وله شعر جيد، توفي بحلب عن 61 سنة عام 559 هـ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن ياسر الأنصاري (من جيان)، زميل المؤرخ ابن عساكر، اختص في القراءات، استقر بحلب وتوفي بها سنة 563 هـ. ومنهم الشيخ الإمام الولي العارف أبو عبد الله محمد بن أحمد القرشي الهاشمي (من الجزيرة الخضراء)، انتقل إلى مصر ثم سافر إلى الشام فاستقر ببيت المقدس إلى أن مات سنة 599 هـ وهو ابن 55 سنة. ومنهم الطبيب الصوفي أبو الفضل محمد عبد المنعم الغساني (من جليانة من أعمال غرناطة)، قدم إلى القاهرة وسار إلى دمشق، كان يقال له حكيم الزمان، توفي بدمشق سنة 602 هـ. ومنهم النحوي أبو الحسن علي بن محمد بن خروف القيسي (من قرطبة)، له شرح كتاب سيبويه وكتب في الفرائض، وله شعر، استقر في حلب وتوفي بها سنة 602 هـ. ومن أندلسيي القرن السابع المهاجرين إلى بلاد الشام الصوفي الشهير أبو بكر عتيق بن أحمد بن عبد الباقي الأندلسي المتوفَّى سنة 616 هـ عن سن عالية. ومنهم الأديب الفقيه أبو العباس أحمد بن تميم البهراني (من لبلة)، جال في بلاد الإسلام من العراق إلى خراسان واستقر بدمشق حيث توفي سنة 625 هـ. ومنهم الصوفي الشهير أبو الحسن بن أحمد الحرالي (من حرالة من أعمال مرسية)، ولد بمراكش ورجع إلى الأندلس، ثم انتقل إلى المشرق واستقر ببلاد الشام حيث توفي بحماة سنة 637 هـ. ومنهم الصوفي الظاهري المشهور الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الحاتمي (من مرسية)، ولد بمرسية في 10 رمضان سنة 560 هـ، وانتقل إلى إشبيلية سنة 568 هـ حيث قرأ، وارتحل إلى المشرق سنة 598 هـ فدخل مصر والحجاز

والعراق وبلاد الروم، ثم استقر في دمشق حيث توفي في 28 ربيع الثاني سنة 628 هـ، وقبره بها يزار إلى يومنا هذا. ومنهم العالم الأديب الشيخ نور الدين أبو الحسن المايورقي (من مايرقة)، له نظم حسن، رحل إلى المشرق واستقر بدمشق حيث توفي سنة 655 هـ. ومنهم النحوي الشهير محمد بن عبد الله بن مالك (من جيان)، صاحب التسهيل والألفية، ولد سنة 600 هـ واستقر بدمشق حيث درس إلى أن توفي حوالي سنة 680 هـ. ومنهم الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد أبو بكر محمد بن أحمد البكري (من شريش) صاحب المصنفات المفيدة، هاجر إلى بلاد الشام وتولى مشيخة الصخرة بالحرم القدسي ومشيخة المالكية بدمشق، وعرض عليه القضاء فرفض، توفي بدمشق سنة 685 هـ عن 84 سنة. ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد الوائلي (من شريش)، رحل إلى الإسكندرية وبغداد، ثم انتقل إلى الشام حيث ولي مشيخة المدرسة بالقدس ومشيخة الرباط الناصري بالجبل، وأقام في دمشق يفتي ويدرس، كان أحد أئمة العربية والفقه والتفسير والأصول، توفي بدمشق سنة 685 هـ، ومنهم الإمام المحدث الزاهد زكي الدين أبو إسحق إبراهيم بن عبد العزيز (من لورة من أعمال إشبيلية)، سمع بمصر ودمشق وحلب وأفتى ودرس، وهو أول من باشر بظاهرية دمشق مشيخة الحديث، توفي بدمشق سنة 687 هـ عن نيف وسبعين سنة. ومنهم الشاعر النحوي أبو الوليد محمد بن الجنان (من شاطبة)، قصد مصر ودمشق وحلب، توفي بدمشق حوالي سنة 690 هـ ودفن بسفح جبل قاسيون. ومنهم أبو عبد الله محمد بن نوح (من إشبيلية)، حصّل الكثير في علم القرآن والأدب وله نظم ونثر، جال الأقطار المغربية والمشرقية واستقر بدمشق حيث توفي سنة 699 هـ عن 68 سنة. ومن أندلسيي القرن الثامن الذين هاجروا إلى بلاد الشام الإمام المقرىء الزاهد أبو عبد الله محمد بن غصن (من الجزيرة الخضراء)، كان عارفًا بمتون الحديث وأحكامه، أقرأ القرآن بمكة والمدينة والقدس، وله مصنفات في القراءات، توفي ببيت المقدس سنة 723 هـ عن سن عالية. ومنهم أبو عبد الله بن جابر الضرير (من المرية)، صاحب بديعية العميان، له أمداح نبوية كثيرة وتآليف منها "شرح ألفية ابن مالك" وديوان شعر، دخل مصر والشام واستوطن حلب وبها توفي في أواخر القرن الثامن. ومنهم رفيقه أبو جعفر الألبيري (من البيرة)، له كذلك نظم بديع وتآليف جمة منها "شرح لبديعية ابن جابر"، توفي بحلب أواخر القرن الثامن.

وانتقل إلى بلاد الشام، خاصة الساحل اللبناني ودمشق وبيت المقدس، جم غفير من الأندلسيين بعد سقوط غرناطة أيام الدولة المملوكية، وبعد طرد سنة 1609 م أيام الدولة العثمانية، كما انتقلت إليها عائلات أندلسية من المغرب والجزائر وتونس. غير أن ذكرى الأندلس لم تبق إلا في بعض هذه العائلات، منها بدمشق عائلة الألشي، نسبة إلى الش بمقاطعة لقنت، والمالقي، نسبة إلى مالقة، وبحلب عائلة بلانكو ( Blanco) ومنها مفتي الجمهورية السورية السابق، وغيرها من العائلات. وتستحق العائلات الأندلسية ببلاد الشام دراسة خاصة عبر الوثائق العثمانية. وتوجهت الهجرة الأندلسية إلى أرض الحجاز منذ القدم، إذ كان معظم المثقفين الأندلسيين يتوجهون للحج، ومنهم من يستقر للتدريس. ومنهم مفرج بن حماد المعافري (من قرطبة)، جد ابن مفرج صاحب كتاب "الاحتفال بعلم الرجال" كان من الصالحين، صحب ابن وضاح في رحلته الثانية واستقر بمكة المكرمة إلى أن توفي بها. ومنهم الفقيه الزاهد محمد بن يحيى الليثي، خرج حاجًّا ولقي سحنون ورجالاً من أصحاب الإمام مالك، فسمع منهم، وجاور بمكة إلى أن توفي بها. ومنهم الأستاذ الورع أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد الباجي (من باجة)، خلف والده بعد موته في حلقته، وترك تآليف منها "العقيدة في المذاهب السديدة"، توفي في جدة بعد حجة سنة 493 هـ ومنهم أبو بكر عبد الله بن طلحة اليابري (من يابرة)، ذو معرفة بالنحو والأصول والفقه وحفظ التفسير والقيام عليه، كان أحد الأئمة بجامع العديس بإشبيلية، ورحل إلى الشرق واستوطن مصر مدة، ثم رحل إلى مكة وبها توفي حوالي سنة 530 هـ. ومنهم أبو محمد طارق بن موسى بن يعيش المخزومي (من المنصف من أعمال بلنسية)، أدى الفريضة واستقر بمكة، كان شيخًا صالحًا ثقة عالي الرواية، توفي بمكة عن سن عالية سنة 549 هـ. ومن أندلسيي القرنين السابع والثامن الذين استقروا بالحجاز الحافظ أبو المكارم جمال الدين بن مسدي (من الجزيرة الخضراء)، شيخ السنة وحامل رايتها وإمام اللغة العربية، كان خطيب الحرم الشريف بمكة، ومات مقتولاً بها سنة 663 هـ عن 65 سنة. ومنهم الفقيه الجليل أبو محمد عبد الحق بن سبعين (من مرسية)، درس العربية والأدب في الأندلس، وكتب كتبًا عدة، وانتقل إلى سبتة وانتحل التصوف وعكف عليه مدة، ثم رحل إلى المشرق وشاع صيته وكثر أشياعه واستقر بمكة وتتلمذ له أميرها، وتوفي بها سنة 669 هـ عن 55 سنة. ومنهم الكاتب أبو القاسم خلف بن عبد العزيز

الغافقي (من إشبيلية)، كان له باع مديد في التوسل مع التقوى، انتقل إلى الحجاز واستقر بالمدينة المنورة حيث توفي سنة 704 هـ عن 49 سنة. ومنهم الفاضل الأديب الشاعر المجيد أبو عبد الله بن علي بن يحيى (من غرناطة)، هاجر إلى المدينة المنورة وبها توفي سنة 715 هـ ودفن بالبقيع. ومنهم الأديب الشاعر أبو عبد الله محمد بن قاسم بن رمان الفهري (من غرناطة)، هاجر إلى القاهرة ثم استقر بالمدينة المنورة، وبها توفي سنة 729 هـ. وبعد سقوط غرناطة، هاجر بعض الأندلسيين إلى الحجاز، معظمهم من المغرب وبلاد الشام، وتوجد اليوم بالحجاز خاصة، والمملكة العربية السعودية عامة، عائلات من أصول أندلسية منها الألشى والدبا، (أشراف أدارسة) وبرادة وغيرهم. ويستحق الوجود الأندلسي المعاصر في المملكة العربية السعودية أن يدرس. ومن الأندلسيين الذين انتقلوا إلى العراق منذ القدم أبو عثمان سعيد بن نصر بن خلفون (من أستجة)، سمع بقرطبة وبمكة، ثم رحل إلى بغداد وبها مات. ومنهم النحوي الشاعر أبو محمد عبد الله بن حمود الزبيدي (من إشبيلية)، ابن عمر الزبيدي اللغوي، جمع شرحًا لكتاب سيبويه، انتقل إلى فارس والعراق واستقر ببغداد إلى أن توفي بها سنة 372 هـ. ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي (من قرطبة)، برع في الحديث والأدب وسائر الفنون، وصنف مصنفات كثيرة منها "جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس"، كان إمامًا في الحفظ والمعرفة والديانة والنزاهة، رحل إلى مصر ودمشق ومكة وواسط، ثم استقر ببغداد وبها توفي سنة 491 هـ. ومنهم الحافظ المحدث النسابة أبو عامر محمد بن سعدون العبدري (من مايورقة)، ولد بقرطبة وهاجر إلى المشرق حيث استقر ببغداد إلى أن توفي بها سنة 524 هـ. ومنهم المحدث أبو الحسن سعد الخير بن محمد الأنصاري (من بلنسية)، رحل إلى أن وصل الصين ثم استقر بأصبهان وتزوج بها وولدت له ابنته فاطمة ابنة سعد الخير، وكانت امرأة فاضلة وعالمة، ثم استقر ببغداد وبها توفي سنة 541 هـ ودفن إلى جانب عبد الله ابن الإمام بن حنبل. ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون الأزدي (من قرطبة)، كان ديّنًا عالمًا بالقراءات وبالنحو، رحل في عنفوان شبابه إلى مصر ثم دخل بغداد ورحل منها إلى أصبهان ثم استقر بالموصل إلى أن مات بها سنة 567 هـ عن 81 سنة.

