الولاء والبراء والعداء في الإسلام

أبو فيصل البدراني

مقدمة

"بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , أما بعد: فهذه رسالة تُعالج مسائل الولاء والبراء والعداء في الإسلام من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل , وقد جمعت فيها مسائل مهمة متفرقة عن هذا الموضوع

تمهيد

تمهيد: بما أن الولاء والبراء جزء من عقيدة الإسلام فالحديث عنه يستلزم الحديث عن أساس هذه العقيدة وهي كلمة التوحيد, ومعرفة هذه العقيدة معرفة صحيحة أمر ضروري للمسلم ليكون ولاؤه وبراؤه بحسبها , إذ من المُحال أن تكون هناك عقيدة سليمة بدون تحقيق الموالاة والمعاداة والبراءة الشرعية. وعلى هذا فما معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)؟ معناها: لا معبود بحق إلا الله، وبذلك ننفي الإلهية عما سوى الله ونثبتها لله وحده. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الشهادتين: (ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله، والتقرب إليه بما يُحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة (لا إله إلا الله) وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين) أما شقها الثاني (محمد رسول الله) فمعناه تجريد متابعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر ... انتهى). ومن هنا كانت (لا إله إلا الله) ولاء وبراء، نفياً وإثباتاً, ولاء لله ولدينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين , وبراء من كل طاغوت عُبد من دون الله. قال تعالى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}. وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت والدليل هذه الآية (يعني الآية السابقة) ... انتهى. وكلمة التوحيد ولاء لشرع الله قال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ {, وقال أيضاً {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. ولا إله إلا الله هي براء من حكم الجاهلية قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} , وهي أيضاً براء من كل دين غير دين الإسلام قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.ثم هي نفي وإثبات تنفي أربعة أمور, وتثبت أربعة أمور. تنفي: الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب. فالآلهة: ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت متخذه إلهاً. والطواغيت: من عُبد وهو راض، أو رشح للعبادة. والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام، من أهل، أو مسكن، أو عشيرة، أو مال: فهو ند لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}. والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته على علم، مصداقاً لقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}. وكلمة التوحيد تُثبت أربعة أمور: أولها القصد: وهو كونك ما تقصد إلا الله. وثانيها التعظيم والمحبة: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}. وثالثها الخوف والرجاء: لقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ راد لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {, فمن عرف هذا قطع العلاقة مع غير الله ولا تكبر عليه جهامة الباطل، كما أخبر

شروط لا إله إلا الله

تعالى عن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام بتكسير الأصنام وتبريه من قومه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى لا إله إلا الله، بنفي الشرك وتوابعه، ويقرر الإخلاص وشرائعه، فكل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلول كلمة الإخلاص، لأن دلالتها على الدين كله إما مُطابقة وإما تضمناً وإما التزاماً، يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى. والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي، وإخلاص العبادة بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله. شروط لا إله إلا الله: قد ذكر العلماء رحمهم الله شروطاً سبعة لـ (لا إله إلا الله) لا تنفع صاحبها إلا باجتماع هذه الشروط فيه إلا أنه ينبغي أن نعلم أنه ليس المراد من هذه الشروط عد ألفاظها وحفظها، فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له أعددها لم يحسن ذلك، وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله. وقد قال وهب بن منبه لمن سأله: أليس (لا إله إلا الله) مفتاح الجنة؟ قال: بلى. ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك ... انتهى. وأسنان هذا المفتاح هي شروط (لا إله إلا الله) الآتية:- الشرط الأول: العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتا، المنافي للجهل بذلك قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}. وقال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ}. أي: بـ "لا إله إلا الله": (وهم يعلمون) بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم. وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علبه وسلم (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة). الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك. معنى ذلك: أن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة، يقيناً جازماً، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة). وفي رواية (لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً من حديث طويل (من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).

وقال القرطبي: في (المفهم على صحيح مسلم): (باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابد من استيقان القلب. وهذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده. بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعاً ... انتهى). الشرط الثالث: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها، وانتقامه ممن ردها وأباها كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ {24} فانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ}.ويقول تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}. الشرط الرابع: الانقياد لما دلت عليه، المنافي لترك ذلك قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}.وقال: {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن}.وقال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. أي بلا إله إلا الله , وفي الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) وهذا هو تمام الانقياد وغايته. وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة، ولا منازعة، كما ورد في الحديث (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ... انتهى. الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقولها صدقاً من قلبه، ويواطئ قلبه لسانه، قال تعالى: {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. وفي "الصحيحين" عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار". قال العلامة ابن القيم: (والتصديق بلا إله إلا الله يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة، والتصديق بجميع أخباره وامتثال

أوامره واجتناب نواهيه. فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله، معلوم أن عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها، وكذلك النجاة من العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبحقها). وفي الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه ... انتهى]. وقال ابن رجب: (أما من قال: لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}. {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ { ... انتهى). الشرط السادس: الإخلاص، وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك. قال تعالى {ألا لله الدين الخالص}.وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه). وفي الصحيح عن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل). وللنسائي في اليوم والليلة من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير مخلصاً بها قلبه، يصدق بها لسانه، إلا فتق الله لها السماء فتقاً حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤله). وقال الفضيل بن عياض رحمة الله: (إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل , وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً , والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة). ولقد ضرب الله سبحانه في القرآن العظيم مثلاً واضحاً للمخلص في توحيده وللمشرك قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسيرها: (هذا مثل يضربه الله للعبد الموحد والعبد المشرك، بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة .. وعبد يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه، ويكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح) (هل يستويان)؟ لا. لأن الذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. والذي يخضع لسادة مشتركين معذب مقلقل، لا يستقر على حال، ولا يرضى واحداً منهم فضلاً عن أن يرضي الجميع. وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك في جميع الأحوال, فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يسير على هدى من الله يستمد منه وحده ويتجه إليه وحده ... انتهى). ويقول الشيخ القاسمي رحمه الله:

الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله

(إن القصد هو توحيد المعبود في توحيد الوجهة، ودرء الفرقة كما قال تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. إن الإسلام لابد فيه من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه وهذا حقيقة (لا إله إلا الله) فمن أسلم لله ولغير الله فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ { .. انتهى). الشرط السابع: المحبة لهذه الكلمة، ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، المنافية لضدها، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}.وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}.وفي الحديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: (وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه، وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله ومعاداة من عاداه واتباع رسوله، واقتفاء أثره وقبول هداه ... انتهى). ويقول ابن القيم في النونية: شرط المحبة أن توافق من تحب ... على محبته بلا عصيان فإذا ادعيت له المحبة مع خلافك ... ما يحب فأنت ذو بهتان أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حباً له ما ذاك في إمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين ... المحبة يا أخا الشيطان ليس العبادة غير توحيد المحبة ... مع خضوع القلب والأركان إلى أن يقول: ولقد رأينا من فريق يدعي ... الإسلام شركاً ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم ... وسووهم به في الحب لا السلطان الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله: إن أصل الدين وكماله، أن يكون الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله ,والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله، وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره لله، ونهيه لله، وصاحب الهوى يُعميه الهوى ويُضله عن سبيل الله، فلا يستحضر ما لله، وما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولا يطلبه فالذي لا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضبهما، وإنما يرضى لشهواته وهواه، ويغضب لذلك فهو ممن قال الله فيهم: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).

ولما كان أصل الموالاة الحب, وأصل المعاداة البغض, وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك, فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله , وأدلة ذلك كثيرة من الكتاب والسنة. أما الكتاب فمن ذلك قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ}.ويقول تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {31} قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإن تَوَلَّوْاْ فإن اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}. ويقول تباركت أسماؤه {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ}.ويقول كذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فإنهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. ويقول تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ثم إن من الولاء والبراء ما هو شطر العقيدة وركنها الثاني الذي لا تتم إلا به وهو الكفر بالطاغوت, قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}.فلا يكون مؤمناً من لا يكفر بالطاغوت، وهو كل متبوع أو مرغوب أو مرهوب من دون الله , فقبول الإيمان والاستمساك بالعروة الوثقى مستلزم للكفر بالطاغوت كما نصت على ذلك الآية الكريمة. أما الأحاديث والآثار: فكثيرة وأذكر منها:- (1) ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على أن (تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر). (2) روي أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). (3) روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله). (4) أخرج ابن جرير ومحمد بن نصر المروزي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً). يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح قول ابن عباس هذا: (قوله: (ووالى في الله) هذا بيان للازم المحبة في الله، وهو الموالاة فيه، إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب وهي النصرة والإكرام، والاحترام والكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً.

وقوله (وعادى في الله) هذا بيان للازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه. أي إظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطناً وظاهراً، وإشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}.وعلى ذلك جاءت تسمية الشارع الحكيم للفريق الأول بـ: (أولياء الله)، والفريق الثاني بـ: (أولياء الشيطان) قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}. واعلم أن الله سبحانه لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا { ... انتهى).وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}.والواجب على المسلم أن يتعلم من دين الله ما يصير له سلاحاً يقاتل به هؤلاء الشياطين، ومن ثم لا خوف عليه ولا حزن لأن: {كيد الشيطان كان ضعيفاً}.والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين كما قال تعالى {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان. وبهذا يتبين لك أخي المسلم أن المسلم المؤمن المخلص في عقيدته هو من أخلص توحيده الله، وتبرأ من المشركين , ولتعلم أن الولاء والبراء يضعف بسبب ضعف العبودية والمحبة لله وكلما كان الشخص أكمل عبودية لله ومحبة كان أكثر تحقيقاً للولاء والبراء , وكما أن الإيمان يزيد وينقص فكذلك تحقيق الناس لهذا الأصل العظيم (الولاء والبراء) يزيد وينقص وأما هدم هذا الأصل كلياً في قلب العبد وترك ما يوجبه على المؤمن من الأعمال والتروك فهو هدم للإيمان كله. وعلى هذا فيجب على المسلم بعدَ محبةِ اللهِ ورسولهِ أن يحب أولياءه ويعادي أعدائِه المحاربين للدين وأهله ويبغض عموم الكفار وذلك أن من أصولِ العقيدةِ الإسلاميةِ أنَّه يَجبُ على كلِ مسلمٍ يَدينُ بهذه العقيدةِ أنْ يوالىَ أهلهَا ويعادىَ أعداءَها الصادين عن دين الله فيحبُ أهلَ التوحيدِ والإخلاصِ ويواليهِم، ويُبغِضُ أهلَ الإشراكِ لا سيما المحاربين لدينه ويعاديهِم فهذا أصل. وها هنا أصل آخر وهو أن من استقام على منهج الله وتوحيده جاءه الولاء والبراء تباعاً من غير تكلف , ومن أحب الله المحبة الواجبة لابد أن يُبغض أعداءه ولابد أن يحب أولياءه , وكما أن الله قطع الموالاة بين المسلمين والكافرين شرعاً فإنه أمر بموالاته وموالاة رسوله والمؤمنين وذلك من لوازم التوحيد.

حقيقة الإسلام والكفر

حقيقة الإسلام والكفر: يقول ابن القيم رحمه الله (الكفر والإيمان متقابلان، إذا زال أحدهما خلفه الآخر, ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً: فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء، والتوكل، والخشية من الله، والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين, ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق, وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً, منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر , والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر, والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان وتركها من شعب الكفر والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعب يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية , فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً – وهي شعبة من شعب الكفر – فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل. وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب: هو الاعتقاد. وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله , وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة فأهل السنة: مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراً وجهراً ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به. وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده، والذي هو ملزم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان, فإن الإيمان ليس مجرد التصديق – كما تقدم – وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن

اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقاً – فليس هو التصديق المستلزم للإيمان, فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته. وهاهنا أصل آخر: وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد , فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً، من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه , وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده. فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعاً، ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه , فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد , ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافراً، ولا يطلق عليهما اسم الكفر. وقد نفى رسول الله الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه , وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد. وكذلك قوله (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) فهذا كفر عمل. وكذلك قوله (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد) وقوله (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به فقال تعالى: ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به أنهم لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً وأخرجوهم من ديارهم , فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي , وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في الحديث الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ففرق بين قتاله وسبابه , وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به، والآخر كفراً. ومعلوم إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم

الإيمان. وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمها فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقاً أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا. وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل, فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم. وقال سفيان بن عيينة: عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون). قال: هو بهم كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة. وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع بن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وهذا الذي قال عطاء بين في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافراً، وسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافراً, وليس الكافران على حد سواء. وسمى الكافر ظالماً كما في قوله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً فقال: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وقال نبيه يونس (لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). وقال صفيه آدم (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) وقال كليمه موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي {وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. ويسمى الكافر فاسقاً: كما في قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ {26} الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) وقال: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ). وهذا كثير في القرآن. ويسمى المؤمن فاسقاً كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) نزلت في الحكم بن أبي العاص , وليس الفاسق كالفاسق. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال عن إبليس: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وقال: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق) وليس الفسوق كالفسوق. والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان، وكذا الجهل جهلان: جهل كفر كما في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). وجهل غير كفر كقوله تعالى: (إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) وكذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر، وهو شرك العمل كالرياء, قال تعالى في الشرك الأكبر: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) وقال: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) "وفى شرك الرياء: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ

رَبِّهِ أَحَدًا) ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه أبو داود وغيره ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار, ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ".فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها, وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد: هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار, ونفاق عمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان). وفي الصحيح أيضاً (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان) فهذا نفاق عمل، قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهي المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً. وكلام الإمام أحمد يدل على هذا، فإن إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال: سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم، هل يكون مصراً من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، ونحو قوله (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن). ونحو قول ابن عباس في قوله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قال إسماعيل: فقلت له ما هذا الكفر؟ قال: لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. وهاهنا أصل آخر: وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان, وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة , والقدرية , ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة , قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) فأثبت لهم إيماناً به سبحانه مع الشرك، وقال تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فأثبت لهم إسلاماً وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين, وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفار. قال الإمام أحمد: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن – يريد الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب – فهو مسلم ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون ذلك – يريد دون الكبائر – سميته مؤمناً ناقص الإيمان، فقد دل على هذا قوله صلى الله عليه

نواقض الإسلام

وسلم (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق). فدل على أنه يجتمع في الرجل نفاق وإسلام , كذلك الرياء شرك، فإذا رآى الرجل في شيء من عمله اجتمع فيه الشرك والإسلام , وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام , وقد بينا أن المعاصي كلها شعب من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها شعب من شعب الإيمان، فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمناً، وقد لا يسمى, كما أنه قد يسمى بشعبة من شعب الكفر كافراً، وقد لا يطلق عليه هذا الإسلام. فها هنا أمران: أمر اسمي لفظي، وأمر معنوي حكمي. فالمعنوي: هل هذه الخصلة كفر أم لا؟ واللفظي: هل يسمى من قامت به كافراً أم لا؟ فالأمر الأول: شرعي محض، والثاني لغوي وشرعي. وها هنا أصل آخر: وهو أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمي مؤمناً وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر به أن يسمى كافراً، ,إن كان ما قام به كفراً, كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً: ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن يسمى فقيهاً ولا طبيباً، ولا يمنع ذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيماناً، وشعبة النفاق نفاقاً، وشعبة الكفر كفراً , وقد يطلق عليه الفعل كقوله (فمن تركها فقد كفر) و (من حلف بغير الله فقد كفر) وقوله (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر ومن حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم في صحيحه بهذا اللفظ. فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، وكذا يقال لمن ارتكب محرماً أنه فعل فسوقاً وأنه فسق بذلك المحرم، ولا يلزمه اسم فاسق إلا لغلبة ذلك عليه) ا. هـ. نواقض الإسلام: ذكر أهل العلم أن هناك عشرة نواقض هامة تُخرج المسلم من الملة إذا ارتكبها قاصداً ومختاراً لها من غير عذر شرعي كالإكراه وهي: (1) الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}. (2) من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعاً. (3) من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم. كفر إجماعاً. (4) من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر. (5) من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بغضاً دينياً لا طبعياً كفر إجماعاً ولو عمل به. والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}. (6) من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ *لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.

خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في فقه الإيمان والكفر وضوابط تكفير المعين

(7) السحر، ومنه الصرف، والعطف فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}. (8) مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين لأجل دينهم والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. (9) من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر. (10) الإعراض المطلق عن دين الله لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}. مذهب أهل السنة والجماعة في فقه الإيمان والكفر وضوابط تكفير المعين: هذه خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في فقه الإيمان والكفر وضوابط تكفير المعين وهي مستلة من خاتمة كتاب التكفير وضوابطه للشيخ إبراهيم الرحيلي حفظه الله (بتصرف يسير مني): 1 - الإيمان عند أهل السّنة يتألّف من ثلاثة أجزاء: اعتقاد القلب، وقول اللّسان، وعمل الجوارح، وعن هذه الأجزاء تتفرّع شعب الإيمان. 2 - الإيمان عند أهل السّنة يتبعّض، فيذهب بعضه ويبقى بعضه، وهو يزيد وينقص، يزيد بالطّاعة وينقص بالمعصية. 3 - ينقسم الكفر في اصطلاح الشّارع إلى قسمين: أكبر مخرج من الملّة، وأصغر لا يخرج من الملّة، وقد جاء في النّصوص إطلاق لفظ: (الكفر) على الأكبر تارة، وعلى الأصغر تارة أخرى. 4 - يعبّر في النّصوص الشّرعية عن (الكفر) بعدّة ألفاظ كلّها تدلّ على حقيقته في الشّرع، فيعبّر عنه تارة بالشّرك، وتارة بالظّلم، وتارة بالفسق. 5 - مفارقة معنى الكفر للنّفاق باعتبار، واجتماعهما باعتبار آخر. فيفترقان في أنّ الكافر مظهرٌ للكفر، والمنافق مسرٌّ له، ويجتمعان في اعتقادهما الكفر في الباطن. 6 - انقسام الكفر إلى أقسام كثيرة باعتبارات متعدّدة. فينقسم إلى: أكبر وأصغر باعتبار حكمه. وينقسم إلى: تكذيبٍ وجحودٍ، وعنادٍ، ونفاقٍ، وإعراضٍ، وشكٍّ، باعبتار بواعثه وأسبابه. وينقسم إلى: قلبي، وقولي، وعملي، باعتبار ما يقوم به من أعضاء البدن. وينقسم إلى: أصلي وردّة، باعتبار كونه أصليّاً أو طارئاً. وينقسم إلى: مطلقٍ، ومعيَّنٍ، باعتبار إطلاقه وتنْزيله على المعيّنين. 7 - الكفر الأكبر ينقسم إلى خمسة أقسام باعبتار بواعثه وأسبابه وهي: الأول: كفر تكذيب: وهو اعتقاد كذب الرسل. وهذا القسم قليل في الكفار، فإن الله تعالى أيد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة. قال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}.

الثاني: كفر إباء واستكبار: مثل كفر إبليس: ومن هذا كفر من عرف الرسول ولم ينقد له إباء واستكباراً وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما قال تعالى عن فرعون وقومه: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}.ومنه كفر أبي طالب فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم. الثالث: كفر إعراض: مثل من يعرض عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمعه، ولا يصدقه، ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم (والله أقول لك كلمة: إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك). الرابع: كفر الشك: حيث لا يجزم بصدقه، ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وأما مع التفاته إليها ونظره فيها فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق. الخامس: كفر نفاق: وهو أن يظهر بلسانه الإيمان وينطوي بقلبه التكذيب وهذا هو النفاق الأكبر. 8 - للكفر شعب كما أنّ للإيمان شعباً كذلك، والمعاصي كلّها من شعب الكفر، كما أنّ الطّاعات كلّها من شعب الإيمان، وقد يجتمع في الرّجل بعض شعب الإيمان، وبعض شعب الكفر فيجتمع فيه إيمان وكفر. 9 - تتفاوت أحكام الكفار في الدّنيا بحسب أقسامهم باعتبار كون كفرهم أصليّاً أو كفر ردّةٍ، وكونهم محاربين أو غير محاربين، وكونهم أهل كتابٍ أو ليسوا بأهل كتاب. 10 - يشترك الكفّار كلّهم بشتى أصنافهم في حكم الآخرة في أنّهم خالدون مخلّدون في النّار، أبد الآباد، لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها بحالٍ، وهم مع هذا ليسوا في درجةٍ واحدةٍ من العذاب، بل يتفاوتون في دركات النّار كما أنّ أهل الجنّة يتفاوتون في درجات الجنّة. 11 - حكم أهل الكفر الأصغر في الدّنيا حكم سائر أهل المعاصي، لا يخرجون من دائرة الإسلام، ويحكم لهم بحكم المسلمين، وهم في الآخرة تحت مشيئة الله، إن شاء عذّبهم، وإن شاء غفر لهم، وإن عذّبهم بالنّار فإنّه لا يخلّدهم فيها، بل لا بدّ من خروجهم منها كسائر عصاة الموحّدين. 12 - التّكفير والتّفسيق أحكام شرعية لا مدخل للعقل فيها بحالٍ، فالكافر مَن جعله الله ورسوله كافراً، والفاسق مَن جعله الله ورسوله فاسقاً، وليس ذلك لأحدٍ. 13 - بيان الضّوابط الشّرعية لما يُكفّر به من الأعمال، وما لا يكفّر به، وهذه المخالفات إما أن تكون بترك مشروع، أو بفعل محظور. أمّا ترك المشروع فإما يكون ترك للاعتقاد، أو للقول، أو للعمل، أما ترك الاعتقاد فكفر، وأما ترك القول، فعلى قسمين: ما يكون تركه كفراً كالنّطق بالشّهادتين، وما لا يكون تركه كفراً كبقية واجبات اللّسان، وأما ترك العمل فعلى قسمين أيضاً: قسم مختلف في التّكفير بتركه، وهي أركان الإسلام الأربعة بعد الشّهادتين، وقسم متّفق على عدم التّكفير بتركه، وهي سائر الواجبات بعد أركان الإسلام. وأما فعل المحظور فينقسم إلى قسمين: ما

فقه تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله

يكون مكفّراً بالاتّفاق، وهي سائر الأعمال المناقضة للإيمان بالله ورسوله، وما لا يكون مكفّراً بالاتّفاق وهي كلّ الذّنوب والمعاصي التي لا تضاد أصل الإيمان بالله ورسوله. 14 - اختلاف السّلف في التّكفير بترك أركان الإسلام الأربعة بعد الشّهادتين، على خمسة أقوال: مَن يرى التّكفير بترك واحد منها، ومَن يرى عدم التّكفير بترك شيء منها، ومَن يرى كفر تارك الصّلاة فقط، ومَن يرى كفر تارك الصّلاة، والزّكاة، ومَن يرى كفر تارك الصّلاة، وتارك الزّكاة إذا قاتل عليها , والراجح هو القول الثّالث، وهو تكفير مَن ترك الصّلاة فقط دون غيرها من الأركان الأخرى، وبيان أنّ هذا القول هو قول عامّة الصّحابة وجمهور السّلف من التّابعين ومَن بعدهم، وكذلك ترجيح أنّ التّرك المكفّر للصّلاة هو تركها بالكلّيّة خلافاً لمَن ذهب إلى التّكفير بترك بعض الصّلوات. 15 - قيام الكفر المطلق في بعض المعيّنين، لا يستلزم تكفير المعيّن حتى تتحقّق فيه شروط التّكفير وتنتفي موانعه. 16 - شروط تكفير المعيّن التي دل عليها كتاب الله وسنة نبيه، وهي: البلوغ، والعقل، والاختيار، والقصد، وبلوغ الحجّة، وعدم التّأويل. 17 - النّظر في مسألة التّكفير لا يكون إلاّ للعلماء الرّاسخين القادرين على استنباط الحكم الشّرعي في هذه المسألة من النّصوص، وكيفية تنْزيله على المعيّنين، وكذلك المعرفة بأصول أهل السّنة في مسألة التّكفير، والإلمام بمواقف الأئمة من المخالفين مع الاحتياط من تكفير مَن لم يتيقن كفره، ولم يعلم أنّه قد قامت عليه الحجّة. فقه تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله: يوضح الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الحالات التي إن فعلها الحاكم دخلت في الكفر المخرج من الملة وهي: (1) إذا جحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله. وهو معنى ما روى عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، وجحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم، إن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً فإنه كافر كفراً ينقل عن الملة. (2) إن لم يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أن حكم الله ورسوله حق، ولكنه اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس وما استجد لهم من حوادث نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال فهذا أيضاً لا ريب في كفره لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي زبالة الأذهان وحثالة الأفكار على حكم الحكيم الخبير. فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله. (3) أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين السابقين كافر كفراً ينقل عن الملة لما في ذلك من تسوية المخلوق بالخالق.

فقه التفسيق

(4) من اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله فهو كالذي قبله. (5) من أعظم ذلك وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي، كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، وأي كفر فوق هذا الكفر؟! وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟!. (6) ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها (سلومهم) يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به رغبة وإعراضاً عن حكم الله. أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة: والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر وقوله أيضاً: (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه) فذلك مثل، أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها الله كفراً .... انتهى). فقه التفسيق: تعريف الكبيرة اصطلاحاً: تعريف الكبيرة المُختار والراجح من أقوال أهل العلم: هو كل ذنب أوجب حداً في الدنيا أو وعيداً في الآخرة، بنص القرآن أو السنة الثابتة، أو عظمت مفسدته بما يماثل المنصوص عليه. محترزات التعريف: أوجب حداً: فالحدود هي العقوبات المقدرة شرعاً على بعض الأفعال المنصوص عليها، مثل الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وقذف المحصنات، وقتل النفس التي حرم الله. أما غيرها من الأفعال التي لم يرد النص الشرعي بعقوبات مقدرة لها فلا تعتبر من الكبائر؛ كاللطمة والشتيمة. أو وعيداً في الآخرة: ووعيد الآخرة يشمل ما يلي: ـ العذاب بالنار. ـ اللعن: وهو الطرد من رحمة الله. ـ عدم دخول الجنة. بنص القرآن أو السنة الثابتة:.فلا بد أن تكون الكبيرة منصوصاً عليها. أو عظمت مفسدته بما يماثل المنصوص:.مثال ذلك تعاطي المخدرات، فهي وإن لم ينص الكتاب والسنة على أنها من الكبائر لكن مفسدة التعاطي عظمت حتى ضاهت أكبر الكبائر المنصوص عليها.

تعداد جملة من كبائر الذنوب

تعداد جملة من كبائر الذنوب: اعلم أخي المسلم بأن حصر الكبائر بالعد لا يُمكن استيفاؤه , قال النووي في شرحه لمسلم (وقال العلماء رحمهم الله: ولا انحصار للكبائر في عدد مذكور. وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين، ويروى إلى سبعمائة أقرب. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر سبع فالمراد به: من الكبائر سبع. فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم فهي مخصوصة بلا شك، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع. وفي الرواية الأخرى ثلاث، وفي الأخرى أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية. ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض. وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتم الرجل والديه، وجاء في النميمة، وعدم الاستبراء من البول، أنهما من الكبائر. وجاء في غير مسلم من الكبائر اليمين الغموس، واستحلال بيت الله الحرام ... انتهى). هذا وبعد عرض التعريف المختار للكبيرة، لا بأس بعرض جملة من كبائر الذنوب على سبيل المثال لا الحصر، والتي ينطبق عليها تعريف الكبيرة، مُطَبَّقاً عليها الضوابط المذكورة آنفاً، تأسياً بالفقهاء الذين لم يجعلوا الكبيرة في حيز النظرية، وإنما كانوا يُتبعون تعريفهم بجملة من كبائر الذنوب لتجلية الحد، والوقوف على المراد منه، وفيما يلي ذكر جملة من الكبائر مرتبة على تبويب كتب الفقه , هذا وإن كان بعضها مختلف فيه ولكن المقصود التمثيل: من كتاب الطهارة: ترك الاستنزاه من البول، ترك شيء من واجبات الوضوء أو الغُسل، وطء الحائض، الشرب من آنية الذهب والفضة واتخاذها، فعل الواصلة والواشمة، والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن. من كتاب الصلاة: تقديم الصلاة أو تأخيرها عن أوقاتها بلا عذر، ترك أهل المِصر الجماعة من غير عذر، واتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السُّرج عليها، ترك الجمعة من غير عذر ثلاث مرات متتاليات. من كتاب الجنائز: ضرب الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، كراهية لقاء الله. من كتاب الصوم: الإفطار في رمضان عمداً بلا عذر. من كتاب الزكاة: منع الزكاة بعد وجوبها من غير عذر، والخيانة في جمع الصدقة، وفرض المكُوس وما يشابهها من الضرائب غير المشروعة وجبايتها، والسؤال من غير حاجة والإلحاح فيه، والمنّ بالصدقة، ومنع فضل الماء لمحتاج. من كتاب الحج: ترك الحج مع القدرة عليه، وزاد الشافعية: إلى الموت، قتل المحرم الصيد، استحلال البيت الحرام، الإلحاد في الحرم. من كتاب الأيمان والنذور: اليمين الغموس، والحلف بغير الله. من كتاب الصيد والذبائح: المُثلة بالحيوان ووسمه، واتخاذه غرضاً وقتله عبثاً،. من كتاب الأطعمة والأشربة: أكل لحم ميتة أو خنزير بغير اضطرار، وأكل وشرب المسكرات، وكذا الحشيش، واستعمال المخدرات من غير عذر شرعي كمرض، وشرب أو أكل الدم المسفوح والنَّجَس.

من كتاب اللباس والزينة: لبس المرأة لباس الرجل، ولبس الرجل لباس المرأة، ولبس المرأة ما يصف أو يشفّ، إسبال الثوب من أجل الخيلاء. من كتاب النكاح: إفساد وتخبيب المرأة على زوجها، والزوج على زوجته، العقد على المحرم نكاحهن، إتيان المرأة في دبرها، تزوُّج المرأة وعدم إعطائها مهرها، خروج المرأة من بيتها متعطرةً متزينة ولو بإذن زوجها، ونشوز الزوجة بلا موجب شرعي. من كتاب الطلاق وما يتعلق به: سؤال المرأة زوجها الطلاق من غير ما بأس، الدياثة والقيادة، انتساب الإنسان إلى غير أبيه مع علمه أو تبرُّؤه من نسبه مع علمه بذلك. كتاب النفقات: إضاعة من يعول، عقوق الوالدين، قطيعة الرحم. من كتاب الوقف: سرقة الوقف أو غصبه. من كتاب الوصية: الإضرار بالوصية. من كتاب البيوع: أكل الربا وإطعامه وكتابته والشهادة عليه، والإعانة عليه وبيع الحر، وأكل المال الحرام، والغش في البيع، وإنفاق السلعة بالحلف الكاذب، وبخس الكيل والوزن، والاستدانة بغير نية الوفاء، وأكل مال اليتيم. من كتاب المعاملات: خيانة الشريك، وتغيير منار الأرض، ومنع الأجير أجرته أو تأخيرها بغير عذر، والغصب بمقدار نصاب السرقة. من كتاب الحدود: الزنا، وإتيان الذكور، وشرب الخمر، وسقيه وعصره وحمله لشربه وبيعه وشرائه، والسرقة، والقذف، وقطع الطريق, والشفاعة في إسقاط حدود الله بعد بلوغها للإمام. من كتاب القصاص: قتل مسلم أو ذمي معصوم عمداً أو شبه عمد، وقتل نفسه، أو إتلاف عضو من أعضائه، أو أعضاء غيره، والإعانة على ذلك، وتعذيب الناس، والإشارة إليهم بالسلاح. من كتاب الردة: قول المسلم للمسلم: يا كافر لمجرد السب. من كتاب الجهاد: ترك الجهاد عند تعيُّنه، والفرار من الزحف، والغلول من الغنيمة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً عند القدرة على ذلك والأمن على النفس، وقتل وظلم من له أمان أو عهد أو ذمة. من كتاب القضاء: أخذ الرشوة، وإعطاؤها والسعي فيها , ومخاصمة الرجل في باطل يعلم أنه باطل، ودعواه ما ليس له وهو يعلم أنه ليس له. من كتاب الشهادات والبينات: كتم الشهادة عند تعين الأداء، وشهادة الزور. من كتاب الإمامة: الخروج على الإمام العادل بغير تأويل أو بتأويل باطل، نكث بيعة الإمام لغرضٍ دنيوي، وظلم الإمام رعيته وغشهم والاحتجاب دون حوائجهم، وإيواء المُحْدِثِين. كبائر من أبواب متفرقة: السحر، والكهانة والعرافة، والطيرة والتنجيم، وإتيان من يفعل ذلك وتصديقه، وتعليق التمائم والرقى والحروز، والاستماع إلى حديث قوم وهم له كارهون بلا مصلحة، والنميمة، والتكذيب بالقدر , وحرمان الوارث حقه من الميراث , ومحبة الرجل قيام الناس له، وتصوير ذوات الأرواح , والشرك بالله

الموقف من الذنوب المختلف في تصنيفها بين الكبائر والصغائر

شركاً أصغر كالرياء والسمعة، والخيانة في الأمانة، وهي قبيحة في كل شيء وبعضها شر من بعض، وليس من خانك في فلس كمن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم , والغدر وعدم الوفاء بالعهد , وإرادة العلو في الأرض والفساد وإن لم ينل , والقول على الله بلا علم , وإساءة الظن بالله سبحانه، واتهامه في أحكامه الكونية والدينية، والدعوة إلى ضلالة أو بدعة والتبجح والافتخار بالمعصية بين أصحابه وأشكاله، وهو الإجهار الذي لا يعافي الله صاحبه وإن عافاه من شر نفسه , وإضلال أعمى عن الطريق وقد لعن - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك فكيف بمن ضل عن طريق الله أو صراطه المستقيم , وحمل السلاح على المسلم , والجدال في كتاب الله ودينه بغير علم , والحسد، وكتم العلم الواجب إظهاره، وترك العمل بما علم، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذية أولياء الله تعالى، وتولي أعدائه من الفسقة والكفرة، وبغض الصحابة وسبهم عامةً وخاصةً المهاجرين والأنصار، ولعن المسلم المصون , والأمن من مكر الله، والإياس والقنوط من روح الله. الموقف من الذنوب المختلف في تصنيفها بين الكبائر والصغائر: إذا اختلف أهل العلم في معصية ما أهي من الكبائر أم من الصغائر؛ ما موقفنا منها؟ أي هل الأصل في الذنوب أنها كبائر أم العكس؟ أقول قد نصت الشريعة على بعض الذنوب أنها من الكبائر؛ كالسبع الموبقات وغيرها، وفيما عدا ذلك لم يثبت نص في الشريعة على ضابط يُفرَّق به بين الصغيرة والكبيرة، بل قال ابن عبد السلام في "القواعد ": (لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض) أهـ من "الفتح" (10/ 410) لابن حجر. ولو قال قائل: إن الشريعة سكتت عن بيان ذلك الضابط لأجل أن يحترز المؤمن من كل ذنب؛ خشية أن يكون كبيرة لكان له وجه. ومما يدل عليه أن الله تعالى حث على اجتناب الكبائر مطلقا؛ فقال: "إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" فهو يؤكد هذا المعنى، وإذا لم يُستفد منه الإذن بفعل الصغيرة قطعا؛ فلماذا نتطلب الفرق بين الصغيرة والكبيرة؟ ومع إخفاء الضابط ترى العابد يحرص على التقصي على النفس والاحتياط لها، وهذا مطلب للشريعة: وهو أن يكون وجلاً خائفاً، ونفسه لوامة، هذا عدا ما في تسمية الذنب صغيرة من التهاون بنهي الباري جل في علاه عنها، وتسهيلها في نفوس الناس؛ بما يخالف مقاصد الشريعة في التوقي من الذنوب. ولهذا وقع لبعض من اعتمد ضابطاً في ذلك أن طبق الحكم على بعض الذنوب فوصفها بأنها صغائر، وهذا فيه ما فيه من قفو المرء ما ليس له به علم دون حاجة، وكذلك تسهيل معصية الله تعالى. يقول الإمام الواحدي في "البسيط": ( .. الصحيح أنه ليس للكبائر حد يعرفه العباد، وتتميز به عن الصغائر؛ تمييز إشارة، ولو عرف ذلك لكانت الصغائر مباحة، ولكن أخفي ذلك على العباد، ليجتهد كل واحد في اجتناب ما نهي عنه، رجاء أن يكون مجتنباً للكبائر، ونظيره إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في رمضان) أهـ نقلا من "البحر المحيط" (3/ 336) للزركشي. قال الإمام أبو الحسن الواحدي المفسر وغيره: الصحيح أن حد الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع

تعريف الصغيرة

بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر، والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعاً من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر. قالوا: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء من الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك مما أخفي ... انتهى. تعريف الصغيرة اصطلاحاً: تعريف الصغيرة المُختار والراجح من أقوال أهل العلم: هي كل ذنب لم يُوجب حداً في الدنيا، أو وعيداً في الآخرة، وكان قليل المفسدة. تعداد جملة من صغائر الذنوب في ضوء التعريف المختار: من كتاب الطهارة: استقبال القبلة أو استدبارها ببولٍ أو غائطٍ في الفضاء، إدخال النجاسة إلى المسجد، استعمال النجاسة في ثوبٍ أو بدن. من كتاب الصلاة: الصلاة وقت الكراهة ـ البيع عند نداء الجمعة ـ الاختصار في الصلوات، والعبث، والالتفات أيضاً ـ البيع والشراء في المسجد ـ إمامة الرجل والقوم له كارهون ـ الكلام والإمام يخطب. من كتاب الصوم: الصوم في يوم منهي عنه ـ مباشرة الصائم وتقبيله إذا لم يأمن. من كتاب الزكاة: دفع الزكاة من أردأ المال. من كتاب الأطعمة والأشربة: إمساك الخمر غير المحترمة ـ الأكل مِن طعام مَن غالبُ مالِه حَرامٌ على مذهب من يحرم المال الحرام مطلقاً ولا يفرق بين المحرم لعينه والمحرم لكسبه. من كتاب النكاح: الخِطبة على خِطبة غيره ـ نكاح الشِّغار ـ مُضارَّة الزوجة. من كتاب الطلاق: التطليق في الحيض ـ وطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير والرجعة ـ تطليق الزوجة أكثر من واحدة ـ المضارة في الإنفاق. من كتاب البيوع: النَّجْش، البيع على بيع أخيه، والسوم على سومه وبيع الحاضر للباد، وتلقي الركبان، والتصرية، وبيع المعيب من غير بيانه. من كتاب الجهاد: قتل الحربي قبل استتابته ـ بيع السلاح لأهل الفتنة. من كتاب القضاء: ترك القاضي التسوية بين الخصمين. صغائر من أبواب متفرقة: الخلوة بالأجنبية، والنظر المحرَّم، واتخاذ الكلب الذي لا يحلُّ اقتناؤه، وهجو المسلم، وهجر المسلم فوق ثلاثة أيام ودون سنة بلا عذر، وكثرة الخصومة، والإشراف على بيوت الناس، الكذب الذي لا حدَّ فيه ولا إضرار، استماع الغيبة، ابتداء الكافر بالسلام، سماع اللهو وآلات المعازف، إفشاء السر، خلف الموعد، التعصب، المداهنة، سفر المرأة من غير زوج أو محرم.

تعريف الإصرار

تعريف الإصرار لغةً: الإصرار في اللغة له معنيان: الأول: العزم على الأمر. الثاني: مداومة الشيء ولزومه. تعريف الإصرار اصطلاحاً: اختلفت عبارة العلماء في تعريف الإصرار، إلاَّ أنَّ المعاني الإجمالية لتعاريفهم متفقة، والتعريف المختار للإصرار وما يعتبر فيه هو الإقامة على الذنب، والعزم على فعله أو فعل مثله من نوعه. فالإصرار يكون باعتبارين: اعتبار فعلي، واعتبار حكمي. الاعتبار الفعلي: هو الإقامة على الصغيرة، أي: المداومة عليها. والاعتبار الحكمي: هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها , وانتهاء الباعث عليها من شدة شهوة ونحوه. ضابط الإصرار على الصغيرة المفسق: اختلف العلماء في ضابط الإصرار على الصغيرة الذي يفسق فاعله على أقوال عديدة، إلا أن أرجحها القول بأن الإصرار المفسق هو الإكثار من هذه الصغائر ومعنى الإكثار هو الغلبة كما قال البُلْقِيني: «أن المراد بالأكثرية التي تغلب بها معاصيه على طاعاته». والنتيجة التي يُصار إليها بعد عرض هذه الضوابط أن التفسيق بالإصرار على الصغيرة يدور مع الغلبة، أي غلبة الصغائر على الطاعات؛ فحيث وجدت وُجِدَ، وحيث عدمت عُدِمَ. أقوال العلماء ومذاهبهم في أثر غلبة الصغائر على الفسق: لعل أولَ من نبَّه على ذلك هو الإمام الشافعي ـ رحمة الله عليه، إذ يقول في كتابه العظيم (الرسالة): «وليس للعدل علامةٌ تُفرِّق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يختبر من حال نفسه؛ فإن كان الأغلب من أمره ظاهر الخير قُبل؛ وإن كان فيه تقصيرٌ عن بعض أمره، لأنه لا يَعرى أحد رأيناه من الذنوب، وإذا خلط الذنوب والعمل الصالح، فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره بالتمييز بين حَسَنه وقبيحه، وإذا كان هذا لا بد أن يختلف فيه المجتهدون» وقال ابن حجر الهيتمي: «والحاصل أنَّ المعتمد، وِفاقاً لكثيرٍ من المتأخرين كالأذرعي والبلقيني والزركشي .. وغيرهم: أنه لا تضرُّ المداومة على نوعٍ من الصغائر، ولا على أنواع، سواء كان مقيماً على الصغيرة أو الصغائر، أو مكثراً من فعل ذلك، حيث غلب الطاعاتُ المعاصيَ، وإلا ضرَّ». وكذلك عند الحنفية فقد قال ابن نجيم: «حدُّ الإصرار على الصغيرة: الجمهور أنه غلبة المعاصي على الطاعات وهو المعتمد». وعند الحنابلة أيضاً مقياس الغلبة هو المعتمد، فقد جاء في «المغني»: «فأما الصغائر: فإن كان مصرَّاً عليها رُدَّت شهادته، وإن كان الغالب من أمره الطاعات لم يُردَّ لما ذكرنا من عدم إمكان التحرُّز». وقد صرَّح بذلك أيضاً في «الكافي» فقال: «واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب، لأنَّ الحكم للأغلب».

