الوصف المناسب لشرع الحكم

أحمد بن عبد الوهاب الشنقيطي

مقدمة

الوصف المناسب لشرع الحكم تأليف الدكتور أحمد بن محمود بن عبد الوهاب الشنقيطي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الكريم المنان المتفضل على عباده بعظيم الآلاء، وجزيل الإحسان جلت نعمه عن العد والإحصاء {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تحْصُوهَا} 1، فكان من أعظم نعمه على عباده أن هدى المؤمنين به إلى الإيمان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، من ختمت برسالته الرسالات، وعلى آله وصحبه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل عليه، فكانوا سادة الدنيا، وأئمة الهدى. وبعد: فلما خص الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن جعل رسالته خاتمة الشرائع، جعلها صالحة لكل زمان ومكان، مبنية على نصوص، وأصول وقواعد، لطفاً بالعباد، وتيسيراً لهم في معرفة الحلال والحرام، شاملة لكل ما جد من الوقائع التي لم تكن، فيتعرف العلماء حكمها بطريق الاجتهاد الوافي بتفاصيل أحكام الوقائع، لأن نصوص الكتاب والسنة محصورة متناهية، ومواقع الإجماع معدودة منقولة فهي متناهية أيضاً، والوقائع لا نهاية لها، وهي لا تخلو عن حكم الله تعالى متلقى عن قاعدة من قواعد الشرع، والأصل الذي يفي بحكم جميع الوقائع وهو القياس، وما يتعلق به من وجوه النظر، والاستدلال، والقياس إنما يكون بالعلة الجامعة بين الأصل والفرع، والعلة لها طرق تعرفها، فكان من المناسب أن أختار أهم تلك الطرق التي بها يعرف حكم الوقائع المستجدة موضوعاً لرسالتي، فاخترت أن يكون موضوعها هو: "الوصف المناسب لشرع الحكم". سبب اختياري لهذا الموضوع: أما سبب اختياري لهذا الموضوع، فهو أنني لما أنجزت دراسة مرحلة الماجستير بقسم الدراسات العليا الإسلامية بكلية الشريعة بمكة المكرمة، فرع جامعة الملك عبد العزيز آنذاك، كان علي أن أختار موضوعاً أكتب فيه لأنال درجة "الدكتوراه" في أصول الفقه.

_ 1 سورة إبراهيم، آية: 34.

وحيث أن القياس من أهم أدلة الأحكام الشرعية لسعته وشموله لكل الوقائع التي تجد، وأن القياس كما أسلفت إنما يكون بالعلة الجامعة بين الأصل والفرع، والعلة وإن كانت لها طرق، فأهم طرقها وأشملها للأحكام إنما هو الوصف المناسب لشرع الحكم، والموضوع وإن كان صعباً في ذاته، لسعته وترامي أطرافه، والبحث فيه يتطلب من الباحث أن يكون متعمقاً في الأصول، عالماً بجوانب الاتفاق والاختلاف في القياس، والعلة وطرقها، ومقاصد الشرع، فإن رغبتي في دراسة الفن دفعتني إلى الكتابة فيه، لا سيما وقد رأيت من مشايخي التشجيع على اختياري للموضوع، مما شجعني على المضي فيه. وكيف لا، والموضوع عظيم القدر، إذ به يعرف حكم الله تعالى فيما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة ولا نقل إجماع. لذا رأيت صلاحية الموضوع للبحث، وشرعت فيه راجياً من الله أن يعينني على إنجازه، وأن يجعله عملاً صالحاً، وأن يهديني سواء السبيل، فهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

خطة البحث وقد سلكت طريقة في البحث رأيت أنها توصل إلى الغاية التي أردت، وهي أنني أستعرض آراء العلماء وأدلتهم، وما ورد عليها من اعتراضات وإجابات عن الاعتراضات مع مناقشتها، وترجيح ما ظهر لي رجحانه بالدليل كلما رأيت ذلك مناسباً، وربما تركت الترجيح إذا لم يظهر لي وجه الرجحان. وقسمت البحث إلى: تمهيد وثلاثة أبواب، وخاتمة. أما التمهيد: فهو يشتمل على الفصول الآتية: الفصل الأول: في تعريف القياس، وبيان المراد بالأصل عند الأصوليين. الفصل الثاني: في تعريف العلة، وأقوال العلماء في تعليل أفعال الله تعالى. الفصل الثالث: في شروط العلة، ويتضمن البحوث الآتية: الأول: في الشروط المتفق عليها، بأن تكون وصفاً ظاهراً، منضبطاً، مناسباًَ. الثاني: في الشروط المختلف فيها، وهي: تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي. التعليل بالوصف المركب. التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط. تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي. التعليل بالعلة القاصرة. تعليل الحكم بعلتين فأكثر. تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة. تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عنه.

عود العلة على الأصل بالإبطال. ويشترط في العلة أن لا تعود على الأصل بالإبطال. شروط أخرى اشترطها البعض. الفصل الرابع: فيما قبل الوصف المناسب من مسالك العلة، وتحته مباحث وهي: الأول: تعريف المسالك، وبيان الطريقة التي اخترت أن أسلكها. الثاني: مبحث النص، وألفاظه. الثالث: مبحث الظاهر، وألفاظه. الرابع: مبحث الإيماء تعريفه، وأنواعه. تنبيه: ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنني اضطررت إلى تأخير تعريف المناسب عن المناسبة الآتية، لكونه مشتقاً منها، فأخرته إلى الباب الأول، وهو: الباب الأول: وهو في المناسبة، وتعريف المناسب، وفيه الفصول الآتية: الفصل الأول: في تعريف المناسبة. الفصل الثاني: في إقامة الدليل على اعتبارها. الفصل الثالث: في تعريف المناسب. الباب الثاني: في تقسيمات المناسب، وفيه الفصول الآتية: الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة، وهو ينقسم إلى: حقيقي، وإقناعي. والحقيقي ينقسم إلى: ديني، ودنيوي. والدنيوي ينقسم إلى: ضروري، وحاجي، وتحسيني. الفصل الثاني: في تقسيمه باعتبار إفضائه إلى المقصود، وذلك بأن يكون حصول المقصود يقيناً، أو ظناً، أو يتساوى الحصول

وعدمه، أو يكون الحصول أرجح، أو يكون فائتاً بالكلية. الفصل الثالث: في تقسيمه بالنظر إلى اعتبار الشارع له، وعدم اعتباره له. الباب الثالث: في المناسب والمرسل، وفيه الفصول الآتية: الفصل الأول: في تعريفه، وبيان محل الخلاف والوفاق فيه. الفصل الثاني: في بيان مذاهب العلماء فيه. الفصل الثالث: في بيان أدلة الإمام مالك فيما ذهب إليه من القول بالمناسب المرسل، ومناقشتها. الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد في الأخذ به. الفصل الخامس: في ذكر أدلة مذهب القاضي، ومن وافقه، ومناقشتها. الفصل السادس: في أدلة مذهب الإمام الشافعي، وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل. الفصل السابع: في بيان رأي الإمام أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المرسل. الفصل الثامن: في رأي الغزالي، وبيان وجه ما ذهب إليه من القول بالمرسل إذا كانت المصلحة ضرورية، قطعية، كلية. الفصل التاسع: في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع، ومناقشتها. فصل: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها، أو راجحة، أو لا تنخرم؟ خاتمة: في بعض نتائج البحث التي توصلت إليها. هذا ... وإنني قد رأيت أن أتخذ طريقة أرمز بها للتحويل على المراجع اختصاراً، وهي إنني في التحويل على المرجع لبيان الجزء والصفحة أستعمل الرمز الآتي وهو: "الأحكام للآمدي 3/186" مثلاًَ، للاختصار، وإذا كنت نقلت عن الكتاب مخطوطاً ومطبوعاً، أشير للمخطوط بحرف "خ"، والمطبوع بحرف "ط"،

وإذا كان نقلي عن المطبوع فقط، فقد رأيت أن أؤخر بيان الطبعة إلى ذكره في المراجع. هذه هي عناصر البحث التي بحثتها، وطريقة البحث التي سلكتها فأرجو أن أكون قد وفقت، وساهمت بعملي هذا في ناحية من نواحي شريعتنا الغراء، فإن كنت قد وفقت فمن الله، وإن كنت قد أخطأت فمني، وأرجو الله المغفرة والتوفيق لصالح العمل، وأن يجعل عملي هذا وسيلة إلى مرضاته، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...

تمهيد

تمهيد ... الفصل الأول: في تعريف القياس القياس في اللغة: القياس، والقيس مصدران لقاس، يقال: قاسه بغيره وعليه، يقيسه قيساً وقياساً، واقتاسه إذا قدره عل مثاله1. وقسته - بضم القاف - أقوسه قوساً، وهو من ذوات الواو والياء2. وللأصوليين في حكاية معني القياس اللغوي ثلاثة آراء: الأول: أنه حقيقة في التقدير، أي في معرفة قدر الشيء بالآخر، كما تقول: قست الأرض بالقصبة، وقست الثوب بالذراع، أي قدرته به3. وإلى هذا ذهب الأسنوي4، تبعاً للآمدي5. فالمناسبة على هذا القول بين المعنى اللغوي، وبين المعنى الاصطلاحي - الآتي بيانه - إنما هي استعمال اسم الملزوم في اللازم، وقد أشار إلى ذلك الأسنوي بقوله: "إن التقدير يستدعي التسوية، فالتقدير يستلزم شيئين ينسب أحدهما إلى الآخر بالمساواة، وبالنظر إلى هذا - أعني المساواة - عبر الأصوليوين عن مطلوبهم بالقياس"6.

_ 1 انظر القاموس 2/253، لسان العرب 6/187، تاج العروس 4/227، المصباح المنير 2/181. 2 انظر صحاح الجوهري 2/181، لسان العرب 6/187. 3 مجاز مرسل في المساواة علاقته الملزومية، واللازمية. 4 هو: أبو محمد جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي القرشي الأموي الأسنوي، الشافعي الفقيه، الأصولي النحوي، المتكلم، برع في كل علم، وخاصة الأصول والعربية، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، له مؤلفات منها في الأصول نهاية السول شرح منهاج الوصول للبيضاوي، ولد سنة 704هـ، وتوفي سنة 772هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصولين 2/186. 5 هو: علي بن علي بن سالم التغلبي، د الملقب بسيف الدين الآمدي، المكنى بأبي الحسن، الفقيه، الأصولي، المتكلم، ولد سنة 551هـ، له مؤلفات منها الأحكام في أصول الأحكام في أصول الفقه، ومنتهى السول في الأصول أيضاً، وغيرهما، توفي سنة 631. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/57 - 58. 6 انظر: نهاية السول شرح منهاج الأصول مع منهاج العقول 3/2، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/167.

وقد اعترض على هذا القول بأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة على المجاز، لأن المجاز خلاف الأصل، إذ يحتاج في دلالته إلى قرينة، والحقيقة لا تحتاج، وما لا يحتاج في دلالته أولى مما يحتاج1. الثاني: أنه مشترك اشتراكاً لفظياً بين كل من: - التقدير، نحو قست الثوب بالذراع. - والمساواة، كما في قولك فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه. - والمجموع المركب منهما، تحو قست النعل بالنعل، أي قدرته به فساواه، وهو ظاهر كلام العضد2، كما فهمه سعد الدين التفتازاني3 في حاشيته أخذاً من تمثيل العضد بالأمثلة الثلاثة، حيث قال السعد: "تمثيله بالأمثلة الثلاثة مشعر بأن المراد أنه قد يكون بهما جميعاً، وقد يكون للتقدير فقط، أو للمساواة فقط"4، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وقد اعترض على هذا القول بأمرين: الأول: أن الاشتراك5 خلاف الأصل، لأن الأصل عدم تعدد الوضع. الثاني: أنه يحتاج في دلالته على المراد منه إلى قرينة، لأنه مشترك بين معنيين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، وحمل اللفظ على أحد المعنيين أو المعاني بدون

_ 1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق - رحمه الله - على القياس. 2 هو: عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الأيحي الملقب بعضد الدين، العلامة الشافعي، الأصولي، المتكلم، الأديب، له مؤلفات في فنون مختلفة منها في أصول الفقه شرحه لمختصر الحاجب، توفي سنة 756هـ. انظر الفتح المبين 2/166. 3 هو: سعد الدين بن مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، الشافعي الأصولي، المتكلم، المبلاغي، له مؤلفات كثيرة في علوم شتى، منها في أصول الفقه التلويح في كشف حقائق التنقيح، وحاشية على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، ولد سنة 712هـ وتوفي سنة 791هـ. انظر الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/206. 4 انظر حاشية السعد على العضد 2/204. 5 الاشتراك هو اتحاد اللفظ مع تعدد الوضع كما في العين، فإنها للباصرة، والجارية، والذهب، كما تطلق على ذات الشيء، وكالقرء للطهر والحيض، وهذا هو الاشتراك اللفظي. انظر: حاشية الباجوري على السلم ص40، وآداب البحث والمناظرة للشيخ محمد أمين - القسم الأول ص19.

قرينة تعينه تحكم، وما لا يحتاج أولى مما يحتاج، وهو كونه مشتركاً معنوياً1. الثالث: أنه مشترك معنوي، وهو كلي تحته فردان: أحدهما: استعلام القدر أي معرفة قدر الشيء، نحو قست الثوب بالذراع. الثاني: التسوية، ولو كانت معنوية نحو فلان لا يقاس بفلان، أي لا يساويه، واستعماله في أحدهما لا بخصوصه حقيقة لا مجاز، وإلى هذا ذهب الأكثر، كما في تحرير الكمال بن الهمام2، وقد نصره شارحه3 بأن التواطؤ4 مقدم على الاشتراك اللفظي والمجاز إذا أمكن، وقد أمكن5. وهذا الرأي هو الراجح لسلامته من الاعتراضات. بم يتعدى لفظ القياس؟ يرى بعض الأصوليين أن القياس وإن وردت تعديته بالباء في اللغة، كما في قول الشاعر: خف يا كريم على عرض يدنسه ... مقال كل سفيه لا يقاس بكا

_ 1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، المشهور بابن الهمام، الفقيه الحنفي، الأصولي، النحوي، قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، له مؤلفات كثيرة منها في أصول الفقه التحرير، ولد سنة 790هـ وتو في سنة 861هـ. انظر الفتح المبين 3/36. 3 هو: شمس الدين محمد بن محمد بن الحسين الحلبي، المعروف بابن أمير الحاج، الحنفي الأصولي، له مؤلفات منها: التقرير والتحبير شرح التحرير في أصول الفقه، توفي سنة 879هـ بحلب، انظر الفتح المبين 3/47. 4 هو كون المعنى الواحد مستوياً في أفراده من غير اختلاف، أو تفاوت فيها كما في الإنسان، فإن حقيقة الإنسانية والناطقية مستوية في جميع الأفراد، وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة على مطلق الماهية، بخلاف التشاكك، فإن المعنى الواحد ليس مستوياً في أفراده، بل مختلف ومتفاوت فيها كما في النور، فإنه في الشمس أقوى منه في غيرها. انظر آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص19، وحاشية الباجوري على متن السلم ص40. 5 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/117، ط الأولى، المنيرية.

فإن المستعمل منه في الشرع إنما يتعدى بعلى، لتضمنه معنى البناء والحمل، فإن انتقال الصلة من الأصل إنما يكون للتضمين1. ولا يخالف هذا ما تقدم عن أهل اللغة من أنه يتعدى بالباء وبعلى، حتى يقال: لا حاجة إلى التضمين، إذ هو في اصطلاح المتشرعة لا تطرد تعديته إلا بعلى، وليس هو الأصل في تعدية القياس2. القياس في اصطلاح الأصوليين: اختلف الأصوليون أولاً في إمكان حد القياس، فقال إمام الحرمين3: "يتعذر الحد4 الحقيقي لقياس، لاشتماله على حقائق مختلفة: كالحكم، فإنه قديم، والفرع والأصل، فإنهما حديثان، والجامع فإنه علة، وكل ما قيل في تعريفه فإنه رسوم"5.

_ 1 هو أشراب كلمة معنى أخرى لتتعدى تعديتها. 2 انظر: حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع 2/239، نهاية السول مع منهاج العقول 3/3، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 3 هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، المكنى بأبي المعالي، المعروف بإمام الحرمين، لمجاورته مكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي بهما، الفقيه، الأصولي النظار، الأديب، له مؤلفات منها البرهان في أصول الفقه، وقد طبع، والورقات وهي أيضاً في أصول الفقه، وله غيرهما، توفي رحمه الله سنة 545هـ. انظر: طبقات الشافعية لابن السبكي 7/189 - 190، الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/260 - 262. 4 الحد في اللغة: المنع، وفي اصطلاح المناطقة هو ما كان بالذاتيات، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس والفصل القريبين كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق. انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص73، وضوابطه المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص59 - 60. 5 والرسم هو ما كان بالذاتيات والعرضيات معاً، أو بالعرضيات فقط، وهو تام وناقص، فالتام ما كان بالجنس القريب والخاصة كتعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك، والناقص ما كان بالخاصة فقط، أو بها مع الجنس البعيد، كتعريف الإنسان بأنه كاتب، أو جسم كاتب. انظر: المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم ص73 - 74 للدكتور عوض الله حجازي، وضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص61 فيما بعدها للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة.

ووافقه ابن المنير1 شارحه على تعذر الحد، لكن العلة عنده في ذلك كونه نسبة وإضافة، وهي عدمية، والعدم لا يتركب من الجنس2 والفصل3 الحقيقيين الوجوديين4. وقال الجمهور: يمكن حده "ولعل مرادهم أنه يحد حداً اسمياً5، فإنه من الأمور الاصطلاحية الاعتبارية التي تكون حقائقها على حسب الاصطلاح والاعتبار، ولا يمكن أن يحد حداً حقيقياً، وبذلك يصح لك الحكم بأن هذا الخلاف لفظي"6. واختلفوا ثانياً في تعريفه، فعرفه بعضهم بتعريفات غير مرضية، وعرفه البعض الآخر بتعريفات مختارة. ولما لم يكن من موضوعي استقصاء جميع التعاريف التي عرف بها، فقد رأيت أن أكتفي بإيراد بعض التعاريف التي لم ترض مع بيان وجه الرد، دون التعرض إلى

_ 1 هو: أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار بن أبي بكر بن علي المكنى بأبي العباس، الملقب بناصر الدين، المعروف بابن المنير، الاسكندري الفقيه، المالكي، الأصولي المتكلم، النظار، المفسر الأديب، الشاعر الخطيب، الكاتب المقرئ المحدث، المولود سنة 620هـ تولى القضاء والتدريس ونظارة الأوقاف والخطابة، قيل عنه إنه كان فخر مصر عامة، والإسكندرية خاصة، له مؤلفات في التفسير وغيره، توفي بالإسكندرية سنة 683هـ. انظر: الديباج المذهب 1/243 - 246، وشجرة النور الزكية 1/188، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/84 - 85، ذكر الزركشي في مقدمة البحر المحيط أنه شرح البرهان، والله أعلم. 2 هو ما صدق في جواب ما هو على كثيرين مختلفة حقائقهم كالحيوان، فإنه يصدق في جواب ما هو على كثيرين ... الخ، كما لو قيل: الإنسان والفرس والحمار ما هو صلح أن يقال في جواب ذلك حيوان، أي المذكور حيوان، والمراد بكثيرين ما يشمل اثنين فأكثر. انظر حاشية الباجوري على السلم ص37. 3 هو ما صدق في جواب أي شيء في ذاته كالناطق، فإنه يصدق في جواب ذلك كما يقال: مميزاً للإنسان أي شيء هو في ذاته؟ فيقال: ناطق. حاشية الباجوري على السلم ص37. 4 انظر: البحر المحيط للزركشي 3/2، بعد عنوان القياس - خ -، البرهان 2/207 - خ -. 5 هو التعريف لماهية متخيلة في الذهن، ولا يعلم لها أفراد موجودة في الخارج، سواء كان لها وجود في الواقع أم لا، كتعريف العنقاء بأنه طائر طويل العنق، يصطاد الصبيان وصغار البقر. انظر: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة للشيخ عبد الرحمن حبنكة ص393. 6 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/13 - 14.

شرحها، خشية الوقوع في التطويل الممل، ثم أتبع ذلك بالتعاريف المختارة، مع شرحها وبيان ما ورد عليها، والإجابة عند قدر المستطاع. أمثلة من التعاريف التي لم يرتضها الأصوليون للقياس: منها: قول بعضهم "القياس إصابة الحق"، وهو منقوض بإصابة الحق بالنص والإجماع1. ومنها: قول بعضهم أنه "بذل الجهد في استخراج الحق"، وهو باطل باستخراج الحق بالنص والظاهر، والإجماع2. ومنها: قول بعضهم هو "التشبيه"، ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات الكيفيات - كالألوان والطعوم ونحوها - قياساً شرعياًَ، إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين، وليس كذلك3. ومنها قول بعضهم، القياس هو "الدليل الموصل إلى الحق"، وهو باطل بالنص4، والإجماع5.

_ 1 انظر: البرهان لإمام الحرمين 2/747 - ط -، الأحكام للآمدي 3/167 - 168. 2 انظر: الرهان 2/748 - ط -، البحر المحيط 3/2 بعد عنوان القياس - خ. 3 انظر الأحكام للآمدي 3/168. 4 أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه حديث "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص"، أي رفع السير إلى غايته. وفي اصطلاح الأصوليين: اللفظ الدال على معنى واحد دلالة قطعية، وهو مقابل للظاهر عندهم. انظر شرح تنقيح الفصول للقرافي ص36 - 37. 5 لغة الاتفاق والعزم، وفي الاصطلاح الشرعي اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من أمور الدين في عصر من العصور، قال صاحب المراقي: وهو الاتفاق من مجتهدي.. الأمة من بعد وفاة أحمد.. وأطلقن في العصر. انظر: نشر البنود 2/80.

ومنها: قول بعضهم هو "العلم الواقع بالمعلوم عن نظر"، وهو أيضاً باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص، والإجماع1. وقال أبو هاشم2: "إنه حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه علي"، وهو باطل من وجهين: الأول: أنه غير جامع، لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم، ممتنع لذاته، فإنه ليس بشيء3 على الراجح. الثاني: أن حمل الشيء على غيره، وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع، فلا يكون قياساً، وإن كان بجامع، فيكون قياساً، وليس في لفظه ما يدل على الجامع، فكان لفظه عاماً للقياس، ولما ليس بقياس، فيكون غير مانع. وقال القاضي عبد الجبار4: "إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/168 - 169. 2 هو: عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، الجبائي، المعتزلي، كان رأساً في الكلام، له آراء خاصة في علم الكلام والأصول، له مؤلفات كثيرة منها كتاب الاجتهاد، ولد سنة 277هـ وتوفي سنة 321هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/172. 3 هل المعدوم شيء؟ يرى الأشاعرة أن الشيء لا يشمل المعدوم إن كان ممتنعاً اتفاقاً، وكذا إن كان ممكناً. انظر: نهاية السول 3/ 4 - 5. والذي نقل عن سيبويه أن الشيء اسم لما يصح أن يعلم، سواء كان معدوماً أو موجوداً، محالاً أو مستقيماً. ونقل عن جار الله الزمخشري نحوه. وعزاه صاحب النبراس لبعض المعتزلة، وقال: إنه الذي يفهم من شرحي المقاصد والمواقف وحواشيه، ثم قال: إنهم لا يقولون إن المحال شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، ويقولون إن المعدوم الممكن شيء بمعنى أنه ثابت في نفسه متقرر، وإنهم قد خالفوا في المعدوم الممكن الأشاعرة الذين ذهبوا إلى أنه ليس بثابت في نفسه كالممتنع، قال: ولعل مراد الأسنوي في قوله الشيء لا يشمل المعدوم ... الخ، أن الشيء بمعنى الثابت في نفسه لا يشمل المعدوم، وليس مراده أن لفظ الشيء لا يطلق على المعدوم، ولذا أتى بلفظ يشمل دون لفظ يطلق، انظر: نبراس العقول 1/20، وشرح المواقف ص103. 4 هو: أحمد بن خليل الهمداني، إمام المعتزلة في وقته، الأصولي المتكلم، له مؤلفات كثيرة منها العمد في أصول الفقه، والمغني، وغيرهما، اختلف في وفاته فقيل: سنة 415هـ، وقيل: سنة 416هـ. انظر: القاضي عبد الجبار للكتور عبد الكريم عثمان، طبع دار الكتب العربية للطباعة والنشر - بيروت، الأعلام للزركلي 4/47.

الشبه، وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول"1. التعريفات المختارة هي: 1 - تعريف ابن الحاجب2. 2 - تعريف البيضاوي3. 3 - تعريف ابن السبكي4. التعريف الأول: قال ابن الحاجب: "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"5. شرح التعريف: المساواة من النسب التي لا تعقل، ولا تتحقق إلا بين متعدد، فالمساواة المماثلة، وهي كالجنس يشمل كل مساواة، كمساواة فرع لأصل، أو فرع لفرع، أو فعل لفعل، أو ذات لذات. فقوله فرع، قيد خرج به مساواة ذات لذات كمساواة زيد لعمرو، وأصل قيد خرج به مساواة فرع لفرع، كمساواة الأرز للذرة في الربا، وكلاهما فرع عن

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/169، والمعتمد لأبي الحسين 2/697. 2 هو: أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر، المشهور بابن الحاجب، المالكي الفقيه الأصولي، النحوي، أثنى عليه العلماء ثناء كثيراً، له مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة، منها في أصول الفقه منتهى السول والأمل، ومختصر المنتهى، ولد سنة 570هـ ومات سنة 646هـ. انظر: الفتح المبين 2/65، الأعلام للزركلي 4/374. 3 هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، الملقب بناصر الدين، المكنى بأبي الخير، المعروف بالقاضي، المفسر المحدث الفقيه الأصولي المتكلم، الإمام، له مؤلفات عديدة منها: منهاج الوصول في علم الأصول في أصول الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح المنتخب في أصول الفقه، توفي سنة 685هـ. انظر: فتح المبين 2/88. 4 هو: قاضي القضاة، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الفقيه، الشافعي، الأصولي المؤرخ، له مصنفات عديدة منها: جمع الجوامع، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح منهاج الوصول للبيضاوي. ولد سنة 727هـ وتوفي سنة 771هـ. انظر: الفتح المبين 2/184. 5 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/204.

أصل هو البر. وقوله في علة حكمه قيد خرج به ما كان الاشتراك فيه لدلالة نص أو إجماع1. والمراد بالفرع محل لم ينص أو يجمع على حكمه، وبالأصل محل نص أو أجمع على حكمه، وبالعلة الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على حكمة صالحة؛ لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وسيأتي لهذا زيادة بيان في محله إن شاء الله تعالى. وهذا التعريف قد تضمن أركان القياس، وهي: الأصل والفرع، والعلة، والحكم، الآتي بيانها إن شاء الله تعالى. الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والجواب عنها: الاعتراض الأول: أن المساواة هنا وردت مطلقة، لم تقيد بما في نفس الأمر، أو بنظر المجتهد، والأول فردها الكامل، فإذا أطلقت انصرفت إليه، فالقياس على هذا ما كانت فيه مساواة في نفس الأمر، فما لا مساواة فيه في نفس الأمر فليس بقياس، مع أنه قياس. فالتعريف غير جامع، لعدم شموله للقياس الفاسد، فكان عليه أن يزيد "في نظر المجتهد" ليعم الصحيح والفاسد. وقد أجاب عنه الكمال بن الهمام وشارحه بما ملخصه أن محل القيد بنظر المجتهد إنما يلزم المصوبة القائلين بأن كل مجتهد مصيب، لأن المساواة عندهم لما لم تكن إلا المساواة في نظره، كان الإطلاق لها كقيد مخرج للأفراد، إذ يفيد الإطلاق التقييد بما في نفس الأمر، وافق نظره أولاً، حتى كأنه قيل: مساواة في نفس الأمر، ولا مساواة عندهم في نفس الأمر أصلاً، بل في نظر المجتهد، فكان قيداً مخرجاً لجميع أفراد المحدود، فلا يصدق الحد على شيء منها، فكان باطلاً2. والأصوليون هنا بين مخطئة ومصوبة:

_ 1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق - على القياس. 2 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/118.

أما المخطئة فيرون أن المصيب واحد لا بعينه، فالقياس الصحيح عندهم ما كان بحسب الواقع ونفس الأمر، فما لم يكن كذلك فليس بصحيح، وما ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، لا يرون أنه محكوم بصحته إلى زمن ظهور غلطه، بل مما كان فاسداً، وتبين فساده. وأما المصوبة الذين يرون أن كل مجتهد مصيب، فالقياس الصحيح عندهم هو "ما حصلت في المساواة في نظر المجتهد، سواء ثبتت في نفس الأمر، أم لا، حتى لو ظهر غلطه ووجب الرجوع عنه، فإنه لا يقدح في صحته عندهم، بل ذلك انقطاع لحكمه لدليل صحيح آخر حدث، وكان قبل حدوثه، القياس الأول صحيحاً، وإن زالت صحته"1. فإذا رجع عنه المجتهد سمي حينئذ قياساً فاسداً. والحاصل أن القياس المرجوع عنه يعمل به قبل الرجوع عنه باتفاق الجميع، وبعد الرجوع عنه لا يعمل به اتفاقاً، وإنما الخلاف بين المخطئة، والمصوبة في أن القياس المرجوع عنه إذا ظهر فساده هل كان قبل ذلك يسمى صحيحاً، وإليه ذهب المصوبة أو كان يسمى فاسداً، وإليه ذهب المخطئة، فالخلاف في التسمية2. الاعتراض الثاني: قيل: هذا التعريف غير جامع؛ لأنه لا يشمل الأقيسة الآتية: 1 - قياس الدلالة: وهو ما جمع فيه بلازم العلة، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة المشتدة، وهي لازمة للعلة التي هي الإسكار، أو بحكمها، كقطع الجماعة بالواحد قياساً على قتلهم به بجامع وجوب الدية عليهم، وهو حكم العلة التي هي حصول القطع منهم خطأ في الصورة الأولى، وكذا القتل في الثانية.

_ 1 انظر: العضد على مختصر ابن الحاجب 2/205، مكتبة الكليات الأزهرية. 2 انظر تفاصيله في مختصر ابن الحاجب وشرحه وحاشية السعد 2/205، وحاشية العطار على المحلى 2/240، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

2 - القياس في معنى الأصل: وهو الجمع بين الفرع والأصل بإلغاء الفارق، كقولك الأمة كالعبد في سراية العتق بجامع أن لا فارق. 3 - قياس الشبه: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بوصف شبهي1، كالصلاة مثلاً في قولك: الجلسة الأولى في الصلاة، كالجلسة الثانية صورة، فتجب وجوبها. 4 - قياس العكس: وهو ما جمع فيه بين الفرع والأصل بنقيض العلة ونقيض الحكم، كقول الحنفي لو لم يكن الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف عند الإطلاق لما كان شرطاً له بالنذر، لكنه وجب بالنذر، فيجب عند الإطلاق، قياساً على الصلاة، فإنها لم تجب عند الإطلاق لم تجب بالنذر. فالمطلوب في الفرع إثبات كون الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف، والثابت في الأصل نفي كون الصلاة شرطاً له، فحكم الفرع نقيض حكم الأصل، كما افترقا في العلة، إذ هي في الأصل أن الصلاة ليست شرطاً للاعتكاف بالنذر، وهي لا توجد في الصوم، لأنه واجب بالنذر2.

_ 1 قال القاضي: هو الوصف الذي لا يناسب لذاته، ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب من جنس الحكم القريب، مثاله قولنا: الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا تزال به النجاسة كالدهن، فإن قولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس مناسباً في ذاته، لكنه مستلزم للمناسب؛ لأن عدم بناء القنطرة عليه يؤذن بأنه قليل، والقلة وصف مناسب، لعدم مشروعية التطهير به، لأن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود، أما التكليف الكل بما لا يجده إلا البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولنا: لا تبنى القنطرة على جنسه غير مناسب، ولكنه مستلزم للمناسب. وقد شهد الشرع بجنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة، فإنه يسقط الأمر به ويتوجه إلى التيمم، وقد يكون الشبه في الحكم كما في العبد المقتول، فإنه متردد بين النفسية والمالية، فيلحق بأيهما أقوى شبهاً. انظر: شرح تنقيح الفصول ص394. 2 انظر: المحصول 2/21، من القسم الثاني من المطبوع، والمختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/205، ونهاية السول 3/7، وحاشية العطار 2/240.

أجابوا عن الاعتراضات - بخروج الأقيسة المذكورة - إجمالاً بأن التعريف المذكور إنما هو لقياس العلة، لأن اسم القياس يطلق عليه بدون قيد، فهو حقيقة فيه، وأما المذكورات، فإطلاق اسم القياس عليها مجاز، لأنه لا يطلق عليها إلا مقيداً، فيقال: قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل ... الخ، ولزوم القيد إمارة المجاز1. وأما تفصيلاً، فإنه يجاب: "عن قياس الدلالة بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بين الأصل والفرع بغير العلة، بل بها وإن لم يصرح بها اكتفاء بما يتضمنها، وكذا يقال في القياس الذي في معنى الأصل. وعن قياس الشبه وحده بأنا لا نسلم أن الجمع فيه بغير العلة، فإن المراد بالعلة مطلق المعرف، فيشمل الوصف الشبهي، بل والطردي2

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/205، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 الطرد في اللغة مصدر بمعنى الإبعاد، يقال: طردته طرداً من باب قتل، وأطرده السلطان عن البلد أخرجه منه، وطردت الخلاف في المسألة طرداً أجريته كأنه مأخوذ من المطاردة، وهو الإجراء للسباق، ويقال: أطردت الأمر اطراداً اتبعت بعضه بعضاً، واطرد الماء كذلك. انظر المصباح 2/17. ولعل هذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحي الآتي، ولذا قال الأسنوي في نهاية السول 3/73: "الطرد مصدر بمعنى الإطراد". وأما في الاصطلاح فهو: مقارنة الوصف الذي لا يناسب ولا يستلزم المناسسب للحكم في جميع الصور، ما عدا صورة المتنازع فيها، وهي صورة الفرع الذي يراد ثبوت الحكم له، لوجود ذلك الوصف فيه بناء على أن ذلك الوصف الطردي علة لذلك الحكم، مثاله قولك: الخل لا تبنى على جنسه القنطرة، فلا تزال به النجاسة كالدهن. قال الشربيني: "ولا يمكن فيه العكس بأن يكون إذا بنيت القنطرة عليه نفسه يطهر، لأنه خلاف المعهود له عن الشارع، قال: فهذا هو الفرق بينه وبين الدوران، فإن الدوران تحقيقه هو أن يوجد الحكم إذا وجدت العلة في محل، وينتفى بانتفائها في ذلك المحل بعينه، كالحرمة عند الإسكار في الخمر وعدمها عند عدمه فيه بعينه، وهذا هو المعهود له من الشارع". انظر: تقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/336 - 337. قال الإمام في المحصول 2/305 من القسم الثاني المطبوع: "ومنهم من بالغ وقال مهما رأينا الحكم حاصلاً مع الوصف في صورة واحدة حصل ظن العلية"ا. هـ فعلى هذا يكون للطرد تعريفان: الأول: مقارنة الوصف للحكم في جميع الصور. والثاني: مقارنته له في صورة واحدة، والثاني أعم من الأول، وأما حكمه فقد اختلف العلماء في حجيته: أما القائلون بعدم حجية الدوران، فيقولون: إن الطرد ليس بحجة بطريق أولى، وإلى هذا ذهب الآمدي وابن الحاجب. والقائلون بحجية الدوران اختلفوا في حجية الطرد على أربعة مذاهب: الأول: إنه غير حجة مطلقاً أي على التفسيرين، وهذا هو المختار. قال الزركشي في البحر: والمعتبرون من النظار على أن التمسك به باطل، لأنه من باب الهذيان. وقال إمام الحرمين: وتناهى القاضي في تغليظ من يعتقد ربط حكم الله عز وجل به. ونقله الكيا عن الأكثرين من الأصوليين. ونقله القاضي أبو الطيب عن المحصلين من أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال القاضي حسين فيما نقله عنه البغوي في تعليقه عنه: لا يجوز أن يدان الله به. قال ابن السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة ودليلاً على صحة العلية حشوية أهل القياس، وقال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء. الثاني: هو حجة مطلقة أي على التفسيرين، وهذا ضعيف ولم أعثر على القائل بذلك. الثالث: هو حجة بالتفسير الأول دون الثاني، ونقله في البحر عن طوائف من الحنفية، وهو غريب، ومال إليه الرازي، وجزم به البيضاوي. قال ابن السمعاني: "وحكاه الشيخ في التبصرة عن الصيرفي". وقال الزركشي: "وهذا فيه نظر، فإن ذلك في الإطراد الذي هو الدوران". وقال القاضي أبو الطيب: "ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة في العراق فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم، ويقولون إنها قد صحت، كقولهم في مسّ الذكر آلة الحرث فلا ينقض الوضوء كما إذا مسّ الفدان، وفي الفرج إنه طويل مشقوق فأشبه البوق، وفي السعي بين الصفا والمروة إنه سعي بين جبلين فلا يكون ركناً في الحج، كالسعي بين أي جبلين، ولا يشك عاقل في أن هذا سخف" اهـ الرابع: ما ذهب إليه الكرخي، وهو إنه مقبول جدلاً، ولا يسوغ التعويل عليه عملاً، ولا الفتوى به، وهذا القول ضعيف، بل متناقض كما قال إمام الحرمين. والله أعلم. انظر: البحر المحيط 3/169 فما بعدها، نهاية السول مع منهاج العقول 3/73، ونبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/377، وتعليق الدكتور طه جابر فياض على المحصول 2/313 فما بعدها من القسم الثاني من المطبوع.

عند من يجوزه"1. وأما قياس العكس فيجاب عنه بأنا لا نسلم بأنه غير جامع له، فإن الذي سميتموه قياس العكس، إنما هو تلازم والقياس لبيان الملازمة، لأن المستدل

_ 1 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/34.

يقول: لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، لم يكن واجباً بالنذر، فيكون شرطاً لصحة الاعتكاف عند الإطلاق، كالصلاة، فإنها لما لم تكن شرطاً في الاعتكاف لم تجب بالنذر. فعلى فرض عدم وجوب الصوم عند الإطلاق لم يجب بالنذر، فالمساواة حاصلة بين الصلاة والصوم في عدم الوجوب بالنذر، وإن لم تكن حاصلة في نفس الأمر. فالأصل في هذا القياس هو الصلاة، والفرع فيه الصوم، والعلة الجامعة بينهما هي عدم اشتراط كل منهما في صحة الاعتكاف عند الإطلاق، والحكم الثابت في الأصل والفرع هو عدم الوجوب بالنذر، فهذا هو عين الملازمة، والممثالة حاصلة على سبيل الفرص والتقدير1. وقد أجيب عنه بأجوبة أخرى تركتها، لأنني رأيت في الجواب الأول عن كل الأقيسة الخارجة على التعريف، وفي هذا عن قياس العكس خاصة ما فيه الكفاية، والله تعالى أعلم. الاعتراض الثالث: هذا التعريف يلزم عليه الدور، وذلك أن "الأصل" هو المقيس عليه و "الفرع" هو المقيس، وقد وقعا جزئين في التعريف. فبهذا الاعتبار يتوقف القياس عليهما، إذا لا يتصور المحدود إلا بعد تصور الحد، ولا يمكن تصور الحد إلا بعد تصور كل جزء من أجزائه، وباعتبارهما مشتقين من القياس يتوقفان عليه، لأن المشتق فيه المشتق منه وزيادة، فيكون القياس جزءاً منه، ومعرفة الكل متوقفة على معرفة أجزائه، فهما متوقفان على القياس، فتوقف كل منهما على الآخر، وهذا دور، وهو باطل.

_ 1 انظر: نهاية السول 3/7، والمحصول ص276 - خ -، والعضد على المختصر2/206، وأصول الفقه لأبي النور زهير 4/15.

وأجيب عنه بأن المراد من "الأصل" في التعريف المحل الذي نص أو أجمع على حكمه، و"الفرع" المحل الذي لم ينص أو يجمع على حكمه. وهما بهذا الاعتبار غير متوقفين على القياس، وإنما يتوقف عليهما القياس، فقط فلا دور1. وأورد الدكتور عثمان مريزيق2 - رحمه الله - اعتراضاً على هذا، وأجاب عنه بما نصه: "أن ملاحظة كل من الأصل، والفرع بغير وصف المقيسس والمقيس عليه بعيد عن اصطلاح الأصوليين"، قال: ولنا جوابان: الأول: أن المذكور في التعريف هو كلمتا "الأصل، والفرع"، وهما غير مشتقين من القياس، وإن كان مفسرهما: "المقيس، والمقيس عليه" فهما مشتقان منه، وفد قال العلماء: إن الاشتقاق من أحكام اللفظ لا من أحكام المعنى. الثاني: حتى لو فرضنا وقوع كلمتي "المقيس والمقيس عليه" في التعريف لم يرد اعتراض، ذلك أن القياس الذي هو بمعنى الحدث، والاشتقاق المعرف ليس مصدراً، بل هو علم على حقيقة مصطلح عليها، فما كان مشتقاً منه غير معرف والمعرف غير مشتق منه، فلا توقف من الجانبين3. التعريف الثاني للبيضاوي: قال - رحمه الله -: "إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر، لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت"4.

_ 1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/204، التقرير والتحبير 3/118، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 هو الدكتور عثمان مريزيق، العالم العلامة الفيلسوفي، الفقيه، الأصولي، المالكي، أحد مشاهير مشايخ الأزهر المعاصرين، تولى التدريس بالأزهر، وانتدب للتدريس بجامعة اليبضاء أيام الملك الإدريسي، كما درس بجامعة الإمام محمد بالرياض، ثم بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الشريعة بمكة فرع جامعة الملك عبد العزيز آنذاك، وكان رئيساً لشعبة الأصول بها، توفي رحمه الله سنة 1400هـ بالقاهرة. 3 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 4 المنهاج مع نهاية السول 3/3.

وهذا التعريف ذكره الإمام في المحصول، وأصله لأبي الحسين البصري1، وإن كان الإمام غير بعض قيوده بما هو أحسن منه. قال الإمام2: "التعريف الثاني ما ذكره أبو الحسين البصري، وهو أنه "تحصيل حكم الأصل في الفرع، لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد"، وهو قريب، وأظهر منه أن يقال: إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر، لأجل اشتراكهما في علة الحكم عند المثبت"3. فتعريف الإمام لم يختلف عن تعريف البيضاوي إلا بإبداله كلمة اشتباههما بكلمة اشتراكهما، والتعبير بالاشتراك أدق من التعبير بالاشتباه، إذ يفيد الاشتباه التعدد في العلة، ضرورة تعدد المشبه والمشبه به، بخلاف الاشتراك، فإنه يفيد اتحاد العلة، وإن كان لا بد في ذلك من قطع النظر في تعدد المحل، لكن يرد عليه أن الشبه يقتضي الاتحاد في المماثلة فيتساويان في اتحاد العلة، كما في الاشتراك. شرح التعريف: قال الأسنوي: "قوله إثبات كالجنس، دخل فيه المحدود وغيره، والقيود التي بعده كالفصل"4، وهي خمسة، منها ما هو للاحتراز، وهي ثلاثة: الحكم المقدر، ومثل، ولاشتراكهما في علة الحكم. ومنها ما هو لبيان المحل، وهو قوله في معلوم آخر، ومنها ما هو للإدخال، وهو قوله: عند المثبت.

_ 1 هو: محمد بن علي الطيب البصري المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان في أصول الفقه والكلام، ولد بالبصرة ونشأ بها، مصنفاته كثيرة منها: المعتمد في أصول الفقه المطبوع، توفي سنة 436هـ. انظر: الفتح المبين 1/137. 2 هو: محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري، الملقب بفخر الدين، المكنى بأبي عبد الله، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي الأصولي، المتكلم، النظار المفسر، الفيلسوفي صاحب المكانة بين الأمراء والعلماء، ولد بالديار المصرية سنة 544هـ، له مؤلفات منها: أساس التقديس في علم الكلام، والمسائل الخمسون في أصول الكلام، والمحصول في أصول الفقه، توفي سنة 606هـ. انظر: الفتح المبين 2/47 - 49، الأعلام للزركلي 7/203. 3 انظر: المحصول ص275 - خ -. 4 انظر: نهاية السول 3/ 4.

وقد يطلق الإثبات عرفاً على الإخبار بالثبوت، "والمراد بالإثبات هنا هو القدر المشترك بين العلم، والاعتقاد، والظن، "لأنا إذا أثبتنا، فقد نعلم ثبوت الحكم في الفرع، وقد نعتقده اعتقاداً جازماً لا يحتمل عدم المطابقة، وقد نظنه"1، سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم، أو عدمه، والقدر المشترك بينهما هو حكم الذهن بأمر على أمر2، لأن القياس يجري في الحكم المثبت، والمنفي، كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة، والكلب على الخنزير في عدم جواز بيعه بجامع النجاسة في كل3. وتفسير الإثبات بالقدر المشترك بين المذكورات يفيد أنه أعم من أن يكون إثباتاً قطعياً، أو ظنياً، فيشمل كلا قسمي القياس المقطوع والمظنون4. قوله: مثل قيد أول، احترز به عن الإثبات خلاف الحكم، فإنه لا يكون قياساً5، وهو صفة لموصوف تقديره إثبات حكم مثل، وإنما كان أصلاً لأن حكم الأصل محله الأصل، وحكم الفرع محله الفرع، ولأنّ حكم الأصل ثبت بالنص أو الإجماع، وحكم الفرع ثبت بالقياس، ولأن حكم الأصل متفق عليه، وحكم الفرع مختلف فيه. وأما تصور المثل، فقد اختلف فيه العلماء: فذهب بعضهم إلى أنه نظري يحتاج إلى نظر وفكر، ولهذا عرفه بأنه ما اتحد مع غيره في النوع أو الجنس، وخالفه في العوارض. مثال الأول: وجوب القصاص بالمثقل قياساً على وجوبه بالمحدد، لأنهما فردان لنوع واحد، هو الوجوب الذي هو نوع من الحكم التكليفي.

_ 1 انظر: شرح تنقيخ الفصول للقرافي ص383. 2 انظر: نهاية السول 3/ 4. 3 انظر: الأحكام للآمدي 3/171، وحاشية العطار 2/240، ونهاية السول 3/ 4. 4 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/240. 5 انظر: نهاية السول وبذيله منهاج العقول للبدخشي 3/ 4.

ومثال الثاني: إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها، قياساً على إثبات الولاية في مالها، فإن كلاً منهما نوع مندرج تحت جنس الولاية، وعلى هذا فالمثل لا يسوغ وقوعه في التعريف، لأن التعريف معناه التوصل بالمعلوم إلى المجهول1. وذهب بعض العلماء إلى أن تصور المثل بديهي، لا يحتاج إلى نظر واستدلال، ولذا جاز وقوعه في التعريف؛ لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الحارّ مثل للحار في كونه حارّاً، ومخالف للبارد في ذلك، فلو لم يكن تصور المثل بديهياً، لزم أن لا يعلمه بعض العقلاء بالضرورة، لكن التالي باطل، لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الحار مثل للحار في كونه حاراً2، فالمقدم وهو عدم كونه بديهياً مثله. ويرى الأسنوي أن البيضاوي إنما عبر بالمثل لأن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الثابت في الأصل، لاستحالة قيام الواحد بالشخص بمحلين، بل الثابت مثله3. ورده الكمال ابن الهمام بأن حكم كل من الأصل والفرع واحد بالشخص له إضافتان: إضافة إلى الأصل، باعتبار تعلقه به، وباعتباره به يسمى حكم الأصل. وإضافة إلى الفرع، باعتبار تعلقه به، وباعتباره يسمى حكم الفرع، فلا تعدد في ذاته بتعدد المحل أصلاً، بل هو واحد له تعلق بكثيرين فالتحريم المضاف إلى الخمر، هو بعينه المضاف إلى النبيذ، كما أن القدرة شيء واحد متعلق بالمقدورات، فلم يقتض تعدد تعلقاتها تعددها. وما ذكر من أن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين، إنما هو في العرض

_ 1 انظر: منهاج العقول للبدخشي بذيل نهاية السول 3/3 - 4، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس، وأصول أبي النور زهير 4/7. 2 انظر: نهاية السول 3/ 4، وأصول أبي النور زهير 4/7، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 3 انظر: نهاية السول 3/ 4.

الشخصي كالبياض المخصوص القائم بثبوت معين، يمتنع أن يقوم بعينه بثوب آخر، وما هنا فمجرد إضافات متعددة لواحد شخصي1. قوله حكم، أشار به إلى الركن الأول، وهو حكم الأصل، قال الأسنوي: "والمراد به هنا نسبة أمر إلى آخر، ليكون شاملاً للشرعي، والعقلي، واللغوي إيجاباً كان أو سلباً"2. ولم يرَ اختصاصه بالحكم الشرعي الذي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء أو التخيير، ولعله إنما ذهب إلى ذلك لأن البيضاوي يرى القياس في الشرعيات، والعقليات، واللغويات، فأراد أن يكون التعرف شاملاً للجميع. لكن يرد عليه ما ذكره في تعريف الأركان من "أن المصنف لما بين الحكم في أول الكتاب، لم يتعرض هنا إلى بيانه"3. والذي تقدم للمصنف في بيان الحكم هو قوله "الحكم خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير"4، فاحترز هنا عن العقلي واللغوي. وقوله معلوم، أشار به إلى الركن الثاني، وهو الأصل، والمراد بالمعلوم المتصور، وعبر به ليشمل جميع ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم. وليس المراد به العلم المصطلح عليه، الذي هو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل بحيث لا يحتمل النقيض، لأن القياس، وإن كان قد يفيد القطع، فإنه أكثر ما يفيد الظن5. وقوله في معلوم آخر أشار به إلى الركن الثالث وهو الفرع الذي ثبت حكمه بالقياس.

_ 1 التقرير والتحبير 3/121، مع تصرف واختصار. 2 انظر: نهاية السول 3/ 4. 3 انظر: نهاية السول 3/38. 4 انظر: نهاية السول 3/30. 5 انظر: نهاية السول 3/ 4، حاشية العطار 2/240، البدخشي 3/ 4.

وقوله لاشتراكهما في علة الحكم، أشار به إلى الركن الرابع، وهو العلة الآتي تعريفها، وقيد بالاشتراك، لأن القياس لا يمكن في كل شيء، بل إذا كان بينهما مشترك يوجب الاشتراك في الحكم. وهو قيد احترز به عن إثبات مثل حكم معلوم في معلوم، لا للاشتراك في العلة بل لدلالة نص، أو إجماع، فإنه لا يكون قياساً1. وقوله عند المثبت، ذكره ليتناول الصحيح والفاسد في نفس الأمر، والمراد بالمثبت القائس، فهو يعم المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد، الذي يقيس على مذهب إمامه2. الاعتراضات الواردة على هذا التعريف، والإجابة عنها: الأول: ما ذكره الآمدي، وقال: "إنه إشكال مشكل لا محيص عنه، وهو أن الحكم المثبت في الفرع متفرع على القياس إجماعاً، فجعله ركناً في الحد، يقتضي توقف القياس عليه، وهو دور ممتنع"3. وقد يجاب عنه: بأن الدور إنما يلزم لو كان التعريف حداً حتى يكون الإثبات جزءاً من القياس، فيتوقف القياس عليه، ونحن لا نسلم أن التعريف حد، بل ندعي إنه رسم، كما أشار إليه إمام الحرمين في البرهان، فعلى هذا يكون الإثبات خاصة من خواص القياس، وليس حقيقة فيه، فحمل الإثبات عليه حمل "ذو"، أي أن القياس ذو إثبات أي في إثبات، فالتعريف بالخاصة لا يوجب الدور لانفكاك الجهة، لأن خاصة الشيء تتوقف عليه من جهة وجودها ضرورة، لأنها عرض، والعرض لا بد له من محل يقوم به.

_ 1 انظر: نهاية السول 3/5، البدخشي 3/5. 2 انظر: المحصول ص275 - خ -، نهاية السول 3/5، البدخشي 3/5، وحاشية العطار 2/241. 3 الأحكام للآمدي 3/174، ونهاية السول 3/5.

أما الشيء فقد يتوقف في تصوره على الخاصة من حيث تصوره، لا من حيث وجوده، فانفكت الجهة، فلا دور1. الاعتراض الثاني: أن القياس دليل شرعي في ذاته، نصبه الشارع دليلاً على الحكم الشرعي، نظر فيه المجتهد، أو لم ينظر، فتعريفه بالإثبات الذي ينبئ أنه فعل المجتهد غير صحيح. ولهذا الاعتراض اختار ابن الحاجب في مختصره تعريف القياس بأن "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"، ونسبة الزركشي2 في البحر إلى المحققين3. كما اختاره صاحب مسلم الثبوت4، واعتبر إطلاقه على ما يدل على أنه فعل المجتهد مسامحة، قال شارحه5: "لأن القياس حجة إلهية، موضوعة من قبل الشارع لمعرفة أحكامه، وليس هو فعلاً لأحد، لكن ما كان معرفته بفعل المجتهد ربما يطلق عليه مجازاً6.

_ 1 انظر: نهاية السول 3/5، وأصول أبي النور زهير 4/13، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 هو: محمد بن بهادر بن عبد الله التركي، المصري، الزركشي، الملقب ببدر الدين، المكنى بأبي عبد الله، الفقيه الشافعي، الأصولي، المحدث، ولد سنة 745هـ، من شيوخه الأسنوي، والبلقيني، تبحر في العلوم حتى صار يشار إليه بالبنان، له مؤلفات كثيرة، منها في أصول الفقه: البحر المحيط - خ -، وتنشيف المسامع بجمع الجوامع في الأصل أيضاً، والديباج في توضيح المنهاج، وغيرها، توفي ثالث رجب سنة 794هـ. انظر: الفتح المبين 2/209. 3 انظر: البحر المحيط 3/2 بعد عنوان القياس. 4 هو: محب الله بن عبد الشكور البهاري، الفقيه الحنفي، الأصولي، البحاثة المحقق، اشتغل بالقضاء والتدريس، وتولى الصدارة في ممالك الهند، له مؤلفات منها: مسلم الثبوت في أصول الفقه، توفي سنة 1119هـ. انظر: الفتح المبين 3/122. 5 هو: عبد العلي محمد بن نظام الدين اللكنوي الأنصاري، المكنى بأبي العباس الملقب ببحر العلوم، الفقيه، الحنفي، الأصولي، من أشهر مؤلفاته فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، توفي سنة 1180هـ. انظر: الفتح المبين 3/132. 6 انظر: فواتح الرحموت بذيل المستصفى 2/247.

وكذلك اختار الكمال بن الهمام مثل تعريف ابن الحاجب، وذكر أن أكثر عباراتهم تفيد كون القياس فعل المجتهد1. وأجاب العطار2 عن هذا الاعتراض "بأن كونه فعل المجتهد، لا ينافي أن ينصبه الشارع دليلاً، إذ لا مانع من أن ينصب الشارع فعل المجتهد"3، دليلاً له ولمن قلده. وتبعه على ذلك شارح التحرير، واستدل عليه بأن الإجماع دليل نصبه الشارع، مع أنه فعل المجتهد4. هل للخلاف ثمرة؟ ذكر الدكتور عثمان مريزيق - رحمه الله - بأن الخلاف بين الشقين لفظي؛ لأن من جعله فعل المجتهد، لا ينكر أن المجتهد لا يعطي شيئاً حكم شيء إلا إذا كان بينهما مساواة، غير أن المجتهد له فكره واستنباطه، فمن نظر إلى ذلك عبر عنه بما يفيد أنه فعل المجتهد. ومن نظر إلى الواقع في نفس الأمر عبر عنه بالمساواة، فتلاقت العبارات ولم ينقض بعضها بعضاً، والله تعالى أعلم5. الاعتراض الثالث: أن التعريف غير جامع، لخروج قياس الدلالة، والقياس في معنى الأصل، وقياس الشبه، وقياس العكس، وهذا الاعتراض سبق الجواب عنه فيما أورد على تعريف ابن الحاجب بما أغنى عن إعادته.