ومن أندلسيي القرن السابع المهاجرين إلى العراق الأديب الشاعر الكاتب أبو عبد الله محمد بن أحمد الزهري (من إشبيلية)، صاحب كتاب "البيان والتبيين في أنساب المحدثين"، في ستة أجزاء، ولد بمالقة، ودخل مصر والشام والجزيرة وأصبهان، واستقر ببغداد، قتله التتار في 17 رجب سنة 617 هـ، وعمره 57 سنة. ومنهم الصوفي الدين أبو محمد عبد العزيز ابن الأمير القائد أبي علي الحسن بن عبد العزيز اللخمي، رحل إلى مكة وبغداد وواسط وأصبهان وخراسان، واستقر بالبصرة إلى أن توفي بها في 10 رمضان سنة 617 هـ عن 40 سنة. ومنهم النحوي أبو عبد الله محمد بن ظاهر الخزرجي (من دانية)، صاحب كتاب "تحصيل عين المذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب"، خرج حاجًّا وزار دمشق ومصر، ثم أقام ببغداد إلى أن توفي بها سنة 619 هـ عن 107 سنة. ولا يعرف الوجود الأندلسي المعاصر في العراق. وهو يستحق الدراسة باستعمال الوثائق العثمانية في أسطنبول كذلك. ومن مشاهير الأندلسيين الذين هاجروا إلى اليمن الحسين بن أحمد التجيبي (من قرطبة)، أخذ علم العدد والهندسة من ابن برغوث، وكان كلفًا بصناعة التعديل وله زيج مختصر، خرج سنة 442 هـ إلى مصر ثم إلى اليمن حيث استقر إلى أن توفي سنة 456 هـ. ولا يعرف الكثير عن هجرة الأندلسيين إلى اليمن بعد سقوط غرناطة. ومن مشاهير الأندلسيين الذين هاجروا إلى الأراضي التي تكوّن اليوم تركيا قبل سقوط غرناطة الأديب الشاعر أبو الروح عيسى بن عبد الله النقري (من تاكرنا، منطقة مالقة)، انتقل إلى آمد حيث استقر، وتوفي سنة 629 هـ في أرزن من ديار بكر. ومنهم الفقيه النحوي الأصولي محمد بن يحيى اللبسي، كان قاضيًا للقضاة، انتقل إلى الشام وعينه الملك الأشرف على قضاء المالكية بحماة، ثم رحل إلى حلب ومنها إلى بلاد الروم، واستقر ببروسة حيث توفي في أواخر شعبان سنة 884 هـ عن 78 سنة. وبعد سقوط غرناطة وطرد سنة 1609 م، هاجرت أعداد كبيرة من الأندلسيين إلى الدولة العثمانية، بما فيها الأراضي التي تكوّن تركيا اليوم، خاصة أسطنبول. ويستحق الوجود الأندلسي المعاصر في تركيا أن يدرس باستعمال الوثائق العثمانية. ومن مشاهير الأندلسيين الذين هاجروا إلى إيران قبل سقوط غرناطة الشاعر الأديب أبو بكر محمد بن يحيى بن مالك (من طرطوشة)، كان حافظًا للنحو واللغة

والشعر، رحل مع أبيه أبي زكريا صاحب الرواية إلى مصر والبصرة وبغداد، ثم استقر بأصبهان إلى أن توفي بها سنة 360 هـ. ومنهم المقرىء المعروف أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى (من قرطبة)، هاجر إلى مصر والشام والحجاز والعراق وخراسان، واستقر بسجستان حيث توفي سنة 393 هـ. ومنهم المحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الله العنسي (من غرناطة)، هاجر إلى مصر والإسكندرية ودمشق وبغداد، ثم استقر في أصبهان حيث فُقد حين استولى عليها التتار قبل 630 هـ. ولا يعرف مدى الهجرة الأندلسية لإيران بعض سقوط غرناطة وظهور الدولة الصفوية. ومن مشاهير الأندلسيين الذين هاجروا إلى أفغانستان أبو محمد عبد الله بن عيسى بن أبي حبيب (من شلب)، من بيت علم ووزارة، كان غزير العلم في الفقه والحديث والأدب، وولي القضاء بالأندلس مدة، ثم دخل الإسكندرية ومصر وجاور بمكة المكرمة، ثم قدم بغداد، ثم انتقل إلى خراسان حيث أقام بنيسابور وبلخ واستقر بهراة حيث توفي سنة 548 هـ. ولم تدرس هجرة الأندلسيين إلى أفغانستان بعد سقوط غرناطة. ومن مشاهير الأندلسيين الذين هاجروا إلى آسيا الوسطى المحدث أبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الملك الأموي (من قرطبة)، سمع عن جماعة في مكة ومصر ودمشق وغيرها، ثم استقر في بخارى وبها توفي سنة 365 هـ. ومنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن صالح المعافري، رحل إلى المشرق فزار بغداد وهمدان وأصبهان ونيسابور ومرو، ثم استقر ببخارى وبها توفي سنة 383 هـ. ومنهم الأديب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد، عم علي بن سعيد، هاجر إلى أقصى المشرق واستقر ببخارى حيث قتل عند دخول التتار لها في القرن السابع. ولم تدرس هجرة الأندلسيين إلى مناطق آسيا الوسطى بعد سقوط غرناطة. ومن مشاهير الأندلسيين الذين هاجروا إلى الهند الفقيه المالكي الحافظ أبو الوليد محمد بن عبد الله بن فيرة (من قرطبة)، من تلامذة القاضي ابن رشد، خرج إلى الإسكندرية والقاهرة وقوص بالصعيد ومكة وزبيد باليمن، ثم الهند حيث استقر وتوفي. وبعد سقوط غرناطة، التقى الإسبان بأندلسيين في الهند منهم علي التورتو، ترجمان البرقوقي، حاكم الهند البرتغالي، وعلي الغرناطي، ترجمان التاجر مالك كوبي، وغيرها، وتستحق هذه الهجرة أن تدرس.

12/ 5 - الأندلسيون في باقي أوروبا وأمريكا:

ولا شك أن عددًا من الأندلسيين انتقلوا مع الجيوش الإسبانية إلى الفلبين وانضموا إلى المسلمين الذين يفتخرون إلى اليوم بتسمية "المورو"، ويسمون نفسهم "شعب المورو"، كما انتقل الأندلسيون مع البرتغاليين إلى سيلان (حيث يسمى المسلمون القدماء مورو إلى اليوم). وماليزيا وجزر أندونيسيا. وكل هذه الهجرات تستحق الدراسة. أما الصين فقد انتقل إليها الأندلسيون قبل سقوط غرناطة وبعدها ولم تجر بعد على هذا الموضوع دراسة تذكر. 12/ 5 - الأندلسيون في باقي أوروبا وأمريكا: يعود الوجود الإسلامي الأندلسي في فرنسا، أقرب دول أوروبا لشبه الجزيرة الأندلسية، إلى الفتح الإسلامي. وكان الأندلسيون يسمون الأراضي الأوروبية وراء جبال البرت ( Pyrennees) بـ "الأرض الكبيرة". وقد أرسل المسلمون عدة حملات استكشافية إلى "الأرض الكبيرة"، الأولى سنة 714 م بقيادة طارق بن زياد، خرجت من طرطوشة فبرشلونة فأربونة ( Narbonne) إلى أبنيون ( Avignon) على نهر الرودانة ( Rhones) ، وتابعت مجرى النهر إلى حصن لذن ( Lyon) ثم رجعت إلى الأندلس. والثانية سنة 715 م. فتحت أربونة وقرقشونة ( Carcasonne) ، وألحقت منطقتيهما بالأراضي الأندلسية. والثالثة سنة 719، بقيادة السمح بن مالك الخولاني، خرجت من برشلونة وركزت فتح أريونة وقرقشونة، واتجهت نحو طلوشة ( Toulouse) ، فاستشهد السمح على أباب المدينة سنة 721، ورجع الجيش إلى برشلونة. والرابعة سنة 725 م، بقيادة عنبسة بن سحيم الكلبي، اتجهت من أربونة إلى نيمش ( Nimes) ، ففتحتها وضمتها للأراضي الإسلامية، ثم اتجهت على ضفاف وادي الرودانة إلى حصن لذن، ثم تابعت مجرى نهر الصون إلى مدينة أوتان ( Autin) ثم إلى بلدة سانس ( Sens) على بعد مائة كيلومتر شرق باريز، ثم اتجهت الحملة إلى شالون ( Chalon) وديجون ( Dijon) ولانغرس ( Langres) قبل أن ترجع إلى الأندلس عن طريق وادي الصون والرودانة. والحملة الخامسة سنة 732 هـ، بقيادة عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي اتجهت من بنبلونة عبر مضيق روسنفو بجبال البرت إلى برديل ( Bordeaux) ثم إلى بواتيه حيث استشهد عبد الرحمن الغافقي في معركة بلاط الشهداء في شهر رمضان سنة 114 هـ (أكتوبر سنة 732 م)، عشرون كيلومترًا شمال المدينة، فرجع الجيش إلى أربونة. والحملة السادسة سنة 734 م، بقيادة يوسف بن عبد الرحمن،

