الولاء والبراء في الإسلام

محمد بن سعيد القحطاني

مقدمة فضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة فضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فموضوع هذا الكتاب له شأنه وله أهميته في نفسه، وبالنسبة لكتابته في هذا الوقت، فبين كتابته وبين الوقت الذي نعيش فيه الآن مناسبة قوية. أما أهميته في نفسه: فذلك لأنه في أصل من أصول الإسلام هو: (الولاء والبراء) . وهما مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله، ثم لأنبيائه وللمؤمنين. والبراء: مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله. وهذا أصل من أصول الإيمان وأما أهميته بالنظر للوقت الحاضر: فلأنه قد اختلط الحابل بالنابل!، وغفل الناس عن مميزات المؤمنين التي يتميزون بها عن

الكافرين، وضعف الإيمان في قلوبهم حتى ظهرت فيهم مظاهر يكرهها المؤمن. والوا الكافرين أمماً ودولاً، وزهدوا في كثير من المؤمنين، وحطوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب. ومن هنا: تأتي أهمية نشر هذا الكتاب في هذا الوقت الحاضر بالذات. ولقد جاء المؤلف على جوانب الولاء والبراء، ونقل في ذلك كثيراً من كلام العلماء، وقدم له ومهد، وعقب عليه وعلق، واستدل على ما جاء به من مبادئ الولاء والبراء بآيات من القرآن، وبأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكثير من آثار الصحابة ومن تبعهم من السلف. وبين وجه الاستشهاد بهذا وبهذا، ورقم للآيات وبين سورها، وأخرج الأحاديث والآثار وبين درجتها في الغالب الكثير. وبرزت شخصية الباحث في كتابه مما يدل على سعة اطلاعه وقوة بحثه. وأسأل الله جل شأنه أن ينفع المسلمين بهذا الكتاب، وأن يهيئ لمؤلفه إخواناً ينهجون نهجه، فالأمل كبير، الأمل في الله عظيم أن ينشأ كثير من شبابنا الحاضر على هذا المبدأ القيم، مبدأ نصرة دين الإسلام وإحياء ما اندرس منه فإن ربي مجيب الدعاء. عبد الرزاق عفيفي

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه ومن يسلك سبيله إلى يوم الدين، أما بعد: فقد شاء الله تبارك وتعالى أن يطبع هذا الكتاب أول مرة في لبنان إبان اشتداد الحرب الدائرة هناك، مما حال بيني وبين تصحيحه بعد الطبع فخرجت الطبعة الأولى وبها نقص في بعض المواضع، وأخطاء تحيل المعنى في مواضع أخرى. لذلك فقد أعدت النظر فيه مستفيداً من ملاحظات القراء الكرام سائلاً المولى عز وجل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن تكون هذه الطبعة أقرب إلى المراد والله ولي التوفيق. المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإنه من رحمة الله سبحانه وتعالى وعظيم لطفه بخلقه: أن جعل الرسالة المحمدية هي خاتمة الرسالات السماوية، وجعلها سبحانه وتعالى كاملة صافية نقية لا يزيغ عنها إلا هالك. وكتب تبارك اسمه وتعالى جدّه السعادة في الدّارين لأتباع هذه الرسالة الذين قدروها حق قدرها، وقاموا بها على وفق ما أراد الله وعلى هدي نبي الله صلى الله عليه وسلم وسماهم أولياء الله وحزبه. وكتب عز وجل الشقاء والذلة على من حاد عن هذه الشريعة وتنكب الصراط المستقيم وسماهم أولياء الشيطان وجنده. وأصل هذه الرسالة الخالدة: كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذه الكلمة العظيمة - كما يقول ابن القيم -: (التي لأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدوواين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار وأسست الملة، ولأجلها جردت السيوف للجهاد، وهي حق الله على جميع العباد) . وحقيقة هذه الكلمة: (مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة

وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله، والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده. والطريق إليه: تجريد متابعة رسوله الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله) (¬1) . هذه الكلمة العظيمة بكل مفاهيمها ومقتضياتها قد غابت عن حس الناس اليوم إلا من رحم الله، ومن هذه المفاهيم بل من أهمها موضوع: الولاء والبراء. ولئن كان هذا المفهوم العقدي الهام قد غاب اليوم عن واقع حياة المسلمين - إلا من رحم ربك - فإن ذلك لا يغير من حقيقته الناصعة شيئاً. ذلك أن الولاء والبراء: هما الصورة الفعلية للتطبيق الواقعي لهذه العقيدة. وهو مفهوم ضخم في حس المسلم بمقدار ضخامة وعظمة هذه العقيدة. ولن تتحقق كلمة التوحيد في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء والبراء ممن يستحق البراء. ويحسب بعض الناس أن هذا المفهوم العقدي الكبير يدرج ضمن القضايا الجزئية أو الثانوية ولكن حقيقة الأمر بعكس ذلك. إنها قضية إيمان وكفر كما قال الله تعالى:} يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {23} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ¬

(¬1) (الفوائد) تحقيق جابر يوسف: (ص143) .

وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { [سورة التوبة:23: 24] وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {. [سورة المائدة:51] وقد قال أحد العلماء - وهو الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله - (إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم - أي الولاء والبراء - بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده) (¬1) . ولقد قامت الأمة الإسلامية بقيادة البشرية دهراً طويلاً حيث نشرت هذه العقيدة الغراء في ربوع المعمورة، وأخرجت الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ثم ما الذي حدث؟ * لقد تقهقرت هذه الأمة إلى الوراء بعد أن تركت الجهاد وأخذت بأذناب البقر! * تراجعت بعد أن زهدت في الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام. * تبعت الأمم الأخرى بعد أن ركنت إلى حياة الدعة والرفاهية والبذخ والمجون. * تبلبلت أفكارها بعد أن خلطت نبعها الصافي بالفلسفات الجاهلية والهرطقة البشرية. * دخلت هذه الأمة في طاعة الكافرين واطمأنت إليهم، وطلبت صلاح دنياها بذهاب دينها فخسرت الدنيا والآخرة. وبرزت صور موالاة الكفار في أمور شتى منها: (1) محبة الكفار وتعظيمهم ونصرتهم على حرب أولياء الله، وتنحية شريعة الله عن الحكم في الأرض ورميها بالقصور والجمود وعدم مسايرة العصر ومواكبة التقدم الحضاري. (2) ومنها: استيراد القوانين الكافرة - شرقية كانت أم غربية - وإحلالها محل شريعة الله الغراء وغمز كل مسلم يطالب بشرع الله بـ: التعصب والرجعية والتخلف! (3) ومنها: التشكيك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن في دواوينها الكريمة والحط من قدر أولئك الرجال الأعلام الذين خدموا هذه السنة حتى وصلت إلينا. (4) قيام دعوات جاهلية جديدة تعتبر جديدة في حياة المسلمين، ذلك مثل دعوة القومية الطورانية والقومية العربية والقومية الهندية و.. و ... الخ. (5) إفساد المجتمعات الإسلامية عن طريق وسائل التربية والتعليم وبث سموم الغزو الفكري في المناهج والوسائل الإعلامية بكل أصنافها. وأمام هذه الصور وغيرها من الصور الكثيرة تنشأ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات صادقة وافية يدعمها الدليل من الكتاب والسنة والاسترشاد بآراء العلماء الأعلام ومن هذه الأسئلة: لمن ينتمي المسلم؟ ولمن يكون ولاؤه؟ وممن يكون براؤه؟ ما حكم تولي الكفار ونصرتهم؟ ما حكم الإسلام في المذاهب الفكرية التي يروج لها المستغفلون أو الحاقدون من أبناء أمتنا وممن ينطقون بألسنتنا؟ كيف ينبغي أن تكون صورة الولاء للمسلمين الذين يضطهدون اليوم وغير اليوم في مشارق الأرض ومغاربها حيث تكالبت عليهم قوى الشر والكفر؟ ما هو طريق الخلاص بعدما تقبل المسلمون لباس العبودية العقلية الذي خلعته عليهم المدنية الأجنبية؟ ¬

(¬1) النجاة والفكاك (ص 14) .

يستثير هذه الأسئلة وغيرها غياب المفهوم الصحيح لكلمة التوحيد، وبعد ذلك عن واقع المسلمين اليوم حيث مسخت مفاهيمها حتى صار من يقر بتوحيد الربوبية فقط دون توحيد الألوهية يعتبر موحداً عند كثير من الناس!!! أما كون لا إله إلا الله ولاء وبراء، أما كونها توحيد ألوهية وعبادة: فهذه معان لا تخطر على أذهان الكثير - إلا من رحم الله - ورحم الله الإمام الداعية شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب حين قال: (إن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين كما قال تعالى في سورة المجادلة) : {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة المجادلة: 22] . وانطلاقاً من مجموع هذه الأمور، وحباً في خدمة هذه العقيدة، ورغبة في تفنيد الباطل وبيان الحق: عقدت العزم واستعنت بالله وكتبت هذا الموضوع وسميته: الولاء والبراء في الإسلام. وأنا أعلم - يقيناً - أن مثلي لا يعطي هذا الموضوع حقه من البحث والدراسة نظراً لقلة البضاعة وسعة الموضوع، لكنني بذلت جهد المقل، واجتهدت أن أصل به إلى الصورة التي تليق به، فإن أصبت فذاك ما أردت والفضل لله أولاً وآخراً. وإن كانت الأخرى فأستغفر الله لذنبي. وحسبي أني بذلت طاقتي ووضعت لبنة في طريق من يريد إكمال البناء. وأقول كما قال سلفنا الصالح: رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي.

كما أنني أطلب من كل قارئ كريم - عالم أو متعلم - قرأ هذا الكتاب ووجد فيه خللاً أن ينبهني إلى ذلك وله من الله الأجر والمثوبة على قيامه بواجب النصح ثم له مني الدعاء بظاهر الغيب. وأخيراً أتقدم بخالص الشكر والتقدير لأستاذي الكبير العالم العامل الشيخ محمد قطب حفظه الله لما أسداه إلي من نصح وتوجيه، وإرشاد وتنبيه إبان إشرافه على هذا البحث، سائلاً الله العلي القدير أن يجزيه عني خير ما جازى معلم عن تلميذه والله الهادي إلى سواء السبيل. اللهم اجعل عملنا خالصاً صائباً، خالصاً لوجهك الكريم صائباً وفق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. محمد بن سعيد بن سالم القحطاني مكة المكرمة 15/5/1402هـ

التمهيد

التمهيد لكي نتحدث عن الولاء والبراء من واقع التصور الإسلامي الصحيح لا بد أن نتحدث في هذا التمهيد عن حقائق ثلاث هي: (1) حقيقة الإسلام الممثلة في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومدلول هذه الكلمة وشروطها. (2) الولاء والبراء من لوازم كلمة التوحيد. (3) نواقض الإسلام: الشرك والكفر والنفاق والردة. وهدفي من هذا هو: أن أحاول - بقدر الطاقة - إبراز حقيقة الإسلام، وحقيقة ما يناقضه. مع إبراز حقيقة قضية الولاء والبراء ودورهما في حياة المسلمين. لأن الولاء والبراء جزء من هذه العقيدة فالحديث عنه يستلزم الحديث عن أساس هذه العقيدة وهي كلمة التوحيد. ومعرفة هذه العقيدة معرفة صحيحة أمر ضروري للمسلم ليكون ولاؤه وبراؤه بحبسها. إذ من المحال أن تكون هناك عقيدة سليمة بدون تحقيق الموالاة والمعاداة الشرعية. ثم إن الوقوف على حقيقة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحدثته هذه الدعوة من تحول في تاريخ البشرية، وما بنته من حضارة سعد بها الإنسان المسلم منذ أول لحظة عرف فيها ربه ودينه ونبيه: لأمر جدير بالتأمل، تلك الدعوة التي جاءت وقد كان الناس يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، ثم أنقذتهم وأحيتهم بعد ممات: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [سورة الأنعام: 122] .

ولقد أوضح حقيقة تلك الحال التي كانوا عليها الصحابي الجليل المقداد (¬1) بن الأسود رضي الله عنه فيما رواه أبو نعيم في الحلية (.. والله لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء، في فترة وجاهلية. ما يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى أن الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافراً – وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان – ليعلم أنه قد هلك من دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه في النار، وإنها للتي قال الله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ { [سورة الفرقان: 74] (¬2) . هذه الجاهلية التي تحدث القرآن عنها وهو يمتن على المسلمين بالهداية. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فأنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ { [سورة آل عمران:103] . ¬

(¬1) هو المقداد بن الأسود. أسلم قديماً وشهد بدراً والمشاهد، وكان فارساً يوم بدر. توفي سنة 33 هـ قال بعضهم وهو ابن سبعين سنة. وكان ذلك بالجوف على بعد ثلاثة أميال من المدينة وحمل إلى المدينة ودفن بها. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (10/285) . (¬2) حلية الأولياء لأبي نعيم (1/175) وذكر صاحب كتاب حياة الصحابة (1/241) وقال إن الطبراني أخرجه أيضاً بمعناه بأسانيد في أحدهما يحيى بن صالح. وثقه الذهبي، وقد تكلموا فيه، وبقية رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/17) .

ولما عرف الصحابة رضوان الله عليهم الجاهلية، ثم عرفوا الإسلام خرجوا – نتيجة للتربية القرآنية والعناية النبوية – وهم أعظم جيل عرفه تاريخ هذه الدعوة. ترى، ما سر تلك العظمة التي نقرأ عنها ونسمع، وكأنها شبه أحلام، نظراً للهوة السحيقة التي وصلنا إليها؟ ذلك الجيل الذي كان الواحد منهم إذا دخل في الإسلام خلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، وانتقل نقلة بعيدة من عالم مظلم سحيق، وتصور قاصر، ومفاهيم كليلة، وعبودية للمال والعبيد، إلى حياة رحبة فسيحة، وعالم يملؤه نور الله، وتصور كامل شامل، واستعلاء على كل عبودية إلا العبودية لله عز وجل. (¬1) . إن سر ذلك النجاح، وتلك العظمة هو نقطة البدء التي بدأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذه الكلمة التي مزقت كل رابطة، وأهدرت كل وشيجة إلا وشيجة العقيدة. رابطة الحب في الله، رابطة المؤاخاة الإيمانية التي يتهاوى دونها كل عرق ودم وتراب وجنس ولون. ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي. اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلي إلا ظلي) (¬2) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم ¬

(¬1) انظر معالم في الطريق للأستاذ سيد قطب (ص16) فصل جيل قرآني فريد. طبع دار الشروق. وانظر كتاب: أبو بصير قمة في العزة الإسلامية للأستاذ محمد حسن بريغش (ص47) ط -2 سنة 1397 هـ الناشر مكتبة الحرمين بالرياض. (¬2) صحيح مسلم ط - 4 (4/1988) (ح 2566) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي كتاب البر الطبعة الأولى سنة 1374هـ /دار إحياء الكتب العربية وانظر المسند للإمام أحمد (ج16/192) (ح8436) تحقيق الشيخ أحمد شاكر الطبعة الرابعة سنة 1373 هـ دار المعارف بمصر والموطأ (ج2/952) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

من الله تعالى) قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس) وقرأ هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { (¬1) [سورة يونس: 62] . ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس إلى هذه العقيدة ويمكنها في نفوس العصبة المسلمة، مما جعل آثار ذلك تنعكس في أفعالهم الحميدة، وجهادهم المستمر لنشر كلمة الله في الأرض، حيث قامت دولة المصطفي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. إن الذي يجعلنا نتحدث عن قضية الألوهية، ومفهومها الصحيح الذي جاء به الإسلام هو الحاجة الماسة لشرحها اليوم، وبيانها للناس. بعد أن انحرف الناس - إلا من رحم الله - عن العقيدة الصافية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد أصبحت هذه القضية عند سواد الناس اليوم مجرد لفظة ترددها الألسنة دون وعي وتدبر لمعناها ولوازمها، ولم يقتصر الأمر على هذا فحسب، بل تعداه إلى إيراد بعض النصوص للاستشهاد بها على ما يرون من معتقد، دون نظر لكامل النصوص في هذه القضية، ودون رجوع إلى بيان ذلك في كتب أهل العلم من كتب الحديث وشروحها وكتب التفسير وشروح جهابذة رجال الدعوة والإصلاح على مدار تاريخ هذه الأمة. ومسخ أيضاً مفهوم العبادة الشامل الكامل للحياة الدنيا والآخرة إلى جزء يسير منها وهو الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج. أما النظام الذي تقوم عليه الحياة. أما الولاء لمن يكون؟ والبراء ممن يكون؟ ¬

(¬1) سنن أبي داود (ج3/799) (ح 3527) كتاب البيوع وإسناده صحيح. تعليق عزت الدعاس الطبعة الأولى سنة 1391 هـ الناشر محمد علي السيد بسوريا.

أما الحب لمن؟ والبغض لمن؟ فهذه معان بعيدة عن تصورهم ومجال تفكيرهم!! إن هذا الدين لم يكن توحيد ربوبية فحسب. وإنما هو أيضاً توحيد ألوهية وتوحيد أسماء وصفات تليق بجلال الله وعظمته. وتأمل - كما يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله -: (حال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قام ينذر المشركين عن الشرك، ويأمرهم بضده وهو التوحيد، لم يكرهوا واستحسنوا، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بسب دينهم وتجهيل علمائهم، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، وقالوا: سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وشتم آلهتنا، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتم عيسى وأمه، ولا الملائكة، ولا الصالحين، ولكن لما ذكر أنهم لا يدعون ولا ينفعون، ولا يضرون: جعلوا ذلك شتماً. فإذا عرفت هذا، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام - ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعدواة والبغض، كما قال تعالى في سورة المجادلة: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان { [سورة المجادلة: 22] . (فإذا فهمت هذا جيداً عرفت أن كثير من الذين يدعون الدين لا يعرفونها - أي لا إله إلا الله - وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك والعذاب والأسر، والضرب، والهجرة للحبشة، مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس لو يجد لهم رخصة لأرخص لهم) (¬1) . ¬

(¬1) مجموعة التوحيد لابن تيمية وابن عبد الوهاب وغيرهم (ص19) الناشر دار الفكر بالقاهرة.

وما دام أن هناك من يجهل حقيقة (لا إله إلا الله) فلا بد من الشرح لها، والبيان لمدلولها وحقيقتها، وشروطها ونواقضها ولوازمها وإليك ذلك مفصلاً. ومن الله نستمد العون والسداد.

كلمة التوحيد تثبت أربعة أمور وتنفي أربعة أمور

كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، وبذلك تنفي الإلهية عما سوى الله ونثبتها لله وحده (¬1) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله، والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة (لا إله إلا الله) وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين) (¬2) أما شقها الثاني (محمد رسول الله) فمعناه تجريد متابعته صلى الله عليه وسلم فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر. ومن هنا كانت (لا إله إلا الله) ولاء وبراء، نفياً وإثباتاً. ولاء لله ولدينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين. وبراء من كل طاغوت عبد من دون الله (¬3) : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ { [سورة البقرة:256] . ¬

(¬1) انظر فتح المجيد ص 36. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ج 28/32) . جمع عبد الرحمن بن قاسم ط أولى مطبعة الحكومة سنة 1381 هـ. (¬3) عرف ابن القيم الطاغوت تعريفاً جامعاً فقال: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله انظر فتح المجيد لعبد الرحمن بن حسين ص 16 ط 7 سنة 1377 هـ مطبعة أنصار السنة

وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت والدليل هذه الآية (¬1) يعني الآية السابقة 256 سورة البقرة. وكلمة التوحيد ولاء لشرع الله: { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ { [سورة الأعراف:3] . {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا { [سورة الروم:30] . وبراء من حكم الجاهلية: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [سورة المائدة:50] . وبراء من كل دين غير دين الإسلام: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {. [سورة آل عمران:85] . ثم هي نفي وإثبات تنفي أربعة أمور. وتثبت أربعة أمور. (تنفي: الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب. ¬

(¬1) الدرر السنية (ج1/95) جمع عبد الرحمن بن قاسم.

فالآلهة: ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت متخذه إلهاً. والطواغيت: من عبد وهو راض، أو رشح للعبادة. والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام، من أهل، أو مسكن، أو عشيرة، أو مال: فهو ند لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ { [سورة البقرة: 165] . والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته، مصداقاً لقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله { [سورة التوبة:31] . وتثبيت أربعة أمور: القصد: وهو كونك ما تقصد إلا الله. والتعظيم والمحبة: لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ { [سورة البقرة:165] . والخوف والرجاء: لقوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ راد لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { [سورة يونس: 107] . فمن عرف هذا قطع العلاقة مع غير الله ولا تكبر عليه جهامة الباطل، كما

تعريف التقوى

أخبر تعالى عن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام بتكسير الأصنام وتبريه من قومه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ { [سورة الممتحنة: 4] . (¬1) ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى لا إله إلا الله، بنفي الشرك وتوابعه، ويقرر الإخلاص وشرائعه، فكل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلول كلمة الإخلاص، لأن دلالتها على الدين كله إما مطابقة وإما تضمناً وإما التزاماً (¬2) ، يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى. والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي، وإخلاص العبادة بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله) (¬3) . أما كيف تم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة هذه الكلمة والتزام أحكامها والعمل بمقتضياتها ولوازمها فيشرح ذلك الإمام الجليل سفيان بن عيينة: (¬4) . ¬

(¬1) بضع رسائل في عقائد الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص35) تحقيق محمد رشيد رضا الطبعة الأولى سنة 1349 مطبعة المنار بمصر. (¬2) دلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على كل معناه. دلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على جزء معناه. دلالة الالتزام: هي دلالة اللفظ على معنى خارج عنه لكنه لازم له. (¬3) انظر المورد العذب الزلال ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (ج4/99) تحقيق رشيد رضا. الطبعة الأولى سنة 1346 هـ مطبعة المنار بمصر. (¬4) هو الإمام أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي، الحافظ، أحد أعلام الإسلام ولد سنة 107 هـ وتوفي سنة 198هـ وله إحدى وتسعون سنة قال فيه الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز وقال فيه أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أعلم بالسنن من ابن عيينة وكان كبير القدر. ومن العباد. حج سبعين سنة. انظر شذرات الذهب (1/354) والأعلام (3/105) ط - 4.

(حدث محمد بن عبد الملك المصيصي قال: كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة، فسأله رجل عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل. قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار سفيان بيده. قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون: أن الإيمان قول بلا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده. إن الله عز وجل بعث نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأنه رسول الله. فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم (¬1) . (فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبنائهم حتى يقولوا كقولهم، ويصلوا صلاتهم ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا، حتى أتى أحدهم برأس أبيه فقال: يا رسول الله: هذا رأس شيخ الكافرين، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم، ولا قتالهم، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً، وأن يحلقوا رؤسهم تذللاً ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها، فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها، والله لو لم يفعلوا ¬

(¬1) هكذا بالنص، والذي يبدو لي - والله أعلم - أن سياق الكلام يقتضي أن يكون هكذا (ما نفعهم الإقرار الأول) يدل على ذلك ما سيأتي في بقية النص.

ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، ولا هجرتهم، ولا قتلهم آباءهم، ولا طوافهم. فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عز وجل: قل لهم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا { [سورة المائدة:3] . (قال سفيان: فمن ترك خله من خلال الإيمان كان بها عندنا كافراً، ومن تركها كسلاً أو تهاوناً بها، أدبناه وكان بها عندنا ناقصاً. هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس) (¬1) . وقد ذكر العلماء رحمهم الله شروطاً سبعة لـ (لا إله إلا الله) لا تنفع صاحبها إلا باجتماع هذه الشروط فيه. وإليك شرحها: ¬

(¬1) كتاب (الشريعة) لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ص104) الطبعة الأولى سنة 1369 هـ تحقيق محمد حامد الفقي. الناشر: مطبعة أنصار السنة المحمدية بمصر.

شروط لا إله إلا الله

شروط لا إله إلا الله ينبغي أن نعلم أنه [ليس المراد من هذا عد ألفاظها وحفظها، فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له أعددها لم يحسن ذلك، وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها والتوفيق بيد الله] (¬1) . وقد قال وهب بن منبه (¬2) لمن سأله: أليس (لا إله إلا الله) مفتاح الجنة؟ قال: بلى. ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك (¬3) . وأسنان هذا المفتاح هي شروط (لا إله إلا الله) الآتية: - الشرط الأول: العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتا، المنافي للجهل بذلك قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ { [سورة محمد:19] . ¬

(¬1) معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي (ج1/377) الطبعة الأولى تصوير ادارات البحوث العلمية بالرياض. (¬2) وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمر وغيرهم. قال العجلي: تابعي ثقة وكان على قضاء صنعاء ووثقه أيضاً: أبو زرعة والنسائي وابن حبان. كان مولده سنة 34 هـ ووفاته سنة 110 هـ. انظر تهذيب التهذيب (11/167) . (¬3) رواه البخاري تعليقاً في كتاب الجنائز باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله (ج3/109) .

وقال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ { [سورة الزخرف:86] . أي: بـ "لا إله إلا الله": (وهم يعلمون) بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم. وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [سورة آل عمران:18] . وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علبه وسلم (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) (¬1) . الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك. معنى ذلك: أن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة، يقيناً جازماً، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن (¬2) قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ { [سورة الحجرات:15] . وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا ¬

(¬1) معارج القبول (1/378) وانظر الجامع الفريد (ص356) . والحديث مروي في صحيح مسلم: (ج1/55) (ح26) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي كتاب الإيمان. (¬2) معارج القبول (1/378) .

دخل الجنة) (¬1) . وفي رواية (لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة) . وعن أبي هريرة أيضاً من حديث طويل (من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) (¬2) . وقال القرطبي: في (المفهم على صحيح مسلم) : (باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد، بل لابد من استيقان القلب. وهذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده. بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعاً) (¬3) . الشرط الثالث: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها، وانتقامه ممن ردها وأباها كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ {24} فانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ { [سورة الزخرف:23-25] . وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ { [سورة يونس:103] . ¬

(¬1) صحيح مسلم (ج1/56) (ح 27) كتاب الإيمان. (¬2) صحيح مسلم (ج1/60) (ح31) كتاب الإيمان. (¬3) قتح المجيد (ص36) .

ويقول تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ { (¬1) . [سورة الصافات:35- 36] . الشرط الرابع: الانقياد لما دلت عليه، المنافي لترك ذلك قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ { [سورة الزمر:54] . وقال: {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجه لله وهو محسن} [سورة النساء: 125] . وقال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى { [سورة لقمان:22] . أي بلا إله إلا الله وفي الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) (¬2) وهذا هو تمام الانقياد وغايته ¬

(¬1) معارج القبول (ج 1/380) . (¬2) معارج القبول (1/381) وانظر الرسالة الخامسة حول لا إله إلا الله المطبوعة مع (الكلمات النافعة) للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص 73) ط- 2 سنة /1400 هـ السلفية بمصر. والحديث مروي في: الأربعين النووية للإمام النووي (ص 134) الحديث الحادي والأربعون الطبعة الثانية سنة 1973م الناشر مطابع قطر. قال النووي: وهو حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.

وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا { [سورة النساء:65] . قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة، ولا منازعة، كما ورد في الحديث (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) (¬1) . الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقولها صدقاً من قلبه، ويواطئ قلبه لسانه، قال تعالى: {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { (¬2) [سورة العنكبوت:1 – 3] . وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (ج 2/306) تحقيق عبد العزيز غنيم ومحمد عاشور ومحمد البنا. مطبعة الشعب. (¬2) معارج القبول 1/381.

وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ { [سورة البقرة:8-10] . وفي "الصحيحين" عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار" (¬1) . قال العلامة ابن القيم: (والتصديق بلا إله إلا الله يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة، والتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.. فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله، معلوم أن عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها، وكذلك النجاة من العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبحقها) (¬2) . وفي الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه] (¬3) . وقال ابن رجب: (أما من قال: لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله، ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ { (¬4) [سورة القصص:50] . ¬

(¬1) صحيح البخاري / (ج 1/226) (ح 128) كتاب العلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي المطبوع مع فتح الباري بالمطبعة السلفية بمصر سنة 1380 الطبعة الأولى , وانظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان للشيخ محمد فؤاد عبد الباقي (ج1/8) (ح20) تصوير المكتبة الإسلامية – بيروت. (¬2) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص 43 تعليق طه يوسف شاهين. (¬3) أخرجه الحاكم في كتاب المستدرك (ج1/70) كتاب الإيمان وقال: صحيح الاسناد ووافقه الذهبي. (¬4) كلمة الإخلاص: 28

{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ { [سورة ص:26] . الشرط السادس: الإخلاص، وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك (¬1) . قال تعالى {ألا لله الدين الخالص { [سورة الزمر: 3] وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [سورة البينة: 5] . وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) : أو نفسه) (¬2) . وفي الصحيح عن عتبان بن مالك (¬3) رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل) (¬4) . وللنسائي في اليوم والليلة من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير مخلصاً بها قلبه، يصدق بها لسانه، إلا فتق الله لها السماء فتقاً حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤله) (¬5) ¬

(¬1) معارج القبول (ج1/382) وانظر الجامع الفريد ص 356. (¬2) صحيح البخاري كتاب العلم باب الحرص على الحديث (ج 1/193) (ح 99) . (¬3) هو عتبان بن مالك بن العجلان الخزرجي السالمي الأنصاري. بدري عند الجمهور. كان إمام قومه في بني سالم. وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين عمر. وقد مات في خلافة معاوية. انظر الإصابة لابن حجر (2/452) . (¬4) صحيح مسلم (ج 1/456) (ح 263) كتاب المساجد. (¬5) أورد هذا الحديث ابن رجب في كلمة الإخلاص ص 61 وقال فيه الألباني: عزاه في الجامع الكبير (2/477/1) عن يعقوب بن عاصم قال: حدثني رجلان من الصحابة. ويعقوب هذا من رجال مسلم ووافقه ابن حبان فإن كان السند إليه صحيحاً فالحديث ثابت.

وقال الفضيل بن عياض رحمة الله: (إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة) (¬1) . ولقد ضرب الله سبحانه في القرآن العظيم مثلاً واضحاً للمخلص في توحيده وللمشرك قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [سورة الزمر: 29] . يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسيرها: (هذا مثل يضربه الله للعبد الموحد والعبد المشرك، بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة.. وعبد يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه، ويكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح) (هل يستويان) ؟ لا. لأن الذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. والذي يخضع لسادة مشتركين معذب مقلقل، لا يستقر على حال، ولا يرضى واحداً منهم فضلاً عن أن يرضي الجميع. وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك في جميع الأحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يسير على هدى من الله يستمد منه وحده ويتجه إليه وحده) (¬2) . ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 451 تحقيق محمد حامد الفقي. الطبعة الثانية سنة 1369 هـ مطبعة أنصار السنة. (¬2) في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب (ج 5/3049) الطبعة المشروعة الناشر دار الشروق وانظر التفسير القيم لابن القيم ص 423 جمع محمد أويس الندوي تحقيق محمد حامد الفقي، الناشر لجنة التراث – بيروت.

ويقول الشيخ القاسمي رحمه الله: (إن القصد هو توحيد المعبود في توحيد الوجهة، ودرء الفرقة كما قال تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ { (¬1) [سورة يوسف: 39] . إن الإسلام لابد فيه من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه وهذا حقيقة (لا إله إلا الله) فمن أسلم لله ولغير الله فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ { (¬2) . [سورة غافر: 60] . الشرط السابع: المحبة لهذه الكلمة، ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها، وبغض ما ناقض ذلك، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ { (¬3) [سورة البقرة:165] . ¬

(¬1) محاسن التأويل للشيخ محمد جمال الدين القاسمي ج 14/5138 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. الطبعة الأولى 1376 هـ دار إحياء الكتب. (¬2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم ص 454 والتحفة العراقية لابن تيمية ص 41. (¬3) أعلام السنة المنشورة لحافظ الحكمي ص 14 الطبعة الثالثة سنة 1399 هـ إدارات البحوث العلمية بالرياض وانظر معارج القبول ج 1/383 والجامع الفريد ص 356.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { [سورة المائدة: 54] . وفي الحديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) (¬1) . قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله (¬2) : (وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه، وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله. ومعاداة من عاداه واتباع رسوله، واقتفاء أثره وقبول هداه) (¬3) . ويقول ابن القيم في النونية: شرط المحبة أن توافق من تحب ... على محبته بلا عصيان فإذا ادعيت له المحبة مع خلا ... فك ما يحب فأنت ذو بهتان أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حباً له ما ذاك في إمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان ليس العبادة غير توحيد المحبة ... مع خضوع القلب والأركان ¬

(¬1) صحيح البخاري (ج 1/60) (ح16) كتاب الإيمان وصحيح مسلم (ج 1/66) (ح43) كتاب الإيمان. (¬2) هو الشيخ العلامة حافظ بن أحمد الحكمي. عالم سلفي من منطقة تهامة ولد سنة 1342 هـ بقرية السلام بالقرب من جيزان. كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم. تتلمذ على الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي. وكان ذا علم وتقوى وعفة. وتوفي رحمه الله سنة 1377 هـ وعمره 35 سنة. انظر ترجمته بقلم ابنه أحمد بن حافظ في أول معارج القبول الجزء الأول. (¬3) معارج القبول (1/383) .

إلى أن يقول: ولقد رأينا من فريق يدعي الإ ... سلام شركاً ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم وسو ... وهم به في الحب لا السلطان (¬1) ¬

(¬1) النونية ص: 158.

الولاء والبراء من لوازم لا إله الله

الولاء والبراء من لوازم لا إله الله (لما كان أصل الموالاة: الحب. وأصل المعاداة: البغض. وينشأ عنهما من القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك) (¬1) . فإن الولاء والبراء من لوازم لا إله إلا الله. وأدلة ذلك كثيرة من الكتاب والسنة. أما الكتاب فمن ذلك قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ { [سورة آل عمران: 28] . ويقول تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {31} قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإن تَوَلَّوْاْ فإن اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ { [سورة آل عمران: 31-32] . ¬

(¬1) الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص296) تصحيح عبد الرحمن الرويشد، طبع سنة 1398 هـ بدار العلوم بمصر.

ويقول تباركت أسماؤه عن أهداف أعداء الله: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ { [سورة النساء: 89] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فإنهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [سورة المائدة: 51] . ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { [سورة المائدة: 54] . أما الأحاديث والآثار: فكثيرة وأذكر منها: - (1) ما رواه الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعه على أن (تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر) (¬1) . (2) روي أبي شيبة بسنده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) (¬2) . (3) روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) المسند للإمام أحمد (ج4/357، 358) ، الطبعة الثانية / سنة 1398 هـ / الناشر المكتب الإسلامي وهو حديث حسن. (¬2) الإيمان لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبه توفي سنة 235 هـ (ص45) ، تحقيق الألباني وقال. أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً وهو حسن، المطبعة العمومية بدمشق وانظر المسند (4/286) .

قال: (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله) (¬1) (4) أخرج ابن جرير ومحمد بن نصر المروزي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) (¬2) . يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح قول ابن عباس هذا: قوله: (ووالى في الله) هذا بيان للازم المحبة في الله، وهو الموالاة، فيه، إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب، بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب. وهي النصرة والإكرام، والاحترام والكون مع المحبوبين باطناً وظاهراً. وقوله (وعادى في الله) هذا بيان للازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه. أي إظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطناً وظاهراً، وإشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ { (¬3) [سورة الممتحنة: 4] . ¬

(¬1) ذكره السيوطي في الجامع الصغير (1/69) ، وقال الألباني: حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير (2/343) (ح2536) . (¬2) حلية الأولياء عن ابن عباس (1/312) وجامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (ص30) الطبعة الثالثة/1382 هـ الناشر مصطفى البابي الحلبي بمصر. (¬3) تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ص422) الناشر إدارات البحوث العلمية بالرياض. بدون تاريخ.

قلت: ومما سبق يتضح أن الولاء في الله هو: محبة الله ونصرة دينه، ومحبة أوليائه ونصرتهم. والبراء هو: بغض أعداء الله ومجاهدتهم. وعلى ذلك جاءت تسمية الشارع الحكيم للفريق الأول بـ: (أولياء الله) ، والفريق الثاني بـ: (أولياء الشيطان) قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [سورة البقرة: 257] . وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا { [سورة: 76] . واعلم أن الله سبحانه لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا { [سورة الأنعام: 112] . وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج كما قال تعالى:

{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون { [سورة غافر: 83] . (والواجب على المسلم أن يتعلم من دين الله ما يصير له سلاحاً يقاتل به هؤلاء الشياطين، ومن ثم لا خوف ولا حزن لأن: {كيد الشيطان كان ضعيفاً} [سورة النساء: 76] . (والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين كما قال تعالى {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ { [سورة الصافات: 173] . فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان) (¬1) . وإذا كانت أهداف أعداء الإسلام من ملحدين ويهود ونصارى ومستغربين وصهيونية عالمية وشيوعية عالمية هي تمييع عقيدة المسلمين، وتذويب شخصيتهم المتفردة، لجعلهم حميراً للشعب المختار كما تنص على ذلك بروتوكولات حكماء صهيون. فإنه يتضح لدى المسلم أهمية هذا الموضوع حتى يحذر هو ومن معه، بل يحذر المسلمون عامة، من الانزلاق في مهاوي الردى خاصة وأن الدعوات المشبوهة الملحدة تدعو إلى ما يسمى بالأخوة والمساواة وأن الدين لله والوطن للجميع.! وسوف أتعرض لهذا بالتفصيل إن شاء الله في الباب الأخير. فبان بهذه الأدلة الواضحة من الكتاب والسنة أن الولاء من لوازم لا إله إلا الله) وهو أيضاً تحقيق معناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (إن ¬

(¬1) بتصرف: انظر كشف الشبهات للإمام محمد بن عبد الوهاب (ص20) الطبعة الثالثة / 1388 هـ الناشر مؤسسة النور بالرياض. وانظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (ج4/46) .

تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحب إلا الله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله) (¬1) ويوالي المؤمنين في أي مكان حلوا ويعادي الكافرين ولو كانوا أقرب قريب. ثم إن من الولاء والبراء ما هو شطر العقيدة وركنها الثاني الذي لا تتم إلا به وهو الكفر بالطاغوت. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ { [سورة البقرة:256] . فلا يكون مؤمناً من لا يكفر بالطاغوت، وهو كل متبوع أو مرغوب أو مرهوب من دون الله. فقبول الإيمان والاستمساك بالعروة الوثقى مستلزم للكفر بالطاغوت كما نصت على ذلك الآية الكريمة. ¬

(¬1) الاحتجاج بالقدر (ص62) طبعة سنة 1393 هـ المكتب الإسلامي.

الرد على من زعم أن كلمة التوحيد لفظ فقط مع بيان المذهب الصحيح في الأحاديث الواردة بخصوصها

الرد على من زعم أن كلمة التوحيد لفظ فقط مع بيان المذهب الصحيح في الأحاديث الواردة بخصوصها يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: (ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) (¬1) وقوله (لا يدخل النار من قال لا إله إلا الله) (¬2) , وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث، التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة! وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالداً، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة. فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لأن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار. بل لا بد من قول القلب، وقول اللسان. وقول القلب: يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق الكلام عليه في شروط لا إله إلا الله.

من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً: ما يوجب تحريم قائلها على النار. وتأمل حديث البطاقة (¬1) التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، ... ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل هو أنه حصل له ما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات. وتأمل أيضاً ما قام بقلب قاتل المائة (¬2) من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية فجعل ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت، لأن ذلك كان أمراً آخر، وإيماناً آخر ولذلك ألحق بأهل القرية الصالحة. وقريب من هذا ما قام بقلب البغي (¬3) التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش، يأكل الثرى – فقام بقلبها ذلك الوقت – مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً. فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها) (¬4) . وقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله) (¬5) . يقول محمد بن عبد الوهاب. ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو (ج 2 ص 213) الطبعة الثانية وسنده حسن وأخرجه الترمذي في الإيمان (ج7/295) (ح2641) ورجاله ثقات فالحديث صحيح. (¬2) صحيح البخاري (ج6/512) (ح3470) كتاب الأنبياء وصحيح مسلم كتاب التوبة (ج4/2118) (ح2766) . (¬3) صحيح مسلم (ج4/1761) (ح2245) كتاب السلام. (¬4) مدارج السالكين لابن القيم (ج1/330 – 332) بتصرف بسيط. (¬5) صحيح مسلم (ج1/53) (ح23) كتاب الإيمان.

رحمه الله: (وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه) (¬1) . ومن هنا نعلم فساد عقيدة المرجئة (¬2) : الذين يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط والكفر هو الجهل فقط وأخروا العمل عن الإيمان. ومن المعلوم أن كفار مكة قد علموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم من كلمة لا إله إلا الله فأبوا واستكبروا ولم يك ينفعهم إيمانهم بأن الله واحد رازق محي مميت. ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أجعل الألهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب { [سورة ص: 5] . (فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق من يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر كله إلا الله) (¬3) . ويتابع الإمام محمد بن عبد الوهاب رده عليهم فيقول: (وهنا شبهة: وهي قول من يقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: (لا إله إلا الله) (¬4) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت ¬

(¬1) كتاب التوحيد ص 115 المطبوع مع فتح المجيد ط 7/1377 هـ بتحقيق محمد حامد الفقي. الناشر مطبعة أنصار السنة بمصر. (¬2) المرجئة: من الإرجاء. بمعنى التأخير، وهم يقولون أن الإيمان هو الإقرار فقط. انظر مقالات الإسلاميين للأشعري ج 1/214 والفرق بين الفرق للبغدادي ص 202. (¬3) مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (ج 5/15) الطبعة الأولى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. (¬4) في صحيح مسلم (ج1/97) (ح97) كتاب الإيمان.

أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) (¬1) . وأحاديث أخر، في الكف عمن قالها؟! (ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها لا يكفر، ولا يقتل ولو فعل ما فعل (¬2) . فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون (لا إله إلا الله) وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار (¬3) . وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها. (فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟!. (ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث. فمعلوم أن الرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك كما قال تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا { [سورة النساء:94] . أي فتثبتوا. فدلت الآية على وجوب الكف حتى يثبت منه، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى: (فتبينوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى. وأيضاً أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الخوارج (أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) (¬4) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً، حتى أن الصحابة ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (ج 1ص 51) (ح20) كتاب الإيمان. (¬2) وهذه هي دعوى المرجئة. أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. (¬3) هم الغلاة الذين ادعوا ألوهية علي رضي الله عنه. (¬4) صحيح مسلم (ج2/742) (ح1064) كتاب الزكاة.

يحقرون صلاتهم عندهم. وقد تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم (لا إله إلا الله) ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة) (¬1) ا. هـ. ويعلم كل ذي لب أنها لو كانت كلمة - مجرد كلمة - لكان أمرها على قريش سهلاً فتنطقها وتتخلص من هذا العناء وتسفيه الآلهة! ولكنها تعلم أن هذه الكلمة لها مدلولها الذي يغير أوضاع قريش الجاهلية ولها مقتضياتها التي تحطم طغيان قريش واستعبادها للناس. ولها أهميتها في تحرير الناس من عبودية بعضهم لبعض إلى عبودية الواحد القهار وجعل التقوى هي الميزان والفخار الذي ينشده الناس، وليس العادات والتقاليد الجاهلية التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد. فحريٌّ بكل مسلم جاد في إسلامه أن يقدر لهذه الكلمة قدرها حتى يكون ممن عبد الله على بصيرة وعلم ويقين. ¬

(¬1) كشف الشبهات ص 40.

آثار الإقرار بلا إله إلا الله في حياة الإنسان

آثار الإقرار بلا إله إلا الله في حياة الإنسان ذكر الأستاذ المودودي رحمه الله في كتابه القيم (مبادئ الإسلام) (¬1) تسعة آثار لكلمة التوحيد أذكر ملخصها فيما يلي: - (1) إن المؤمن بهذه الكلمة لا يكون ضيق النظر، بخلاف من يقول بآلهة متعددة. أو من يجحدها. (2) إن الإيمان بهذه الكلمة ينشئ في النفس من الأنفة وعزة النفس ما لا يقوم دونه شيء، لأنه لا نافع إلا الله ولا ضار إلا الله، وهو المحيي المميت. وهو صاحب الحكم والسلطة والسيادة. ومن ثم ينزع من القلب كل خوف إلا منه سبحانه، فلا يطأطئ الرأس أمام أحد من الخلق، ولا يتضرع إليه، ولا يتكفف له، ولا يرتعب من كبريائه وعظمته. لأن الله هو العظيم القادر. وهذا بخلاف المشرك والكافر والملحد. (3) ينشأ من الإيمان بهذه الكلمة مع أنفة النفس وعزتها: تواضع من غير ذل وترفع من غير كبر فلا يكاد ينفخ أوداجه شيطان الغرور ويزهيه بقوته وكفاءته لأنه يعلم ويستيقن أن الله الذي وهبه كل ما عنده قادر على سلبه إياه إذا شاء. أما الملحد فإنه يتكبر ويبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة. (4) المؤمن بهذه الكلمة: يعلم علم اليقين أنه لا سبيل إلى النجاة والفلاح إلا بتزكية النفس والعمل الصالح أما المشركون والكفار فإنهم يقضون حياتهم على أماني كاذبة. فمنهم من يقول: إن ابن الله قد أصبح كفارة عن ذنوبنا، عند أبيه، ومنهم من يقول: نحن أبناء الله وأحباؤه فلن يعذبنا بذنوبنا. ومنهم ¬

(¬1) مبادئ الإسلام لأبي الأعلى المودودي (ص80 - 87) الناشر مؤسسة الرسالة سنة 1397 هـ.

من يقول: إنا سنشفع عند الله بكبرائنا وأتقيائنا، ومنهم من يقدم النذور والقرابين إلى آلهته زاعماً أنه نال بذلك رخصة في العمل بما يشاء. أما الملحد الذي لا يؤمن بالله فيعتقد أنه حر في هذه الدنيا غير مقيد بشرع الله وإنما إلهه هواه وشهوته وهو عبدهما. (5) قائل هذه الكلمة لا يتسرب إليه اليأس ولا يقعد به القنوط، لأنه يؤمن أن الله له خزائن السموات والأرض. ومن ثم فهو على طمأنينة وسكينة وأمل، حتى ولو طرد وأهين وضاقت عليه سبل العيش. إن عين الله لا تغفل عنه ولا تسلمه إلى نفسه، وهو يبذل جهده متوكلاً على الله، بخلاف الكفار الذين يعتمدون على قواهم المحدودة، وسرعان ما يدب لهم اليأس، ويساورهم القنوط عند الشدائد مما يفضي بهم أحياناً إلى الانتحار. (6) الإيمان بهذه الكلمة يربي الإنسان على قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل حينما يضطلع بمعالي الأمور ابتغاء مرضاه الله. إنه يشعر أن وراءه قوة مالك السماء والأرض. فيكون ثباته ورسوخه وصلابته التي يستمدها من هذا التصور، كالجبال الراسية، وأنى للكفر والشرك بمثل هذه القوة والثبات؟ (7) هذه الكلمة تشجع الإنسان وتملأ قلبه جرأة. لأن الذي يجبن الإنسان ويوهن عزمه شيئان: حبه للنفس والمال والأهل، أو اعتقاده أن هناك أحداً غير الله يميت الإنسان، فإيمان المرء بلا إله إلا الله ينزع عن قلبه كلا من هذين السببين، فيجعله موقناً أن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله فعندئذ يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده. وينزع الثاني بأن يلقي في روعه أنه لا يقدر على سلب الحياة منه إنسان ولا حيوان ولا قنبلة ولا مدفع، ولا سيف ولا حجر وإنما يقدر على ذلك الله وحده. من أجل ذلك لا يكون في الدنيا أشجع ولا أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى، فلا يكاد يخيفه أو يثبت في وجهه زحف الجيوش، ولا السيوف المسلولة، ولا مطر

الرصاصات والقنابل، فإنه عندما يتقدم في سبيل الله للجهاد، يهزم قوة تزيد على قوته بعشر مرات وأنى بمثل هذا للمشركين والكفار والملحدين؟ (8) الإيمان بلا إله إلا الله يرفع قدر الإنسان وينشئ فيه الترفع والقناعة والاستغناء، ويطهر قلبه من أوساخ الطمع والشره والحسد والدناءة واللؤم. وغيرها من الصفات القبيحة. (9) وأهم شيء وأجدره في هذا الصدد: أن الإيمان بـ (لا إله إلا الله) يجعل الإنسان متقيداً بشرع الله ومحافظاً عليه، فإن المؤمن يعتقد بيقين أن الله خبير بكل شيء، وهو أقرب إليه من حبل الوريد وأنه كان يستطيع أن يفلت من بطش أي كان، فإنه لا يستطيع أن يفلت من الله عز وجل. وعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان يكون متبعاً لأحكام الله، قائماً عند حدوده لا يجرؤ على اقتراف ما حرم الله، ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله. ومن أجل ذلك جعل الإيمان بلا إله إلا الله أول ركن وأهمه ليكون الإنسان مسلماً. والمسلم هو: العبد المطيع المنقاد لله تعالى ولا يكون كذلك إلا إذا كان مؤمناً من قلبه بأن لا إله إلا الله. وهذا هو أصل الإسلام، ومصدر قوته، وكل ما عداه من معتقدات الإسلام وأحكامه إنما هي مبنية عليه، ولا تستمد قوتها إلا منه، والإسلام لا يبقى منه شيء لو زال هذا الأساس (¬1) . ومن فضائلها ما ذكره ابن رجب، حيث أورد قول سفيان بن عيينة: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله، وأن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، ولأجلها أعدت دار الثواب ودار العقاب، ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد، فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر، وهي مفتاح الجنة، ومفتاح دعوة الرسل (¬2) . ولو أردت أن أذكر ما أورده العلماء، رحمهم الله تعالى حول فضلها وما في ذلك من الأحاديث النبوية وآثار السلف لطال المقام. ¬

(¬1) مبادئ الإسلام ص 87. (¬2) كلمة الإخلاص ص 53.

نواقض (لا إله إلا الله) (حرص الإسلام على بيان حقيقته وحقيقة ما يناقضه) سبق الكلام على مفهوم (لا إله إلا الله) وشروطها، وحقيقتها، وآثارها. وهنا أذكر نواقضها، من أجل أن تتضح معالم الصورة الكاملة لحقيقة (لا إله إلا الله) ذلك أن معرفة الضد يميز الشيء المراد إيضاحه. كما قيل (وبضدها تتميز الأشياء) . ومعلوم أن الكفر والشرك والنفاق والردة هي نواقض الإسلام، بشتى صورها، وقبل إيراد ذلك، لابد من أن نورد – قاعدة جليلة لأهل السنة والجماعة، بها تنضبط المسائل أصولاً وفروعاً. وسيتضح من خلال هذه القاعدة الرد على فرقة المرجئة، والذين ميعوا مفهوم هذه العقيدة. والرد أيضاً على الخوارج الذين غلوا وحادوا عن الصراط. ودين الإسلام وسط بين الإفراط والتفريط. وقد كثر كلام الناس حول هذا في القديم والحديث ولكل وجهة هو موليها بيد أني وجدت للعلامة ابن القيم كلاماً قيماً في هذا الموضوع – وهو القاعدة التي أشرت إليها آنفاً – سأورده كاملاً على الرغم من طوله: قال رحمه الله في كتاب الصلاة: (الكفر والإيمان متقابلان، إذا زال أحدهما خلفه الآخر. ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً: فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء، والتوكل، والخشية من الله، والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين. ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق. وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً. منها

ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر. والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر. والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان وتركها من شعب الكفر والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. (وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعب يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية. فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً - وهي شعبة من شعب الكفر - فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل) (وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب: هو الاعتقاد. وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله. وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة فأهل السنة: مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراً وجهراً ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به. (وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده، والذي

نواقض لا إله إلا الله

هو ملزم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق - كما تقدم - وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقاً - فليس هو التصديق المستلزم للإيمان. فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته. (وهاهنا أصل آخر: وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً، من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده. فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل (¬1) الله، وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعاً، ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه. فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد. ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافراً (¬2) ، ولا يطلق عليهما اسم الكفر. وقد نفى رسول الله الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه. وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد. (وكذلك قوله (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) (¬3) ¬

(¬1) سيأتي بعد تمام هذا النص إن شاء الله مزيد من التفصيل في هذه الفقرة وبيان متى يكون ذلك مخرج من الملة ومتى لا يكون. (¬2) انظر صحيح مسلم (ج1/88) (ح82) كتاب الإيمان. (¬3) صحيح مسلم (ج1/81) (ح65) كتاب الإيمان.

فهذا كفر عمل. وكذلك قوله (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد) (¬1) وقوله (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) (¬2) . (وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ { [سورة البقرة:84-85] . فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به أنهم لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقاً وأخرجوهم من ديارهم. فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك ¬

(¬1) أبو داود في الطب (ج4/225) (ح3904) ، وانظر مشكاة المصابيح (2/1294) (ح4599) وقال: الألباني إسناده صحيح. (¬2) صحيح مسلم (ج1/79) (ح60) كتاب الإيمان.

الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. (فالإيمان العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي. وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في الحديث الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) (¬1) ففرق بين قتاله وسبابه. وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به، والآخر كفراً. ومعلوم إنما أراد الكفر العملي الاعتقادي (¬2) ، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان. (وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمها فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقاً أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار (¬3) ، وفريقاً جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان (¬4) فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا. وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم. وقال سفيان بن عيينة: عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون { [سورة المائدة: 44] . ¬

(¬1) صحيح مسلم (ج1/81) (ح64) كتاب الإيمان. (¬2) لعل ابن القيم يقصد قتال المسلمين مع بعضهم البعض كما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم، أما من يريد قتل المؤمنين ويشن الحرب على الإسلام والمسلمين فهذا لا شك في كفره المخرج من الملة. كما هو حال أعداء الإسلام الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة بل هدفهم (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) [النساء: 89] . (¬3) يريد فرقة الخوارج. (¬4) يقصد المرجئة.

(قال: هو بهم كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة. وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة (¬1) . وقال وكيع بن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق (¬2) وهذا الذي قال عطاء بين في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافراً، وسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافراً. وليس الكافران على حد سواء. وسمى الكافر ظالماً كما في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ { [سورة البقرة:254] . (وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً فقال: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ { [سورة الطلاق:1] . وقال نبيه يونس {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ { [سورة الأنبياء:87] . وقال صفيه آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا { [سورة الأعراف: 23] . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (ج3/111) . (¬2) المصدر السابق (3/111) .

وقال كليمه موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي { [سورة القصص:16] . وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. (ويسمى الكافر فاسقاً: كما في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ {26} الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ { [سورة البقرة:26 - 27] . وقال: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ { [سورة البقرة: 99] . (وهذا كثير في القرآن. ويسمى المؤمن فاسقاً كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ { [سورة الحجرات: 6] . (نزلت في الحكم بن أبي العاص. وليس الفاسق كالفاسق. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { [سورة النور: 4] .

وقال عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ { [سورة الكهف: 50] . وقال: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق { [سورة البقرة:197] . وليس الفسوق كالفسوق. والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان، وكذا الجهل جهلان: جهل كفر كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ { [سورة الأعراف: 199] . وجهل غير كفر كقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ { [سورة النساء: 17] . (وكذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر، وهو شرك العمل كالرياء. قال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ { [سورة المائدة: 72] .

وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ { [سورة الحج: 13] . "وفى شرك الرياء: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا { [سورة الكهف: 110] . ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه أبو داود وغيره (¬1) ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل " (¬2) . (فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد: هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار. (ونفاق عمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) (¬3) . وفي الصحيح أيضاً (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من ¬

(¬1) أبو داود (ج3/570) (ح3251) كتاب الإيمان والنذور وأخرجه الترمذي (5/253) (ح1535) في النذور والإيمان واللفظ عنده: فقد كفر أو أشرك وقال: حديث حسن وقال الشوكاني صححه الحاكم. انظر نيل الأوطار (ج8/257) . (¬2) المسند (ج4/403) . قال الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير (3/233) (ح3624) . (¬3) صحيح البخاري (ج 1/89) (ح33، 34) كتاب الإيمان وصحيح مسلم (ج 1/78) (ح 58 , 59) كتاب الإيمان.

النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان) فهذا نفاق عمل، قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهي المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً. (وكلام الإمام أحمد يدل على هذا، فإن إسماعيل بن سعيد الشالنجي (¬1) قال: سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم، هل يكون مصراً من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) (¬2) ، يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، ونحو قوله (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) (¬3) . ونحو قول ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ { [سورة المائدة: 44] . (قال إسماعيل: فقلت له ما هذا الكفر؟ قال: لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه. (وهاهنا أصل آخر: وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان. وهذا من أعظم أصول أهل السنة، ¬

(¬1) هو إسماعيل بن سعيد الشالنجي أبو إسحاق ذكره أبو بكر الخلال فقال: عنده مسائل كثيرة، ما أحسب أحداً من أصحاب أبي عبد الله - أحمد بن حنبل - روى عنه أحسن مما روى هذا، ولا أشبع ولا أكثر مسائل منه. وكان عالماً بالرأي كبير القدر عندهم معروفاً، له كتاب ترجمه بـ[البيان على ترتيب الفقهاء] . انظر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (ج 1/104) . (¬2) ، (90) ، صحيح مسلم (ج1/76) (ح57) كتاب الإيمان. (¬3)

وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة (¬1) ، والقدرية (¬2) . (ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ { [سورة يوسف: 106] . فأثبت لهم إيماناً به سبحانه مع الشرك، وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { [سورة الحجرات:14] . فأثبت لهم إسلاماً وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ { [سورة الحجرات:15] . ¬

(¬1) المعتزلة: هم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا الرؤية. ويكذبون بعذاب القبر والشفاعة، والحوض، ولا يرون الصلاة خلف أحد من أهل القبلة، ولا الجمعة إلا وراء من كان على أهوائهم. انظر في ذلك كتاب السنة للإمام أحمد ص 81 وتلبيس إبليس لابن الجوزي (ص30) . (¬2) القدرية: هو الذين يزعمون أن إليهم الاستطاعة والمشيئة وأنهم يملكون لأنفسهم الخير والشر والضر والنفع، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، وأن العباد يعملون بدءاً من غير أن يكون سبق لهم ذلك من الله عز وجل أو في علمه وقولهم يضارع قول المجوسية. انظر السنة للإمام أحمد (ص81) .

وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين. وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفار. (قال الإمام أحمد: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن - يريد الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب - فهو مسلم ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون ذلك - يريد دون الكبائر - سميته مؤمناً ناقص الإيمان، فقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق) . فدل على أنه يجتمع في الرجل نفاق وإسلام. كذلك الرياء شرك، فإذا رآى الرجل في شيء من عمله اجتمع فيه الشرك والإسلام. (وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام. وقد بينا أن المعاصي كلها شعب من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها شعب من شعب الإيمان، فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمناً، وقد لا يسمى. كما أنه قد يسمى بشعبة من شعب الكفر كافراً، وقد لا يطلق عليه هذا الإسلام. فها هنا أمران: أمر اسمي لفظي، وأمر معنوي حكمي. فالمعنوي: هل هذه الخصلة كفر أم لا؟ واللفظي: هل يسمى من قامت به كافراً أم لا؟ فالأمر الأول: شرعي محض، والثاني لغوي وشرعي. (وها هنا أصل آخر: وهو أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمي مؤمناً وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر به أن يسمى كافراً، ,إن كان ما قام به كفراً. كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً: ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن

يسمى فقيهاً ولا طبيباً، ولا يمنع ذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيماناً، وشعبة النفاق نفاقاً، وشعبة الكفر كفراً. وقد يطلق عليه الفعل كقوله (فمن تركها فقد كفر) و (من حلف بغير الله فقد كفر) وقوله (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر ومن حلف بغير الله فقد كفر) . رواه الحاكم في صحيحه بهذا اللفظ. فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، وكذا يقال لمن ارتكب محرماً أنه فعل فسوقاً وأنه فسق بذلك المحرم، ولا يلزمه اسم فاسق إلا لغلبة ذلك عليه) (¬1) ا. هـ. ولي على هذا النص تعليق: ¬

(¬1) كتاب الصلاة: للعلامة محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ص 25 – 31، الطبعة الثانية سنة 1391 هـ المكتبة السلفية بمصر.

تعليق لا بد منه

تعليق لا بد منه في النص المتقدم بعض العبارات التي قد توهم بعض الناس في قضية (الحاكمية) حيث ذكر ابن القيم أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر دون كفر. وهنا لابد من إيضاح هذه القضية حتى يزول ما قد يحصل من إشكال. إن المجتمع الإسلامي منذ قيامه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قام على الحكم بشريعة الله، ومضى على ذلك خلفاؤه الراشدون، ثم الخلفاء الأمويون مضوا على ذلك وإن كان بدر منهم بعض الانحرافات، إلا أن الحكم الذي يتحاكمون إليه الناس هو شرع الله، يظلهم برايته ويرعاهم بحكمته وعدالته. ثم جاءت الدولة العباسية وكان الشرع أيضاً هو نظام الحكم مع وجود ثغرات قوية بعض الشيء. ثم جاء التتار، وأتى (هولاكو) بـ (لياسق) - وسيرد كلام العلماء بخصوصه في مكانه المناسب إن شاء الله - ولما كان الأمر كذلك فإن كلام السلف ومنهم ابن القيم كلام لا غبار عليه، فإذا حكم الحاكم برشوة أو لقرابة، أو شفاعة أو ما أشبه ذلك فلا شك أن ذلك كفر دون كفر. وأما ما جد في حياة المسلمين - ولأول مرة في تاريخهم - وهو تنحية شريعة الله عن الحكم ورميها بالرجعية والتخلف وأنها لم تعد تواكب التقدم الحضاري، والعصر المتطور فهذه ردة جديدة في حياة المسلمين. إذ الأمر لم يقتصر على تلك الدعاوى التافهة، بل تعداه إلى إقصائها فعلاً عن واقع الحياة واستبدال الذي هو أدنى بها، فحل محلها القانون الفرنسي أو الإنجليزي أو الأمريكي أو الاشتراكية الإلحادية وما أشبه ذلك من تلك النظم الجاهلية الكافرة.

ولي على هذا الكلام أدلة كثيرة منها: (1) ما أورده ابن القيم نفسه رحمه الله من قول الإمام أحمد الذي تقدم ص 65 وهو قوله (حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه) . نعم إنه أمر لا يختلف فيه أبداً وهو تنحية الشريعة ورميها بالقصور والنقصان وأن القانون أكمل منها، وألين منها في مسايرة تطورات العصر كفر صريح. (2) ما أورده ابن القيم أيضاً ص 67 من أن الكفر الذي هو كفر دون كفر ينطبق على الحاكم (الملتزم للإسلام وشرائعه) فهذا إذا خالف النص أو حاد عنه – كما تقدم شرحه – هو الذي ينطبق عليه هذا الحكم. وليس الأمر سارياً على من يحل القانون محل شرع الله. (3) قضية التحليل والتحريم، والتشريع للناس، اتفقت أقوال العلماء قديماً وحديثاً على أن ذلك من خصائص رب العالمين جل جلاله فمن ادعاها لنفسه فقد أله نفسه ونصبها نداً يعبد من دون الله وسيرد إيضاح هذا قريباً. (4) إن إقصاء الشريعة الربانية وإحلال أهواء البشر محلها هذا من الأشياء التي كفر العلماء قديماً وحديثاً فاعلها لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة. وهل يجادل أحد في ذلك والله يقول. {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ { [سورة الأعراف: 54] . فكما أنه سبحانه – وباعتراف الناس جميعاً – مؤمنهم وكافرهم – هو خالق السماء والأرض، فهو أيضاً صاحب الأمر والسلطان، والحكم والسيادة (¬1) . (5) يوضح كلمة الإمام أحمد رحمه الله وهي قوله (حتى يجيء من ذلك أمر لا ¬

(¬1) انظر تفسير هذه الآية للشهيد سيد قطب رحمه الله في كتابه (في ظلال القرآن) (ج3/1297) طبع دار الشروق وتفسير ابن كثير.