_ 1 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/119. 2 هو: الشيخ حسن بن محمد العطار الشافعي، المصري النشأة، المغربي أصالة، لقب بالعطارلكونه كان يبيع العطر، له في أصول الفقه حاشية على الجلال المحلى على جمع الجوامع تدل على غزارة علمه، ولد سنة 1190هـ، وتوفي سنة 1250هـ. انظر: الفتح المبين 3/146، الأعلام للزركلي 2/236. 3 حاشية العطار على المحلى 2/240. 4 التقرير والتحبير 3/119. 5 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

التعريف الثالث: لابن السبكي: قال - رحمه الله -: "حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه"، وفسر المحلى1 حمل المعلوم على المعلوم بإلحاقه في حكمه2. وبين العطار في حاشيته المراد بالحمل بما نصه: "والمراد بحمل المعلوم على المعلوم إثبات حكمه له، والمراد بالإثبات القدر المشترك بين العلم والظن، أي أعم من أن يكون إثباتاً قطعياً، أو ظنياً، فيشمل كلا قسمي القياس المقطوع والمظنون"3. فعلى ما قال العطار، يكون هذا التعريف مساوياً لتعريف البيضاوي، السابق من غير فرق، إلا في اللفظ، فجميع ما قيل في تعريف البيضاوي يقال في هذا التعريف، والله تعالى أعلم. الموازنة بين التعريفات المختارة المتقدمة: يتضح من التعريفات المتقدمة أن الأصوليين سلكوا في تعريف القياس طريقتين: الأولى: سلك أهلها في التعريف ما ينبئ بأنه فعل مجتهد، فعبروا عنه بالإثبات، والإلحاق وما في معناهما استناداً إلى المساواة في علة الحكم؛ لأن المجتهد له نظره وفكره واستنباطه، وإن كان لا يعطي شيئاً حكم شيء إلا إذا كان بينهما مساواة في نفس الأمر في نظره. الثانية: اعتبر أهلها القياس دليلاً نصبه الشارع دليلاً على الحكم الشرعي،

_ 1 هو: جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلى، الشافعي، الفقيه، الأصولي، المفسر، قال عنه بعض أهل عصره: إن ذهنه يثقب الناس، له مؤلفات في الفقه، والتفسير والأصول، منها في أصول الفقه شرحه لجمع الجوامع، وشرح الورقات لإمام الحرمين، ولد سنة 791هـ، وتوفي سنة 864هـ. انظر: الفتح المبين 3/40. 2 انظر: جمع الجوامع، والمحلى مع حاشية العطار 2/240. 3 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/240.

نظر فيه المجتهد أو لم ينظر، فعبروا عنه بالمساواة، لأن عمل المجتهد أثر مترتب عليها بتحقيق مساواة الفرع للأصل في حكم العلة الجامعة بينهما. وبهذا يظهر للمتأمل أنهما يتفقان في أن المعوَّل عليه في القياس هو المساواة في العلة، وأن المعتبر في تحقق هذه المساواة هو نظر المجتهد، واستنباطه الذي يتحقق به وجود القياس الذهني والخارجي بتحقق أركان القياس الأربعة، وكلتا الطريقتين موصلة إلى الغرض المقصود من تعريف القياس، وإن كان لكل منهما حظاًَ من النظر. فالخلاف بينهما خلاف لفظي اعتباري لا يترتب عليه أثر كما تقدم، فلا حرج على من أخذ بكل من الطريقتين. ونظراً لاتفاق التعريفات السابقة في المقصود من تعريف القياس، لم يترجح لي أحد التعريفات السابقة على غيره، والله تعالى أعلم. أركان القياس: الأركان: جمع ركن، وركن الشيء جانبه الأقوى، فأركان الشيء أجزاء ماهيته1، التي لا يحصل إلا بحصولها، داخلة في حقيقته محققة لهويته. "وهو في الاصطلاح جزء الشيء الذي لا يتحقق إلا به". وأركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، وحكم الأصل، والوصف الجامع، وأما حكم الفرع فثمرة القياس، فيتأخر عنه، فلا يكون ركناً له"2. مبحث الأصل، والفرع: اختلف الأصوليون فيما يسمى من أركان القياس أصلاً، وما يسمى فرعاً، ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب:

_ 1 انظر: المصباح المنير 2/255، تصحيح مصطفى السقا، مطبعة الحلبي بمصر. 2 انظر: العضد على المختصر 2/208، وانظر أصول الفقه لأبي النور زهير 4/58.

الأول: مذهب الفقهاء، قالوا: إن المشبه به يسمى أصلاً، والمشبه يسمى فرعاً، فإذا قلنا: النبيذ مسكر فيحرم قياساً على الخمر، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} 1. فالأصل هو الخمر، لأنه المشبه به، والفرع هو النبيذ، لأنه المشبه، والحكم هو التحريم، والعلة هي الإسكار. الثاني: مذهب المتكلمين، وهو أن الأصل دليل حكم المشبه به كالذي أثبت التحريم في الخمر، في المثال الآنف المذكور، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... } الآية. والفرع هو الحكم في المشبه، قال الأسنوي: قياسه أن يكون فرعه المقابل له هو حكم المحل المشبه به، كتحريم الخمر2. الثالث: مذهب الإمام الفخر الرازي، وهو "أن الحكم أصل في محل الوفاق، فرع في محل الخلاف، والعلة أصل في محل الخلاف، فرع في محل الوفاق، فللقياس عنده كما ترى أصلان، وفرعان3. سبب الخلاف: ذكر الآمدي أن الأصل يطلق في أمرين: الأول: ما بني عليه غيره، كقولنا أن معرفة الله أصل في معرفة رسالة الرسول، من حيث أن معرفة الرسول تبنى على معرفة الرسل.

_ 1 سورة المائدة آية 90 - 91. 2 انظر: نهاية السول 3/38، وانظر تفاصيل ذلك في العضد 2/208. 3 انظر: المحصول: 2/25 من القسم الثاني المطبوع.

الثاني: ما عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره، وإن لم يبن عليه غيره، وذلك كما تقول في تحريم الربا في النقدين، فإنه أصل وإن لم يبن عليه غيره، وعلى هذا اختلف العلماء في الأصل في القياس1. وجهة نظر أهل المذاهب: أما الفقهاء فقالوا: إن الأصل هو المحل، لتعلق النص والحكم به ضرورة، وذلك أن الحكم صفة فلا بد لها من موصوف تقوم به. والنص يثبت حكماً كذلك في محل، بينما المحل في غير حاجة إليهما، لجواز خلوه عن الحكم، وعن الدليل كما كان قبل البعثة، فكان الخمر خمراً. وهذا الرأي نقله ابن الحاجب عن الأكثرين، وقال الآمدي: أنه الأشبه، لما ذكرت، وقال المحلي: إنه الأقرب2. وبين الشربيني3 وجه القرب بقوله: "لأن القياس وقع بين الذاتين، وإن كان المقصود بيان الحكم"4، وجوز الإمام تسميته أصلاً لذلك5. وأما المتكلمون فقال: إن الحكم الثابت في محل الوفاق مستفاد من النص المثبت له، فكان النص هو الأصل، لأن الحكم مستفاد منه. ولذا قال الإمام: "ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل، وثبت أن

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/174 - 175. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/176، والعضد على المختصر 2/208 - 209، نهاية السول 3/38، المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/253، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 3 هو: الشيخ عبد الرحمن الشربيني الأسدي، الفقيه، الشافعي، الأصولي، المصري، كان عالماً جليلاً ورعاً، أخذ عن كبار علماء الأزهر، وعهدت إليه مشيخة الأزهر سنة 1322هـ، واستقال منها سنة 1324هـ عرف بالتحقيق والتدقيق في تصانيفه، له مؤلفات منها في أصول الفقه تقريراته على جمع الجوامع بهامش المحلى، توفي سنة 1326هـ. انظر: الفتح المبين 3/161. 4 انظر حاشية الشربيني بهامش العطار 2/254. 5 انظر: المحصول ص 277 - خ -.

النص أصل ذلك الحكم، فكان النص أصلاً لأصل الحكم المطلوب، وأصل الأصل أصل، فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على ما هو في قول المتكلمين"1. وأما الإمام فوجه مذهبه "بأنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق، لا نطلب علته، وقد نعلم ذلك الحكم، ولا نطلب علته أصلاً، فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم، ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علته، فلا جرم كانت العلة فرعاً على الحكم في محل الوفاق، والحكم أصلاً فيه. وأما في محل الخلاف فما لم نعلم حصول العلة فيه، لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياساً، ولا ينعكس، فلا جرم كانت العلة أصلاً في محل الخلاف، والحكم فرعاً فيه"2. وصحح ابن الحاجب وجه كون العلة أصلاً في محل الخلاف، وتبعه العضد، وقال السعد: "لأن في ذلك حقيقة الابتناء، وفيما عداه لا بد من تجوز، وملاحظة واسطة تظهر بالتأمل"3. الموازنة: يتضح مما تقدم أن جميع تلك الأقوال لا تخرج عما في اللغة من أن الأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره. ولذا قال الآمدي: "واعلم أن النزاع في هذه المسألة لفظي، وذلك أنه إذا كان معنى الأصل ما يبنى عليه غيره، فالحكم أمكن أن يكون أصلاً، لبناء الحكم في الفرع عليه ... وإذا كان الحكم في الخمر أصلاً، فالنص الذي به معرفة الحكم يكون أصلاً للأصل".

_ 1 انظر: المحصول ص 277 - خ -. 2 المحصول ص276، 277 - خ -. 3 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/208 - 209.

وعلى هذا فأي طريق عرف به حكم الخمر من إجماع أو غيره، أمكن أن يكون أصلاً، وكذلك الخمر، فإنه إذا كان محلاً للفعل الموصوف بالحرمة، فهو أيضاً أصل للأصل "باعتبار تعلقه" فكان أصلاً1. وصرح العضد بأنه "لا بعد في الكل، لأن الحكم في الفرع يبنى على الحكم في الأصل، وهو على مأخذه ومحله، فالكل يبنى عليه الحكم في الفرع ابتداء، أو بواسطة، فلا بعد في التسمية"2. ولذا ختم الإمام كلامه على الموضوع بأن لقول المتكلمين وجهاً، وبأنه يساعد الفقهاء فيما ذهبوا إليه، لئلا يفتقر إلى تغيير مصطلحهم3، أن حكم الأصل هو الحكم الشرعي الثابت في الأصل، والذي يطلب المجتهد تعديته من الأصل إلى الفرع بطريق القياس. هذا ولما كان التعرض لهذه المسألة إنما هو من باب المدخل إلى الغرض، فإنني أكتفي بهذا القدر الموجز، خشية الخروج عن الموضوع، والإطالة باستعراض ما زاد عن الحاجة، وأنتقل إلى تعريف العلة.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/175 - 176. 2 انظر: العضد على المختصر 2/208 - 209. 3 انظر: المحصول ص 277 - خ -.

الفصل الثاني في تعريف العلة وأقوال العلماء في تعليل أفعال الله تعالى تعريف العلة: العلة هي أحد أركان القياس، بل جعلها بعض الأصوليين الركن الأعظم، وما سواها شرائط1، لأن عليها مدار تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع ولهذا أعطاها كثير من الأصوليين عناية وافرة لما لها من أهمية بالغة. العلة في اللغة: مأخوذة من العلَلَ، يقال: عل يعل - بكسر العين وضمها علا وعللاً، والعل الشرب بعد الشرب تباعاً، والعلة بالكسر المرض الشاغل والجمع علل، واعتل إذا مرض، أو تمسك بحجة. قال صاحب المصباح2: "ذكر معناه الفارابي"3، قال: "وأعله جعله ذا علة. ومنه إعلالات الفقهاء، وإعتلالاتهم، وعللته عللاً سقيته السقية الثانية، ويقال: هذا علته أي سببه"4. ومن هنا ناسب قول الأصوليين أنها اسم لما يتغير حكم الشيء بحصوله،

_ 1 انظر: كشف الأسرار 3/345، نهاية السول مع منهاج العقول 3/39. 2 هو: أحمد بن محمد بن علي الفيومي، الحموي، المكنى بأبي العباس اللغوي، اشتهر بكتاب المصباح المنير المطبوع، ولد ونشأ في مصر، ثم انتقل إلى حماة بسورية، وتولى خطابة جامع الدهشة، في أيام الملك المؤيد إسماعيل، وتوفي سنة 770هـ. انظر: الأعلام للزركلي 1/216، الطبعة الثانية. 3 هو: محمد بن محمد بن طرخان أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لشرحه لمؤلفات أرسطو، أكبر فلاسفة المسلمين، تركي الأصل، مستعرب، ولد في فاراب على نهر جيحون سنة 260هـ، وانتقل إلى بغداد فنشأ بها، وألف بها أكثر كتبه، كان يحسن أكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره، مؤلفاته كثيرة منها: النصوص، طبع، وإحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، وآراء أهل المدينة الفاضلة، وغيرها، توفي سنة 339هـ. انظر: الأعلام للزركلي 7/242 - 243. 4 انظر: لسان العرب 13/495، القاموس 4/21، المصباح المنير 2/77.

مأخوذة من العلة التي هي المرض، لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض. وقيل: لأنها ناقلة حكم الأصل إلى الفرع، كالانتقال بالعلة من الصحة إلى المرض. وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل، وهو معاودة الماء للشرب مرة بعد أخرى، لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر، أو لأن الحكم يتكرر بتكرر وجودها. وقد يعبر بها عما لأجل ذلك يفعل الفعل أو يمتنع منه، فيقال: فعل الفعل لعلة كيت، أو لم يفعل لعلة كيت1. وذهب الغزالي2 إلى أنها "عبارة عما يتأثر المحل بوجوده، ولذا سمي المرض علة، وهي في اصطلاح الفقهاء على هذا المذاق"3. ونقل صاحب نبراس العقول4، عن القرافي5، أنه قال: في شرح

_ 1 انظر: البحر المحيط للزركشي 3/105 - 106 - خ -، إرشاد الفحول ص206 - 207. 2 هو: حجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الغزالي، الإمام الجليل، الفقيه، الأصولي، الفيلسوفي، الشافعي، المتصوف، له مصنفات كثيره، منها في أصول الفقه: المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل في مسالك التعليل، وكلها مطبوعة، ولد رحمه الله سنة 450هـ، وتوفي سنة 505هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/8، طبقات الشافعية 6/191 فما بعدها. 3 انظر: شفاء الغليل في مسالك التعليل ص20. 4 هو: عيسى منون، العلامة البارع المتفنن الجليل القدر، ولد سنة 1308هـ وفي ضواحي بيت المقدس، ثم قدم مصر، وتعلم على مشايخ الأزهر حتى أخذ منه العالمية سنة 1912م، وتولى التدريس، له في أصول الفقه كتابه نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول، طبع منه الجزء الأول، وهو يدل على سعة علمه وقدرته في المادة. انظر: الفتح المبين 3/211 - 212. 5 هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي، الإمام العالم، له مصنفات منها: الذخيرة في الفقه المالكي، وتنقيح الفصول في اختصار المحصول، وشرحه في أصول الفقه والفروق في القواعد. انظر: الفتح المبين 2/86، والأعلام للزركلي 1/90، الطبعة الثانية.

المحصول نقلاً عن القاضي عبد الوهاب1، والشيخ أبي إسحاق2: "أن العلة باعتبار اللغة مأخوذة من ثلاثة أشياء: علة المريض - وهو الذي يؤثر فيه عادة - والداعي - من قولهم علة إكرام زيد لعمرو علمه وإحسانه. وقيل: من الدوام والتكرر، ومنه العلل للشرب بعد الري، فيقال: شرب عللاً بعد نهل"3. العلة في اصطلاح الأصوليين: اختلف الأصوليون في تعريف العلة، والمشهور أن لهم فيها أربعة مذاهب، نبينها فيما يلي: الأول: للمعتزلة4، وهو أن العلة هي المؤثر بذاته في الحكم، ومعنى تأثيرها فيه أنها توجبه وتقتضيه ذاتاً5. ومذهبهم هذا مبني على أن العقل يدرك في الأفعال حسناً وقبحاً، وأن

_ 1 هو: عبد الوهاب بن نصر، البغدادي المالكي، أحد أئمة المذهب، النظار الفقيه، ثقة ثبت، حجة، وحيد دهره وفريد عصره، ولي قضاء الدينور، له مؤلفات كثيرة منها: الإفادة، والتلخيص، كلاهما في أصول الفقه، والإشراف على مسائل الخلاف وغيرها، ولد سنة 362هـ، وتوفي بمصر بعد أن حمل لواءها سنة 422هـ. انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب: 2/26 - 29، تحقيق الدكتور الأحمدي، والأعلام للزركلي 4/335. 2 هو: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادي صاحب اللمع وشرحه، والتبصرة في أصول الفقه، ولد سنة 353هـ، وتوفي سنة 476هـ. انظر: طبقات الشافعية 3/88 - 89، والفتح المبين 1/228. 3 انظر: نبراس العقول 1/216. 4 المعتزلة يسمون أصحاب العدل، والتوحيد، ويلقبون بالقدرية، وقد جعلوا لفظ القدر مشتركاً بين القدر خيره وشره من الله تعالى هرباً مما ألصق بهم، مما قالوه من أن الله تعالى لا يخلق فعل العبد، وقد نوه عنهم حديث "القدرية مجوس هذه الأمة"، وقد قالوا بخلق القرآن، ونفوا رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وأولوا آيات الصفات. انظر: الملل والنحل بذيل الفصل 1/65 - 68، والفصل بأعلى الملل والنحل 3/41، والعقيدة الطحاوية مع شرحها ص215. 5 انظر: المعتمد لأبي الحسين البصري 2/705، نهاية السول 3/39، غاية الوصول ص114.

الأحكام عندهم تكون تابعة لما أدركه العقل من ذلك، على معنى أن العقل يحكم بوجوب القصاص بمجرد القتل العمد العدوان من غير توقف على الشارع، كما أن العلل العقلية عندهم مؤثرة بذاتها كالنار، فإنها مؤثرة بطبعها في الإحراق، بقوة أودعها الله فيها، فالحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل، والشرع إنما جاء مؤكداً لما أدركه العقل، وكاشفاً لما خفي عليه منهما1. وقد أبطل أهل السنة هذا المذهب بما يأتي: الأول: أنه لو حسن العقل أو قبح لذاته، لما اختلف الفعل الواحد حسناً وقبحاً، لكنه اختلف، فلا يكون كل منهما ذاتياً، لأن بالذات لا يختلف، وإلا لزم اجتماع النقيضين. بيان الملازمة هو أن الذاتي للشيء لا ينفك عنه، فيستلزم ذلك أن لا يختلف، لأن الاختلاف يؤدي إلى الانفكاك. وبيان دفع التالي هو أن الفعل الواحد يحسن تارة، ويقبح أخرى، فالقتل يحسن حداً، ويقبح ظلماً، والصدق يحسن إنقاذاً لنبي أو مظلوم، ويقبح إهلاكاً لنبي أو مظلوم. وهذا يبطل القول بالحسن والقبح العقليين، وبالتالي يبطل التعريف المبني عليهما2. غير أن ما ذكر يرد عليه أن الكذب لإنقاذ المظلوم ما انفك عن القبح، وما اختلف، ولكنه عندما تعين اجتمع قبيحان: الكذب، وترك إنقاذ البريء المظلوم، فكان الثاني أكثر قبحاً من الأول، فارتكب أقل الأمرين قبحاً، وأيضاً لو قيل: أنه صار حسناً، فحسنه لغيره، وهو الإنقاذ.

_ 1 انظر: المحلى وحاشية العطار 2/273، حاشية البناني على المحلى 2/232، ونهاية السول 3/39، والتوضيح مع حاشية التلويح 2/62، وإرشاد الفحول ص207، نبراس العقول 1/218، ومباحث القياس ص102، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 انظر: تعليقات الدكتور مريزيق على القياس.

الثاني: أن العلة الشرعية لو اقتضت الحكم الشرعي لذاتها، لما صح أن يجتمع على الحكم الواحد علل مستقلة، لكنه قد يحصل أن يجتمع عليه علل، فلزم أن لا تقتضيه لذاتها. بيان الملازمة: أن الحكم واجب الحصول بعلته المستقلة، فلا يمكن أن يوجد بغيرها، وإن حصل بغيرها لزم تحصيل الحاصل، أو انقلاب الأثر الواحد أثرين أو أكثر، وهو باطل. بيان ذلك ما إذا اجتمع على الحكم علتان فأكثر في وقت واحد، كما إذا مسّ ذكره من غير حائل، وخرج منه ريح في وقت واحد، أو ارتد وزنى وهو محصن في وقت واحد، فالحكم في الصورتين واحد، ولا يمكن أن يكون النقض والقتل بمجموعهما، وإلاّ كان كل منهما جزء علة، والمفروض أنه علة، ولا يمكن أن يكون لكل واحد منهما، وإلا لزم تحصيل الحاصل، أو انقلاب الأثر أثرين أو أكثر، وهو باطل1. الثاني للغزالي: وهو أن العلة هي الوصف المؤثر بجعل الشارع لا لذاته2. شرح التعريف: فالوصف هو المعنى القائم بالغير، وهو جنس في التعريف يشمل سائر الأوصاف سواء كانت معتبرة أو ملغاة، أو كانت بمعنى المؤثر. والمؤثر معناه الموجب لأن التأثير معناه الإيجاد، وهو قيد في التعريف يخرج العلامة، لأنه لا تأثير فيها، فلا تسمى علة ويجعل الشارع قيد احترز به عما يوهمه اللفظ من التأثير بالذات، ولذا قال: لا لذاته. فمعنى التأثير في كلامه هو الربط والاستلزام العاديان بين الوصف والحكم، على معنى أن الله تعال أجرى عادته بأنه كلما وجد الوصف وجد معه الحكم، وكل منهما من قبل الله تعالى، فليس الحكم ناشئاً ذاتاً من الوصف ولا متولداً منه،

_ 1 انظر: المحصول ص300 - خ -، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق، ونبراس العقول 1/219. 2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/274، ونهاية السول 3/39.

لأن الغزالي من أهل السنة الذين يشددون النكير على من يقول بالطبع والتوليد1، ويدل لذلك ما جاء في تعريفه للعلة في كتابه شفاء الغليل حيث قال: "والعلل الشرعية أمارات، والمناسب والمخيل لا يوجب الحكم بذاته، ولكن يصير موجباً بإيجاب الشرع، ونصبه إياه سبباً له، وتأثير الأسباب في اقتضاء الأحكام عرف شرعاً كما عرف كون مسّ الذكر وخروج الخارج من السبيلين مؤثراً في إيجاب الوضوء، وإن كان لا يناسبه، فكما عرف كون القتل والزنا والسرقة أسباباً لأحكامها إلى ما يناسبها"2. الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والإجابة عنها: الاعتراض الأول: أنه يقتضي تأثير الحادث في القديم، لأن الزنا مثلاً فعل حادث وإيجاب الحد قديم؛ لأنه حكم، والحكم قديم، والحادث لا يؤثر في القديم، وإلا كان القديم متأخراً عن الحادث، أو مقارناً له، وذلك باطل. وأجاب صاحب التوضيح3 عنه بأن الحكم المصطلح عليه هو أثر حكم الله تعالى القديم، فإن إيجاب الله قديم، والوجوب حادث، فالمراد بالمؤثر في الحكم ليس أنه مؤثر في الإيجاب القديم، بل في الوجوب الحادث، بمعنى أن الله تعالى رتب بالإيجاب القديم الوجوب على أمر حادث كالدلوك مثلاً، فالمراد كونه مؤثراً، أن الله تعالى حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر كالقصاص بالقتل، والإحراق بالنار4.

_ 1 التوليد هو أن يوجب فعل لفاعله فعلاً آخر كحركة اليد، وحركة المفتاح، فإن الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أم لم يقصدها. انظر: شرح المواقف في علم الكلام ص520. 2 انظر: شفاء الغليل ص/47. 3 هو: عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري، الحنفي، الملقب بصدر الشريعة الأصغر، تاج الشريعة الفقيه الأصولي، الجدلي، المحدث، المفسر، النحوي، اللغوي، الأديب، النظار، المتكلم، من مؤلفاته التنقيح، وشرحه المسمى بالتوضيح في أصول الفقه، توفي سنة 747هـ. انظر: الفتح المبين 2/256. 4 انظر: التوضيح مع حاشية التلويح 2/62.

كما يجاب عنه أيضاً بأن الزنا مثلاً ليس مؤثراً بهذا المعنى، وإنما هو أمارة على الإيجاب، أو أن التأثير في التعلق التنجيزي، والتعلق التنجيزي حادث، فقد أثر حادث في حادث، ولم يؤثر حادث في القديم. الاعتراض الثاني: أن القول بالتأثير معناه اشتمال الأوصاف على صفات توجب الحكم لذاتها، وهذا هو عين مذهب المعتزلة. وأجيب عنه بما يأتي: أ - أن هناك فرقاً بين مذهب المعتزلة، وبين مذهب الغزالي، لأن الغزالي يقول باشتمال الأفعال على صفات، لكنها لا تقتضي عنده حسناً ولا قبحاً، بخلاف المعتزلة. ب - أن التأثير فسر بالربط العادي، لا بمعنى إيجاب الوصف للحكم. وبين مذهب الغزالي، ومذهب المعتزلة بون كبير1. مما تقدم يتضح سلامة تعريف الغزالي رحمه الله سيما وأنه صرح بما يفسر مذهبه بأن تأثير العلل، إنما هو يجعل الله تعالى، فهو بيان لمذهبه. الثالث: وإليه ذهب ابن الحاجب، والآمدي والحنفية، أن العلة هي الباعث على الحكم، وفسروا الباعث على الحكم باشتماله على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، كتحصيل مصلحة، أو تكميلها، أو دفع مفسدة، أو تقليلها، فالمراد بالباعث المشتمل على الحكمة، كما صرحوا بذلك2، لا الباعث المشترك للشارع على شرع الحكم، كما هو ظاهر اللفظ، لأن الله تعالى لا يبعثه شيء على شرح حكم سوى إرادته له، يخلق ما يشاء ويختار.

_ 1 انظر: حاشية البناني على المحلى 2/232، والشربيني بهامش البناني 2/232، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس، ورسالة مباحث القياس للشيخ يسن سويلم طه ص100 - 101. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/186، المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/213، والتوضيح مع التلويح 2/63.

وحمل البعض اللفظ على ظاهره، وقال: إن المراد منه الحامل للشارع على شرع الحكم، وعلى هذا فالتعريف فاسد، لأن البعث على الفعل ينافي الاستغناء التام، والاختيار المطلق، فلا يصح التعبير به في جانب الله تعالى، ولذا قال التاج السبكي، نقلاً عن والده1: "ونحن معاشر الشافعية، إنما نفسر العلة بالمعرف، ولا نفسرها بالباعث أبداً، ونشدد النكير على من فسرها بذلك، لأن الرب تعالى لا يبعثه شيء على شيء، ومن عبر من الفقهاء عنها بالباعث أراد أنها باعثة للمكلف على الامتثال"2. ولأصحاب المذهب أن يقولوا: إنه لا وجه لهذا الاعتراض بعد تفسير الباعث بالاشتمال على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، مع الاتفاق على أن أفعال الله تعالى مشتملة على حكم ومصالح تعود على العباد تفضلاً منه سبحانه وتعالى. ولذا قال الشيخ حسن العطار بعد أن ذكر تفسير ابن الحاجب للباعث: "وإذا كان هذا هو المراد بالباعث لم يلزم التشنيع المذكور". كما أنه لا وجه لتفسير ابن السبكي ووالده: الباعث بأنه باعث للمكلف على الامتثال لمخالفته لما فسره به أصحاب المذهب لمذهبهم، وهم أعلم به. التعريف الرابع: وهو اختيار الفخر الرازي في المحصول، وتبعه عليه البيضاوي في المنهاج، وصاحب جمع الجوامعه "أن العلة هي الوصف المعرف

_ 1 هو: علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن موسى، السبكي، المكنى بأبي الحسن، الملقب بتقي الدين، الفقيه الشافعي، الحافظ الأصولي، النحوي، المفسر اللغوي، البياني، الجدلي، ولد سنة 683هـ ورحل إلى دمشق والحرمين وسمع فيهما، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن ذاعت شهرته وعرف بالتبحر في العلوم، لقب بشيخ الإسلام، له مؤلفات كثيرة منها في الأصول شرح منهاج البيضاوي غير أنه لم يكمله، وغيره، توفي سنة 756هـ. انظر: طبقات الشافعية 1/ 4 من المقدمة، ذيل تذكرة الحفاظ ص39 - 40، الفتح المبين 2/168 - 169. 2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/274.

للحكم"1. بحيث يكون الحكم مضافاً إليها، بمعنى أنه علامة على ثبوت الحكم في جميع محال الوصف، "مثال ذلك أن السكر كان موجوداً في الخمر، ولم يدل على تحريمها، حتى جعله صاحب الشرع عله في تحريمها، فصار الإسكار علامة على وجود التحريم في كل ما وجد فيه". وبهذا المعنى يكون التعليل بالإسكار معرفاً لحكم الأصل من جهة أنه أصل يقاس عليه، ويلحق به غيره. وهذا المعنى لا يستفاد إلا من التعليل - ومعرف أيضاً لحكم الفرع. فالوصف معرف لهما معاً. قال صاحب مراقي السعود2: معرف الحكم يوضع الشارع ... والحكم ثابت بها فاتبع3 فعلى هذا يكون التعريف هكذا "العلة هي الوصف المعرف للحكم بحيث يضاف إليه الحكم". شرح التعريف: فالوصف جنس، وفي التعريف يشمل سائر الأوصاف كما تقدم، والمعرف قيد أول أخرج الشرط، لأنه لا يعرف المشروط، ولا يكون علامة عليه، إذ قد يوجد الشرط ولا يوجد المشروط، وللحكم قد ثان خرج به المانع؛ لأنه معرف لنقيض الحكم، لا للحكم، فالحيض مثلاً معرف لعدم وجوب الصلاة، لا

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/272، منهاج الوصول بذيل نهاية السول 3/37، ونهاية السول 3/37، والمحصول ص302. 2 هو: سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام محنض أحمد العلوي، نسبة إلى قبيلة العلويين "ادوعل" إحدى القبائل الموريتانية المشهورة بكثرة العلماء والأدباء والشعراء، ولد رحمه الله بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري، وتلقى العلوم على علماء بلده ثم ارتحل إلى المغرب والمشرق ورجع إلى وطنه، واشتغل بالتدريس والتأليف حتى علا صيته واشتهر علمه، وقد عده علماء بلده من المجتهدين، له مؤلفات عديدة منها في أصول الفقه، نظمه المسمى بمراقي السعود، وشرحه نشر البنود، توفي سنة 1233هـ. انظر: مقدمة مراقي السعود إلى مراقي السعود ص9 فما بعدها، الأعلام 4/187 - 188. 3 انظر: نشر البنود 2/129 - 130.

لوجوبها، والأبوة معرفة لعدم وجوب القصاص للولد، لا لوجوبه. وبحيث يضاف إليه الحكم، قيد ثالث في التعريف تخرج به العلامة التي لا يضاف إليها الحكم، كالأذان للصلاة إذ لا يقال: وجبت الصلاة بالأذان، وإنما يقال: وجبت بدخول الوقت، فدخول الوقت هو العلة والأذان علامة العلامة1. الاعتراضات الواردة على هذا التعريف والجواب عنها: الأول: أنه غير مانع، لصدقه على العلامة، وهي ما يعرف به وجود الحكم من غير أن يتعلق به وجوده ولا وجوبه كالأذان للصلاة، والإحصان للرجم2. وأجيب عنه بما نقله صاحب نبراس العقول عن صاحب فصول البدائع3، ونصه قال: "وأجاب صاحب فصول البدائع بأن العلامة المختصة كالأذان معرف الوقت، أو مطلق الحكم، والكلام في معرفة حكم الأصل من حيث هو حكم الأصل".ا. هـ قال عيسى: "وهذا الجواب ينافيه الجواب الآتي عن الاعتراض الثاني من أن العلة معرف لحكم الفرع فقط، وإن كان التحقيق كما سيأتي خلاف مقتضى هذا الجواب"4. الثاني: أنه غير جامع، لخروج المستنبطة، لأنها عرفت بالحكم، على معنى أن الله تعالى لو شرع حكماً في محل، ولم ينص على علته، فقد يمكن المجتهد

_ 1 انظر: نشر البنود 2/129 - 130، التوضيح 2/62، تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 انظر: التلويح على التوضيح 2/62. 3 هو: محمد حمزة الفناوي، الملقب بشمس الدين الفقيه، الحنفي، الأصولي المنطقي، الجدلي، الأديب، ولد سنة 751هـ له مؤلفات منها: فصول البدائع في أصول الشرائع في أصول الفقه، وتوفي سنة 834هـ. انظر: الفتح المبين 3/30. 4 انظر: نبراس العقول 1/216.

استنباط علة ذلك الحكم كالإسكار مثلاً لحرمة الخمر، والقتل العمد العدوان لوجوب القصاص، وحينئذٍ يكون الحكم هو المعرف للعلة فهو سابق عليها، لأنا لا نعلمها إلا بعد علمنا به، فلو عرفته لكان علمنا به بعد علمنا بها، وهذا دور سبقي، والدور باطل1. وأجاب عنه البيضاوي بأن حكم معرف لها في الأصل، وهي معرفة له في الفرع، فانفكت الجهة، فلا دور2. الثالث: قال سعد الدين: "فإن قيل: هما مثلان، فيشتركان في الماهية ولوازمها، قلنا: لا ينافي كون أحدهما أجلى من الآخر بعارض"3. يريد أنه لا مانع من أن يكون أحد المثلين أظهر، فيكون معرفاً بكسر الراء والآخر أخفى، فيكون معرفاً بفتحها، لكن هذا الجواب تلزمه محاذير ثلاثة هي: الأول: أن تعريف البيضاوي ناقص، يلزمه زيادة قيد، فيكون التعريف هكذا "العلة هي الوصف المعرف لحكم الفرع". الثاني: أن العلة لو كانت معرفة لحكم الفرع دون حكم الأصل - والتقدير أنه ليس بباعث - لم يكن للأصل مدخل في الفرع. الثالث: أنه يخالف ما أطبق عليه الأصوليون من أن العلة وصف مشترك بين الأصل والفرع، وقولهم أن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينه وبين حكم الفرع، فلو كان الوصف ليس علة في الأصل، فلا اشتراك في العلة، فلا قياس، وقد قال الأسنوي: هذه إرادات ضعيفة فاحذرها4. قال أستاذنا الدكتور عثمان رحمه الله: نرى أنها ليست بضعيفة، وإنها ترد على التعريف نقضاً، والجواب الصحيح أن العلة كما تعرف حكم الفرع،

_ 1 انظر: التلويح على التوضيح 2/62، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 انظر: المنهاج مع شرحه نهاية السول 3/38. 3 انظر: التلويخ على التوضيح 2/62. 4 تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

تعرف أيضاً حكم الأصل من جهة أنه يلحق به غيره، ويقاس عليه، فهي معرفة للحكم فيهما1. فإن قيل: ما الداعي لتعريفها لحكم الأصل مع وجود النص أو الإجماع؟ قيل: لأنها تعرف كون الحكم منوطاً بها، حتى إذا وجدت بمحل آخر ثبت الحكم فيه أيضاً، والنص يعرف الحكم دون النظر إلى ذلك، ولذا قال السعد في حاشيته على العضد: "ليس معنى كون الوصف معرفاً للحكم أنه لا يثبت الحكم إلا به، كيف وهو حكم شرعي لا بد له من دليل نص أو إجماع، بل معناه أن الحكم يثبت بدليله، ويكون الوصف أمارة بها يعرف أن الحكم الثابت حاصل في هذه المادة. مثلاً إذا ثبت بالنص حرمة الخمر، وعلل بكونه مائعاً أحمر يقذف بالزبد، كان ذلك أمارة على ثبوت الحرمة في كل يوجد ذلك الوصف فيه من أفراد الخمر، وبهذا يندفع الدور. والحاصل أن العلة تتوقف على العلم بشرعية الحكم بدليله، والمتوقف على العلة هو معرفة ثبوت الحكم في المواد الجزئية2. وقرر صاحب نشر البنود وجه ثبوت حكم الأصل بالعلة بقوله: "وقد يقال: معناه أنه إذا لوحظ النص عرف الحكم، ثم إذا لوحظت العلة حصل التفات جديد للحكم، ومعرفة كون محله أصلاً يقاس عليه، مستفاد من العلة، فإفادتها لذلك الحكم على هذا الوجه هو مرادهم بقولهم أنها تفيد حكم الأصل بقيد كون محله أصلاً يقاس عليه"3. وبهذا التقرير يصح أن يقال: بأن الخلاف بين الحنفية - القائلين بأن حكم الأصل ثبت بالنص لا بالعلة -، وبين الشافعية - القائلين بأن حكم الأصل ثبت

_ 1 نشر البنود 2/130، وغاية الوصول ص114، ونبراس العقول 1/217. 2 انظر: حاشية السعد على العضد 2/214. 3 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/130.

بها - خلاف لفظي، لأنه لا نزاع بينهم أن النص أثبت الحكم من حيث هو، وأن العلة معرفة لحكم الأصل من حيث أنه أصل يقاس عليه، والله تعالى أعلم. الموازنة بين التعريفات السابقة: يتضح من التعريفات السابقة، أن الخلاف فيها مبني على الخلاف في تعليل أفعال الله تعالى. والخلاف في تعليل أفعال الله تعالى مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصول الكلام، لتعليل الأحكام والأفعال، وارتباط العلل بالمعلولات، ومن هنا نشأ الخلاف بين الأصوليين في التعريف. فمن نظر إلى أن أفعال الله تعالى لا تعلل، عرف العلة بالمعرف، وأهم ما استدل به على ذلك هو أن من فعل فعلاً لعلة كان مستكملاً بها، لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها، لم تكن علة، والمستكمل بغيره ناقص بنفسه، وذلك ممتنع على الله تعالى1. ومن هنا لم ير تعليل أفعال الله تعالى، ولا التعبير بما يوهم ذلك. ومن نظر إلى أن أفعاله تعالى معللة بمصالح وحكم ترجع إلى العباد عبر عنها بالباعث، والمؤثر، وهؤلاء ما عدا المعتزلة - الذين تقدم إبطال مذهبهم - يرون رجوع المصالح والمنافع في أحكامه وأفعاله تعالى إلى العباد تفضلاً منه سبحانه عليهم، وعلى القول بذلك "فلا يلزم على القول بأنها مؤثرة أن هناك تأثيراً لغير الله تعالى، ولا يلزم على القول بأنها باعثة على الحكم استكماله تعالى بها، وأنها تحمله على الفعل أو الحكم، بل رعاية المصالح والمنافع، وفعله وحكمه تعالى على حسبها تفضلاً هو مقتضى كماله تعالى، لأنه لما كان حكيماً كان لأحكامه وأفعاله غايات وحكم تترتب عليها، ولما كان جواداً اقتضى جوده أن يراعي مصالح

_ 1 انظر: منهاج السنة 1/97، لشيخ الإسلام ابن تيمية، حاشية البناني 2/233.

عباده، فلا جرم كانت أحكامه وأفعاله على ما هو مقتضى المصالح، فالأحكام المتعلقة باقتضاء المصالح إنما هي فرع حكمته وجوده ورحمته"1. أدلة القائلين بتعليل أفعال الله تعالى: استدل القائلون بتعليل أفعال الله تعالى بما جاء في كثير من آيات القرآن الكريم، التي تدل على ثبوت الحكمة والتعليل في أفعاله تعالى، وهذه الآيات كثيرة نقتصر على ما يأتي منها: 1 - آيات ورد فيها التصريح بلفظ الحكمة، كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} 2، وقوله: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 3 وقوله: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً} 4، ومعلوم أن معطي الحكمة غيره، يجب أن يكون حكيماً. 2 - آيات أخبر سبحانه فيها أنه فعل كذا وكذا، وأنه أمر بكذا لكذا كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 5، وقوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 6، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} 7، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} 8.

_ 1 انظر: سلم الوصل على نهاية السول 4/55 - 56. 2 سورة القمر آية: 5. 3 سورة النساء آية: 113. 4 سورة البقرة آية: 269. 5 سورة الطلاق آية: 12. 6 سورة النساء آية:156. 7 سورة النساء آية: 105. 8 سورة النحل آية: 102.

فاللام المذكورة في هذه الآيات، ومثيلاتها هي لام التعليل، وليست لام العاقبة، كما يدعي نفاة التعليل، لأن لام العاقبة إنما تكون في حق من هو جاهل بالعاقبة كما في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 1، وأما من هو بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، فيستحيل في حقه دخول هذه اللام، وإنما اللام الواردة في أفعاله وأحكامه لام الحكمة، والغاية المطلوبة2. 3 - آيات تضمنت ما هو من صرائح التعليل، كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} 3، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} 4، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 5، إلى غير ذلك من النصوص التي اعتبرها الأصوليون نصاً أو ظاهراً في التعليل، مما سيأتي له زيادة بيان - إن شاء الله - عند الكلام على مسالك العلة. 4 - آيات تضمنت إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لحكمة وغاية، كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} 6، وقوله: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} 7، فالآيتان تدلان على أنه سبحانه خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية محبوبة له ومطلوبة، هي عبادته وتوحيده اللذان هما مقتضى شكره على ما أنعم به على عباده8.

_ 1 سورة القصص آية: 8. 2 انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص190 - 195، مع تصرف واختصار. 3 سورة المائدة آية: 32. 4 سورة المائدة آية: 38. 5 سورة النور آية: 2. 6 سورة المؤمنون آية: 115. 7 سورة القيامة آية: 36. 8 انظر: شفاء العليل ص196 - 200 مع تصرف واختصار.

ودلالة نصوص الكتاب والسنة على تعليل الأحكام أكثر من أن تحصى، والمتتبع لنصوص الشريعة يدرك أنها إنما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً. "ولما كانت النصوص الشرعية متناهية، وتفاصيل الوقائع والحوادث متجددة على الدوام لا تقف عند حد، جعل "الشارع" شرعه قواعد عامة، إما باعتبار ألفاظها، أو باعتبار عللها، وجعل في الأمة علماء يستخرجون حكم الله في كل واقعة "حدثت"، مثل أحكام الوقائع المنصوصة في تحصيل المصالح"1، ويدل لهذا ما قرره الشاطبي2، ونصه: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها إنما وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثته الرسل، وهو الأصل {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 3، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 4. وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 5، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 6، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 7.

_ 1 انظر: سلم الوصول على نهاية السول 4/57. 2 هو: إبراهيم بن موسى، الغرناطي، المكنى بأبي إسحاق، المشهور بالشاطبي، العلامة المحقق، المؤلف النظار الأصولي المفسر، الفقيه اللغوي المحدث، الورع الزاهد، له مؤلفات نفيسة اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات الفوائد منها: الموافقات في أصول الفقه، والاعتصام في الحوادث والبدع، وغيرهما، توفي في شعبان سنة 790هـ. انظر: الفتح المبين 2/204 - 205. 3 سورة النساء آية: 165. 4 سورة الأنبياء آية: 107. 5 سورة هود آية: 7. 6 سورة الذاريات آية: 56. 7 سورة الملك آية: 2.

وأما التعليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن يحصى، كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 1. وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2. وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء َالْمُنكَرِ} 3. وفي القبلة: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} 4. وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} 5. وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} 6. وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 7. والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة، ومن هذه الجملة ثبت القياس، والاجتهاد" 8.

_ 1 سورة المائدة آية: 6. 2 سورة البقرة آية: 183. 3 سورة العنكبوت آية: 45. 4 سورة البقرة آية: 150. 5 سورة الحج آية: 39. 6 سورة البقرة آية: 179. 7 سورة الأعراف آية: 172. 8 انظر: الموافقات 2/6 - 7، تعليق وتحقيق دراز.

وأجاب ابن القيم1 عما استدل به المانعون من تعليل أفعال الله تعالى بما نصه: "إنّ قولك أن كل من فعل فعلاً لغرض يكون ناقصاً بذاته مستكملاً بغيره، ما تعني بقولك أنه ناقص بذاته؟ أتعني أن يكون عادماً لشيء من الكمال الذي يجب أن يكون له قبل حدوث ذلك المراد، أم تعني به أن يكون عادماً لما ليس كمالاً قبل وجوده، أم تعني به معنى ثالثاً؟ فإن عنيت الأول، فالدعوى باطلة، فإنه لا يلزم من فعله لغرض حصوله أولى من عدمه أن يكون عادماً لشيء من الكمال الواجب، قبل حدوث المراد، فإنه يمتنع أن يكون كمالاً قبل حصوله. وإن عنيت الثاني، لم يكن عدمه نقصاً، فإن الغرض ليس كمالاً قبل وجوده وما ليس بكمال في وقت، لا يكون عدمه نقصاً فيه، فما كان قبل وجوده عدمه أولى من وجوده، وبعد وجود وجوده أولى من عدمه لم يكن عدمه قبل وجوده نقصاً، ولا وجوده بعد عدمه نقصاً، بل الكمال عدمه قبل وقت وجوده، ووجوده وقت وجوده، وإذا كان كذلك فالحكم المطلوبة والغايات من هذا النوع، وجودها وقت وجودها هو الكمال، وعدمها حينئذ نقص، وعدمها وقت عدمها كمال، ووجودها حينئذ نقص، وعلى هذا فالنافي هو الذي نسب النقص إلى الله، لا المثبت، وإن عنيت أمراً ثالثاً، فلا بد من بيانه لننظر فيه" 2. فإن قيل: إن ابن القيم هنا وافق المعتزلة في إطلاق لفظ الغرض على الله تعالى، وهو خلاف ما ذهب إليه أهل السنة، لعدم ورود النص به، أجيب بأنه إنما ذكره لرد دعوى الخصم فقط، لأنه صرح في كتابه مفتاح دار السعادة بأن هذا

_ 1 هو: العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الحنبلي الفقيه، الأصولي، المفسر النحوي، المتكلم الشهير بابن قيم الجوزية، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، له مؤلفات كثيرة منها: زاد المعاد، وإعلام الموقعين، والصواعق المرسلة، وشفاء العليل، وغيرها، ولد سنة 691هـ، وتوفي سنة 751هـ. انظر: مقدمة الصواعق المرسلة لزكريا علي يوسف - مطبعة الإمام - بمصر. 2 انظر: شفاء العليل ص206 - 207.

اللفظ بدعي، لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا أطلقه أحد من أئمة الإسلام وأتباعهم على الله تعالى1. "والحق أن جميع أفعاله وشرعه لها حكم وغايات، لأجلها شرع وفعل" 2. وإن الخلاف لفظي، لأنه لا خلاف بين العلماء في أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا تخلو عن حكم ومصالح بالغة تعود على العباد، وإنما الخلاف بين التعريفات في العبارة فقط، ما عدا تعريف المعتزلة الذين تقدم إبطال مذهبهم - لأن من عرف العلة بالمؤثر والباعث ممن يمنع تعليل أفعال الله تعالى كالغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، فسرها بما يتفق في الغاية والقصد مع من عرفها بالمعرف، لأن الغزالي فسر المؤثر بما كان بجعل الشارع لا بذاته، والآمدي وابن الحاجب فسرا الباعث بأنه مشتمل على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم يقيناً أو ظناً كما تقدم. ومن قال بتعليل أفعال الله تعالى من أهل السنة، لم يرد غير ذلك، لاتفاقهم جميعاً على أن أفعال الله تعالى وأحكامه مشتملة على حكم ومصالح ترجع إلى العباد تفضلاً منه سبحانه عليهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية3: "فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة، والمصالح في أحكام الشريعة".4

_ 1 انظر: مفتاح دار السعادة ص66. 2 انظر: شفاء العليل ص 214. 3 هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، الدمشقي، الملقب بتقي الدين، المكنى بأبي العباس، الإمام المحقق، الحافظ المجتهد، المحدث المفسر الأصولي، النحوي، الخطيب، الكاتب، نادرة عصره، شيخ الإسلام، وقدوة الأنام، امتحن رحمه الله في مصر، ودمشق وسجن بكل منهما، ولم يثنه ذلك عن قول الحق الذي يراه، توفي سنة 728هـ، مؤلفاته كثيرة منها: الفتاوى، واقتضاء الصراط المستقيم، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، والسياسة الشرعية، وغيرها. انظر: الفتح المبين 2/130 - 133، ومقدمة اقتضاء الصراط المستقيم ص "هـ" فما بعدها. 4 انظر: منهاج السنة: 1/95.

ونقل البناني1 في حاشيته على المحلى عن السيد الشريف2 ما نصه: "بل كماله في ذاته وصفاته يقتضي الكمال في فاعليته وأفعاله، وكمالية أفعاله تقتضي مصالح ترجع إلى العباد، فلا شيء خال عن الحكمة، ولا سبيل للنقصان والاستكمال إليه تعالى. وهذا هو المذهب الصحيح، والحق الصريح الذي لا يشوبه شبهة ولا يحوم حوله ريبة" 3. وقال صاحب نهاية الأقدام4 في الرد على المعتزلة: "قال أهل الحق: مسلم أن الحكيم من كانت أفعاله محكمة متقنة، وإنما تكون محكمة إذا وقعت على حسب علمه، وإذا وقعت على حسب علمه لم تكن جزافاً، ولا وقعت بالاتفاق"5.

_ 1 هو: عبد الرحمن بن جاد الله البناني، المكنى بأبي يزيد، العلامة المعتمد في المذهب المالكي، المحقق المؤلف، قدم مصر وأخذ عن علماء عصره بالأزهر حتى مهر في المعقول والمنقول، وتصدر للتدريس برواق المغاربة، له تصانيف مفيدة منها حاشيته على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع، توفي سنة 1198هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/143، الأعلام للزركلي 4/73. 2 هو: علي بن محمد بن علي، المعروف بالسيد الشريف الجرجاني، المكنى بأبي الحسين، الحنفي، العالم بالعربية في عصره، ولد سنة 740هـ، وارتحل في طلب العلم وحصل، ثم توطن شيراز، وكان فرداً في علوم العربية والمنطق، عارفاً بالعلوم الشرعية، جرت بينه وبين سعد الدين التفتازاني مناظرات، انتصر فيها الجرجاني على التفتازاني، وكان الحكم بينهما نعمان الدين الخوارزمي، فذاعت شهرته وطار صيته، له مؤلفات في النحو والصرف بالفارسية، والمنطق، وله في أصول الفقه حاشية على مختصر المنتهى لابن الحاجب، وأخرى على شرح الأيجي للمختصر أيضاً، والتوضيح شرح به التنقيح، وحاشية التلويح، توفي سنة 816هـ بشيراز. الفتح المبين: 3/21. 3 انظر: حاشية البناني على المحلى 2/233. 4 هو: محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح الشهرستاني من فلاسفة الإسلام، كان إماماً في علم الكلام، وأديان الأمم، ومذاهب الفلاسفة، الملقب بأبي الفضل، ولد سنة 479هـ، بشهرستان وتوفي بها سنة 548هـ، له مؤلفات منها الملل والنحل، ونهاية الأقدام في علم الكلام وغيرهما. الأعلام للزركلي 7/83 - 84. 5 انظر: نهاية الأقدام في علم الكلام ص 401 - 402.

وقال الشيخ محمد عبده1: "اتفق الجميع على أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن حكمة"2. وقال الآمدي في الرد على المعتزلة: "إننا لا ننكر كون الباري تعالى حكيماً، وذلك بتحقيق ما يتقنه من صنعه، ويخلقه على وفق علمه له وبإرادته"3. وإذا كان هذا هو المراد بالباعث، وهو بعينه مراد من قال: إنها مؤثرة أو معرفة، فالخلاف لفظي، ولذلك نجد الغالب عليهم عند الكلام في الفقه وأصوله، التعليل، وإن لم يروا إطلاق لفظ الغرض على الله تعالى - خلافاً للمعتزلة - لأنه يشعر بنوع من النقص، إما: ظلم، وإما حاجة، فإن كثيراً من الناس إذا قال: فلان له غرض في هذا، أراد أنه فعله لهواه ومراده المذموم، والله تعالى منزه عن ذلك. فعبر أهل السنة بلفظ الحكمة والرحمة، ونحو ذلك مما جاء به النص، بخلاف المعتزلة، فإنهم عبروا بلفظ الغرض4، فاتفقت التعريفات في الغاية والقصد، وإن اختلفت عباراتها، ما عدا تعريف المعتزلة الذي تقدم إبطاله، والله تعالى أعلم.

_ 1 هو: محمد عبده بن خير الله التركماني، المصري المفتي، من كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام في مصر في عصره، ولد في إحدى قرى مصر سنة 1266هـ، وتعلم على علماء بلده حتى صار فيلسوفياً، وكان صوفياً، تولى التدريس والكتابة في الصحف والتأليف والقضاء، وتوفي سنة 1323هـ بالإسكندرية، له مؤلفات منها رسالة التوحيد - مطبوعة -. انظر: الأعلام للزركلي 7/131. 2 انظر: رسالة التوحيد ص43. 3 انظر: غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص232 - ط -. 4 انظر: منهاج السنة 1/230.

الفصل الثالث: في شروط العلة تمهيد من المعلوم أن الأصل الذي ورد النص بحكمه قد يكون مشتملاً على أوصاف متعددة، وليس كل وصف في الأصل يصلح أن يكون علة لحكمه، بل لا بد من أن تتوفر في الوصف الذي يعلل به عدة شروط. وهذه الشروط إنما استمدها الأصوليون من استقراء العلل المنصوص عليها، ومن مقصود التعليل، وهو تعدية حكم الأصل إلى الفرع. وهذه الشروط منها ما اتفق عليه الأصوليون، ومنها ما اختلفوا فيه، كما اختلفت مناهجهم في محل ذكر هذه الشروط، إذ منهم من ذكرها بعد القوادح، كالإمام الفخر الرازي، والبيضاوي، وغيرهما، ومنهم من ذكرها بعد تعريف العلة مباشرة، وقبل المسالك كابن السبكي، وابن الحاجب والآمدي. وقد اخترت أن أسلك الطريقة الأخيرة، لما فيها من تتمة الفائدة، لأنني لو سلكت الطريقة الأولى، لما أمكنني التعرض لذكر هذه الشروط، لخروجها حينئذ عن موضوعي. وحيث أن تعرضي لهذه الشروط إنما هو من باب التمهيد للموضوع، لذا فإنني لن أتقصى كل ما قيل فيها بل سأقتصر على ما أرى أنه لا بد منه، والله أسأل العون والتوفيق. الشروط المتفق عليها هي: الأول: أن تكون العلة وصفاً ظاهراً متميزاً عن غيره، لأن العلة هي المعرف للحكم في الفرع، فلا بد أن تكون أمراً ظاهراً، يدرك في الأصل، ويدرك في

الفرع كالإسكار، ولهذا اختلفوا في التعليل بالخفي كعلوق الرحم بالإنزال والوطء، فلم تعلل به العدة، على القول الراجح كما سيأتي. وإنما تعلل بالخلوة، وكذلك لا يعلل نقل الملكية في البيع بتراضي المتبايعين لخفائه، بل يعلل بمظنته الظاهرة وهي الإيجاب والقبول1. الثاني: أن تكون وصفاً منضبطاً، وذلك بأن تكون له حقيقة معينة يمكن التحقق من وجودها في الفرع، ومساواته للأصل، لأن أساس القياس هو مساواة الفرع للأصل في علة حكم الأصل، وهذا التساوي يستلزم أن يكون الوصف منضبطاً محدداً بحيث لا يختلف بالنسب والإضافات، والكثرة والقلة، كالمشقة بالنظر إلى القصر والفطر، فلا يعلل بها، لأنها تختلف باختلاف الأفراد والأحوال والزمان، فلم تنضبط، وغير المنضبط لا يعرف القدر الذي علق به الحكم، بل يعلل بمظنتها بالسفر، كمل يعلل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان، لأن لكل منهما حقيقة منضبطة يمكن تحقق وجودها في الفرع، والأصل. الثالث: أن تكون وصفاً مناسباً، وهذه المناسبة، وإن اختلفوا في التعبير عنها، فإنهم متفقون على اشتراطها، ذلك أن ابن الحاجب، والآمدي عبرا عنها بأنه يشترط أن تكون بمعنى الباعث أي مشتملة على حكمة صالحة لأن تكون مقصوداً للشارع من شرع الحكم، لأنها لو كانت وصفاً طردياً2 لا حكمة فيه، فلا يصلح التعليل بها3. والإمامُ والبيضاوي، وإن عبرا عنها بالمعرف، فإنهما يشترطان أيضاً في

_ 1 انظر: المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/275، ونشر البنود شرح مراقي السعود 2/132. 2 هو الذي لم يعهد من الشارع اعتباره، والالتفات إليه في إثبات الأحكام بالنسبة إليها جميعاً، كالطول والقصر، أو في بعضها كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق، بخلاف الشهادة والميراث. انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص258، المحلى مع حاشية العطار 2/315، شرح تنقيح الفصول ص395. 3 انظر: الأحكام للآمدي 3/186، والمختصر مع شرحه 2/213.