وكذلك عند الظاهرية: فقد اعتبر ابن حزم غلبة الطاعة مع عدم الإقدام على كبيرة شرط العدالة. دليل مقياس الغلبة: ما تقدم من ترجيح مقياس غلبة الصغائر لتفسيق المكلف يمكن الاستدلال له بما يلي: 1 - قوله تعالى: {والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} [الأعراف: 8 ـ 9]. 2 - وقوله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية} [القارعة: 6 ـ 11]. وجه الدلالة: أنَّ من غلبت حسناتُه سيئاتِه كان من الناجين، ومن غلبت سيئاتُه حسناتِه فهو من الخاسرين، فالحكم للأغلب. 3 - قوله تعالى: {يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [البقرة: 219]. وجه الدلالة: أنَّ الله سبحانه وتعالى غلَّب حكم الأغلب من كثرة مفاسد الخمر على منافعه في حكم التحريم، فيستفاد من الآية أنَّ الحكم للأغلب. 4 - عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومُحَقَّرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكْنَه»، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً: كمثل قومٍ نزلوا أرض فلاةٍ، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سَوَاداً فأجَّجوا ناراً، وأنضجوا ما قذفوه فيها. 5 - عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقلت، فإن عاد زِيدَ فيها، فإن عاد زيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي ذكر الله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14]. وجه الدلالة في هذين الحديثين: أنَّ صغائر الذنوب التي عُبِّر عنها بالمحقرات والخطيئة، إنما يهلكن صاحبهن إذا غلبن وتراكمن، فالعبرة دائماً بالغلبة. 6 - أنَّ مقياس الغلبة مقياسٌ ثابت معتبر عند الفقهاء في تعاملهم مع المسائل الفقهية، وقد صاغ الفقهاء هذا المعنى صياغة القواعد الفقهية، فقالوا: «للأكثر حكم الكل» وقالوا: " قيام الأكثر مقام الكل أصلٌ معتبر في الشريعة ". 7 - أنَّ أحداً قلَّما يكون خالصاً للطاعة، أو سالماً من المعصية، ولا تكون الطاعة مقصورةً على خلوص الطاعات، ولا الفسق مقصوراً على خلوص المعاصي لامتناع خلوص كل واحد منهما، ولا اعتبار بالممتنع، فوجب اعتبار الأغلب من أحوال المكلف، فإن كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة حُكِمَ بعدالته، وإن عصى ببعض الصغائر، وإن كان الأغلب عليه المعصية حُكم بفسقه.

حقيقة القول بأنه لا صغيرة مع الإصرار

كيفية ضبط غلبة الصغائر: يمكن ضبط غلبة الصغائر على الطاعات بالطرق التالية: بالعُرف وظاهر حال الشخص: فما اعتبره عدول الناس من كثرة معاصي شخصٍ ما وغلبتها على طاعته، فهو فاسق باعتبارهم هذا , ومن كان ظاهره غَلبة الطاعة كان عدلاً، ومن كان ظاهره غلبة المعصية فهو فاسق. تنبيه: كل من تقع منه الصغيرة فيقلع عنها ويتوب ثم يواقعها من غير عزمٍ سابق على تكرار الفعل، فليس بإصرار، فكل صغيرة تاب عنها المكلف لا تدخل فيما ذُكر من الغلبة؛ لأن التوبة الصحيحة تُذهب أثر الصغيرة بالكلية. حقيقة القول بأنه لا صغيرة مع الإصرار: لأهل العلم في الإصرار على الصغيرة هل يُصَيِّرها كبيرة؟ قولان: الأول: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الإصرار على الصغيرة يُصيِّرها كبيرة. وقد استدل هؤلاء بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار» ووجه الدلالة: أن الصغيرة تعظم بالمواظبة عليها فتصير كبيرة , ولكن هذا الحديث فيه مقال فقد رواه القضاعي في مسند الشهاب والديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي شيبة الخرساني وقد ذكر البخاري أنه لا يتابع على حديثه وقال الذهبي عنه في الميزان: أتى بخبر منكر وذكر هذا الحديث. كما ضعفه العراقي في تخريج الإحياء والسخاوي في المقاصد الحسنة وابن رجب في جامع العلوم والحكم. وللعلم فاعتبار الإصرار على الصغيرة كبيرةً هو من باب الإلحاق؛ فهو «لا يصيّر الصغيرةَ كبيرةً حقيقة، وإنما يلحقها بها في الحكم». الثاني: بالمقابل ذهب بعض العلماء إلى أن الإصرار على الصغيرة صغيرة، لا يصيرها كبيرة , واحتجوا بالنصوص المفرقة بين الكبائر والصغائر، كقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31]، وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (223) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". جاء في «البحر المحيط» للزركشي: «إنَّ الإصرار حكمه حكم ما أصر به عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة .. ». وقال الشوكاني: «وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به .. بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصَرَّ عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة». والذي يظهر لي أن القول الثاني وهو أن الصغيرة لا تصير كبيرة بتكرارها، والمداومة عليها، سواء أكان التكرار لصغيرة بعينها، أو لجنس الصغائر- أقرب للصواب، وأما ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، فمحمول على أن الإصرار هو استدامة غير الآبه بحدود الله تعالى، ولا المبالي بحرماته، ولا المعظم لأمره ونهيه، وهذا لا ريب أنه من كبائر ذنوب القلوب، وأما الاستدامة لغلبة الشهوة ونحو ذلك، مع خوف العقوبة، ووجل المؤاخذة، فليس كبيرة، والله أعلم.

موقف المسلم من تصنيف الناس وطرق تصنيفهم

وخلاصة القول: الإصرار على الصغيرة يكون مؤثراً في مقياس الغلبة عندما تغلب معاصيه على طاعاتِه، ولا يكون الإصرار مؤثراً إذا غلبت طاعاته على معاصيه، فالعبرة دائماً للغلبة. موقف المسلم من تصنيف الناس: بدايةً ينبغي ألا يُقطع بعيب أحد لغير حاجة أو مصلحة شرعية لما يُرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفاً مذموماً لا تصح معه تلك الأعمال ولعل من رأينا عليه تفريطاً أو معصية يعلم الله من قلبه وصفاً محموداً يغفر له بسببه فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية وعلى هذا فلا ينبغي الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالاً صالحة وعدم الاحتقار المطلق لكل مسلم رأينا عليه أفعالاً سيئة , وأما موقف المسلم من التصنيف فلا شك أن التشوَف إلى تصنيف الناس بلا حاجة مذموم , وأن من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره , وأن الأصل الظن بالمسلمين خيراً واعتقاد عدالتهم والعمل بعموم الإحسان إلى الناس من سلام ونحوه إلا أن هناك حالات تستوجب تصنيف بعض الأفراد من الناس , والتصنيف مهما كان موضوعياً فإنه لا يُمكن أن يبلغ درجة اليقين وذلك أن تعامل المسلم مع نفسه مبناه على اليقين وتعامله مع غيره مبناه على غلبة الظن والمسلم يتعامل مع الناس على حسب علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله , ولتعلم أن أحكام التفسيق والتبديع والتكفير لا بد فيها من مراعاة عوارض الأهلية من جهل أو نسيان أو إكراه أو نحو ذلك وأن تنزيلها على الأعيان لا يقدر على تحقيقه إلا العلماء الراسخون المعتبرون فينبغي التباعد عن ذلك قدر الإمكان إلا ما كان لحاجة أو مصلحة شرعية راجحة وليسدد المسلم وليقارب. طرق تصنيف الناس: تصنيف الناس بالعدالة أو الفسق أو الكفر يكون بالاستفاضة والشهرة، أو الإقرار، أو ظاهر حال الشخص، أو البينة العادلة أو شهادة الخبراء بالتعديل والتفسيق، أو الاختبار في الأحوال بطول الصحبة والمعاشرة والمعاملة. أقسام المكلفين وتصنيفهم من حيث الشرع: المستور عند أهل العلم: المستور عند العلماء هو الذي لا تُعرف عدالته ولا فسقه، أي يكون حاله مجهولاً. مستور الحال: مستور الحال هو من يتوسم فيه العدالة، الذي لا يعلم منه عدالة ولا فسق ولم يشتهر بين المسلمين بصلاح ولا استقامة فهو مجهول الحال. المسلم العدل الذي تجب موالاته في الله: المسلم العدل هو من يجتنب الكبائر ويؤدي الفرائض التي تركها كبيرة وغلبت حسناته سيئاته الصغائر, والعدالة درجات كما أن الفسوق درجات. الفاسق الملي (المسلم): الفاسق هو مرتكب الكبيرة من غير توبة أو المصر على صغيرة بحيث تغلب على طاعاته , وقيل هو مرتكب الكبيرة من غير توبة أو المُصر على صغيرة ولو غلبت طاعاته معاصيه.

فالفاسق على المذهب المختار هو (ارتكاب المكلف المختار العالم بالتحريم بلا تأول ما ثبت أنه كبيرة (غير المختلف فيه) ولم يتب منها أو ارتكابه لصغار بحيث تغلب على طاعاته , مع السلامة من البدع الاعتقادية. المراد بالإصرار على الصغيرة: الإصرار هو الإقامة على الذنب والعزم على فعل مثله، وضابط الإصرار المفسق قضاءً على المذهب المختار هو غلبة الصغائر على الطاعات. وعلى هذا فالإصرار على الصغيرة يكون مؤثراً في مقياس الغلبة عندما تغلب معاصيه على طاعاته ولا يكون الإصرار مؤثراً إذا غلبت طاعاته على معاصيه فالعبرة دائماً للغلبة وقيل بأن الإصرار على الصغيرة مفسق بإطلاق. الفاسق المجاهر: المجاهرون هم من يعملون المعاصي أمام الناس وهم ينظرون إليهم, ويُلحق بالمجاهرين الفساق الذين يتحدثون بمعاصيهم تفاخراً ويظهرونها ويكشفوا ما ستر الله عليهم لغير ضرورة ولا حاجة. المبتدع: اعلم أولاً أن البدعة ثلاثة أقسام باعتبار الكفر والإسلام: الأولى: بدعة كفرية ناقضة لصريح دلالة الشهادتين, فيكفر صاحبها على التعيين بلا إعذار بجهل أو تأويل. الثانية: بدعة كفرية لكنها غير ناقضة لصريح دلالة الشهادتين لكنها تُعارض أمراً مقطوعاً به في الدين فهذه يُعذر فيها بالجهل والتأويل لكن إن أقيمت الحجة على أصحابها وزالت الشبهة وأصر صاحبها فحينئذ يمكن لأهل العلم تكفيرهم. الثالثة: بدعة غير كفرية أصلاً وهي التي لا تُعارض أمراً مقطوعاً به في الدين فهذه يفسق فيها المعاند المُصر الذي أقيمت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة دون المتأول والجاهل بل قد يكون مأجوراً إذا استفرغ وسعه في طلب الحق وحسنت نيته , وهذه البدع التي لا تُعارض أمراً مقطوعاً به في الدين منها كبائر وهي ما أخلت بالضروريات الخمس ومنها صغائر وهي ما كانت بخلاف الكبائر. وعلى هذا يتبين للمسلم أن أهل البدع المسلمين لا يُفسَقون بمجرد البدعة الغير كفرية لأنه قد يكون متأولاً أو طرأت عليه شبهات، وقد يكون المبتدع المسلم المتأول المجتهد لإصابة الحق خير من العاصي المتعمد عند الله , بل إن البدعة لا تُنافي الوصف بالعدالة الدينية أحياناً كأن تكون لا تُناقض صريح مدلول الشهادتين وهو متأول قد استفرغ وسعه لمعرفة الحق. وأما التحذير من المبتدعة الوارد عن السلف لا يعني تقديمهم المطلق للفاسق من أهل السنة عليهم لأن تقسيم الناس باعتبار الشرع هم الكفار والمنافقين والمسلمين , وأقسام المسلمين ثلاثة ظالم لنفسه مبين ومقتصد وسابق بالخيرات ولكن جاء تحذير السلف من البدعة وأهلها تأكيداً على خطورة البدعة وخطورة الاغترار بصلاح صاحبها في تسويق بدعته وبهذا يتبين لك أن من المبتدعة من هو ظالم لنفسه وفاسق فيه جهل وظلم حتى أخطأ السنة فهو ليس بكافر ولا منافق وبعضهم فيه عدوان وظلم يكون به فاسقاً أو عاصياً لا يرقى به إلى درجة الكفر ومنهم من يكون مُخطئاً ومتأولاً مغفوراً له خطؤه وقد يكون معه

من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه ولا ينافي ذلك عدالته ومنهم السابق بالخيرات , واعلم أخي أن الحكم على الفرقة البدعية لا يعني الحكم على عموم الأفراد وإن كانت البدعة واحدة إلا أن ما قررناه هذا لا يعني أنه ليس هناك من المبتدعة من هو زنديق منافق خارج عن الإسلام. الفرق بين المبتدع والفاسق الملي: المبتدع فسقه فسق اعتقادي سببه التعدي على المشروع ولا يقر صاحبه أنه على باطل وأما الفاسق ففسقه فسق عملي بارتكاب المحرمات وصاحبه يقر بأنه على باطل. الكافر: الكافر هو غير المسلم أو المرتد المرتكب لناقض من نواقض الإسلام وإن كان محسوباً على المسلمين. أقسام الكفار إجمالاً: ينقسم الكفار تجاه موقفهم من الإسلام وأهله إلى قسمين: القسم الأول: الكفار المحاربون للدين وأهله , وهؤلاء يجب جهادهم ومدافعة شرورهم وبغضهم في الله. القسم الثاني: الكفار المسالمون للدين وأهله , وهؤلاء لهم علينا حق البر والإحسان , والذين يدخلون تحت عهد المسلمين ثلاثة: الأول: المستأمن. والثاني: المعاهد. والثالث: الذمي. والإسلام يكفل لهؤلاء الأنواع من الكفار الأمن على دمائهم وأموالهم وأعراضهم. وهنا ملاحظة مهمة: لا يجوز عقد الهدنة والذمة إلا من الإمام أو نائبه وإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح , وإن دخل الكفار المهادنين والمعاهدين دار الإسلام بهذا الصلح كان آمناً لأنه دخل معتقداً للأمان ويُرد إلى دار الحرب ولا يُقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح. عدو الله: عدو الله هو الكافر المحارب للدين وأهله بلا خلاف بين أهل العلم وفي هذا الشأن يقول ابن تيمية رحمه الله (فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له-يقصد الله عز وجل- فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له كما قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}.فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه ولهذا جاء في الحديث (ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) ... انتهى). وأما الكافر المسالم للدين وأهله فقد قيل أنه ليس بعدو لله واستدل بعضهم بقول الله عن موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه الكافر حيث قال تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) وقالوا قد علم إبراهيم وتبين له كفر أبيه ابتداءً، لكن عداوته لم تتبين إلا بعد إصراره، وعناده، وتهديده فدل على أنه ليس كل كافر عدو لله تعالى. إلا أن هناك قول آخر نصره كثير من العلماء المحققين وهو أن الكافر الذي قامت عليه الحجة هو عدو لله أياً كان سواء كان مسالماً أو محارباً وإن كان الكافر المحارب أغلظ عداوة لله واستدلوا بقوله تعالى (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ

وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) وبالنسبة لقوله تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) فقد ذكر جملة من أهل التفسير المحققين بأن المراد بالتبيَن هنا هو موت أبو إبراهيم على الكفر وإياسه من هدايته للإسلام. وعليه فعداوة الله للكافرين وعداوتهم له هي ثابتة في حق مجموعهم لا في أعيانهم وآحادهم فإن الله نص على أنه عدو لهم في قوله ((فإن الله عدو للكافرين)) وهذه العداوة متجهه للنوع أي نوع الكافرين لكن لا نجزم أن الكافر المعين عدو لله إلا بعد التحقق من تحقق شروطها وانتفاء موانعها، والدليل على ذلك حديث الله جل وعلا عن نبيه إبراهيم عليه السلام مع أبيه فمن المعلوم أن أباه رفض الإيمان وبقي إبراهيم يدعوه ولم يحكم عليه بأنه عدو لله مع أنه كافر حتى تحقق من انطباق الوصف ولهذا قال تعالى ((فلما تبين له أنه عدو لله))، فلم يحكم عليه بأنه عدو لله بمجرد الكفر، فالكفر سابق على التبيين فدل على أن مجرد الكفر لا يستلزم وصف الفرد الكافر بأنه عدو حتى تتحقق صفة العداوة، أما بالنسبة لصنف ونوع الكفار فلاشك أنهم أعداء لله. عدو المؤمن: عدو المؤمن هو الكافر المحارب للدين وأهله والشيطان الرجيم بلا خلاف بين أهل العلم وكل عدو للمؤمن لدينه فهو عدو لله بالضرورة وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله (فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له-يقصد الله عز وجل- فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له. كما قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}.فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه ولهذا جاء في الحديث (ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) ... انتهى). ولكن هل كل عدو لله يلزم منه أن يكون عدواً للمسلم؟ اختلف أهل العلم في هذه المسألة فمنهم من قال أن كل عدو لله فهو عدو للمؤمن وأن الكافر عدو للمؤمن سواءً كان مسالم أو محارب وإن اختلفت طريقة التعامل معهم , وفي هذا يقول ابن القيم في النونية: شرط المحبة أن توافق من تحب ... على محبته بلا عصيان فإذا ادعيت له المحبة مع ... خلافك ما يحب فأنت ذو بهتان أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حباً له ما ذاك في إمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان ليس العبادة غير توحيد المحبة ... مع خضوع القلب والأركان إلى أن يقول: ولقد رأينا من فريق يدعي ... الإسلام شركاً ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم وسووهم ... به في الحب لا السلطان وقال آخرون لا يلزم من كون المشرك عدو لله أن يكون عدواً للمؤمن واستدلوا بإباحة الزواج من الكتابية المحصنة العفيفة ولم يكن الله عز وجل يشرع ويأذن

للمؤمن من أن يتزوج عدوةً له وإن كان إباحة تزوج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم، ولكن ذلك تيسير على المسلمين. تعريف وأقسام الكفار تفصيلاً: غير المسلمين من حيث حربهم على الإسلام ومسالمتهم للإسلام وأهله قسمان: القسم الأول: المحاربون: وهم من ليس بينهم وبين المسلمين ذمة، ولا عهد، ولا أمان، فيشرع قتالهم بحسب القدرة، فربما يكون قتالهم فرض عين، وذلك متى غزوا بلدا مسلما ليحتلوه، أو يستبيحوا دماء أهله، وأموالهم، فيلزم كل قادر من مسلمي ذلك البلد قتالهم، فإن احتاجوا إلى غيرهم من المسلمين من أهل البلاد الأخرى وجب على سائر المسلمين عونهم بالرجال والمال والسلاح حتى تحصل الكفاية؛ لقول الله ـ جل وعلا ـ (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) الأنفال [72]. وقد يكون قتالهم فرض كفاية إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الوجوب عن الباقين، وذلك إذا منع غير المسلمين وصول دعوة الإسلام إلى بلادهم، أو منعوا أهلها من الدخول فيه، وكان المسلمون أقوياء وجب على من يكفي منهم قتال غير المسلمين؛ لقول الله ـ جل وعلا ـ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) البقرة [193]، وبقى حكم القتال على غيرهم من المسلمين مستحباً، لكن لا يجوز ابتداء قتالهم حتى يُدعوا إلى الإسلام، فإن رفضوا وجب دعوتهم إلى الصلح والقبول بدفع الجزية للمسلمين، فإن رفضوا جاز قتالهم. القسم الثاني: غير المحاربين: وهم من بينهم وبين المسلمين ذمة، أو عهد، أو أمان، ولم يفعلوا ما ينقض ذلك، كقتالهم المسلمين أو الإعانة عليهم، وهذا يشمل ثلاثة أصناف: 1 - أهل الذمة: وهم رعاية الدولة الإسلامية الذين رضوا بحكم الإسلام عليهم فأعطوا الجزية والتزموا بأحكام أهل الذمة، وبعض أهل العلم لا يرون جواز إعطاء الذمة لغير أهل الكتاب والمجوس، فلا يقبل من غيرهم ممن يعيش في بلاد المسلمين إلا الإسلام، أو السيف، ومن أهل العلم من يجيز إعطاء الذمة لغيرهم أيضا، ولعل هذا هو الأرجح؛ أخذا بقول الله ـ جل وعلا ـ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) البقرة [256]. 2 - المعاهدون: وهم رعايا الدولة غير المسلمة، والتي بينها وبين المسلمين عهد وصلح على عدم القتال. 3 - المستأمنون: وهم رعايا الدول غير المسلمة المحاربة للمسلمين، الذين أعطاهم إمام المسلمين، أو أحد من المسلمين الأمان على نفسه وماله إذا دخل بلاد المسلمين حتى يخرج منها، سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم. فحكم هؤلاء واحد، وهو أنهم معصوموا الدم والمال، فلا يجوز سفك دمائهم، ولا أخذ أموالهم، لقول الله ـ جل وعلا ـ (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) التوبة [29] وقوله (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) التوبة [6].

المفهوم اللغوي للموالاة والتولي

ويستحب الإحسان إليهم والقسط معهم؛ ترغيباً لهم في الإسلام. ويجب على المسلمين حفظ دمائهم وأعراضهم وأموالهم ما داموا في ذمة المسلمين وعهدهم ممن أراد الاعتداء عليهم، سواء أكان المعتدي منهم من المسلمين أم من الحربيين؛ قال علي ـ رضي الله عنه ـ: " إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا "، ويجب على المسلمين فداء أسرى أهل الذمة بالمال، بعد فداء أسرى المسلمين؛ لأنه من حمايتهم. ومتى خاف المسلمون من المعاهدين أو المستأمنين، أو من بعضهم نقض العهد جاز نبد عهدهم إليهم، أي إخبارهم ببطلان العهد الذي بيننا وبينهم، ثم جاز قتالهم؛ لقول الله ـ جل وعلا ـ (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) الأنفال [58]. ومتى نقضوا العهد جاز قتالهم، ولم يجب نبذ العهد إليهم؛ لأن الخيانة وقعت منهم، كما قاتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قريشا دون أن يخبرهم بنقض العهد، لما غدروا فنقضوا العهد، وذلك عام فتح مكة، فأما أهل الذمة فلا ينبذ إليهم عهدهم حتى ينقضوه فعلا، لأنهم تحت أيدينا وفي حكمنا فضرر الخوف من نقضهم العهد أخف من غيرهم، فإذا نقضوه أو بعضهم زالت عصمة الناقضين فقط، وحل للمسلمين سفك دمائهم وأخذ أموالهم؛ جزاء لهم على نقضهم العهد، ويحصل نقض العهد بمخالفة شروط عقد الذمة معهم، مثل سب الله ـ جل وعلا ـ أو سب رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو دين الإسلام، أو الاستهزاء بشيء من ذلك، أو معاونة الكفار على المسلمين، أو التجسس على المسلمين، ونحو ذلك. أما المرتدون عن الإسلام إذا ثبتت ردتهم ثبوتا لا شك فيه فيستتابون ثلاثة أيام فإن تابوا قبل منهم، وإلا حكم عليهم بحد الردة وهو القتل. وأما المنافقون نفاقاً اعتقادياً فيعاملون معاملة المسلمين في الظاهر ولا يُباطنون، ومن أظهر نفاقه فهو مرتد يُعامل معاملة المرتدين. المفهوم اللغوي للموالاة والتولي: ... وإنا من لقائهم لزور ... لم يرد في القرآن الكريم، ولا في كتب الصحاح لفظ موالاة وإنما روى الطبراني في الكبير، عن ابن عباس (رضي الله عنهما) «أوثق عرى الإيمان، الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله» اهـ. والموالاة مصدر (والى) يوالي موالاة. ... ولفظ الموالاة، أعم من التولي، حيث أن الموالاة هي المحبة بغض النظر عن درجة هذا الحب ومرتبته، فكل من أحببته وأعطيته، ابتداءً من غير مكافأة فقد أوليته، وواليته، والمعنى أي أدنيته إلى نفسك. ... ويقال: (والى بينهما ولاء) أي: تابع بينهما متابعة. ... أما التولي: فهو الموالاة المطلقة أي بمعنى تقديم كامل المحبة والنصرة للمُتولىَّ بحيث يكون المتولَّي مع المُتولَّى كالظل مع الجسم فهي ذروة الموالاة ومُنتهاها. ... قال ابن الأعرابي: الموالاة أن يتشاجر اثنان فيدخل بينهما ثالث للصلح ويكون له في أحدهما هوى، فيواليه أو يحابيه على الآخر اهـ. ووالى فلان فلانًا، إذا أحبه وقربه وأدناه إليه. ... يقول الأزهري: للموالاة معنى آخر، سمعت العرب تقول: (والوا حواشي نعمكم عن جلتها)

أي اعزلوا صغارها عن كبارها اهـ والتولي، مصدر تولي أي اتخذه وليا. ... فالتولي إذاً بمعنى الاتخاذ والاتباع المطلق وهو يعني الانقطاع الكامل في نصرة المتبع وتقريبه وتأييده، و (التولية) مصدر (ولى) أي انصرف ذاهبًا. ... وعلى هذا فالتولي أخص من الموالاة، فكل تولي داخل في مفهوم الموالاة وليس كل موالاة داخلة في مفهوم التولي كما أسلفنا. ... والتولي ورد بعدة معان في القرآن الكريم: ... منها النصرة كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). أي تنصروهم يعني أهل مكة، قال ذلك الفراء تفسيرًا لمعنى قوله (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ). ... وقال أبو منصور جعل التولي ههنا بمعنى النصرة، من الولي والمولى وهو الناصر والمعين اهـ. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ). قال ابن عباس: أي لا توالوهم، ولا تناصحوهم. اهـ. ... ويأتي التولي بمعنى الإدبار والإعراض، قال تعالى: (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي تدبروا عما أدعوكم إليه ويأتي بمعنى قام وبدأ، قال تعالى في شأن قصة الإفك المعروفة: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أي قام بمعظم ذلك القول وبدأ فيه. ... وتأتي كلمة (تولى) بمعنى ذهب وانصرف، قول الله تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) أي انصرف وذهب إليه. وتأتي بمعنى اتبع، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ). وتأتي بمعنى استأخر وكن قريباً منه، قال تعالى: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ). أي استأخر غير بعيد أو كن قريبًا منهم. وتأتي كلمة (تولى) بمعنى فوض واتخذ قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) أي: من فوض أمره إلى الله وامتثل أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ووالى المسلمين على ذلك، فهو من حزب الله، وقيل: أي من يتخذ القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين فهو من حزب الله، وإن حزب الله لهم الغالبون. وتأتي، بمعنى عصى ويعصي، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) أي يعصي الله ورسوله، فيتخلف عن قتال المشركين وتأتي كلمة (تولى) بمعنى يطيع، قال تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي: يطيعونه ويشركونه بالله. ... ولفظ (ولي) يأتي موافقاً لمعنى الموالاة التي هي المحبة والنصرة، في بعض استعمالاته، وإن كان يُستعمل في معان عديدة. ... والولي اسم من أسماء الله تعالى، والولي هو الناصر، وقيل: المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها. ... ومن أسمائه عز وجل: الوالي، وهو المالك للأشياء جميعها المتصرف فيها. ... قال ابن الأثير: وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي اهـ. ... ومن استعمالات (الولي) بمعنى الناصر قول الله تعالى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فالولي فعيل بمعنى فاعل، قال الخطابي: الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين اهـ. ... ويقال: تولاك الله، أي وليك الله، ويكون بمعنى نصرك الله.

ومنه قوله تعالى: (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أي، وليه وناصره عليهم. ... وقال تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فمعنى (مَوْلانَا) أي: ناصرنا، وقال تعالى: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، فقوله: (أَنْتَ وَلِيِّي) أي: ناصري، وقال تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي نصيري وظهيري. ... وفي الحديث (اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولا). ... ويأتي ولي بمعني الاستيلاء والملك. ... و (الولي) يطلق ويراد به القريب في النسب، قال تعالى: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي كأنه قريب شفيق. ... و (المولى) يطلق ويراد به الناصر والمؤيد، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) أي أن الله ناصر وولي من آمن به، وأما الكافرون لا ناصر ولا ولي لهم. وقال تعالى: (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) أي وليكم وناصركم، ويطلق لفظ (المولى) ويراد به القريب قال تعالى: (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا يدافع ابن عم عن ابن عم، ولا صاحب عن صاحبه. ... ويطلق (المولى) ويراد به الحليف والمعين والنصير، وهو من انضم إليك فعز بعزك وامتنع بمنعتك، قال عامر الخصفي من بني خصفة: ... هم المولى وإن جنفوا علينا والمولى عموماً: اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو: الرب، والمالك، والسيد والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيد، والصهر، والعبد، والمعتق، والمنعم عليه. ... وحفر هموا أن يعلموا ذاك دائب ... وكلمة (أولياء) جمع ولي، وتأتي بعدة معانٍ هي: ... . ... معنى النصرة أو الأنصار قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) أي أنصارًا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: يتناصرون بدينهم ويتعاملون باعتقادهم. ... وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) أي أنصار ينصرونهم، ويحولون بينهم وبين الله عز وجل وتأتي كلمة (أولياء) بمعنى أنصار، قال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ) أي يؤاخونهم بالمودة ويستنصرونهم. ... وترد كلمة (أولياء) بمعنى الخاصة والبطانة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) أي يتخذون الكافرين أعواناً وأنصارا يتعززون بهم، ويستنصرون. ... وتأتي كلمة (أولياء) بمعنى الاتحاد والتجانس، قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي قلوبهم متحدة، في التواد والتحاب والتعاطف، غير ذلك من الأمور. ... وتطلق كلمة (أولياء) ويراد بها الأصنام قال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).يعني أصناماً وقال تعالى: (أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) فمعنى (أولياء) أي أصناماً، و (الولاية) تُقرأ بالفتح والكسر قال تعالى: (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لله

المفهوم اللغوي للمعاداة

الْحَقِّ). ... قال ابن السكيت: الولاية بالكسر السلطان والإمارة والملك، والولاية بالفتح النصرة، يقال هم على ولاية، أي مجتمعون في النصرة اهـ. ... وقال سيبويه: الولاية بالفتح المصدر، والولاية بالكسر الاسم، مثل الإمارة والنقابة، لأنه اسم لما توليته وقمت به، فإذا أرادوا المصدر فتحوا وإذا أرادوا الاسم كسروا اهـ. ... وكان الكسائي يفتحها ويذهب بها إلى النصرة، وقال الفراء: سمعناها بالفتح وبالكسر في الولاية وفي معنييهما جميعًا، وأنشد هذا البيت: ... دعيهم فهم إلب على ولاية و (الولاية) القرابة والتصرف، الحاصلة بالسبب أو النسب، و (الولاء) بالكسر لغة: المتابعة، والموالاة عند الفقهاء، متابعة غسل الأعضاء على سبيل التعاقب، بحيث لا يجف العضو الأول قبل غسل الذي بعده. ... وقيل (الولاء) بالفتح النصرة والمحبة والتناصر، سواء كان ولاء عتاقة، أو ولاء موالاة. ... ومما تقدم نستنتج أنَّ معنى الموالاة والتولي في أغلب الأحايين هو المحبة، والمودة، والمتابعة، والقرابة، والنصرة وبهذا يتبين أن معاني الموالاة تختلف حسب السياق ويقال والى فلان فلاناً إذا أحبه واتبعه والولاية معناها النصرة والحماية والاتباع. ... وكل هذه المعاني القيمة، أراد الإسلام تحقيقها في واقع المسلمين وفي حياتهم العملية، وقد جسَّد هذا المعنى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوضح صورة وأسمى عبارة، فقال فيما روي عنه: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمَّى». المفهوم اللغوي للمعاداة: ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل.

المفهوم اللغوي للبراءة

المعاداة: مصدر عادى يعادي معاداة وعداء، والعداء مصدر عادى، أي خاصمه، وصار له عدوًّا، والعداوة: اسم بمعنى الخصومة، والمباعدة، والعدو، والعداوة، أخص من البغضاء، لأن كل عدو مبغض، وقد يُبغض من ليس بعدو. ... والعداوة: هي الشعور المتمكن في القلب في قصد الإضرار، وحب الانتقام. ... والعِدى: الأعداء الذين نقاتلهم، والعُدى، الأعداء الذين لا نقاتلهم. ... والعدو: ضد الولي، والجمع، أعداء، وجمع الجمع أعادي، قال سيبويه: عدو، وصف، ولكنه ضارع الاسم اهـ. ... ويقال: عدو بيَن العداوة والمعاداة، وعادى بين الصيد معاداة وعداء، أي والى وتابع بينهما في طلق واحد. ... والعدو: ضد الصديق، يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى وقد يثنى ويجمع ويؤنث. ... و (العدوة) بالضم المكان المتباعد، وقيل حافة الوادي. قال تعالى: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى). ... والعدوان، الظلم الصراح، وقال الأصمعي: (العدوان) المكان الذي لا يطمئن من قعد عليه. اهـ. ... والمعاداة بين رجلين، إذا طعنهما طعنتين متواليتين بسهم واحد، وأنشد الجوهري لامرئ القيس: ... فعادى عداء بين ثور ونعجة والعدو، والعداوة، والأعداء، والعدوان، كلها ورد استعمالها في القرآن الكريم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) وهذه الآية في حق أهل مكة المحاربون. ... صديقك إنَّ الود عنك لعازب ... وقال تعالى: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ). وقال تعالى: (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا). وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ). وقال تعالى: (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ).أي فلا قتال إلا على الذين لم ينتهوا من الظلم والشرك، وليس قتال المشركين ظلم إذا كان بضوابطه الشرعية، وإنما بقاؤهم على الشرك هو الظلم قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). ... والعداوة: اسم عام من العدو، وتعادى القوم، أي تباعدوا وعادى بعضهم بعضاً من العداوة. ... والعادي: المعتدي والمتجاوز حده كقوله تعالى: (غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ). والمعاداة تأتي بمعنى الموالاة والمتابعة بين الأشياء، مثل تعادى القوم، مات بعضهم إثر بعض، في شهر واحد، أو في عام واحد، وتعادى القوم عليّ بنصرهم، أي تتابعوا وتوالوا. ... فالمعاداة إذاً تأتي في أغلب استعمالاتها، ويُراد بها البغض والكراهية وحب الانتقام، عكس الموالاة تماماً، التي هي تدل في أغلب استعمالاتها على المحبة والمودة والمتابعة والنصرة والقرابة. ... ولذلك فالموالاة والمعاداة بهذا المعنى المتقدم، ضدان لا يجتمعان، فوجود أحدهما ينفي الآخر لزومًا في حق ذات معينة، قال الشاعر: ... تحب عدوي، ثم تزعم أنني المفهوم اللغوي للبراءة: ... تعريف البراء في اللغة: وأما بَرِئ، فبمعنى: تَنَزَّهَ وتباعَدَ، فالتباعُدُ من الشيء ومزايلتُه هو أحدُ أَصْلَيْ معنى هذه الكلمة، والأصل الثاني هو: الخَلْقُ، ومنه اسمه تعالى (البارئ). ... ومن الأصل الأول (وهو التباعُدُ من الشيء ومُزَايلته): البُرْءُ هو السلامة من المرض، والبراءةُ من العيب والمكروه. ... وليلة البراء: ليلة يتبرأ القمر من الشمس، وهي أول ليلة من الشهر. ... قال ابن الأعرابي: برئ إذا تخلص، وبرئ، إذا تنزه وتباعد، وبرئ: إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ {أي إعذار وإنذار. ... وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما دعاه عمر إلى العمل فأبى قال عمر: إن يوسف قد سأل العمل، فقال أبو هريرة: إن يوسف مني برئ وأنا منه براء , أي برئ عن مساواته في الحكم وأن أقاس به، ولم يرد براءة الولاية والمحبة لأنه مأمور بالإيمان به. ... والبَرَاءُ: مصدر بَرِئتُ، ولأنه مصدر فلا يُجمع ولا يُثَنَّى ولا يؤنّث، فتقول: رجُلٌ بَرَاء، ورجلان بَرَاء، ورجالٌ بَرَاء، وامرأةُ بَرَاء. أمّا إذا قُلتَ: بريءٌ، تجمع، وتثني، وتؤنث، فتقول للجمع: بريؤون وبِراء (بكسر الباء)، وللمثنى بريئان، وللمؤنث بريئة وبريئات.