يختلف فيه) علم من أعلام المسلمين هو الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله حيث يقول: (إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (¬1) . (6) ما ذكره أيضاً ابن القيم رحمه الله في كتاب (مدارج السالكين حيث قال بعد أن أورد الأقوال في قضية الحكم قال: (والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله. فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطئ له حكم المخطئين) (¬2) . (7) ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (منهاج السنة) حيث قال: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر. فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر. فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسواليف البادية (¬3) وكانوا الأمراء المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار) (¬4) . ¬

(¬1) تحكيم القوانين (ص1) طبع سنة 1380 هـ مطابع الثقافة بمكة. (¬2) مدارج السالكين (ج1/337) . (¬3) أي عادات وتقاليد أهل البادية. (¬4) مجموعة التوحيد الرسالة الثانية عشرة (ص278) طبعة دار الفكر.

أنواع الكفر

(8) يقول: العلامة ابن القيم في تفسير قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ { [سورة الشعراء: 97 - 98] . (هذه التسوية إنما كانت في الحب والتأله واتباع ما شرعوا، لا في الخلق والقدرة والربوبية، وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار كقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ { [سورة الأنعام: 1] . وأصح القولين: أن المعنى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، فيجعلون له عدلاً يحبونه ويقدسونه ويعبدونه، كما يعبدون الله ويعبدونه، ويعظمون أمره وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات، بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته، وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية والتعظيم مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها، فتصحيح هذه: هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله) (¬1) . وإن مما يزيد إيضاح الحقيقة في أمر إحلال القانون والهوى محل الشرع، وما ذكره العلماء من أن كفر الاعتقاد ينقسم إلى خمسة أنواع هي: (¬2) (1) كفر تكذيب: وهو اعتقاد كذب الرسل. وهذا القسم قليل في الكفار، فإن الله تعالى أيد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة. قال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا { [سورة النمل: 14] . ¬

(¬1) التفسير القيم (ص396) . (¬2) أوردها العلامة ابن القيم في (مدارج السالكين) (ج1/337 - 338) .

وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ { [سورة الأنعام: 33] . (2) كفر إباء واستكبار: مثل كفر إبليس: ومن هذا كفر من عرف الرسول ولم ينقد له إباء واستكباراً وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما قال تعالى عن فرعون وقومه: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ { [سورة المؤمنون:47] . ومنه كفر أبي طالب فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم. (3) كفر إعراض: مثل من يعرض عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمعه، ولا يصدقه، ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم (والله أقول لك كلمة: إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك) (¬1) . (4) كفر الشك: حيث لا يجزم بصدقه، ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وأما مع التفاته إليها ونظره فيها فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق. (5) كفر نفاق: وهو أن يظهر بلسانه الإيمان وينطوي بقلبه التكذيب وهذا هو النفاق الأكبر. وبعد أن وضحنا الكفر بنوعيه - نعوذ بالله منه - ننتقل إلى تبيان الشرك - نعوذ ¬

(¬1) علق الشيخ محمد حامد الفقي على هذا بقوله (وهو كفر الملحدين اليوم من المتسمين بأسماء إسلامية، المقلدين للإفرنج من اليهود والنصارى، المنحلين عن كل خلق وفضيلة، زاعمين بجاهليتهم وسفههم أن هذا هو سبيل الرقي والمدنية (مدارج السالكين 1/228 (الحاشية) .

أنواع الشرك

بالله منه - وهو كما ورد سابقاً في كلام ابن القيم ينقسم إلى أكبر مخرج من الملة وإلى أصغر وهو الرياء: أما الشرك الأكبر فدليله قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء { [سورة النساء: 116] . وهو أربعة أنواع كما ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي: (1) شرك الدعاء: قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ { [سورة العنكبوت: 65] . (2) شرك النية والإدارة والقصد: قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ {15} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [سورة هود: 15-16] . (3) شرك الطاعة: قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ { [سورة التوبة: 31] .

وفي الحديث: عن عدي بن حاتم حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم؟ فقال: (بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم) (¬1) . قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسيرها: إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. (4) شرك المحبة: قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ { (¬2) [سورة البقرة: 165] . وأما النفاق: فمنه ما هو مخرج من الملة، وهذا هو النفاق الأكبر وفيه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنفاق منه ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، كنفاق عبد الله بن أبي وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بعضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله) (¬3) . ومنه ما هو نفاق أصغر وهو الرياء وقد سبق عليه الكلام. وأما الردة: فهي الكفر بعد الإيمان فمن قال الكفر أو فعله أو رضي به مختاراً كفر، وإن كان مع ذلك يبغض بقلبه، وبهذا قال علماء السنة والحديث، وذكروا ذلك في كتبهم فقالوا: إن المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه إما نطقاً، وإما فعلا وإما اعتقاداً. وقرروا أن من قال الكفر كفر وإن لم يعتقده ولم يعمل به إذا لم يكن مكرهاً. وكذلك إذا فعل الكفر كفر وإن لم يعتقده ولا نطق به، وكذلك إذا شرح ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب التفسير (ج 8/248، ح3094) تحقيق الدعاس قال الترمذي هذا حديث غريب. أورده ابن كثير في تفسير هذه الآية 4/77 وعزاه للإمام أحمد وابن جرير. وقال الألباني حديث حسن. وانظر غاية المرام في تخريج الحلال والحرام (ص20) . (¬2) مجموعة التوحيد ص 3. (¬3) الفتاوى (ج 28/434) .

بالكفر صدره أي فتحه ووسعه وإن لم ينطق بذلك ولم يعمل به. وهذا معلوم قطعاً من كتبهم ومن له ممارسة في العلم فلا بد أن يكون قد بلغ طائفة من ذلك (¬1) . ومن باب التفصيل والتوضيح وذكر التفصيل بعد الإجمال: إليك نواقض الإسلام العشرة كما قررها أهل العلم. ¬

(¬1) الدفاع للشيخ حمد بن عتيق ص 28 وانظر التشريع الجنائي (ج2/708) وكتاب الردة بين الأمس واليوم (ص33) .

نواقض الإسلام العشرة

نواقض الإسلام ذكر أهل العلم أن هناك عشرة نواقض هامة هي: (1) الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء { [سورة النساء: 116] . (2) من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة. كفر إجماعاً. (3) من لم يكفر المشركين، أوشك في كفرهم، أو صحح مذهبهم. كفر إجماعاً. (4) من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر. (5) من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعاً. والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ { [سورة محمد: 9] . (6) من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ

لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ { [سورة التوبة: 65، 66] . (7) السحر، ومنه الصرف، والعطف فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ { [سورة البقرة: 102] . (8) مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [سورة المائدة: 51] . (9) من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر. (10) الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ { [سورة السجدة: 22] . ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه (¬1) ¬

(¬1) الدرر السنية (ج8/89 -90) وانظر مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (ج5/212 - 214) .

ويجدر بنا ونحن نستعرض هذه النواقض أن نقف عند اثنين منها، نظراً لأهميتهما وخطروتهما على حياة المسلمين وليتضح سبب الإسهاب في قضية الحاكمية وعلاقة الولاء والبراء بذلك. الأول: (من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر) . إن تنحية شريعة الله عن مجرى الحياة، واستيراد قوانين البشر القاصرة: ردة جديدة برزت في القرون الأخيرة من حياة المسلمين، وذلك أن المجتمع الإسلامي عاش قروناً طوالاً يستظل بشرع الله وتهيمن الشريعة على حياة أفراده حكاماً ومحكومين - مع وجود بعض المعاصي سواء كانت كبائر أم صغائر - ولكن نظام حياة الناس، والتشريع المنفذ في أمورهم هو شرع الله وحكمه، وكذلك جهاد الكفار ونشر كلمة الإسلام في الأرض كانت كل هذه الأمور في ازدياد وتوسع. أما رمي الشريعة الإسلامية بالقصور والرجعية وعدم مسايرة تطورات العصر فهذا شيء لم يحدث إلا بعد أن مكن المسلمون الاستعمار العالمي من ذلك وبعد أن نسوا الله فأنساهم أنفسهم. ولقد جاء القرآن الكريم والسنة المطهرة بنصوص كثيرة صريحة واضحة حول قضية الحكم وأنها من عقيدة المسلم، ومن أهم أمور الدين قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ { [سورة المائدة: 44] . وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ { [سورة المائدة: 45] . وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { [سورة المائدة: 47] .

وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ { [سورة المائدة: 50] . وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا { [سورة النساء: 65] . وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ { [سورة الشورى:21] . وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47} وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {50} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة النور: 47 -51] .

ويقول سبحانه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا { [سورة النساء: 115] . ثم يبين سبحانه وتعالى زيف زعم من يدعي الإيمان ويريد التحاكم إلى الطاغوت فيقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا { [سورة النساء:60 - 61] . ولقد أحسن أحد العلماء في وصف من طمست بصيرته فاستبدل بالشريعة القانون حيث قال: إن مثل هذا (الجعل يتأذى من رائحة المسك والورد الفواح، ويحيا بالعذرة والغائط في المستراح) (¬1) . ولقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ { [سورة المجادلة: 20] . ومن أعظم المحادة لله ورسوله التولي عن حكم الله وشرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما هذه الذلة التي يعيشها المسلمون اليوم في الأرض إلا نتيجة طبيعية لترك شرع الله ¬

(¬1) الرسائل المنيرية (ج1/139) .

فهاهم أولاء اليوم كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل، وطمعت فيهم أحقر الأمم وسيطرت عليهم أراذل الناس، ولقد صدقت فيهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن) فقال قائل: يا رسول الله: وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت) (¬1) . وإن جزءاً كبيراً من هذا الانحراف الذي سيطر اليوم على حياة المسلمين يتحمله الذين يتزيون بزي العلماء ويحسنون للناس أن يستبدلوا بشرع الله أهواء البشر، إن هؤلاء ليحملون أوزارهم كاملة ومن أوزار الذين يضلونهم إلى يوم القيامة والإسلام بريء من هؤلاء. ويرحم الله علماء السلف الذين كانوا حماة على ثغور الإسلام حتى لا يؤتى الإسلام من قبل أحدهم. فهذا الإمام الجليل الحافظ ابن كثير رحمه الله يذكر في كتابه (تفسير القرآن العظيم) ما حل بالأمة الإسلامية أيام التتار، وذلك عند قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ { [سورة المائدة: 50] . قال: (ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم الياسق، ¬

(¬1) سنن أبي داود كتاب الملاحم (ج 4/484، 4297) . وقال في مشكاة المصابيح رواه البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال الشيخ الألباني وهو حديث صحيح. انظر مشكاة المصابيح (ج3/1475) .

تعريف الياسق

(وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير) (¬1) . ويوضح الشيخ محمد بن إبراهيم (¬2) رحمه الله الحالات التي إن فعلها الحاكم دخلت في الكفر المخرج من الملة وهي: (1) إذا جحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله. وهو معنى ما روى عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، وجحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم، إن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً فإنه كافر كفراً ينقل عن الملة (¬3) . (2) إن لم يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أن حكم الله ورسوله حق، ولكنه اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس وما استجد لهم من حوادث نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال فهذا أيضاً لا ريب في كفره لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي زبالة الأذهان وحثالة الأفكار على حكم الحكيم الخبير. فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله. (3) أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (ج3/123) . (¬2) هو الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية ولد سنة 1311 هـ ونشأ في بيت علم وفضل. وحفظ القرآن وهو في الحادية عشرة من عمره، وكف بصره وهو في الرابعة عشرة من عمره فصبر واحتسب. وتتلمذ على الشيخ سعد بن عتيق. وتوفي في رمضان سنة 1389 هـ عن عمر يناهز الثمانين عاماً. وانظر ترجمته في كتاب علماء نجد للبسام (1/88) . (¬3) تحكيم القوانين (ص5) .

كالنوعين السابقين كافر كفراً ينقل عن الملة لما في ذلك من تسوية المخلوق بالخالق (4) من اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله فهو كالذي قبله. (5) من أعظم ذلك وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي، كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، وأي كفر فوق هذا الكفر؟! وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟! (¬1) . (6) ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها (سلومهم) يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به رغبة وإعراضاً عن حكم الله. (أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة: والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر وقوله أيضاً: (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه) فذلك مثل، أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها الله كفراً) (¬2) . وإن الذي جعلنا نسهب في ذكر شؤون الحاكمية وتفصيل أحوالها هو خطورتها وعظمها. فإن موالاة الحاكم بغير ما أنزل الله وإقرار تشريعه للناس من عند نفسه وتحليله وتحريمه ما لم يأذن به الله، مناقضة بأن الله هو الإله الذي تألهه القلوب بالحب والتعظيم والطاعة والانقياد، ومناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله فهو المطاع فيما أمر ونهى عنه وزجر ولو فهم الناس هذا لما بقي لطاغية في ¬

(¬1) المصدر السابق (ص7) . (¬2) المصدر السابق (ص 8) .

الأرض حق الوجود والتشريع. وإقرار الكفر وتنحيه شرع الله المحكم. الثاني: من الأمور التي يجب أن نتدبرها بروية - من نواقض الإسلام - مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ { [سورة المائدة:51] . وهذا من أعظم النواقض التي وقع فيها سواد الناس اليوم في الأرض، وهم بعد ذلك يحسبون على الإسلام ويتسمون بأسماء إسلامية. فلقد صرنا في عصر يستحي فيه أن يقال للكافر: يا كافر!! بل زاد الأمر عتواً بنظرة الإعجاب والإكبار والتعظيم والمهابة لأعداء الله، وأصبحوا موضع القدوة والأسوة لضعاف الإيمان، ينظرون إلى أعداء الله نظرة انبهار ملؤها التمني أن يكونوا مثلهم حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه. مظاهرة أخذت صوراً شتى فمن الميل القلبي إلى انتحال مذاهبهم الإلحادية إلى مجاراتهم في تشريعاتهم، إلى كشف عورات المسلمين لهم، إلى كل صغير وكبير في حياتهم. وسيأتي تفصيل الحديث في هذا الأمر - إن شاء الله - في فصل صور الموالاة. من هنا فإن إدراك حقيقة هذه العقيدة ونواقضها، أمر كفيل بأن يجعل المسلم على بصيرة من أمره في عقيدة الولاء والبراء. حسب المقياس الشرعي الصحيح، وليس حسب مقياس أهواء البشر. إنه لا ولاء إلا لله ولرسوله ودينه والمؤمنين. والبراء من كل متبوع أو مرغوب أو مرهوب يحاد الله ورسوله.

الباب الأول مفهوم الولاء البراء

الباب الأول

الفصل الأول تعريفه وأهميته في الكتاب والسنة

الباب الأول مفهوم الولاء البراء الفصل الأول تعريفه وأهميته في الكتاب والسنة الولاء في اللغة: جاء في لسان العرب: الموالاة - كما قال ابن الأعرابي -: إن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه. ووالى فلان فلاناً: إذا أحبه. والمولى: اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو: الرب، والمالك، والسيد والمنعم، والمعتق، والناصر، والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيد، والصهر، والعبد، والمعتق، والمنعم عليه. ويلاحظ في هذه المعاني أنها تقوم على النصرة والمحبة (¬1) . والولاية - بالفتح - في النسب والنصرة والعتق. والموالاة - بالضم - من والى القوم. قال الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم (من كنت مولاه فعلي مولاه) (¬2) يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ { [سورة محمد:11] . ¬

(¬1) لسان العرب لابن منظور (ج3/985 - 986) وانظر القاموس المحيط الطبعة الرابعة/294 الطبعة الثالثة. (¬2) أخرجه أحمد في المسند عن البراء (4/281) وأيضاً عن زيد بن أرقم 4/368، 370، 372 والترمذي في المناقب (ج9/300 ح3714) وقال حديث حسن صحيح غريب. وقال الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (ج6/353 ح6399) .

والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو، قال تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا { [سورة مريم: 45] . قال ثعلب: كل من عبد شيئاً من دون الله فقد اتخذه ولياً. وقوله تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ { [سورة البقرة: 257] . وليهم في نصرهم على عدوهم، وإظهار دينهم على دين مخالفيهم وقيل: وليهم أي: يتولى ثوابهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم والولي: القرب والدنو (¬1) . والموالاة: المتابعة. والتولي: يكون بمعنى الإعراض، ويكون بمعنى الاتباع. قال تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ { [سورة محمد: 38] . أي: أن تعرضوا عن الإسلام. وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [سورة المائدة:51] . معناه - من يتبعهم وينصرهم (¬2) ¬

(¬1) لسان العرب (3/986) . (¬2) لسان العرب (ج3/988) .

البراء في اللغة:

وقال صاحب (المصباح المنير) الولي فعيل بمعنى فاعل، من وليه إذا قام به، ومنه قوله تعالى: {الله ولي الذين ءامنوا { [سورة البقرة: 257] . ويكون الولي: بمعنى مفعول، في حق المطيع، فيقال: المؤمن ولي الله. ووالاه موالاة وولاء: من باب (قاتل) أي تابعه) (¬1) . تعريف البراء في اللغة: قال ابن الأعرابي: برئ إذا تخلص، وبرئ، إذا تنزه وتباعد، وبرئ: إذا أعذر وأنذر، ومنه قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ { [سورة التوبة: 1] أي إعذار وإنذار. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما دعاه عمر إلى العمل فأبى قال عمر: إن يوسف قد سأل العمل، فقال أبو هريرة: إن يوسف مني برئ وأنا منه براء (¬2) . أي برئ عن مساواته في الحكم وإن أقاس به، ولم يرد براءة الولاية والمحبة لأنه مأمور بالإيمان به، انتهى من النهاية. والبراء والبريء سواء. وليلة البراء: ليلة يتبرأ القمر من الشمس، وهي أول ليلة من الشهر (¬3) ¬

(¬1) المصباح المنير للفيومي 2/841. (¬2) هذا الأثر ذكره ابن الأثير في كتابه 0النهاية في غريب الأحاديث (ج1/112) تحقيق الزاوي والطناحي. (¬3) لسان العرب (ج1/183) والقاموس المحيط (ج1/8) .

الولاء في الاصطلاح الشرعي

تعريف الولاء بالمعنى الاصطلاحي: الولاية هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً. قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ { [سورة البقرة: 257] (¬1) . فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الود لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا (¬2) تعريف البراء بالمعنى الاصطلاحي: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار. شرح تعريف الولاء والبراء: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الولاية: ضد العداوة: البغض والبعد) .. والولي: القريب يقال: هذا يلي هذا: أي يقرب منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) (¬3) أي لأقرب رجل إلى الميت. فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معادياً له. كما قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ { [سورة الممتحنة: 1] . ¬

(¬1) شرح الطحاوية (ص403) وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد (ص422) . (¬2) كتاب الإيمان لنعيم ياسين (ص145) . (¬3) هذا الحديث أخرجه البخاري كتاب الفرائض (12/11 ح 6732) ومسلم (ج3/1233 ح1615) كتاب الفرائض.

فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه ولهذا جاء في الحديث (ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة) (¬1) . ومسمى الموالاة (لأعداء الله) : يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات (¬2) . ولما عقد الله الأخوة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى وملحدين ومشركين وغيرهم كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين: أن كل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان. وحيث أن الولاء والبراء تابعان للحب والبغض، فإن أصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله. (¬3) . وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله (من أحب في الله، وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) (¬4) . وإذا كان حبر هذه الأمة يذكر أن مؤاخاة الناس في زمانه قد أصبحت على أمر الدنيا وأن ذلك لا يجدي على أهله شيئاً، وهذا في القرن الذي هو خير القرون: فجدير بالمؤمن أن يعيي ويعرف من يحب ومن يبغض، ومن يوالي ومن يعادي ثم يزن نفسه بميزان الكتاب والسنة ليرى أواقف هو في صف الشيطان وحزبه أم في صف عباد الرحمن وحزب الله الذين هم المفلحون، وما عداهم فأولئك هم الذين خسروا الدنيا والآخرة! ¬

(¬1) الفرقان لابن تيمية (ص7) أما الحديث فقد رواه البخاري في كتاب الرقائق باب التواضع (ج11/341 ح6502) . (¬2) انظر الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ص43) . (¬3) انظر الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي 1/98. (¬4) سبق تخريجه.

وإذا أصبحت المؤاخاة والمحبة على أمر الدنيا - كما قال الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - فإن تلك المحبة والمؤاخاة لا تلبث أن تزول بزوال العرض الزائل وحينئذ لا يكون للأمة شوكة ومنعة أمام أعدائها. وفي عصرنا الحاضر عصر المادة والدنيا قد أصبحت محبة الناس في الأغلب على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً. ولن تقوم للأمة الإسلامية قائمة إلا بالرجوع إلى الله والاجتماع على الحب فيه والبغض فيه والولاء له والبراء ممن أمرنا الله بالبراء منه، وعندئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

أهمية هذا الموضوع في الكتاب والسنة ونصيبه من الدراسة والتأليف

أهمية هذا الموضوع في الكتاب والسنة ونصيبه من الدراسة والتأليف إنه من الجدير بالذكر أن هذا الموضوع - الولاء والبراء - رغم أهميته ووضوحه في الكتاب والسنة إلا أن نصيبه من الدراسة والتأليف في الكتب العقدية القديمة قليل جداً. وذلك راجع في نظري إلى ثلاثة أمور: (1) إن هذا المفهوم العقدي كان من الوضوح والنصاعة عند المسلمين الأولين بمكان، حيث إنهم - من خلال سيرتهم وتاريخهم الوضيء - كانوا على درجة عالية جداً من الصفاء العقدي، والتميز الواضح، وقيامهم أيضاً - بالجهاد في سبيل الله. كل ذلك جعل هذا الأمر واضحاً وجلياً في حسهم وأيضاً رجوعهم للكتاب والسنة في كل شيء. (2) إن طبيعة المجتمع الإسلامي الأول خاصة بعد الخلافة الراشدة لم تبرز فيه مشاكل عقدية حول هذا الموضوع وإنما نشأت حول صفات الله جل جلاله، وقامت الفرق المختلفة بالخوض فيها , فكان لا بد أن يتصدى أهل السنة والجماعة لمعالجة ذلك الانحراف بأن يبينوا للناس أن لله صفات تليق بجلاله وعظمته. نثبتها له كما جاءت في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل. من هنا زخرت مؤلفاتهم رحمهم الله بالحديث في هذه الشأن، ولا تجد لهم ذكراً لقضية الولاء والبراء إلا في كلمات موجزة صغيرة كقولهم (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم) (¬1) . (3) وبعد خول علم الكلام في مؤلفات المسلمين العقدية، وتعكير صفوها بما ليس منها: لم يعد لهذا الموضوع ذكر البتة: وليس هو المنفرد بهذا الإقصاء، بل أنه تابع لإقصاء موضوع (لا إله إلا الله وما تقتضيه من توحيد الألوهية وما ¬

(¬1) الطحاوية مع شرحها (ص 528) الطبعة الرابعة.

وبين أسلوب علم الكلام

يضاد ذلك من نواقض الإسلام، التي لو شغل المسلمون أنفسهم ببيانها وعرضها للناس عرضاً صحيحاً سليماً بدلاً من تحويلها إلى قضايا ذهنية تجريدية لا علاقة لها بالسلوك الواقعي ولا بمعاني الإسلام الحقيقية لكان ذلك أجدى وأنفع للناس، وأقوم للقيام بما أراده الله منهم. ولو أن الأمة الإسلامية تقيدت بقول رسولها صلى الله عليه وسلم (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) (¬1) . وعضت على ذلك بالنواجذ ما طمع فيها شرق ولا غرب، ولا تخبطت في متاهات التبعية العمياء للإلحاد والفكر الجاهلي سواء كان شرقياً أم غربياً على حد سواء. وحين اقتصر المسلمون الأوائل على الوحيين العزيزين خرج منهم جيل فريد ليس له مثال لا سابق ولا لاحق، جيل اعتز بانتمائه لدينه الخالص، ففتح الدنيا ومزق ظلام الكفر والشرك وصدع باسم الله في الأرض من مشارف فرنسا غرباً إلى حدود الصين شرقاً. ولعل من المناسب هنا أن نتحدث - ولو قليلاً - عن طريقة القرآن والسنة في عرض العقيدة بصفة عامة وجناية علم الكلام على المسلمين لنقف من خلال هذه النبذة على مدى الهوة بين صفاء النبع العقدي الرباني وبين جهالات علم الكلام. لقد أدرك سلف هذه الأمة رحمهم الله أن كتاب الله العزيز هو: كتاب هداية وليس كتاب فلسفة ونظريات فارغة لا تمس الواقع. وأيقن ذلك الجيل أن الله هو خالق النفس البشرية وأنه هو العليم وحده بما يصلحها، فلما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم كان هو النور الهادي للنفوس، ومصدر كل خير لها، وهو أيضاً النذير لها من كل ما يورد موارد الهلاك والخسران. وميزة الخطاب القرآني: أنه يخاطب (الإنسان) كوحدة متصلة فيها الروح والجسد وفيها العقل والعاطفة، وفيها حب ¬

(¬1) مسند أحمد (ج4/126) وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2/222 وسنن ابن ماجة: المقدمة (ج1/16 ح43) وفي سنده عبد الرحمن بن عمرو السلمي لم يوثقه غير ابن حبان. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1/46 عن أبي عاصم في كتاب السنة وقال إسناده حسن. انظر جامع الأصول (ج1/293) (حاشية) .

الخير وكره الشر: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا { [سورة الشمس: 7-10] . هكذا هي الطريقة القرآنية في عرضها للعقيدة: إنها (طريقة لا تخاطب الذهن المجرد ولكنها تخاطب (الإنسان) كله، وتخاطبه - أول ما تخاطبه 0 عن طريق الوجدان ولا يمنع هذا أن تدعو عقله للمشاركة في الأمر، ولكنها لا تخاطبه منفرداً إنما تخاطبه دائماً والوجدان مستجاش، فيأخذ دوره في التلقي منفعلاً بالقضية، متحركاً للإيمان بها، لا مجرد مساجل فيها بالمنطق والبرهان: والقرآن حين يصنع ذلك فهو يستجيب للفطرة البشرية كما خلقها الله فالله الذي خلق هذه الفطرة هو الذي أنزل هذا القرآن مفصلاً على قدها، مستجيباً لها، ومجيباً لها، وباعثاً ومقوماً في آن. والعقل جزء من هذه الفطرة ولا شك، وله دوره في قضية الإيمان.. ولكن الله يعلم الشروط اللازمة لهذا العقل حين يتناول قضية من قضايا (الحياة) أنه يمكن أن يعمل وحده حين يكون دوره هو التعرف على سنة من سنن الكون لا مجال فيها للوجدان، أما في قضية الإيمان فإنه لا يستقل بهذا الأمر وحده، بل تشاركه العاطفة والوجدان) (¬1) . وإذا تصفحنا التاريخ الإسلامي لنبحث عن تاريخ الانحراف في الدراسات العقدية لوجدنا أن ذلك قد وقع في العهد الأموي بشكل بسيط ولكنه بلغ قمته في العهد العباسي إبان ترجمة العلوم اليونانية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية. فبعد أن اتسعت الفتوحات وامتدت رقعة الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام أناس أظهروا الإسلام وأبطنوا النفاق والزندقة حصل خلط في المترجمات، فلم يفرق بين الغث والسمين من تلك العلوم الأجنبية. ولما أصبح شغل أكثر الناس هو الترف العقلي: رأوا أن يستوردوا غثاء الجاهلية الإغريقية وسمي ذلك عند المخدوعين به (فلسفة) !! وانبهروا بهذا ¬

(¬1) دراسات قرآنية للأستاذ محمد قطب (ص149) بقليل من التصرف.

المستورد الدخيل وما فيه من عجمة تعقيد ولعب بالألفاظ ودلالتها. وقادهم هذا الانبهار إلى إلباس التصور الإسلامي قناعاً غريباً عليه في ذاته، وغريباً عليه في عرضه، وغريباً أيضاً على أهله. وسر ذلك: أن (هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية) (¬1) . وحري بنا أن نسأل: ما هو سر محاولة التوفيق بين الفلسفة البشرية الجاهلية التي نمت وترعرعت في جو وثني كافر، وبين المورد العذب دين الله (الإسلام) ؟. هل كان ذلك نتيجة للتقليد الأعمى والسعي وراء كل ناعق؟ أم أنه كان نتيجة للقعود عن الجهاد ونشر العقيدة في ربوع الأرض؟ أم هو الترف العقلي ومجابهة أصحاب الجدل بنفس أسلوبهم؟ أم أن وراء ذلك كيداً من أعداء الإسلام في محاولة تشويه صفاء هذه العقيدة وخلطها بالشوائب الغريبة عنها؟! والذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذه الأسباب مجتمعة لها دورها كل بحسب أهميته إلا أنه من خلال تتبع قصة الترجمة في عهدها الأول يظهر لي: أن كيد أعداء الدين وافق هوى عند بعض المسلمين خاصة بعض الحكام في العهد العباسي - كالمأمون مثلاً - فحدث ما حدث من ترجمة لكتب المباحث السوفسطائية اليونانية وغيرها. ويصدق ذلك: أن المأمون بعث إلى حاكم صقلية المسيحي يطلب منه أن يبادر بإرسال مكتبه صقلية الشهيرة الغنية بكتب الفلسفة!! وتردد الحاكم في إرسالها، وجمع رجالات دولته واستشارتهم حول هذا الطلب فأشار عليه المطران الأكبر بقوله: (إرسلها إليه، فوالله ما دخلت هذه العلوم في أمة إلا أفسدتها) فأذعن الحاكم لمشورته وعمل بها. ثم أحضر المأمون حنين بن ¬

(¬1) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته للأستاذ سيد قطب (ص10- 11) دار الشروق.

إسحاق (¬1) - وكان فتى لسناً - وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب حكماء اليونان إلى العربية، فامتثل لأمره. وكان المأمون يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلاً بمثل. مما جعل حنيناً يكتب على ورق غليظ ويباعد بين الأسطر ويكتب بالحروف الكبيرة (¬2) !!؟ وصدق - والله - المطران الصقلي: إن هذه الكتب ما دخلت أمة إلا أفسدتها ترى من أين جاءت محنة الإمام أحمد بن حنبل وظهور المبتدعة أيام المأمون وغيره. ومن أين جاءت المصطلحات المبتدعة كالجوهر والعرض والواجب والممكن وغيرها؟ إنه لم يأت كل ذلك إلا من ترجمة علم الكلام الجاهلي وخلطه بالعقيدة الإسلامية ليصنع من ذلك كله ما يسمي بـ "الفلسفة الإسلامية"!! وإذا علمنا: أن المترجمين كان جلهم نصارى (¬3) . وقد كتبوا في الترجمة العربية ما يعتقدونه ويدينون به. فكيف يوثق بنصراني يعتقد التثليث وهو يترجم للمسلمين كتباً يتعلمونها ويعلمونها أبناءهم ويستفيدون منها في مؤلفاتهم؟ لقد صدق الشاعر حين قال: ومن جعل الغرب له دليلا ... يمر به على جيف الكلاب ولمزيد من إيضاح وبيان البون الشاسع بين طريقة القرآن والسنة في عرض العقيدة وبين علم الكلام نذكر الأمور التالية في المباينة بينهما، لا من باب المقارنة فلا وجه للمقارنة في الحقيقة، إذ الأمر كما يقول الشاعر: ¬

(¬1) هو حنين بن اسحاق، طبيب، مؤرخ، مترجم، كان أبوه صيدلانياً من أهل الحيرة، أخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وأخذ الطب عن يوحنا بن ماسويه وغيره، وتمكن من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية فانتهت إليه رئاسة المترجمين في عهد المأمون الذي عينه رئيساً لديوان الترجمة وبذل له الأموال والعطايا. لخص كثيراً من كتب أبقراط وجالينوس، وكان يحفظ الياذة هوميروس ومترجماته تزيد على المائة. انظر الأعلام للزركلي (ج2/287) الطبعة الرابعة. (¬2) انظر كتاب "عصر المأمون" (ص375 - 377) للدكتور أحمد مزيد رفاعي الطبعة الثانية سنة 1346 هـ الناشر دار الكتب المصرية. (¬3) انظر في هذا كتاب الجانب الإلهي للأستاذ محمد البهي (ص177) .

ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل أن السيف أمضى من العصا وإنما من باب التنبيه والتذكير (¬1) . (1) في المصدر: فمصدر العقيدة القرآنية: الله رب العالمين. أما مصدر "علم الكلام" فعقول البشر القاصرة الهزيلة. (2) في المنهج والسبيل: فغاية علم الكلام: إثبات وحدانية الخالق، وإنه لا شريك له ويظن المتكلمون أن هذا هو المراد بـ " لا إله إلا الله " بينما المراد منها ما سبق أن شرحناه في التمهيد ثم إن علم الكلام يسعى لتحقيق "المعرفة" في الوقت الذي نجد فيه الطريقة القرآنية تهدف إلى "الحركة" من وراء المعرفة، فتحول تلك المعرفة إلى قوة دافعة لتحقيق مدلولها في عالم الواقع وتستجيش الضمير الإنساني ليحقق وجوده في الأرض إلى ربها، وتحيا حياة كريمة رفيعة تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان (¬2) . ثم إن المنهج القرآني يدعو إلى (عبادة الله وحده) قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ { [سورة الأنبياء: 25] . وأوصى المصطفى صلى الله عليه وسلم معاذاً حين بعثه إلى اليمن: أن يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فإذا عرفوا ذلك دعاهم للفرائض (¬3) ولم يأمره أن يدعوهم أولاً إلى "الشك " أو "النظر" كما هي طريقة المتكلمين!!. ¬

(¬1) ينظر في هذا الموضوع كتاب "العقيدة في الله " للأستاذ عمر سليمان الأشقر: (ص27) إلى (ص38) الطبعة الأولى سنة 1399 مـ الناشر مكتبة الفلاح بالكويت. (¬2) انظر: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته (ص10-11) . (¬3) الحديث موجود في: صحيح البخاري (ج3/322 ح 1458) وصحيح مسلم (ج1/50 ح19) كتاب الإيمان.

أسلوب العرض القرآني للعقيدة

(والله سبحانه وتعالى عندما يبعث الناس لا يسألهم عن العلوم الحسية والبدهية، والمنطق، والطبيعي، والجوهر والعرض - بل يسألهم عن استجابتهم للرسل أو عدمها {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ {9} وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ {10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ { [سورة الملك 8-11] . (¬1) ووحدانية الخالق التي هي غاية علم الكلام: لم تنفع المشركين الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يقرون بها كما أخبر الله عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ { [سورة لقمان:25] . (3) قوة التأثير: الذي هو طابع العقيدة الربانية: مما يجعل لها سلطاناً قوياً على نفوس معتنقيها. بعكس الفلسفة والكلام اللذين يدلان على جهل أصحابها كما قال أحدهم - وهو سقراط - (الشيء الذي لا أزال أعلمه جيداً هو أنني لست أعلم شيئاً) (¬2) . (4) الأسلوب: فالعقيدة الربانية تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص، وهو أسلوب يمتاز بالحيوية والإيقاع. واللمسة المباشرة والإيحاء بالحقائق الكبيرة، مع بساطة في العرض ووضوح في البيان وإعجاز في اللفظ والمعنى. ¬

(¬1) "العقيدة في الله " للأشقر (ص31) (¬2) المصدر السابق (ص32) .

مما يجعل إدراك هذه العقيدة سهلاً لكافة المستويات البشرية. وهذا كله بخلاف الفلسفة والكلام، وبخلاف تلك المصطلحات المعقدة التي لا تزيد الشك إلا شكاً وحيرة وضلالاً (¬1) . وأسلوب المتكلمين يسير على نمط واحد في كل قضية يتحدث عنها فهو لا يخرج عن قوله: (فإن قيل لنا كذا: قلنا لهم كذا) . أما الأسلوب القرآني فإنه يعرض العقيدة على نمطين: الأول: توحيد في الإثبات والمعرفة. أي إثبات حقيقة الرب وصفاته وأفعاله وأسمائه كما أخبر به عن نفسه وكما أخبر رسوله الكريم، وهذا موجود في أول سورة الحديد وطه، وآخر الحشر، وأول السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها (¬2) . الثاني: توحيد في الطلب والقصد: وهذا ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {و {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ { [سورة آل عمران: 64] . وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها وأول سورة الأعراف وآخرها وجملة سورة الأنعام. ¬

(¬1) انظر خصائص التصور الإسلامي والعقيدة للأشقر (ص35) . (¬2) شرح العقيدة الطحاوية (ص 88) طبع المكتب الإسلامي

ويعرف الأول: بأنه توحيد علمي خبري، والثاني بأنه: توحيد إرادي طلبي (¬1) . ونظرة واحدة إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في عرضه لهذه العقيدة وتربيته الفذة لصحابته كافية في الدلالة على أن من سلك طريقاً غير طريق القرآن والسنة في عرض العقيدة فقد سلك "سبلاً" لا تلتقي مع صراط الله المستقيم. روى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن (¬2) . وقال أبو عبد الرحمن السلمي: (¬3) حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً (¬4) . يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (لقد كان تلقي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه العقيدة أشبه ما يكون بتلقي الجندي في الميدان " الأمر اليومي" ليعمل به فور تلقيه، ولذلك لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود) (¬5) . هكذا كان صدر هذه الأمة مقتصراً على كتاب الله وسنة رسوله في عقيدته. ولكن الانحراف الذي طرأ على المسائل العقدية في العصور المتأخرة سببه حركة الترجمة والانبهار بفلسفة اليونان وعلومهم. ولو كان هناك وعي وتفكير في الأشياء المترجمة لاقتصر على ترجمة العلوم البحتة كالهندسة والكيمياء والطب وغيرها من العلوم النافعة وبشرط أن تكون صياغة ترجمتها متفقة مع عقيدة المسلمين. ولكن ¬

(¬1) المصدر السابق (ص88) . (¬2) مقدمة الحفاظ ابن كثير لتفسيره (ج1/13) . (¬3) هو عبد الله بن حبيب السلمي القارىء لأبيه صحبة. روى عن مجموعة من كبار الصحابة وهو تابعي ثقة توفي سنة 72 هـ وقيل 85 هـ وانظر تهذيب التهذيب (ج5/183) . (¬4) المصدر السابق (ج1/13) . (¬5) معالم في الطريق (ص15) .

الخطأ الذي حصل كان ترجمة جميع العلوم ومنها "الإلهيات" عند أرسطو وأفلاطون وغيرهم! إنه خطأ فاحش وقع فيه من وقع وإلا فما هو الدافع لاستيراد ما عند الوثنيين واستخدام أهل الكتاب في ذلك؟ وصدق حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حين قال محذراً (.. أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم) (¬1) . والذي حصل كما يقول الشيخ محمد الغزالي: (إن صفو هذه العقيدة قد تعكر بالفكر الأجنبي الذي أقحم على الحياة الإسلامية وبضروب الجدل التي زجى بها المتبطلون أوقات فراغهم) (¬2) . ولكن رحمة الله بعباده تكفله جل جلاله بحفظ هذا الدين تجلت في إيجاد علماء أعلام، في كل عصر ومصر، قاموا بواجب الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وتبصير الأمة بما شردت عنه، وزهدت فيه. لذلك حين رأى كثير من الأئمة رحمهم الله هذا الداء الدخيل يحل على المسلمين في تصورهم وعقيدتهم قاموا بواجبهم الجهادي نحوه. فهذا الإمام الجليل الشافعي رحمه الله يقول: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام " (¬3) . ويقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله: " العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم " (¬4) . ثم عقب شارح الطحاوية على ذلك بقوله: " كيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير اتباع ما جاء به الرسول " (¬5) ¬

(¬1) صحيح البخاري (ج13/496 ح 7523) كتاب التوحيد. (¬2) الإسلام والطاقات المعطلة (ص112) الطبعة الثانية. (¬3) شرح الطحاوية (ص72) . (¬4) المصدر السابق (ص73) . (¬5) المصدر السابق (ص73) .

وذكر ابن الجوزي رحمه الله: (أن أصل الدخل في العلم والاعتقاد: من الفلسفة وذلك أن خلقاً من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع رسول الله صلى عليه وسلم من الانعكاف على الكتاب والسنة، بل أوغلوا في النظر في مذاهب أهل الفلسفة وخاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها العقائد) (¬1) . أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيقول: (هؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة الذين ذمهم السلف والأئمة، أنهم لم يقوموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد، بل أخذوا يناظرون أقواماً من الكفار وأهل البدع الذين هم أبعد عن السنة منهم، بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول، وهذا لا يقطع أولئك الكفار بالعقول فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان، ولا جاهدوا حق الجهاد. وأخذوا يقولون: أنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات!!، وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده تكذيباً، أو تأويلاً، أو تفويضاً. لأنها أصل السمعيات، وإذا حقق الأمر عليهم وجد الأمر بالعكس) (¬2) . وكلمة أخيرة نذكرها للعبرة والعظة، وهي كلمة لأحد أولئك الذين خاضوا في بحر الكلام اللجي ثم خرجوا منه يطلبون النجاة. إنها كلمة أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي حيث قال: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً. ورأيت أقرب الطرق. طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) (¬3) . هذا وإنه لحري بالأمة، وبعد أن عاشت قروناً من الضياع والتخبط أن تعود إلى المشكاة الربانية كتاب الله وسنة رسوله، فتتدبر معانيها، وتعمل بما فيها ففي ذلك النجاح ¬

(¬1) صيد الخاطر: تحقيق الطنطاوي (ص205) الطبعة الثانية 1398 هـ. (¬2) موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول (1/238) تحقيق محيي الدين عبد الحميد ومحمد حامد الفقي. (¬3) شرح الطحاوية (ص227) .

طريقة القرآن والسنة في غرس عقيدة الولاء والبراء

والفلاح وطمأنينة القلب {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ { [سورة الرعد: 28] . وعلى الرغم من أنه سيتضح للقارئ - إن شاء الله - من خلال قراءة هذا البحث: طريقة القرآن والسنة في غرس عقيدة (الولاء والبراء في النفوس، وذلك من خلال سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهدين المكي والمدني ومن خلال الأمثلة والصور الكثيرة في هذا الشأن إلا أنني أرى أنه لا بأس بأن أورد هنا طرفاً من هذا الموضوع خاصة وأنني قد تكملت حول علم الكلام وجنايته على الأمة الإسلامية. إن من أولى البدهيات في هذا الشأن أن الإسلام قد حرص على أن يكون انتماء المسلم لدينه فقط منذ أول لحظة يعلن فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) . والبراءة من كل معبود أو متبوع أو مطاع سوى الله تعالى. والأدلة على ذلك كثيرة جداً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ { [سورة البقرة: 256] . وقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فأنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ { [سورة آل عمران: 103] .

ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ { [سورة الأنعام: 71] . {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى { [سورة لقمان: 22] . {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ { [سورة آل عمران:85] . {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ { [سورة فصلت: 33] . فهذه النصوص الكريمة تثبت مدى منة الله سبحانه وتعالى بإنعامه على المسلمين بهذا الدين، فالولاء له مصدر القوة والعزة. فمن استمسك بهذا الولاء، وحققه فقد استمسك بالعروة الوثقى. أما الحديث - فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية (¬1) ، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها ¬

(¬1) العبية - كما قال الخطابي - الكبر والنخوة. انظر سنن أبي داود (ج5/340) .

النتن) (¬1) . وحرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على تربية أمته والبعد بها عن مفاخر الأنساب والأحساب التي لا تستمد قوتها وحيويتها من هذا الدين القيم، فنجده عليه الصلاة والسلام يحثهم على أن يكون انتمائهم للصف الإسلامي وحسب. ففي الحديث عن أبي عقبة - وكان مولى من أهل فارس قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي! فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (فهلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري) (¬2) . ولقد كان دين العقيدة الإسلامية هو: إفراد الله تعالى بالتعلق والحب والتعظيم والطاعة والإنابة والخشوع والخوف والرجاء وتجريد النفس من كل محبوب أو مرهوب أو مرغوب سوى الله تعالى، قال جل شأنه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ { [سورة يونس: 107] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ( ... واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) (¬3) . (فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله، بل يفرد الله بالمخافة ... ويتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً، واشتغالاً به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه، ¬

(¬1) سنن أبي داود كتاب الأدب (ج 5/340 ح 5116) وأخرجه الترمذي في المناقب (9/430 ح3950) وقال حديث حسن. (¬2) سنن أبي داود كتاب الأدب 5ج/343 ح 5123 قال الألباني في المشكاة في إسناده عنعنة محمد بن إسحاق (3/1374) وأخرجه ابن ماجه في الجهاد (ج2/931 ح 2784) . (¬3) سنن الترمذي في أبواب صفة القيامة (ج7/204 ح 2518) وقال حديث حسن صحيح.

واشتغاله به من نقص توحيده (¬1) وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا.. ومعلوم أن التوحيد حصن الله الأعظم من دخله كان من الآمنين. قال بعض السلف: من خاف الله خافه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء) (¬2) . هذا طريق من طرق منهج العقيدة في غرسها للولاء والبراء في النفوس. وطريق آخر: وهو استخدام مشاهد يوم القيامة، لتصوير الخصومة والعداء بين الأتباع والمتبوعين - الذين سلكوا غير منهج الله في الدنيا ووالوا وعادوا حسب العادات ودين الآباء - وتبرؤ كل فريق من صاحبه. {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ {166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ { [سورة البقرة: 166- 167] . ولا شك أن هذه حال من اتخذ من دون الله ورسوله وليجة وأولياء، يوالي لهم ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها، وشدة تعبه فيها ونصبه، إذ لم يخلص موالاته ومعاداته، ومحبته وبغضه، وانتصاره وإيثاره لله ورسوله. ويوم القيامة ينقطع كل سبب ووسيلة وموالاة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا من كان له سبب يصل بينه وبين ربه وهو حظه من الهجرة إلى الله ورسوله وعبادة الله وحده وما يلزم ذلك من الحب والبغض والعطاء والمنع والولاء والعداء والقرب ¬

(¬1) يشترط في هذا عدم ترك الأسباب لأن فعل السبب من باب التوكل (اعقلها وتوكل) (¬2) بدائع الفوائد لابن القيم (2/245) - بتصرف.

والبعد وتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض والترك لما خالف سنته وهديه) (¬1) . ومن منهج القرآن أيضاً في موضوع الولاء والبراء ضرب المثل، وهذا كثير في القرآن الكريم وأبرز مثال في هذه القضية هو إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وأبو الأنبياء. فإنه هو القدوة الأولى في الولاء والبراء. ونظراً لأهمية ذلك أترك الحديث عنه إلى فصل مستقل في هذا الباب إن شاء الله. وإذا وجدت محبة الله في القلب، تحمل المؤمن حينئذ وتقبل تكاليف هذه المحبة ولوازم عبادته لله تعالى ومن ذلك جهاد أعداء الله وبغضهم وهجرتهم والصبر على الأذى في سبيل الله. ثم يمضي القرآن الكريم في أسلوب عرض هذه العقيدة مستخدماً التهديد والوعيد بعد البيان والإيضاح وإقامة الحجة على الناس فيقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { [سورة المائدة:54] . أما المستجيبون لأمر الله فإن الله يحبهم وهو ناصرهم ومولاهم {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص { [سورة الصف:4] ¬

(¬1) انظر الرسالة التبوكية لابن القيم (ص51) .

من لوازم محبة الله اتباع رسول الله

{بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ { [سورة آل عمران: 150] . {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ { [سورة الحج: 78] . ومن لوازم محبة الله اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { [سورة آل عمران: 31] . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته باطناً وظاهراً هو موجب محبة الله، كما أن الجهاد في سبيل الله، وموالاة أولياؤه ومعاداة أعدائه هو حقيقتها) (¬1) . ويقول الحسن البصري رحمه الله: (زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (¬2) لقد ربى الكتاب والسنة الأمة على الحب في الله والبغض في الله، والولاء في الله والبراء في الله، حتى وصلت إلى حد أن لو قذفت في النار لكان أحب إليها من أن تعود في الكفر بعد إذ أنقذها الله منه. ولئن كان الولاء والبراء قد غاب اليوم في واقع حياة المسلمين - إلا من رحم ربك - فإن هذا الغياب لا يغير من الحقيقة الناصعة الجلية شيئاً لأن هذا الأمر العظيم كما يقول الشيخ حمد بن عتيق (¬3) : (ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده) (¬4) . وما ¬

(¬1) التحفة العراقية (ص76) . (¬2) تفسير ابن كثير (ج2/25) . (¬3) ستأتي ترجمته قريباً. (¬4) النجاة والفكاك (ص14) .

سر استيراد مذاهب البشر الإلحادية وأفكارهم القاصرة إلا نتيجة حتمية لغياب ولائهم لله ورسوله وعدم براءتهم من الطواغيت المقنعة ببهرج الباطل وزيف الحقيقة.

الفصل الثاني

الفصل الثاني أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وطبيعة العداوة بينهما إن وجود أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أمر قديم نشأ منذ خلق آدم عليه السلام وأمر الله للملائكة بالسجود له فسجدت إلا إبليس أبى واستكبر. وقد تحدث القرآن الكريم عن قصة هذه العداوة بين آدم وإبليس في سور شتى من أبرزها سورة البقرة وسورة الأعراف وسورة طه وغيرها. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37} قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فلا

خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { [سورة البقرة:34 - 38] . وفي سورة الأعراف يأتي بيان عدم سجود إبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ { [سورة الأعراف:12] . لقد كان أمر الله لإبليس أن يسجد فكان رده لعنه الله الامتناع والاستكبار مستخدماً في ذلك قياسه الفاسد: إن النار أشرف من الطين! وهو بهذا ينصب نفسه نداً لله سبحانه وتعالى: الله يقول كذا. فيقول إبليس أنا أرى كذا. ولذلك استحق اللعنة والطرد من رحمة الله. وانقسام الناس إلى فريق الهدى وفريق الضلال بدأ بهذه البداية كما ذكر ذلك المولى سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { [سورة التغابن: 2] . فأما الفريق الذي أجاب دعوة الرسل وآمن بكتب الله المنزلة ورسله المبعوثين رحمة للناس فهؤلاء أولياء الرحمن.

بعض صفات أولياء الشيطان

وأما الفريق الذي أعرض واستكبر فهم أولياء الشيطان. وقبل الحديث عن الفريقين لا بد أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أقام الحجة على عباده فبين لهم عداوة الشيطان - حتى بعد قصته مع آدم - فهو سبحانه لم يذكر قصة آدم وعداوة إبليس له عدة مرات في القرآن فحسب، بل زاد الأمر بياناً فحذر بني آدم في مواضع كثيرة من القرآن أن يستمعوا لغواية الشيطان ويعرضوا عن طريق الله المستقيم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ { [سورة البقرة: 208] . ثم يأتي التذكير مع التحذير في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ { [سورة الأعراف: 27] . ولم يقتصر البيان القرآني الكريم على هذا بل قد كشف للناس المخطط الشيطاني، حتى يبصر كل ذي عينين ويتفكر أولوا الألباب فقال تعالى عن إبليس: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا {118} وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ

فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا {119} يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا { [سورة النساء: 118 - 120] . ثم يذكر الله للناس مشهداً من مشاهد يوم القيامة حين يندم أولياء الشيطان ولات ساعة مندم فيقول سبحانه: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ {59} أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60} وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ { [سورة يس: 59 - 61] . ومشهد آخر لإبليس حين يتبرأ من أتباعه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { [سورة إبراهيم: 22] .

إنه ليس بعد بيان الله بيان. والأشياء لأصلها تعود كما يقولون فما دام أن إبليس عدو لآدم فلا شك أن أتباع إبليس وحزبه أعداء لأولياء الرحمن وأتباع المرسلين. ومن ثم فلا التقاء بين الفريقين ولا هوادة بينهما. إنها الحرب والعداوة والحسد والاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة وكل ما يوحي به إبليس لأتباعه ذلك سلاح حزب الشيطان. وحزب الشيطان أناس يتربصون بالمؤمنين يحاولون ما استطاعوا أن يصدوهم عن ذكر الله، ولقد أخبرنا الله جل جلاله بذلك في مواضع عدة من كتابه الكريم فقال سبحانه عن سخرية أعداء الله بحزب الله. {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ { [سورة البقرة: 212] . {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ { [سورة الأعراف: 66] . {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ { [سورة المطففين: 29- 32] .

وانظر إلى تصوير القرآن لعداوة حزب الشيطان، وما تنطوي عليه نفوسهم ضد المؤمنين في قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفأنبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ { [سورة الحج: 72] . وهاهنا حقيقة هامة وهي: أن العداوة التي وقعت بين آدم عليه السلام وبين إبليس هي عداوة قائمة بين إبليس وبني آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وتاريخ البشرية كله ما هو إلا مصداق لحقيقة انقسام الناس إلى فريق الهدى والرشاد وفريق الهوى والشهوة والشيطان. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ والله بما تعملون بصير { [سورة التغابن:2] . وعلى ذلك فإنه لا التقاء بين الفريقين في الدنيا ولا في الآخرة ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ومن سنة الله: أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (¬1) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (ج28/57) .

وانظر إلى عداوة قوم نوح عليه السلام له وقوم عاد وقوم صالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم العداوة التي تقابل بها الجاهلية أهل الإيمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وإذا كان أولياء الرحمن مصرين على اتباع هدي ربهم فإن أولياء الشيطان يصرون أيضاً على التردي في حمأة الجهل والضلال، عابدين للطاغوت سواء كان هذا الطاغوت نداً يعبد أو شهوة يراد إشباعها أو جنساً أو لغة أو سلطة أو أرضاً أو دين الآباء الأولين. وصدق الله العظيم إذ يقول: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [سورة البقرة: 257] . أما حزب الرحمن فهم (الذين ينتمون إليه سبحانه، ويستظلون برايته، ويتولونه ولا يتولون أحداً غيره، وهم أسرة واحدة وأمة واحدة من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان ومن وراء القوميات والأجناس، ومن وراء الأرومات والبيوت) (¬1) . وقد جاء الدين الإسلامي بفيصل التفرقة بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية فلم يجعل التقاء الناس على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو التراب كما تفعل ذلك الجاهليات القديمة والحديثة على سواء- بل جعل التقاء الناس على العقيدة في الله، وجعل المفاضلة بينهم بالعمل الصالح قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا ¬

(¬1) في ظلال القرآن (ج1/413) .

وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { [سورة الحجرات: 13] . وقال صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. كلكم لآدم وآدم من تراب) (¬1) . وقال أيضاً: إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي) (¬2) . ولقد تبرأ المصطفى صلى الله عليه وسلم من أقرباء له ليسوا على دينه، ليضع من نفسه قدوة للمؤمنين فقال فيما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً من غير سر (إن آل فلان - أناس من أقاربه - ليسوا لي بأولياء، وإنما ولي الله وصالح المؤمنين) متفق عليه) (¬3) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا) (¬4) وهذا موافق لقوله تعالى: {َإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ { [سورة التحريم: 4] . من هنا: كان المؤمنون هم أولياء الله لأنهم استجابوا لما أراد الله فتلقوا منه وحده، وعبدوه وحده، وخافوه وحده. بعكس الفريق الثاني فإنهم كلما دعاهم رسول من رسل الله قالوا {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد (ج5/411) عن أبي نضرة وإسناده صحيح إلا أنه مرسل لأن أبا نضرة ليس صحابياً. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح البخاري كتاب الأدب (ج10/419 ح 5990) ومسلم في الإيمان (1/197 ح 215) . (¬4) مسند أحمد: (ج5/235) وهو حديث صحيح. انظر تخريج كتاب فقه السيرة للغزالي (ص485) وصحيح الجامع الصغير (ج2/181 ح 2008) .

كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ { [سورة البقرة: 170] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ { [سورة المائدة: 104] . ومن صفات أولياء الرحمن: الاستجابة والانقياد لحكم الله وشرعه واتباع أمره قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة النور: 51] . أما أولياء الشيطان: فمن سماتهم الاعراض عن حكم الله وشرعه، واتباع الهوى والشيطان قال تعالى: {ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع ورعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين { [سورة النساء: 46] .

وقال {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ { [سورة السجدة: 22] . يقول العلامة ابن القيم: (كل من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يتمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والفساد من قلبه، والجحود والكفر من صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه فهو ولي الشيطان) (¬1) . ومن سمات أولياء الشيطان أنهم: (إذا جاء الحق معارضاً في طريق رياستهم طحنوه، وداسوه بأرجلهم، فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل، فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق، وحادوا عنه إلى طريق أخرى، وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان، فإن لم يجدوا منه بداً أعطوه السكة والخطبة، وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ، وإن جاء الحق ناصراً لهم، وكان لهم صالوا به وجالوا، وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته غرضهم وأهوائهم، {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ { (¬2) [سورة النور 48-50] . ¬

(¬1) هداية الحيارى: (ص7) . (¬2) مدارج السالكين (ج1/53) .

طبيعة العداوة بين الفريقين

طبيعة العداوة بين الفريقين بعد أن بينا سمات الفريقين، نتحدث الآن عن العداوة بينهما، ومعرفة هذه العداوة أمر لا بد منه لتمييز الخبيث من الطيب. {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ { [سورة آل عمران: 179] . ومعرفة العداوة بين الفريقين أمر هام يكشف ألعوبة بعض المتسمين بأسماء إسلامية وهم يسعون لتذويب المسلم في خضم الجو الجاهلي المعاصر وتمييع ولائه لربه ودينه وإخوانه المسلمين. وأمانة براءته وعداوته لكل عدو لهذا الدين. هذه الحقيقة الهامة الناصعة يحاول أعداؤنا تزييفها: بأن الكفار أصدقاء أوفياء شرفاء يجب أن يكون لهم الحب والتقدير، والإجلال والإكبار والتعظيم، يقولون أننا متأخرون وهؤلاء القوم متقدمون يجب أن نسلك مسلكهم، وننهج نهجهم نقتفي آثارهم في كل وضع وحال، نأخذ حضارتهم بكاملها حلوها ومرها، حقها وباطلها، بل إنه لا باطل فيها (¬1) . ولكن هيهات خسئوا وخابوا، إن حزب الله هم الأعلون عند الله قدراً، وهم الأعلون ولو كانوا أقل عدداً، وحزب الشيطان هم الخاسرون ولو كانوا عدد الحصى. ولا بد أن يسبق حديث العداوة بين الفريقين، نبذة بسيطة عن عداوة إبليس للإنسان حتى نعلم مداخل الشيطان لهذه النفس البشرية، ومدى تلبيسه الحق بالباطل على أوليائه فيبين الحق للمؤمن فيأخذ الحذر على نفسه ومن معه، ويعبد الله على بصيرة منه ونور من شرعه. ¬

(¬1) ممن تزعم هذا الاتجاه طه حسين وأضرابه. انظر إذا شئت كتابه مستقبل الثقافة في مصر.

عداوة الشيطان للإنسان تتمثل في ست مراتب

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن عداوة الشيطان للإنسان تتمثل في سبع مراتب أذكرها هنا بالاختصار. (1) الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر الشيطان بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه، وهو أول ما يريد من العبد، فإن ظفر به صيره من عسكره ونوابه، فصار من دعاة إبليس، فإن يئس من ذلك نقله للمرتبة الثانية من الشر وهي. (2) البدعة: لأنها أحب إليه من: الفسوق والعصيان، وذلك أن ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعد، وهي مخالفة لدعوة الرسل، فإن كان الشخص ممن يعادي أهل البدع والضلال نقله إلى المرتبة الثالثة وهي: (3) الكبائر على اختلاف أنواعها، فيحرص أن يوقعه فيها، خاصة إذا كان عالماً متبوعاً لينفر الناس عنه. ومن المعلوم أن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبوا إشاعتها، فكيف إذا تولوا هم إذاعتها؟ فإن عجز عن هذه نقله للتي بعدها وهي: (4) الصغائر التي إذا اجتمعت ربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ذلك قوم نزلوا بفلاة من الأرض) (¬1) . وذكر حديثاً معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا ناراً عظيمة فطبخوا واشتووا. ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها. فيكون صاحب الكبيرة الخائف أحسن حالاً منه، فإن أعجزه العبد عن هذه نقله للخامسة. (5) إشغاله بالمباحات التي لا ثواب ولا عقاب، بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد عن هذه بأن كان حافظاً لوقته شحيحاً به، يعلم مقدار أنفاسه وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله للتي بعدها. ¬

(¬1) الحديث في مسند أحمد (ج5/331) وهو حديث صحيح انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (ح389) وصحيح الجامع (ج2/386 ح 2683 و 2684) .

أسباب العداوة

(6) إشغاله بالعمل المفضول عن الفاضل ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل، ويفتح له أبواب خير كثيرة، كما ورد أنه يأمر بسبعين باباً من أبواب الخير إما ليتوصل إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيراً أعظم من تلك السبعين وأجل وأفضل. وهذا أمر لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأرضاها له، وهذا لا يعرفه إلا من كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة، وخلفائه في الأرض والله يمن بفضله على من يشاء من عباده (¬1) . (7) فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست: سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه وقصد إخماله وإطفاءه ليشوش عليه قلبه، ويمنع الناس من الانتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه لا يفتر ولا يني فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر أو أصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله. وما دام أن هذا هو كيد الشيطان للإنسان فما هو سبب العداوة ومثيرتها بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؟ والجواب على ذلك أحد أمور أربعة أو الأربعة مجتمعة. (1) الكبر: فأولياء الشيطان استكبروا على الحق وعلى الرسول وعلى الرسالة. قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { [سورة غافر: 56] . ¬

(¬1) بدائع الفوائد (2/260 - 262) بتصرف.

وقال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون { [سورة البقرة: 7] . وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { [سورة لقمان: 7] . (2) استحباب الحياة الدنيا على الآخرة، واللصوق بالشهوات واللذائذ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ { [سورة النحل: 107] . {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ { [سورة إبراهيم: 3] . وإذا وجد الكبر وحب الدنيا على الآخرة أو أحدهما: فإن أرباب ذلك ينزعجون من وجود عباد الله المخلصين، حتى ولو لم يظهر لهم منهم أي احتكاك فإن وجودهم بهذا النقاء وبهذه الطهارة وبذلك الاستعلاء أمر يغيظ أعداء الله قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء { [سورة النساء: 89] .