الوصف المعرف للحكم أن يكون مشتملاً على حكمة، لأنها المقصود من شرع الحكم. فمنشأ اختلافهم راجع إلى الاختلاف في تعريف العلة كما تقدم، وإلا فهم متفقون على اشتراط كون الوصف المعلل به مناسباً، لأن ذلك هو المحقق لتعدية حكم الأصل إلى الفرع، كالإسكار فإنه مناسب لتحريم الخمر، لما في بناء التحريم عليه من حفظ العقل. والقتل العمد العدوان مناسب لا يجاب القصاص، لما في ترتيب وجوب القصاص عليه من حفظ النفوس. ولهذا لا يصح التعليل بالأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها، والمعروفة بالأوصاف الطردية كالقصر والطول، واللون والجنس1. ثم بعد اتفاقهم على ما تقدم، فهناك مسائل اختلفوا فيها نفردها بالبحوث الآتية: المبحث الأول في تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي اختلف الأصوليون في تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، على ثلاثة مذاهب: الأول: أنه لا يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، سواء كان باعثاً على مصلحة خالصة، أو مصلحة راجحة على مفسدة تضمنها شرع الحكم الأول، وطلب إزالتها بالكلية2.

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/275، نشر البنود شرح مراقي السعود 2/132، التقرير والتحبير 3/141، وإرشاد الفحول ص207. 2 انظر شرح تنقيح الفصول ص408، الأحكام للآمدي 3/193.

الثاني: أنه يجوز مطلقاً، وهو اختيار الإمام الفخر الرازي، والبيضاوي، والحنفية1. الثالث: التفصيل، وهو أنه يجوز التعليل بالحكم الشرعي، إذا كان باعثاً على مصلحة ولا يجوز إذا كان باعثاً على مفسدة، وهو اختيار ابن الحاجب2. استدل أهل المذهب الأول بما يأتي: الأول: أن شأن الحكم أن يكون معلولاً، فلو جعل علة، لانقلبت الحقائق، وأجيب عنه بأنه "ليس في ذلك قلب الحقائق، بل يكون ذلك الحكم، معلولاً لعلته، وعلة معرفة لحكم آخر غير علته وقلب الحقائق، إنما يتأتى فيما لو كان علة معرفة لنفس العلة التي هو معلول لها". وإذا ادعيتم أن شأن الحكم أن لا يكون علة البتة، فهذا محل النزاع. الثاني: أن الحكمين متساويان في كون كل واحد منهما حكماً شرعياً، فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس. ويجاب عنه بأن المناسبة تعين أحدهما للعلية، والآخر للمعلولية، كما تقول: نجس، فيحرم، وطاهر فتجوز به الصلاة، فإن النجاسة مناسبة للتحريم، والطهارة مناسبة لإباحة الصلاة، فما وقع الترجيح إلا بمرجح، ولو عكس هذا فقيل:" لا يجوز بيعه، فيحرم، لم ينتظم، فإنه قد يحرم بيعه لغصبه، أو لعجز عن تسليمه أو غير ذلك"3. الثالث: أن الحكم الذي يفرض علة يحتمل أن يكون متقدماً على الحكم الآخر ويحتمل أن يكون متأخراً عنه، ويحتمل أن يكون مقارناً له. فعلى تقدير التقدم لا يصلح للعلية، لأنه يلزم منه وجود العلة مع تخلف حكمها، وهو نقض للعلة، والنقض قادح في العلية.

_ 1 انظر: المحصول ص336، - خ -، شرح المنار وحواشيه ص788، والتوضيح 2/66. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/230. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 408.

وعلى تقدير التأخير لا يصلح للعلية أيضاً، لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم. وعلى تقدير المقارنة يحتمل أن يكون هو العلة، ويحتمل أن يكون غيره، فهو إذاً على تقديرين لا يكون علة، وعلى تقدير واحد يكون علة، ولا شك أن العبرة في الشرع بالغالب لا بالنادر، فوجب الحكم بأنه ليس بعلة1. ويجاب عنه بأن ما ادعوه من وجوب نقض العلة غير مسلم، لأن الحكم لم يكن علة بنفسه وذاته، بل بجعل الشارع، وذلك كما في تعليل تحريم شرب الخمر بالإسكار، فإن الإسكار وإن كان متقدماً على التحريم، فلا يقال إن الإسكار علة قبل اعتباره من الشرع بقران التحريم به، فلا تنتقض العلة لتخلف التحريم عنه قبل ورود الشرع2. ويجاب عن امتناع التأخير بأن المراد من العلة المعرف، والمتأخر يجوز أن يكون معرفاً للمتقدم3. وعن امتناع المقارنة بأن التقديم إنما هو بالمناسبة التي وجدت في أحدهما دون الآخر، ويحتمل أن يكون الثابت بالدليل علية أحدهما دون الآخر، فلا يلزم التحكم4. الرابع: أنه لو كان الحكم علة للحكم، فإما أن يكون بمعنى المعرف، أو الباعث، فإن كان بمعنى المعرف امتنع تعليل حكم الأصل بحكم آخر، لأن المعرف لحكم الأصل هو النص أو الإجماع، وإن كان بمعنى الباعث فباطل، لأن من يقول بالمؤثر يقول: إن المؤثر جهات المصالح والمفاسد، فالقول بأن الحكم الشرعي مؤثر خرق للإجماع، وهو باطل5.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/194، والمحصول ص336 - خ -. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/194. 3 انظر: المحصول - من القسم الثاني ص 411 - ط -. 4 انظر: التلويح على التوضيح 2/66. 5 انظر: المحصول ص 336 - خ -.

ويجاب عنه بأنه على تفسير العلة بالمعرف، فإن وجه تعريف العلة لحكم الأصل هو ما قدمناه من أنها معرفة له باعتبار كونه أصلاً يقاس عليه. وعلى تفسيرها بالباعث، فإن الحكم الذي وجدت فيه المناسبة دون الآخر يكون علة لما لم توجد في المناسبة، أو أن كل واحد منهما علة للآخر، بمعنى أنه معرف لصاحبه1. أدلة المذهب الثاني: استدل أهل المذهب الثاني القائلون بالجواز مطلقاً بما يأتي: الأول: أن أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الحكم الآخر وجوداً وعدماً، والدوران2 يفيد ظن العلية، فإذا حصل في الحكم الشرعي حصل ظن العلية3. الثاني: "أن علل الشرع معرفات، فللشارع أن ينصب حكماً على حكم آخر كما ينصب النجاسة التي هي حكم شرعي على تحريم البيع، والأكل الذي هو حكم شرعي"4. ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الحج عن أبيه: "أرأيت لو كان على أبيك دين"5؟ حيث قاس إجزاء قضاء الحج عن الأب على إجزاء قضاء دين العباد عن الأب، والعلة كونها ديناً، وهو حكم شرعي، لأن الدين لزوم حق في الذمة6.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/195، المحصول ص336 - خ -. 2 هو في اصطلاح الأصوليين أن يوجد الحكم كلما وجد الوصف، ويعدم كلما عدم، كالتحريم مع الإسكار في الخمر، فإنه كلما وجد الإسكار وجد التحريم، وإذا لم يكن إسكاراً كما في عصير العنب، قبل التحريم وبعد التخلل، فإنه غير حرام، وبعد وجود الإسكار يحرم. قال صحاب المراقي: إن يوجد الحكم لدى وجود ... وصف وينتفى لدى الفقود انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/200، شرح تنيقيح الفصول ص396. 3 انظر: المحصول ص336 - خ -. 4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 408. 5 الحديث أخرجه مسلم في 3/55. 6 انظر: التوضيح شرح التنقيح مع التلويح 2/66، وحاشية الرهاوي على شرح المنار ص788.

أدلة المذهب الثالث: استدل أهل المذهب الثالث القائلون بالتفصيل، بأن الحكم الشرعي إذا كان باعثاً على حكم الأصل لتحصيل مصلحة يقتضيها حكم الأصل جاز، كما يقال: بطلان بيع الخمر علته النجاسة لمناسبتها المنع من الملابسة تكميلاً لمقصود البطلان، وهو عدم الانتفاع. وأما إذا كان لدفع مفسدة يقتضيها حكم الأصل، فلا يجوز، لأن الحكم الشرعي لا يكون منشأ لمفسدة مطلوبة الدفع، لأنه لو كان منشأ مفسدة مطلوبة الدفع لم يشرع ابتداء1. لكن يرد على هذا أنه لا فائدة حينئذ من هذا التفصيل ما دام الحكم المشتمل على مثل هذه المفسدة غير موجود، والله تعالى أعلم. المبحث الثاني التعليل بالوصف المركب اختلف العلماء في التعليل بالوصف المركب من أجزاء لا يستقل كل واحد منها بالعلية على مذهبين: المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور - أنه يجوز التعليل به، ومن قال به الإمام الفخر الرازي، والآمدي، وابن الحاجب. المذهب الثاني: أنه لا يجوز التعليل به. واستدل أهل المذهب الأول بما يأتي: الأول: أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من الأوصاف المتعددة مما

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/230.

تفيد العلية بالدليل، إما بدلالة نص صريح، أو مناسبة، وإما باستنباط من شبه أو سبر1. فإذا وجدنا وصفاً مناسباً مركباً، ودائراً مع الحكم وجوداً وعدماً حصل عندنا ظن العلية، والظن يجب العمل به، وذلك كما في الوصف المفرد؛ لأن كلا من المناسبة والدوران طريق من طرق إثبات العلية للوصف، وتثبت به علية المفرد، وما ثبتت به علية المفرد، تثبت به علية المركب من غير فرق، والفرق تحكم2. الثاني: أن المصلحة قد لا تحصل إلا بالتركيب، لأن الوصف الواحد قد يقصر عن ترتب المصلحة عليه، كما يقال: إن وصف الزنا لا يستقل بمناسبة الحد إلا بشرط أن يكون الواطئ عالماً بأن الموطوءة أجنبية، فلو جهل ذلك بأن وطئ من يظنها زوجته فبانت أجنبية، لم يناسب وجوب الجد، وكما أن القتل وحده لا يناسب وجوب القصاص حتى يضاف إليه العمد العدوان3. واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بأنه لا يجوز التعليل به بما يأتي: الأول: أن القول بجواز التركيب في العلة الشرعية، يفضي إلى نقض العلة العقلية، لأنه لو صح التعليل بالمركب، لكان عدم كل واحد من أجزائه علة تامة لعدم العلية، لأن العلية تنعدم بانعدام الأجزاء، ضرورة أن عدم جزء المركب عدم للمركب، لأن المركب لا يوجد إلا بوجود جميع أجزائه، فلو كان عدم كل جزء علة لعدم العلية للزم النقض، أو تحصيل الحاصل، وكل منهما باطل، بيان ذلك أن الأجزاء إذا انعدمت كلها، وقلنا أن عدم كل واحد منها علة لعدم

_ 1 عرفه الأصوليون بأنه حصر المجتهد أوصاف الأصل المقيس عليه، وإبطاله ما لا يصلح للعلية بطريق من طرق إبطال العلية، كعدم الإطراد أو الانعكاس وإثباته ما هو صالح للعلية منها، ويقال له السبر والتقسيم، والسبر فقط، والتقسيم فقط. انظر: نشر البنود 2/164 فما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص397 فما بعدها، ونهاية السول 3/71. 2 انظر: المحصول ص 337 - خ -، والعضد على المختصر 2/230 - 231، والأحكام للآمدي 3/196. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 409.

العلية، فلا شك أنه إذا عدم جزء من أجزائها فقد عدمت العلية، فإذا عدم بعد ذلك جزء آخر، لم يكن هذا الجزء الثاني علة لعدم العلية، لأن ذلك قد حصل عند عدم الجزء الأول، فلا يحصل مرة أخرى بعدم الجزء الثاني، فقد حصل عدم جزء الماهية مع أنه لم يترتب عليه عدم علية تلك الماهية، فقد وجد النقض في العلة العقلية1. وأجيب عليه بثلاثة أجوبة: الأول: للقرافي ونصه: "أن نقض العلة العقلية غير لازم، لأنه إذا عدم جزء من الثلاثة، عدمت الثلاثة، والباقي بعد ذلك هو جزء الاثنين لا جزء الثلاثة، فإذا عدم أحد الاثنين الباقيين الآن بعدم مجموع الاثنين، فعدمه علة لعدم الاثنين، لا لعدم الثلاثة، لأن عدم الباقي ليس جزء الثلاثة، فإن جزئية الثلاثة أمر نسبي يذهب عند ذهاب أحد الطرفين، وهو الثلاثة"2. الثاني: لا نسلم أن عدم الجزء علة لعدم العلية حتى يلزم بتكرر الانتفاء تحصيل الحاصل، بل من قبيل عدم الشرط، فعدم العلية لانتفاء شرط وجودها، لأن هذا اللزوم إنما يتأتى في العلل العقلية، لا المعرفات التي هي أمارات، وكل من الانتفاءات هنا أمارات لعدم العلية، ولا استحالة في اجتماع أمارات على الشيء الواحد مرتبة تارة، وضربة واحدة أخرى، كما في البول بعد المسّ، والمسّ بعد البول، وكما لا يلزم تخلف فكذا هنا3. الدليل الثاني: قالوا: لو صح تركب العلة، لكانت العلية صفة زائدة على مجموع تلك الأوصاف، ودليل ذلك أمران:

_ 1 انظر: المحصول ص337 - خ -، والمختصر وشرحه 2/231، ونهاية السول مع حاشية سلم الوصول 4/288 فما بعدها. 2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص409. 3 انظر: المختصر مع شرحه 2/231، الأحكام للآمدي 3/199، المحلى وحاشية العطار وتقريرات الشربيني 2/276، ونهاية السول مع سلم الوصول 4/292.

الأول: أنا نعقل الهيئة الاجتماعية من الأوصاف، ونجهل كونها علة، للذهول وللحاجة إلى النظر، والمعلوم غير المجهول. الثاني: أن صفة الكل إن لم تقم بشيء من أجزائه، فليست صفة، وإن قامت، فإن ما أن تكون العلية قائمة بمجموع الأفراد، أو قائمة بكل واحد منهما، أو قائمة بواحد غير معين، أو بواحد معين، والكل باطل، لأنها إن قامت بالجميع من حيث هو جميع، والعلة وصف واحد، والجميع كثير، فلا يصح قيام الواحد بالكثير، لأن ذلك يوجب قيام المتحد بالمتعدد واتحاد المتعدد، وهو محال وإن قامت العلية بكل جزء، فكل جزء منها حينئذ علة مستقلة، فلا يكون المجموع، وهو خلاف الفرض، ولا يصح أن تكون جزءاًَ معيناً، لأنه حينئذ يكون هو العلة، فلا تكون مركبة. وإن كانت جزء غير معين، فلا يصح أيضاً، لأن من شرط العلة أن تكون وصفاً معيناً كما تقدم، ولأنه يؤدي إلى أن تكون مركبة أيضاً1. وأجيب عن هذا الدليل بما يأتي: الأول: أنه لا معنى لكون مجموع الأوصاف علة إلا أن الشارع قد قضى بثبوت الحكم عندها رعاية لما اشتملت عليه الأوصاف من الحكمة، وليست صفة لها، فلا يلزم ما ذكرتموه. الثاني: أنه إن كانت العلية صفة وجودية، فممنوع، لأنها لو كانت وجودية لكانت عرضاً2، والصفات المعلل بها أعراض، والعرض لا يقوم بالعرض3.

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/231، الأحكام للآمدي 3/196 - 197، نهاية السول مع سلم الوصول 4/290، المحصول ص337 - خ -. 2 هو الوصف القائم بالغير، وهو عند المناطقة الكلي الخارج عن الماهية، فإن كان شاملاً لها ولغيرها كالمشي والتحرك بالنسبة للإنسان، فهو عام، وإن كان مساوياً لها كالضاحك بالنسبة للإنسان فهو خاص، ويعبرون عنه بالخاص. انظر: آداب البحث والمناظرة - القسم الأول ص30. 3 لأن قيام الصفة بالموصوف معناه تحيز الصفة تبعاً لتحيز الموصوف، وكون الشيء متبوعاً لتحيز غيره به لا يتصور إلا في المتحيز بالذات، لأن المتحيز بتبعية غيره لا يكون متبوعاً لثالث، إذ ليس كونه متبوعاً لذلك الثالث أولى من كونه تابعاً له، والعرض ليس بمتحيز بالذات، بل هو تابع في التحيز للجوهر، فلا يقوم به غيره. انظر: شرح المواقف ص197.

وأيضاً فإنها صفة إضافية1، والمفهوم من الصفة الإضافية غير وجودي2، وما ذكروه من المحال إنما يلزم من تقدير كون العلية صفة وجودية، وليست كذلك3. الثالث: أنه "منقوض بكون القول المخصوص خبراً أو استخباراً، أو وعداً أو وعيداً، أو غير ذلك مع تعدد ألفاظه وحروفه، فإن كل ما ذكروه من الأقسام بعينه متحقق فيه، ومع ذلك لم يمنع وصفه بما وصف به، فما هو الجواب ههنا يكون جواباً في محل النزاع"4.

_ 1 هي الصفة التي لا تعقل حقيقتها إلا بإضافة أمر لأمر آخر ينافيه منافاة تامة، بحيث يستحيل اجتماع الوصفين في شيء واحد في وقت واحد، كما أنه يستحيل إدراك أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه كالأبوة والبنوة، والقبل والبعد والفوق والتحت، ونحو ذلك، فالذات الواحدة مثلاً يستحيل أن تكون أباً للشخص وابناً لذلك الشخص بعينه، كما يستحيل اجتماع البياض والسواد في نقطة واحدة، إلا أن الأبوة والبنوة لا يدرك معنى أحدهما إلا بإضافة الآخر إليه، وكذلك الباقي. انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين محمد المختار، على مراقي السعود، دفتر 2/186 - 187. 2 لأنه عدمي، والعدمي عند الفقهاء هو ما كان العدم داخلاً في مفهومه كعدم كذا، وانتفاء كذا، أو سلب كذا، بخلاف الوجودي فهو عندهم ما ليس العدم داخلاً في مفهومه. انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين، على مراقي السعود، دفتر 2/186. 3 انظر: الأحكام للآمدي 3/198 - 199، العضد على المختصر 2/231. 4 انظر: الأحكام للآمدي 3/199.

المبحث الثالث التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط تقدم أن الأصوليين اتفقوا على أن الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على الحكمة يصح تعليل الحكم به، مثل تعليل وجوب القصاص في النفس بالقتل العمد العدوان، ووجب الحد بالزنا، وقصر الصلاة بالسفر. واختلفوا في التعليل بنفس الحكمة المقصودة من شرع الحكم كالرضى في البيع والمشقة في السفر، وحفظ النفس وغيرها على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً، سواء كانت منضبطة، أو غير منضبطة، ظاهرة كانت أم خفية، واختار هذا القول الإمام الفخر الرازي والبيضاوي. قال الأسنوي: "وكلام ابن الحاجب يقتضي رجحانه أيضاً1. ولعل الأسنوي أخذ ذلك من قول ابن الحاجب "ومنها أن تكون وصفاً ضابطاً لحكمة، لا حكمة مجردة لخفائها أو لعدم انضباطها"2. لكن يعكر هذا ما صرح به ابن الحاجب بعده حيث قال: "ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح". قال العضد مبيناً لما ذكره ابن الحاجب "فلو وجدت حكمة مجردة، وكانت ظاهرة بنفسها منضبطة بحيث يمكن اعتبارها ومعرفتها جاز اعتبارها وربط الحكم بها على الأصح، لأنا نعلم قطعاً أنها هي المقصود للشارع، واعتبر المظنة لأجلها، لمانع خفائها واضطرابها، فإذا زال المانع من اعتبارها جاز اعتبارها قطعاً"3.

_ 1 انظر: نهاية السول مع سلم الوصول 4/260 - 261. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/213. 3 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/213 - 214.

فقول ابن الحاجب "ولو أمكن اعتبارها جاز على الأصح، صريح في أن الراجح عنده اعتبار التعليل بالحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة، وأن عدم اعتبارها مرجوح، وأن المنع إنما هو في الخفية المضطربة كما أوضحه العضد. المذهب الثاني: لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً، ونسبه الآمدي للأكثرين1. قال المطيعي2: "وظاهر ما في جمع الجوامع اختبار المنع مطلقاً، فإنه قال مع شرحه: ومن شروط الإلحاق بها أن تكون وصفاً ضابطاً لحكمة كالسفر في جواز القصر مثلاً، لا نفس الحكمة كالمشقة في السفر، لعدم انضباطها، وقيل يجوز أن انضبطت لانتفاء المحذور"3. المذهب الثالث: وهو اختيار الآمدي أنه يجوز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة بنفسها، أما الخفية المضطربة، فلا يجوز التعليل بها4. دليل أهل المذهب الأول: استدل أهل المذهب الأول على ما ذهبوا إليه بأنه إذا جاز التعليل بالوصف، فأولى أن يجوز التعليل بالحكمة، لأنها هي مقصود الشارع من شرع الحكم، لأن جواز التعليل بالوصف إنما هو لأجل اشتماله على تلك الحكمة إذ هي نفس المصلحة، والمفسدة وحاجات الخلق، وهذا هو سبب ورود الشرائع، وحيث اتفق على التعليل بالوصف المناسب لاشتماله عليها، كان التعليل بها أولى من التعليل به، لأنها أصله، وأصل الشيء أولى بالاعتماد علية من فرعه5.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/186. 2 هو: محمد بن بخيت المطيعي، مفتي الديار المصرية الأسبق، ولد سنة 1271هـ وتلقى العلوم على مشايخ عصره حتى تبحر في العلوم العقلية والفلسفية، حنفي المذهب، تولى القضاء، واشتغل بالتدريس والتأليف، من مؤلفاته سلم الوصول على نهاية السول في أصول الفقه، توفي رحمه الله سنة 1935م. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/181 - 187. 3 انظر: سلم الوصول على نهاية السول 4/260. 4 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/186. 5 انظر: شرح تنقيح الفصول ص406.

واعترض عليه بأن الوصف المشتمل على الحكمة إنما جاز التعليل به لاشتماله على الحكمة، ولأنه ظاهر منضبط، والحكمة لما كانت خفية غير منضبطة لم ينط بها الحكم كالمشقة في السفر، فإن لها مراتب لا تحصى، وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال اختلافاً عظيماً، وليست كل مرتبة منها مناطاً للحكم، ولا يمكن تعيين مراتب منها إذ لا طريق إلى تمييزها بذاتها وضبطها في نفسها، وحين رأينا الشارع أناط الحكم بالوصف الظاهر المنضبط علمنا أو المعتبر حينئذ عند الشارع إنما هو المظنة، وإن تخلفت تلك الحكمة كما في سفر الملك المرفه، ولو كانت الحكمة هي المعتبر لم يعتبر الشارع المظان عند خلوها عن الحكمة، إذ لا عبرة بالمظنة في معارضة المئنة، واللازم منتف لأن الشارع قد اعتبرها حيث أناط الحكم بالسفر، وإن خلا عن الحكمة كما مر في سفر الملك المرفه، ولم ينطها بالحضر وإن اشتمل على المشقة كما في أرباب الصنائع الشاقة في البلاد الحارة في شدة القيظ كالحمالين مثلاً1، وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله تعالى في الكلام على أدلة أهل التفصيل الآتية: أدلة أهل المذهب الثاني: استدل أهل المذهب الثاني على ما ذهبوا إليه من منع التعليل بالحكم مطلقاً بما يأتي: الأول: قالوا: لو صح تعليل الحكم بالحكمة، لما صح تعليله بالوصف، وتعليل الحكم بالوصف جائز اتفاقاً، فالتعليل بالحكمة غير جائز، لأن كل ما يقدح في استناد الحكم إلى الحكمة يقدح في استناده إلى الوصف، إذ القادح في الأصل قادح في الفرع، وقد يوجد ما يقدح في الوصف، ولا يكون قادحاً في الحكمة، لأن القادح في الفرع قد لا يكون قادحاً في الأصل، فإسناد الحكم إلى الوصف مع إمكان إسناده إلى الحكمة تكثير من غير حاجة إليه، والتكثير قد يؤدي إلى الغلط، وهو لا يجوز.

_ 1 انظر: العضد 2/214، نهاية السول مع سلم الوصول 4/263.

ولما رأينا إنه جاز التعليل بالوصف علمنا أنه إنما جاز لتعذر التعليل بالحكمة1. وأجيب عنه بأن "التعليل بالحكمة وإن كان راجحاً على التعليل بالوصف من الوجه الذي ذكر "المستدل"، فإن التعليل بالوصف الراجح على التعليل بالحكمة من وجه آخر، وهو سهولة الاطلاع على الوصف، وعسر الاطلاع على الحكمة، فلما كان كل واحد منهما راجحاً من وجه، ومرجوحاً من وجه آخر حصل الاستواء"2. الثاني: أن القدر الذي رتب الشارع علة الحكم فيه لا يعلم وجوده في الفرع، لأن المصالح والمفاسد من الأمور الباطنة التي لا يمكن الوقوف على حقائق مقاديرها، لاختلاف مراتبها التي لا نهاية لها بحسب الأشخاص والأحوال، وليس كل قدر منها صالحاً لإناطة الحكم، ولما تعذر تعيين القدر الصالح لإناطة الأحكام منها، نيط بوصف ظاهر منضبط كالسفر، للترخص لقصر الصلاة والإفطار في رمضان مثلاً، ولم ينط بالمشقة التي هي الحكمة. وأجيب عنه بأنه لو لم يجز التعليل بالحكمة، لكونها غير معلومة لما جاز بالوصف المشتمل عليها، لأنه إذا انتفى العلم بها، انتفى العلم بالوصف المشتمل عليها، لاستحالة العلم به دون العلم بها، لكن الوصف المشتمل عليها يصح التعليل به بالاتفاق كالسفر مثلاً، فإنه علة لجواز القصر، لاشتماله على المشقة، لا لكونه سفراً، فإذا حصل الظن بأن الحكم في الأصل لتلك المصلحة، أو المفسدة المقدرة، وحصل الظن أيضاً بأن قدر تلك المصلحة أو المفسدة، حاصل في الفرع، لزم بالضرورة حصول الظن بأن الحكم وهو الترخص بالقصر قد وجد في الفرع، والعمل بالظن واجب3.

_ 1 انظر: المحصول ص333 - خ -، وشرح تنقيح الفصول ص406. 2 انظر: المحصول ص 334 - خ -. 3 انظر: المنهاج مع شرحه نهاية السول وحاشية سلم الوصول 4/262 - 263.

لكن يرد على ما ذكر هنا أن الحكمة لما لم تنضبط، ولم تعلم، فإن الشارع أناط الحكم بالوصف الظاهر المنضبط، ولذا علمنا أن المعتبر عند الشارع إنما هو المظنة، وإن تخلفت الحكمة كما في سفر الملك المرفه. أدلة المذهب الثالث: استدل الآمدي على ما ذهب إليه من التفصيل بما ملخصه: أن الحكمة إن كانت ظاهرة منضبطة غير مضطربة جاز التعليل بها، للإجماع على أن الحكم إذا اقترن بوصف ظاهر منضبط مشتمل على حكمة غير منضبطة بنفسها أنه يصح التعليل به، وإن لم يكن هو المقصود من شرع الحكم، بل ما اشتمل عليه من الحكمة الخفية، فإذا كانت الحكمة وهي المقصود من شرع الحكم مساوية للوصف في الظهور والانضباط كانت أولى بالتعليل بها. وأما إذا كانت الحكمة خفية مضطربة غير منضبطة، فيمتنع التعليل بها، لثلاثة أوجه: الأول: أنها إذا كانت خفية مضطربة مختلفة باختلاف الصور والأشخاص والأزمان والأحوال، فلا يمكن معرفة مناط الحكم منها، والوقوف عليه إلا بعسر وحرج، ودأب الشارع فيما هذا شأنه على ما ألفناه إنما هو رد الناس فيه إلى المظان الظاهرة المنضبطة دفعاً للعسر عن الناس والتخبط في الأحكام، ولهذا فإنا نعلم أن الشارع إنما قضى بالترخيص في السفر دفعاً للمشقة المضبوطة بالسفر الطويل إلى مقصد معين، ولم يعلقها بنفس المشقة، لأنها مما لا ينضبط، ولذا لم يرخص للحمال المشقوق عليه في الحضر، وإن ظن أن مشقته تزيد على المسافر الذي يقطع فرسخاً في كل يوم، وإن كان في غاية الرفاهية والدعة؛ لأن ذلك مما يختلف ويضطرب. الثاني: أن الإجماع منعقد على صحة تعليل الحكم بالأوصاف الظاهرة المنضبطة المشتملة على احتمال الحكم، كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد

العدوان لحكمة الزجر أو الجبر1، وتعليل صحة البيع الصادر من الأهل في المحل لحكمة الانتفاع، وتعليل تحريم شرب الخمر بإيجاب الحد به لحكمة دفع المفسدة الناشئة منه، ونحوه. ولو كان التعليل بالحكمة الخفية مما يصح لما احتيج إلى التعليل بضوابط هذه الحكمة والنظر إليها، لعدم الحاجة إليها، ولما فيه من زيادة الحرج بالبحث عن الحكمة، وعن ضابطها مع الاستغناء بأحدهما. الثالث: أن التعليل بالحكمة المجردة إذا كانت خفية مضطربة، فالبحث عنها للاطلاع عليها مما يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلف، وذلك منفي بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2.

_ 1 ذهب الجمهور إلى أن الحدود كما هي زواجر فهي كفارات للذنوب، وإن لم يتب صاحبها، واستدلوا على ذلك بما أخرجه البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتولوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاَ ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك" ا. هـ من صحيح البخاري مع فتح الباري 1/64. قال ابن حجر: "ويستفاد من الحديث أن إقامة الحدود كفارة وإن لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور. اهـ، وساق آثار تدل على ذلك منها للبزار مرفوعاً عن عائشة رضي الله عنها "لا يمر القتل لذنب إلا محاه". قال الحافظ: "ولم ينفرد عبادة بالحديث، فقد أخرجه الترمذي والحاكم وصححه عن علي رضي الله عنه وفيه: "من أصاب ذنباً فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة". وقيل: لا بد من التوبة، وعليه فهي زواجر فقط، وبه جزم بعض التابعين، وهو قول المعتزلة، ووافقهم ابن حزم، ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قول الله تعالى {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} الآية من سورة المائدة آية: 34. وأجيب بأنه في عقوبة الدنيا. ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا" أخرجه الحاكم في المستدرك، والبزار، لكن حديث عبادة أصح منه إسناداً. انظر: الفتح 1/66 - 68، نيل الأوطار 7/56 فما بعدها، الجامع لأحكام القرآن 6/158، وفتح القدير شرح الهداية 5/211. 2 سورة الحج آية: 78.

لكن قد يقال: خالفتم عموم الآية في التعليل بالوصف الظاهر المنضبط مع ما في ذلك من المشقة. ويجاب عنه بأن التعليل بالوصف لا ينافي العمل بعموم الآية، لأن المشقة فيه أدنى من المشقة في الحكمة المجردة الخفية المضطربة، فهي في الوصف الظاهر مشقة معتادة، والحرج إنما يتأتى في غير المعتادة، لتضمنها الضيق الذي هو الحرج. الاعتراضات الواردة على ما استدل به الآمدي، والجواب عنها: الأول: أنه قد يقال: ما ذكرتموه في جواز التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة هو فرع إمكان ذلك، وهو غير مسلم في الحكمة، لأنها راجعة إلى الحاجات، إلى المصالح ودفع المفاسد، والحاجات مما تخفى، وتزيد وتنقص، فلا تكون ظاهرة، ولا منضبطة، وإن سلم إمكان ذلك نادراً، وأجيب عنه بأن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها في بعض الصور، لا في ما لم تكن كذلك. وقولهم: "إنَّ الاطلاع عليها والبحث عنها أشق من البحث عن الضابط" ليس كذلك، فإنها إن كانت ظاهرة منضبطة كالوصف فلا تفاوت. الاعتراض الثاني على الوجه الأول: إن البحث عن الحكمة الخفية وإن كان فيه نوع حرج ومشقة، غير أنه لا بد منه عند التعليل بالوصف الظاهر المشتمل عليها، ضرورة أنها علة لكون الوصف علة إذ لولا اشتمال الوصف عليها لما كان علة للحكم، وإذا لم يكن بد من معرفتها في جعل الوصف علة للحكم وقد جعلت علة للعلة أمكن أن تجعل علة للحكم من غير حاجة إلى ضابط. وما ذكر من عدم اعتبار الترخص للحمال في الحضر دفعاً للمشقة عنه، فغايته امتناع تعليل الرخص بمطلق المشقة، بل بالمشقة الخاصة بالسفر، ولا يلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة.

وأجيب عنه بأن البحث عن الحكمة عند تجردها عن الضابط لا بد فيه من معرفة كميتها وخصوصيتها، حتى نأمن الاختلاف بين الأصل والفرع فيها، وذلك غير ممكن في الحكمة الخفية المضطربة، ولا يكفي فيها مجرد معرفة احتمالها، بخلاف ما إذا كانت مضبوطة بضابط، فإنا نكتفي بمعرفة الضابط، ومعرفة أصل احتمال الحكمة. الاعتراض الثالث على الوجه الثاني: هو أن غاية ما فيه جواز التعليل بالضابط المشتمل على الحكمة، وليس فيه ما يدل على امتناع التعليل بالحكمة. وقولكم أنه لا حاجة إليه، لا نسلم ذلك، فإن الاطلاع عليه أسهل من الاطلاع على الحكمة. وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لو أمكن التعليل بالحكمة لما احتيج إلى التعليل بالضابط. وقولهم أن الوقوف عليه أسهل من الوقوف على الحكمة بمجردها، قلنا: فيلزم من ذلك امتناع التعليل بالحكمة، لما فيه من تأخر إثبات الحكم الشرعي إلى زمان إمكان الاطلاع على الحكمة، مع إمكانه بالضابط في أقرب زمان، وذلك ممتنع. الاعتراض الرابع على الوجه الثالث: وهو أن الحرج اللازم من البحث عن الحكمة الخفية، وإن كان شاقاً، غير أنه لا يزيد على البحث عنها عند التعليل بضابطها، بل المشقة في تعرفها مع تعرف ضابطها أشق من تعرفها دون ضابطها. وقد أجمعنا على مخالفة النص المذكور عند التعليل بالضابط، وكانت مخالفته عند التعليل بالحكمة لا غير، أقل مشقة وحرجاً، فكان أولى بالمخالفة. وأجيب عنه بمنع التساوي في الحرج والمشقة في البحث عن الحكمة مع

ضابطها، ومع خلوها عن الضابط، وذلك للافتقار في البحث عنها عند خلوها عن الضابط إلى معرفة خصوصيتها وكميتها حتى يأمن التفاوت فيها بين الأصل والفرع، ولا كذلك البحث عنها مع ضابطها، فإنه لا يحتاج إلى البحث عنها أكثر من معرفة أصل احتمالها، ولا يخفى أن الحرج في تعرفها على جهة التفصيل أتم من معرفتها لا بجهة التفصيل1. هذا والذي ترجح عندي هو القول بمنع التعليل بالحكمة، لأن الحكمة من الأمور الباطنة التي لا يمكن الوقوف على حقائق مقاديرها، لاختلاف مراتبها التي لا نهاية لها، لأنها تختلف باختلاف الصور والأشخاص والأحوال والأزمان، فلا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم منها إلى بعسر وحرج، والتكليف بما فيه عسر وحرج خلاف ما دلت عليه نصوص الشريعة، كما في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} 3. ولذلك أناط الشارع الحكم بالوصف، فظهر أن المعتبر عند الشارع إنما هو المظنة، وإن تخلفت الحكمة كما في سفر الملك المرفه، ولو كانت الحكمة معتبرة لم يعتبر المظان عند خلوها عن الحكمة، إذ لا عبرة بالمظنة في معارضة المئنة، واللازم منتف، لأنه قد اعتبرها حيث أناط الترخص بالسفر وإن خلا عن الحكمة كما في سفر الملك المرفه، ولم ينطها بالحضر، وإن اشتمل على المشقة، كما في أرباب الصنائع الشاقة في البلاد الحارة في شدة القيظ، كالحمالين وغيرهم4، والله أعلم.

_ 1 انظر تفاصيله في: الأحكام للآمدي 3/187 - 189، مع تصرف بالاختصار تارة، والتقديم والتأخير تارة أخرى. 2 سورة الحج آية: 78. 3 سورة المائدة آية: 6. 4 انظر: تقريرات الشربيني مع حاشية العطار 2/238، وسلم الوصول على نهاية السول 4/263.

المبحث الرابع: في تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي اتفق الأصوليون على جواز تعليل الحكم الثبوتي بالوصف الثبوتي، كالتحريم بالإسكار، والعدمي بالعدمي كتعليل عدم نفاذ التصرف بعدم العقل، والعدمي بالوجودي، كتعليل عدم نفاذ التصرف بالإسراف1. واختلفوا في تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي على مذهبين: الأول: أنه لا يجوز، وعزاه صاحب تيسير التحرير2 لصاحب البديع3، وهو اختيار الآمدي، وابن الحاجب4. المذهب الثاني: يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي، وهو قول الأكثر، وممن قال به الفخر الرازي، والبيضاوي5. واستدل أهل المذهب الأول بما يأتي: الأول: أن الإعدام لا تتميز عن غيرها، وما لا يتميز عن غيره لا يصح أن يكون علة، لأن العلة لا بد وأن تكون متميزة عما ليس بعلة، وإلا لم تكن علة6.

_ 1 انظر: المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطاؤ 2/281، والعضد على المختصر مع حاشية السعد 2/214، وتقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/280. 2 هو: محمد الأمين الشهير بأمير بادشاه الحسيني نسباً، الحنفي مذهباً، الخراساني مولداً، البخاري منشأ، المكي موطناً، له كتاب تيسير التحرير شرح به الكمال بن الهمام في أصول الحنفية. انظر: خطبة كتاب تيسير التحرير 1/ 2. 3 هو: أحمد بن علي بن تغلب، مظفر الدين المعروف بابن الساعاتي الحنفي الإمام الحافظ المتقن، الأصولي الفقيه، له مؤلفات في الفقه وأوله، منها في الفقه مجمع البحرين، وفي الأصول كتاب البديع جمع فيه بين طريقتي الآمدي في الأحكام والبزدوي، توفي سنة 694هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/94 - 95. 4 انظر: الأحكام للآمدي 3/189،المختصر مع شرحه 2/214، تيسير التحرير 4/2، نهاية السول مع سلم الوصول 4/269 - 270. 5 انظر: المحصول 2 من القسم الثاني ص 400 - ط -، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/107. 6 انظر: نهاية السول مع سلم الوصول 4/269 - 270.

وأجيب عنه "بأن العدم الذي يقع التعليل به لا بد وأن يكون عدم شيء بعينه، فهو عدم متميز، فيصح التعليل به، كما تقول: عدم علة التحريم علة الإباحة في جميع موارد الشريعة، لأن الإسكار علة التحريم والتنجيس، فإذا عدم ثبت التطهير والإباحة"1. الثاني: أن المجتهد يجب عليه سبر كل وصف يمكن أن يكون علة ليميز الوصف الصالح للعلية عن غيره، فلو كانت الإعدام صالحة للعلية، لوجب عليه سبرها، لكنه لا يجب عليه سبرها، وذلك يدل على أن الوصف العدمي لا يصلح للعلية2. ويجاب عن هذا الدليل بأنه وإن سلم أن المجتهد لا يبحث في السبر والتقسيم عن الأوصاف العدمية، فإن ذلك إنما سقط عنه لعدم قدرته عليها، لأن الإعدام غير متناهية3. الثالث: لو كان الوصف العدمي علة للحكم الثبوتي لكان مناسباً، لأن العلة هي الأمر المناسب لمشروعية الحكم أو مظنته، لما علم من أن الوصف الجامع لا بد وأن يكون مشتملاً على حكمة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، والعدم المعلل به إما: عدم مطلق أو عدم مخصص بأمر يضاف إليه. أما العدم المطلق فواضح أنه لا يعلل به، لأنه ليس مناسباً ولا مظنة للمناسب، لأنه نسبته إلى جميع المحال والأحكام سواء، فلا يصلح أن يكون علة. وأما العدم المخصص بأمر، فلأنه إما أن يكون وجود ذلك الأمر منشأ لمصلحة أو لمفسدة، أو لا يكون، فإن كان منشأ لمصلحة فباطل، لأن اعتبار عدمه تفويت لتلك المصلحة، فلا يصلح مقصوداً.

_ 1 انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 407. 2 انظر: المحصول ص 335 - خ -، نهاية السول مع سلم الوصول 4/270. 3 انظر: المحصول ص335 - خ -.

وإن كان منشأ لمفسدة، فهو مانع، وعدمه عدم مانع، وعدم المانع ليس علة، بل لا بد معه من مقتض، كما يقال: أعطاه لعلمه، أو لفقره، وسافر للعلم وللتجارة، ولو علل شيء منها بعدم المانع لعد جنوناً أو سخفاً1. هذا إن كان وجوده منشأة لمصلحة، أو لمفسدة حتى يكون عدمه مناسباً. وإن لم يكن كذلك حتى يكون عدمه مظنة، فإما أن يكون وجوده منافياً، لمناسب أولاً، فإن كان وجود ذلك الأمر منافياً لمناسب لمشروعية ذلك الحكم، فذلك الأمر بحيث يستلزم وجوده عدم المناسب تحقيقاً للمنافاة، ويجب أيضاً أن يستلزم عدمه وجود نقيض المناسب لتحصل بذلك العدم الحكمة، وحينئذ يكون هو نقيض المناسب، ويكون حاصله أنه كلما عدم نقيض المناسب فالحكم كذا، ويجعل عدم نقيض المناسب مظنة لوجود المناسب. وهذا لا يصح، لأن نقيض المناسب، إن كان وصفاً ظاهراً منضبطاً أغنى عن المظنة بنفسه، وإن كان هو العلة في الحقيقة، وإن كان خفياً فنقيضه وهو ما عدمه مظنة أيضاً خفي، لاستواء النقيضين2 جلاء وخفاء، والخفي لا يصلح مظنة للخفي. وإن لم يكن منافياً لمناسب، فالمناسب يحصل عند وجوده كما يحصل عند عدمه، فيكون وجوده وعدمه سواء في تحصيل المصلحة، فليس كون عدمه علة بأولى من أن يكون وجوده علة، فلا يصلح عدمه علة، وقد فرض علة3. مثال ذلك قولك: يقتل المرتد لعدم إسلامه، فذلك إما لأن في قتله مع

_ 1 السخف بالضم والفتح، وكقرصة وسحابة رقة العقل وغيره. انظر: القاموس: 3/155 - 156. 2 ضابط النقيضين هو إنهما لا يجتمعان، ولا يرتفعان، بل لا بد من وجود أحدهما، وعدم الآخر كما في النفي والإيجاب، من نحو قولك: زيد قائم الآن، وزيد ليس بقائم الآن. انظر: آداب البحث والمناظرة قسم 1ص26. 3 انظر: المختصر وشرحه وحاشية السعد 2/114، والتقرير والتحبير 3/117 فما بعدها، وتيسير التحرير شرح التحرير 4/2 فما بعدها.

الإسلام مصلحة، فيلزم من اعتبار عدمه تفويتها، أو فيه مفسدة فغايته أن إسلامه مانع، فما المقتضى لقتله؟ وإن كان القتل مع الإسلام بنافي مناسباً للقتل وهو الكفر مثلاً، فإن كان الكفر ظاهراً فيقال يقتل لأنه كافر، وإن كان مع الإسلام ينافي مناسباً للقتل خفياً، وهو الكفر، فالإسلام كذلك أخفى، لأنه نقيضه، والنقيضان، مثلان، إذ لا فرق ضرورة بين معرفة الكفر، ومعرفة عدم الإسلام في الخفاء، وإن كان القتل لا ينافي مناسباً، فليس الكفر هو المناسب، ولذلك قال الإمام مالك1 رحمه الله يقتل وإن رجع إلى الإسلام2. فالمناسب شيء آخر يجتمع مع الإسلام، فالإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة، فلا يكون عدمه مظنة3. وأجاب عنه السعد بما نصه: "إن ما ذكر مغلطة حلها أنا نختار أن ذلك الأمر الذي يضاف إليه العدم كالإسلام في المثال السابق ينافي مناسباً، ولا يلزم ما ذكر من جعل عدم نقيض المناسب مظنة المناسب، لجواز أن يكون عدم نقيض المناسب، وهو عدم الإسلام نفس المناسب، بأن يتعلق به إيجاب القتل، ويحصل ذلك المقصود الذي هو التزام الإسلام.

_ 1 هو: الإمام مالك بن أنس الأصبحي، المكنى بأبي عبد الله، ينتهي نسبه - رحمه الله - إلى قحطان، وهو إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة الأعلام، وإليه ينسب المذهب المالكي، أخذ عن تسعمائة شيخ فأكثر، ولم يفت حتى شهد له سبعون إماماً أنه أهل لذلك، وجلس للتدريس وهو ابن سبعة عشر عاماً، ولد سنة 93هـ من مؤلفاته كتابه الموطأ، وقد روى عنه، وتوفي رحمه الله سنة 177هـ، وقيل سنة 179هـ، ودفن بالبقيع بالمدينة المنورة. انظر: مآثره في مقدمة الزرقاني على الموطأ 1/ 4 فما بعدها، والديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب 1/88 فما بعدها، ومالك بن أنس لأبي زهرة. 2 مراده الزنديق وهو من كان يسر الكفر ويظهر الإسلام، فإن هذا إذا ظهر عليه يقتل ولا يستتاب، لأنه لا تعرف توبته، بخلاف من لم يكن يبطن الكفر ممن كان مسلماً وارتد، فإنه يستتاب فإن تاب قبل منه، وإلا قتل. انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/116 - 117، والزرقاني على الموطأ 4/404، تحقيق إبراهيم عطوة، ط الحلبي. 3 انظر: العضد على المختصر 2/215 - 216، والتقرير والتحبير شرح التحرير 3/168.

وإن أردتم أن هناك أمراً آخر وجودياً هو المناسب، نختار أن ذلك الأمر الذي يضاف إليه العدم، وليس منافياً له، بل يجامعه، ولا يلزم ما ذكرتم من أن وجود ذلك الأمر، أعني الإسلام وعدمه سواء في تحصيل المصلحة، بل عدم الإسلام أعني ترتب القتل على عدم الإسلام يستلزم المصلحة، التي هي التزام الإسلام، ووجود الإسلام أعني القتل مع الإسلام لا يستلزمها، كما أنه لا ينافيها"1. كما يجاب عن أدلة المانعين أيضاً بأنه إن صح ما ذكر من منع تعليل الوجودي بالعدمي، لزم أن لا يصح تعليل العدمي بالعدمي أيضاً، بعين ما ذكر، مع أنهم متفقون على تعليل العدمي بالعدمي2. لكن يرد على ما ذكر من اتفاق الأصوليين على تعليل العدمي بالعدمي، ما صرح به صاحب التحرير وشارحاه، فإنهم بعد أن ذكروا محل الخلاف والوفاق قالوا: إن الحنفية يمنعون التعليل بالعدم مطلقاً، أي المطلق والمضاف، أن يكون علة لوجودي أو عدمي، والدليل المذكور للنافين تعليل الوجودي بالعدمي خاصة يصلح للحنفية النافين له مطلقاً، لأن الدليل المذكور يبطل كون العدمي علة لوجودي أو عدمي، لانتفاء المناسبة ومظنتها فيه، كيف لا وهو ليس بشيء؟ فلا يصلح حجة لإثبات الأحكام، وعدم الحكم لا يحتاج إلى علة، لأنه ثابت بالعدم الأصلي، فلا يصلح العدم علة للعدم، ولا للوجود3. غير أن أدلة المانعين تعليل الوجودي بالعدمي قد تقدمت الإجابة عنها بما ملخصه أن ما ادعوه من عدم التمييز في الإعدام غير مسلم؛ لأن العدم الذي يقع التعليل به لا بد أن يكون عدم شيء بعينه، فهو عدم متميز.

_ 1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/216. 2 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/168، تيسير التحرير 4/4، وانظر: نقل الإجماع في المحلى مع حاشية العطار 2/281، والعضد على المختصر 2/216، وتقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/280. 3 انظر: التقرير والتحبير 3/168، وتيسير التحرير 4/3 - 4.

وما استدلوا به من أنه لو كانت الإعدام يعلل بها لوجب على المجتهد سبرها، كما هو الشأن في الأوصاف الصالحة للعلية، فقد أجيب عنه بأن ذلك إنما سقط عنه لعدم قدرته عليها، لأنها غير متناهية. وما ادعوه من عدم المناسبة في العدم، فقد أجيب عنه بأنه ثبت أن في ترتب القتل على عدم الإسلام تحقيق المصلحة التي هي التزام الإسلام خوفاً من القتل. مع أن ما ذكروه من الاتفاق على تعليل العدمي بالعدمي يقتضي تعليل الوجودي بالعدمي من باب أولى، لأن الخفاء الذي به منع من منع تعليل الوجودي بالعدمي أشد فيما كان طرفاه عدميين منه فيما كان طرفه وجودياً، والآخر عدمياً. ولما كان يرد على الحنفية إنهم عللوا كثيراً من الأحكام بالعدم كما في المثال السابق، أجابوا عنه بأنه المناسب في المثال المذكور الكفر، وهو اعتقاد قائم بذات الكافر وجودي ضد الإسلام، ويستلزم الكفر عدم الإسلام كما هو شأن الضدين في استلزام كل عدم الآخر، فإضافة القتل في المثال إلى عدم الإسلام - حيث قيل: يقتل لعدم إسلامه - إنما تكون لفظاً أي بحسب الظاهر، وفي المعنى والحقيقة إلى أمر وجودي وهو الكفر في المثال، غير أنه تجوز بالإضافة إلى لازمه. قالوا: ويضطرد تعليل العدم بالعدم في عدم علة ثبت اتحادها بمعنى ليس لحكمها علة غيرها لعدم حكمها1. غير أن ما أجابوا به عما أورد عليهم في تعليلهم كثيراً من الأحكام بالعدم عدولاً منهم عن الحقيقة إلى الأخذ بظاهر اللفظ والتجوز، فإن ذلك إنما يسوغ عند تعذر الحقيقة، وهي هنا غير متعذرة، إذ لا محذور شرعاً في تعليل قتل المرتد لعدم إسلامه، وقد تقدم أن في ترتب قتله على عدم الإسلام إبقاء لمصلحة الإسلام خوفاً من القتل، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر تفاصيله في: التقرير والتحبير 3/168، تيسير التحرير 4/4.

أدلة المذهب الثاني: استدل أهل المذهب الثاني على ما ذهبوا إليه من تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي بما يلي: الأول: قالوا: صح تعليل الضرب بعدم الامتثال مع أن الضرب وجودي، وعدم الامتثال عدمي، فإنه يصح أن يقال فيما إذا أمر السيد عبده بفعل فلم يمتثل أمره، فضرب السيد عبده: إنما ضربه لأنه لم يمتثل أمره، ولو لم يجز التعليل بالعدم لما صح هذا. الثاني: أن معرفة كون المعجز معجزاً أمر وجودي، وهو معلل بالتحدي بالمعجزة مع انتفاء المعارض لها بمثلها، وانتفاء المعارض جزء العلة، وهو عدم، وما جزؤه عدم، فهو عدم، وقد علل به وجودي. الثالث: أنه قد يحصل دوران الحكم مع بعد الإعدام، وهو علة لمعرفة كون المَدار علة، وكونه علة وجودي، وجزء الدوران عدم لأن الدوران مركب من الطرد1، والعكس2، والعكس عدم، إذ الدوران عبارة عن الوجود مع الوجود، والعدم مع العدم. نوقشت هذه الأدلة بما يأتي: أما الأول فقيل عنه: بأن التعليل إنما هو بالكف عن الامتثال، وهو أمر ثبوتي محقق. وعن الثاني والثالث: بأن العدم في المعجز، والدوران شرط، وكون العكس معتبراً في الدوران لا يستلزم دخوله في ماهيته، لجواز أن يكون أحد جزئيه وهو الطرد علة، والآخر وهو العكس شرطاً، فيتوقف تأثير المشروط عليه حتى لا يؤثر الطرد بمجرده، ويؤثر معه، ولا بدع في كون الشرط عدمياً، ولو سلم كون التحدي لا يستقل علة لمعرفة المعجز، بل يحتاج إلى شيء آخر معه في العلية، فهو

_ 1 هو في الاصطلاح: الملازمة في الثبوت، يعني أنه كل ما وجد الحد وجد المحدود. 2 هو في الاصطلاح: الملازمة في الانتفاء بمعنى أنه كل ما انتفى الحد انتفى المحدود. انظر: حاشية الباجوري على السلم ص 43، آداب البحث والمناظرة قسم 1/37.

معرف للمعجزة، والكلام في العلة المشتملة على المناسب الباعث على الحكمة لا بمعنى المعرف1. لكن يرد على هذا ما جاء في حاشية السعد ونصه: "وذكر بعض الشارحين أن المراد من شروط العلة أن لا يكون العدم جزءاً من علة الوجودي، وهو مصرح به في بعض النسخ، ولا خفاء في أن التعريف لا يحصل إلا بمجموع الأمرين، ولا نعني بكون العدم جزءاً له سوى هذا، وهذا هو المراد بقوله - يعني العضد - ولا يخفى أن نفس التحدي لا يستقل بتعريف المعجز، بمعنى أن لا يكون لشيء آخر مدخل في التعريف"2. وإذا كان التعريف لا يحصل إلا بمجموع الأمرين: التحدي مع انتفاء المعارض، والطرد مع العكس، وكان كل من الأمرين معتبراً في إثبات العلة تعين أن يكون جزء العلة عدماً، وذلك يصحح تعليل الوجودي بالعدمي، مع "أن المحتاج إليه في التعليل مجرد العلم بأنه علامة، فحيث حصل العلم بذلك من الشارع نصاً أو استباطاً أمكن الاستدلال به في الجزئبات المعينة، وكونه أخفى في ذاته لا يؤثر في ذلك، والعدم يقبل الظهور بالمعنى المراد في المقام، ولولا ذلك لامتنع تعليل العدمي بالعدمي، مع أنه كذلك اتفاقاً"3. والصفات الإضافية وجودية عند الفقهاء والفلاسفة، عدمية عند المتكلمين، إلا أن وجودها في الذهن فقط. أما في الخارج فهي عدمية، وأما الأوصاف العدمية فهي عدمية في الذهن والخارج، فهذا هو الفرق بين القسمين.

_ 1 انظر: التقرير والتحبير 3/169، تيسير التحرير 4/5، المختصر مع شرحه 2/216، الأحكام للآمدي 3/193. 2 انظر: حاشية السعد على العضد: 2/217. 3 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/135 - 136.

فعلى القول بوجود الصفات الإضافية يجوز التعليل بها مطلقاً وعلى القول بعدمها بجوز تعليل العدم بها على ما تقدم. ويجري الخلاف في تعليل الوجودي بها على ما تقرر أيضاً، كما يجري الخلاف في العلة المركبة من جزئين أحدهما وجودي والآخر عدمي. وإذا كان المعنى الواحد عبارتان إحداهما نفي والأخرى إثبات صح التعليل بالإثبات بلا خلاف، وجرى الخلاف في النفي1. وظاهر كلام الجلال المحلى صحة التعليل بالعدم المستلزم للمصلحة، وإن كان معه وجودي نظراً لترتب المصلحة على كل، قال: "ومن أمثلته تعليل الثبوتي بالعدمي ما يقال: يجب قتل المرتد لعدم إسلامه، وإن صح أن يقال لكفره، كما يصح أن يعبر عن عدم العقل بالجنون؛ لأن المعنى الواحد قد يعبر عنه بعبارتين: منفية ومثبتة، ولا مشاحة في التعبير"2.

_ 1 انظر: نشر البنود 2/136، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 2/187، وشرح تنقيح الفصول ص 408. 2 انظر المحلى 2/281.