المفهوم الشرعي للموالاة والبراءة والمعاداة

المفهوم الشرعي للموالاة والبراءة والمعاداة: ... لقد تحدث جمع من أفاضل العلماء عن المفهوم الشرعي للموالاة والتولي والمعاداة، بصيغ متعددة تختلف ألفاظها، وإن كان هناك توافق وتطابق في بعض المعاني المقصودة بهذه الصيغ، وهذه التعاريف هي كما يلي: ... أولاً: يعرف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، الموالاة والمعاداة فيقول: أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة، البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة , والمعاداة، كالنصرة والأنس، والمعاونة والجهاد، والهجرة ونحو ذلك من الأعمال اهـ. ... ثانياً: يقول الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، أن الموالاة هي: الموافقة والمناصرة والمعاونة، والرضا بأفعال من يواليهم، وهذه هي الموالاة العامة، التي إذا صدرت من مسلم لكافر اعتبر صاحبها كافراً اهـ. ... ثالثاً: قال بعض أهل العلم أن الولاء في الله هو: محبة الله ونصرة دينه، ومحبة أوليائه ونصرتهم. والبراء هو: بغض أعداء الله ومجاهدتهم. ... رابعاً: بعض أهل العلم عرف الولاء والولاية بأنه النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً. ... وقالوا أن تعريف البراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار. ... خامساً: تعريف الولاء والبراء عند شيخ الإسلام ابن تيمية: يقول ابنُ تيميَّة - رحمه الله -: " (الولاية) ضد العَداوة، وأصل الولاية المحبَّة والقُرب، وأصل العداوة البغض والبعد، وقد قيل: إنَّ الولي سُمِّي وليًّا من موالاته للطاعات؛ أي: متابعته لها، والأول أصَحُّ، والولِيُّ: القريب، فيقال: هذا يلي هذا؛ أي: يقرب منه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألحقوا الفرائض بأهلِها، فما أبقت الفرائض فَلأَوْلَى رجلٍ ذَكَر))؛ أي: لأقرب رجل إلى الميت، فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه - كان المعادي لوليه مُعاديًا له؛ كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، فمَن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومَن عاداه فقد حارَبَهُ، فلهذا قال: ((ومَن عادى لي وليًّا، فقد بارَزَنِي بالمُحَاربة)). ... ويقول ابن سعدي رحمه الله: (ولما عقد الله الأخوة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى وملحدين ومشركين وغيرهم؛ كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين: أنَّ كل مؤمن موحِّد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان، وحيث أن الولاء والبراء تابعان للحب والبغض؛ فإن أصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله) [الفتاوى السعدية، الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، (1/ 98)]. ... وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله (من أحب في الله، وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) , والحب والبغض هما أصلا الموالاة والمعاداة وأصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعاداة هي البغض فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق والتباغض يوجب

الفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي ومناط التكفير فيهما

التباعد والاختلاف, والموالاة هي لازم الحب والمعاداة هي لازم البغض. ... ومما سبق بيانه يتضح لي، أن الاختلاف في تعريف الموالاة، هو اختلاف لفظي، مع تطابق أكثر المعاني المقصودة لكل منهم وأما تعريف المعاداة والبراء فالذي يظهر لي أن بعض أهل العلم يرى أن البراء والمعاداة شيء واحد إلا أن الذي أراه والله أعلم أن البراء شيء والمعاداة شيء آخر فالبراء يكون في حق الكافر المسالم للدين وأهله وأما المعاداة فتكون في حق الكفار المحاربين للدين وأهله. ... تعريف الولاء والبراء والعداء على المذهب المختار: ... بالنظر في أدّلة الكتاب والسنّة وُجد أن معتقد الولاء والبراء والمعاداة يرجع إلى معنيين اثنين بالتحديد في الولاء، هما: الحُبُّ في الله والنُّصْرةُ على الدين، وضِدُّهما في البراء. ... ولا يخفى أن هذِين المعنيين من معانيهما في اللغة، كما سبق بيانه. ... وعلى هذا فالولاء شرعاً هو: حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين. ... والبراء هو: بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة كالأهواء والآراء)، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين، والبراءة من ذلك كله وهذا في حق مجموعهم. ... أما المعاداة لغوياً: فهي ليست مجرد بغض بل هو شعور متمكن ينبعث من داخل النفس، لقصد الإضرار وحب الانتقام بالقول والفعل والاعتقاد، لمن يعتقده الإنسان عدواً له والعداوة، أخص من البغضاء، لأن كل عدو مبغض، وقد يُبغض من ليس بعدو. ... وأما المعاداة في الله اصطلاحاً: فهي بغض أعداء الله المحاربين ومجاهدتهم. ... وبذلك نعلم، أننا عندما نقول إن ركني الولاء والبراء هما: الحب والنصرة في الولاء، والبغض في البراء، والبغض والعداوة في المعاداة , فنحن نعني بالنصرة وبالعداوة هنا النصرة القلبيّةَ والعداوةَ القلبيّة، أي تمنِّي انتصار الإسلام وأهله وتمنِّي اندحار الكفر وأهله أمّا النصرة العملية والعداوة العمليّة فهما ثمرةٌ لذلك المعتقد، لا بُدّ من ظهورها على الجوارح. الفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي ومناط التكفير فيهما: ... هو الجهل في حكم الموالاة عن زلل ... اختلف أهل العلم في الفرق بين الموالاة والتولي فمنهم من يرى أن التولي مرادف لمعنى الموالاة سواء بسواء، كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ولذلك فهو يستعملهما على أنهما لفظان مترادفان فيقول عن التولي عند تفسيره لقول الله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 9]: إن الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً كان ذلك كفراً مُخرجاً عن الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه اهـ. ... ومنهم من يرى أن هنالك فرق بين الموالاة والتولي وفي هذا يقول الشيخ سليمان بن سحمان حيث يقول نظمًا: ... وأصل بلاء القوم حيث تورطوا فما فرقوا بين التولي وحكمه ... وبين الموالاة التي هي في العمل أخف ومنها ما يكفر فعله ... ومنها يكون دون ذلك في الخلل ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (إن الموالاة تنقسم إلى قسمين:

أولاً: موالاة مطلقة عامة، وهذه كفر صريح، وهي بهذه الصفة مرادفة لمعنى التولي لأجل الدين، وعلى ذلك تُحمل الأدلة الواردة في النهي الشديد عن موالاة الكفار، وأن من والاهم فقد كفر. ثانياً: موالاة خاصة، وهي موالاة الكفار لغرض دنيوي مع سلامة الاعتقاد، وعدم إضمار نية الكفر والردة كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة في إفشاء سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزو مكة كما هو مذكور في سبب نزول سورة الممتحنة اهـ. ومثل كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تقسيم الموالاة إلى مطلقة وخاصة، كلام القرطبي وابن العربي وسليمان بن عبد الله ابن عبد الوهاب والشيخ حمد بن علي بن عتيق. وعلى قول هؤلاء جميعًا: أن الموالاة المطلقة العامة، مرادفة لمعنى التولي، وهي بهذا الوصف كفر وردة، ومنها ما هو دون ذلك، بمراتب، ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، بحسب نية الفاعل وقصده. ومما سبق بيانه يتضح لي، أن الاختلاف في التفريق بين الموالاة والتولي، هو اختلاف لفظي، مع تطابق المعاني المقصودة لكل منهم. والذي أميل إليه أن مصطلح التولي، أخص من مصطلح الموالاة، وعلى هذا يدل ظاهر القرآن والله أعلم , حيث أن التولي يفيد معنى الاتخاذ والالتزام الكامل بمن يتولاه، بخلاف الموالاة التي تدل على المحبة والمتابعة بدرجات متفاوتة ولذلك جاء تعبير القرآن الكريم بالنهي عن تولي الكفار قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51] وأمر بتولي المؤمنين فإن توليهم، أقوى من مجرد الموالاة الجزئية لهم، وإن كانت الموالاة العامة للمؤمنين أو الكفار تلتقي مع التولي. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) وهذا ما قال به جمهور العلماء، ما عدا ابن سعدي الذي يرى أن مصطلح التولي يُرادف مصطلح الموالاة، دون أن يذكر مستنداً لغوياً أو شرعياً لما ذهب إليه، مما يجعل القول، بأن مصطلح التولي ومصطلح الموالاة بينهما عموم وخصوص، وهذا هو القول الراجح. وعلى هذا فخلاصة الفرق بين الموالاة والتولي في المفهوم الشرعي: أن التولي ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تولي لأجل الدين: وهو الدفاع عن الكفار، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي لأجل دينهم وهذا كفر صريح يُخرج من الملة الإسلامية ويُعتبر هذا التولي موالاة مطلقة. القسم الثاني: تولي لأجل الدنيا: وهو الدفاع عن الكفار، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي لأجل غرض دنيوي مع عدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام باستثناء التقية والإكراه طبعاً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنه) عندما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا الشأن قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) ... إلى قوله (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) فمثل هذا الفعل يُعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، ويُخشى على صاحبه الكفر علماً بأن حاطب رضي الله عنه الذي أنزلت الآيات في حقه له اعتبارات خاصة، مثل كونه من أهل بدر، وسبقه إلى الإسلام، وسلامة قصده، ولذلك فقد عفا الله عنه. وأما الموالاة فهي المحبة بغض النظر عن درجتها فكل من أحببته وأعطيته، ابتداءً من غير مكافأة فقد أوليته، وواليته، والمعنى أي أدنيته إلى نفسك ومسمى الموالاة لأعداء الله يقع على

حقيقة قول من يقول أن تحقيق الولاء والبراء قد يؤدي إلى نفور الكفار من الإسلام

شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات ومنها ما هو مختلف فيه بين الحل والحرمة. وأما الموالاة المطلقة العامة للكفار فهي ناقضة للإسلام وهي كل تولي للكفار لدينهم أو محبتهم لكفرهم أو المحبة والرضا بكفرهم وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح مذهبهم أو تمني انتصار دين الكفار على دين المسلمين أو استباحة الموالاة المحرمة لهم أو ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام مداراة لهم ولطلب رضاهم ولتجنب غضبهم ولا يُستثنى من ذلك أحد إلا المُكره وذلك أن موافقة الكفار فيما يوجب الكفر الأكبر ظاهراً دون الباطن مداراة لخواطر الكفرة مع عدم الإلجاء والضرورة القصوى هو كفر أكبر كما نص على ذلك أهل العلم كالاستهزاء بالرسل أو الاستهزاء بالدين أو سب الله تعالى أو ملائكته أو رمي المصحف في النفايات ونحو ذلك لإرضاء الكفار فهذا كفر أكبر ولو كان الحامل على ذلك حظ من حظوظ الدنيا. وأما مناط التكفير في باب الولاء والبراء: أقول أن مناط التكفير في الولاء والبراء هو على عمل القلب لا على آثاره وثمراته فإذا اجتمعا حكم به وإذا اختلفا فالحكم لعمل القلب دون عمل الجوارح فحب الكافر لكفره أو تمني انتصار دين الكفار على دين المسلمين هذا هو الكفر في باب الولاء والبراء. وبناءً على ماتقدم يتبين ما يلي: أولاً: أن هناك فرق بين الموالاة والتولي التولي أخص من الموالاة , فكل تولي داخل في الموالاة وليس كل موالاة داخلة في التولي. ثانياً: أن ضابط التولي هو نصرة الكافر على المسلم وقت حرب المسلم والكافر قاصداً ظهور الكفار على المسلمين. ثالثاً: أن مناط التكفير في الولاء والبراء هو عمل القلب فحب الكافر لكفره أو تمني انتصار دين الكفار على دين المسلمين هذا هو الكفر في باب الولاء والبراء. حقيقة قول من يقول أن تحقيق الولاء والبراء قد يؤدي إلى نفور الكفار من الإسلام: ليس الأمر كذلك؛ فإن الله تعالى هو أرحم الراحمين، وهو سبحانه أحكم الحاكمين؛ حيث شرع بغض الكفار وعداوتهم) أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ (، ويقول ابن القيم رحمه الله (بل إن المشركين، وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالإسلام عظموه وأكرموه ... انتهى). ويقول ابن تيمية: ( .... مثل الآصار والأغلال التي على أهل الكتاب وإذلال المسلمين لهم، وأخذ الجزية منهم، فهذا قد يكون داعياً له أن ينظر في اعتقاده هل هو حق أو باطل؟ حتى يتبين له الحق، وقد يكون مرغباً له في اعتقاد يخرج به من هذا البلاء، وكذلك قهر المسلمين عدوهم بالأسر يدعوهم للنظر في محاسن الإسلام ... انتهى). فلا يُتوهَم أن تحقيق شعيرة البراءة من الكافرين وعداوتهم يؤول إلى مجانبة الإسلام، بل إن الالتزام بهذه الشعيرة وسائر شرائع الإسلام سبب في ظهور الإسلام وقبوله، كما وقع في القرون المفضلة، ومن ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد محمد بن مسلمة رضي الله عنه. ويقول ابن تيمية): وكان عدد من المشركين يكفُّون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت؛ حتى إن كعب بن الأشرف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة، فيخرجونه من عندهم، حتى لم يبق بمكة من يؤويه ... انتهى (. وجاء في سيرة ابن هشام " إن

اختلاف موقف الشرع من مجموع الكفار وآحادهم

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه "، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سُنَيْنَة رجل من تجار اليهود يبايعهم فقتله، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يُسلم، وكان أسنّ من محيصة، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله! أقتلته؟ أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله، قال محيصة: والله! لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك، قال: فو الله إن كان لأول إسلام حويصة، قال: آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم! والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها، قال: والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب. فأسلم حويصة). اختلاف موقف الشرع من مجموع الكفار وآحادهم: لا شك أن موقف الشرع من مجموع الكفار يختلف عن موقفه من آحادهم دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حق الهجرة من مجموع وعموم الكفار: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين). وصح عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله بايعني واشترط فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين) أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل الله عز وجل من مشرك عملاً بعدما أسلم؛ أو يفارق المشركين) والمعنى حتى يفارق المشركين, وهذه الأحاديث في حق مجموع الكفار وقال بعضهم كانت في بداية الإسلام يوم أن كانت الهجرة للمدينة واجبة , أما موقف الشرع من آحاد الكفار فمنهم من لا يجوز هجره لأمر الله عز وجل بمصاحبته في الدنيا معروفا , والمصاحبة في الدنيا معروفا تستلزم الصلة وعدم المهاجرة , قال تعالى في حق الوالدين المشركين (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) , وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام في حق مجموع المنافقين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) , وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الله ابن رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول لمَا استأذنه الابن الصالح بقتل أبيه لأذاه لرسول الله " لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته " ونص الحديث ما يلي فعن أبي هريرة قال: مر رسول صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول وهو في ظل فقال: قد غبر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله: والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب لئن شئت لأتيتك برأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته ". رواه الطبراني في الأوسط وقال: تفرد به زيد بن بشر الحضرمي، قال أبو السعادات الشيباني في جامع الأصول في أحاديث الرسول عن زيد بن بشر وثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات. وقال تعالى في حق مجموع الكفار (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) , وقال كذلك في حق مجموع اليهود والنصارى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) , وقال في حق الزوجة العفيفة الحرة النصرانية واليهودية (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا

محل مشروعية البراءة من المعصية دون العاصي

آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) ومن المعلوم أن الزواج من الكتابية يستلزم مودتها أو على الأقل إباحة مودتها والتي أشار الله إليها -جل وعلا- في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) , وقال تعالى في حق ما يُضمره نبيه عليه الصلاة والسلام تجاه عمه أبي طالب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) على أحد التفسيرين للآية وهو الأظهر. محل مشروعية البراءة من المعصية دون العاصي: تكون البراءة من المعصية دون فاعل المعصية ولو كانت هذه المعصية كفراً أكبر إذا كان فاعل المعصية معذوراً عند الله إما بالتأول أو الجهل الذي ليس فيه تفريط أو نسيان أو خطأ أو هذيان أو نحو ذلك , فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: قال: «بعثَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- خالدَ بنَ الوليد إِلى بني جَذِيمةَ، فدعاهم إِلى الإِسلام، فلم يُحسِنُوا أن يقولوا: أسْلَمْنا، فجعلوا يقولون: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فجعل خالد بن الوليد يقتل ويأسر، ودفع إِلى كُلِّ رجل مِنَّا أسيرَهُ، فقلتُ: والله، لا أقتلُ أسيري، ولا يَقْتُلُ رجل من أصحابي أسيرَهُ، حتى قَدِمْنا على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكرناه، فرفع يَدَيْهِ، فقال: اللهم إِني أبْرَأْ إِليك مما صنع خالد - مرتين -». أخرجه البخاري، والنسائي. فهنا رسول الله عليه الصلاة والسلام تبرأ مما صنع خالد ومن عمله رضي الله عنه دون شخص خالد , وذلك لأن خالد كان متأولاً معذوراً عند الله. فقه المحبة إجمالاً: المحبة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: محبة عبادة وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يتمثل أمره ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة فهو مشرك شركاً أكبر, ويُعبَر العلماء عنها بالمحبة الخاصة , ومحبة الله على درجتين: إحداهما: فرض، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة، والانتهاء عن زواجره المحرمة، والصبر على مقدوراته المؤلمة، فهذا القدر لا بد منه في محبة الله، وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه الله لنقص محبة الله الواجبة في القلوب، وتقديم الهوى والنفس على محبته، وبذلك ينقص الإيمان. والدرجة الثانية من المحبة: وهي فضل المتسحب أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات، والرضا بالأقضية المؤلمات. القسم الثاني: محبة مشتركة ليست بعبادة في ذاتها وهذه نوعان: النوع الأول: المحبة لله وفي الله وهي محمودة: وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله أي كون الشيء محبوباً لله تعالى من أشخاص كالأنبياء والرسل والصديقين والشهداء والصالحين، أو أعمال كالصلاة والزكاة وأعمال الخير, وميزان المحبة للأشخاص الخالصة لله: أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء. النوع الثاني: محبة لغير الله وهي صورتين: الأولى: مذمومة وهي محبة ما يبغضه الله من كفر وفسوق وعصيان, ومحبة الشخص الكافر لكفره كفر أو الفاسق لفسقه , فمحبّة الشخص الكافر لكفره فهذه كفر , وأما محبّة

حكم المحبة الطبيعية لغير المكلفين

الشخص كافراً كان أو مسلماً لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها , فهذا إثمٌ ولاشك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوباً لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها. ملاحظة مهمة: نحن نتكلم هنا عن مجرد إضمار المحبة للكافر والفاسق لا إظهار مقتضيات هذه المحبة وآثارها. الثاني: المحبة الطبيعية كحبّ الوالد لولده، أو الوَلَدِ لوالديه، أو الرجل لزوجته، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه، أو محبة المشتركين في صناعة أو تجارة، والطلبة بعضهم لبعض والأُنس والألف بينهم فهذا الحُبّ مباح باتفاق أهل العلم إذا كان المحبوب ممن تجب موالاته أي مؤمنا تقياً أو مسلماً عنده بعض المعاصي لكن خيره راجح على شره، وإذا كان في حق مسلمين فاسقين فهو مباح أيضاً مادام لم يؤثر في بُغْضه لفسق الفاسقين، ومعصية العاصين ولم يحمل على ترك واجب أو فعل محرم, أمّا إذا أثّر في بُغْضه فهو محرم. حكم المحبة الطبيعية لغير المكلفين: محبة ما يلائم طبع الإنسان من الجمادات كمحبة الطعام والشراب والملبس والمركب والمسكن ومحبة الوطن ومحبة أطفال المشركين والمرفوع عنهم القلم جائزة بشرط أن لا تزيد عن حدودها الطبيعية. حكم البغض الطبيعي للمؤمن التقي وحكم المحبة الطبيعية للفاسق المسلم: حكم البغض الطبيعي للمؤمن جائز بشرط ألا تحمل على ظلم المبغض وعداوته أو تضييع حقوقه أو عدم موالاته وينبغي للمسلم مدافعة هذا البغض وعدم الركون إليه , فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فتردين عليه حديقته؟ " فقالت: نعم، فردت عليه، وأمره ففارقها). ومن المعلوم بأن امرأة ثابت لم يحملها على طلب الطلاق إلا أنها أبغضت ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه بمقتضى الطبع حيث كان يُذكر عنه أنه كان دميماً , ومن الأدلة كذلك أنه لما أسلم وَحشِي قَاتل حَمْزَة قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (غيب وَجهك عني فَإِنِّي لَا أحب أَن أرى من قتل الْأَحِبَّة) ومن المعلوم بأن الذي بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك هو البغض والنفرة الطبيعية ولم يكن ذلك مانعاً له من موالاة وحشي رضي الله عنه الموالاة العامة للمسلمين والرأفة بهم , ويدلك أيضاً على ما تقدم حديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق , فمن أحبّهم أحبّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ". وقال صلى الله عليه وسلم " آية الإيمان حب الأنصار وآية النّفاق بغض الأنصار ". قال الشراح في معنى قوله "ولا يبغضهم إلا منافق" أي ((ولا يبغضهم) مع ما قدموه للإسلام وأهله (إلا منافق) ومحل ذلك أن أبغضهم من الحيثية المذكورة، أما إذا كان بغضه لأحد منهم لخصام أو لأمر اقتضاه معه بخصوصه فلا .. انتهى) , قلتُ ويدل عليه ماوقع بين الصحابة من خصومة واختلاف بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما حكم المحبة الطبيعية للفاسق المسلم الراجحة معاصيه على طاعته فهي جائزة بشرط ألاَ تحمل على فعل محرم أو ترك واجب ويدلك على هذا أن أهل العلم قرروا أنه يصح زواج الفاسق المسلم من المسلمة التقية

فقه الحب والبغض

والعكس باستثناء المسلمة الزانية مع العلم أن الزواج لا بد أن توجد فيه المودة والرحمة. فقه الحب والبغض: حقيقة الحب في الله والبغض في الله: فالحب لله هو الحب للمؤمن من أجل دين الله وطاعته وامتثال أوامره لا لمصلحة دنيوية أو قرابة، والبغض عكسه، فهو بغض العاصي بسبب معصيته بقدر معصيته وبغض الكافرين والبراء منهم , والبغض في الله درجات كما أن الحب في الله درجات وأقل درجات الحب في الله هي سلامة الصدر من الغل والحسد والضغينة نحو من تحبه , وأعلى درجات المحبة في الله هي الإيثار. وقد ذكر ابن حجر عند شرح حديث الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار). قال ابن حجر: وأن يحب المرء قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء ... انتهى. وقال المباركفوري في شرح الترمذي: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله أي لا يحبه لغرض وعرض وعوض ولا يشوب محبته حظ دنيوي ولا أمر بشري، بل محبته تكون خالصة لله تعالى، فيكون متصفاً بالحب في الله وداخلاً في المتحابين لله. اهـ. وقال المناوي: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله: أي لا يحبه لغرض إلا لغرض رضا الله حتى تكون محبته لأبويه لكونه سبحانه أمر بالإحسان إليهما ومحبته لولده لكونه ينفعه في الدعاء الصالح له وهكذا ... انتهى. وقال أيضاً عند شرح حديث أبي داود: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان).قال: من أحب لله أي لأجله ولوجهه مخلصاً لا لميل قلبه وهوى نفسه, وأبغض لله لا لإيذاء من أبغضه له بل لكفره أو عصيانه. وقال أيضاً عند شرح حديث المسند: (أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله عز وجل وأن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وأن تقول خيراً أو تصمت). قال: (أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله لا لغيره، فيحب أهل المعروف لأجله لا لفعلهم المعروف معه، ويكره أهل الفساد والشر لأجله لا لإيذائهم له ... انتهى). وعلامة البغض في الله ألا يزيد البغض بالإساءة الشخصية ولا ينقص بإحسانه إليه. الناس في ميزان الحب والبغض في الله: أصناف الناس بحسب الحب والبغض الديني ثلاثة إجمالاً: القسم الأول: من يُحب جملة وهو من آمن بالله ورسوله واستقام على دين الله كالرسل والأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم بإحسان , وهم درجات متفاوتة علماً بأن محبة عموم المؤمنين واجبة وأما محبة أفراد المؤمنين غير رسل الله وأنبياؤه فهي مستحبة غير واجبة في أعيانهم. القسم الثاني: من يُحب من وجه ويُبغض من وجه فهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيجب أن يوالى على قدر ما معه من الخير ويُبغض على قدر ما معه من الشر ولا يُخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي ولا يُجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة ولا يُجعل

بغضه على ما معه من الشر قاطعاً وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه ألبته , وعلى هذا فإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من البراءة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ويجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة كاللص تُقطع يده لسرقته ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته , وهذا الصنف درجات فمنهم من تغلب محبته في الله ومنهم من يغلب بغضه في الله دون إهمال حقه من الولاية العامة وذلك أن عصاة المؤمنين وأهل البدع غير المكفرة صنفان الصنف الأول هم من يرجح خيرهم على شرهم فهؤلاء تترجح محبتهم ومودتهم على بغضهم والبراءة منهم , وإن رجح شرهم على خيرهم فالعكس , والحكم في ذلك للغالب منهما علماً بأن بغض عصاة المؤمنين وأهل البدع غير المكفرة الراجح شرهم على خيرهم واجب على جهة العموم، أما أفرادهم فبغضهم مستحب ولا يصل إلى درجة الوجوب , وأما محبة أفرادهم في الله فمكروه ولا يصل إلى درجة التحريم وعلى هذا لا يجب وجوبًا مطلقًا قطع الموالاة بين الفساق والعصاة من المسلمين وبين بقية المسلمين كما هو الشأن مع الكفار الخارجين على الإسلام وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار عبد الله، كان يلقب حماراً. قال ابن حجر: كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكه في كلامه ... انتهى. وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه , وبالجملة علينا أن ننظر إلى عصاة المؤمنين بعين الرحمة والشفقة دون أن يحملنا ذلك على التعالي عليهم، أو أننا أحسن منهم؛ فلو شاء الله تعالى كنا مثلهم أو أسوأ منهم، والقلب بين أصابع الرحمن، وربما وُجد عند من يعمل بعض الفسق من العبودية لله في بعض أحواله ـ بسبب احتقاره لنفسه وعمله وبسبب ذله لله ـ أعظم ممن ظاهره الصلاح وباطن قلبه العجب والإدلال على الله بالعمل. وبهذا يتبين للمسلم بأن الظن في أن البراءة من أصحاب المعاصي يقتضي مقاطعتهم نهائياً والمساواة بينهم وبين الكفار ظن خاطيء , وإن على المؤمن أن يوالي في الله كما ذكرنا، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما {فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته أو البراءة منه بحسب كفره وإن أعطاك وأحسن إليك , فإن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه والإهانة والعقاب لأعدائه. القسم الثالث: من يُبغض جملة وهو من كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وبغض الكفار درجات متفاوتة وكما يتفاوت حب أهل الإيمان بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه فكذلك تتفاوت معاداة وبغض الكفار والبراءة منهم بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه فالكافر المحارب للدين وأهله له أولى من بغض الكافر المسالم , علماً بأن البغض في الله لأفراد الكفار المسالمين للدين وأهله مستحب ويُجزيء عن بغضهم في الله عدم مودتهم على الأقل والبراءة منهم , وأما مجموع الكفار فيجب بغضهم في الله والعداوة لأهل الحرب منهم.

حكم العدل في المحبة الشرعية

حكم العدل في المحبة الشرعية: العدل في المحبة الشرعية واجب من حيث توفية الحقوق الشرعية الظاهرة بالجوارح أما العدل في المحبة الشرعية الباطنة فالذي يظهر أنه مستحب والذي يدل على هذا قوله تعالى في شأن تعدد الزوجات {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وهذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن قال سبحانه في موضع آخر {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} والجواب عن هذا: أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية الظاهر، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر، والمقصود من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية كما يدل عليه قوله: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية. وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} نزلت في عائشة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تملني فيما تملك ولا أملك"، يعني القلب , وقال الصّنعانيّ: والحديث يدل على أنّ المحبّة , وميل القلب أمر غير مقدورٍ للعبد بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد ... انتهى. وعلى هذا فالعدل بين الإخوة في الله من حيث إضمار المحبة مستحب وإن كانوا جميعاً يشتركون في أصل المحبة. حق المسلم على المسلم: من حقوق المسلم العامة على أخيه المسلم التقي رد السلام، وعيادة المريض, واتباع الجنائز, وإجابة الدعوة, وتشميت العاطس, والنصيحة, وتتأكد هذه الحقوق في حق من لا تُعرف عنه المجاهرة ببدعة أو معصية من المسلمين أما من كان معروفاً ببدعة أو كان مجاهراً بالمعاصي فأداء هذه الحقوق له لا يجب وإن كان مستحباً أما لو كان هجره يؤدي إلى مصلحة راجحة فذلك هو المتعين , فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حق المؤمن على المؤمن ست خصال: يسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وإذا دعاه أن يجيبه، وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يشهده، وإذا غاب أن ينصحه ". وفي رواية: " وإن دعاه ولو على كراع أجابه ". رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين رجال أحدهما ثقات. من مظاهر الولاء للمؤمنين: 1 - الهجرة إليهم. 2 - مناصرتهم ومعاونتهم بالنفس والمال واللسان فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم. 3 - التألم لآلامهم والسرور بسرورهم. 4 - النصح لهم ومحبة الخير لهم وعدم غشهم وخديعتهم. 5 - احترامهم وتوقيرهم وعدم تنقصهم وعيبهم. 6 - أن يكون معهم في حال الحزن والسرور والشدة والرخاء. 7 - زيارتهم ومحبة الالتقاء بهم والاجتماع معهم. 8 - احترام حقوقهم.

عدم تعارض البغض في الله مع سلامة الصدر المحمودة

9 - الرفق بضعفائهم. 10 - الدعاء لهم والاستغفار لهم. عدم تعارض البغض في الله مع سلامة الصدر المحمودة: البراءة من المشركين والكفار وبغضهم في الله لا يُناقض سلامة الصدر المحمودة التي حثَ عليها الشرع وذلك أن الشارع الذي أمر بسلامة الصدر هو الذي شرع البراءة من المشركين وبغضهم في الله وعداوتهم إذا كانوا أهلاً لذلك عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال «أوثق عرى الإيمان، الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله». والشحناء المذمومة شرعأً هو المشاحن الذي في قلبه حقد على أخيه المسلم لهوى في نفسه. حكم مودة أطفال المشركين وكل من هو غير مكلف منهم: لا بأس بمودة وملاعبة أطفال المشركين والإهداء إليهم. حكم مودة الكافر للمؤمن: تجوز مودة الكافر للمؤمن ولا يُلام المسلم على ذلك إذا لم يكن سبب هذه المودة سبب محرم وقد كان أبو طالب يحب النبي صلى الله عليه وسلم. حكم طلب مودة الكفار غير المحاربين: طلب مودة الكفار غير المحاربين واستدعاؤها بسبب شرعي جائز بلا شك كالهدية وحسن التعامل ونحوهما , هذا وإن كان يندر أن يحبك الكفار وأنت تقيم فيهم الشريعة كما ينبغي لقوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ولكن إذا أحبوك بسبب شرعي فلا تثريب عليك , والشيخ ابن عثيمين رحمه الله يوافق هذا الحكم في أحد شروحه وإن كان له أكثر من مذهب في هذه المسألة وقد قال رحمه الله في حكم طلب مودة الكفار في شرحه للأربعين النووية ما نصه (أن الإنسان لا حرج عليه أن يطلب محبة الناس، أي أن يحبوه، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً حتى نقول: لا حرج عليه أن يطلب محبة الكفار له، لأن الله عزّ وجل قال: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) ومن المعلوم أنه إذا برهم بالهدايا أو الصدقات فسوف يحبونه، أو عدل فيهم فسوف يحبونه، والمحذور أن تحبهم أنت، ولهذا جاء في الحديث وإن كان ضعيفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل على البلد قال: "اللَّهمَّ حَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا، وَحبَب صَالِحي أَهْلِهَا إِلَينَا"، فلما أراد المحبة الصادرة منه قال: "صَالِحي أَهْلِهَا" ولما أراد المحبة الصادرة من الناس قال: حَبِّبنَا إِلَى أَهْلِهَا مطلقاً ... انتهى). قلتُ ومما يُستدل به في هذه المسألة قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى). من مظاهر الولاء المحرم للكفار: 1 - الرضى بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة. 2 - التولي العام لهم واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء أو الدخول في دينهم. 3 - إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين ومدحهم والذب عنهم. 4 - الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر أو التحاكم إليهم دون كتاب الله. 5 - الاستعانة بهم والثقة بهم وتوليتهم المناصب التي فيها أسرار المسلمين واتخاذهم بطانة ومستشارين. 6 - اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين والركون إليهم.

من مظاهر البراء من الكفار

7 - التسمي بأسمائهم. 8 - الاستغفار لهم والترحم عليهم بعد موتهم. 9 - تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم. 10 - التشبه بهم في الملبس والكلام ومما هو من خصائصهم ديناً ودنيا. 11 - الإقامة في بلادهم لغير حاجة. 12 - التأريخ بتاريخهم بلا حاجة. 13 - مشاركتهم في أعيادهم الدينية أو مساعدتهم في إقامتها أو تهنئتهم بمناسبتها أو حضور إقامتها. من مظاهر البراء من الكفار: 1 - بغض الشرك والكفر والنفاق وأهله عموماً. 2 - هجر بلاد الكفر وعدم السفر إليهم إلا لحاجة مع القدرة على إظهار شعائر الإسلام. 3 - أن لا يناصر الكفار ولا يعينهم على المسلمين. 4 - أن لا يستعين بهم من غير حاجة ولا يتخذهم بطانة له يحفظونه سره. 5 - أن لا يشاركهم في أعيادهم وأفراحهم ولا يهنئهم بها وأن لا يستغفر لهم ولا يترحم عليهم. 6 - هجر مجالسهم المحتوية على منكراتهم , وعدم صداقتهم ومخاللتهم. 7 - عدم المداهنة والمجاملة لهم على حساب الدين. 8 - أن لا يعظم الكافر بلفظ أو فعل. 9 - عدم التولي العام لهم. 10 - أن لا يبدأهم بالسلام من غير موجب. 11 - ترك اتباع أهوائهم وطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام. 12 - عدم الركون إلى الكفرة الظالمين. 13 - ترك التشبه بالكفار في الأفعال الظاهرة. معنى الركون الوارد في قوله تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ): الركون: هو الميل والانضمام إلى الظالمين بظلمهم وموافقتهم على ذلك والرضا بما هم عليه من الظلم , أي بمعنى آخر لا ترضوا أعمالهم, ولا تداهنوا الظلمة , ولا تميلوا إليهم كل الميل في المحبة ولين الكلام والمودة بلا موجب شرعي لذلك. منهج التعامل مع أهل البدع المسلمين: موقف المسلم من أصحاب البدع والأهواء يختلف باختلاف ما هم عليه فمن كانت بدعته كفرية فهو بمنزلة الكفار ومن كانت بدعته دون ذلك فهو يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والمكان , والمبتدع المسلم تشمله حقوق المسلم على المسلم التي بينتها نصوص الوحيين ولو كان فاسقاً إلا إذا كان للمبتدع إفساد فينتقص من حقوقه بقدر ما يدفع إفساده دون توسع , وضوابط تعامل أهل السنة مع أهل البدع المسلمين هو وجوب الإقرار له بالإسلام ونصره على الكافر وإعانته على من يظلمه وتفضيله على من هو أسوأ منه ومدح أفعاله الحسنة وشكره عليها وأخذ كلامه إن كان فيه خير وموافقة للشرع والتعاون معه في المجالات التي لا خلاف فيها ما لم يؤدي ذلك إلى مفسدة شرعية كنشر بدعته ونحو ذلك

حكم مضاحكة وممازحة الفاسق المسلم

فالتعاون مع المبتدع مبني على أساس حفظ المصالح الدينية وإقامة الواجبات الشرعية التي يتعذر إقامتها على وجهها مع غير المبتدعة أو التي يترتب على تفويتها مفاسد أعظم من مفسدة ما تلبس به هؤلاء من المحدثات, والتعاون مع أصحاب المخالفات الشرعية من عصاة ومبتدعة يُنظر فيه بمنظار المصلحة والمفسدة وأن يكون في البر والتقوى. وأما حكم الصلاة خلف أهل البدع فالصلاة خلف المبتدع الكافر المحسوب على الإسلام لا شك أنها لا تصح لكن إن كان إمام جمعة ولا يُمكن أداؤها إلا خلفه فتُؤدى خلفه ثم تُعاد على مذهب بعض أهل العلم , وأما الصلاة خلف المبتدع المسلم الداعية لبدعته تؤدى خلفه إن لم يمكن أداؤها إلا خلفه وتكره إن أمكن أداؤها خلف إمام عادل , وأما الصلاة خلف المبتدع المسلم المستتر فتصلى خلفه وإن أمكن مع غيره (العدل) فهو أولى. وأما تزويج أهل البدع فالمبتدع المسلم لا يُزوج السنية لأنه غير كفء لها لكن يصح تزوجه منها مع الكراهية بموافقة المرأة وأوليائها لأن الكفاءة حق لهما ويجوز لهما إسقاطه وأما زواج الرجل من أهل السنة بالمرأة المبتدعة المسلمة جائز مع الكراهة. وأما ذبائحهم فذبائح أهل البدع المسلمين جائزة , وأما تلقي العلم عن أهل البدع واستخدامهم في التدريس لا ينبغي في حال السعة أما عند الضرورة فيجوز استخدامهم في التدريس كأن لا يمكن إقامة التعليم إلا بهم أو ترتب على ترك استخدامهم مفسدة أعظم من مفسدة استخدامهم أو تحقق باستخدامهم مصلحة راجحة على مصلحة ترك استخدامهم. وأما استخدام أهل البدع في الجهاد فالحكم في هذه المسألة يختلف باختلاف أحوال أهل البدع وظروف المسلمين فتجوز الاستعانة بهم عند الحاجة إن كانوا حسني الرأي في المسلمين وتكره عند عدم الحاجة وتحرم الاستعانة بهم مطلقاً إن كانوا معروفين بغش المسلمين وعدم النصح لهم وذلك أنه تُقام الصلاة وعلم الجهاد خلف كل بر وفاجر وفاسق ملي كما قرر ذلك أهل العلم المحققين فإذا تعذر إقامة الواجبات من الصلاة والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس وأما حكمهم في الميراث فلا شك أن الكافر لا يرث المسلم ولا يورث وأما المنافق فهو يرث المسلم ويورث ومن باب أولى من هو دونه كالمبتدع المسلم والفاسق الملي وأما عيادة المبتدع المسلم فجائز بل هي من جملة حقوقه على المسلمين ما لم يكن داعية فتترك عيادته من باب الهجر إن كان مثمراً , والمبتدع المقلد الأولى التلطف معه مع لزوم أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وإرشاده إلى الحق ودلالته بالحسنى. حكم مضاحكة وممازحة الفاسق المسلم: يجوز ممازحة ومضاحكة ومباسطة الفاسق المسلم وخاصة من تعرف عنه محبة الله ورسوله بالضوابط الشرعية لا سيما مع من يُخالطهم المسلم ومن له حق في الصلة كالأقارب , وخاصة إذا كانت المبادرة منه هو في المضاحكة وتكون مضاحكته إلى حد معين ومعقول بحيث لا يُظهر ما هو فيه من منكر وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار، كان يلقب حماراً. وقال ابن حجر: كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكه في كلامه .. وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)) مع أنه صلى الله عليه

حكم صحبة الفاسق ومصادقته

وسلم لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه. حكم صحبة الفاسق ومصادقته: من المعلوم أن الإنسان ميال إلى الاجتماع والاختلاط مع بني جنسه ولا يستغني عن التعامل معهم أتقياء كانوا أو فجاراً , وهذا أمر لا حرج فيه ولا إثم , والله تعالى خلق الإنسان مدنياً بطبعه يميل لمُخالطة الناس ومجالستهم ويتأثر بهم ويؤثر فيهم , فالطبع لص والصاحب ساحب والفاسق المسلم الراجح خيره على شره لا بأس بمصاحبته , وذلك لأن ترك صحبة الفاسق بشكل عام تتفاوت بحسب حال الهاجر وبحسب مقدار الفسق عند المهجور وحاله فقد تكون كلية , وذلك مثل من كان مبتدئاً تائباً فإنه يُشرع له هجر الفساق كلياً بل قد يجب عليه أما من تمكن من الدين نوعاً ما فلا بأس بصحبته للفاسق الراجح شره على خيره بشرط الدعوة إلى الله وعدم مشاركته في الإثم وذلك أن مخالطة الناس بشتى أجناسهم ومللهم لغرض الدعوة إلى الله والإصلاح مشروع إلا أن الفاسق الملي الراجح شره على خيره والمبتدع لا يُصاحب ولا يُجالس كما يُصاحب ويُجالس الأتقياء ولا ينبغي أن يكون لهم في القلب محبة الأتقياء, وينبغي عدم الإفراط في مخالطتهم لئلا يتأثر بهم المُخالط فيقلدهم أو يشاركهم في المعصية , وعلى هذا فمن يُخالط العصاة وحتى الكفرة لنصحهم ووعظهم دون أن يتأثر بهم فمعاملته لهم خير من هجرانهم، فإذا غلب على الظن أنهم لا ينتصحون ولا يتعظون فالأفضل هو البعد عنهم، وينبغي التنبه إلى أنه لا يجوز مخالطة الفساق والمبتدعة حال فسقهم وبدعتهم وتصويب آراءهم تقية بل ينبغي الإنكار عليهم فإن لم ينتهوا فارقهم. وهنا تنبيه المصاحبة الجبرية التي لا دخل للعبد فيها لا تدخل فيما قررناه كما قال تعالى في شأن الوالدين المشركين (وصاحبهما في الدنيا معروفا) وكذلك صحبة الزوجة الكتابية والجار الكافر بالحسنى وصحبة الصاحب المشرك بالحسنى في السفر والعمل. قال تعالى (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ). وأما حكم مصادقة العصاة فلها تفصيل آخر , والفرق بين المصاحبة والمصادقة أن المصادقة هي درجة أرفع من المصاحبة فالمصاحبة قد تشمل جميع الناس كافرهم ومؤمنهم بخلاف الصداقة كمصاحبة الولد المسلم التقي لوالده المشرك بالمعروف ونحو ذلك. نعود إلى حكم مصادقة العصاة فالمعاصي على نوعين معاصي مكفرة كمن يشرك بالله أو يترك الصلاة تركاً كاملاً ونحو ذلك , وهناك معاصي غير مكفرة وهي التي لا تُخرج الإنسان من الملة لكن يوصف فاعلها بأنه فاسق ومؤمن ناقص الإيمان كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك ما لم يستحلها فعقيدة أهل السنة والجماعة وإجماع السلف على عدم تكفير صاحب الكبيرة ما لم يستحلها. إذا عُلم هذا فمصادقة الناس ينبغي حكمها على ما سبق فلا يجوز اتخاذ الكافرين أولياء أو مُخالطتهم مع الأنس بهم أو اتخاذهم أصدقاء وخلان أو تقديمهم على المؤمنين أو ومودتهم ومحبتهم أو نحو ذلك وهذا في حق عمومهم لكن يجب العدل معهم وعدم ظلمهم والاعتداء عليهم بغير وجه شرعي ويجوز التعامل معهم بالبيع والشراء والقرض ونحو ذلك. أما عصاة المؤمنين فتجب محبتهم بقدر ما معهم من إيمان وينبغي بغضهم بقدر ما معهم من فسق ومعصية ويجب تغليب محبتهم على بغضهم إذا كان خيرهم راجحاً على شرهم , أما اتخاذهم أصدقاء فهم على قسمين: القسم الأول: هم من كان خيرهم راجح على شرهم