ذلك أن وجود الفريق الطاهر يشعر الفريق الدنس بخبث طويته وقبيح فعله، فمن هنا يبدأ كيد أعداء الله لأولياء الله بكل ما تعني كلمة (كيد) سواء كان ذلك بالسخرية أو الاستهزاء، أو العذاب والاضطهاد، أو التربص للمؤمنين بكل ما يسوء. (3) الحسد: فثائرة أولياء الشيطان لا تهدأ، ولذلك يكنون للمؤمنين الحسد والحقد، وقد بين الله ذلك في كتابه العزيز بقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [سورة البقرة:109] . أجل هذه هي أمنيتهم أن يكفر عباد الله ليتساووا معهم في الكفر والضلال، وقد بين الله عظيم حقدهم وحسدهم لو ظهروا على المؤمنين فقال تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً { [سورة التوبة:8] . (4) سلب الهيمنة والولاء: وهذا أمر يختص بـ (الملأ) أي السادة والطواغيت الذين يستعبدون الناس، حيث يتقدم الناس لهم بالإجلال والتعظيم والرغبة والرهبة، والخوف والرجاء. فإذا جاء دين الله وشرعه الذي يحرر الناس من عبودية العبيد إلى عبادة الواحد القهار فإن (الملأ) يثورون ويعادون عادة الخير، لأنهم يشعرون حينئذ أن سلطانهم قد سلب وأن شرفهم قد زال، وأن الناس لم يعودوا يخشونهم أو يرهبونهم، لأن دين الله قد حررهم وأعزهم

وعبدهم لله فخوفهم من الله، وحبهم لله، وولاؤهم لله، وبغضهم في الله. ودليل هذا فعل كسرى حين جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الدخول في الإسلام فاستكبر في نفسه وكأنه يقول: أمر عجيب الأعراب الذين كانوا رعاة لنا يأتون إلي لأدخل في دينهم الجديد! وظن أن ملكه سيزول إذا دخل في الدين الجديد، فما كان منه إلا أن مزق الكتاب. وقد استجاب الله دعوة نبيه فمزق الله ملك كسرى شر ممزق، فهكذا الطواغيت التي لا تدين لله بالولاء والسلطة والحاكمية تعادي أولياء الرحمن وتصب عليهم أشد أنواع العذاب كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ { [سورة البروج: 8] . (والجاهلية لا تكره الإسلام لأنها - في دخيلة نفسها - لا تعرف ما فيه من الحق والخير، أو لأنها بينها وبين نفسها - تعتقد حقاً أن باطلها الذي تعيش فيه أصوب وأقوم من الإسلام! كلا! فهي تكرهه وهي عالمة بما فيه من الحق والخير وبأنه هو الذي يقوم ما آعوج من شؤون الحياة، وإنما تكرهه لأنها حريصة على هذا العوج لا تريد تقويمه، وتود أن تبقى الأمور على آعوجاجها ولا تستقيم،! تكرهه لأنها هي الجاهلية.. وهو الإسلام! {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى { (¬1) [سورة فصلت:17] . ¬

(¬1) جاهلية القرن العشرين للأستاذ محمد قطب (ص322) .

أما طبيعة عداوة أولياء الرحمن لأعدائهم: فهي جزء من عقيدتهم وأحسب أني فصلت القول في هذا في التمهيد حين تكلمت عن لوازم لا إله إلا الله – أنهم يبغضون في الله من حاد الله ورسوله قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة المجادلة: 22] . إنهم لا يلتقون مع أعدائهم في منتصف الطريق بل يقولون كما قال إمامهم إبراهيم عليه السلام: {إِنَّا بُرَاءؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ { [سورة الممتحنة:4] . يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إنه لا يستقيم للإنسان إسلام – ولو وحد الله وترك الشرك – إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا ... { [سورة المجادلة: 22] (¬1) ¬

(¬1) مجموعة التوحيد (ص19) (ستة مواضع من السيرة) طبعة دار الفكر.

وما دمنا قد عرفنا منطلق العداوة وحقيقتها فيجب أن نعلم أن هذا هو (القاسم المشترك) بين أعداء الإسلام بشتى أصنافهم كفار ومشركين ومنافقين وكل من كره الإسلام وعاداه. إن طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيداً أصحاب المناهج الأخرى طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين الناس كافة وبين حرية الاختيار الحقيقية.. ثم إنها طبيعة التعارض بين منهجين للحياة، لا التقاء بينهما في صغيرة ولا كبيرة وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم، فهي حتمية لا اختيار فيها في الحقيقة لهؤلاء ولا لهؤلاء ... وهذه الظاهرة يقررها القرآن بقوله (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) (¬1) . ونذكر بعض عداوات هذه الأصناف حسبما نص عليه القرآن الكريم فأما الكفار فقد قال الله تعالى عنهم: {يُرِيدُونَ ليطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ { [سورة الصف: 8] . وقال في شأن "المشركين ": {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ { [سورة البقرة: 105] . ¬

(¬1) انظر طريق الدعوة في ظلال القرآن (ج1/80) .

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { [سورة الصف:9] . وأما عداوة " أهل الكتاب" فالله يقول عنهم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ { [سورة البقرة: 120] . {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ { [سورة المائدة:82] . {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل { [سورة النساء:44] . {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ { [سورة آل عمران: 119]

أما عداوة " المنافقين ": فقد نبه القرآن الكريم على ذلك في مواضع كثيرة ومن ذلك ما ورد في أول سورة البقرة حيث ذكرهم في ثلاث عشرة آية من آية 8 – 20 (وذلك لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً، لأنهم منسوبون إليه، وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب، يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد. (فلله كم معقل للإسلام قد هدموه! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من لواء مرفوع قد وضعوه.. اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون { [سورة المؤمنون:53] . (رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والختر، وعندهم العقل المعيشي: إن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون. {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ { [سورة البقرة: 9] (من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات فركبوا مراكب الشبه والشكوك، تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت

بسفنهم الريح العاصف، فألقتها بين سفن الهالكين. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ { (¬1) [سورة البقرة: 16] . وقد نزل بخصوصهم سورة كاملة في القرآن هي سورة (المنافقون) وقد ورد فيها صريح عداوتهم للمؤمنين في قوله تعالى عنهم: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ {7} يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ { [سورة المنافقون: 7-8] . وما دمنا قد عرفنا عداوات هذه الأصناف للإسلام، فإنه لجدير بنا أن نؤكد خطورة عداوة اليهود والنصارى لأنهم هم المسيطرون اليوم على معظم بقاع الأرض، وهم الذين يثبتون غزوهم بشتى الأساليب، وهم رمز (البهرج ¬

(¬1) مدارج السالكين (ج1/347 – 349) بتصرف.

والانبهار) أمام المخدوعين من أبناء المسلمين. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (إن حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة هي من أجل العقيدة. وهم قد يختصمون فيما بينهم ولكنهم يلتقون دائماً في المعركة ضد الإسلام والمسلمين. (وقد يرفعون لهذه المعركة أعلاماً شتى – في خبث ومكر وتورية – لأنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة، فخوفاً من حماس العقيدة الإسلامية وجيشانها: أعلنوا الحرب باسم الأرض والاقتصاد والسياسة والمراكز العسكرية، وألقوا في روع المخدوعين منا: إن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها! ولا يجوز رفع رايتها، وخوض المعركة باسمها، فهذه سمة المتخلفين المتعصبين! وذلك ليأمنوا جيشان العقيدة من جديد، بينما هم في قرارة نفوسهم جميعاً: يخوضون المعركة أولاً وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلاً فأدمتهم جميعاً! فإذا نحن خدعنا بخدعتهم فلا نلومن إلا أنفسنا، ونحن نبتعد عن توجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأمته وهو سبحانه أصدق القائلين: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ { [سورة البقرة:120] . (هذا هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه وما سواه فمرفوض ومردود. ولكن الأمر الحازم والتوجيه الصادق ((قل إن هدى الله هو الهدى)) على سبيل القصر والحصر هدى الله هو الهدى وما عداه فليس بهدى) (¬1) . ¬

(¬1) بتصرف: في ظلال القرآن (ج1/108) .

وخلاصة القول: إن حقيقة العداوة وطبيعتها هو اختلاف الدينين، وافتراق المنهجين. فإما دين الله واتباع شرعه وموالاة عباده المؤمنين. وإما دين الباطل واتباع الهوى والشهوات والانضمام إلى حزب الشيطان، فعلى أولياء الله أن يعتزوا بدينهم، وأن يستعلوا فوق وطأة الباطل فإنهم هم المنصورون، وإذا كان أعداء الله يتباهون بقوتهم وكثرة عددهم وعدتهم فإن المؤمنين يفخرون بنصر الله وكريم معيته وعونه لهم. فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال (يقول الله تعالى ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه)) (¬1) . ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ { [سورة النحل:128] . ويقول: {ذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ { [سورة الأنفال: 12] . ¬

(¬1) سبق تخريجه.

ويقول تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ { [سورة محمد: 35] . وإذا قلبنا صفحات التاريخ وجدنا مصداق ذلك، ففي غزوة بدر نصر الله القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، وأعز دينه ونصر حزبه، وفتوحات المسلمين شرقاً وغرباً وتحطيم عروش كسرى وقيصر ليست بغائبة عن الأذهان. ونصر الله وتأييده للمؤمنين في معركتهم مع التتار ومع الصليبين الحاقدين. وغيرها من مئات الحوادث سواء كانت على مستوى الفرد أم الجماعة خير شاهد على ما نقول. وسيبقى النصر والعون والمدد لأولياء الله إن شاء الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما على المؤمنين إلا الصدق مع الله والإخلاص في العمل ابتغاء مرضاته هو وحده، والعمل وفق كتابه وسنة نبيه ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

الفصل الثالث

الفصل الثالث عقيدة أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء لابد أن نذكر معتقد أهل السنة والجماعة في الولاء والبراء حتى يخرج بذلك أرباب البدع والأهواء التي لا تستند إلى دليل قوي من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: على المؤمن أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه - وإن ظلمه. فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية. قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما { [سورة الحجرات:9] . (فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك. فإن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه والإهانة والعقاب لأعدائه. (وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة

الناس في الحب والبغض ثلاثة أصناف

والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة كاللص تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم) (¬1) . ولمّا كان الولاء والبراء مبنيين على قاعدة الحب والبغض كما أسلفنا فيما سبق فإن الناس في نظر أهل السنة والجماعة - بحسب الحب والبغض والولاء والبراء - ثلاثة أصناف: الأول: من يحب جملة. وهو من آمن بالله ورسوله، وقام بوظائف الإسلام ومبانيه العظام علماً وعملاً واعتقاداً. وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره وانتهى عما نهى الله عنه، وأحب في الله، ووالى في الله وأبغض في الله، وعادى في الله، وقدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد كائناً من كان (¬2) . الثاني: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فيحب ويوالي على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادي على قدر ما معه من الشر ومن لم يتسع قلبه لهذا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.. وإذا أردت الدليل على ذلك فهذا عبد الله بن حمار (¬3) . وهو رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)) (¬4) مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه (¬5) . ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (ج28/208 - 209) . (¬2) إرشاد الطالب لابن سحمان (ص13) . (¬3) عبد الله بن حمار هكذا أورده ابن سحمان والموجودة في (صحيح البخاري) : (12/75) أنه عبد الله، كان يلقب حماراً. وقال ابن حجر: كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكه في كلامه. انظر الاصابة (ج4/275) تحقيق البخاري. (¬4) صحيح البخاري كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة (ج12/75 ح 6780) . (¬5) سنن أبي داود: (ج4/82، ح3764) كتاب الأشربة، وابن ماجة: (ج2/122، ح3380) في الأشربة وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (ج5/19 ح 4967) .

الثالث: من يبغض جملة وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه كله بقضاء الله وقدره وأنكر البعث بعد الموت، وترك أحد أركان الإسلام الخمسة، أو أشرك بالله في عبادته أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف لهم نوعاً من أنواع العبادة كالحب والدعاء، والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل، والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة، والذبح والنذر والإبانة والذل والخضوع والخشية والرغبة والرهبة والتعلق، أو ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين، وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة، وكذلك كل من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدها (¬1) . فأهل السنة والجماعة - إذن - يوالون المؤمن المستقيم على دينه ولاء كاملاً ويحبونه وينصرونه نصرة كاملة، ويتبرأون من الكفرة والملحدين والمشركين والمرتدين ويعادونهم عداوة وبغضاً كاملين. أما من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيوالونه بحسب ما عنده من الإيمان، ويعادونه بحسب ما هو عليه من الشر. وأهل السنة والجماعة يتبرأون ممن حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ { [سورة المجادلة:22] . ويمتثلون لنهيه تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {23} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ ¬

(¬1) ارشاد الطالب (ص19) .

وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { [سورة التوبة:23-24] . ويلخص الإمام ابن تيمية مذهب أهل السنة والجماعة فيقول: (الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعادة إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان. قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فإن حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ { [سورة المائدة: 55-56] . وقال: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض { [سورة المائدة: 51] . وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { [سورة التوبة:71] . ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه، ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقول الخوارج والمعتزلة.

الولاء والبراء القلبي

ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا إلى قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ { [سورة الحجرات: 9-10] . فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي. ( ... ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم بشهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك) (¬1) . الولاء والبراء القلبي: ومن عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الموضوع أن الولاء القلبي وكذلك العداوة يجب أن تكون كاملة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فأما حب القلب وبغضه، وإرادته وكراهته، فينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان، وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل. ذلك أن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله، وبغض الله ورسوله وهذا نوع من الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (ص 108 -201) الطبعة الأولى سنة 1349 هـ مطبعة المنار بمصر.

موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب البدع والأهواء

اللَّهِ { [سورة القصص: 50] . (¬1) موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب البدع والأهواء: يدخل في معتقد أهل السنة والجماعة البراءة من أرباب البدع والأهواء. والبدعة: مأخوذة من الابتداع وهو الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق ولا مثال احتذي ولا ألف مثله ومنه قولهم: ابتدع الله الخلق أي خلقهم ابتداء ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { [سورة البقرة: 117] . وقوله: {قل ما كنت بدعاً من الرسل { [سورة الأحقاف: 9] . أي لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح (¬2) . قال ابن الجوزي: ((البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان)) (¬3) . ¬

(¬1) شذرات البلاتين (ج1/354) و (الأمر المعروف لابن تيمية) . (¬2) كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي (38 - 39) تحقيق محمد الطالبي. (¬3) تلبيس إبليس (ص26) .

تنقسم البدعة إلى كفرية وغير كفرية

ولقائل أن يقول: ما شأننا الآن وأصحاب البدع لا سيما وأنت تتكلم عن ولاء الكفار والبراء منهم وموالاة المؤمنين ونصرتهم؟؟ والجواب على ذلك: أولاً: أن البدعة خطرها عظيم وكبير، والدليل على ذلك أنها تنقسم إلى رتب متفاوتة ما بين الكفر الصريح إلى الكبيرة والصغيرة، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: (البدعة تنقسم إلى رتب متفاوتة منها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن بقوله: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا { [سورة الأنعام: 136] . وقوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء { [سورة الأنعام: 139] . وقوله: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام { [سورة المائدة: 103] . وكذلك بدعة المنافقين حين اتخذوا الدين ذريعة بحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح) (¬1) . وقضية التحليل والتحريم خصوصية لله عز وجل، فمن ادعى التحليل والتحريم فقد شرع ومن شرع فقد أله نفسه. وكما أن الله سبحانه وتعالى هو ¬

(¬1) الاعتصام (ج2/37) .

الخالق فهو أيضاً صاحب الأمر والسلطان، قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ { [سورة الأعراف: 54] . وقال سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ { [سورة النحل:116] . فهذه البدعة الكفرية وأمثالها لأصحابها منا العداء والبغض والكره والجهاد بعد الإعذار والإنذار،. والبراءة منهم لا تختلف عن البراءة من الكافر الأصلي. فقد قال صلى الله عليه وسلم ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (¬1) قال البغوي: (وقد اتفق علماء السنة على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم) (¬2) . ونعود لرتب البدع كما ذكرها الشاطبي فقال: (ومن البدع ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف فيها هل هي كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة. ومنها ما هو معصية ويتفق على أنها ليست بكفر، كبدعة التبتل (¬3) والصيام قائماً في الشمس والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع. ومنها: ما هو مكروه كالاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين في ¬

(¬1) رواه البخاري في الصلح (ج5/301 ح 2697) ومسلم كتاب الأقضية (3/1343 ح 1718) . (¬2) شرح السنة (ج1/227) . (¬3) التبتل: هو الانقطاع عن الدنيا إلى الله. انظر مختار الصحاح ص 53.

خطبة الجمعة على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي (¬1) وما أشبه ذلك) (¬2) . فأرباب هذه البدع يتبرأ منهم أهل السنة والجماعة. ثانياً لخطورة البدع على الدين أورد هنا نماذج من أقوال سلف الأمة في التحذير من البدع وأصحابها. ومن ذلك ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: ((من كان مستناً فليستن بمن قد مات: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم كانوا على الهدى المستقيم) (¬3) . وقال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها (¬4) . وقال الإمام مالك رحمه الله: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ { [سورة المائدة:3] . فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً (¬5) . ¬

(¬1) هو سلطان العلماء عبد العزيز السلمي الدمشقي فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد ولد سنة 577 هـ وتوفي سنة 660 هـ من مؤلفاته التفسير الكبير، والإلمام في أدلة الأحكام، وقواعد الشريعة وقواعد الأحكام والفتاوى. انظر الأعلام للزركلي (ج4/21) الطبعة الرابعة وفية أن له ترجمة في فوات الوفيات (ج1/287) وطبقات السبكي (ج5/80) والنجوم الزاهرة (7/208) وذيل الروضتين 216 - ومفتاح السعادة 2/212. (¬2) الاعتصام (ج2/37) . (¬3) شرح السنة للبغوي (ج1/214) . (¬4) شرح السنة للبغوي (1ج/216) . (¬5) الاعتصام (ج2/53) .

وذكر الشاطبي رحمه الله أن مفاسد البدع تنحصر في أمرين: (1) أنها مضادة للشارع، ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه منصب المستدرك على الشريعة لا منصب المكتفي بما حد له. (2) أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً، لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر (¬1) . ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم ((كل بدعة ضلالة)) (¬2) وقوله صلى الله عليه وسلم ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) (¬3) . وقال أحد علماء السلف: (لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون) (¬4) . فالخلاصة: أنه من معتقد أهل السنة والجماعة البراء من البدعيين خاصة أصحاب البدع الكفرية ولذلك سيرد مزيد من تفصيل هذا في الباب الثاني إن شاء الله. ¬

(¬1) الاعتصام (ج2/61) بتصرف بسيط. (¬2) صحيح مسلم كتاب الجمعة (2ج/592 ح 867) . (¬3) صحيح مسلم كتاب العلم (ج4/2060 ح 2674) . (¬4) شرح السنة للبغوي (ج1/227) .

أسوة حسنة في الولاء والبراء من الأمم الماضية

الفصل الرابع أسوة حسنة في الولاء والبراء من الأمم الماضية أ- إبراهيم الخليل عليه السلام: لقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام: أسوة حسنة وقدوة طيبة في ولائه لربه ودينه وعباد الله المؤمنين، وبرائه ومعاداته لأعداء الله ومنهم أبوه. لقد كانت سيرة نبي الله إبراهيم عليه السلام مع قومه كأي نبي رسول حيث دعاهم بالتي هي أحسن إلى عبادة الله وتوحيده، وإفراده بالعبادة، والكفر بكل طاغوت يعبد من دون الله. قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا {41} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا {42} يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا {43} يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا {44} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا {45} قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ

وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا {46} قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا {47} وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا {48} فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا { [سورة مريم: 41 - 49] . تلك هي نقطة البدء في دعوة خليل الرحمن، دعوة بالحسنى، مبتدئاً بأقرب الناس إليه، فإن لم يكن هناك تجاوب مع هذه الدعوة فالاعتزال لهذا الباطل وأصحابه عل في ذلك رداً وزجراً وتفكراً في هذا الأمر الجديد، ونجاة للداعي من مشاركة أهل الباطل في باطلهم إذا كان لابد له من مخالطتهم ومعاشرتهم وعدم تمكنه من الهجرة من أرضهم. ثم يمضي القرآن في بيان دعوة إبراهيم عليه السلام، مبيناً أنه استخدم مع قومه كل حجة ودليل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ {69} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ {71} قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ {72} أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ {73} قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ {74} قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ {76} فإنهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ { [سورة الشعراء70-78] .

ولما لم يجدوا حجة وإنما هو التقليد الأعمى لفعل الآباء والأجداد قال لهم إبراهيم عليه السلام أنا عدو آلهتكم، وهذا كما قال نوح عليه السلام فيما أخبر الله عنه بقوله: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ { [سورة يونس: 71] . وقال هود عليه السلام: {إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {54} مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ {55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { [سورة هود:54 - 56] . وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ { (¬1) [سورة الممتحنة: 4] . ¬

(¬1) انظر تفسير الآيات السابقة في ابن كثير (ج6 / 156) .

وعقيدة إبراهيم عليه السلام هذه هي التي عبر عنها علماؤنا الأجلاء علماء سلف هذه الأمة بقولهم: لا موالاة إلا بالمعاداة. كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (لا تصح الموالاة إلا بالمعاداة كما قال تعالى عن إمام الحنفاء المحبين، أنه قال لقومه: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) فلم تصح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة. فإنه لا ولاء إلا لله، ولا ولاء إلا بالبراء من كل معبود سواه قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءؤا مِّمَّا تَعْبُدُونَ {26} إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فإنهُ سَيَهْدِينِ {27} وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [سورة الزخرف: 26-28] . (أي جعل هذه الموالاة لله والبراءة من كل معبود سواه كلمة باقية في عقبه يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض، وهي كلمة لا إله إلا الله، وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة) (¬1) . ويقول الإمام الطبري: قد كانت لكم يا أمة محمد أسوة حسنة في فعل إبراهيم والذين معه في هذه الأمور من مباينة الكفار، ومعاداتهم، وترك موالاتهم إلا في قول إبراهيم {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ { [سورة الممتحنة: 4] . (فإنه لا أسوة لكم فيه في ذلك لأن ذلك كان من إبراهيم عن موعدة ودعدها إياه، قبل أن يتبين له أنه عدو لله فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، فتبرأوا من ¬

(¬1) الجواب الكافي (ص213) وانظر تفسير ابن كثير (ج7/212) ومجموعة التوحيد (ص133) .

أعداء الله، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده ويتبرؤا من عبادة ما سواه، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء (¬1) . وقد كان من نتيجة هذه المعاداة وهذا البراء القوي أن أجمع الطغاة على قتل إبراهيم - كما هو حال كل طاغية على مر عصور التاريخ في إبادة الدعاة إلى الله، لا لشيء إلا أنهم يدعونهم إلى عبادة الله وحده - {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ { [سورة البروج:8] . - وجمعوا له ناراً عظيمة فكانت رعاية الله وحفظه تحوطان خليله الصادق عليه الصلاة والسلام فصارت النار برداً وسلاماً عليه {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ {97} فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ { [سورة الصافات: 97 - 98] . (لقد عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا، ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم فكادهم الرب جل جلاله، وأعلى كلمته ودينه وبرهانه كما قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ { (¬2) [سورة الأنبياء: 68-70] . ¬

(¬1) تفسير الطبري (28/62) (¬2) قصص الأنبياء، للحافظ ابن كثير (1/181) وانظر تفاصيل القصة في نفس المصدر

وتأتي التوجيهات الربانية لخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم باتباع ملة أبيه إبراهيم عليه السلام {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة النحل: 123] {قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة آل عمران: 95] . {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة البقرة 135] . {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ { [سورة آل عمران: 68] . {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً { [سورة النساء: 125] . {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ

(ب) أمثلة أخرى على طريق الحق والهدى

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ { [سورة الحج: 78] . {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ { [سورة البقرة: 130] . فهذه الأخبار من الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عن فعل إبراهيم عليه السلام من أجل الاقتداء به في الإخلاص، والتوكل على الله وحده، وعبادة الله وحده والبراء من الشرك وأهله ومعاداة الباطل وحزبه. (ب) أمثلة أخرى على طريق الحق والهدى: كما سبق أن ذكرنا أن دعوة الأنبياء واحدة. دعوة لعبادة الله وحده وإفراده بالدينونة والتأله والحب والرضى بحكمه وشرعه، والبراءة من كل طاغوت معبود من دون الله سواء بالرغبة أو الرهبة {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ { [سورة النحل: 36] . فإننا نجد أمثلة مشرقة ونماذج إيمانية رفيعة على طريق العقيدة الغراء. إنهم المؤمنون، أينما وحيثما كانوا وحلوا وفي أي عصر ومصر عاشوا. يوردها ربنا تبارك وتعالى في محكم تنزيله، حتى تكون لنا أسوة حسنة. وتسلية لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقيه هو وصحابته الأخيار. وما أحوج الداعية المسلم - وهو الحريص على حب الخير لكل الناس - أن يتدبر هذه الأمثلة والنماذج الإيمانية فسيجد فيها العزاء والتسلية فيما يلاقيه من

مشقة وعنت. وإذا كانت هذه سنة الله في أنبيائه وعباده الصالحين أن يتعرضوا للأذى والعنت – وهم أكرم خلق الله على الله – فمن باب أولى أن يلاقي دعاة الهدى والخير صنوفاً شتى من الأذى والسخرية والاستهزاء والعذاب وسيجدون معية الله تصحبهم وترعاهم وحفظه وقدره يحوطهم. وكل ما يلقونه إنما هو ابتلاء واختيار كما قال تعالى: {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ { [سورة آل عمران: 179] . وحين يثبت المؤمنون على الحق، ويتوكلون على الله حق توكله، ويخافونه وحده، ولا يخافون إلا الله، فسيكون هذا دافعاً عظيماً لدخول الناس في دين الله، والاهتداء بهديه، والاقتداء بهؤلاء الصادقين الذين ضحوا بكل غال ونفيس، وزهدوا فيما عند الناس راغبين ومؤملين فيما عند الله. ومن هذه الأمثلة التي نريد الحديث عنها باختصار، نوح عليه الصلاة والسلام فقد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فلم يؤمن معه إلا القليل، والموقف الذي نريد أن نتحدث عنه من مواقفه عليه السلام هو موقفه مع ابنه الذي عصاه وأبى أن يستجيب لدعوة أبيه. قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ {42} قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ {43} وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ

عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {44} وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45} قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ {46} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ { [سورة هود: 42 – 47] . " إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين ليست وشيجة الدم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة. وليست وشيجة اللون واللغة. ولا الجنس والعنصر، ولا الحرفة والطبقة إنها وشيجة العقيدة. "أما الوشائج الأخرى فقد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد. (ويبين الله لنوح لماذا لا يكون ابنه من أهله؟ " إنه عمل غير صالح " فوشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما " فلا تسألن ما ليس لك به علم " إنه ليس من أهلك ولو كان هو ابنك من صلبك) (¬1) . وهنا يأتي الإذعان الكامل والخوف من الله سبحانه وطلب مرضاته ورحمته فيقول عبده الصالح نوح {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} . ¬

(¬1) في ظلال القرآن (4/1887)

لقد استعلى نبي الله على العاطفة ورضي بحكم الله، فلا لجاجة ولا التواء، ولا معذرة ولا تأويل، بل تسليم مطلق، واتباع لما يحب الله ويرضى، واعرض عما يكره ويبغض وولاء بمن يحب الله وبراء وعداء لمن حاد الله ولو كان أقرب قريب. ولم يكن شأن نبي الله نوح عليه السلام هذا مقصوراً على هذا الابن الكافر، بل أيضاً مع زوجته، ويا له من امتحان عظيم في الزوجة والابن! هذه الزوجة تحدث عنها القرآن وعن نظيرة لها وشبيهة بفعلها وهي زوجة لوط عليه السلام، فقد ابتلى هذان النبيان بزوجتين فاسدتين ذكرهما الله لنا مثلاً في كتابه العزيز فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ { [سورة التحريم: 10] . على أن مما يجب التنويه عنه هنا – استطراداً – أن هذه الخيانة في الدين، وليست في الفاحشة، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء عليهم السلام. أما امرأة نوح فكانت تفشي سره، إذا آمن معه أحد أخبرت الجبابرة من قومها، وامرأة لوط تخبر قومها بضيوف زوجها من أجل فعل السوء القبيح (¬1) . وعلى النقيض من هذا الفعل المشين من هاتين المرأتين يضرب لنا القرآن مثلاً عالياً في الإيمان والاستعلاء على الكفار من قبل امرأة مؤمنة هي زوجة فرعون اللعين قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير (8/198)

رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ { [سورة التحريم: 11] . (إن هذه المرأة لم يصدها طوفان الكفر الذي تعيش فيه، في قصر فرعون عن طلب النجاة وحدها، وقد تبرأت من قصر فرعون طالبة إلى ربها بيتاً في الجنة وتبرأت من صلتها بفرعون فسألت ربها النجاة منه، وتبرأت من عمله مخافة أن يلحقها من عمله شيء وهي ألصق الناس به. " ونجني من فرعون وعمله" وتبرأت من قوم فرعون وهي تعيش بينهم " ونجني من القوم الظالمين " أنه مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صورة، فقد كانت امرأة فرعون، أعظم ملوك الأرض يومئذ!! في قصر فرعون أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي! لقد استعلت على هذا بالإيمان ولم تعرض عنه فحسب، بل اعتبرته شراً ودنساً وبلاء تستعيذ بالله منه. إنها امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية. وقفت وحدها في وسط ضغط المجتمع وضغط القصر، وضغط الملك، وضغط الحاشية، ورفعت رأسها للسماء! إنه التجرد الكامل من كل هذه المؤثرات والأواصر) (¬1) . إن وقوف هذه المرأة أمام ذلك الجبار من الأهمية بمكان، عل في ذلك ما يدفع تثبيط الشيطان وحزبه لبعض دعاة الإسلام وهم يخافون أن يمسهم الناس بشيء لم يكتبه الله عليهم. ألا فلنأخذ من قرآننا عبرة وعظة، وشحنة عمل، ومنهاج دنيا وآخرة حتى نقوم بما كلفنا الله به وشرفنا بالانتساب إليه وهي الدعوة إلى الله. يقول قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأبعده ـ فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حكم عدل، لا يؤاخذ أحداً إلا بذنبه (¬2) ¬

(¬1) في ظلال القرآن (6/3622) بتصرف (¬2) تفسير ابن كثير (8/199)

وهناك أيضاً نموذج آخر، وعلم من أعلام دعاة صراط الله المستقيم. أنه مثل رفيع في الولاء لله ودينه وعبادة الصالحين في النصرة والجهاد بقدر الطاقة لإعلاء كلمة الله، والبراءة من الكفار بعد إقامة الحجة والبرهان عليهم، إنه مؤمن آل فرعون. لننظر في موقفه وفي ولائه حين عزم الطاغية فرعون على قتل رسول الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. لقد قال مؤمن آل فرعون كما حكاه القرآن عنه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ { [سورة غافر: 26] . واسم هذا الرجل حبيب النجار والمشهور أنه قبطياً من آل فرعون. وكان يكتم إيمانه عن قومه القبط، ولم يظهره إلا هذا اليوم حين قال فرعون {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى { [سورة غافر: 26] . فأخذت الرجل غضبه لله عز وجل و (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) (¬1) . ولا أعظم من هذه الكلمة وهي قوله أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4/514 ح 4344) في كتاب الملاحم والترمذي (6/338 ح 2175) في كتاب الفتن وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجة (2/1329 ح 4011) في الفتن ومسند أحمد (3/19) والنسائي في البيعة (7/161) وقال الألباني صحيح: انظر المشكاة (2/1094) . (¬2) انظر تفسير ابن كثر (7/130) .

فانظر إلى ولاء هذا الرجل المؤمن لنبي الله موسى ونصرته له، وتدبر براءة من الطاغية حتى وهو يصب عليه العذاب. وأخيراً نقف مع الفتية الصلحاء (أصحاب الكهف) الذين تركوا الأهل والولد والوطن والعشيرة حين علموا أنه لا طاقة لهم بمواجهة ومجابهة قومهم فنجوا بأنفسهم إلى ذلك الكهف الذي تجلت فيه معجزة عظيمة يسوقها الله لنا عبرة وعظة في حفظه لعباده الصالحين. قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا {14} هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا {15} وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا { [سورة الكهف: 13-16] . لقد كان موقف هؤلاء الفتية صريحاً وواضحاً وحاسماً. وحين تتباين الطريقان ويختلف المنهجان لا يعود هناك سبيل إلى الالتقاء ولا للمشاركة في الحياة. بل لا بد من الفرار بالعقيدة. انهم ليسوا رسلاً إلى قومهم فيواجهوا بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل، إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها. وهم أيضاً لا

يطيقون مداراة قومهم، وعبادة آلهتهم على سبيل التقية وإخفاء عبادتهم لله. على أن الأرجح أن أمرهم قد كشف فلا بد من الفرار بدينهم إلى الله، وقد فروا إلى كهف خشن ضيق، مؤثرين له على كل زينة من زينة الحياة الدنيا. إنهم يستروحون رحمة الله ويحسونها ظليلة فسيحة ممتدة (ينشر لكم ربكم من رحمته) ولفظه (ينشر) تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب، تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها. إنه الإيمان! وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟ إن هناك عالماً آخر في جنبات القلب المعمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن عالماً تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان (¬1) . وهكذا تتعد الأمثال في جميع الوشائج والروابط، وشيجة الأبوة في قصة نوح ووشيجة البنوة والوطن في قصة إبراهيم، ووشيجة الأهل والعشيرة والوطن جميعاً في قصة أصحاب الكهف، ورابطة الزوجية في قصص امرأتي نوح ولوط وامرأة فرعون. هكذا يمضي الموكب الكريم حتى تجيء الأمة الوسط، فنجد هذا الرصيد من الأمثال والنماذج والتجارب، فتمضي على النهج الرباني للأمة المؤمنة وتفترق العشيرة الواحدة والبيت الواحد حيث تفترق العقيدة. {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ { [سورة المجادلة: 22] . ¬

(¬1) الظلال (4/2262) بتصرف بسيط.

لقد جمعت هذه العقيدة صهيباً الرومي وبلالاً الحبشي، وسلمان الفارسي وأبا بكر العربي القرشي تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله (وتوارت عصبية القبيلة والجنس والأرض وقال لهم صلى الله عليه وسلم (دعوها فإنها منتنة) (¬1) . وقال (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) (¬2) فانتهى أمر هذا النتن، وماتت نعرة الجنس. واختفت لوثة القوم، واستروح البشر أرج الآفاق العليا، ومنذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض وإنما وطنه هو (دار الإسلام) ، تلك الدار التي تسيطر عليها عقيدة، وتحكم فيها شريعة الله وحدها (¬3) . وتبقى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الأخيار منار هدي وإصلاح لمن سلك ذلك السبيل، ورضي بذلك النهج القويم. أما من حاد عن ذلك وابتعد فالله ليس بوليه، وإنما وليه (الطاغوت) {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [سورة البقرة: 257] . ¬

(¬1) صحيح البخاري (8/648 ح 4095) كتاب التفسير وصحيح مسلم (4/1999 ح 2584) كتاب البر والصلة. (¬2) صحيح مسلم (ج 3/1476 ح 1848 وح 1850) كتاب الإمارة وأبو داود (5/342 ح 5121) كتاب الأدب. (¬3) انظر معالم في الطريق (ص 143) .

الفصل الخامس

الفصل الخامس الولاء والبراء في العهد المكي كان الحديث في الفصل السابق عن أمثلة مشرقة، وصور مضيئة من ولاء وبراء الأنبياء والرسل، والصالحين عبر تاريخ البشرية الطويل. ونتحدث هنا عن الولاء والبراء من خلال سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مستمدين ذلك من الوحيين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكتب السير والمغازي. وقد اعتمدنا في تقسيم الآيات إلى مكي ومدني، على ما ذكره العلماء في كتب التفسير وعلوم القرآن من أن المكي: - على الأشهر - هو ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها (¬1) . وسبق أن قلنا في التمهيد: أن المسلم منذ أن يعلن شهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فإن ذلك يعني إفراد الله سبحانه وتعالى بالوحدانية والألوهية والربوبية وخلع كل ولاء وعبودية وطاعة وخضوع وخوف ورجاء لأي معبود أو متبوع أو مطاع من دون الله. وقصر هذا الولاء والحب والتعظيم لله سبحانه وتعالى. وقد نزل الوحي الآلهي أول ما نزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم في غار حراء بقوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإِنسَانَ ¬

(¬1) انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/37) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

الملتقى الأول وأولى خطوات الطريق

مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ { [سورة العلق: 1-5] ثم بعد ذلك نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} { [سورة المدثر: 1-2] . وبدأ المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعو الناس سراً إلى الإسلام وأسلم معه نفر قليل، منهم أبو بكر الصديق، وعلى بن أبي طالب وخديجة بنت خويلد زوجته رضي الله عنهم جميعاً. وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس أصحابه محبة لله ومحبة رسوله والاجتماع على ذلك وإخلاص الحب والولاء والنصرة للمؤمنين وبغض الكفر والشرك وأهله وهذا هو لازم كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهنا نشأت الوشيجة الجديدة وشيجة العقيدة في نفوس المؤمنين وبدأ يقر في نفوسهم أن هذه هي الرابطة الحقيقية. هي الرابطة التي تطمئن لها نفس المؤمن ومع نمو هذه الغرسة الجديدة بدأت تذبل شجرة العصبية الجاهلية، والروابط الجاهلية، وبدأت نظرة الريب والاحتقار لتلك الروابط تكبر يوماً فيوماً في نفس كل من آمن بالله ورسوله. الملتقى الأول وأولى خطوات الطريق اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم دار الأرقم لتلقين من آمن معه أمور هذا الدين. ولقد كانت هذه الدار هي الملتقى الأول لأولئك القادة العظام، كانت هي الدار التي بدأ يشع منها ذكر الله وتوحيده في الأرض.

ترى ما هو حال المسلمين آنذاك؟ وماذا بعد النطق بالشهادتين؟ يجيب على ذلك الأستاذ سيد قطب رحمه الله فيقول: إنه لم يكن للإسلام والمسلمين في مكة شريعة ولا دولة، ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية، ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة. وكان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، ويبدأ عهداً جديداً، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية. إنه يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف. (لقد كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، ونشأت عن هذه العزلة، عزلة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية أيضاً. (إنه قد انفصل نهائياً من بيئة الجاهلية، واتصل نهائياً ببيئته الإسلامية، حتى لو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي. فالعزلة الشعورية شيء، والتعامل اليومي شيء آخر. (وحين انخلع المسلم من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام فإنه أيضاً كان ينسلخ من القيادة الجاهلية، وينزع ولاءه من الأسرة والعشيرة والقبيلة، ويترجم ذلك إلى واقع وحقيقة يقوم عليها الإسلام. وهذا هو الذي أزعج (الملأ) من قريش! (أزعجهم زحف الإسلام، وأزعجهم القرآن، ولم يزعجهم من قبل أن (الحنفاء) اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم، واعتقدوا بألوهية الله وحده، وقدموا له الشعائر وحده فهذا لا يهم الطاغوت، كما يفهم بعض الطيبين الخيرين اليوم الذين لا يدركون ولا يعرفون حقيقة الإسلام. (إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين ثم الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه. والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع، ولذلك قاوم ((الملأ)) من

قريش هذه الدعوة بشتى الأساليب) (¬1) والتقى المؤمنون على حب الله ورسوله، فكان لقاء عميقاً لأن كلا منهم جاء إلى الله ورسوله يتلقى منه، ويهتدي بهديه، ويتوجه إليه، وأحسن كل منهم نحو أخيه برباط من نوع جديد، يربطه بأخوته في الله، إنه يحبه كنفسه مع أنه ليس من قبيلته ولا بينهما آصرة دم (¬2) . وأخذ القرآن الكريم ينزل حسب النوازل والحوادث على ما يشاء الله سبحانه وتعالى لتربية الأمة على أسس العقيدة فكان الولاء والبراء يزيد كلما ازدادت التكاليف وكان من الطرق التي سلكها القرآن في عرض هذه العقيدة ضرب المثل، لأنه كما يقال: بالمثال يتضح المقال. ومعلوم أن كلام الله واضح ولكن سياق المثل يستثير في الإنسان نوعاً من التفكر وتدبر العبرة والعظة لتغيير المسار الخاطئ والاتجاه في الطريق الصحيح. ومن هذه الأمثلة في موضوعنا قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ { [سورة العنكبوت: 41] . وبتقرير هذه الحقيقة الضخمة في النفوس، كان المؤمنون أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقهم، وداسوا بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكوا بها المعاقل والحصون.. إن قوة الله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل، مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل (¬3) . ¬

(¬1) في ظلال القرآن 3/1503 ومعالم في الطريق (ص 17، 50) . (¬2) انظر منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب (ج2/38-40) . (¬3) انظر في ظلال القرآن (5/2737) .

ومكث المصطفى صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس بالسر ثلاث سنوات، كما قال ذلك علماء السير والمغازي (¬1) . وبعد أن فشا ذكر الإسلام في مكة، وتحدث الناس به أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن يبادئ الناس بأمره، وأن يدعو إليه ونزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ { [سورة الحجر: 94] . وقال الله له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ {214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ { (¬2) [سورة الشعراء: 214 - 215] . وهنا بدأ الابتلاء للمسلمين، وهذا الابتلاء الذي ظاهره الشدة هو في حقيقته نعمة، لأنه يتضح من خلاله: الصادق من الكاذب، والخبيث من الطيب. قال تعالى: {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { [سورة العنكبوت: 1 - 3] . ¬

(¬1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (ج1/280) . (¬2) المصدر السابق (1/280) .

ردود الفعل

وحدث لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الابتلاء والشدة الشيء الكثير، حتى إنهم كانوا يذهبون للشعاب يستخفون بصلاتهم عن قومهم (¬1) . صدق التحمل ماذا فعل المؤمنون تجاه العذاب الذي صبه عليهم أعداء الله؟ ما هو رد فعل المسلمين تجاه ما فعل بهم عامة وما فعل ببلال وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين خاصة؟ إنه الصبر على الأذى والهجر الجميل. قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً {10} وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً { [سورة المزمل: 10-11] . وصبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانت تربيته الربانية كفيلة بتطهير نفوس المؤمنين معه فكانوا كل يوم يزدادون من سمو الروح ونقاء القلب ونظافة الخلق والتحرر من سلطان الماديات والشهوات شيئاً كثيراً. (كان صلى الله عليه وسلم يأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل، وقهر النفس مع أنهم قوم قد وضعوا حب الحرب، وكأنهم ولدوا مع السيف، وهم من أيامها حرب البسوس وداحس والغبراء. وما يوم الفجار ببعيد!! ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قهر طبيعتهم الحربية، وكبح نخوتهم العربية فانقهروا لأمره، وكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس، في غير جبن وفي غير عجز) (¬2) . هذا بالنسبة لموقف المسلمين من أعدائهم. ¬

(¬1) المصدر السابق (1/282) . (¬2) ماذا خسر العالم بانخطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي (ص97) بتصرف.

موقف عظيم لأبي بكر الصديق رضي اللع عنه

أما ولاؤهم فيما بينهم، فنقول: أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد حرص على غرس ركيزتين أساسيتين في نفوسهم هما: (1) الإيمان بالله، ذلك الإيمان المنبثق من معرفته سبحانه، وتمثيل صفاته في الضمائر، وتقواه، ومراقبته، مع اليقظة والحساسية التي بلغت في نفوسهم حداً غير معهود إلا في النادر من الأحوال. (2) الحب الفياض، والتكافل الجاد العميق، حيث بلغت فيه الجماعة المسلمة مبلغاً لولا أنه وقع بالفعل لعد من أحلام الحالمين (¬1) . إن نقطة الحب في الله التي التقى عليها المؤمنون، كانت أيضاً لقاء على ما يتبع هذه الدعوة من جهد أو غرم، وما يستتبع ذلك من ألم أو سرور وجعل العاطفة الإنسانية تحب وتبغض تبعاً لما يصيب الإسلام من خير أو شر (¬2) . ولكي يكون لهذا الكلام ما يدعمه من دليل، وحتى نعلم ما هي نتائج تربية (دار الأرقم) أذكر موقفاً واحداً لصديق هذه الأمة، أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وطئ أبو بكر رضي الله عنه في مكة يوماً بعد ما أسلم، وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين، ويحرفهما لوجهه، ثم نزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعيمه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت قالت: نعم ¬

(¬1) انظر طريق الدعوة في ظلال القرآن (1/188) . (¬2) انظر هذا ديننا للشيخ محمد الغزالي (ص178) .

سمات العلاقة بين المسلمين وأعدائهم في العهد المكي

فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت والله إن قوماً نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع!! قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله على أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . يا لله! رجل مضروب، مثخن بالجراح لا يتناول حتى شربة الماء وهو أشد ما يكون حاجة إليها حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! حقاً إنها تربية دونها كل تربية. حقاً نقول إن ذلك الجيل الذي رباه المصطفى صلى الله عليه وسلم جيل فريد على غير مثال سابق ولا لاحق. سمات العلاقة بين المسلمين وأعدائهم في العهد المكي إن المرحلة المكية كانت تقتضي أن تكون العلاقة بين المسلمين والمشركين علاقة غير قتالية، علاقة بيان للحق، وصبر على الأذى فيه، واحتساب لكل ما عرفته رباع مكة ورمضاؤها والطائف وفجاجها من أذى للمصطفى صلى الله عليه وسلم وعذاب واضطهاد لبلال وعمار وخباب وآل ياسر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. ذلك أن ظروف تلك المرحلة كانت تقتضي اتخاذ الأساليب السلمية، وعرض الحقائق الإيمانية عرضاً مؤثراً، عله يكون في هذا وفيما أبداه المؤمنون الصابرون من تحمل وصبر، ما يرجع لأهل اللب صوابهم، وما أجدر ذلك باستجابة القوم لولا اتباع الهوى وسلطان المصالح الزائلة من زعامة ووجاهة ومكاسب مادية، وما إلى ذلك (¬2) . ¬

(¬1) البداية والنهاية لابن كثير 3/30 وانظر ماذا خسر العالم للندوي (ص113) . (¬2) انظر: علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى للأستاذ أحمد محمود أحمد 8-9.

الحكمة في عدم فرضية القتال بمكة

والتربية النبوية في هذا العهد ذات شأن عظيم ذلك أنها كانت تربية تقوم على ضبط النفس، والصبر على الأذى، وإعداد العدة مع حبس دواعي الانطلاق وكف حدة الإقدام، واحتمال جهل الجاهلين وبغي الطاغين. وكل ذلك من غير ذل ولا استجداء، ولا يأس ولا وهن، بل إن عيونهم قريرة وقلوبهم مطمئنة إلى نصر الله ونفوسهم مستعلية على شرك المشركين وضلالهم وفتنتهم (¬1) . ومن المهم في هذا الموضوع أن نلاحظ الحكمة الربانية في عدم فريضة القتال في مكة فإنه إنما شرع في العهد المدني أما (حين كان المسلمون في مكة فقد كان المشركون أكثر عدداً، فلو أمر المسلمون وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفاً وثمانين قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل منى - ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني لم أؤمر بهذا) (¬2) . ونحن حين نلتمس الحكمة في هذه الحالة وفي غيرها من التكاليف الشرعية - كما يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله - لا نجزم بما نتوصل إليه، لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة. ونفرض أسباباً وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقة، أو قد تكون. ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف، أو أي حكم من أحكام الشريعة هو التسليم المطلق لأن الله سبحانه هو العليم الخبير، وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد وعلى أنه مجرد احتمال لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله، ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح) (¬3) . وهذه الأسباب والعلل ذكرها الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابيه القيمين: ((في ظلال القرآن)) عند تفسير سورة النساء، وفي ((معالم في الطريق)) (¬4) ¬

(¬1) سبيل الدعوة الإسلامية. د. محمد أمين المصري (ص 111، 113) بتصرف. (¬2) تفسير ابن كثير: (5/ 431) والحديث في مسند أحمد (3/462) في سنده (معبد بن كعب بن مالك، قال عنه ابن حجر في التقريب مقبول، وذكر في التهذيب أن له حديثاً واحداً في صحيح البخاري وأخرج له مسلم. ووثقه ابن حبان. (¬3) انظر الظلال (2/714) . (¬4) الظلال (2/714 - 715) وفي المعالم (ص 69 - 71) .

فصل الجهاد في سبيل الله وسأوجزها فيما يلي: (1) إن الكف عن القتال في مكة ربما كان لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به: ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته. ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد والتقيد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره – مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته – وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء "المجتمع المسلم". (2) وربما كان ذلك أيضاً لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها – في مثل هذه الفترة – إلى زيادة العناد ونشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية. (3) وربما كان ذلك أيضاً اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ومعنى الإذن بالقتال – في مثل هذه البيئة – أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام!! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في المواسم، أن محمداً يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟ (4) وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم هم أنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟

(5) وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة - فابن الدغنة (¬1) لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته.. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب. (6) وربما كان ذلك أيضاً لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة. (7) إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى، لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً ومحققاً وهو " وجود الدعوة" ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع. ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله، بل إنهم حين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف، وحين طلبوا إليه أن يسكت عن سب دين آبائهم وأجدادهم لم يسكت، وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا، أي يجاملهم فيجاملوه، بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا بعض عبادته لم يدهن. ¬

(¬1) ابن الدغنة رجل جاهلي أجار أبا بكر عندما أخرجه قومه وأراد الهجرة للحبشة. انظر الإصابة (2/344) .

إن هذه الاعتبارات كلها – فيما نحسب – كانت بعض ما اقتضت حكمة الله – معه – أن يأمر المسلمين بكف أيديهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم، وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ.. لتكون خالصة لله، وفي سبيل الله – (انتهى ملخصاً من الظلال) . والناظر في الفترة المكية والتي كانت ثلاثة عشر عاماً كلها تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله يدرك ما لأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال واستباق الزمن فالعقيدة بحاجة إلى غرس يتعهد بالرعاية والعناية إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة، لأنه لا يقف في وجه الجاهلية – أياً كانت قديمة أم حديثة أم مستقبلية – إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية، وعمقت جذور شجرة لا إله إلا الله في نفوسهم، فيصدق عليهم حينئذ أنهم {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ { [سورة الأحزاب: 23] . لا تهمهم قوة عدو، ولا تنقصهم عزيمة باسل لأن الله هو وليهم وناصرهم، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ { [سورة الحج: 40] قال ابن اسحاق: (لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ثم من عمه أبي طالب، وإنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: " لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم

فيه " فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام (¬1) . ثم إن لطف الله ورحمته غمرت المؤمنين المستضعفين وذلك بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث أعز الله به الإسلام، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه " (¬2) إنها نعمة كبرى تجلت في إسلام عمر، الذي منح ولاءه ونصرته للمسلمين، وصير بغضه وعداوته وبراءه للكافرين، كيف لا وهو الذي اشتبك مع القوم بعد إسلامه ثم قال: " افعلوا ما بدا لكم فوالله لو أن قد كنا ثلاث مئة رجل لقد تركناها – أي مكة – لكم أو تركتموها لنا " (¬3) وسمع المؤمنون بإسلام عمر رضي الله عنه وهم في الحبشة ففرحوا بذلك ورجع منهم من رجع إلى مكة – ولكن قريشاً صبت عليهم ألواناً من العذاب والاضطهاد فلم يزدهم ذلك إلا صلابة في العود وثباتاً على الحق وأملاً في فرج من الله قريب. ثم تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه لدرس آخر من دروس الابتلاء التي هي من سنن الدعوة إلى الله: ذلك الدرس هو موت أبي طالب عم رسول الله الذي كان مناصراً له وحامياً. وموت زوجة رسول الله خديجة رضي الله عنها أول امرأة أسلمت وكانت مثالاً للمرأة المسلمة الصالحة وهنا يطمع أعداء الله في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أكبر من كل شيء ثم رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتجه إلى غير قريش عسى أن يجد مجيباً وناصراً فخرج إلى الطائف، ولكن ثقيفاً خيبت أمله وآذته وسخرت منه، فاتجه إلى ربه قائلاً (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة ¬

(¬1) السيرة لابن هشام (1/344) . (¬2) السيرة لابن هشام (1/367) وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر " مناقب عمر (7/41 ح 3684) . (¬3) السيرة لابن هشام (1/374) .

بر الأقارب المشركين

حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك) (¬1) . ثم رجع إلى مكة. وعلى الدعاة أن يقفوا طويلاً عند قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي) فإن هم الداعية المسلم هو رضاء الله وكفى. ثم بعد ذلك ليكن ما يكون من أمر الناس فإن ذلك ليس كبير حسبان طالما أن الغاية هي رضاء الله. بر الأقارب المشركين ومن خلال تتبع القرآن المكي نجد أنه رغم قطع الولاء سواء في الحب أو النصرة بين المسلم وأقاربه الكفار فإن القرآن أمر بعدم قطع صلتهم وبرهم والإحسان إليهم ومع ذلك فلا ولاء بينهم. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فأنبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [سورة العنكبوت: 8] . ¬

(¬1) السيرة لابن هشام (2/60) والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/35) ونسبة للطبراني وقال: (فيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات) وحكم عليه الألباني في تخريج فقه السيرة للغزالي (ص132) بالضعف. لكن ألفاظ الحديث ينقدح منها نور مشكاة النبوة.

قال البغوي: إن هذه الآية وآية 15 من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فإنبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه حمنة بنت أبي سفيان، فقد كان سعد من السابقين الأولين للإسلام، وكان باراً بأمه. قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه! ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت ثم مكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه: لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر بوالديه، والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) (¬1) . لذلك فالولاء لله ودينه والمؤمنين شيء لا طاعة لمخلوق في مخالفته، وبر القريب المشرك شيء. قد يكون من باب تأليفه وترغيبه في الإسلام. ¬

(¬1) تفسير البغوي (5/188) وانظر أسباب النزول للواحدي، (ص195) فقد ذكر نحو هذا والحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) حديث صحيح انظر مشكاة المصابيح (2/1092 ح3696) .

كيف كانت صورة البراء في العهد المكي

كيف كانت صورة البراء في العهد المكي (1) إن المسلم من حين أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو يحس بأنه قد دخل في دين جديد غير دين آبائه وأجداده، إنه (يشعر في اللحظة التي يجيئ فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديداً منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية. وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام. وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد ... ويمكننا أن نسمي هذا بـ (العزلة الشعورية) فالمسلم قد انخلع من البيئة الجاهلية، وعرفها وتصورها وعاداتها وروابطها. وانخلع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود، وانضم إلى التجمع الإسلامي الجديد بقيادته الجديدة. ومنح هذا التجمع وهذه القيادة كل ولائه وطاعته وحبه وتبعيته) (¬1) . (2) بعد ذلك جاء الأمر بالإعراض عن الكفار {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {29} ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى { [سورة النجم 29-30] . (3) وجاء الأمر أيضاً بالصبر والهجر الجميل قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً { [سورة المزمل: 10] . ¬

(¬1) معالم في الطريق (ص16-17) بتصرف بسيط.

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ {60} [سورة الروم: 60] . ثم يذكر الله سبحانه المؤمنين بفعل أبيهم إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ليأخذوا منه أسوة وقدوة فيقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءؤا مِّمَّا تَعْبُدُونَ {26} إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فإنهُ سَيَهْدِينِ {27} وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [سورة الزخرف: 26-28] . (4) وإلى جانب هذا التذكير الرباني، يضرب أيضاً المثل المحسوس والملموس في حياة الناس لمن يوزع ولاءه بين أرباب متفرقة، ومن يكون ولاؤه لرب واحد، واتجاه واحد. قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ { [سورة الزمر: 29] . فقد وضح الله في هذا المثال القرآني حال المشرك الذي لا يؤمن بالله ولا يكون ولاؤه وحبه لله وفي الله بحال العبد الذي تملكه جماعة مشتركين في خدمته لهم لا يمكنه إرضاؤهم أجمعين وحال الموحد الذي يعبد الله وحده ويوالي في الله وحده مثله كمثل عبد لمالك واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير منازع فيه، مع رأفة

مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليته بمصالحه، فهل يستوي هذان العبدان؟ لا. إنهما لا يستويان (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) (¬1) . وعلى طريقة القرآن في اهتمامه بقضية اليوم الآخر لما لها من أثر عظيم في قضية الإيمان: نجد القرآن الكريم يسوق مشهداً من مشاهد يوم القيامة لمن يكون ولاؤه لغير الله، وكيف انقلب هذا الولاء إلى عداء وبغضاء. ثم كيف أصبحت الخلة عداوة وشحناء. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ { [سورة فصلت: 29] . وقال: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ { [سورة الزخرف: 67] . وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً { [سورة الفرقان: 27-29] . ¬

(¬1) أمثال القرآن لابن القيم (ص53) بتصرف الطبعة الأولى400 هـ تحقيق الدكتور ناصر الرشيد الناشر دار مكة.

لكم دينكم ولي دين

(5) ثم جاء التصريح الكامل لأعداء الله بأن دينكم باطل لا ندخل فيه، وديننا هو الحق الذي ندين الله به، فلا نعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما نعبد. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ولما رأى المشركون صلابة المسلمين واستعلائهم بدينهم، ورفعة نفوسهم فوق كل باطل ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش أحلامهم ورعونتهم الحمقاء. فقد دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة فأنزل الله سورة الكافرون: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} [سورة الكافرون 1-6] . (¬1) ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابههما في إعلان البراء من الكفر وأهله مثل قوله تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ { [سورة يونس: 41] . ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير (8/527) .

وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ {56} قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ { [سورة الأنعام: 56 - 57] . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {104} وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة يونس: 104-105] . بهذه النصاعة وهذا الوضوح جاءت هذه الآيات الكريمات لترسم معالم الطريق بين الصف الإسلامي والصف الكافر المشرك الذي لا يؤمن بالله ورسوله. ومع هذا الوضوح القرآني نجد أن بعض المنتسبين للعلم قد فهم من

هذه الآيات - وخاصة سورة الكافرون - إنها إقرار من رسول الله صلى الله عليه وسلم للكفار على دينهم الباطل وهذا زعم باطل. مخالف لحقيقة الإسلام، ودعوة رسول الإسلام. ومضاد لدعوة الرسل جميعاً. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: (إن هذه السورة - سورة الكافرون - تشتمل على النفي المحض وهذه خاصية هذه السورة، فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها) (¬1) . (ومقصودها الأعظم البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقاً للبراءة المطلوبة. مع تضمنها للإثبات بأن له معبوداً يعبده وأنتم بريئون من عبادته، وهذا يطابق قول إمام الحنفاء {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ {26} إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي { [سورة الزخرف 26 - 27] فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله. (ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرنها بسورة الإخلاص في سنة الفجر (¬2) وسنة المغرب (¬3) وحين أخبر الله أن لهم دينهم وله دينه: هل هو إقرار فيكون منسوخاً أو مخصوصاً؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟ (هذه مسألة شريفة من أهم المسائل، وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم! وظن آخرون: أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب! وكلا القولين محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة وهي من السورة التي يستحل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه الرسل يستحيل دخول النسخ فيه. (وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى أيضاً سورة الإخلاص. ومنشأ الغلط: ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم. ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف فقالوا: منسوخة!! ¬

(¬1) سنن أبي داود: في الأدب (5/303 ح 5055) والترمذي في الدعوات (ج 9/110 ح 3400) ومسند الإمام أحمد 5/456 والدارمي في فضائل القرآن (2/458) قال الألباني: حديث حسن انظر صحيح الجامع الصغير (1/140 ح 289) . (¬2) صحيح مسلم بشرح النووي (6/5) والمسند طبع الساعاتي (4/225) . (¬3) مشكاة المصابيح (1/268) ، وانظر بدائع الفوائد (1/138) .

وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم فقالوا هذا مخصوص! ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريراً لهم أو إقراراً على دينهم أبداً. بل لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم، وعيب دينهم وتقبيحه، والنهي عنه، والتهديد والتوعيد في كل وقت وفي كل ناد. فكيف يقال إن الآية، اقتضت تقريراً لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل. وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم، وأن ما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبداً، فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق. فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يدعى النسخ أو التخصيص؟! أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: لكم دينكم ولي دين؟ بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذ قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذه براءة منها، وهم هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان (¬1) . وزاد هذا الأمر إيضاحاً وبياناً: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: (قوله تعالى ((لكم دينكم ولي دين)) اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص فإنتم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه، وأنا مختص بديني لا تشركونني فيه كما قال تعالى: {لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ ¬

(¬1) بتصرف بسيط: بدائع الفوائد (1/138- 141) .

لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ} [سورة يونس: 41] . وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين، ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين، وجعلوها منسوخة. بل فيها براءته من دينهم، وبراءتهم من دينه، وأنه لا تضره أعمالهم، ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم. وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ، ولم يرض الرسول بدين المشركين، ولا أهل الكتاب طرفة عين قط. ومن زعم أنه رضي بدين الكفار، واحتج بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} [سورة الكافرون: 1-6] . فظن هذا الملحد أن قوله (لكم دينكم ولي دين) معناه أنه رضي بدين الكفار، ثم قال هذه الآية منسوخة فيكون قد رضي بدين الكفار، فهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه.. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ

مما أعمل وأنا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ { [سورة يونس: 41] . وقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ" { [سورة الشورى: 15] . وإذا كان الله سبحانه قد قال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) 215} فإن عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة الشعراء: 216 – 217] . فبرأه من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين، فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة؟) (¬1) . ¬

(¬1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (2/30-32) .

فرج من الله قريب

ورحم الله عبد الله بن عباس حين قال في شأن هذه السورة (ليس في القرآن أشد غيظاً لإبليس منها، لأنها توحيد وبراءة من المشرك) (¬1) وقال الأصمعي: كان يقال لـ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) المشقشقتان. أي أنهما تبرئان من النفاق (¬2) . فرج من الله قريب قال ابن إسحاق: (فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.. فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام. وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا، فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬3) . أجل: بعد كل ذلك العناء وتلك المصابرة هيأ الله اللطيف الخبير من ينصر هذا الدين ويعلي كلمته، وينشره في الأرض بعد أن آوى رسول الله وأصحابه الأوائل. إنه لشرف دونه كل شرف أن يسموا (الأنصار) أنصار الله، أنصار ¬

(¬1) تفسير القرطبي (20/225) . 138تفسير القرطبي (20/225) . (¬2) (¬3) السيرة لابن هشام (2/70 - 71) .

صيغة البيعة

نبيه، أنصار دينه أنصار عباده المؤمنين، وليسوا أنصار الجاهلية وطواغيتها وجبابرتها الذين هم في أعين الناس كبار وهم حقيقة الأمر صغار وأقزام!! ولما كان العام المقبل وصل إلى مكة من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة الأولى فبايعوه، وكانت البيعة على الإسلام وأرسل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير (¬1) رضي الله عنه يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، ويؤمهم في الصلاة (¬2) . وقدم مصعب رضي الله عنه ومعه وفد كريم من الأنصار في موسم الحج فكانت بيعة العقبة الكبرى حيث تساءلوا وهم خارجون من المدينة: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ (لقد بلغ الإيمان أوجه في هذه القلوب الفتية، وآن لها أن تتنفس عن حماسها، وأن تفك هذا الحصار الخانق المضروب حول الدعوة والداعية (¬3) . صيغة البيعة تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم) فأخذ البراء ¬

(¬1) هو مصعب بن عمير بن هاشم نشأ في بيت ثري، مدللاً غاية الدلال، وكان يعرف بأنه أعطر أهل مكة ثم أسلم فانقلبت تلك النعومة إلى خشونة ورجولة كان من السابقين للإسلام ومن المهاجرين للحبشة في الهجرة الأولى، ثم هاجر للمدينة، وشهد بدراً وحمل اللواء في أحد فاستشهد، وفي الصحيح أن مصعباً لم يترك إلا ثوباً فكان إذا غطوا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجعلوا على رجليه شيئاً من الأذخر) ، انظر صحيح البخاري كتاب الجنائز (3/142 ح 1276) والاستيعاب لابن عبد البر ج (3/468) والاصابة لابن حجر (ج 3/421) ومصعب بن عمير للأستاذ محمد بريغش وغير ذلك من كتب السير. (¬2) السيرة لابن هشام (2/76) . (¬3) فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي (ص157) .