المبحث الخامس التعليل بالعلة القاصرة العلة القاصرة إما أن تكون: منصوصة، أو مستنبطة، فإن كانت ثابتة بنص أو إجماع، فقد اتفق الأصوليون على جواز التعليل بها1، "لأن النص تعبد من الشارع يجب تلقيه بالقبول"2. وإن كانت ثابتة باستنباط، فقد اختلفوا فيها على مذهبين: الأول: أنه يجوز تعليل الحكم بالعلة القاصرة، وإن كان الحكم لا يتعدى بها إلى محل آخر لعدم تحققها فيه، وإلى هذا ذهب ابن الحاجب، والإمام الفخر الرازي، وأتباعه، ونقله الآمدي عن الشافعي3، وأصحاب أحمد بن حنبل4،

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/200، والعضد على المختصر 2/217، المحصول ص 338 - خ -، شرح تنقيح الفصول ص 410، التوضيح 2/66. 2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 410. 3 هو: الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، ينتهي نسبه إلى هاشم بن عبد المطلب ابن عبد مناف، المكنى بأبي عبد الله، أحد الأئمة الأربعة، وإليه ينسب المذهب الشافعي، ولد بغزة سنة 150هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 204هـ، نشأ في مكة وتلقى العلوم عن علمائها، ثم رحل إلى المدينة ولازم مالكاً وروى عنه موطأه، وإلى اليمن وتولى بعض الأعمال، وإلى العراق وأخذ عن علماء العراقيين، له مؤلفات منها في أصول الفقه الرسالة - ط -، والتي يعدها أكثر الأصوليين أول مؤلف في الأصول، ومنها الأم وغيرهما، مآثره كثيرة. انظر: طبقات الشافعية 1/192، الشافعي لأبي زهرة، الفتح المبين 1/127 فما بعدها. 4 هو: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، المحدث الفقيه، رحل في طلب العلم إلى الكوفة والبصرة ومكة والشام، وغيرها، وأخذ عن الشافعي وغيره من علماء عصره حتى صار إماماً، وامتحن في عهد المأمون والمعتصم بفتنة القول بخلق القرآن، فثبت على الحق ثباتاً نادراً، ولد سنة 164هـ، وتوفي سنة 241هـ رحمه الله، له مؤلفات نفيسة منها كتابه المسند في الحديث، ومآثره كثيرة. انظر: الوفيات 1/63، وأحمد بن حنبل لأبي زهرة، والفتح المبين 1/149.

والقاضي أبي بكر1، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري، وأكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال: إنه المختار2. وعزاه صاحب تيسير التحرير إلى جمهور الفقهاء، ومنهم السمرقنديون، والشافعي وأحمد، قال: واختاره صاحب الميزان3، والمصنف4 يعني الكمال بن الهمام. المذهب الثاني: لا يجوز التعليل بها، وعزاه صاحب التحرير وشارحه لجمع من الحنفية كالكرخي5 من المتقدمين، وأبي زيد6 من المتأخرين، ومشايخ العراق، وأكثر المتأخرين7.

_ 1 هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، المعروف بالقاضي الباقلاني، المكنى بأبي بكر البصري المتكلم، العالم المشهور من كبار علماء الكلام، ومن رؤساء المذهب المالكي، انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، ولد بالبصرة وسكن بغداد وتوفي بها سنة 403هـ، له مؤلفات كثيرة في علم الكلام وغيره. انظر: وفيات الأعيان 4/269 - 270. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/200، المحصول ص 338 - خ -، والمختصر مع شرحه 2/217، ونهاية السول مع سلم الوصول 4/277،وشرح تنقيح الفصول ص 409. 3 هو: محمد بن أحمد، المكنى بأبي بكر، الملقب بعلاء الدين شمس النظر السمرقندي، الحنفي الأصولي، المتوفي سنة 553هـ. انظر: كشف الظنون 2/1916. 4 انظر: تيسير التحرير 4/5. 5 هو عبيد الله بن الحسن بن دلال بن دلهم، المكنى بأبي الحسن الكرخي، عد من المجتدهين، وانتهت إليه رياسة الحنفية في عصره، وعرف بالقناعة والصبر والعبادة، له مؤلفات منها رسالة مطبوعة في أصول الفقه، ذكر فيها الأصول التي عليها مدار كتب أصحاب أبي حنيفة، ولد سنة 260هـ، وتوفي سنة 340هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/186. 6 هو: عبد الله بن عمر بن عيسى، القاضي الحنفي، وهو أول من وضع علم الخلاف وأبرزه للوجود، له مؤلفات منها: كتاب تأسيس النظر فيما اختلف فيه أبو حنيفة وصاحباه، ومالك والشافعي، وكتاب الأسرار والأمد الأقصى وغيرها. توفي - رحمه الله - سنة 430هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/236، الأعلام للزركلي 4/248. 7 انظر: التقرير والتحبير 3/169، تيسير التحرير 4/5.

أدلة المذهب الأول: استدل أهل المذهب الأول القائلون بجواز تعليل الحكم بالعلة القاصرة بما يأتي: الأول: قالوا: إن الظن حاصل بأن الحكم لأجلها، لأنه المفروض، وهو معنى صحة التعليل بها، بدليل صحة العلة القاصرة المنصوصة اتفاقاً، والمجمع عليها أيضاً، وإن لم يفد كل منهما إلا الظن، ولو كان معنى التعليل القطع بأن الحكم لأجلها لم يصح التعليل بها1. الثاني: "أنه لو كانت صحة العلية موقوفة على تعديتها، لم تكن تعديتها موقوفة على صحتها، لامتناع الدور، واللازم منتف، للاتفاق على توقف التعدية على ثبوت العلية الموقوف على صحتها"2. وأجيب على الدور بأنه دور معي، لا دور تقدم3، لأن العلة لا تكون إلا متعدية، لا أن كونها متعدية ثبت أولاً، ثم تكون علة، والمتعدية لا تكون إلا علة، لا أنها تكون علة ثم تكون متعدية.

_ 1 انظر: العضد على المختصر 2/217. 2 انظر: العضد على المختصر 2/217. 3 الدور السبقي معناه أن تكون معرفة الحد يشترط لها معرفة بعض ألفاظ المحدود؛ لأن الغرض توقف معرفة المحدود على معرفة الحد، فإن توقفت معرفة الحد على معرفة المحدود كان دوراً سبقياً؛ لأن معرفة كل منهما تتوقف على سبق معرفة الآخر، فلا يمكن الإدراك، كتعريف العلم بأنه معرفة المعلوم على ما هو به، لأن المعلوم مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه. أما الدور المعي فلا محال فيه، ككون ما يسميه المناطقة الجرم متصفاً بما يسمونه العرض، إذ لا يعقل جرم خال عن جميع الأعراض كالحركة والسكون، والاجتماع والافتراق واللون ونحو ذلك، كما لا يعقل عندهم عرض قائم بنفسه دون جرم. فمعرفة كل منهما تتوقف على معرفة الآخر، إلا أنه لا يشترط سبق أحدهما للآخر، بل يعلمان معاً في وقت واحد، وذلك هو معنى كونه دوراً معياً. انظر: آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص39.

والدور المحال إنما هو دور التقدم، وهو ما يلزم منه اجتماع النقيضين بتقدم شيء على نفسه، وتأخره عن نفسه1. الثالث: أن الوصف القاصر قد يدور مع الحكم وجوداً وعدماً، والدوران دليل العلية، فيكون الوصف القاصر علة2. أدلة المذهب الثاني: واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بعدم جواز التعليل بها بما يأتي: الأول: أنه لا فائدة في التعليل بالعلة القاصرة، لأن فائدة العلة منحصرة في إثبات الحكم بها، وإثبات الحكم بها منتف، لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص أو الإجماع، وأما في الفرع، فلأن المفروض أنها قاصرة، وإثبات ما لا فائدة فيه لا يصح شرعاً ولا عقلاً3، نوقش هذا الدليل بأمرين: الأول: النقض بالعلة القاصرة إذا ثبتت بنص أو إجماع، فإن هذا الدليل بعينه يجري فيها، مع جواز التعليل بها اتفاقاً4. الأمر الثاني: أنه وإن سلم امتناع إثبات الحكم بالعلة القاصرة، لكونه ثابتاً بالنص أو الإجماع، وأن فائدة العلة إنما هي إثبات الحكم بها، لكن لا يسلم انحصار فائدتها في ذلك، بل لها فوائد أخرى هي: الأولى: معرفة كونها باعثة على الحكم بما اشتملت عليه من المناسبة، فإن الحكم إذا عرفت حكمته كان أقرب إلى القبول والإذعان، مما لم تظهر مناسبته، وكان أبعد من التعبد المحض، وإذا كان كذلك كان أفضى إلى تحصيل مقصود الشارع من شرع الحكم، فكان التعليل بها مفيداً5.

_ 1 انظر: شرح مختصر ابن الحاجب 2/217، والتقرير والتحبير 3/169. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/200. 3 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/169. 4 انظر: المختصر مع شرحه 2/218. 5 انظر: المختصر مع شرحه 2/218.

الثانية: إذا كانت العلة قاصرة، وقدر وصف آخر متعد، امتنع القياس على محلها، لمعارضة المتعدي لها، فيتوقف عن القياس، لأجل تلك المعارضة، إذ يجوز أن تكون العلة مركبة من الوصفين، وحينئذ فلا تعدية؛ لأن المركب من متعد وغير متعد، غير متعد، إذ لا يوجد في الفرع إلا بعض العلة الذي هو جزؤها المتعدي، والعلة يشترط وجودها في الفرع بتمامها. فإن قيل: يجوز أن يكون كل من الوصف القاصر والمتعدي علة مستقلة، أجيب بأنه تسقط العلية للاحتمال. فإن قيل: التعدية كافية في ترجيح استقلال المتعدي على كونه جزءاً1. أجيب بأنه هنا معارض بمرجح آخر لكونه جزءاً، وذلك المرجح هو أن احتمال اجتماع علتين خلاف الغالب، وموافقة الغالب من المرجحات، فيتعارض الترجيح بالترجيح، فيلزم التوقف عن القياس، كما في تعليل طهورية الماء بالرقة واللطافة، ولا يوجد ما يماثل الماء فيها حتى يتعدى ذلك الوصف إليه، فهذه علة قاصرة على الماء، فلو عللها مستدل آخر بالإزالة لكل ما يتقذر، وهذا الوصف متعد لغير الماء من المائعات، فإنه لا يجوز الإلحاق بهذا الوصف المتعدي، لاحتمال عدم استقلاله بالعلة، إذ يحتمل أن تكون العلة مركبة منه ومن الوصف القاصر، كما تقدم2. الثالثة: أنها تفيد العلم أو الظن بما كان مجهولاً، والعلم بالمجهول هو غاية النفوس ومحبوب القلوب، ولا يمتنع أيضاً أن تكون فيه مصلحة أخرى3. الرابعة: أنها تقوي النص الدال عل معلولها، لأن التعليل كنص آخر، فإذا

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/218، الأحكام للآمدي 3/201 - 202، والمحصول ص339 - خ -، إملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/3. 2 انظر: نشر البنود 2/139، وحاشية العطار على المحلى 2/283، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود دفتر 3/3 - 4. 3 انظر: المحصول ص 339 - خ -.

كان النص ظاهراً قابلاً للتأويل تقوى بالعلة، وامتنع تأويله، وكذلك إذا كان قطعياً بناء على أن اليقين يتفاوت1. الدليل الثاني: أن العلة الشرعية أمارة، فلا بد وأن تكون كاشفة عن شيء، والعلة القاصرة لا تكشف عن شيء، فلا تكون إمارة، فلا تصح علة2. نوقش هذا الدليل بأنا لا نسلم أنها لا تكشف عن حكم، بل تكشف عن المنع عن استعمال القياس، وإن سلم لكنها تكشف عن حكمة الحكم3. قال سعد الدين التفتازاني: "واعلم أنه لا معنى للنزاع في التعليل بالعلة القاصرة غير المنصوصة؛ لأنه إن أريد عدم الجزم بذلك، فلا نزاع، وإن أريد عدم الظن فبعد ما غلب على رأي المجتهد علية الوصف القاصر، وترجح عنده ذلك بأمارة معتبرة في استنباط العلل، لم يصح نفي الظن ذهاباً إلى أنه مجرد وهم"4. الخلاف لفظي: الخلاف لفظي؛ لأن التعليل في اصطلاح الحنفية النافين للتعليل بالعلة القاصرة - هو القياس بمعنى أن العلة عندهم لا تكون إلا متعدية، وأما القاصرة فهي إبداء الحكمة وليست علة، والمثبت للتعليل بالعلة القاصرة يرى أن العلة أعم من المتعدية، فهي شاملة للمتعدية والقاصرة، غاية الأمر أن النافي للتعليل بالقاصرة يريد بذلك نفي المتعدية، وهذا لا يخالف فيه أحد، للاتفاق على أن القاصرة لا تعدية لها، والمثبت لجواز التعليل بها يريد به العلة القاصرة التي هي عند المانع إبداء الحكمة، وهذا لا يخالف فيه أحد أيضاً، فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد، فلا خلاف في المعنى.

_ 1 انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/ 4. 2 انظر: المحصول ص 339 - خ -. 3 انظر: المحصول ص 339 - خ -. 4 انظر: التلويح على التوضيح 2/67.

وقد قرر ابن أمير الحاج ذلك بقوله: "ولا شك أنه لفظي، لأن التعليل هو القياس عند الحنفية، وأعمّ عند الشافعية، فالنافي يريد القياس، والمثبت يريد ما ليس منه بقياس، وكلاهما حق، إذ لا قياس بدون التعدية، ولا مانع من إبداء الحكمة، وإن لم يعم مواقع الحكم كلها"1. صورة العلة القاصرة: الأولى: أن تكون العلة القاصرة محل الحكم كتعليل الربا في الذهب والفضة بالذهبية والفضية. اختلف الأصوليون في جواز التعليل بالعلة القاصرة إذا كانت محل الحكم، فمنعها بعض، وأجازها البعض الآخر، وخرج الإمام الفخر الرازي التعليل بمحل الحكم على العلة القاصرة، وصحح التعليل به، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، لأنه لا يستبعد أن يقول الشارع حرمت الربا في البر لكونه براً، أن يعرف كون البر مناسباً لحرمة الربا2. وأجازه الآمدي، وقال: لأنه لا بد من استلزام محل الحكم لحكمة داعية إلى ذلك الحكم كاستلزام الأوصاف العامة لمحل الأصل والفرع3. وقد بين القرافي الفرق بين العلة القاصرة، ومحلها ووجه المناسبة بقوله: "إن الفرق بين المحل والعلة القاصرة من حيث الصورة والمعنى، لا من حيث جواز التعليل، أن العلة القاصرة قد تكون وصفاً اشتمل عليه محل النص لم يوضع اللفظ له، والمحل ما وضع اللفظ له كوصف البرية مثلاً، إذا قيل: إن البر اشتمل على نوع من الحرارة والرطوبة لاءم به مزاج الإنسان ملاءمة لا تحصل بين الإنسان والأرز، فإن الأرز حار يابس يبساً شديداً ينافي مزاج الإنسان، فحرم الربا في البر، ومنع بدل واحد منه باثنين لأجل هذه الملاءمة الخاصة التي لا توجد

_ 1 انظر: التقرير والتحبير 3/170، وانظر تفاصبله فيه، وفي تيسير التحرير 4/6. 2 انظر: المحصول ص 332 - خ -. 3 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/185.

في غير البر، فهذه علة قاصرة لا محل، وأما وصف البرية بما هي برية فهو المحل. فلذلك حسن من الإمام تخريج التعليل بالمحل على التعليل بالعلة القاصرة، ولو كان شيئاً واحداً لم يحسن التخريج، ولا التعريف، "قال: "إذا ظهر لك الفرق بينهما، فكل ما يذكر في العلة القاصرة من الحجاج بين الفريقين نفياً وإثباتاً، فهو بعينه يذكر ههنا"1. الثانية: أن تكون جزء المحل الخاص به دون غيره، كتعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج منهما، إذ الخروج جزء معنى الخارج، فإن معناه ذات متصفة بالخروج. الثالثة: أن تكون وصف المحل الخاص به دون غيره، كتعليل الربا في الذهب والفضة، بكونهما أثمان الأشياء، وهذا الوصف لازم لهما في غالب أقطار الدنيا. فخرج بالخاص واللازم غيرهما، فلا ينتفي التعدي عنه، لكونه علة غير قاصرة، كتعليل الحنفية النقض فيما ذكر، وهو الخارج من السبيلين بخروج النجس من البدن الشامل لما ينقض عندهم من الفصد ونحوه من كل نجس، فالخروج من البدن جزء معنى الخارج، وهو غير خاص بالخارج من السبيلين، لصدقه بخروج الدم بالفصد والرعاف، وغيرهما2. وقد عقد صاحب مراقي السعود فائدة التعليل بها، وصورها بقوله: وعللوا بما خلت من تعديه ... ليعلم امتناعه والتقويه منها محل الحكم أو جزء وزد ... وصفاً إذا كلاً لزومياً يرد3

_ 1 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 406. 2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/283 - 284، ونشر البنود 2/141 - 142، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/4 - 5. 3 انظر: نشر البنود 2/139 - 140.

المبحث السادس تعليل الحكم بعلتين أو علل كل علة مستقلة اتفق الأصوليون على جواز تعليل الحكم الواحد بعلل في كل صورة بعلة، واختلفوا في جواز تعليله في صورة واحدة بعلتين أو أكثر معاً على مذاهب: الأول: أنه لا يجوز مطلقاً، سواء كانت منصوصة أو مستنبط، وهو اختيار الآمدي، وعزاه للقاضي أبي بكر، وإمام الحرمين. الثاني: أنه يجوز مطلقاً، وبه قال الجمهور1. الثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة، وبه قال القاضي أبو بكر، وابن فورك2، والإمام الفخر الرازي، وعزاه الآمدي للغزالي3. الرابع: بجوز في المستنبطة دون المنصوصة، حكاه ابن الحاجب في مختصره، وقال ابن السبكي: لم أره لغيره4. الخامس: ذكر ابن السبكي والمحلى أن إمام الحرمين أجازه عقلاً، ومنعه شرعاً5. أدلة المذهب الأول: استدل أهل المذهب الأول القائلون بالمنع مطلقاً بما يأتي:

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/218، والتقرير والتحبير 3/181. 2 هو: محمد بن الحسن بن فورك، المكنى بأبي بكر، الفقيه المتكلم الأصولي، الشافعي، كانت له مناظرات تدل على رسوخه في العلم وتمكنه من الحجة، له مؤلفات في أصول الفقه، وأصول الدين، ومعاني القرآن توفي سنة 406هـ بالحيرة. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/226، الأعلام للزركلي 6/313. 3 انظر: الأحكام للآمدي 3/218، التقرير والتحبير 3/181، المختصر مع شرحه 2/225. 4 انظر: المختصر مع شرحه 2/223، المحلى مع حاشية العطار 2/286. 5 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/286.

الأول: أنه لو جاز تعليل الحكم الواحد بعلتين كل منهما علة مستقلة، لزم التناقض، لأن كل واحدة تكون مستقلة، وغير مستقلة؛ لأن معنى الاستقلال ثبوت الحكم بكل واحدة منهما من غير حاجة إلى الأخرى، والفرض أنه لا يثبت الحكم بها، لفرض استقلال غيرها بثبوته، فيلزم التناقض، لثبوت الحكم بكل، وعدم ثبوته به، لثبوته بالآخر1. واعترض عليه بمنع لزوم الأمرين: الاستقلال، وعدمه، ووجوب الحكم بهما وعدمه، وذلك لأنه إنما يلزم لو كان معنى الاستقلال ما ذكر، وليس كذلك، بل معناه كونها بحيث إذا وجدت منفردة ثبت بها الحكم، وهذه الحيثية ثابتة للعلية في الترتيب والمعية، كما هي ثابتة لها في الانفراد، فلا يلزم عدم الاستقلال أصلاً، كما لا يلزم في صورة الاجتماع الثبوت بها، وعدمه، لأن الثبوت حينئذ بهما جميعاً، فهي مستقلة في هذه الحالة بمعنى أنها بحيث إذا وجدت منفردة ثبت الحكم بها، وبذلك يندفع عدم الاستقلال2. "وكذلك لزوم التناقض عند الاجتماع، فإن انتفاء الاستقلال عند الاجتماع، لا ينافي الاستقلال على تقدير الانفراد، وثبوت الاستقلال على تقدير الانفراد أمر ثابت عند الاجتماع"3. كما اعترض عليه القرافي "بأن علل الشرع معرفات، لا مؤثرات، والمحال المذكور إنما يلزم في المؤثرات، ويجوز اجتماع معرفين فأكثر على مدلول واحد كما يعرف الله تعالى وصفاته العلية بكل جزء من أجزاء العالم"4.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/118، التقرير والتحبير 3/181. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/224، التقرير والتحبير 3/182 - 183. 3 انظر: العضد على المختصر 2/225، وانظر تفاصيل ذلك كله في المرجع نفسه 2/224 - 225، وحاشية السعد على العضد 2/225، والتقرير والتحبير 3/183. 4 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 405.

الثاني: قالوا: جواز تعدد العلل يجيز اجتماع المثلين، لجواز اجتماعهما في محل واحد، وكل منهما يوجب ما يوجبه الآخر، فموجباهما مثلان، وقد اجتمعا في محل واحد، واجتماع المثلين يوجب اجتماع النقيضين؛ لأن المحل يستغني في ثبوت حكمهما له بكل واحد منهما عن الآخر، فيكون مستغنياً عن كل واحد منهما غير مستغن عنهما كعلمين لمعلوم واحد في محل ثبت له حكم العلم، وهو العالمية، والحال أنه حكم واحد لا تعدد فيه، فيكون في العالمية يحتاج إلى كل من العلمين، مستغنياً عنه بالآخر، فهذا لازمه مطلقاً. قالوا: وإذا فرض الترتيب بحصول أحدهما بعد الآخر، لزم تحصيل الحاصل أيضاً1. وأجيب عنه: بأنه إنما يلزم ذلك لو كانت العلة المستقلة عقلية، لأنها هي التي تفيد وجود أمر، وأما العلة الشرعية المفيدة للعلم بالوجود، فلا يلزم التناقض في تعددها واجتماعها، لأنها بمعنى الدليل، واجتماع أدلة على مدلول واحد جائز2. وقد يجاب عنه أيضاً بما سبق من أنه في حالة الاجتماع يكون كل جزء علة، والعلة المجموع، وعلى تقدير الاستقلال قد يتخلف عنه المعلول لمانع هو الحصول بعلة أخرى3. الثالث: اشتغال الأئمة بالترجيح في علل الربا أهي: الطعم، أو الكيل، أو القوت، يدل على استقلال كل بالعلية؛ إذ لو جاز تعدد العلل لقالوا به، ولم يشتغلوا بالترجيح لتعيين واحدة منها، ونفي ما سواها4. وأجيب عنه: بأن تعلق الأمة بها لم يكن للترجيح، وإنما كان لتعيين ما يصلح علة مستقلة، وإبطال التعليل بما سواها، وعلى فرض التسليم، فالإجماع على أن

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، وفصول البدائع ص323. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، وفصول البدائع ص 324. 3 انظر: حاشية السعد على العضد 2/225. 4 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، وفصول البدائع ص 324.

العلة إحدى المذكورات، ولولا الإجماع على هذا لوجب جعل كل واحدة منها جزء علة، ومنع المصير إلى الترجيح، لأن المفروض أنهم يرون صلاحية كل للعلية، ولا دليل على إلغاء واحدة منها، فوجب اعتبارها جميعاً، وذلك قول بالجزئية، ليكون الكل داخلاً في العلية، لا سيما عند عدم ظهور وجه الترجيح1. الرابع: أن تعليل الحكم بعلتين يفضي إلى نقض العلة، وهو قادح في العلة، بيان ذلك أنه إذا وجدت إحداهما ترتب عليها الحكم، فإذا وجدت الأخرى بعد ذلك لم يترتب عليها شيء، فقد وجدت العلة الثانية من غير أن يترتب عليها حكمها، لتقدم ترتبه على الأخرى، فيلزم وجود العلة بدون وجود مقتضاها، وهو نقض للعلة2. وأجيب عنه: بأن النقض لقيام المانع لا يقدح في العلة، هذا إذا كانتا منصوصتين، أما إذا كانتا مستنبطتين، فلا سبيل إلى التعليل بهما، لأن الشرع إذا ورد بحكم مع أوصاف مناسبة، وجب اعتبار كل واحد منها جزء علة لا علة مستقلة، لأن الأصل عدم الاستقلال حتى يرد من الشرع ما يدل على استقلال واحد منها، فيستقل3. أدلة المذهب الثاني: واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بالجواز مطلقاً بما يأتي: الأول: أنه لو لم يجز، لم يقع ضرورة، وقد وقع، فإن البول واللمس والمذي والرعاف والغائط أمور مختلفة الحقيقة، وهي علل مستنبطة للحدث، وكل واحدة منها توجب الحدث، وإيجاب الحدث بكل واحدة منها بانفرادها دليل الاستقلال،

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/225، التقرير والتحبير 3/183، فصول البدائع ص 324. 2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 405. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 405.

وكذلك القتل العمد العدوان والردة والزنا بعد الإحصان، كل واحدة منها علة مستقلة تحل القتل، لثبوت القتل بكل واحدة منها1. الثاني: "أنه لو امتنع تعدد العلل، لامتنع تعدد الأدلة، لأن العلل الشرعية أدلة، لا مؤثرات"2. اعترض على ما استدلوا به بما يأتي: أما الأول: فقد اعترض عليه الآمدي بما ملخصه أن اتحاد الحكم ممنوع، بل هو متعدد شخصاً، وإن اتحد نوعاً، ولذا فإنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بعد العودة عن الردة إلى الإسلام، انتفاء الإباحة في باقي الأسباب، ولا من انتفاء الإباحة بسبب إسقاط القصاص بعفو ولي الدم انتفاؤها في باقي الأسباب، وأيضاً فإنه بدل على تعدد الحكم أن الإباحة بجهة القتل العمد العدوان غيرها في الباقي، لأنها في القتل العمد العدوان حق للآدمي خالص، ولذلك يمكن إسقاطه مطلقاً. وأما بجهة الزنا والردة فحق الله تعالى خالص دون الآدمي، وذلك غير متصور في شيء واحد، ثم على تقدير الاستيفاء يقدم حق الآدمي، لأن حقه مبني على الشح والمضايقة، أما حق الله تعالى فهو مبني على التسامح والمساهلة من حيث أن الآدمي يتضرر بفوات حقه دون الباري تعالى. وأما المسّ واللمس وباقي الأسباب في الأحداث المترتبة عليها متعددة على رأي لنا، وعلى هذا فلو نوى رفع حدث واحد منها، لارتفع الباقي، فأحكامها أيضاً متعددة، لا أنها حكم واحد، والنزاع إنما هو في تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين3. وأجيب عن هذا الاعتراض: بأنه لو تعددت الأحكام ثم، لكان تعددها

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/224، التقرير والتحبير 3/181،تيسير التحرير 4/23. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/224. 3 انظر: الأحكام في أصول الأحكام 3/219 فما بعدها.

بالإضافات إلى أدلتها، إذ ليس ثم ما به الاختلاف إلا ذلك، وتعدد العلل بالإضافات باطل، لأن إضافة الحكم إلى أحد الدليلين تارة، وإلى الآخر تارة أخرى لا توجب تعدداً في ذات المضاف، وهو الحكم كما في الحدث في المثال الأول، وإلا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط مثلاً، فكان يتصور أن يرتفع أحد الأحداث بالوضوء الواحد ويبقى غيره1. وأورد صاحب التحرير وشارحاه على هذا الجواب أنَّ وجوب الوضوء لكل، وارتفاع أحدهما مرة دون الآخر إنما هو إلى الشرع، فجاز أن يعتبر التلازم بين المسببات في الارتفاع كالحدث المسبب عن البول والمذي والرعاف مثلاً. فإذا ارتفع أحدها لا يبقى الآخر، ولا يعتبر التلازم في مسببات أخرى كالقتل المسبب عن الردة، والقتل العمد العدوان، وعن زنى المحصن، إذا ارتفع أحدها ولا يرتفع الآخر، فثبوت ارتفاع بعض هذه الأحكام دون بعض يكفي دليلاً على تعدد الأحكام في تلك الصورة بسبب خصها، لا في غيرها كما في القتل، لأن القتل فيها كما تقدم منه ما هو حق الله تعالى، يجب على الإمام، ولا يصح فيه العفو ولا البدل، والآخر هو قتل القصاص حق للعبد بجوز له بإذن الإمام، ويصح فيه العفو والبدل2. ثم ذكروا ما تقدم عن الآمدي من منع كون الحكم في المذكورات واحداً بالشخص، بل هو واحد بالنوع، واستظهروا بعد الواحد بالشخص من الشرع، واستدلوا على ذلك بأن شخصية متعلق الحكم كماعز3 مثلاً لا توجب تشخص الحكم، لأن ثبوته في ذلك لواحد إنما هو باعتبار اندراجه في كلى كالزاني، أما ما يوجب شخصية الحكم فإنما يكون مخصوصاً بمتعلق خاص بعينه شرعاً كشهادة

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/224، التقرير والتحبير 2/183، تيسير التحرير 4/23 فما بعدها. 2 انظر: التقرير والتحبير 3/182، تيسير التحرير 4/23 فما بعدها. 3 هو ماعز بن مالك الأسلمي، ويقال: اسمه غريب، وماعز لقبه، معدود من المدنيين، كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً بإسلام قومه. انظر: الاستيعاب بذيل الإصابة 9/298 - 299، الإصابة 9/32 - 33.

خزيمة1 في الاكتفاء بها وحدها من حيث هو متعلقها، ولا تعدد في مثل هذا2. غير أن ما ذكروه مدفوع بما تقدمت الإجابة به عما أورده الآمدي آنفاً من أنه لو تعددت الأحكام ثم لكان تعددها بالإضافات الخ. واعترض على الثاني: بأن الأدلة الباعثة أخص من مطلق الأدلة، ولا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم3. لكن يرد عل هذا أن العلل الشرعية غير موجدة ولا عادية، وإنما هي أمارات اعتبرها الشارع للإقدام على الإحكام، ولذا جاز تواردها ولو على شخص، وإذا جاز فلا تدافع، ولا ترجيح4. أدلة المذهب الثالث: استدل أهل المذهب الثالث القائلون بجوازه في المنصوصة دون المستنبطة بما يأتي: أما في المنصوصة، فقالوا: "إن لصاحب الشرع أن يعين الحكم بأكثر من علة، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولأن المصالح قد تقتضي ذلك كما في الصغر والبكارة، فينص الشارع عليهما، كما له أن ينص على استقلال كل واحدة منهما تحصيلاً لتلك المصلحة وتكثيراً لها"5. وأما في المستنبطة، فقالوا: "إنه إذا اجتمعت الأوصاف التي يصلح كل منها للعلية، كما إذا احتمل أن يكون كل واحد علة مستقلة وأن يكون كل واحد منها

_ 1 هو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري، الأوسي من السابقين الأولين، شهد بدراً وما بعدها، ومات بصفين مع علي رضي الله عنهما. انظر: الإصابة 3/93 فما بعدها - ط - الأولى، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر القصة فيه، وفي الاستيعاب 3/197 بذيل الإصابة، أبي داود 2/276 - 277. 2 انظر: التقرير والتحبير 3/183، تيسير التحرير 4/24 فما بعدها. 3 انظر: العضد على المختصر 2/224، التقرير والتحبير 3/182. 4 انظر: فصول البدائع في أصول الشرائع ص 323. 5 انظر: شرح تنقيح الفصول ص404، وفصول البدائع ص 324.

جزء علة، فالحكم بترجيح أحد الاحتمالين على الاحتمال الآخر تحكم، لقيام الاحتمالين عقلاً، ولعدم وجود نص يدل على تعيين استقلال بعضها دون بعض، وإلا عادت منصوصة، وهو خلاف المفروض. وأجيب عنه بمنع التحكم، لإمكان استنباط الاستقلال بالعقل، وذلك أنه كما ثبت الحكم بها مجتمعة ثبت بها منفردة، فيعلم أن ثبوت الحكم بها منفردة دليل استقلال كل واحدة منها كما يوجد ذلك في المسّ وحده واللمس وحده في محلين، ويوجد بثبوت الحدث معهما، فعلم أن كل واحد منهما علة، وإلا لما ثبت الحكم في محل إفرادهما، فيحكم بثبوته بهما عند الاجتماع"1. أدلة المذهب الرابع المقتضي جوازه في المستنبطة دون المنصوصة: استدل له بأن المنصوصة قطعية بتعيين الشارع، فهي باعثة على الحكم، لتعيين الشارع إياها له، وذلك ينفي احتمال غيرها للعلية كلا وجزءاً للمنافاة بينهما. وأما المستنبطة فهي وهمية غير قطعية، وقد يتساوى الإمكان في كون العلة المجموع، أو الجزء، ويترجح كل بمرجح، فيغلب على الظن علية كل منهما، فيجب اتباعه. وأجيب عنه: بمنع القطع في المنصوصة المراد بها السمعية، لجواز أن تكون دلالتها ظنية، وأن يكون إسنادها ظنياً، وإن سلم فلا يمنع القطع بالاستقلال، لجواز تعدد البواعث، لأن الحكم الواحد قد يكون محصلاً لمصالح متعددة، دافعاً لمفاسد مختلفة2. دليل المذهب الخامس، المقتضي جواز ذلك عقلاً، ومنعه شرعاً: ودليل ذلك ما جاء في البرهان ونصه: قال: "تعليل الحكم الواحد بعلتين

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/226، التقرير والتحبير 3/184. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/226، التقرير والتحبير 3/184.

ليس ممتنعاً عقلاً وتسويغاً، ونظراً إلى المصالح الكلية، ولكنه يمتنع شرعاً، وآية ذلك أن إمكانه من طريق العقل في نهاية الظهور، فلو كان هذا ثابتاً شرعاً لما كان يمتنع وقوعه على حكم النادر، والنادر لا بد أن يقع على مرور الدهور، فإذا لم يتفق وقوع هذه المسألة، وإن لم يتشوف إلى طلبه طالب، لاح كفلق الصبح أن ذلك ممتنع شرعاً، وليس ممتنعاً عقلاً"1. ثم ادعى لتصحيح دعواه عدم وقوع فيما تقدم ذكره من أسباب الحدث والقتل، أن الأحكام متعددة لانفكاك الجهة، لأن الحكم مستند إلى واحد منها، غير الحكم المستند إلى الآخر، إذ قد يوجد حد القتل بالقصاص دون القتل بالارتداد، وبالعكس، كما يوجد حدث اللمس دون حدث المسّ، وبالعكس، هذا على أنه لو ألزم بأن جواز الانفكاك في الوجود يوجب الجواز في العدم، فيجب جواز أن يرتفع أحدهما ويبقى الآخر، فربما التزمه على ما ذهب إليه البعض من أنه إذا نوى أحد أحداثه لم يرتفع الباقي"2. وأجيب عنه بمنع عدم الوقوع، فإن ما ذكر من أسباب الحدث والقتل يفيد الوقوع والتعدد، وما ادعاه من تعدد الحكم يحتاج في إثباته إلى دليل، فإن اكتفى بتجويز كون الحكم متعدداً كما ذهب إليه البعض، لم يكفه لأنه في معرض الاستدلال على امتناع تعدد العلل، وعلى أن الحكم في صورة تعدد العلل متعدد. وما ادعاه من أنه قد ينتفي أحد الحكمين، ويبقى الآخر، فقد تقدم اقتصاره على القتل لتحقق تعدد المستحق على ما تقدم توجيهه، وانتفاء الانفكاك في الحدث ظاهر، ولذا فالصحيح أن من نوى رفع الحدث مع تعدد الأسباب، صح وضوءه3.

_ 1 انظر: البرهان 2/832، ط الأولى سنة 1399، الناشر أمير دولة قطر. 2 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/226. 3 انظر: المختصر مع شرحه 2/226 - 227، التقرير والتحبير 3/184.

اتفق القائلون بتعدد العلل المستقلة لحكم واحد على أنها إذا وقعت مرتبة، فإن الحكم بالأولى. وإذا وقعت دفعة كما بال، وتغوط، ومسّ معاً، فقيل: العلة المجموع، وكل جزء علة. وقيل: العلة واحدة لا بعينها، واختار ابن الحاجب أن كل واحدة علة مستقلة. واستدل القائل بأن العلة المجموع، بأنه لو استقل كل منها بالعلية لزم اجتماع المثلين. وهذا الدليل تقدم تقريره، والجواب عنه في الكلام على الدليل الثاني، من أدلة المانعين تعدد العلل حيث قالوا في تقرير الدليل: إن جواز تعدد العلل، يجيز اجتماع المثلين، واجتماع المثلين يوجب اجتماع النقيضين. وقد أجيب عنه بما مر ذكره من لزوم ذلك في العلة العقلية، دون الشرعية. واستدل القائلون بأن العلة أحد الأوصاف لا بعينه، بأنه لولا ذلك لزم التحكم في تعيين ما يثبت به الحكم دون غيره، أو يلزم كون كل علة وكلاهما باطل، فتعين أن تكون العلة أحد الأوصاف لا بعينه. ويجاب عنه بأنه يثبت بكل دفعة، وذلك لا ينافي الاستقلال، لثبوته عند الانفراد، كما يثبت المدلول بالأدلة السمعية مع استقلال كل دليل بإثباته حتى لو انفرد أحد الأدلة لم يمتنع إثباته بالأخرى1. واستدل ابن الحاجب على ما اختاره بما يأتي: الأول: أنه لو لم تكن كل واحدة علة مستقلة، لكانت كل واحدة جزء علة، وهو باطل، لثبوت الاستقلال.

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/226 - 227، والتقرير والتحبير 3/184.

الثاني: أنه لو امتنع كون كل علة مستقلة، لامتنع اجتماع الأدلة السمعية على مدلول واحد، وذلك لأن العلل الشرعية أدلة، واللازم منتف، للاتفاق على اجتماع الأدلة الشرعية على مدلول واحد1. والذي يترجح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من جواز تعدد العلل الشرعية لحكم واحد، وذلك لوروده كما في البول والغائط والمسّ، واللمس، وكما في وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وانقطاع دم الحيض، لاجتماع هذه العلل على حكم واحد كما هو واضح، مع أن كل واحدة منها توجب الحكم بانفرادها، وذلك دليل الاستقلال، ولأنه لو نوى رفع أحد هذه الأحداث، لارتفع الباقي، كما في اجتماع الأدلة السمعية على المدلول الواحد مع حصوله بأحدها عند تخلف غيره. وما استدل به الآمدي وغيره على أن الحكم متعدد شخصاً، وإن اتحد نوعاً هو ما أوردوه على مثال إباحة القتل بالردة عن الإسلام، والقتل العمد العدوان، والزنا بعد الإحصان - أعاذنا الله منها - من أنه لا يلزم من انتفاء إباحة القتل بالعود عن الردة إلى الإسلام، انتفاء الإباحة في الباقي وبالعكس، وهو ظاهر، لأن الإباحة في جهة القتل العمد العدوان حق للآدمي بجهة الخلوص، وفي الباقي حق لله تعالى الخ ما تقدم تقريره، والجواب عنه مما جعلوه دليلاً على تعدد الحكم. فإن ما أوردوه على هذا المثال، لا يكفي دليلاً على تعدد الحكم، وإن سلم لهم، فإنه لا يرد على ما ذكرت من الأمثلة التي تعددت العلل فيها لحكم واحد. ويدل على هذا ما ذكره الغزالي ونصه: قال: "اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين، والصحيح عندنا جوازه، لأن العلة الشرعية علامة، ولا يمتنع نصب علامتين على شيء واحد، وإنما يمتنع هذا في العلل العقلية، ودليل الجواز

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/227.

وقوعه، فإن من لمس، ومسّ وبال في وقت واحد ينتقض وضوءه، ولا يحال على واحد من هذه الأسباب، ومن أرضعته زوجة أخيك وأختك أيضاً، أو جمع لبنهما، وانتهى إلى حلق المرضع في لحظة واحدة، حرمت عليك، لأنك خالها وعمها، والنكاح فعل واحد، وتحريمه حكم واحد، ولا يمكن أن يحال على الخئولة دون العمومة، أو بعكسه، ولا يمكن أن يقال: هما تحريمان، وحكمان، بل التحريم له حد واحد، وحقيقة واحدة، ويستحيل اجتماع مثلين. نعم لو فرض رضاع ونسب، فيجوز أن يرجح النسب لقوته، أو اجتمع ردة وعودة وحيض، فيحرم الوطء، فيجوز أن يتوهم تعديد التحريمات، ولو قتل وارتد، فيجوز أن يقال: المستحق فلان، ولو قتل شخصين فكذلك ولو باع حراً بشرط خيار مجهول ربما قيل: علة البطلان الحرية دون الخيار، فهذه أوهام ربما تنقدح في بعض المواضع، وإنما فرضناه في اللمس والمسّ، والخئولة والعمومة لدفع هذه الخيالات. فدل هذا على إمكان نصب علامتين على حكم واحد، وعلى وقوعه أيضاً"1. والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: المستصفى 2/342 - 343، بأعلاه فواتح الرحموت.

المبحث السابع تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة الوصف الذي يكون علة لحكمين فأكثر إما إن يكون: بمعنى الإمارة، أو بمعنى الباعث. فإن كان بمعنى الإمارة، فحكى ابن الحاجي الاتفاق على جوازه1، كالغروب لجواز الإفطار، ووجوب صلاة المغرب. وقال الآمدي: "فإن كان بمعنى الأمارة، فغير ممتنع عقلاً، ولا شرعاً نصب أمارة واحدة على حكمين مختلفين، وذلك مما لا نعرف فيه خلافاً كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الفجر أمارة على وجوب الصوم والصلاة ونحوه"2. وصرح صاحب التحرير وشارحه بأنه ثابت بلا خلاف، وأن تسميته علة اصطلاح3، هذا إذا كان بمعنى الأمارة. أما إذا كان بمعنى الباعث، فللعلماء فيه ثلاثة مذاهب: الأول: المنع. الثاني: جواز تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة، وبه قال الفخر الرازي، وهو اختيار ابن الحاجب، والآمدي، وابن السبكي، وصاحب التحرير وشارحه4. الثالث: الجواز إن لم يتضادا، أما إذا تضادا فلا يجوز5.

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/228. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/221. 3 انظر: التقرير والتحبير شرح التحرير 3/184. 4 انظر: المحصول ص 340 - خ -، والمختصر مع شرحه 2/228، الأحكام للآمدي 3/220، جمع الجوامع مع شرحه للمحلى وحاشية العطار 2/289، والتقرير والتحبير 3/184، تيسير التحرير 4/29. 5 انظر: المحلى مع حاشية العطاؤ 2/289.

دليل المذهب الأول: استدل القائل بالمذهب الأول، القائل بالمنع بأن في جواز تعدد الحكم بعلة واحدة بمعنى الباعث تحصيل الحاصل، لأن المصلحة المقصودة من شرع الحكم الذي بعثت عليه العلة حاصلة بأحد الحكمين، فإذا حصل الحكم الآخر حصلها مرة أخرى، وفي هذا تحصيل الحاصل1. وأجيب عنه بمنع تحصيل الحاصل، لجواز أن تحصل بالحكم الآخر مصلحة أخرى لم تحصل بالأول، كما في السرقة المترتب عليها القطع زجراً عنها، للسارق ولغيره، وغُرم المسروق جبراً لما تلف من المال. أو أن المصلحة المقصودة، لا تحصل إلا بالحكمين كما في الزنا المثبت للجلد والتغريب، ليحصل بهما الزجر التام2، وبهذا يتضح منع تحصيل الحاصل. دليل المذهب الثاني: واستدل أهل المذهب الثاني القائلون بالجواز بأنه لا يمتنع أن يناسب الوصف الواحد لحكمين، فأكثر، كما في شرب الخمر، فإنه مناسب للتحريم، ولوجوب الحد، والحيض، فإنه مناسب لوجوب الفطر في رمضان وترك الصلاة، وحرمة مسّ المصحف، ودخول المسجد، وغيرها3. وبهذا ظهر اشتمال الوصف الواحد على مصالح متعددة، وأن الحاصل بأحدها غير الحاصل بالآخر. دليل المذهب الثالث: قالوا: يجوز تعليل حكمين بعلة واحدة، إن لم يتضادا كالسرقة لوجوب القطع والغرم.

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/228، والتقرير والتحبير 3/184، الأحكام للآمدي 3/221. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/228، المحلى مع حاشية العطار 2/289، التقرير والتحبير 3/184. 3 انظر: الأحكام للآمدي 3/221، المحصول ص 340 - خ -.

أما إذا تضادا، فلا يجوز كالتأبيد لصحة البيع، وبطلان الإجارة؛ لأن الشيء الواحد لا يناسب المتضادين1. وأجيب عنه بأن محل المنع هو ما إذا اتحد المحل، أما إذا اختلف المحل كما في المثال المذكور، فلا يمتنع، ويدل لذلك ما صرح به الشيخ حسن العطار ونصه قال: "لأن شرط التضاد اتحاد المحل، والبيع لا يضاد الإجارة، لأن البيع نقل الذوات، والإجارة نقل المنافع، فلا يلزم من تصحيح الأول تصحيح الثاني، وبهذا تعلم رد قوله - يعني الجلال المحلى - لأن الشيء الواحد الخ، لأن التناسب للمتاضدين2 من جهتين مختلفتين"3.

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/289. 2 الضدان أمران وجوديان، لا يتوقف إدراك أحدهما على الآخر، كالسواد والبياض، والحركة والسكون. وضابطهما أنهما لا يجتمعان، ولكنهما قد يرتفعان معاً وقد يرتفع أحدهما ويبقى الآخر، وارتفاعهما إنما يكون بضد ثالث، أو بانعدام الجرم. انظر: آداب البحث والمناظرة القسم الأول ص 27. 3 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/289.

المبحث الثامن تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عنه اختلف الأصوليون في تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة عنه في الوجود على مذهبين: الأول: أنه جائز بناء على تفسير العلة بالمعرف1. الثاني: أنه غير جائز، وممن قال به: ابن الحاجب، وابن السبكي، وصاحب التحرير، وهو اختيار الآمدي. واستدلوا على ذلك بأن العلة إما أن تكون بمعنى الباعث، أو الأمارة المعرفة، فإن كانت بمعنى الباعث لزم ثبوت حكم الأصل بلا باعث، وهو محال، أو أنه ثبت بباعث غير العلة المتأخرة عنه2. وأيضاً فإن تأخر العلة عن الحكم يدل على أن الحكم لم يشرع لها3، وإن كانت بمعنى الأمارة المعرفة لزم منه أيضاً تعريف المعرف، والمفروض أن الحكم عرف قبلها لسبقه عليها في الوجود، وتعريف المعرف ومحال4. قال العطار: "لكن الثاني إنما يتم إذا فسر المعرف بأنه الذي يحصل به التعريف، أما إذا فسر بما من شأنه التعريف فلا، كما لا يتم قول المحلى "بناء على تفسيرها بالمعرف" إلا بتفسير المعرف بما من شأنه التعريف، لا بتفسيره بالذي يحصل به التعريف، إذ سبق إحدى العلتين بالتعريف مانع من حصول التعريف بما بعده، لأنه تحصيل للحاصل، بخلاف تفسير المعرف بما من شأنه التعريف،

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/290. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/223 فما بعدها، المختصر مع شرحه 2/228، المحلى مع حاشية العطار 2/289، التقرير والتحبير 3/184، 185. 3 انظر: التقرير والتحبير 3/184. 4 انظر: الأحكام للآمدي 3/224.

لأن التعريف المتأخر حينئذ لمتقدم جائز وواقع، إذ الحادث يعرف بهذا المعنى القديم، كالعالم لوجود الصانع"1. لكن يرد على هذا ما صرح به العضد من أن تفسيرها بغير الباعث غير المبحث2، وقد مثلا لذلك بمثالين: الأول: كما يقال في إصابة عرق الكلب، إصابة عرق حيوان نجس، فيكون نجساً كلعابه، فيمنع المعترض كون عرق الكلب نجساً، فيجيب المستدل بأنه مستقذر كاللعاب، فيكون نجساً، فإن استقذاره إنما يحصل بعد الحكم بنجاسته3. فإن قيل: الاستقذار لا يدل على النجاسة كما في لعاب الإنسان. أجيب عنه بأن المراد الاستقذار الشرعي، مع أن المقصود التمثيل4، لكن يرد على هذا ما ذكره صاحب التحرير وشارحه من أن ما ادعى من تأخر الاستقذار عن الحكم بالنجاسة غير لازم، لجواز المقارنة بأن يثبتا معاً5. الثاني: تعليل إثبات الولاية للأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون قياساً على الصغير، لأن ولاية الأب على الصغير ثابتة قبل عروض الجنون له بالصغر، هكذا مثل الآمدي وصاحب التحرير6. وقال صاحب التحرير وشارحه: "أن هذا المثال متفق عليه"7. وأما عضد الدين فقد عبر عنه بما نصه: "كأن يعلل سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارضي للولي"8، غير أنه اعترض عليه صاحب التقرير

_ 1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/289. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/228. 3 انظر: العضد على المختصر 2/228، المحلى مع حاشية العطار 2/290. 4 انظر: تقريرات الشربيني على هامش العطار 2/290. 5 انظر: التقرير والتحبير 3/185. 6 انظر: التقرير والتحبير 3/185. 7 انظر: التقرير والتحبير 3/185، والأحكام للآمدي 3/223. 8 انظر: العضد على المختصر 2/228.

والتحبير بأن ما عبر به عكس المراد، فإن ظاهره أن الولاية كانت ثابتة للولي على الصغير، وإنما سلبها عنه عروض جنونه، وليس في هذا تأخر العلة عن حكم الأصل بل تقدمها عليه. قال: "فيستقيم أن يتفرع عليه سلب ولايته عن البالغ المجنون بتزويجه بعلة جنونه نقسه قياساً"1. وقال التفتازاني مصوباً لتعريف الآمدي السابق وغيره، وموجهاً لعبارة العضد: وأما المثال الثاني فكلام الآمدي وجميع الشارحين هو أن يعلل - سلب - ولاية الأب على الصغير الذي عرض له الجنون بالجنون، فإن الولاية ثابتة قبل عروض الجنون بالصغر، وهذا في غاية الظهور. وأما عبارة الشارح، وهو أن يعلل سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض للولي، فغاية ما أدى إليه نظر الناظرين في هذا الكتاب أنه وضع الظاهر موضع المضمر، والمعنى سلب الولاية عن الصغير بالجنون العارض له والفرع في الأول إثبات الولاية عن البالغ، المجنون، وفي الثاني سلبها عنه لجنونه. والأقرب أن يجعل سلب الولاية عن الولي الذي عرض له الجنون كالأب مثلاً فرعاً، وعن الصغير المجنون أصلاً، والمعنى كما يعلل سلب الولاية عن الصغير المجنون بالجنون الذي هو عارض في الولي البالغ المقيس على الصغير المجنون"2.

_ 1 انظر تفاصيله في التقرير والتحبير 3/185. 2 انظر حاشية السعد على العضد 2/228.

المبحث التاسع يشترط في صحة العلة أن لا تعود على الأصل بالإبطال يشترط في صحة العلة أن لا تعود على الأصل الذي استنبطت منه بالإبطال، لأنه أصلها، إذ التعليل فرع الثبوت، وإبطال الأصل يستلزم إبطال فرعه. وذلك كتعليل الحنفية وجوب الشاة في الزكاة بدفع حاجة الفقراء المفضي لجواز دفع قيمتها، فإنه يفضي إلى عدم وجوبها على التعيين، بالتخيير بينها، وبين قيمتها1. فالأصل وجوب الشاة، وقد استنبطوا منه أن العلة هي دفع حاجة الفقراء، فاقتضى التخيير بين دفع الشاة، وبين قيمتها، فالقول بالتخيير إبطال لوجوب دفع الشاة على التعيين دون القيمة الذي هو الأصل. وكتعليلهم الحكم المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" 2، بالكيل مع أن من حكمه حرمة ذلك في القليل من الطعام الذي لا يكال لعمومه، والتعليل بالكيل يخرج القليل الذي لا يكال من حكم حرمة التفاضل. وفي ذلك إبطال لحكم الأصل الذي هو حرمة بيع الطعام متفاضلاً قليلاً كان أو كثيراً3. وللحنفية عن هذين المثالين إجابات نذكر منها ما يأتي: أما عن الأول فقد أجابوا عنه بما عزاه لهم المطيعي، ونصه: "أجاب الحنفية بأننا نسلم أن استنباط العلة المبطلة للنص لا يجوز، لكن العلة المستنبطة هنا ليست مبطلة، لأن الذي غير النص هو نص آخر، وهو ما سنذكره لاستنباط

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/228، الأحكام للآمدي 3/226، المحلى مع حاشية العطار 2/290. 2 انظر صحيح مسلم 5/47، ولفظ الحديث هو: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل ... " الحديث. 3 انظر: المختصر مع شرحه 2/228.

العلة، فالنص هو الذي جعل المراد من الشاة المالية دون الصورة، لأن إيجاب الشاة يتضمن جواز بدلها بالأداء، لأن المنظور في أداء الزكاة هو المالية دون الصورة، لأنها لدفع حاجات الفقراء، والقيمة أولى به، وقد دل عليه جواز الإتيان بأداء القيمة بدلاً منها، وأن المنظور في إيجابها المالية نص حديث معاذ - رضي الله عنه - كما علقه البخاري: "ائتوني بخمسين أو لبيس "1، مكان الذرة والشعير الواجبين عليكم، وهو أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة" 2. وأيضاً ورد في كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصديق الأكبر رضوان الله تعالى عليه، ما رواه البخاري: "من بلغت عنده الصدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن تيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده حقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وليست عنده بنت لبون، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطى معها عشرين درهماً، أو شاتين"3.

_ 1 الخميس: ثوب طوله خمسة أذرع، واللبيس: الملبوس. انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/312. 2 لفظ الحديث كما في صحيح البخاري: "ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة". انظر: صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/312، المطبعة السلفية ومكتبتها. 3 ونص الحديث كما في البخاري بسنده عن ثمامة أن أنساً رضي الله عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن تيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده حقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطة شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطية المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطى معها عشرين درهماً أو شاتين". انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/316.

وفي صدر هذا الكتاب "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام، فحينئذ ظهر جلياً أن ذكر الشاة لتعيين مالية الواجب، وأعلامه أن الواجب صورة الشاة، فعلم أن هذا استنباط للمناط بالنص. فقال الشافعية: هذا تأويل بعيد لا يقبل، قلنا: ليس بتأويل أصلاً، فإن الشاة باقية على معناها وذكرها، لأنها معيار معرفة الواجب. ومن تأمل فيما قلنا علم اندفاع ما يرد أيضاً أنه أبقى لفظ الشاة على معناها فهو الواجب، ولا تجزئ القيمة، وإن أريد به القيمة فهو تأويل، لأنا نقول: نعم إنه تأويل، بل دليل، وهو ما ذكرناه، فليس بعيداً ولا يلزم منه عدم إجزاء القيمة لما قلناه1. وأما عن الثاني: فقد أجابوا عنه بأن الطعام المنهي عن بيعه متفاضلاً يختص بالكثير دون القليل الذي لا يكال، لأنه عليه الصلاة والسلام استثنى الحال بقوله "إلا سواء بسواء" فكان المراد منه حال التساوي في الكيل، والمذكور في صدر الكلام، وهو الطعام عين، واستثناء الحال من العين لا يستقيم، إذ الأصل في الاستثناء الاتصال، فدل على أنه مستثنى من أحوال المبيع التي هي: التساوي، والتفاضل، والمجازفة، والتسوية لا تتصور إلا في الكثير، فكان آخر الحديث دليلاً على أنه أوله لما يتناول القليل الذي لا يكال، فصار التغيير بدلالة النص مصاحباً للتعليل، لا بالتعليل2. ويدل على أن الحنفية لا يخالفون في لزوم هذا الشرط تمثيلهم بما أوردوه على الشافعية في تعليلهم النص الدال على السلم بدفع الحرج لإحضار السلعة محل البيع ونحوه، فإن نص السلم مخصص لحديث "لا تبع ما ليس عندك" 3.

_ 1 انظر: سلم الوصول على نهاية السول 4/302 - 303. 2 انظر: شرح المنار لابن ملك وحاشية الرهاوي عليه ص 777 فما بعدها، وكشف الأسرار 3/334. 3 أخرجه مسلم بلفظ "من ابتاع طعاماً فلا يبيعه حتى يستوفيه"، قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله" 5/7 ط محمد علي صبيح - مصر.