وهؤلاء لا بأس بصداقتهم حينئذ وإن كان خلاف الأولى. والقسم الثاني: وهم من كان شرهم راجح على خيرهم وهؤلاء صداقتهم مما يُخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّمَا مَثَلُ الجليس الصالحُ والجليسُ السوءِ كحامِلِ المسك، ونافخِ الكِيْرِ، فحاملُ المسك إِما أن يُحْذِيَكَ، وإِما أن تبتاع منه، وإِمَّا أن تجِدَ منه ريحا طيِّبة، ونافخُ الكير إِما أن يَحرقَ ثِيَابَكَ، وإِما أن تجد منه ريحا خبيثَة). أخرجه البخاري ومسلم. وقال النووي في شرح صحيح مسلم عند كلامه على الحديث: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء ... الحديث) قال: وفيه فضيلة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب, والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس, أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة. انتهى. وقد حض أهل العلم على مصاحبة أهل الخير ومخالطتهم ومجالستهم, والبعد عن رفقاء السوء, واستدلوا لذلك بحديث مسلم في من قتل مائة نفس حيث أمره العالم بالانتقال من أرضه إلى أرض بها أناس صالحون ليعبد الله معهم، فقال له): انطلق إلى أرض كذا وكذا, فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. (وبحديث أبي داود: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) وبحديث أحمد: (لا تصاحب إلا مؤمناً. ( وقال سبحانه وتعالى} وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}. قال القرطبي: الصحيح في معنى الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم , فإن صحبتهم كفر، أو معصية, إذ الصحبة –قلتُ يقصد الصداقة بالمصطلح الذي اصطلحته في هذه الرسالة-لا تكون إلا عن مودة. انتهى ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – وقد سئل عن الموقف ممن يفعل بعض الكبائر -: (من يتهم بهذه المعاصي تجب نصيحته وتحذيره منها ومن عواقبها السيئة، وأنها من أسباب مرض القلوب وقسوتها وموتها، أما من أظهرها وجاهر بها: فالواجب أن يُقام عليه حدُّها، وأن يُرفع أمره إلى ولاة الأمور، ولا تجوز صحبتهم، ولا مجالستهم، بل يجب هجرهم لعل الله يهديهم ويمنُّ عليهم بالتوبة، إلا أن يكون الهجر يزيدهم شرّاً: فالواجب الإنكار عليهم دائماً بالأسلوب الحسن والنصائح المستمرة حتى يهديهم الله، ولا يجوز اتخاذهم أصحاباً–قلتُ أيضاً يقصد صداقتهم لا مطلق المصاحبة -، بل يجب أن يستمر في الإنكار عليهم وتحذيرهم من أعمالهم القبيحة.) " فتاوى إسلامية " (4/ 520). وقد روى الدينوري فِي الْمُجَالَسَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: لَا تُوَاخِ الْفَاجِرَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيُحِبُّ لَوْ أَنَّك مِثْلُهُ , وَمَدْخَلُهُ عَلَيْك وَمَخْرَجُك مِنْ عِنْدِهِ شَيْنٌ وَعَارٌ , وَلَا الْأَحْمَقَ فَإِنَّهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ لَك وَلَا يَنْفَعُك , وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَك فَضَرَّك , فَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ , وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ , وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ , وَلَا الْكَذَّابَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُك مَعَهُ عِشْرَةٌ , يَنْقُلُ حَدِيثَك وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ إلَيْك , وَإِنْ تَحَدَّثَ بِالصِّدْقِ لَا يُصَدَّقُ. وَقِيلَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ اصْطَنَعَ مَعْرُوفًا إلَى أَحْمَقَ فَهِيَ خَطِيئَةٌ مَكْتُوبَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَارِمْ الْأَحْمَقَ فَلَيْسَ لَهُ خَيْرٌ مِنْ الْهِجْرَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هِجْرَانُ الْأَحْمَقِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ فِي قَافِيَتِهِ: وَلَأَنْ يُعَادِيَ عَاقِلًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّقِ الْأَحْمَقَ لَا تَصْحَبْهُ إنَّمَا الْأَحْمَقُ كَالثَّوْبِ الْخَلَقِ فَهُوَ إنْ رَقَعْته مِنْ جَانِبٍ عَادَ

حكم إظهار البغض للفساق

مِنْ هَوْنٍ سَرِيعًا فَانْخَرَقَ ... انتهى. وبناءً على ما تقدم فصديق السوء يورد الإنسان المهالك ويضره أكثر مما ينفعه وفرق بين أن توالي ذلك الشخص وتحبه لأن معه وصف الإيمان وبين أن تصادقه فتأخذ منه ويأخذ منك لكن إن كان القصد من الجلوس مع ذلك الشخص تأليف قلبه بغرض الدعوة إلى الله وإرشاده إلى طريق الهداية أو قضاء حق له في القرابة فهذا من الأعمال الفاضلة لكن بشرط ألا يؤثر ذلك على الداعية والواصل لرحمه فيضر نفسه من حيث يريد أن ينفعها ومصادقة الأخيار مما أوصى به ربنا جل وعلا ونبينا - صلى الله عليه وسلم - والصحبة التي يتخذها العبد لنفسه ويتأثر بها لا بد من حسن اختيارها بل يجب عليه. حكم إظهار البغض للفساق الراجح شرهم على خيرهم الذين يجمعون بين صفات حسنة وأخرى سيئة: يشرع إظهار البغض للفساق الراجح شرهم على خيرهم أحياناً باستثناء الوالدين إلا أن إظهار البغض لهؤلاء ليست له قاعدة مطردة بل الأمر يختلف باختلاف الأشخاص الواقعين في المعصية، وباختلاف المعاصي، وباختلاف الأشخاص المظهرين للبغض كذلك. فهذه المسألة شبيهة بمسألة المريض والمرض والطبيب فالمرض شيء موجود، ولكن لكل مرض علاج وعلاج المرض الواحد يختلف باختلاف المرضى، وباختلاف الأطباء فتكون المسألة مسألة اجتهادية في حدود السياسة الشرعية، ولكن إذا اقتضى الأمر إظهار البغض فإن إظهاره تارة يكون بالقول، وتارة بالفعل، وتارة بهما جميعًا. فأما إظهار البغض بالقول فيكون بكف اللسان عن مكالمته ومحادثته مدة، أو بالاستخفاف به والتغليظ له في القول تارة أخرى، وأما إظهار البغض بالفعل، فبقطع السعي في إعانته مرة، وبالسعي في إساءته وإفساد مآربه مرة أخرى، وهذا وإن كان الانحراف عن الإسلام لا يوجب كفر المنحرف وإنما يستحق أن يوصف بانحرافه بالفسق والعصيان وهذه الأمور بعضها أشد من بعض، وإظهار العداوة فيما تقدم إنما يكون مع الأشخاص الذين أظهروا المعصية ولم يندموا عليها, أما من أظهر الندامة، وأقلع عن المعصية فالأولى أن نصفح عنه ونستره، ولا نُظهر له العداوة. مختصر منهج التعامل مع الكفار عموماً: من سالم المسلمين من الكفار وكف عنهم أذاه عاملناه بالتي هي أحسن وقمنا بواجب الإسلام نحوه من بر ونصح وإرشاد ودعوة إلى الإسلام وإقامة الحجة عليه رجاء أن يدخل في الإسلام فإن استجاب فالحمد لله وإن أبى طالبناه بما يجب عليه من الحقوق التي دل عليها الكتاب والسنة فإن أبى قاتلناه حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى أما من تعالى على المسلمين منهم وتولاهم بالأذى وبيت لهم الشر فالواجب على المسلمين أن يدعوه إلى الإسلام فإن أبى قوتل نصرة للدين وكفاً لأذاه عن المسلمين , ويقول أهل العلم في هذا الشأن (إن الذي يحاد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إن كان متجاهراً بذلك معلناً به، أو متجاهراً بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته، قال تعالى (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (ولم يُرخَص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتقاء شرهم إن كان لهم بأس قال تعالى) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن

ضابط اللطف المشروع بلا خلاف مع الكفار غير المحاربين

تتقوا منهم تقاة (, وأما من عدا هذا الصنف فهو الكافر المُمسك شره عن المسلمين فالواجب معاملته بالحسنى، قال تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) , وبموجب هذا التفصيل تتحدد طريقة التعامل مع الكفار إما بالحسنى وإما بإظهار العداوة). فالعلاقة مع أهل الكفر إذا كانوا مُسالمين غير محاربين يجب أن يكون أساسها البر إليهم والعدل معهم والإنصاف لهم , والعدل واجب مع الكل حتى إننا نعدل مع من حاربنا ولا نظلمه، وإن قاتلناه وحاربناه، حتى في قتله نحسن القتلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" [رواه مسلم]. ولا مانع شرعاً من التعامل مع الكفار غير المحاربين في المال أو الإجارة وعيادة مريضهم وتعزيتهم عند المصيبة وتهنئتهم عند حدوث نعمة بل إن مبادئ الإسلام توجب الدفاع عن أهل الذمة إذا قصدهم معتد؛ لأنهم في جوارنا وخفارتنا، وقد حكى ابن حزم في مراتب الإجماع على أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح. والحاصل لا مانع شرعاً أن يتعامل المسلم مع الكفار بالحسنى وتبادل المنافع إذا كانوا مسالمين بالضوابط الشرعية ولكن عليه أن يحذر من موالاتهم والرضا بكفرهم. ضابط اللطف المشروع بلا خلاف مع الكفار غير المحاربين: ضابط اللطف والرفق المأمور به لغير المحارب هو كل رفق ولطف لا يُفهم منه علو الكافر على المسلم أو مودته لا رحمته وبره وذلك مأمورٌ به. بعض المسائل التي لا تنافي العداوة من المشركين المحاربين: 1 - من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولم يجد في المسلمين من يجيره فلا شيء عليه. 2 - برّ المؤمن لبعض الأفراد الكفار المعينين من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح أو كان براً يدل على مودات القلوب , كما قال تعالى في وصفه للأبرار (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) , ومن المعلوم أنه لم يكن وقت نزول الآية أسيراً إلا الكافر المحارب. 3 - مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائز للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منها. 4 - يُشرع الحرص على حقن دماء الكفار المحاربين إذا رجا بذلك إسلامهم وهدايتهم ولم يخف مفسدة راجحة فيشرع حينئذٍ إمهالهم. 5 - يجوز الدخول تحت حماية الكفار وجوارهم إذا كان لمصلحة المسلم أو المسلمين لدحر عدو ضرره أكبر. 6 - يجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو. 7 - يجوز للمسلم أن يجير عدواً من أعداء الله الكفار فيكون معصوم الدم ولا يحل لأي مسلم أن يتعرض لهذا الكافر.

حكم حسن التعامل وصلة القريب المشرك المحارب للدين وأهله

8 - يجوز السفر إلى بلاد الكفار الحربية لأجل التجارة ولكن بشرطين وهما القدرة على إظهار الدين وعدم موالاة المشركين الموالاة المحرمة. 9 - معاملة الكفار الحربيين بالبيع والشراء ونحو ذلك جائزة إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين, وتحرم التجارة مع أهل الحرب إذا كان لا يتحقق واجب رفع الظلم عن المسلمين إلا بترك التجارة معهم. 10 - يُشرع العفو عن الظالم الكافر إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك. حكم حسن التعامل وصلة القريب المشرك المحارب للدين وأهله: حسن التعامل وصلة أعيان الكفار المحاربين لله ورسوله والمؤمنين محرمة شرعاً وهذا في حال تلبسهم بالمحاربة فالمأمور به حينئذ مجاهدتهم ومدافعة شرورهم وذلك أن الصحبة بالمعروف للوالدين المشركين والقرابة مأمور بها حين لا تكون هناك حرب ومحادة وخصومة بين حزب الله وحزب الشيطان فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد إذ ليس لرابطة الدم والجنس والنسب والأرض واللون واللغة أي اعتبارات في حال التعارض مع الدين. حكم البر والإحسان لآحاد الكفار المقيمين بدار الحرب: لا مانع , ولا بأس شرعاً في البر والإحسان للكفار المقيمين بدار الحرب بشرطين: الأول ألا يكون هذا الإحسان حاملاً على نصرة المشركين على المسلمين. الشرط الثاني ألا يكون هذا الإحسان لهم مما يدل على موالاتهم أو الرضا عنهم. وقد بحث إمام المفسرين الطبري هذه المسألة من نواحي النقل وأخيراً ختم بحثه بقوله ما نصه: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال عنى بذلك قوله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ} من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم إن الله عز وجل عم بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمنين من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. وقد بينا صحة ما قلنا في ذلك الخبر الذي ذكرناه عن الزبير في قصة أسماء وأمها. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، يقول إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم. انتهى منه.). وعن عبد الله بن عمر - رضِي الله عنْهُما - قال: رأى عمر بن الخطَّاب حلَّة سيراء - أي حرير - عند باب المسجِد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريْتها فلبسْتَها يوم الجمعة وللوفد، قال: ((إنَّما يلبسها مَن لا خَلاق له في الآخِرة))، ثمَّ جاءت حلل فأعْطى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عُمَر - منها حُلَّة، وقال: أكسوْتَنيها وقلت في حلَّة عُطَارِد ما قُلْت؟! فقال: ((إنِّي لم أكسُكها لتلبسها))، فكساها عمر أخًا له بمكَّة مشركًا؛ رواه البخاري ومسلم.

حكم مطلق البر والإحسان للكافر المعين المحارب للدين وأهله

حكم مُطلق البر والإحسان للكافر المعين المحارب للدين وأهله: لا مانع , ولا بأس شرعاً في مطلق البر والإحسان للكافر المحارب للدين وأهله كما قال تعالى في وصفه للأبرار (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا) , ومن المعلوم أنه لم يكن وقت نزول الآية أسيراً إلا الكافر المحارب. ولكن هذا البر والإحسان مشروط بأربعة شروط: الأول ألا يكون هذا الإحسان حاملاً على نصرة المشركين على المسلمين. الشرط الثاني ألا يكون هذا الإحسان له وهو في حال تلبسه بحرب الإسلام والمسلمين أي وقت القتال إذ الواجب في حقه جهاده ومدافعة شره. الشرط الثالث ألا يكون هذا الإحسان له مما يدل على مودات القلوب أو موالاته أو الرضا عنه. الشرط الرابع ألا يكون الإحسان إليه مُطلقاً بل لموجب شرعي راجح كأن يكون لأجل الإحسان الذي كتبه الله على كل شىء أو لأجل استمالة قلبه للإسلام أو لأجل مصلحة المسلمين أو لأجل أمر الله تعالى به كما في حالة الأسير. ورد في تفسير آيات الأحكام للشافعي رحمه الله مبحث هام نسوقه بنصه لأهميته: (قال الله عز وجل: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ}. قال: يقال: والله أعلم إن بعض المسلمين تأثر من صلة المشركين أحسب ذلك لما نزل فرض جهادهم وقطع الولاية بينهم وبينهم ونزل {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فلما خافوا أن تكون المودة الصلة بالمال أنزل {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقال الشافعي رحمه الله: وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين، وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين والإقساط إليهم ولم يحرم ذلك إلى من لم يظاهر عليهم بل ذكر الذين ظاهروا عليهم فناهم عن ولايتهم إذ كان الولاية غير البر والإقساط، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم فادى بعض أسارى بدر، وقد كان أبو عزة الجمحي ممَّن منَّ عليه، وقد كان معروفاً بعداوته والتأليب عليه بنفسه ولسانه، ومن بعد بدر على ثمامة بن أثال، وكان معروفاً بعداوته، وأمر بقتله ثم منّ عليه بعد أسره وأسلم ثمامة وحبس الميرة عن أهل مكة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له أن يميرهم فأذن له فمارهم. وقال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} والأسرى يكونون ممن حاد الله ورسوله انتهى منه.).

كيفية تعامل المجاهد المسلم مع أرحامه إذا كانوا في صف الكفار المحاربين للإسلام وأهله

كيفية تعامل المجاهد المسلم مع أرحامه إذا كانوا في صف الكفار المحاربين للإسلام وأهله: للمسلم أن يبتدىء بقتل أخيه الحربي ولا ينبغي أن يبتدىء بقتل أبيه الحربي وقيل لا يجوز لأنه يجب صلة الرحم مع الوالد ولا يجب صلة رحم من سواه , وقيل يُكره لغازٍ قتل قريب له كافر إلا إذا بلغه أنه يسب الله ورسوله فلا كراهة حينئذٍ والله أعلم , بل ينبغي الاستحباب تقديماً لحق الله ورسوله , ولا كراهة إذا قصد -ذوي الرحم الكافر في المعركة-هو قتله فقتله دفعاً عن نفسه. هل للمسلم أن يعمد لقتل أبيه الباغي أم لا؟ إقامة الحدود وقتال البغاة والقتال لإعلاء كلمة الله فلا نختار أن يعمد المرء إلى أبيه خاصة أو غيرهم من قرابته مادام يجد غيرهم فإن لم يفعل فلا حرج , لقوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدّنيا معروفاً} ولما روى الشّافعيّ أنّ {النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّ أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه}. حكم قتل المسلم بالكافر: لا يُقتل المسلم بالحربي بإجماع أما إذا كان ذمياً أو مستأمناً فالجمهور يرى عدم القتل أيضاً , ولكن على المسلم الجاني عقوبة تعزيرية بما دون القتل وعلماً أن هذه الجناية لا تُعفي المسلم من الإثم العظيم عند الله أما في جناية المسلم على الذمي أو المعاهد أو المستأمن فيما دون النفس ففيها القصاص إن كانت من أجل مصلحة دنيوية لا تغييراً للمنكر ونحوه. حكم مساكنة الكفار والفجار على وجه العموم: مساكنة الفجار والكفار جائزة إذا كان للمسلم مرافق مستقلة ويبتعد عن موالاتهم ولا يشهد منكراتهم وإن كان الأولى مفارقتهم أما لو كان يعسر التحرز من شهود منكراتهم أو عدم موالاتهم ولم يكن لهم حق عليه في الصحبة بالمعروف كالوالدين والزوجة الكتابية فيجب عليه المفارقة حينئذ. حكم تقبيل رأس الكافر المحارب وتقبيل غير المحارب: يحرم تقبيل رأس الكافر المحارب إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية الراجحة ذلك وأما مصافحة الكافر غير المحارب وتقبيله مكروه ولا يصل إلى حد التحريم. حكم بر الأقارب المشركين المسالمين للدين وأهله: رغم قطع الولاء سواء في الحب في الله أو النصرة على الدين بين المسلم وأقاربه الكفار فإن القرآن أمر بعدم قطع صلتهم وبرهم والإحسان إليهم ولا حرج في إظهار المودة لهم على سبيل المداراة مع انطواء القلب على بغض كفرهم أو فسقهم ومع ذلك فلا ولاء مطلق بينهم , فالولاء لله ودينه والمؤمنين شيء وبر القريب المشرك شيء آخر وقد يكون بره من باب تأليفه وترغيبه في الإسلام. حكم السفر لبلاد الكفر والشرك: يحرم السفر لبلاد الكفار إلا لحاجة كالعلاج والتجارة والتعليم الذي لا يمكن الحصول عليه إلا عندهم ويشترط كذلك لجواز السفر أن يكون مظهراً لدينه معتزاً بإسلامه , وأما السفر إلى بلادهم لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام فهو مستحب وقد يكون واجباً أحياناً.

حكم اعطاء الزكاة للكافر

حكم إعطاء الزكاة للكافر: لا يجوز إعطاء الكفار من الزكاة إلا في أحد حالتين الأولى إذا عُدم وجود المستحق لها من المسلمين وتعذر إرسالها إلى بيت مال المسلمين وكانوا من الكفار الغير محاربين. والحال الثانية أن يكون الكافر من المؤلفة قلوبهم وهم من يُرجى حسن إسلامهم أو إسلام نظيرهم أو معاونتهم للمسلمين أو دفع شرهم أو كف أذاهم عن الدين وأهله أو لغير ذلك، ويشترط أن يكون القصد مصلحة الدين وأهله أما الصدقة فالأمر واسع. حكم خيانة العهد مع الكفار: إذا خاف المسلمين من المعاهدين خيانة للعهد لم يجز لهم أن يقاتلوهم حتى يُعلموهم بإنهاء العهد الذي بينهم ولا يفاجئونهم بالقتال بدون إعلام. حكم العمل عند المشركين: العمل عند المشركين جائز بشروط: 1 - أن لا يكون في العمل إذلال للمسلم.2 - أن يكون طبيعة العمل حلالاً (فلا يكون في عمله إعانة على ظلم أو باطل أو معصية أو حماية للطاغوت أو التحاكم إليه أو توليه على كفره ومظاهرته على المسلمين ونحوها وأن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين). حكم إطلاق كلمة أخ على الكافر: إطلاق كلمة أخ على الكفار فيها تفصيل فإن كان القائل يُريد أخوة الدين أو الموالاة فإن ذلك لا يجوز , وإن كان يُريد أخوة النسب ولو النسب البعيد فلا بأس بذلك بل قد يكون مستحباً كأن يكون مداراة لهم لاتقاء شرهم أو من باب تأليف قلوبهم على الإسلام قال تعالى (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) وقال تعالى عن دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا). حكم مؤاكلة ومشاربة الكافر: ليس مجرد الأكل مع الكافر حراماً إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو المصلحة الشرعية لكن لا تتخذهم أصحاباً وخلاناً فتأكل من غير سبب شرعي أو مصلحة شرعية ولا تؤانسهم وتضحك معهم ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كالأكل مع الضيف أو لتدعوهم إلى الله وترشدهم إلى الحق أو لأسباب أخرى شرعية كصلة الرحم فلا بأس. حكم تغسيل الكافر ودفنه: لا يجوز للمسلم تغسيل الكافر، ولا تكفينه؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألقى قتلى بدر من المشركين في القليب، بلا غسل، ولا تكفين، ولا تجوز الصلاة عليه؛ لقوله ـ جل وعلا ـ: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) التوبة [84]. ولا الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، أو قول: المرحوم فلان؛ لقوله ـ جل وعلا ـ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) التوبة [113]، كما لا يجوز للمسلم تولي دفن غير المسلم كما يدفن أموات المسلمين، وإذا لم يكن للكافر الميت قريب يدفنه، فللمسلم أن يواري جثته في التراب ليمنع تأذي الخلق من نتنها، كما لا يجوز للمسلم أن يتبع جنازته، أو يمشي فيها، أو يحملها معهم، أو يحضر دفنه إذا أراد أهله دفنه؛ لقوله ـ جل وعلا ـ: (

شروط تشييع جنازة الكافر القريب

وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) التوبة [84]، وأما إن لم يوجد من الكفار من يدفن الكافر دفنه المسلمون كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى بدر وبعمه أبي طالب لما توفي قال لعلي" اذهب فواره ". ولا يجوز دفنه في مقابر المسلمين، بل يدفن في مقابر مثله من غير المسلمين؛ لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإجماع المسلمين على ذلك، إلا إذا ماتت امرأة كتابية زوجها مسلم وهي حامل منه، وقد بلغ عمر الحمل أكثر من ثلاثة أشهر فإنها تدفن في قبر المسلمين، ويكون ظهرها إلى القبلة؛ ليكون وجه حملها مستقبل القبلة؛ لأن الجنين مسلم؛ لكون أبيه مسلما، والمسلم لا يجوز دفنه في مقابر غير المسلمين، فرعاية لحقه تقدم مصلحة دفنه في مقابر المسلمين على مفسدة دفن أمه فيها. شروط تشييع جنازة الكافر القريب: إذا كان الكافر محارباً لا تجوز تعزيته مُطلقاً ولا تشييعه , أما إذا كان الكافر غير مُحارب للمسلمين وكان قريباً للمسلم فيجوز أن يحضر جنازته ويشيعها مع المشيعين بشروط ثلاثة: 1 - ألا يحضر الصلاة عليه ولا يصلي عليه وألا يقوم على قبره أثناء الدفن. 2 - أن يسير أمام الجنازة بعيداً عنها قليلاً يقف بعيداً عن القبر وإذا أردوا الدفن رجع. 3 - وأن يكون الكافر قريباً للمسلم قرابة مباشرة. حكم الالتزام بقوانين بلاد غير المسلمين: حكم الالتزام بقوانين بلاد غير المسلمين يختلف بحسب تلك القوانين التي لا تخلو من أحد أمرين: 1 - أن تكون غير مخالفة لأحكام الشرع، كالأحكام المتعلقة بأنظمة السير، وإصدار التراخيص، واحترام حقوق الآخرين، وممتلكاتهم فهذه يجب على المسلم الالتزام بها؛ لأن عقد إقامته متضمن وجوب التزام نظام بلده وقوانينه، والله ـ جل وعلا ـ يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود) ِ المائدة [1]. 2 - أن تكون مخالفة لأحكام الشريعة فإن كان يستطيع تحاشي الالتزام بها؛ لكونه لا يحتاجها، كالمعاملات المالية المحرمة، فعليه تحاشيها ولم يضره كونها موجودة في البلد الذي يعيش فيه، لقوله ـ جل وعلا ـ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة [105]، وإن كان يستطيع تحاشيها اتقى الله ما استطاع في تحاشي الوقوع في أسبابها، فما وقع فيه بعد ذلك منها فيكون من باب الضرورة، والضرورات تبيح المحظورات. أحكام غير المسلمين في القصاص والحدود والتعزيرات: أولا: إذا ارتكب غير المسلم ـ ممن له عهد وذمة ـ في بلاد المسلمين جناية يمكن القصاص منه بها خُيَر صاحب الحق بين إقامة القصاص عليه، أو دفع الدية، أو العفو، فإن كانت جناية على النفس كقتله معصوم الدم، خير أولياء المقتول، وإن كانت جناية على عضو كقطع رجل أو فقء عين خير المجني عليه، وإن كانت الجناية لا يمكن القصاص منه بها خير المجني عليه بين الدية أو العفو، فهو في هذا كالمسلم؛ لقوله ـ جل وعلا ـ (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) المائدة [45]، وقوله ـ جل وعلا ـ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) إلى قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) البقرة [178].

ثانيا: إذا اعتدى المسلم على غير مسلم من ذمي أو مستأمن فقتله فقد ارتكب إثما عظيما، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قتل ذميا أو معاهدا لم يرح رائحة الجنة" رواه البخاري. وهو مستحق للعقوبة، كما عليه دفع ديته، لكن لا يقتص منه به بقتل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري "لا يقتل مسلم بكافر، كما أن الذمي لو قتل حربيا فإنه لا يقام عليه القصاص، ولا يعاقب، وليس عليه دية، ولا كفارة؛ لأنه قتل غير معصوم الدم. ثالثا: الراجح من أقوال أهل العلم أن دية الكتابي إذا كان معصوم الدم في جناية القتل أو الجراح إذا كان خطئا نصف دية المسلم، فإن كان ذكرا فديته نصف دية المسلم الذكر، وإن كان أنثى فنصف دية الأنثى المسلمة، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل الكتابي نصف عقل المسلم. رواه أحمد، والعقل هو الدية، وإن كانت الجناية عمدا والاني مسلما، فقد ذهب الإمام أحمد إلى تضعيف الدية على المسلم فتصبح مثل دية المسلم، وروى ذلك عن عثمان بن عفان، لكن رأي جمهور أهل العلم على عدم تضعيفها. رابعا: إذا ارتكب غير مسلم من الذميين والمعاهدين في بلاد الإسلام معصية توجب الحد في شرعنا على المسلم لو ارتكبها نظرنا فإن كانت المعصية مما أقره الإسلام على فعلها خفية كشرب الخمر فلا يقام عليه الحد الواجب فيه، لكن لو جاهر بشربها جاز تعزيره بعقوبة مناسبة تردعه عن تكرار المجاهرة، وإن كانت المعصية مما لم يقره الإسلام على فعلها كالزنا وجب إقامة حد الزنا عليه وهو الرجم إن كان محصنا أو الجلد مائة جلدة إن كان غير محصن، وهذا إذا ثبت الزنا عليه باعترافه أو شهادة أربعة شهود عدول، كما يفعل بالمسلم إذا زنا، لعموم قوله ـ جل وعلا ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) النور [2]. ولحديث ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقام حد الرجم على يهوديين زنيا في المدينة حين رفع اليهود أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. ومثله السرقة والقذف. ويجدر التنبيه هنا أن بعض أهل العلم لا يوجب إقامة الحدود عليهم إلا إذا ترافعوا إلى محاكم المسلمين، أو كان المعتدي عليه مسلما، فإن كان الأمر فيما بينهم وليس فيه طرف مسلم ولم يترافعوا إلينا لم يلزم الحكم بينهم، ولا إقامة الحدود عليهم. خامسا: إذا اعتدى المسلم على غير المسلم من الذميين والمعاهدين بما يوجب حدا كما لو زنى بامرأة من نسائهم، أو عمل عمل قوم لوط مع أحدهم أو سرق ماله المحترم أقيم عليه الحد الواجب في كل معصية منها كما يقام عليه لو فعل ذلك بمسلم، فإن كان الاعتداء قذفا له بالزنا أو اللواط لم تجب إقامة الحد على المسلم، ولكن يجب تأديبه، ردعا له عن الكلام في أعراضهم، وكفا له عن أذاهم. سادسا: لا يقام القصاص ولا الحدود على من ارتكب موجبها من أفراد الجالية المسلمة في الدول غير المسلمة، سواء أكانت معادية لدول المسلمين، أو غير معادية بل بينها وبين المسلمين صلح وعهد، ولكن لا يسقطان عمن ارتكب موجبهما، بل تؤخر إقامتهما حتى يسافر إلى بلد مسلم فيقام عليه في ذلك البلد القصاص أو الحد، إذا كملت شروط إقامتهما وانتفت الموانع، وهذا على الراجح من أقوال أهل العلم، والدليل على ذلك ـ إن حصل في

حكم الاستعانة بالمشركين في الحرب والاستعانة بسلاحهم

الدولة المحاربة للمسلمين ـ ما روى بشر بن أبي أرطاة أنه أتى برجل في الغزاة قد سرق فقال: لولا أني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: لا تقطع الأيدي في الغزاة لقطعتك، أخرجه أبو داود وغيره. وروى سعيد بن منصور عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر (كتب إلى الناس ألا يجلدن أمير جيش ولا سرية رجلا من المسلمين حدا وهو غار، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار)، وعن أبي الدرداء وحذيفة بن اليمان نحوه، فإذا كان هذا في الغزاة المسلمين وهم تحت حكم المسلمين فمن الأولى إجراء هذا الحكم على أفراد الجالية المسلمة وهم تحت حكم دولة كافرة محاربة للمسلمين. والدليل على ذلك ـ إن حصل في دولة مهادنة للمسلمين ـ أن الحكم فيها لغير المسلمين، وليس ثمة للمسلمين ولاية تحكم بما أنزل الله، وتقيم القصاص والحدود، وقد تعد تلك الدولة إقامة الحدود فيها والقصاص خارج محاكمها ودوائرها الأمنية افتياتاً عليها وانتهاكاً لسيادتها على أراضيها، وتعدها جريمة يعاقب عليها، فلا يلزم المسلمين فعل ما يعاقبون عليه في غير أراضيهم. وبناء على هذا يكون واجب القصاص وإقامة الحدود مما يترك في غير بلاد المسلمين عجزاً عن إقامته أو رعاية للمصلحة التي اعتبرها الشرع، ودرءاً للمفسدة. فأما دليل إقامة القصاص أو الحد إذا دخل المرتكب ما يوجبهما بلاد المسلمين فلعموم النصوص الآمرة بذلك، وإنما أخرت لعارض كما تؤخر بعض الواجبات لمرض أو شغل. حكم الاستعانة بالمشركين في الحرب والاستعانة بسلاحهم: تجوز الاستعانة بالمشركين في الحرب بشرطين: الأول الحاجة إلى ذلك. والثاني أن يكون الكفار ممن يوثق بهم فلا تُخش ثائرتهم , وأما الاستعانة بسلاح الكفار فهو أمر جائز. حكم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم الدينية أو الدنيوية: تتفاوت أحكام المشابهة بالكفار فيما هو من خصائصهم الدينية أو الدنيوية تفاوتاً عظيماً فمنها كفر ومنها معصية ومنها مكروه ومنها مباح ومنها مستحب ومنها واجب إلا أن الأصل أن حكم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم الدينية أو الدنيوية هو التحريم. وهناك حالات معينة قد تجعل المسلم يشارك الكفار في الهدي الظاهر ذلك أن المخالفة لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار ولما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء فإنه لم يشرع لهم المخالفة فلما كمل الدين وظهر وعلا شُرع ذلك. فلو أن المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل يُستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والإطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه وجُعل على الكافرين بها الصغار ففيها ُشرعت المخالفة.

ما بين التشبه والولاء من علاقة

ما بين التشبه والولاء من علاقة: المشابهة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، والمحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وجنس مخالفة الكفار وترك مشابهتهم أمر مشروع، والمشابهة في الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل، ومن الحِكم في مخالفة الكفار فيما هو من خصائصهم: أن المخالفة في الظاهر توجب المباينة منهم في الباطن، وأن المشاركة في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين. حكم مصافاة الكافر المسالم للدين وأهله وصداقته وموالاته ومباطنته ومباسطته: يحرم اتخاذ المسلم بطانة من غير المسلمين ويحرم اتخاذهم أولياء وتحرم موادتهم ومحبتهم شرعاً , إذ ليس كل أحد يُجعل بطانة والبطانة هم الدخلاء الذين يستبطنون أمره وينبسط إليهم المرء, يُقال فلان بطانة لفلان أي مُداخل له مؤانس وهذا الحكم في حق عموم الكفار. وهنا تنبيه مهم وهو أن المصاحبة للكافر بالمعروف لمن له حق في الصحبة كالرحم الكافرة والجار في الدار أو العمل مشروعة بل قد تكون واجبة أحياناً كما في الوالدين المشركين وهذه المصاحبة لا تدخل في المنهي عنه وفرقٌ بين أن أصاحب الكافر بالمعروف وبين أن أتخذه خليلاً وسر الفرق بينهما أن الخليل مشتق من الخلة وهي المودة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في باطنه، والصاحب مشتق من الصحبة وهي المصاحبة في شيء والمعاشرة، يُقال صحبه وصاحبه أي عاشره والصاحب المعاشر، كذا في اللسان والنهاية، وقد دلت نصوص الوحي على أن الخليل أعمق صداقة وعلاقة بخليله من الصاحب فكل خليل لا بد أن يكون محبوباً وأما الصاحب فقد يكون محبوباً وقد لا يكون. وعلى هذا فالواجب على المؤمن ألا يتخذ الكفار أولياء وأن يعتمد على الله في تنفيذ شرعه وأن لا تأخذه فيه لومة لائم وأن لا يخاف من تطبيق شرعه لكن في الوقت ذاته يجوز التعامل مع غير المسلمين والإنصاف لهم والعدل معهم والإحسان إليهم والبر بهم وللتوفيق بين ذلك قال العلماء إن المحرم المنهي عنه هو الحب القلبي والمودة للإعجاب بما عندهم من عقائد وتشريعات وكذلك الموالاة والنصرة والثقة بهم والاطمئنان الكامل للتعامل معهم وأما التعامل الظاهري الخالي من الإعجاب والموالاة فلا بأس. حكم تزويج المرأة المسلمة بالرجل الكافر: حكم زواج المرأة المسلمة بالرجل الكافر محرم وقد حال الإسلام بين المرأة المسلمة وبين زواجها من غير المسلم، نظرًا إلى أن المرأة في غالب أحوالها ضعيفة الإرادة أمام زوجها، فيُخشى عليها أن تطيعه في معصية الله أو أن توافقه في الردة عن دين الله، أو أن تواليه على ما يُغضب الله، فلذلك منع الإسلام زواج المسلمة بغير المسلم، وأباح زواج المسلم بالكتابية على قول من قال بذلك مع بعض الشروط ومن قبيل زواج المسلمة بالكافر ما يقع فيه بعض المسلمين في العصر الحاضر حين يزوجون نساءهم لأشخاص يعتنقون مبادئ وينتمون إلى أحزاب خارجة عن الإسلام، توجب كفر من ينتمي إليها أو يعتقد اعتقاداتها كحال الذين يعتنقون الشيوعية أو ينتمون إلى أحزابها أو يوالونها على كفرها ومثل ذلك من ينتمي إلى حزب البعث أو الأحزاب الاشتراكية، فهؤلاء لا يجوز نكاحهم للنساء المسلمات ابتداء لأنهم غير مسلمين، كما لا يجوز بقاء النساء المسلمات في عصمتهم بعد اعتناقهم لتلك المبادئ الكافرة التي توجب كفر من يعتقدها أو يتبعها أو يدعو إليها، لأن كل من خرج

حكم الدعاء وقول جزاك الله خير للكافر

من حزب الله دخل في حزب الشيطان بلا جدال، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). أما إذا أسلمت المرأة وهي في عصمة رجل كافر سواء كان يهوديًا أو بعثيًا أو نصرانيًا أو اشتراكيًا أو شيوعيًا أو وثنيًا، فإن كان ذلك قبل الدخول بها فمذهب جمهور العلماء من الفقهاء أن الفرقة تقع بينهما في الحال، أما إن كان إسلام المرأة بعد الدخول بها فقال بعض العلماء: إن أسلم في عدتها فهي على نكاحها، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة، فقد بانت منه، وهناك رأي آخر وهو أن المرأة إذا أسلمت تخير بين طلب الفرقة أو انتظار إسلام الزوج وإن طالت المدة , ولكن لا يلزمها خلال العدة الانتظار والبقاء مع الزوج الكافر عملاً بقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا). أما إن أسلم الزوج ولم تسلم المرأة، فإنه يعرض على المرأة الإسلام فإن أسلمت في العدة بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها سواء كان ذلك قبل الدخول بها أو بعده، وهذا إذا كانت الزوجة مشركة وثنية. حكم الدعاء وقول جزاك الله خير للكافر: الظاهر ـ والله أعلم ـ أنه لا حرج في أن يقول المسلم للكافر الحي " جزاك الله خيرا" مكأفاة له على معروفه , وذلك أن أهل العلم قد نصوا على أنه يجوز الدعاء للكافر بالهداية للإيمان والدخول في الإسلام، وكذلك الدعاء له بمصالح الدنيا من نعمة المال والولد ونحو ذلك إذا كان مسالماً، وهذا كله من الخير الذي يجوز الدعاء له به. قال النووي في المجموع: وأما الصلاة على الكافر، والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع أما الدعاء له بالهداية، والدخول في الإسلام فيجوز ... انتهى. حكم السلام على الكافر: لا يجوز للمسلم أن يبدأ غير المسلم بالسلام من غير حاجة , لورود النهي عن ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام .. ". رواه مسلم، وله أن يحيه بغير السلام كقوله: أهلا وسهلا ونحو ذلك أما لو كان هناك موجب شرعي لابتداءهم بالسلام فلا بأس. "قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "زاد المعاد" (2/ 424) في ابتداء الكفار بالتحية: " وقالت طائفة - أي من العلماء -: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون إليه، أو خوف من أذاه، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك " انتهى. وأما إذا قال أحدهم " السام عليكم " - أي: الموت عليكم -، أو لم يُظهر لفظ السلام واضحاً من كلامه: فإننا نجيبه بقولنا " وعليكم ". لِما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل: عليك ". رواه البخاري ومسلم. فإذا تحققنا من سلام الكفار علينا باللفظ الشرعي، فقد اختلف العلماء في وجوب الرد عليهم، والوجوب هو قول الجمهور. قال ابن القيم رحمه الله: واختلفوا في وجوب الرد عليهم فالجمهور على وجوبه وهو الصواب وقالت طائفة لا يجب الرد عليهم كما لا يجب على أهل البدع وأَوْلى، والصواب الأول والفرق أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيراً لهم وتحذيرا منهم بخلاف أهل الذمة. أ. هـ " زاد المعاد "

حكم الثناء على الكفار ومدحهم

ويقول الرادّ من المسلمين الرد الشرعي باللفظ الشرعي، مثل تحيته أو أحسن لعموم قوله تعالى: (وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردّوها). قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: " فلو تحقق السامع أن الذي قال له: سلام عليكم لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام أو يقتصر على قوله: وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). فندب إلى الفضل، وأوجب العدل، ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه صلى الله عليه وسلم، إنما أمر بالاقتصار على قول الراد: وعليكم على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، ثم قال ابن القيم: والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه. قال الله تعالى: (وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول) المجادلة / 8. فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله فالعدل في التحية أن يرد عليه نظير سلامه. انتهى من أحكام أهل الذمة 200/ 1. حكم الثناء على الكفار ومدحهم: الثناء والمدح إما أن يكون للصفات والخلال، أو أن يكون للأشخاص والأعيان. فأما حكم الثناء والمدح للصفة فكل صفة محمودة شرعاً فلا مانع من مدحها بل يلزم ذلك أحياناً بغض النظر عمن صدرت منه , وكل صفة مذمومة شرعاً فيحرم إقرارها والثناء عليها بغض النظر عمن صدرت منه. ويدل على هذا بوضوح مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلف الفضول أو حلف المطيبين. وقد كان حلفا في الجاهلية بين قوم كفار، لكنه لما كان من أجل إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم ورد الحقوق إلى أهلها جاز الثناء عليه لأجل ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه). وحلف المطيبين – كما في النهاية -: (اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية وجعلوا طيبا في جفنه وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فسموا مطيبين) أهـ. والمراد بحلف المطيبين هو حلف الفضول، كما جزم بذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 291). ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة: (أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، وقد قال لبيد ذلك في جاهليته قبل أن يسلم، فإنه ترك الشعر بعد إسلامه ولم يقل إلا بيتاً واحداً ليس هذا هو، فلم يتحرج النبي صلى الله عليه وسلم من مدح كلمة قالها كافر حال كفره، ما دامت حقاً. وأما حكم الثناء على أشخاص الكفار ومدحهم لأجل كفرهم فمحرم بل هو كفر بالاتفاق وأما الثناء على الكفار ومدحهم لأجل دنياهم فيختلف حكمه بحسب الباعث عليه فإن كان الثناء عليهم ومدحهم بلا سبب يقتضي ذلك شرعاً , وكان على وجه يدعو للفتنة بهم وموالاتهم

فيحرم لا سيما وأن المدح والثناء من غير إكراه وموجب شرعي فرع عن المحبة المحرمة لهم، قال العلامة صديق حسن خان في كتابه (العبرة فيما ورد في الغزو والشهادة والهجرة) " مدح الكفار لكفرهم ارتداد عن دين الإسلام، ومدحهم مجردا عن هذا القصد، كبيرة يعزر مرتكبها بما يكون زاجراً له ". وقال العلامة الأهدل: " أما حكم من يمدحهم فهو فاسق، عاص مرتكب لكبيرة، يجب عليه التوبة منها، والندم عليها، هذا إذا كان مدحه لذات الكفار من غير ملاحظة صفة الكفر التي فيهم، فإن مدحهم من حيث صفة الكفر فهو كافر، كأنه مدح الكفر " من كتاب: السيف البتار على من يوالي الكفار للعلامة عبدالله بن عبدالباري الأهدل المتوفى سنة 1271 هجرية. وعلى هذا فذكر ما عند الكفار من أخلاق محمودة على وجه الإعجاب بهم وتعظيم شأنهم والمدح لهم بلا موجب شرعي حرام لأن ذلك مناقض لحكم الله فيهم والله قد ذمهم وتوعدهم وشبههم بالأنعام كما قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) وقال تعالى (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) وقال تعالى: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) وهذا شأن جميع أصناف الكفار. وأما إن كان الثناء عليهم ومدحهم بسبب وموجب شرعي أو على الأقل يكون على وجه لا يدعو للفتنة بهم ولا موالاتهم فلا بأس بذلك ومنه ما يرويه محمد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما اشتد أذى قريش لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه). ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (وَقَدْ) رَأَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ - إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا , كما في سيرة ابن هشام , ومنه ما قال المستورد القرشي، عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "تقوم الساعة والروم أكثر الناس "فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة. وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة. وأوشكهم كرة بعد فرة. وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسة حسنة وجميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك. رواه مسلم في صحيحه. ومن الموجبات الشرعية لمدحهم والثناء عليهم أن يكون مدحهم على سبيل إنصافهم ودفع تهمة موجهه لهم زوراً ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: ((ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤديه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما .. )). ومن الموجبات أيضاً أن يكون مدحهم على سبيل بث روح الاجتهاد في نفوس المسلمين ومحاولة منافستهم بما نحن أولى به منهم لإسلامنا ومن ذلك قول عمر - رضي الله عنه -: (عجبتُ من جلَد الكافر، وعجز الثقة). يقولها تحفيزا للثقات. ومن الموجبات أيضاً أن يكون مدحهم على سبيل الشكر والمكافأة بالمعروف ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: (لو كان المطعم بن عدي حيّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له). رواه البخاري عن جبير بن مطعم.