والي أربونة، اتجهت من أربونة ففتحت مدينة آرلس ( Arles) ثم سان رمي ثم أبنيون وضمتها لأراضي الأندلس، ثم تابعت الحملة مجرى نهر الدورانس شرقًا نحو جبال الألب، ورجعت الحملة بعد أربع سنوات إلى أربونة. ثم استرجع الإفرنج الأراضي التي فتحها المسلمون في الأرض الكبيرة ابتداء من أبنيون، ثم أربونة سنة 751 م بعد 36 سنة من الوجود الإسلامي، ثم قرقشونة سنة 759 م بعد 44 سنة من الوجود الإسلامي. وبهذا انقضى الوجود الإسلامي الأندلسي المباشر الأول في فرنسا. وفي سنة 236 هـ (850 م) أرسل عبد الرحمن الأوسط جيشًا بقيادة عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في حملة تأديبية ضد الإفرنج وصلت إلى مدينة أربونة. ثم تتابعت حملات البحارة الأندلسيين على الشواطىء الفرنسية، ضد آرلس سنة 843 م و 850 م و 869 م، وضد نيس سنة 859 م و 880 م، ثم استوطنوا حول بلدة فراكسنتوم، قرب سان تروبيز بين نيس وتولون، بين سنتي 891 و 894 م، وتوسع الجيش الأندلسي إلى أن كوّن دويلة أندلسية بحرية امتدت على جبال الألب سنة 933 م، وتوسعت إلى أن ضمت أراضي فرنسية وإيطالية وسويسرية، ولم تقض عليها الحملات الصليبية المتواصلة إلا سنة 973 م بعد 82 سنة من تأسيسها. ويعود التأثير الأندلسي في فرنسا إلى حقبة ما بعد سقوط غرناطة وطرد سنة 1609 م. وفي سنة 1019 هـ (1611 م) زار الشهاب الحجري فرنسا على رأس سفارة لسلطان المغرب، من ميناء آسفى، وتحدث عن وجود قاض للأندلسيين في المجلس الملكي الفرنسي، مركزه في سان جان دولوس (ببلاد الباسك الفرنسية)، يختاره الملك من بين النصارى ليقضي بين الأندلسيين في نزاعاتهم ولأخذ خمس أملاك أغنياءهم لصرفها على فقرائهم. وتبين الوثائق الفرنسية تفاصيل عن المورسكيين في فرنسا في القرن السابع عشر، منها رسائل حول موضوع إنجاز قرار برلمان إكس البروفانس بطرد اللاجئين المورسكيين تظهر أنه سمح لعدد كبير منهم بالإقامة حول تولون، جنوب فرنسا، وإعفائهم من الطرد بحجة أنهم نصارى مخلصين. وتبرهن أحداث القرن السابع عشر أن معظم مروسكيي فرنسا بقوا مسلمين سرًّا. فمثلاً، كانت توجد ثلاث فئات بين الأوروبيين المسلمين ذو النفوذ في طرابلس الغرب في أواخر القرن: إيطالية، ويونانية، وفرنسية من منطقتي تولون ومرسيلية حيث استقر

المورسكيون، مما يوحي أن فرنسيي طرابلس هم أحفاد المورسكيين الذين رجعوا إلى الإسلام. كما انتقل عدد من فرنسيي منطقتي اللانكدوق والروسيون (منطقتي هجرة المورسكيين كذلك) إلى تونس وأعلنوا إسلامهم، منهم الرئيس شعبان دي مارتيغة ( Martigues) الذي ولد في سرينيان ( Serignan) سنة 1589 م، وانتقل إلى تونس سنة 1604 م حيث أعلن إسلامه، وقبض عليه النصارى في صقلية سنة 1619 م وحاكموه في محاكم التفتيش. وفي غشت سنة 1668 م، قدم ثلاثة تجار من أصل أندلسي من بوردو إلى مرسيلية للإبحار إلى الجزائر، فقبضت السلطات على واحد منهم مع 18 من ذويه. فأقر أن مورسكيي فرنسا (أكثرهم باللانكدوق غوايان والنورماندي) يخفون الإسلام ويتظاهرون بالنصرانية، وأن مئات منهم يهاجرون سنويًّا إلى شمال إفريقيا بأبنائهم ونسائهم. وقد اشتكى قناصلة فرنسا، خاصة في الجزائر وتونس وطرابلس، من هذه الهجرة الفرنسية والهروب من النصرانية. واكتشفت السلطات أن المورسكيين يتكلمون الفرنسية بطلاقة تامة ويكوّنون في فرنسا "نوعًا من الجمهورية" ويتزوجون بالفرنسيات ويدخلنهن الإسلام. فحاولت السلطات الفرنسية إرغامهم على التنصير، كما قبضت في شهر نوفمبر عام 1668 م على مورسكي آخر و 20 من ذويه، بما فيهم النساء والأطفال، حاولوا التوجه من فرنسا إلى بلاد الإسلام، فمنعتهم وشتتتهم في فرنسا. وفي سنة 1677 م، خرج بدرو الباسكوني، وهو مورسكي من بوردو حيث ولد، من طرابلس إلى تافلالت ومراكش، واستقر في طنجة كصوفي مسلم. وفي سنة 1700 م، هرب بروتستنتيان من روان وليزيو إلى الجزائر واعتنقا الإسلام وتزوجا بمسلمتين، ومن المحتمل أنهما كذلك من أبناء الجالية المورسكية المستقرة في النورماندي. نرى إذن أن معظم الفرنسيين الذين هربوا إلى شمال إفريقيا في القرنين السابع والثامن عشر وأعلنوا إسلامهم، هم من أصول أندلسية أو من المناطق الفرنسية ذات السكن المورسكي. ويجوز التساؤل عن وجود ذكرى جماعية إسلامية في مناطق السكن المورسكي، خاصة أن كثير من معتنقي الإسلام المعاصرين في فرنسا، بما فيهم المفكر روجي كارودي، هم من تلك المناطق. وبصفة عامة توجد في فرنسا اليوم عائلات كثيرة ذات أصول أندلسية واضحة ومعروفة منها: عائلة غراندي ( Grandet) وجعفري ( Jafari) وبسطي ( Basti) وكيلس

( Quiles) التي تعادلها اسكيرج في تطوان، وغيرها من الأسماء. ولا شك أن هذا الموضوع يستحق الدراسة. ونتج التأثير الأندلسي في سويسرا عن دولة فرانكسنتوم التي ضمت منطقة الفالي ووصلت إلى شمال سويسرا بسان غال. كما استقر بعض المورسكيين في سويسرا بعد سنة 1609 م، منهم الدكتور أبو زيد صديق فولتير. ولحد الساعة يفتخر أهل الفالي بأصولهم "العربية". واستقر بإيطاليا عدد من الأندلسيين، طوعًا أو كرهًا، كالكاتب المؤرخ محمد بن الحسن الوزان الغرناطي، الذي أسره النصارى وباعوه للبابا، وظل مدة في روما تحت اسم "ليون الإفريقي"، وكتب كتبًا أهمها "وصف إفريقيا". وقد هاجر عدد من الإيطاليين إلى بلاد الاسلام وأعلنوا إسلامهم، ولا شك أن منهم ذوو الأصول المورسكية، كالرئيس علي فراري الذي استقر بتونس، وقبض عليه النصارى وسلموه إلى محاكم التفتيش في صقلية التي حاولت إجباره على التنصير. فرفض رغم السجن والتعذيب الذين داما من سنة 1624 م إلى ما بعد سنة 1642 م. كما يتأصل من إيطاليا عدة من حكام الجزائر كالرئيس علج علي والرئيس باربا روسا. وقد بقيت بعض الأسماء الإيطالية تدل على أصول أندلسية منها، مورو (كرئيس الوزراء السابق المقتول، آلدو مورو) وسرزان ( Sarrazin) ، وغيرهما. ويستحق بقايا الوجود الأندلسي في إيطاليا الدراسة. ومكث عدد من المورسكيين في ألمانيا حيث بقيت عدة أسماء عائلات أندلسية إلى اليوم، منها اسم موهر ( Mohr) . ووصل الوجود الأندلسي إلى بريطانيا ومناطق أوروبا الشمالية. ورغم انعدام البراهين حول أصل شكسبير "العربي" الأندلسي، فليس من المستبعد حسب الأوضاع المعروفة آنذاك أن يكون أندلسيًّا، ويستحق الموضوع الدراسة. وأوردت الوثائق العربية هجرة غرناطية إلى أوروبا الشرقية، كهجرة أبي حامد الغرناطي وابنه حامد إلى المجر حيث تزعما الجماعة الإسلامية بها في القرن الثاني عشر الميلادي. وقد ذكر أبو حامد الكثير عن حياة المسلمين في المجر في كتابه "تحفة الألباب ونخبة الآداب". وبعد ثورة ربض قرطبة سنة 202 هـ (818 م)، توجه عدد من الربضيين بعد طردهم إلى الإسكندرية واحتلوها. واضطروا إلى الخروج عنها سنة 212 هـ (827 م)

لفتح جزيرة اقريطش (كريت) من يد البيزنطيين بقيادة أبي حفص عمر البلوطي، وصحبة عدد من الفقهاء والعلماء منهم الفقيه الزاهد محمد بن عيسى بن دينار الغافقي (من قرطبة)، وكان عددهم حوالي 5.000 أندلسي. فأسسوا إمارة أندلسية إسلامية دامت 134 سنة إلى احتلال البيزنطيين سنة 961 م، واتخذوا مدينة الخندق (كندية، هرقليون اليوم) عاصمة لها. وأسلم معظم سكان الجزيرة بعد بضع سنين، كما ذكر في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أبو إسحق الكرخي في كتابه "المسالك والممالك"، إذ قال: "واقريطش دونها (أي صقلية) في العرصة والعمارة، وسكانها جميعًا مسلمون أهل غزو، وبين ظهورهم نبذ من النصارى كما يكون ببلدان المسلمين". ولما احتل النصارى اقريطش أخذوا ينصّرون الأهالي قهرًا حتى قضي على الإسلام في الجزيرة، كما ذكر ابن جبير (من بلنسية) في رحلته سنة 1185 م (أي 224 سنة بعد خروج اقريطش من يد الأندلسيين): "وأهل النظر في العواقب منهم (مسلمي صقلية) يخافون أن يتفق على جميعهم ما اتفق على أهل جزيرة اقريطش المسلمين، في المدة السالفة، فإنه لم تزل بهم الملكة الطاغية من النصارى والاستدراج الشيء بعد الشيء، حالاً بعد حال، حتى اضطروا إلى التنصر عن آخرهم، وفر منهم من قضى الله بنجاته". ثم فتح العثمانيون اقريطش من يد البندقيين بين سنتي 1645 م و 1669 م (أي 684 سنة بعد خروجها من يد الأندلسيين) فعاد كثير من أهلها إلى الإسلام بفضل ذكرى الحقبة الأندلسية الجماعية، حتى زاد عدد المسلمين على نصف السكان في منتصف القرن التاسع عشر. ثم أخذ الأوروبيون يشجعون نصارى الجزيرة على إقامة المذابح ضد مواطنيهم المسلمين، دون حماية الدولة العثمانية، فنزح المسلمون بأعداد كبيرة إلى أن نزلت نسبتهم في الجزيرة إلى 26.4 في المائة سنة 1900 م، قبيل انضمامها إلى اليونان سنة 1913 م. وفي سنة 1923 م، أدخل مسلمو اقريطش في تبادل السكان مع تركيا، فنقل عنها معظم ما تبقى من مسلميها. ويوجد اليوم مسلمون كريتيون في معظم المناطق الإسلامية حول البحر الأبيض المتوسط. وبعد سقوط غرناطة، هاجرت إلى الأراضي التي تكون اليوم اليونان، خاصة سلانك وطراقية الغربية، أعداد كبيرة من الأندلسيين، وكذلك بعد طرد سنة 1609 م،