ودليل التخصيص يعلل، والتعليل بدفع الحرج يشمل الحالَّ والمؤجل. غير أن هذا التعليل واقع في مقابلة نص السلم القائل "من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" 1. فقد أوجب في السلم الأجل، فالتعليل بتجويز الحال مبطل للنص الموجب للتأجيل، والتعليل المبطل للنص باطل2. ولما كان المراد من الأمثلة إنما هو توضيح المسألة، لم أر مناقشتها لا سيما وقد قيل: والشأن لا يعترض المثال ... إذ قد كفى الفرض والاحتمال3 وحيث إن تعرضي لمباحث العلة إنما هو من باب التمهيد، لأنها لم تكن من صلب موضوعي، لذا فإنني أقتصر في البحث على ما تقدم مع تنبيه القارئ على أن بعض الأصوليين اشترط شروطاً أخرى في العلة هي: 1 - أن لا تكون العلة المستنبطة معارضة بمعارض موجود في الأصل مناف لمقتضاها، بأن يبدي على أخرى من غير ترجيح، كقول الحنفية في تبييت نية صوم رمضان: صوم عين فيتأدى بالنية قبل الزوال كالنفل، فيعارض بأنه صوم فرض يحتاط فيه، فلا يبنى على السهولة. 2 - يشترط في العلة أن لا تخالف نصاً، أو إجماعاً، لأنهم مقدمان على القياس. 3 - أن لا تتضمن زيادة إن نافت الزيادة مقتضاها، بأن يدل نص على علية وصف، ويزيد الاستنباط قيداً فيه منافياً للنص، فلا يعمل بالاستنباط لأن النص مقدم عليه.

_ 1 أخرجه مسلم 5/55، والبخاري 3/106. 2 انظر: تيسير التحرير 3/281. 3 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/244، ط الرباط.

4 - يشترط في العلة أن لا تكون وصفاً مقدراً، كتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك. 5 - أن لا يتناول دليلها حكم الفرع بعمومه أو خصوصه، للاستغناء حينئذ بالدليل عن القياس كما في حديث "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" 1، فلا حاجة إلى إثبات ربوية التفاح مثلاً بقياسه على البر بجامع الطعم، للاستغناء عنه بعموم الحديث2. 6 - اشترط بعضهم كون حكم الأصل قطعياً، والقول المختار الاكتفاء بالظن، لأن الظن غاية الاجتهاد فيما يقصد به العمل3. 7 - اشترط بعضهم أن لا تخالف مذهب صحابي، قال العضد: "والحق جوازها، لجواز أن يكون مذهب الصحابي لعلة مستنبطة من أصل آخر ... ولعل من شرط عدم مخالفة الصحابي، فلأن الظاهر أخذه من النص، والاحتمال لا بدفع الظهور، وهو محل الاجتهاد"4. 8 - اشترط بعضهم القطع بوجود العلة في الفرع، قال السعد: "والصحيح يكفي الظن كما في الأصل، وفي كونها علة"5. هذه هي الشروط التي رأيت أن أكتفي بتنبيه القارئ عليها من غير أن أتعرض لبحثها خشية الإطالة بما ليس من صلب موضوعي. والآن أنتقل إلى الكلام على ما قبل الموضوع من مسالك العلة إن شاء الله تعالى.

_ 1 أخرجه مسلم 5/47، ط محمد علي صبيح - مصر. 2 انظر تفاصيله في المحلى على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/291 فما بعدها. 3 انظر: المختصر مع شرحه: 2/232. 4 انظر نفس المصدر السابق 2/232. 5 انظر: حاشية السعد على العضد 2/232.

الفصل الرابع فيما قبل الوصف المناسب من مسالك العلة وفيه مباحث: تمهيد: المسالك جمع مسلك، والمراد به الطريق الذي يسلكه المجتهد لإثبات علية الوصف، وكون الوصف الجامع علة، حكم خبري غير ضروري، فلا بد من دليل يميز الوصف الصالح للعلية عن سائر الأوصاف الموجودة في الأصل لينبني على الاشتراك في الاشتراك في الحكم وكون الوصف علة لحكم الأصل يعرف بمسالك1. وهذه المسالك منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، ولما كان تعرضي لها إنما هو من باب التمهيد لذا فإنني سوف يكون تعرضي لما قيل الوصف المناسب بطريق الاختصار خشية الإطالة، فأقول: 1 - الإجماع، وهو أن يذكر ما يدل على إجماع الأمة في عصر من الأعصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على كون الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني، إما قطعاً، وإما ظناً، لأن الظن كاف في إثبات الأحكام كالإجماع على كون الصغر على لثبوت الولاية على الصغير في ولاية المال، فتقاس ولاية النكاح على ولاية المال. وكالإجماع على أن علة تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث هي امتزاج النسبين، فيقاس عليه تقديمه في ولاية النكاح، والصلاة على جنازته، وغيرهما بجامع امتزاج النسبين.

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 23، المختصر مع شرحه 2/233، التقرير والتحبير 3/189، وتيسير التحرير 4/38.

وكالإجماع على أن العلة في حديث "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" 1، هي تشويش الغضب للفكر، فيقاس عليه كل مشوش للفطر كالحقن2 والجوع والعطش، وغيرها. فإن قيل: كيف يسوغ الاختلاف فيما كانت علته مجمعاً عليها من مسائل الاجتهاد؟ أجيب بأن الاختلاف إنما يتصور فيما إذا كان الإجماع ظنياً كالثابت بالآحاد والسكوتي، أو يكون وجود العلة ظنياً في الأصل أو الفرع3. 2 - النص من جهة الشارع: قال الآمدي: "وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال4، ثم قسمه هو والإمام، والبيضاوي، وابن السبكي إلى: - قاطع، وهو الذي لا يحتمل غير العلية. - وإلى ظاهر، وهو ما يحتمل غير العلية احتمالاً مرجوحاً. وأما ابن الحاجب فقد أراد به ما يشمل الإيماء والتنبيه، وقسمه إلى: صريح، وإيماء، فأدخل الإيماء في النص5. قال العطار: "وابن الحاجب أدرج فيه الظاهر، وقابل بالصريح التنبيه والإيماء، وأدرج الثلاثة في النص، وكل صحيح، لكن ما صنعه المصنف - يعني ابن السبكي - اقعد"6.

_ 1 أخرجه مسلم 5/132، أبو داود 2/271. 2 هو حبس البول. انظر: المصباح المنير 1/157، مطبعة الحلبي. 3 انظر: المختصر مع شرحه 1/233-234، الأحكام للآمدي 3/233، نهاية السول 3/52، المحلى مع حاشية العطار 2/305. 4 الأحكام للآمدي 3/233. 5 المختصر مع شرحه 2/234. 6 حاشية العطار 2/305.

ولعله أقعد؛ لأن دلالة النص وضعية، ودلالة الإيماء والتنبيه لزومية، فإن قيل: كيف يجعل الظاهر قسماً من النص مع أن الأصوليين جعلوه قسيماً له؟ أجيب بأن المراد هنا مطلق الدليل الوارد من الكتاب والسنة، فهو أعم من النص المصطلح عليه وهو أحد اطلاقاته1، كما هو معلوم2. هذه هي طرق الأصوليين في تقسيم هذا المسلك، وسأسلك طريق من قسمه إلى: قاطع وظاهر، فأقول: الأول: القاطع وله ألفاظ: "أ" التصريح بلفظ الحكمة كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} 3 ذكر ذلك الزركشي وقال: وهذا أهمله الأصوليون، وهو أعلاها4. "ب" لعلة كذا. "ج" لسبب كذا ولموجب كذا ولمؤثر كذا. قال صاحب النبراس: "ولم يذكر الأصوليون لهذه أمثلة ولعلهم لم يظفروا بذلك في كتاب ولا في سنة"5. "د" من أجل، أو لأجل وهو دون ما قبله. ذكره الزركشي، وعزاه لابن السمعاني6، لأن لفظ العلة تعلم به العلة من غير واسطة، بخلاف قوله: لأجله،

_ 1 للنص اطلاقات هي: ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وقد تقدم ذكره، وهو حينئذ قسيم الظاهر، وعلى ما دل دلالة ظاهرة مع احتمال غير الظاهر، وهو حينئذ قسم من الظاهر، وعلى ما دل على معنى كيف ما كان، وهو غالب استعمال الفقهاء، ومنه قولهم: نصوص الشريعة متظافرة على كذا. انظر: شرح تنقيح الفصول ص36-37، العضد على المختصر 2/168. 2 انظر: نهاية السول 3/41، المحلى مع العطار 2/306، وتعليقات د. عثمان. 3 سورة القمر آية: 4، 5. 4 انظر: البحر المحيط 3/141، -خ-. 5 نبراس العقول 1/230. 6 هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد أبو المظفر المعروف بابن السمعاني، الشافعي السلفي، صاحب اليد الطولى في الفنون، له مؤلفات منها في أصول الفقه، القواطع وكتاب الانتصار، توفي سنة 489هـ. الفتح المبين 1/266.

فإنه يفيد معرفتها بواسطة معرفة أن العلة ما لأجلها الحكم والدال بلا واسطة أقوى. قال: وكذا قاله الأصفهاني1 في النكت2، مثال ذلك كما في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} 3، أي كتبنا على بني آدم القصاص من أجل قتل ابن آدم أخاه. وقوله علية الصلاة والسلام: "إنما نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة"4 أي إنما نهيتكم عن ادخارها لتتصدقوا بها على المستحقين لما في ذلك من كثرة الثواب5. "هـ" كي، وتكون مثبتة ومنفية: فمثالها مثبتة قول الله تعالى: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} 6، ومثالها منفية قوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} 7،

_ 1 هو: محمد بن محمود بن عياد العجلي، الملقب بشمس الدين الأصفهاني، المكنى بأبي عبد الله، الشافعي، ولد بأصفهان سنة 616هـ، الإمام النظار المتكلم الفقيه الأصولي، تولى قضاء قوص بمصر وغيرها، ودرس بالمشهد الحسيني والمشهد الشافعي، وغيرهما، له مؤلفات منها شرح المحصول في أصول الفقه، توفي سنة 688هـ. انظر: الفتح المبين 2/91. 2 انظر: البحر المحيط 3/141 -خ-. 3 سورة المائدة آية 32. 4 أصله ما رواه مسلم في صحيحه 6/80 عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دف علينا أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا وادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا" فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ " قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة، التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا". وذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم 13/230 في قول عائشة رضي الله عنها (حضرة الأضحى) إن الحاء فيها الفتح والضم والكسر والضاد ساكنة في كلها وحكى فتحها وهو ضعيف، وإنما تفتح إذا حذفت الهاء نحو بحضر فلان ا. هـ منه بتصرف، وحضرة مفعول لأجله، والدافة بتشديد الفاء قوم يسيرون جماعة سيراً خفيفاً، المراد هنا من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة. انظر: الأبى على صحيح مسلم 5/303، وحاشية مكمل إكمال الإكمال للسنوسي عليه نفس المجلد والصفحة. 5 انظر: المختصر مع شرحه 2/ 234 المحلى مع حاشية العطار 2/306، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/41، وتعليقات د. عثمان مريزيق. 6 سورة طه آية: 41، وسورة القصص آية: 13. 7 سورة الحشر آية: 7.

أي إنما وجب تخميس الفيء، كي لا يتداوله الأغنياء منكم فلا يحصل للفقراء منه شيء، فإن قيل: كيف تعد كي في الصريح مع أنها تكون مصدرية والمحتمل لغير التعليل، ليس صريحاً في التعليل به؟ أجيب عنه بأن كي المصدرية تلزمها لام التعليل ظاهرة أو مقدرة فهي مؤكدة للام التعليل، فلم تخرج عن كونها للتعليل بالأصالة أو التأكيد. "و" إذن كما في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} 1، أي ولولا أن ثبتناك على الحق بعصمتك عن الباطل، لقد كدت تركن إليهم ركوناً قليلاً، إذن لأذقناك عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، كما نعذب غيرك فيهما2. الثاني: الظاهر وهو أن يحتمل غير العلية احتمالاً مرجوحاً وله ألفاظ هي: الأول: اللام ظاهرة ومقدرة، فالظاهر كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3، وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} 4، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5، وقوله: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 6، أي لزوال الشمس، وقد نقل الغزالي عن القاضي عدم صلاحية اللام للتعليل في هذا المثال ونظر فيما نقله عنه بما نصه: "قال القاضي: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} من هذا الجنس لأن هذا لام التعليل والدلوك لا يصلح أن يكون علة، فمعناه صل عنده فهو للتعقيب".

_ 1 سورة الإسراء آية: 74، 75. 2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/306، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/41، المختصر مع شرحه 2/234، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود دفتر 3/12- 13، وتعليقات د. عثمان مريزيق. 3 سورة إبراهيم آية: 1. 4 سورة الأنفال آية: 11. 5 سورة الذاريات آية: 56. 6 سورة الإسراء آية: 78.

قال الغزالي: "وهذا فيه نظر إذ الزوال والغروب لا يبعد أن ينصبه الشرع علامة للوجوب ولا معنى لعلة الشرع إلا العلامة المنصوبة، وقد قال الفقهاء: الأوقات أسباب، ولذلك يتكرر الوجوب بتكررها، ولا يبعد تسمية السبب علة" 1. ووجه كونها ظاهرة التعليل هو أنها قد تحتمل غير العلة احتمالاً مرجوحاً وذلك لورودها لغير التعليل كقولهم ثبت هذا الحكم لعلة كذا، وقول القائل أصلي لله تعالى، وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب، فقصد الفعل لا يصلح أن يكون علة للفعل وغرضاً له، وذات الله تعالى لا تصلح أن تكون علة للصلاة، ولا الموت علة للولادة، والخراب علة للبناء لأن العلة هي الباعث على الفعل2، وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وأما المقدرة فكقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَد أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} 3، التقدير لا تطع من هذه مثاليه، لإن كان ذا مال وبنين أو التقدير: يكفر لإن كان ذا مال وبنين، وقيل غير ذلك4. وقد اعترض الفخر الرازي على دلالة اللام على التعليل وظهورها فيه بوجوه، وأجاب عنها بما نصه: قال: "فإن قلت: اللام ليست صريحة في العلية، ويدل عليه وجوه: الأول: أنها تدخل على العلة فيقال: ثبت هذا الحكم لعلة كذا ولو كانت اللام صريحة في التعليل لكان ذلك تكراراً.

_ 1 انظر: المستصفى بأعلى فواتح الرحموت 2/288-289. 2 انظر: الأحكام للآمدي 2/234. 3 سورة القلم آية: 10-14. 4 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/306-307، روح المعاني للألوسي 29/28، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/236.

الثاني: أنه تعالى قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} 1، وبالاتفاق لا يجوز أن يكون ذلك غرضاً. الثالث: قول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فليست اللام ههنا غرضاً. الرابع: يقال: أصلي لله تعالى، ولا يكون أن تكون ذات الله تعالى غرضاً قال: قلت: أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة، وإذا ثبت ذلك وجب القول بكونها مجازاً في هذه الصور"2. وقد تابع البيضاوي، والأسنوي الإمام في كون اللام مجازاً في هذه الصور دفعاً للاشتراك لأنه خير منه3، وذلك لأمرين: أحدهما: أن الاشتراك اللفظي يلزمه تعدد الوضع والأصل عدمه. الثاني: أن اللفظ مع الاشتراك إن لم تكن معه قرينة فهو غير دال على شيء بعينه وإن كانت معه قرينة دل على ما دلت عليه القرينة فهو دال في حال واحدة. وأما اللفظ مع الحقيقة والمجاز4 فهو دال على الحالين؛ لأنه إن لم تكن معه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي فهو دال على المعنى الحقيقي، وإن كانت معه قرينة صارفة فهو دال على المجاز. ووجه العلاقة هنا بين الحقيقة والمجاز أن عاقبة الشيء مترتبة عليه في الحصول ترتب العلة الغائية على معلولها5.

_ 1 سورة الأعراف آية: 179. 2 انظر: المحصول ص 302-خ-. 3 نهاية السول مع منهاج العقول 3/41-42. 4 الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح المخاطب بكسر الطاء كالأسد للحيوان المفترس، والمجاز المفرد هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي كقولك: رأيت أسداً يرمي، يريد رجلاً شجاعاً. انظر: حلية اللب المصون شرح الجوهر المكنون ص 75-76، ط الثانية، الحلبي. 5 انظر: نهاية السول 3/42، وتعليقات د. عثمان مريزيق.

الثاني: إن المكسورة المشددة نحو: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم" 2 لكن يرد على هذا ما نقله الأسنوي عن التبريزي3 في التنقيح، أنه قال: "والحق أن إنّ لتأكيد مضمون الجملة ولا إشعار لها بالتعليل، ولهذا يحسن استعمالها ابتداء من غير سبق حكم"4. قال صاحب نبراس العقول: "وعبارة التبريزي كما في القرافي "والحق إنها لتحقيق الفعل، وليس لها في التعليل حظ، ولهذا يحسن استعمالها ابتداء من غير سابقة حكم، والتعليل في الحديث مفهوم من قرينة سياق الكلام" ا. هـ. وقال وقد استبعد القرافي كلام التبريزي، وقال: إن السابق إلى الفهم من قوله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} 5، التعليل6. ونقل الزركشي عن الكمال بن الأنباري7 إنكار كونها للتعليل وإجماع النحاة

_ 1 سورة نوح آية: 25، 26. 2 أخرجه أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، وابن ماجه 1/131، ونيل الأوطار 1/48 ط الأخير، الحلبي. 3 هو: المظفر بن أبي الخير محمد بن إسماعيل أبو سعيد الواراني التبريزي الملقب بأمين الدين، الفقيه الشافعي، الأصولي، النظار، ولد سنة 558هـ، وتفقه حتى صار إماماً مبرزاً، وكان معيداً بالمدرسة النظامية ثم استوطن مصر مدرساً ومفتياً، ثم سافر إلى العراق وشيراز، وكان ينشر العلم ويأخذ عن العلماء، له مؤلفات منها التنقيح، اختصر به المحصول في أصول الفقه، توفي سنة 621هـ. الأعلام 8/165، 166، والفتح المبين 2/55. 4 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/42. 5 سورة الإسراء آية: 53. 6 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/235. 7 هو: أبو البركات عبد الرحمن بن أبي الوفاء محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد الأنباري الملقب بكمال الدين النحوي، سكن بغداد من صباه إلى أن مات بها، وقرأ على مشايخها حتى برع وصار معيداً للنظامية، وكان يعقد مجالس الوعظ، كان إماماً صدوقاً ثقة، فقيهاً مناظراً غزير العلم تقياً، عفيفاً له مؤلفات قيل: إنها تزيد 130 مصنفاً، ولد سنة 513هـ، وتوفي سنة 577هـ. انظر: هداية العارفين الأول ص 479-480.س

على أنها لا ترد للتعليل وأنها في قوله: "إنها من الطوافين عليكم" للتأكيد، وقال: أن علية طهارة سؤر الهرة هي الطواف، ولو قدرنا مجيء قوله: "هي من الطوافين" بغير "أن" لأفاد التعليل، فلو كانت إن للتعليل لعدمت العلية بعدمها، ولا يمكن أن يكون التقدير لأنها، وإلا لوجب فتحها ولا استفيد التعليل من اللام. قال: وتابعه جماعة من الحنابلة منهم إسماعيل البغدادي وأبو محمد يوسف بن الجوزي1. ويعكر ما ذهب إليه ما ذكره السعد وغيره، قال السعد: "وأما كلمة إن بدون الفاء مثل: "إنها من الطوافين عليكم" فالمذكور في أكثر الكتب أنها من الصريح بما ذكره الشيخ عبد القادر أنها في مثل هذه المواقع تقع موقع الفاء وتغني غناءها2. قال الزركشي: "وممن صرح بمجيئها للتعليل أبو الفتح بن جني3، ونقل القاضي نجم الدين في فصوله4 قولين للعلماء فيه وأن الأكثيرين على إثباته وليس مع النافي إلا عدم العلم، وكفى بابن جني حجة في ذلك"5. الثالث: الباء كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} 6، أي منعناهم منها لظلمهم، وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ

_ 1 انظر: البحر المحيط 3/143، مع تصرف. وابن الجوزي هو: يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي التميمي البكري البغدادي، الحنبلي، أستاذ دار الخلافة المعتصمية وسفيرها من أهل بغداد وهو ابن العلامة ابن الجوزي أبي الفرج، ولد سنة 580?، وتفقه على أبيه وغيره حتى برع في الفقه والأصول والخلاف، ولى الولايات الجليلة في بغداد ثم عزل وانقطع للوعظ والتدريس والتأليف له مؤلفات منها معاني لابريز في تفسير الكتاب العزيز، والمذهب الأحمد في مذهب أحمد وغيرهما. توفي سنة 656هـ. انظر: شذرات الذهب 5/286، الأعلام 9/312. 2 انظر: التلويح على التوضيح 2/69. 3 هو: عثمان ابن جني، الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو وله شعر، ولد بالموصل وتوفي ببغداد سنة 392هـ عن نحو 65 سنة، كان أبوه مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الأزدي، له مؤلفات منها الخصائص في اللغة، مطبوع منه مجلد وحد، والمنهج في اشتقاق أسماء رجال الحماسة، ط، والمقتضب من كلام العرب وغيرها. انظر: الأعلام للزركلي 4/364، وابن خلكان1/313، وشذرات الذهب3/140. 4 ينظر من هو، لأنني ما عثرت على ترجمته. 5 انظر: البحر المحيط 3/143. 6 سورة النساء آية: 160.

لِنتَ لَهُمْ} 1، أي بسبب الرحمة لنت لهم، وقوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. غير أنه يرد على هذا أن الباء تأتي للمصاحبة وللتعدية والإلصاق، وغيرها. وأجاب الإمام عنه بأن "أصل الباء للإلصاق، وذات العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق هناك، فحسن استعمالها فيه مجازاً" 3. قال الأسنوي: "وهذا الكلام صريح في أنها لا تحمل عند الإطلاق على التعليل وحينئذ لا تكون ظاهرة فيه، وهذا هو الصواب"4. قال صاحب النبراس: "وفيه نظر، لأنه إذا لم تكن الباء من قسم الظاهر، ومن المعلوم أنها ليست من قسم القاطع، ولا من الإيماء - فمن أي قسم تكون حينئذ؟ ثم إن مقتضى كلامه أن اللفظ لا يكون ظاهراً في التعليل إلا إذا كان بحيث إذا أطلق ينصرف إليه. وهذا كما أنه يخرج المستعمل في التعليل مجازاً يخرج عنه المشترك بين التعليل وغيره. فالتحقيق " ... أن كون اللفظ مشتركاً بين التعليل وغيره، أو مستعملاً في التعليل على سبيل المجاز، لا ينافي أنه من النص الظاهر في التعليل غايته أنه يحتاج إلى قرينة تصرف اللفظ عن إرادة غير التعليل منه"5. الرابع: الفاء، وتكون في كلام الشارع، وفي كلام الراوي أما في كلام الشارع فتكون في الحكم، كما في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ

_ 1 سورة آل عمران آية: 159. 2 سورة السجدة آية: 17. 3 انظر: المحصول ص 302 -خ-. 4 نهاية السول مع منهاج العقول 3/42، وانظر الأمثلة في المحلى مع العطار 2/306، الأحكام 3/234، المختصر مع شرحه 2/234. 5 نبراس العقول 1/234.

أَيْدِيَهُمَا} 1، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2، وقوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِح الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 3، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} 4، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضاً ميتة، فهي له" 5، وقوله: "من بدل دينه فاقتلوه" 6. وتكون في الوصف كما في حديث المحرم الذي وقصته ناقته: "ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" 7. وكما في الحديث "زملوهم بكلومهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك" 8. أما في كلام الراوي فتكون فيه في الحكم كقول عمران بن حصين سها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسجد9. وأما في الوصف في كلام الراوي فذكر الأسنوي ما يدل على جوازه بقوله: "لم يظفروا له بمثال"10، لأن مقتضى عدم العثور على مثاله، يقتضي إمكان حصوله،

_ 1 سورة المائدة آية: 38. 2 سورة النور آية: 2. 3 سورة النساء آية: 25. 4 سورة النساء آية: 43. 5 أخرجه أبو داود 2/158 فما بعدها والبخاري تعليقاً وذكر الحافظ من أوصله وقال: له شواهد تة وإن كانت ضعيفة، البخاري والفتح معه 5/18-19، والجامع الصغير مع فتح القدير 6/39، ورمز له (حم ت د) ، والضياء في المختارة عن سعيد بن زيد (ص) . 6 أخرجه البخاري في باب لا يعذب بعذاب الله، انظر البخاري مع الفتح 6/149، والموطأ مع تنوير الحالك 2/116، بلفظ من غير دينه فاضربوا عنقه. 7 انظر: البخاري 3/19، في باب ما ينهى من الطيب للمحرم، أبو داود 2/196. 8 لفظ البخاري: "أمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" البخاري مع الفتح 3/209، أبو داود 2/174، ونصب الراية 2/307-308، ط الثانية. 9 ما وقفت على من خرجه، وفي معناه حديث ذي اليدين، انظر البخاري 2/81، 82، وأبو داود 1/231 فما بعدها. 10 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/44.

غير أنه لم يحصل، أو لم يعرف، لكن قول المحلى "وتكون في ذلك في الحكم فقط"1، يقتضي عدم إمكانه، غير أن عدم الظفر له بمثال أعم من إمكان حصوله فلا يقتضيه. وعلله الشربيني بقوله: "إنما كان كذلك، لأن الراوي من حيث هو راو إنما يريد حكاية ما وقع، فلا بد أن يحكيه على ترتيبه، ثم السامع ينتقل إلى فهم التعليل وليس هو كالشارع حتى يؤخر ما كان مقدماً في الوجود بناء على فهم السامع التعليل. فإن قلت: حكاية ما في الخارج تحصل مع التأخير؛ لأن تقدم العلة لازم، قلت: وضع الفاء إنما هو ترتب مدخولها وهو الذي ساق له الراوي كلامه، لا التعليل اللازم له التقدم"2. وسواء في ذلك الفقيه وغيره، وإن كانت رواية الفقيه تقدم على رواية غير الفقيه عند التعارض لإتقانه، لأن الراوي عدل يحكي ما وقع، وهو عارف بمعاني الألفاظ فعبر عما وقع أمامه بعبارة تدل عليه، ولو لم يفهم ترتب الحكم على الوصف بالفاء لم يقله، فالفاء فيما ذكر للسببية التي هي بمعنى العلية3. هذا وقد اختلف الأصوليون في الترتيب بالفاء هل هو من النص، أو الإيماء؟ فمنهم من اعتبره من النص كابن الحاجب وابن السبكي من النص الظاهر الدال على العلية وضعاً، لا نظراً واستدلالاً وهذا هو الظاهر، لتبادر السلبية منها، كما في قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} 4، وقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 5 "لأن القضاء مسبب عن الوكز الذي هو سبب الموت

_ 1 المحلى مع حاشية العطار 2/407. 2 تعليقات الشربيني على هامش العطار 2/307. 3 المحصول ص 302-خ-، شفاء الغليل ص 27 فما بعدها، المختصر مع شرحه 2/234، المحلى مع حاشية العطار 2/207. 4 سورة القصص آية: 15. 5 سورة البقرة آية: 37.

والتوبة مسببة عن تلقي الكلمات بالأخذ والقبول والعمل بها التي هي سبب التوبة" إلى غير ذلك" 1. ومنهم من اعتبره من الإيماء والتنبيه كالإمام في المحصول وتبعه البيضاوي في المنهاج والآمدي في الأحكام. وذكر الشيخ حسن العطار أن بعض شراح البيضاوي وفق بين قول البيضاوي وبين قول ابن الحاجب، بأنه لما احتاجت دلالة الفاء على العلية إلى النظر لم تكن وضعية صرفة فلذا جعلها البيضاوي من الإيماء، ولما دلت على الترتيب بالوضع جعلها غيره من أقسام ما يدل بوضعه. قال: وطريق النظر أن يقال: الفاء للتعقيب، وحينئذ يلزم أن يثبت الحكم عقيب ما رتب عليه فتلزم سببيته للحكم إذ لا نعني بها سوى ذلك2. وقرر السعد في حاشيته على العضد وجه كون الفاء من النص مع أن النص عند العضد هو ما دل على العلية بوضعه "بأن الفاء بحسب الوضع إنما تدل على الترتيب ودلالتها على العلية إنما تستفاد بطريق النظر والاستدلال من الكلام على أن هذا ترتب حكم على الباعث المتقدم عليه عقلاً أو ترتب الباعث على حكمه الذي يتقدم "هو" عليه في الوجود، فمن جهة كونها للترتيب بالوضع جعل من أقسام ما يدل بوضعه، ومن جهة احتياج ثبوت العلة إلى النظر جعل استدلالية لا وضعية صرفة"3. قال صاحب النبراس: "وفيه نظر، لأنه صريح في أن الفاء ليست موضوعة للتعليل ومجرد كونها موضوعة لشيء يستلزم التعليل لا يقتضي اعتبارها من النص على رأيه"4.

_ 1 انظر: رسالة مباحث القياس للشيخ سويلم طه ص 120. 2 حاشية العطار على المحلى 2/308. 3 حاشية السعد على العضد 2/234. 4 نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/249.

وقد وجه الآمدي دلالة الترتيب بالفاء على العلية في جميع الصور بقوله: "وذلك في جميع هذه الصور يدل على أن ما رتب عليه الحكم بالفاء يكون علة للحكم لكون الفاء في اللغة ظاهرة في التعقيب. ولهذا فإنه لو قيل: جاء زيد فعمرو، فإن ذلك يدل على أن مجيء عمرو عقيب مجيء زيد من غير مهلمة ويلزم من السببية لأنه لا معنى لكون الوصف سبباً إلا ما ثبت الحكم عقيبه، وليس ذلك قطعاً بل ظاهراً، لأن الفاء في اللغة قد ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق، وقد ترد بمعنى ثم في إرادة التأخير مع المهلة كما سبق تعريفه غير أنها ظاهرة في التعقيب بعيدة فيما سواه"1. وذكر العطار - بعد ذكر أمثلة الفاء - أنها "للسببية التي هي بمعنى العلية، ففي الأخير مثلاً المعنى، فبسبب سهوه سجد، وفي ذلك التنبيه على رد اعتراض العراقي2 على المصنف بأن البيضاوي جعل الفاء مطلقاً من قبيل الإيماء وظاهر أن كلاً منهما صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح مع أنه ما قاله المصنف التابع لابن الحاجب اقعد من قول البيضاوي التابع للمحصول3. وعبارة البيضاوي في المنهاج هي "الثاني: الإيماء وهو خمسة أنواع: الأول: ترتيب الحكم على الوصف بالفاء وتكون في الوصف أو الحكم وفي لفظ الشارع، أو الراوي، مثاله: "والسارق والسارقة لا تقربوا طيباً، زنى ماعز فرجم" 4.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/235. 2 هو: عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن أبو الفضل، المعروف بالحافظ العراقي، من كبار حفاظ الحديث، كردي الأصل، ولد في رازان من أعمال إربل، وتحول مع أبيه إلى مصر فتعلم بها ونبغ ورحل إلى الحجاز والشام وفلسطين وعاد لمصر (له مؤلفات جليلة منها: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، ونكت منهاج البيضاوي في الأصول والتحرير في أصول الفقه، والألفية في المصطلح وغيرها) ولد سنة 725هـ وتوفي بمصر سنة 806هـ. الأعلام 4/119. 3 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/308. 4 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/42-43.

قال العطار: "ووفق بعض شرحه بينه وبين ابن الحاجب بأنه لما احتاجت دلالة الفاء على العلية إلى النظر لم تكن وضعية صرفة، فلذا جعلها من الإيماء، ولما دلت على الترتيب بالوضع جعلها غيره من أقسام ما يدل بوضعه. قال: "وطريق النظر أن يقال: الفاء للتعقيب، وحينئذ يلزم أن يثبت الحكم عقيب ما رتب عليه فتلزم سببيته للحكم، إذ لا نعني بها سوى ذلك"1. والحاصل أنهم متفقون على أن ترتيب الحكم على الوصف بالفاء يفيد العلية مطلقاً سواء كان الوصف ظاهر المناسبة للحكم أو لم يكن ظاهر المناسبة له؛ لأن الترتيب إما نص أو في قوة النص، والنص لا يشترط فيه ظهور المناسبة؛ لأنه متى نص الشارع على علية وصف لحكم ثبتت عليته له بقطع النظر عن المناسبة وعدمها، وستأتي زيادة بيان وجه كون الترتيب يفيد العلية في الإيماء إن شاء الله تعالى. الخامس: إذ، نحو ضربت العبد إذ أساء، أي لإساءته2. السادس: "أن المفتوحة المخففة فإنها بمعنى لأجل، والفعل المستقبل بعدها تعليل لما قبله نحو أن كان ذا مال، ومنه {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا} 3، فإنه مفعول لأجله قدره البصريون كراهة أن يقولوا والكوفيون لئلا تقولوا أو لأجل أن تقولوا"4. السابع: "إن المكسورة ساكنة النون الشرطية، بناء على أن الشروط اللغوية أسباب، فلا معنى لإنكار من أنكر عدها من ذلك5، نحو: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} 6.

_ 1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/308. 2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/308. 3 سورة الأنعام آية: 156. 4 انظر: البحر المحيط 3/142 -خ-. 5 انظر: البحر المحيط 3/143-خ-. 6 سورة نوح آية: 25، 26.

الثامن: بيد نحو "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش" 1. التاسع: على، نحو قوله تعالى: {لِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 2. العاشر: في، كما في قوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3. الحادي عشر: من، بكسر الميم، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} 4. ذكر الأربعة الأخير المحلى، وقال: "إنما فصل هذا - يعني ابن السبكي عما قبله بقوله "ومنه" لأنه لم يذكره الأصوليون5، ومراده بالأصوليين متقدموهم، فلا ينافي ذكر بعض متأخريهم أنه من المسالك، هكذا قال العطار. قال: "وقيل: عدم ذكره هو الصواب؛ لأن استعمال هذه في التعليل إنما يكون لقرينة، فلا يصدق تعريف الظاهر عليه؛ لأن الظاهر ما دل دلالة ظنية أو ظاهرة بطريق الوضع كالأسد أو العرف6، كالغائط بأن يكون موضوعاً لذلك المعنى

_ 1 قال العجلوني قال في اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد ورواه ابن سعد عن يحيى بن يزيد مرسلاً بلفظ: "أنا أعربكم أنا من قريش ولساني لسان سعد بن بكر"، ورواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري بلفظ أنا أعرب العرب، ولدت في بني سعد، فأنى يأتيني اللحن، ثم قال فيه والعجب من المحلى حيث ذكره في شرح جمع الجوامع من غير بيان حاله، وكذا من شيخ الإسلام زكريا حيث ذكر في شرح الجزرية. انظر: كشف الخفاء ومزيل الألباس للعجلوني 1/200-201. 2 سورة الحج آية: 37. 3 سورة النور آية: 14. 4 سورة الأنعام آية: 151. 5 انظر: المحلى مع العطار 2/308، وشرح مراقي السعود للشيخ محمد الأمين أحمد زيدان ص 172. 6 الوضع في اللغة، هو: جعل اللفظ دليلاً على المعنى كأن يسمى الإنسان ولده زيداً مثلاً، والعرف هو استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، وهو عام كالدابة وخاص كالجوهر والعرض عند المتكلمين. انظر: شرح تنقيح الفصول ص 20.

الراجح لغة أو عرفاً، وما يحتاج إلى قرينة مؤول"1. لكن يرد على ما ذكره أنا العبادي2 وجه ظهورها في التعليل "بأنهم أرادوا بكون هذا القسم ظاهراً في العلية ما يعم كونه ظاهراً فيها بواسطة القرائن، وحينئذ فلا إشكال فيما فعله المصنف؛ لأن تلك الحروف والأسماء وإن كانت موضوعة لغير العلية وكان استعمالها في العلية إنما هو بقرينة، فقد تكون ظاهرة فيها بواسطة القرائن، فيجب أن تكون من القسم الظاهر في العلية، ولما لم يذكروها فيه نبه المصنف على ذلك بفصلها يقوله "ومنه"3. هذه هي الصيغ التي ذكر الأصوليون أنها تدل على التعليل بطريق النص القاطع أو الظاهر، وهي وإن كانت دلالة بعضها على التعليل بالقرينة عل العلية إلا أنها ظاهرة فيها على ما مر تقريره. والظاهر يجب الأخذ به حتى يدل الدليل على عدم إرادته ويدل لذلك ما ذكره الآمدي - بعد أن ذكر الحروف الظاهرة في التعليل، وهي: اللام وكي، ومن، وأن، والباء أنها صريحة في التعليل حيث قال: "هذه الصيغ الصريحة في التعليل، وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على إنها لم يقصد بها التعليل، فتكون مجازاً فيما قصد بها"4 ومراده بالصريحة ما يشمل الظاهر. قال البدخشي5: "والحق أن معنى الظهور والتعليل في هذه الحروف تبادر

_ 1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/308. 2 هو: أحمد بن قاسم العبادي، الشافعي الملقب بشهاب الدين، درس حتى برع وتفوق على أقرانه بتحريراته التي ملأت أسماع علماء عصره، ومؤلفاته شاهدة بغزارة علمه، منها الآيات البينات حاشية على المحلى على جمع الجوامع، توفي سنة 994هـ. انظر: الفتح المبين 3/81. 3 انظر: الآيات البينات حاشية على المحلى 4/79. 4 الأحكام لآمدي 3/234. 5 هو: الإمام محمد بن حسن البدخشي صاحب منهاج العقول شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، لم أرَ من ترجم له غير أن المطلع على كتابه منهاج العقول يدرك سعة علمه وقوة اطلاعه وجودة تحريره.

الذهن إلى فهم التعليل منها في أمثال هذه المواقع ولا بدلالة السياق والسياق لا أنها موضوعة للتعليل بخصوصه دون غيره من المعاني1. والحاصل أنها ظاهرة في التعليل وإن كانت قد ترد لغيره لأن كونها موضوعة للتعليل ولغيره، سواء بطريق الاشتراك اللفظي أم بكونها حقيقة في غير التعليل مجازاً في التعليل لا يمنع من ظهورها فيه لدلالة القرائن على إرادة التعليل دون غيره، فمعنى ظهورها فيه هو تبادر الذهن إلى فهم التعليل ولو بدلالة السياق لا أنها موضوعة للتعليل، دون غيره كما سبق نقله عن البدخشي، وغيره. هذا وقد ختم الزركشي البحث بما يفيد دلالتها على التعليل مع اختلاف مراتبها فيه بما نصه: قال: "هذه الألفاظ كما تختلف مراتبها في نفسها في الدلالة على التعليل كذلك تختلف بحسب وقوعها في كلا القائلين، فهي في كلام الشارع أقوى منها في كلام الراوي، وفي كلام الراوي الفقيه أقوى منها في غير الفقيه مع صحة الاحتجاج بها في الكل خلافاً لمن توهم أنه لا يحتج بها إلا في كلام الراوي الفقيه". قال: وهذا البحث توهمه بعض المتأخرين وليس قولاً وزعم الأسدي أن الوارد في كلام الله أقوى من الوارد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والحق تساويهما وبه صرح الهندي لعدم احتمال تطرق الخطأ إليهما"2، والله تعالى أعلم. 3 - الإيماء والتنبيه، ويسمى بكل منهما دون الآخر. الإيماء في اللغة: مصدر أومأ إلى الشيء إيماء أشار إليه إشارة خفيفة، ويقال: ومأت إليه أمأ وأما مثل وضعت أضع وضعاً3. وأما في اصطلاح الأصوليين فقد عرفوه بتعريفين: الأول: تعريف ابن الحاجب وهو: "اقتران وصف بحكم لو لم يكن هو أو

_ 1 انظر: منهاج العقول مع نهاية السول 3/42. 2 البحر المحيط 3/146 -خ-. 3 انظر: القاموس المحيط 1/34، مختار الصحاح ص 337، المصباح المنير 2/351.

نظيره للتعليل لكان بعيداً"1. شرح التعريف: قوله: "اقتران" وصف بحكم، معناه أن يجتمع في كلام الشارع وصف وحكم سواء كانا ملفوظين معاً، أو مقدرين معاً، أو كان أحدهما ملفوظاً والآخر مقدراً. وقوله: "أو نظيره" أي نظير هذا الوصف لنظير هذا الحكم بمعنى أنه لو لم يكن الوصف علة في الحكم، أو لم يكن نظير هذا الوصف علة لنظير هذا الحكم لكان القران بينهما بعيداً لا يليق بفصاحة الشارع لخلوه عن الفائدة فوجب حمله على التعليل دفعاً لاستبعاد عدم الفائدة عن كلام الشارع العالم بأسرار البلاغة، ومواقع الألفاظ والذي لا تخلو أفعاله عن فائدة2. فمثال ما كان الوصف والحكم مذكورين فيه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} 3، ومثال المقدرين قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} 4. ومثال ما إذا كان الوصف مذكوراً والحكم مقدراً حيث "تمرة طيبة وماء طهور"5. ومثال ما كان الحكم مذكوراً والوصف مقدراً: "اعتق رقبة"، فإن التقدير واقعت فاعتق. ومثال النظيرين ما أخرجه مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "إني أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: "أرأيت لو

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/234. 2 المحلى مع حاشية العطار 2/308-310، المختصر مع شرحه 2/234، وتعليقات د. عثمان مريزيق على القياس. 3 سورة المائدة آية: 38. 4 سورة البقرة آية: 222. 5 أخرجه أبو داود 1/20، ابن ماجه 1/135، وقال: مداره على أبي زيد وهو مجهول عند أهل الحديث، وقال ابن حجر في الفتح 1/354، أطبق العلماء على تضعيفه، وقال الزيلعي في نصب الراية 1/137: ضعفه العلماء.

على أمك دين أكنت تقضينه؟ " قالت: نعم، قال: "فدين الله أحق بالقضاء"، وفي رواية "أكان يؤدى ذلك عنها"؟ 1 أي: فإنه يؤدى عنها. فإنها سألته عن دين الله تعالى على الميت وجواز قضائه عنه، فذكر لها دين الآدمي عليه، وقررها على جواز قضائه عنه، وهما نظيران فلو لم يكن جواز القضاء فيهما لعلة الدين له لكان بعيداً2. وستأتي هذه الأمثلة في أنواع الإيماء، وإنما قدمتها هنا للإيضاح والمراد من الوصف المعنى القائم بالغير ولو كان شرطاً أو استثناء أو غاية أو استدراكاً. والمراد بالحكم: الحكم الشرعي، بدليل قوله "لو لم يكن للتعليل" أي: لكونه علة لكان بعيداً، وإنما نسب الاقتران إلى الوصف مع أن الاقتران من الجانبين لأن الحكم هو المقصود والوصف إنما جيء به وقرن بهذا الحكم ليكون معرفاً له، وعلامة على مواقعه"3. فظهر أن المراد من الإيماء المراد مسلكاً من مسالك العلة هو الاقتران المقيد بكونه بين الوصف والحكم ويكون الوصف لو لم يكن هو أو نظيره لتعليل لكان بعيداً. فالاقتران جنس في التعريف يشمل كل اقتران سواء كان اقتران وصف بحكم، أو اقتران وصف بغير حكم، أو اقتران حكم بذات، خرج عنه ما دل على العلية بلفظ كالفاء، و "وصف" قيد أول خرج به اقتران حكم بذات نحو أكرم زيداً، وبحكم قيد ثان خرج به اقتران وصف بغير حكم نحو: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 4 فالوصف هو الإنزال، والمقترن به هو لفظ كتاب، وهو ليس بحكم، لأن جملة "أنزلناه" في موضع رفع صفة لكتاب، وقوله "لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيداً قيد ثالث لإخراج اقتران وصف بحكم لو لم يكن هو أو

_ 1 انظر: صحيح مسلم 3/155-156، ابن ماجه 1/559. 2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/312-313. 3 انظر: نبراس العقول 1/237. 4 سورة الأنعام آية: 92.

نظيره للتعليل لم يكن بعيداً كأن خرج الوصف مخرج الغالب كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 1، فذكر الوصف وهو الكون في الحجر مع الحكم، وهو التحريم إنما هو لمراعاة الغالب لأن الغالب في الربيبة كونها تتربى كذلك، وليس المراد به التعليل. ومخرج أيضاً لما عدا الإيماء من طرق العلية لأن المفيد للعلية فيها شيء آخر، كالنص أو المناسبة أو السبر أو غيرها2. هذا وقد اتفق الأصوليون على أن الوصف والحكم إن كانا مذكورين فإيماء باتفاق، وإن كان مستنبطين فليس بإيماء باتفاق، وإن كان أحدهما مذكوراً دون الآخر بأن ذكر الوصف، وكان الحكم مستنبطاً منه غير مصرح به، أو العكس ففيه ثلاثة مذاهب: الأول: أنه إيماء بناء على أن الإيماء اقتران الوصف والحكم وإن كان أحدهما مقدراً تنزيلاً للمستنبط منزلة الملفوظ، فيقدمان عند التعارض على المستنبطة بلا إيماء. الثاني: ليس شيء منهما بإيماء، بناء على أنه لا بد من ذكرهما ليتحقق الاقتران بالجمع بينهما لأن انفراد أحدهما لا يحقق الاقتران. الثالث: إن كان الوصف ملفوظاً، والحكم مستنبطاً، فإيماء أما إذا كان الحكم منصوصاً والوصف مستنبطاً، فليس بإيماء لجواز أن يكون الوصف أعم من الحكم فلا يستلزمه لأنه يوجد بدونه تحقيقاً لمعنى الأعمية وهو كثير، ومنه أكثر العلل المستنبطة. مثال ما كان الوصف منصوصاً، والحكم مستنبطاً، قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} 3 فإن اللفظ بصريحه يدل على الحل، والصحة مستنبطة منه.

_ 1 سورة النساء آية: 23. 2 انظر: تعليقات د. عثمان مريزيق على القياس، وأصول الفقه لأبي النور زهير 4/69. 3 سورة البقرة آية: 275.

ووجه استنباطه أنه لو لم يصح لم يكن مفيداً وإذا لم يكن مفيداً كان عبثاً والعبث قبيح، والقبيح حرام، فلم يكن حلالاً فيلزم كونه حلالاً أن يكون صحيحاً لتعذر الحل مع انتفاء الصحة1. قال الآمدي: "وهو الحق، وذلك لأنه إذا كان اللفظ بصريحه يدل على الوصف، وهو الحل والصحة لازمة له، لما تقرر فإثبات الحل وضعاً يدل على إرادة ثبوت الصحة ضرورة كونها لازمة للحل فيكون ثابتاً بإثبات الشارع له مع وصف الحل وإثبات الشارع للحكم مقترناً بوصف مناسب دليل الإيماء إلى الوصف كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدل عليه وضعاً ضرورة تساويهما في الثبوت، وإن اختلفا في طريق الثبوت بأن كان أحدهما ثابتاً بدلالة اللفظ وضعاً والآخر مستنبطاً من مدلول اللفظ وضعاً لأن الإيماء إنما كان مستفاداً عند ذكر الحكم والوصف بطريق الوضع من جهة اقتران الحكم بالوصف لا من جهة كون الحكم ثابتاً بطريق الوضع"2. ومثال ما كان الحكم منصوصاً والوصف مستنبطاً حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"، وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينهى عن الذهب بالذهب"، الحديث3. فإن النهي عن التفاضل عند اتحاد الجنسين لا يستلزم وصفاً معيناً، ولذا ذهب الشافعي إلى أنه الطعم، ومالك إلى أنه الاقتيات والادخار، وأبو حنيفة وأحمد إلى أنه الكيل أو الوزن. فظهر أن الفرق بين الصورتين أن الوصف في الأول يستلزم الحكم، فيظهر

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/242، المحلى مع العطار 2/312-313، المختصر مع شرحه 2/236. 2 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/242-243. 3 صحيح مسلم 5/43-44.

اعتباره مقارناً له، فيتحقق الإيماء بخلاف الثاني، لجواز أن يكون الوصف الذي يستلزمه الحكم أعم مما عينه المستنبط، وحينئذ لا يكون في الحكم دلالة على خصوص ما عينه المستنبط حتى يكون فيه إيماء إليه كما في المثال الآنف الذكر1. هل للخلاف ثمرة؟ قال العضد: "والخلاف لفظي مبني على تفسير الإيماء، فالأول مبني على أن الإيماء اقتران الحكم والوصف سواء كان مذكورين أو أحدهما مذكوراً والأخر مقدراً. والثاني مبني على أنه لا بد من ذكرهما؛ إذ به يتحقق الاقتران. والثالث مبني على أن إثبات مسلتزم الشيء يقتضيه إثباته، والعلة كالحل تستلزم المعلول كالصحة فيكون بمثاية المذكور فيتحقق الاقتران، واللازم حيث ليس إثباته إثباتاً لملزومه بخلاف ذلك"2. التعريف الثاني: "هو ما دل على علية وصف لحكم بواسطة قرينة من القرائن"3. شرح التعريف: قوله: "ما" يعني لفظاً بدليل قوله ما دل والمراد من الدلالة هنا الدلالة الالتزامية بدليل عبارة الآمدي ونصها "الثاني: ما يدل على العلية بالتنبيه والإيماء وذلك بأن يكون التعليل لازماً مدلول اللفظ وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه"4. فقوله: "ما" جنس في التعريف يشمل جميع الألفاظ سواء كانت مستعملة أم مهملة وسواء دلت على العلية أم دلت على غيرها، وقوله "دل" قيد أول مخرج

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/239، وتعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 انظر: العضد على المختصر 2/236. 3 انظر: نهاية السول 3/44. 4 الأحكام للآمدي 3/235.

للمهمل، والدلالة هي فهم أمر من أمر بعد العلم بالوضع أو كون أمر يفهم منه أمر فهم أو لم يفهم. وقوله: "على علية وصف لحكم" فالعلية معناها كون الشيء علة والمراد كون الوصف علة للحكم، وأما الموصوف والحكم فقد تقدم تعريفهما بما أغنى عن إعادته، وهو قيد ثان مخرج لما دل على غير العلية كما تقدم. وقوله: "بقرينة من القرائن" أعم من أن تكون لفظاً، أو غير لفظ فتشمل الترتيب بالفاء الملفوظة أو المقدرة والقرينة المعنوية كقرينة الاستبعاد، وخلو الاقتران به عن الفائدة، وهو قيد ثالث يخرج ما كان التعليل به بالنص أو المناسبة أو السبر أو غيرها. الموازنة بين التعريفين: يظهر للمتأمل في التعريفين السابقين أن تعريف ابن الحاجب لا يشمل الترتيب بالفاء الملفوظة؛ لأن دلالتها بالقرينة اللفظية فالفاء عنده من الصريح؛ لأنه جعل المقيد للإيماء هو بعد القران فقط. أما التعريف الثاني: فقد اعتبر المفيد للعلية في الإيماء هو مطلق القرينة الشاملة للفظية والمعنوية، فيشمل الترتيب بالفاء المذكورة فهي عنده من باب الإيماء1، والله تعالى أعلم. أنواع الإيماء: النوع الأول: ما لو حدثت واقعة فرفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عقيبها بحكم فإن حكمه يدل على كون ما حدث علة لذلك الحكم وذلك كما في قول الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا رسول الله هلكت وأهلكت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ماذا صنعت"؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عامداً، وأنا صائم، فقال له عليه الصلاة والسلام: "اعتق رقبة" 2، فإنه يدل على كون

_ 1 انظر: أصول الفقه لأبي النور زهير 4/70-71، تعليقات د. عثمان مريزيق. 2 أصل الحديث كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، ثم جلس، فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا، قال: أفقر منا؟ فما بين لا بتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك". انظر: صحيح مسلم 3/138-139، صحيح البخاري 4/163، 173، 5/223.

الوقاع علة في الإعتاق، لأن الأعرابي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعته لبيان حكمها شرعاً فكان ذكره صلى الله عليه وسلم جواباً للأعرابي ليحصل غرضه من بيان الحكم، ولئلا يخلو السؤال عن الجواب، لأن الكلام الصالح للجواب إذا كان عقيب السؤال يغلب على الظن أن يكون جواباً له. وإذا كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً للأعرابي، كان السؤال مقدراً في الجواب، كأنه قال: واقعت فأعتق، والداعي لتقرير السؤال مع الجواب تحقق الاقتران بين الوصف والحكم، في كلام واحد، إذ الاقتران بينهما في كلامين غير ممكن1. وحينئذ يلحق هذا النوع بترتيب الحكم على الوصف بالفاء، لكنه دونه في الظهور وذلك لأمرين: الأول: أن الفاء هنا مقدرة وثمة ملفوظة، والملفوظ أقوى من المقدر. الثاني: لاحتمال عدم قصد الجواب كما لو قال العبد لسيده طلعت الشمس، فقال له: اسقني ماء فإنه لا يفهم منه الجواب لسؤال العبد، ولا التعليل بل هو أمر له ابتداء بسقي الماء، وعدول عن السؤال بالكلية، وذلك إما للذهول عن السؤال أو لعدم الالتفات إليه لعدم تعلق الغرض به غير أن هذا الاحتمال وإن كان وارداً إلا أنه بعيد في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيما فرض السؤال عنه؛ إذ الغلاب عليه عدم الذهول، ولأنه لو لم يقصد الجواب للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة مع أنه خلاف الظاهر2.

_ 1 انظر: المحلى مع العطار 2/309، وحاشية العطار 2/309، تقريرات الشربيني مع العطار 2/310، الأحكام للآمدي 3/236. 2 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/236، المحصول ص 303 -خ-، المختصر مع شرحه 2/234 فما بعدها، نهاية السول 3/48.

فائدة ومنصب الشارع مما ينزه عنه، وذلك لأن الوصف المذكور إما أن يكون مذكوراً مع الحكم في كلام تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم". فإن كان كلام الله تعالى وقدر أنه لو لم يقدر التعليل به فذكره لا يكون مفيداً، ولا يخفى أن ذلك غير جائز في كلام الله تعالى إجماعاً، نفياً لما لا يليق بكلامه عنه. وإن كان في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يخفى "أن" الأصل إنما هو انتفاء العبث عن العاقل في فعله وكلامه ونسبة ما لا فائدة فيه إليه، لكونه عارفاً بوجوه المصالح والمفاسد فلا يقدم في الغالب على ما لا فائدة فيه وإذا كان ذلك الظاهر من حال العقلاء فمن هو أهل للرسالة عن الله تعالى، ونزول الوحي عليه وتشريع الأحكام أولى، وإذا عرفت ذلك فيجب اعتقاد كون الوصف المذكور في كلامه مع الحكم علة"1. وهذا النوع اختلفت فيه طريقة الأصوليين: فمنهم من ذكره من غير أنه يقسمه إلى أقسام كابن الحاجب ومنهم من قسمه إلى أقسام كالآمدي، وقد رأيت أن أسلك طريقة من قسم إلى أقسام لما في ذلك من زيادة الإيضاح، وهذه الأقسام هي: 1 - أن يكون ذكر الوصف مع الحكم دافعاً لسؤال أورده من توهم الاشتراك بين الصورتين كما روي أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك دخلت على قوم عندهم هرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها ليست نجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 2، فلو لو يكن طوافها علة لعدم نجاستها لم يكن

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/237. 2 أخرجه أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، وابن ماجه في 1/131، ثم قال في الزوائد: في إسناده حارثة بن أبي الرجال، ضعيف ا. هـ. ولم يتعرضا في روايتهما له إلى أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، غير أن الزيلعي ذكر في أثناء كلامه على حديث "الهر سبع" قال: رواه الدارقطني في سننه بقصة فيه عن أبي النضر عن عيسى بن المسيب قال: حدثني أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار، فشق ذلك عليهم، فقالوا يا رسول الله تأتي دار فلان ولا تأتي دارنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "لأن في داركم كلباً"، قالوا: كان في دارهم سنوراً، فقال عليه الصلاة والسلام: "السنور سبع" اهـ من نصب الراية 1/134-135.

لذكره عقب الحكم بطهارتها فائدة1. 2 - "أن يذكر الشارع وصفاً في محل الحكم لو لم يكن علة لم يحتج إلى ذكره، وذلك كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ليلة الجن أنه أحضر للنبي صلى الله عليه وسلم ماء نبيذ فيه تمر، فتوضأ منه، وقال: "تمرة طيبة، وماء طهور" 2، فإن وصف المحل وهو النبيذ بطيب ثمرته وطهورية مائه دليل على بقاء طهورية الماء"3. وذلك دليل على بقاء الماء على الطهورية. وهذا الحكم غير مصرح به، وإنما قلنا أن وصف المحلى بطيب الثمرة وطهورية الماء دليل على بقاء الماء على الطهورية، لأنه لو لم يكن كذلك لكان ذكره ضائعاً من فائدة، لأنه ظاهر في ذاته لا يحتاج إلى بيان"4. قال القرافي: "هذا المثال غير مطابق، لأن ذكر طيب الثمرة ليس إشارة إلى العلة بل إلى عدم المانع، فلو كانت الثمرة مستقذرة أمكن أن تكون نجسة تمنع من بقاء طهورية الماء، إذ العلة هي ما يستند إليه الحكم وجوداً وطهورية الماء حاصلة من قبل نبذ التمر، فالمراد من ذكر هذا الوصف أنه ليس بمانع لبقاء الطهورية لا أنه مثبت لحكم بقائها"5.