حكم مشاركة الكافر في التجارة

وذلك لأن المطعم بن عدي، كان من أشراف قريش، وكان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يد، فقد كان أجاره حين رجع من الطائف، على إثر ذهابه لدعوة ثقيف .. وكان أيضا أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم .. وكانت وفاته قبل بدر بنحو سبعة أشهر. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، نوع من المكافأة لمطعم والشكر لإحسانه، خصوصا وأنه قد قاله لابنه قبل إسلامه أيضا،،وقد كان حضر للشفاعة في أسارى بدر .. وقد رثى حسان بن ثابت المطعم بن عدي لمَا توفي. وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول وذكر حديث المطعم، ثم قال: (كان صلى الله عليه وسلم يكافئ المحسن إليه بإحسانه وإن كان كافرا) أهـ. ومن الموجبات الشرعية كذلك أن يكون مدحهم على سبيل تطييب قلوب المؤلفة قلوبهم وتأليفهم على الإسلام ومنه ما رواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنه حاتم الطائي لما سألته أن يخلي سبيلها وعددت بعض سجايا أبيها: ( .. خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق .. ). حكم مشاركة الكافر في التجارة: مشاركة الكافر في التجارة جائزة مع الكراهة بشرط أن تكون إدارة الشركة بيد المسلم أو بيد الكافر ولكن يلتزم بحدود الشرع وإن كان الأولى للمسلم أن يختار لنفسه شريكاً مسلماً عدلاً أميناً، لتكون تجارتهما مباركة ورابحة بعون الله وتوفيقه، فقد روى أبو داود والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما". قال الشوكاني: المراد أن الله جل جلاله يضع البركة للشريكين في مالهما مع عدم الخيانة، ويمدهما بالرعاية والمعونة، ويتولى الحفظ لمالهما. ا. هـ فإذا خان أحدهما صاحبه نزعت البركة، والكافر والفاسق لا تؤمن خيانتهما وبغيهما خصوصاً في الجوانب المالية، ولذلك قال الله تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [صّ:24]. ولذا كره الفقهاء مشاركة الكافر ومن لا يتحاشى التعامل بالحرام من المسلمين. محل مشروعية إظهار العداوة والبغضاء والهجر للكفار المسالمين: محل إظهار العداوة والبغضاء للكفار هو المصلحة سواءً كانت لمصلحة المُبغض الهاجر أو لمصلحة المبغوض المهجور ثم إن تحصيل هذه المصلحة تتفاوت فقد تكون واجبة أحياناً وقد تكون مستحبة , وأما دعوى إظهار البغض للكافر مطلقاً فغير صحيحة، وذلك لأنهم أنواع أولهم من لم تقم عليه الحجة، فهذا لا يُشرع إظهار البغض له، وقيل وإن كان مرجوحاً لا يُشرع بغضه ولكن يكفي ما جاء في صحيح مسلم (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (لإثبات مشروعية بغضه , وإن اختلفنا في الوجوب من عدمه فالله أبغض الكافرين الذين هم أهل فترة من الرسل قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم لمجرد كفرهم وشركهم بالله , وبغض الله لهم لا يعني أنهم معذبون قبل الحجة. النوع الثاني من أقيمت عليه الحجة، ولم يبدر منه عداء للإسلام ولا محادة لله ورسوله، فهذا يُشرع بغضه في الله ولكن لا يلزم إظهار البغض له بل ذلك منوط بالمصلحة. النوع الثالث أقيمت عليه الحجة، وبدر منه عداء للإسلام وأهله ومحادة لله ورسوله، فهذا

الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم

تحرم محبته وموادته قولاً واحداً بل يجب بغضه وإظهار العداوة له ولا تُخفى عداوته إلا لمصلحة شرعية راجحة. وعلى هذا يتبين لنا أن إظهار العداوة والبغضاء للكفار مشروعة في حق من بلغهم دين الإسلام الصحيح على وجه تقوم به الحجة، بحيث يفهمونه، ويدركون أصول عقائده وشرائعه، فلم يقبلوا به، وأبوا الدخول فيه، فهؤلاء جزاؤهم المعاداة في الله وإظهار البغض لهم إذا اقتضت الحكمة والمصلحة ذلك كأن يُرجي من وراء ذلك حملهم على الإسلام وإلا فالأولى معاملتهم بالحسنى والبر والإقساط من غير اتخاذهم أولياء, ودليل مشروعية إظهار العداوة والبغض للكفار المُسالمين قوله تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) ودليل برهم والإحسان إليهم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وأما من لم يبلغهم دين الإسلام ولم يسمعوا به أبداً، أو بلغهم على وجه لا تقوم به الحجة عليهم كأنه يبلغهم مشوها، ولم يمكنهم التعرف على الحق والبحث عنه، فهؤلاء ينبغي معاملتهم بالحسنى ودعوتهم للإسلام باللين واللطف وإن قيل يجب فلا يبعد. الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم: مسألة علاقة المسلمين بغيرهم أثارت الكثير من الجدل بين فقهاء المسلمين وقد انقسم الرأي إلى فريقين: الرأي الأول: أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب وبهذا قال كثير من علماء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة , واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. فأما الأدلة من القرآن الكريم: فقوله سبحانه وتعالى" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ"، وقوله سبحانه وتعالى " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ " وكذلك قوله تعالى " وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ "، فهذه الآيات وما شابهها مما لم يُذكر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقاً دون قيد أو شرط. ومن الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري" ومعنى هذا الحديث أن للسيف المقام الأول في تقرير دعوة التوحيد. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم " أُمِر ت أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَشْهَدُوا أَنْ َلا إَِلهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصََّلاَة وَيُؤُْتوا الزَّكاَة فإذا َفعَُلوا ذلك عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَاَلهُمْ إلا ِبحَقِّ الْإِسَْلاِم وَحِسَابُهُمْ على اللَّهِ " وهذا يدل على أن الأمر بقتال الناس هو من أجل الدخول في الإسلام. الرأي الثاني: أن أصل علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم , واستدل أصحاب هذا الرأي بأدلة من الكتاب والسنة الشريفة، أما من القرآن الكريم فقوله سبحانه وتعالى " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " فالآية الكريمة تحث المسلمين على قبول السلم من الكفار حين اللجوء إليه. وكذلك قوله سبحانه وتعالى " فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ

أنواع القتال في الإسلام والحكمة منه

عَلَيْهِمْ سَبِيلًا " فهذه الآيات وما شابهها مما لم يُذكر تدل على الأمر بقبول السلم من الكفار إذا جنحوا إليه. أما الأدلة من السنة النبوية الشريفة فكثيرة منها، قوله صلى الله عليه وسلم "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا" حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو. وكذلك رسائله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء ودعوته لهم بالدخول إلى الإسلام، فهذا يدل على أن الأصل هو السلم فلو كان الأصل هو الحرب لما أرسل إليهم هذه الرسائل. قال الزحيلي: وإن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم، والحرب عارض لدفع الشر، وإخلاء طريق الدعوة ممن وقف أمامها وتكون الدعوة إلى الإسلام بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان. أنواع القتال في الإسلام والحكمة منه: بدايةً أخي المسلم اعلم أن ما يسميه البعض عنفاً، قد يسميه غيره قوةً وحزماً وردعاً، والناس ليسوا على شاكلة واحدة، فمنهم من يقف عند حده ويلتزم العدل والإنصاف، ولا يحارب الحق ولا يعاديه، ومنهم من يبغي ويطغى، ويظلم ويتعدى، ويبغض الحق ويحاربه، ويصد عن سبيل الله. وليس من العقل ولا من الحكمة أن يعامَل الجميع معاملة واحدة، ولذلك تجد في القرآن قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {الأنفال: 61}. كما تجد فيه قوله عز وجل: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {التوبة: 12ـ 13}. وتجد فيه كذلك قوله سبحانه: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا {النساء: 75}. وما أحسن قول المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى. فالعنف قد يُحمد أحيانا، كما قد يُذم اللين أحيانا، والحكمة أن يوضع الشيء في موضعه، والجهاد في الإسلام لم يشرع لتحصيل أغراض دنيوية، بل شرع ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، مما يدرأ الفتنة، ويحاصر أبوابها ومنافذها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان، لكونهم مالا للمسلمين، والأول هو الصواب، لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: والفتنة أكبر من القتل ـ أي أن القتل وإن كان

فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين لله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم. اهـ. ولمعرفة أسباب القتال في الإسلام يحسن أن ننقل كلام الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة حيث يقول: يقول بعض الكتاب المحدثين: إن القتال في الإسلام أو الجهاد في الإسلام هو دفاعي لا هجومي، بمعنى أنَّه لا يجوز للدولة الإسلامية أن تهاجم دولة غير إسلامية إلّا إذا هاجمتها هذه الأخيرة، والواقع أنَّ هذا القول غير سديد وينقصه التحقيق والتدقيق، ولا تدل عليه دلائل الشريعة، ذلك أنَّ القتال في الإسلام له أسباب: منها: ردّ الاعتداء، وفي هذا قال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. ومنها: القتال لنصرة ضعفاء المسلمين الذين يتعرَّضون لظلم الكفرة، قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا. ومنها: أن يبدأ المسلمون قتال الكفرة إذا رفضوا الإسلام ومنعوا المسلمين من تولي الحكم والسلطان، لإقامة شرع الله وتطبيقه في الأرض، وهذا هو الذي يجادل فيه البعض ويعتبره من قبيل القتال الذي يبدأ به المسلمون غيرهم بلا مبرِّر، والحقيقة أنَّ القرآن والسنة النبوية يدلان على هذا النوع من القتال، وقال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ـ والحقيقة أنَّ بدء المسلمين لغيرهم بالقتال إذا رفضوا الإسلام أو الجزية إنَّما هو لمصلحة عموم المشركين الذين يخضعون لسلطان الكفر، لأنَّ المسلمين يريدون بهذا القتال رفع هذا الحكم الكافر عنهم، وإزالة شرائعه الباطلة، ورفع الحواجز عن عموم الناس لرؤية الإسلام وشرائعه، فمن شاء آمن، ومن شاء بقي على كفره بشرط الولاء للدولة الإسلامية. وهذا كله من مصلحة المشركين الدنيوية والأخروية، أمَّا الدنيوية فتظهر في تمتعهم بعدل الإسلام والمحافظة على أموالهم وحقوقهم، وأمَّا الأخروية فبتهيئة سبل رؤيتهم الإسلام واحتمال دخولهم فيه عن رضًى واختيار، لا عن جبر وإكراه، وفي هذا سعادتهم وفوزهم في الآخرة. اهـ. وجاء في الموسوعة الفقهية تحت عنوان: حكمة تشريع الجهاد ـ القصد من الجهاد دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أو الدخول في ذمة المسلمين ودفع الجزية وجريان أحكام الإسلام عليهم، وبذلك ينتهي تعرضهم للمسلمين، واعتداؤهم على بلادهم، ووقوفهم في طريق نشر الدعوة الإسلامية، وينقطع دابر الفساد، قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. وقال عز وجل: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. اهـ. وأخيرا نذكر بأن غير المسلمين قد جرّوا على البشرية من أنواع الحروب والعنف والقتال ما لم يعرفه الإسلام، ولا يقبله المسلمون، لا من حيث الغاية، ولا من حيث الأسلوب والضوابط، ولا من حيث الآثار، ويكفي للوقوف على حقيقة ذلك مقارنة التاريخ الحربي للمسلمين بطوله، بالتاريخ الغربي في الحربين العالميتين فقط، جاء في الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي: انتهت الحرب العالمية الثانية في سنة 1945م بعد استسلام ألمانيا في مايو 1945م، وإلقاء القنبلة الذرية على اليابان واستسلامها في سبتمبر سنة 1945م، ونتج عن هذه الحرب خسائر فادحة في الأرواح والأموال والعمران، كما أنها خلفت مشكلات

تعريف الجزية وحكمها

اجتماعية عديدة، وقدرت هذه الخسائر بـ 1154مليار دولار، وفقد فيها 41 مليون قتيل بخلاف الجرحى والأسرى. اهـ. تعريف الجزية وحكمها: الجزية هي ما يؤخذ من أهل الذمة، قال القرطبي إنها مشتقة من جزى يجزى إذا كافأ عَمَّا أسدى إليه فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وقد كان الصحابة عندما يخافون الخطر على أهل الذمة يردون إليهم ذمتهم، وهي إنما تؤخذ من الحر البالغ العاقل المقاتل عند القدرة على دفعها، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والعبيد والمجانين والشيوخ الهرمين ولا من العاجز عن دفعها فقد أعفى عمر منها يهوديا فقيراً وجده يسأل، وهي من محاسن الإسلام فقد كان ملوك الروم يأخذون من العاملين نصف إنتاجهم، وأحياناً يغتصبون منهم مالهم بغير حد، فجاء الإسلام وأخذ منهم ديناراً واحداً كما في حديث الترمذي عن معاذ بن جبل قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن أخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم ديناراً. والحديث صححه الألباني. وفي تاريخ الإِسلام كثير من الأمثلة التي تؤيد المعنى الذي ذكرناه، ومن ذلك، ما جاء في كتاب الخراج لأبي يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد: وينبغى يا أمير المؤمنين ـ أيدك الله ـ أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم، فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ظلم من أمتي معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه، وكان فيما تكلم عمر بن الخطاب عند وفاته: أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم، وجاء فى كتاب أشهر مشاهير الإِسلام أن جيوش التتار لما اكتسحت بلاد الإِسلام من حدود الصين إلى الشام، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون شوكة التتار، ودان ملوكهم بالإِسلام، خاطب شيخ الإِسلام ابن تيمية أمير التتار بإطلاق الأسرى فسمح له بالمسلمين وأبى أن يسمح بأهل الذمة، فقال له شيخ الإِسلام: لا بد من إطلاق جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة فأطلقهم له، وجاء في كتاب: الإِسلام والنصرانية للأستاذ الإِمام محمد عبده ما ملخصه: الإِسلام كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من دين، ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عوناً على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار، لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة، خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة للعبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال، جاءت السنة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومن آذى ذميا فليس منا، واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإِسلام، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في أبناء الإِسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف، ثم قال: أما المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن

إخراجهم من دينهم طردتهم عن ديارهم، وغسلت الديار عن آثارهم كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقاً، ولا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد أو شدة العضد، كما شهد التاريخ، وكما يشهد كاتبوه، ثم قال: فأنت ترى الإِسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء لا يعكرون معه صفو الدولة ولا يخلون بنظام السلطة العامة، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم. اهـ. ويقول القطان في تفسيره: والجزيةُ ضريبة مالية من أموال غير المسلمين المستظِلّين براية الاسلام، وهي مقدار يتراوح بين اثني عشر درهما، وثمانيةٍ وأربعين وذلك ليُسهموا في ميزانية الدولة التي تحميهم في أنفسِهم وأموالهم وأعراضهم فهي في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فالمسلم يُؤخَذ منه خُمس الغنائم والزكاة، وصدّقة الفطر، وغير ذلك مثل الكفّارات للذنوب المختلفة، وتنفق الجزية في المصالح العامة، وعلى فقراء أهل الذمة أيضا، وتفرض الجزية على أهل الكتاب، ولا تُفرض على المشركين هكذا عند جمهور العلماء، ويقرر أبو حنيفة أنها تفرض على غير المسلمين جميعا، أما المشركون الذين لا تقبل منهم فهم مشركو العرب فقط، وفيما يلي عهد كتبه أحد أمراء عمر بن الخطاب إلى مَرزُبان وأهل دهستان: هذا كتاب سويد بن مقرن لمرزبان بن صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعليكم المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا عن جزائه، ولكن الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغير شيء من ذلك. اهـ. وأما حكم الجزية ومن تُقبل منه فاعلم أن الكفار ينقسمون بالنسبة إلى الجزية إلى ثلاثة أقسام: 1 - أهل كتاب وهم: اليهود والنصارى، فهؤلاء يقاتلون حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويقرون على دينهم إذا بذلوها. 2 - قسم لهم شبهة كتاب وهم: المجوس، فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإقرارهم بها، لقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه مالك وابن أبي شيبة. ولا يعلم خلاف في هذين القسمين بين أهل العلم، إلا ما حكي عن الحسن البصري من أن الجزية لا تؤخذ من أهل الكتاب العرب. 3 - وقسم ثالث وهم: من لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، وهم عبدة الأوثان وسائر الكفار، فلا يقبل منهم سوى الإسلام. وهذا هو مذهب الشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة. وذهب أبو حنيفة إلى أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، وروي ذلك عن مالك وأحمد. وذهب مالك في الراجح عنه إلى أن الجزية تقبل من جميع الكفار، ومنهم المشركون وعبدة الأوثان مطلقاً: عرباً ـ ولو كانوا من قريش ـ فأحرى إذا كانوا غير عرب. وإلى هذا ذهب الأوزاعي. واستدل القائلون بأن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس فقط، بعموم الأدلة الدالة على قتال المشركين كقوله سبحانه في سورة التوبة: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا

الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل)) متفق على صحته، فلم يخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم الباطل، ولم يطلب منهم الجزية، فدل ذلك أن الواجب إكراه الكفار على الإسلام، حتى يدخلوا فيه ما عدا أهل الكتاب والمجوس؛ لما في ذلك من سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وهذا من محاسن الإسلام، فإنه جاء بإنقاذ الكفرة من أسباب هلاكهم وذلهم وهوانهم وعذابهم في الدنيا والآخرة إلى أسباب النجاة، والعزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة، فإلزام الإنسان بالحق الذي فيه الهدى والسعادة خير له من الباطل، كما يلزم الإنسان بالحق الذي عليه لبني آدم ولو بالسجن أو بالضرب، فإلزام الكفار بتوحيد الله والدخول في دين الإسلام أولى وأوجب؛ لأن فيه سعادتهم في العاجل والآجل , وأما لو أسلم المُكره على الإسلام في الظاهر فعلينا قبول ذلك منه، وإن كان لم يأت بالواجب عليه من الاستسلام ظاهرا وباطنا وحسابه على الله وهو يجازيه على سريرته كما قال شيخ الإسلام: فالإسلام هو الاستسلام لله والانقياد له ظاهرا وباطنا، فهذا هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ومن أسلم بظاهره دون باطنه فهو منافق يقبل ظاهره فإنه لم يؤمر أن يشق عن قلوب الناس. اه، وخُصّ أهل الكتاب من وجوب الإكراه على الإسلام بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة: 29] والمجوس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فمن عداهم يبقى على مقتضى العموم. وروى البخاري أن عمر لم يقبل الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وهذا يدل على أن الصحابة توقفوا في أخذ الجزية من المجوس حتى عرفوا المخصص لهم من بين سائر الكفار، فيدل على أنهم لم يأخذوها من غيرهم. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" يدل على اختصاص أهل الكتاب ببذل الجزية، إذ لو كان عاماً في جميع الكفار لم يختص أهل الكتاب بإضافتها إليهم. وأما المذهب الآخر القائل بأن الجزية تقبل من جميع الكفار واستثنى بعضهم عبدة الأوثان من العرب فهو قول الجمهور وقالوا بأن قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ليس فيه دليل بتخصيص أهل الكتاب بالجزية بل يشمل كل الكفار بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر , وهم وثنيون وليسوا أهل كتاب، وقد ألحق الجمهور بقية الكفار بالمجوس، وخالفهم الشافعي وبعض أهل العلم، ويدل لرجحان قول الجمهور حديث النسائي: فإذا أنت لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى ثلاث، فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم أدعهم إلى أن يتحولوا من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن هم أبوا أن يتحولوا إلى دار المهاجرين فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله كما يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء ولا

المقاطعة الاقتصادية

الغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فقاتلهم على إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم. اهـ وقال ابن عبد البر في الاستذكار: وعند مالك وأصحابه أن أهل الكفر كلهم في الجزية سواء كما هم عند الجميع في مقاتلتهم وسبي ذراريهم في الدنيا وفي الخلود في النار، فلا وجه لفرق بين شيء من أحكامهم إلا ما خصته السنة فيسلم لها كما خصت الكتابيين في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقال أيضا: واختلف الفقهاء في مشركي العرب ومن لا كتاب له، هل تؤخذ منهم الجزية أم لا؟ فقال مالك: تقبل الجزية من جميع الكفار عربا كانوا أو عجما، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور وأحمد وداود وإليه ذهب عبد الله بن وهب، وقال الأوزاعي ومالك وسعد بن عبد العزيز: إن الفرازنة ومن لا دين له من أجناس الترك والهند وعبدة النيران والأوثان وكل جاحد ومكذب بدين الله عز وجل يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فإن بذلوا الجزية قبلت منهم وكانوا كالمجوس في تحريم مناكحهم وذبائحهم وسائر أمورهم. قال أبو عبيد: كل عجمي تقبل منه الجزية إن بذلها، ولا تقبل من العرب إلا من كتابيهم، وحجة من رأى الجزية القياس على المجوس لأنهم في معناهم في أن لا كتاب لهم ... اهـ وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ: وأما عبدة الأوثان وغيرهم ممن ليس بأهل كتاب فإنهم يقرون على الجزية هذا ظاهر مذهب مالك وقال عنه القاضي أبو الحسن: يقرون على الجزية إلا قريشا. وقال الشافعي: لا يقرون على الجزية بوجه. وقال أبو حنيفة: لا يقر منهم على الجزية إلا العجم دون العرب وبه قال ابن وهب من أصحابنا، والدليل على ما نقوله ما روى ابن بريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على سرية أو جيش وصاه وقال له إذا أنت لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى ثلاث فأيتهن ما أجابوك إليها اقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم , ثم ادعهم إلى أن يتحولوا من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا إلى دار المهاجرين فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب الإسلام يجري عليهم حكم الله كما يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء ولا في الغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم , ودليلنا من جهة القياس أن هؤلاء أهل دين يجوز استبقاؤهم بالاسترقاق فجاز استبقاؤهم بالجزية كأهل الكتاب. اهـ المقاطعة الاقتصادية: أولاً: تعريف المقاطعة الاقتصادية: المقاطعة: هي عدم التعامل مع شخصٍ أو شركة أو مؤسسة أو دولة، ومنه مقاطعة بلد لمنتجات وحاصلات بلدٍ آخر. وقال في المعجم الوسيط: (المقاطعة: هي الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصادياً أو اجتماعياً وفق نظام جماعي مرسوم). ثانياً: قواعد ومقدمات: وهي سبع أسردها تباعاً: الأولى: جواز معاملة الكفار: الأصل أنه يجوز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو حرب إذا وقع العقد على ما يحل، ولا يكون ذلك من موالاتهم ,هذا هو

الأصل العام في معاملة الكفار إلا أنه يُستثنى من هذا الأصل مسائل؛ منها: أنه لا يجوز أن يبيع المسلم للكفار ما يستعينون به على قتال المسلمين. الثانية: وسائل التعامل مع الكفار: شراء بضائع الكفار يتخذ في هذا العصر صوراً متعددة، وله وسائل لا بد من معرفتها ليتم الحكم عليها من خلالها, ولعله يمكن حصرها في الصور الآتية: 1 - الشراء المباشر من الكافر الذي يبيع أو يصنع أو ينتج السلعة، وهذا آكد ما يشمله حديثنا. 2 - الشراء من خلال وسيط (سمسار)؛ حيث يكون لديه علم بعدد من المصانع والشركات المنتجة، فيقوم بالتنسيق والتقريب بين المشتري وبين المنتج أو المصنع، ويتولى كتابة وثيقة البيع بين الطرفين، وكل ذلك مقابل نسبة يستلمها الوسيط من الشركة أو المصنع المصدّر. وهنا تكون الأموال مدفوعة للبائع الأصلي فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة. 3 - الشراء من (وكيل بالعمولة) إذ يستورد البضائع باسمه ولحسابه هو، وتجري معاملاته باسمه أو بعنوان شركة ما، ثم ينقل الحقوق والالتزامات إلى موكله تنفيذاً لعقد الوكالة المبرم بينهما مقابل أجرة تسمى: (عمولة). والفرق بينه وبين الذي قبله أن هذا يستورد البضائع ويبقيها لديه معروضة ليبيعها باسمه هو، ويتم التعاقد معه أو مع شركته، ثم بعد ذلك يسلم للمنتج أو المصنع قيمة المبيع ويطالبه بالالتزامات, أما الأول فإنه وسيط فقط يربط بين الطرفين، ثم تنتهي مهمته , وفي هذه الحالة تكون الأموال أيضاً مدفوعة للبائع الأصلي؛ فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة، إلا أن المقاطعة تضر بهذا الوكيل أيضاً لتحمله تخزين وعرض البضائع. 4 - شراء بضائع أصلها من صنع الكفار، وجرى تصنيعها داخل بلاد المسلمين على يد شركة مسلمة تأخذ امتياز تصنيعها من الشركة الأصلية مقابل مبلغ مالي يدفعه صاحب امتياز التصنيع للشركة الأصلية بشكل دوريّ , وهنا يستفيد أولاً من البيع: الشركة المسلمة وتتضرر هي أولاً من المقاطعة, أما الكافر فيكون ضرره غير مباشر من خلال ما قد يعرض لصاحب امتياز التصنيع من الاستغناء عن حق الامتياز المذكور فيتوقف عن مواصلة دفع ما يقابله. 5 - الشراء من مسلم اشترى بضائع صنعها الكفار أو أنتجوها؛ فهنا المتضرر من المقاطعة أولاً المسلم الذي اشترى البضاعة, مع أن المقاطعة تضر الكافر إذا امتنع التاجر المسلم من شراء منتجاته مرة أخرى لعدم رواجها. الثالثة: أنواع بضائع الكفار: البضائع عموماً سواء باعها كفار أو مسلمون، إما أن تكون ضرورية أو حاجيّة أو تحسينية. ولا شك أن بينها فرقاً كبيراً؛ فالشرع جاء بالتفريق بين الضروري وغيره، وأباح المحرم عند الاضطرار, ومعلوم أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة إذا كانت عامّة, وعليه فإننا لا بد أن نفرّق بين بضاعة ضروريّة لا غنى عنها كالدقيق مثلاًً، أو حاجيّة عامة كبعض المراكب وبين التحسينيات من أنواع الألبسة والكماليات ونحوها.

وعلى هذا نقول: إنّه يخفف في أمور الضرورات والحاجيات العامة ويراعى فيها ما لا يراعى في غيرها. الرابعة: سد الذرائع. سد الذرائع من الأدلة المستعملة عند أهل العلم, والمراد بها منع الجائز لئلا يُتوصّل به إلى الممنوع. ونتيجة إعمالها: تحريم أمرٍ مباح لما يفضي إليه من مفسدة. وأداء الوسيلة إلى المفسدة: إما أن يكون قطعياً أو ظنيًّا أو نادراً. فإن كان قطعياً: فقد اتفق العلماء على سدّه والمنع منه سواء سُمّي سَدَّ ذريعة أو لا. وإن كان نادراً فقد اتفق العلماء أيضاً على عدم المنع منه، وأنّه على أصل المشروعيّة , وأما إن كان ظنياً فقد اختلف أهل العلم فيه , ولعل الصحيح في هذا القسم الأخير أنه يُنظر فيه إلى المصلحة والمفسدة. الخامسة: قاعدة المصالح والمفاسد. ولا شك أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما. ونظرنا في المصالح والمفاسد ينحصر في ملحظين: الأول: أن الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة، فإنه يُنْهى عنه؛ وذلك لأن الشريعة مبنيّة على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة؛ ولذا سدّت ذرائع مفضية إلى الإضرار والفساد في شواهد كثيرة من الكتاب والسنة. الثاني: أن المصالح والمفاسد يكفي فيها الظن الغالب؛ وذلك أن المصالح والمفاسد لا يُعرف مقدارها إلا بالتقريب؛ أما تحديدها بدقة فغير مُمكن غالباً. السادسة: الإضرار الاقتصادي طريق من طرق الجهاد المشروع. السابعة: ارتباط المقاطعة بإذن ولي الأمر: لا شك أن من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين في المعروف. وأعمال الرعيّة منها ما يشترط لفعله إذن الإمام، ومنها ما لا يشترط له إذنه , والمقاطعة بشكلها المعاصر مما لا يظهر لي ارتباطه بإذن ولي الأمر. ثالثاً: حكم المقاطعة الاقتصادية: لا شك أن التعامل التجاري والاقتصادي الحاصل في هذا الزمن يباين التعاملات التجارية في الأزمان السابقة؛ فهو الآن أوسع وأشمل وأيسر، ولا شك أن ارتباط الاقتصاد بالسياسة وتأثيره على التوجهات السياسية والنزاعات الحزبيّة صار أكبر وأقوى. ولذا فإن بحث هذه المسألة بالتوسع في النظر فيها هو من خصائص هذا العصر. والذي يظهر أن حكم المقاطعة يختلف باختلاف الأحوال، وإليك التفصيل: الأول: إذا أمر بها الإمام. إذا أمر الإمام بمقاطعة سلعة معينة أو بضائع دولة من دول الكفر فإنه يجب على رعيته امتثال أمره, وليس للإمام أن يأمر بذلك إلا أن يرى في ذلك مصلحة عامّة لا تُقابلها مفسدة أو ضرر أرجح منه؛ وذلك أن الأصل في تصرّفات الولاة النافذة على الرعية الملزمة لها

في حقوقها العامة والخاصَّة أن تبنى على مصلحة الجماعة، وأن تهدف إلى خيرها. وتصرّف الولاة على خلاف هذه المصلحة غير جائز. ولذا قعَّد أهل العلم قاعدة: تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة. الثاني: إذا لم يأمر بها الإمام. إذا لم يأمر الإمام بالمقاطعة فلا يخلو الحال من أمرين: 1 - أن يعلم المسلم أنَّ قيمة ما يشتريه يُعين الكفار على قتل المسلمين أو إقامة الكفر , فهنا يحرم عليه أن يشتري منهم؛ وذلك لأن الشراء منهم والحال ما ذكر مشمول بالنهي عن التعاون على الإثم والعدوان، ومشمول بقاعدة سد الذرائع المفضية إلى الحرام , وإذا علم المسلم أن أهل العلم حرَّموا بيع العنب لمن يتخذه خمراً، وبيع السلاح لأهل الحرب أو وقت الفتنة خشية استعماله لقتل المسلمين، وحَرَّموا إقراض من يغلب على الظن أنه يصرف ماله في محرم؛ فكيف إذا كان عين الثمن الذي يشتري به يُقتل به مسلم أو يُعان به على كفر؟! هذا حكم ما لو علم ذلك يقيناً سواء باطلاع مباشر، أو خبر موثوق به، أو غير ذلك, وغلبة الظن تجري مجرى العلم كما سبق. 2 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام من قتال المسلمين أو إقامة الكفر؛ فهذا باق على الأصل العام وهو جواز البيع والشراء وسائر المعاملات. فإن الأصل في البيوع الإباحة سواء منها ما كان مع المسلمين أو الكفار كما سبق وحيث لم يوجد ناقل عن هذا الأصل فلا يتغير الحكم ولكن يرتبط به الحالة الآتية: 3 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يُستعان به على حرام؛ لكن في مقاطعتهم مصلحة، ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يكون الحديث عنه. ولبيان حكم هذه الحالة فإني أحتاج لتقسيمها إلى قسمين: أ - أن يتم الشراء من الكافر مباشرة أو من خلال سمسار أو وكيل بعمولة. وإذا أردت الوصول للحكم الشرعي في هذا القسم فإني بحاجة لتقرير مسلَّمات شرعيّة توصلنا للنتيجة: فالأصل جواز التعامل مع الكفار ولو كانوا من أهل الحرب، وأن وسائل الحرام حرام ولا يُحكم على فعلٍ حتى يُنْظر في مآله وعاقبته. ولا يُباح مما يفضي إلى مفسدة إلا ما كانت مصلحته أرجح ولا يحرم مما يفضي إلى مصلحة إلا ما كانت مفسدته أرجح ولا مانع من استعمال الإضرار المالي جهاداً لأعداء الله ولو لم يأذن به الإمام. وعليه فإن كان في المقاطعة والحال ما ذكر مصلحة فإنه يُنْدب إليها على أنه يراعى مدى الحاجة للبضائع كما سبق. ب - أن يتم الشراء من مسلم اشترى البضاعة أو صاحب امتياز, ولبيان الحكم فإني مع تذكيري بما سبق من مسلَّمات فإني أذكر بأن المنتج الكافر يأخذ مقابل منحه امتياز التصنيع، وهو يأخذه سواء قلَّ البيع أو كثر، فالمقاطعة إضرار به وبعمالته وبالمساهمين معه في رأس ماله، وكذا الحال بالنسبة لمن اشترى بضاعة من الكافر وصارت من ماله فالمقاطعة إضرار به. ولذا فإن القول بندب المقاطعة فيه ثِقَل لوجود المفسدة والضرر الكبيرين، ولا يقال فيها إن المفسدة خاصة والمصلحة عامة؛ وذلك لأن المسلم سيكون هو المتضرر، ولأنَّ نفع المقاطعة مظنون وتضرر الشركة مقطوع به، والمقطوع يقدم على المظنون.