بن معرور (¬1) بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزرنا (¬2) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة (¬3) ، ورثناها كابراً عن كابر. فاعترض أبو الهيثم بن التيهان (¬4) فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها – يعني اليهود – فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " (¬5) . قال ابن هشام: الهدم الهدم: يعني الحرمة، أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم (¬6) ثم قال: أسعد بن زرارة (¬7) فقال: رويداً يا أهل يثرب: فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم وإن تعضكم السيوف، وإما أنتم قوم تصبرون على ذلك ¬

(¬1) هو البراء بن معرور الخزرجي الأنصارى أول من بايع وأول من استقبل القبلة وأول من أوصى بثلث ماله، وأحد النقباء من الأثنى عشر. انظر الإصابة (ج1/144) والأعلام للزركلي (1/47) الطبعة الرابعة. والحديث في المسند (3/461) . (¬2) أي نساءنا. (¬3) أي السلاح. (¬4) أبو الهيثم بن التيهان: مالك بن عتيك الأنصاري الأوسي: أحد النقباء. آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن مظعون وشهد المشاهد كلها وهو القائل في رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد جدعت آذاننا وأنوفنا غداة فجعلنا بالنبي محمد " توفي فى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة سنة عشرين. انظر الاستيعاب (4/200) والإصابة (4/212) والمعارف لابن قتيبة (ص270) تحقيق ثروت عكاشة والأعلام للزركلي (5/258) . (¬5) السيرة لابن هشام: (2/84 – 85) والحديث في المسند (ج2/274) طبعة الساعاتي مع الفتح الرباني. (¬6) السيرة لابن هشام: (2/84 – 85) والحديث في المسند (ج2/274) طبعة الساعاتي مع الفتح الرباني. (¬7) أسعد بن زرارة. أبو أمامه الأنصاري الخزرجي النجاري، شهد العقبتين وكان نقيباً على قبيلته. ذكر الواقدي أنه مات على رأس تسعة أشهر من الهجرة. وقال البغوي: بلغني أنه أول من مات من الصحابة بعد الهجرة وأنه أول ميت صلى عليه النبى صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: وقد اتفق أهل المغازي والتواريخ أنه مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدر. الإصابة (1/34) .

فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبنة فبينوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا يا أسعد: أمط عنا بيدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، ثم قاموا إليه رجلاً رجلاً فبايعوه (¬1) . أجل: (وإنه الإيمان بالله والحب فيه، والإخوة على دينه، والتناصر باسمه، ذلك كله كان يتدافع في النفوس المجتمعة في ظلام الليل بجوار مكة السادرة في غيها، يتدافع ليعلن أن أنصار الله سوف يحمون رسوله كما يحمون أعراضهم، سوف يمنعونه بأرواحهم، فلا يخلص إليه أذى وهم أحياء) (¬2) . ترى: أي صورة أعظم من هذه الصورة لهذا الولاء الصادق؟ لقد كانت بيعة على دين الله ومرضاته. وانظر إلى رد المصطفى صلى الله عليه وسلم " بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " هذه هي الصلة الحقيقية والوشيجة الصادقة لعلاقة المسلم بأخيه المسلم. لقد أصبح الدم واحداً. " أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " وهكذا تنقطع علائق الدم الجاهلي والتناصر الجاهلي والولاء الجاهلي ليحل محلها الولاء الإسلامي والوقوف في الصف الإسلامي والبراءة من الكفر وأهله واعتناق الإخوه الجديدة التي أمر الله بها. إنها البديل الصالح لتلك الوشائج الجاهلية كما قال صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " (¬3) . وهكذا نصل إلى معرفة ما فعل الله بنبيه ودعوته ومن معه، وما هيأ لهم من النصرة والمنعة والدار التي يقام فيها حكم الله وشريعته ومنهاجه في الأرض. أرض الأنصار. أرض الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. فإلى صورة جديدة مشرقة للولاء في العهد المدني. ¬

(¬1) مسند أحمد (3/322، 339، 394) والحاكم (2/624 – 625) والبيهقي في السنن الكبرى (9/9) . (¬2) فقه السيرة للشيخ الغزالي (ص 161) . (¬3) صحيح البخاري: كتاب الأدب (10/442 ح 6026) وصحيح مسلم كتاب البر والصلة (ج4/1999 ح 2585) .

الفصل السادس

الفصل السادس الولاء والبراء في العهد المدني لما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه، أمره بالهجرة لتكون مبدأ فاصلاً بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (¬1) . ولقد كانت الهجرة إيذاناً من المولى جل وعلا بقرب وعده الذي وعد به المؤمنين وهو وعد دائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { [سورة النور: 55] . ولقد وقع هذا التمكين الرباني بالفعل ولذلك نجد القرآن يذكر المؤمنين بهذا ¬

(¬1) انظر زاد المعاد (3/43) تحقيق الأرنؤوظ.

نبذة تاريخية

التمكين والنصر فيقول: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [سورة الأنفال: 26] . وسيبقى هذا الوعد بالتمكين ما دام المسلمون ملتزمون بالشرط وهو عبادته وحده لا شريك له. نبذة تاريخية لما أذن الله بالهجرة: خرج المسلمون إلى المدينة زرافات ووحداناً، ولم يبق بمكة منهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي حيث أقاما بأمر منه صلى الله عليه وسلم إلا من احتبسه المشركون كرهاً. ولما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا، وخرجوا وساقوا الذرارى والأطفال والأموال إلى المدينة، وعرفوا أنها دار منعة، وأن أهلها أهل حلقة وشوكة وبأس: خافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم حيث سيشتد أمره وتقوى شوكته، فلذلك اجتمعوا في دار الندوة ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره. وخرجوا من ذلك الاجتماع برأي واحد: وهو أن يقوم من كل قبيلة شاب ثم يضربوه ضربة رجل واحد ليتفرق دمه في القبائل. ولكن حماية الله ونصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم أكبر من مكر أولئك المجرمين، فقد نزل جبريل عليه السلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه الأمين أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وبقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث نام تلك الليلة في فراش المصطفى صلى الله عليه وسلم. وينتهي الأمر بخسارة وذلة (الملأ) من قريش (¬1) . ووصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى دار الهجرة، دار النصرة والمنعة، حيث وجد "أنصار الله" فكانت هذه الهجرة نصراً للمؤمنين المهاجرين الذين وجدوا من يؤويهم وينصرهم ويشاركهم الأموال والمساكن وحتى الأزواج!! وكانت نصراً أيضاً للأنصار حيث قُضي على الأحن والأحقاد الجاهلية بين أوسهم وخزرجهم، وعلى كيد اليهود الذين كانوا يشيعون بينهم الفرقة والفتنة. وكان أول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة هو بناء المسجد. لينطلق منه النداء الرباني "الله أكبر الله أكبر" وليكون هذا المسجد الطاهر هو الملتقى التربوي للأمة المسلمة يتلقون فيه وحي الله عن رسول الله، ويتعلمون أمور دينهم، وهذا المسجد هو أيضاً مكان القيادة العسكرية الإسلامية التي انطلقت في سبيل الله. وبعد ذلك: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على المواساة، يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ { [سورة الأحزاب: 6] . رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة) (¬2) . إن هذه الإخوة الإيمانية هي الوشيجة العظمى، والرابطة الفريدة في علاقات البشر بعضهم مع بعض، فلقد أحس كل مؤمن - كما يقول الأستاذ محمد قطب - ¬

(¬1) انظر السيرة النبوية لابن هشام (ج 2/124 - 127) وزاد المعاد (3/50 - 51) . (¬2) زاد المعاد (3/63) .

وقفة عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

سواء كان مهاجراً أم أنصارياً برباط جديد يربطه بأخوته في الله، فكل واحد منهم يحب أخاه كحبه لنفسه، مع أنه ليس من قبيلته ولا بينهما آصرة دم بل أن آصرة الدم - حين كانت في الجاهلية - لم تكن تنشىء في نفس أحدهم ذلك الحب الصافي العجيب الذي يحسه الآن لأخيه في العقيدة. ترى ما الفرق بين لقاء الجاهلية ولقاء الإسلام؟ والجواب: أن الأمر ليس سراً، ولا سحراً، ولكنه الإسلام يلتقي فيه الناس على العقيدة في الله، لأن كلاً منهم يحب الله ورسوله، فلا تكون ذواتهم بارزة ولا متوفرة لاقتناص المصلحة من الآخر كما هي الحال في العلاقات الجاهلية، وإنما الجانب البارز هو الحب في الله " (¬1) . وقفة عند المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إن هذه الأخوة جديرة بالدراسة والاعتبار. ذلك أنه نتج عنها أمور عظيمة في حياة المسلمين سواء في مستوى "الأمة والدولة" أم على مستوى الأفراد. فأما ما يتعلق بهم أمة: فقد كانت هذه المؤاخاة هي الركيزة الأساسية في تكوين مفهوم "الأمة المسلمة" أمة التقت على العقيدة في الله، وعاشت لأجل تلك العقيدة وليس لرباطة الدم أو الحسب والنسب، أو الأرض أو اللون أو اللغة، أو الجنس فيها أي حساب يذكر إذا تعارض ذلك مع العقيدة. والله سبحانه وتعالى هو صاحب المنة والفضل في ذلك فهو القائل: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ ¬

(¬1) بتصرف: منهج التربية الإسلامية: (2/40-41) .

قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فأنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { [سورة آل عمران: 103 - 105] . لقد أصبح المؤمنون أولياء بعضهم لبعض، كل منهم يحب أخاه كحبه لنفسه، ويناصره ويجاهد من أجله، ويؤثره على كل قريب وحبيب من مال أو أهل أو عشيرة أو ولد. {وَالْمُؤْمِنونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { [سورة التوبة: 71] . واشتد كيانهم فكانوا كالجسد الواحد "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه " (¬1) وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى " (¬2) . ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري (10/438 ح 6011) كتاب الأدب ومسلم (4/1999 ح2586) كتاب البر واللفظ للبخاري.

ولقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار. فقال سبحانه عن المهاجرين: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ { [سورة الحشر: 8] . ثم يثني سبحانه على الأنصار بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة الحشر: 9] . بل إن الأمر أصبح أكبر من ذلك. فهؤلاء الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه وآزروهم ونصروهم وبذلوا لهم النفس والنفيس ابتغاء رضوان الله قد أصبح حبهم من العقيدة التي يدين بها المسلم ربه، وبغضهم وكراهيتهم نفاق ففي الحديث الصحيح "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار " (¬1) . ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/62 ح17) كتاب الإيمان وصحيح مسلم (1/85 ح 74) كتاب الإيمان واللفظ للبخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله) (¬1) . وبهذه الأخوة تكون (المجتمع الإسلامي) ذلك المجتمع الذي تظله راية لا إله إلا الله وتحكمه الشريعة الربانية، ويسوده الحب والتفاني، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، والجهاد رهبانية، والدعوة إلى سبيله ومنهاج حياته، القوي فيه ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف فيه قوي حتى يأخذ حقه، ولاؤه لله ورسوله والمؤمنين وبغضه وكراهيته لأعداء الله ولو كانوا أقرب قريب، وجدوا حلاوة الإيمان وطعمه، وعرفوا الكفر وأهله حتى أن أحدهم يحب أن يلقى في النار ولا يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما قال صلى الله عليه وسلم - وهذا ما تحقق فيهم - (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا الله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) (¬2) . وبهذه المؤاخاة الإيمانية وجد (التكافل الاجتماعي) وبرزت فيه صور خالدة لم توجد قط إلا فيه وحده!! ومنها ما رواه البخاري أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين! ولي امرأتان فانظر إلى أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها!! قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدو حتى جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهيم) ؟ قال: تزوجت. قال: (كم سقت إليها) ؟ قال: نواة من ذهب (¬3) (وإن إعجاب المرء بسماحة سعد لا يعدله إلا إعجابه بنبل عبد الرحمن ¬

(¬1) صحيح البخاري (7/113 ح 3783) كتاب المناقب وصحيح مسلم (1/85 ح 75) كتاب الإيمان. واللفظ للبخاري. (¬2) صحيح البخاري (10/463 ح 6041) كتاب الأدب وصحيح مسلم (1/66 ح 43) كتاب الإيمان واللفظ للبخاري. (¬3) صحيح البخاري كتاب (7/112 ح 3780) مناقب الأنصار.

سمات الولاء والبراء في العهد المدني

الذي زاحم اليهود في سوقهم وبزهم في ميدانهم، واستطاع بعد أيام أن يكسب ما يعف به نفسه ويحصن به فرجه، ذلك أن علو الهمة من خلائق الإيمان) (¬1) . وخلاصة القول: إن هذه المؤاخاة (كانت تدريباً عملياً على الأخوة الإسلامية التي تبعثها تلك العقيدة في نفوس المؤمنين بها {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ { [سورة الحجرات: 10] ، وكان تدريباً عملياً على (التكافل) وهو معنى من المعاني العميقة في بناء الجماعة الإسلامية. القادرون يكفلون غير القادرين على أساس الأخوة في الله من جانب وعلى أساس التصرف في مال الله بما يرضي الله من جانب آخر) (¬2) ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين. بهذا الحب الكريم. وبهذا البذل السخي. وبهذه المشاركة الرضية. وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء. حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة **. سمات الولاء والبراء في العهد المدني لئن كانت سمات العهد المكي - كما سبق القول في ذلك - هي: بيان الحجة وإقامتها. والصبر على الأذى وكف الأيدي، والهجر الجميل، فإن ذلك كان لحكمة ربانية، منها: أن ذلك كان لتربية الأمة على هذا الدين الحنيف، وصقل النفوس على ضوء منهاجه، والتقليد الكامل بأمر الله ورسوله في الفعل والترك على حد سواء. ولكن الأمر أخذ صورة أخرى في العهد المدني، فمن الهجرة إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، إلى قيام الدولة المسلمة إلى الجهاد في سبيل الله وهيمنة الشريعة الإسلامية. وأول ما نذكره في العهد: هو الوثيقة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ¬

(¬1) فقه السيرة للشيخ الغزالي (ص 193) . (¬2) منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب (2/69) . ** الظلال: (ج6/3526) .

المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم، حيث وادع فيها اليهود، وعاهدهم، وتركهم على دينهم وأموالهم وشرط عليهم. وقد أوردها ابن إسحاق دون سند (¬1) وأوردها البنا في شرح مسند الإمام أحمد (¬2) ، وأوردها أصحاب السير والمغازي. على أنني سأقتصر على بعض فقراتها التي تخص موضوع الموالاة. جاء في أولها: (بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس) (¬3) . ( ... وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن من دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (¬4) ظلم، أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً. ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم) . وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) (¬5) . وهذه الوثيقة هي الصورة الصادقة لحقوق (حيث وردت بما يجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً متلاحماً متماسكاً، وكفلت - أيضاً - حقوق أهل الديانات الأخرى ما داموا يعيشون تحت مظلة الحكم الإسلامي. ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام (2/147) . (¬2) المسند بشرح البنا: (21/10) . (¬3) السيرة لابن هشام (2/147) . (¬4) الدسيعة: العظيمة. (¬5) السيرة لابن هشام (2/148 - 149) .

أصناف الكفار في العهد المدني

وقد لخص الإمام ابن القيم رحمه الله صورة المجتمع المدني آنذاك بقوله: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهرون عليه، ولا يوالوا عليه وهم على كفرهم، آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن الفريقين وهؤلاء هم المنافقون. فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى) (¬1) . *** وقد اتضح لي من خلال هذا البحث أن هناك ثلاثة أمور هامة هي سمات هذا العهد: (1) كيد أهل الكتاب للإسلام (ثم النهي والتحذير من موالاتهم وطاعتهم) . (2) ظهور النفاق والمنافقين. (3) البراء من هؤلاء وأولئك: أي المفاصلة التامة بين المسلمين وأعدائهم ولها صور ترد في موضعها. أولاً: كيد أهل الكتاب للإسلام وتحذير المسلمين من موالاتهم تتفق نظرة المنصفين الباحثين في التاريخ اليهودي: أن اليهود أمة حاقدة، الخداع طبعها، والغدر ديدنها، ومحادة الله ورسله خلقها، ولحكمه الله يعلمها انتقلت الرسالة من بين إسرائيل فكان خاتم الأنبياء هو محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي صلى الله عليه وسلم وقد كان كيد اليهود - خاصة - قد بدأ منذ أن كان رسول الله ¬

(¬1) زاد المعاد (3/126) .

صلى الله عليه وسلم في مكة حيث كانت تعاون قريشاً في أسئلة العناد التي توجه للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك مثل قولهم لقريش: اسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وغير ذلك مما هو معلوم من سورة الكهف. ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى المدينة، قامت قيامة اليهود، فلم يهدأ لهم بال، ولم يهنأ لهم عيش. وذلك أن قيام الدولة المسلمة في الأرض له أثره الكبير، عليهم فالإسلام هو الذي يكسر شوكتهم، ويفضح مكنوناتهم، ويحرر الناس من شرورهم، ويمزق شملتهم وسيطرتهم وجبروتهم. ومن هنا لم يفتأوا يكيدون للإسلام ورسوله والمؤمنين، وينصبون العراقيل في وجه من يريد الإسلام وولد النفاق والمنافقون في أحضانهم، وخانوا الله ورسوله فلم يتقيدوا بالوثيقة الآنفة الذكر، وغدروا بالمسلمين فوالوا المشركين والكفار، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهموا بما لم ينالوا. ولذلك عني القرآن المدني وخاصة أكبر سوره – وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة – بكشف سترهم وفضحهم، وبيان كيدهم. والآيات الكريمة في هذا كثيرة جداً ولكنني أورد طرفاً منها هنا. ليتضح (للمسلمين) المخدوعين بهم اليوم الذين يوالونهم بل يقتدون بهم. ما عليه أعداء الله الذين هم قتلة الأنبياء ودعاة الفساد في الأرض. قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [سورة البقرة: 109] .

وفي سورة آل عمران: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ { [سورة آل عمران: 69] . {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [سورة آل عمران: 72] . {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة البقرة: 135] . {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ { [سورة البقرة: 105] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ {

{لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة آل عمران: 118] . فهذه الآيات وغيرها مما في مثل معناها: تبين كيدهم وما يتربصون به للإسلام وأتباعه. ولذلك جاءت آيات كثيرة في تحذير المؤمنين ونهيهم عن الاستماع للكفار عامة ولأهل الكتاب خاصة، أو طاعتهم، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم. وسأقتصر هنا أيضاً على بعض هذه الآيات لأنه سيأتي مزيد من تفصيل هذا في الفصل التالي إن شاء الله حول صور الموالاة. قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ { [سورة البقرة: 120] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ {149} بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ { [سورة آل عمران: 149 - 150] .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ {100} وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { [سورة آل عمران: 100-101] . ورد في سبب نزول هاتين الآيتين: أن شاس بن قيس اليهودي – وكان شيخاً قد أغبر في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم – مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم، وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار! فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم بعاث - أحد أيامهم في الجاهلية – وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل. وتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، فتقاولا، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت رددتها جذعة! وغضب الفريقان جميعاً وقالا: أرجعا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة – وهي الحرة فخرجوا إليها، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، حتى جاءهم فقال: (يا معشر المسلمين: الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً!!) . فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله

فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ {الآية. قال جابر بن عبد الله، ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوماً أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخراً من ذلك اليوم (¬1) . ويوجه الله عباده المؤمنين ويرشدهم – بعد أن ذكر قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام في قصة ذبح البقرة – بقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {76} أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ { [سورة البقرة: 75 – 77] . ¬

(¬1) انظر: تفسير الطبري (4/23) وأسباب النزول للواحدي (ص 66) وأحكام القرآن للقرطبي (4/155) . وتفسير البغوي (1/389) . وقد بذلت جهدي في تخريج الحديث من المصادر الأصلية فلم أعثر على ذلك فجزى الله من وجد تخريج هذا الحديث ونبهني إلى ذلك خير الجزاء

ثانيا: النفاق والمنافقون

ثم يأتي التحذير الأقوى في سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فإنهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [سورة المائدة: 51] . {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فإن حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {56} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين { [سورة المائدة: 55-57] . إن هذه النصوص وغيرها: قد ربت المسلمين على معرفة كيد أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، فقطعت ما في نفوس بعض المسلمين من ود وولاء لهؤلاء الأعداء، من أجل أن يكون الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين فقط. ثانياً: النفاق والمنافقون: إن المؤمنين في العهد المكي كانوا مبتلين، يعذبون، ويضطهدون ومع ذلك صبروا واحتسبوا فلم يكن في مكة حينئذ إلا فريقان: فريق المؤمنين الصابرين،

وفريق الكفار والمشركين الجبابرة ولم يكن هناك (منافقون) لأن النفاق طبيعته المراوغة والاحتيال وهذا الدين لم يكن يقدر عليه في مكة إلا المؤمنون الصادقون. أما في المدينة، وبعد قيام دولة المسلمين وهيمنة حكم الله وشرعه فقد وجد المنافقون وهذا أمر معهود من أصحاب النفوس الضعيفة الجبانة، التي تخاف السلطة الإسلامية فتظهر لها الإسلام، وتحب الكفر وأهله ولكنها لا تجرؤ على المصارحة به. والمنافقون: (قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، فهم في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا { [سورة النساء: 145] . (فالكافرون المجاهرون أخف منهم، وهم فوقهم في دركات النار، لأن الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة الله ورسله، وزاد عليهم المنافقون بالكذب والنفاق. وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين ولهذا قال تعالى في حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ { [سورة المنافقون: 4] .

ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر. أي: لا عدو إلا هم، ولكن لم يردها هاهنا حصر العداوة فيهم، وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم، بل هذا من إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً، وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. (فإن ضرر هؤلاء المخالطين المعاشرين لهم – وهم في الباطن على خلاف دينهم – أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم. لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم ينقضي ويعقبه النصر والظفر، أما هؤلاء فمعهم في الديار والمنازل صباحاً ومساء، يدلون العدو على عوراتهم، ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم.. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار، وتوجب دخول النار. (من علقت به كلاليب كلبهم ومخاليب رأيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان وقطعت له مقطعات من البلاء والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالاً، ويمشي على عقبه القهقرى إدباراً منه وهو يحسب ذلك إقبالاً) (¬1) . وكان من نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن لا يتركها مختلطة بغير تمييز بين المؤمن والمنافق، ذلك أن عدم التمييز يؤدي إلى ضياع القدوة الحسنة في المجتمع الإسلامي، ويؤدي أيضاً إلى ذوبان الصورة للمسلم الصادق. (وفي المنتسبين للإسلام أناس (نفعيون) لا هم لهم إلا الحصول على المال أو أي مأرب من مآربهم الدنيئة، فإذا انتصر المؤمنون كانوا معهم، وإذا أصيبوا كانوا عليهم، ثم أن منهم أصحاب الأهداف الخبيثة والأغراض الهدامة ممن قد امتلأت قلوبهم بالحقد والحسد، فهم يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويتظاهرون لهم بأنهم معهم، ولكنهم يخونونهم في أحرج المواقف) (¬2) . ولما كان الأمر كذلك ميز الله الصادق من الكاذب عن طريق الابتلاء ¬

(¬1) انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم (ص 402 – 408) الطبعة الأولى سنة 1375 هـ السلفية بمصر. (¬2) المنافقون في القرآن الكريم للأستاذ عبد العزيز الحميدي (ص 116) .

والامتحان قال تعالى: {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ { [سورة العنكبوت: 1-3] . {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ { [سورة آل عمران: 140 – 141] . {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ { [سورة آل عمران: 179] . أجل: إنه لابد من التمييز بين الخبيث والطيب، فالابتلاء سنة ربانية في تمحيص النفوس وصقلها على الحق، ثم إن الله سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، فلله سبحانه على العباد

في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى الحال.. لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه (¬1) . والحديث عن المنافقين طويل وقد كتب فيه في القديم والحديث (¬2) . وقد سبق لي في التمهيد أن تكلمت عن أنواع النفاق وأحكامه، وأتكلم هنا عن أبرز أفعال وصفات المنافقين في كيدهم للدعوة الإسلامية. (1) من أخطر ما ارتكبه المنافقون: موالاة اليهود والنصارى ضد المسلمين وقد فضحهم القرآن في عدة مواضع ومنها سورة الحشر، قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ { [سورة الحشر: 11-12] . وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ ¬

(¬1) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (ص 190) تحقيق الفقي. (¬2) هناك رسالة قيمة للأستاذ عبد العزيز الحميدي بعنوان المنافقون في القرآن لعلها من أحسن ما كتب في هذا الموضوع. وهي موجودة بالدراسات العليا بكلية الشريعة بمكة المكرمة وانظر أيضاً كتاب: النفاق آثاره ومفاهيمه للشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله.

عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ { [سورة المجادلة: 14] . ذكر السدي ومقاتل: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل المنافقين: فقد كان أحدهما يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود (¬1) . وهذه الآية كقوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً { [سورة النساء: 142] . ولقد نزلت سورة كاملة فيهم هي سورة (المنافقون) بين الله فيها أنهم يظهرون ما لا يبطنون، وأنهم يحرصون على إضعاف صف المسلمين {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ { [سورة المنافقون: 7] . وفيها أيضاً: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ { [سورة المنافقون: 8] . ¬

(¬1) أسباب النزول للواحدي (ص 235) وتفسير القرطبي (17/304) .

روى البخاري ومسلم في سبب نزولها عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: (دعوها فإنها منتنة) فسمعها عبد الله بن أبي فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق: قال صلى الله عليه وسلم (دعه. لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) (¬1) . قال محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالديه مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) (¬2) . وذكر عكرمة وغيره: أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي على باب المدينة، واستل سيفه، فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه: وراءك، فقال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان إنما يسير ساقة - (¬3) فشكى إليه عبد الله بن أبي ابنه، فقال الابن: والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إذ أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن (¬4) ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب التفسير (8/652 ح 4907) وصحيح مسلم (4/1999 ح 2584) كتاب البر واللفظ له. (¬2) السيرة لابن هشام (2/292) وتفسير بن كثير (8/159) ولم يخرجه – فيما أعلم - إلا ابن اسحاق. (¬3) من صفته صلى الله عليه وسلم أنه يسوق أصحابه. أي يقدمهم ويمشي خلفهم تواضعاً ولا يدع أحداً يمشي خلفه. (¬4) تفسير ابن كثير (8/159) .

وحقاً إنها صورة رائعة لصدق الإيمان أن يقول الابن لرسول الله: إن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه!! إنه ما حمل هذا الابن على هذا الفعل إلا قوة الإيمان وعمق الولاء والبراء في نفسه. (2) من أقبح صفاتهم: رفض التحاكم إلى شريعة الله، والتحاكم إلى الطواغيت التي تحقق رغباتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا {61} فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا {62} أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا { [سورة النساء60-63] . ورفضهم لحاكمية الله رفض للإيمان كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47} وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ

بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ { [سورة النور: 48-50] . ثم يضع الله ميزاناً دقيقاً في هذه القضية بين المؤمن والمنافق. فأما المؤمن الصادق فإنه ينقاد إلى حكم الله ويرضى به ويقول: سمعت وأطعت: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة النور:51] . هذه هي صفة المؤمن، أما المنافق فصفته الإعراض والاستكبار عن حكم الله، قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} . (3) من صفاتهم وأفعالهم الدنيئة: التخذيل في صف المسلمين، والتجسس للكفار وكشف عورات المسلمين لهم. قال الله عنهم: {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ { [سورة آل عمران: 168] . ولقد أصيب المسلمون في غزوة أحد بالدهشة حين رجع ثلث الجيش بزعامة ابن أبي. وكذلك قعودهم عن غزوة تبوك وغيرها.

وفي موالاتهم للكفار يقول الله في شأنهم {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فإن العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا { [سورة النساء: 138 – 139] . وأخبرنا سبحانه أنهم هم: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً { [سورة النساء: 141] . ولقد فضحتهم سورة التوبة خاصة فقد ورد فيها قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ {45} وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ {46}

لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {47} لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ {48} وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ {49} إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ { [سورة التوبة: 45- 50] . ففي هذه الآيات بيان من الله للمؤمنين أن هؤلاء المنافقين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً لأنهم جبناء، مخلدون، ولأسرعوا بينكم بالنميمة والبغضاء، والفتنة. (¬1) وقال الله فيهم أيضاً. {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ {86} رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ { [سورة التوبة: 86 – 87] . ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير (ج 4/100) .

ثالثا: البراء في العهد المدني (المفاصلة التامة بين المسلمين وجميع أعدائهم)

ولهم مواقف أخرى كثيرة، ولكنه سبحانه وتعالى حذر المؤمنين منهم وبين لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه وتعالى لو شاء لأراهم لرسول الله عياناً ولكنهم يعرفون بلحن القول: {وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ { [سورة محمد: 30] وسنعرف بعد قليل كيف كان البراء منهم، وكيف كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم. ثالثاً: البراء في العهد المدني أي: المفاصلة التامة بين المسلمين وجميع أعدائهم لئن كانت التربية في العهد المكي تمتاز بضبط النفس، والصبر على الأذى، وتبليغ الدعوة وإعداد العدة مع حبس دواعي الانطلاق، وكف حدة الإقدام: فإن التربية في المدينة مبنية على هذه الأسس ولكن في شكل جديد، حيث انطلق المؤمنون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، والضرب على يد أعداء الله بقوة لا تعرف الضعف، وعزيمة لا تعرف الوهن (¬1) . من هنا كان الجهاد في سبيل الله هو أبرز سمات هذا العهد الزاهر، وهو أول صورة من صور البراء والمفاضلة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في العهد المدني وبعد الهجرة النبوية والجهاد وجه جديد من وجوه الثبات على العقيدة، واحتمال المشقات والأذى في سبيل الذود عنها من الأعداء (¬2) . ¬

(¬1) انظر: سبيل الدعوة الإسلامية. د. محمد أمين المصري (ص 113) ط - 1 / سنة 1400 هـ دار الأرقم بالكويت. (¬2) انظر: منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب (2/70) .

والحديث عن الجهاد طويل طويل، وآياته كثيرة وكذلك الأحاديث النبوية فيه، وفهم الناس لمقصده مختلف، خاصة في العصور المتأخرة، فقد وجد من المسلمين أناس أصيبوا بالهزيمة النفسية أمام شبهات الكفار والملحدين والمستشرقين والمستغربين على حد سواء!. ففي الوقت الذي يقول فيه أعداء الله. إن دين الإسلام انتشر بالسيف وجد ممن ينتسبون للعلم والعلماء من يدافع - حسب زعمه - عن الإسلام؟ فيلوي أعناق النصوص الشرعية لتوافق ما زعمه دفاعاً عن الإسلام! ومن هنا يوضع الإسلام في مقام الدفاع، ويصور على أنه كالذي يقاتل في معركة انسحاب، حيث كلما طرأت شبهة انبرى لها من يدافع!! والذي نعتقده ونراه الحق في هذه القضية: أن هذه مهزلة سخيفة لم تحدث إلا في القرون المتأخرة، حين صارت الغلبة للكفر وأربابه، واندحر المسلمون من مقام القيادة والجهاد إلى مقام الاستخذاء والضعف والدفاع والتبعية العمياء. وقد كتب علماء فضلاء من علماء المسلمين حول هذا الموضوع ما يكفي ويشفي ويغني (¬1) . ومن المهم في هذا المقام: أن نعرف هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته مع أعداء الله، وجهاده لهم. وللإمام ابن القيم رحمه الله تلخيص قيم أورده هنا بتمامه نظراً لأهميته. قال رحمه الله في زاد المعاد: (أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه. {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ { [سورة المدثر: 1-2] . ¬

(¬1) اذكر منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والشيخ محمد ابن عبد الوهاب وتلاميذه، ومن المعاصرين الاستاذين الجليلين أبو الأعلى المودودي وسيد قطب والشيخ سليمان بن حمدان رحمهم الله. وغيرهم ممن لا يحضرني ذكره الآن.

فنبأه بقوله: (اقرأ) وأرسله بـ (يا أيها المدثر) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال، ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: (1) أهل صلح وهدنة، (2) وأهل حرب، (3) وأهل ذمة. (فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده. ولما نزلت سورة (براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين، والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. (وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام. (1) قسماً أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له فحاربهم وظهر عليهم. (2) وقسماً لهم عهد مؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. (3) وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم. وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ { [سورة التوبة: 5] .

فالحرم هاهنا أشهر التيسيير أولها يوم الآذان وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ { [سورة التوبة:36] . فإن تلك: واحد فرد، وثلاثة سرد، رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ولم يسير المشركين في هذه الأربعة. فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له، أوله عهد مطلق أربعة أشهر وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضرب على أهل الذمة الجزية. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول (براءة) على ثلاثة أقسام: محاربين له وأهل عهد، وأهل ذمة. (ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به ومسالم آمن وخائف محارب) (¬1) . وقد ركز القرآن الكريم على أهداف الجهاد في غير ما آية. فمنها قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه { [سورة الأنفال: 39] . ¬

(¬1) زاد المعاد: (3/158 -160) .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: " ويكون الدين كله لله " لا يكون مع دينكم كفر (¬1) . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { [سورة التوبة: 33] . وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ { [سورة الحج: 40-41] . إن الجهاد في الإسلام: هدفه أن يعبد الله وحده في الأرض، وأن تهيمن شريعته، ويتحرر الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن تأليه البشر إلى ألوهية الواحد الأحد (¬2) ومن هدف الجهاد أيضاً إنقاذ المستضعفين في الأرض {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/597) . (¬2) انظر "معالم في الطريق": "فصل الجهاد في سبيل الله في وطريق الدعوة في " ظلال القرآن" (1/289) .

أ- صور البراءة من المشركين:

هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا { [سورة النساء:75] . وإليك تفصيل صور البراء من كل طائفة، وكيفية جهاد المسلمين لهم: أ- صور البراءة من المشركين: (1) بعد أن قامت الدولة المسلمة في المدينة، كان لابد من اجتثاث شجرة الشرك في مكة وغيرها وقد نزلت سورة التوبة بقتال المشركين، وتفصيل ذلك ورد في تلخيص ابن القيم الذي سبق ذكره. قال تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ {1} فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ {2} وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فإن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {3} إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {4} فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ

وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍفإن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {5} وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ {6} كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {7} كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ {8} اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {9} لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ {10} فإن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {11} وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ {12} أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ {13}

قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ {14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [سورة التوبة: 1-15] . (2) منعهم من دخول المسجد الحرام قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [سورة التوبة: 28] . قال ابن كثير: كان نزول هذه الآية سنة تسع. ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين، "أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان" (¬1) فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً (¬2) . (3) منع النكاح بالمشركات: ذكر ابن جرير – وهو يتحدث عن صلح الحديبية – أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِن َّفإن عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ¬

(¬1) صحيح البخاري: كتاب التفسير، تفسير سورة التوبة (8/317 ح 4655) (¬2) تفسير ابن كثير (4/73) .

ب- البراء من أهل الكتاب:

وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ { [سورة الممتحنة: 10] . قال فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك (¬1) . (4) منع إقامة المسلم في دار الشرك، وذلك بعد أن أعز الله دينه وعباده، وقامت لهم دولة فحينئذ تحرم الإقامة بدار الشرك خشية على المسلم أن يفتن، ولكي ينضم إلى جماعة المسلمين فهم أخوته وأولياؤه من دون الناس. قال صلى الله عليه وسلم " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: لا تراءى ناراهما " (¬2) . ب- البراء من أهل الكتاب: كما سبق أن قلنا: أن الجهاد هو أكبر مظاهر المفاصلة بين المسلمين وجميع أعدائهم - ومنهم أهل الكتاب - فإنه لابد أن نشير إلى بعض ما نزل في مفاصلة أهل الكتاب إضافة إلى مبدأ جهادهم. ومن ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران التي عنيت بهم كثيراً وكشفت ما لديهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {70} يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ { [سورة آل عمران: 70-71] . ¬

(¬1) تفسير الطبري (26/100) وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/69) . (¬2) سنن أبي داود (3/105 ح 2645) كتاب الجهاد والترمذي في السير (5/329 ح 1604) قال الألباني: هو حديث حسن. انظر صحيح الجامع الصغير (2/17 ح 1474) .

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ {98} قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ { [سورة آل عمران: 98 -99] . وفي سورة المائدة قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ {59} قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ { [سورة المائدة: 59 - 60] . ففي هذه الآيات وغيرها نجد التقريع لأهل الكتاب والتنديد بباطلهم ومخازيهم. ثم يأتي النص القرآني للرسول صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين من ورائه - بأن يقولوا لأهل الكتاب أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا شرع الله ويحكموا كتابه {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ

ج- البراء من المنافقين:

وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ { [سورة المائدة: 68] . وهذه الآية الكريمة من أعظم ما بين صورة البراء من أهل الكتاب. ولقد كان جهاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأهل الكتاب - بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير - صورة واضحة بارزة في مفاصلتهم وجهادهم والبراء منهم. وسيرد الحديث عن إجلائهم عن أرض الجزيرة في الفصل السادس من الباب الثاني. ج- البراء من المنافقين: مفاصلة المنافقين والبراءة منهم تؤخذ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم: (وأما سيرته صلى الله عليه وسلم في المنافقين: فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة. وأمره أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم) (¬1) . وقد قلنا فيما سبق: أن من أبرز صفات المنافقين موالاة الكفار، وكراهية دين الله والتخذيل في صف المسلمين لذلك حين يبين الله حالهم للمؤمنين: كان لابد من مفاصلتهم والبراءة منهم ونزل في ذلك آيات توضح صور هذه المفاصلة وذلك البراء ومنها: (1) الإعراض عنهم والغلظة عليهم: وقد جاء ذلك مقروناً بجهاد الكفار، ¬

(¬1) زاد المعاد (3/161) .

فالغلظة على المنافق من أنواع الجهاد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ { [سورة التوبة: 73] . (وهي نفس آية 90 من سورة التحريم) وسورة التوبة فضحتهم فضحاً عظيماً حتى إنها سميت بـ، " الفاضحة". ففي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها " (¬1) . وفي سورة النساء {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً { [سورة النساء: 81] . (2) النهي عن الصلاة عليهم أو القيام على قبورهم: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ { [سورة التوبة: 84] . ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب التفسير، تفسير سورة الحشر (ج 8/629 ح 4882) .

قال ابن كثير: وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين (¬1) . (3) لا يقبل لهم عذر في التخلف عن الجهاد، ومن ثم عدم قبولهم فيه مرة أخرى. قال تعالى: {فإن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ { [سورة التوبة: 83] . {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {94} سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {95} يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُم ْفإن تَرْضَوْاْ عَنْهُم ْفإن اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ { [سورة التوبة: 94 - 96] . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/132) .

د- قطع الموالاة مع الأقارب إذا كانوا محادين لله ورسوله:

(4) عدم الاستغفار لهم. قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { [سورة التوبة: 80] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ {5} سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { [سورة المنافقون: 5-6] . د- قطع الموالاة مع الأقارب إذا كانوا محادين لله ورسوله: قلنا في العهد المكي: إن المؤمن كان مأموراً بصلة والديه الكافرين وإحسان معاشرتهما وليس في ذلك ولاء على أية حال إلا إنه لم يؤمر بمقاطعتهما ومفاصلتهما ولكن الصورة تختلف في العهد المدني بعد قيام الدولة المسلمة وجهاد الكفار والمشركين. حيث جاءت المفاصلة التامة بين المؤمن وقريبه المشرك أو الكافر أو

المنافق ونزل في ذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة المجادلة: 22] . قال أهل العلم في سبب نزولها: أنها نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وفي أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وفي عمر حيث قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة حين قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبه يوم بدر (¬1) . وقيل غير ذلك من الأسباب (¬2) . وهذه الآية الكريمة تشير إلى المفاصلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان، وأن المؤمن يجب عليه أن ينحاز إلى الصف المسلم متجرداً من كل عائق أو جاذب ومرتبطاً في العروة الواحدة بالحبل الواحد. ومن ثم فلا نسب ولا صهر، ولا أهل ولا قرابة، ولا ظن ولا جنس ولا عصبية ولا قومية حين تقف هذه الوشائج دون ما أراد الله. وإنما هي العقيدة من وقف تحت رايتها فهو من حزب الله، ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل فلن تربطه بأحد من ¬

(¬1) أسباب النزول للواحدي (ص 236) وتفسير ابن كثير (8/79) . (¬2) للاستزادة في هذا أنظر أحكام القرآن للقرطبي (17/307) .

حزب الله رابطة (¬1) . وفي سورة التوبة يأتي الأمر الأخير بالمفاصلة. وبيان أن القضية: قضية إيمان أو كفر وليست قضية جزئية أو ثانوية. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {23} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { [سورة التوبة: 23- 24] . فهذا أمر من الله بمباينة الكفار وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهي عن موالاتهم إذا اختاروا الكفر على الإيمان (¬2) . قال القرطبي: وهذه الآية – آية 23 – باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين (¬3) . وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) : هو مشرك مثلهم لأن من رضي بالشرك فهو مشرك (¬4) . وهذا السياق القرآني الكريم قد استعرض ألوان الوشائج والمطامع واللذائذ ليضعها في كفه، ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى. ¬

(¬1) انظر الظلال (6/3514 – 3516) . (¬2) ابن كثير (4/66) . (¬3) أحكام القرآن للقرطبي (8/94) . (¬4) أحكام القرآن للقرطبي (8/94) .

الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها) .. وكل ذلك في كفة وفي الكفة الأخرى: حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله. الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشتقاته وما يتبعه من نصب وتعب، ومن تضييق وحرمان وألم وتضحية وجراح واستشهاد. الجهاد المجرد من الصيت والذكر والظهور والمباهاة والفخر والرياء. وما يكلف الله المؤمنين هذا التكليف إلا وهو يعلم أن فطرتهم تطيق ذلك، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال، وأودع فيها الشعور بلذة الاتصال بالله التي لا تعدلها أي لذة. لذة الاستعلاء على الضعف والهبوط والخلاص من ثقلة اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضي (¬1) وخلاصة القول: إن الولاء والبراء قد اكتملت صورته الحقيقية في العهد المدني حيث قامت دولة الإسلام الراشدة وأصبحت الأخوة الإيمانية فيها هي الرابطة الحقيقة، ودونها تهدر كل رابطة. وشرع الجهاد للكفار والمشركين ومن نقض عهده. وجاء الأمر بالغلظة على المنافقين والإعراض عنهم. وحصلت البراءة من كل قريب لا يؤمن بالله ورسوله ولا بدين الحق ولو كان أباً أو أخاً أو زوجاً أو غير ذلك مما تعارف الناس عليه أنه رابطة! ولقد تميز المسلمون واستعلوا بدينهم، وافتخروا بالانتماء إلى هذا الدين الذي هو سبب تلك العزة والرفعة والسيادة حين فتحوا الشرق والغرب. ولن يكون للمسلمين اليوم أو غداً عز إلا بالرجوع إلى هذه العقيدة عن حب وولاء لدين الله والمؤمنين به، وبراء من كل كافر ومشرك ومنافق ولو كان أقرب قريب. وأما الإحسان إلى الوالدين وبرهما - وهما كافران - أمر باق إلى قيام الساعة. ¬

(¬1) الظلال (3/1615) بتصرف.

الفصل السابع

الفصل السابع صور الموالاة ومظاهرها إن جمع صور الموالاة ومظاهرها في فصل مستقل أمر له أهميته في مثل هذا البحث، وذلك حتى يكون القارئ على بينة من الأمور والقضايا التي تمسها قضية الولاء والبراء. وأحب أن أنبه في هذا المقام على أنني لم ألزم نفسي بتتبع الحكم الشرعي في كل صورة من هذه الصور، وذلك لصعوبة القطع بالحكم في كل قضية، لأنه - كما يقول أهل العلم - قد يكون القول أو الفعل كفراً ولكن هناك ما يصرفه عن ظاهره فيما بين العبد وبين ربه، ولكن على العموم فهذه الصور تتفاوت من كون فاعلها خارجاً من الملة كمن يحب الكفار لأجل كفرهم إلى الكبيرة من الكبائر كتعظيمهم والثناء عليهم (¬1) . وذلك أن (مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة كذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات) (¬2) . وقد حرص الدين الإسلامي على إخلاص العبادة (وهي الطاعة والانقياد) لله وحده والبراءة من كل متبوع أو مرغوب، أو مرهوب، وتعلق القلب بربه في الخشية والخوف والرجاء والعون والنصرة، لأن (كل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو يهدوه: خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك.. ومعلوم أن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا ¬

(¬1) الدرر السنية (7/201) والهدية الثمينة للشيخ عبد الله السليمان بن حميد (ص17) . (¬2) الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (ص43) .

يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. أما إذا كان القلب متيماً لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض) (¬1) . وخطورة موالاة الكفار تبرز في أن ضررها على المسلمين كافة أعظم من خطر من يكفر في نفسه فقط. ذلك أن (الإضرار بالمسلمين يزيد على تغيير الاعتقاد، ويفعله من يظن سلامة الاعتقاد، وهو كاذب عند الله ورسوله والمؤمنين في هذه الدعوى والظن، ومعلوم أن المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرد تغيير الاعتقاد) (¬2) وإليك تفاصيل موالاة الكفار (¬3) . (1) الرضى بكفر الكافرين وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة (¬4) . ويتضح هذا الأمر في كونه ولاء للكفار: إنه يسرهم ويسعدهم أن يروا من يوافقهم على كفرهم ويجاريهم على مذاهبهم الإلحادية. وقد سبق في التمهيد القول بأن من معتقد أهل السنة والجماعة: إن حب القلب وبغضه يجب أن يكون كاملاً. فالذي يحب الكافر لأجل كفره فهو كافر بإجماع الأمة، ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين. يقول ابن تيمية رحمه الله: (أما حب القلب وبغضه، وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان. أما فعل البدن فهو بحسب قدرته. ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطي ثواب الفاعل الكامل، ذلك أن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله، وهذا من نوع الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد ¬

(¬1) رسالة العبودية لابن تيمية (95 - 96) . (¬2) الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية: 371. (¬3) من أحسن من كتب في ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأبناؤه، لذلك فمعظم هذه الصور منقولة من كتبه. (¬4) انظر نواقض الإسلام في مجموعة التوحيد (ص129) مطبعة الحكومة بمكة.

اتبع هواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ { [سورة القصص: 50] (¬1) إذن: فالمحبة والرضى أمران جازمان لا يخرجان عن كونهما كفراً إذا كانا للكفار أو إيماناً إذا كانا للمؤمنين. (2) التولي العام واتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء أو الدخول في دينهم وقد نهى الله عن ذلك فقال: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ { [سورة آل عمران: 28] . قال ابن جرير في تفسيرها: (من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم ويظاهرون على المسلمين فليس من الله في شيء. أي قد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. (إلا أن تتقوا منهم تقاة) أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل) (¬2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ¬

(¬1) شذرات البلاتين (1/354) (رسالة الأمر بالمعروف) (¬2) تفسير الطبري (3/228) .

وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [سورة المائدة: 51] . قال ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: (من تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم. أي من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه) (¬1) . وقال ابن حزم: صح أن قول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ {إنما هو على ظاهره: بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين (¬2) . وقال ابن تيمية: أخبر الله في هذه الآية: أن متوليهم هو منهم وقال سبحانه: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء { [سورة المائدة: 81] . فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً (¬3) . وقال ابن القيم: (إن الله قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى، فهو منهم " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم. وهذا عام، خص منهم من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنه لا يقر ولا تقبل منه الجزية. بل إما الإسلام أو السيف ¬

(¬1) المصدر السابق (6/277) . (¬2) المحلى: (13/35) تحقيق حسن زيدان سنة 1392 هـ الناشر مكتبة الجمهورية العربية بمصر. (¬3) انظر الإيمان لابن تيمية (ص14) طبع المكتب الإسلامي.

لأنه مرتد بالنص والإجماع، ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين لأن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول القرآن فقد انتقل من دين إلى دين خير منه - وإن كانا جميعاً باطلين - وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يقر على ذلك) (¬1) . ويستبعد الأستاذ سيد قطب أن يكون بين المسلمين، من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. وإنما المراد ولاء التحالف والتناصر. يقول رحمه الله: (إن الولاية المنهي عنها ولاية التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس على المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله. يوضح ذلك قوله تعالى بشأن المسلمين الذين لم يهاجروا {مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ { [سورة الأنفال: 72] . أي ولاية التناصر والتعاون وليس ولاية الدين. (نقول هذا: لأن البعض يخلط بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة. ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم. ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/67، 69) .

وسذاجة أية سذاجة، وغفلة أية غفلة: أن تظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين!! أمام الكفار والملحدين. فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين. فلندع من يغفل عن هذا ولنكن واعين للتوجيه القرآني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء {الآية (¬1) . (3) الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً { [سورة النساء: 51] . ونظير هذه الآية قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ {101} وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ { [سورة البقرة: 101-102] . ¬

(¬1) في ظلال القرآن: بتصرف (2/909 - 910) وسيرد مزيد من التفصيل إن شاء الله عند الحديث عن زمالة الأديان!

فأخبر سبحانه أنهم اتبعوا السحر وتركوا كتاب الله كما يفعله كثير من اليهود وبعض المنتسبين إلى الإسلام. فمن كان من هذه الأمة موالياً للكفار: من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة كإتيانه أهل الباطل واتباعهم في شيء من فعالهم ومقالهم الباطل: كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك (¬1) . وإن هذه الصورة من صور الموالاة قد وقع فيها معظم المنتسبين إلى الإسلام اليوم، فالإيمان ببعض ما هم عليه أمر واقع في (العالم الإسلامي) لا ينكره إلا مكابر جاهل، فها هي الببغوات من أبناء أمتنا وممن ينطقون بألسنتنا قد آمنت بالشيوعية مذهباً تارة وبالاشتراكية تارة أخرى، وبالديمقراطية نظاماً أو العلمانية دستوراً، فأخذت هذه المبادئ الكافرة وطبقتها في بلاد المسلمين ملزمة الناس بعبادتها (في الطاعة والانقياد والتنفيذ) ونصبت العداء لكل مسلم موحد ينادي في الأمة أن تعود إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذه الردة الجديدة سيأتي تفصيل الحديث عنها إن شاء الله - في الباب الأخير. وإن من الإيمان ببعض ما هم عليه: مسألة فصل الدين عن الدولة وإنه لا علاقة للإسلام بالسياسة فهذه أيضاً فرع للقضية السابقة لم توجد إلا في أوروبا أيام الاضطهاد الكنسي لرجال العلم. ولكن أين الإسلام دين العدل ودين السياسة ودين القوة من (هرطقة) رجال الكنيسة حتى يأتي بعض الأقزام فيستورد تلك السموم من أوروبا ليلبس الإسلام قناعاً مزيفاً فيقول: الإسلام علاقة بين العبد وربه والسياسة لها رجالها ولها قضاياها التي لا تمت إلى الدين بصلة (¬2) . (4) مودتهم ومحبتهم. وقد نهى الله عنها بقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ ¬

(¬1) انظر فتاوي ابن تيمية (28/199 - 201) . (¬2) هناك كتاب أجلاء أفاضوا الحديث في هذه القضية منهم الأساتذة: د. محمد البهي والأستاذ سيد قطب والأستاذ محمد قطب والأستاذ المودودي وغيرهم. ومن أراد التفصيل الدقيق فعليه بمراجعة كتاب العلمانية وآثارها في العالم الإسلامي للأخ الأستاذ سفر بن عبد الرحمن الحوالي.

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ { [سورة المجادلة:22] . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده موالاة أعداء الله. فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب) (¬1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ { [سورة الممتحنة: 1] . (5) الركون إليهم: قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [سورة هود: 113] . قال القرطبي: الركون حقيقته: الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء والرضا به (¬2) . وقال قتادة معنى الآية: لا تودوهم ولا تطيعوهم. قال ابن جريج: لا تميلوا إليهم. ¬

(¬1) الإيمان: (ص13) . (¬2) : تفسير القرطبي: (9/108) وانظر البغوي والخازن (3/256) أما البيت فهو لطرفة بن العبد. (219) المصدر السابق.

وهذه الآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم فإن صحبتهم كفر أو معصية. إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة كما قيل عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى (¬1) . وقال تعالى {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً {74} إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا { [سورة الإسراء: 74 - 75] . وإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلاة الله وسلامه عليه فكيف بغيره؟ (¬2) . (6) مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ { [سورة القلم: 9] . والمداهنة والمجاملة والمداراة على حساب الدين أمر وقع فيه كثير من (المسلمين) اليوم وهذه نتيجة طبيعية للانهزام الداخلي في نفوسهم. حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم، ولأمر ما رسخ وترسب في أذهان المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة ورمز القدوة - فأخذوا ينسلخون من تعاليم دينهم مجاملة للكفار ولئلا يصمهم أولئك الكفرة بأنهم (متعصبون) ! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ يقول في مثل هؤلاء (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) . قلنا. يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن) ؟ (¬3) . ¬

(¬1) مجموعة التوحيد (ص 117) دار الفكر. (¬2) (¬3) صحيح البخاري (13/300ح 7320) كتاب الاعتصام وصحيح مسلم (4/2054 ح 2669) كتاب العلم واللفظ للبخاري.

إن المداهنة والمجادلة قد تبدأ بأمر صغير ثم تكبر وتنمو حتى تؤدي - والعياذ بالله - إلى الخروج من الملة. وهذه إحدى مزالق الشيطان فليحذر المسلم منها على نفسه، وليعلم أنه هو الأعز وهو الأقوى إذا امتثل منهج الله وتقيد بشرعه ومقتضيات عقيدته. ومن الأمور الواضحة في تاريخ المسلمين: أن من أكبر العوامل في انتصارهم - بعد الإيمان بالله ورسوله - الاعتزاز بالإسلام. يصدق ذلك ويؤيده قول الفاروق رضي الله عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله) (¬1) . (7) اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ { [سورة آل عمران: 118] . نزلت هذه الآية في أناس من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجلاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والجوار فأنزل الله هذه الآية تنهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم (¬2) . وبطانة الرجل: خاصته تشبيهاً ببطانة الثوب التي تلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم. وقد بين الله العلة في النهي عن مباطنتهم فقال (لا يألونكم خبالاً) أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد، ثم إنهم يودون ما يشق عليكم من الضر والهلاك. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/62) كتاب الإيمان. وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. (¬2) أسباب النزول للواحدي (ص 68) .

والعداوة التي ظهرت منهم: شتم المسلمين والوقيعة فيهم، وقيل: باطلاع المشركين على أسرار المسلمين (¬1) . وفي سنن أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) (¬2) . (8) طاعتهم فيما يأمرون ويشيرون به (¬3) . قال تعالى ناهياً عن ذلك: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا { [سورة الكهف: 28] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ { [سورة آل عمران: 149] . وقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ { [سورة الأنعام: 121] . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره فهذا هو ¬

(¬1) انظر تفسير البغوي (1/409) وابن كثير (2/89) . (¬2) كتاب الأدب (5/168 ح 4833) وفي المسند (16/178 ح 8398) طبعة: شاكر والترمذي في الزهد (7/111 ح 2379) وقال هذا حديث حسن غريب. (¬3) مجموعة التوحيد (ص 117) .

الشرك، كما قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ { [سورة التوبة: 31] (¬1) . (9) مجالستهم، والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله. وقال تعالى في النهي عن مجالستهم: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ { [سورة النساء: 140] . قال ابن جرير: (قوله (إنكم إذاً مثلهم) أي إنكم إذا جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون فأنتم مثلهم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها. (وفي الآية دلالة واضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من الكفرة والمبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم (¬2) . وفي الحديث (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم) (¬3) . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (3/322) . (¬2) تفسير الطبري (5/330) . (¬3) رواه أحمد (في المسند) (ح 8/80 ح 5705) بتحقيق أحمد شاكر وصحيح البخاري (8/125 ح 4419) كتاب المغازي وصحيح مسلم (4/2185 ح 2980) كتاب الزهد.

(10) توليتهم أمراً من أمور المسلمين: كالإمارة والكتابة وغيرها والتولية شقيقة الولاية لذلك فتوليتهم نوعاً من توليهم. وقد حكم الله أن من تولاهم فإنه منهم. ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم. والولاية تنافي البراءة فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً. (والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً. والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبداً. ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب - مثلاً - ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان: لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال فهذا الملك (الصالح) كان في دولته نصراني يسمى: محاضر الدولة أبا الفضل بن دخان ولم يكن في المباشرين أمكن منه. كان قذى في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين. بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية وخروجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين، وأعمالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها. وكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحمل لهم الإدرار والضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عن الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام. وحدث أن اجتمع في مجلس (الصالح) أكابر الناس من الكتاب والقضاة والعلماء فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى فبسط لسانه في ذلك وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق. وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً. والله تعالى يقول: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ { [سورة المائدة: 73] . وأول أمانتهم وعقد دينهم: (بسم الأب والابن وروح القدس إله واحد)

فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له: كيف يدري الحساب من جعل الوا ... حد رب الورى تعالى ثلاثة ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة؟ وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين ولا سيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة؟ وانصرف القوم واتفق أن كبت النصراني بطنته، وظهرت خيانته فأريق دمه وسلط على وجوده عدمه (¬1) . (11) استئمانهم وقد خونهم الله: قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 75] . (12) الرضى بأعمالهم والتشبيه بهم، والتزيي بزيهم (¬2) . (13) البشاشة لهم والطلاقة وانشراح الصدر لهم وإكرامهم وتقريبهم (¬3) (14) معاونتهم على ظلمهم ونصرتهم ويضرب القرآن لذلك مثالين هما: امرأة لوط التي كانت ردءاً لقومها، حيث كانت على طريقتهم، راضية بأفعالهم القبيحة، تدل قومها على ضيوف لوط. وكذلك فعل امرأة نوح (¬4) . ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/242 - 244) بتصرف بسيط. (¬2) مجموعة التوحيد (ص 117) . (¬3) مجموعة التوحيد (ص 117) . (¬4) تفسير ابن كثير: (6/210) وقد سبق الحديث عنهما.

(15) مناصحتهم والثناء عليهم ونشر فضائلهم (¬1) وهذه الصورة ظهرت واضحة في العصور الأخيرة فقد رأينا (أفراخ المستشرقين) - مثلاً - ينشرون فضائلهم وأنهم أصحاب المنهج العلمي السديد و.. و.. الخ. كذلك جاء من ينشر (فضائل) الغرب أو الشرق مضيفاً عليها ألقاب التقدم والحضارة والرقي، واصماً الإسلام والمنتسبين إليه بالرجعية والجمود والتأخر عن مسايرة الركب الحضاري والأمم المتقدمة!! (16) تعظيمهم وإطلاق الألقاب عليهم مثل: السادة والحكماء ومبادأتهم بالسلام (ومما يجب النهي عنه ما يفعله كثير من الجهال في زماننا إذا لقي أحدهم عدواً لله سلم عليه ووضع يده على صدره إشارة إلى أنه يحبه محبة ثابتة في قلبه. أو يشير بيده إلى رأسه إشارة إلى أن منزلته عنده على الرأس وهذا الفعل المحرم يخشى على فاعله أن يكون مرتداً عن الإسلام لأن هذا من أبلغ الموالاة والموادة والتعظيم لأعداء الله) (¬2) . والتعظيم واللقب الرفيع رمز للعزة والتقدير وهما مقصورتان على المؤمن. أما الكافر فله الإهانة والذلة وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن مبادأتهم بالسلام فقال صلى الله عليه وسلم (لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) (¬3) وسيأتي تفصيل هذه القضية في الباب الثاني. (17) السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم (¬4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) (¬5) . وقال (لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا) (¬6) . ¬

(¬1) مجموعة التوحيد (ص117) ورسائل سعد بن عتيق (ص 101) . (¬2) تحفة الإخوان للشيخ حمود التويجري (ص 19) الطبعة الأولى / مؤسسة النور بالرياض. (¬3) صحيح مسلم: (4/1707 ح 2167) كتاب السلام وأبو داود في الأدب (5/384 ح 5205) . (¬4) الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (ص 64) . (¬5) أبو داود (3/224 ح 2787) كتاب الجهاد قال الألباني: حديث حسن، وانظر صحيح الجامع الصغير (6/279 ح 6062) . (¬6) الحاكم في المستدرك (2/141) وقال صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي.

وسوف يأتي بمشيئة الله - في الباب الثاني تفصيل لهذه المسألة إذا كانت هناك ضرورة لهذه المساكنة. (18) التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين وأسرارهم إليهم والقتال في صفهم (¬1) ، وهذه الصورة من أخطر ما ابتليت به أمتنا في هذا العصر. ذلك أن وجود ما يسمى في المصطلح الحديث (الطابور الخامس) قد أفسد أجيال الأمة في كل مجال سواء في التربية والتعليم أم في السياسة وشؤون الحكم أم في الأدب والأخلاق أم في الدين والدنيا معاً. وصدق الشاعر محمود أبو الوفا فيما نقله عنه أستاذنا الفاضل الشيخ محمد قطب أنه قال حين خرج الاستعمار الإنجليزي من مصر: (خرج الإنجليز الحمر وبقي الإنجليز السمر!!) - نعم إن داءنا هم الإنجليز السمر. ترى من هو الساهر على تنفيذ خطة (دنلوب) في التربية والتعليم؟ ومن هو القائم بتنفيذ مخططات اليهود الثلاثة: فرويد وماركس ودور كايم في أفكارهم الخبيثة؟ (¬2) . إنهم المستغربون من أبناء هذه الأمة الذين حققوا لأعداء الله ما لا يحلمون به. ولكن هيهات لهم فإن الله يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ { [سورة الصافات:171 - 173] . (19) من هرب من دار الإسلام إلى دار الحرب بغضاً للمسلمين وحباً للكافرين (¬3) ¬

(¬1) الإيمان. حقيقته. أركانه. نواقضه للدكتور محمد نعيم ياسين (ص 147) . (¬2) يراجع كتاب الأستاذ محمد قطب: التطور والثبات في حياة البشرية فصل: اليهود الثلاثة (ص35) وكتاب هل نحن مسلمون (ص133) وكتاب مذاهب فكرية معاصرة. (¬3) الردة بين الأمس واليوم (ص33) .

ما يقبل من الأعذار وما لا يقبل في هذه الصور

(20) من انخرط في الأحزاب العلمانية أو الإلحادية كالشيوعية والاشتراكية والقومية والماسونية وبذل لها الولاء والحب والنصرة (¬1) . ما يقبل من الأعذار وما لا يقبل في هذه الصور قد يعتذر بعض الموالين للكفار بأنهم يخافون على سلطانهم وأموالهم ومراكزهم وغير ذلك من المخاوف التي لا تصح، ولا يعتبرها الله، عذراً لهم فيعذرهم من أجلها. لأنها من تزيين الشيطان وتسويله، وحب الدنيا والطمع في زينتها. والله سبحانه وتعالى لم يقبل عذراً لأحد في إظهار موالاته للكفار وطاعتهم وموافقتهم على دينهم إلا عذراً واحداً هو: الإكراه: قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {106} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ { [سورة النحل: 106 - 107] . وقال سبحانه: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً { [سورة آل عمران: 28] . ¬

(¬1) المصدر السابق (ص40) .

موقف المسلم تجاه هذه الصور

والإكراه لا ينفع أحداً فيما يتعلق بالرضى القلبي، والميل الباطني إلى الكفار لأنه غير مأذون فيه على أية حال لقوله تعالى (وقلبه مطمئن بالإيمان) ولأن الإكراه لا سلطان له على القلوب. فإنه لا يعلم ما في القلب إلا الله. فمن والى الكفار بقلبه ومال إليهم فهو كافر على كل حال. فإن أظهر موالاته بلسانه أو بفعله عومل في الدنيا بكفره وفي الآخرة يخلد في النار، وإن لم يظهرها بفعل ولا قول وعمل بالإسلام ظاهراً عصم ماله ودمه وهو منافق في الدرك الأسفل من النار (¬1) . موقف المسلم تجاه هذه الصور: الولاء والبراء هو الصورة الفعلية للتطبيق الواقعي لهذه العقيدة وهو مفهوم ضخم في حس المسلم بمقدار ضخامة وعظمة هذه العقيدة. والله سبحانه وتعالى يقول: {قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ { [سورة البقرة: 256] . والله جل جلاله أراد للمسلم - بل للإنسان - الكرامة في هذه الأرض {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ { [سورة الإسراء: 70] . فحين يكون ولاء المسلم لله ولدينه وحزبه المؤمنين فهو بهذا يقدر هذا التكريم ¬

(¬1) انظر الإيمان للدكتور محمد نعيم ياسين (ص 147 - 148) .