_ 1 انظر: المحصول ص 304 -خ-، نهاية السول 3/48. 2 الحديث أخرجه أبو داود 1/20، عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن: "ما في أداوتك؟ قال: نبيذ، قال: ثمرة طيبة، وماء طهور"، ثم ساق بسنده عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد. وأخرجه ابن ماجه في سننه 1/135-136، قال: ومداره على أبي زيد، وهو مجهول عند أهل الحديث، ما ذكره الترمذي ثم ساق له رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما في سندها ابن لهيعة وهو ضعيف، وقد ذكره الزيلعي ثم تكلم عن رواياته، وقال: الحديث ضعيف عند العلماء. انظر كلام الزيلعي في كتابه نصب الراية 1/137 فما بعدها. 3 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/48. 4 انظر: نبراس العقول 1/260. 5 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس.

غير أن ما ذكره من أن ذكر طيب الثمرة ليس بإشارة إلى العلة، بل إلى عدم المانع لعدم نجاسة الثمرة، يرد عليه أنه لو كان الأمر كذلك، لاطرد ما ذكره في باقي الطاهرات الطيبة إذا خالطت الطهور، لكن الواقع خلافه، فلو اختلط الطهور بغيره من الثمار الطيبة فإنه لا يبقى على طهوريته. فالذي أراه أن العلة في بقاء طهورية الماء هي خصوصية ما ذكر في المثال من ذكر الشارع وصفاً في محل حكم الخ، وهو كون المخالط ثمرة طيبة، والله تعالى أعلم. 3 - أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم شيء فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف له فإذا أجاب عنه المسئول أقره عليه، ثم يذكر بعده الحكم كما في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر: "أينقص الرطب إذا جف؟ " قيل: نعم، قال: "فلا إذن" 1، فلو لم يكن نقصانه باليبس علة في المنع من البيع للتقرير عليه لما كان لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم فائدة. وكون التعليل في هذا المثال يفهم أيضاً من الترتيب بالفاء، ومن إذن لا ينافي ذلك؛ لأنه لو قدر انتفاؤهما بأن فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجوز" لبقي التعليل إذ لو لم يكن للتعليل، لكان السؤال عنه غير مفيد2. 4 - أن يعدل في بيان الحكم إلى نظيره لمحل السؤال، وذلك كما في حديث "الصحيحين" أن امرأة قالت: "يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت نعم، قال: "فصومي عن أمك"، أي فإنه يؤدي عنها3. سألته عن دين الله على الميت وجواز قضائه عنه، فذكر لها دين الآدمي عليه، وقررها على جواز قضائه عنه وهما نظيران فلو لم يكن جواز القضاء فيهما لعلية

_ 1 أخرجه أبو داود 2/225. 2 انظر: المحصول ص 304 -خ-، الأحكام للآمدي 3/237-238. 3 انظر: أصله في صحيح مسلم 3/155-156.

الدين له كان بعيداً"1، ومثل هذا يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس، لأنه مشتمل على أركان القياس الأربعة: المقيس، وهو دين الله تعالى، والمقيس عليه، وهو دين العباد والحكم وهو جواز القضاء والعلة هي الدينية في كل منهما2. النوع الثالث: أن يفرق الشارع بين شيئين في الحكم بذكر صفة فإن ذلك يشعر بأن تلك الصفة علة لذلك الحكم حيث خصصها بالذكر دون غيرها فلو لم تكن علة له كان ذلك خلاف ما أشعر به اللفظ وهو تلبيس يصان عنه منصب الشارع، وهذا النوع تحته قسمان: أحدهما: أن يكون حكم أحد الشيئين مذكوراً مع الوصف دون حكم الآخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث" 3، ففي الحديث التفريق بين القاتل المذكور في عدم الإرث، وبين غيره من الورثة بذكر القتل، وليس فيه حكم ميراث من لم يقتل، فلو لم يكن القتل عله لعدم الإرث لكان بعيداً، وأما علة إرث غير القاتل فهي النسب وغيره من أسباب الميراث. وثانيهما: أن يكون حكم كل من الشيئين مذكوراً مع الوصف وهو خمسة أقسام: 1 - أن تكون التفرقة بين الشيئين بلفظ الشرط كما في حديث مسلم "الذهب الذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" 4. فالتفريق بين منع البيع في هذه الأشياء متفاضلاً وبين جوازه عند اختلاف الجنس لو لم يكن لاختلاف العلة للجواز لكان بعيداً.

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/313. 2 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/313. 3 لفظ الحديث كما في أبي داود 2/496 "ليس للقاتل شيء، وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاني شيئاً". 4 صحيح مسلم 5/43-44، الموطأ مع تنوير الحوالك 2/58 فما بعدها.

2 - أن تكون التفرقة بين الشيئين بالغاية كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} 1، أي: فإذا تطهرن فلا مانع من قربانهن، كما صرح به عقيبه بقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، فالشيئان هما: قربانهن وعلته الطهر والمنع من قربانهن وعلته الأذى، فالتفريق بين المنع من قربانهن قبل الطهر، وبين جوازه في الطهر لو لم يكن لعلية الطهر لكان بعيداً. 3 - أن تقع التفرقة بالاستثناء كما في قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} 2، أي: الزوجات على ذلك النصف فلا شيء لهن. فتفريقه بين ثبوت النصف لهن وبين انتفائه عند عفوهن لو لم يكن لعلية العفو للانتفاء لكان بعيداً، وأما ثبوت النصف لهن فعلته العقد. 4 - أن تكون التفرقة بالاستدراك كما في قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} 3، فتفريقه بين عدم المؤاخذة بالأيمان التي هي لغو وبين المؤاخذة بها عند تعقيدها لو لم يكن لعلية التعقيد للمؤاخذة لكان بعيداً. 5 - أن يكون التفريق بذكر صفة لأحدهما بعد ذكر الأخرى بشرط أن تكون تلك الصفة صالحة للعلية مثال ذلك حديث الصحيحين ولفظه كما في البخاري4: "جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً"5، فالحكمان هما: جعل

_ 1 سورة البقرة آية: 222. 2 سورة البقرة آية: 237. 3 سورة المائدة آية: 89. 4 هو شيخ الإسلام وإمام الحفاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بردزبه الجعفي، مولاهم البخاري، صاحب التصانيف، ولد سنة 194هـ، أخذ عن علماء عصره حتى صار رأساً في العلم والورع والعبادة، وحدث عنه الترمذي، ومحمد بن نصر المروزي وابن خزيمة، والفربري وخلق كثير، مؤلفاته جليلة منها الجامع الصحيح، توفي سنة 256هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 2/555-556. 5 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 6/67، صحيح مسلم 5/156. ومعنى الحديث هو أن لصاحب الفرس ثلاثة أسهم، سهمان للفرس وسهم له هو فإن لم يكن معه فرس، فله سهم واحد، ويدل لهذا ما رواه أبو داود 2/69 عن أحمد بن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر بلفظ "أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لفرسه" وبهذا قال الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، وقد بين الحافظ بن حجر رجحان هذا التفسير وضعف ما سواه بجمعه لورايات الحديث والكلام عليها، فمن أراد الاطلاع على ذلك فليرجع إلى المصدر المذكور. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن للفارس سهمين: سهم له، وسهم لفرسه، واستدل بما روى عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفارس سهمين وللراجل سهماً". انظر تفاصيل أقوال الأئمة في: الشرح الكبير مع حاشية الجسوقي 2/193، الأم 4/144، كشاف القناع 3/81، وفتح القدير 5/493.

سهمين وجعل سهم والوصفان هما: الفرسية والرجلية فتفريقه بين هذين الحكمين بهذين الوصفين لو لم يكن لعلية كل منهما لكان بعيداً1. النوع الرابع: نهى الشارع عن فعل قد يفوت الواجب نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 2، المنع من البيع وقت نداء الجمعة الذي يفوتها لو لم يكن لمظنة تفويتها لكان بعيداً3. ولا يرد إلى قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} صيغته صيغة أمر، لأنه في معنى النهي إذ النهي طلب ترك الفعل والصيغة كما ترى لطلب ترك البيع، فكانت نهياً4. النوع الخامس: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان" 5، فتقييده المنع من الحكم بحالة الغضب المشوش للفكر، يدل على أنه علة له وإلا لخلا ذكره عن الفائدة، وذلك بعيد6. فإن قيل: ظاهر الحديث يدل على أن العلة هي الغضب، كما ذهب إليه

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/239، المحصول ص 304 خ، المحلى مع العطار 2/310 فما بعدها، المختصر مع شرحه 2/235 فما بعدها. 2 سورة الجمعة آية: 9. 3 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/311. 4 انظر: الأحكام للآمدي 3/240. 5 انظر: صحيح مسلم 5/132. 6 انظر: الأحكام للآمدي 3/240، المختصر مع شرحه 2/236، والمحلى مع حاشية العطار 2/310.

البعض، أجيب عنه بما ذكره الإمام ونصه "ظاهره يدل على أن العلة هي الغضب، لكن لما علمنا أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر لا يمنع من القضاء، وأن الجوع المبرح والألم المبرح، يمنع علمنا أن علة المنع ليست الغضب بل تشويش الفكر. وقول من يقول: الغضب هو العلة لكن لكونه مشوشاً خطأ، لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجوداً وعدماً وارتفع عن الغضب وجوداً وعدماً، وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلاً، لأن تشويش الفكر قد يوجد حيث لا غضب، والغضب يوجد حيث لا تشويش علمنا أنه ليس بينهما ملازمة، وحينئذ نعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب علة، بل العلة إنما هي التشويش فقط1. هل تشترط المناسبة في الوصف المومئ إليه، أم لا تشترط؟ للأصوليين في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أنها تشترط واستدلوا "بأن الغالب في تصرفات الشارع أن تكون على وفق تصرفات العقلاء، وأهل العرف، ولو قال الواحد من أهل العرف لغيره "أكرم الجاهل، وأهن العالم" قضى كل عاقل أنه لم يأمر بإكرام الجهل لجهله، ولا أن أمره بإهانة العالم لعلمه، وأن ذلك لا يصلح للتعليل، نظراً إلى أن تصرفات العقلاء لا تتعدى مسالك الحكمة وقضايا العقل. وأيضاً فإن الاتفاق من الفقهاء على امتناع خلو الأحكام الشرعية من الحكمة، إما بطريق الوجوب على رأي المعتزلة، وإما بحكم الاتفاق على رأي أصحابنا، وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر. وما يعلم قطعاً أنه لا مناسبة فيه ولا أوهم المناسبة يعلم امتناع التعليل به"2.

_ 1 انظر: المحصول ص 305 خ. 2 انظر: الأحكام في أصول الأحكام 3/241.

الثاني: أنه لا تشترط المناسبة واستدل له "بأنه لو قال القائل: "أكرم الجاهل وأهن العالم" لكان ذلك قبيحاً عرفاً، وليس قبحه لمجرد الأمر بإكرام الجاهل وإهانة العالم، فإن الأمر بإكرام الجاهل قد يحسن لدينه أو شجاعته أو نسبه، أو سوابق نعمه، وكذلك الأمر بإهانة العالم قد يحسن أيضاً لفسقه أو بدعته، أو سوء خلقه. وإذا لم يكن القبح لمجرد الأمر فهو لسبق التعليل "بالترتيب" أي لكونه يسبق إلى الفهم "في العرف" تعليل هذا الحكم بهذا الوصف، لأن الأصل عدم علة أخرى، وإذا سبق إلى الأفهام التعليل مع عدم المناسبة لزم أن يكون حقيقة"1. قال الأسنوي: "واعترض الخصم بأن الدلالة الترتيب الذي لا يناسب على العلية في هذه الصورة، لا يستلزم دلالته عليها في جميع الصول، لأن المثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية لجواز اختلاف الجزئيات في الأحكام. وأجاب المصنف "يعني البيضاوي" بأن هذا الترتيب لو لم يدل على العلية في باقي الصور، لكان مشتركاً لكونه يدل على العلية تارة وعلى عدمها أخرى. فإن قيل: لا نسلم دلالته على عدم العلية "في الصور الأخرى" إذ لا يلزم من عدم الدلالة وجود الدلالة على العدم، "لأن عدم العلم بالشيء لا يدل على العلم بعدمه"، فالجواب أن هذا الترتيب قد وقع على مقتضى العلة فلا بد أن يدل على شيء فمدلوله في غير هذه الصور، إن كان هو التعليل فلا كلام، وإن كان غيره، فقد دل على عدم العلية. ولقائل يقول: "الترتيب – أي اللفظ الدال - فرد من أفراد المركبات عند الإمام والمصنف، و"المركبات" غير موصوفة، كما تقدم غير مرة، ووصف اللفظ بالاشتراك والمجاز فرع عن وضعه"2. والمراد بالاشتراك هنا هو الدلالة على العلية تارة، وعلى عدمها تارة أخرى فاندفع

_ 1 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/45. 2 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/45.

الاعتراض من القائلين باشتراط المناسبة فيما يفهم التعليل فيه من المناسبة1. الثالث: تشترط المناسبة إن كان التعليل فهم من المناسبة، واستدل أهله بأن ما كان مثل المثال السابق "لا يقضي القاضي وهو غضبان" الذي فهم التعليل فيه مستنداً إلى ذكر الحكم مع الوصف المناسب، فلا يتصور فهم التعليل فيه دون فهم المناسبة، لأن عدم المناسبة فيما المناسبة شرط فيه يكون تناقضاً وهذا هو اختيار الآمدي وابن الحاجب. قالا: وما سواه من الأقسام فلا يمتنع التعليل فيها بما لا مناسبة فيه لأن التعليل يفهم من غيرها، وقد وجد2، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 2 انظر: الأحكام للآمدي 3/141، المختصر مع شرحه 2/236.

الباب الأول: في المناسبة وتعريف المناسب

الباب الأول: في المناسبة وتعريف المناسب الفصل الأول: في تعريف المناسبة. ... الفصل الأول في تعريف المناسبة لما كان المناسب مشتقاً من المناسبة، كان من المناسب أن نبدأ بتعريف المناسبة أولاً، ثم بإقامة الدليل على اعتبارها، ثم نتبع ذلك بتعريف المناسب لذا أقول: تعريف المناسبة: هي في اللغة الملاءمة والمقاربة1، ومن هنا اعتبرها الأصوليون من طرق إثبات العلية، فسموها بمسك المناسبة، والمناسبة هي الوصف المعلل به الحكم، كما سيأتي. ويسمى بالإخالة، لأنه بالنظر إلى الوصف يخال أي يظن عليته للحكم. ويسمى بتخريج المناط، لأنه إبداء مناط الحكم، والمناط العلة التي نيط الحكم بها، أي علق، وأصل المناط مكان النوط، أي التعليق، ومنه قول الشاعر: بلاد بها نيطت علي تمائم ... وأول أرض مس جلدي ترابها2 وسمي استخراج المناط بتخريج المناط، لأنه استخراج ما نيط به الحكم، وسمي الوصف بالمناط، لأنه موضوع له3. ولا مخالفة، إذ يصح إطلاق المسلك على كل من المناسبة، وتخريج المناط "لأن المراد بالمسلك ما يثبت العلية، وإثبات العلية يصح بكل منهما، لأن المناسبة

_ 1 انظر: القاموس المحيط 4/175. 2 انظر: لسان العرب 9/296، وهو للرقاع بن قيس الأسدي. 3 المختصر مع شرحه 2/238-239، ومنهاج العقول مع نهاية السول 3/50، ومنتهى الوصول ص 133، البحر المحيط 3/150 خ، نشر البنود 2/170-171، وإملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود دفتر 3/24.

دليل، وتخريج المناط إقامة الدليل، وكل من الدليل، وإقامته يصح أن ينسب إليه الثبوت المطلوب، لأن الدليل يثبت المطلوب بواسطة النظر وإقامة الدليل الذي هو النظر فيه يثبت المطلوب، فهما كالشيء الواحد، فيصح إطلاق المسلك على كل منهما"1. وأما في الاصطلاح فهي كما عند ابن الحاجب "تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة من ذاته لا بنص، ولا غيره كالإسكار في التحريم، والقتل العمد العدوان في القصاص"2. قال العضد: "وحاصله تعيين العلة في الأصل بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنص ولا بغيره، كالإسكار للتحريم، فإن النظر في المسكر وحكمه، ووصفه، يعلم منه كون الإسكار مناسباً لشرع التحريم، وكالقتل العمد العدوان، فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص"3. واعترض عليه بأن إبداء الملاء مة إنما هو من ذات الوصف، قاله البدخشي، وأجاب عنه بأن "قوله من ذات الأصل من سبق القلم، أو مراده بالأصل الوصف على ما قيل: إن العلة أصل في الفرع، فرع في الأصل. قال الفاضل: "وظاهر قوله فإن النظر في المسكر ... الخ، أنه أراد بالأصل ما هو المتعارف وقصد أن النظر ذاته باعتبار ماله من الوصف والحكم يفضي إلى تعيين العلة"4. وأما ابن السبكي فقد عبر عن هذا المسلك بما نصه: "المناسبة والإخالة، ويسمى استخراجها تخريج المناط، وهو تعيين العلة بإبداء المناسبة مع الاقتران، والسلامة عن القوادح"5، فالمناسبة عنده تفيد العلية بالاستناد إلى ثلاثة أمور:

_ 1 الآيات البينات للعبادي 4/85. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/239، والمنتهى ص 133. 3 انظر: المصدر السابق 2/239. 4 انظر: منهاج العقول مع نهاية السول 3/50. 5 انظر: جمع الجوامع مع شرحه وحاشية العطار 2/316-317.

الأول: إبداء المناسبة بين الوصف المعين والحكم. الثاني: أن يكون الوصف والحكم مقترنين في دليل الحكم. الثالث: سلامة الوصف المعين عن قوادح العلية. وذلك كما في حديث مسلم: "كل مسكر حرام" 1، فإن الإسكار وصف مناسب للتحريم لأنه يزيل العقل، ودرء المفسدة متمحض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه، مع أن الإسكار ورد في الحديث مقترناً بالحكم الذي هو كونه حراماً وتعليل الحرمة بالإسكار سالم من جميع القوادح، فتمت في المثال المذكور الأمور الثلاثة التي بها يستخرج مسلك المناسبة. فالقيد بالسلامة من القوداح والاقتران، مزيدان على حد ابن الحاجب الذي حد به المناسبة2. وباعتبار المناسبة في هذا المسالك يمتاز عن ترتيب الحكم على الوصف الذي هو من أقسام الإيماء، وأن اشتراكاً في اقتران الحكم بالوصف في كل منهما، فحديث مسلم الممثل به في المناسبة من الجهة التي تقدم توضيحها، وفيه الإيماء من جهة ترتيب الحكم على الوصف. ويظهر الفرق بأنه لو فرض عدم المناسبة فيه، لقيل فيه: مسلك الإيماء لعدم اشتراط المناسبة فيه عند الأكثر، ولم يقل فيه مسلك المناسبة لعدم مناسبة الوصف للحكم3. "فإن قيل: سلامة الوصف من القوادح في العلية شرط في كل مسلك، فما وجه ذكرها في هذا المسلك؟ فالجواب أن السلامة من القوادح قيد في تسمية هذا المسلك بتخريج المناط

_ 1 انظر: صحيح مسلم 6/99-100، وأبا داود 2/293. 2 انظر: المحلى مع العطار 2/316-317، إملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/25. 3 انظر: نشر البنود 2/172، إملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/26.

والمناسبة، فهي جزء من تعريف هذا المسلك، وهي بالنسبة إلى غيره من المسالك شرط خارج عن المسمى"1. وذكر الجلال المحلى أن ما وحد به ابن السبكي المناسبة حدها به ابن الحاجب، وسماها تخريج المناط، وقال: أن ما فعله ابن السبكي اقعد2. وأورد العبادي وجه الاقعدية مع المناقشة بما نصه: " قوله: وما صنعه المصنف اقعد، قال شيخنا العلامة ناصر الأمة والدين اللقاني"3: يعني لأن المناسبة والإخالة هما معنيان قائمان بالوصف المناسب، وهو الملاء مة والموافقة، فلا يناسبهما التسمية بتخريج المناط، ولا التعريف بتعيين العلة، إذ التخريج والتعيين فعلان للمستدل. وقد يدفع ذلك بأن المناسبة بالمعنى المذكور ليست من المسالك الاصطلاحية، فلا يصح عدها منها، والاصطلاحي هو التعيين المذكور، فلا بعد في التسمية والتعريف بما ذكر، انتهى. "قال": وتبعه شيخنا الشهاب - يعني عميرة - 4 في ذلك وزاد فقال: وقوله: وما صنعه المصنف اقعد، فقد علمت أنه إذا حملت المناسبة على المعنى الاصطلاحي كان ما صنعه ابن الحاجب أولى، وحملها عليه متعين إذ لا يصح جعلها من المسالك إلا بإرادة ذلك.

_ 1 انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين على مراقي السعود 3/25-26. 2 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/317. 3 هو: محمد بن حسن اللقاني المكنى بأبي عبد الله، الشهير بناصر الدين العلامة المحقق النظار المتفنن الإمام الأصولي، انتهت إليه رياسة العلم بمصر في عصره، واستقى من سائر الأقاليم، له مؤلفات منها حاشية على المحلى على جمع الجوامع، ولد سنة 833هـ، وتوفي سنة 958هـ. انظر: الفتح المبين 3/77. 4 هو: أحمد البرسلي المصري الشافعي الملقب بشهاب الدين وبعميرة، عرف بالزهد والورع وحسن الأخلاق، انتهت إليه رياسة المذهب في عصره، له حاشية على المحلى على جمع الجوامع، مخطوط، وغيرها من المؤلفات توفي سنة 956هـ. الفتح المبين 3/76.

والحاصل أن ابن الحاجب إنما أخذ المناسبة الاصطلاحية، لا المناسبة المبدأة التي هي اللغوية، وكأن الشارح فهم المحدودة هي اللغوية انتهى. قال العبادي: وأقول: "كل ذلك مندفع ... بأن المسلك هو الدليل على العلية، والمناسبة بمعنى موافقة الوصف للحكم وملاءمته له كذلك، لأنها تدل على عليته للحكم، وشأن الدليل وحقه اتصافه بكونه دليلاً وثبوت دلالته في نفس الأمر من غير اعتبار نظر المستدل فيه، وقبل وجود نظره فيه كما لا يخفى، والمناسبة بهذا المعنى كذلك، فكونها هي المسلك إن لم يتعين أو يترجح، فلا أقل من أن يصح. ولعمر الله إنَّ ذلك في غاية الظهور بأدنى تأمل، فقولهما إنه لا يصح جعلها من المسالك باطل بلا شبهة، بل جعلها من المسالك صحيح قطعاً إن لم يكن متعيناً، أو أولى، ولأن المناسبة بين المعاني اللغوية، والمعاني الاصطلاحية مرعية، وهي على ما ذكره المصنف أتم وأقوى، إذ المعنى الاصطلاحي عليه الذي هو الملاءمة المخصوصة فرد من أفراد المعنى اللغوي وهو مطلق الملاءمة، فقد نقل اسم الشيء إلى فرده، بخلاف المعنى الاصطلاحي على ما ذكره ابن الحاجب الذي هو التعيين المذكور ليس من إفراد المعنى اللغوي وإن كان متضمناً له، ولأن التصرف على ما ذكره المصنف بقدر الحاجة إذ المناسبة الخاصة تكفي في الإثبات، فالاقتصار في النقل إليها أسهل، بخلافه على ما ذكره ابن الحاجب، ففيه زيادة على الحاجة على أننا بينا أنه يجوز أن يؤول كلام المصنف إلى جعل المسلك الاستخراج والتعيين"1. والحاصل أن ابن السبكي عبر عن هذا المسلك بالمناسبة والإخالة، وابن الحاجب عبر عنه بتخريج المناط. وقد اتضح مما تقدم أنه لا مخالفة، لأن المناسبة هي دليل العلية،

_ 1 انظر: الآيات البينات 4/87-88.

واستخراجها هو إقامة الدليل وإضافة الحكم إلى كل من الدليل، وإقامة الدليل لا بأس به. وأن الخلاف إنما هو في أي الطريقتين أقعد، ويدل لذلك ما صرح به المحلة من أن ابن الحاجب حد المناسبة بما حدها به ابن السبكي وسماها بتخريج المناط. قال: "وما فعله المصنف - يعني ابن السبكي - أقعد"1 وأن العبادي نقل عن ناصر اللقاني، وشهاب الدين عميرة أن ما صنعه ابن الحاجب أقعد، لأن حمل المناسبة على المعنى الاصطلاحي أولى، إذ لا يصح جعلها من المسالك إلا بإرادة ذلك الخ ما تقدم من بيان وجه الأقعدية عند كل منهما. والحاصل أن المناسبة في الاصطلاح هي ملاءمة الوصف للحكم بحيث يلزم من ترتيب الحكم عليه وجود مصلحة، أو دفع مفسدة صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم كما في الإسكار، فإنه مناسب للتحريم، لأنه يغطي العقل وحفظ العقل مصلحة، ودرء المفسدة متمحض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه بتحريم تعاطي المسكرات. فإن قيل: تعريف ابن الحاجب، وابن السبكي يعترض عليه بلزوم الدور فيه نظراً لذكر لفظ المناسبة فيه، أجيب عنه بأن المراد هنا أعم من المعنى الاصطلاحي، لكون المراد هو المعنى اللغوي، وهو أعم من المعنى الاصطلاحي، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/317.

الفصل الثاني: في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية

الفصل الثاني في إقامة الدليل على أن المناسبة دالة على العلية تقدم أن المناسبة هي ملاءمة الوصف للحكم بحيث يلزم من ترتيب الحكم عليه حصول مصلحة للعباد، أو دفع مفسدة عنهم، وهذه المصلحة أو دفع المفسدة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وذلك كما في الإسكار، فإنه وصف مناسب للتحريم، لأنه يزيل العقل، ودرء المفسدة متمحض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه بمنعه من تعاطي المسكرات. فإذا ورد في الشرع حكم وفي محله وصف مناسب لذلك الحكم من غير أن يكون إثبات عليته له بنص أو إيماء، وكان في ترتب الحكم عليه مصلحة للعباد صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، فإنه يحصل للمجتهد الظن بأن هذا الوصف علة لذلك الحكم، وليس لديه طريق توصله إلى هذا الظن سوى مناسبة الوصف للحكم، فحينئذ يثبت أن المناسبة تدل على علية الوصف المناسب، وتقرير هذا يتوقف على أمرين: الأول: أن الأحكام معللة بمصالح العباد1، أما كونها معللة بمصالح ومقاصد، فقد استدل عليه الآمدي بالإجماع والمعقول فقال: "أما الإجماع فهو أن أئمة الفقه مجمعة على أن أحكام الله تعالى لا تخلو عن حكمة ومقصود، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كقول أصحابنا. وأما المعقول، فهو أن الله حكيم في صنعه، فرعاية الغرض في صنعه، إما أن يكون واجباً، أو لا يكون واجباً، فإن كان واجباً، فلم يخل عن المقصود وإن لم يكن واجباً، ففعله للمقصود يكون أقرب إلى موافقة المعقول من فعله بغير مقصود، فكان المقصود من فعله ظناً.

_ 1 نهاية السول 3/58، ومنهاج العقول بأسفل نهاية السول 3/56.

وإذا كان المقصود لازماً في صنعه، فالأحكام من صنعه، فكانت لغرض ومقصود والغرض أن يكون عائداً إلى الله تعالى، أو إلى العباد، ولا سبيل إلى الأول لتعاليه عن الضرر والانتفاع، ولأنه على خلاف الإجماع، فلم يبق سوى الثاني. وأيضاً فإن الأحكام مما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت رحمة للعالمين لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 1، فلو خلت الأحكام عن حكمة عائدة إلى العالمين، ما كانت رحمة، بل نقمة لكون التكليف بها محض تعب ونصب. وأيضاً قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 2، فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة، كانت نقمة لا رحمة لما سبق، وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 3، فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد، لكان شرعها ضرراً محضاً وكان ذلك بسبب الإسلام، وهو خلاف النص"4. واستدل الإمام على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح العباد بوجوه: "أحدها: أن الله تعلى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين بمرجح أو لا لمرجح، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين بلا مرجح وهو محال، فثبت القسم الأول. وذلك المرجح إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى، أو إلى العبد، والأول باطل بإجماع المسلمين، فتعين الثاني، وهو أنه تعالى إنما شرع الأحكام لأمر عائد إلى العبد، والعائد إلى العبد إما أن يكون مصلحة العبد، أو مفسدة أو ما لا يكون مصلحة ولا مفسدة، والقسم الثاني والثالث باطلان باتفاق العقلاء فبقي الأول، فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام لمصلحة العباد.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 107. 2 سورة الأعراف آية: 156. 3 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122. 4 انظر: الأحكام للآمدي 3/263-264.

وثانيها: أنه تعالى حكيم بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلى المصلحة، فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثاً، والعبث على الله تعالى محال للنص والإجماع، والمعقول. وأما النص، فقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} 1، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} 2، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} 3. وأما الإجماع، فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث. وأما المعقول، فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال، فثبت أنه لا بد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى كما بينا، فلا بد من عودها إلى العبد، فثبت أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد. وثالثها: أنه تعالى خلق الآدمي مشرفاً مكرماً، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 4، ومن كرم أحداً ثم سعى في تحصيل مطلوبه كان ذلك السعي ملائماً لأفعال العقلاء مستحسناً فيما بينهم، فإذن، ظن كون المكلف مشرفاً مكرماً يقتضي ظن أنه تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له. ورابعها: أنه تعالى خلق الآدميين لعبادته، لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5، والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلا بد وأن يزيح علته، ويسعى في تحصيل منافعه، ودفع المضار عنه، ليصير فارغاً البال، فيتمكن من الاشتغال بأداء ما أمره به، والاجتناب عما نهاه عنه، فكونه مكلفاً يقتضي ظن أنه تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة.

_ 1 سورة المؤمنون آية: 115. 2 سورة آل عمران آية: 191. 3 سورة الدخان آية: 39. 4 سورة الإسراء آية: 70. 5 سورة الذاريات آية: 59.

وخامسها: النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 1، وقال: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 2، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} 3، وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 5، وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" 6، وقال: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 7. وسادسهاً: أنه تعالى وصف نفسه بكونه رؤوفاً رحيماً بعباده، وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 8، فلو شرع ما لا يكون فيه مصلحة لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة. فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصالح العباد. ثم اختلف الناس بعد ذلك: فالمعتزلة سرحوا بأنه يجب أن يكون فعله مشتملاً على المصلحة، وأنه يقبح من الله تعالى القبيح، وفعل العبث.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 107. 2 سورة البقرة آية: 29. 3 سورة الجاثية آية: 13. 4 سورة البقرة آية: 185. 5 سورة الحج آية: 78. 6 رواه السيوطي في الجامع الصغير بلفظ "بعثت بالحنفية السمحة، ومن خالف سنتي فليس مني"، وقال: ضعيف، قال المناوي: "وفيه علي بن عمر الحربي أورده الذهبي في الضعفاء، وقال: صدوق ضعفه البرقاني، ومسلم بن عبد ربه ضعفه الأزدي، ومن ثم أطلق الحافظ العراقي ضعف سنده، وقال العلائي: مسلم ضعفه الأزدي، ولم أجد أحداً وثقه لكن له طرق ثلاث ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن، انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 3/203. قال العجلوني: ورواه الديلمي عن عائشة رضي الله عنها في حديث الحبشة ولعبهم ونظر عائشة إليهم، قال: رواه أحمد بسند حسن عنها، وترجم البخاري في صحيحه بلفظ "أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة"، ورواه في الأدب المفرد عن ابن عباس، انظر: كشف الخفاء 1/217. 7 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122. 8 سورة الأعراف آية: 156.

والفقهاء يقولون: إنما شرع الأحكام لمصالح العباد تفضلاً وإحساناً على عباده"1. وأما البيضاوي، فقد استدل على أن الله تعالى شرع أحكامه لمصالح العباد بالاستقراء، وقرر الأسنوي والبدخشي ذلك بأن العلماء تتبعوا أحكام الشرع، فوجدوا كل حكم منها مشتملاً على مصلحة عائدة إلى العباد. ولما كانت المصالح غير منفكة عن الأحكام، فإن شرعيتها حينئذ للمصالح لكن ذلك على سبيل التفضل والإحسان، لا على سبيل الوجوب كما قالت المعتزلة2. وواضح من النقول المتقدمة أن الأحكام معللة بمصالح العباد، وأن ذلك تفضل من الله على عباده. الأمر الثاني: أن تكون المصلحة التي ترتب الحكم فيها على الوصف لم توجد معها مصلحة أخرى ناشئة عن هذا الحكم، ليحصل ظن كون الوصف علة للحكم، إذ لو كان معها مصلحة أخرى، لم يحصل ظن علية الوصف للحكم، لجواز أن يكون الوصف الآخر علة للحكم. وعلى هذا فحيث ثبت حكم شرعي، وهناك وصف مناسب له متضمن لمصلحة العبد، ولم يوجد غيره من الأوصاف الصالحة للعلية غلب على الظن كونه علة لذلك الحكم، لكون الأصل عدم غيره من الأوصاف الصالحة للعلية، وامتناع خلو الحكم عن العلة، فالمناسبة حينئذ تفيد ظن العلية، والظن يجب العمل به، لإجماع الصحابة على وجوب اتباعه في الأحكام الشرعية، فثبت أن المناسبة تفيد العلية وهو المطلوب3.

_ 1 انظر: المحصول ص 309 خ. 2 انظر: نهاية السول 3/58، ومنهاج العقول 3/56. 3 الأحكام للآمدي 3/264، ونهاية السول 3/58، ومنهاج العقول 3/56.

وأما إمام الحرمين، فقد استدل على كون المناسبة حجة بتمسك الصحابة - رضي الله عنهم - بها، حيث كانوا يلحقون غير المنصوص عليه بالمنصوص، إذا غلب على ظنهم أنه يشبهه1. لكن يرد على هذا ما ذكره الأصفهاني في الرسالة البهائية أنه "ما نقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب، فلا يبعدان يتعبدنا بنوع من الظن الغالب، ونحن لا نعلم ذلك النوع، ثم قال: الأولى الاعتماد على العمومات كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} 2، وقول معاذ: "اجتهد رأى"3. وأجاب عنه الزركشي بقوله: "والحق أن استقراء أحكام الشرع دل على ضبط هذه الأحكام بالمصالح، وهذا كاف فيما يرومه، وذلك بفضل الله جل اسمه، لا وجوباً عليه خلافاً للمعتزلة في وجوب رعاية الأصلح"4. ثم قال إمام الحرمين مبيناً وجه دلالة المناسبة على العلية: "إذا ثبت حكم في أصل، وكان يلوح في سبيل الظن استناد ذلك إلى أمر، ولم يناقض ذلك الأمر شيء، فهذا هو الضبط الذي لا يفرض عليه مزيد، فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استناداً إليه، فذلك المعنى هو المظنون علماً وعلة، لاقتضاء الحكم، فإذا ظهر هذا وتبين أن الظن كاف، وتوقع الخطأ غير قادح، ولا مانع من تعليق الحكم، كان ذلك كافياً بالغاً. ومما يعضد به الغرض: أن كل حكم أشعر بعلة ومقتضى، ولم يدرأه أصل في الشرع، فهو الذي يقضي بكونه معتبر النظر، فالشارع ما أشار إلى جميع الأحكام، واستنبط نظار الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يتلقون نظرهم مما ذكرت قطعاً. فإن قيل: فالإخالة مع السلامة إذن هي الدالة؟ قلنا: لا، ولكن إذا ثبت

_ 1 انظر: البرهان ص 224 خ. 2 سورة الحشر آية: 2. 3 انظر: المحصول 3/250-251، والحديث أخرجه أبو داود 2/272. 4 انظر: البحر المحيط 3/151.

الإخالة، ولاحت المناسبة، واندفعت المبطلات، التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي الله عنهم، فالدليل إجماعهم إذن"1. والحاصل أن هذه النقول التي نقلتها أفادت إقامة الدليل على اعتبار المناسبة، وذلك للإجماع على تعليل أحكام الله تعالى بمصالح العباد، ولأن العقل دل على رعاية الله تعالى لها تفضلاً منه عليهم ورحمة بهم على مذهب أهل السنة، وإيجاباً على رأي المعتزلة، لكون ذلك هو مقتضى حكمته كما أنه هو مقتضى ما تضمنته آيات القرآن السالفة الذكر من نفي الضرر والحرج على العباد المقتضى إرادة مصالحهم. فوجود هذه المصالح، وترتب الأحكام عليها يفيد حصول الظن الغالب بعليتها لها، والظن يجب العمل له، لإجماع الصحابة على اتباع الظن في الشرعيات، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: البرهان ص 224 خ، و 2/804 من المطبوع.

الفصل الثالث: في تعريف المناسب

الفصل الثالث في تعريف المناسب المناسب في اللغة الملائم أي الموافق لأفعال العقلاء في العادات، كما يقال: هذه الؤلؤة مناسبة لهذه الؤلؤة بمعنى أن جمعها في سلك موافق لعادات العقلاء في ضم الشيء إلى ما يماثله1. وأما في الاصطلاح فقد اختلف الأصوليون في تعريفه، فعرفوه بتعريفات نذكرها فيما يلي: التعريف الأول: لأبي زيد الدبوسي، وهو "ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول"2. وهذا التعريف قد اعترض عليه الآمدي بعد أن اعترف بأنه موافق للوضع اللغوي، حيث قال: "وما ذكره وإن كان موافقاً للوضع اللغوي، حيث يقال: هذا الشيء مناسب لهذا الشيء، أي ملائم له، غير أن تفسير المناسب بهذا المعنى وإن أمكن أن يتحققه الناظر مع نفسه، فلا طريق إلى المُناظِر في إثباته على خصمه، في مقام النظر، لإمكان أن يقول الخصم: هذا مما لم يتلقه قلبي بالقبول، فلا يكون مناسباً بالنسبة إلي، وإن تلقاه عقل غيري بالقبول، فإنه ليس الاحتجاج عليّ بتلقي عقل غيري له بالقبول أولى من الاحتجاج على غيري بعدم تلقي عقلي بالقبول"3. ومقتضى هذا أن أبا زيد يرى أن المناسب بهذا التعريف حجة للناظر في نفسه، لأنه لا يكابر عقله، لكونه مأخوذاً بما يغلب على ظنه، لا للمُناظر لعدم إمكان إثبات عليته في مقام المناظرة4.

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/318، البحر المحيط 3/150 خ. 2 انظر: التقرير والتحبير 3/159، الأحكام للآمدي 3/248. 3 انظر: الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/248. 4 التقرير والتحبير 3/160، وكشف الأسرار 3/353.

غير أن المحلى رد ما ذهب إليه أبو زيد من منع التمسك بالمناسب في مقام المناظرة، وصحح كون المناسب بهذا المعنى حجة للناظر على خصمه. وبين الشربيني وجه الرد بقوله: "وحاصل الرد أن المراد تلقي العقول من حيث هي، لا عقل المناظر ومتى كان ظاهر المناسبة كفى تلقي القبول، إذ المدار على الظن، فإنكار الخصم حينئذ مكابرة"1. وما ادعاه أبو زيد من عدم إمكان إثباته على الخصم رده الغزالي بأن المناسب معنى معقول ظاهر في العقل، يتيسر إثباته على الخصم بطريق النظر العقلي بحيث ينسب الخصم في جحده بعد الإظهار بطريقه إلى النكر والعناد2. ولعل أبا زيد لم يعتبر المناسب بهذا المعنى، لأنه من أئمة الحنفية المانعين للاحتجاج بالإخالة أي التمسك بطريق المناسبة في مقام المناظرة، لأنهم اشترطوا ضم العدالة إليها بإقامة الدليل على كون الوصف ملائماً مؤثراً، لإلزام الخصم. والتأثير عندهم يثبت باعتبار الشارع نوع الوصف في نوع الحكم أو جنسه، أو اعتبار جنسه في جنس الحكم أو نوعه، وهو بهذا المعنى متفق عليه. ويدل لهذا أن الإخالة عندهم لا تنفك عن المعارضة، إذ يقول الخصم لم يقبله عقلي، عند قول المناظر هذا مناسب، لأنه لو عرض على العقول لتلقته بالقبول3، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى. وذكر الشيخ عيسى منون "أن هذا التعريف يرد عليه ما أورده الأسنوي على تعريفي الإمام الآتين من أن السرقة والزنا وصفان مناسبان لكل منهما علة لوجوب حده، والقتل العمد العدوان وصف مناسب وقع علة لوجوب القصاص، وغير ذلك من الأوصاف المناسبة، وليست مما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، فلا يكون التعريف جامعاً.

_ 1 انظر: تعليقات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/319، والمحلى 2/319. 2 انظر: شفاء الغليل ص 143. 3 انظر: التقرير والتحبير 3/160، سلم الوصول على نهاية السول 4/76.

والجواب ما أشار إليه محقق المحلى حيث زاد على التعريف "من حيث التعليل". قال: "وتوضيحه أن يقال: ليس المراد ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، من حيث ذاته، بل من حيث التعليل به، وترتب الحكم عليه ولا شك أن ما ذكر في السؤال تتلقاه العقول بالقبول من تلك الحيثية. فيكون حاصل شرح التعريف بعد الجواب عن هذين الاعتراضين: المناسب هو الوصف الذي لو عرض ربط الحكم وترتبه عليه على العقول السليمة في ذاتها بقطع النظر عما يشوبها من العناد والمكابرة1، لتلقته بالقبول، واعتبرته موافقاً وملائماً لمقتضاها، ليس متنافراً ولا متدافعاً كالسرقة، فإنه وصف قد ربط به الحكم، وهو وجوب الحد بالقطع، ولو نظرت إليه العقول السليمة، لاعتبرته ملائماً وموافقاً لما يترتب عليه من المصالح ودفع المفاسد"2. التعريف الثاني: للآمدي، فإنه لما اعترض على تعريف أبي زيد بما تقدم ولم يجب عنه قال: "والحق في ذلك أن يقال المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصوداً من شرع ذلك الحكم، وسواء كان ذلك الحكم نفياً أو إثباتاً، وسواء كان ذلك المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة"3. ومثل تعريف الآمدي هذا تعريف ابن الحاجب، فإنه عرفه بأنه "وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء. "والمقصود إما جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، والمصلحة اللذة ووسيلتها،

_ 1 المكابرة: المنازعة في المسألة العلمية لا لإظهار الصواب، بل لإلزام الخصم، وقيل مدامغة الحق بعد العلم به. انظر: التعريفات للجرجاني ص 227. 2 انظر: نبراس العقول 1/268. 3 انظر: الأحكام للآمدي 3/248.

والمفسدة الألم ووسيلته"1، وسيأتي الفرق بين التعريفين، وإن كان مؤداهما واحد2. شرح تعريف الآمدي: الوصف هو المعنى القائم بالغير، وهو جنس في التعريف يشمل سائر الأوصاف وقوله "ظاهر" أي واضح جلي بمكن الاطلاع عليه بحسب العادة، وهو قيد أول خرج به الخفي كسلوق الرحم بالنسبة لوجوب العدة، فهو وإن كان في الحقيقة هو المقتضى لوجوبها، إلا أنه لا يصلح التعليل به لخفائه، فَنِيطَ الحكم بمظنته، وهو الخلوة فإنه وصف ظاهر منضبط، وكالعمدية من قولك القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص، فإن القصد وعدمه أمر نفسي لا يمكن إدراكه، فنِيطَ القصاص بما يلازم العمدية من أفعال يقضي في العرف بكونها عمداً كاستعمال الجارح3. والمنضبط هو الذي لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، وهو قيد ثان خرج به غير المنضبط كمشقة السفر، فإنها تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فهي أشد على الراجل من الراكب، وفي الصيف من الشتاء، وسلوك الوعر من السهل، وهي وإن كانت في الحقيقة هي المقتضية لرخص السفر، إلا أنه لا يصح التعليل بها لتفاوتها وعدم ضبطها فاعتبر مظنتها، وهو السفر مسافة معينة، لانضباطه. وقوله يلزم من ترتيب الحكم الخ قيد ثالث خرج به الوصف الطردي والوصف الشبهي. أما الطردي، فلأنه لا يصلح لإناطة الحكم، للإجماع على إلغائه كما في الطول والقصر، وأما الشبهي فلما ذكره السعد من أن قيد ابن الحاجب في تعريفه

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/239. 2 انظر: ص 289-290، 301 من هذا البحث. 3 انظر: العضد وحاشية السعد عليه 2/239.

المتقدم بقوله "عقلا" احترز به1 عن الشبه، إذ لا يلزم من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء، لعدم مناسبته حقيقة، وإنما مناسبته لشبهه بالمناسب. وقد وجه صاحب النبراس قول السعد، وأورد عليه اعتراضاًَ وأجاب عنه بما نصه: "وهذا ظاهر بالنسبة لعبارة ابن الحاجب مع تفسير العضد في هذا التعريف، فإن عبارته ... هكذا يلزم من ترتيب الحكم ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء، لأنه غير مناسب للحكم بحسب ما يظهر لنا، وإنما التفت إليه الشارع في بعض المواضع، فدل ذلك على أنه غير مناسب في الواقع يترتب على ربط الحكم به مصلحة لا ندركها. أما عبارة الآمدي التي نحن بصدد شرحها، فخروج الشبه بهذا القيد إنما هو بالنظر لما يظهر لنا، وإلا فالواقع أنه لا بد من ترتيب الحكم على الوصف الشبهي من حصول ما يكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وإن لم يظهر بنا كما ظهر في الوصف المناسب"2. والمنفعة هي اللذة وما يكون وسيلة إليها والمضرة هي الألم وما يكون وسيلة إليه، قال الإمام: "واللذة قيل في حدها: أنها إدراك الملائم، والألم إدراك المنافي، ثم قال: والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما لأنهما من أظهر ما يجده الإنسان من نفسه ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما وبينهما وبين غيرهما وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه"3. غير أن الأصفهاني تعقبه حيث قال: "وأما قولهم اللذة هي إدراك الملائم فليس كذلك بل إدراك الملائم سبب اللذة"4.

_ 1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/239، المحلى مع العطار 2/319. 2 نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/269. 3 انظر: المحصول ص 305 خ. 4 انظر: الأصول شرح المحصول 3/238.

و"أو" في قوله سواء كان المقصود جلب منفعة أو دفع مضرة مانعة خلو فتجوز الجمع، وذلك كما إذا كان المقصود من شرعية القصاص جلب منفعة إبقاء حياة من يريد القتل، ودفع ضرر التعدي بالقتل بإيجاب القصاص، فإن الغالب أن من علم أنه يقتص منه يكف عن التعدي وبها ظهر وجه الجمع بينهما1. هذا حاصل القول في شرح تعريف الآمدي ومثله تعريف ابن الحاجب، فلا فرق بينهما سوى أن ابن الحاجب لم يذكر قول الآمدي "من شرع الحكم" بل اقتصر على قوله مقصوداً. قال السعد: "وفسر العضد المقصود بما يكون مقصوداً للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مفسدة لئلا يتوهم أن المراد به ما يكون مقصوداً من شرعية الحكم فيلزم الدور لأن ذلك "أي المقصود" إنما يعرف بكونه مناسباً، فلو عرف كونه مناسباً بذلك كان دوراً2. لكن يرد على ما ذكر السعد أن ابن السبكي اختار تعريف الآمدي من غير أن يورد الدور، ولعله لم يسلمه. قال العبادي: "وقد عبر المصنف والشارح بهذا الذي يوهم المستلزم للدور، اللهم إلا أن يمنعا أن ذلك إنما يعرف بكونه مناسباً"3. وأجاب صاحب نبراس عما يتوهم من الدور بقوله: "وأنت إذا تأملت حق التأمل وجدت أن تعريف الآمدي سالم من الدور، لأن تصور مفهوم المقصود من شرع الحكم لا يتوقف على تصور المناسب، والمتوقف إنما هو معرفة كون هذا الشيء المعين مقصوداً من شرع حكم معين على المناسب له بخصوصه"4.

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/270، نهاية السول 3/52. 2 انظر: حاشية السعد على العضد 2/239، والدور تقدم تعريفه. 3 انظر: الآيات البينات 4/92. 4 انظر: نبراس العقول 1/270.

الاعتراضات الواردة على هذا التعريف، والإجابة عنها: 1 - اعترض الأسنوي على هذا التعريف بأن "المناسب قد يكون ظاهراً منضبطاً وقد لا يكون، بدليل صحة انقسامه إليهما حيث "إن الأصوليين" قالوا: إن كان ظاهراً منضبطاً اعتبر في نفسه، وإن كان خفياً، أو غير منضبط اعتبر مظنته"1، فالتعريف غير جامع، لأنه لا يشمل الخفي وغير المنضبط. وأجاب عنه العبادي: "بأن التقييد بالظهور والانضباط باعتبار ما يصلح بنفسه للتعليل"2، أعم من أن يكون ظاهراً بنفسه أو بملازمه، يعني أن المناسب إن كان ظاهراً منضبطاً كالسرقة والزنا في وجوب الحد كان هو العلة بنفسه، وإن كان خفياً أو غير منضبط كعلوق الرحم، والمشقة اعتبر مظنته، وهو وصف ظاهر منضبط يلازمه كالسفر والخلوة، مثلاً إذ الوصف مُعرّف للحكم، والمُعّرِفُ لا بد أن يكون ظاهراً منضبطاً. وهذا الجواب مبني على تسليم انقسام المناسب إلى القسمين المذكورين إما على منع تقسيم المناسب إلى ظاهر وخفي، وإلى منضبط وغير منضبط، فلا يرد الاعتراض، لأن الأصوليين إنما ذكروا هذه الأقسام لمطلق الوصف من حيث هو، لا أقساماً للمناسب. أما المناسب فلا يكون إلا ظاهراً منضبطاً، وعلى ذلك يكون المناسب في القسم الثاني: هو الوصف الملازم المعبر عنه بالمظنة كالسفر مثلاً، وإن كانت مناسبته باعتبار ما يظن فيه من المشقة، فلا يرد هذا الإشكال أصلاً، لأن الكلام في المناسب الذي هو علة، لا في المناسب مطلقاً3.

_ 1 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/52-53. 2 انظر: الآيات البينات 4/90. 3 انظر: تقريرات الشربيني بهامش العطار 2/319، أصول الفقه لأبي النور زهير 4/88، نبراس العقول 1/271، تعليقات د. عثمان مريزيق.

2 - ما نقله الزركشي عن صفي الدين الهندي1 وهو: "أنه اعتبر في ماهية المناسب ما هو خارج عنه وهو اقتران الحكم للوصف وهو خارج عن ماهية المناسب بدليل أنه يقال: المناسبة مع الاقتران دليل العلية، ولو كان الاقتران داخلاً في الماهية لما صح هذا"2. ويجاب عنه بأن "الاقتران المعتبر دليلاً كما سبق في الإيماء هو اقتران وصف ملفوظ أو مقدر مع الحكم، والترتيب المأخوذ في التعريف معناه أن الحكم شرع لأجله من غير لزوم أن يكون مذكوراً معه، أو مقدراً في نظم الكلام ولو عممنا في الوصف المقترن في الإيماء بأن جعلناه شاملاً للمستنبطة لزم أن يكون الإيماء في كل صور العلة سواء كان طريق استخراجها المناسبة، أو الدوران أو غيرهما كما سبق تحقيقه في الإيماء"3. 3 - نقله أيضاً الزركشي عن الهندي أن هذا التعريق "غير جامع" لأن التعليل بالحكمة الظاهرة المنضبطة جائز على ما اختاره قائل هذا الحد والوصفية غير متحققة منها مع تحقق المناسبة4. وأجيب عنه "بأن الحكمة تطلق بإطلاقين: تطلق أولاً على ما كانت واسطة في ترتب الحكم على الوصف كالمشقة، وتطلق ثانياً: على المقصود للشارع من شرع الحكم كالتخفيف. والظاهر أن مرادهم بالحكمة التي يجوز التعليل بها إذا كانت ظاهرة منضبطة

_ 1 هو: أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الملقب بصفي الدين الهندي، الفقيه الشافعي الأصولي، ولد سنة 644هـ اشتهر بعلمه حتى علا صيته، كان مفتياً، وقد جرت مناظرة بينه وبين شيخ الإسلام ابن تيمية بحضرة الأمير ننكز فانتصر الأمير لصفي الدين وأمر بحبس ابن تيمية، له مؤلفات منها في أصول الفقه نهاية الوصول إلى علم الأصول، توفي سنة 715هـ. الفتح المبين 2/116، الأعلام للزركشي 7/72. 2 انظر: البحر المحيط 3/151 خ. 3 انظر: نبراس العقول 1/272. 4 انظر: البحر المحيط 3/151.

هي الأولى، وحينئذ لا نسلم أنه يصدق عليها التعريف، فإنه يقال لها: وصف ظاهر الخ، كما يؤخذ من السعد على العضد، والله تعالى أعلم1. التعريف الثالث والرابع، لأبي عبد الله الرازي: قال الأسنوي: "قال الإمام: من لا يعلل أحكام الله تعالى يقول: إن المناسب هو "الملائم لأفعال العقلاء في العادات". ومن يعللها يقول: "إنه الوصف المفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً"2. والذي في المحصول هو: الأول: "هو الذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً"، ويعبر عن التحصيل بجلب المنفعة، وعن الإبقاء بدفع المضرة. الثاني: "أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات"3. وواضح أن ما في المحصول موافق لما نقله الأسنوي عن الإمام، لأن التعريف الثاني مما في المحصول هو الأول بعينه عند الأسنوي، وأن الأول مما في المحصول موافق للثاني عند الأسنوي، لأن "ما يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلاً وإبقاءً" معناه أن المناسب هو ما يفضي إلى ما يوافق الإنسان حال كون الموافق جالباً للمنفعة، أو دافعاً للمضرة، فإذاً لا فرق بين عبارة الإمام، وبين ما نسبه إليه الأسنوي، لأن الوصف الجالب من حيث ترتيب الحكم عليه، هو بعينه الوصف المفضي إلى الجالب4، والله تعالى أعلم. شرح التعريفين: أما التعريف الأول، فمعناه أن المناسب هو الوصف الملائم أي الموافق - من

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/272. 2 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/53. 3 انظر: المحصول 2 من القسم الثاني ص 218-219 ط جامعة الإمام. 4 انظر: نبراس العقول 1/275.

حيث ضم الحكم إليه وترتيبه عليه، لا من حيث ذاته - لأفعال العقلاء في مطرد العادات من ضم الشيء إلى ما يوافقه بحيث إذا أضيف الحكم إلى الوصف كان مناسباً لمشروعية الحكم، لما ترتب عليه من جلب المصلحة، أو دفع المفسدة. وأما التعريف الثاني، فحاصله أن المناسب هو الوصف المفضي عقلاً إلى حكم يجلب للإنسان نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً كالقتل العمد العدوان، فإنه يتقضي وجوب القصاص المقتضي لإبقاء الحياة، ودفع مضرة الهلاك1. الاعتراضات الواردة على التعريفين، والإجابة عنها: اعترض الأسنوي على التعريف الأول، بأن الأصوليين نصوا على أن القتل العمد العدوان، والإسكار، والسرقة والزنا، أوصاف مناسبة لمشروعية أحكامها، مع أنها غير ملائمة لأفعال العقلاء، بل إن العقلاء ينكرونها، وعلى ذلك فالتعريف لا يطابق المعرف2. وأجيب عنه بأن المراد بملاءمتها لأفعال العقلاء ملاءمتها من حيث ترتيب الحكم عليها، لا من اعتبار ذواتها. ومعلوم أن الأوصاف المذكورة ملائمة لأفعال العقلاء من هذه الحيثية3. واعترض على الثاني بأنه غير جامع لأفراد المعرف، لأنه لا يشمل القتل العمد العدوان باعتبار كونه مفسدة، إذ المفسدة لا تجلب المصلحة، ولا تدفع المضرة. كما لا يشمل باقي الأوصاف السابقة4. وواضح أن الاعتراض إنما يتوجه إلى التعريف إذا قصد من "ما" في قوله ما يجلب المصدرية، أما إذا جعلت نكرة موصوفة مراداً منها الحكم فلا يتوجه

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/273، رسالة مباحث القياس الأصولي ص 125. 2 انظر: نهاية السول بأعلى منهاج العقول 3/53، ومنهاج العقول 3/51. 3 انظر: الآيات البينات 4/88. 4 انظر: نهاية السول 3/53، منهاج العقول 3/51.