الإعانة على الإثم والعدوان حدوده وضوابطه

وعلى كلٍّ فاعتراض المفسدة قد يمنع القول بندب المقاطعة في هذا القسم، والله تعالى أعلم. وأنبّه هنا إلى أن من قاطع البضائع والسلع المنتجة من دول الكفار بنيّة حسنة كتقديم البديل الإسلامي أو زيادة في بغض الكفار فإنه إن شاء الله ممدوح على فعله مثاب. الإعانة على الإثم والعدوان حدوده وضوابطه: لا شك أن الإعانة المباشرة على الإثم والعدوان محرمة بنص القرآن وكذلك الإعانة الغير مباشرة على الإثم والعدوان محرمة إذا كانت مقصودة والأعمال بالنيات قال تعالى "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" وعلى هذا فالإعانة على الإثم والعدوان أربعة أقسام: 1 - مباشرة مقصودة كمن أعطى آخر خمراً بنية إعانته على شربها. 2 - مباشرة غير مقصودة ومنه بيع المحرمات التي ليس لها استعمال مباح إذا لم ينو إعانتهم على استعمالها المحرم. 3 - مقصودة غير مباشرة كمن أعطى آخر درهماً ليشتري به خمراً ومنه القتل بالتسبب. 4 - غير مباشرة ولا مقصودة كمن باع ما يستعمل في الحلال والحرام ولم ينو إعانة مستعمليه في الحرام، وكمن أعطى آخر درهماً لا ليشتري به خمراً فإن اشترى به خمراً وشربه فلا إثم على من أعطاه الدرهم طالما لم ينو به إعانته على المحرم، ومن هذا القسم الرابع البيع والشراء والإجارة من المشركين وفساق المسلمين والتصدق عليهم بالمال , وقد كان قرار مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا " في دورته الخامسة التي انعقدت بالبحرين سنة 1428هـ تحريم الأنواع الثلاثة الأولى وإباحة القسم الرابع وهو ما ليس مباشراً ولا مقصودا. وأما ضابط الإعانة على الإثم والعدوان الذي يحدد ما يكون إعانة مباشرة وما لا يكون فهو العادة الجارية الغالبة؛ فما يُعتبر فيها إعانة على المحرم مباشرة فهي الإعانة التي نُهينا عنها , وأصل ذلك أنه لا ضابط للإعانة المباشرة في اللغة، ولا في الشريعة؛ فوجب اعتبار العرف والخبرة. فعليه فكل ما عدَّه الناس إعانة مباشرة على معصية من وجبت طاعته في الدنيا من حاكم أو أب أو زوج، وكان سبباً لغضبه، ومستحقاً عندهم لعقوبته؛ فإن نظير تلك الإعانة في معصية الله يُعد محرماً , وهذا كله يُبنى على قاعدة أخرى وهي أن كل ما اُعتبر تعظيماً لمخلوق، ووفاء لحقه الواجب فالخالق أولى به , وقد دل على ذلك قوله تعالى: "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، وهذا يحصل بمطلق ما يُعرف إعانة عند الناس , وقد تأيد هذا الأصل بالسنة حيث كان صلى الله علي وسلم يتعامل مع اليهود والنصارى وبعض المشركين بيعا وشراء وكراء ورهناً، ولم يُعتبر هذا من إعانتهم المباشرة , وحين غاب هذا الأصل عند البعض رأيت من ضيّق ما يكون إعانة محرمة حتى أباح بيع العنب لمن يعلم أنه يتخذه خمراً، وكراء الدار لمن يعلم أنه يتخذها في محرم أصالة، بحجة أن الأصل حل التصرف بالمباح؛ حتى قال الثوري رحمه الله: بع الحلال من شئت. وهذا مشهور مذهب أهل الكوفة؛ فقد أجاز أبو حنيفة رحمه الله بيع العنب وعصيره من خمار ، وعلل ذلك بأن المعصية لا تقوم بعينه، ولأن العصير يصلح لأشياء كلها جائز شرعاً فيكون الفساد إلى اختيار المشتري، وليس هو من فعل البائع ولا من قصده. وخالفه صاحباه في ذلك؛ فقالا بالمنع فيه , وكيف يصح هذا وقد ثبت في حديث

حكم إعانة الكافر على المعصية

ابن عمر مرفوعا:"لعن الله الخمر، وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها" رواه أبوداود. ووسعه آخرون حتى حرموا ما أحل الله، وتنزهو عما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد سأل خياطٌ بعضهم، فقال: أنا ممن يخيط للظلمة؛ فهل أُعّدُّ من أعوانهم؟ فقال: لا! أنت منهم، والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم. ذكره الآلوسي في "روح المعاني". فعليه كل ما كانت العادة فيه جارية أن العقلاء المحبون يجيزونه لمتبوعيهم مما قد يُظن أنه ذريعة إلى معصيتهم فمثله في الشريعة مباح، وكل ما يمقتونه من أسباب غضب أولئك المتبوعين فمنع مثله في الشريعة أولى , وإذا أخذت بهذا الضابط تجلى لك الأمر، وكنت وسطاً بين الغالين والجافين بغير برهان. ثم ما يقع ـ بعد ذلك ـ بين الواضح في حرمته، وبين الواضح في إباحته فهو من مسائل الشبهات التي تُكره عند عامة أهل العلم، ويتحول حكمها إلى الإباحة إذا وجدت حاجة إليها , ومع عدم الحاجة فإن هذا الموضع المشكل محلٌ للورع والاحتياط عند ذوي الديانة والله أعلم. حكم إعانة الكافر على المعصية: قبل بيان حكم هذه المسألة لا بد من تحرير القول في مسألة وهي هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ أقول لا شك أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وهو قول الجمهور، قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير: والكفار مخاطبون بالفروع -أي بفروع الإسلام- كالصلاة والزكاة والصوم ونحوها، عند الإمام أحمد والشافعي والأشعرية وأبي بكر الرازي والكرخي وظاهر مذهب مالك، فيما حكاه القاضي عبد الوهاب وأبو الوليد الباجي، وذلك لورود الآيات الشاملة لهم، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا). وقوله تعالى: (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ). وقوله عز وجل: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ). وقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ). وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وقوله عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ). وقوله أيضاً: (يَا أُولِي الْأَبْصَارِ). ا. هـ والمقصود بخطابه بها، أنه يعاقب عليها في الآخرة، لا أنه يُطالب بفعلها في الدنيا. قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: فالكافر الأصلي مخاطب بها خطاب عقاب عليها في الآخرة، لتمكنه من فعلها بالإسلام، لا خطاب مطالبة بها في الدنيا لعدم صحتها منه. ا. هـ وقال في شرح الكوكب المنير: والفائدة أي: فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام كثرة عقابهم في الآخرة، لا المطالبة بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات منها. ا. هـ ونقل ابن النجار عن النووي قوله: ومرادهم في كتب الأصول: أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعاً، لا على الكفر وحده. ا. هـ ومما استدل به جمهور العلماء على ما ذهبوا إليه: 1 - قول الله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل:88]. قال ابن النجار: أي فوق عذاب الكفر، وذلك إنما هو على بقية عبادات الشرع. ا. هـ 2 - قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران:97]. وجه الدلالة أن لفظ (الناس) اسم جنس معرف بأل الاستغراقية، فيشمل جميع الناس، والكفار

من جملة الناس، ولا يوجد مانع عقلي من دخول الكفار في هذا الخطاب، والمانع العقلي هنا هو فقد التحكم من الفعل، والكافر يمكنه أن يحج بأن يقدم قبله الإيمان، كما أن المسلم المحدث يوصف بالتمكن من الصلاة بأن يقدِّم عليها الطهارة، ولا يوجد مانع شرعي كذلك، لأنه لو وجد لعرفناه. 3 - قوله تعالى عن أهل النار: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر:42 - 46]. وجه الدلالة: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم إنما عاقبهم يوم القيامة، وسئلوا عما عاقبهم لأجله فاعترفوا بأنهم عوقبوا على ترك إقامة الصلاة، وإطعام الطعام، فدل على أن الخطاب متوجه إليهم بالعبادات. 4 - قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [فصلت:6 - 7]. وجه الدلالة: أن الله تعالى توعد المشركين على شركهم، وعلى ترك إيتاء الزكاة، فدل ذلك على أنهم مخاطبون بالاثنين معاً، لأنه لا يتوعد على ترك الصلاة ما لا يجب على الإنسان. 5 - قوله تعالى: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة:31 - 32]. وجه الدلالة: أن الله تعالى ذم -هنا- الكفار لتركهم الصلاة، وهي من فروع الشريعة، مما يدل على أن الكفار مكلفون بالفروع. وغير ذلك من الأدلة على قوة مذهب الجمهور مع العلم بأن العلماء قد أجمعوا على خطاب الكفار بأصل الإيمان، والعقوبات كالحدود والقصاص، والمعاملات كالبيع والشراء. قال في التوضيح: ذكر الإمام السرخسي لا خلاف في أن الكفار يخاطبون بالإيمان، والعقوبات والمعاملات، وبالعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة لقوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). وقال ابن النجار في شرح الكوكب المنير: كما أنهم مخاطبون بالإيمان والإسلام إجماعاً لإمكان تحصيل الشرط، وهو الإيمان. ا. هـ يقصد أن تحصيل الإيمان شرط لصحة العبادات منهم، فوجب عليهم. والسبب في تكليف الكفار بالمعاملات أن المعاملات قُصِد بها الحياة الدنيا، فالكفار بها أنسب، لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة. والسبب في تكليفهم بالعقوبات: أن العقوبات قصد بها الزجر عن ارتكاب أسبابها، والكفار أحق بالزجر وأولى به من المؤمنين. وبناءً على ما تقدم، فلا يجوز للمسلم أن يعين أحد من الكفار على شيء من المحرمات في ديننا ولو كان أحد والديه الكافرين أو زوجته الكتابية، لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان وهو منهي عنه شرعا بقوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {المائدة:2}. وجاء في أحكام أهل الذمة لابن القيم: وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال في الرجل تكون له امرأة أو أمة نصرانية تقول اشتر لي زنارا فلا يشتري لها تخرج هي تشتري، فقيل له جاريته تعمل الزنانير قال: لا، قال القاضي: أما قوله لا يشتري هو الزنار، لأنه يراد لإظهار شعائر الكفر فلذلك منعه من شرائه وأن يمكن جاريته من عمله، لأن العوض الذي يحصل لها صائر إليه وملك له وقد منع من بيع ثياب الحرير من الرجال إذا علم أنهم

كيفية معاشرة الكافر الذي له حق واجب في المعاشرة

يلبسونها وكذلك بيع العصير لمن يتخذه خمرا. اهـ. كيفية معاشرة الكافر الذي له حق واجب في المعاشرة: اعلم أن معاشرة الكافر والفاسق المسلم ممن لهم حق واجب في الصلة والعشرة تختلف عن معاشرة غيرهم ويُغتفر فيها مالا يُغتفر في غيرها ويدلك على هذا أن بعض أهل العلم ذكر أنه إذا طلب أحد الوالدين الكافرين من ولدهما إيصالهما إلى الكنيسة لعجزه عن الوصول إليها، فالواجب على الولد إيصاله إليها، نص على هذا فقهاء المالكية , وقال ابن عاشور قال فقهاؤنا: (إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحل للمسلم أن يُشايع أحد أبويه عليه ... انتهى. قلتُ وهذا لا يجوز لمخالفته الآية الكريمة "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " لكني أوردته لبيان التقرير أعلاه , وذكر أهل العلم أن الزواج بالكتابية يستلزم أيضاً السماح لها بالبقاء على دينها إن شاءت وعدم الوقوف في وجه أدائها لشعائر هذا الدين إن أرادت وأن لا تُجبر على الإسلام ولا تدخل فيه إلا برضاها وهذا من المعلوم من الدين ضرورة لا يماري فيه إلا جاهل , وقرر أهل العلم بأن الوالدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس الأب كالأجنبي وكذلك ألحقوا بهما الأزواج وقالوا إذا رأى الولد مُنكراً من والديه يأمرهما فإن قبلا فبها وإن كرها سكت عنهما , وأقوال أهل العلم في هذا الباب كثيرة وهي إن دلت على شيء فهي تدل على ما قررناه ابتداءً من أن معاشرة الكافر والفاسق المسلم ممن له حق واجب في الصلة والعشرة تختلف عن معاشرة غيرهم ويُغتفر فيها مالا يُغتفر في غيرها. المنهج التفصيلي للتعامل مع الكفار المُسالمين المُحايدين (غير المحاربين): إذا وُجد من الكفار من يرغب التعامل مع المسلمين على أساس السلم وتبادل المنافع والاحترام المتبادل وإطلاق حرية الدعوة إلى الله بين أفرادهم وداخل مجتمعاتهم وأن يقفوا موقف الحياد في قتال المسلمين عدواً ذا شوكة فيجب مسالمتهم, ومسالمة من يقف مع المسلمين موقف الحياد واجبة فلا يُحاربهم ولا يُعين عليهم محارباً ويجب الكف عن أذاهم وحسن معاملتهم ولا ينبغي معاداتهم وفي ذات الوقت لا تصح موالاتهم على الوجه المحرم وإنما يُعاملون بالعدل والإحسان والبر فلا يُعادون عداوة المحاربين ولا يوالون موالاة المؤمنين وإنما يجوز معهم التعامل على أساس العدل والصلة بالمعروف وكف الأذى والعدوان عنهم بل ويُشرع في حقهم برهم من غير مودة باطنة لهم وأهل العلم قد اتفقوا على أن كل صلة وبر وإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد للكفار مشروع بإجماع من يُعتد برأيه من أهل العلم. قال تعالى:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [والبر: هو أعلى أنواع المعاملة، وهو الذي وضحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله (البرَ حسن الخلق (فيشملّ جميع أنواع الإحسان، من إيصال الخير المعنوي، والحسيَ إليهم ما داموا بهذا الوصف. وهذا العدل والإحسان يشمل حتى الحرَبي الأسير، لقوله تعالى في وصف الأبرار} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا

نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا (9) {قال قتادة رحمه الله: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشَرك. وقال ابن جرير الطّبري: وأسيراً: هو الحربي من أهل دار الحرب، يؤخذ قهراً بالغلبة، أومن أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحق، فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقرباً بذلك إلى الله، وطلب رضاه، ورحمة منهم لهم ... انتهى. وبالجملة فإن فقه التعامل مع الكفار المُسالمين (غير المحاربين) شأنه كشأن كثير من أبواب الفقه الإسلامي فيه مسائل مُحكمة ومتفق عليها بين أهل العلم المحققين وفيه مسائل مُختلف فيها, وبناءً على ذلك سنشرع ببيان بعض أحكام التعامل مع الكفار المُسالمين المتفق عليها والذي ينبغي أن لا يُختلف فيها. فإليك بعض أحكام التعامل معهم المتفق عليها: الأول: العمل على دعوتهم إلى الله –سبحانه- بالوسائل المشروعة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإنقاذهم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة قال رسول الله عليه الصلاة والسلام " فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيٌُر لك من أن يكون لك حمر النعم" رواه البخاري، ومسلم من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه-. وقال تعالى:} ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {فالبراءة من غير المسلّم، وعدم مودته لا تعني حجب دعوة الإسلام عنه، وتركه في الضلال، بل يجب على المسلم أن يدعوا الناس إلى الخير، وأن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحرص على هدايتهم , وهل هناك خير أحسن وأعظم للكافر من هدايته للإسلام؟ وعليه فمن أعظم أنواع البر والإحسان إليه؛ دعوتهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة , ومن الموعظة الحسنة ما قاله تعالى للأسرى المشركين} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {وهذا غاية الملاينة والملاطفة في دعوتهم إلى الإسلام، وأنّ الله سيعوضهم عن الفدية التي أخذت منهم إن هم أذعنوا للإسلام وآبوا إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. الثاني: الحذر من ظلمهم؛ لأن الظلم حرام مُطلقاً، فلا يجوز أن يُظلم أحد منهم في نفس أو مال أو عرض، فالذمي والمستأمن والمعاهد في دولة الإسلام وظل شريعة الرحمن يُؤدى إليه حقه، فلا يُظلم مثلاً في عرضه بغيبة أو نميمة، ولا في ماله بسرقة أو غش أو خيانة، ولا في بدنه بضرب أو قتل؛ لأن كونه معاهداً أو ذمياً في البلد أو مستأمناً يعصمه, قال تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {قال ابن جرير في تفسيرها: لا يحملنكم عداوة قوم على أن لا تعدلوا في حكمكم فيهم، وسيرتكم بينهم؛ فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة .. انتهى. والآيات التي فيها الأمر بوجوب العدل مع الناس جميعهم كثيرة، منها: قوله تعالى:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}. وقال تعالى:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا

حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}. والسنة فيها الكثير من الشواهد على الإحسان والعدل مع غير المسلّمين، والتحذير من عاقبة الظلم خاصة ظلم أهل الذمة، وتوعد من ظلمهم يوم القيامة، ولهذا شهد عصر النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وعصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم صوراً كثيرة من السماحة والعدل في معاملة غير المسلّمين, منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلَفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة). والخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لمّا طُلب منه أن يوصي الخليفة من بعده، أوصاه بعدة وصايا، ومما جاء فيها: وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أن يوفّي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلّفوا إلا طاقتهم. وكان يقول: أوصيكم بذمة الله، فإنه ذمة نبيكم، ورزق عيالكم. ومر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حُبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخلُّوا. وعندما أمر عمر بن عبد العزيز مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، وقام إليه رجل ذمي من أهل حمص، فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: وما ذلك؟ قال: العباس بن الوليد اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم يا عباس فاردد عليه ضيعته، فردها عليه. وكان العلماء والقضاة يسيرون على هذا النهج من النصح للخلفاء بأن يرفقوا بأهل الذمة، قال القاضي أبويوسف وهو يوصي أمير المؤمنين هارون الرشيد بأهل الذمة (وينبغي يا أمير المؤمنين - أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك، وابن عمك محمد صلّى الله عليه وسلّم، والتفقد لهم حتى لا يظلموا، ولا يؤذوا، ولا يكلّفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم، إلا بحق يجب عليهم-ثم ذكر جملة من الأحاديث والآثار الّتي فيها الوصية بأهل الذمة، والتحذير من الإساءة إليهم .. ). ومن ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر وابنه، فقد اقتص الخليفة عمر للقبطي في مظلمته، وقال مقولته المشهورة:" يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ".وكذلك تجلى العدل مع غير المسلمين حتى في خصومهم مع الخلفاء ومن ذلك "خصومة الخليفة علي رضي الله عنه مع يهودي في درعه التي فقدها، ثم وجدها عند يهودي، فاحتكما إلى شريح القاضي فحكم بها لليهودي، فأسلم اليهودي وقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه، فيقضي لي عليه، أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق، فقال علي كرم الله وجهه، أما إذا أسلمت فهي لك".

وها هو علي رضي الله عنه يأمر عماله بالعدل التام مع غير المسلمين، حيث كتب إلى عماله على الخراج "إذا قدمت عليهم فلا تبيعنّ لهم كسوة شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملوا عليها ولا تضربنّ أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفت ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلت". وهذه الوثيقة العمرية حيث أعطى عمر بن الخطاب أهل إيلياء أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وأنهم لا يظلمون بسبب نصرانيتهم ولا يضار أحد منهم ". الثالث: يجوز الحديث مع الكفار والتحدث إليهم في الأمور المباحة والتعامل معهم في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك، فقد صح عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه اشترى من الكفار عُبَاد الأوثان، واشترى من اليهود، وهذه معاملة، وقد توفي –صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام لأهله. قالت عائشة –رضي الله عنها-:"اشترى النبي –صلى الله عليه وسلم- طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد". رواه البخاري ومسلم. وقد كان –صلى الله عليه وسلم- يتعامل في أمور التجارة مع الكفار، وعامل أهل خيبر في المساقاة، كما روى البخاري أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أعطى خيبر لليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها" رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما-. قال ابن القيم –رحمه الله-: (ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه اشترى من يهودي سلعة إلى الميسرة، وثبت عنه أنه أخذ من يهودي ثلاثين وسقاً من شعير ورهنه درعه، وفيه دليل على جواز معاملتهم، ورهنهم السلاح، وعلى الرهن في الحضر، وثبت عنه أنه زارعهم وساقاهم ... انتهى). وعن عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم جاء رجل مشرك مشعانٌُ طويلٌُُ بغنم يسوقها فقال –صلى الله عليه وسلم-:"أبيعاً أم عطية؟ " أو قال: "أم هبة" قال: لا، بل بيع فاشترى منه شاةً. أخرجه البخاري ومسلم , وفي البخاري عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: استأجر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خِرِّيتاً وهو على دين كفار قريش .... الحديث. الرابع: لا يجوز بدؤهم بالسلام لغير حاجة أو مصلحة شرعية راجحة وخاصةً إذا كان الكافر مُظهراً لعادات الكفر متلبساً بأفعال الكفار بين المسلمين، لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-:"لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام" رواه مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-. والنهي الوارد في الحديث هو إذا كان لغير سبب يدعوك إلى أن تبدأهم من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لك قبلهم أو حق صحبة أو جوار أو سفر, وينبغي إذا سلم أحد الكفار أن يُقال له: وعليكم؛ وهذا عند الشك وعدم تحقيق السامع من نطق السلام أما إذا قال الكافر السلام عليكم فيُقال له من باب العدل وعليكم السلام, قال – صلى الله عليه وسلم-:"إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". متفق عليه عند البخاري، ومسلم، من حديث أنس رضي الله عنه.

الخامس: وجوب حفظ عهدهم، وحرمة دمائهم وأعراضهم وأموالهم. والأصل في هذا قول الله تعالى:} إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ { وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (من قتل معاهداً لم يرِح رائحة الجنة، وإنَ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً (. وعصمة النفس تستتبع الحفاظ على العرض، فلا يجوز الاعتداء على أعراض أهل الذمة، ومن شتم ذمياً أو قذفه فحقه كحق المسلم في هذا. السادس: مشروعية الرفق واللين لهم ومعاملتهم بالحسنى فالمعاملة الحسنة والمداراة فيما يتعلق بأمور الدنيا ليست من الموالاة أصلاً، فلا تدخل في الممنوع، بشرط ألا تؤدي إلى المداهنة في دين الله، والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداهنة هي معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير نكير عليه، والمداراة: هي حسن التعامل والترفق والتلطف بالقول والفعل في بيان الحق له والتعامل معه، وأصل الفرق بينهما أن المداراة بذل الدنيا لصالح الدنيا أو الدين أو هما معاً، والمداهنة: ترك الدين لصالح الدنيا. ففي باب الآداب والمجالس والمُجاملات يحسن بالمسلم أن يعامل جلساءه بطلاقة الوجه وحسن القول ونحوهما، مما لا يؤدي إلى مداهنة أو نفاق أو تعظيم على النحو المنهي عنه. ولا شك أن الكفار عند وقت جهادهم وقتالهم لا حظ لهم من حسن التعامل بل يتعين ويجب الإغلاظ عليهم والشدة، وأما إن لم يكونوا مقاتلين بأن كانوا مُعاهدين فيُشرع البر والإحسان إليهم، ومن البر طلاقة الوجه ولين الكلام، ولا يلزم من البغض لهم في الله أن لا يكلمهم أو يكلح في وجوههم، بل ينبغي أن يخاطبهم بالقول اللين الحسن ويحسن معاملتهم والمداراة مع الناس والبعد عن الغلظة والفظاظة، مطلوبة دائماً لا سيما في باب الدعوة والمسلم ينبغي أن يكون داعياً إلى الله بقوله وفعله وفي كل أحواله، والتبسم للكافر المُسالم لسبب معتبر كتأليفه للدخول في الإسلام أو صلته لكونه ذا قرابة ورحم أمر جائز لا حرج فيه، ولكن يحذر من متابعته أو إقراره على شيء من باطله. أما الموالاة المنهي عنها فهي موالاتهم في دينهم، أو مناصرتهم على المسلمين. ويقول تعالى (وقولوا للناس حسنا) وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة، قالت: فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقلت: يا رسول الله، ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسّلم: قد قلت: وعليكم). وفي رواية: (يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والفحش. والرفق: هو لين الجانب في القول والفعل، بشرط ألا يُفهم منه علو الكافر على المسلم. السابع: مشروعية المداراة والمصاحبة بالمعروف لمن ليس لك بُد من معاشرته فمن كان من الكفار لا تستطيع هجره لأي سببٍ كان فعاشره بالمعروف وداره حتى

يجعل الله لك منه فرجاً ومخرجاً لقوله تعالى في معاملة الوالدين الكافرين:} أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ {وتتأكد المصاحبة بالمعروف مع من يصحبك ويُبادرك الصحبة والصلة كأصحاب العمل والسفر ونحوهم , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي بن سلول " بل نرفق به ونُحسن صحبته ما بقي معنا ". الثامن: مشروعية البر بالوالدين المشركين , ومصاحبتهم في الدنيا معروفاً ولو كانوا دعاة إلى الشرك من غير موالاتهم , والله سبحانه أوجب بر الوالدين الكافرين بالمعروف والإحسان الدنيوي وأما في الدين فأنت تتبع الدين الحق ولو خالف دين آبائك مع الإحسان للوالدين من باب المكافأة فأنت تُحسن إليهما وتُكافئهما على معروفهما ولو كانا كافرين, ويُشرع صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق , قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). قال ابن كثير رحمه الله في بيان معنى المصاحبة في الدنيا معروفاً, وصاحبهما في الدنيا معروفاً أي بالمعروف وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ... انتهى) , فالبر بالوالدين والمصاحبة بالمعروف كالقول اللين وعدم التعنيف، وعدم التأفف وعدم الزجر، والإحسان إليهما بالمال والإعانة والخدمة مشروعة كما قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) , وفي الصحيحين عن أسماء رضي الله عنها قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: (نعم صلي أمك.). قال الخطابي: فيه أنّ الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه، كما توصل المسلمة ... انتهى. ولهذا بوب البخاري لهذا الحديث بباب الهدية للمشركين، وباب صلة الوالد المشرك, وقال ابن حجر قولها راغبة: أي في شيء تأخذه وهي على شركها، ولهذا استأذنت أسماءُ أن تصلها، ولو كانت راغبة في الإسلام لم تحتج إلى إذن, وقيل معناه: راغبة عن ديني أو راغبة في القرب مني ومجاورتي والتودد إلىّ، لأنها ابتدأت أسماءَ بالهدية التي أحضرتها، ورغبت منها في المكافأة، ولو حُمل قولها راغبة أي في الإسلام لم يستلزم إسلامها. وقال النووي: وفيه جواز صلة القريب المشرك. وعن أبي هريرة قال: مر رسول صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي بن سلول وهو في ظل فقال: قد غبر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله: والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب لئن شئت لأتيتك برأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته ". رواه الطبراني في الأوسط وقال: تفرد به زيد بن بشر الحضرمي، قال أبو السعادات الشيباني في جامع الأصول في أحاديث الرسول عن زيد بن بشر وثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات.

وعلى هذا فالبر بالوالدين فرض عين، ولا يختص بكونهما مسلمين، بل حتى لو كانا كافرين يجب برهما والإحسان إليهما ما لم يأمرا ابنهما بشرك أو ارتكاب معصية, ففي هذه الحال عليه أن يقول لهما قولاً ليناً لطيفاً دالاً على الرفق بهما والمحبة لهما، ويجتنب غليظ القول الموجب لنفرتهما، ويناديهما بأحب الألفاظ إليهما، وليقل لهما ما ينفعهما في أمر دينهما ودنياهما، ولا يتبرم بهما بالضجر والملل والتأفف، ولا ينهرهما، وليقل لهما قولاً كريماً, ومن العجيب في هذا الباب أن بعض الفقهاء قال إذا طلب أحد الوالدين الكافرين من ولدهما إيصالهما إلى الكنيسة لعجزه عن الوصول إليها، فالواجب على الولد إيصاله إليها، ووجوب البر بهما في هذا الأمر مقيد بحال الطلب ووجود العجز، وإلا لم يجب نص على هذا فقهاء المالكية. وقال ابن عاشور (قال فقهاؤنا: إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحل للمسلم أن يُشايع أحد أبويه عليه .... انتهى) واعلم أني أورد هذه الأقوال لا لترجيحها بل لحكايتها بياناً لأهمية بر الوالدين , واعلم أخي القارىء أن الأقارب الكفار الغير محاربين يُلحقون بالوالدين الكافرين من المصاحبة في الدنيا بالمعروف وخاصة إذا كان يعسر التحرز من هجرهم لسببٍ ما , فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الخالة بمنزلة الأم) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح , إلا أنه ينبغي أن يُعلم بأن مشروعية التعامل بالإحسان والبر بالوالدين الكافرين وصحبتهما بالمعروف وصلة الرحم الكافرة يكون دون موالاتهم وطاعتهم فيما يريدون من الشرك ومعصية الله تعالى. التاسع: جواز صلة القريب منهم دون موالاته , وإدخال الرحم الكافرة البيت لا إثم فيه , فيجوز للمسلم أن يصل قريبه غير المسلم، بل ويستحب له إذا كان على الوجه الشرعي لقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). يقول ابن سعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات (ولما نزلت هذه الآيات الكريمات-يقصد أول سورة الممتحنة- المهيجة على عداوة الكافرين، وقعت من المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتم القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله عنه. فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة، والمكافأة بالمعروف، والقسط للمشركين، من أقاربكم وغيرهم، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم في هذه الحالة، لا محذور فيها ولا مفسدة كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلماً: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} , [وقوله:] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ

الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} أي: لأجل دينكم، عداوة لدين الله ولمن قام به، {وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا} أي: عاونوا غيرهم {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} نهاكم الله {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} بالمودة والنصرة، بالقول والفعل، وأما بركم وإحسانكم، الذي ليس بتول للمشركين، فلم ينهكم الله عنه، بل ذلك داخل في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين، وغيرهم ... انتهى) وعن عبد الله بن عمر - رضِي الله عنْهُما - قال: رأى عمر بن الخطَّاب حلَّة سيراء - أي حرير - عند باب المسجِد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريْتها فلبسْتَها يوم الجمعة وللوفد، قال: ((إنَّما يلبسها مَن لا خَلاق له في الآخِرة))، ثمَّ جاءت حلل فأعْطى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عُمَر - منها حُلَّة، وقال: أكسوْتَنيها وقلت في حلَّة عُطَارِد ما قُلْت؟! فقال: ((إنِّي لم أكسُكها لتلبسها))، فكساها عمر أخًا له بمكَّة مشركًا؛ رواه البخاري ومسلم. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم ستفتحون أرضاً يُذكر فيها القيراط وفي رواية ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحماً وفي رواية فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحماً أو قال ذمة وصهراً رواه مسلم قال العلماء الرحم التي لهم كون هاجر أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم منهم والصهر كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية «وأنذر عشيرتك الأقربين» دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص وقال يا بني عبد شمس يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها رواه مسلم , والبلال الماء ومعنى الحديث سأصلها شبه قطيعتها بالحرارة تطفأ بالماء وهذه تبرد بالصلة, والشاهد قوله عليه الصلاة والسلام لعشيرته الكفار (غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها) , والنبي عليه الصلاة والسلام وصل أقاربه الكفار، وصل عمه أبا طالب، وكان يأتيه ويدعوه إلى الإسلام، وغير ذلك، وإذا تقرر جواز صلة الرحم الكافرة فجواز صلة الرحم الفاجرة الفاسقة التي لا تزال مسلمة من باب أولى, ولتعلم أن الصلة بالمعنى العام يدخل فيها الأرحام الكفار والفساق وإن كانت صلتهم عموماً تكون دون صلة الأرحام المسلمين الصالحين, والذي ينبغي من جهة الكمال والاستحباب أن تكون صلة الرحم الكافرة -غير الوالدين -من أجل التأليف على الإسلام أو مراعاة وجود من تحت ولايته من الأبناء المسلمين كما قال ابن حجر: "إن صلةَ الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا آنس منه رجوعاً عن الكفر، أو رجا أن يخرج من صلبه مسلم كما في الصورة التي استدلّ بها وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بالخصب وعلّل بنحو ذلك، فيحتاج من يترخّص في صلة رحمه الكافر أن يقصد إلى شيء من ذلك"انتهى.

العاشر: تحرم موالاة الكفار كموالاة المسلمين أي مولاة مطلقة شاملة لجميع مفردات الولاية بل يجب البراءة منهم على الوجه الذي أراده الله والبراءة من أعمالهم المخالفة للشرع وتتأكد البراءة في حق من كان مُتلبساً بكفره وتحرم مودتهم مودة دينية أي مودة على الدين ولما حرم الله الكفر والشرك حرم الله كل طريق يؤدي إليها من طاعات الشيطان واتخاذ الكافرين والمشركين أولياء ويحرم تعظيمهم ويحرم متابعتهم على معاصيهم أو إقرارهم على شيء من باطلهم ويحرم إعانتهم على الإثم والعدوان ويحرم شهودهم حال خوضهم في منكراتهم , قال تعالى في تحريم موالاتهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وأما الدليل على وجوب البراءة منهم ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على أن (تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر) , وأما الدليل على تحريم مودتهم مودة على الدين قال تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) وأما الدليل على تحريم تعظيمهم فعن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقولوا للمنافق سَيِّد. فإنه إِن يَكُ سيدا فقد أسخطتم الله». أخرجه أبو داود. وقال تعالى في حق الوالدين المشركين وبيان تحريم متابعتهم على معاصيهم (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والشاهد قوله (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) فدل بمفهوم المخالفة: أي لا تتبع والديك في معاصيهم وأما الدليل على حرمة إعانتهم على الإثم والعدوان قال تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وأما الدليل على حرمة شهودهم حال خوضهم في منكراتهم قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). الحادي عشر: لا يجوز للمسلم أن يتخذ الكافر غير المسلم صديقاً يُصافيه ويتخذه خليلاً ويواليه كالمؤمن التقي ويحب كل ما هو عليه بل ينبغي الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم والميل إليهم والركون إليهم وهذا في حق مجموعهم وعدم اتخاذ الكافر صديقاً لا يعني عدم الإحسان إليه أو النفقة عليه إن كان من ذوي الرحم , وبالجملة على المسلم في تعامله مع غير المسلم أن يكون قائم على التأثير دون التأثر وإن لم يمكن التأثير فلا تأثر وهذا بخصوص الدين فقط. الثاني عشر: تحرم محبة عموم الكفار ولو كانت هذه المحبة لغير دينهم بل يجب بغض عموم الكفار في الله ويُجزيء عن بغضهم عدم مودتهم على الأقل وأما بغض آحادهم فلا يجب وإن كان مُستحباً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). الثالث عشر: لا يجوز أن يُولَى كافر ولاية من ولايات المسلمين التي فيها تسلط على المسلمين أو فيها خطر عليهم , فالوظائف العامة والخاصة ذات المساس

بمصالح الأمة وقوتها في دولة الإسلام لا يتولاها إلا المسلمين لأن غيرهم لا تؤمن خيانتهم. الرابع عشر: لا يجوز مُباسطة الكفار إلى حد يجعلهم يظهرون ما هم فيه من منكرات. الخامس عشر: مشروعية عيادة المرضى منهم , لفعله -صلّى الله عليه وسلّم- مع المشركين واليهود. حيث روى البخاري عن أنس رضي الله عنه، أنّ غلاماً يهودياً كان يخدم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فمرض، فأتاه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يعوده: فقعد عند رأسه فقال له: (أسلم) فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم، فخرج النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وهو يقول: (الحمد الله الذي أنقذه من النار). وروي البخاري من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صّلى الله عليه وسلّم- فقال: (قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله). ففي هذه الأحاديث الصحيحة دليل على مشروعية عيادة المريض غير المسلم، وخاصة إذا كان يطمع في تأليف قلبه على الإسلام، أو تحصل بعيادته مصالح أخر. السادس عشر: مشروعية تعزيتهم في موتاهم , فالصحيح من قوليّ أهل العلم أنه يجوز للمسلّم أنّ يعزي الكافر إذا مات له ميت، وخاصة عند وجود المصلحة الشرعية وقد سُئل الشيخ ابن باز عن صيغة تعزية غير المسلم، فقال: يقول: جبر الله مصيبتك، أو أحسن لك الخلف بخير، وما أشبه ذلك من الكلام الطيب، ولا يقول غفر الله له، ولا يقول: رحمه الله إذا كان كافراً أي لا يدعو للميت، وإنما يدعو للحي بالهداية وبالعوض الصالح ونحو ذلك .. انتهى. قلتُ لا يجوز الدعاء له بالمغفرة لنهي الله عن ذلك قال تعالى. السابع عشر: جواز تبادل الهدايا معهم إذا لم تؤدي إلى موالاتهم، فالهدية تدخل في عموم البر والإحسان، ولهذا استدل الإمام البخاري –رحمه الله – في صحيحه على جواز الهدية للمشركين بالآية السابقة، حيث قال باب الهدية للمشركين، وقول الله تعالى:} لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {ثم ساق في الباب حديثين، حديث أسماء السابق، وقبله حديث ابن عمر رضي الله عنهم، أنّ عمر -رضي الله عنه-رأى حّلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله: لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفود إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. ثم جاءت رسول الله -صّلى الله عليه وسلّم- حلل، فأعطى عمر منها حّلة. فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أني لم أكسكها لتلبسها. فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكة ففيه دليل على جواز الإهداء للكفار، ولو كان لا يحل لبسه للمسلمين كالحرير. وقد قبل –صلى الله عليه وسلم- الهدية من بعض الكفار؛ كقبوله من اليهودية التي أهدت إليه الشاة المسمومة فيما رواه البخاري، ومسلم، من حديث أنس – رضي

الله عنه- وقد روى البخاري عن أبي حميد – رضي الله عنه- قال: وأهدى ملك أيلة للنبي –صلى الله عليه وسلم- بغلة بيضاء وكساه بُرداً. ولهذا بوب البخاري في صحيحه لهذه الأحاديث باب: قبول الهدية من المشركين. وكتب له ببحرهم أي: ببلدهم الذي كان بساحل البحر في طريق المصريين إلى مكة، وروى البخاري، ومسلم، واللفظ من حديث علي – رضي الله عنه- أن أكيدر بن عبد الله الكندي وكان نصرانياً وكان ملكاً لبلدة دومة أهدى للنبي –صلى الله عليه وسلم- ثوب حرير فأعطاه علياً، فقال: "شَقِّقْهُ خٌمٌراً بين الفواطم، وفي الترمذي عن علي –رضي الله عنه-: أن كسرى أهدى له –صلى الله عليه وسلم- فقبل الهدية، وأن الملوك أهدوا إليه فقبل منهم. قال الترمذي: وفي الباب عن جابر – رضي الله عنه- وزاد أحمد في مسنده:"وأهدى له قيصر فقبل منه". وأخرج البخاري ومسلّم من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنهما- كنا مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ثلاثين ومائة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل مع أحد منكم طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان أي ثائر الشعر طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أبيع أم عطية؟، أو قال: أم هبة؟ قال: لا بل بيع ... الحديث) وهذا يدل على جواز قبول الهدية من المشرك؛ لأنها بمثابة الهبة والعطية. وقد روى أبو داود في سننه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- اشترى حُلَّةً ببضعة وعشرين قلوصاً (ناقة) فأهداها إلى ذي يزن، وكان ملك ذي يزن أهدى إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حلة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيراً، أو ثلاث وثلاثين ناقة فقبلها. رواه أبو داود من حديث أنس – رضي الله عنه-. الثامن عشر: مشروعية مكافأتهم على المعروف ومن أدلة ذلك ما رواه أبو داود في سننه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- اشترى حُلَّةً ببضعة وعشرين قلوصاً (ناقة) فأهداها إلى ذي يزن، وكان ملك ذي يزن أهدى إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حلة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيراً، أو ثلاث وثلاثين ناقة فقبلها. رواه أبو داود من حديث أنس – رضي الله عنه-. وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -: قال: لمَّا تُوُفِّيَ عبدُ الله يعني: ابنَ أُبَيّ بن سَلُولَ جاء ابنُه عبد الله إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أنْ يُعْطِيَهُ قميصَهُ يُكَفِّنُ فيه أباه؟ فأعطاه وقد صنع عبدالله بن ابنَ أُبَيّ بن سَلُولَ معروفاً بعمه العباس فأحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يكافئه. وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -: قال: «لما أَسَرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مَن أَسَر يوم بدر من المشركين قال: لو كان المطعِم بنُ عَدِيّ حيّا، ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتْنَى، لتركتهم له». أخرجه البخاري، وأبو داود. وقد كان لجبير بن مطعم معروفاً على الرسول عليه الصلاة والسلام قبل هجرته للمدينة. وقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-في الحديث الذي أخرجه أبو داود، والنسائي من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -وفيه. (وَمَنْ صَنَعَ إِليكم معروفا فكافئوه) وقال تعالى في حق الوالدين المشركين (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) وذلك لمكافأتهما على صنيعهما ومعروفهما بابنهما.

التاسع عشر: مشروعية حسن الجوار معهم لعموم قوله تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) والجار الجنب: يشمل الجار الغريب البعيد مسلماً كان أو مشركاً، يهودياً كان أو نصرانياً. قال القرطبي: الوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلماً كان أو كافراً وهو الصحيح ... انتهى. والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة، وكف الأذى والمحاماة عنه، ويشمل الجوار الجار في العمل وفي السفر ونحو ذلك, روى البخاري عن عائشة عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وعن أبي شريح أنّ النبي-صلّى الله عليه وسلّم- قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه). وهذا عام في كل جار، وقد أكّد عليه الصلاة والسلام ترك أذيته بقسمه ثلاث مرات، وأنه لا يؤمن الإيمان الكامل من آذى جاره، فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى الجار بغير حق، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رضياه وحضَا عليه. وهذا العموم في الإحسان إلى الجار هو ما فهمه صحابة رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- وطبقوه مع غير المسلمين. أخرج أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنه ذُبحت شاةٌ، فقال لأهله: أهديتم لجارنا اليهودي؟ قالوا: لا، قال: ابعثوا إليه منها، فإني سمعت رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- يقول): ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ... انتهى. وعن مجاهد قال: كنت عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وغلامه يسلخ شاة، فقال: يا غلام إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، فقال رجل من القوم: اليهودي أصلحك الله؟ قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يوصي بالجار حتى خشينا أنه سيورثه ... انتهى. العشرون: مشروعية الصدقة على مساكينهم , بل ويجوز للحاكم أن يعطي أهل الذمة والعهد من المال لمصلحة شرعية أو لحاجتهم , وعليه فيجوز للمسلم أن يتصدق على غير المسلّم من غير المحاربين، ومن غير الزكاة، لعموم قوله تعالى:"لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [والقسط يشمل العدل، ويشمل الصَلة، قال ابن العربي قوله تعالى (وتقْسِطُوا ِإلَيهِم) أيَ تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل ... انتهى. ولقوله تعالى: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) فقد جاء في سبب نزولها أنّ ناساً من المسلمين كرهوا أن يرضخوا

لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخص لهم، فنزلت هذه الآية، فأمروا بالصدقة بعدها على كل من سأل من كلِّ دين. قال ابن جريرفي تفسيره: يعني -تعالى ذكره- بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم، فلا تمنعهم الصدقة .... انتهى. والصدقة تدخل في عموم قول الله تعالى (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)). وبهذا يتبين أن الصدقة على غير المسلمين مستحبة، لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم (في كل كبد رطبة أجر) متفق عليه. وهذا التعامل هو ما سار عليه الخلفاء الراشدون في صدر الإسلام، ومن بعدهم في معاملتهم لأهل الذمة، ففي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كتب خالد بن الوليد -رضي الله عنه- لأهل الحيرة بالعراق- وكانوا نصارى- كتاباً مطولاً في بيان ما عليهم من الواجبات، وما لهم من الحقوق، ومما جاء فيه: وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله. وفي خلافة عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة رسالة مطولة في الوصية بأهل الذمة، جاء فيها: وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولّت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ... وذلك أنه بلغني أنّ أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذّمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثمّ ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. الحادي والعشرون: يجوز استخدام الكفار المحايدين للدعاية لصالح المسلمين وإيقاع الرعب والهزيمة المعنوية في الكفار المحاربين وقد دل على ذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني والعشرون: يجوز أكل ذبائح أهل الكتاب ما لم يعلم أنها ذُبحت على غير الوجه الشرعي كالخنق؛ لقوله تعالى:"الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ". وهذا ما أجمع عليه أهل العلم أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وفي البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي –صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سم". وفي البخاري، ومسلم من حديث أنس – رضي الله عنه -:"أن امرأة يهودية أتت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة فأكل منها ... " الحديث. قال ابن حجر: (ومن أحكام قصة خيبر جواز الأكل من طعام أهل الكتاب، وقبول هديتهم. ( الثالث والعشرون: يجوز نكاح نساء أهل الكتاب عند جمهور أهل العلم؛ لقوله –سبحانه-"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".