حق قدره، ويعبد الله حق عبادته، لأنه تخلى بل وعادى كل عبودية تريد إخضاعه لسلطانها من دون الله. أما حين ينتكس فيعبد غير الله – سواء بالشعائر أم بالشرائع أم بالطاعة والانقياد – فإنه بهذا يهبط من تلك المكانة والكرامة إلى عبودية أهواء شتى، وآراء ومذاهب تمزق عليه حياته وتضيع عليه آخرته، فيعيش شقياً – وإن زعم أنه سعيداً – ذلك أن مقياس السعادة والشقاوة، في التصور الإسلامي نابع من عبادة الله وحده وتحكيم شرعه والخلوص له، أو عكس ذلك: عبادة الطاغوت والهوى والشهوة وتلك هي دركات الشقاء التي يعيش فيها كل من أعرض عن هدى الله ودينه. وموالاة غير المؤمنين – فضلاً عن أنها ردة وعصيان لله سبحانه – هي مصدر التذبذب والفصام النكد في حياة فاعلها، لأنه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وفي هذا العصر الذي اختلطت فيه المفاهيم، واضطربت فيه الآراء، وخلط الحق بالباطل بل أقصي الحق ورفعت شارة الباطل: أين يقف المسلم؟ أين يكون ولاؤه ولمن يكون وهو يرى الكفر الصريح معلناً ومنفذاً في حياة الناس ثم يوضع لذلك (لافتة بسيطة) إن هذا لا يتعارض مع الإسلام؟ ومثال ذلك من يدين بالاشتراكية أو الديمقراطية أو العلمانية أو القومية أو الشيوعية ثم يقال: هذا لا يعارض الإسلام لأنه علاقة بين العبد وربه. لمن يكون ولاء المسلم وهو يرى شرع الله مبعداً من الأرض ومحارباً، ثم يستورد القانون البشري ليكون هو دستور الناس في حياتهم ومنهج مسيرتهم ويقال، إن هذا لا يعارض الإسلام لأن التشريع الإسلامي – سواء قيلت بلسان الحال أو المقال، - لم يعد مسايراً لركب الحضارة والتطور؟! لمن يكون ولاء المسلم وهو يرى المنافقين يتمسحون باسم الإسلام وهم في الحقيقة أخطر على الدين من أعدائه الصرحاء؟ هذه أسئلة وأسئلة غيرها كثيرة.. والإجابة عليها تكمن في الحقيقة التالية: إنه لا يمكن للمسلم أن يكون ولاؤه لله ولدينه وللمؤمنين خالصاً إلا إذا كان مدركاً

لحقيقة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) متمثلاً لها، مدركاً مدلولها ومعناها عارفاً بمقتضياتها ولوازمها. ثم علمه بالجاهلية والشرك والكفر والردة والنفاق حتى لا يكون مصيدة للوقوع في هذا الشر. لأنه لا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية. ثم علمه بحقيقة الولاء والبراء في المفهوم الإسلامي الصحيح وهو: أن الولاء والحب والنصرة للمؤمنين من أي جنس كانوا وبأي لغة نطقوا وفي أي مكان حلوا، لأنه لا يؤمن بما تؤمن به الجاهليات من لوثة الدم ونتن العرق وخسة التراب. فهو مع إخوانه المؤمنين بقلبه ولسانه وماله ودمه، يألم لألمهم ويفرح لفرحهم وبغضه وبراءه لجميع أعداء الله سواء كانوا كفاراً أصليين أم مرتدين أم منافقين وموقفه منهم: الجهاد بالنفس والمال والقلم واللسان وكل ما أوتي من طاقة وعلى حسب جهده وطاقته. إن هذه الحقيقة هي التي – إذا أدركها المسلم وعمل بها يستطيع بها أن يحدد موقعه من كل صورة من الصور السابقة وغيرها، فيعرف من يوالي ومن يعادي، وماذا يريد الإسلام منه وماذا يريد للإسلام من أعدائه. وهو بهذا يكون مسلماً واعيًاً بعزة الله غير واهن ولا حزين لأن الله معه وهو القائل: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬1) [سورة آل عمران: 139] . ومن كان الله معه فلن تضيره أن تجتمع البشرية بكاملها لأن تضره فهي بمجموعها لا تستطيع ذلك إلا إذا كان الله يريد له ذلك وإلا فهي أعجز من أن تنال منه شيئاً بسيطاً بغير قدر الله وإرادته. ¬

(¬1) حبذا مراجعة كتاب (هل نحن مسلمون) (ص47) .

الفصل الثامن

الفصل الثامن الرد على الخوارج والرافضة في عقيدة الولاء والبراء قد يقول بعض من لا يدرك حقيقة العقيدة، ولا يعي مفاهيم (لا إله إلا الله) : أن مصطلح الولاء والبراء من مصطلحات الخوارج والشيعة فكيف يدرج في معتقد السلف الذين هم أهل السنة والجماعة؟ والجواب على هذا الاعتراض: من عدة وجوه: (1) نحن مطالبون بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهما عقيدتنا وشريعتنا ونظام حياتنا، وأحسب أني قد ذكرت عدداً كبيراً جداً من عشرات الآيات في الولاء والبراء وعشرات الأحاديث النبوية الصحيحة في هذه القضية. (2) من منطلق سلفنا الصالح نقول: لسنا مستعدين للتنازل عن أي أمر من أمور ديننا الصغيرة - فضلاً عن أمور العقيدة الكبرى لأجل أن ناعقاً أخذ بعض مصطلحاتنا وبنى عليها مفاهيمه البدعية المنكرة. (3) هل يستطيع مسلم يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله أن يقول إن إبراهيم عليه السلام - وهو القدوة الأولى في الولاء والبراء - كما ذكرنا - استخدم مصطلحات الخوارج والرافضة الذين جاءوا بعده بآلاف السنين؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. (4) إن قضية الولاء والبراء كمبدأ عقدي: مبدأ صحيح لا غبار عليه ورد به كتاب الله وسنة نبي الله ولكن الخطأ كل الخطأ والبدعة كل البدعة هو ما بنى

عليه هؤلاء السفهاء – من خوارج – ورافضة – من مفاهيم سقيمة خرجوا بها عن النصوص الصريحة وإجماع الأمة المحمدية. وصدق القائل. وما ضر الورود وما حوته ... إذا المزكوم لم يطعم شذاها معتقد الخوارج في هذه القضية أما الخوارج فهم الذين قال فيهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (هم الذين مرقوا من الدين. وفارقوا الملة، وشردوا عن الإسلام، وشذوا عن الجماعة فضلوا السبيل والهدى، وخرجوا على السلطان، وسلوا السيف على الأمة، واستحلوا دماءهم وأموالهم وعادوا من خالفهم إلا من قال بقولهم. وكان على مثل قولهم ورأيهم، وثبت معهم في بيت ضلالتهم، وهم يشتمون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأصهاره وأختانه، ويتبرأون منهم، ويرمونهم بالكفر والعظائم، ويرون خلافهم في شرائع الإسلام.. يقولون من كذب كذبة، أو أتى صغيرة أو كبيرة من الذنوب فمات من غير توبة: فهو في النار خالداً مخلداً أبداً.. وهم قدرية جهمية مرجئة رافضة، لا يرون الجماعة إلا خلف إمامهم.. ولا يرون للسلطان عليهم طاعة، ولا لقريش عليهم خلافة. وأشياء كثيرة يخالفون عليها الإسلام وأهله. وكفى بقوم ضلالة: أن يكون هذا رأيهم ومذهبهم ودينهم وليسوا من الإسلام في شيء. ومن أسمائهم الحرورية وهم أصحاب حروراء (¬1) وأزراقة: وهم أصحاب نافع بن الأزرق.. والنجدية: وهم أصحاب نجدة بن عامر الحروري.. والاباضية.. والصفرية وغيرهم.. كل هؤلاء خوارج، فساق مخالفون للسنة، خارجون من الملة، أهل بدعة وضلالة) (¬2) . وفرقة الخوارج قد انحرفت في مفهوم الولاء والبراء فهي لا تتولى من يدين بنحلتها القائمة على تكفير مرتكب الذنوب وخاصة الكبائر. وموقفهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يتولون أبا بكر وعمر ويتبرأون من عثمان وعلي (¬3) . ¬

(¬1) قرية بالكوفة كانت بها وقعة على الخوارج بقيادة نجدة بن عامر. وانظر هامش السنة للإمام أحمد (ص84) وكتب الفرق. (¬2) كتال السنة للإمام أحمد (ص83 – 85) تصحيح إسماعيل الأنصاري (بتصرف بسيط) . (¬3) التنبيه والرد للملطي (ص53) .

وخلاصة القول في الرد عليهم: أن أهل السنة والجماعة يتبرأون منهم بسبب بدعتهم الضالة. ولا يتولونهم في شيء. أما الولاء والبراء بمفهومه الصحيح فهو ما عليه أهل السنة والجماعة، ولا يضيرهم أن الخوارج قالوا بقضية الولاء والبراء. لأن العبرة ليست في العناوين والشعارات بل في المفاهيم والتصورات التي توافق الكتاب والسنة أو تناقضها ومن هنا فإن ولاء الخوارج وبراءهم الذي يعتقدونه: إنما هو بحسب أهوائهم وليس متفقاً مع نصوص الكتاب والسنة. معتقد الرافضة في الولاء والبراء وأما الرافضة: فهم الذين يتبرأون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويسبونهم وينتقصونهم، ويكفرون الأئمة إلا أربعة: علي، وعمار، والمقداد، وسلمان (¬1) . وقال الأشعري: إنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر (¬2) . ولئن كان الخوارج قد انحرفوا في الأمور التي ذكرناها آنفاً عنهم: فإن الرافضة أيضاً لا يقلون جرماً عنهم حيث وقفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً مشيناً، ولعبت بهم الأيدي اليهودية الممثلة في شخصية عبد الله بن سبأ التي أخذت تنصب خيالات من الحب الكاذب لآل البيت وتتبرأ من بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعاديهم مع آل البيت براء مما ألصقه بهم هؤلاء الرافضة. قال ابن كثير: (إن الطائفة المخذولة – الرافضة – يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبون من رضي الله ¬

(¬1) السنة للإمام أحمد: (ص82) . وفي قوله: يكفرون الأئمة الأربعة نظر فلعل الصواب: ويتولون. (¬2) مقالات الإسلاميين (1/89) .

عنهم (¬1) ؟ أما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله. وهم متبعون لا مبتدعون) (¬2) . والرافضة تقول: لا ولاء إلا البراء أي لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر. رضي الله عنهما! (¬3) . ترى أي ثقة أو أمانة أو دين تبقى في أناس يطعنون في أفضل شخصيتين إسلاميتين في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن لا غرابة في ذلك من زمرة فضائحها في الكتب مسطورة فقد كانت الرافضة على طول تاريخها حرباً على أهل الإسلام، يوالون أعداء المسلمين من تتار وصليبيين وغيرهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الرافضة توالي من حارب أهل السنة والجماعة، فهم يوالون التتار ويوالون النصارى. وقد كان بالساحل بين الرافضة وبين الفرنج مهادنة، حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم، وغلمان السلطان، وغيرهم من الجند والصبيان. إذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتم والحزن، وإذا انتصر التتار على المسلمين أقاموا الفرح والسرور. وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة، وقتل أهل بغداد. ووزير بغداد ابن العلقمي الرافضي هو الذي خامر على المسلمين وكاتب التتار، حتى أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة، ونهى الناس عن قتالهم. (وقد عرف العارفون بالإسلام: أن الرافضة تميل مع أعداء الدين، ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهودياً، ومرة نصرانياً أرمينياً، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني، وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) [سورة التوبة: 100] . (¬2) التفسير (4/142) . (¬3) شرح الطحاوية (ص 532) .

أولئك الرافضة المنافقين وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينار وإردب. وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين) (¬1) . ومن أحفادهم في الوقت الحاضر النصيرية الكافرة التي ابتلى بها المسلمون، وذلك أن كفرها أشد من كفر اليهود والنصارى كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. وهم الذين كانوا أداة طيعة للاستعمار الفرنسي في غزوه لبلاد الشام. ويشنون اليوم حرباً شرسة على المسلمين في ديارهم وبعد: فإن أهل السنة والجماعة هم الذين يحبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفرطون في حب أحد منهم، ويتولونهم جميعاً ولا يتبرأون من أحد منهم، ويبغضون من يبغضهم ويرون أن حبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان (¬2) . وهم براء من الخوارج والرافضة ومن كل الفرق الضالة. ¬

(¬1) الفتاوى (ج 28/636 - 637) . (¬2) انظر الطحاوية مع شرحها (ص 528) وقد اطلعت - بعد كتابة هذا الكتاب - على كتاب قيم يكشف أستار الشيعة ويفضحهم في عصرنا الحاضر وخصوصاً زعيمهم (الخميني) ذلك الكتاب هو (وجاء دور المجوس) لمؤلفه الدكتور عبد الله محمد الغريب وهو كتاب قيم في موضوعه فليراجعه من شاء ليستبين زيف باطلهم وخططهم ضد أهل السنة والجماعة؟ .

الباب الثاني من مقتضيات الولاء والبراء

الباب الثاني

من مقتضيات الولاء والبراء سبق القول في أول البحث: أن الولاء أصله الحب، والبراء أصله: البغض، وينشأ عنهما من أعمال الجوارح ما يؤيد صدق ذلك الحب أو يكذبه وما يؤكد ذلك البراء أو ما يبطل زعمه. والحب عنصر أصيل في التصور الإسلامي دليل ذلك قول المولى جل وعلا: {إن الذين ءامنوا وعملوا الصلحت سيجعل لهم الرحمن وداً} [سورة مريم: 69] . وقوله: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ { [ٍسورة هود: 90] . وقوله {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ { [سورة البروج: 14] . وقوله: {الَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ { [سورة البقرة: 165] .

وقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ { [سورة آل عمران: 31] . ذلك أن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية. وحقيقة العبودية لا تجفف ذلك النداء الحبيب بين الله وعباده، فهي علاقة الرحمة والعدل والود وليست كما يدعي أعداء الله: أن العلاقة بين العبد وربه علاقة جافة وعنيفة، علاقة قهر وقسر، وعذاب وعقاب، وجفوة وانقطاع! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا { [سورة الكهف: 5] . وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من عرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه وكما وصفه رسوله، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره. حب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً هائلاً عظيماً، وفضلاً غامراً جزيلاً، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه، وتعريفه هذا المذاق هائل عظيم (¬1) . ومن نعمة الله على عباده المؤمنين أن جعل المحبة فيه هي الوشيجة العظمى بينهم، وهي المورد العذب الذي ينهلون منه جميعاً، ثم جعل سبحانه وجود المحبة للقوم ولما يلحق بهم المحب سبيلاً للحاق بهم يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (المرء مع من أحب) (¬2) . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله ¬

(¬1) بتصرف. الظلال (2/918 - 191) . (¬2) صحيح البخاري كتاب الأدب باب علامة الحب في الله (10/577 ح 6168) .

صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المرء مع من أحب) (¬1) . وعن أنس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ قال ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله قال (أنت مع من أحببت) (¬2) . على أنه من الواجب ذكره هنا: أن هذا الحب ليس مجرد أماني أو أحلام تناقضها الأفعال القبيحة. أو (هرطقة) رقعاء الصوفية أو.. أو.. الخ وإنما هو حب بالقلب وعمل بالجوارح قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا { [سورة النساء:123] . وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { [سورة آل عمران: 31] . قال الحسن: لا تغتر بقولك: المرء مع من أحب إن من أحب قوماً اتبع آثارهم، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتمسي وتصبح وأنت على منهاجهم، حريصاً أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم وتأخذ طريقهم وإن كنت مقصراً في العمل فإن ملاك الأمر أن تكون على ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب الأدب باب علامة الحب في الله (10/557 ح 6169) وصحيح مسلم (4/2034 ح 2640) كتاب البر. (¬2) صحيح البخاري كتاب الأدب باب علامة الحب في الله (10/557 ح 6171) وصحيح مسلم (4/2032 ح 2639) كتاب البر.

استقامة، أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في القول والعمل، وسلكوا غير طريقتهم فصار موردهم النار؟ (¬1) والمحبة تنقسم إلى أربعة أقسام: (¬2) (1) محبة شركية: وأصحابها هم الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ {165} إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ {166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ { [سورة البقرة: 165- 167] . (2) حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله وهذه صفة المنافقين. (3) محبة طبيعية: وهي محبة المال والولد إذا لم تشغل عن طاعة الله ولا تعين على محارم الله فهي مباحة. (4) حب أهل التوحيد وبغض أهل الشرك: وهي أوثق عرى الإيمان، أعظم ما يعبد به العبد ربه. ¬

(¬1) الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي: بعثت بالسيف بين يدي الساعة لابن رجب (ص133) تحقيق محمد حامد الفقي. (¬2) ذكر ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب: مجموعة التوحيد (ص17) طبعة دار الفكر.

وما دامت المحبة في الله هي أوثق عرى الإيمان كما ورد في الحديث أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (¬1) فإن الطريق الموصل إليها وإلى موالاة الله عز وجل هو: اتباع شرعه الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبغير هذا الطريق تكون دعوى الولاية كاذبة كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه كما قال الله عنهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى { [سورة الزمر: 3] . وكما حكى عن اليهود والنصارى أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ { [سورة المائدة: 18] . مع إصرارهم على تكذيب رسله وارتكاب مناهيه وترك فرائضه (¬2) . ومتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه، ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه وإرادته إلا لما يريده منه مولاه، فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير الله، ولا كراهة لغير ما يكره الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله وخشيته (¬3) . ويصور شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عظمة محبة الله ولذتها فيقول: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) . وقال بعضهم: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 316) . (¬3) انظر جامع العلوم والحكم (ص320) .

قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه (¬1) . أما البغض في الله فهو أمر ملازم للحب في الله لا ينفصل عنه، لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يوالي محبوبه، ويعادي من يعادي محبوبه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه فهو موافق له في ذلك. ومعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ { [سورة الصف: 4] . وقد وصف المولى سبحانه وتعالى عباده الذين يحبهم ويحبونهم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ { [سورة المائدة: 54] . أي إنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم، والغلظة. فهم يحبون من أحبه الله فيعاملونه بالمحبة والرأفة واللين، ويبغضون أعداء الله الذين يعادونه فيعاملونهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ { [سورة الفتح: 29] . ¬

(¬1) مدارج الساكين (1/454) .

{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { (¬1) [سورة المائدة: 54] . وأعداء الله لهم البغض ولهم من المؤمنين الجهاد {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ { [سورة التوبة: 14] . ومن هنا فإن من مقتضيات الولاء والبراء: حق المسلم على المسلم. فما هو ذلك الحق؟ ¬

(¬1) انظر جامع العلوم والحكم (ص317) .

الفصل الأول

الفصل الأول حق المسلم على المسلم قلنا: أن المحبة في الله هي الوشيجة العظمى التي التقى عليها المؤمنون، ويلتقون عليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وعلى هذه الوشيجة تنبني حقوق المسلم على المسلم، وهي كثيرة جداً: النصرة، والمودة والزيارة، والإكرام، والسلام، وحماية العرض، والمواساة وغير ذلك مما هو منصوص عليه في الكتاب والسنة. ولكن الحقوق التي أتحدث عنها هي ما يتعلق بموضوع البحث. ومن هذه الحقوق: (1) المودة: وهذه للمؤمنين من بعضهم لبعض، فليس للكافر ولا للفاسق ولا للمبتدع فيها نصيب، ومن هذه المودة حب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه كما قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه (¬1) . (2) النصرة: وهذه واجب أخوي إيماني على كل مسلم لأخيه المسلم من أي جنس كان وفي أي أرض حل، وبأي لون كان، ينصره بنفسه وبماله وبالذب عن عرضه ولذلك ورد التهديد لمن يترك ذلك وهو قادر عليه. قال صلى الله عليه وسلم (ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته وما من امرئ ينصر مسلماً في ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/57 ح 13) كتاب الإيمان وصحيح مسلم (1/67 ح 45) كتاب الإيمان.

موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته) (¬1) . وقد امتدح سبحانه وتعالى الأنصار رضوان الله عليهم في نصرتهم لإخوانهم المهاجرين فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا { [سورة الأنفال: 74] . ومن الأوامر النبوية في شأن النصرة قوله صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً ومظلوماً) (¬2) . ونصرته إذا كان مظلوماً ظاهرة أما نصرته إذا كان ظالماً فبردعه عن الظلم ومنعه. وقال صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه (¬3) . والمسلم داخل المجتمع الإسلامي ما هو إلا عضو عامل كأي عضو من أعضاء الجسد فإذا حصل لهذا مرض أو اختل عمله تأثر لذلك بقية الجسد، ويصور ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله الكريم. (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) (¬4) . وقوله (ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (¬5) وقال أيضاً: (المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه) (¬6) . ¬

(¬1) أبو داود في (5/197 ح 4884) كتاب الأدب والمسند (4/30) قال الألباني: حديث حسن، انظر صحيح الجامع الصغير (5/160 ح 5566) . (¬2) صحيح البخاري: (5/98 ح 2443) كتاب المظالم. (¬3) صحيح البخاري (ج 5/97 ح 2442) كتاب المظالم ومسلم (4/1996 ح 2580) كتاب البر والصلة. (¬4) سبق تخريجه 187. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) الأدب المفرد للبخاري (ص70) وأبي داود في (5/217 ح 4918) كتاب الأدب والحديث حسن انظر صحيح الجامع الصغير (6/6 ح 6532) .

ولو أردنا تتبع كل النصوص في هذا الشأن لطال الحديث أكثر من هذا وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخير القرون بعده والذين سلكوا سبيله واهتدوا بهديه على مدار التاريخ الإسلامي: تؤكد هذه الحقيقة الهامة. ولقد كان التحام المسلمين ونصرة كل منهم لأخيه مثالاً فريداً في تاريخ التلاحم والتواصل والتناصر سواء على مستوى الأمة أم الأفراد. حيث حققوا الموالاة والمعاداة على أوضح صورهما. ولن ينتصر المسلمون إلا إذا تحقق فيهم - بعد صفاء العقيدة ووضوحها - حب المسلم لأخيه كحبه لنفسه، وشعوره بآلام أخيه كشعوره بما يصيبه هو، وحب نصرته كما يحب أن ينصره هو، والله ينصر من ينصره إن الله لقوي عزيز. وتتحقق النصرة بعدة أمور منها: الدفاع بالنفس عن الأخ المسلم وكسر شوكة الظالمين وبذل المال له لإعزازه وتقوية جانبه، والذب عن عرضه وسمعته والرد على أهل الباطل الذين يريدون خدش كرامة المسلمين. والدعاء للمسلم بظاهر الغيب بالنصر والتوثيق وتسديد الخطى وتتبع أخبار المسلمين في أنحاء المعمورة والوقوف على أحوالهم ودعمهم بقدر الاستطاعة. وكل هذه الأمور تحقق للإنسان ولاءه لإخوانه المسلمين وتجعله عضواً عاملاً صالحاً في جسم الكيان الإسلامي.

الفصل الثاني

الفصل الثاني الهجرة هذا الفصل له أهمية خاصة، ذلك أن الهجرة مرتبطة بالولاء والبراء، بل هي من أهم تكاليفها. والحديث فيها متشعب لذلك سأقسمه إلى الفقرات التالية: أ- الإقامة في دار الكفر وحكم ذلك. ب- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. أ- الإقامة في دار الكفر: لا بد لنا أولاً أن نعرف دار الكفر ودار الإسلام. فقد قال أهل العلم رحمهم الله: إن دار الكفر: هي التي يحكمها الكفار، وتجري فيها أحكام الكفر، ويكون النفوذ فيها للكفار وهي على نوعين: 1) بلاد كفار حربيين. 2) بلاد كفار مهادنين بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة. فتصير إذا كانت الأحكام للكفار: دار كفر، ولو كان بها كثير من المسلمين (¬1) . ودار الإسلام: هي التي يحكمها المسلمون، وتجري فيها الأحكام الإسلامية ويكون النفوذ فيها للمسلمين ولو كان جمهور أهلها كفاراً (¬2) . ¬

(¬1) الفتاوى السعدية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي (1/92) الطبعة الأولى سنة 1388 هـ دار الحياة بدمشق. (¬2) المصدر السابق: (1/92) .

ولما كان الإسلام هو دين العزة ودين القوة: فإنه قد أبى على معتنقه أن يستذلوا للكفار، وبذلك جاء المنع من الإقامة بين ظهراني غير المسلمين، لأن إقامته بينهم تشعره بالوحدة والضعف وتربي فيه روح الاستخذاء والاستكانة، وقد تدعوه إلى المحاسنة ثم المتابعة. والإسلام يريد للمسلم أن يمتلئ قوة وعزة وأن يكون متبوعاً لا تابعاً، وأن يكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله لذلك حرم الإسلام على المسلم أن يقيم في بلد لا سلطان للإسلام فيه إلا إذا استطاع أن يظهر إسلامه ويعمل طبقاً لعقيدته دون أن يخشى الفتنة على نفسه، وإلا فعليه أن يهجر هذا البلد إلى بلد يعلو فيه سلطان الإسلام فإن لم يفعل فالإسلام بريء منه ما دام قادراً على الهجرة. وفي ذلك كله يقول المولى سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98} فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا { [سورة النساء: 97 - 99] . وقال صلى الله عليه وسلم (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: (لا تراءى ناراهما) (¬1) وقال (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) (¬2) ويقول (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) (¬3) (¬4) ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) المسند (4/99) أبي داود (3/7 ح 2479) كتاب الجهاد والدارمي (2/239) كتاب السير وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (6/186 ح 7346) . (¬4) المصدر السابق

وقال الحسن بن صالح: (من أقام في أرض العدو - وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم، ويحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه) (¬1) . وقال الحسن: إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام (¬2) . وقال ابن حزم: من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين: فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها: من وجوب القتل عليه متى قدر عليه، ومن إباحة ماله وانفساخ نكاحه وغير ذلك. (وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعان عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه، لأنه مضطر مكره. أما من كان محارباً للمسلمين معيناً للكفار لخدمة أو كتابة فهو كافر. وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم فما يبعد عن الكفر، وما نرى له عذراً، ونسأل الله العافية. وأما من سكن في أرض القرامطة مختاراً فكافر بلا شك لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام. وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر فهو ليس بكافر لأن اسم الإسلام هو الظاهر هنالك على كل حال من التوحيد والإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والبراءة من كل دين غير الإسلام وإقامة الصلاة وصيام رمضان وسائر الشرائع التي هي الإسلام والإيمان. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين) ¬

(¬1) انظر: الإسلام وأوضاعنا القانونية للأستاذ عبد القادر عودة (ص81) . (26) " أحكام القرآن " للجصاص (ج 3/216) . (¬2) * كذا بالأصل والذي يظهر لي أن الصواب: مجاهراً لأن الكافر لا يسمى مجاهداً.

المقيمون بدار الحرب ثلاثة أصناف

يبين ما قلناه، وأنه عليه السلام، إنما عنى بذلك دار الحرب، وإلا فقد استعمل عليه السلام عماله على خيبر وهم كلهم يهود. (ولو أن كافراً مجاهداً (*) غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم إلا إنه هو المالك، المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام: لكفر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام معه وإن ادعى أنه مسلم - لما ذكرنا) (¬1) . وللشيخ حمد بن عتيق (¬2) رحمه الله رسالة قيمة حول هذا الموضوع (¬3) فقد قسم المقيمين في بلاد الحرب إلى ثلاثة أقسام. أحدهما: أن يقيم عندهم رغبة واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، أو يعاونهم على المسلمين بنفسه أو ماله أو لسانه: فهذا كافر عدو لله ولرسوله لقوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ { [سورة آل عمران: 28] ¬

(¬1) " أحكام القرآن " للجصاص (ج 3/216) . (¬2) هو الشيخ المحقق حمد بن علي بن محمد بن عتيق ولد سنة 1227 هـ بالزلفى وحفظ القرآن، وكانت له همة وعلو نفس سمت به إلى معالي الأمور: تتلمذ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ صاحب كتاب فتح المجيد ولازمه. ولازم أيضاً غيره من العلماء. وجد واجتهد حتى صار من كبار العلماء. عين قاضياً في الخرج ثم الأفلاج ومن مؤلفاته إبطال التنديد شرح كتاب التوحيد. والنجاة والفكاك والدفاع عن أهل السنة والاتباع. والفرق المبين بين السلف وابن سبعين. وغير ذلك وتوفي سنة 1301 هـ عن عمر يناهز السبعين ورثاه تلميذه سليمان بن سحمان بقصيدة منها: يعز علينا أن نرى اليوم مثله لحل عويص المشكلات البوادر انظر ترجمته في كتاب علماء نجد خلال ستة قرون للبسام (1/229) . (¬3) اسمها: الدفاع عن أهل السنة والاتباع: نشرها حفيده إسماعيل بن سعد بن عتيق بدون تاريخ.

قال ابن جرير: قد برئ من الله وبرئ الله منه لارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ { [سورة المائدة: 51] . وقال صلى الله عليه وسلم (من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله) (¬1) وصح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: من بنى بأرض المشركين فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة (¬2) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وظاهر هذا أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور. وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لما ذكر الأنواع التي يكفر بها الرجل: قال النوع الرابع: من سلم من هذا كله ولكن أهل بلده يصرون على عداوة التوحيد واتباع أهل الشرك وهو يعتذر أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه فهذا أيضاً كافر، فإنه لو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ترك ذلك إلا بمخالفتهم فعل. وموافقته لهم مع الجهاد معهم بنفسه وماله مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله أكبر من ذلك بكثير فهذا أيضاً كافر وهو ممن قال الله فيهم: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ ¬

(¬1) الدفاع لابن عتيق (10-12) والحديث سبق تخريجه. (¬2) قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (ص200) إسناده صحيح.

أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا { (¬1) [سورة النساء:91] . القسم الثاني: أن يقيم عندهم لأجل مال أو ولد أو بلاد وهو لا يظهر دينه مع قدرته على الهجرة، ولا يعينهم على المسلمين بنفس ولا مال ولا لسان، ولا يواليهم بقلبه ولا لسانه، فهذا لا يكفرونه لأجل مجرد الجلوس، ولكن يقولون أنه قد عصى الله ورسوله بترك الهجرة، وإن كان مع ذلك يبغضهم في الباطن لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا { [سورة النساء: 97] . قال ابن كثير: (ظالمي أنفسهم) أي بترك الهجرة، ثم قال: فهذه الآية عامة لكل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر، وليس متمكناً من إقامة الدين فهو مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية (¬2) . قلت: وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ¬

(¬1) الدفاع (10 - 12) . (¬2) انظر تفسير ابن كثير (2/343) . والدفاع لابن عتيق: 13.

السهم فيرمى به فيصيب فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله هذه الآية (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) (¬1) . وقد سد الله باب الأعذار الواهية في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ { [سورة التوبة: 24] . وما من أحد يترك الهجرة إلا وهو يعتذر بشيء من هذه الثمانية وقد سد الله على الناس باب الاعتذار بها وجعل من ترك الهجرة لأجلها أو لأجل واحد منها فاسقاً وإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض وقد أوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً فكيف بغيرها من البلدان؟ (¬2) . القسم الثالث: من لا حرج عليه في الإقامة بين أظهرهم وهو نوعان: (ا) أن يكون مظهراً دينة فيتبرأ منهم وما هم عليه، ويصرح لهم ببراءته منهم وأنهم ليسوا على حق، بل إنهم على باطل وهذا هو إظهار الدين الذي لا تجب معه الهجرة كما قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {إلى آخر السورة. ¬

(¬1) صحيح البخاري (8/262 ح 4596) كتاب التفسير. (¬2) الدفاع لابن عتيق (ص13 - 14) وانظر: بيان النجاة والفكاك له أيضاً من (70 - 72) .

المراد بإظهار الدين

فأمره أن يخاطبهم بأنهم كافرون، وأنه لا يعبد معبوداتهم، وأنهم بريئون من عبادة الله أي أنهم على الشرك وليسوا على التوحيد، وأنه قد رضي بدينه الذي هو عليه وبرئ من دينهم الذي هم عليه كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {104} وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [سورة يونس: 104 - 105] فمن قال مثل ذلك للمشركين لم تجب عليه الهجرة. وليس المراد بإظهار الدين: أن يترك الإنسان يصلي ولا يقال له اعبد الأوثان! فإن اليهود والنصارى لا ينهون من صلى في بلدانهم ولا يكرهون الناس على أن يعبدون الأوثان؟! بل المقصود: أن إظهار الدين هو: التصريح للكفار بالعداوة كما احتج خالد بن الوليد على مجاعة (¬1) بأنه سكت ولم يظهر البراءة كما أظهرها ثمامة (¬2) واليشكري. والقصة معروفة في السير، فما لم يحصل التصريح للمشركين بالبراءة منهم ومن دينهم لم يكن إظهار الدين حاصلاً (¬3) . ¬

(¬1) هو مجاعة بن مروان بن سلمي الحنفي اليمامي. وكان من رؤساء بني حنيفة وكان ممن أسر يوم اليمامة. وكان بليغاً حكيماً. ومن حكمه قال لأبي بكر الصديق: إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يقاتل به، والمال عند من لا ينفقه ضاعت الأمور الإصابة (3/362) . (¬2) هو ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة الحنفي أبو أمامة اليمامي، حديثه في البخاري حين أسر ثم أسلم قال ابن اسحاق إن ثمامة ثبت على إسلامه لما ارتد أهل اليمامة وارتحل هو ومن أطاعة من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين الإصابة (1/203) . (¬3) الدفاع (ص 16) والقصة المذكورة هنا أوردها المؤلف في كتابه (النجاة والفكاك) حيث قال: لما سار خالد إلى اليمامة لقتال المرتدين بعث قبله مائتي فارس، وقال من أصبتم من الناس فخذوه فأخذوا (مجاعة) في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه فلما وصلوا إلى خالد فقال له: يا خالد: لقد علمت أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فبايعته على الإسلام وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يك كاذباً قد خرج فينا فإن الله يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فقال خالد: يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه أمس وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك، عنه وأنت أعز أهل اليمامة وقد بلغك مسيري - إقرار له ورضاء بما جاء به فهلا أبديت عذراً وتكلمت فيمن تكلم؟ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر، وتكلم اليشكري: فإن قلت: أخاف قومي. فهلا عمدت إلي أو بعثت إلي رسولاً؟ فقال: إن رأيت يا بن المغيرة أن تعفو عن هذا كله؟ فقال خالد: قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك. بيان النجاة والفكاك (ص 68- 70) .

(2) أن يقيم عندهم مستضعفاً وقد بين الله الاستضعاف في كتابه فقال: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً { [سورة النساء: 98] . وهذا الاستثناء بعد ما توعد المقيمين بين أظهر المشركين بأن {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا { [سورة النساء: 97] . فاستثنى من لا يستطيع حيلة ولا يهتدون سبيلاً. قال ابن كثير: لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق (¬1) . وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا ¬

(¬1) ابن كثير (2/343) .

مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً { [سورة النساء: 75] . فذكر في الآية الأولى: حالهم وهو العجز عن الخروج وعدم دلالة الطريق. وذكر في الآية الثانية: مقالهم وهو أنهم يسألون الله أن يخرجهم من بلاد الشرك الظالم أهلها وأن يجعل لهم ولياً يتولاهم وناصراً ينصرهم، فمن كانت تلك حاله وهذا مقاله {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا { (¬1) [سورة النساء: 99] . وقد ذكر البغوي: أن الأسير المسلم عند الكفار إذا استطاع الخلاص والانفلات منهم لم يحل له المقام بينهم، فإن حلفوه أنهم إن خلوه لا يخرج فحلف فخلوه، وجب عليه الخروج ويمينه يمين مكره لا كفارة عليه فيها، وإن حلف استطابة لنفوسهم من غير أن يحلفوه فعليه الخروج إلى دار الإسلام ويلزمه كفارة اليمين (¬2) . أما حكم السفر إلى بلاد الكفار الحربية لأجل التجارة ففي ذلك تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه ولا يوالي المشركين جاز له ذلك فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر رضي الله عنه وغيره إلى بلدان المشركين لأجل التجارة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد في مسنده (¬3) وغيره. ¬

(¬1) الدفاع (ص16) وما ذكره الشيخ حمد هنا موافق تماماً لإجابة الشيخين حسين وعبد الله ابني محمد بن عبد الوهاب حين سئلا في هذا الموضوع انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (1/39) الطبعة الأولى سنة 1346 هـ مطبعة المنار بمصر. (¬2) شرح السنة للبغوي: (10/246) . (¬3) هكذا في النص الذي في الجامع الفريد ولكنني بحثت عنه في المسند فلم أجده.

ب- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام

وإن كان لا يقدر على إظهار دينه ولا على عدم موالاتهم لم يجز له السفر إلى ديارهم كما نص على ذلك العلماء وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك. ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز (¬1) . وبعد هذه النصوص الكثيرة الصريحة علينا أن ندرك مدى الهوة التي وصل إليها (المسلمون) اليوم، ومدى موالاتهم لأعداء الله والإقامة بأرضهم وابتعاث أبنائهم إلى ديارهم لتحضير الشهادات العليا في الشريعة واللغة العربية! إنها مهزلة مبكية ووصمة عار سيسجلها التاريخ: أن يذهب أبناء المسلمين لأخذ الشهادات في العلوم الشرعية واللغة العربية من بلاد الكفار! وقد كتب علماء أفاضل في خطورة هذه المسألة، وبينوا مخاطر الابتعاث، وأهداف الكفار من غسل أدمغة أبناء المسلمين ومسخهم من إسلامهم، فلتراجع في مظانها (¬2) . ب- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام أصل المهاجرة: المجافاة والترك. وفي الاصطلاح الشرعي: الانتقال من بلد الكفر والشرك إلى دار الإسلام (¬3) . ومن المعلوم: أن من كان دينه الإسلام المبني على صرف جميع العبادات لله وحده ونفي الشرك وبغضه وبغض أهله ومعاداتهم ومقاطعتهم فإنه لا ¬

(¬1) انظر الجامع الفريد (ص 382) الطبعة الثانية. (¬2) من هؤلاء الكتاب: الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين في كتبه القيمة (الاتجاهات الوطنية) ولطفي الصباغ بعنوان (الابتعاث ومخاطره) نشره المكتب الإسلامي فلتراجع أمثال هذه المؤلفات بخصوص ما ذكرنا. (¬3) انظر فتح الباري (1/16) .

يتركه أهل الكفر على دينه مع القدرة عليه كما أخبر عن ذلك المولى عز وجل بقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ { [سورة البقرة: 217] . كما أخبر الله عن أصحاب الكهف أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدً ا { [سورة الكهف: 20] . وأخبر سبحانه بذلك عن جميع الكفار حيث قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ { [سورة إبراهيم: 13] . وكذلك قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ليتني أكون جذعاً إذ يخرجك قومك قال: أو مخرجي هم؟! قال: نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، فلذلك أخرجوه من مكة إلى الطائف ثم هاجر إلى المدينة بعدما هاجر طائفة من أصحابه إلى الحبشة مرتين (¬1) . والهجرة شأنها عظيم، وأمرها كبير إذ هي فرع الولاء والبراء، بل إنها من أبرز تكاليف الولاء والبراء، وما كانت الجماعة المسلمة لتترك أرضها وقومها وتتكبد مشاق الغربة ووعثاء السفر لولا أن ذلك تكليف رباني لمن لا يستطيع أن ¬

(¬1) انظر الدفاع لابن عتيق (18- 19) وقصة ورقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن هشام (1/254) .

الهجرة هجرتان

يقيم دينه، ويظهر إسلامه في أرضه. وقد وعد الله عباده المؤمنين المهاجرين بـ (الحسنات) في الدنيا والآخرة فقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ {41} الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ { [سورة النحل: 41-42] . وللهجرة مفهوم شامل في التصور الإسلامي ليس مقتصراً على الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فحسب ولكنه كما يقول ابن القيم: الهجرة هجرتان هجرة بالجسم من بلد إلى بلد وهذه أحكامها معلومة. والهجرة الثانية: الهجرة إلى الله ورسوله فهذه هي الهجرة الحقيقية، وهجرة الجسد تابعة لها وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه. ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل. والاستكانة إلى دعائه سبحانه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له. وهذا بعينه معنى الفرار إلى الله كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ { [سورة الذرايات: 50] . والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه. والهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه. وأصلها: الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما يهاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر. وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب دواعي المحبة في قلب العبد، فإن كان

الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً ولا يتحرك لها إرادة (¬1) . أما الهجرة التي هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فإليك تفصيل أحكامها: قال الخطابي: (¬2) كانت الهجرة في أول الإسلام مندوباً إليها غير مفروضة وذلك في قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً { [سورة النساء: 100] . فقد نزلت حين اشتد أذى المشركين على المسلمين عند انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدنية. ثم أمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه، فيتعاونوا ويتظاهروا إن حزبهم أمر، وليتعلموا منه أمر دينهم، ويتفهموا فيه. وكان أعظم الخوف في ذلك الزمان من قريش وهم أهل مكة، فلما فتحت مكة ونخعت بالطاعة زال ذلك المعنى وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر فيها إلى الندب والاستحباب فهما هجرتان: فالمنقطعة منهما هي الفرض، والباقية هي الندب. وبهذا يظهر الجمع بين حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) (¬3) . وبين حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة (لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) (¬4) على أن بين الإسنادين ما بينهما فإسناد حديث ابن عباس متصل ¬

(¬1) الرسالة التبوكية لابن القيم (14-18) الطبعة الثانية سنة 1394 هـ المطبعة السلفية بمصر. (¬2) هو الإمام حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب من ولد زيد بن الخطاب. يكنى أبا سليمان. كان محدثاً فقيهاً وأديباً شاعراً لغوياً ومن تلاميذه الحاكم النيسابوري. ولد سنة 319 هـ في بلدة بست من بلاد كابل وتوفي فيها سنة 388 هـ انظر مقدمة معالم السنن المطبوع مع سنن أبي داود (1/11) والأعلام للزركلي (2/273) الطبعة الرابعة. (¬3) سبق تخريجه في أول هذا الفصل. (¬4) صحيح البخاري كتاب الجهاد باب وجوب النفير (6/37 ح 2825) .

صحيح وإسناد حديث معاوية فيه مقال (¬1) . ولأهمية موضوع الهجرة – خاصة في أول الإسلام – فقد قطع الله ولاية التناصر بين المسلمين المهاجرين في المدينة وبين المسلمين الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { [سورة الأنفال: 72] . ثم يأتي الثناء على المهاجرين والأنصار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ { [سورة الأنفال: 74] . والكلام على المهاجرين والأنصار قد سبق فيه الحديث. ¬

(¬1) معالم السنن للخطابي: (3/352) تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي وانظر الناسخ والمنسوخ للحازمي (ص207) .

أما الصنف الذي نريد أن نتحدث عنه هنا فهم المؤمنون الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في مكة فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا {97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً {98} فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا { [سورة النساء: 97-99] . فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم فيرمي به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) (¬1) . ولذلك فالذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم ليس لهم في المغانم نصيب ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال كما قال الإمام أحمد (¬2) ، يدل على ذلك الحديث المروي في المسند وصحيح مسلم عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا وليداً وإذا لقيت ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) تفسير ابن كثير (ج4/40) .

عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحويل من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (¬1) ... الحديث. ونستطيع أن نلخص أنواع الهجرة – سواء ما بقي منها مفروضاً أو نسخ، وما هو غير ذلك – في النقاط التالية: (1) الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان. فمن أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام (¬2) . ويؤيد ذلك حديث مجاشع بن مسعود (¬3) حين جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإسلام) (¬4) وعلى ذلك فإن النصوص الواردة في وجوب الهجرة باقية في حال المسلم المقيم بدار الحرب وقد ذكرتها في الإقامة في دار الكفار. ¬

(¬1) الحديث في مسند أحمد (5/352) وفي صحيح مسلم (3/1527 هـ ح 1731) كتاب الجهاد. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي (1/484) وانظر شرح النووي على مسلم (13/8) وتفسير القرطبي (5/308) . (¬3) مجاشع بن مسعود بن ثعلبة السلمي. قال البخاري وغيره له صحبة، وروى عنه أبو عثمان النهدي وغيره. وقتل يوم الجمل. الإصابة (3/362) والمعارف لابن قتيبة 331. (¬4) صحيح البخاري كتاب الجهاد، باب لا هجرة بعد الفتح (6/189 ح 3079) وصحيح مسلم (3/1488 ح 1864) كتاب الإمارة.

(2) الخروج من أرض البدعة. قال الإمام مالك: لا يحل لأحد أن يقيم ببلد سب فيها السلف (¬1) . (3) الخروج عن أرض غلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم (¬2) . وفي هذا الشأن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلماً، وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة براً تقياً، وتارة فاجراً شقياً. وهكذا المساكن بحسب سكانها فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة (¬3) . (3) الفرار من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي { [سورة العنكبوت: 26] . {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ { [سورة الصافات: 99] . وموسى عليه السلام قال الله فيه: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ { (¬4) [سورة القصص: 21] . ¬

(¬1) أحكام القرآن لابن العربي (1/484، 485) . (¬2) 59 أحكام القرآن لابن العربي (ج 1/484، 485) . (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية (18/284) . (¬4) أحكام القرآن لابن العربي (1/485) .

(5) خوف المرض في البلاد الوخمة، والخروج منها إلى الأرض النزهة وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للعرنيين في ذلك حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المرج، فيكونوا فيه حتى يصحوا وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون كما قرر ذلك الحديث الصحيح (¬1) . (6) الفرار خوف الأذية في المال، فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد (¬2) . وبعد: فإن الهجرة وغيرها من الأعمال والأقوال – مبنية على النية كما قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬3) . ¬

(¬1) المصدر السابق (1/485) وحديث العرنيين في صحيح البخاري (10/142 ح 5686) كتاب الطب وصحيح مسلم (3/1296 ح 1671) كتاب القسامة أما حديث الطاعون ففي البخاري - كتاب الطب وصحيح مسلم (ج 4/1741، ح 2219) كتاب السلام، ونصه: إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ". (¬2) أحكام القرآن (1/486) . (¬3) صحيح البخاري كتاب بدء الوحي (1/9 ح 1) وصحيح مسلم (3/1515 ح 1907) كتاب الإمارة.

الفصل الثالث

الفصل الثالث الجهاد في سبيل الله وهو من أهم مقتضيات الولاء والبراء لأنه الفاصل بين الحق والباطل وبين حزب الرحمن وحزب الشيطان والجهاد: بكسر الجيم - لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً: بلغت المشقة. وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار (¬1) . ويطلق أيضاً: على مجاهدة النفس والشيطان والفساق. فأما مجاهدة النفس: فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها ثم على تعليمها وأما مجاهدة الشيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأما مجاهدة الفساق: فباليد ثم اللسان ثم القلب (¬2) . وقد سبق القول في الفصل الثاني من الباب الأول (أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وطبيعة العداوة بينهما) : أن العداوة بين الفريقين أمر متأصل وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وذلك لأن المنهجين مختلفان، ويستحيل الالتقاء بينهما لأن حزب الله يريد إقامة كلمة الحق في الأرض وهيمنة الشريعة الإسلامية ¬

(¬1) فتح الباري لابن حجر (6/3) . (¬2) فتح الباري لابن حجر 6/3.

على كل وضع. وحزب الشيطان يغيظه هذا المنهج فيسعى جاهداً في سحقه وإبادته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وقد تحدثنا عن البراء وقلنا: أن أبرز صوره هو الجهاد لأنه هو السبيل الوحيد للمفاصلة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان. وإذا رجعنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: لوجدنا أن الجهاد هو الخطوة التالية للهجرة النبوية. مما يدل على أهميته في إقامة هذا الدين، وبيع المهج في سبيل الله تلبية لنداء الجهاد في سبيل الله. ومن المعلوم: أن هذا الدين الحنيف يأمر بدعوة الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة والألوهية فإذا لبوا هذا النداء فهذا هو المراد من بعثة الرسل، وإنزال الكتب وإن انتكصوا على أعقابهم فلا بد من جهادهم. {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه { [سورة الأنفال: 39] . وقد سبق معنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (.. فإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) (¬1) . فالدين الإسلامي يبدأ بدعوة الناس إلى الخير وجدالهم بالتي هي أحسن فإذا قامت عليهم الحجة ثم أعرضوا وجب قتالهم. وإذا كان هناك سلطان وطواغيت ترفض أن يستمع الناس للإسلام فإنه يجب بتر هذه الطواغيت من ساسها لتبلغ كلمة الإسلام للناس ثم يأتي هنا مبدأ (لا إكراه في الدين) أي إذا سيطر سلطان المسلمين على منطقة ما فإن أهلها لا يجبرون على اعتناق عقيدة الإسلام، ولكن يجب أن يخضعوا لسلطانه، فإن أسلموا فلهم ما للمسلمين وإن طلبوا البقاء على ¬

(¬1) سبق تخريجه.

أهداف الجهاد

ديانتهم فعليهم دفع الجزية للمسلمين وإلا فالسيف بينهم وبين المسلمين (¬1) . ومن هنا: فإن أهداف الجهاد في الإسلام أهداف سامية عالية فهو: (1) يقاتل الكفار لتقرير حرية العقيدة. (2) ويجاهد ثانياً لتقرير حرية الدعوة. (3) ويجاهد ثالثاً: لإقامة نظام الإسلام في الأرض. وتحقيق حرية الإنسان، حينما يقرر أن هناك عبودية واحدة لله الكبير المتعال، ويلغي من الأرض عبودية البشر للبشر في جميع أشكالها وصورها. فليس هناك فرد ولا طبقة ولا أمة تشرع الأحكام للناس، وتستذلهم عن طريق التشريع، وإنما هناك رب واحد للناس جميعاً هو الذي يشرع لهم وهو الذي يتوجهون إليه وحده بالطاعة والخضوع كما يتوجهون إليه بالإيمان والعبادة على السواء (¬2) . وعبودية الجهاد من أشرف وأوجب أنواع العبودية لله سبحانه وتعالى لأنه (لو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها. ومن الموالاة فيه سبحانه، والمعادة فيه والحب فيه والبغض فيه، وبذل النفس له في محاربة عدوه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب على محاب النفس) (¬3) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه (لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه.. لأن الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، وهو مشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، ففيه من محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع ¬

(¬1) انظر تفسير (لا إكراه في الدين) في ابن كثير (1/459) وانظر فصل الجهاد في معالم في الطريق (ص74) . (¬2) انظر طريق الدعوة (1/288 - 289) . (¬3) مدارج السالكين (2/196) .

الأعمال ما لا يشتمل عليه عمل آخر، والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً: إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة) (¬1) . وقد وردت نصوص كثيرة جداً في فضيلة الجهاد نذكر طرفاً منها: قال تعالى في بيان منزلة الشهيد وأنه حي عند ربه {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { [سورة آل عمران: 169 - 170] . {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ { [سورة الحجرات: 15] . والجهاد هو التجارة الرابحة مع الله كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {10} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {11} يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ¬

(¬1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص118) طبع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سنة 1389 هـ.

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {12} وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ { [سورة الصف:10-13] . أما السنة النبوية فقد ورد فيها أحاديث كثيرة في فضيلة الجهاد نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم (إن الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض (¬1) . وقال أيضاً (ما اغبرتا قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار) (¬2) . وفي الصحيح: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد قال: لا أجده. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟ فقال ومن يستطيع ذلك (¬3) . وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى) (¬4) . والجهاد ذروة سنام الإسلام كما جاء ذلك في الحديث (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد) (¬5) وقال أيضاً (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) رواه البخاري (¬6) ومسلم. ¬

(¬1) صحيح البخاري باب درجات المجاهدين في سبيل الله (6/11 ح 2790) كتاب الجهاد. (¬2) صحيح البخاري (6/29 ح 2811) كتاب الجهاد. (¬3) صحيح البخاري (6/4 ح 2785) كتاب الجهاد. (¬4) سنن أبي داود كتاب الجهاد (3/12 ح 2486) ومستدرك الحاكم (2/73) وسنده حسن. انظر مشكاة المصابيح (1/225 ح 724) . (¬5) سنن الترمذي: أبواب الإيمان (7/281 ح 2619) وابن ماجه (2/1314 ح 3973) وقال الألباني: حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (5/30 ح 5012) . (¬6) البخاري (6/13 ح 2792) كتاب الجهاد وصحيح مسلم (3/1499 ح 1880) كتاب الإمارة.

وفي مقابل هذا الثناء الجميل: ورد الذم للتاركين للجهاد، بل إن الله وصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة: 24] . وقال سبحانه: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ {20} طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ {21} فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {22} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ { [سورة محمد: 20-23] .

والجهاد ضرورة للدعوة وسنة ربانية في الابتلاء والتمحيص. قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ { [سورة آل عمران: 142] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {16} [سورة التوبة: 16] . (إن الجهاد في سبيل الله هو طريق الدعوة إلى الله، والجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات فترة الدعوة الأولى. وإنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة، ولو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول الواسعة من صلب كتاب الله ولما استغرق فصولاً طويلة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (والله يعلم أن هذا المنهج الإلهي تكرهه الطواغيت، ويعلم أنه لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم، ليس بالأمس فقط ولكن اليوم وغداً، وفي كل أرض وفي كل جيل، وأن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح ولا يمكن أن يكون منصفاً، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا من طرق سليمة موادعة فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولته قتل الحق وخنقه بالقوة هذه فطرة وليست حالة طارئة.. ومن ثم لابد من الجهاد.. لابد منه في كل صورة، ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع. ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولا بد من لقاء الباطل

المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة. إلا كان الأمر هزلاً لا يليق بالمؤمنين ولا بد من بذل الأموال والنفس كما طلب الله من المؤمنين) (¬1) . ويوم أدرك المسلمون معنى قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا { [سورة النساء: 74] . انطلقت كتائب الفتح الإسلامي في الأرض تنشر الخير، وتلقن الإيمان وتكسر شوكة الطاغوت من أجل أن يعبد الله وحده في الأرض. ووجد في ذلك التاريخ المشرق نماذج رفيعة أجادت - بحق - صناعة الموت لأنها تريد الحياة الكريمة سواء كانت الحياة على هذه الأرض بالنصر وإعلاء كلمة الله. أم بالحياة عند الله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون { [سورة آل عمران: 169] . لقد كانت هذه النماذج الإيمانية تستبطئ أن تحول بينها وبين الجنة تمرات كما في قصة الصحابي الجليل عمير بن الحمام الأنصاري: (¬2) حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في غزوة بدر (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) قال: يا رسول الله: جنة عرضها السموات والأرض! قال: نعم قال: بخ بخ قال ¬

(¬1) طريق الدعوة (1/303 - 304) . (¬2) هو عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي: ذكره موسى بن عقبة وغيره فيمن شهد بدراً. وهو أول قتيل قتل في سبيل الله في الحرب. وانظر ترجمته في الإصابة (3/31) .

رسول الله: وما يحملك على قول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: (فإنك من أهلها) ثم أخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بها ثم قاتلهم وهو يقول: ركضاً إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد فما زال يقاتل حتى قتل (¬1) . وهذا غسيل الملائكة الصحابي الجليل حنظلة بن أبي عامر يخرج من بيته حين سمع نداء الحرب في معركة أحد وكان حديث عهد بعرس لم يكن ليتأخر حتى يغتسل من جنابته، بل هرع إلى ساحة الوغى حتى لا يفوته الجهاد فلما قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهيعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك تغسله الملائكة) (¬2) . هذا غيض من فيض، ونقطة من بحر، من تلك البطولات التي بعث الإيمان فيها شجاعة خارقة للعادة وحنيناً إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأى العين، فطاروا إليها طيران الحمام الزاجل لا يلوي على شيء (¬3) . هذا هو مفهوم الجهاد، وهؤلاء المؤمنون هم أصحاب الجهاد، ويلحق بهم من سار على نهجهم لأنهم يقاتلون في سبيل الله أما غيرهم فيقاتل في سبيل الطاغوت: ¬

(¬1) مسند أحمد (3/137) وصحيح مسلم (3/1509 ح 1899) كتاب الإمارة بدون ذكر الأبيات وانظر فقه السيرة للشيخ الغزالي (ص244) . (¬2) الإصابة لابن حجر (1/360) وانظر فقه السيرة للغزالي 272. (¬3) انظر مزيداً من تلك البطولات في ماذا خسر العالم للندوي (ص 104 - 108) .

{الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ { [سورة النساء: 76] . وليس ما يقوله المنهزمون اليوم هو الجهاد، بل إنه من الوجهة الصحيحة فساد. إنهم يدعون إلى عدم مقاتلة أولياء الشيطان، ويدعون إلى موالاتهم وإلى مودتهم وإلى الاستكانة إليهم وإلى تمييع نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مقابل شبهات الملاحدة انهزموا وذلوا واستكانوا لأنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا يمثلون إلا اسماً مسمى، همهم التقليد الأعمى، وديدنهم الركض خلف كل ناعق ولو كان الأمر هكذا لهان الخطب لأنه لا عبرة بهم ففي أرض الله من يقوم بدين الله والله متكفل بذلك. ولكن أن يمتد جبنهم وذلتهم إلى الالتواء على النصوص القرآنية والسنة النبوية فيقال: إن الجهاد في الإسلام هو الدفاع فقط فهذا ما يجب أن نعريه، ولا نسكت عنه، مهما كانت ألقابهم ومهما كانت شهرتهم، فإن دين الله هو الحق والحق أحق أن يتبع ولست بحاجة إلى الإطالة في هذا فقد ذكرت في الفصول السابقة (¬1) مجموعة من العلماء الفضلاء في القديم والحديث تولوا تعرية هذا الفكر الغريب على التصور الإسلامي. فلتراجع في مظانها. وعوداً على بدء نقول: إنه لا حياة شريفة في ظل هذا الدين الحنيف إلا بالعودة إلى ينابيعه الصافية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم العقيدة الصحيحة وسيرة سلف الأمة وإدراك معنى لا إله إلا الله ومعنى العبادة ومعنى الدين، ومعنى الجهاد في سبيل الله. وليس في سبيل الأرض أو الوطن أو الجنس أو اللون أو الشخص أو.. أو.. الخ. وعلى المسلمين اليوم إدراك هذه المعاني والاستعلاء بأنفسهم وعقيدتهم من ¬

(¬1) راجع ص 217.

حكم التجسس على المسلمين

تمييع المائعين وكيد الكائدين، وأن يواجهوا كل موقف بما يمليه عليهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، وليعلموا أنهم مفتقرون إلى معية الله وولايته لهم وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً. حكم التجسس على المسلمين جرت عادة المصنفين من العلماء أن يدرجوا الحديث عن الجاسوس في باب الجهاد. وذلك لحكمة هامة وهي أن التجسس أبرز ما يكون في موضوع كشف عورات المسلمين لأعدائهم خاصة وقت نشوب الحرب، فلذلك يأتون بالحديث عن الجاسوس، وأحكامه في ذلك الموضع ولذلك اقتديت بهم فأوردت هذا المبحث في فصل الجهاد. والتجسس خيانة عظمى، وكبيرة من الكبائر إذا فعله المسلم. وهو من صور موالاة الكفار التي يتراوح الحكم فيها بين الكفر المخرج من الملة إذا كان تجسسه حباً في انتصار الكفار وعلو شوكتهم على المسلمين وبين الكبيرة من كبائر الذنوب إذا كان لغرض شخصي أو دنيوي أو جاه أو ما أشبه ذلك. وقد حذر الله من ذلك في قصة حاطب بن أبي بلتعه (¬1) رضي الله عنه في سورة الممتحنة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ ¬

(¬1) هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، حليف قريش، وقيل هو حليف للزبير بن العوام. شهد بدراً والحديبية ومات سنة ثلاثين بالمدينة وهو ابن خمس وستين سنة وصلى عليه عثمان رضي الله عنهم وقد شهد الله لحاطب بالإيمان في سورة الممتحنة. بعثه رسول صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة إلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية فأتاه من عنده بهدايا منها مارية القبطية. انظر الاستيعاب (1/348) والإصابة (1/300) .

يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ { [سورة الممتحنة:1] . قال الطبري: لا يدعونكم أرحامكم وقراباتكم وأولادكم إلى الكفر بالله واتخاذ أعدائه أولياء تلقون إليهم بالمودة، فإنه لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم عند الله يوم القيامة لأنه سيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معاصيه والكفر به النار (¬1) . وروى البخاري في صحيحه بسنده عن على رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود وقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها) فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلت كفراً ولا ارتداداً ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قد صدقكم) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: (إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ¬

(¬1) تفسير الطبري (28/61) .

ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) (¬1) الآيات. قال العلامة ابن القيم: يؤخذ من هذه القصة جواز قتل الجاسوس وإن كان مسلماً، لأن عمر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل حاطب بن أبي بلتعة فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل قتله إنه مسلم بل قال: وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال (اعملوا ما شئتم) فأجاب بأن فيه مانعاً من قتله وهو شهوده بدراً. وفي الجواب بهذا كالتنبيه على جواز قتل جاسوس ليس له مثل هذا المانع. وهذا مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يقتل وهو ظاهر مذهب أحمد، والفريقان يحتجون بقصة حاطب. والصحيح: أن قتله راجع إلى رأي الإمام، فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين قتله وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه والله أعلم (¬2) . وقال أيضاً: ومن فوائد هذه القصة: أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجس من حاطب مكفراً بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنه من محبة الله لها ورضاه وفرحة بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها: أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة، وتضمنه من بغض الله لها فغلب الأقوى على الأضعف، فأزاله وأبطل مقتضاه، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات، الموجبين لصحة القلب ومرضه قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ { [سورة هود: 114] . ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب التفسير تفسير سورة الممتحنة (8/633 ح 4890) . (¬2) زاد المعاد (3/422) بتصرف بسيط.

وقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم { [سورة النساء: 31] . إلى أن قال قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر، وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم ولم يثن ذلك عنان عزمه، ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم، فلما جاء مرض الجس برزت إليه هذه القوة. وكان البحران (*) صالحاً فاندفع المرض وقام المريض كأن لم يكن به قلبه (**) ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه وقهرته قال لمن أراد فصده: لا يحتاج هذا العارض إلى فصاد (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال، اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وعكس هذا ذو الخويصرة التميمي (¬1) وأضرابه من الخوارج الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حد يحقر أحد الصحابة عمله معه كيف قال فيهم: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) (¬2) . وقال (اقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم) (¬3) . ومن له لب وعقل يعلم قدر هذه المسألة: وشدة حاجته إليها وانتفاعه بها، ويطلع منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته في ¬

(¬1) *الأطباء يسمون التغير الذي يحدث للعليل دفعة واحدة في الأمراض الحادة: بحرانا انظر حاشية (ص425 ج 3) زاد المعاد. **القلبة: الداء والتعب. انظر مادة قلب في القاموس المحيط. ذو الخويصرة التميمي ذكره ابن الأثير في الصحابة مستدركاً على من قبله ولم يورد في ترجمته سوى ما أخرجه البخاري كتاب المناقب (6/617 ح 3610) ومسلم في الزكاة (2/740 ح1063) من حديث أبي سعيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ذات يوم قسماً فقال ذو الخويصرة رجل من بني تميم يا رسول الله: اعدل فقال: (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل) الحديث انظر الإصابة لابن حجر (1/485) . (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح البخاري كتاب المناقب باب علامات النبوة (6/618 ح 3611) وصحيح مسلم (2/746 ح 1066) كتاب الزكاة.