الاعتراض، لأن الأوصاف المذكورة تفضي إلى أحكامها، والأحكام تجلب المنافع وتدفع المفاسد. وحتى على تسليم أن "ما" مصدرية، فإن المقصود من جلب المنفعة ودفع المفسدة، الجلب بواسطة شرعية الأحكام عند الأوصاف، ومعلوم أن الأوصاف المذكورة تجلب المنفعة وتدفع المفسدة بواسطة شرع الأحكام عندها1. التعريف الخامس للبيضاوي: فقد عرفه بأنه "ما يجلب للإنسان نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً"2. وقد اعترض عليه الأسنوي بقوله: "فجعل المقاصد أنفسها أوصافاً مناسبة على خلاف اختيار الإمام، وهو فاسد، ألا ترى مشروعية القصاص مثلاً جالبة، أو دافعة كما بيناه، وليست هي الوصف المناسب لأن المناسب من أقسام العلل، فيكون القتل في مثالنا، لا المشروعية، لأنها معلولة لا علة، وكذلك الردة وغيرها مما قلناه"3. وظاهر كلام الأسنوي أن "ما" في تعريف البيضاوي تقع على الحكم المناسب والحكم غير الوصف المناسب، بل هو مترتب عليه، ويرجح ذلك قول الشارح ألا ترى أن مشروعية القصاص مثلاً جالبة، أو دافعة. أما إن أريد بها المصالح المترتبة على شرع الحكم، فإنه يستقيم أن يقال: أن هذه المصالح مجلوبة لا جالبة، ومدفوعة لا دافعة. فالحاصل أن "ما" إن وقعت في كلام المصنف على حكم كما فهمه الشارح لزمه أن يكون جعل الأحكام أنفسها أوصافاً مناسبة، والحكم غير الوصف، وإن وقعت على الوصف لزمه اعتراض هو أن الوصف المناسب الذي هو علة لا يجلب ولا يدفع.

_ 1 انظر: أصول الفقه لأبي النور زهير 4/90. 2 انظر: المنهاج للبيضاوي مع شرحيه 3/50. 3 انظر: نهاية السول 3/53.

ويجاب عنه بأنه لا مانع من أن تكون ما في تعريف البيضاوي واقعة على وصف، والوصف يجلب المنفعة، ويدفع المضرة بواسطة ترتب الحكم عليه كما تقدم لا بذاته1. "ولا شك أيضاً أن الأحكام الشرعية لا يصدق عليها أنها جالبة أو دافعة من حيث ترتيب الحكم عليها، بل من حيث ترتيبها هي على الأوصاف فلا يكون التعريف شاملاً لها، فاندفع الاعتراض ... فظهر بهذا أنه جامع مانع، وأنه يرجع في المعنى إلى التعريف الثاني من تعريفي الإمام "الذين نقلهما عنه الأسنوي"، لأن إسناد الجلب أو الدفع هنا إلى الوصف، لا ينافي إسناده إلى الحكم في تعريف الإمام، لما تقدم أن الجالب، أو الدافع في الحقيقة هو ترتيب الحكم على الوصف، لا نفس الوصف، فالمسند إليه متحد في المعنى فيهما، ولذا جعلهما الجلال المحلّي في شرح جمع الجوامع تعريفاً واحداً"2. الموازنة بين التعريفات: يفهم من شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع أن هذه التعريفات متقاربة في المعنى، ولعل ذلك لكونها تصدق على شيء واحد، لأن ما يصدق عليه الملائم لأفعال العقلاء، يصدق عليه ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول كما يصدق عليه أنه يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً بالجعل عادة، وكذلك يصدق عليه كونه يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للشارع من حصول مصلحة أو دفع مفسدة. لكن هذا بصرف النظر عن قيدي الظهور والانضباط، اللهم إلا أن يقال: إن هذين القيدين في الحقيقة من شروط ما يكون علة في ذاته كما تقدم.

_ 1 انظر: الجواب في الآيات البينات 4/88، وتفاصيل ذلك كله في تعليقات د. عثمان مريزيق على القياس في الدفتر عندي. 2 رسالة مباحث القياس الأصولي للشيخ سويلم ص 137.

ويدل لتقارب المعنى أن الجلال المحلى عندما شرحها لم يضعف أي واحد منها، بل صرح - بعد أن ذكر منها: الملائم لأفعال العقلاء وما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول - بأنهما متقاربان1. وبيّن العبادي وجه التقارب بأمرين: الأول: أنه يمكن أن يوجه التقارب باتحادهما ذاتاً، واختلافهما مفهوماً لأنه اعتبر في كل منهما ما لم يعتبر في الآخر. الثاني: أن اقتصاره على تقارب هذين لعله لظهوره2، لأن الملائم للعقول تتلقاه بالقبول، كما أن العضد صرح بأن تعريف أبي زيد مقارب لتعريف ابن الحاجب3، وبين السعد وجه التقارب بأن "تلقى العقول بالقبول في قوة حصول ما يصلح مقصوداً للعقلاء من ترتيب الحكم عليه، إلا انه لم يصرح بالظهور والانضباط"4. قال العبادي: "فثبت بذلك التقارب بين ما عدى الثاني". "قال": ولا يخفى إمكان رد الثاني إليها أيضاً، لأن ما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً أي بالجعل عادة ملائم لأفعال العقلاء عادة، وتتلقاه العقول بالقبول ويحصل من ترتيب الحكم عليه ما يحصل أن يكون مقصوداً ... الخ. ولا يرد أن هذا قول من يعلل أحكام الله تعالى بالمصالح كما نقله الشارح عن المحصول، لأن ذلك غير لازم. فقد قال السيد الجرجاني: إذا ترتب على فعل أثر فمن حيث أنه ثمرته يسمى فائدة، ومن حيث أنه طرف للفعل يسمى غاية، ثم إن كان سبباً لإقدام الفاعل يسمى بالقياس إلى الفاعل غرضاً، وإن لم يكن فغاية فقط، وأفعال الله تعالى يترتب عليها حكم وفوائد لا تعد.

_ 1 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/319، نبراس العقول 1/275. 2 الآيات البينات 4/89. 3 العضد 2/240. 4 حاشية السعد على العضد 2/240.

فذهب الأشاعرة والحكماء إلى أنها غايات ومنافع راجعة إلى الخلق لا غرضاً، وعلة لفعله لوجهين، وبينهما انتهى. وحينئذ فيجوز أن يقال في ترتب حصول النفع أو دفع الضرر على ربط الحكم بعلته: ما قاله الأشاعرة في تلك الحكم والمصالح المترتبة على أفعال الله تعالى من غير لزوم محذور على ذلك، والله تعالى أعلم1. وهذه التعاريف وإن كانت متقاربة لما قدمته إلا أن أخصها هو تعريف ابن الحاجب الذي تبع فيه الآمدي، لأنه قاصر على تعريف المناسب الذي يصلح للتعليل بنفسه، وهو الوصف الظاهر المنضبط، ولأنه لا يحتاج إلى تأويل بخلاف غيره المشتمل على الخفي والمضطرب، فهو يحتاج إلى تأويل، وما لا يحتاج أولى مما يحتاج، والله تعالى أعلم.

_ 1 الآيات البينات 4/89-90.

الباب الثاني: في تقسيمات المناسب

الباب الثاني: في تقسيمات المناسب الفصل الأول: في تقسيمه باعتبار ذات المناسبة ... تمهيد قسم الأصوليون المناسب تقسيمات باعتبارات مختلفة، فقسموه أولاً باعتبار ذات المناسبة إلى: حقيقي وإقناعي. وقسموا الحقيقي إلى: دنيوي وأخروي، والدنيوي إلى: ضروري وحاجي، وتحسيني. وقسموه ثانياً باعتبار إفضائه إلى المقصود بأن يكون حصول المقصود منه يقيناً أو ظناً، أو أن يتساوى الحصول وعدمه، أو يكون نفي الحصول أرجح، أو يكون فائتاً بالكلية. وقسموه ثالثاً بالنظر إلى اعتبار الشارع له، وعدم اعتباره له1.

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/276، رسالة مباحث القياس الأصولي ص 137.

الفصل الأول وفيه مباحث: البحث الأول ينقسم المناسب باعتبار مناسبته للحكم إلى: حقيقي، وإقناعي، فالحقيقي هو الذي لا تزول مناسبته بالبحث والتأمل، بل تزداد وضوحاً كلما زاد البحث والتأمل فيه، كالإسكار، فإنه مناسب للتحريم من حيث أن تحريم المسكر يترتب عليه حفظ العقول، وكالقتل العمد العدوان، فإنه مناسب لوجوب القصاص لأن في ترتيب وجوب القصاص على القتل العمد العدوان حفظ النفوس. والمناسبة في كل من المثالين لا تزول بالتأمل، والتفكر، بل تزداد وضوحاً كلما زاد التأمل والتفكر. وأما الاقناعي، فهر الذي تتخيل مناسبته في أول الأمر، غير أنه إذا سلط عليه البحث، وسدد إليه النظر ظهر عدم مناسبته. مثاله: تعليل الشافعي رحمه الله تحريم بيع الخمر والميتة وسائر النجاسات بنجاستها، وقياس الكلب والخنزير عليها. ووجه المناسبة أن كونه نجساً يناسب إذلاله، واجتنابه، ومقابلته بالمال يناسب إعزازه، والجمع بينهما متناقض. فهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب، لكنه في الحقيقة يظهر بالتأمل أنه ليس كذلك، لأن كونه نجساً معناه أنه لا تجوز الصلاة معه، ولا مناسبة بين بطلان الصلاة باستصحابه فيها، وبين المنع من بيعه1. ونقل المطيعي أن التاج السبكي اعترض في تكملة الابتهاج على عدم المناسبة في هذا المثال بقوله: "ولقائل أن يقول: لا نسلم أن المعنى يكونه نجساً منع الصلاة فيه، بل ذلك من جملة أحكام النجس، وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة تناسب إذلاله ليس بإقناعي، "لأنه من جملة أحكام النجس، وتعليل منع بيع

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 172 فما بعدها، المحصول ص 306 خ.

الشيء بنجاسته مناسب حقيقي"، ثم قال: نعم مثال هذا استدلال الحنفية على قولهم إذا باع عبداً من عبدين أو ثلاثة يصح، والغرر القليل تدعو الحاجة إليه، فأشبه خيار الثلاث، فإن الرؤساء لا يحضرون السوق لاختيار المبيع، فيشتري الوكيل واحداً من ثلاثة، ويختار الموكل ما يريد. فهذا وإن تخيلت مناسبته أولاً، فعند التأمل يظهر أنه غير مناسب، لأنا نقول: لا حاجة إلى ذلك، لأنه يمكنه أن يشتري ثلاثة في ثلاثة عقود، ويشترط الخيار، فيختار منها ما يريد" اهـ. ثم اعترض المطيعي على هذا المثال "بأن الحنفية لا يقولون بالتعليل بالإخالة، ولو لم تكن اقناعية، وإنما يقبلون بما اتفق الكل على قبوله، وهو ما اعتبر الشارع نوع الوصف أو جنسه، في نوع الحكم أو جنسه، فكيف يعقل أنهم يقبلون التعليل بما يتخيل مناسبته فيما قاله التاج؟ رحمه الله تعالى، ونسبه للحنفية من تعليل الحكم الذي قالوه بهذه العلة غير صحيح، ولكن الحنفية يقولون: أي فرق بين أن يشتري العبيد الثلاثة بعقد واحد، أو يجعل المشتري لنفسه الخيار في ذلك، فيردها كلها، أو واحداً منها، وبين أن يشتريها بثلاثة عقود. فشراؤه بعقد واحد مع الخيار للخيار للمشتري في كلها أو بعضها صحيح بلا شك، وكذلك شراؤها بعقود مع الخيار للمشتري في كلها أو بعضها صحيح أيضاًَ. ولا يفرق بين هذا وهذا إلا بكون الأول عقداً واحداً، والثاني بعقود متعددة، وهذا الفرق لا يؤثر في العلة، ولا في الحكم بحال من الأحوال"1. وذكر الغزالي أن "مثال هذه الاقناعات قد يوجد في الشرع معتبراً، ولكن يعتقد اعتباره إذا دل عليه مسلك نقلي، أما مجرد هذه لمناسبة فربما لا يجري على دعوى التعليل.

_ 1 انظر: سلم الوصول على نهاية السول 4/90-91.

وكذلك إذا قلنا: تحريم الربا في الأشياء الأربعة سببه: الطعم وحرمته تضييقاً لطريق التحصيل فيما عز في نفسه، فإن ما يعز لا ينال إلا بنوع تكلف، وتجشم شروط، ومضايق، وما سقط حرمته لم يضيق طريقه، بل يسهل مناله، كان هذا كلاماً إقناعياً ضعيفاً، ينكشف بالبحث عن غير طائل، إذ يقال العزيز المحترم يصان عن الإتلاف بالإسراف والتضييع، فإما أن يصان عن التحصيل بطريق التضييق فلا، بل يمهد إليه طريق التملك، ويوسع مسلكه لشدة الحاجة إليه"1. هذا وقد اتضح أن المناسب الاقناعي هو الذي تظهر مناسبته في بادئ الرأي ثم تزول بالبحث والتأمل، أما الأمثلة السابقة فليس من همي مناقشتها إذ قد قيل: والشأن لا يعترض المثال ... إذ قد كفى الفرض والاحتمال الثاني: ينقسم المناسب الحقيقي إلى: ديني ودنيوي. فالمناسب الديني هو ما يجلب للإنسان نفعا، أو يدفع عنه ضرراً بحيث يكون كل منهما متعلق بالآخرة، كتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، ورياضة النفوس، فإنها مناسبة لشرع العبادات، لأن الصلاة مثلاً وضعت للخضوع، والتذلل، والصوم لانكسار النفس بحسب القوى الشهوانية والعصبية. فإذا كانت النفوس طاهرة تؤدي المأمورات، وتجتنب المنهيات، حصلت لها سعادة الآخرة، لأن منافع العبادات أخروية، وهي ترجع إلى حصول الثواب ودفع العقاب2. "والحقيقي الدنيوي هو ما يجلب للإنسان نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً بحيث يكون كل منهما متعلقاً بالدنيا كالسرقة والزنا، فإن المنفعة المترتبة على شرع الحكم

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 174. 2 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/ 54، وأصول الفقه لأبي النور زهير 4/97، وتهذيب شرح الأسنوي 3/98.

عندهما، وهي حفظ النفس، وحفظ المال متعلقة بالدنيا"1. الثالث: ينقسم المناسب الحقيقي الدنيوي باعتبار المقصود منه إلى: ضروري، وحاجي وتحسيني. فأما الضروري فهو الذي "لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقد لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد، وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين"2. وهو في أصله منحصر في المقاصد الخمسة التي هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب والمال، فإن الشرائع لم تختلف في حفظها، بل أطبقت على حفظها، لكونها من المهمات التي ارتبط بها نظام العالم بحيث أن النوع الإنساني لم يبق مستقيم الأحوال بدونها. فالدين محفوظ بالجهاد، والقتل بالردة، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} 3، وفي الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه" 4. والنفس محفوظة بشرعية القصاص، كما نبه عليه تعالى بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 5، فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق، واختل نظام المصالح. والعقل محفوظ بشرعية الحد على شرب المسكر، لأن العقل آلة الفهم، وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف، وقد نبه الله على فساد الخمر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} 6.

_ 1 انظر: أصول الفقه لأبي النور زهير 4/97، وتهذيب شرح الأسنوي 3/97-98. 2 انظر: الموافقات للشاطبي 2/8. 3 سورة التوبة آية: 29. 4 أخرجه البخاري، فانظره فيه مع الفتح 6/149، الموطأ مع تنوير الحوالك 2/116. 5 سورة البقرة آية: 179. 6 سورة المائدة آية: 91.

والنسب محفوظ بتحريم الزنا، وإيجاب الحد عليه، لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب المؤدي إلى انقطاع التعهد عن الأولاد، وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب، وهو مجلبة الفساد والتقاتل. والمال محفوظ بإيجاب الضمان على المتعدي عليه، والقطع بالسرقة، وحدِّ المحاربين نظراً إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} 1، لأنه قوام العيش2. قال ابن أمير الحاج: "وتسمى هذه بالكليات3 الخمس، وكل منها دون ما قبله، وحصر المقاصد في هذه ثابت بالنظر إلى الواقع، وعادات الملل والشرائع بالاستقراء"4. قال الزركشي: "هذا ما أطبق عليه الأصوليون، وهو لا يخلو عن نزاع، فدعواهم إطباق الشرائع ممنوع "لما يأتي": 1 - أنه مبني على أنه ما خلا شرع من استصلاح، وفيه خلاف في الكلام على أن الحكم لا بد له من علة، والأقرب فيه الوقف"5. وأجاب عنه صاحب نبراس العقول بأن الخلاف إنما هو بالنظر إلى الجواز العقلي، لا بالنظر إلى الواقع، لأن الشرائع السابقة كما ظهر لنا مجملها من نصوص الكتاب المبين قد روعيت فيها مصالح العباد بالنظر لذلك الوقت، قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 6.

_ 1 سورة المائدة آية: 33. 2 انظر: المحصول ص 305، المختصر مع شرحه 2/240-241، نهاية السول 3/53-54، البحر المحيط 3/151-152، التقرير والتحبير 3/143-144. 3 لأن الخطاب فيها موجه لكل فرد من الأمة، لذا سميت بالكليات. 4 انظر: التقرير والتحبير 3/144. 5 انظر: البحر المحيط 3/152. 6 سورة المائدة آية: 45.

أنه لا يدل على وجود المصلحة في كل فرد من أفراد المصالح. 2 - أن ما ذكروه من أن الخمر كانت محرمة في الشرائع السابقة مثل القتل والزنا والسرقة، ليس كذلك، فإنها كانت مباحة في صدر الإسلام، ثم حرمت في السنة الثالثة بعد غزوة أحد. وما نقله الغزالي في شفاء الغليل، وحكاه ابن القشيري1 في تفسيره عن القفال الشاشي2 من أن الذي كان مباحاً هو شرب القليل الذي لا يسكر، لا ما ينتهي إليه السكر المزيل للعقل، فإنه محرم في كل ملة، فإنه مردود لتواتر الخبر إنها كانت مباحة على الإطلاق، ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل3. قال النووي4: "وأما ما قد يقوله بعض من لا تحصيل له أن السكر لم يزل محرماً فباطل لا أصل له"5.

_ 1 هو: بكر بن محمد بن العلاء بن محمد بن زياد بن الوليد بن الجهم بن مالك بن حمزة ابن عروة بن شنوءة بن سلمة الخبر بن قشير القشري المالكي، كنيته أبو الفضل، ولد سنة 264هـ تقريباً بالبصرة، تولى القضاء بمصر، وكان راوية للحديث، ملما بأسباب علله، له في الأصول كتاب القياس، وكتاب أصول الفقه، ومأخذ الأصول، وله كتاب من غلظ في التفسير، وكتاب ما في القرآن من دلائل النبوة وغيرها، توفي بمصر آخر ربيع الأول سنة 344هـ. انظر: الفتح المبين 1/191-192. 2 هو: إسحاق بن إبراهيم المكنى بأبي يعقوب الخراساني الشاشي الفقيه الحنفي الأصولي، شيخ أتباع أبي حنيفة في عصره، برع في الأصول، وله فيه أصول الشاشي، قيل إنه ولد سنة 244هـ وتوفي سنة 325هـ, بمصر. انظر: الفتح المبين 1/175. 3 انظر: البحر المحيط 3/152، نبراس العقول 1/279. 4 هو: الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري، الشافعي، كان حافظاً لحديث وفنونه ورجاله، من مؤلفاته: شرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، والأذكار، وغيرها. توفي سنة 676هـ. انظر: مقدمة شرح صحيح مسلم 1/ هـ فما بعدها. 5 انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 3/‍44، المطبعة المصرية ومكتبتها.

وقال شيخنا محمد الأمين بن محمد المختار1 في الرد على صاحب المراقي من أن إباحة الخمر كانت بالبراءة الأصلية: "أن الخمر دل النص القرآني على إباحتها في أول الإسلام ... والآية التي دلت على إباحتها هي قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} 2. الآية. اللهم إلا على القول بأن السكر الطعم، كما اختاره ابن جرير3 أو الخل على ما قاله أبو عبيد4 فيتجه ما قاله المؤلف"5. قال صاحب النبراس: "فإن قلت: إنَّ معنى قولهم لم تخل من رعايتها ملة من الملل أن جميع الملل والشرائع حافظت على الأمور الخمسة التي منها العقل، وذلك لا يلزمه أن تكون الخمر محرمة في جميع الشرائع. قلت: لا نسلم ذلك، لأن شرب الخمر إن كان مؤدياً لفساد العقل يلزم من ذلك أن يكون الخمر محرماً في كل شريعة تحافظ على العقل، وإن كان لم يكن

_ 1 هو: الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح، الجكني، اليعقوبي نسباً، الشنقيطي إقليماً، المفسر الفقيه الأصولي، النحوي البلاغي، النظار، تعلم رحمه الله على مشايخ بلده حتى صار عالم عصره وفريد دهره، وملأت شهرته الدنيا، وشهدت مؤلفاته وحلق دروسه بجلالة قدره وسعة علمه، تولى التدريس والقضاء والإفتاء، له مؤلفات منها: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، ومنع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وطبعت كلها، وله غيرها، توفي يوم الخميس 17/12/ 1393هـ بمكة المكرمة ودفن بمقبرة المعلاة رحمه الله. 2 سورة النحل آية: 67. 3 هو: محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المكنى بأبي جعفر، الإمام المجتهد المفسر المؤرخ، قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدل على غزارة علمه وشدة تحقيقه، من مؤلفاته كتابه: تاريخ أخبار الرسل والملوك، وفي التفسير جامع البيان في تفسير القرآن، ولد سنة 224هـ، وتوفي سنة 310هـ. انظر: الأعلام للزركلي 6/294. 4 هو: القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي بالولاء، الخراساني البغدادي، المكنى بأبي عبيد، من كبار علماء الحديث والأدب والفقه، ولد سنة 157هـ، رحل إلى بغداد ومصر وحج، وولي قضاء طرسوس، قال عبد الله بن طاهر: علماء الإسلام أربعة: عبد الله بن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زامنه، والقاسم بن سلام في زامنه. مؤلفاته عديدة منها: الغريب المصنف في غريب الحديث، وأدب القاضي، وفضائل القرآن، والأمثال، والأموال وغيرها. توفي رحمه الله سنة 224هـ. انظر: الأعلام للزركلي 6/10، تذكرة الحفاظ للذهبي 2/5. 5 انظر: إملاء الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار على مراقي السعود، دفتر 3/33.

مؤدياً لفساد العقل، فلا يكون تحريمه لقصد المحافظة عليه"1. 3 - قال الزركشي: "زاد بعض المتأخرين سادساً، وهو حفظ الأعراض، فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، وما فدي بالضرورة أولى أن يكون ضرورياً، وقد يشرع في الجناية عليه بالقذف الحد، وهو أحق بالحفظ من غيره، فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى على نفسه وماله، ولا يكاد أحد يتجاور عن الجناية على عرضه. ولهذا كان أهل الجاهلية يتوقعون الحرب العوان المبيدة للفرسان لأجل كلمة. فهؤلاء عبس وذبيان2، استمرت الحرب بينهم أربعين سنة، لأجل سبق فرس فرساً، وهما داحس والغبراء، وإليهما تضاف هذه الحرب3، وذلك أن المسبوق وهو حذيفة بن بدر اعتقد أن مسبوقيته لعمار فضح عرضه"4. وبهذا تكون المقاصد ستة، وعليه جرى ابن السبكي في جمع الجوامع، قال الجلال المحلى: "وهذا زاده المصنف كالطوفي، وعطفه بالواو إشارة إلى أنه في رتبة المال، وعطف كلا من الأربعة قبله بالفاء، لإفادة أنه دون ما قبله في الرتبة"5.

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/279. 2 عبس وذبيان هما ابنا بغيض بن ريث بن غطفان، وإليهما تنسب القبيلتان. انظر: سيرة ابن هشام 1/186. 3 سبب هذه الحرب هو أن قيس بن زهير بن جذيمة الغطفاني العبسي كانت له فرس تسمى داحساً، وحذيفة بن بدر بن عمرو الغطفاني الذبياني، كانت له فرس تسمى الغبراء، فسابقا بينهما، وكان حذيفة قد عد كميناً من قومه ليضربوا وجه داحس إن جاء سابقاً، فجاء سابقاً فضربوا وجهه، وجاء الغبراء فأخبر فارس داحس قيساً الخبر، فوثب أخوه مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حمل بن بدر فلطم وجه مالكاً، فكان هذا هو سبب هذه الحرب بين القبيلتين. انظر: سيرة ابن هشام 1/186، ط الثانية، تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، وعبد الحفيظ شلبي، مطبعة الحلبي، وانظر خزانة الأدب للبغدادي 3/537 فما بعدها، ط دار صادر بيروت. 4 انظر: البحر المحيط 3/152 خ. 5 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/322-323.

ونقل العطار عن الزركشي أنه قال: "والظاهر أن الأعراض1 تتفاوت فمنها ما هو كالكليات، وهو الأنساب، وهي أرفع من الأموال، فإن حفظها تارة بتحريم الزنا، وتارة بتحريم القذف المفضي إلى الشك في الأنساب، وتحريم الأنساب مقدم على الأموال، ومنها ما هو دونها، وهو ما عدا الأنساب أي ومن الأعراض ما هو دون الكليات، فهو دون الأموال، لا في رتبتها كما زعمه المصنف"2 يعني ابن السبكي. واستشكل العبادي تصوير الحالة التي ليس فيها تطرق الشك في الأنساب حتى تكون في رتبة المال، أو دونه، وبيّن وجه تصور ذلك وناقشه بما نصه: "وقد يشكل تصوير الحالة التي ليس فيها تطرق الشك في الأنساب حتى يكون في رتبة المال كما قال الكمال، أو دونه كما قال شيخ الإسلام3، تقريراً لما قاله الزركشي، إذ الرمي بالزنا مطلقاً فيه الشك المذكور. وقد تصور تلك الحالة باللواط، فإن المراد بالزنا ما يشمله، وليس فيه ذلك التطرق، لأنه ليس محلاً للإيلاد، وعلى هذا فقد يشكل كون العرض في هذه الحالة في رتبة المال، أو دونه، لأن الإنسان المعتبر يتأثر بالقدح فيه باللواط ملا يتأثر بفوات ماله، خصوصاً مقدار ربع دينار ونحوه. قال: "وقد يحمل الزركشي القذف على مطلق الشتم، ويريد بالحالة التي

_ 1 الأعرض جمع عرض، والعرض بالكسر: النفس وجانب الرجل الذي يصونه من نفسه وحسبه أن ينتقض أو يثلب، أو سواء كان في نفه أو سلفه أو من يلزمه أمره، أو موضع المدح أو الذم، أو ما يفتخر به من حسب أو شرف، وقد يراد به غير ذلك. انظر: نشر البنود 2/178. 2 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/323. 3 هو: زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري المصري، الشافعي، أبو يحيى شيخ الإسلام، القاضي المفسر المحدث، ولد في سنبكة شرقي مصر سنة 823هـ، وتعلم بالقاهرة حتى ظهر فضله، تولى القضاء والتدريس والتأليف له مؤلفات كثيرة في فنون متعددة، منها في التفسير فتح الرحمن ط، وتحفة الباري على صحيح البخاري، ط، ولب الأصول وشرحه غاية الوصول في أصول الفقه، وغيرها، توفي سنة 926هـ. انظر: الأعلام للزركلي 3/80-81.

لا تطرق فيها لما ذكر الشتم الذي ليس برمي بالزنا، لكنه بعيد مع قوله المشروع له حد القذف أي أو التعزير، فليتأمل"1. وكون التعزير مشروعاً في حق القذف من لم يكن محصناً، وفي بعض الشتم الذي ليس بقذف، وإن كان يتمشى مع ما وجه به كلام الزركشي، إلا أنه يرد عليه أنه غير مفوت لما يلزم حفظه بالضرورة، اللهم إلا على ما تقدم من حرب داحس والغبراء مما ترتب عليها من فوات النفس، والله أعلم. ومكمل الضروري كتحريم شرب القليل من الخمر لكونه داعياً إلى الكثير المفوت لحفظ العقل، فبولغ في حفظه بالمنع من القليل، ووجوب الحد عليه كالكثير، وكتحريم البدعة، والمبالغة في عقوبة المبتدع الداعي إليها، وكالمبالغة في حفظ النسب بتحريم النظر واللمس، والتعزير على ذلك2. فأصل المقصود حاصل من حفظ النسب بتحريم الزنا، ووجوب الحد عليه، غير أنه لما كان النظر واللمس قد يؤدي إلى الزنا، حرم تكميلاً لحفظ النسب. ولزيادة الإيضاح أذكر الوصف المناسب، والحكم المترتب عليه، والمقصود من شرع الحكم في أمثلة القسم الضروري، ومكمله السابقة، فالردة والكفر مناسبان، ووجوب الجهاد وحد المرتد حكمان شرعيان، والمحافظة على الدين، هو المقصود. والقتل العمد العدوان مناسب، ووجوب القصاص حكم شرعي، والمحافظة على النفس هو المقصود.

_ 1 انظر: الآيات البينات 4/97. 2 انظر: شفاء الغليل ص 165، المختصر مع شرحه 2/241، المحلى مع حاشية العطار 2/323، البحر المحيط 3/152 –خ-.

والإسكار وصف مناسب، وحرمة تعاطي المسكر ووجوب الحد عليه حكم شرعي، والمحافظة على العقل هو المقصود. والزنا وصف مناسب، ووجوب الحد عليه حكم شرعي، والمحافظة على الأنساب هو المقصود. والسرقة والغصب وصف مناسب، والتحريم ووجوب الحد والضمان حكم شرعي، والمحافظة على الأموال هو المقصود. والقذف وصف مناسب، وحرمته ووجوب الحد عليه حكم شرعي، والمحافظة على العرض هو المقصود. وكون قليل المسكر يؤدي إلى كثيره وصف مناسب، وحرمته ووجوب الحد علي حكم شرعي، والمبالغة في حفظ العقل هو المقصود. وكون الداعي يدعو إلى البدعة وصف مناسب، وعقوبته هو الحكم، والمحافظة على الدين هو المقصود. والنظر واللمس وصف مناسب، وحرمته هو الحكم، والمبالغة في حفظ النسب هو المقصود1. وأما الحاجي فهو الذي "يفتقر إليه من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج، والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، إذا لم تراع دخل على المكلفين في الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة"2. وهو منقسم أيضاً إلى قسمين: حاجي في نفسه، ومكمل للحاجي، أما الحاجي في نفسه، فكالإجارة، فإنه مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها، وضنة مالكها بعاريتها، وكذلك البيع، والقراض، والمساقاة، فإن المعاوضة وإن ظنت أنها ضرورية، فكل واحد من هذه العقود ليس بحيث لو لم يشرع لأدى إلى فوات شيء من الضروريات الخمس.

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/281-282. 2 انظر: الموافقات 2/10-11.

وهذه العقود ليست الحاجة إليها في رتبة واحدة، بل بعضها أقوى من بعض، كما أن بعضها قد يكون ضرورياً في بعض الصور، كإجارة من ترضع لتربية طفل لا أم له ترضعه، وكشراء المطعوم والملبوس له، فإنه ضروري من قبل حفظ النفس، ولذا لم تخل منه شريعة، وإنما أطلق الحاجي عليها باعتبار الأغلب1. فالوصف المناسب فيهما الحاجة، والحكم هو البيع والإجارة، والمقصود هو التمكن من تملك الذات، أو المنفعة2. وذهب إمام الحرمين إلى أن تصحيح البيع آئل إلى الضرورة، والإجارة دونه3. ومنه تمكين الولي من تزويج الصغيرة، فإن مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال، إلا أن الحاجة إليه حاصلة، وهي خشية تفويت الكفء الذي لو فات ربما فات لا إلى بدل، إذ لو منع تزويجها لعدم حاجتها إلى النكاح حال الصغر، فإنه قد لا يوجد الكفء لها عند البلوغ الذي تيسر لها في الصغر، فتفوت مصلحة الكفاءة التي يترتب عليها دوام الألفة بين الزوجين. فالوصف المناسب هو الصغر، والحكم تسليط الولي على تزويجها، والمقصود الذي شرع له الحكم هو تحصيل الكفء الذي قد يفوت لا إلى بدل4. وأما مكمل الحاجي، "فكوجوب رعاية الكفاءة، ومهر المثل في الولي إذا زوج الصغيرة، فإن أصل المقصود من شرع النكاح، وإن كان حاصلاً بدونها، لكنه أشد إفضاء إلى دوام النكاح، وهو من مكملات مقصود النكاح"5.

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/241، البحر المحيط 3/152 –خ-. 2 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/323. 3 انظر: البرهان 2/923-924، ط الأولى، تحقيق الدكتور عبد العظيم الديب. 4 انظر: المحصول ص 305، نهاية السول مع منهاج العقول 3/54. 5 انظر: العضد على المختصر 2/241.

"وكالمقصود من شرع خيار البيع، وهو التروي، فإنه مكمل للمقصود من البيع، وهو الملك، لأن ما ملك بعد التروي والنظر في أحواله يكون ملكه أتم وأقوى مما هو بدون ذلك لسلامته من الغبن"1. وأما التحسيني فهو "الأخذ بما يليق بمحاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق"2. وهو على قسمين: ما لا يقع على معارضة قادة شرعية، وذلك كتحريم تناول القاذورات، فإن لنفرة الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها حثاً للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} 3، وحديث "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"4، ومنه إزالة النجاسة، فإنها مستقذرة في الجبلات، واجتنابها أهم في المكارم والمروء ات، ولهذا يحرم التضمخ بها على الصحيح من غير حاجة إلى ذلك. ومنه سلب العبد أهلية الشهادة، لأنها منصب شريف، والعبد نازل القدر، والجمع بينهما غير ملائم، "فسلب ذلك المنصب، ليكون الجري على ما ألف من محاسن العادات أن يعتبر في المناصب المناسبة، فإن السيد إذا كان له عبد ذو فضائل، وآخر دونه فيها، استحسن عرفاً أن يفوض العمل إليهما بحسب فضلهما، فيجعل الأفضل للأفضل، وإن كان كل منهما يمكنه القيام بما يقوم به الآخر"5.

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/282. 2 انظر: الموافقات 2/11. 3 سورة الأعراف آية: 157. 4 قال العجلوني: رواه مالك في الموطأ بلاغاً، وقال ابن عبد البر: متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره، ثم ذكر طرقه. انظر: كشف الخفاء ومزيل الألباس عما يدور من الأحاديث على ألسنة الناس 1/211. 5 انظر: العضد على المختصر مع حاشية السعد 2/241.

ومنه ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة كالكتابة، فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات إلا أنها في الحقيقة والواقع بيع الرجل ماله بماله، وهو غير معقول1. وعلل الغزالي سلب العبد أهلية الشهادة بأنه "لو قبلت شهادته في حال العدالة لكان ذلك كقبول فتواه وروايته، ولكن لما كان الرقيق نازل القدر والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة بإثبات يد الاستيلاء عليه والتسخير، وكانت الشهادة ونفوذها على الغير منصباً علياً ومقاماً سنياً لم يكن ذلك لائقاً بحاله، فيفهم مقصود الشرع في سلبه الأهلية على هذا الوجه، ففيه نوع مناسبة تتميز عن قول القائل: أنه لا تقبل شهادته، لأنه لا تجب عليه الجمعة مثلاً كالصبي، فإن سقوط التكليف بالجمعة لا ينبئ بحال عن سقوط أهلية الشهادة، بخلاف ما ذكرناه" 2. لكن قد يقال أن سقوط الجمعة عنه لنقص فيه، وهذا المعنى بعينه هو الذي لم تقبل شهادته لأجله. هذا وقد عقد ذلك كله صاحب مراقي السعود مبيناً الأقسام ومراتبها ومحل الوفاق منها بقوله: ثم المناسب عنيت الحكمة ... منه ضروري وجا تتمه بينهما ما ينتمي للحاجي ... وقدم القوي في الرواج دين فنفس ثم عقل نسب ... مال إلى ضرورة تنتسب ورتبن ولتعطفن مساويا ... عرضاً على المال تكن موافيا فحفظها حتم على الإنسان ... في كل شرعة من الأديان ألحق به ما كان ذا تكميل ... كالحد فما يسكر القليل وهو حلال في شرائع الرسل ... غير الذي نسخ شرعه السبل

_ 1 انظر: المحصول ص 306 –خ-، البرهان 2/925-926ط، المختصر مع شرحه 2/240، البحر المحيط 3/153. 2 انظر: شفاء الغليل ص 169.

أباحها في أول الإسلام ... براءة ليست من الأحكام والبيع فالإجارة الحاجي ... خيار بيع لاحق جلي وما يتمم لدى الحذاق ... حث على مكارم الأخلاق منه موافق أصول المذهب ... كسلب العبد شريف المنصب وحرمة القدر والإنفاق ... على الأقارب ذوي الأملاق وما يعارض كتابة سلم ... ونحوه وأكل ما صيد يؤم1

_ 1 انظر: نشر البنود 2/177-183.

الفصل الثاني: في تقسيم المناسب الحقيقي باعتبار إفضائه إلى المقصود

الفصل الثاني: في تقسيم المناسب الحقيقي باعتبار إفضائه إلى المقصود المقصود من شرع الحكم عند الوصف إما أن يكون مفضياً إلى جلب مصلحة للعبد، أو إلى دفع مفسدة عنه، أو لكليهما تحصيلاً لأصل المقصود ابتداء، أو دواماً، أو إلى تكميله. فالأول: وهو كونه مفضياً إلى أصل المقصود في الابتداء، مثل القضاء بصحة التصرف الصادر من الأهل في المحل تحصيلاً لأصل المقصود المتعلق بالتصرف من ملك العين أو المنفعة كما في البيع والإجارة ونحوهما. الثاني: وهو المفضي إلى دوام المقصود كالقضاء بتحريم القتل، وإيجاب القصاص على من قتل عمداً عدواناً، لإفضائه إلى دوام مصلحة حفظ نفس الإنسان المعصومة عن التعدي عليها بغير حق. الثالث: وهو المفضي إلى تكميل المقصود مثل الحكم باشتراط الشهادة في النكاح، فإنه مكمل لمصلحة النكاح، وليس محصلاً لأصلها، لحصول المصلحة بنفس التصرف وصحته1. ثم إن المقصود من شرع الحكم المرتب على الوصف المناسب إما أن يكون حصوله: يقيناً، أو ظناً، أو أن الحصول وعدمه متساويان، أو أن عدم الحصول راجح على الحصول، وإما أن ينتفي حصوله في بعض الصور قطعاً، فجملة الصور العقلية خمسة، أربع صور في الحصول، وواحدة منتفية الحصول في بعض الصور. الأول: كالبيع، فإن شرع ليترتب عليه الملك، وهو يحصل عقبه يقيناً، لأنه متى حصل البيع الصحيح حصل عقبه الملك حتماً.

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/294.

الثاني: كشرع القصاص المترتب على القتل العمد العدوان، فإن شرعية القصاص تفضي إلى الانزجار عن التعدي على النفس المعصومة عن الهلاك ظناً، لأن الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قتل قتل، أنه يكف عن القتل، فتبقى نفس المجني عليه، وإن كان الممتنعون عن القتل أكثر من المقدمين عليه، وليس ذلك مقطوعاً به لتحقق الإقدام على القتل مع شرعية القصاص. وهذان القسمان متفق على التعليل بهما، عند القائلين بالتعليل بالمناسبة1. الثالث: قال الآمدي: "قلما يتفق له في الشرع مثال على التحقيق، بل على طريق التقريب، وذلك كشرع الحد على شرب الخمر صيانة للعقل، فإن إفضاء شرع الحد إلى ذلك متردد، حيث إنا نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومة لكثرة المقدمين عليه، لاستدعاء الطباع شربها، لا على وجه الترجيح والغلبة لأحد الفريقين على الآخر في العادة"2. وقد اعترض عليه "بأن ذلك إنما هو للتسامح في إقامة الحدود، وأما مع إقامتها فلا، ونحن إنما نعتبر كونه مفضياً إلى المقصود أو لا على تقدير رعاية المشروع، لا بمجرد التشريع. وتعقب بأنا لو فرضنا رعاية المشروع، لكان استيفاء حد الخمر أقل منعاً للشاربين من استيفاء القصاص للقاتلين، إذ لا يخفى أن الخوف من إزهاق النفس أعظم من خوف ثمانين جلدة"3. الرابع: إفضاء الحكم بصحة نكاح الآيسة إلى مقصود التوالد والتناسل، فإنه وإن كان ممكناً عقلاً، غير أنه بعيد عادة، فكان الإفضاء إليه مرجوحاً. فهذه الأقسام الأربعة وإن كانت مناسبة نظراً إلى أنها موافقة للنفس غير أن

_ 1 انظر تفاصيله في الأحكام للآمدي 3/250، العضد على المختصر 2/240، المحلى على جمع الجوامع مع العطار 2/230، والتقرير والتحبير 3/‍145. 2 الأحكام للآمدي 3/250. 3 التقرير والتحبير 3/145.

أعلاها القسم الأول، لتيقنه، ويليه الثاني لكونه مظنوناً راجحاً، ويليه الثالث لتردده، ويليه الرابع لكونه مرجوحاً"1. ثم إن الأصوليين اختلفوا في جواز التعليل بالمناسب المفضي إلى القسم الثالث والرابع، فقال بعضهم: لا يجوز التعليل بهما؛ لأن الثالث مشكوك الحصول، والرابع مرجوحه. قال الآمدي: "وأما القسم الثالث والرابع فلكون المقصود فيهما غير ظاهر، للمساواة في الثالث، والمرجوحية في الرابع، فالاتفاق واقع على صحة التعليل بهما إذا كان ذلك في آحاد الصور الشاذة، وكان المقصود ظاهراً من الوصف في غالب صور الجنس، وإلا فلا، وذلك كما ذكرناه في مثال صحة نكاح الآيسة لمقصود التوالد، فإنه وإن كان غير ظاهر بالنسبة إلى الآيسة، إلا أنه ظاهر فيما عداها"2. قال العضد: "وهذان قد أنكرا، والمختار الجواز، لنا أن البيع مظنة الحاجة إلى التعاوض وقد اعتبر، وإن انتفى الظن في بعض الصور، بل شك فيها، أو ظن عدم الحاجة، فإن بيع الشيء مع عدم ظن الحاجة إلى عوضه لا يوجب بطلانه إجماعاً. وكذلك السفر مظنة للمشقة، وقد اعتبر، وإن ظن عدم المشقة كما في الملك المترفه الذي يسار به على المحفة في اليوم نصف فرسخ لا يصيبه ظمأ ولا مخمصة"3. وقد بين السعد وجه اعتبار المظنة في المثالين اللذين ذكرهما العضد، أعني البيع والسفر، مع أن حصول المقصود ونفيه متساويان في أحدهما، ونفي الحصول في الثاني أرجح - بأنه علم اعتبار المظنة فيهما، لأنه لا عبرة بالحصول في كل، وإنما المعتبر الحصول في جنس الوصف4.

_ 1 الأحكام للآمدي 3/250-251. 2 نفس المصدر السابق 3/251. 3 انظر: العضد على المختصر 2/240. 4 حاشية السعد على العضد 2/240.

الخامس: وهو أن ينتفي حصول المقصود قطعاً كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية مع العلم بعدم تلاقيهما قطعاً، فإن الجمهور على منع هذا الطريق، لأنه لا عبرة بالمظنة مع انتفاء المئنة أي لا عبرة بمكان ظن وجود الحكمة مع العلم بانتفاء نفس الحكمة. وقد اعتبره الحنفية، لوجود سببه وهو الفراش، واستدل ابن أمير الحاج على جواز حصوله بجواز أن يكون صاحب كرامة الطير، أو صاحب جني1، لإمكان تلاقيهما والحالة هذه، ورد ما ذهب إليه صاحب فواتح الرحموت بأن احتمال قطع المسافة بالكرامة بعيد، لا يعتد به، فإن الكلام فيما ظهر انتفاؤها2. وكالصورة السابقة وجوب استبراء جارية اشتراها بائعها لرجل منه في مجلس البيع، لأن المقصود من استبراء الجارية المشتراة من رجل هو معرفة براءة رحمها منه المسبوق بالجهل، فائت قطعاً في هذه الصورة، لانتفاء الجهل فيها قطعاً. وقد اعتبره الحنفية لوجود المظنة وهي الملك الذي هو مظنة حصول النطفة في الرحم. وصرح صاحب التحرير وشارحه بأنه لا شك في أن القول بوجوب الاستبراء في الصورة المذكورة بناء على هذا الطريق3. قال جلال المحلي: "وغيرهم لم يعتبره، وقال بالاستبراء فيها تعبداً كما في المشتراة من امرأة"4. وظاهر مما تقدم أن الحكم في هذه الصورة لا خلاف فيه، وإنما الخلف في كونه تعبداً أو غير تعبد. وقد بين الآمدي وجه عدم اعتبار المناسب في مثل هذه الصور، وإن كانت

_ 1 التقرير والتحبير 3/146. 2 فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2/263. 3 التقرير والتحبير 3/146. 4 المحلى مع حاشية العطار 2/322.

المناسبة ظاهرة في غالب صور الجنس، فيما عداها بما نصه قال: "وعلى هذا فلو خلا الوصف الذي رتب عليه الحكم عن المقصود الموافق للنفس قطعاً، وإن كان ظاهراً في غالب صور الجنس، كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية، وشرع الاستبراء في شراء الجارية لمعرفة فراغ رحمها فيما إذا اشترى جارية ممن باعها منه في مجلس البيع الأول، لعلمنا بفراغ رحمها من غيره قطعاً، وإن كان ذلك ظاهراً في غالب صور الجنس فيما عدا هذه الصورة فلا يكون مناسباً. ولا يصح التعليل به، لأن مقصود من شرع الحُكمِ الحُكمَ، فشرع الأحكام مع انتفاء الحكمة يقيناً لا يكون مفيداً، فلا يرد به الشرع"1. لكن يرد عليه ما اعترض به صاحب مسلم الثبوت على الجمهور في عدم اعتبارهم المظنة مع انتفاء المئنة في هذا النوع بما أوضحه شارحه من أنه منقوض بسفر الملك المرفه إذا قطع بعدم المشقة في سفره، فإنه يرخص له في سفره بالقصر وغيره قطعاً، حيث اتفقوا هنا على اعتبار المظنة مع انتفاء المئنة قطعاً. وكذلك منقوض بالمطلقة الغير الموطوءة بعد الوضع بستة أشهر، فإنه تجب العدة عليها مع القطع بعدم الشغل، والطلاق إنما أوجب العدة لكونه مظنة الشغل. ثم قال: والحل للنقض أن المقاصد إنما لوحظت في تشريح الحكم كلياً فلا بد من ترتيبها على نوعه، فإذا كان نوعه مما يترتب عليه المقاصد يصلح مظنة، ولو لم يترتب على بعض أشخاصه، فقولكم أن المظنة غير معتبرة نظراً إلى الماهية والنوع مع انتفاء المئنة قطعاً نظراً إلى الهاذية وبعض الأشخاص في حيز المنع غير مسلم. نعم لا عبرة بالمظنة مع انتفاء المئنة نظراً إلى النوع، وهذا غير لازم، فإن النسب يترتب على الفراش، وحدوث الملك يترتب عليه احتمال الشغل، وإن كانا مفقودين في بعض أفرادهما، ومن هنا ظهر لك أن استخراج وقوع تشريع حكم

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/251.

لا يترتب المقصود على نوعه من هاتين المسألتين ونسبته إلى الإمام الهمام أبي حنيفة ليس في محله. مما تقدم يظهر أن ملاحظة المقاصد إنما هي في كليات الأحكام لأنها متفرعة على النوع قطعاً أو غالباً1. الموازنة: يتضح من توجيه كل من الفريقين ما ذهب إليه أن اللازم في اعتبار المظنة وجود المئنة في النوع، وأنه لا يضر انتفاؤها في بعض الأفراد، وأن لا عبرة بالمظنة عند انتفاء المئنة في النوع. حيث اعتبر الجمهور ترخص الملك المرفه بسفر انتفت فيه المشقة نظراً لوجود المشقة في نوع السفر، وإن تخلفت في هذه الصورة، كما أن الحنفية اعتبرت لحوق نسب ولد من تزوج بالمشرق مغربية مع القطع بعدم تلاقيهما نظراً لوجود المظنة، وهي الفراش، وإن تخلفت في هذه الصورة. غير أن ثمت فرقاً بين ما ذكره الحنفية، وما ذكره الجمهور، وهو أن الفائت فيما ذكره الحنفية هو المقصود، وهو حصول النطفة في الرحم. أما فيما ذكره الجمهور في مسألة الملك، فإن الفائت حكمه المظنة وهي المشقة، أما الحكمة بمعنى المقصود وهي التخفيف فحاصلة قطعاً. هذا إذا أردنا مطلق التخفيف، أما إذا أردنا التخفيف المترتب على المشقة فهو فائت لفوات المشقة، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2/263-264، وسلم الوصول على نهاية السول للمطيعي 4/87.

الفصل الثالث: في تقسيم المناسب من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره له

الفصل الثالث: في تقسيم المناسب من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره له المبحث الأول: أقسام المناسب بحسب القسمة العقلية ... الفصل الثالث في تقسيم المناسب من حيث اعتبار الشارع له وعدم اعتباره له اختلف الأصوليون في حكاية تقسيم هذا النوع من المناسب سواء في ذلك الحنفية وغيرهم، فكل واحد يحكيه بطريقة تخالف غيره، كما سيتضح ذلك من استعراض طرقهم - إن شاء الله تعالى - مع بيان هل لاختلافهم ثمرة أم لا؟. ومن المعلوم أن هذا التقسيم من أهم مباحث المناسبة، إذ المقصود منه بيان ما هو المقبول من أوصاف المناسبة اتفاقاً، وما هو مردود منها باتفاق، وما هو مختلف فيه، إذ ليس كل وصف مناسب يصح أن يكون علة، بل لا بد من كونه معتبراً شرعاً. والكلام على هذا الفصل ينحصر في الأبحاث الآتية: المبحث الأول أقسام المناسب بحسب القسمة العقلية أما تقسيمه بمقتضى القسمة العقلية، فهو إما: أن يكون معتبراً شرعاً، أو لا يكون معتبراً، وإذا كان معتبراً، فإما أن يكون اعتباره بنص أو إجماع، وذلك إما أن ينص الشارع، أو يحصل الإجماع على أنه علة، أو يكون اعتباره من الشارع بإيراد الأحكام على وفقه بثبوت الحكم معه في المحل، إما إجماعاً، أو عند المعلل. ثم لا يخلو اعتبار الشارع له من أن يكون باعتبار عين الوصف في عين الحكم أو في جنسه، أو جنسه في جنس الحكم، أو عينه. وإن كان غير معتبر فإما: أن يلغيه الشارع بأن يترتب الحكم على عكسه، أو لا يعلم اعتباره، ولا إلغاؤه، والصور تتعدد بحسب أفراده، أو تركيبه الثنائي

أو الثلاثي أو الرباعي، وبالنظر إلى أن الجنس قريب أو بعيد، أو متوسط تكثر الطرق. وحيث إن سعد الدين التفتازاني - رحمه الله - أوضح وجه اجتماع التقسيم المعتبر، ومثل له لما يشفي ويغني، وإن كان فيه طول، فإنني أقتصر على سرد ما ذكره. قال: "لا خفاء في أن أقسام المفرد أربعة حاصلة من ضرب الاثنين في الاثنين، لأن المعتبر في جانب الوصف هو النوع أو الجنس، وكذا في جانب الحكم. وحينئذ يلزم أن ينحصر المركب في أحد عشر، لأن التركيب إما ثنائي أو ثلاثي أو رباعي. أما الرباعي فهو واحد لا غيرن وأما الثلاثي فهو أربعة، لأنه إنما يصير ثلاثياً بنقصان واحد من الرباعي، وذلك الواحد إما أن يكون اعتبار النوع في النوع، أو في الجنس، أو اعتبار الجنس في النوع، أو في الجنس. وأما الثنائي: فستة، لأن كل واحد من الأقسام الأربعة للأفراد والتركيب مع كل من الثلاثة الباقية، ويصير اثنا عشر حاصلة من ضرب الأربعة في الثلاثة فيسقط ستة بموجب التكرار. أو نقول: اعتبار النوع في النوع إما أن يتركب مع اعتبار الجنس في النوع، أو مع اعتبار النوع في الجنس، أو مع اعتبار الجنس في الجنس، ثم اعتبار الجنس في النوع إما أن يتركب مع اعتبار النوع في الجنس، أو مع اعتبار الجنس في الجنس، ثم اعتبار النوع في الجنس يتركب مع اعتبار الجنس في الجنس. فإن قلت: اعتبار النوع يستلزم اعتبار الجنس ضرورة لأنه لا يوجد النوع بدون الجنس، فلا يتصور الأفراد إلا في اعتبار الجنس في الجنس، وأما اعتبار النوع في النوع فيستلزم التركيب الرباعي البتة، واعتبار النوع في الجنس أو عكسه يستلزم التركيب الثنائي.

قلت: المراد الاعتبار قصداً، لا ضمناً، حتى أن الرباعي ما يكون كل من الاعتبارات الأربعة مقصوداً على حدة. فالمركب من الأربعة كالسكر، فإنه مؤثر في الحرمة، وكذا جنسه الذي هو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثر في الحرمة، ثم السكر مؤثر في وجوب الزواجر أعم من أن يكون أخروياً كالحرمة، أو دنيوياً كالحد. ثم لما كان السكر مظنة للقذف صار المعنى المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثراً في وجوب الزواجر. وأما المركب من الثلاثة، فالمركب مما سوى اعتبار النوع في النوع، كالتيمم عند خوف فوات صلاة العيد، فإن الجنس هو العجز الحكمي بحسب المحل يحتاج إليه شرعاً مؤثر في الجنس أي في سقوط الاحتياج في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ} 1، إقامة لأحد العناصر مقام الآخر، فإن التراب مطهر في بعض الأحوال بحسب نشف النجاسات، وأيضاً عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس، وهو عدم وجوب استعماله، لكن النوع وهو خوف الفوت لا يؤثر في النوع أي في التيمم من حيث أنه يتيمم. والمركب مما سوى اعتبار الجنس في النوع، كما في التيمم إذا لم يجد إلا ماء يحتاج إلى شربه، فإن العجز الحكمي بحسب المحل على استعمال ما يحتاج إليه شرعاً مؤثر في سقوط الاحتياج. فهذا تأثير الجنس في الجنس، ثم النوع مؤثر في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء} كما ذكرنا، وأيضاً عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس أي في عدم استعماله دفعاً للهلاك، لكن الجنس غير مؤثر في النوع، لأن العجز المذكور لا يؤثر في التيمم من حيث هو التيمم. والمركب مما سوى اعتبار النوع في الجنس كالحيض في حرمة قربان فهذا

_ 1 سورة المائدة آية:6، والنساء آية: 43.

تأثير النوع في النوع، وجنسه وهو الأذى علة أيضاً لحرمة القربان، ولجنسه وهو وجوب الاعتزال. والمركب مما سوى اعتبار الجنس يقال: الحيض علة لحرمة الصلاة، فهذا تأثير النوع في النوع، وأيضاً علة للجنس، وهو حرمة القراءة أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها، ولجنسه وهو الخروج من السبيلين تأثير في حرمة الصلاة ليس له تأثير في الجنس، وهو حرمة القراءة مطلقاً. وأما المركب من الاثنين، فالمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في النوع، كما في طهارة سؤر الهرة، فإن الطواف علة للطهارة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين"1، وجنسه وهو مخالطة نجاسة يشق الاحتراز عنها علة للطهارة كآبار الغلوات. والمركب من اعتبار النوع في النوع مع النوع في الجنس كإفطار المريض فإنه مؤثر في الجنس، وهو التخفيف في العبادة، وكذا الإفطار بسبب الضرر. والمركب من اعتبار النوع في النوع مع الجنس في الجنس كولاية النكاح في المجنون جنوناً مطبقاً، فإنه من حيث إنه عجز بسبب عدن العقل مؤثر في مطلق الولاية، ثم من حيث إنه عجز دائمي بسبب عدم العقل علة لولاية النكاح للحاجة، بخلاف الصغر فإنه من حيث إنه صغر لا يوجب هذه الولاية. والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع الجنس في الجنس كالولاية في مال الصغير، فإن العجز لعدم العقل مؤثر في مطلق الولاية، ثم هو مؤثر في الولاية في المال للحاجة إلى بقاء النفس. والمركب من اعتبار الجنس في النوع مع النوع في الجنس كخروج النجاسة، فإنه مؤثر في وجوب الوضوء، ثم خروجها من غير السبيلين كما في اليد وهي آلة التطهير مؤثر في وجوب إزالتها.