قال ابن قدامة: (ليس بين أهل العلم اختلاف في حل نساء أهل الكتاب، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل) ويجوز محبة الزوجة الكتابية بمقتضى الطبع أي لغير دينها. الرابع والعشرون: يجوز التعاون والتحالف مع الكفار في كل أمر يكون فيه بر وتقوى بشرط أن لا يؤدي إلى موالاتهم, فإذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها ; لاتفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها، فهذه المحالفة لا تدخل في عموم المنهي عنه قال تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن حلف الفضول الذي كان قبل مبعثه وكان حلفاً مع المشركين (لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت) وسبب هذا الحلف أن قريشًا كانت تتظالم في الحرم فقام عبد الله بن جدعان والزبير بن عبد المطلب فدعوا إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابوهما وتحالفوا في دار ابن جدعان. الخامس والعشرون: يجوز استخدام الكفار واستعمالهم في الوظائف بشرطين الأول تعذر من يحل محل الكفار من المسلمين، الثاني أن يؤمن جانبهم على الإسلام والمسلمين, ويجوز للمسلم الاستعانة بالكافر غير المحارب في الأمور الدنيوية التي لا تتصل بالدين , وعموماً ينبغي التفريق بين استخدام الكافر كشخص بمفرده في أمر من الأمور وبين استخدامه كصاحب سلطة ونفوذ في أمر من أمور الدولة الإسلامية فالأول جائز والثاني لا يجوز. السادس والعشرون: جواز تهنئتهم بالأمور الدنيوية التي لا صلة لها بالدين والعقيدة إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك؛ وإنما المنهي عنه تهنئتهم بأعيادهم الدينية , كالتهنئة بالولد، أو بسلامة الوصول من السفر، أو نحو ذلك، فالأصل الجواز؛ لعموم قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}. السابع والعشرون: استحباب الدعاء لهم بالهداية , فالدعاء لغير المسلمين بالهداية جائز بل هو مستحب، حتى لو كانوا محاربين، فقد دعا الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- لطوائف كثيرة من الكفار بالهداية, فمن ذلك: ماروه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ما أكره، فأتيت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله تعالى أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (اللهم اهد أم أبي هريرة). وقَدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: يا رسول الله إنّ دوساً قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (اللهم اهد دوساً وائت بهم). وعن جابر رضي الله عنه أنّ الصحابة قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد ثقيفاً).، فأسلموا وقدموا المدينة.

وهذا الهدي قد يجهله بعض المسلمين، فتدفعهم الغيرة والحمية للدين إلى أن يدعو على عموم الكافرين بالهلاك والدمار، وهذا خلاف هدي النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وصحابته الكرام. الثامن والعشرون: تُشرع محبة الخير والهداية للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم والرحمة والشفقة عليهم ولا علاقة لهذه المحبة بالبراء الشرعي من المشركين , بل إن شفقة المؤمن على الكافر لقرابته أو لإحسانه وكذلك خوف المؤمن على قومه وعشيرته من عاقبة ما هم فيه من الكفر ورحمتهم لا تُنافي كمال الإيمان المستحب ناهيك عن الواجب فهذا نوح قال الله عنه يوم الطوفان} وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {وقوله لقومه بعد أمرهم بتوحيد الله} إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {فنوح يُشفق على ابنه الكافر وعلى قومه الكفار ومنه قول إبراهيم لأبيه} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا {, وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: " إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " فإبراهيم يُشفق على أبيه الكافر , ومن ذلك قول شعيب لقومه بعد نصحه لهم} َإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ {, ومن ذلك أيضاً قول هود لقومه بعد وعظهم} إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {, ومن ذلك أيضاً قول مؤمن آل فرعون لقومه بعد تذكيرهم بالله} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ {, وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي) ومن المعلوم أن البكاء والشفقة لا يكونان إلا من ميل قلبي جبلي لا يُؤاخذ عليه الإنسان. التاسع والعشرون: اتفق أهل العلم على أن من تخشى على نفسك الافتتان به وأن يضرك في دينك فيجب عليك هجره ولو كان قريباً لك ولو لم يتبين لك كفره أي بمعنى لو كان فاسقاً مسلماً ويستثنى من وجوب هجره هجراً جميلاً وعدم صلته ما كان على سبيل المداراة وصلته بما لا يُدخل عليك ضرر في دينك كصلته بالمال ونحوه. الثلاثون: جواز مصاحبة الكفار المسالمون ومؤاكلتهم ومشاربتهم لحاجة كعمل بينك وبينهم أو كان ذلك لمصلحة شرعية راجحة كدعوة أوصلة للرحم وضيافتهم إذا كانوا ضيوفاً فلا بأس بذلك ما لم يصل إلى حد موالاتهم. الحادي والثلاثون: يجوز الدعاء للكافر بالشفاء من مرض والعافية منه للمصلحة كرجاء إسلامه وتأليف قلبه ونحوه. الثاني والثلاثون: تجوز الاستجارة بالكافر لحماية الدعوة.

خلاصة حكم مودة المؤمن للكافر

الثالث والثلاثون: تجوز مشاركة المسلم للكافر في التجارة بشرط أن يكون القرار النهائي للمسلم في المعاملات أي بمعنى أن يكون مدير الشركة هو المسلم. الرابع الثلاثون: يجوز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم إذ لا يلزم من مجرد كون الرجل كافراً أن لا يوثق به في شيء أصلاً. الخامس والثلاثون: يجوز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة. السادس والثلاثون: مشروعية العفو عن الظالم الكافر إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك , كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة المحاربين وَقَالَ لَهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ: «مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع من سحره من اليهود فلم يطلب حقه عليه السلام لئلا يُثير على الناس أمور لا تُحمد عقباها , وعلى كل حال الأدلة على عفو النبي عليه السلام لخصومه كثيرة ليس هذا موضع بسطها. خلاصة حكم مودة المؤمن للكافر: محبة عين الكافر المحارب أو محبة عموم الكفار أياً كانوا محاربين أو مسالمين أمر محرم بالإجماع ولو كان محبة طبيعية ناهيك أن تكون دينية علماً بأن محبة الكافر لملته أو لصفة دينية فيه تُخالف الشرع ليست كفراً بإطلاق وإن كانت تلك المحبة محرمة بالإجماع , وذلك أن الحُبَّ القلبي الديني لغير المسلمين لأجل دينهم الباطل ليس شيئًا واحداً، فمنه ما ينقض الولاء والبراء من أساسه، ويَكْفُرُ صاحبُه بمجرّده ومنه ما يَنقصُ من الولاء والبراء ولا يَنقضُهُ، فيكون معصيةً تَنقصُ الإيمانَ ولا تنفيه , أمّا الحبّ القلبيُّ الذي يَنقضُ الولاء والبراء وينفي أساسَ الإيمان فهو حُبُّ الكافر لكُفره , وأمّا الحبُّ القلبي الذي لا يصل إلى حدّ النَقض، لكنه يُنقصُ الإيمانَ، ويدل على ضعفٍ في معتقد الولاء والبراء، فهو محبّة الشخص كافراً كان أو مسلماً لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها فهذا إثمٌ ولاشك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوباً لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها. وأمّا الحبّ الجبلي الطبيعي للكافر المعين المسالم للدين وأهله والذي يعسر التحرز من مودته لحرمة أو كراهة هجره وقطع أسباب محبته , كحبّ الوالد لولده الكافر، أو الوَلَدِ لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجته الكتابيّة، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه من الكفار وكان له حق في صلته فهذا الحُبّ مباح ولا يؤثر في كمال الإيمان وفي معتقد الولاء والبراء، لكونه مباحاً من المباحات، مادام لم يؤثر في بُغْضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين , أمّا إذا أثّر في بُغْضه، فإنه يعود إلى أحد القسمين السابقين، بما فيهما من تفصيل , والذي ينبغي من جهة الكمال أن يكون تعامل المرء مع الكفار تعاملاً ظاهرياً بالعدل ولا يكون في قلبه ميل لهم ولا مودة لهم خروجاً من خلاف أهل العلم، وإنما إذا أحسنوا إليه فإنه يُحسن إليهم.

حكم مودة المؤمن للكافر

ملاحظة: لمزيد من الفائدة والاطلاع حول هذا الموضوع يُرجى الرجوع إلى كتيب من جمع وإعداد المؤلف نفسه باسم " بسط القول والإسهاب في بيان حكم مودة المؤمن للكافر". حكم مودة المؤمن للكافر:"هذا التفصيل مُستفاد من د. لطف الله خوجة ولكن بتصرف". إن في التعميم والإجمال خطأ وجنوح، وفي التفصيل إصابة واستقامة. واتباعاً لهذه القاعدة: لا بد من التفصيل في المراد بالحب، والمراد بالكافر؛ فإن الحب أنواع، والكفار أصناف. أنواع الحب، وأصناف الكفار: الحب يكون لأحد الأسباب التالية: الدين، والخلق، والقرابة، والجمال، والجنس .. ونحو هذا , فإن كان للدين، فهذه محبة دينية، يترتب عليها أحكام دينية، وإن كان لغيره فليست بمحبة دينية، بل دنيوية. والكفار على أصناف فمنهم المحارب، الذي قد يُحارب: إما بسلاحه، أو بلسانه، أو بقلمه , ومنهم غير المحارب، الذي قد يكون: مُعاهداً، أو مستأمناً، أو ذمياً. واختلافهم هذا يترتب عليه اختلاف أحكامهم، وطرق التعامل معهم، كما دلت عليه نصوص الشريعة. حكم محبة المسلم للكافر: وبالنظر إلى هذا التفصيل يُقال: إذا أحب المسلم الكافر: - فإما أن يكون مُحارباً، أو غير محارب. - وفي كلتا الحالتين: إما أن يكون للدين، أو للدنيا. فهذه أربعة أحوال، وكل حال له حكم يستند إلى نصوص الشريعة. الحال الأول والثانية: محبة الكافر المحارب والمُسالم لأجل دينه. لا شك أن محبة الكافر المحارب والمُسالم لأجل دينه محرمة بالإجماع إلا أن الحُبَّ القلبي للكفار المحاربين والمُسالمين لأجل دينهم ليس شيئًا واحداً، فمنه ما ينقض الولاء والبراء من أساسه، ويَكْفُرُ صاحبُه بمجرّده ومنه ما يَنقصُ من الولاء والبراء ولا يَنقضُهُ، فيكون معصيةً تَنقصُ الإيمانَ ولا تنفيه. أمّا الحبّ القلبيُّ الذي يَنقضُ الولاء والبراء وينفي أساسَ الإيمان فهو حُبُّ الكافر لكُفره , وذلك أن هذه المحبة تعني وتفيد محبة الكفر إذ ليس لها سوى هذا المعنى؛ فإنه لا معنى لأن يحب المسلم الكافر لكفره، إلا أنه يحب الكفر نفسه , وفي محبة الكفر معنى الرضا به؛ لارتباط الحب بالرضا, ومن أحب الكفر ورضي به، انتفى أصل إيمانه؛ لاستحالة الجمع بين محبة الله تعالى والرضا به، الذي هو الإيمان به تعالى، وبين الرضا بالكفر ومحبته؛ فهما نقيضان، لا يجتمعان، ولا يرتفعان. ودليل أنهما نقيضان: أن الله تعالى يرضى عن محبته وعبادته، ولا يرضى عن الكفر، قال تعالى" إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ". وقد دلت النصوص على كفر من أحب الكافر لأجل كفره، كما في قوله تعالى "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ "فمن أحب الكافر لكونه مُحاداً لله ورسوله فهذا يستحيل أن يكون مؤمناً كما يفيده ترتيب النهي على فعلها وقال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ". وأمّا الحبُّ القلبي الذي لا يصل إلى حدّ النَقض، لكنه يُنقصُ الإيمانَ، ويدل على ضعفٍ في معتقد الولاء والبراء، فهو محبّة الكافر محارباً أو مُسالماً لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها فهذا إثمٌ ولاشك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوباً لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها. ملاحظة مهمة: نحن نتكلم هنا عن مجرد إضمار المحبة للكافر والفاسق لا إظهار مقتضيات هذه المحبة وآثارها. الحال الثالثة: محبة الكافر المُحارب لأجل الدنيا: أي يحبه لأجل نوع أو أنواع من المحبة الدنيوية: الخلُق، والجمال، والقرابة .. إلخ. فهذا لا يحب دينه، وإنما يحب فيه شيئاً تميز به، وظاهر النصوص تدل على تحريم هذا النوع , والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصر وأشهر من أن تُذكر، قال تعالى" قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ". ففي هذا النص بيان قطع المودة بين المؤمنين والكافرين قطعاً كاملاً، لما تبينت عداوتهم لله تعالى ورسوله، وحلول العداوة والبغضاء بينهم، فلا تزول إلا بشرط الإيمان بالله وحده , ولا ينسجم مع هذا الحال محبتهم لشيء من المحاب الدنيوية؛ ففي هذه المحبة الدنيوية رجوع لشيء من المودة، نعم ليست كالمحبة للدين، لكنها في كل حال هي محبة، ولو بالقدر القليل، وهذا يُعارض النص فتحقيق الآية إذن يوجب قطع جميع أنواع المحاب الدينية، والدنيوية مع هذا الصنف المحارب ثم إنه لا حجة لمن يقول أن هذه الآية السابقة منسوخة , نعم قد نسلم ونقول أنها منسوخة جزئياً وإن شئت فقل مخصوصة بقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وهذا في حق الكفار المسالمين والأظهر أنها رخصة ولكن في حق الكفار المحاربين فلا وهي مُحكمة. ومن الأدلة كذلك قوله تعالى "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ " ففي هذا النص بيان الأمر ذاته، فإنه ينفي الإيمان بالله واليوم الآخر عمن يودّ المحادين لله ورسوله، وهم المحاربون على مذهب بعض أهل العلم والذي يدلك على أن الآية المراد بها المحاربين هو سبب نزولها , ولا شك أن المحاربين يدخلون دخولاً أولياً في معنى المحادة لله ورسوله، قال العلماء عن آية المجادلة إنها نزلت فى أبى بكر, وأبى عبيدة بن الجراح, ومصعب بن عمير, وغيرهم من الصحابة - رضوان الله عليهم -أجمعين, ففي موقعة بدر كان عبد الرحمن بن أبى بكر لم يسلم بعد, وكان من فريق الكفار, ورأى

أباه فى المعركة , ولكنه لم يقتله, وبعد أن أسلم والتقى بأبيه, قال له: لقد رأيتك يوم بدر ولكنى لم أقتلك, فرد عليه أبو بكر, وقال له: لو أنى رأيتك لقتلتك, وفى المعركة نفسها قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه , ووجد مصعب بن عمير أخاه قد أسَرَه أحد المسلمين , فلما رآه أخوه استغاث به أن يتوسط له لدى المسلم ليفك أسره, فكانت النتيجة غير متوقعة , وذلك أن مصعباً قال للمسلم: اشدد وثاقه فإن أمه غنية تفديه بمال كثير, فقال له أخوه: أهذه وصيتك بأخيك؟ فرد عليه بقوله: هو أخي دونك, أى أن المسلم أخو مصعب, وليس هو, لأنه مشرك. قال الرازي في تفسيره: واعلم أن الأكثرين اتفقوا على أن قوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد فتح مكة، وتلك القصة معروفة. وعلى هذا فمحبة الكافر المحارب للدين وأهله منهي عنها ولو كانوا قرابة، وقد نصت الآية الكريمة على القرابة هنا؛ لأن سبب الحب موجود فيهم، وهو الصلة والقرابة، والآية تأمر بقطع هذه المودة كلياً، لا جزئياً؛ أي في القليل والكثير، حتى لأجل الدنيا , ويدل على هذا أنهم لو أحبوهم لأجل الدنيا، لحصلت بينهم مودة، ولكانوا بذلك مُخالفين لهذا النص صراحة وهذا الاستدلال على مذهب من يرى أن الموادة الواردة في الآية السابقة هي مرادفة لمعنى المحبة , ثم إن الشارع قد أمر بقطع الصلة بين المؤمن وأرحامه الكفار المحاربين للدين وأهله وأمره بقطع أسباب المحبة الطبيعية كالهدية والزيارة ونحوها وبالتالي فقطع الصلة وأسباب المحبة الطبيعية يستلزم عدم مودتهم على الأقل. وأما الدليل الثالث والرابع هو قوله تعالى" وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ". وقوله "إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". ووجه الدلالة في الآية الأولى أن طعن هؤلاء المحاربين في الدين، وأذاهم للمؤمنين موجب لقتالهم، وإذا حل القتال، فالصلات والمعاملات منقطعة، فلا زواج بحربية، ولا إحسان ببر أو قسط بحربي، حتى لو كانوا آباءً، أو أبناءً، أو إخواناً، أو عشيرة، بحسب مفهوم الآية، ويستثنى من ذلك مطلق الإحسان؛ إذ يجوز في حق الجريح والأسير , إذن فلا مكان للمحبة الدنيوية. وأما وجه الدلالة في الآية الثانية هو أن الله عز وجل حرَم موالاة الكفار المحاربين , ومن المعلوم أن من جملة الموالاة المحبة بغض النظر عن الباعث عليها. وأما الدليل الخامس هو قوله تعالى في حق كفار مكة المحاربين للدين وأهله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ". وفي هذا النص دليل على عدم

جواز إلقاء شيء من المودة إلى من كان سبباً في أذى المسلمين بإخراج ونحوه، ولو كانت المودة للدنيا، وقد نزلت في حاطب لما خابر المشركين بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم، واعتذر بأنه أراد أن يصطنع عندهم يداً يحفظ به ماله، فكانت مودته لهم للدنيا، فنُهي عن ذلك، وحرم عليه. وأما الدليل من السنة فهو الرجل الذي قتل امرأته، لما كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر دمها. وفي هذا النص إشارة إلى قطع حبال المودة، حتى بين الزوجين، إذا صار أحدهما محارباً للدين , فلا شيء أدل على البغضاء، وانتفاء جميع أنواع المحبة الدينية، والدنيوية من القتل وسفك الدم , وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم فعله هذا، فدل على قطع جميع أنواع المودة والمحبة عن الصنف المحارب ومن الأدلة كذلك ما روى أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله).وأخرج ابن جرير ومحمد بن نصر المروزي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) ولا شك أن الكافر المحارب للدين وأهله يدخل دخولاً أولياً في المقصود من البغض في الله. وعلى كل حال فالمحبة المجردة بالقلب للمحارب، لأجل الدنيا، تُنبئ عموماً بضعف ولاء المسلم لدينه؛ إذ كيف يحبه حتى لو للدنيا، وهو يراه يسعى في إذلاله والمسلمين، والطعن والسخرية من دينه؟!. إذن فحكم محبة الكافر المحارب لأجل الدنيا محرمة وإن كانت لا تصل إلى حد الكفر. الحال الرابعة: محبة الكافر غير المحارب لأجل الدنيا. أي محبته لأجل: خلُق، أو قرابة، أو جمال .. ونحو هذا , وحكم هذه المحبة تختلف باختلاف المحبوب وكون المسلم قادراً شرعاً أو قدراً على قطع أسباب محبته أو غير قادر. فعلى هذا يمكن أن نجعل هذا القسم على قسمين: القسم الأول: محبة عموم ومجموع الكفار غير المحاربين لأجل الدنيا. فهذا القسم يجوز محبتهم محبة مجردة بمقتضى الجبلة البشرية والطبع ابتداءً إلا أنه يجب أن يصاحب محبتهم المحبة الطبيعية المُجردة البغض لهم في الدين أو على الأقل عدم مودتهم , وفي حال وقوع المسلم في هذه المحبة فإن عليه مدافعة هذه المحبة وعليه ألا يركن إليها وألا تحمله هذه المحبة إلى معاشرتهم معاشرة الأحباب ولا ينبغي الانبساط إليهم إلا بموجب شرعي كالمداراة لهم أو لتأليف قلوبهم على الإسلام وأما الانبساط إليهم إلى حد يحملهم على إظهار ما هم فيه من المنكرات فهو محرم بلا خلاف , وأما اتخاذهم أولياء أو أخلاء أو بطانة فهو محرم , ثم إن المسلم

إذا رأى من نفسه ميلاً ومحبة طبيعية للكافر بسبب هديته أو إحسانه أو صلته فإنه ينبغي عليه ورعاً في هذه الحال واستحباباً قطع أسباب هذه المودة ولو أدى ذلك إلى رد الهدية وعدم قبولها والامتناع من الزيارة وهجرهم هجراً جميلاً , والأدلة على ما ذهبنا إليه أكثر من أن تُحصر وأشهر من أن تُذكر , بل هذا هو ظاهر ما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب. القسم الثاني: المحبة الطبيعية للكافر المُعيَن غير المحارب الذي يعسر التحرز من مودته لأي سبب شرعي. هذه المحبة الظاهر أن حكمها جائز وهي من قبيل الرخصة ولكن هذه المحبة جائزة بشرط ألا تُقدم على محبة الله ورسوله وألا تحمل على ترك واجب أو فعل محرم علماً بأن المسلم لو أبغض هذا الكافر في الله فلا تثريب عليه بشرط ألا يحمل هذا البغض على ظلم هذا الكافر أو تضييع حقوقه ويجب أن يُلاحظ أن هذه المحبة يجب أن تبقى في حدودها الدنيوية، فلا يُبالغ بها، وهكذا كثير من المباحات لها حدود وضوابط، من لم يضبطها تعرض للوقوع في المحرم وفشل بعض الناس عن الضبط لا يحول الشيء المراد ضبطه محرماً , والدليل على جواز هذه المحبة ما يلي: الدليل الأول: مودة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، دل عليه حرصه وإلحاحه عليه بالإسلام , كما دل عليه شفاعته له في تخفيف العذاب عنه , فلولا المحبة والمودة لقرابته، ونصرته، لما كان هذا منه، فإنه لم يفعل ذلك مع غيره. وقد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في شأن عمه أبي طالب الكافر (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) أي من أحببته لقرابته على أحد التفسيرين للآية وهو الأظهر, وقال الإمام سليمان بن عبد الله - رحمه الله - في كتابه تيسير العزيز الحميد, وقد ثبت في الصحيحين أنها أنزلت في أبي طالب، وقد كان يحوطه وينصره، ويقوم في حقه، ويحبه حباً طبعياً لا حباً شرعياً ا. هـ وبنحوه قال الإمام ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه القول المفيد: ويجوز أن يحبه محبة قرابة، ولا ينافي هذه المحبة الشرعية ا. هـ. بل قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تعليقه على تفسير الجلالين ما يلي: (وقوله "إنك لا تهدي من أحببت" المؤلف قدره بقوله: "هدايته". من أحببت هدايته , والصواب من أحببته , إنك لا تهدي من أحببته. لماذا عدل المؤلف إلى: أحببت هدايته؟ قال: لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يُحب أبا طالب وهو كافر. .كيف؟ فإن المؤمن لا يحب الكافرين ولكننا نقول الحب الطبيعي هذا لا يُنافي الإيمان , الإنسان يحب مثلاً قريبه ولو كان كافراً لكنها محبة طبيعية كما تُحب الأم ولدها؛ نعم المحبة الدينية هذه لا تجوز بين المؤمن والكافر (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أيضاً المؤلف يقول: من أحببت هدايته. في الحقيقة لو أننا حملناها على ما قال المؤلف لكانت هذه تعم كل الناس لأن الرسول يحب أن يهدي كل الناس وليس فقط عمه أبا طالب، لكان من

أحببته هذا يختص بأبي طالب أو غيره من أقارب , أيضاً لو أننا قلنا كما قال المؤلف لكان في الآية إضمار. ما هو الإضمار على تقدير المؤلف؟ إضمار الهداية؛ لأن الأصل في ضمير الصلة أن يعود إلى نفس الصلة، (وإنك لا تهدي من) "مَن" هذا اسم موصول يعود على من؟ على أبي طالب، وعائد الصلة يعود على نفس الصلة. وبهذا تبين أن الراجح "من أحببته" من وجوه ثلاثة: وجه معنوي ووجهان لفظيان. الوجه المعنوي أن الآية نزلت في أبي طالب، ولو أن "من أحببت هدايته" لكانت عامة. الوجهان اللفظيان أننا إذا قدرنا "هدايته" لزم أن يكون في الآية شيئاً محذوفاً، والأصل عدم الحذف. الوجه الثاني من الوجهين اللفظيين أن عائد الصلة يعود إلى موصول، فإذا عاد إلى "مَن" في قوله: (من أحببت) صار المراد من أحببته هو. وأما ما لاحظ المؤلف فيما يظهر لي: أن المؤلف لاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يحب أبا طالب فالجواب عليه أن المحبة نوعان: محبة طبيعة، ومحبة شرعية. فالمحبة الطبيعية لا تنافي المحبة الشرعية، فالشرعية قد تجتمع معها وقد تنفرد؛ فإذا كان المؤمن قريباً لك اجتمع فيه المحبتان، وإذا كان بعيداً منك وجد فيه محبة واحدة وهي الشرعية، فإذا كان قريب وهو غير مؤمن ففيه محبة واحدة وهي المحبة الطبيعية. اهـ). الدليل الثاني: إباحة الشرع زواج العفائف الحرائر من نساء أهل الكتاب فإذا أجاز الشارع نكاح الكتابية وهي كافرة، فذلك يفيد جواز مودتها؛ إذ الزواج متضمن للمودة فما كان للشارع أن يأذن بالزواج منها، ثم يمنع من مودتها وإلا لأصبح هنالك تناقض وكيف يكون في الأمر تناقضٌ أو حرج وقد جاء من عند الله وفي كتابه، وهو القائل) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (أي أن كتابه لا تناقض فيه بحال وقال تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) , فالشارع لم يُحرَج في محبة الزوجة الكتابية لجمالها وحب الاستمتاع بها بل لا بد أن توجد المودة والرحمة التي أشار الله إليها -جل وعلا- في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). والشاهد قوله تعالى: "وجعل بينكم مودة ورحمة" أي بين الزوجين، وهذا عام في كل الأزواج سواءً كانت مسلمة، أم كتابية , ويدل على هذا أيضاً ما قاله الكاساني في بدائع الصنائع " فلا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين " قلتُ ومفهومه أن للزوجة الكتابية حظ من الموالاة الجزئية المقيدة بدليل المقابلة وجواز الزواج منها. الدليل الثالث: قول الله تعالى في حق الوالدين المشركين اللذين يُجاهدا ابنهما على الشرك (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) , ومن المعلوم أن مقتضى البغض في الله أن يبعد المسلم عمن يبغضه ويهجره ولا يُصاحبه ولا يُداخله ولا يُباسطه , والله عز

وجل أمر بمصاحبتهم في الدنيا معروفاً بل أذن بالزواج من الكتابية , وبقاء المسلم مع من يجب بغضه , فيه حرج كما هو معلوم , وهو القائل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) , وإذا تقرر جواز مودة الزوجة الكتابية بناءً على إذن الشارع بالزواج منها والتي أشار الله إليها -جل وعلا- في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإذا تقرر هذا فإن عدم مؤاخذة المسلم في محبة والديه الغير مسلمين من باب أولى لأن المتزوج من الكتابية قد تزوج من تلقاء نفسه ولم يُكرهه أحد على ذلك , أما من ابتُلي بوالدين كافرين أو إخوة كفار فهو مُكره على ذلك ولم يختر والديه وأقاربه وهو أولى بالإعذار من المتزوج للكتابية ويدلك على هذا التقرير هذا الحديث , عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي) ومن المعلوم أن البكاء والشفقة لا يكونان إلا من ميل قلبي جبلي لا يُؤاخذ عليه الإنسان. الدليل الرابع: قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وهو استدلال ضمني بأنَّ الله نهى عن الإحسان إلى المحاربين وأَذِنَ بالصلة والإحسان لمن لم يحارب من الكفار فقال {لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ .... الآية}، وقوله هنا {أَن تَوَلَّوْهُمْ} في وصف المحاربين يدل على أنَّ غير المحاربين له نوع موالاة جائزة بالإحسان والمودة الجزئية ونحو ذلك، وهذا واضح بالمقابلة ثم إن عموم البر والإحسان فيه قدر من المودة لا ينفك عنه , ويدلك على هذا حديث رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صّلى الله عليه وسلّم، فاستفتيت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: إنّ أمي قَدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال "نعم، صلي أمك". والصلة المراد بها في هذا الحديث أنها تكرمها إكرام الولد لوالده إذا قدم عليه، وهذا الإكرام لا يخلو؛ بل لابد فيه من مودة وارتياح وانبساط ومؤانسة ولا يُقال هنا أن صلة الأرحام لا تستلزم المودة وذلك أننا قد نسلم بأن المعاملة الظاهرة للكفار بالبيع والشراء لا تستلزم المودة أما الصلة فهي قدر زائد على المعاملة الظاهرة. الدليل الخامس: حكمة الشارع وأن الشرع يُصدق بعضه بعضاً ولا يتناقض وذلك أن الشارع لم يقطع أسباب المودة الطبيعية كلياً للكافر المسالم للدين وأهله بل شرع صلة الأرحام ولو كانوا كفاراً وقيل رخص فيها ولا يُمكن أن يُرخص في صلة الأرحام ثم يُحرَج الشارع من محبتهم المحبة الطبيعية الجبلية إذ من المعلوم أنََ إعطاء الوسيلة حكم التوسل إليه دليل على حكمة الباري وعلمه بخصائص النفس البشرية لأنه لو حرم الشيء وأباح الوسائل الموصلة إليه غالباً لوقع الناس في حرج عظيم فما بالك لو كان تعاطي هذه الوسائل واجب كوجوب بر الوالدين المشركين وصحبتهما في الدنيا معروفاً , قال تعالى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). مسألة: قد تبين لنا من هذا التقرير وهو جواز المحبة الطبيعية للكافر المعين المسالم الذي لا يجوز هجره هجراً جميلاً ولا يجوز قطع أسباب مودته لأي سبب شرعي فماذا عن الذين يُكره هجرهم كالأرحام الكفار؟ الجواب أن أهل العلم اختلفوا في هذه المسألة فمنهم من يُغلَب جانب بغض الأرحام الكفار في الله أو على الأقل عدم مودتهم فيرى وجوب هجر الأرحام الكفار إذا آنس المسلم من نفسه ميلاً لهم ومحبة ويرى وجوب قطع أسباب هذه المودة ولو أدى إلى عدم قبول هداياهم وعدم زيارتهم ومقاطعتهم وهجرهم هجراً جميلاً ونحو ذلك. وهناك من أهل العلم من يُغلب جانب صلة الأرحام ولو أدى إلى محبتهم بمقتضى الطبع , إلا أن أهل العلم اتفقوا جميعاً على أن كل بر وصلة بالمعروف ظاهرها الرحمة والإحسان ولا تستلزم مودتهم فهي مشروعة , وليفعل المسلم ما هو أصلح لقلبه. وهنا أمر مهم: ليس في هذا التقرير دعوة لمحبة الكافر المعين غير المحارب , كلا، بل تقرير أن من وقع في هذه المحبة لمن يعسر هجره وقطع أسباب مودته لأي سبب شرعي من الأسباب: (زوجة، أبوين، أبناء، إخوة، جار في العمل، مصلحة خاصة). فما وقع في أمر مكفر؛ ما دامت محبة ليست لكفره , ولا في محرم دون الكفر؛ ما دام أنه لا يساوي فيها الكافر بالمسلم التقي الصالح ولا يعظمه على الوجه المنهي عنه. بل كفر في حالة واحدة: إذا كانت لأجل كفره. ومحرم في حالتين: الأولى: إذا كانت لأجل معصية دون الكفر. الثانية: إذا كانت لأجل الدنيا مطلقاً أي بمعنى أن المسلم له قدرة من حيث الشرع والقدر بقطع أسباب المودة وهجره ثم لا يهجره هجراً جميلاً. ومباح في حالة واحدة: إذا كانت لأجل الدنيا، في حق غير المحارب المعين الذي يعسر هجره أو يُكره لأي سبب شرعي. وهنا مسألة: ما ضابط هذه الرخصة المذكورة؟ ضابط هذه الرخصة هو ما دل الدليل على استثنائه كالزوجة الكتابية والوالدين ومن أحسن إليك , علماً بأن الأدلة وإن كانت خاصة حق هؤلاء إلا أنها تتناول كل من كان في معناهم. وهنا تنبيه مهم وهو إذا مات هذا الكافر المعين يجب علينا أن نتبرأ منه تبرؤاً مطلقاً كما تبرأ إبراهيم من أبيه، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم} [التوبة:114] أي: لما مات على الكفر وتبين عداوته لله عز وجل تبرأ منه، ولذا لم يأذن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لأمه، ولم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن يستمر في الاستغفار لعمه، بل قد استغفر له فلم يقبل استغفاره، مع أنه كان يحوطه ويحميه، ولكن كما قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ

أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] , والذي يدلك على أن هذه الرخصة لا تستمر مطلقاً قوله تعالى عن موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه كما تقدم , ثم إن هذه الرخصة مربوطة بسبب من الأسباب وهو التخفيف الذي يتبع التشريع وكما تقرر في القواعد الفقهية أن ما لا يتحرز عنه فهو عفو، ولا ينافي هذا زوال الرخصة بزوال سببها. الردود: الإشكال الأول: بالنسبة لمن قال: أن الاستدلال بمفهوم قوله تعالىِ}:إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {على جواز الموالاة , أن ثمّة منطوق يُعارض هذا المفهوم في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وكذلك قوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ففي هذه الآية نهى الله عز وجل عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وهذا عام في كل يهودي ونصراني ليس له مخصص، وغير اليهود والنصارى أولى بذلك، سواء قاتلنا أولم يقاتلنا فلا تجوز موالاتهم، ومما يدل على هذا العموم أنه لمّا عين أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- كاتباً نصرانياً أنكر عليه عمر رضي الله عنه، وتلا هذه الآية السابقة. فالجواب على ذلك: أن قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هو دليل على قطع الولاية الشاملة لجميع مفردات الولاية من تعظيم وإرث وخُلَة ومتابعة بين المؤمنين والكافرين ولو كانوا أقرباء , وقيل إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعاً في سكن البلاد والكفر ويدل على ذلك سبب النزول وهو الأظهر ومما يدل أيضاً على أن المراد ليس مُطلق الولاية هو قوله تعالى بعد الآية السابقة} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {فعدم ذكر الأبناء والأزواج في آية النهي عن الولاية ; لأن من شأن الإنسان أن يتابع في السكن ويتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ دون من هو دونه كابنه وزوجه. ومما يُستدل به أيضاً لصالح هذا المذهب هو قوله تعالى في الوالدين المشركين: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ثم قال أيضاً في موضع آخر عن الوالدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) , فكأن الموالاة في الآية السابقة هي المتابعة والموافقة والمناصرة على الباطل وليست مجرد المحبة بدليل قوله تعالى في الآية

التي قبلها: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) فكأن عدم اتباع سبيل من أناب إلى الله واتباع سبيل من أعرض عن الله , هو معنى الولاية الواردة في قوله (لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ). وعلى هذا يكون المراد بالولاية في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ .... الآية). المراد بها والله أعلم هي المتابعة في سكن بلاد الكفر مع وجوب الهجرة المتعينة أو الولاية الشاملة لجميع مفرداتها من نصرة على الباطل ونحوها , وهذا يكون من إطلاق الكل وإرادة البعض ومثل هذا ما قاله الشوكاني في نيل الأوطار " وقال الخطابي أيضًا إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال " وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا " ... انتهى). قلتُ المراد هنا بنفي الولاية هي نفي ولاية الميراث والنصرة فقط وليس نفي الموالاة بينهم مُطلقاً كما قرر ذلك أهل العلم , وبدليل قوله سبحانه بعدها "وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ". ثم إن الموالاة وإن كانت فرع عن المحبة وهي من لوازمها , إلا أن المولاة أشمل من الحب فليس كل من تحبه يعني أنك تواليه بل الموالاة هي قدر زائد على المحبة فالولاء والموالاة يعني المحبة المفضية إلى الموافقة والنصرة والمتابعة على الدين , ولا شك أن الموالاة تختلف معانيها حسب السياق , إذ أن السياق أحياناً يبين المعنى ويعينه، وأنت ترى أحياناً كلمة واحدة لها معنيان متضادان يتعين المراد منهما بواسطة السياق كما هو معروف في كلمات الأضداد في اللغة , وعليه فالمُراد بالولاء في الآية الني يحتج بها المُخالف هو الولاء التام المطلق، لا مُطلق الولاء. وأما بالنسبة لقوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {المراد بالولاية هنا ولاية الحرب والنصرة ويدل على ذلك سبب نزول الآية. ثم إنه على فرض أن الآية المراد بها النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ومحبوبين وهذا قد نُسلم به على وجه العموم إلا أن هذه الآية لا يُمكن أن تكون على إطلاقها وأن تكون عامة بلا استثناءات بل أغلب النصوص العامة في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لا تسلم من تخصيص واستثناء حتى قال بعض علماء أصول الفقه إنه لم يكن هناك من نص عام في الكتاب والسنة إلا وقد خُصص إلا قوله تعالى "والله بكل شيء عليم" وهذا على سبيل المبالغة منهم , ثم إن مما يدل على أن هذه الآية ليست على إطلاقها هو أن الله تعالى الذي نهى المسلمين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، هو الذي أحل نساء أهل الكتاب للمسلمين، وهو يعلم تعالى ما يترتب على ذلك من مودة زوجية وقد أشار إليها في كتابه (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) , وهذا الكتاب العزيز ما أُنزل ليُضرب بعضه بعضاً، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضاً.