خلقه وأمره وثوابه وعقابه، وأحكام الموازنة.. وتفاوت المراتب في ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائم على كل نفس بما كسبت (¬1) . والذي يظهر لي – والله أعلم – هو ما ذهب إليه مالك وابن عقيل من أصحاب أحمد وغيرهما أن الجاسوس المسلم يقتل لأن التعليل في قصة حاطب (تعليل بعلة مانعة من القتل منفية في غيره ولو كان الإسلام مانعاً من قتله لم يعلل بأخص منه، لأن الحكم إذ علل بالأعم كان الأخص عديم التأثير وهذا أقوى والله أعلم) (¬2) . ونزول الخطاب القرآني بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) . يدل على دخول حاطب في المخاطبة باسم الإيمان ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب الدال على إرادته، مع أن في الآية ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه أبلغ بالمودة، فإن فاعل ذلك قد أضل سواء السبيل، لكن قوله صلى الله عليه وسلم (صدقكم خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمناً بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل (خلوا سبيله) (¬3) . أما الجاسوس الكافر فهذا يجب قتله لأنه صلى الله عليه وسلم قتل جاسوساً من المشركين. فعن أياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اطلبوه واقتلوه) . فقتلته فنفله سلبه (¬4) . ¬

(¬1) بتصرف. زاد المعاد (3/424 – 427) . (¬2) زاد المعاد (3/114) وانظر أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن فرج المكي (ص25) . (¬3) إرشاد الطالب للشيخ سليمان بن سحمان (ص15) . (¬4) صحيح البخاري كتاب الجهاد باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان (6/168 ح 3051) وأبي داود في الجهاد (3/112 ح 2653) .

الفصل الرابع

الفصل الرابع هجر أصحاب البدع والأهواء من تكاليف الولاء والبراء: هجر أصحاب البدع والأهواء والبراءة من معتقداتهم الفاسدة ونحلهم الباطلة. وقد تكلمت في الفصل الثالث من الباب الأول عن طرف من موقف السلف من هؤلاء المبتدعة، وذكرت هناك تعريف البدعة وتقسيمها إلى كفرية وغير كفرية. أما الحديث هنا فيأتي لبيان أن هجرتهم وعدم مخالطتهم والإنكار عليهم واجب من واجبات الولاء والبراء، ومقتضى من مقتضياته، لأن المنطلق في هذه القضية هو حب الله وحب ما يحبه وبغض من يبغضه أو يرتكب ما يبغضه. وفساد الدين إنما يأتي من إحدى طريقتين أو هما معاً: فإما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق. فالأول: البدع، والثاني: اتباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء. وبهما كذبت الرسل، وعصي الرب، ودخلت النار، وحلت العقوبات. لأن الفساد في الاعتقاد يأتي من جهة الشبهات والفساد في العمل يأتي من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه (¬1) . ¬

(¬1) إعلام الموقعين لابن القيم (1/136) وانظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص25) .

ويقولون أيضاً: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فان فتنتهما فتنة لكل مفتون، لأن الأول يشبه المغضوب عليهم الذين يعملون الحق ولا يتبعونه، والثاني يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم (¬1) . وخطورة البدعة تكمن في أنها تناقض (الاستسلام لله وحده) كما قال بعض السلف: (قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم) (¬2) وهي - كما قال الإمام سفيان الثوري - أحب إلى إبليس من المعصية، لأن البدعة لا يتاب منها، أما المعصية فيتاب منها. وذلك أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ورسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه. فما دام يرى فعله حسناً - وهو سيئ في نفس الأمر - فإنه لا يتوب. ولكن التوبة ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى الله من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف أهل البدع والضلال، وذلك بأن يتبع من الحق ما علمه لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ { (¬3) [سورة محمد: 17] . وإذا انتشرت الجهالة بدين الرسل بين الناس، ونما زرع الجاهلية في نفوسهم: سارعت الطباع إلى الانحلال من ربقة الاتباع لأن النفس فيها نوع من الكبر فهي تحب أن تخرج من العبودية بحسب الإمكان كما قال أحد السلف: ما ترك أحد سنة إلا تكبر في نفسه (¬4) وكما قلنا في الفصل الثاني من الباب الأول: أن العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أمر محتم وواقع فإن العداوة هنا بين المتبع والمبتدع تأخذ نفس المرتبة والشأن ولذلك قال الشوكاني: العداوة ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص25) . (¬2) شرح السنة للبغوي (1/171) . (¬3) انظر التحفة العراقية لابن تيمية (ص 38) . (¬4) ملحق مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (ص87) طبعة جامعة الإمام.

كيفية مخالطة الناس

بين المتبع والمبتدع أوضح من الشمس لأن المتبع يعادي المبتدع لبدعته، والمبتدع يعادي المتبع لاتباعه وكونه على الصواب. بل قد تبلغ عداوات أهل البدع لغيرهم من أهل الاتباع فوق ما تبلغه عداوتهم لليهود والنصارى (¬1) . وقبل أن نعرف كيفية البراءة من أهل البدع والأهواء لابد من إلمامة بسيطة بكيفية مخالطة الناس وقد رأيت كلاماً حسناً لابن القيم رحمه الله. أوجزه فيما يلي فقد قسم رحمه الله مخالطة الناس إلى أربعة أضرب (¬2) : (1) من مخالطته كالغذاء، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج خالطه. وهذا النوع أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه. فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله. (2) من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحاً فلا حاجة لك فيه. وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في المعاش، وما يحتاج إليه من المعاملات والمشاركات فإذا قضيت حاجتك من مخالطته بقيت مخالطتهم من القسم الثالث وهم: (3) من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه، فبعضهم كالداء العضال لا تربح عليه في دين ولا دنيا، بل تخسر معه الدين والدنيا أو أحدهما ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يؤلمك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، وإذا تكلم فكلامه كالعصى على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه، وظنه أنه كالمسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى التي لا يطاق حملها، ولا جرها على الأرض، وإذا كان لابد من هذا الضرب فليعاشر بالمعروف حتى يجعل الله لك منه فرجاً ومخرجاً. (4) من مخالطته فيها الهلاك كله، وهي بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لآكله ¬

(¬1) قطر الولي للشوكاني (ص259) . (¬2) بدائع الفوائد (2/274 - 275) .

موقف المسلم من أصحاب البدع

ترياق (¬1) وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس لاكثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول لله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها، والذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، إن جردت التوحيد بينهم قالوا: تنقصت جناب الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله به رسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا: أنت من المفتنين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من أهل البدع المضلين، وإن انقطعت إلى رسول الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهوائهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين! فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل بأعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم، ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قال الشاعر: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل وعند الممات يحمد القوم التقى ... وفي الصباح يحمد القوم السرى انتهى من بدائع الفوائد. وموقف المسلم من أصحاب البدع والأهواء يختلف باختلاف ما هم عليه. فأما من كانت بدعته كفرية أو شركية فهذا يتبرأ منه ويهجر هجراً نهائياً وليس له أي موالاة بل البراءة منه كالبراءة من الكافر الأصلي أو المشرك. ومثال ذلك من أحدث حدثاً في الإسلام، أو آوى محدثاً ونصره وأعانه كما جاء في الحديث (من أحدث حدثاً أو آي محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (¬2) . وقال ابن القيم: (ومن أعظم الحدث تعطيل كتاب الله وسنة ¬

(¬1) الترياق: بكسر التاء: دواء السموم وهو فارسي معرب. مختار الصحاح (ص91) . (¬2) أبو داود (4/669 ح 4530) كتاب الديات والنسائي في القسامة (8/20) وإسناده حسن.

رسوله وإحداث ما خالفهما، ونصر من أحدث ذلك والذب عنه، ومعاداة من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) (¬1) وأما من كانت بدعته دون ذلك أي من المعاصي والذنوب التي لا تصل إلى حد الكفر أو الشرك فهذه تختلف أيضاً باختلاف الأشخاص والأزمان. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة والمعرفة التامة وأقل الأحوال إذا لم يحصل للعبد ذلك: أن يقتصر على نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك) (¬2) . فإذا رأى المسلم من يعمل شيئاً من المعاصي: أبغضه على ما فيه من الشر، وأحبه على ما فيه من الخير - كما ذكرنا ذلك في معتقد أهل السنة في أول البحث - ولا يجعل بغضه على ما معه من الشر قاطعاً وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه، بل إن كان بغضه له يزجره ذلك ولا يرتدع هو وأمثاله راعى فيه الإصلاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا ينجع فيه شيئاً ووكل سرائرهم إلى الله) (¬3) . وعلى أي حال فإنه ينبغي للمسلم أن لا يخالط أهل البدع والفجور وسائر المعاصي، إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل، وأقل ذلك أن يكون منكراً لظلمهم، ماقتاً لهم، شائناً ما هم فيه بحسب الإمكان كما في الحديث، (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (¬4) . ¬

(¬1) إعلام الموقعين لابن القيم (4/405) . (¬2) أبو داود (4/512 ح 341) كتاب الملاحم والترمذي في التفسير (ح 3060) وقال: حديث حسن غريب وابن ماجة (2/1331 ح 4014) وانظر جامع الأصول (10/3 ح 7453) . وقال الألباني: ضعيف ولبعضه شواهد انظر مشكاة المصابيح (3/1423) . (¬3) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية (7/41) . (¬4) تفسير سورة النور لابن تيمية (ص 55) الطبعة الأولى / 1397 هـ والحديث في صحيح مسلم (1/69 ح 49) كتاب الإيمان.

أنواع الهجر

والهجر الشرعي نوعان: الأول: بمعنى الترك للمنكرات. والثاني: بمعنى العقوبة عليها. فالأول هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ { [سورة الأنعام: 68] . وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ { [سورة النساء: 140] . وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" (¬1) ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ { [سورة المدثر: 5] . أما النوع الثاني وهو الهجر على وجه التأديب: فهو هجر من يظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون "الثلاثة الذين خلفوا" (¬2) حتى أنزل الله توبتهم. ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (ج 1/53 ح 10) . (¬2) سيرد حديثهم إن شاء الله في الباب الأخير عند الحديث عن كعب بن مالك وهو أحدهم.

وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يقضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين. وإذا عرف هذا فالهجر يجب أن يكون خالصاً لله وموافقاً لأمره، لأن من هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً عن هذا الأصل، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله (¬1) . والهجر من باب "العقوبات الشرعية" فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ { [سورة الحجرات: 9-10] . ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوى (ج 28/203-207)

من أقوال السلف في الاتباع والنهي عن الابتداع

فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي (¬1) . ومما ينبغي التنويه به: " أن هذا الهجران والتبري والمعاداة لأهل البدع المخالفين في الأصول. أما الاختلاف في الفروع بين العلماء فاختلاف رحمة أراد الله أن لا يكون على المؤمنين حرج في الدين، فذلك لا يوجب الهجران والقطعية، لأن الاختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إخواناً مؤتلفين، رحماء بينهم، وتمسك بقول كل فريق منهم طائفة من أهل العلم بعدهم، وكل في طلب الحق، وسلوك سبيل الرشد مشتركون " (¬2) . كلمات للسلف في الاتباع والنهي عن الابتداع سلف الأمة رحمهم الله كانوا حريصين على الوقوف عند كتاب الله العزيز وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكانوا يمقتون من يخرج عن هذين المصدرين الأصليين. وقد كثر كلامهم في هذا ولكني أورد بعض هذه الكلمات القيمة لما لها من أثر في تزويد المؤمن بالثبات على ما ثبتوا عليه. قال الإمام مالك رحمه الله: " من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ { [سورة المائدة: 3] . فما لم يكن يؤمئذ ديناً لا يكون ديناً" (¬3) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ستجدون قوماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد ¬

(¬1) المصدر السابق (28/208) (¬2) شرح السنة للبغوي (1/229) . (¬3) الاعتصام للشاطبي (2/53) .

نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق (¬1) . وقال أبو العالية الرياحي: تعلموا الإسلام فإذا علمتوه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم: الإسلام، ولا تحرفوه يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وأصحابه (¬2) . وقال الشافعي رحمه الله: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب - ما خلا الشرك - خير من أن يلقاه بشيء من الهوى (¬3) . وقيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال: أنسيت قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ { (¬4) . [سورة البقرة: 93] . ولذلك قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون (¬5) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم " (¬6) . حقاً، لقد كفينا فكتاب الله واضح وجلي، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واضحة ومفصلة وشارحة لكتاب الله، وسيرة سلفنا الصالح محفوظة لدينا وما علينا إلا اتباع الكتاب والسنة والبعد عن كل مبتدع ودخيل، وإذا فعلنا ذلك كنا أمة متميزة لها شخصيتها المستقلة التي لا تجاري أصحاب الأهواء والآراء البشرية الناقصة. ¬

(¬1) التنبيه والرد للملطي (ص85) ومعنى العتيق: أي القديم الأول. (¬2) المصدر السابق (ص 84) . (¬3) الاعتقاد على مذهب السلف للبيهقي (ص 118) . (¬4) العبودية لابن تيمية (ص70) (¬5) الاعتقاد للبيهقي (ص 118) . (¬6) سنن الدارمي في كتاب العلم باب كراهية الأخذ بالرأي (ج 1/69) . قال السخاوي: وأخرجه الديلمي في مسنده. انظر المقاصد الحسنة (ص 16) .

وما تبعت أمة داعي كل ناعق إلا تردت في مهاوي الجهل والظلام والله يريد لعباده المؤمنين النور والصلاح والفلاح وكل ذلك في الإسلام وحده وما عداه فجاهلية وضلال. أعاذنا الله من ذلك.

الفصل الخامس

الفصل الخامس انقطاع التوارث والنكاح بين المسلم والكافر من حرص الإسلام على تميز المسلم وقطع العلائق والوشائج التي قد ترده عما أراده الله له: قطع التوارث بين المسلم وقريبه الكافر، وكان هذا التكليف من مقتضيات الولاء والبراء في التصور الإسلامي. ولكن ذلك جاء بعد الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد، فقد كان صلى الله عليه وسلم - كما يذكر ابن القيم - قبل أن يفرض الجهاد يقر الناس على ما هم عليه في الأنكحة ويدعوهم إلى الإسلام، وكانت المرأة تسلم وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما حتى صلح الحديبية وبعد هذا الصلح نزل تحريم المسلمة على الكافر (¬1) . قال تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ { [سورة الممتحنة: 10] . وقال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ {نفس الآية لقد آن أن تقطع المفاصلة الكاملة وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات كما ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة (1/69)

يستقر في واقعهم: أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله (¬1) . وجاء التحريم أيضاً في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [سورة البقرة: 221] . قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: رحمه الله في قوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات" هذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ { [سورة المائدة: 5] . أما قوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ {فهذا عام لا تخصيص فيه. ¬

(¬1) الظلال (6/3546) .

وذكر سبحانه العلة والحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة لمن خالفهما في الدين فقال (أولئك يدعون إلى النار) أي في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم فمخالطتهم على خطر منهم: بل إنه الشقاء الأبدي (¬1) . ونكاح المسلم للكتابية مجمع عليه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - من السلف والخلف ولكن يروى عن ابن عمر أنه كره نكاح النصرانية وقال: لا أعلم شركاً أعظم ممن تقول إن ربها عيسى ابن مريم (¬2) ، ولكن الجواب على ذلك من ثلاثة أوجه: (1) أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ { [سورة البقرة: 62] . فإن قيل قد وصفوا بالشرك بقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ { [سورة التوبة: 31] . قيل: أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، لأن الله بعث الرسل ¬

(¬1) تفسير كلام المنان لابن سعدي (1/274) . (¬2) الحديث في صحيح البخاري كتاب الطلاق باب قول الله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) . عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله. (9/416 ح 5385) .

بالتوحيد، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك وما دام أنه ميزهم عن المشركين فلأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة. (2) أن يقال: آية البقرة عامة وآية المائدة خاصة. والخاص يقدم على العام. (3) أن يقال آية المائدة ناسخة لآية البقرة لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء (¬1) . والذي يظهر لي. والله أعلم - أن الجواب الأول من الأجوبة الثلاثة التي ذكرها شيخ الإسلام غير مسلم به، مع التسليم بأن أصل دينهم التوحيد، ولكنهم نقضوا هذا الأصل والعبرة بالخواتيم. أما الجواب الثاني والثالث فهذا الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم (¬2) . وأما انقطاع التوارث بين المسلم والكافر فهذا أيضاً من التكليف، والمقتضيات للولاء والبراء دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) متفق عليه (¬3) . والسبب في ذلك: أن التوارث يتعلق بالولاية. ولا ولاية بين المسلم والكافر لقوله تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { (¬4) . قال البغوي: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم: أن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر لقطع الولاية بينهما، إلا ما روي عن معاذ أنهما قالا: المسلم يرث الكافر، ولا يرثه الكافر، وحكي ذلك عن إبراهيم النخعي، كما أن المسلم ينكح الكتابية ولا ينكح الكافر المسلمة، وبه قال إسحاق بن راهويه (¬5) . ¬

(¬1) دقائق التفسير لابن تيمية (1/258 - 260) تحقيق وجمع د. محمد السيد الجليند. الناشر دار الأنصار. (¬2) انظر على سبيل المثال. المغني لابن قدامة (7/129) . (¬3) صحيح البخاري: (12/50 ح 6764) كتاب الفرائض وصحيح مسلم في الفرائض (3/1233 ح 1614) . (¬4) فتح الباري (12/50) . (¬5) شرح السنة (8/364) .

أما المرتد: فلا يرث أحداً. ولا كافراً ولا مرتداً. واختلفوا في ميراثه: فذهب جماعة: إلى أنه لا يورث منه بل ماله فيء. وهذا قول مالك والشافعي. وذهب جماعة: إلى أن ميراثه لأقاربه المسلمين وهو قول الحسن والشعبي وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد. وذهب بعضهم: إلى أن ما اكتسبه بعد الردة فيء وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة (¬1) . إن الإسلام دين عزة وعفة وقوة يرتفع بالمسلم أن تبقى نفسه معلقة بأطماع قاصرة لا تتفق مع مبدأ هذا الدين وتميزه وسمو تشريعه. بل إنه ليقطع كل ما من شأنه أن يثبط المسلم أو يغريه بالتذبذب في دينه أو بالنفاق. ولذلك قطع النكاح من الكافر لئلا يكون له سلطة على المسلمة، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقطع النكاح من الكافرة لأنها سبب خطير في (جرف) زوجها إلى ملتها وتنشئة الأطفال على مبدأ الكفر والشرك. وقطع التوارث بين المسلم والكافر حتى يبقى المسلم مصوناً من المال الحرام لأن صاحبه الكافر رضي بالحرام وترك شريعة الله الحلال شريعة الإسلام. وما دام أنه قد انقطع التناصر والولاء الإيماني بين المسلم والكافر فلأن يقطع النكاح والتوارث من باب أولى لتخلص نفس المسلم لله رب العالمين وتصبح حياته ومماته كلها قائمة على منهج الله القويم وشرعه الحكيم. وبهذا يكون التميز الكامل متحققاً في حياة المسلم فهو لا يعبد إلا الله، ومن ثم فلا يتلقى إلا من الله، ولا يرجو ولا يطلب الرزق إلا من الله. ولا يسير في أمر يسير أو كبير إلا بحسب ما أراده الله وهذا هو معنى الاستسلام لله. والطاعة والانقياد له. ¬

(¬1) شرح السنة (8/365) .

الفصل السادس

الفصل السادس النهي عن التشبه بالكفار والحرص على حماية المجتمع الإسلامي الدين الإسلامي ليس حريصاَ على تميز المسلمين في المضمون فحسب وإنما حتى في المظهر العام للمسلم في نفسه وللمجتمع الإسلامي في عمومه. ولذلك كان النهي عن التشبه بالكفار أحد التكاليف الربانية لهذه العقيدة. وقد حفل الكتاب والسنة بأدلة كثيرة حول هذه القضية. لأن التشبه بالكفار في الظاهر يورث التشبه بهم في العقيدة أو مودتهم، ومسايرتهم وموافقتهم على هواهم مما يحدث التميع في حياة المسلم ويجعله إمعة يتبع كل ناعق، والله يريد له العزة والكرامة. وإذا تمعنا في طريقة التربية القرآنية: وجدنا أن الإسلام ربى المسلمين على العقيدة الصحيحة فترة طويلة قبل نزول التكاليف، فلما رست جذور هذه الشجرة المباركة في النفوس جاءت التكاليف واحداً إثر الآخر مما جعل المسلمين يترقون في هذا السلم التربوي الإيماني إلى الذروة. من هنا جاء النهي عن التشبه بالكفار في العهد المدني. وذلك بعد الجهاد من أجل صيانة وحماية المجتمع الإسلامي من كل دخيل، وحرصاً على بناء الشخصية الإسلامية الفريدة. فكما أن هذه العقيدة فريدة في مضمونها وجوهرها فهي أيضاً فريدة في شكلها ومظهرها. لذا وجب على صاحبها أن يكون متميزاً بعد أن أخرجه الله من الظلمات إلى النور. وتجتاح العالم الإسلامي اليوم موجة من التبعية الجارفة في كل شيء، ومن ذلك التشبه بالغرب الكافر من قبل ضعاف الإيمان الذين يرون أن ذلك الفعل هو سبيل التقدم والرقي!

وفي هذا يقول الأستاذ محمد أسد ( ... وإن السطحيين من الناس فقط ليستطيعوا أن يعتقدوا أنه من الممكن تقليد مدنية ما في مظاهرها الخارجية من غير أن يتأثروا في الوقت نفسه بروحها. "إن المدنية ليست شكلاً أجوف فقط، ولكنها نشاط حي. وفي اللحظة التي نبدأ فيها. بتقبل شكلها تأخذ مجاريها الأساسية ومؤثراتها الفعالة تعمل فينا، ثم تخلع على اتجاهنا العقلي كله شكلاً ولكن ببطء ومن غير أن نلحظ ذلك. ولقد قدر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاختيار حق قدره حينما قال: " من تشبه بقوم فهو منهم" (¬1) . وهذا الحديث المشهور ليس إيماءة أدبية فحسب، بل تعبير إيجابي يدل على أن لا مفر من أن يصطبغ المسلمون بالمدنية التي يقلدونها؟ "ومن هذه الناحية قد يستحيل أن نرى الفرق الأساسي بين "المهم" وبين غير المهم في نواحي الحياة الاجتماعية وليس ثمة خطأ أكبر من أن نفترض أن اللباس - مثلاً - شيء خارجي بحت وأن لا خوف منه على "حياة الإنسان" العقلية والروحية. إنه على وجه العموم نتيجة تطور طويل الأمد لذوق شعب ما في ناحية معينة وزي هذا اللباس يتفق مع الإدراك االبديعي لذلك الشعب ومع ميوله. لقد تشكل هذا الزي ثم ما فتىء يبدل أشكاله باستمرار حسب التبدل الذي طرأ على خصائص ذلك الشعب وميوله. وبلبس الثياب الأوربية يوفق المسلم من غير شعور ظاهر بين ذوقه والذوق الأوربي ثم يشوه "حياته" العقلية بشكل يتفق نهائياً مع اللباس الجديد وبعمله هذا يكون (المسلم) قد تخلى عن الإمكانيات الثقافية لقومه، وتخلى عن ذوقهم التقليدي، وتقبل لباس العبودية العقلية الذي خلعته عليه المدنية الأجنبية. " إذا حاكى المسلم أوروبة في لباسها، وعاداتها وأسلوب حياتها فإنه يتكشف عن أنه يؤثر المدنية الأوربية، مهما كانت دعواه التي يعلنها، وإنه لمن المستحيل عملياً أن تقلد مدنية أجنبية في مقاصدها العقلية والبديعية من غير إعجاب ¬

(¬1) سيرد تخريجه بعد قليل

أصل المشابهة

بروحها، وإنه لمن المستحيل أن تعجب بروح مدنية مناهضة للتوجيه الديني، وتبقى مع ذلك مسلماً صحيحاً. " إن الميل إلى تقليد التمدين الأجنبي نتيجة الشعور بالنقص هذا ولا شيء سواه، ما يصاب به المسلمون الذين يقلدون المدنية الغربية " (¬1) وأصل المشابهة: أن الله جبل بني آدم - بل سائر المخلوقات - على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر: كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم. والمشاركة بين بني الإنسان أشد تفاعلاً فلأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم فاكتسب بعضهم، أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. والمشابهة في الأمور الظاهرة: توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام (¬2) . ثم إن المشاركة في الهدي الظاهر: توجب مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان وهذا أمر محسوس، بل إنها تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر. وإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ نعم. إنها تقتضي إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد. والمحبة لهم تنافي الإيمان كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ¬

(¬1) الإسلام على مفترق الطرق. ترجمة د. عمر فروخ (ص 81 - 83) الطبعة الثامنة سنة 1974م دار العلم للملايين. (¬2) بتصرف: اقتضاء الصراط المستقيم: 220

وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [سورة المائدة: 51] . وثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم (¬1) . وهنا لابد أن نورد بعض النصوص الكثيرة والمستفيضة من الكتاب والسنة التي نهت عن مشابهة الكفار واتباع أهوائهم. منها قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {18} إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ { [سورة الجاثية: 18-19] . يقول في تفسيرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: جعل الله محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواءهم: هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، فموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض الأمور ويسرون بذلك. ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم: فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم بتصرف من (ص 219-222) .

أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها (¬1) . ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير { [سورة البقرة: 120] . فانظر كيف جاء في الخبر "ملتهم" وفي النهي "أهواءهم" لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقاً. والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين: نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه (¬2) وممن الأدلة القرآنية أيضاً ما ورد في سورة البقرة بخصوص تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ { [سورة البقرة: 145] . ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص14) . (¬2) المصدر السابق (ص15) .

إلى قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ { [سورة البقرة: 150] . قال غير واحد من السلف: معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا. فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، وبين سبحانه أن من حكمة فسخ القبلة وتغييرها: مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، وهذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان – أو قريب مما كان – لليهود من الحجة في القبلة (¬1) . ومن الأدلة القرآنية أيضاً الدالة على النهي عن التشبه بهم في أي حال وأي وضع قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ { [سورة يونس: 89] . وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ { [سورة الأعراف: 142] . وقال تبارك وتعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ ¬

(¬1) نفس المصدر (ص16) .

غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا { [سورة النساء: 115] . كل ذلك يدل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع (¬1) أما السنة النبوية فورد فيها نصوص كثيرة في هذا الموضوع ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم " من تشبه بقوم فهو منهم " (¬2) . وفي هذا الحديث يقول ابن تيمية: إسناده جيد وأقل أحواله: أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ { [سورة المائدة: 51] . وهو نظير ما قاله عبد الله بن عمرو: " من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة " (¬3) . فقد يحمل هذا على التشبه المطلق الذي يوجب الكفر.. وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر أو المعصية: كان حكمه كذلك. أما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبهاً نظراً. لكن قد ينهى عن هذا لئلاً يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة (¬4) . ومن الأدلة النبوية أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم" قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (¬5) . وفي الصحيح أيضاً: عن ابن عمر: أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ¬

(¬1) انظر نفس المصدر (ص16) . (¬2) سنن أبي داود كتاب اللباس (4/314 ح 4031) ومسند أحمد (7/142 ح 5114) وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح وقال الألباني: صحيح انظر صحيح الجامع (5/270 ح 6025) . (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم (ص83) والأثر سبق تخريجه. (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 82 – 83) . (¬5) سبق تخريجه.

الحجر – أرض ثمود – فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (¬1) . ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها "ذات أنواط" قال بعض الناس: يا رسول الله: اجعل ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال صلى الله عليه وسلم " الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم " (¬2) . فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه؟ (¬3) . أيهما أعظم – يا ترى – شجرة يعلق عليها سلاح نهي عنها لأن فيها اقتداء بفعل الكفار أم نظام حياة فيه التشريع والتحليل والتحريم والإلزام والعقوبة على المخالفة. ومن الأحاديث الواردة في النهي عن التشبه قوله صلى الله عليه وسلم "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " (¬4) . وقوله صلى الله عليه وسلم " خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم " (¬5) وقوله صلى الله عليه وسلم " ليس منا من تشبه بغيرنا" (¬6) . ¬

(¬1) صحيح مسلم (4/2285 ح 2981) . (¬2) مسند أحمد (5/218) إسناد صحيح ورجاله رجال الصحيح (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 314) . (¬4) صحيح البخاري كتاب الأنبياء باب نزول عيسى (6/496 ح 3462) وصحيح مسلم (3/1663 ح 2103) كتاب اللباس. (¬5) سنن أبي داود (1/427 ح 652) كتاب الصلاة وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع (3/106 ح 3205) . (¬6) سنن الترمذي (ح 7/335 ح 2696) وقال: إسناده ضعيف. ولكن الألباني حسنه. انظر صحيح الجامع (5/101 ح 5310) .

متى تكون الموافقة ومتى تكون المخالفة

إن هذه النصوص وغيرها تهدف إلى سد الذرائع لأن المشابهة في الظاهر ذريعة إلي الموافقة في القصد والعمل (¬1) . ولكن هناك حالات معينة قد تجعل المسلم يشارك الكفار في الهدي الظاهر فمتى تكون الموافقة ومتى تكون المخالفة؟ يجيب على ذلك شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله بقوله: إن المخالفة لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار ولما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء فإنه لم يشرع لهم المخالفة، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك. ومثل ذلك اليوم - هذا كلام الشيخ في عصره فكيف بالعصور التالية؟! - لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب: لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر. بل يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية: ففيها شرعت المخالفة. وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان: ظهرت حقيقة الأحاديث (¬2) في هذا. وقد ذكر العلماء رحمهم الله قاعدة جليلة عليها مدار الشرع وإليها مرجع الخلق والأمر - كما يقول ابن القيم - وهي: إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما، وإن فاتت المصلحة التي هي دونها، والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها. فيفوت مصلحة لتحصيل ما هو أكبر منها، ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها (¬3) ¬

(¬1) إعلام الموقعين لابن القيم (ج3/140) . (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 176-177) . (¬3) الجواب الكافي (ص 167) .

تفصيل مخالفة أهل الكتاب كما ذكر ذلك ابن تيمية

ولكن مع هذا يجب أن يحذر المسلم فإن هذا أمر لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأرضاها له (¬1) . وإذا أردنا أن نعرف تفصيل مخالفة أهل الكتاب وجدنا أن ذلك يندرج تحت ثلاثة أقسام: ... (¬2) (1) ما كان مشروعاً في الشريعتين، أو ما كان مشروعاً لنا وهم يفعلونه كصوم يوم عاشوراء، أو كأصل الصلاة والصيام، فهنا تقع المخالفة في صفة ذلك العمل كما سن لنا صوم تاسوعاء، وعاشوراء، وكما أمرنا بتعجيل الفطر والمغرب مخالفة لأهل الكتاب، وكذلك تأخير السحور مخالفة لهم، والصلاة في النعلين مخالفة لليهود وهذا كثير في العبادات وكذلك في العادات. (2) ما كان مشروعاً ثم نسخ بالكلية كالسبت، أو إيجاب صلاة أو صوم، ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا. وكذلك الأمر في أعيادهم، لأن الأعياد المشروعة يشرع فيها وجوباً أو استحباباً من العبادات ما لا يشرع في غيرها كالصلاة أو الذكر أو الصدقة أو النسك ويباح فيها أو يستحب أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ ما لا يكون في غيرها كذلك كالتوسع في الطعام واللباس. ولهذا وجب علينا فطر العيدين وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة وقرن بها في الآخر الذبح وكلاهما من أسباب الطعام فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات أو العادات أو كلاهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل. ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة ... وفي القسم الأول قد لا تكون إلا مكروهة. (3) ما أحدثوه من العبادات أو العبادات أو كليهما، فهذا أقبح وأقبح، فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحاً، فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط؟ بل أحدثه الكافرون؟ فالموافقة فيه ظاهرة القبح. فهذا أصل. ¬

(¬1) انظر بدائع الفوائد (2/262) . (¬2) ذكرها شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم من (178 - 179) .

ما بين التشبه والولاء من علاقة

وأصل آخر: وهو أن كل ما يتشابهون فيه من عبادة أو عادة أو كليهما هو من المحدثات في هذه الأمة ومن البدع إذ الكلام فيما كان من خصائصهم وأما ما كان مشروعاً لنا وقد فعله سلفنا السابقون فلا كلام فيه. ونخلص إلى القول: أن حكم الموافقة في الأول مكروهة وفي الثاني محرمه وفي الثالث أشد حرمة. ما بين التشبه والولاء من علاقة من نافلة القول: أن الشارع ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه، وما ترك شراً إلا حذر الأمة عنه. وحين أمر الشارع الحكيم بمخالفة الكفار - في الهدي الظاهر - فإن ذلك لحكم جليلة (¬1) منها: (1) إن المشاركة في الهدي الظاهر: تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب الجند المقاتلة - مثلاً - في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضياً لذلك، إلا أن يمنعه من ذلك مانع. (2) إن المخالفة في الهدي الظاهر: توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال. والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام - لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً، أو باطناً بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة - كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً أو ظاهراً أتم. وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد. ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (11-12) .

مثال واحد من مشابهة اليهود والنصارى (العيد)

(3) إن مشاركتهم في الهدي الظاهر: توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية. هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً، لو تجرد عن مشابهتهم. فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالتهم ومعاصيهم. وهذا أصل ينبغي أن يتفطن إليه (¬1) . مثال واحد من مشابهة اليهود والنصارى (العيد) العيد مظهر مميز للأمة، ومن هنا اخترته مثالاً واحداً من أمثلة التشبه باليهود والنصارى، وقد وردت الأدلة الكثيرة المحرمة للتشبه بهم في هذا الشأن من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار (¬2) . أما الكتاب فقد قال تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} [سورة الفرقان: 72] . قال مجاهد في تفسيرها إنها أعياد المشركين وكذلك قال مثله الربيع بن أنس ¬

(¬1) نفس المصدر (ص12) . (¬2) أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الموضوع بما يكفي ويشفي في كتابه القيم اقتضاء الصراط المستقيم. ولذا فما أذكره هنا مقتبس من كلامه رحمه الله

والقاضي أبو يعلى والضحاك (¬1) . وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده؟ ومن السنة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر " رواه أبو داود (¬2) وأحمد والنسائي على شرط مسلم. ووجه الدلالة: أن اليومين الجاهلين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال " إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما.." والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه. وهذه العبارة لا تستعمل إلا فيها ترك اجتماعهما كقوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظلمين بدلا} [سورة الكهف: 50] . وقوله صلى الله عليه وسلم "خيراً منهما " يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية. والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى وأخبروا إن سيفعل قوم منهم هذا المحذور، بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى، إذ الشر الذي له فاعل موجود يخاف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضي له قوي (¬3) . ¬

(¬1) المصدر السابق (ص181) . (¬2) كتاب الصلاة / 675 ح 134 وانظر اقتضاء الصراط المستقيم ص 184 (¬3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (ص 184 - 186) .

أما الإجماع: فما هو معلوم من السير أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم، ومع ذلك لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك. وكذلك ما فعله عمر بخصوص أهل الذمة - سيأتي ذكر ذلك قريباً - وما اتفق عليه الصحابة والفقهاء أن أهل الذمة لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإذا كان هذا اتفاقهم فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟ أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهراً لها؟ وقد قال عمر رضي الله عنه: " إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم" رواه أبو الشيخ الأصبهاني ورواه البيهقي بإسناد صحيح (¬1) . وأما الاعتبار: فالأعياد من جملة الشرع، والمناهج والمناسك التي قال الله فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا { [سورة المائدة: 48] . فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد: موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه: موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره. ولا ريب: أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة (¬2) . ثم إن عيدهم من الدين الملعون هو وأهله، فموافقتهم فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه. ومن أوجه الاعتبار أيضاً: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل ¬

(¬1) نفس المصدر (ص 182، 199) . (¬2) نفس المصدر (ص 208) .

صورة مشرقة من صور التميز في المجتمع الإسلامي الأول

الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيداً لهم، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر " (¬1) . أما ما ينعكس على نفوسهم إذا تشبه بهم المسلمون في العيد خاصة فهو السرور والفرح لأن في ذلك رفعة لباطلهم وتنافياً لمبدأ القهر والجزية والصغار الواقعين تحته. وخلاصة المشابهة: أنها تفضي إلى كفر أو معصية غالباً، أو تفضي إليهما في الجملة وليس في هذا المفضي مصلحة، وما أفضي إلى ذلك كان محرماً فالمشابهة محرمة، والمقدمة الثانية لا ريب فيها، لأن استقرار الشريعة يدل على أن ما أفضى إلى الكفر غالباً وما أفضى إليه على وجه خفي حرام وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حرام (¬2) . وبعد أن يتمعن المسلم كل هذه الأحكام بخصوص العيد عليه أن يقيس بمقياس الكتاب والسنة: الأعياد المحدثة اليوم ومن يحدثونها ومن يهنئون بها الكفرة والملاحدة. مثل عيد الثورة! وعيد الجلوس! وعيد الميلاد! وعيد الأم، وعيد تحكيم القانون ونبذ الشريعة وعيد الوطن وعيد الجلاء ... إلى أخر هذه المسميات والأسماء الجاهلية التي ما أنزل بها من سلطان، والتي هي مضاهاة ومنازعة لشريعة الله وحكمه. فواجب المسلم أن لا يقر بها ولا يهنىء أحداً بها ويكتفي بالعيدين الإسلاميين الفطر والأضحى وفي الأيام الأخرى كالجمعة وغيرها ما يغنينا عن استيراد شعائر وشارات الكفر وأربابه. صورة مشرقة من صور التميز في المجتمع الإسلامي الأول كلما عاد الحديث إلى الرعيل الأول كان له حلاوة خاصة تبعث في النفس ¬

(¬1) المصدر السابق (ص 209) . (¬2) المصدر السابق (ص 216) ..

الأمل والرجاء بالاقتضاء بأولئك العظام، وتحفز الهمم لتشمر عن ساعد الجد فتلحق بركب قافلة الإيمان، ودعاة الهدى والخير. ولقد كانت الشروط العمرية التي وضعها الفاروق رضي الله عنه مثالاً رائعاً في تعامل المسلمين مع غيرهم وتميز أهل الذمة عن المسلمين مما يحفظ على المجتمع الإسلامي شخصيته المستقلة ويرعى لأولئك الذميين حقوقهم التي أمر بها هذا الدين الحنيف. إن الحرص العمري على تميز المسلمين عن غير المسلمين هو عمق هذه العقيدة في نفسه والقيام بمسؤوليته كراع للأمة يعلم أنه مسؤول عنها كما في الحديث الصحيح "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " (¬1) متفق عليه. والذي جعلني أختار موضوع أهل الذمة في هذه النقطة بالذات هو أن وضع الذميين في الدولة الإسلامية وضع خاص غير وضع الكفار الحربيين أو المهادنين. وحيث ينشأ ويعيش الذميون وسط المجتمع الإسلامي فإن هذا الشيء يجب أن يكون محاطاً بحصانة خاصة للمسلمين لئلا يؤدي احتكاكهم بالذميين إلى التشبه بهم وذوبان الشخصية الإسلامية التي أراد هذا الدين أن تكون فريد متميزة في كل شيء. ثم إن من صفات هذا الدين الحنيف العدل حتى مع الكفار، ولكن ما حدود هذا العدل وما سماته؟ خاصة وأنه قد أقر "الذميين" على العيش وسط المجتمع الإسلامي؟ الجواب: هو ما ورد في "الشروط العمرية" التي نصت على حماية المسلمين وكفلت للذميين حقوقهم على أن يكونوا هم أيضاً متميزين بزيهم وديانتهم حتى لا يلتبس المسلم بالذمي: وينتج من ذلك خليط لا يعرف له اتجاه محدد وهوية خاصة. وهذه الشروط - كما يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية - منها: ما مقصوده التمييز عن المسلمين في الشعور واللباس، والأسماء، والمراكب والكلام ¬

(¬1) صحيح البخاري (13/111 ح 7138) كتاب الأحكام وصحيح مسلم (3/1459 ح 1829) كتاب الإمارة.

ونحوها ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر. ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز، بل بالتمييز في عامة الهدي ... وذلك يقتضي: إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهراً، وترك التشبه بهم، ولقد كان أمراء الهدى مثل العمريين وغيرهما يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود. ومنها: ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها، كمنعهم من إظهار الخمر، والناقوس والنيران في الأعياد. ومنها: ما يعود بإخفاء شعار دينهم كأصواتهم بكتابهم. ومنها: ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله (¬1) . وإليك نص هذه الشروط: روى سفيان الثوري عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا قلاية (¬2) ، ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤوا جاسوساً، ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوا وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سراجاً، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفياً، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من محضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين. ¬

(¬1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (122 - 124) . (¬2) القلاية: مبنى يبنيه النصارى كالمنارة ولا تكون إلا لواحد ينفرد فيها بنفسه ولا يكون لها باب، بل فيها طاقة يتناول منها طعامه وشرابه وما يحتاج إليه. انظر أحكام أهل الذمة (2/668) .

فإن خالفوا شيئاً مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق (¬1) انتهى. ولهذه الشروط طرق أخرى في روايتها، ولكنها كلها تلتقي عند هذا المعنى، ولذلك عقب ابن القيم رحمه الله على اختلاف تلك الروايات بقوله: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها من بعده الخلفاء وعملوا بها (¬2) . سبحان الله!!! ما هذا البون الشاسع بين تلك القمة وبين هذا الغثاء الذي يعيش اليوم على الأرض متميعاً متسكعاً وراء الكفار والملاحدة. ويحسب نفسه مسلماً؟ أين تلك العزة والقوة والسلطان الرباني الذي أخذ به ذلك الجيل، وأين الضعف والاستخذاء والتبعية العمياء التي يعيشها "المسلمون" اليوم؟ ترى: هل المنتسبون اليوم للإسلام في درجة الذميين الذين طبقت عليهم هذه الشروط؟ هل "المسلمون" اليوم ذميون للكفار؟ إن الذي يظهر لي أنه حتى على هذا الافتراض الأخير فإن المسلمين اليوم أقل قدراً من ذميي الأمس. ذميو الأمس: في صغار وفى ذلة وفي زي معين ومكان معين. نعم. أما مسلمو اليوم ففي صغار وذلة واستكانة عن إسلامهم وتبعية للشرق الملحد والغرب الكافر، وإعجاب وانبهار بما عليه أعداء الإسلام، وسخرية واستهزاء بما كان عليه سلف هذه الأمة! من هنا فهم أحط قدراً عند الله - ما داموا بهذه الصفات - وأحقر من أن يهابوا ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/661 - 662) . (¬2) أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/663) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (ص12) .

نواقض عهد الذمة

وأصغر من أن يسمع لهم كلمة في المجتمع الدولي المعاصر. فعلى المسلم الصادق. المسلم الواعي. المسلم المدرك لحقيقة إسلامه أن يعرف أين يضع قدمه ولمن يهب حبه وولاءه، وأن يعلم أن حب أعداء الله وموالاتهم والتشبه بهم لا تلتقي مع صدق إيمانه وإنما يفعل ذلك من يزعم الإسلام زعماً وبئس ذلك الزعم الكاذب. وقد ذكر علماء الإسلام ما ينتقض به عهد الذمي حرصاً على حماية المسلمين من أي دخيل يستغل سماحة الإسلام فيغدر بالمسلمين. وهذه النواقض هي: - (1) الإعانة على قتال المسلمين، وقتل المسلم أو المسلمة. (2) قطع الطريق عليهم. (3) إيواء جواسيس المشركين أو التجسس للمشركين بأن يكتب لهم أسرار المسلمين. (4) الزنا بالمسلمة أو إصابتها باسم النكاح. (5) فتن المسلم عن دينه. (6) سب الله أو النبي صلى الله عليه وسلم (¬1) . والأدلة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله وجوب قتله، وقتل المسلم إذا فعل ذلك كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار (¬2) . أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ { [سورة التوبة: 12] . ¬

(¬1) انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية (5-26) . (¬2) المصدر السابق: والمراد بالاعتبار: القياس

وقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ { [سورة التوبة: 29] . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا {57} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا { [سورة الأحزاب: 57 - 58] . ومن السنة: ما رواه الشعبي عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها " (¬1) رواه أبو داود وابن بطة في سننه، والحديث متصل لأن الشعبي رأى علياً وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة. ثم إن كان فيه إرسال - لأن الشعبي يبعد سماعه من علي - فهو حجة وفاقاً، لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له مرسلاً إلا صحيحاً (¬2) . ¬

(¬1) سنن أبي داود (4/530ح 4362) كتاب الحدود، والدارقطني في الحدود (3/112 ح 102) قال الحافظ في بلوغ المرام رواته ثقات انظر التعليق ((المغني)) (3/112) . (¬2) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص61) .

وأيضاً ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: "أنشد رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام " قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اشهدوا أن دمها هدر" رواه أبو داود والنسائي (¬1) . ومن السنة أيضاً: ما احتج به الشافعي على أن الذمي إذا سب قتل وبرئت منه الذمة وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي. والحديث متفق عليه (¬2) . وأما إجماع الصحابة: فقد نقل ذلك عنهم في قضايا متعددة مستفيضة ولم ينكرها أحد فصارت إجماعاً ومن ذلك: ما رفع إلى المهاجر بن أبي أمية (¬3) ، وكان أميراً على اليمامة ونواحيها: أن امرأتين مغنيتين غنت أحدهما بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع، يدها ونزع ثنيتيها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتيها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي غنت وزمزمت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر (¬4) . ¬

(¬1) أبو داود (4/528 ح 4361) والنسائي في باب حكم من سب النبي (ج 7/108) وإسناده حسن (¬2) صحيح البخاري (7/336 ح 4037) كتاب المغازي ومسلم في الجهاد (ج 2/1425 ح 1801) . (¬3) المهاجر بن أبي أمية بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال الزبير: شهد بدراً مع المشركين ولاه رسول الله على صدقات صنعاء، ثم ولاه أبو بكر، الإصابة (3/465) . (¬4) انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص 200) .

وفي عهد عمر رضي الله عنه: جاءه رجل من أهل الكتاب - حين دخل الشام - وهو مشجوج مضروب فغضب لذلك عمر وأمر بإحضار عوف بن مالك (¬1) الأشجعي لأنه هو الذي فعل ذلك بالذمي فلما سأله عمر عن فعله هذا قال: يا أمير المؤمنين رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار فنخس بها لتصرع، فلم تصرع، فدفعها فصرعت فغشيها، وأكب عليها، فقال عمر أئتني بالمرأة فلتصدق على ما قلت فأتاها عوف، فذهب معه أبوها وزوجها فأخبر عمر بمثل قول عوف، فأمر عمر باليهودي فصلب وقال: ما على هذا صالحناكم ثم قال: يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم مثل هذا فلا ذمة له (¬2) . وأما الاعتبار: فمن وجوه: (¬3) أحدهما: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة، فكان نقضاً للعهد كالمجاهدة والمحاربة بطريق الأولى. الثاني: - إن مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفوا ويمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا، وشتم رسولنا، كما يقتضي الإمساك عن دمائنا ومحاربتنا. الثالث: إن الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره، وتعزيزه: نصره ومنعه، وتوقيره إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق. فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة، وهم يسمعونا شتم نبينا وإظهار ذلك، لأنا إذا تركناهم على هذا تركنا الواجب علينا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) عوف بن مالك الأشجعي قال الواقدي أسلم عام خيبر ونزل حمص، وقال غيره شهد الفتح وكانت معه راية أشجع، قال ابن سعد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء ومات سنة 73 في خلافة عبد الملك. الإصابة (3/43) . (¬2) الأموال لأبي عبيد (ص 235 - 236) . (¬3) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص 206 - 209) .

الأمكنة التي يمنع أعداء الله من دخولها والإقامة فيها

الأمكنة التي يمنع أعداء الله من دخولها والإقامة فيها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ { [سورة التوبة: 28] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلقوا إلى يهود" فخرجنا معه حتى إذا جئنا بيت المدراس قام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: " يا معشر اليهود: أسلموا تسلموا " فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أريد، فقال: اسلموا تسلموا، فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد، ثم قالها الثالثة فقال: "اعلموا إنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أجليكم من هذه الأرض، فممن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعملوا إنما الأرض لله ورسوله" متفق عليه ولفظه للبخاري (¬1) . وقال صلى الله عليه وسلم "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" متفق عليه (¬2) . وقال أيضاً "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً " رواه مسلم (¬3) . وهذه النصوص الصريحة الواضحة وغيرها توضح - بجلاء - مدى حرص الإسلام على حماية أمته من معاشرة الكفار، ومعايشتهم لما في ذلك من جلب ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب الإكراه (ج 12/317 ح 6944) وصحيح مسلم في الجهاد (ج3/1387 ح 1765) . (¬2) صحيح البخاري كتاب الجهاد (ج6/170 ح 3053) وصحيح مسلم في (3/1258 ح 1637) كتاب الوصية (¬3) كتاب الجهاد (3/1388 ح 1767) صحيح مسلم.

اعتراض وجوابه

لمودتهم وموالاتهم التي نهى الله عنها. قال الشافعي رحمه الله: يمنعون من الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة وقراها. أما غير الحرم منه فيمنع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به، وله الدخول بإذن الإمام لمصلحة كأداء رسالة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون: وإن دخل لتجارة ليس فيها كثير حاجة لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئاً، ولا يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث (¬1) . وعقب ابن القيم رحمه الله على كلام الشافعي بقوله: أما حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية فلو قدم رسول لم يجز أن يأذن له الإمام في دخوله، ويخرج الوالي أو من يثق به إليه، وأما حرم المدينة فلا يمنع من دخوله لرسالة أو تجارة أو حمل متاع (¬2) . اعتراض وجوابه إن قيل: إن الله سبحانه إنما منع المشركين من قربان المسجد الحرام ولم يمنع أهل الكتاب منه، ولهذا أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر أنه لا يحج بعد العام مشرك. والمشركون الذين كانوا يحجون هم عبدة الأوثان لا أهل الكتاب؟ (¬3) . والجواب: للناس قولان في دخول أهل الكتاب في لفظ المشركين: " فابن عمر رضي الله عنهما وغيره كانوا يقولون: هم من المشركين، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا أعلم شركاً أعظم من أن يقول المسيح ابن الله وعزير ابن الله، وقد قال الله فيهم: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة (1/184) وقارن بالأموال لأبي عبيد (ص90) . (¬2) أحكام أهل الذمة (1/185) . (¬3) المصدر السابق (ج1/188) .

إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ { [سورة التوبة: 31] . والثاني لا يدخلون في لفظ "المشركين" لأن الله سبحانه جعلهم غيرهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ { [سورة البقرة: 62] . " قال ابن تيمية: والتحقيق: أن دينهم دين التوحيد فليسوا من المشركين في الأصل، والشرك طارىء عليهم فهم منهم باعتبار ما عرض لهم لا باعتبار أصل الدين، فلو قدر أنهم لم يدخلوا في لفظ الآية دخلوا في عمومها المعنوي وهو كونهم نجساً والحكم يعم بعموم علته. "وجميع الصحابة والأئمة فهموا من قوله " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " إن المراد مكة كلها والحرم ولم يخص ذلك أحد منهم بنفس المسجد الذي يطاف فيه. ولما نزلت هذه الآية كانت اليهود بخيبر وما حولها ولم يكونوا يمنعون من المدينة " (¬1) ¬

(¬1) المصدر السابق (ج1/189) .

الفصل السابع

الفصل السابع تعامل المسلمين مع غير المسلمين وفيه ثلاثة مباحث - المبحث الأول: الفرق بين الموالاة وحسن المعاملة: (كلمة حول ما يسمى بزمالة الأديان) أجدني مضطراً لذكر هذه المسألة لتوضيح وبيان وجه الحق والصواب حول هذا المفهوم الخاطئ، الذي خلط فيه الحق بالباطل. وطالب العلم المبتدئ - مثلي - يعجب لمشايخ كبار من أهل العلم "وقعوا في هذا الفخ الذي تولى كبر الدعوة له أعداء هذا الدين من صليبيين ويهود"! ويراد من وراء هذا التقريب والزمالة المزعومة إضاعة تميز المسلم وانصهار شخصيته في تيار هذه الدعوة المشبوهة. ونحب أن نقرر - ابتداء - أن الرسالات السماوية التي أنزل الله بها رسله عليهم السلام كلها تدعو إلى عبادة الله وحده قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ { [سورة النحل: 26] .

مع اختلاف في الشرائع اقتضتها حكمة ربانية لا نعلمها. ولكن الرسالات التي سبقت الرسالة المحمدية الخاتمة: اعتورها التحريف والتبديل الذي صنعته أيد بشرية. {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ { [سورة البقرة: 79] . لذلك اقتضت مشيئة الله وحكمته أن تكون رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات وناسخة لما قبلها من الشرائع. ولا بد: أن نورد طرفاً من أقوال دعاة التقارب بين الأديان كما يسمون أنفسهم الذين يزعمون أنهم بصنيعهم هذا يخدمون الإسلام والبشرية كلها. يقول الشيخ مصطفى المراغي في رسالة بعث بها إلى مؤتمر الأديان العالمي: (اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني بالنسبة لأتباع الديانات السماوية الأخرى وأقر بوجود زمالة عالمية بين أفراد النوع البشري. ولم يمانع أن تتعايش الأديان جنباً إلى جنب) (¬1) ؟ ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: (إذا اختلفت الأديان فإن أهل كل دين لهم أن يدعوا إلى دينهم بالحكمة والموعظة (!!) من غير تعصب يصم عن الحقائق ولا إكراه ولا إغراء بغير الحجة والبرهان) (¬2) . ¬

(¬1) نقلاً عن آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزجيلي (ص63) الطبعة الثانية / سنة 1385 هـ وهذا الرجل دعا إلى أكثر من ذلك في تفسيره لبعض آيات القرآن. وتكلم بكلام لا يقره العامي الموحد فضلاً عن طالب العلم والعلماء!! (¬2) العلاقات الدولية في الإسلام (ص42) الناشر الدار القومية للطباعة سنة 1384 هـ.

أما الدكتور وهبة الزجيلي فيقول: (ليس من أهداف الإسلام أن يفرض نفسه على الناس فرضاً حتى يكون هو الديانة العالمية الوحيدة، إذ أن كل ذلك محاولة فاشلة، ومقاومة لسنة الوجود، ومعاندة للإرادة الإلهية) (¬1) وغير هؤلاء الثلاثة خلق كثير. والذي يظهر لي أن هؤلاء وأمثالهم اعتمدوا ما ذكره شيخهم الأول جمال الدين الأفغاني الذي كان متأثراً بأفكار الماسونية الخبيثة وهو أول من حمل راية الدعوة إلى زمالة الأديان فهو يقول في خاطراته بعنوان "نظرية الوحدة" ما نصه: "وجدت بعد كل بحث وتنقيب وإمعان أن أديان التوحيد الثلاثة على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية وإذا نقص في واحد منها شيء من أوامر الخير المطلق استكمله الثاني (!) . وعلى هذا لاح لي بارق أمل كبير أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثلما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها وأنه بهذا الاتحاد يكون البشر قد خطا نحو السلام خطوة كبيرة في هذه الحياة القصيرة وأخذت أضع لنظريتي هذه خططاً وأخط أسطراً وأحبر رسائل للدعوة كل ذلك وأنا لم أخالط أهل الأديان كلهم عن قرب وكثب ولا تعمقت في أسباب اختلاف أهل الدين الواحد وتفرقهم فرقاً وشيعاً وطوائف ... (¬2) . وهذه الأقوال فيها من المغالطات ما هو ظاهر لكل ذي عينين، فمن قال: أن الدين الإسلامي يسمح للنصراني: أن يدعو إلى نصرانيته، ولليهودي أن يدعو إلى يهوديته والبوذي أن يدعو إلى بوذيته، وغير ذلك من أديان البشر الوضعية أو الأديان المحرفة؟ هل هؤلاء الدعاة يجهلون ما ذكره القرآن عن بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء ثم تحريف التوراة والإنجيل، ثم اللعب بالكتب المنزلة حسبما تمليه عليهم أهواؤهم؟ ¬

(¬1) آثار الحرب (ص65) . (¬2) خاطرت جمال الدين الأفغاني / اختبار عبد العزيز سيد الأهل (ص14) وانظر (ص 158) الناشر دار حراء بالقاهرة.

هل هؤلاء يجهلون قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ { [سورة المائدة: 73] . وقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ { [سورة التوبة: 30] . وقوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء { [سورة النساء: 89] . وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً { [سورة البقرة: 109] . وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي تبين عداوة أهل الكتاب للمسلمين , ورحم الله الأستاذ الجليل، العالم الرباني سيد قطب حين قال: إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء؛ واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، الذي يهدف إلى إنشاء، واقع في الأرض وفق التصور الإسلامي الذي

يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية. إن هؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة لأنه ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة أهل الكتاب فيها: ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فهم يخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة، ناسين ما يقرره القرآن من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، ولن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم. وسذاجة أية سذاجة، وغفلة أية غفلة أن تظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين! أمام الكفار والملحدين! فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين! يقول السذج: إننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب للوقوف في وجه المادية والإلحاد - بوصفنا جميعاً أهل دين! ناسين تعليم القرآن كله. وناسين تعليم التاريخ كله. فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين {هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً { [سورة النساء:51] . وهم الذين ألبوا المشركين على المسلمين في المدينة وكانوا لهم درعاً وردءاً. وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام. وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين وأحلوا اليهود محلهم، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية! وأهل الكتاب هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان في الحبشة

والصومال وأرتيريا وغيرها حيث يتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند وفي كل مكان! إن هؤلاء الذين يظنون - وهم واهمون - أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر ندفع به المادية الإلحادية عن الدين: لا يقرأون القرآن، وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن. ومن هنا يحاولون تمييع المفاصلة الحاسمة بين المسلمين وأهل الكتاب، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية. فكما أنهم مخطئون في فهم الأديان هم أيضاً مخطئون في فهم معنى التسامح. إن الدين الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الدين عند الله. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي. أما هؤلاء، فيحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم الذي يقرر أن الله لا يقبل ديناً إلا الإسلام، وأن على المسلم أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلاً، ولا يقبل فيه تعديلاً - ولو طفيفاً - قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ { [سورة آل عمران: 19] . {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ { [سورة آل عمران: 85] . والإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء، ودعاهم إلى الإسلام جميعاً لأن هو "الدين" الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً..والمسلم مكلف أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام، كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء، وهو غير مأذون في أن يكره أحد من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام، لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه، فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه، هو كذلك لا ثمرة له (¬1) . ¬

(¬1) بتصرف: انظر في ظلال القرآن (ج 2/909 - 915) .

الفرق بين الموالاة والمعاملة بالحسنى

الفرق بين الموالاة والمعاملة بالحسنى قلنا قبل قليل أن الولاء شيء والمعاملة بالحسنى شيء آخر والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ { [سورة الممتحنة:8] . وقد اختلف أهل العلم في تفسيرها فقال بعضهم أن المعني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا فأذن الله للمؤمنين ببرهم والإحسان إليهم وإلى هذا ذهب مجاهد. وقال آخرون: عني بها من غير أهل مكة من لم يهاجر. وقال آخرون: بل عني بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجوهم من ديارهم ونسخ الله ذلك بعد بالأمر بقتالهم. ويروى هذا عن قتادة (¬1) . ورجح ابن جرير: أن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. لأن الله عز وجل عم بقوله: [الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم] . جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقوله من قال: ذلك منسوخ. لأن بر المؤمن أحداً من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن ¬

(¬1) تفسير الطبري (28/66) .

لا قرابة بينهما ولا نسب غير محرم، ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلاله له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. ويبين ذلك الخبر المروي عن ابن الزبير في قصة أسماء مع أمها (¬1) . والإسلام بفعله هذا - حتى في حالة الخصومة - يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع (¬2) . وقد سبق الحديث في أول هذا البحث: أن الله أمر بصلة الأقارب الكفار والمشركين وأن ذلك ليس موالاة لهم في شيء. ونزيد هذا الأمر إيضاحاً بقصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها مع أمها فقد روى البخاري ومسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت - قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: [نعم صلي أمك] (¬3) . قال الخطابي: فيه - أي الحديث - أن الرحم الكافرة توصل من المال ونحوه كما توصل المسلمة ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلماً (¬4) . قال ابن حجر: البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ { [سورة المجادلة: 22] . ¬

(¬1) تفسير الطبري (28/66) . (¬2) انظر الظلال (6/3544) . (¬3) صحيح البخاري كتاب الهبة باب الهدية للمشركين (5/233 ح 2620) وصحيح مسلم (2/696 ح 1003) كتاب الزكاة. (¬4) فتح الباري (5/234) .

فإنها عامة في حق من قاتل ومن لم يقاتل (¬1) . وقال ابن القيم: الذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق، وإن اختلف الدينان لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا { [سورة لقمان: 14 –15] . وليس من الإحسان ولا من المعروف ترك أبيه وأمه في غاية الضرورة والفاقة وهو في غاية الغنى. وقد ذم الله قاطعي الرحم وعظم قطيعتها وأوجب حقها وإن كانت كافرة لقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ { [سورة النساء: 1] . وقي الحديث " لا يدخل الجنة قاطع رحم " (¬2) . وصلة الرحم واجبة، وإن كانت لكافر، فله دينه وللواصل دينه وقياس النفقة على الميراث قياس فاسد، فإن الميراث مبناه على النصرة والموالاة بخلاف النفقة فإنها صلة ومواساة من حقوق القرابة. ¬

(¬1) فتح الباري (5/233) . (¬2) صحيح البخاري كتاب الأدب باب إثم القاطع (10/415 ح 5984) وصحيح مسلم في (4/1981 ح 2556) كتاب البر والصلة ويلاحظ هنا: أن النكرة وقعت في سياق النفي فتعم.

وقد جعل الله للقرابة حقاً - وإن كانت كافرة - فالكفر لا يسقط حقوقها في الدنيا. قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ { [سورة النساء: 36] . وكل من ذكر في هذه الآية فحقه واجب وإن كان كافراً، فما بال ذي القربى وحده يخرج من جملة من وصى الله بالإحسان إليه (¬1) ؟ من هنا: يتضح لنا: أن الموالاة الممثلة في الحب والنصرة شيء. والنفقة والصلة والإحسان للأقارب الكفار شيء آخر. وسماحة الإسلام أيضاً تتضح في معاملة الأسرى والشيوخ والأطفال والنساء في الحرب. كما هو معلوم من صفحاته المشرقة. ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة (2/417 - 418) .

- المبحث الثاني التعامل مع الكفار:

- المبحث الثاني التعامل مع الكفار: 1- البيع والشراء: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأصل أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا مما دل الكتاب والسنة على شرعه. إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرمه الله، بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دون الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (¬1) . وانطلاقاً من هذه القاعدة وبناء على النصوص الشرعية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الراشدين وأئمة المسلمين نقول: إن التعامل مع الكفار في البيع والشراء والهدية وخلاف ذلك لا يدخل في مسمى الموالاة، بل يباح للمسلم البيع والشراء مع الكفار فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يسأل عن معاملة التتار فيقول: " يجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم وخيلهم ونحو ذلك كما يبتاع من مواشي الأعراب والتركمان والأكراد ويجوز أن يبيعهم من الطعام والثياب ونحو ذلك ما يبيعه لأمثالهم. ¬

(¬1) السياسة الشرعية (ص 155) .

" فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات، كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { [سورة المائدة: 2] . وإذا كان الذي معهم أو مع غيرهم، أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم فذلك لا يجوز اشتراؤها لمن يمتلكها لكن إذا اشتريت على طريق الاستنقاذ لتصرف في مصارفه الشرعية فتعاد إلى أصحابها - إن أمكن - وإلا صرفت في مصالح المسلمين: جاز هذا. وإذا علم أن في أموالهم شيئاً محرماً لا تعرف عينه، فهذا لا تحرم معاملتهم فيه كما إذا علم أن في الأسواق ما هو مغصوب ومسروق ولم يعلم عينه " (¬1) . وقد روى البخاري في كتاب البيوع باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء، رجل مشرك مشعان (¬2) طويل بغنم يسوقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بيعاً أم عطية " أو قال: أم هبة؟ فقال: لا. بيع فاشترى منه شاة (¬3) . قال ابن بطال: معاملة الكفار جائزة إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين (¬4) . وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من يهودي ثلاثين وسقاً من شعير ورهنه درعه (¬5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: - "وإذا سافر الرجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دل عليه ¬

(¬1) المسائل الماردينية (ص 132 - 133) تحقيق الشاويش الطبعة الثالثة سنة 1399هـ. (¬2) أي طويل مشعث الشعر (¬3) صحيح البخاري (4/410 ح 2216) . (¬4) فتح الباري (4/410) . (¬5) مسند أحمد (5/137 ح 3409) تحقيق أحمد شاكر وقال: إسناده صحيح

2- الوقف عليهم أو وقفهم على المسلمين:

حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام وهي حينذاك دار حرب وغير ذلك من الأحاديث. "فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم: فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل وهو: أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنباً أو عصيراً يتخذونه حمراً. وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحاً يقاتلون به مسلماً (¬1) . 2- الوقف عليهم أو وقفهم على المسلمين: قال ابن القيم: أما ما وقفوه. فينظر فيه، فإن وقفوه على معين أو جهة يجوز للمسلم الوقف عليها كالصدقة على المساكين والفقراء وإصلاح الطرق والمصالح العامة، أو على أولادهم وأنسالهم وأعقابهم: فهذا الوقف صحيح. حكمه حكم وقف المسلمين على هذه الجهات لكن إذا شرط في استحقاق الأولاد والأقارب بقاءهم على الكفر " فإن أسلموا لم يستحقوا شيئاً ": لم يصح هذا الشرط، ولم يجز للحاكم أن يحكم بموجبه باتفاق الأمة لأنه مناقض لدين الإسلام، مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. أما وقف المسلم عليه: فإنه يصح منه ما وافق حكم الله ورسوله، فيجوز أن يقف على معين منهم، أو على أقاربه، وبني فلان ونحوه. ولا يكون الكفر موجباً ولا شرطاً في الاستحقاق ولا مانعاً منه - فلو وقف على ولده أو أبيه أو قرابته استحقوا ذلك وإن بقوا على كفرهم، فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق. وأما الوقف على كنائسهم وبيعهم ومواضع كفرهم التي يقيمون فيها شعار ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص 229) .

3- عيادتهم وتهنئتهم:

الكفر: فلا يصح من كافر ولا مسلم. فإن في ذلك أعظم الإعانة له على الكفر والمساعدة والتقوية عليه، وذلك مناف لدين الله (¬1) . 3- عيادتهم وتهنئتهم: روى البخاري في كتاب الجنائز عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " الحمد لله الذي أنقذه من النار" (¬2) . وروى أيضاً: قصة أبي طالب حين حضرته الوفاة فزاره النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الإسلام (¬3) . قال ابن بطال: إنما تشرع عيادته إذا رجي أن يجيب إلى الدخول في الإسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا (¬4) . قال ابن حجر: والذي يظهر: أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى (¬5) . " أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك مثل أن يهنأهم بأعيادهم فيقول: عيدك مبارك، أو تهنأ بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة (1/299-302) وانظر مجموعة الرسائل والمسائل (1/229) . (¬2) صحيح البخاري (3/219 ح 1356) . (¬3) صحيح البخاري (3/222 ح 1360) كتاب الجنائز. (¬4) فتح الباري (10/119) . (¬5) فتح الباري (10/119) .

وكثير مما لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبداً بمعصية، أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات، وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والافتاء تجنباً لمقت الله وسقوطهم من عينه " وإن بلي الرجل فتعاطاه دفعاً لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيراً ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك " (¬1) . ويدخل في هذا أيضاً: تعظيمهم ومخاطبتهم بالسيد والمولى وذلك حرام قطعاً، ففي الحديث المرفوع "لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد اسخطتم ربكم عز وجل " (¬2) . ولا يجوز أيضاً تلقيبهم - كما يقول ابن القيم - بمعز الدولة أو فلان السديد، أو الرشيد أو الصالح ونحو ذلك. ومن تسمى بشيء من هذه الأسماء لم يجز للمسلم أن يدعوه به، بل إن كان نصرانياً قال: يا نصراني، يا صليبي، ويقال لليهودي، يا يهودي. ثم قال ابن القيم بالنص (.. وأما اليوم فقد وقفنا إلى زمان يصدرون في المجالس، ويقام لهم وتقبل أيديهم ويتحكمون في أرزاق الجند، والأموال السلطانية، ويكنون بأبي العلاء وأبي الفضل، وأبي الطيب، ويسمون حسناً وحسيناً وعثمان وعلياً! وقد كانت أسماؤهم من قبل: يوحنا ومتى وجرجس وبطرس وعزراً وأشعياً، وحزقيل وحيي، ولك زمان دولة ورجال) (¬3) . هـ. وإذا كان هذا كلام العلامة ابن القيم وهو المتوفى سنة 751 هـ رحمه الله. فلينظر المسلم اليوم إلى هذا الغثاء الذي هو كغثاء السيل، ينتسبون للإسلام وهم ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة لابن القيم (1/205 - 206) . (¬2) سنن أبي داود (5/257 ح 4977) كتاب الأدب قال الألباني إسناده صحيح. انظر المشكاة (3/1349 ح 4780) . (¬3) أحكام أهل الذمة (2/771) .

4- حكم السلام عليهم:

يتبعون أعداء الله في كل صغيرة وكبيرة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه، وليست تبعية لهم فحسب بل إنها تبعية بإعجاب وانبهار! فما تمر بأعدائنا مناسبة إلا وتنهال التهاني عليهم من كل حدب وصوب بالتهنئة والتبريك ومعسول الأماني!! 4- حكم السلام عليهم: اختلف العلماء في معني قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام حين دعا أباه فأبى قال إبراهيم "سلم عليك" [سورة مريم: 47] . فأما الجمهور فقالوا: المراد بسلامه المسالمة التي هي المشاركة لا التحية. وقال الطبري: معناه: أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام (¬1) . وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق. وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال نعم: قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ { [سورة الممتحنة: 8] . وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ { [سورة الممتحنة: 4] . وقال إبراهيم لأبيه "سلام عليك" قال القرطبي: قلت: والأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة (¬2) ¬

(¬1) تفسير القرطبي (11/111-112) . (¬2) تفسير القرطبي (11/111-112) .

وفي الشأن حديثان: فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "" لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه " (¬1) . وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه اختلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه برادئه ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) الحديث. قال القرطبي: " فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء، لأن ذلك إكرام والكافر ليس أهله والثاني: يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة، فإنه ليس أحدهما خلاف للآخر، وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص: قال النخعي إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأ بالسلام. فبان بهذا أن حديث أبي هريرة " لا تبدؤهم بالسلام " إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤهم بالسلام من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: قد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه قال له علقمة: يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أنه يبدؤا بالسلام؟ قال: نعم. ولكن حق الصحبة. وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك وروي عن الحسن البصري أنه قال إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم) (¬3) . ¬

(¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري (11/38 ح 6254) كتاب الاستئذان وصحيح مسلم في الجهاد (3/1422 ح 1798) . (¬3) تفسير القرطبي (11/112) .

قال ابن القيم: إن صاحب هذا الوجه - أي من أجاز ابتداءهم بالسلام - قال يقال له - السلام عليك. فقط بدون ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد (¬1) . (أما رد السلام عليهم فاختلف في وجوبه: فالجمهور على وجوبه وهو الصواب. وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم كما لا يجب على أهل البدع وأولى والصواب الأولى: والفرق: أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيراً لهم وتحذيراً منهم بخلاف أهل الذمة " (¬2) . قلت: ومما يرجح رأي الجمهور في وجوب الرد على أهل الكتاب قوله صلى الله عليه وسلم " إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم. فقل وعليك (¬3) . وقوله صلى الله عليه وسلم " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " (¬4) ¬

(¬1) زاد المعاد (ج2/425) . (¬2) زاد المعاد (2/425) . (¬3) صحيح البخاري (11/42 ح 6257) كتاب الاستئذان وصحيح مسلم في السلام (4/ 1706 ح 2164) . (¬4) صحيح البخاري (11/42 ح 6258) كتاب الاستئذان وصحيح مسلم في السلام (4/1705 ح 2163) .

- المبحث الثالث: الانتفاع بالكفار وبما عندهم:

- المبحث الثالث: الانتفاع بالكفار وبما عندهم: إن الإسلام يتسامح في أن يتلقى المسلم من غير المسلم ما ينفعه في علم الكيمياء والفيزياء والفلك والطب والصناعة والزراعة والأعمال الإدارية وأمثال ذلك. وهذا حين تنعدم الاستفادة من هذه العلوم من مسلم تقي (¬1) . كذلك يجوز الانتفاع بهم في دلالة الطريق وما عندهم من سلاح وملابس وغير ذلك من الحاجات التي يحتاجها الناس، وجرت العادة فيها أن المسلم والكافر يستويان في الانتفاع بها. ولكن الإسلام لا يبيح بل يرفض أن يتلقى المسلم أي شيء يتعلق بعقيدته أو مقومات تصوره، أو تفسير قرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو منهج تاريخه أو نظام حكمه ومنهج سياسته أو موجبات أدبه وتعبيره ممن لا يؤمن بهذا الإسلام (¬2) . وقد سبق في أول هذا البحث أن قلنا: إن المسلمين وقعوا في غلطة كبرى حين استوردوا فلسفة اليونان وتصوف الهنود والفرس لأنها غثاء إذا مزج بالتصور الإسلامي التقي نتج من ذلك خليط من غبش العقيدة وانحراف التصورات. وأحسنوا حين ترجموا كتب الطب والكيمياء ودفعهم ذلك إلى اكتشاف علوم جديدة منها علم الجبر , فقد كانت العقلية الإسلامية المتنورة بنور الله قادرة على الابتكار والإبداع في المجال العلمي بكل ميادينه وفي المجال الأدبي والثقافي. ¬

(¬1) انظر معالم في الطريق (ص 131 - 132) وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/114) . (¬2) انظر المصدر السابق معالم في الطريق (ص 131) .

ذلك أن لديهم من مقومات هذه العقيدة ومقتضياتها ما يدفعهم للعمل بجد وصبر. وهم يعلمون أن ذلك جزء من عبادة الله. لأن نفع ما توصلوا إليه لم ينفعهم هم فحسب بل تعدى ذلك إلى كافة الناس حتى أن أوروبا ظلت قرونا طوالاً تعتمد على النظريات الإسلامية والأبحاث التي ابتكرها المسلمون. وانعكس هذا على التقدم العلمي الذي توصل إليه الغرب في القرون الأخيرة، بعد أن نام المسلمون وتركوا مركز القيادة والريادة في كل شيء حتى جاءت الأجيال التي نشهدها اليوم فإذا بها عالة على تلاميذ أجدادها بالأمس! من أجل ذلك نقول: ونحن نستبشر بالخير حيث بدأ الزحف الإسلامي اليوم في كل أرض - إنه ينبغي للمسلمين أن يعرفوا ماذا يأخذون من غيرهم فيستفيدون به، وماذا يتركونه لئلاً يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم. إن عليهم أن يجعلوا هذه العقيدة الإسلامية هي القاعدة التي يقوم عليها البناء الإسلامي من جديد ثم يستوردون من غير المسلمين ما ينقصهم في المجال (العلمي البحت) ويكون هذا الاستيراد بحذر وذكاء، حيث تصاغ هذه العلوم بصياغة علمية مؤمنة سليمة من صياغة الملاحدة ودعاة "اللادين". وقد يقول قائل: وما دخل الأسلوب العلمي البحت في الأسلوب الديني؟ والجواب: أنه لا فصل بين دين وعلم، بل الدين الإسلامي هو دين العلم. وصياغة الأسلوب العلمي من منطلق إسلامي صحيح يغرس في النفوس إيماناً عميقاً بقدرة الخالق سبحانه وتعالى وعظيم صنعه وإبداعه في هذا الكون بكل ما فيه. ثم إن هذا الاعتراض فيه مغالطة ظاهرة: فإنه مهما ادعى المتجردون للأسلوب العلمي أنهم "حياديون " فإنه يستحيل أن تكون صياغة من تلقى نظرية ماركس أو فرويد أو دور كايم لنظرية علمية ما، مثل صياغة من كان بنفس الكفاءة العلمية ولكنه تلقى عقيدة " لا إله إلا الله " من مشكاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وهذا أمر ظاهر لا يستطيع أن ينكره إلا مكابر أو جاهل يجهل أنه يغالط نفسه.

شروط عمل المسلم عند كافر في أرض الحرب

وأدلة الانتفاع بالكفار نجدها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره في كتاب الإجازة باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام عن عائشة رضي الله عنها واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل ثم من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً - الخريت: الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاصي بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا (¬1) الحديث. قال ابن القيم: اسمه عبد الله بن اريقط الدؤلي وفي استئجاره وهو كافر: دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والأدوية والحساب والعيوب ونحوها، ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة ولا يلزم من مجرد كونه كافراً أن لا يوثق به في شيء أصلاً، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة (¬2) . قال ابن بطال: عامة الفقهاء، يجيزون استئجارهم - أي المشركين - عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك لما فيه من إذلال المسلم (¬3) . ولكن ما هو الحكم لو آجر المسلم نفسه من كافر؟ والجواب على ذلك ما رواه البخاري أيضاً عن خباب رضي الله عنه قال: كنت رجلاً قيناً فعملت للعاص بن وائل فاجتمع لي عنده، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: أما والله حتى تموت ثم تبعث فلا قال: وإني لميت ثم مبعوث؟ قلت: نعم. قال: فإنه سيكون لي ثم مال وولد، فأقضيك: فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا { (¬4) [سورة مريم: 77] . ¬

(¬1) صحيح البخاري 4/442 ح 2263 كتاب الإجازة. (¬2) بدائع الفوائد (3/208) . (¬3) فتح الباري (4/442) . (¬4) صحيح البخاري كتاب الإجازة باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب (4/452 ح 2275) .

حكم استئجار المشرك في الغزو

قال المهلب: كره أهل العلم ذلك - أي مؤاجرة نفسه من مشرك في أرض الحرب - إلا لضرورة بشرطين أحدهما أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين (¬1) . أما استئجار المشرك في الغزو فقد ورد النهي بذلك: ففي الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة (¬2) أدركه رجل، قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه. فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "تؤمن بالله ورسوله "؟ قال: لا. قال: " فارجع فلن أستعين بمشرك " قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال: " فارجع فلن أستعين بمشرك " قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة " تؤمن بالله ورسوله"؟ قال: نعم. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فانطلق" (¬3) . ولكن الحازمي (¬4) قال: اختلف أهل العلم في هذا الباب: فذهبت جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين مطلقاً، وتمسكوا بظاهر هذا. الحديث. وقالوا: هذا حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وما يعارضه لا يوازيه في الصحة والثبوت فتعذر ادعاء النسخ لهذا. وذهبت طائفة: إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه ويستعين بهم ولكن بشرطين: (1) أن يكون في المسلمين قلة وتدعو الحاجة إلى ذلك. (2) أن يكونوا ممن يوثق بهم فلا تخش ثائرتهم. ¬

(¬1) فتح الباري (4/452) . (¬2) موضع على بعد أربعة أميال من المدينة. (¬3) صحيح مسلم (3/1499 ح 1817) كتاب الجهاد. (¬4) هو الإمام أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم المعروف بالحازمي من رجال الحديث أصله من همذان، ولد سنة 548 هـ وتوفى ببغداد سنة 584 هـ: الأعلام للزركلى (7/117) الطبعة الرابعة

فمتى فقد هذان الشرطان لم يجز للإمام أن يستعين بهم، قالوا: ومع وجود الشرطين يجوز الاستعانة بهم. وتمسكوا في ذلك بما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع، واستعان بصفوان بن أمية في قتال هوازن يوم حنين، قالوا: وتعين المصير إلى هذا لأن حديث عائشة رضي الله عنها كان يوم بدر وهو متقدم فيكون منسوخاً (¬1) . ثم قال: " ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعاً ولا يسهم لهم (¬2) . ويدعم ابن القيم هذا الرأي وهو يتحدث عن فوائد صلح الحديبية فيقول: الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة لأن عينه صلى الله عليه وسلم الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم (¬3) . وقال في فوائد غزوة حنين. للإمام أن يستعير سلاح المشركين وعدتهم لقتال عدوه. كما استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرع صفوان بن أمية وهو يؤمئذ مشرك (¬4) . وتبعه الإمام محمد بن عبد الوهاب فقال: الانتفاع بالكفار في بعض أمور الدين ليس مذموماً لقصة الخزاعي (¬5) . ونلخص إلى القول: إن الانتفاع بالكفار وبما عندهم من العلوم التي هي من اجتهاد الإنسان أمر جائز في الإسلام وأدلته كثيرة سبق ذكر بعضها، ومنها أيضاً: مزارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها (¬6) ¬

(¬1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي (ص 219) تحقيق راتب حاكمي (¬2) المصدر السابق (ص220) . (¬3) زاد المعاد (3/301) وقصة الخزاعي في تاريخ الطبري (2/625) . (¬4) زاد المعاد (3/479) والقصة في السيرة لابن هشام (4/83) وتاريخ الطبري (3/73) . (¬5) ملحق مصنفات الإمام محمد بن عبد الوهاب (ص 7) . (¬6) الحديث في صحيح البخاري كتاب المزارعة باب المزارعة مع اليهود (5/15 ح 2331) .

نصوص تاريخية تثبت خيانة اليهود والنصارى في ولايات المسلمين

أما إجارة المسلم نفسه لهم فجائز إذا لم يكن في ذلك تعظيم لدينهم أو شعائرهم أو ما فيه ذلة ومهانة له. وأما الاستعانة بهم في الغزو فجائز ولكن ذلك منوط بإمام المسلمين إذا رأى أن المصلحة تقتضي استخدامهم وإلا فلا. ومع هذا فإنه يجب الاحتراز ومنع استعمال الكفار في شيء من ولايات المسلمين التي يكون فيها سلطة لهم على المسلمين كالدواوين فإن في ذلك جناية على الإسلام والمسلمين، ففضلاً عن أن ذلك مخالفة صريحة لحكم الشرع الإسلامي وهيمنته على الأرض فإنه أيضاً إذلالاً صريح للمسلمين حتى الذين توهموا أن ذلك أمر جائز. وإليك بعضاً من النصوص والحوادث التاريخية الهامة التي يبدو فيها كيد أعداء الله للإسلام حين تولوا هذه المناصب الهامة. روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتباً نصرانياً. قال: مالك؟ قاتلك الله؟ أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { [سورة المائدة: 51] . ألا اتخذت حنيفاً؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته، وله دينه، قال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله " (¬1) . وكتب عمر رضي الله عنه أيضاً إلى أبي هريرة كتاباً جاء فيه: ".. ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك. وساعد على مصالح المسلمين بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملاً لأثقالهم (¬2) . ¬

(¬1) هكذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (ص50) أن هذا الحديث رواه أحمد ولم أجده في مسند أبي موسى، وقد أورده البيهقي في السنن الكبرى (10/127) كتاب آداب القاضي. (¬2) أحكام أهل الذمة (1/212 7) .

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى بعض عماله: (أما بعد: فإنه بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ { [سورة المائدة: 57] . فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد - يعني ذلك الكاتب - إلى الإسلام فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه) (¬1) . ولما فشا استخدام أهل الكتاب في مصالح المسلمين أيام الخلافة العباسية نهض أحد العلماء بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الشأن وهو شبيب بن شيبة (¬2) فقد استأذن على أبي جعفر المنصور فإذن له فقال ( ... يا أمير المؤمنين اتق الله فإنها وصية الله، إليكم جاءت وعنكم قبلت، وإليكم تؤدى، وما دعاني إلى قولي إلا محض النصيحة لك والإشفاق عليك، وعلى نعم الله عندك. اخفض جناحك إذا علا كعبك وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك. يا أمير المؤمنين إن دون بابك نيراناً تأجج من الظلم والجور لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يا أمير المؤمنين سلطت الذمة على المسلمين، ظلموهم وعسفوهم، وأخذوا ضياعهم وغصبوهم أموالهم، وجاروا عليهم، واتخذوك سلماً لشهواتهم، وإنهم ¬

(¬1) المصدر السابق (1/214) . (¬2) شبيب بن شيبة بن عبد الله التميمي المنقيري الأهتمي. أديب الملوك وجليس الفقراء، وأخو المساكين كان يقال له (الخطيب) لفصاحته وكان شريفاً من الدهاة، يفزع إليه أهل بلده في حوائجهم. انظر ترجمته في شذرات الذهب 1/256 وتهذيب التهذيب (4/307) والأعلام (3/156) .

مراعاة الفرق بين استخدام الكافر كفرد وبين كونه صاحب سلطة ونفوذ

لن يغنوا عنك من الله شيئاً يوم القيامة. فقال المنصور خذ خاتمي فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين وقال: يا ربيع: اكتب إلى الأعمال واصرف من بها من الذمة. ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه، فقال شبيب: يا أمير المؤمنين: إن المسلمين لا يأتونك وهؤلاء الكفرة في خدمتك، إن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغروك بهم، ولكن تولي في اليوم الواحد عدة، فكلما وليت رجلاً عزلت آخر (¬1) . وخلاصة القول: إنه ينبغي التفريق بين استخدام الكافر كشخص بمفرده في أمر من الأمور وبين استخدامه كصاحب سلطة ونفوذ في أمر من أمور الدولة الإسلامية. فالأول جائز وبه وردت أدلة سبق ذكرها كما علمت. والثاني لا يجوز لمنافاته مضمون وروح الشريعة الإسلامية وهدفها الأساسي وهو أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. والخير كل الخير في أن يعتمد المسلمون على أنفسهم من أجل أن تبقى الأمة الإسلامية أمة متميزة ذات طابع خاص، مصبوغة بصبغتها الربانية التي أرادها الله لها. سائلين المولى سبحانه أن يأتي باليوم الذي يعود فيه المسلمون لدينهم الصحيح وقد استغنوا في كل أمورهم وشؤونهم عن الكفار وسائر الأعداء، وما ذلك على الله بعزيز. التقية والإكراه وهما أمران ورد حكمهما في الشريعة الإسلامية لبيان حالات معينة من حالات الضرورة التي قد تعرض للمسلم. ¬

(¬1) المصدر السابق (1/215) . هذا وقد وردتني ملاحظات قيمة من إخوة فضلاء بخصوص هذا الموضوع حيث مالوا فيها إلى ترجيح عدم الاستعانة بالمشرك. وأنا قد ذكرت الرأيين في هذا ولعلي في طبعة قادمة إن شاء الله أتوسع في هذا الموضوع وأعيد صياغته، والله الموفق.

متى تكون التقية؟

تعريف التقية: عرفها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيما روي عنه أنه قال: التقاة: التكلم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان (¬1) وقال أبو العالية: التقية باللسان وليس بالعمل (¬2) . وقال ابن حجر العسقلاني: التقية الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير (¬3) . وقال الأستاذ سيد قطب: التقية: تقية اللسان لا ولاء القلب، ولا ولاء العمل وليس من التقية المرخص بها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر، كما أنه ليس من التقية أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية فما يجوز هذا الخداع على الله (¬4) . متى تكون التقية؟ قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإلى اللهِ الْمَصِيرُ { [سورة آل عمران: 28] . قال البغوي: نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان ¬

(¬1) تفسير الطبري: (3/228، 229) . (¬2) تفسير الطبري: (3/228، 229) . (¬3) فتح الباري (12/314) . (¬4) انظر الظلال: (1/386) .

وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية قال تعالى: [إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان] ثم هذه رخصة فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم (¬1) . وقال ابن القيم: معلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم (¬2) . (ولأن باب التقاة باب يمكن أن ينفذ منه الشيطان بسهولة يزين للضعفاء ومرضى القلوب أن يركنوا إلى أعداء الله قال بعدها مباشرة: (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) يحذركم في الدنيا أن تتخذوا هذا الباب تكأة، وتستهلوا هذه الكبيرة - وهي موالاة أعداء الله - وينذركم أن إليه المصير فيجازيكم على ما فعلتم في الدنيا، فلا تحسبوا أن ترتكبوا هذه الكبيرة في الأرض - مخادعين أنفسكم أو مخادعين الناس - ثم تنجوا من عذاب الله في الآخرة) (¬3) . وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً { [سورة آل عمران: 28] . أي إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل (¬4) . ¬

(¬1) تفسير البغوي (1/336) وانظر أحكام القرآن للجصاص (2/289) . (¬2) بدائع الفوائد (3/69) . (¬3) دراسات قرآنية (326 - 327) . (¬4) تفسير الطبري (ج 3/228) .

الإكراه

الإكراه: قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {106} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ { [سورة النحل: 106-107] . قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت الآية - الأولى - في عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً. فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر، فقال: " كلا: إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه " (¬1) فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " (¬2) فأنزل الله هذه الآية (¬3) . قال الطبري في معنى الآية: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره على ¬

(¬1) هذا اللفظ ضعيف وإنما اللفظ الصحيح هو ما رواه الحاكم في مستدركه (3/392 - 393) وكذلك النسائي في (8/111) كتاب الإيمان هكذا: (ملىء عمار إيماناً إلى مشاشه) وهو حديث صحيح كما قال الألباني. انظر صحيح الجامع الصغير (5/211 ح 5764) وسلسلة الأحاديث الصحيحة (2/466 ح 807) . (¬2) حديث مرسل ورجاله ثقات. انظر فتح الباري (12/312) . (¬3) أسباب النزول للواحدي 162 وانظر تفسير الطبري (14/182) وتفسير ابن كثير (4/525) .

شروط الإكراه

الكفر فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح عليه عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً: فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (¬1) . وسبب ذلك: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا (¬2) . شروط الإكراه قال ابن حجر: شروط الإكراه أربعة: (1) أن يكون فاعله قادراً على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزاً عن الدفع ولو بالفرار. (2) أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك. (3) أن يكون ما هدد به فورياً، فلو قال: إن لم تفعل كذا ضربتك غداً لا يعد مكرهاً. ويستثنى ما إذا ذكر زمناً قريباً جداً، أو جرت العادة بأنه لا يخلف. (4) أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره. ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق (¬3) . قال الخازن: قال العلماء: يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل والضرب ¬

(¬1) تفسير الطبري (14/182) . (¬2) تفسير ابن كثير (4/525) . (¬3) فتح الباري (12/311- 312) .

الشديد، والإيلامات القوية مثل التحريق بالنار ونحوه (¬1) . وأجمعوا أيضاً: على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة الكفر تصريحاً، بل يأتي بالمعاريض وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان، غير معتقد ما يقوله من كلمة الكفر، ولو صبر حتى قتل كان أفضل لفعل ياسر وسمية وصبر بلال على العذاب (¬2) . لقد كان بلال رضي الله عنه تفعل به الأفاعيل حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم ويقول: أحد. أحد. ويقول - والله لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها (¬3) . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري (¬4) لما قال مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. فيقول أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك (¬5) . وكما فعل الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي: (¬6) فإنه لما أسرته الروم جاءوا به إلى ملكهم فقال له: تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي، فقال له: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت. فقال: إذا أقتلك ¬

(¬1) تفسير الخازن: (4/117) . (¬2) تفسير الخازن: (4/117) . (¬3) انظر تفسير ابن كثير (4/525) . (¬4) حبيب بن زيد بن عاصم بن عمرو الأنصاري أخو عبد الله بن زيد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد العقبة من الأنصار وقال هو الذي أخذه مسيلمة فقتله. قال ابن سعد شهد حبيب أحداً والخندق والمشاهد (الإصابة) (1/307) . (¬5) تفسير ابن كثير (4/525) . (¬6) هو عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي وأمه آمنة بنت حرثان من بني الحارث، وهو من السابقين الأولين، يقال أنه شهد بدراً، ولم يذكره موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق ولا غيرهما من أصحاب المغازي وقصته مع ملك الروم ذكرت سابقاً. انظر ترجمته في الإصابة (2/296) وتهذيب التهذيب (5/185) .

أنواع الإكراه

قال: أنت وذاك، فأمر به فصلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فأنزل، ثم أمر بقدر، في رواية ببقرة من نحاس فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرفع في البكرة ليلقي فيها، فبكى فطمع فيه ودعاه فقال له: إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله! وفي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياماً ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه، ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ قال: أما أنه قد حل لي ولكن لم أكن لأشمتك في، فقال له الملك: فقبل رأسي وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي أسارى المسلمين، قال: نعم فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده، فلما رجع قال عمر بن الخطاب: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبل رأسه (¬1) أنواع الإكراه: (1) الإلجاء حيث ينعدم الرضا والاختيار، وتنتفي الإرادة والقصد، وذلك بالوقوع تحت التعذيب الشديد أو نحو ذلك، وهذه الحالة هي التي نزلت فيها آية النحل: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان { (¬2) [سورة النحل: 106] . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (4/526) . (¬2) كتاب: حد الإسلام وحقيقة الإيمان للأستاذ عبد المجيد الشاذلي (ص523) مكتوب بالآلة الكاتبة

(2) التهديد: حيث ينعدم الرضا، ولا ينعدم الاختيار تماماً وهذه في مثل الحالة التي يختار فيها الإنسان أخف الضررين مثل حال شعيب عليه السلام مع قومه إذ خيروه بين العودة إلى الكفر أو الخروج من قريتهم {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ {88} قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ { [سورة الأعراف: 88-89] . فلا تجوز الاستجابة لمثل هذا الإكراه لهذا النص ولقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ { (¬1) [سورة العنكبوت: 10] . ¬

(¬1) كتاب: حد الإسلام وحقيقة الإيمان للأستاذ عبد المجيد الشاذلي (ص523) مكتوب بالآلة الكاتبة

(3) الاستضعاف: وهنا لا تعذيب ولا تهديد ولكن المستضعف داخل تحت وضع مفروض عليه من غيره كالمقيم في مكة بعد هجرة المسلمين عنها، فإذا كان دخوله تحت هذا الوضع لعجزه عن دفعه وعن الخروج منه، ولو أمكنه ذلك لفعل مهما كانت تضحياته وتكاليفه فهذا قد عفا الله عنه (¬1) . أما إذا كان قادراً على الدفع أو الخروج ولم يفعل ذلك إيثاراً للعاقبة فقد سبق كلام الشيخ ابن عتيق وغيره في ذلك. قال ابن تيمية: تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضع، إن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب وقيد، ولا يكون الكلام إكراهاً (¬2) . كلمة أخيرة حول الإكراه إنه من المهم والواجب التفريق بين الإكراه وبين مشاعر الخوف التي تتزاوج مع مشاعر الرجاء والتعظيم فإن هذه مشاعر عبادة. كما أنه يجب أن نفرق بين الاستضعاف وبين الهزيمة الداخلية، والاستكانة للعدو والركون إليه وفقدان الثقة في الله وترك التوكل عليه. ذلك أن الإنسان يملك في أحلك الظروف قوة عظيمة - هي قوة الرفض بقلبه - وهذه القوة سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاداً في قوله " ... ومن جهادهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " (¬3) . فالانهزام أمام الباطل والموالاة التي يحتاجها الباطل حتى وهو قوي لا بد من ¬

(¬1) المصدر السابق: (526) . (¬2) نقلاً عن الدفاع لابن عتيق (ص 30) . (¬3) صحيح مسلم (1/70 ح 50) كتاب الإيمان.

الامتناع عنها وهذا هو جهاد القلب، والله سبحانه يقول للمؤمنين بعد وقعة أحد {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {148} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ {149} بَلِ اللهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ { [سورة آل عمران: 146 - 150] . وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: " بحسب امرىء يرى منكراً لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره " ودلالة الكرة: الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل. إن استعلاء القلب على الهزيمة الداخلية، وبقاء قوة رفضه للباطل مهما استطال وانتفش وقوة ضبطه للسلوك لتأكيد الاعتزال وعدم المشايعة بالعمل لهو جهاد القلب وإنه لجهاد له أثره الواقع في حياة الناس (¬1) . ¬

(¬1) بتصرف: حد الإسلام للشاذلي (527-528) .

الباب الثالث الصورة التطبيقية للولاء والبراء في الماضي والحاضر

الباب الثالث

الفصل الأول كيف طبق السلف الولاء والبراء

الصورة التطبيقية للولاء والبراء في الماضي والحاضر الفصل الأول كيف طبق السلف الولاء والبراء تحدثت فيما سبق عن أمثلة من الأمم الماضية التي سبقت الأمة المحمدية ومر معنا بعض الأمثلة والنماذج في عهد النبوة. ولكن ذلك الجيل مليء بالصور المشرقة. لذلك رأيت أن أزيد هذا الأمر وضوحاً وتحليلاً بذكر نماذج أخرى لما لها من أهمية كبرى. وكل قول لا يدعمه التطبيق العملي يعد زعماً باطلاً لا يمت للحقيقة بصلة ولا للواقع ببرهان. لذلك فإن التطبيق الواقعي للولاء والبراء هو المقتضى الصحيح والوجه المشرق لمبدأ كلمة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله ". وإن من المعلوم بالضرورة أن سلف الأمة رضوان الله عليهم هم خير من طبق هذه العقيدة بكل مقتضياتها وتكاليفها. والحديث عن السلف ممتع وجميل، بل هو من الحوافز العملية التي سجلها

تاريخ الأمة المسلمة ليكون ذلك معلماً من معالم الهداية والرشاد لمن جاء بعدهم، ليستن بسنتهم وينهج نهجهم. وقد كانوا رضوان الله عليهم يقدرون النعمة التي أنعم الله بها عليهم وهي نعمة الإيمان. ويقدرون أيضاً فضل نور الله وشريعته الغراء التي بعث بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا { [سورة الأنعام: 122] . وقدروا رحمهم الله تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم وأهمية سنته الشريفة قولاً وفعلاً وأدركوا أنهم (لم يكونوا خدمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده، ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم. إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد "الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ".. " فالأمم عندهم سواء والناس عندهم سواء. الناس كلهم من آدم وآدم من تراب.. لم يبخلوا بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً، بل كانوا سحابة خير انتظمت البلاد وعمت العباد، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها) (¬1) . ¬

(¬1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص 126 - 127) بتصرف بسيط.

موقف كعب بن مالك رضي الله عنه

ويصعب علي هنا أن أذكر معظم الوقائع والمواقف التي برز فيها تطبيق الولاء والبراء عند سلف الأمة رحمهم الله. ولكنني أقتصر على القليل من ذلك لإعطاء فكرة صادقة وصورة حية، وأمثلة مشرقة لتلك النماذج الإيمانية التي أراد الله أن يحقق بها مثالية هذا الدين، ليعلم الناس أن هذا الدين مثالي واقعي (¬1) في آن واحد إذا وجد الأكفاء الجديرون بحمله وتبليغه للناس بصدق، وأمانة، وطهر ونقاء، وإخلاص وتجرد وابتغاء ما عند الله. ومن هذه الأمثلة: موقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كعب بن مالك رضي الله عنه ومن معه من المخلفين الثلاثة، حيث قاطعوهم وهجروهم لتخلفهم عن غزوة تبوك. وانظر إلى هذه المقاطعة لثلاثة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون خلف رسول الله في مسجد أسس على التقوى: لقد هجروهم ولم يكلموهم حتى في التحية الإسلامية!! فمن يا ترى من المسلمين اليوم يتبرأ من الذين يحادون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً؟! أما الموقف العظيم الذي يبرز فيه ولاء المسلم لدينه وإخوانه المؤمنين، حتى وهذا المؤمن مهجور من إخوانه وأحبابه، مقاطع عنهم حتى في رد السلام. مبتلى بإغراء مادي عظيم، ومحسن له المنصب ورفعة المكان في الدنيا: فهو موقف الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه، فإنه - كما جاء في حديثه الطويل - لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته بهجره ومن معه، حتى زوجته ذهبت إلى أهلها فاجأه أمر عجيب وخطير في آن واحد. يقول كعب رضي الله عنه (.. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن ¬

(¬1) للوقوف على فكرة صحيحة فيما يتعلق بمثالية الإسلام وواقعيته حبذا مراجعة كتاب خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب فصل الواقعية. وكتاب منهج التربية الإسلامية للأستاذ محمد قطب ج 1 الفصل الأخير وكتاب الإنسان بين المادية والإسلام فصل نظرة الإسلام.

موقف عبد الله بن حذافة السهمي

مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلى كتابا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأنها: وهذا أيضاً من البلاء فتممت بها التنور فسجرته بها " (¬1) . لقد صدق كعب رضي الله عنه في قوله: "وهذا أيضاً من البلاء" أجل إنه بلاء عظيم، ولقد كان ولاء كعب رضي الله عنه رغم ما هو فيه من شدة وهجر ومع دواعي الإغراء والإغواء لله ولدينه ورسوله والمؤمنين، وكان براؤه من ملك غسان واضحاً في حرقه لكتاب ذلك الملك. فانظر إلى هذه العظمة وهذا الصدق في الولاء والحب للإسلام والمسلمين والبعد عن كل ما يصرف عن ذلك من متاع الدنيا ووجاهتها التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة. قال ابن حجر وهو يشرح قصة كعب: دل صنيع هذا على قوة إيمانية ومحبته لله ولرسوله وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك، وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره، ولا سيما مع أمنة من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة وأحرق الكتاب ومنع الجواب.. ورجح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دعي إليه من الراحة والنعيم حبا في الله ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم "وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " (¬2) . ومثال آخر: قصة الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي وموقفه مع ملك الروم، حيث أغراه حتى بمشاطرة ملكه فرفض، وهدده بالقتل والحرق فأبى أن يتنصر. كل ذلك دلالة واضحة، وبرهان صادق لعمق ذلك الولاء ورسوخ هذه العقيدة في تلك النفوس العظيمة. ولئن كان موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي - الذي تحدثنا عنه سابقاً - عظيماً في منعه أباه من دخول المدينة إلا بإذن رسول ¬

(¬1) القصة بطولها في صحيح البخاري كتاب المغازي باب حديث كعب بن مالك (8/113 ح 4418) وانظر القصة أيضاً في تفسير الطبري (11/0) وابن كثير (4/166-168) . (¬2) فتح الباري (8/121) والحديث سبق تخريجه ص 40 وانظر تعليق ابن القيم على القصة في زاد المعاد (3/581) .

موقف زيد بن الدثنة

الله صلى الله عليه وسلم: فإن موقف أبي عبيدة رضي الله عنه أعجب من ذلك وأعظم فلقد قتل أباه في معركة بدر لأنه كان كافراً محارباً لله ورسوله، ولم تكن صلة الأبوة لتمنعه دون تنفيذ الولاء والنصرة لله ورسوله ودينه والمؤمنين. والبراءة والجهاد لعدو الله الذي رضي بالبقاء في حزب الشيطان ليكون حرباً على المؤمنين. ومثال آخر: فقد روت كتب السير أن زيد بن الدثنة (¬1) رضي الله عنه، اشتراه صفوان بن أمية - بعد يوم الرجيع - ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وخرجوا بزيد إلى التنعيم حيث اجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي فقال: أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً، ثم قتلوا زيداً رضي الله عنه (¬2) . فانظر إلى هذا الحب وهذا التفاني وذلك الولاء، وقوة النصرة! إنه رضي الله عنه وهو في مكانه البعيد عن رسول الله -لا يرضى أن تمس رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة، فضلاً عن أن يصيبه أكبر من ذلك!! هذا هو الولاء الصادق الذي بنته هذه العقيدة في النفوس فأخرجت للناس هذه النماذج العظيمة التي تقصر دون عظمتها كل عظمة أرضية. ومثال آخر: روى الإمام أحمد وغيره أن أنس بن النضر رضي الله عنه غاب عن قتال بدر فقال: غيبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين؟ لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال: أنا ¬

(¬1) زيد بن الدثنة: بفتح الدال وكسر المثلثة ابن معاوية بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري شهد بدراً وأحداً وكان في غزوة بئر معونة فأسره المشركون وقتلته قريش بـ التنعيم. انظر الإصابة (1/565) . (¬2) انظر القصة في السيرة لابن هشام (3/181) .

معك، قال سعد فلم أستطع أن أصنع ما صنع، قال فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم فكانوا يقولون فيه وفي أصحابه نزل قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ { (¬1) [سورة الأحزاب: 23] . إن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم كانوا شديدي الاعتزاز بدينهم فلم تخدعهم المظاهر الجوفاء، ولا القوى والاعتبارات التي تتعبد الناس في الجاهلية، وأصدق مثال على ذلك قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه حين قابل رستم، فقد كان الفرس مدججين بالسلاح وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، ووضعوا البسط والنمارق في مجلس رستم وله سرير من الذهب، فأقبل ربعي يسير على فرس له زباء (¬2) قصيرة، معه سيف غمده لفافة ثوب خلق، ورمح وجحفة (¬3) وقوس فلما انتهى إلى أدنى البسط قيل له انزل فحملها على البساط فلما استوت عليه نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه ثم قالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت، فأخبروا رستم فأذن له وقال: هل هو إلا رجل واحد! فأقبل ربعي يتوكأ على رمحه وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط، فما ترك لهم نمرقة ولا بساطاً إلا أفسده وتركه منهتكاً مخرقاً، فلما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه! فكلمه فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى ¬

(¬1) مسند أحمد (3/301) وتفسير ابن كثير (6/394) . (¬2) الزباء: أي طويلة الشعر كثيرته. (¬3) الجحفة: الترس

قاتلناه أبداً، حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم. كم أحب إليكم، أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، وأراد مقاربته ومدافعته فقال: إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك. وإن كنت عن نصرنا غنياً تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجاً منعناك أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، وأنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى، قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض، يجير أدناهم على أعلاهم (¬1) . ومما يوضح أيضاً صورة الولاء في نفوس أولئك الأخيار قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة؟ قالوا: " وهم بالمدينة حبسهم العذر " متفق عليه (¬2) . فانظر إلى هذا الولاء والتناصر حتى ممن حبسهم العذر، لأن هذا أمر لا عذر لهم في تركه، فهم مع إخوانهم بالدعاء والمتابعة. أما اليوم فيرى المغرورون والمبهورون والمنهزمون أن الكفار - كما قال أحدهم - خصوم شرفاء، بل يرونهم أصدقاء أوفياء. ولكن الذي يجب على المسلمين اليوم أن يفهموه: هو أن الاقتداء بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح في كل شيء، وفي قضية الولاء والبراء من باب ¬

(¬1) تاريخ الطبري (3/519 - 520) . (¬2) صحيح البخاري (8/126 ح 4423) كتاب المغازي وصحيح مسلم (3/1518 ح 1911) كتاب الإمارة.

أخص هو الأمر المطلوب منهم وليس عليهم بعد ذلك أن تقوم أصوات أرباب التبعية والولاء للغرب الكافر والشرق الملحد لتنادي بما قاله وردد من قبلهم أن هذا الفعل رجعية وتقهقر. بل إن عزم المسلمين المخلصين على تحقيق مقتضيات هذه العقيدة والإصرار على تحكيم الشريعة الربانية هو سبيل النجاح وطريق الفلاح، في الدنيا والآخرة وجدير بهم أن يرتفعوا إلى المستوى المطلوب منهم {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: 139] .

الفصل الثاني صورة الولاء والبراء في عصرنا الحاضر

الفصل الثاني صورة الولاء والبراء في عصرنا الحاضر إنه بعد أن سبق بيان قضية الولاء والبراء في التصور الإسلامي، ووقفنا على مدى أهمية هذا الموضوع، وبعد سياق تلك الأمثلة المشرقة من تاريخ الصدر الأول من هذه الأمة: لا بد أن نقف عند وضع المسلمين في العصر الحاضر، لنرى أين يقف المسلمون اليوم من هذه القضية وما مدى التزامهم بها أو تخليهم عنها؟ وما الذي حل بهم؟ وهل هناك مبشرات لتغيير هذا الواقع المؤلم؟ وإنه لمن البدهي هنا أن نقول: أن العالم الإسلامي في العصور المتأخرة قد بلغ دركات الانحطاط والتخلف في كل شيء. انحطاط في عقيدته حيث ترك ما عليه السلف الصالح وذهب إلى خزعبلات وحواشي علم الكلام الدخيل والخوض في نقاشات بيزنطية لا تمت للواقع ولا تصلحه بأي حال بل تزيده فساداً وانهياراً. وانحطاط في التزامه بمقتضيات هذه العقيدة من الجهاد والتميز والعزة حيث استبدل بذلك كله التصوف والخرافات والتواكل، مما أطمع العدو فيهم على هذه

الحال وتخلف في جميع المجالات العلمية وترك مكان القيادة إلى ذلة التبعية فبعد أن كان المسلمون هم الرواد في كل علم نافع جاء الخلف ليترك ذلك الميراث العظيم الذي أخذه أعداء هذا الدين واستفادوا به ودفعهم إلى ما وصلوا إليه الآن. وأخيراً فقد أعطى هؤلاء الخلف للناس: صورة هزيلة رديئة عن الإسلام، جعلت أعداء هذا الدين يتكالبون عليه من كل حدب وصوب طامعين في إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. ولقد غزت العالم الإسلامي جيوش كثيرة وعديدة، وهي على كثرتها وضراوتها العسكرية لم تكتف بهذا بل نوعت أساليب الهجوم، فاستخدمت بعد الهجوم العسكري – الغزو الفكري الخبيث الذي فعل في (المسلمين) ما لم تفعله الجيوش الجرارة!. وأول ما حرص عليه الأعداء هو بث سموم التشكيك وقلب المفاهيم حيث أخذ ينشر أمثال هذه الأفكار: "ما للدين ونظام المجتمع؟ وما للدين والاقتصاد؟ ما للدين وعلاقات الفرد بالمجتمع وبالدولة؟ وما للدين والسلوك العملي في واقع الحياة، ما للدين والملبس وخاصة ملابس المرأة؟ ما للدين والفن؟ ما للدين والصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون؟ وباختصار: ما للدين والحياة؟ ما للدين والواقع الذي يعيشه البشر على الأرض؟ " (¬1) . وكان هدف الاستعمار – كما يقول الشيخ محمد الغزالي – (تكوين جيل يستحي من الانتساب للإسلام، ويكره أن يرى وهو يقوم بشيء من شعائره، خصوصاً بين المثقفين الكبار! والطبقات التي تهيأ للحكم والنفوذ. الواحد من هؤلاء يحب أن يراه الناس خارجاً من حانة، ولا يحب أن يروه خارجاً من مسجد ومن السهل عليه أن يوصف بأنه زنى بعشر نسوة، لكن وجهه يسود لو قيل: متزوج من اثنتين أما أن يفكر في تلاوة آيات من القرآن أو يرجع إلى شيء من سنة رسول الله فذلك ما لا يخطر له ببال (¬2) . وأفلح الاستعمار أيضاً في تكوين جيل يرفض العمل تحت لواء الإسلام، ¬

(¬1) هل نحن مسلمون؟ (ص110) . (¬2) كفاح دين (ص147 الطبعة الثالثة)

وهذا الجيل هو " الطابور الخامس" الذي ألحق بنا الهزائم في كل ميدان (¬1) . وحتى لا يكون الحديث مجرد عاطفة أو هجوم – كما يقال ذلك – أرى أن أثبت هنا نصوصاً صريحة واضحة نطق بها أعداؤنا الكفار ونفذوها تدل على مدى عمق عداوتهم للإسلام والمسلمين وإنهم لا يريدون إلا الشر والكيد بهذا الدين وطمس معالمه، وفي هذه النصوص أيضاً عظة وعبرة للمتغافلين والمنهزمين والمبهورين بهم من أبناء جلدتنا ومن الذين ينطقون بلغتنا ويتسمون بأسمائنا. ثم يحكم المنصف بعد قراءتها هل تحقق شيء منها أم لا؟ يقول القس زويمر في مؤتمر القدس سنة 1935م وهو يخاطب المبشرين بالنصرانية في العالم الإسلامي ما نصه (.. إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية – ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية – فإن في هذا هداية لهم وتكريماً (!!) وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، ولذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية. وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعاً من أجله كل التهنئة) (¬2) وسترد بقية هذه الكلمة. ومع وضوح هذا النص الصليبي الحاقد وجد من (المستسلمين) – وهو محسوب من العلماء – من يقول أن قضية زمالة الأديان والتسامح بينها والتقارب والالتقاء بينها أمر محبب كما قد سبق ذكر ذلك في الباب الثاني. مما يدل على مدى الغفلة وعمق الجهل بحقيقة الإسلام وبحقيقة عداوة أعدائه له. ويقول لويس التاسع: إن الغزو العسكري لا يكفي لهزيمة المسلمين ولكن لا بد من غزو عقيدتهم. ثم نجد عدواً آخر يقول – وهو يتابع عودة المسلمين إلى إسلامهم – (ألا إن ¬

(¬1) انظر حصاد الغرور (ص39) . (¬2) جذور البلاء للأستاذ عبد الله التل (ص275) الطبعة الثانية.

الكواكبي وما قام به

ثمة قوة جديدة بدأت تظهر ألا وهي الدعوة إلى إسلام "متزمت" والسعي عن طريق الإسلام إلى نظام حياة لا يكون نسخة عن نظام آخر ولا تقليداً له. بل يكون خاصاً بهويته وتقاليده ومصالحه المعنوية والمادية) (¬1) . ويقول وليم جيفورد بالكراف: متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه (¬2) . وبالرغم من مئات النصوص التي تشبه ما ذكرنا، والتي مؤداها جميعاً: طمس الإسلام وإخراج المسلمين من إسلامهم فقد وجد للأسف في بلاد المسلمين من كان عوناً لهؤلاء الأعداء على خططهم، أو من ميع قضايا الإسلام في سبيل ملاينة أعداء الله. يقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله: إن بعض الأقطار التي تسمي نفسها إسلامية، تبيح للمبشرين من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والأمريكيين أن ينشئوا مدارس للتبشير بالدين المسيحي في بلادهم حتى تفتن أطفال المسلمين عن دينهم، بل إن بعض الأقطار منع تعليم الدين الإسلامي في المدارس الحكومية وأهمل دراسة التاريخ الإسلامي في الوقت الذي يركز فيه الاهتمام بتدريس تاريخ أوروبا وتمجيد حضارتها وأنها هي قبلة الرقي والمدنية (¬3) . وإذا كان هذا على مستوى الحكومات، فإن الأفراد أشد إيغالاً في ذلك وهم صنفان: (1) صنف من العلماء الذين لهم مكانة في التاريخ الحديث، وكتب عنهم مجلدات فيها من المدح وألقاب الإصلاح ما الله به عليم، ولكن التاريخ كشف عن هوياتهم ومواقفهم. ومنهم عبد الرحمن الكواكبي، هذا الرجل الذي يعتبر من أسبق الناس ظهوراً في الدعوة إلى التفريق بين السلطة الدينية والسلطة ¬

(¬1) الجنرال بيار غالوا. عن مجلة المجتمع الكويتية العدد 450 (ص4) سنة 1399 هـ. (¬2) الغارة على العالم الإسلامي (ص94) الطبعة الثانية. (¬3) انظر الإسلام وأوضاعنا القانونية (ص75) الطبعة الثانية.

محمد عبده

السياسة. وقد أصدر كتاب (أم القرى) سنة 1889 م. وورد في هذا الكتاب آراء لم تخل من إشارات مريبة إلى موالاة الدول الأوربية المستعمرة حيث قال فيما قال: " وكفتح أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة والاستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة، وسد أبواب الانقياد المطلق ولو لمثل عمر بن الخطاب " (¬1) . أما الشيخ محمد عبده فكما يقول عنه الأستاذ غازي التوبة: قد تجاوز تعاونه مع الإنجليز المحتلين لمصر إلى التعاون مع الجواسيس المستشرقين في انكلترا نفسها، حيث تتضح ثقتهم المطلقة به، وتعاونه البعيد معهم في الرسالتين المبعوثتين إلى "المستر بلنت" جواباً على سؤال الأخير عن رأي المفتي في الحالة السياسية الجديدة في مصر، وعن رأيه في الدستور المناسب لمصر. وقد أورد محمد رشيد رضا نص الرسالتين في الجزء الأول من تاريخه ص 899 - 902 وورد في الرسالة الثانية الفقرة الثالثة قوله (إذا فرض إن كان بعض الوزراء من الانكليز وكان لهم مرؤوسون من المصريين فإنه ينبغي أن يعطى هؤلاء المرؤوسون المصريون أو الوزراء الثانويون سلطة تسمح لهم بأن يفصلوا في جميع المسائل المختصة بالدين وما أشبه ذلك تحت مراقبة الوزراء الأصليين بحيث لا يكون الموظفون المصريون مجرد ألعوبة في أيديهم كما هو الحال الآن) (¬2) . وهذا هو رأي الشيخ الذي نعت بمصلح العصر. أما عباس محمود العقاد فيقول في كتابه: " التفكير فريضة إسلامية" ما الذي يمنع المسلم أن يعمل للديموقراطية أو يعمل للاشتراكية. أو يعمل للوحدة العالمية؟ وما الذي يمنع المسلم من أحكام دينه أن يقبل مذهب التطور أو يقبل الوجودية في صورتها المثلى؟ إلى أن قال: إن عقيدة المسلم لا تمنعه من أن يكون اشتراكياً (¬3) . وأنا أعلم مثل ما علم غيري أن هذا الكلام قد يقابل بالاستنكار والاستغراب لأنه خلاف ¬

(¬1) انظر كتاب أزمة العصر للدكتور محمد محمد حسين (18 - 20) حول هذا الموضوع. (¬2) الفكر الإسلامي المعاصر. دراسة وتقويم (35 - 37) . (¬3) موسوعة العقاد (5/958) وانظر الفكر الإسلامي لغازي التوبة (ص 171) .

كلمة قيمة للأستاذ الدكتور محمد محمد حسين

المعهود ولكن أقول ما قاله الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في كتابه القيم "الإسلام والحضارة الغربية" حيث قال: (نحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال لا نريد أن ننقص من قدر أحد، ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى أن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماماً من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يقبلون أن يوصف به زعماؤهم المعصومون فيقبلون أن يوصم سيف الإسلام خالد بن الوليد بأنه قتل مالك بن نويرة في حرب الردة طمعاً في زوجته، ويرددون ما شاع حول ذلك من أكاذيب. ويقبلون أن يلطخ تاريخ ذي النورين عثمان بن عفان بما ألصقه به، ابن سبأ اليهودي من تهم.. يقبلون ذلك كله ثم يرفضون أن يمس أحد أصنامهم بما هو أيسر منه، ويحتمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به إجماع المسلمين، ويأبون على مخالفيهم في الرأي هذه الحرية. يخطئون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين ويجرحونهم بالظنون والأوهام ويثورون لتخطئة ساداتهم أو تجريحهم بالحقائق الدامغة) (¬1) . إننا لا بد أن نقول للمخطىء أنت مخطىء وللمصيب نقول: أحسنت وبارك الله فيك. لذا فإن انزلاق هؤلاء العلماء. أو غيرهم في قضية موالاة الكفار أو التساهل معهم في بعض الأمور بغير دليل شرعي أمر يرفضه الإسلام ويأباه لأن موضع القدوة لنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء وسلفنا الصالح وكفى. وليس من حق فرد - كائناً من كان - أن يجعل من آرائه وعلمه سلما يرتقي عليه الموالون للكفار، ثم يزعم بعد هذا أنه داعية إسلامي، أو مصلح عظيم!! (2) أما الصنف الثاني: فهم الذين صنعهم الاستعمار على عينه، ورباهم تربية أوربية خالصة في التفكير والسلوك من أجل أن يكونوا أداة للتقريب بين المسلمين وبين المستعمر الأوربي. ¬

(¬1) الإسلام والحضارة الغربية (ص50) .

طه حسين

ومن هذا الصنف طه حسين الذي يقول في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: (لكن السبيل إلى ذلك - أي الرقي - ليست في الكلام يرسل إرسالا، ولا في المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هي واضحة بينة ومستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب (¬1) . وما دام أننا عرفنا هدف أعدائنا بصورة عامة، ووقفنا على حقيقة بعض مواقف المخدوعين بهم: فإنه لحري بنا أن نعرف بعض تفاصيل خططهم ووسائلهم التي منها: 1- التربية والتعليم: العلم كما يقال - سلاح ذو حدين، ومن هذا المنطلق أدرك أعداء الله من جميع الكفار أن صخرة العقيدة الإسلامية لا يمكن النيل منها عن طريق القوة والسلاح فهي قد أدمتهم كثيراً، ولا يستطيعون الصمود أمام هتاف المجاهدين الصادقين في سبيل الله، ولذلك لجأوا إلى وسيلة أخرى هي أخبث في التأثير وأشد في الدهاء. وهذه الوسيلة هي غزو مناهج التربية والتعليم في العالم الإسلامي بأفكار ونظريات وشبهات وشكوك يضفي عليها - كذباً وبهتاناً - ثوب التجرد العلمي، والبحث العلمي!! وسلك أعداء الإسلام في هذا سبيلين: الأول: السيطرة على التعليم في الداخل والثاني عن طريق الابتعاث إلى الدول الكافرة. فأما الأمر الأول فيقول عنه القس زويمر الذي أوردنا صدر كلمته سابقاً يقول أيضاً (.. لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع ¬

(¬1) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (2/229) طبعة بيروت والفكر الإسلامي للتوبة (ص104) .

عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية المستقلة أو التي تخضع للنفوذ المسيحي أو التي يحكمها المسيحيون حكماً مباشراً، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير المسيحي والكنائس والجمعيات وفي المدارس الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية وفي مراكز كثيرة ولدى شخصيات لا تجوز الإشارة إليها الأمر الذي يرجع الفضل فيه إليكم أولاً وإلى ضروب كثيرة من التعاون بارعة باهرة النتائج، وهي من أخطر ما عرف البشر في حياته الإنسانية كلها. إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد (إخراج المسلم من الإسلام) إنكم أعددتم نشئاً لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي: جاء النشئ الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار، لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء (¬1) . أجل صدق هذا القس وهو كافر أن هناك جيلاً تربى على ثقافة الغرب فخرج لا يعرف الصلة بالله أبداً. وانطلاقاً من مبدأ هذا الصليبي الحاقد قام "اللورد كرومر" - المعتمد البريطاني في مصر أيام الاحتلال - بإنشاء كلية فكتوريا حيث قصد بها تربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي ليكونوا من بعدهم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين (¬2) . وجاء "دنلوب" المتخرج من كلية اللاهوت البريطانية ليرسم سياسة التعليم في مصر، حيث وضع مناهج كفيلة بإخراج النماذج التي عناها القس زويمر (لا تعرف الصلة بالله) . ومصداق ذلك أن درس الدين لا يدرس منه إلا نتف يسيرة مثل: إن ¬

(¬1) جذور البلاء (ص 276) . (¬2) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين (ص 46)

الابتعاث

الإسلام جاء ليبطل عبادة الأوثان ويعبد الله الواحد، ويحرم وأد البنات. وإسناد هذه المادة يختار من أسن الأساتذة وبمظهر رث، ثم تلغى مادة الدين في نهاية العام الدراسي (¬1) . أما مادة التاريخ فكان يخفى على الطالب فيها: أن الإسلام جاء ليحارب الشرك بكل مظاهره ويعطي نبذاً عن دراسة صدر الإسلام، وأن مهمة الإسلام تغيير ما كان عليه العرب في جاهليتهم ويركز فيه أيضاً على الجانب السياسي والصراع بين الطبقات الحاكمة. أما حياة المجتمع الإسلامي فلا شيء يذكر من ذلك. وكذلك البطولات الإسلامية والحركة العلمية الإسلامية. كل ذلك يخفى عن الطلاب في الوقت الذي يدرس فيه بتوسع تاريخ أوروبا ونهضتها ورجالها وأبطالها وإنها بلد التقدم والرقي ومهبط المدنية لأن فيها فحماً وحديداً (¬2) !! وخلاصة القول أنه كان يلقن الطلاب إن " أوروبا هي العملاق الضخم الذي لا يقهر. والإسلام هو القزم الضئيل الذي عليه أن يتعبد هذا العملاق ليعيش (¬3) ! وأما السبيل الثاني: وهو الابتعاث إلى الخارج أي إلى الدول الكافرة فقد حقق هذا نتائج ترضي من خطط لها. ذلك أن هذا الابتعاث - في الغالبية العظمى منه - يكسر صفة التميز بين المسلم والكافر، ويجعل ولاء المسلم متذبذبا وهو يرى ما بهر به، ثم إنه يزيد الطالب جهالة بدينه وقيمته ومثله، ويزيده تعلقاً بالغرب أو الشرق ويبدأ بتطبيعه بطابع غير إسلامي، ثم يصير هذا التطبع - مع الزمن - طبعاً، ثم انسلاخاً من حيث يشعر الطالب أو لا يشعر فتجده في لبسه ومأكله ومشربه وكلامه وطريقة تعامله، غربياً، أو شرقياً بل ربما أكثر من ذلك (¬4) ¬

(¬1) انظر هل نحن مسلمون (136 - 138) ومذكرة المذاهب الفكرية المعاصرة للأستاذ محمد قطب لطلاب السنة المنهجية بالدراسات العليا في كلية الشريعة. (¬2) انظر المصدرين السابقين. (¬3) هل نحن مسلمون (ص141) . (¬4) انظر أساليب الغزو الفكري للدكتور علي جريشة وزميله (64-65) .