واندمجوا مع الأيام في المجتمع التركي وانتقل الكثير منهم إلى تركيا بعد الحرب العالمية الأولى. وانتقل عدد من الأندلسيين في القرن السابع عشر إلى الأراضي العثمانية التي تكوّن اليوم يوغسلافيا وألبانيا وبلغاريا. وتستحق هجرات الأندلسيين إلى أوروبا الشرقية وتأثيرهم على مجتمعاتهم الإسلامية الدراسة. والأندلسيون هم الذين اكتشفوا القارة الأمريكية، حسب الشريف الإدريسي في قصة الشبان المغرورين الذين أبحروا من الأشبونة عبر "بحر الظلمات" إلى جزر وصفوها، أرجعهم عنها ملكها. لولا الأندلسيون لما وصل كلومب إلى القارة الجديدة. وبعد سقوط غرناطة واكتشافها، هاجر إليها الأندلسيون المسلمون مع الجيوش الغازية هروبًا من محاكم التفتيش. لكنهم وجدوا محاكم مماثلة تنتظرهم في القارة الأمريكية. وأول من وصل إلى شمال أمريكا من المورسكيين روديكو دي لوبي، زميل كلومب، الذي أعلن إسلامه بعد رجوعه إلى إسبانيا، واستبانيكو دي آزمور، الجنرال الإسباني الذي احتل أريزونا، وهو في الحقيقة مورسكي. وظلت إلى يومنا هذا الآثار الأندلسية قائمة في كل جنوب أمريكا. فبقي التأثير الإسلامي الأندلسي في التراث الفنزويلي المكتوب يظهر من وقت لآخر، أهمه إنتاج الكاتب الفنزويلي دون رفائيل دونقالس إي مندس (ولد سنة 1878 م) الذي اعتز بجذوره الإسلامية في مؤلفاته. ولا زال كثير من الفنزويليين يفخرون بأصولهم الأندلسية الإسلامية. ويعتز كذلك الكولومبيون بالتأثير الأندلسي الإسلامي. ونبغ في القرن التاسع عشر أخصائيون كولومبيون في الحضارة الإسلامية، منهم الدون آزكيال أوريكواشا. وعندما ضعفت قبضة الكنيسة على البلاد بعد استقلالها، وصلت الشجاعة ببعض الكتاب الكبار إلى الافتخار بالإسلام وحضارته، منهم من تعلم اللغة العربية وآدابها، أشهرهم دون روفينو خوزي كوارفو. ودخل التراث الإسلامي الأندلسي إلى العمارة في البيرو والأكوادور، كما أثر على كتابهما، كقصة كاتب البيرو الكبير دون ريكاردو بلما التي نشرها تحت عنوان "افعل الخير ولا تبال"، حيث اتخذ حياة الأمير إبراهيم جد الأمير الأموي مروان الثاني أساسًا. والقصة مبنية على عظمة التسامح والكرم اللذين أديا إلى أن يسامح

الرجل ضيفه رغم اكتشافه أنه قاتل ابنه. ويوجد بالبيرو اليوم عطف على الإسلام، وكذلك الحال في بوليفيا. وأثرت الحضارة الأندلسية الإسلامية في أدب الشيلي، كما يظهر، مثلاً، في تراث الكاتب الشيلاني دون بدرو برادو الذي طبق القافية العربية على الشعر الإسباني، ونشر سنة 1921 م ديوانًا باسم أفغاني مستعار هو "رضائي روشان"، كما أصبحت عدة قصص عربية جزءًا من التراث الشعبي الشيلاني. ومنع البرتغاليون هجرة الأندلسيين المسلمين إلى البرازيل عندما احتلوها في القرن السادس عشر. ورغم المنع، وصل كثير من البحارة الأندلسيين إلى البرازيل لمعرفتهم بالبحار والملاحة فيها، كما هاجر إليها سرًّا أندلسيون من منطقة الغرب (جنوب البرتغال)، فأقامت الحكومة محاكمًا للتفتيش ضدهم. وفي سنة 1594 م، أخرجت محكمة بهية للتفتيش منشورًا توضح فيه علامات المُخفي للإسلام، منها: الغسل والنظافة خاصة أيام الجمعة، والقيام الباكر، والصيام، ونظافة الملابس. وحرقت تلك المحاكم كثير من الضحايا بتهمة الإسلام. وتوجد اليوم في البرازيل عائلات يعتز أفرادها بأصولهم الأندلسية، ويحتفظون في بيوتهم بمصاحف توارثوها عن أجدادهم جيلاً بعد جيل. ومنهم من اعتنق الإسلام، وقد كوّن هؤلاء جماعات إسلامية، خاصة في سان باولو. وهاجر الأندلسيون إلى مناطق أرجنتين اليوم، وبسبب اضطهاد الكنيسة والدولة، لم يبق من إسلامهم إلا ذكرى يفتخرون بها. كما فعل كاتب أواخر القرن التاسع عشر دومنغو سارميانتو الذي كان يفتخر بأصله الإسلامي كسليل بني الرزين في شرق الأندلس. ويعتقد الكثيرون أن رعاة القاوشو في بوادي الأرجنتين هم من السلالات الأندلسية، وحافظوا على الكثير من القيم الإسلامية العريقة. وأثرت الحضارة الأندلسية على كثير من الأدباء الأرجنتينيين كأنريكي لاريتا الذي كتب عن حياة الأندلسيين أيام الملك فليبي الثاني في كتابه "انتصار الدون روميرو"، والكاتب قونسالس بالنسية في قصته "علامة الأسد"، وغيرهما. وحصلت اليوم صحوة إسلامية أندلسية في الأرجنتين حيث أسس الأندلسيون الأرجنتينيون جماعة إسلامية، يتكون مكتبها الأول من: يوسف محمد علي قرطيش (الرئيس) ومحمد بارسيا (الأمين العام)، ومن أهم أعضائها أحد أعضاء عائلة "مولاي

سليلة بني الأحمر الذين احتفظوا بإسلامهم جيلاً بعد جيل في الأندلس، وهاجروا إلى أمريكا الجنوبية، ثم أعلنوا إسلامهم. لذا فالشتات الأندلسي يستحق الدراسة والاهتمام. وهذا ما تنوي "الجماعة الإسلامية بالأندلس" القيام به. ندعو من الله لنا ولهم التوفيق. ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل، ولا غالب إلى الله.

مراجع الفصل الثاني عشر

مراجع الفصل الثاني عشر 12/ 1 - عبد الكبير بن هاشم الكتاني "زهر الآس في بيوتات أهل فاس" مخطوط المكتبة الكتانية رقم 1281. 12/ 2 - محمد بوجندار "الاغتباط بتراجم أعلام الرباط" الخزانة العامة بالرباط عدد 1287 د. 12/ 3 - محمد داود "تاريخ تطوان" 8 أجزاء، تطو ان والرباط، 1959 - 1979، المجلد الأول، الصفحة 431. 12/ 4 - أحمد الرهوني "عمدة الراوين في تاريخ تطاوين" 10 أجزاء. 12/ 5 - بلقاسم لعشاش "بيوتات مدينة سلا" مخطوط الخزانة الصبيحية بسلا، رقم 1344. 12/ 6 - عبد الرحمن بن زيدان "المنزع اللطيف في التلميح لمناقب مولاي إسماعيل بن الشريف" مخطوط الخزانة العامة بالرباط عدد 2019. 12/ 7 - Mohamed El - Aziz Ben - Achour "l'Itineraire d'une Famille Tunisi - enne d'Origine Andalouse: Les Ibn Ashour" Les Morisques Anda - lous, Recueillis par Slimane - Mostafa Zbiss, et. al., Tunis, 1983. 12 / 8 - Francisco Ximenez "Diario de Tunez" Ms Biblioteca Real Acade - mia de la Historia, Espana. 12 / 9 - ابن ضياف "إتحاف أهل الزمان في أخبار ملوك تونس وعهد الأمان" 8 مجلدات، تونس 1962 - 1964 م. 12/ 10 - Mikel de Epalza "Nouveaux Documents sur les Andalous en Tuni - sie au Debut du XVIIIe Siecle" Les Morisques Andalous.

12/ 11 - Mohiddine Boughanmi "Un Peublo Andalusi en Tunez en el Siglo XIX: Soliman" Revista Miscelanea de Estudios Arabes y Hebraicos, Granada, vol. 25, Fascicule 1, 1976. 12 / 12 - Ridwan Reichico "Comunidades Andalusies en Tunez" Lamalif (Cordoba) , No. 3, 1990. 12 / 13 - Khelefi Chatter "Le Fait Andalou dans la Tunisie du 19e Siecle" Actes du II Symposium International du CIEM, Tunis 1984. 12 / 14 - N.S. Hopkins "Notes sur l'Histoire de Testour" Revue de l'His - toire Maghrebine. Tunis. No. 9, 1977. 12 / 15 - محمد عبد الله عنان "تستور: بلد المورسكيين الأندلسيين" مجلة العربي، 1970. 12/ 16 - محمد المزي "نور القبس بين طبربة والأندلس" بحوث عن الأندلسيين في تونس، جمعها سليمان مصطفى زبيس وعبد الحكيم القفصي ومحيي الدين البوغانمي وميكال دي ابلثا. 12/ 17 - Hans - Hoachim Kress "Elements Structuraux Andalous dans la Gen - ese de la Geographie Culturelle de la Tunisie" Marburger Geogra - phische Shriften, Fascicule 73, Marburg / Lahn. 1977. 12 / 18 - أحمد بن محمد المقري "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" المجلد الثاني، تحقيق إحسان عباس، ص 349. 12/ 19 - مرجع (12 - 18)، ص 66. 12/ 20 - Bartolome Bennassar et Lucile Bennassar "Les Chretiens d'Allah" Perrin (Paris) , 1989, p. 38 - 39. 12 / 21 - Mahmoud Fekih "De l'Impact Morisque en Afrique du Nord et les Consequences de leur Expulsion" Actes du II Symposium Interna - tional du CIEM, ed. par Abdeljelil Temimi, Tunis, 1984, Vol. II. 12 / 22 - Abdel - Rahim Abdul - Rahman Abdul - Rahim "The Documents of Mahkama Shariyya Al Misriyya as a Source of the Study of Moor - ish Emigrants" Actes du II Symposium International due CIEM, ed. by Abdeljelil Temimi, Tunis, 1984. Vol. II. 12 / 23 - Ismael Diadie Haidara "Las Relaciones Subsaharianas de Al - Anda - lus durante el Siglo X" Lamalif, Cordoba, No. 3, 1990. 12 / 24 - مرجع (12 - 18)، ص 631.

12/ 25 - Francisco Sanchez Ruano "La Huella de los Moriscos Espanoles en la Africa Negra" Cruz Roja, Julio 1988. 12 / 26 - Jean Aubin "Albuquerque et les Negociations de Cambaye" Mare Luso - Indicum, Vol. 1. p.14 et 22. 12 / 27 - علي المنتصر الكتاني "المسلمون في أوروبا وأمريكا" دار إدريس، بيروت) لبنان)، سنة 1976 م، ص 196 - 199. 12/ 28 - أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي "ناصر الدين على القوم الكافرين وهو السيف الأشهر على كل من كفر" مخطوط. 12/ 29 - Guy Turbet - Delof "Documents sur la Diaspora Morisque en France au XVIIe Siecle" Actes du II Symposium International du CIEM, ed. par Abdeljelil Temimi, Tunis, 1984, Vol. II. 12 / 30 - Antoine Quartier "l'Esclave Religieux" Paris, D. Hortemels 1960, p. 235. 12 / 31 - Ref. (12.20) , p. 57 - 78. 12 / 32 - Francisque Michel "Histoire des Races Maudites" Paris, A. Franck, 1847, Tome II, p. 55 - 98. 12 / 33 - Ref. (12.20) , p. 78 - 109. 12 / 34 - مرجع (12 - 18)، صفحة 149.