ثم اعلم أخي أن الأصل حملُ الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة على الولاء المطلق، وهو الولاءُ التام الكامل، لا على مُطلق الولاء ما لم يقترن به ما يدلّ على خلاف ذلك. الإشكال الثاني: بالنسبة لمن قال: أن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {فيه حصر الموالاة في الله ورسوله والمؤمنين، وغير المؤمنين خارجون عن هذا الحصر قطعاً، فلا تجوز موالاتهم بأي حال. فالجواب على ذلك: أن المراد بالولاية هنا هي الولاية المطلقة وهي واجبة لمن تجب موالاته مطلقاً وهو المؤمن المقيم للصلاة المؤتي للزكاة وأما ما قررناه فهو موالاة جزئية وليست مطلقة. الإشكال الثالث: بالنسبة لمن قال: أنّ قولكم مخالف لظاهر الآيات التي فيها البراءة من الكافرين، ومنها قوله تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}. ولو كان مذهبكم صحيح لقال تعالى "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تكفوا عن حربنا" بدل قوله " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " فانظر جعل الإيمان بالله وحده غاية ينقطع عندها وجوب العداوة والبغضاء , فالجواب على ذلك: أن الآية الثانية (لا ينهاكم .. ) بينت الآية الأولى المُجملة (قد كانت لكم أسوة) وهي أنها في الكافر الحربي. بمعنى أن الآية الأولى (قد كانت لكم أسوة .. ) وردت في صنف الكفار المحاربين للرسل الذين جاهروا بالعداوة وهو حال قوم إبراهيم بل انظر إلى حال أبيه معه كيف طرده فكيف بحال الآخرين معه؟ واقرأ بداية السورة يتضح لك أن الآية وردت في هذا السياق. فهؤلاء محاربون أظهروا العداوة والبغضاء .. فجاءت الآية في هذا السياق وبالتالي فإن الكفار المسالمين لم يكونوا داخلين في معنى الآية (قد كانت لكم أسوة حسنة) أصلاً , بمعنى أن الآية الكريمة (قد كانت لكم أسوة ... ) ليست عامة في جميع أصناف الكفار بإطلاق .. والسياق يدل على ذلك وواقع قوم إبراهيم يدل على ذلك .. ولو سلمنا جدلاً أن الآية مُطلقة والمقصود بها جميع الكفار المحارب منهم والمسالم فإن الآية التي بعدها وهي (لا ينهاكم .. ) وغيرها من الأدلة الدالة على بر الكفار المسالمين تكون مخصصة لآية (قد كانت لكم أسوة ... ) أو ناسخة لها جزئياً. وبهذا التقرير نرد على من يقول أن هذه الآية مطلقة في حق جميع الكفار بلا استثناء , يُضاف إلى ما تقدم: ما ذكره البغوي رحمه الله (قال مقاتل: فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة. ويعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم) أي من كفار مكة (مودة) ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم (والله قدير والله غفور رحيم) ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال: (لا

ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) .... انتهى) قلتُ بهذه الرخصة تجتمع الآيتين اللتين فيهما إشكال آية الأسوة وآية الإذن ببر لكفار المسالمين , وبغض النظر عن كون الرخصة واجبة أم مستحبة أم مباحة وقد تختلف من حال إلى حال فالأخذ بها مع الوالدين واجب ومع من يُرجى إسلامه كذلك واجبة باعتبار الواجب لغيره ومع الأقارب مستحب. وبهذا يتبين أيضاً خطأ من قال أن الجمع بين إظهار العداوة واجب مع كل كافر وأنه لا ينافي صحبة الوالدين بالمعروف بل وحتى الزواج من الكتابية. الإشكال الرابع: بالنسبة لمن قال: أن تقرير مذهبكم يتنافى مع صريح قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية). فالجواب على ذلك: أولاً لا بد لنا من بيان معنى المحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -: والذي يظهر أن العلماء اختلفوا في معنى المحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - على قسمين: القسم الأول: يرى أن المحادة تكون بمجرد المخالفة بأن يكون في حدٍّ والطرف الآخر في حدٍّ آخر، والحد هو الطرف وعلى هذا فكل الكفار داخلون فيمن حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , واستدل أصحاب هذا المذهب بأن الله تعالى نعت المنافقين الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يُحادون الله ورسوله فلا يلزم من المحادة أن يكون الكافر محارباً للدين وأهله فقط بل يشمل جميع الكفار عموماً حيث قال تعالى ذكره عنهم:} وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}. القسم الثاني: يرى أن المحادة ليست على معنى واحد، بل هي مراتب متفاوتة، تتراوح بين مجرد المخالفة في الدين وبين المحاربة للدين وأهله , وهذه المحادة يتعين المراد منها من خلال السياق وسبب النزول ونحو ذلك , وسياق آية المجادلة يدل على أن المحادة هنا هي أمر زائد على مجرد الكفر بدليل سبب النزول والذي وإن كان ضعيف الإسناد إلا أن أهل التفسير المحققين تلقوه بالقبول ناهيك عن أن السياق أيضاً يدل على أنها في المحاربين، وعليه فالمحادون لله ولرسوله في آية المجادلة بالتحديد هم الكفار المحاربون لله ولرسوله، الصادون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء بخلاف المسالمين لنا من أهل الذمة وغيرهم وقد صرح القاسمي في تفسيره محاسن التأويل بهذا في تفسيره لآية المجادلة. وبناءً على ما تقدم سيكون الجواب على افتراض كلا الوجهين: وعليه فنقول لو كان المراد بالمُحاد في آية المجادلة هو المحارب فهنا لا إشكال أما لو سلمنا بأن المراد من المحادة في آية المجادلة هي مجرد الكفر فالجواب على هذا الإشكال من وجوه:

الوجه الأول: أن يُقال أن المراد من آية المجادلة هو العموم , والعام لا يمنع من التخصيص بالنصوص الأخرى مثل إباحة الزوجة الكتابية ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب. الوجه الثاني: أن يُقال أن المراد بالمودة الواردة في آية المجادلة ليست هي مرادفة للمحبة بل هي قدر زائد على مجرد المحبة , فهنالك فرق بين المحبة والمودة كما ذكره بعض اللغويين فالمودة أخص من المحبة حيث أن المودة هي الحب الكثير , والحب المجرد عن المودة يكون أقل من المودة بدرجات متفاوتة وممن ذهب هذا المذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وإن كان له رأي آخر في ذات المسألة فقال الشيخ رحمه الله في شرحه لكتاب الجنائز في بلوغ المرام تعليقاً على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعطني قميصك أكفنه فيه" فأعطاه إياه، متفق عليه. قال ما نصه (} أن المودة للقرابة لا تُعد من المودة في الدين فإن قال قائل هذا يُعارض قوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .... الآية) , فالجواب أن الموادة شيء والمحبة الطبيعية التي مقتضاها القرابة شيء آخر فالمواد هو الذي يسعى في طلب المودة أكثر مما تقتضيه الفطرة ويسعى إلى رضاهم بكل وسيلة ويدلك على هذا قوله تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) والأبناء والآباء في هذه الآية عام يتناول المسلمين والكفار فلذلك تقديم محبة غير الله على الله ورسوله هو المحرم وعلى هذا فضابط المودة المحرمة للكفار هو تقديم محبتهم على محبة الله ورسوله ... انتهى {المصدر شرحه لكتاب بلوغ المرام كتاب الجنائز بداية الشريط الثالث. ومما يستدل به لمن قال عن قوله تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ ... الآية) عام يتناول المسلمين والكفار على حد سواء , هو أن هذه الآية جاءت عقب قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فكأنها جاءت آية (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ .. الآية) مفسرة لمعنى الولاية المنهي عنها في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ ... الآية). الوجه الثالث: أن يُقال أن المراد بالمودة الواردة في آية المجادلة هي المودة الدينية كما هو المراد قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» أي المرء مع من أحب ديناً , وفي ذلك قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في" إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد ". (وأنزل الله في أبي طالب (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)، (إِنَّكَ) أيها الرسول، (لَا تَهْدِي) لا تملك هداية (مَنْ أَحْبَبْتَ) من أقاربك وعمِّك، والمراد بالمحبة هنا: المحبة الطبيعية، ليست المحبة الدينية، فالمحبة الدينية لا تجوز للمشرك ولو كان أقرب الناس (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)

فالمودة الدينية لا تجوز، أما الحب الطبيعي فهذا لا يدخل في الأمور الدينية ... انتهى). وقال محمد رشيد رضا رحمه الله (الله عز وجل لم ينه المسلمين، بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله، وجهاد ما في سبيله ; لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح كذلك نهاهم في سورة المجادلة عن موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم إذا كانت لأجل المحادة، كما يفيده ترتيب النهي على فعلها، فإن المودة هي المعاملة الحبية، والمحادة شدة العداوة والبغضاء، فاشتراك المؤمن المحب لله ورسوله مع المحاد لله ولرسوله في المودة المرتبة على صفتيهما جمع بين الضدين، فهو في معنى موالاتهم بل أخص منها ... انتهى). ومراده رحمه الله بكلامه أن المودة المنهي عنها إنها هي المودة لأجل ما هم عليه من المحادة لله ورسوله، فمثل هذه المودة لا تجتمع مع الإيمان، فلا يمكن أن يجتمع في قلب رجل واحد محبة الله ورسوله، مع محبة من يحاد الله ورسوله، بحيث يكون الباعث على هذه المحبة هو هذه المحادة، فهذان ضدان لا يجتمعان، بخلاف الجمع بين محبة الله ورسوله والمؤمنين محبة دينية شرعية، وبين محبة أعداء الله ورسوله والمؤمنين محبة جبلية بشرية. وعلى هذا يكون مراد الآية كالتالي "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لمحادتهم لله ورسوله كما يفيده ترتيب النهي على فعلها , والحكم المُعلل إذا قُرن بوصف يصلح للتعليل فهو العلة مثل قوله تعالى " إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ " أي إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ لبرهم وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لفجورهم. الإشكال الخامس: بالنسبة لمن قال: أن ما قررناه ينافي ويُعارض ما روى أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). ومارواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله) ومحبة الكافر المعين تُعارض ما ورد عن أسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري، 4230] فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء". ولما بعث نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافوا أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم) [أحمد: 14966] فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم. الجواب على ذلك: أن ما قررناه لا يعني خلو قلب المؤمن من البغض في الله فهو لا يزال يبغض جميع الأعمال المخالفة للشرع ثم إن هذه الأحاديث دليل على وجوب بغض عموم الكفار

وهذا خارج محل النزاع , أو يُقال أن هذه النص عامة ولا يمنع من تخصيصها بنصوص أخرى. وأما الرد على من استدل على وجوب بغض أعيان الكفار مطلقاً بلا استثناء بحديث أسماء بنت عميس ((كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري، 4230] وبحادثة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مع اليهود حين أراد خرص الثمار, فالجواب عليه أن في هذا دليل على وجوب بغض عموم الكفار في الله كما تقدم وهذه متفق عليها , أو يُقال أن ما تقدم فيه دليل على جواز بغض الكافر المسالم في الله ومشروعيته لا وجوبه. الإشكال السادس: بالنسبة لمن حاول التوفيق بين محبة الكافر محبة طبيعية وبغضه لدينه في ذات الوقت فالجواب على ذلك: أن هذا مجرد جمع نظري والواقع يكذبه , وأن المشكلة ليست في مجرد الجمع النظري بين المحبة الطبيعية والبغض الديني وإنما المشكلة هي في الجمع بين موجب الأمرين فمن موجبات البغض الديني عدم البدء بالسلام مثلاً وعدم المخالطة إلا إذا طمع في إسلام الكافر وإظهار البغض له ومقتضى البغض في الله أن يبعدوا عنهم ويهجروهم , وموجبات المحبة الطبيعية هي المخالطة والانجذاب والتبسط وهي موجبات تتعارض مع موجبات البغض في الله وإن قلنا أن البغض للدين والمحبة لغير الدين. ثم اعلم أن البغض والمحبة قد يجتمعان حينما يكون محل البغض يختلف عن محل المحبة فقد تحب أعمال الإنسان الموافقة للشرع وفي ذات الوقت تُبغض أعماله المخالفة للشرع وذلك لانفكاك الجهة لكن محبة ذات الشخص المعينة وبغضها في ذات الوقت يستحيل عقلاً وهو ممتنع بل يجب أن يكون الغالب عليه المحبة أو البغض , وعليه فمن قال إنه يحب الزوجة الكتابية حباً طبعياً ويبغضها لأجل كفرها فمحصل قوله: أن الله يكلف عباده بما لا يطاق، بل يكلف عبادة بالمستحيل؛ لأن الحب يترتب عليه القرب والتلذذ، والبغض يترتب عليه البعد والنفرة، ويستحيل الجمع بين هذين العملين المتناقضين؟! , وقد ورد في "حاشية العدوي" (1/ 273): "قَوْلُهُ: (وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُك) أَيْ: نَطْرَحُ مَوَدَّةَ الْعَابِدِ لِغَيْرِك، وَلا نُحِبُّ دِينَهُ وَلا نَمِيلُ إلَيْهِ. وَلا يُعْتَرَضُ هَذَا بِإِبَاحَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ لأَنَّ فِي تَزَوُّجِهَا مَيْلًا لَهَا لأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُرَادُ هُوَ بُغْضُ الدِّينِ اهـ. والخطأ الذي يقع فيه من قال بمثل هذا أنه لم يتصور أن الكفر وصف قائم بالذات، مثله مثل كل وصف مكروه كوصف البخل، أو الكذب، أو الفسق أو غيره، فالكره متوجه لذلك الوصف وليس للذات نفسها، فأنت تحب أباك حباً فطرياً لكن تكره فيه صفة البخل، أو صفة الفسق، أو صفة الكفر، وتحب زوجتك المسلمة لكن تكره فيها صفة سلاطة اللسان مثلاً، ويُقال مثل هذا في الزوجة الكافرة فأنت تحب زوجتك النصرانية وتكره فيها صفة الكفر لكن يستحيل أن يتوجه الحب والبغض للذات نفسها كما تقدم؛ فيستحيل أن تحب أباك وتبغضه في الوقت نفسه، ومثله أن تحب زوجتك وتبغضها وتنفر منها , وهنا سؤال للمعترض: هل يمكن الجمع بين الإرادتين المتناقضتين في شخص واحد؟

الجواب: بالطبع لا يُمكن وهو مستحيل لأن المتناقضين يرفع أحدهما الآخر فتحقق أحدهما ينافي تحقق الآخر، ومثله حب ذات المرأة، وكرهها يستحيل الجمع بينهما , لأنه إذا تحققت إحدى الإرادتين ارتفعت الأخرى بدليل أن القلب إذا أبغض أمر ما من وجه وأحبه من وجه آخر فلا بد من غلبة أحدهما على الآخر فلا يمكن أن يجتمعا إلا بحالة من الصراع النفسي والحرج فلذلك إذا تعاطى المريض الدواء دل ذلك على أنه ترجح لديه محبته وإذا جاهد المسلم دل ذلك على ترجيحه لمحبة الجهاد ومرضاة ربه ولكن المسلم المتزوج للكتابية كيف يرجح؟ إن رجح بغضها فلا يمكن أن يُبقيها في عصمته وسيطلقها لا محالة وإن أحبها سيعني أنه لن يبغض ذاتها ولو دينياً بل يبغض أعمالها المخالفة للشرع. وأما من استدل على إمكان الجمع بين بغض الزوجة الكافرة وحبها بقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال ((ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس، وحب شرعي لما فيه من الثواب العظيم، كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة:216] وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [التوبة:92]. فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً، ثم تفيض عيونهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاًَ وديانة!)) انتهى. فالجواب أن هذه الآية فيها الرد على مذهبهم، فهي على عكس مراد من استشهد بها تماماً؛ وذلك أن هذه الآية تقرر أن أصل الجهاد محبوب لنفس المؤمن لكن صفة المشقة فيه مكروهة، تماماً كما أن الزوجة الكافرة قد تكون محبوبة لزوجها المؤمن لكن صفة الكفر فيها مكروهة، فالكره الوارد في آية الجهاد متوجه لصفة المشقة لا للجهاد نفسه، ولهذا لو قيل للمؤمن: إنك ستجاهد من دون مشقة لكان محبوباً له من كل وجه. وهذه الآية من أقوى الأدلة القاطعة على استحالة الجمع بين الحب والبغض لذات الشيء بل الحب متوجه للذات، والبغض متوجه لصفة من صفات الذات، كما قررنا أن من قال إن المسلم يحب زوجته الكافرة من وجه ويكرهها من وجه أنه تكليف بما لا يطاق. وقول المعترض ((إن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض، فهو محبوب من وجه مبغوض من وجه، وهذا مثال يكرره أهل العلم كثيراً للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد.)) قلنا: لا يسلم له هذا، بل ذات الدواء مكروه للمريض أصلاً، ومحبته إنما لصفة من صفات الدواء وهي ما فيه من شفاء. ومثله قول المعترض ((وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف -عليه السلام- صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً، كما قال تعالى عن يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33]))،

وهذا أيضا دليل عليهم فذات السجن مكروه ليوسف، ومحبته ليست للسجن بل لأمر خارج السجن وهو البعد عن المرأة المغوية، فذات السجن مكروهة ليوسف من كل وجه، ولولا ما تعلق به من مصلحة ليست من السجن أصلاً لم يحبه. ومن الأدلة أيضاً على استحالة جمع بغض الزوجة الكافرة ومحبتها في القلب وأن من قرر ذلك فقد قرر أن الله يكلف بالمستحيل: الدليل الأول: من الواجب على الزوج العدل بين زوجاته، ومن لم يعدل فهو آثم وظالم ومرتكب لكبيرة من الكبائر، ولهذا قال تعالى ((فإن لم تستطيعوا أن تعدلوا فواحدة))، ومع هذا فقد جاء في الحديث ((عَنْ عَائِشَة " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِم بَيْن نِسَائِهِ فَيَعْدِل وَيَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِك، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِك وَلَا أَمْلِك " قَالَ التِّرْمِذِيّ يَعْنِي بِهِ الْحُبّ وَالْمَوَدَّة، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَهْل الْعِلْم. فالحديث بجموع طرقه حسن لغيره، وعليه فالرجل المسلم قد يحب إحدى زوجتيه أكثر من الأخرى، والشاهد من ذلك كله هو أننا نقرر أن أمر الحب والبغض أمر بيد الله لا طاقة للعبد في التحكم به، ولا يكلف الله عباده ما لا يطيقون، ولهذا لا يعاقب العبد على ميله القلبي لبعض زوجاته مع أنه مأمور شرعاً بالعدل بينهن، ومثله المرأة الكافرة لا يكلف الله زوجها ببغضها وهو أمر لا طاقة له به، بل البغض متوجه لصفة الكفر فيها لا لها، ولو كان يستطيع التحكم بذلك البغض لوجب أن يعدل بين زوجاته في الحب لأن ترك العدل في المعاملة والجور كبيرة من الكبائر. الدليل الثاني: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)) رواه مسلم قوله ((لايفرك)) أي: لا يبغض، والشاهد من الحديث أنه لا يمكن الجمع بين الحب والبغض، ولهذا نص على بغض خلق منها، وأرشده إلى الاكتفاء بكره هذا الخلق، والانتباه إلى الأخلاق الحسنة الأخرى فيها، كل ذلك خوفاً من أن يتعدى الأمر إلى بغض المرأة لأنه لا يمكن أن يبغضها ويحبها في وقت واحد. الإشكال السابع: بالنسبة لمن قال: أن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح والبر والإحسان من أفعال الجوارح لا من أفعال القلوب , فالجواب على ذلك: أن هذا الكلام يستقيم لو لم يكن هناك علاقة تلازم بين ما يقع في القلب وبين ما يقع في الجوارح بل إن بينهما تلازماً في كثير من الأحيان يصعب انفكاكه. إشكال أخير: قد يقول قائل إنك قد استندت في كثير من استدلالاتك السابقة إلى الإحالة على سبب النزول ومن المعلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالجواب على ذلك: أن مقولة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب مسألة خلافية وليست من مسائل الإجماع أما إجماع العلماء المحققين هو ما قاله ابن تيمية رحمه الله (والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا، فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا

حكم معاملة الكافر بما يدل على مودات القلوب

يكون العموم فيها بحسب اللفظ ... انتهى) , ولبيان مزيد من الفائدة أنقل ما قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعليقاً على ما قاله ابن تيمية رحمه الله: (وهذا القول هو الصحيح: أنها تعم ذلك الشخص؛ لأنها تختص بنوع ذلك الشخص أو تعم نوع ذلك الشخص فقط. مثال ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصيام في السفر).فهذا اللفظ عام، لكن سببه خاص بالنوع وخاص بالشخص، فهل نخصصه بذلك الشخص؟ يقول شيخ الإسلام: ما أحد قاله من المسلمين، وهل نخصصه بذلك النوع؟ يمكن ذلك إذا علمنا أن العلة والسبب في ذلك النوع لا يتعداه لغيره فإننا نخصصه بذلك النوع، وإذا أخذنا بالعموم في حديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، قلنا: إن الصيام في السفر ليس من البر؛ سواء شق على الإنسان أم لم يشق. وإذا خصصناه بالشخص قلنا ليس من البر باعتبار ذلك الرجل الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام عليه زحام ظللاً عليه، كأنه قال ليس صومه من البر وهذا أيضاً خطأ لا أحد يقوله من المسلمين مثل ما قال الشيخ، وإذا قلنا: إنه خاص بالنوع، قلنا: ليس من البر الصيام في السفر فيمن حاله كحال ذلك الشخص يشق عليه، فإنه ليس من البر أن يصوم في السفر بخلاف من لا يشق، وهذا القول الوسط هو الصواب، وأنه يجب أن يعدى الحكم الوارد على سبب معين إلي نوع ذلك المعين فقط لا إلى العموم، ولا أن يختص بنفس ذلك الشخص. وهنا نشير إلي أن ربطه بعلته أولى من التعميم؛ لأننا لو عممناه لاحتجنا إلي دليل على التخصيص، لكن كأنه من العام الذي أريد به الخصوص. وفرق بين قوله: (ليس من البر) وبين قول: (البر ألا يصوم)، لأنه قول قال: (ليس من البر) فهو من الإثم. والرخصة لا نؤثم من لم يفعلها، اللهم إلا إذا اعتقد في نفسه الاستغناء عن رخصة الله له فهذا شئ آخر، فيكون آثماً من هذا الوجه، وأما من قال: الحمد لله الذي رخص لي لكن أنا قوى ونشيط، فهذا غير. فورود الحديث ونزول الآية هذا هو المسبب. فالآية أو الحديث قد يكون معناها خفياً إلا إذا عرفت سبب النزول .... انتهى). وعلى هذا فتحقيق القول في هذه القاعدة أن نقول "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا إن وجد الدليل الذي يدل على تخصيص العموم بمثل حالة السبب". وعلى هذا يتيبن لنا أن البراء من المشركين ليس على مرتبة واحدة، بل هو مراتب متفاوتة، يتراوح بين قتالهم وهو أعلاها وبين بغض عملهم وهو أدناها، وبينهما مراتب كثيرة , وهذه المراتب تختلف بحسب اختلاف أصناف المشركين وحالهم فمودة الزوجة الكتابية أو الوالدين المشركين أو من كان في معناهم لا يتنافى مع بغض الكفر الذي هم فيه وقد قال ربُّنا عز وجل حكاية عن بعض أنبيائه: {إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ القَالِين} وقال " فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ " فأمره بالبراءة من عملهم القبيح لا منهم وإن كان هذا ليس على إطلاقه. أما محبَّة دين الزوجة الكتابية المحرَّف والميل إليه والإعجاب به فحرام شرعاً , كما علَّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن نقول: (ونخلع

شبهات وإشكالات

ونترك من يفجرك) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي, أي نطرح مودَّة العابد لغيرك, ولا نحبُّ سلوكه واعتقاده. وعليه فما تقدم إنما هو أدلة تُخرج الزوجة الكتابية والوالدين ونحوهما مما ورد فيه الدليل من عدم وجوب البغض لذات الشخص وإنما يُبغض دينه وعمله. حكم معاملة الكافر بما يدل على مودات القلوب: يجوز معاملة الكافر المعين بما يدل على مودات القلوب إذا كان ممن تجوز محبته طبيعياً ولا يجب بغض ذاته في الله , وأما الذي يجب بغضه في الله فلا يجوز معاملته بما يدل على مودات القلوب إلا على سبيل المداراة أو الدعوة إلى الله ولو كنت تحبه طبيعياً كما قال تعالى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) فالله عز وجل أقر هنا بوجود الإعجاب من غير نكير , ولكن لم يُقر الله الانسياق وراء هذا الإعجاب. وللعلم لا خلاف على اجتماع ما جُبلت عليه النفس مع ما وجب عليها شرعاً بنقيضه , ولكن الخلاف هل يجوز إلقاء الحب الجبلي لهذا المحبوب أو ذاك , مع النهي عن إلقاء المودة والمحبة للكافر؟ والشرع رخص لنا في البر والإحسان ولم يرخص في إلقاء المودة لعموم الكفار كما نص على ذلك بقوله تعالى (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) وثرب على المسلمين عندما ألقوا بالمحبة لأعداء الله وإن كانت لغير دينهم , ونص جل وعز على تعبير المحبة فقال جل شأنه (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (ومن المؤكد أن محبتهم ليست لدينهم , فالنصوص متكاثرة ومتظافرة في النهي عن إلقاء المودة والمحبة لعموم الكفار ولو كانت طبيعية. شبهات وإشكالات: الإشكال الأول: هل اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب ناصراً له ومعيناً يتنافى مع موالاة الكفار، أو مع تحريم موالاة الكفار؟ الجواب: كلا , لأن الموالاة المحرمة التي فيها محبة لهم، ومحبة لدينهم، ورضاً بباطلهم، وتنازل عن شيء من ديننا، أما أن الإنسان يُقيض له قريب مشرك كافر يُدافع عنه، فهذا تأييد من الله. الإشكال الثاني: هل جواز الزواج من الكتابية المحصنة المتضمن محبتها بمقتضى الطبع ينافي حرمة موالاة الكفار وقوله تعالى (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)؟ يرى القائلون بجواز نكاح نساء أهل الكتاب، إن نكاحهن من قبل المسلم الملتزم بالإسلام قولاً وعملاً، لا يترتب عليه موالاة للكفار بالصورة المنهي عنها شرعًا وذلك لعدة أسباب هي كما يلي: أولاً: أن الآية التي نهت عن موآدّة الكفار آية عامة , ولم يصرح فيها بالنص على عدم موآدّة الزوجة غير المسلمة.

الاشكال الثالث

ثانياً: "إن الزوجة الكتابية هي بمثابة ذوي القرابة من غير المسلمين كالوالدين ونحوهما, فإن الله عز وجل أمر بمصاحبة الوالدين إذا كان غير مسلمين بالمعروف قال تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} (سورة لقمان آية 15). ثالثاً: إن البر بالكفار سواء كانوا من القرابة مثل الوالدين والزوجة أو من غيرهم من الكفار لا يعني ذلك مودتهم في القلب من كل وجه ولا يعني ذلك أن يتنازل المسلم عن شيء من أحكام الإسلام طلباً لرضاهم وودّهم. رابعاً: أن المودة بمعنى المحبة , والمحبة نوعان محبة طبيعية كمحبة الإنسان لزوجته وولده وماله ومحبة دينية, كمحبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله, ورسوله من الأعمال, والأقوال, والأشخاص , ولا تلازم بين المحبتين بمعنى: أن المحبة الطبيعية قد تكون مع بغض ديني, كمحبة الوالدين المشركين فإنه يجب بغضهما في الله, ولا ينافي ذلك محبتهما بمقتضى الطبيعة , فإن الإنسان مجبول على حب والديه, وقريبه , كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب عمه لقرابته مع كفره قال الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (سورة القصص 56). ومن هذا الجنس محبة الزوجة الكتابية فإنه يجب بغضها لكفرها بغضاً دينياً, ولا يمنع ذلك من محبتها المحبة التي تكون بين الرجل وزوجه , فتكون محبوبة من وجه, ومبغوضة من وجه. خامساً: إن النساء الكتابيات اللاتي يتزوجن بالمسلمين لا يقعن تحت مفهوم من يحاد الله ورسوله الوارد في قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (المجادلة 22) وذلك لضعفهن وقصورهن وتبعيتهن للأزواج, يقول تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين} (الممتحنة 8). وقد ذكر أهل العلم من المفسرين لهذه الآية أن المراد بها النساء والصبيان فبرهم وصلتهم غير محرّمة ما داموا بهذا الوصف, وإنما الذين نهانا الله عن موالاتهم هم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} (الممتحنة 9) ومن المعلوم أن المرأة الكتابية التي رضيت بالزواج من المسلم ودخلت تحت ولايته غير داخلة تحت من لا تصح موالاتهم في هذه الآية, وبهذا نستطيع الجمع بين آية الولاء والبراء وآية المودّة الزوجية وبالله التوفيق. الإشكال الثالث: ما حكم اعتزال الوالدين اللذين عندهما معاصٍ ظاهرة؟ وإذا كان اعتزالهم محرماً، فما تأويل اعتزال إبراهيم لأبيه وهو خليل الله؟ إن كان المقصود باعتزال الوالدين اجتناب ما هم فيه من باطل ومعصية فهذا أمر واجب، قال سبحانه (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

الاشكال الرابع

وقال:} وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}. وإن كان المقصود باعتزال الوالدين هجرهما، فإن هجرهما لا يجوز بحال، وما وقع من إبراهيم عليه السلام هو أنه أولاً ترك ما عليه قومه من الباطل والتزم الحق، ولذلك قال فيما حكى الله عنه:} وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}. قال ابن كثير في تفسيره وهو يبين معنى هذه الآية: أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله،} وَأَدْعُو رَبِّي {أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له. اهـ. ثم إن إبراهيم عليه السلام بعد أن رأى أباه يتوعده بقوله فيما ذكر الله عنه في كتابه:} قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}. فأجابه إبراهيم عليه السلام بقوله:} قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}. وقرر بعد ذلك أن يُهاجر بدينه لا أن يهجر والديه، كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركوا الآباء والأمهات، قال ابن كثير في تفسيره عند كلامه عن قول الله تعالى من سورة العنكبوت:} وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. قال: يحتمل عود الضمير في قوله: وقال ـ على لوط، لأنه أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى إبراهيم - قال ابن عباس، والضحاك: وهو المكنى عنه بقوله:} فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}. أي: من قومه. ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك. اهـ. والله أعلم. الإشكال الرابع: عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: قال: «أَمَا بعدُ، فإِن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مَنْ جَامَعَ المُشْرِكَ وسكنَ معه فَإِنَّهُ مثْلُهُ».وفي رواية قال: «لا تُساكِنوا المشركين، ولا تجامِعُوهم، فَمَن ساكَنَهُم أو جَامَعَهُم فهو منهم». هل المساكنة الواردة في الحديث تشمل مساكنة الأهل كالزوجة الكتابية وكمن يسكن مع والديه الكافرين؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فمعنى هذا الحديث يظهر بمعرفة سببه، فعن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل الدية وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. وفي رواية "لا تُساكِنوا المشركين، ولا تجامِعُوهم، فَمَن ساكَنَهُم أو جَامَعَهُم فهو منهم." رواه الترمذي وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني. فظهر بذلك أن المراد هو الإقامة في ديار المشركين، ولذلك بوب عليه الترمذي باب: (ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين) وأما مساكنة الوالدين الكافرين

الاشكال الخامس والسادس

في ديار المسلمين فلا يدخل في هذا، وبرهما والإحسان إليهما مع كفرهما فرض عين والله أعلم. الإشكال الخامس: رجل له والدان فاسقان، وإخوة فساق هل يجوز له مساكنتهم ومجامعتهم في البيت؛ علماً أنهم لا يجاهرون أمامه بالمعاصي، ووجوده في البيت له أثر من حيث تقليل المعاصي؟ وما معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم). هل النهي محمول على التحريم أو الكراهه خاصة إذا كانت السلطة والكلمة للمسلم؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإن بر الوالدين والإحسان إليهما من الحقوق الواجبة على الأولاد، لا فرق في ذلك بين أن يكونا طائعين لله تعالى أو عاصيين له، وعليه فإن سكنى هذا الرجل مع والديه لا حرج فيه، بل هو أمر حسن؛ لما يترتب عليه من إدخال السرور عليهما، فإن حضور الولد مع والديه وملازمته لهما من نعم الله العظيمة على الوالدين، وقد امتن الله سبحانه على الوليد بن المغيرة بأن جعل له بنين شهودا، قال سبحانه (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا , وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا , وَبَنِينَ شُهُودًا (قال الألوسي: حضوراً معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم. انتهى. وأما هذا الحديث المذكور فقد أخرجه أبو داود والترمذي، ولكنه لا يشمل الحالة المسئول عنها، فإنه نص في مساكنة المشركين وليس الفساق, ومساكنة الفساق المسلمين الذين ليس لهم حق في الصحبة بالمعروف كالوالدين غير محرمة وإن كانت مكروهة ما لم يعسر التحرز من منكراتهم فإنه في هذه الحال يجب مفارقتهم في السكن. وعلى كل حال فمعنى الحديث كما أفاده الشراح: وجوب الهجرة من ديار الكفر لمن عجز عن إقامة شعائر دينه. جاء في فيض القدير عند شرح هذا الحديث " وأفاد الخبر وجوب الهجرة أي على من عجز عن إظهار دينه وأمكنته بغير ضرر" انتهى. والله أعلم. الإشكال السادس: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ» هل نهي النبي صلى الله عليه وسلم هنا محمول على التحريم أم على الكراهة؟ خاصة إذا كانت المصاحبة للفاسق المسلم الذي يحب الله ورسوله ولا تتضمن المشاركة في الحرام، أو الإقرار عليه. وما المقصود بالمؤمن؟ هل هو من معه أصل الإيمان وعُلم من حاله أنه يحب الله ورسوله؟ أم هو المؤمن العدل؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فقد حذر الشرع من مصاحبة أهل الشر، ومثل لذلك بمثل يوجب التنفير منهم، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة.

الاشكال السابع

وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن مصاحبة غير المؤمنين ومخالطة غير المتقين، فقال صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل. رواه الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه الألباني. وقال الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه **** فكل قرين بالمقارن مقتدي. وأما النهي: فقد حمله بعضهم على الكافر والمنافق، وحمله بعضهم على من كان ناقص الإيمان، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: قوله: لا تصاحب إلا مؤمناً ـ أي كاملاً، بل مكملاً، أو المراد منه النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين، لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالمراد بالمؤمن من جنس المؤمنين. انتهى. وقال المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير: وكامل الإيمان أولى، لأن الطباع سراقة ولذلك قيل: ولا يصحب الإنسان إلا نظيره**** وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد. فصحبة الأخيار تورث الفلاح والنجاح ومجرد النظر إلى أهل الصلاح يؤثر صلاحاً والنظر إلى الصور يؤثر أخلاقاً وعقائد مناسبة لخلق المنظور وعقيدته كدوام النظر إلى المحزون يحزن وإلى المسرور يسر والجمل الشرود يصير ذلولاً بمقارنة الذلول، فالمقارنة لها تأثير في الحيوان، بل في النبات والجماد ففي النفوس أولى وإنما سمي الإنسان إنساناً، لأنه يأنس بما يراه من خير وشر. انتهى. ويستثنى من هذا النهي ما إذا كانت مصاحبتهم لأجل النصيحة والدعوة إلى الخير، مع أمن التضرر والتأثر بهم والانجرار إلى المعاصي بسببهم، فهذا مما يندب وقد يجب بحسب طمع العبد في هداهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة. رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم. متفق عليه. ويُستثنى من النهي أيضاً مصاحبة الزوجة الكتابية والوالدين المشركين والأقارب بالمعروف وصحبة العمل والسفر للمشرك بالمعروف ونحو ذلك. فمعنى الحديث كما بيَنَا أي لا تصاحب إلا مؤمن ولا يأكل طعامك إلا تقي ما لم تكن هناك مصلحة شرعية راجحة مثل نصيحة المدعو أو صلة رحم أو حاجة أو نحوها من المصالح الشرعية الراجحة. الإشكال السابع: هل الإحسان إلى الأبوين الكافرين من التعظيم؟ كل ما هو مأمور بتعظيمه فاضل وكل فاضل فمأمور بتعظيمه وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهين وقد يوقر الإنسان من يخاف ضرره ولا يسمى ذلك تعظيما ًوقد يتذلل الإنسان للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيماً، وفرض على كل مسلم البراءة من أبويه الكافرين وشُرع بغضهما في الله عز وجل وقد صح بيقين أن ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل لأن التعظيم الواجب لما فضله الله عز وجل هو مودة في الله

الاشكال الثامن

ومحبة فيه وولاية له وأما البر الواجب للأبوين الكافرين والتذلل لهما والإحسان إليهما فكل ذلك مرتبط بالبراءة منهما وإسقاط المودة الدينية. الإشكال الثامن: هل هنالك تعارض بين الولاء والبراء الشرعي وبين الأمر ببر الوالدين الفاسقين وصلة الرحم الفاجرة وعدم وجوب الطلاق بين الزوجة المؤمنة الصالحة من زوجها الفاسق المسلم والعكس؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: اعلم أولاً أن أهل العلم قرروا أن محبة عصاة المؤمنين الراجح شرهم على خيرهم وأهل البدع (غير المكفرة) مكروه ولا يصل إلى درجة التحريم وبغضهم دينياً مُستحب ولا يصل إلى درجة الوجوب وعلى هذا لا يجب وجوبًا مطلقًا قطع الموالاة بين الفساق والعصاة من المسلمين وبين بقية المسلمين كما هو الشأن مع الكفار الخارجين على الإسلام , ولتعلم أن مباسطة الفاسق المسلم ومضاحكته إلى حد معين ومعقول بحيث لا يُظهر ما هو فيه من منكر غير محرمة لا سيما مع من يُخالطهم المسلم ومن له حق في الصلة كالأقارب وخاصة إذا كانت المبادرة منه هو في المضاحكة وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار، كان يلقب حماراً. وقال ابن حجر: كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكه في كلامه ... وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)) مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه. وبناءً على ماسبق فإنه في هذه الحال يزول الإشكال في الأمر ببر الوالدين الفاسقين وصلة الرحم الفاسقة التي لا تزال في دائرة الإسلام وعدم وجوب المفارقة بين الزوجين اللذين أحدهما فاسق مسلم والآخر مؤمنٌ تقي.

الخاتمة

الخاتمة: هذا ما من الله به، ثم ما وسعه الجهد، وسمح به الوقت، وتوصل إليه الفهم المتواضع، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن فيه خطأ أو نقص فتلك سنة الله في بني الإنسان، فالكمال لله وحده، والنقص والقصور واختلاف وجهات النظر من صفات الجنس البشري، ولا أدعي الكمال، وحسبي أني قد حاولت التسديد والمقاربة، وبذلت الجهد ما استطعت بتوفيق الله - تعالى-، وأسأل الله أن ينفعني بذلك، وينفع به جميع المسلمين؛ فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. تنبيه: أعتذر لكل الأخوة القراء لعدم عزو المعلومات المسطرة في هذه الرسالة إلى مصادرها والسبب في ذلك أن أصل هذه الرسالة كان ملخصاً شخصياً ولم أكن أنوي وقتها نشرها بين الناس وبالتالي لم أهتم بمصادر المعلومات ولكن لمَا كثرت المادة لدي ارتأيت نشرها لتعم الفائدة للجميع , فجزى الله كل من ساهم في هذه الرسالة مساهمة مباشرة أو غير مباشرة كالذين نقلت عنهم ولم أذكر أسماءهم للسبب المذكور أعلاه وجعلها في موازين حسناتهم. لإبداء الملاحظات والاقتراحات فيرجى التواصل على البريد الإليكتروني: [email protected] أخوكم أبو فيصل البدراني.

قائمة ببعض مراجع هذه الرسالة - القرآن الكريم. - كتب الصحاح والسنن والمسانيد. - تفسير الإمام الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن ". - تفسير ابن كثير. - تفسير البغوي: معالم التنزيل. - تفسير الإمام ابن الجوزي "زاد المسير في علم التفسير. - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية. - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للمؤلف: محمد بن علي بن محمد الشوكاني رحمه الله. - تفسير الإمام القرطبي المالكي (الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان). - أحكام القرآن لابن العربي. - أحكام القرآن للجصاص. - تفسير الجلالين. - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله. - تفسير التحرير والتنوير للمؤلف: محمد الطاهر بن عاشور. - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي. - تفسير المنار للمؤلف: محمد رشيد رضا. - فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني. - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي. - تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري. - عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق العظيم أبادي. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر رحمه الله. - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار لابن عبد البر رحمه الله. - سبل السلام في شرح بلوغ المرام للصنعاني رحمه الله. - تطريز رياض الصالحين للمؤلف: فيصل بن عبد العزيز آل مبارك رحمه الله. - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لابن علان الصديقى. - غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني.

- الآداب الشرعية للمؤلف: عبد الله بن محمد بن مفلح المقدسي رحمه الله. - المغني لا بن قدامة. - المجموع للنووي. - روضة الطالبين للنووي. - المفصل في شرح آية الولاء والبراء للمؤلف: علي بن نايف الشحود حفظه الله. - مقالات منشورة على النت للدكتور سليمان الضحيان الكاتب والأكاديمي في جامعة القصيم. - مقالات منشورة على النت للدكتور بندر الشويقي حفظه الله. - مقالات منشورة على النت للدكتور إبراهيم السكران حفظه الله. - الولاء والبراء تأليف: مها البنيان رحمها الله. - أصول وضوابط في مجانبة الكافرين للمؤلف: ناصر العقل حفظه الله. - تحكيم القوانين للمؤلف: محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله. - الموالاة والمعاداة عند أهل السنة والجماعة للمؤلف: عبد الله بن عبد الحميد الأثري حفظه الله. - من مفاهيم عقيدة السلف الصالح: الولاء والبراء في الإسلام للمؤلف: محمد بن سعيد القحطاني حفظه الله. - حقيقة الولاء والبراء في الكتاب والسنة بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وبراءة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الطائفتين للمؤلف عصام السناني حفظه الله. - الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في ضوء الكتاب والسنة للمؤلف: الشريف حاتم بن عارف العوني حفظه الله. - الحب والبغض في الله في ضوء الكتاب والسنة للمؤلف: سليم بن عيد الهلالي حفظه الله. - شرح ابن عثيمين رحمه الله لمقدمة التفسير لا بن تيمية رحمه الله. - الأصول من علم الأصول للمؤلف: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله. - المفصل في أحكام الهجرة للمؤلف: علي بن نايف الشحود حفظه الله. - فتاوى سليمان الماجد حفظه الله. - فتاوى ابن باز رحمه الله. - مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله. - فتاوى ابن عثيمين رحمه الله. - فتاوى اللجنة الدائمة. - مركز الفتوى من موقع إسلام ويب.

- مختصر دعوة أهل البدع للمؤلف: خالد بن أحمد الزهراني حفظه الله. - دروس في شرح نواقض الإسلام للمؤلف: صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله. - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للمؤلف: صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله. - إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والفاسقين للمؤلف: محمد الزمزمي حفظه الله. - موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع للمؤلف: إبراهيم الرحيلي حفظه الله. - حكم الهجر والقطع بين الحلال والحرام في الشرع للمؤلف: محمد بن إبراهيم الحمد حفظه الله. - الهجر في الكتاب والسنة للمؤلف: مشهور بن حسن سلمان حفظه الله. - مطلع الفجر في فقه الزجر بالهجر للمؤلف: سليم بن عيد الهلالي حفظه الله. - التعامل مع المبتدع بين رد بدعته ومراعاة حقوق إسلامه للمؤلف: حاتم بن عارف العوني حفظه الله. - هجر المبتدع للمؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله. - الزجر بالهجر للمؤلف: جلال الدين السيوطي رحمه الله. - تصنيف الناس بين الظن واليقين للمؤلف بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله. - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أصوله وضوابطه وآدابه) للمؤلف: خالد بن عثمان السبت حفظه الله. - مباحث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمؤلف: سعد بن ناصر الحمادي حفظه الله. - حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأركانه ومجالاته للمؤلف: حمد بن ناصر العمار حفظه الله. - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في تحقيق الأمن للمؤلف: عبد العزيز بن فوزان الفوزان حفظه الله. - الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس للمؤلف: محمد بن صالح المنجد حفظه الله. - تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمؤلف: عبد الله بن صالح القصير. - رسالة إلى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر للمؤلف: عبد الله جار الله بن إبراهيم الجار الله رحمه الله.

- صلة الأقارب والأرحام (فوائد _ آداب _ وسائل) إعداد دار القاسم. - قطيعة الرحم (المظاهر _ الأسباب _ سبل العلاج) للمؤلف: محمد بن إبراهيم الحمد حفظه الله. - المفصل في أحكام الهجرة للمؤلف: علي بن نايف الشحود حفظه الله. - بحث منشور على النت عن الفسق (تعريفه وأحكامه وضوابطه) من إعداد أبو عبد الله الساحلي حفظه الله. - الفسق وأحكامه في الفسق الإسلامي للمؤلف: بسام بن محمد صهيوني. - التكفير وضوابطه للمؤلف: إبراهيم الرحيلي حفظه الله. - تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين للمؤلف: محيي الدين أبي زكريا أحمد بن إبراهيم بن النحاس الدمشقي رحمه الله. - الستر على أهل المعاصي (عوارضه _ ضوابطه) في ضوء الكتاب والسنة ونهج السلف الصالح للمؤلف: خالد بن عبد الرحمن الشايع حفظه الله. - الستر على أهل المعاصي عند أهل الحسبة للمؤلف: مبارك بن يحي العمري حفظه الله. - الانترنت وبعض المصادر الأخرى التي لم يتيسر لي استحضارها.

§1/1