رفاعة الطهطاوي

وكان من أوائل المبتعثين وأولهم سبقاً في خدمة ما أريد له: رفاعة الطهطاوي حيث مكث في فرنسا خمس سنوات من 1826 - 1831م ولما رجع بدأ ينشر كلاماً يسمع للمرة الأولى في البيئة الإسلامية مثل: الوطن والوطنية والاهتمام بالتاريخ القديم ليدعم به المفهوم الوطني الجديد، ثم يتحدث عن الحرية وأنها سبيل التقدم وكذلك طالب بتقنين الشريعة على نمط المدونات القانونية الأوروبية، ثم يتحدث بكلام كثير وطويل عن المرأة. كتعليمها ومنع تعدد الزوجات وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين (¬1) . وخلاصة ما يريده أعداء الإسلام في قضية التربية والتعليم هو ما قاله المستشرق "جب" في كتابه " وجهة الإسلام" حيث قال: ".. والسبيل الحقيقي للحكم على مدى التغريب (أو الفرنجة) هو أن نتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي، وعلى المبادئ الغربية، وعلى التفكير الغربي. والأساس الأول في كل ذلك: هو أن يجرى التعليم على الأسلوب الغربي وعلى المبادئ الغربية، وعلى التفكير الغربي ... هذا هو السبيل الوحيد، ولا سبيل غيره، وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين، وقليل من الزعماء الدينيين " (¬2) . إن العالم "الإسلامي" كله اليوم يسير في تعليمه وتربيته العلمية على النهج الغربي والشرقي بدليل أن كل الجامعات - مثلاً - تدرس نظرية فرويد في البحوث النفسية ونظرية دوركايم في علم الاجتماع ونظرية ماركس الاشتراكية والشيوعية، ونظرية فريزر في علم مقارنة الأديان. وينادي بإحياء الجاهليات التي سماها الله في كتابه وسنة رسوله جاهلية: تدرس على أنها حضارة راقية ضاربة في أعماق التاريخ أكثر من سبعة آلاف سنة!! ¬

(¬1) يراجع في هذا بتوسع كتاب الإسلام والحضارة الغربية د. محمد محمد حسين (ص17 - 30) . (¬2) عن الاتجاهات الوطنية (2/217) الطبعة الثالثة

صورة من صور الولاء الفكري المعاصر

وكذلك التغني بأمجاد أوروبا ومعرفة "أبطال" حضارتها، وفصل الدين عن الدولة، وأن الدين علاقة بين العبد وربه ولا دخل له في شؤون الحياة ... كل ذلك كان ثماراً طبعية للغزو الثقافي (¬1) . وأخيراً: فإن هذه المناهج التعليمية قد جردت المسلم من ولائه لله ورسوله ودينه وإخوانه المؤمنين ومحت عداوته لأعداء الله، فنشأ جيل لا يعرف الصلة بالله، ولا يقيم ولاءه وانتماءه على أساس عقيدته بل على ما تعلمه وانتسب إليه من المذاهب والانتماءات الجاهلية. صورة من صور الولاء الفكري المعاصر وتستوقفني هنا صورة واحدة أجد أن ذكرها هنا ذو أهمية بالغة ذلك أن هذه الصورة يظهر فيها بوضوح حب التبعية للغرب، مع الاعتزاز والفخار بالتعليم العلماني والمطالبة - وبإلحاح شديد - بعودته - إن كان قد فقد - وإلا ففتح الأبواب له على مصارعها إذا كان مضيقاً عليه. كتب رئيس تحرير جريدة يومية مقالاً طويلاً بعنوان "الإنسان العربي ومعضلة التعليم" وجاء هذا المقال في صفحتين كاملتين من الجريدة هما الصفحة الثانية والثالثة. وإليك مقتطفات من هذا المقال لترى فيه الصورة الصادقة للولاء والتبعية لأعداء الله. قال الكاتب: (إن التعليم في البلاد العربية ارتبط بأسلوبين مختلفين: الأول: المنهج الذي وضعه دنلوب باشا البريطاني ناظر المعارف في مصر، والذي انعكست آثاره على بقية الرقعة العربية من خلال الاتفاقيات الثقافية الثنائية أو ¬

(¬1) حبذا الاطلاع بتوسع على رسالة "العلمانية وأثرها في العالم الإسلامي" للأستاذ سفر بن عبد الرحمن الحوالي

الجماعية ويقوم هذا المنهج التعليمي على إبطال القدرة على التفكير (وتفريخ) العديد من الكتبة الذين يؤدون وظائف روتينية لا تحتاج إلى أكثر من معرفة متقنة قواعد القراءة والكتابة.. وبنظرة مجردة نجد أن غالبية المتعلمين في بلادنا ينتمون إلى هذه المدرسة ") . وصدق الكاتب في أكثر ما قاله هنا وإن كان اعتراضنا على منهج دنلوب لا يقتصر على هذه النقطة إنما ينصب ابتداء على نقطة أخطر منها بكثير هي تخريج أجيال من المسلمين لا تعرف حقيقة الإسلام بل تتجه إلى الانسلاخ من الإسلام والارتماء في تبعية ذليلة للغرب. ثم تابع معي ما يقول: "والأسلوب الثاني في التعليم داخل الوطن العربي. بريطاني أيضاً، ويهدف هذا الأسلوب - على خلاف الأول - إلى خلق مجموعات بشرية تمتلك القدرة على التفكير السليم بالأنماط الغربية (!!) . "وتجسد هذا الأسلوب في مدرستي كلية فكتوريا في الإسكندرية والقاهرة.. وعلى خلاف ما قيل عن هذه المدارس التي اتهمت بالتربية الاستعمارية أو الأدوار التبشيرية فإن الأدلة الدامغة تثبت أن معظم مفكري أبناء الأمة العربية الذين تلقوا تعليمهم الأولي والثانوي داخل منطقة الشرق الأوسط ينتمون إلى إحدى هاتين المدرستين ذلك لأن النظام التعليمي بهما يعتمد على أسلوب البحث العلمي (!) الذي ينمي في الطفل والشاب طوال مدارج التعليم: القدرة على التفكير السليم وإيجاد العلاقات بين الظواهر المختلفة. "وتتضح جدية هذا الدور التعليمي من واقع المناهج الدراسية المقررة التي كانت هي ذات المناهج المقررة على الطلبة البريطانيين بأسلوب اكسفورد وكامبردج في مراحل التعليم العام، المبدئي والإعدادي والثانوي.. فالباعث الحقيقي لوضع هذا الأسلوب التربوي والتعليمي من خلال فكتوريا الإسكندرية والقاهرة كان يهدف "إلى" إيجاد مجموعات من أبناء البلاد العربية، بمستوى ثقافي قادر على التفاهم والتعامل مع الغرب في مواطن المعرفة العلمية، التي تربط بينهم بأسلوب المخاطبة المتعارف عليها (!) .

"واستطاع بالفعل أبناء الأمة العربية المتخرجون من هاتين المدرستين حتى بعد تلقيهم التعليم الجامعي سواء في بريطانيا أو أمريكا أو حتى داخل الوطن العربي أن يقوموا بأدوار واضحة في خدمة مصالح بلادهم من المواقع المختلفة نتيجة توافر القدرة لديهم في مخاطبة الغرب بالأسلوب العلمي المقبول والمفهوم نتيجة انسجام منطق التفكير عندهم مع المعطيات الحضارية المعاصرة (!) . ثم تحدث الكاتب – وهو يؤدي دوره – عن الصراع بين مدرسة فكتوريا ومدرسة دنلوب وعن الرابطة التي جمعت بين خريجي كلية فكتوريا ثم قال إن هذه الرابطة ألقيت ولكن مع هذا الإلغاء (ظل الترابط والود) قائماً بين هؤلاء الخريجين، حتى قامت رابطتهم الجديدة المنظمة بشكل دقيق في العاصمة البريطانية لندن. ولقد أقيم هذا الاحتفال الجديد في يوم الجمعة 4 مايو سنة 1979م. وبعد هذا تساءل الكاتب: لماذا ألغيت هذه الكلية مع أن مدرسة دنلوب لا تزال قائمة؟ ثم تحدث عن البديل للمناهج الهزيلة التي تدرس الآن فقال: (وبغض النظر عن تعاطفي الشخصي مع كلية فيكتوريا كمدرسة أجنبية وجدت على التراب العربي، تشرفت بالانتماء إليها: فإنني أجد أن الإسراع في فتحها الآن بالأنماط التعليمية التي كانت تمارسها من المنابع الفكرية السائدة في اكسفورد وكامبردج كفيلة بأن تمثل أولى الخطوات السليمة على الخط العلمي الذي نهدف إليه ... ومن الممكن التوسع في فتح المدارس الأجنبية المختلفة البعيدة عن السمات التبشيرية وهي كثيرة وكفيلة بإخراج أنماط متعددة من التفكير العلمي السليم الذي يلتقي مع غيره من أنماط علمية سليمة أخرى، ليؤدي التفاعل بينهم إلى خلق القدرة العربية في الوصول إلى أسلوب المخاطبة مع الغرب، والتعبير عن مصالحنا وأهدافنا القومية) (¬1) إنني أعتقد أن هذه الفقرات التي أوردتها كافية في الدلالة على صدق صورة هذه الموالاة للغرب، وهي صادقة أيضاً في براء هذا الفكر الإسلامي السليم. ¬

(¬1) جريدة عكاظ / العدد الاسبوعي رقم 4728 بتاريخ 16/6/1399 هـ.

2- وسائل الإعلام:

فالكاتب لا يرى في الإسلام بديلاً صالحاً للمناهج الهزيلة التي تدرس الآن في العالم الإسلامي، لأنه غير مقتنع بصلاحية الإسلام، الذي يربي المؤمنين على العقيدة الإسلامية الصحيحة وعلى الولاء الخالص الصادق لهذه العقيدة. مع البراء من كل دخيل عليها، والشعور بالاعتزاز بهذه المكرمة الربانية التي لا يستحق هذا الكاتب وأمثاله أن يتحلوا بها. لأنها لا تكون إلا لمؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وليست لمجموعة من (فراخ) التعليم الغربي الكافر. فهل وعى ذو الحجى منا خطورة هؤلاء التلاميذ الذين ينشرون هذا الكلام في صحفنا ويضعون مناهج التعليم في بلادنا؟ اللهم بلغت اللهم فاشهد. 2- وسائل الإعلام: لوسائل الإعلام - الكتاب، القصة، الإذاعة، التليفزيون، المجلة الجريدة، السينما وأخيراً الفيديو- أثر كبير وخطير على جميع طبقات المجتمع وقد أدرك أعداء الإسلام خطورة هذه الوسائل وما لها من تأثير عميق فأحكموا قبضتهم عليها، وبثوا من خلالها ما رسموه لإفساد المسلمين وإخراجهم من إسلامهم. وجميع هذه الوسائل تحرص - وبكل ما أوتيت - على فسخ وخلع ولاء المسلم لدينه وإخوانه المؤمنين وتركز بكل قوة على تذويب تميز المسلم عن غيره، وعلى زعزعة برائه وعداوته للكفار، حيث تحسن للناس: أن البلاد الصناعية هي بلاد الحرية وبلاد التقدم وبلاد العلم والرقي والمدنية وأن الذي يشعر أو يدين بالعداوة الدينية لهذه الشعوب هو إنسان لم يعرف روح العصر وروح العلم الذي مزق الحواجز بين الأجناس ووصل القارات وجعل الناس إخوة في الشرق والغرب!! وهي البلاد التي يستطيع الإنسان فيها أن يمارس ما يشاء وكيف شاء!! ولقد قامت وسائل الإعلام في البلاد الإسلامية - ولا تزال تقوم - بحرب شعواء على الدين الإسلامي وعلى المسلمين ففضلاً عن أنها تحسن وتدعو إلى موالاة الكفار: هي أيضاً حريصة على نشر الفاحشة في الذين آمنوا.

والمتتبع للصحف الصادرة في أوائل هذا القرن الميلادي يجد فيها صورة صادقة لما نقول فصحيفة المقطم - مثلاً - تجدها موالية للإنجليز، تعمل لحسابهم، وتصور أفعالهم بأنها أفعال إنسانية، حيث أنهم - أي الإنجليز - لم يقيموا في مصر إلا لرفع الظلم وإحياء العدل، وإليهم وحدهم يرجع الفضل في إنقاذ مصر من كل ما أصابها!! وكذلك كانت مجلة المقتطف تدور كتابتها وآراؤها حول هذا الموضوع (¬1) . وقد عملت هذه الصحف والمجلات المأجورة على إماتة الجهاد بمفهومه الإسلامي الصحيح، وتردد ما يقوله أسيادها من أن المسلمين أناس همج يحبون الحروب وسفك الدماء، ولا تتسع صدورهم للتسامح "لأنهم أناس متعصبون"؟! فإذا أرادوا الخروج من هذه الوصمة فعليهم بالتسامح والتحبب للآخرين وتغيير النظرة إليهم، ويجب عليهم أن يبرأوا من ذلك "التراث" الذي يعمق تلك الروح المتعصبة في نفوسهم (¬2) ! وكذلك كانت مجلة الهلال والمقتطف تعملان على (تطوير الفكر الإسلامي وإشرابه الروح العلمانية التحررية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر) (¬3) . ومن المهام التي عنيت بها وسائل الإعلام: إشاعة الفاحشة، والإغراء بالجريمة، والسعي بالفساد في الأرض لخلخلة العقيدة وتحطيم الأخلاق وإذا انهدم الركنان الأساسيان - وهما العقيدة والأخلاق - فكيف يرجى بعد ذلك قيام بناء سليم (¬4) ؟ وإذا كان هذا هو تأثير وسائل الإعلام بوجه عام، فكيف إذا علمنا أن معظم ¬

(¬1) انظر بتوسع: الاتجاهات الوطنية (1/90 - 113) . (¬2) انظر المصدر السابق (1/112) . (¬3) الإسلام والحضارة الغربية (ص 60) . (¬4) انظر أساليب الغزو الفكري (ص 71) الطبعة الثانية

القائمين على هذه الصحف والمجلات، أناس كفار، قد ملت صدورهم حقداً وكراهية لهذا الدين وامتلأت نفوسهم غيظاً من شدة ما يرو من تأثير هذا الدين، وما تصنعه هذه العقيدة. وهؤلاء كثير. منهم على سبيل المثال لا الحصر: جورجي زيدان مزيف التاريخ وهو صاحب دار الهلال وسليم تقلا مؤسس جريدة الأهرام، ويعقوب وفؤاد صروف صاحبا المقتطف. وهذه الوسائل قد قامت بمحاربة الله في الأرض، تريد أن تحلل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، فنصبت نفسها طاغوتاً يعبد من دون الله. ومصداق ذلك: أن الصحافة المأجورة أيام تأسيسها في مصر ظلت تكتب عن مشكلة البغاء ثلاثين سنة، وكذلك عن مشكلة المرأة واختلاطها بالرجال، وتحطيم هيبة الدين ووصمه بالرجعية والجمود والتقاليد البالية، وأنه لم يعد صالحاً لمواكبة العصر، كما قال الصحافي المأجور (هيكل) حين قال: (إن التقدم التكنولوجي قد أحال أقدس الكتب الدينية - أي القرآن - إلى أوراق صفراء تحفظ في المتاحف) (¬1) . بل تعدت وسائل الإعلام المأجورة من قبل أعداء الإسلام على الألوهية. فقال نجيب محفوظ في إحدى قصصه إن الله قد مات (¬2) "ألا لعنة الله على الظالمين". أما عن قضية حجاب المرأة المسلمة فهذا شيء هاجت له جميع وسائل الإعلام ولا تزال وأول من قاد هذه الدعوة المحمومة قاسم أمين في كتابه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" ونادى بالمرأة المصرية أن تجاري أختها الأوربية في كل شيء، ومن ثمار هذه الدعوة من سميت أمينة وهي ليست أمينة، إنها أمينة السعيد التي قالت وهي تهاجم الحجاب " عجبت لفتيات مثقفات كيف يلبسن أكفان الموتى وهن على قيد الحياة "، وقبلها كانت "الزعيمة" هدى شعراوي وصفية زغلول، وغيرهما ممن اللائي أحرقن الحجاب في ميدان الإسماعيلية الذي سمي بعد ذلك ¬

(¬1) نقلاً عن مذكرة المذاهب الفكرية للأستاذ محمد قطب (¬2) انظر المصدر السابق

"ميدان التحرير" (¬1) ! وخلاصة ما يمكن أن نقوله عن وسائل الإعلام وممن يخطط لها: أنها قلبت المنكر معروفاً وأمرت به، وقلبت المعروف منكراً ونهت عنه. ومن يراجع بروتوكولات حكماء صهيون يجد مصداق ما ذكرنا كله حرفاً بحرف بل أكثر من ذلك، وإليك هذا النص الصريح من نفس البروتوكولات. جاء في البرتوكول الثالث عشر ما نصه: (ولكي نبعد الجماهير من الأمم غير اليهودية عن أن تكشف بنفسها أي خط عمل جديد لنا سنلهيها بأنواع شتى من الملاهي والألعاب وهلم جرا. "وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى من كل أنواع المشروعات كالفن والرياضة وما إليها. " إن هذه المتع الجديدة ستلهى ذهن الشعب حتماً عن المسائل التي سنختلف فيها معه وحالما يفقد الشعب تدريجياً نعمة التفكير المستقل بنفسه سيهتف جميعاً معنا لسبب واحد هو: إننا سنكون أعضاء المجتمع الوحيد بين الذين يكونون أهلاً لتقديم خطوط تفكير جديدة. "وهذه الخطوط سنقدمها متوسلين بتسخير آلاتنا وحدها، من أمثال الأشخاص الذين لا يستطاع الشك في تحالفهم معنا. "إن دور المثاليين المتحررين سينتهي حالما يعترف بحكومتنا وسيؤدون لنا خدمة طيبة حتى يحين ذلك الوقت، ولهذا السبب سنحاول أن نوجه العقل العام نحو كل نوع من النظريات المبهرجة التي يمكن أن تبدو تقدمية أو تحررية. " لقد نجحنا نجاحاً كاملاً بنظرياتنا على التقدم في تحويل رؤوس الأميين الفارغة من العقل نحو الاشتراكية. ولا يوجد عقل واحد بين الأميين يستطيع أن ¬

(¬1) راجع كتب الدكتور الأستاذ محمد محمد حسين (الاتجاهات الوطنية) ، والإسلام والحضارة الغربية وحصوننا مهددة من داخلها.

3- نشر كتب المستشرقين:

يلاحظ أنه في كل حالة وراء كلمة "التقدم" يختفي ضلال وزيغ عن الحق (¬1) . وأحسب أن كل عاقل سيقف بروية عند قولهم "وحالما يفقد الشعب تدريجياً نعمة التفكير المستقل بنفسه سيهتف جميعاً معنا.. الخ. ولكن مع هذا أيضاً نقول: إن هذا الغزو الفكري مهما كان من الشراسة والحنكة والتخطيط مع الدقة وضبط التوقيت المناسب للمادة المناسبة مع هذا كله فإن المسلمين أو أكثر المحسوبين على الإسلام قد أسهموا في عمل هذه الوسائل الخبيثة لأنهم ابتعدوا عن دينهم وتخلوا عن مفاهيم عقيدتهم والله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 3- نشر كتب المستشرقين: لئن كانت حركة الترجمة الأولى قد صحبها من الانحرافات ما سبق الإشارة إليه، فإن حركة الترجمة المعاصرة أشد خبثاً من سابقتها وأكثر إفساداً منها. ذلك أن الترجمة الحديثة لم تكن في غالب الأحوال عن طريق غير المسلمين فحسب، بل اتجهت إلى ترجمة كتب المستشرقين الحاقدين الذين قاموا بأعمال فكرية كثيرة هدفها الأساسي تشويه مصادر التلقي عند المسلمين وتكديرها بالأفكار المغرضة والدسائس الحاقدة. لينشأ جيل إسلامي مفصول العرى عن دينه وأمته، يتخذ من الطرائق الغربية في التفكير والبحث قبلته الوحيدة، ولا يشعر بالانتماء للإسلام ديناَ ومنهجاً وحضارة. وكتابة المستشرقين تتفق في معظمها على أسلوب واحد هو: إنها دراسات ¬

(¬1) بروتوكولات حكماء صهيون (ص 168) ترجمة محمد خليفة التونسي الطبعة الرابعة وانظر مكائد يهودية للميداني (ص 346) .

موجهة من قبل المستشرقين أنفسهم ومن قبل من يمولهم في عملهم فهي ليست دراسات علمية يقصد بها وجه العلم، يدل على ذلك قول "سمث" في كتابه "الإسلام في التاريخ الحديث" في الفصل الثالث الذي تكلم فيه عن العرب: إن الإسلام كان عاملاً أساسياً وسبباً مهماً من أسباب وجود الهوة التي تفصل بين الغرب والعرب ثم يقول: "لقد أصبح من الحقائق الجديدة في مدنيتنا العصرية أن من الواجب سد هذه الثغرات ببناء قنطرة فوق مثل هذه الهوة، وخلق الأسباب الموصلة للتفاهم والتواصل ... وخلق مثل هذا التفاهم بين المدنيات المختلفة والأديان المتباينة يتطلب جهوداً مبتكرة لا يتوصل إليها إلا بصعوبة (¬1) . "ولقد قام المستشرقون بجهود كبيرة تمثلت في إحياء بعض النصوص والمخطوطات الإسلامية وكان لهم في ذلك طرق منظمة إلى حد ما، ولهم أيضاً في ذلك أخطاء كثيرة في فهم النصوص وتفسير الأحداث، ولكن مع كل ذلك فليست العبرة بالجهد الذي بذل وإنما العبرة بالهدف الذي بذل هذا الجهد من أجله هل كان هذا الهدف هو "خدمة" الإسلام أم تشويه الإسلام وتلويث صورته في النفوس" (¬2) ؟ ويدعي المستشرقون في كل ما يكتبون الروح العلمية أو الروح المتجردة! وغير ذلك من الشعارات التي تكذبها كتابة المستشرقين أنفسهم، ودليل ذلك أن مرجليوث - وهو من أئمتهم - يقول في فصل له منشور في موسوعة "تاريخ العلم" إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل مجهول النسب لأنه محمد " بن عبد الله" وقد كان العرب يطلقون على من لا يعرفون نسبه اسم عبد الله!!! أوليس منبع هذا هو الحقد الصليبي لا الروح العلمية المتجردة؟ أوليس دافع هذا: التشكيك في الحقائق المسلمة البدهية؟ كيف يقال هذا الكلام ورسوله صلى الله عليه وسلم من قوم لا تعرف شيئاً كما تعرف ¬

(¬1) (ص 102 - 103) نقلاً عن الإسلام والحضارة الغربية (ص109) . (¬2) هل نحن مسلمون (ص174) بتصرف بسيط.

الأنساب ولا تعتز بشيء كاعتزازها بالأنساب؟ أي سخف وأي تفاهة في هذا التفكير الاستشراقي الخبيث؟ (¬1) وماذا ينتظر من هؤلاء وواحد من زعمائهم "جولد تسيهر" يقول في كتابه "العقيدة والشريعة" إن النظام الفقهي الإسلامي الدقيق مستمد من "القانون الروماني" ونظامه السياسي متأثر بالنظريات السياسة الفارسية، وتصوفه يمثل الآراء الهندية والأفلاطونية الجديدة!!! (¬2) . ولو أردنا تتبع الأمثلة لطال الحديث في ذلك. ولكننا نقول: ما دام هؤلاء الناس بهذه الروح الحاقدة والنية السيئة والفعل الخبيث. سلاحهم التشكيك، ودينهم الكذب والتزوير وطابعهم الحقد الصليبي القديم، ما داموا كذلك فما هو - يا ترى - قيمة كل ما كتبوه؟ وماذا يرتجي من تلاميذهم الذين ينظرون إليهم بروح الإجلال والإكبار وأنهم هم أساطين البحث العلمي المتجرد؟ إن كثيراً من تلاميذهم يستطيع أن يغالط نفسه وغيره ممن هو على شاكلته كثيراً ولكنه لا يستطيع أن ينكر واقعاً مشهوداً في حياة المستشرقين أنفسهم غير ما ذكرنا من الأمثلة السابقة. ذلك أن الطلاب المبتعثين للدراسة على أيدي المستشرقين لا بد أن يختاروا بحوثهم العلمية على ما يريده لهم أساتذتهم. فإن لم يكن كذلك وأعطي الطالب حرية الاختيار فلا بد أن تكون الكتابة في أي موضوع خاضعة لما يمليه هذا المستشرقين وما يصبوا إليه من الطعن في الإسلام شريعة وعقيدة ونظام حياة خاصة إذا كان البحث في "قضايا الإسلام" وخير مثال على ذلك ما ذكره الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله حيث قال: (حدثني البروفسور "اندرسون" نفسه أنه أسقط أحد المتخرجين من الأزهر الذين أرادوا نوال شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي من جامعة ¬

(¬1) انظر المصدر السابق (ص172) . (¬2) المصدر السابق (ص176) .

لندن، لسبب واحد هو أنه قدم أطروحته عن حقوق المرأة في الإسلام، وقد برهن فيها على أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة، فعجبت من ذلك، وسألت هذا المستشرق: وكيف أسقطته ومنعته من نوال الدكتوراه لهذا السبب، وأنتم تدعون حرية الفكر في جامعاتكم؟ قال: لأنه يقول: الإسلام يمنح المرأة كذا والإسلام قرر للمرأة كذا، فهل هو ناطق رسمي باسم الإسلام؟) (¬1) !! لقد أحدثت كتب المستشرقين زعزعة كبيرة في نفوس ضعاف الإيمان، فخرج من هذه المدرسة التشكيلية أجيال تولت القيادات الفكرية والعلمية في العالم الإسلامي وأخذت تردد كالببغاء ما أملاه عليها أساتذتها "العلماء". ولقد كان من أهم أهداف المستشرقين وتلاميذهم الطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة النيل منها. ومصداق ذلك أن أحد هؤلاء التلاميذ وهو الدكتور علي حسن عبد القادر قال لتلاميذه بعد أن رجع "دكتوراً" إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها، وإني اعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام ولكني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا (¬2) !! قال الأستاذ السباعي رحمه الله: ثم تبين لنا فيما بعد أنه يملي علينا ترجمة حرفية لكتاب "جولد شهير" دراسات إسلامية!! (¬3) . أما أكثر ما يعتمدون عليه في الطعن في السنة من غير الشبه والشكوك فهو حكاية عرض الحديث على "العقل" وهي حكاية قديمة نادى بها المعتزلة، وتبعهم عليها المستشرقون وتلاميذهم أمثال أحمد أمين وأبي رية وغيرهم كثير. وللمستشرقين أيضاً كتابات أخرى دس فيها السم بالعسل وذلك أنهم ¬

(¬1) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي (ص 13) الطبعة الثانية وذكر أيضاً - رحمه الله - أمثلة كثيرة حول هذا الموضوع فليراجعها من شاء في ذلك الكتاب القيم. (¬2) السنة للسباعي (ص19) . (¬3) نفس المصدر (ص 19) .

يصدون كتاباتهم بقليل من المدح للإسلام وأنه فعل كذا كذا.. الخ، وهم يهدفون من وراء ذلك إلى كسب ثقة القارىء، ثم يبدأون بنفث الحقد الدفين في نفوسهم بأن يشككوا في العقيدة والشريعة ويوردوا سيلاً من الشبه التافهة من أجل زعزعة ثقة المسلم بدينة (¬1) تحقيقاً لقوله تعالى: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [سورة آل عمران: 72] . ومما لاشك فيه أن هناك أموالاً وحكومات وراء نشر كتب المستشرقين في العالم الإسلامي لأن هذا الغزو يحقق لأعداء الإسلام ما لم يحققه لهم الغزو العسكري. على أنه من المهم أن نقول هنا: أن تخلي المسلمين عن منهجهم العلمي بعد تخليهم عن مفاهيم العقيدة الصحيحة وترك منهج المحدثين الذي هو أعظم منهج علمي وضع في تاريخ البشرية سبب مباشر يقف إلى جانب كيد المستشرقين في ازدياد هوة الانحراف الذي وقع في حياة المسلمين: وخلاصة القول: إن كل من تأثر بالمستشرقين - فكراً أو منهجاً - لا يمكن أن يكون ولاؤه لدينه وأمته صافياً صادقاً كما أن براءه لن يكون وفق التصور الإسلامي الصحيح. ¬

(¬1) الأستاذ الدكتور محمد محمد حسين جزاه الله خيراً تتبع مزيداً من هذه البحوث في كتابه الإسلام والحضارة الغربية خاصة في الفصول الرابع والخامس والسادس فليراجع.

4- المذاهب اللادينية:

4- المذاهب اللادينية: إن من أخبث وأخطر ما واجه المسلمين في عصرهم الحاضر انتشار المذاهب اللادينية بينهم، حيث أريد لهذه المذاهب الهدامة أن تمحو شريعة الله من الأرض وتقصيها من واقع حياة المسلمين. وتشتت ولاء المسلمين الواحد إلى ولاءات جاهلية متعددة، فإذا انتزع ولاء المسلم لدينه سهل حينئذ تقبله لأي فكر، ورضي بأي وضع يعيش فيه مهما كان في ذلك من التبعية والانهزام. من هنا عمل أعداء الإسلام على بث هذه المذاهب مستخدمين لذلك وسيلتين: (1) الهجوم الشرس على العقيدة الإسلامية والشريعة ورميها بأحط ما وضعوا من عبارات مسفة كقولهم إن الشريعة الإسلامية شريعة بربرية تشوه يد السارق، وترتكب جريمة فظيعة برجم الزاني المحصن ولا تساير روح العصر الذي سيطرت عليه المعارف "التكنولوجية" بل ليس في الإسلام مواد قانونية تنظم حياة الناس.. إلى آخر ذلك الهراء. (2) إضفاء صبغة البهرجة الكاذبة، والدعاية لتلك المذاهب الهدامة ووصفها بأنها هي علامة التقدم ومسايرة الركب الحضاري العالمي، وهى التي تعطي الناس الحرية في كل شيء. وهي مذاهب لا تقيد إنسان بدين معين، بل يأخذ ما يريد ويدع ما لا يريد مذاهب تخلو من التزمت وضيق الأفق.. إلى آخر ما هنالك مما يقال. ولقد وقع كثير من المنتسبين للإسلام فريسة لهذا الغزو الصهيوني الماكر ولا أريد هنا أن أدخل في قضية الردود على كل جزئية فإن ذلك ليس من منهج هذا البحث، كما قد أشرت إلى ذلك سابقاً وصدق القائل: لو كل كلب عوى ألقمته حجراً ... لأصبح الصخر مثقالاً بدينار

خطورة إحياء الحضارات الجاهلية

ثم إننا لم نعد بحاجة كبيرة لتتبع الرد على شبهات الأعداء وقولهم إن هذا العصر لم يعد بحاجة إلى الدين، لأن هذا كلام يكذبه واقعهم هم، بدليل ما نشاهده اليوم في البلاد الكافرة كأمريكا وأوروبا من حالة الضياع والانتحار والقتل وفظائع الجريمة والخواء الروحي. وبحثهم عما يشبع جوعهم الروحي الذي لا يملأه إلا الإسلام. وأما ما يتعلق بهجرة مذاهبهم الإلحادية فأكبر مثال يكذبها عندهم هم هو فشلها في بلادهم. ثم ما كتبه مفكروهم عن تدهور الحضارة الغربية، حيث ذكروا أنها في طريقها إلى الزوال وهذا أمر ثابت لا يحتاج إلى جدال. فإن كل بناء قام على غير ما شرع الله مصيره الزوال والدمار كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ { [سورة الأنعام: 44] . وأوربا اليوم قد فتح عليها كل شيء في العلم المادي والتقدم الصناعي والسياسة والمال والاقتصاد وغير ذلك، ولكنها مع هذا كله في طريقها للزوال وفق سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول. هذا وبالرغم من أنني سأعطي فكرة موجزة عن هدف كل مذهب يتعلق ببحثي إلا أنني أبادر إلى القول بأن الهدف الأول والأخير من كل هذه المذاهب الكافرة هو: إخراج المسلم من إسلامه وقطع ولاء المسلم بربه ودينه وإخوانه المؤمنين، ثم العودة إلى روح الجاهلية التي تتمثل في الطاعة والانقياد والخضوع لهذه المذاهب الكافرة ولطواغيتها الذين يخططون لها. والعودة أيضاً بالمسلمين إلى جاهلية العرق والنسب والتراب وسائر أنواع النتن التي أمر الله المسلمين بتركها

القومية والوطنية

لأنها تنقض عرى الإسلام عروة عروة. وهذا الهدف تتفق عليه كل المذاهب الكافرة باتجاهاتها المختلفة وانتماءاتها المتنوعة ولكنني - وأنا أكتب عن عقيدة الولاء والبراء - سأقتصر على تلك المذاهب التي تبدو فيها صورة منافاتها لهذه العقيدة واضحة جلية، وتناقضها معها أمراً ظاهراً. ومن ذلك القومية والوطنية، اللتان تحصران الولاء في دائرة الجنس أو التراب فيلتقي فيها مثلاً اليهودي العربي والنصراني العربي والمشرك العربي، والبعثي العربي مع المسلم العربي لأن رابطة القومية العربية تجمعهم!! وهذا أمر يرفضه الدين الحنيف لأن الرابطة فيه هي رابطة العقيدة، فضلاً عن أن الوطنية والقومية ضيقتا دائرة الولاء. إن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظلله راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ورغم خط الانحراف الذي يرتفع ويهبط في تاريخ المسلمين إلا أنهم إلى ما يقرب من ثلاثة قرون كانوا يشعرون أنهم أمة واحدة لأنهم يدينون بدين واحد ويؤمنون بكتاب واحد وسنة واحدة ويتحاكمون إلى شريعة واحدة. ولقد كان المسلم يخرج من طنجة حتى ينتهي به المقام في بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هوية وطنية وإنما يحمل شعاراً إسلاميا هو كلمة التوحيد، فكلما حل أرضاً وجد فيها له إخوة في الإيمان وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية. ولكنه نتيجة لضعف المسلمين وتمكينهم عدوهم من أنفسهم سهل استعمارهم من قبل أرذل خلق الله. وهم اليهود والنصارى ومن جاء بعدهم كالملاحدة الشيوعيين. وبعد أن تمكن العدو من السيطرة على أرض الإسلام أخذ يبث سمومه ويغرس في نفوس الضعاف والسذج والعملاء حبه ونصرته وموالاته، واستحسان ما هو عليه من باطل وكفر، وهنا نزع الولاء الإسلامي ليحل محله الولاء الجاهلي الكافر. ومصداق هذا الكلام قول أحد المستشرقين في كتاب "الشرق الأدنى مجتمعه

وثقافته" وهو يتحدث عن أسلوب نزع ولاء المسلمين فيقول (إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض لنحصل على تراث الحضارات القديمة قبل الإسلام، ولسنا نعتقد بهذا أن المسلم سيترك دينه ولكنه يكفينا منه تذبذب ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات) (¬1) . وهذا الكلام صادق في ذاته، لأن نشوء فكرة إحياء الحضارات والنعرات الجاهلية أمر خطير على قضية الولاء، حيث ينشأ من ذلك فصام نكد، ويبتدئ الميل والحب - بفعل شياطين الجن والإنس - يكبر تجاه هذه الحضارات ويقل ثم يضمحل الولاء الإسلامي الخالص لله رب العالمين. وبعد أن كان البراء أمراً ملازماً للولاء تجاه هذه النعرات الجاهلية أصبح أمراً لا وجود له - إلا عند من رحم الله - لأن هذه الأفكار كفيلة بغسل فكرة البراء من النفس عند ضعاف الإيمان، أو المغالطة عند البعض بأن هذه الأفكار والمذاهب لا تتعارض مع الإسلام! ويقال: ما الذي يمنع المسلم أن يكون مسلماً وقومياً أو مسلماً علمانياً أو مسلماً اشتراكياً.. الخ. ولما أدرك أعداء الإسلام مدى جدوى وفاعلية هذه الفكرة التي تمسخ المسلم حتى يصبح مخلوقاً لا صلة له بالله - كما قالوا - بدأوا ببث فكرة القومية والوطنية مبتدئين بتركيا مقر آخر خلافة إسلامية، حيث نشأت هناك: القومية الطورانية وتزعم هذه الدعوة حزب "الاتحاد والترقي" فبدأ بالمطالبة "بتتريك" تركيا، وعودة القومية الطورانية متخذين لذلك شعار: الذئب الأغبر الذي هو معبود الأتراك قبل أن يعرفوا الإسلام. وبهذا (التتريك) أخذت الدولة العثمانية تضغط على العرب، حيث تعطي الأتراك امتيازات خاصة بهم لأنهم ترك! وهذا الفعل فضلاً عن كونه يعارض مبدأ العدل الإسلامي هو أيضاً مؤشر للعرب أن يتحدوا في قومية عربية جديدة! وهذا هو الذي حصل فعلاً. فلقد قام الجاسوس لورنس - الذي سماه المغفلون - "لورنس العرب" ¬

(¬1) نقلاً عن مذكرة المذاهب الفكرية

بالتخطيط لقيام ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ضد الخلافة العثمانية وانضم العرب إلى جيوش الحلفاء الذين لا يرقبون في مؤمن إلا وذمة ولا يراعون في مسلم عهداً ولا حرمة (¬1) . ومن المضحك المخزي أن محرك هذه الجيوش العربية هو لورنس العرب!! فانظر أيها القارئ إلى جيوش عربية تزعم أنها مسلمة وولاؤها لجاسوس غربي كافر اسمه لورنس!! وبعد انتهاء مهمة هذه الجيوش قال أحد القادة الإنجليز - "اللينبي" - قولته المشهورة "الآن انتهت الحروب الصليبية"!! يقصد بذلك أن الحقد الصليبي ظل كامناً في نفوس الصليبيين إلى أن استردوا بيت المقدس" (¬2) . وانفصل العرب عن إخوانهم المسلمين في أنحاء المعمورة واعتنقوا القومية العلمانية من أجل تقليد الغرب الذي آمن بها بالأمس وكفر بها اليوم. وأصبح "كل تجمع أو حتى تضامن أو تقارب على أساس العقيدة والدين مظهراً من مظاهر التخلف والرجعية يجب أن تبرأ منه الجماهير لتكون عصرية تقدمية" (¬3) . ولما انتكست العرب وعادت إلى نعرة الجاهلية، فقدت روح التضحية والجهاد، وولت وجهها تجاه اليمين واليسار، حيث اليمين له ألوان وضروب من واشنطن إلى باريس إلى لندن واليسار له ألوان أحمر وأصفر وبينهما بعد ما بين موسكو وبكين (¬4) . ولما وقعت هذه النعرة الجاهلية، وقع معها كل باطل وكل شر فأما شريعة الله وحكمه وقيامها بما يحتاج إليه البشر لأنها من عند الله وهو العليم سبحانه بما يصلح أحوال البشر: فقد أقصيت وحل محلها قانون البعث العربي الاشتراكي الذي أخذ هذا الشعار. ¬

(¬1) العرب والإسلام للندوي (ص9) . (¬2) انظر المحاضرة القيمة: المخططات الصهيونية للأستاذ محمد قطب الطبعة الأولى سنة 1398 هـ المختار الإسلامي بالقاهرة. (¬3) درس النكبة الثانية للأستاذ يوسف القرضاوي (ص 45) الطبعة الأولى. (¬4) درس النكبة الثانية (ص36) .

لا تسل عن ملتي أو مذهبي ... أنا بعثي اشتراكي عربي ومن المضحك أن صاحب هذا الشعار حين تلقى صفعة موجعة من اليهود بالرغم من ولائه لهم - مسح ذلك الشعار وكتب مكانه "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"!!! (¬1) . أما ثمار هذا (الفتح الجديد) بعد الرضى بالقومية فشيء يصعب حصره، حيث انطلقت الغرائز البهيمية وطغت الشهوات، وانتشر المجون والفسق، وتحللت الأخلاق وغربت الفضائل، فأصبح العفاف والاحتشام والحياء: رجعية متزمته لم تر نور القرن العشرين، وأصبح اللهو والخلاعة والصور العارية والقصص الخليعة والأدب الرخيص، والأزياء المثيرة والغناء والرقص والاختلاط سمات الحضارة وعنوان التقدم وشارة التحرر من ربقة التقاليد البالية!! (¬2) . وأعجب من ذلك كله أن اليهود الذين هم وراء هذه الردة الجديدة يعلنون وبصراحة وجدية واضحة أنهم لم ولن يتخلوا عن دينهم فهذا موشي ديان حين سئل هل كنتم تشعرون أن الله معكم في معركة 5 حزيران؟ قال: كنا نشعر أننا في جانب الله " (¬3) . ويقول زعيم الصهيونية الأول "هرتزل": إن العودة إلى صهيون يجب أن تسبقها عودة إلى اليهودية (¬4) . ونشطت الدعوات الهدامة، فهذه النعرة الفرعونية تطل برأسها وتسفر عن وجهها بعد أن كانت لا تظهر إلا مقتنعة أو من خلف ستار. نشط دعاتها في الصحف والندوات ورسموا رأس "أبي الهول" على طوابع ¬

(¬1) نظرية التربية الإسلامية للشيخ محمد للغزالي. وهو بحث قدم لندوة أسس التربية الإسلامية بمكة في 11/6/1400هـ. (¬2) انظر درس النكلبة الثانية (ص39) . (¬3) المصدر السابق (ص82) . (¬4) نفس المصدر (ص82) .

البريد وعلى أوراق النقد، اجتاحت مصر موجة من الفرعونية، تحاول غزو سائر النواحي الثقافية، وتدعو إلى إقامة الفنون على أسس فرعونية، وتزعمت صحيفة "السياسة الأسبوعية" هذا الاتجاه الجديد، فأفسحت صدرها لهؤلاء الدعاة ولم يخل عدد من أعدادها من حديث عن حضارة الفراعنة وثقافتهم ومجدهم (¬1) . وكثر التغني بهذه الأمجاد من أجل ذبذبة ولاء المسلم، فهذا حافظ إبراهيم يقول: أنا مصري بناني من بنى ... هرم الدهر الذي أعيى الفنى ورجعت العراق لعنصرية الآشوريين، وكل بقعة أخذت تنادي بهذه الردة الجديدة. أما الشعار الوطني الجديد: فهو ما أعلنه سعد زغلول بقوله: الدين لله والوطن للجميع! أي الوطن ليس لله، ثم قال: لا تنادوا بشعارات إسلامية خشية أن يغضب إخواننا الأقباط (¬2) . ونادى دعاة القومية الناس بأسلوب ماكر فقالوا: ما المانع أن يكون المسلم العربي - عربياً مسلماً، ثم قالوا: يكون عربياً فقط. أليس الإسلام عربياً؟ إذن ما هو عيب القومية العربية؟ إن العرب إذا ذلوا ذل الإسلام فلنناد بالقومية العربية!! وهذا كلام غير صحيح لأنه يوم ذل العرب جاء صلاح الدين الكردي، وجاء قطز المملوكي فأنقذوا المسلمين من ذلك الهوان، وانتصر القائدان بقولهما وإسلاماه. ولم يكن في حسهم ولا في عقيدتهم هذه التفرقة ولا هذه النعرة الجاهلية (¬3) . إن الإسلام يكذب ذلك الزعم الذي يزعمه القوميون لأنه جاء لانتزاع هذه النعرات فجمع في دعوته بل في أول دعوته: أبا بكر العربي القرشي وبلال ¬

(¬1) انظر: أزمة العصر للدكتور محمد محمد حسين (43 - 53) . (¬2) مذكرة المذاهب الفكرية. (¬3) مذكرة المذاهب الفكرية.

الحبشي وصهيباً الرومي وسلمان الفارسي. وكما قال عمر رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا التمسنا العزة بغيرة أذلنا الله. إن تقليد الغرب في استيراد مبدأ القومية أو العلمانية أو أي مذهب أو فكر: يعيد للأذهان تلك القصة الرمزية القديمة التي تتحدث عن حمارين كان أحدهما يحمل ملحاً وكان الآخر يحمل إسفنجاً. فرأى حامل الاسفنج صاحبه ينزل إلى الماء فيذيب بعض الملح ويخرج منه أخف حملاً، فخطر له أن يحصل على المزية نفسها بالأسلوب نفسه، فكانت النتيجة على عكس ما توقعه، وخرج من تجربته أثق حملاً (¬1) . وخلاصة القول في القومية: إنها شرك بالله لأنها بإيجابها العمل لها وحدها والتضحية والجهاد في سبيلها، وصرف الكره والبراء وما يتبعهما ضد كل خارج عن القومية، وصرف الحب والولاء وما يتبعها للقوميين ومن والاهم: هي بهذا تكون نداً يعبد من دون الله لأن ذلك يقوم مقام النفي والبراء والإثبات والولاء وهما ركنا الألوهية، أو العبادة في قوله "لا إله إلا الله" فلا "إله" نفي وبراء، و"إلا الله" إثبات وولاء لله لا شريك له. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ { (¬2) [سورة البقرة: 165] . ¬

(¬1) الإسلام والحضارة الغربية (ص237) . (¬2) انظر فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام ص 254 للشيخ صالح العبود الطبعة الأولى سنة 1401 الناشر دار طيبة بالرياض وهي أوسع كتاب فيما أعلم في قضية القومية العربية. ويراجع أيضاً كتاب الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية للندوي (ص124 - 162) الطبعة الثالثة، وكتاب الاتجاهات الوطنية (1/67، 105، 2/292) وكتاب الشعوبية الجديد لمحمد مصطفى رمضان.

وليس بعد الحق إلا الضلال. فليحذر كل مسلم على نفسه من الوقوع في هذا الشرك المقنع. وأما العالمية: أو "الإنسانية" فهي تتفق أيضاً مع القومية والوطنية في مناقضة عقيدة الولاء والبراء، ولكن هذا التناقض يتخذ شكلاً آخر: هو توسيع دائرة الولاء بحيث يدخل فيها كل الأقوام والأديان والأوطان. وهذا في حقيقة الأمر ضياع للولاء ومسخ للبراء حتى لا يعود المسلم يشعر بالفارق بينه وبين أي كافر في بقاع الأرض. ويقوم هذا المبدأ على ألفاظ خادعة وموهمة مثل: الحرية والأخوة والعدل والمساواة. وفي ذلك يقول "كالفرلي": (وحينما يصبح في مقدور الجميع الوقوف على كل المعلومات المجردة عن الهوى، وحينما يصبح الجميع أحراراً في تفكيرهم، لهم من الشجاعة ما يجعلهم يتقبلون ما هو خير وعدل وجميل، وعندئذ يكون من المحتمل أن يسود العالم دين واحد. وإني سأكون سعيداً باتباع دين عالمي موحد، تنبع مصادره من حقائق التاريخ، وتشمل مبادئه العدالة الاجتماعية، وتقوم بفضله مظاهر الحب والإخاء على أنقاض الكراهية والخصومة (¬1) . وهذا الكلام هدم صريح للإسلام، ومعمول هدم لطمس الجهاد الإسلامي الذي يقوم على تحرير الناس من عبودية بعضهم لبعض، ومن انقسامهم إلى "ملأ" وهم السادة الأقوياء و"عبيد" وهم التابعون الأذلاء: إلى جعلهم كلهم عباداً لله. وكما نعلم جميعاً أن الجهاد يرهب أعداء الله، ويخافونه كثيراً، ولذلك ما فتؤوا يبحثون عن وسائل متنوعة لإبطاله ومحوه من أفكار المسلمين، إنهم تارة يقولون: الإسلام انتشر بالسيف، وتارة يقولون، إنه دين وحشي لا يرحم الناس وقد لا تكون هذه مجدية لما يريدون، فقالوا: العالمية والإنسانية هي المذهب الجديد الذي يعيش فيه الناس بأمن وسلام وعدالة وإخوة، بصرف النظر ¬

(¬1) الإسلام والحضارة الغربية (ص132) .

عن الأديان والأوطان! ويزيد هذا الأمر إيضاحاً ما قاله معروف الدواليبي (.. إننا نشاهد منذ المنتصف الثاني لعصرنا الحاضر من القرن العشرين تطلعاً كبيراً نحو إقامة الحياة البشرية على مفاهيم وقواعد إنسانية، ورغبة أكيدة من قبل رجال الفكر والعلم وقادة السياسة للانتقال بالمجتمع الإنساني المتمايز المتناحر إلى مجتمع إنساني واحد متعاون وذلك في إطار "وحدة الأسرة البشرية" من غير تفاضل بين الأقوام إلا بالتقوى، وفي إطار "حق الجميع في الحياة الكريمة " من غير تمايز في الأعراق أو في الأجناس أو في الأديان وفي إطار " وحدة المصالح الاقتصادية للجميع" من غير استئثار من قبل الكبار والأقوياء على حساب الصغار والضعفاء. وفي إطار "العدالة المطلقة بين الجميع حماية لسلام الإنسان"، ثم ذكر أن هيئة الأمم المتحدة أخذت تدعو لهذه المفاهيم العالمية الجديدة التي (تدعو إلى محو التمايز فيما بين الأسرة البشرية وأجناسها، قومياً وعرقياً واقتصادياً وفقاً لمبادئ حقوق الإنسان) (¬1) . ¬

(¬1) مجلة رابطة العالم الإسلامي الشهرية العدد الخامس، السنة التاسعة عشرة، جمادي الأولى سنة 1401هـ هذا ومن الجدير بالذكر أنه قد ورد في مجلة العربي الكويتية في العدد 267 ربيع الأول سنة 1401هـ مقالان حول هذه الدعوة. الأول منها: (ص 18) للدكتور محمد فتحي عثمان تحدث فيه عن "المسلمون والآخرون" وطالب المسلمين المعاصرين في إعادة النظر حول قضية دار الحرب ودار الإسلام، وأن هذا تقسيم غير صحيح، ولا يدل عليه الكتاب ولا السنة، بل هو من صنيع الفقهاء مبيناً أن الخلافة الإسلامية كانت صورة تاريخية وهي لم تعش طويلاً فعلى المسلمين ألا يفكروا فيها مرة أخرى، وعليهم إعادة النظر في قضية العلاقات الدولية مع العالم المعاصر، لكي يتقنوا فن التعاون الدولي مستفيدين من إعادة نظر الولايات المتحدة العملاقة في سياستها إزاء الكساد الاقتصادي في الثلاثينات من القرن العشرين. وكذلك ما حدث في الكتلة الشرقية حين عدل خروشوف عن سياسة سلفه ستالين.. الخ. والكاتب يرى التعديل في المفاهيم الإسلامية مثلماً يرى أرباب القانون الوضعي تعديل قوانينهم القاصرة وكأنه يجهل أو يتجاهل أنه لا مقارنة بين الدين الرباني الذي نزل من الحكيم الخبير وبين أفكار البشر القاصرة الهزيلة، وهذه الدعوة فيها خدمة لمبدأ العالمية ودعوة غير مباشرة لإبطال شرعية الجهاد في الإسلام. = أما المقال الثاني: وهو أخبث من سابقه فهو لفهمي هويدى بعنوان "المسلمون والآخرون أشواك وعقد على الطريق" (ص49) وهذا المقال يدعو لما دعا إليه الكاتب السابق مع زيادة هي: تجهيل علماء المسلمين ووصمهم بعدم معرفة دلالات النصوص وملابساتها، قائلاً: إن تلك المرحلة - يريد مرحلة التاريخ الإسلامي الطويلة المشرقة - كانت لها حساباتها وموازينها الخاصة التي لا يمكن تعميمها على بقية مسيرة التاريخ البشري ومؤكداً "أنه ليس صحيحاً أن المسلمين صنف متميز ومتفوق لمجرد كونهم مسلمين، وليس صحيحاً أن الإسلام يعطي أفضلية لهم، ويخص غيرهم بالدونية لأنهم كفار ويكفي أن هذا الكلام فضلاً عن كونه دعوة لمبدأ الإنسانية الماسوني هو أيضاً صورة واضحة من صور الولاء للكفار لأن هذا الكلام الذي ساقه هويدى أمنية للكفار أن يتحدث به أبناء المسلمين لكسر التميز الذي ينبني على الولاء والبراء والحب والبغض حسب المقياس الإسلامي الصحيح فعلى المسلمين أن يتبينوا مواقع الزلل والانحرافات في مثل هذه الدعوات الإلحادية.

ونتساءل بعد هذا الكلام. أي قانون بشري يريد دعاة العالمية أن يعيش الناس تحت لوائه؟ هل هو ميثاق هيئة الأمم المتحدة؟ فهي. منظمة السيطرة فيها لليهود والنصارى والشيوعيين وأكبر دليل على ذلك ما يسمى بـ"حق الفيتو" الذي يرفض كل ما يتعارض مع مبدأ أولئك المسيطرين أم أنها الغفلة والانخداع بما خطط له دعاة هذا المذهب الفاسد؟ أم أنه الخبث والدهاء في تحذير الأمة الإسلامية بأن الجهاد أمر لم يعد يصلح لمسايرة العصر الحديث لأن العالمية لا تقره ولا ترضاه؟ وأقرب الإجابات إلى نفسي هو جواب السؤال الأخير ذلك الجواب الذي يعرفه كل مخلص لدينه وربه وكل مؤمن يعرف كيد الجاهلية المعاصرة فيربأ بنفسه أن ينخدع بأي دعوة لا تنبثق من مشكاة النبوة المحمدية والرسالة الربانية الخالدة. ونحن إذ نقرر هذا الجواب المؤكد، فليس ذلك تجنباً أو مجرد ثورة عاطفة ضد هذا المذهب الإلحادي الكافر، بل هو عين ما يهدف إليه دعاة الماسونية العالمية التي تولت كبر الدعوة إلى هذه النحلة الجديدة بجميع أهدافها وشعاراتها. ولذلك يقول أحد الماسون " إن ما تبغيه الماسونية هو، وصول الإنسانية شيئاً فشيئاً إلى النظام الأمثل الذي تتحقق فيه الحرية بأكمل معانيها وتزول منه الفوارق

كلمة حول هذه المذاهب

بين الأفراد والشعوب ويسود فيه العلم والجمال والفضيلة" (¬1) . وختاماً نقول: إن كل المذاهب البشرية القائمة اليوم في الأرض التي لا تستمد وجودها من الكتاب والسنة محادة لله ولدينه وكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأي تقبل لها أو عمل بمبادئها فإن ذلك موالاة صريحة للكفار، وبراءة صريحة من الإسلام والله قد بين لنا في كتابه العزيز أن من تولى الكفار فهو منهم: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ { [سورة المائدة: 51] . والإسلام هو الدين الذي يجمع ولا يفرق، وهو الذي يجعل الناس في ميزانه الإيماني سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى. وهو الذي تتحقق فيه العدالة في أسمى صورها، ويتحقق فيه الأمن لأنه لا خوف إلا من الله وهو الذي يكسر شوكة كل طاغوت يريد إذلال الناس له من دون الله. وهو الذي فيه الطمأنينة والسعادة: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ { [سورة الرعد: 28] . وهو الذي تتحقق فيه الحياة الكريمة مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ¬

(¬1) الإسلام والحضارة الغربية (ص197) .

{أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [سورة النحل: 97] . وهو الذي يحصل به التمكين الرباني {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { [سورة النور: 55] .

الخاتمة

الخاتمة الإسلام طريق الخلاص وسبيل النجاة ما الخلاص من هذا الهوان والتبعية اللذين أصيبت بهما الأمة الإسلامية اليوم؟ ما سبيل النجاة مما يراد بالمسلمين اليوم في جميع أنحاء الأرض؟ هل من سمات معينة لذلك المخلص؟ ولمن المستقبل في نهاية الأمر؟ الجواب: إنه الإسلام ولا شيء غيره فهو الذي ينقذ الناس مما هم فيه ممن حالة الضياع والهبوط والعبودية لغير الله، فيخرجهم كما أخرج سلف هذه الأمة من الظلمات إلى النور، ومن الجور إلى العدل، ومن ضيق الدنيا إلى سعة ونعيم الآخرة. ولكن هذا الطريق المستقيم يحتاج إلى سالك جاد، سائر يسير فيه دون الالتفات إلى اليمين أو اليسار {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام: 153] . "والحق أنه لا يمكن أن ينهض صرح الحياة الإسلامية الكاملة الخالصة إلا على دعائم الإقرار بالتوحيد الذي يحيط بجميع نواحي الإنسانية الفردية

والجماعية، والذي يحسب (¬1) الإنسان بموجبه أنه هو وكل ما بيده من شيء ملك لله، ويرى أن الله هو المالك الشرعي الحقيقي له وللعالم كله، المعبود المطاع الذي له الأمر والنهي. وأن لا ينبوع للهداية إلا هو، وتطمئن نفسه بكل شعور إلى أن الانحراف عن طاعة الله أو الاستغناء عن هدايته وإشراك غيره به في ذاته وصفاته وحقوقه وتصرفاته إن هو إلا إمعان في الضلالة من أي ناحية جاء أو في أي لون كان. ثم إن هذا البناء - بناء الإيمان بالله - لا يمكن توطيد دعائمه إلا إذا رأى المرء في باطن أمره رأيا جازماً، وقطع على نفسه بشعور كامل وإرادة قوية أنه هو وكل ما بيده ملك لله وراجع إلى مرضاته، وقضى على ما في نفسه من مقياس للرضا والسخط وجعله مذعناً لرضاء الرب تعالى وسخطه، ونفى عن نفسه الأثرة والكبرياء، وصاغ نظرياته وأفكاره وآراءه ونزعاته ومناهج تفكيره في قالب ذلك العلم الذي قد أنزله الله تعالى في كتابه العزيز. وخلع عن عنقه ربقة جميع أنواع الولاء الذي لا يذعن لطاعة الله.. ومكن محبة الله تعالى ومودته من سويداء قلبه، ونفى عن أعماق فؤاده كل صنم يطلبه بإجلاله وإكباره أكثر من الله تعالى وأدغم حبه وبغضه وصداقته وعداوته ورغبته ونفوره وصلحه وحربه.. الخ في مرضاة الله تعالى حيث لا ترضى نفسه إلا بما يرضى به الله، ولا تكره إلا ما يكرهه الله.. وهذه مرتبة الإيمان الحقيقية وغايته المرموقة " (¬2) . إن الوضع الذي تعيشه البشرية اليوم في جميع بقاع الأرض والذي يتوجه الضياع والخواء الروحي، وهذه الهتافات التي ترتفع من كل مكان تنادي بمنقذ ومخلص يخلصها من ذلك الهوان لأمر يشيء بأنه هو الإسلام لأنه دين الله العليم بما يصلح النفوس والخبير بجميع مكنونات الضمائر. إن الإسلام "هو المنهج الوحيد الذي يعطي الفطرة ما يلائمها وهو الذي ¬

(¬1) هكذا بالنص ولعل المراد: يحس (¬2) الأسس الأخلاقية للمودودي (ص49-50) الطبعة الأولى لسنة 1971 بيروت. بتصرف بسيط.

ينسق خطاها في الإبداع المادي وخطاها في الاستشراق الروحي وهو وحده الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في ظل النظام الإسلامي – وحده – على مدى التاريخ " (¬1) . وأعداء الإسلام يعرفون جيداً أن عدوهم الوحيد هو الإسلام، ومن أجل ذلك فهم يسعون جادين إلى تحطيم هذا الجبل الشامخ لأنه يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون، لذلك فهم يضعون التصورات والمناهج التي لا تمت إلى هذا الدين بصلة من أجل أن تكون هي البديلة عن هذا الدين القيم (¬2) . وليكن من المعلوم لكل مسلم جاد: أن هذا الدين لا يقوم بألف كتاب تكتب عن الإسلام ولا بالخطب والمواعظ ولا بأفلام الدعاية للإسلام، وإنما يقوم على واقع حي متحرك – يتمثل هذا في المسلمين الصادقين – واقع تراه العين وتلمسه اليد وتلاحظ آثاره العقول (¬3) . ومن سمات أصحاب هذا الواقع الذي يغير مجرى حياة البشرية المعاصرة أن يستعلوا بأنفسهم من موالاة أعداء الله – سواء من الكافرين أو المنافقين أو الملحدين – فلا يخدعهم هيلمان الباطل المعاصر، وأن الشرق والغرب يملك القنبلة الذرية، والصواريخ العابرة للقارات بل يعلمون أن الله هو الأكبر، وهو الولي الناصر، وأن الغلبة للحق مهما استطال الباطل {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [سورة البقرة: 249] . ¬

(¬1) المستقبل لهذا الدين (ص109) بقليل من التصرف. (¬2) انظر الفصل الأخير من كتاب المستقبل لهذا الدين (¬3) انظر فصل طريق الخلاص (ص182) من كتاب الإسلام ومشكلات الحضارة للأستاذ سيد قطب رحمه الله

{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ { [سورة الصافات: 173] . {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ { [سورة غافر: 51] . ويقول سبحانه في شأن الأعداء، {يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ { [سورة آل عمران: 111] . ولن يصل المسلمون الصادقون إلى هذه الدرجة الرفيعة إلا بالبراءة من كل منهج وتشريع يخالف شريعة الله، والبراءة أيضاً من كل فكر يناقض هذه العقيدة التي كانت سبب نصر وعزة السلف الصالح. واستمداد حكم كل صغيرة وكبيرة من هذه الشريعة الربانية التي هي "صراط الله المستقيم الذي لا أمت فيه ولا عوج، وملته الحنيفية التي لا ضيق فيها ولا حرج.. لم تأمر بشيء فيقول العقل لو نهت عنه لكان أوفق، ولم تنه عن شيء فيقول الحجى، لو أباحته لكان أرفق، بل أمرت بكل صلاح، ونهت عن كل فساد، وأباحت كل طيب، وحرمت كل خبيث أوامرها غذاء ودواء، ونواهيها حمية وصيانة من كل داء، ظاهرها زينة لباطنها وباطنها أجمل من ظاهرها. شعارها الصدق وقوامها الحق، وميزانها العدل

وحكمها الفصل، لا حاجة بها البتة إلى أن تكمل بسياسة ملك أو رأي ذي رأي أكملها الله بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا { [سورة المائدة: 3] . وقال صلى الله عليه وسلم " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " (¬1) وحري بدعاة الخير الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أن يعودوا بالأمة إلى صفاء العقيدة الممثل في: (1) تصحيح مفهوم لا إله إلا الله محمد رسول الله ودعوة الناس إلى فهم هذه الكلمة العظيمة كما فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأخيار، ومحو ذلك المفهوم الخاطىء الذي يردده المتأخرون وهي أنها مجرد لفظ عار من كل تكليف. مع بيان أن من تكاليفها موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين، وتحكيم شريعة الله واتباع ما أنزله الله والكفر بالآلهة المزيفة والأرباب المتعددة من العرف والهوى والعادات والمتألهين الذين يشرعون للناس بغير ما أنزل الله. (2) تصحيح مفهوم العبادة وأنه مفهوم شامل كامل وليس مجرد شعائر تؤدى بينما نظام الحياة والممات قائم على مناهج وضعها البشر تفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فالعبادة هي عقيدة وشريعة ونظام حياة. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ { [سورة الأنعام: 162- 163] . ¬

(¬1) انظر أعلام الموقعين لابن القيم (3/207) والحديث سبق تخريجه.

(3) تربية جيل على منهاج الكتاب والسنة. لأن هذا هو الطريق الصحيح الذي به ترجع الأمة إلى ربها ودينها. (4) طرد آثار الغزو الفكري وذلك بتعرية الجاهلية الحديثة، وتمزيق زيفها وبهرجتها فتبين انحرافاتها مع إيجاد البديل الإسلامي الصحيح. (5) تعميق قضية ولاء المسلم للمسلم وانتمائه لإخوانه المؤمنين فقط، وخلع الولاءات الجاهلية من قومية وعرقية ووطنية وعالمية وغيرها فالمسلم أخو المسلم في أي بقعة كانت، دار الإسلام هي دار كل مسلم في جميع أنحاء الأرض. ومن تاريخنا ما يشهد بكل جلاء على أهمية هذه القضية. فإن امرأة مسلمة أهينت بعمورية فاستغاثت، وامعتصماه. فقال المعتصم لبيك أيتها المرأة المسلمة وجهز الجيوش وفتح عمورية ونصر المرأة المؤمنة، ولم يقل إنها في وطن وأنا في وطن بل انطلق من واقع مسئوليته كخليفة مسلم. كل الأمة المسلمة أمانة في عنقة وهو مسؤول عنها يوم يلقى الله. ومن هنا فإن نصرة المسلمين المضطهدين في كل بقعة من بقاع الأرض أمر واجب تفرضه هذه العقيدة. ويكون واجب المؤمن – حينئذ – محبة هؤلاء المسلمين ومناصرتهم باليد واللسان والمال والنصرة في كل موطن ومناسبة. (6) تعميق قضية المعاداة والبراءة من أعداء الله الكفار منهم والمشركين والمنافقين والمرتدين. وإنه لا يجتمع إيمان في قلب مع حب للكفر وأهله كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ { [سورة المجادلة: 22] . والحرص على تمييز المسلم عن كل وضع وفكر يخالف كتاب الله وسنة رسوله

(7) التأكد على قضية عداوة أولياء الشيطان لأولياء الرحمن، فإن هذه العداوة قائمة منذ آدم عليه السلام إلى قيام الساعة فالحزبان لا يلتقيان أبداً لأن حزب الله يريد دعوة الناس إلى عبادة الله وحزب الشيطان يدعو الناس إلى عبادة الطاغوت وطاعته، وقتال المؤمنين لصدهم عن دينهم {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ { [سورة البقرة: 217] . (8) بعث الأمل وتقويته في النفوس بقرب نصر الله كما قال صلى الله عليه وسلك "لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله " (¬1) . هذه رؤوس أقلام تبين ملامح طريق الخلاص، وإذا صدق المسلمون مع الله وجدوا معية الله وعونه، لأنهم الأعلون، وهم القائمون بأمر الله في أرض الله، ومن ثم فهم المستحقون لولاية الله وتكريمه لهم {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { [سورة يونس: 62] . إنهم حزب الله وأكرم بذلك الحزب الذين يجاهدون لإعلاء كلمة الله ولا تأخذهم في الله لومة لائم. {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون {َ [سورة المجادلة: 22] . ¬

(¬1) صحيح مسلم (4/2238ح2921) كتاب أشراط الساعة.

ونحن مستبشرين بخير إن شاء الله، لأن طلائع وبشارات الجيل الإسلامي الجديد الذي يخلص الأمة من هذا الهوان والضياع والتبعية بادية ظاهرة في كل صقع من أصقاع الأرض، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

§1/1