خاتمة

خاتمة يظهر جليًّا أن تاريخ الإسلام في الأندلس منذ سقوط غرناطة إلى اليوم يتسم بظاهرتين أساسيتين: أولهما، ارتباط الشعب الأندلسي الوثيق بالعقيدة الإسلامية والتراث الإسلامي، وتشبثه بهما ما أمكن طوال خمسة قرون منذ سقوط غرناطة؛ ثانيهما، خذلان الأمة الإسلامية المتواصل لمجهودات الشعب الأندلسي في الحفاظ على هويته وشخصيته والدفاع عن إسلامه. فبعد غدر الملكان الكاثوليكيان لكل المواثيق التي وقعوها إبان سقوط غرناطة لإضعاف المقاومة الأندلسية، تحول النضال الأندلسي طوال القرن السادس عشر، بعد الصدمة الأولى، إلى حرب عصابات دائمة ضد الوجود القشتالي، وصلت في أوجها إلى ثورة غرناطة الكبرى سنة 1569 م التي جند لها الشعب الأندلسي كل طاقاته. كما اتسمت هذه الفترة بخذلان جميع دول الإسلام آنذاك لصيحات الشعب الأندلسي المتواصلة في محنته، فلم تستجب لهم لا الدولة السعدية بالمغرب ولا الدولة المملوكية بمصر ولا الدولة العثمانية بعدها، وكانت القوى الإسلامية الثلاثة في البحر الأبيض المتوسط. ووصل الخذلان أوجه إبان ثورة غرناطة الكبرى، حيث اتكل الأندلسيون على وعود الدولتين السعدية والعثمانية الكاذبة، فذاقوا بسببه أمرّ الشرور وأقساها. وتفتّق فكر الدولة الإسبانية والكنيسة الكاثوليكية سنة 1609 م على طرد الطبقة المفكرة من الشعب الأندلسي، فطردت منهم حوالي 230 ألف شخص، تشتتوا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، خاصة بشمال إفريقيا. وإبان هذه المأساة ذاق

اللاجئون الأندلسيون مرارة التشريد وقبح الاستقبال وظلم ذوي القربى في مواطن هجرتهم. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، تحول نضال الشعب الأندلسي إلى مقاومة صمّاء دفينة في القلوب، وهو يحاول التشبث ببقايا هويته وشخصيته الإسلامية تشبث الغريق. وتجاهل العالم الإسلامي، في هذه الأثناء، كلية كل مظاهر الوجود الإسلامي في الأندلس رغم السيل المتواصل من العائدين إلى الإسلام الذين انضموا إلى جيوشه البرية والبحرية في المغرب والمشرق، وقد أضاعوا أسماءهم وهوياتهم ولم يرجعهم إلى الإسلام إلا ذكرى جماعية في مجتمعاتهم وبين أهاليهم، وحقد دفين على الذين اضطهدوهم جيلاً بعد جيل، وحوّلوهم من أمة سائدة إلى أمة مستعبدة. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين تحول النضال الأندلسي إلى شكل جديد يتماشى مع لغة ذلك العصر، عصر القوميات. فحاول مفكرو الشعب الأندلسي الدفاع عن ما تبقى من هويتهم الخاصة التي تجعلهم قومية متميزة بلغة لا دينية يقبلها الغرب الصليبي. ولا يميز القومية الأندلسية عن باقي قوميات أوروبا، رغم ضياع لغتها العربية وكثير من خاصياتها الثقافية، سوى ذكراها لأمجادها الإسلامية وجذورها العريقة. وحتى في هذه الفترة، تجاهل العالم الإسلامي محاولات الأندلسيين ربط الصلة به، ولم ينظروا إلى قوميتهم بالنظرة البعيدة التي تستحقها. ثم تزعّم بلاس إنفانتي هذه الحركة فوصل بها إلى منطقها الطبيعي في ربطها بجذورها الإسلامية، فاعتنق الإسلام إيمانًا به واستعادة لشخصيته الأصيلة وطالب الأندلسيين بالرجوع إليه. وأدت أفكاره المجهولة في العالم الإسلامي إلى استشهاده على يد قوى الظلم والطغيان والتعصب قبل الحرب العالمية الثانية. فرجعت بموته القومية الأندلسية إلى السرية الكاملة، لم تخرج منها إلا بعد انتهاء العهد الدكتاتوري الفرنكوي سنة 1975 م. فاعترفت الدولة الإسبانية لأول مرة بعد تكوينها بتعددية الحضارات والديانات الموجودة على أرضها. فساندت الأكثرية الساحقة للشعب الأندلسي أفكار بلاس إنفانتي مطالبة بالاعتراف بالشعب الأندلسي كقومية مميزة شأنها شأن القوميتين الباسكية والقطلانية. وهكذا تأسست سنة 1980 م منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي من ثمان مقاطعات في جنوب إسبانيا هي: قادس وولبة وإشبيلية وقرطبة ومالقة وجيان والمرية وغرناطة، واختيرت إشبيلية عاصمة لها. واستعادت هذه المنطقة بعض الشعارات الإسلامية كالعلم الأندلسي والنشيد الوطني

والاعتزاز بماضيها الإسلامي. وحاولت منطقة الأندلس ربط علاقات خاصة مع العالم الإسلامي، بصفة عامة، والعربي، بصفة خاصة، والمغرب العربي بصفة أخص. فلم تجد إلا سوء فهم وصد، مما جعل الكثير من زعمائها يتحولون عن العرب وينقلب حبهم لهم إلى عداء. ولا يفسر هذا الخذلان إلا جهل الدول العربية بالواقع الإسباني الجديد وبالتغيرات التي حدثت في إسبانيا بعد وفاة فرانكو. وبفوز القومية الأندلسية ورجوع الديموقراطية والحرية الدينية إلى إسبانيا، ظهر المناخ المناسب لظهور الإسلام من جديد بين ثلة من شباب الأمة الأندلسية الذين تبنوا أفكار إنفانتي كاملة وفسروها بضرورة الرجوع إلى الإسلام لتحرير الشعب الأندلسي من الهجمة الصليبية على شخصيته ووجوده، أو دفعهم إلى الإسلام مناخهم العائلي والاجتماعي عبر الطرق الصوفية، خاصة الدرقاوية. وكانت هذه النخبة المسلمة الأندلسية تعقد الآمال على العالم الإسلامي في مساندتها لتعليم أبنائها المبادىء الإسلامية واللغة العربية، ومساعدتها على التعريف بالأندلس، فلم تجد سوى سوء الفهم والصد المتواصل. فكل من يزورهم من العالم الإسلامي يصبح ناصحًا لاتّباع مذهب أو آخر أو مساندة دولة ضد أخرى أو إزاحة مسؤول أو آخر، مع بخل في المساندة وسوء فهم للدوافع. كما ساند العالم الإسلامي بعض المهاجرين الذين أرادوا أن يحتكروا الإسلام، والذين أساؤوا فهم حب الأندلسيين لوطنهم وأمتهم. أما السياح المسلمين إلى الأندلس وزوارها، منهم أغنياؤهم المشارقة وفقراؤهم المغاربة، فلا يعطون الصورة المشرّفة للإسلام التي يتخيلها الراجعون إليه في الأندلس، والتي يحاولون التمسك بها في شكلها الطاهر الجميل الذي أتى به سيد الخلق سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. أما أخبار العالم الإسلامي من تشرذم وفقر واستهتار بالمبادىء الإسلامية وحقوق الإنسان واستبداد وتخلف وأوبئة اجتماعية، فلا تجعله في المستوى الأخلاقي المناسب للدعوة إلى الإسلام بين الأندلسيين. وأدى هذا الوضع إلى خلق فجوة بين المسلمين الأندلسيين الجدد والعالم الإسلامي، وبينهم وبين المهاجرين المقيمين في إسبانيا، جعلت الكثير منهم يحاولون فهم الإسلام دون مساندة العالم الإسلامي، بل يتخوفون من سلبياته على مسيرتهم. ويبقى أن نترقب مستقبل هذه الصحوة الإسلامية الأندلسية. فالظاهر أن الفجوة بين الأندلسيين والمهاجرين سوف تزيد، بسبب محاولة بعض هؤلاء، بمساندة بعض الدول العربية، على التسلط على الوجود الإسلامي في إسبانيا، خاصة بعد أن اعترفت

الدولة الإسبانية بالإسلام، وطالبت من المسلمين أن يتنظموا في اتحاد للحصول على حقوقهم كاملة. فكوّن بعض هؤلاء المهاجرين، اتحاد يدّعي تمثيل جميع المسلمين، لكنهم طردوا منه الجماعات الأندلسية وحشوه بأفراد لا يمثلون شيئًا. ولكن عزم المسلمون الأندلسيون على التقدم إلى الأمام كمًّا وكيفًا رغم كل الصعاب، ولسان حالهم يقول قولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبيل غزوة بدر "لئن هزمت هذه العصابة فلن تعبد أبدًا". ندعو الله لهم التوفيق والسداد. ولينصرن الله من ينصره. ولا غالب إلا الله. انتهى من كتابته بالرباط في يوم الأحد 6 محرم الحرام عام 1411 هـ موافق 29/ 7 / 1990 م. علي المنتصر الكتاني

ملحق معاهدة تسليم غرناطة المعقودة بين أبي عبد الله الصغير والملكين الكاثوليكيين

ملحق معاهدة تسليم غرناطة المعقودة بين أبي عبد الله الصغير والملكين الكاثوليكيين بتاريخ 21/ 1 / 897 هـ الموافق 25/ 11 / 1491 م. (ترجمه: أ. د. محمد عبده حتاملة) المادة الأولى: على ملك غرناطة والقادة والفقهاء والحجاب والعلماء والمفتين والوجهاء، بمدينة غرناطة والبيازين وضواحيها، أن يسلموا إلى صاحبي السمو، أو من ينتدبانه للنيابة عنهما، في مدة أقصاها ستون يومًا، اعتبارًا من 25 تشرين الثاني، عام 1491 م. معاقل الحمراء، والبيازين، وأبواب تلك المعاقل، وأبراجها، وأبواب المدينة المذكورة، والبيازين، وضواحيهما، وأبراج أبواب المدينة المذكورة، وضمن هذه الشروط يأمر صاحبا السمو، بأن لا يصعد أي نصراني السور القائم بين الحمراء، والبيازين، لئلا يكشف عورات المسلمين في بيوتهم، وإن خالف أحد هذه الأوامر، يعاقب عقوبة شديدة، وضمن هذا الشرط، سيقدم المسلمون الطاعة والإخلاص والولاء كأتباع مخلصين لصاحبي السمو. وضمانًا لسلامة تنفيذ هذه البنود، يقدم أبو عبد الله الصغير ملك غرناطة، إلى صاحبي السمو، خمسمائة شخص من أبناء وبنات علية القوم، في المدينة، والبيازين، وضواحيهما، وذلك قبيل تسليم الحمراء بيوم واحد، مصطحبين معهم الحاجب يوسف بن قماشة، ليكونوا جميعهم رهائن، لدى صاحبي السمو، لمدة عشرة أيام، يتم خلالها ترميم المعاقل المذكورة، شريطة أن يعامل الرهائن إلى حين انتهاء هذه الفترة معاملة حسنة. وفي نهاية الأجل، يرد الرهائن إلى ملك غرناطة، ويراعي هذه

المادة الثانية:

الاتفاقية صاحبا السمو، وابنهما ضون خوان وسلالتهم. ويعتبر أبو عبد الله الصغير، وسائر قادته، وجميع سكان غرناطة، والبيازين، وضواحيهما، وقراهما، وأراضيهما، والقرى والأماكن التابعة للبشرات، رعايا طبيعيين، ويبقون تحت رعايتهم ودفاعهم. وتترك لهم جميع بيوتهم، وأراضيهم، وعقارهم، وأملاكهم حاليًّا، ودائمًا دون أن يلحق بها أي ضرر، أو حيف. وأن لا يؤخذ أي شيء منها يخصهم، بل بالعكس، سيتم احترام الجميع ومساعدتهم، ويلقون المعاملة الطيبة، من قبل صاحبي السمو، وشعبهما كخدم واتباع لهما. المادة الثانية: في الوقت الذي يتسلم صاحبا السمو قصر الحمراء، يأمران اتباعهما بالدخول من بابي العشار ونجدة، ومن الحقل القائم خارج المدينة. وعلى من يعيّن لاستلام الحمراء، أن لا يدخل من وسط المدينة. المادة الثالثة: في اليوم الذي يتم فيه تسليم الحمراء والبيازين، وشوارعهما وقلاعهما وأبوابهما، وغير ذلك، يقوم صاحبا السمو بتسليم ابن الملك أبي عبد الله الصغير، المحتجز في قلعة مقلين، مع سائر الرهائن الموجودين معه، وسائر الحشم والخدم الذين كانوا برفقته، ولا يُكرهون على التنصر أثناء احتجازهم. المادة الرابعة: يسمح صاحبا السمو، وسلالتهما، للملك أبي عبد الله الصغير وشعبه أن يعيشوا دائمًا ضمن قانونهم (أي بممارسة الشعائر الإسلامية) دون المساس بسكناهم وجوامعهم ومناراتهم. ويأمران بالحفاظ على مواردهم، وسيحاكمون بموجب قوانينهم وقضاتهم، حسبما جرت عليه العادة، وسيكونون موضع احترام من قبل النصارى. كما تحترم عاداتهم وتقاليدهم إلى غير حين. المادة الخامسة: لن تُصادر من المسلمين أسلحتهم أو خيولهم، أو أي شيء آخر حاضرًا وإلى الأبد، باستثناء الذخيرة الحربية التي يجب تسليمها لصاحبي السمو.

المادة السادسة:

المادة السادسة: يسمح لمن يرغب في الجواز إلى العدوة أو أي مكان آخر، من أهالي غرناطة والبيازين والبشرات، والمناطق الأخرى التابعة لمملكة غرناطة، ببيع ممتلكاتهم وأراضيهم لمن شاؤوا. ولن يحاول صاحبا السمو وذريتهما منعهم من ذلك أبدًا. وإذا ما رغب صاحبا السمو بشرائها من أموالهما الخاصة، فشأنهما في ذلك شأن سائر الناس، ولكن الأولوية تكون لهما. المادة السابعة: الأشخاص الذين يرغبون في العبور إلى العدوة (أرض المغرب) تجهز عملية نقلهم، في غضون ستين يومًا من تاريخه، على متن عشر سفن كبيرة تتوزع على الموانىء القريبة منهم، حسب رغبة المبحرين، ليُحملوا أحرارًا، وطوع إرادتهم، إلى المكان الذي يرغبون النزول إليه، فيما وراء البحر (أرض المغرب) خاصة الموانىء التي كانت ترسو بها تلك السفن. أما الأشخاص الذين يرغبون في العبور في غضون الأعوام الثلاثة القادمة، فتُهيأ لهم السفن الخاصة، من الموانىء القريبة لمكان إقامتهم، شريطة أن يقدموا طلباتهم قبل موعد الرحيل بخمسين يومًا. ويُنقلون برعاية تامة، إلى الميناء الذي يرغبون النزول فيه. ولا يترتب على من يريد العبور إلى العدوة - خلال الأعوام الثلاثة هذه - أجر أو نفقة. أما الذين يرغبون في العبور بعد انتهاء الأعوام الثلاثة، فعليهم دفع دوبلة واحدة فقط عن كل شخص. أما الذين لا يتمكنون من بيع أملاكهم الموزعة في جميع أنحاء مملكة غرناطة قبل سفرهم، فيحق لهم تفويض أي شخص من أجل تحصيل حقوقهم، وليقوموا مقامهم، ويتولوا بعد ذلك إرسال هذه الحقوق لأصحابها أينما كانوا، وبدون أية عوائق. المادة الثامنة: لا يرغم صاحبا السمو وسلالتهما، حاضرًا وإلى الأبد، المسلمين وأعقابهم، على وضع أية شارة مميزة لملابسهم.

المادة التاسعة:

المادة التاسعة: لا يحق لصاحبي السمو، لمدة ثلاث سنوات من تاريخه، تحصيل الأتاوات من الملك أبي عبد الله الصغير، وسكان غرناطة والبيازين وأرباضهما، وهي الأتاوات التي يترتب أداؤها عن دورهم وأملاكهم الموروثة، بل يكفي أن يدفع المسلمون لصاحبي السمو عشر الخبز والذرة، وعشر المواشي خلال شهري أبريل ومايو. المادة العاشرة: على الملك أبي عبد الله، وسائر سكان المملكة الذين شملتهم هذه الاتفاقية، أن يطلقوا سراح جميع الأسرى النصارى الذين في قبضتهم، أو في أي مكان آخر طواعية، دون أية فدية، وذلك حين تسلم المدينة. المادة الحادية عشر: على صاحبي السمو، أن لا يستخدما أي رجل من أتباع أبي عبد الله، أو سكان المملكة، أو أن يسخرا دوابهم، في أي غرض دون إرادتهم، ودون أن تدفع لهم أجورهم. المادة الثانية عشر: لا يسمح لأي نصراني بدخول المساجد، أو أي مكان لعبادة المسلمين، دون إذن من الفقهاء. ومن يخالف ذلك يعاقبه صاحبا السمو. المادة الثالثة عشر: لا يجوز لأي يهودي أن يتولى الجباية أو تحصيل الضرائب من المسلمين بشكل مباشر، أو أن يمنح أية سلطة أو ولاية عليهم. المادة الرابعة عشر: يُعامل صاحبا السمو الملك أبا عبد الله الصغير وسائر رعاياه الذين شملتهم هذه المعاهدة معاملة شريفة، وتحترم عاداتهم وتقاليدهم، وتمنح للقادة والفقهاء الحقوق، وتبقى الحقوق التي كان يتمتع بها هؤلاء زمن أبي عبد الله الصغير على حالها، ويعترف لهم بتلك الحقوق.

المادة الخامسة عشر:

المادة الخامسة عشر: يجب أن يقضي في أية دعوى أو مشكلة تقع بين المسلمين، القضاة وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، كما جرت عليه العادة. المادة السادسة عشر: يصدر صاحبا السمو أوامرهما للمسلمين بعدم إيواء الضيوف من النصارى، أو إخراج الثياب أو الدواجن أو الدواب، ويشمل ذلك صاحبي السمو وجماعتهما؛ إذ يمنع على هؤلاء النصارى دخول بيوت المسلمين، واستعمال مضايفهم لإقامة الحفلات. المادة السابعة عشر: إذا دخل نصراني منزل مسلم قسرًا، يطلب صاحبا السمو من العدالة إيقاع العقوبة عليه. المادة الثامنة عشر: فيما يتعلق بقضايا التركات عند المسلمين، يجب أن ينظر فيها القضاة المسلمون وفق النظم الإسلامية المتبعة. المادة التاسعة عشر: تشتمل هذه المعاهدة قاطني الأحياء المجاورة لمدينة غرناطة، وسكان القرى والأرحاء التابعة للمدينة والبشرات وأماكن أخرى، بما في ذلك الأشخاص الذين قد يقبلون المعاهدة بعد مرور ثلاثين يومًا من تسليم غرناطة، ويتمتع هؤلاء بجميع الإعفاءات الممنوحة خلال السنوات الثلاث. المادة العشرون: يتولى الفقهاء (إدارة) إيراد الجوامع، والحلقات الدراسية فيها، وما يرصد من أجل الصدقة، أو عمل الخير، بما في ذلك إيرادات المدارس التي تنفق في تعليم الصبيان. ولا يحق لصاحبي السمو التدخل بأي حال من الأحوال في شأن هذه الصدقات، أو الأمر بمصادرتها، في أي وقت في الحاضر أو فيما بعد.

المادة الحادية والعشرون:

المادة الحادية والعشرون: لا يجوز لمن يتولى القضاء إصدار قرارات ضد أي مسلم بذنب اقترفه آخر؛ فلا يؤخذ الأب بذنب ابنه، ولا الولد بذنب والده، ولا الأخ بذنب أخيه، ولا القريب بذنب قرابته، بل تقع العقوبة على من يقترف الجرم. المادة الثانية والعشرون: يقرر صاحبا السمو العفو عن المسلمين من أتباع القائد حميد أبي علي الذين كانوا يذودون عن حصونهم ضد هجمات النصارى، ولا يطلب أي تعويض عمّن قتل من النصارى أثناء اصطدامهم مع المدافعين من المسلمين، أو عمّا أخذه المسلمون من المكاسب في ذلك المكان، في الحاضر أو فيما بعد. المادة الثالثة والعشرون: يغفر صاحبا السمو لمسلمي مدينة الكابطي هجماتهم واعتداءاتهم التي كانت تستهدف حرس الملكين، وتمنح لهم حرية العيش كبقية إخوانهم الذين شملتهم هذه المعاهدة. المادة الرابعة والعشرون: يعتبر صاحبا السمو جميع أسرى المسلمين، أو الفارين من الأسر إلى مدينة غرناطة والبيازين وأرباضهما، أو إلى أي ناحية تابعة لمدينة غرناطة، أحرارًا، ولا تُصدر العدالة بحقهم أي حكم كان، لكن هذا الامتياز خاص بمسلمي الأندلس، ولا يشمل أسرى الجزر المشرقية، أو الخالدات. المادة الخامسة والعشرون: لا يدفع المسلمون لصاحبي السمو أكثر مما كانوا يدفعونه لملوكهم المسلمين من الأتاوات. المادة السادسة والعشرون: يسمح لجميع من عبروا العدوة (المغرب) من سكان غرناطة، والأرحاء التابعة لها، والبيازين وأرباضهما، والبشرات وغيرها، بالعودة خلال ثلاثة أعوام من تاريخ إبرام الاتفاقية، والتمتع بالامتيازات التي تمنحها لهم هذه الاتفاقية.

المادة السابعة والعشرون:

المادة السابعة والعشرون: لا يجبر أي مسلم حمل معه بعض الأسرى النصارى إلى العدوة، وجعلهم في قبضة سلطة أخرى، على إرجاع هؤلاء الأسرى، أو إعادة الأجر الذي تقضاه لقاء تسليمهم. المادة الثامنة والعشرون: يحق للملك أبي عبد الله، أو أي من قواده، أو سكان القرى والأرحاء المجاورة لغرناطة والبيازين والبشرات وغيرها، ممن عبروا إلى العدوة (المغرب) ولم تطب لهم الإقامة هناك، أن يعودوا خلال الأعوام الثلاثة، ولهم الحق بأن يتمتعوا بكافة نصوص الاتفاقية المبرمة. المادة التاسعة والعشرون: يحق لتجار مدينة غرناطة والبيازين وأرباضهما، والبشرات وغيرها، أن يحملوا سلعهم إلى العدوة، ويعودوا بها آمنين مطمئنين، كما يحق لهم دخول سائر الأرحاء التي في حوزة الملكين الكاثوليكيين، دون أن تترتب عليهم أية أتاوة مترتبة على النصارى. المادة الثلاثون: لا يجوز إرغام أية نصرانية تزوّجت من أحد المسلمين، واعتنقت الدين الإسلامي، على العودة إلى النصرانية، إلا طائعة، وبعد أن تُسأل في ذلك أمام جمع من المسلمين والنصارى. وفيما يتعلق بأبناء النصرانيات وبناتهن، فلهم نفس الحقوق المنصوص عليها في هذه الفقرة. المادة الحادية والثلاثون: إذا سبق لنصراني، ذكرًا كان أو أنثى، اعتناق الديانة الإسلامية قبل إبرام هذه الاتفاقية، فلا يحق لأحد من النصارى أن يهدده، أو ينال منه بأية صورة، ومن يفعل ذلك يعاقب. المادة الثانية والثلاثون: لا يجوز إرغام مسلم أو مسلمة على اعتناق النصرانية.

المادة الثالثة والثلاثون:

المادة الثالثة والثلاثون: إذا رغبت امرأة مسلمة متزوّجة، أو أرملة أو بكر، في اعتناق النصرانية بدافع العشق، فلا يستجاب لها حتى تسأل وتوعظ وفقًا للشريعة الإسلامية. وإذا حملت معها خفية بعض الحلي، أو غيرها، من دار والدها أو أقاربها، أو أي شخص آخر، فيجب إعادة هذه الأشياء إلى ذويها، وتعتبر اختلاسًا، وتتولى العدالة اتخاذ الإجراءات الصارمة بحقها. المادة الرابعة والثلاثون: لا يرغم صاحبا السمو، أو أي واحد من عقبهما، حاضرًا أو مستقبلاً، أبا عبد الله الصغير، أو جماعته أو حاشيته، أو أي أحد من سكان المملكة أو خارجها، مسلمين ونصارى ومدجّنين، بردّ ما غنموه أثناء الوقائع التي جرت بينهم من الثياب، والمواشي والأنعام، والفضة والذهب، وغيرها من الأشياء التي وضع المسلمون أيديهم عليها. ولا يحق لأحد أن يطالب بشيء يكتشف أنه كان له، وإذا طالب به فإنه يعرض نفسه لأقصى العقوبات. المادة الخامسة والثلاثون: إذا سبق لمسلم أن أهان أسيرًا نصرانيًّا - ذكرًا كان أو أنثى - أو جرحه، أو قتله أئناء احتفاظه به، فلا يُسأل عن شيء مما كان. المادة السادسة والثلاثون: بعد انتهاء السنوات الثلاث المنصوص عليها في الاتفاقية، تدفع ضريبة الأملاك والضياع الأميرية، وفقًا لقيمتها الحقيقية، شأن سائر الأملاك والأراضي. المادة السابعة والثلاثون: تعامل أملاك الفرسان، والقادة المسلمين، المعاملة المنصوص عليها في البند السابق؛ فلا يدفع عنها أكثر مما يدفع عن الأملاك العادية. المادة الثامنة والثلاثون: وتشمل هذه الاتفاقية أيضًا اليهود من مواليد مدينة غرناطة والبيازين وأرباضهما، والأراضي التابعة لهما، واليهود الذين كانوا من قبل نصارى، ويسمح لهؤلاء اليهود بالعبور إلى العدوة خلال شهر من تاريخه.

المادة التاسعة والثلاثون:

المادة التاسعة والثلاثون: أن يعامل الحكام والقواد والقضاة، الذين يعيّنهم صاحبا السمو على مدينة غرناطة والبيازين والكور التابعة لهما، الناس بالحسنى، وأن يحافظوا على امتيازاتهم الممنوحة لهم في المعاهدة، وإذا أخل أحدهم بذلك، أو ارتكب خطيئة، يصدر صاحبا السمو أوامرهما بمعاقبته على قدر جرمه، وعزله من منصبه، وتولية غيره ممن يحسنون معاملة المسلمين كما نصت عليه الاتفاقية. المادة الأربعون: لا يحق لصاحبي السمو، أو أي من أبنائهما وأحفادهما، منذ الآن، التعقب على شيء ارتكبه الملك أبو عبد الله الصغير، أو أحد من رعاياه، إلى حين تسليم الحمراء؛ أي بعد مرور ستين يومًا من توقيع هذه الاتفاقية. المادة الحادية والأربعون: أن لا يُولى على جماعة أبي عبد الله الصغير واحد من الفرسان أو القادة أو الخاصة الذين كانوا موالين لمولاي الزغل ملك وادي آش، عم أبي عبد الله الصغير، الذي كانت بينه وبين أبي عبد الله عداوة قديمة. المادة الثانية والأربعون: يتولى النظر في الخصومات التي قد تقع بين مسلم ونصراني، أو مسلمة ونصرانية، مجلس مؤلف من حكمين، أحدهما مسلم والآخر نصراني، تحاشيًا للتظلم من الأحكام القضائية. المادة الثالثة والأربعون: وبالإضافة إلى جميع ما نصت عليه الاتفاقية، يأمر صاحبا السمو بمنح أبي عبد الله الصغير كل الامتيازات المنصوص عليها في الاتفاقيات الموثقة بخاتم الأمير (نجل صاحبي السمو) والموقعة من قبل كردينال إسبانيا والكهان، والأساقفة ورؤساء الأديرة، والشرفاء والدوقات والمركيزات والكونتات، وأصحاب المراتب الجليلة، وكتاب العدلية في مدينة غرناطة، اعتبارًا من يوم تسليم الحمراء والبيازين وأبوابهما وأبراجهما، وتعتبر جميع محتويات هذه الاتفاقية نافذة وسارية المفعول في الحاضر وفيما بعد.

المادة الرابعة والأربعون:

المادة الرابعة والأربعون: يصدر صاحبا السمو أوامرهما بالإفراج عن أسرى المسلمين - ذكورًا وإناثاً - من أهالي غرناطة والبيازين وأرباضهما، والكور التابعة للمملكة، إفراجًا غير مشروط بنفقة أو فدية أو غيرها. وذلك بغية إرضاء الملك أبي عبد الله الصغير، وأهالي غرناطة والبيازين وأرباضهما وضياعهما كافة. ويتم الإفراج عن هؤلاء الأسرى على النحو التالي: يفرج عن جميع أسرى مدينة غرناطة والبيازين وأرباضهما وضياعهما الموجودين في الأندلس، خلال الأشهر الخمسة التي تعقب إبرام المعاهدة، ويفرج عن الأسرى الموجودين في قشتالة خلال الأشهر الثمانية التالية، وبعد انقضاء يومين من تسليم أسرى النصارى لصاحبي السمو، يتسلم المسلمون مائتي أسير مسلم، مئة من الرهائن، والمائة الثانية من غير الرهائن. المادة الخامسة والأربعون: يصدر صاحبا السمو أوامرهما، بإخلاء سبيل ابن الدّرامي الأسير عند غونثالو فرناندث، وعثمان أسير الكونت تنديا، وابن رضوان أسير الكونت قبرة، واعادة ابن الفقيه محيي الدين وخمسة أشخاص من خاصة إبراهيم بن السراج الذين فقدوا وعرف مكان وجودهم، وذلك في الوقت الذي يسلم فيه صاحبا السمو أسرى مدينة الحمراء والبيازين المائة والرهائن المائة. المادة السادسة والأربعون: إذا خضعت أية ناحية من نواحي البشرات لسلطة صاحبي السمو، فإنه يتأتى على المسلمين تسليم جميع الأسرى النصارى الموجودين لديهم، في مدة أقصاها خمسة عشر يومًا من تاريخ الانضمام، دون أن يؤدي سموهما أي شيء مقابل ذلك التسليم، كما أنه يجب على هذه النواحي تسليم أية رهينة من النصارى لديهم خلال هذه المدة. ويقوم صاحبا السمو في مقابل ذلك، بإعادة جميع أسرى المسلمين المحتجزين لدى الإسبان. المادة السابعة والأربعون: يتعهد صاحبا السمو لجميع السفن التي تأتي من العدوة (المغرب) وترسو في موانىء مملكة غرناطة، بحرية التنقل جيئة وإيابًا وهي آمنة، شريطة أن لا تقوم بنقل

الأسرى النصارى، ويصدر صاحبا السمو أوامرهما للنصارى بعدم اعتراض هذه السفن، أو الأضرار بها أو بأهلها، أو بمصادرة شيء منها. وفي حالة مخالفة إحدى السفن لهذه التعليمات بنقلها بعض الأسرى النصارى، فإن حقها في الحماية يصبح لاغيًا، ويحق لسموهما إرسال مفتش أو مفتشين يتوليان مهمة تفتيش السفن التي تعبر إلى العدوة، للتحقق من نفاذ هذه التعليمات.

ملحق الصور والرسوم والخرائط

الرسم رقم 1: الأندلس عبر العصور

الرسم رقم 2: السلطان أبو عبد الله "الري شيكو" آخر ملوك مملكة غرناطة

الرسم رقم 3: استسلام أبي عبد الله للملكين الكاثوليكيين

الرسم رقم 4: ذيل المعاهدة النهائية التي عقدت بين أبي عبد الله (وقد وقّع اسمه بمحمد بن علي بن نصر) والملكين الكاثوليكيين بتاريخ 15/ 4 / 1492 م بخط يد السلطان أبي عبد الله

الرسم رقم 5: صورة رسالة مولاي عبد الله إلى دون هراندو أي برادة

الرسم رقم 6: صفحتان من كتاب للتفسير مكتوب باللغة الأعجمية محفوظ بمكتبة مجريط الوطنية تحت رقم 5252

الرسم رقم 7: إحدى اللوحات الخزفية في شوارع بلدة فرجليانة المعاصرة تمديدًا لذكرى المقاومة الإسلامية الأندلسية في القرن السادس عشر إبان ثورة غرناطة الكبرى

الرسم رقم 8: بلاس إنفانتي سنة 1918 م الرسم رقم 9: بلاس إنفانتي باللباس المغربي

الرسم رقم 10: الشيخ محمد المنتصر الكتاني صحبة خوليو أنغويتا كونزالس عمدة مدينة قرطبة في قصر البلدية سنة 1980 م

الرسم رقم 11: كاتبه (علي المنتصر الكتاني) صحبة خوليو آنغويتا كونزالس عمدة مدينة قرطبة

الرسم رقم 12: مئذنة (منارة) مسجد القاضي أبو عثمان بقرطبة

الرسم رقم 13: مدخل المركز الإسلامي في مدينة قرطبة الرسم رقم 14: جماعة من المسلمين القرطبيين في المسجد

الرسم رقم 15: كاتبه (علي المنتصر الكتاني) صحبة أنطونيو كونزالس عمدة مدينة قسطلة يوم 2/ 8 / 1988 م في حفل تسمية شارع البلدة الرئيسي باسم الشيخ المنتصر الكتاني، والعلم هو علم الأندلس

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات الإهداء ........................................................................ 3 تقديم .......................................................................... 5 مقدمة الشيخ المجاهد الإسلامي إبراهيم بن أحمد الكتاني ........................... 9 مقدمة المؤلّف ................................................................. 23 الفصل الأول نشأة وسقوط دولة الإسلام في الأندلس 1/ 1 - الأمة الأندلسية وتكوينها .............................................. 29 1/ 2 - قيام مملكة غرناطة ..................................................... 34 1/ 3 - جهاد مملكة غرناطة المتواصل .......................................... 39 1/ 4 - اتحاد الممالك النصرانية ................................................ 45 1/ 5 - الحرب الأهلية وسقوط غرناطة ........................................ 50 مراجع الفصل الأول .......................................................... 57 الفصل الثاني الاضطهاد والتنصير 1492 - 1568 م 2/ 1 - بداية الغدر وتنصير مسلمي غرناطة (1492 - 1502 م) ............ 59 2/ 2 - محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا .................................. 65 2/ 3 - ذروة اضطهاد المسلمين 1502 - 1567 م ......................... 70 2/ 4 - وضع المسلمين في مملكتي البرتغال وقشتالة ............................ 77 2/ 5 - وضع المدجنين في مملكة أراغون ...................................... 82 مراجع الفصل الثاني .......................................................... 90

الفصل الثالث ثورة غرناطة الكبرى (1568 - 1570 م) 3/ 1 - تهيىء الثورة ........................................................... 92 3/ 2 - إعلان الثورة وبيعة ابن أمية ............................................ 98 3/ 3 - انتشار الثورة واستشهاد ابن أمية ..................................... 104 3/ 4 - مراحل الثورة تحت قيادة ابن عبو ..................................... 110 3/ 5 - الانهزام والاستسلام .................................................. 115 مراجع الفصل الثالث ......................................................... 121 الفصل الرابع التشتيت وزيادة القهر (1570 - 1608 م) 4/ 1 - إخراج المورسكيين من مملكة غرناطة ................................... 123 4/ 2 - أوضاع المسلمين في مملكة قشتالة من سنة 1570 م إلى سنة 1608 م .................................................................... 128 4/ 3 - أوضاع المسلمين في مملكة أراغون في سنة 1570 إلى سنة 1608 م .................................................................... 134 4/ 4 - علاقات مسلمي إسبانيا الخارجية من 1570 م إلى 1608 م .......... 140 4/ 5 - التفكير في الطرد ..................................................... 146 مراجع الفصل الرابع .......................................................... 152 الفصل الخامس طرد المسلمين الجماعي عن إسبانيا (1608 - 1614 م) 5/ 1 - قرار الطرد سنة 1608 م ............................................. 156 5/ 2 - طرد مسلمي مملكة بلنسية .............................................. 162 5/ 3 - طرد مسلمي أراغون القديمة وباقي مملكة أراغون ........................ 167 5/ 4 - مسلمي مملكة قشتالة ................................................... 172 5/ 5 - المورسكيون المطرودون في مناطق هجرتهم ............................... 177 مراجع الفصل الخامس .......................................................... 185

الفصل السادس ديموغرافية المورسكيين وحياتهم الاجتماعية 6/ 1 - ديموغرافية المورسكيين ................................................. 189 6/ 2 - حياة المورسكيين الدينية ................................................ 196 6/ 3 - حياة المورسكيين الاجتماعية ............................................ 203 6/ 4 - حياة المورسكيين الاقتصادية ............................................ 208 6/ 5 - الثقافة المورسكية ...................................................... 213 مراجع الفصل السادس ......................................................... 221 الفصل السابع استمرار الوجود الإسلامي في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر 7/ 1 - إسبانيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر ............................. 226 7/ 2 - معاملة الدولة للمورسكيين ............................................. 230 7/ 3 - معاملة محاكم التفتيش .................................................. 236 7/ 4 - مؤامر ات وثورات ..................................................... 242 7/ 5 - شواهد الرحالة ......................................................... 247 مراجع الفصل السابع ........................................................... 254 الفصل الثامن تكوين القومية الأندلسية (في القرنين التاسع عشر والعشرين) 8/ 1 - إسبانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين ................................. 257 8/ 2 - الجذور الإسلامية للقومية الأندلسية ..................................... 263 8/ 3 - انبعاث الهوية الأندلسية (1808 - 1873 م) .......................... 269 8/ 4 - بروز الحركة الأندلسية ودور بلاس إنفانتي ............................... 276 8/ 5 - تطور الحركة الألْدلسية: إسلام بلاس إنفاشْي واستشهاده .................. 282 مراجع الفصل الثامن ............................................................. 290

الفصل التاسع انبعاث القومية الأندلسية 1975 - 1990 م 9/ 1 - دكتاتورية فرانكو (1939 - 1975 م) ................................ 293 9/ 2 - رجوع الديموقراطية وانبعاث القومية الأندلسية .......................... 298 9/ 3 - إنشاء منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي ................................. 306 9/ 4 - رموز منطقة الأندلس ذات الحكم الذاتي ................................. 311 9/ 5 - إحصائيات الأندلس المعاصرة ............................................ 316 مراجع الفصل التاسع ............................................................ 321 الفصل العاشر الانبعاث الإسلامي على مفترق الطرق (منذ سنة 1970 م) 10/ 1 - الجمعيات الإسلامية للوافدين ......................................... 322 10/ 2 - الطريقة الدرقاوية في غرناطة .......................................... 327 10/ 3 - جمعية قرطبة الإسلامية ................................................ 334 10/ 4 - محاولات تنظيمية أخرى في الأندلس ................................... 341 10/ 5 - محاولات تنظيمية خارج منطقة الأندلس ............................... 346 مراجع الفصل العاشر ........................................................... 352 الفصل الحادي عشر الجماعة الإسلامية في الأندلس 11/ 1 - الأيام الأولى في إشبيلية ................................................ 355 11/ 2 - الانطلاقة من إشبيلية .................................................. 360 11/ 3 - النكسة والانطلاقة الجديدة ............................................ 366 11/ 4 - العودة إلى قرطبة ...................................................... 372 11/ 5 - العلاقة مع الشتات الأندلسي .......................................... 377 مراجع الفصل الحادي عشر ...................................................... 383

الفصل الثاني عشر الشتات الأندلسي اليوم 12/ 1 - الأندلسيون في المغرب ................................................. 389 12/ 2 - الأندلسيون في تونس ................................................... 395 12/ 3 - الأندلسيون في باقي القارة الإفريقية .................................... 400 12/ 4 - الأندلسيون في القارة الآسيوية ......................................... 406 12/ 5 - الأندلسيون في باقي أوروبا وأمريكا .................................... 413 مراجع الفصل الثاني عشر ........................................................ 421 خاتمة ............................................................................ 424 ملحق معاهدة تسليم غرناطة المعقودة بين أبي عبد الله الصغير والملكين الكاثوليكيين المادة الأولى ...................................................................... 429 المادة الثانية ...................................................................... 430 المادة الثالثة ...................................................................... 430 المادة الرابعة ..................................................................... 430 المادة الخامسة .................................................................... 430 المادة السادسة ................................................................... 431 المادة السابعة ..................................................................... 431 المادة الثامنة ...................................................................... 431 المادة التاسعة ..................................................................... 432 المادة العاشرة ..................................................................... 432 المادة الحادية عشر ................................................................ 432 المادة الثانية عشر ................................................................. 432 المادة الثالثة عشر ................................................................. 432 المادة الرابعة عشر ................................................................ 432 المادة الخامسة عشر ............................................................... 433

المادة السادسة عشر ........................................................... 433 المادة السابعة عشر ............................................................ 433 المادة الثامنة عشر ............................................................. 433 المادة التاسعة عشر ............................................................ 433 المادة العشرون ................................................................ 433 المادة الحادية والعشرون ....................................................... 434 المادة الثانية والعشرون ........................................................ 434 المادة الثالثة والعشرون ........................................................ 434 المادة الرابعة والعشرون ........................................................ 434 المادة الخامسة والعشرون ...................................................... 434 المادة السادسة والعشرون ...................................................... 434 المادة السابعة والعشرون ....................................................... 435 المادة الثامنة والعشرون ........................................................ 435 المادة التاسعة والعشرون ....................................................... 435 المادة الثلاثون ................................................................. 435 المادة الحادية والثلاثون ........................................................ 435 المادة الثانية والثلاثون ......................................................... 435 المادة الثالثة والثلاثون ......................................................... 436 المادة الرابعة والثلاثون ........................................................ 436 المادة الخامسة والثلاثون ...................................................... 436 المادة السادسة والثلاثون ...................................................... 436 المادة السابعة والثلاثون ....................................................... 436 المادة الثامنة والثلاثون ........................................................ 436 المادة التاسعة والثلاثون ....................................................... 437 المادة الأربعون ............................................................... 437 المادة الحادية والأربعون ....................................................... 437 المادة الثانية والأربعون ........................................................ 437

المادة الثالثة والأربعون ............................................................ 437 المادة الرابعة والأربعون ........................................................... 438 المادة الخامسة والأربعون ......................................................... 438 المادة السادسة والأربعون ......................................................... 438 المادة السابعة والأربعون .......................................................... 438

§1/1