_ 1 أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، وابن ماجه 1/131.

والمركب من اعتبار النوع في الجنس مع الجنس في الجنس كما في عدم الصوم على الصبي والمجنون، فإن العجز لعدم العقل مؤثر في سقوط العبادة للاحتياج إلى الأهلية، ثم الجنس وهو العجز للخلل في القوى مؤثر في سقوط العبادة"1. هذا حاصل التقسيم بحسب القسمة العقلية، ثم نتبعه بأشهر ما في كتب الأصول، بادئاً بما ذكره ابن الحاجب موضحاً له بما ذكره العضد في شرحه، والسعد في حاشيته على العضد - رحمهم الله تعالى -.

_ 1 انظر: التلويح على التوضيج 2/73-74.

المبحث الثاني: أقسام المناسب من حيث الاعتبار

المبحث الثاني أقسام المناسب من حيث الاعتبار المناسب بهذا الاعتبار أربعة أقسام: مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل. وذلك لأنه إما معتبر شرعاً، أو لا معتبر شرعاً. أما المعتبر، فإما أن يثبت اعتبار عينه في عين الحكم بنص أو إجماع، أو لا بل بترتيب الحكم على وفقه، وهو ثبوت الحكم معه في المحل. فإن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم، فهو المؤثر، كالصغر في ولاية المال، فإن عليته ثابتة بالإجماع. وإن لم يثبت بنص أو إجماع، بل بترتيب الحكم على وفقه، فذلك لا يخلو من أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو جنسه في جنس الحكم، أو لا، فإن ثبت فهو الملائم، وإن لم يثبت فهو الغريب. وإن لم يعتبر لا بنص أو إجماع، ولا بترتيب الحكم على وفقه فهو المرسل. وينقسم المرسل إلى: ما علم إلغاؤه، وإلى ما لم يعلم إلغاؤه، والثاني ينقسم إلى: ملائم قد علم اعتبار عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو

جنسه في جنس الحكم بنص أو إجماع، وإن لم يصرح بذلك العضد ولا السعد، ولكنه يؤخذ من التحرير وشرحه، وإلى ما لم يعلم منه ذلك، وهو الغريب1. فإن كان غريباً أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقاً، وإن كان ملائماً، فقد صرح الإمام الغزالي بقبوله، وذكر أنه مروي عن الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى، والمختار أنه مردود.1 وقد شرط الغزالي في قبوله شروطاً ثلاثة: أن تكون ضرورية لا حاجية، وقطعية لا ظنية، وكلية لا جزئية2، كما سيأتي إيضاحه. والحاصل أن المؤثر هو ما اعتبر عينه في عين الحكم بنص أو إجماع على أنه علة، والملائم هو ما اعتبر عينه في عين الحكم بترتيب الحكم على وفقه ومع ذلك اعتبر عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم، أو في جنسه بنص أو إجماع، فالملائم ثلاثة أقسام. والغريب هو ما اعتبر عينه في عين الحكم بالترتيب من غير أن يعتبر عينه في جنس الحكم أو جنسه في جنسه، أو في عينه. والمرسل هو الذي لم يعتبر عينه في عين الحكم لا بنص أو إجماع، ولا بترتيب الحكم، وهو ينقسم إلى قسمين: ما علم إلغاؤه، وما لم يعلم إلغاؤه، ولا اعتباره. والقسم الثاني ينقسم إلى: ملائم، وغريب، فالملائم هو الذي لم يعتبر عينه في عين الحكم لا بنص ولا بإجماع، ولا بالترتيب، غير أنه اعتبر عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم أو جنسه بالنص أو الإجماع، فهو ثلاثة، والغريب هو الذي لم يعتبر أصلاً. فأقسام المرسل خمسة: معلوم الإلغاء، والغريب، وهما مردودان اتفاقاً، والملائم وهو ثلاثة، وفيه الخلاف.

_ 1 انظر: التقرير والتحبير 3/159. 2 انظر: المختصر وشرحه وحاشية السعد على الشرح 2/242.

فعند ابن الحجاب الملائم نوعان: ملائم المناسب، وملائم المرسل، والفرق بينهما هو أن الأول قد اعتبر عينه في عين الحكم بالترتيب. والثاني: لم يعتبر ذلك فيه، والغريب أيضاً نوعان، غريب المناسب، وغريب المرسل، والفرق بينهما كالفرق بين الملائمين1. أمثلة أقسام المناسب: مثال المؤثر كما تقدم أنه هو تأثير عين الوصف في عين الحكم بنص أو إجماع كالصغر في ولاية المال، فإن عليته ثابتة بالإجماع، فالوصف الصغر وهو أمر واحد، والحكم ولاية المال، وهو أيضاً أمر واحد، والملائم ثلاثة، مثال الأول وهو تأثير عين الوصف في جنس الحكم ما يقال: تثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة، كما يثبت له عليها ولاية المال بجامع الصغر، فالوصف الصغر وهو أمر واحد، والحكم الولاية وهي جنس بجمع ولاية النكاح وولاية المال، وهما نوعان من التصرف، وعين الصغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع، لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال، إجماع على اعتباره في جنس الولاية، بخلاف اعتباره في عين ولاية النكاح، فإنه إنما ثبت بمجرد ترتيب الحكم على وفقه حيث ثبتت الولاية معه في الجملة، وإن وقع الاختلاف في أنه للصغر، أو للبكارة، أو لهما جميعاً. مثال الثاني: وهو اعتبار جنس الوصف في عين الحكم أن يقال: الجمع جائز في الحضر مع المطر قياساً على السفر بجامع الحرج، فالحكم رخصة الجمع، وهو واحد والوصف الحرج وهو جنس يجمع الحاصل بالسفر، وهو خوف الضلال والانقطاع، وبالمطر وهو التأذي به، وهما نوعان مختلفات، وقد اعتبر جنس الحرج في عين رخصة الجمع "بالنص والإجماع على اعتبار حرج السفر ولو في الحج، وأما اعتبار عين الحرج فليس إلا بمجرد ترتيب الحكم على وفقه، إذ لا نص ولا إجماع على علية حرج السفر" 2.

_ 1 انظر تفاصيله في: نبراس العقول ص 299-300. 2 انظر: نبراس العقول 1/300.

ومثال الثالث: وهو اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم ما يقال: يجب القصاص في القتل بالمثقل قياساًَ على القتل بالمحدد بجامع كونهما جناية عمد عدوان، فالحكم مطلق القصاص، وهو جنس يجمع القصاص في النفس وفي الأطراف، وغيرهما من القوى. والوصف جناية العمد العدوان، وهو جنس يجمع الجناية في النفس وفي الأطراف وفي المال، وقد اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص، بالنص والإجماع، وهو ظاهر، وإنما الخفاء في أن اعتبار عين القتل العمد العدوان في عين القصاص في النفس ليس بالنص والإجماع، بل بترتيب الحكم على وفقه، ليكون من الملائم دون المؤثر. ووجهه أن لا نص ولا إجماع على أن العلة ذلك وحده، أو مع قيد كونه بالمحدد. ومثال المناسب الغريب أن يقال: في البات في المرض، وهو من يطلق امرأته طلاقاً بائناً بالثلاث في مرض موته، لئلا ترثه، يعارض بنقيض قصده، فيحكم بإرثها قياساً على القاتل حيث عورض بنقيض مقصوده، وهو أن يرث، فحكم بعد إرثه. والجامع بينهما كون كل منهما فعلاً محرماً لغرض فاسد، فهذا له وجه مناسبة، وفي ترتب الحكم عليه تحصيل مصلحة، وهي نهيها عن الفعل الحرام غير أنه لم يشهد له أصل بالاعتبار بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف في جنس الحكم أو جنسه في جنسه، أو عينه، وهذا المثال تحقيقي. مثال تقديري، وهو أن يقال يحرم النبيذ قياساً على الخمر، بجامع الإسكار على تقدير عدم النص على علة السكر بالإيماء إليها في حديث "كل مسكر حرام" 1، لأن الإسكار مناسب للتحريم حفظاً للعقل، إذ الشارع لم يعتبر عينه

_ 1 أخرجه مسلم في باب كل مسكر خمر وكل خمر حرام 6/99.

في جنس التحريم، ولا جنسه في عين التحريم، ولا جنسه في جنسه، فلو لم يدل النص على اعتبار عينه في عبن الحكم، لكان غريباً. ومثال ما علم إلغاؤه، فكإيجاب صيام شهرين متتابعين ابتداء، قبل العجز عن الإعتاق في كفارة الظهار بالنسبة إلى من يسهل عليه الإعتاق دون الصيام، فإنه مناسب تحصيلاً لمقصود الزجر، لكن علم عدم اعتبار الشارع له، فلا يجوز، هكذا قال العضد1. لكن السعد قال: "إنما خص الكفارة الظهار بالذكر دون كفارة الصوم مع أنها كذلك، لأن ثبوت الإلغاء في الظهار أظهر، لأن الصوم قبل العجز عن الإعتاق ليس بمشروع، في حقه أصلاً، لكونها مرتبة بالنص القاطع والإجماع بخلاف كفارة الصوم، فإنها على التخيير عند مالك. وبالجملة فإيجاب الصوم ابتداء على التعيين مناسب، لكن لم يثبت اعتباره لا بنص ولا بإجماع، ولا بترتيب الحكم على وفقه، فهو مرسل، ومع ذلك فقد علم أن الشارع لم يعتبره أصلاً، ولم يوجب الصوم على التعيين ابتداء في حق أحد"2. وقد ذكر الأصوليون أن العلماء أنكروا على يحيى بن يحيى3 تلميذ الإمام مالك أفتا عبد الرحمن بن الحكم4 الأموي بوجوب صيام شهرين متتابعين،

_ 1 انظر: المختصر لابن الحاجب وشرحه، وحاشية السعد عليه 2/242-244. 2 انظر: حاشية السعد على العضد 2/244. 3 هو: يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس -بكسر الواو وسينين مهملتين الأولى ساكنة بينهما لا ألف- ومعناه بالبربرية سيدهم، الليثي صاحب الدرجة العليا في الحديث، القاضي الفقيه الراوية للموطأ، انتهت إليه رياسة الفقه المالكي بالأندلس، ولد سنة 287هـ وتوفي سنة 367هـ. انظر: الديباح المذهب 2/357-358، ومقدمة شرح الموطأ للزرقاني 1/17، ط الأولى الحلبي بمصر. 4 هو: عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الأموي، أبو المظفر رابع ملوك بني أمية بالأندلس، ولد في طليطلة، وكان أبوه والياً فيها قبل ولاية الملك، وبويع بقرطبة سنة 206هـ، بعد وفاة أبية بيوم واحد، أول من جرى على سنن الخلفاء في الزينة والشكل، وترتيب الخدمة، وكسا الخلافة أبهة الجلالة، وبنى المساجد في الأندلس، منها جامع إشبيلية، واتخذ السكة (النقود) وضرب الدراهم باسمه، ونظم الجيش، وأكثر من الأسلحة، والعدد، اتسمت أيامه بالسكون والعافية، وله غزوات كثيرة، ولد سنة 176هـ وتوفي سنة 238هـ. انظر: الأعلام للزركلي 4/76.

لوقاعه جارية له في نهار رمضان مع قدرته على الإعتاق معللاً ذلك بأنه أبلغ في زجره عن العودة. وفي تعليق شيخي الدكتور عثمان مريزيق رحمه الله على القياس أن الإنكار على يحيى بن يحيى، لا يصح، لأن مذهب الإمام مالك رحمه الله في كفارة الجماع في نهار رمضان على التخيير بين خصالها كما تقدم، فأية واحدة منها فعلها أجزأته، وعلى تسليم أنها على الترتيب، فلا وجه للإنكار أيضاً، ففي إحدى الروايتين عن يحيى أنه اعتبره فقيراً لما عليه من تبعات المسلمين، وعلى هذا فهو غير واجد للإعتاق، كما فعل من قبله عيسى بن ماهان1، حين أفتى والي خراسان بذلك، فلم ينكر عليه. فيحيى إذن لم يعتبر وصفاً ألغاه الشارع، وإنما اعتبره وصفاً اعتبره الشارع، وهو انتهاك حرمة شهر رمضان، والله أعلم2. ومثال ملائم المرسل أن يتترس الكفار الصائلون بأسارى المسلمين إذا علم أنهم لم يرموهم استأصلوا المسلمين المتترس بهم وغيرهم، وإن رموا اندفعوا قطعاً، بخلاف أهل قلعة تترسوا بمسلمين، فإن فتحها ليس في محل الضرورة3، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في محله إن شاء الله تعالى. أما غريب المرسل، فلم أر له مثالاً إلا على ما ذكره السعد في حاشيته على

_ 1 عيسى بن ماهان، أبو جعفر الرازي، عالم الريّ، ولد في حدود التسعين في حياة بقايا الصحابة، حدث عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وقتادة والربيع وغيرهم، وحدث عنه ابنه عبد الله وأبو أحمد الزبيري وخلف بن الوليد ويحيى بن أبي بكير وغيرهم، وثقه ابن معين، وقال أحمد بن حنبل والنسائي وغيرهما ليس بالقوي، توفي حدود 160هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 7/346 فما بعدها. 2 انظر: تعليقات الدكتور عثمان مريزيق على القياس. 3 انظر: العضد 2/242.

العضد من أن الشارحين جعلوا مثاله البات طلاق زوجته في مرض موته1.

_ 1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/243.

المبحث الثالث: تقسيم ابن السبكي له

المبحث الثالث: تقسيم ابن السبكي له ... المبحث الثالث فابن السبكي وإن كان اتبع طريقة ابن الحاجب في هذا التقسيم حيث قال: "المناسب أن اعتبر بنص أو إجماع عين الوصف في عين الحكم فالمؤثر، وإن لم يعتبر بهما، بل بترتيب الحكم على وفقه ولو باعتبار جنسه في جنسه، فالملائم وإن لم يعتبر فإن دل الدليل على إلغائه فلا يعلل به، وإلا فهو المرسل"1، فإنه لم يذكر غريب المناسب، ولا القسم الملغى من المرسل، لأنه قصر المرسل على ما لم يعلم إلغاؤه ولا رده، فلم يقسمه إلى ملائم وغيره كما فعل ابن الحاجب فجعل الخلاف فيه جارياً على الإطلاق خلافاً لابن الحاجب الذي ذكر الاتفاق على أن غريب المرسل مردود كالملغى. "ويؤخذ من شرح المحلى عليه أن اعتبار العين في العين بترتيب الحكم على وفقه، إنما يعد اعتباراً للشارع إذا اعتبر عين الوصف في جنس الحكم، أو جنسه في جنسه، أو عينه بنص أو إجماع، وهو خلاف تقسيم ابن الحاجب والعضد السابق. ثم يرد عليه أن غريب المناسب فيه اعتبار العين في العين بالترتيب فقط، وقد جعلوه مما اعتبره الشارع، اللهم إلا أن يكون صاحب جمع الجوامع بنى كلامه في الملائم على اعتبار الجنس ولو بعيداً، فيكون القسم المسمى بغريب المناسب داخلاً في ملائمه، كما أن غريب المرسل داخل في ملائمه أيضاً. وعلى ذلك لا يكون في المناسب غريب البتة، إذ ما من وصف يفرض إلا واعتبر جنسه البعيد في جنس الحكم بالنص أو الإجماع، ولذلك قصر المحلى اعتبار العين في العين بالترتيب على ما ذكره.

_ 1 انظر: جمع الجوامع مع المحلى وحاشية العطار 2/325 فما بعدها.

وأما ابن الحاجب فكلامه مبني على اعتبار الجنس القريب في الملائم، وبذلك يخرج عنه الغريب، فلم يبق بينهما مخالفة إلا حكاية الاتفاق على غريب المرسل، والاختلاف فيه كملائمه"1. واعترض على هذا التقسيم بأن المناسب المأخوذ من المناسبة التي هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة من ذات الوصف لا بنص أو إجماع على العلية أخص من هذا التقسيم. فكيف ينقسم المناسب إلى معتبر بنص أو إجماع، وإلى غيره؟! وأجيب بأن المناسب المنقسم بهذا التقسيم أعم من المناسب المأخوذ من المناسبة المعروفة بما ذكر، مع أن اعتبار الشارع له بالنص أو الإجماع لا يخرجه عن كون طريقه في ذاته مناسبة، لأن اعتبار الشارع بالنص أو الإجماع، إنما هو في كونه مؤثراً لا في كونه مناسباً2.

_ 1 انظر: نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/302. 2 انظر: حاشية العطار 2/324-325، والشربيني معها 2/324.

المبحث الرابع: تقسيم الإمام له

المبحث الرابع: تقسيم الإمام له ... المبحث الرابع وأما الإمام فقد قال: "المناسب إما أن يعلم أن الشارع اعتبره، أو يعلم أنه ألغاه، أو لا يعلم واحد منهما. أما القسم الأول فهو على أقسام أربعة: لأنه إما أن يكون نوعه معتبراً في نوع ذلك الحكم، أو في جنسه، أو بكون جنسه معتبراً في نوع ذلك الحكم، أو في جنسه. مثال تأثير النوع في النوع: أنه إذا ثبت أن حقيقة السكر اقتضت حقيقة التحريم كان النبيذ ملحقاً بالخمر، لأنه لا تفاوت بين العلتين، وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين، واختلاف المحل لا يقتضي ظاهراً اختلاف الحالين.

عليه التقدم في النكاح، والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين، إلا أن ولاية النكاح ليست مثل ولاية الإرث، لكن بينهما مجانسة في الحقيقة. ولا شك أن هذا القسم دون القسم الأول في الظهور؛ لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المفارقة بين نوعين مختلفين. مثال تأثير الجنس في النوع: إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلاً بالمشقة، فإنه ظهر تأثير جنس المشقة في إسقاط قضاء الصلاة، وذلك مثل تأثير المشقة في السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين. مثال تأثير الجنس في الجنس: تعليل الأحكام بالحِكَمِ التي لا تشهد لها أصول معينة مثل أن علياً رضي الله عنه أقام الشرب مقام القذف إقامة لمظنة الشيء مقامه قياساً على إقامة الخلوة بالمرأة مقام وطئها في الحرمة. ثم اعلم أن للجنس مراتب، فأعم أوصاف الأحكام كونه حكماً، ثم ينقسم الحكم إلى: تحريم، وإيجاب، وندب، وكراهة، والواجب ينقسم إلى: عبادة، وغير عبادة، والعبادة تنقسم إلى: صلاة وغيرها، والصلاة تنقسم إلى: فرض ونفل، فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة، وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة. وكذا في جانب الوصف أعم أوصافه كونه وصفاً تناط به الأحكام، حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة وغير المناسبة، وأخص من المناسب الضروري، وأخص منه ما هو كذلك في حفظ النفوس. وبالجملة فالأوصاف إنما يلتفت إليها إذا ظن التفات الشارع إليها، فكل ما كان التفات الشارع إليه أكثر، كان ظن كونه معتبراً أقوى، وكل ما كان الوصف والحكم أخص، كان ظن كون ذلك الوصف معتبراً في حق ذلك الحكم آكد، فيكون لا محالة مقدماً على ما يكون أعم منه.

وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه، فهو غير معتبر أصلاً. وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشرع ألغاه، أو اعتبره، فذلك إنما يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفاً مصلحياً، وإلا فعموم كونه وصفاً مصلحياً مشهود له بالاعتبار، وهذا القسم هو المسمى بالمصالح المرسلة. واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة مع كثرة مراتب العموم والخصوص، قد يقع فيه كل واحد من الأقسام الخمسة المذكورة في التقسيم الأول، ويحصل هناك أقسام كثيرة جداً، ويقع فيما بينها المعارضات والترجيحات، ولا يمكن ضبط القوة فيها لكثرتها، والله سبحانه وتعالى هو العالم بحقائقها". ثم ذكر أن الوصف باعتبار الملاءمة وشهادة الأصل على أربعة أقسام: أحدها: "ملائم شهد له أصل معين، وهو الذي أثر نوع الوصف في نوع الحكم، وأثر جنسه في جنسه، وهذا متفق على قبوله بين القائسين، وهو كقياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص، فخصوص كونه قتلاً معتبر في خصوص كونه قصاصاً، وعموم جنس الجناية معتبر في عموم جنس العقوبة. وثانيها: مناسب لا يلائم، ولا يشهد له أصل، فهذا مردود بإجماع، ومثاله: حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده، لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص. وثالثها: مناسب ملائم لا يشهد له أصل معين بالاعتبار، يعني اعتبر جنسه في جنسه، لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه، وهذا هو المصالح المرسلة. ورابعها: مناسب يشهد له أصل معين، ولكنه غير ملائم، أي شهد نوعه لنوعه، لكن لم يشهد جنسه لجنسه كما في الإسكار، فإنه يناسب تحريم تناول المسكر صيانة للعقل، وقد شهد لهذا المعنى الخمر باعتباره، لكنه لم يشهد له سائر

مثال تأثير النوع في الجنس: أن الأخوة من الأب والأم تقتضي التقدم في الميراث، فيقاس الأصول، وهذا هو المسمى بالمناسب الغريب"1. ثم ذكر قبل الشبه المؤثر، فقال: "هو أن يكون الوصف مؤثراً في جنس الحكم في الأصول، دون وصف آخر، فيكون أولى بأن يكون علة من الوصف الذي لا يؤثر في جنس ذلك الحكم، ولا في عينه، وذلك كالبلوغ الذي يؤثر في رفع الحجر عن المال، فيؤثر في رفع الحجر عن النكاح دون الثيوبة؛ لأنها لا تؤثر في جنس هذا الحكم، وهو رفع الحجر. وكقولهم: إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب في الميراث، فينبغي أن يقدم عليه في ولاية النكاح"2. ولم يخالفه من اتباعه فيما ذهب إليه غير البيضاوي الذي جعل المؤثر هو ما أثر جنسه في نوع الحكم كالمشقة في سقوط قضاء الصلاة. وكذلك الحاصل فقد ذكر الأسنوي أنه جعل المؤثر هو ما أثر جنسه في جنس الحكم، وهذا خلاف ما مر آنفاً عن الإمام3.

_ 1 انظر: المحصول ص 306، 307 -خ-. 2 انظر: المحصول ص 315 -خ-. 3 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/60.

المبحث الخامس: تقسيم الآمدي له

المبحث الخامس: تقسيم الآمدي له ... المبحث الخامس وأما الآمدي، فإن طريقته تتلخص كما قال السعد في أن: "المناسب إن كان معتبراً بنص أو إجماع فهو المؤثر، وإلا فإن كان معتبراً بترتيب الحكم على وفقه فتسعة أقسام: لأنه إما أن يعتبر خصوص الوصف أو عمومه، أو خصوصه وعمومه معاً في عين الحكم، أو في جنسه، أو في عينه وجنسه جميعاً. وإن لم يكن معتبراً، فإما أن يظهر إلغاؤه، أو لا فهذه جملة الأقسام، إلا أن الواقع منها في الشرع لا يزيد على خمسة.

الأول: ما اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم، وعمومه في عمومه في محل آخر ويسمى هذا بالملائم. مثاله قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان، وقد ظهر تأثير عينه في عين الحكم، وهو وجوب القتل في المحدد، وتأثير جنسه وهو الجناية على المحل المقصود بالقود في جنس القتل من حيث القصاص في الأيدي. الثاني: ما اعتبر الخصوص في الخصوص فقط، لكن لا بنص ولا إجماع، ويسمى بالمناسب الغريب كاعتبار الإسكار في تحريم الخمر على تقدير عدم النص، ولم يظهر اعتبار عينه في جنس الحكم، ولا جنسه في عينه، ولا جنسه في جنسه. الثالث: ما اعتبر جنسه في جنسه فقط، ولا نص ولا إجماع، وهذا أيضاًَ من جنس المناسب الغريب إلا أنه دون ما سبق، وذلك كاعتبار جنس المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في جنس التخفيف المتناول لإسقاط الصلاة، وإسقاط الركعتين فقط. الرابع: ما لم يثبت اعتباره، ولا إلغاؤه، ويسمى المناسب المرسل كما في تترس الكفار بالمسلمين. الخامس: المناسب الذي لم يثبت اعتباره، وثبت إلغاؤه كما في إيجاب شهرين متتابعين على الملك في كفارة الصوم1. وواضح مما تقدم أن طريقة الآمدي قريبة من طريقة الإمام إن لم تكن مثلها، وإذا كانت تخالفها في تفسير المؤثر، لأن المؤثر عند الإمام كما تقدم هو تأثير نوع الوصف في جنس الحكم كامتزاج النسبين في تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب في الميراث، وفي ولاية النكاح، وكالبلوغ فإنه يؤثر في رفع الحجر عن المال، فيؤثر في رفعه عن النكاح دون الثيوبة، فإنها لا تؤثر في رفع الحجر عن النكاح.

_ 1 انظر: حاشية السعد على العضد 2/244.

وأما الآمدي، فالمؤثر عنده هو ما اعتبر فيه نوع الوصف في نوع الحكم بنص أو إجماع، كما عند ابن الحاجب، وسيأتي لهذا زيادة بيان. هل لاختلاف عبارات الأصوليين في التعبير هنا ثمرة؟ اختلفت عبارات الأصوليين في حكاية الاعتبار حيث أن بعضهم يعبر باعتبار خصوص الوصف في خصوص الحكم، والبعض الآخر يعبر باعتبار النوع في النوع، والبعض الآخر يعبر باعتبار العين في العين. والتعبير باعتبار النوع في النوع أولى "لئلا يتوهم أن المراد هو الوصف والحكم مع خصوصية المحل، كالسكر المخصوص بالخمر والحرمة المخصوصة بها فيتوهم أن للخصوصية مدخلاً في العلية"1. فلم يترتب على اختلافهم في التعبير عن هذه الأقسام ثمرة. قال التاج السبكي: "والأمر فيها قريب لكونه أمراً اصطلاحياً"2. ثم المراد بالاعتبار إيراد الحكم على وفق الوصف "وليس المراد به أن ينص الشارع على علية الوصف، أو يومئ إليها، أو يحصل عليها الإجماع، وإلا لم تكن العلية مستفادة من طريق المناسبة، بل بالنص أو الإجماع"3. وجه الاتفاق، والاختلاف بين هذه الطرق: وحيث إن هذه الطرق مختلفة بحسب الظاهر، وتحتاج إلى بيان وجه الوفاق بينها، وإلى تحرير مواضع الخلاف والوفاق في الأوصاف المناسبة خصوصاً ما يتعلق بالإخالة بين الحنفية والشافعية، لذا فإنني استعرض إيضاح ذلك فيما يلي: الأول: "إذا نظرت إلى هذه الطرق وجدتها تنحصر في طريقتين: الأولى: طريقة ابن الحاجب، ومن تبعه كابن السبكي في جمع الجوامع.

_ 1 انظر: التلويح على التوضيح 2/72. 2 انظر: تكملة الإبهاج شرح المنهاج 2/85. 3 انظر: نبراس العقول 1/313.

الثانية: طريقة الإمام الرازي، ومن تبعه كالبيضاوي، وطريقة الآمدي قريبة من طريقة الإمام، بل هي عينها، كما سيتضح. أما طريقة ابن الحاجي، ومن تبعه فجهة النظر فيها قصد استيفاء أقسام الوصف المناسب، لا فرق بين أن تكون عليته مستفادة من طريق المناسبة فقط، أو مع النص والإجماع كما سبق التنبيه عليه غير أنه لم يتعرض لاعتبار النوع في الجنس، أو الجنس في الجنس، أو في النوع بالترتيب لا بالنص والإجماع، اللهم إلا أن يقال: أن هذه الصور إن كانت مع اعتبار النوع في النوع بالترتيب فهي داخلة في غريب المناسب عنده، وإن كانت من غير اعتباره فداخلة في غريب المرسل، على أن اعتبار الجنس في النوع والعكس بالترتيب لم يقع كل منهما في الشرع كما قاله الآمدي، وسيأتي التنبيه على ذلك. وأما طريقة الإمام ومن تبعه كالبيضاوي في المنهاج فتحتمل وجهين: الأول: وهو خلاف الظاهر من كلامهم وكلام الشراح أن يكون المراد بالاعتبار إيراد الحكم على وفق الوصف في اعتبار العين في العين فقط، وأما اعتبار العين في الجنس، أو الجنس في العين، أو الجنس في الجنس فبالنص أو الإجماع أي مع اعتبار العين في العين بالترتيب في الصور الثلاثة، وعلى ذلك يكون تقسيمهم مشتملاً على غريب المناسب، وأقسام الملائم الثلاثة التي ذكرها ابن الحاجب، فترجع طريقتهم إلى طريقته، لأنهم لم يتركوا مما ذكره سوى المؤثر عنده. وتكون طريقة الآمدي مخالفة لما ذكروه، كما أنها مخالفة لما ذكره ابن الحاجب، لكن في تطبيق عض أمثلتهم على ذلك نظر. الوجه الثاني: وهو الظاهر أن يكون المراد بالاعتبار في الصور الأربعة إيراد الأحكام على وفق الوصف لا النص أو الإيماء أو الإجماع على العلية، وعلى ذلك يكون كلامهم بقطع النظر عن ذكر المرسل قاصراً على الغريب مما ذكره ابن الحاجب، وعلى ما في حكمه الذي تركه، ونبهناك عليه قريباً، ولم يكن كلامهم

شاملاً لا للمؤثر عند ابن الحاجب، ولا للملائم، وتكون وجهة نظرهم في هذا التقسيم: أولاً: الاقتصار على المناسب الذي تكون مناسبته طريقاً دالة على العلية وحدها من غير نص، ولا إجماع، وهو الذي يحتاج لإقامة الأدلة ... على وجه كون مناسبته مفيدة للعلية. وبعبارة أخرى الاقتصار على موضع الخلاف بين الشافعية والحنفية، لأن ما عدا ما ذكر متفق عليه كما سيتضح. وثانياً: ملاحظة أن اعتبار الشارع للوصف المناسب بإيراد الحكم على وفقه إما أن يكون باعتبار خصوصه في خصوص الحكم، أو في عمومه أو عمومه في خصوصه أو عمومه، وبذلك تتحقق الأقسام الأربعة. ثم إن طريقتهم على الوجه الثاني، تكون موافقة لطريقة الآمدي، غير أن تقسيمهم هذا قد زادوا فيه على ما ذكره الآمدي من الصور الواقعة في الشرع صورتين: وهما اعتبار الخصوص في العموم والعكس، ونقصوا فيه عنه صورة واحدة - وإن ذكروها في موضع آخر - وهي اعتبار الخصوص في الخصوص والعموم في العموم معاً. ولا يرد على الآمدي - حيث اعتبر هاتين الصورتين اللتين زادهما الإمام وأتباعه غير واقعتين في الشرع - ما ذكره من التمثيل للأول بامتزاج النسبين في التقديم، وللثانية بالمشقة في إسقاط قضاء الصلاة، لأن المثال الأول تقديري لما علمت من الإجماع على علية امتزاج النسبين للتقديم في الميراث، والمثال الثاني قد جعله الآمدي من اعتبار العموم في العموم كما سبق في عبارته. وبقي الكلام على الصورة التي ذكرها الآمدي وهي اعتبار الخصوص في الخصوص والعموم في العموم معاً، ولم يذكرها الإمام وأتباعه في هذا التقسيم ولكن ذكروها بعد ذلك، ومثلوا لها جميعاً بالقتل بالمثقل قياساً على القتل بالمحدد، وسموا هذه الصورة بالملائم، وقرروا جميعاً أنه متفق على قبوله بين القائسين.

فإن هذه الصورة مشكلة، لأن ابن الحاجب أورد هذا المثال لأحد أقسام الملائم على مذهبه، وهو ما اعتبر عين الوصف في عين الحكم بالترتيب، واعتبر جنسه في جنسه بالنص، فإن أراد الإمام والآمدي وأتباعهما باعتبار الجنس في الجنس في هذه الصورة الاعتبار بالترتيب لا بالنص يكون الملائم عندهم مخالفاً للملائم عند ابن الحاجب من كل وجه، ويكون الاتفاق في التمثيل بالمثال السابق ناشئاًَ عن اختلاف النظر فيه، وعلى ذلك يرد على حكايتهم الاتفاق على قبوله بين القائلين ما سيأتي عن أبي زيد وأتباعه من أنه لا يقبل الوصف المناسب من غير اعتبار الشارع له بالنص أو الإجماع، ولو اعتبر جنسه في جنس الحكم. وإن أرادوا باعتبار الجنس في الجنس في هذه الصورة الاعتبار بالنص يكون الملائم عندهم أخص من الملائم عند ابن الحاجب، ويرد عليهم أنه لا وجه للاقتصار على هذه الصورة وترك الصورتين الباقيتين مما ذكره ابن الحاجب. فإن أجابوا بأن هاتين الصورتين لم تقعا في الشرع وردت عليهم الأمثلة التي ذكرها ابن الحاجب وغيره، اللهم إلا أن يقال: أنها ترجع إلى المؤثر كما قاله الكمال والله أعلم".1

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/314-316.

المبحث السادس: اشتراط الحنفية في المناسب فوق المناسبة كونه مؤثرا

المبحث السادس: اشتراط الحنفية في المناسب فوق المناسبة كونه مؤثرا ... المبحث السادس وأما الحنفية فإنهم يشترطون في الوصف المناسب فوق مناسبته للحكم أن يكون مؤثراً فيه، ويعرفون التأثير بما يدخل الملائم بأنواعه الثلاثة، وملائم المرسل في المناسب المرسل عندهم كما سيتضح ذلك إن شاء الله تعالى من تعريفهم المناسب المؤثر، والمصلحة المرسلة. وحيث إن قدماء الحنفية لم يقسموا المناسب إلى: مؤثر وملائم، وغريب، ومرسل، مثل ما فعله متأخروهم، وإن كان ذلك التقسيم يؤخذ من ضمن كلامهم في المناسب والمؤثر، فقد رأيت أن أنقل كلامهم ليتضح من ذلك وجه

الاتفاق بين الحنفية أنفسهم، ثم وجه الاتفاق والاختلاف بينهم وبين الشافعية بادئاً بكلام شمس الأئمة السرخسي1. قال رحمه الله: "دليل صحة العلة أن يكون الوصف صالحاً للحكم، ثم يكون معدلاً بمنزلة الشاهد فإنه لا بد أن يكون صالحاً للشهادة لوجود ما به يعتبر أهلاً للشهادة فيه، ثم يكون معدلاً بظهور عدالته بالتعديل، ثم يأتي بلفظ الشهادة بين سائر الألفاظ، حتى تصير شهادته موجبة العمل بها، ثم لا خلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله إن صفة الصلاحية للعلة بالملاءمة، ومعناها أن تكون موافقة العلل المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة غير نائية عن طريقهم في التعليل، لأن الكلام في العلة الشرعية، والمقصود إثبات حكم الشرع بها، فلا تكون صالحة إلا أن تكون موافقة لما نقل عن الذين ببيانهم عرف أحكام الشرع، ثم لا خلاف وراء ذلك في العدالة. فقال علماؤنا: "عدالة العلة تعرف بأثرها، ومتى كانت مؤثرة في الحكم المعلل فهي علة عادلة، وإن كان يجوز العمل بها قبل التأثير، ولكن إنما يجب العمل بها إذا علم تأثيرها، ولا يجوز العمل بها عند عدم الصلاحية بالملاءمة، بمنزلة الشاهد فإن الشاهد قبل تثبت الصلاحية للشهادة فيه لا يجوز العمل بشهادته، وبعد ظهور الصلاحية قبل العلم بعدالته كالمستور لا يجب العمل بشهادته، ولكن يجوز العمل، حتى إذا قضى القاضي بشهادة المستور قبل أن تظهر عدالته يكون حكمه نافذاً"2.

_ 1 هو: أبو بكر بن محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، المعروف بشمس الأئمة، الإمام الفقيه، الأصولي النظار، أحد فحول أئمة الحنفية الكبار أصحاب الفنون، له مؤلفات منها في أصول الفقه أصول السرخسي، وفي الفقه المبسوط، اختلف في وفاته فقيل سنة 490، وقيل 483هـ. انظر: مقدمة أصول السرخسي لأبي الوفاء الأفغاني 1/4 فما بعدها، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 1/264. 2 انظر: أصول السرخسي 2/177.

وأما فخر الإسلام البزدوي1، فإنه قال رحمه الله: "وقال أئمة الفقه من السلف والخلف: إنه لا يصير حجة إلا بمعنى يعقل، وهذا المعنى هو صلاح الوصف ثم عدالته، وذلك على مثال الشاهد لا بد من صلاحه بما يصير به أهلاً للشهادة، ثم عدالته ليصح منه أداء الشهادة، ثم لا يصح الأداء إلا بلفظ خاص. واتفقوا في صلاحه أنه إنما يراد به ملاءمته، وذلك أن يكون على موافقة ما جاء عن السلف من العلل المنقولة، لأنه أمر شرعي فتعرف منه، ولا يصح كما لا يصح العمل به قبل الملاءمة لا يصح العمل بشهادة قبل الأهلية لكن لا يجب العمل به إلا بعد العدالة، والعدالة عندنا هي الأثر، وإنما نعني بالأثر ما جعل له أثر في الشرع"2. وواضح من كلامهما أنهما إنما اشتغلا ببيان وجه اعتبار المناسبة واشتراط التأثير لقبول الوصف المناسب، غير أنه سيتضح من تعريف التأثير عند الحنفية شمول الوصف المؤثر الملائم كما أسلفت. ويدل لهذا تمثيلهم بما مثل به غيرهما من الأحناف الذين قسموا المناسب إلى مؤثر وملائم وغريب ومرسل. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في سؤر الهرة: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات"3، تعليل لطهارة سؤرها بما ظهر أثره، وهو الضرورة، فإنها من أسباب التخفيف، وسقوط الحرج، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 4.

_ 1 هو: علي بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم بن موسى، المكنى بأبي الحسين الحنفي الأصولي، اشتهر بالتفقه في الفقه الحنفي، والأصول، له مؤلفات منها كنز الوصول إلى معرفة علم الأصول الذي شرحه عبد العزيز البخاري بكتابه كشف الأسرار، ولد سنة 400هـ وتوفي سنة 482هـ. انظر: الفتح المبين 1/263، الأعلام للزركلي 5/148. 2 انظر: كشف الأسرار 3/351 فما بعدها. 3 أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18 وابن ماجه 1/131. 4 سورة المائدة آية: 3.

والطواف من أسباب الضرورة، فصح التعليل به لما يتصل به من الضرورة1. فإن صاحب التحرير وشارحه مثّلا بهذا المثال للمؤثر كما سيأتي، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في القبلة للصائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ " 2. فهذا تعليل بمعنى مؤثر، لأن الفطر نقيض الصوم، والصوف كف عن شهوة البطن والفرج، وليس في القبلة قضاء الشهوة لا صورة ولا معنى كالمضمضة3. وهذا أيضاً مثل به صاحب التحرير وشارحه للنوع الثاني من الملائم إلى غير ذلك مما سيأتي إن شاء الله. وأما صاحب التحرير وشارحه ابن أمير الحاج فقد ذكرا أن طرق المناسب المعتبرة أربعة أقسام: مؤثر وملائم وغريب ومرسل، وهي كما يأتي: 1 - المؤثر: وصف اعتبرت عينه في عين الحكم بنص أو إجماع، ومثاله للحنفية سقوط نجاسة سؤر الهرة لحديث "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 4، فيقاس عليه علية سؤر الفأرة بعين الطواف. 2 - الملائم: وهو وصف ثبت اعتبار عينه مع عين الحكم في الأصل بمجرد ترتيب الحكم على وفقه مع ثبوت اعتبار عين الوصف المذكور في جنس الحكم بنص أو إجماع، أو مع ثبوت اعتبار جنس الوصف المذكور في عين الحكم أو مع ثبوت اعتبار جنس الوصف المذكور في جنس الحكم، وسمي ملائماً لكونه موافقاً لما اعتبره الشرع.

_ 1 انظر: كشف الأسرار 3/359. 2 أخرجه أبو داود 2/556 ط الأولى الحلبي. 3 انظر: كشف الأسرار 3/359، أصول السرخسي 2/187. 4 أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، وابن ماجه 1/131.

فمثال ما اعتبر عينه في عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه مع ثبوت اعتبار عينه في جنس الحكم كون الصغر ملائماً لترتيب ثبوت ولاية الأب على ابنته الصغيرة في إنكاحها قياساً على ولايته على مالها، فإن عين الصغر معتبرة بالإجماع في جنس الولاية، لأن الإجماع على اعتبار الصغر في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية بخلاف اعتباره في غير ولاية النكاح، فإنه إنما ثبت بمجرد ترتيب الحكم على وفقه حيث ثبتت الولاية معه في الجملة بأن وقع الاختلاف في أنه للصغر أو للبكارة، أو لهما جميعاً. ولما كان في التمثيل بهذا المثال للملائم نظر؛ لأنه لم يعتبر فيه أولاً عين الوصف في عين الحكم، بل جعل ابتداء عين الوصف مؤثراً في جنس الحكم فسقط منه الأصل، فلا يتم مثالاً للملائم بل هو مثال للمؤثر. "لأن ظاهر قولهم في التمثيل ثبتت ولاية النكاح على الصغيرة، كما ثبتت عليها ولاية المال بجامع الصغر، أن الصغر بالنسبة لولاية المال مقيس عليه، والصغيرة بالنسبة لولاية النكاح هي المقيس والعلة الصغر، وقد اعتبرها الشرع في جنس الولاية بالإجماع، لإجماعهم عليها بالنسبة إلى الأصل، فإنهم أجمعوا على أن علة الولاية في المال هي الصغر وحينئذ تكون العلة في الأصل المقيس عليه مجمعاً عليها وهذا هو المناسب المؤثر"1. قال صاحب التحرير: وصواب المثال للحنفية قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في تسوية ولاية الأب في إنكاح الثيب الصغيرة قياساً على ثبوت ولاية إنكاحه البكر الصغيرة بجامع الصغر، "لأن عين الصغر اعتبرت في عين الحكم بالترتيب في البكر الصغيرة، فإن الولاية ثبتت معه في المحل"2، واعتبر عين الصغر في جنس الولاية، باعتبارها في ولاية المال بالإجماع، لأن ثبوت اعتبار الوصف علة بنص أو إجماع في الجنس إنما هو باعتبار إظاهره في محل آخر، لا في

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/304. 2 نفس المصدر السابق 1/304.

عين حكم الأصل، لأن اعتباره في عين حكم الأصل هو المؤثر، لا الملائم. وحينئذ فلا تعدد بينهما مع أن الواقع خلافه كما يشهد به التقسيم فإنهما قسمان، والقسيم مخالف للقسيم، وهذا ظاهر فيما ذكرنا أنه الصواب في المثال للملائم، فإن فيه ظهرت ثلاث محال: الأصل وهو نكاح البكر، والفرع وهو نكاح الثيب، ومحل الجنس وهو المال. وأجيب عما استشكله بأنه "إنما يرد إذا كان تصور المثال كما سبق تقريره، وليس كذلك، بل محط التمثيل الصغر بالنسبة لولاية النكاح". وتوضيحه أن الشارع أثبت بالنص أن البكر الصغيرة ثابت عليها ولاية النكاح من غير أن ينص على علة هذا الحكم، فالصغر ثبتت معه ولاية النكاح من غير نص ولا إجماع على عليته له، لكن حاصل الإجماع على اعتباره في ولاية المال. وحينئذ يقال: إن تعليل ولاية النكاح على البكر الصغيرة بالصغر تعليل بوصف ملائم؛ لأن الحكم ثبت معه في المحل ومع ذلك قد اعتبر عين هذا الوصف في جنس هذا الحكم بالإجماع، للإجماع على اعتباره في ولاية المال. فليس محط التمثيل تعليل ولاية المال بالصغر، لأنه من قبيل المؤثر، بل هو تعليل ولاية النكاح المنصوص عليها بالنسبة للبكر بالصغر، وقد تنبه لهذه الدقائق محقق المحلى، فإنه قال: مثال الأول تعليل ولاية النكاح بالصغر حيث ثبتت معه، وإن اختلفت في أنها له أو للبكارة، أو لهما، وقد اعتبر في جنس الولاية حيث اعتبر في ولاية المال بالإجماع"1. ومثال الثاني: وهو اعتبار نوع الوصف في نوع الحكم مع اعتبار جنس الوصف في نوع الحكم قياس الحضر حالة المطر على السفر في جواز الجمع بين المكتوبتين بعذر المطر، وجنس الوصف الحرج مؤثر في عين رخصة الجمع بالنص على اعتبار الجنس الذي هو الحرج في عين الجمع في السفر، إذ الحرج جنس

_ 1 انظر: نبراس العقول 1/304.

يشمل الحاصل بالسفر خوف الضلال والانقطاع، والتأذي بالمطر. فإن قيل: التعليل بمطلق الحرج يدخل صاحب الصنعة الشاقة مع أنه غير داخل قطعاً، أجيب بأن المراد حرج السفر، لا مطلق الحرج. ومثال الثالث: وهو اعتبار العين في العين مع اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم اعتبار الطواف في طهارة سؤر الهرة، فإن جنس هذا الوصف الضرورة المقتضية للحرج قد اعتبر في جنس الحكم الذي هو التخفيف. واعترض عليه بأن هذا إنما يتم على فرض عدم النص على اعتبار عين الوصف الذي هو الطواف، أما مع اعتبار النص عليه فهو من المؤثر. 3 - والغريب: وهو الوصف الذي لم يثبت فيه سوى اعتبار الشارع عين الوصف في عين الحكم بترتيب الحكم عليه فقط، كالفعل المحرم لغرض فاسد كحرمان القاتل إرث من قتله معاملة له بنقيض قصده، ولا نص ولا إجماع على اعتبار عينه في جنس الحكم، ولا جنسه في عين الحكم، أو جنسه، ليلحق به كل من فعل فعلاً محرماً لغرض فاسد كالفار من توريث زوجته بطلاقها طلاقاً بائناً في مرض موته إذا مات وهي في العدة، فيعامل بنقيض قصده كما هناك. وأورد عليه أنه يمكن اعتبار القتل في الوصف، والحرمان في الحكم فيكون مناسباً من المؤثر، لأنه ثبت اعتبار عين الوصف في عين الحكم بحديث "لا يرث القاتل شيئاًَ" 1. 4 - وأما المرسل: فقسماه إلى ما علم إلغاؤه، وغريب وملائم على ما يأتي في مبحث المرسل2. هذه هي أقسام الوصف المناسب من حيث اعتبار الشارع له، وعدم اعتباره له التي ذكرها صاحب التحرير وشارحه، وهي كما ترى متفقة مع ما ذكره الشافعية

_ 1 أخرجه أبو داود 2/496. 2 انظر تفاصيله في:التقرير والتحبير 3/147-150، مع اختصار وتصرف.

من حيث التقسيم، غير أن الحنفية يشترطون لاعتبار الوصف المناسب أن يكون مؤثراً، فما هو التأثير عندهم؟ المؤثر عند الحنفية: التأثير عند الحنفية هو أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع الحكم أو جنسه1. أما عند الشافعية فهو "أخص من ذلك، وهو أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار عين الوصف في عين ذلك الحكم"2. وقد أوضح صاحب مسلم الثبوت وشارحه المؤثر عند الحنفية بما نصه: "وأما الحنفية فالمؤثر عندهم هو الوصف المناسب الملائم للحكم عند العقول الذي ظهر تأثيره شرعاً، بأن يكون لجنسه تأثير في عين الحكم، كإسقاط الصلاة الكثيرة بالإغماء فإن لجنسه الذي هو العجز عن الأداء من حرج تأثيراً في سقوطها كما في الحائض، أو بأن يكون تأثير في جنسه كإسقاطها عن الحائض معللاً بالمشقة، وقد أُسقط مشقة السفر الركعتين، فقد أثر جنس المشقة في جنس السقوط، أو بأن يكون لعينه تأثير في جنس الحكم كالأخوة لأب وأم في قياس التقدم في ولاية النكاح، وقد تقدم هذا الأخ في الميراث، فقد أثر في مطلق الولاية، أو يكون لعينه تأثير في عين الحكم، وذلك كثير في الأقيسة الجزئية المذكورة في الفقه. وأورد عليه أنه لا بد من التأثير من النص والإجماع، إذ لا إخالة عندهم، وحينئذ لا يكون المؤثر قسيماً للعلة التي ثبتت بالنص أو لإجماع كما هو المشهور، فإنها قسمت في المشهور إلى: منصوصة ومؤثرة إلا بالاعتبار، فإنها باعتبار أنها ثبتت بالنص منصوصة، وباعتبار أنها مناسبة له مع الاعتبار المذكور مؤثرة3. فظهر مما تقدم اتفاق الحنفية على اشتراط التأثير في وجوب العمل بالوصف

_ 1 انظر: التوضيح شرح التنقيح 2/71. 2 انظر: التلويح 2/72. 3 انظر: فواتح الرحموت 2/267.

المناسب، وعلى أن التأثير عندهم شامل للمؤثر والملائم لدخول الوصف الملائم في المؤثر عندهم لما تقدم من أن المؤثر عندهم هو الوصف المناسب الملائم للحكم عند العقول الذي ظهر تأثيره شرعاً، بأن يكون لجنس الوصف تأثير في عين الحكم أو في جنسه، أو تأثير لعين الوصف في جنس الحكم أو عينه، ولأنه لا بد في اعتبار التأثير من ثبوته بالنص أو الإجماع، فإنه لا خلاف بين قدمائهم الذين لم يقسموا الوصف المناسب إلى: مؤثر وملائم، وغريب ومرسل، وبين متأخريهم الذين قسموه إلى تلك الأقسام، بدليل أن صاحب التوضيح مثل لاعتبار جنس الوصف في نوع الحكم بالمضمضة للصائم لما جاء في حديث عمر رضي الله عنه "أرأيت لو تمضمضت" 1؛ لأن للجنس وهو عدم دخول الشيء اعتباراً في عدم إفساد الصوم. ولاعتبار نوع الوصف في جنس الحكم بقياس الولاية على الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة بالصغر، لأن لنوعه اعتبار في جنس الولاية لثبوتها في المال، ولاعتبار الجنس في الجنس بطهارة سؤر الهرة بالطواف، فإن لجنس الضرورة اعتباراً في جنس التخفيف2. فإن فخر الإسلام مثل بهذه الأمثلة للوصف المناسب المؤثر، وهذا يدل على اتفاقهم كما ترى3. ولذا قال صاحب التحرير وشارحه: "اعلم أن الحنفية القائلون التعليل بكل من الأقسام الأربعة: العين في العين، وفي الجنس، والجنس في الجنس، وفي العين مقبول، فإن كان التعليل بما عينه أو جنسه مؤثراً في عين الحكم فقياس اتفاقاً، للزوم أصل القياس في كل من هذين، ويقال: لما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم أنه في معنى الأصل، وهو المقطوع به الذي ربما يقر منكرو القياس

_ 1 سنن أبي داود 1/556، نيل الأوطار 4/178. 2 انظر: التوضيح 2/72-73. 3 انظر: كشف الأسرار 3/359 فما بعدها.

إذ لا فرق إلا بتعدد المحل، وإلا فإن كان عينه في جنس الحكم، أو جنسه في جنسه، فقد يكون قياساً، بأن يكون ما عينه في جنس الحكم هو من قبيل ما يكون العين في العين أيضاً فيستدعي أصلاً مقيساً عليه، فيكون مركباً، وكذا ما جنسه في جنسه قد يكون مع ذلك في عينه، فيكون له أصل، فيكون قياساً، وقد لا، فيكون من أقسام المرسل التي يجب قبولها للحنفية إذ كل من أقسام الأربعة من أقسام المؤثر حتى دخل فيه"1. وأما وجه الاتفاق والاختلاف بين الحنفية والشافعية فإنه يؤخذ مما تقدم اتفاقهم على تقسيم المناسب إلى مؤثر، وملائم وغريب، ومرسل. وعلى قبول المؤثر والملائم لكونهما حجة لما تقدم من تصريح الحنفية بقبول المؤثر، ومن بيان كونه شاملاً للملائم2. وتقدم تصريح السرخسي باتفاق الحنفية والشافعية على أن صفة الصلاحية للعلة هي الملاءمة، وعلى اشتراط صلاح الوصف المعلل به، وذلك بأن يكون موافقاً للعل المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن السلف لكونهم كانوا يعللون الأحكام بالأوصاف المناسبة لها، فما لم يكن نائياً عنها قبلوه، وما كان نائياً عنها لم يقبلوه، لأن الكلام في العلل الشرعية والمقصود إثبات أحكام الشرع بها، فلا بد أن تكون موافقة لما نقل عمن عرفت أحكام الشرع ببيانهم3. هذا ما اتفقوا عليه في الوصف المعلل به، واختلفوا فيما تكون به عدالة الوصف المعلل به: فقال الحنفية: عدالة الوصف الأثر، والمراد بالأثر ما جعل له أثر في الشرع، فمتى كانت العلة مؤثرة في الحكم المعلل فهي علة عادلة، وإن كان يجوز العمل بها قبل ظهور التأثير ولكن إنما يجب العمل بهذا إذا علم تأثيرها كالشهادة، فإن

_ 1 انظر: التقرير والتحبير 3/153-154. 2 انظر: المنار وشرحه ص 789 فما بعدها، والتقرير والتحبير 3/147-154. 3 انظر: أصول السرخسي 2/177.

الشاهد قبل أن ثبت صلاحيته للشهادة، لا يجوز العمل بالشهادة، وبعد ظهور صلاحيته قبل العلم بعدالته كالمستور لا يجب العمل بشهادته، وإن كان يجوز العمل بها، فلو قضى القاضي بشهادة المستور قبل العلم بعدالته نفذ حكمه1. ونقلوا عن الشافعية أنهم فرقتان: فرقة توجب العمل بالوصف الملائم بشرط شهادة الأصول، بأن يكون للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه نوع الوصف أو جنسه، كما يقال: لا تجب الزكاة في ذكور الخيل، فلا تجب في إناثها بشهادة الأصول على التسوية بين الذكورة والإناث، وأدنى ما يكفي في ذلك أصلان؛ لأن المناسب بمنزلة الشاهد، والعرض على الأصول تزكية بمنزلة العرض على المزكين، وأما العرض على جميع الأصول كما ذهب إليه البعض، فلا يخفى أنه متعذر أو متعسر. وفرقة توجب العمل بالملائم بمجرد كونه مخيلاً أي موقعاً في القلب خيال العلية، والصحة، والأوصاف التي تعرف عليتها بمجرد الإخالة تسمى بالمصالح المرسلة2. فعلى ما نقلوه عن الشافعية تكون الفرقة التي تشترط شهادة الأصول متفقة معهم، ويكون الخلاف منحصراً بين الحنفية ومن يوافقهم، وبين الفرقة التي تكتفي بالإخالة. غير أنه يرد على ما نقلوه عن الشافعية أن المذكور في أصول الشافعية أن الوصف المناسب هو المخيل، ومعناه تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنص ولا غيره، ثم إنهم قسموه إلى: مؤثر وملائم وغريب، ومرسل الخ ما تقدم نقله عنهم3.

_ 1 انظر: أصول السرخسي 2/177، كشف الأسرار 3/352. 2 انظر: التوضيح 2/71، والتلويح 2/71. 3 انظر: المختصر مع شرحه 2/242، والتلويح 2/71.

فالمؤثر والملائم لا خلاف في قبولهما عند الجميع، لما تقدم نقله عنهم من كونه مقبولاً عند الجميع، ولما صرح به صاحب التحرير وشارحه من أن المؤثر عند الحنفية أعم من المؤثر عند الشافعية، وهو ما ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم، ومن الملائم الأول الذي هو من أقسام المناسب بأقسامه الثلاثة. وهو ما ثبت اعتبار عين الوصف في عين الحكم بمجرد ثبوته مع الحكم في المحل، مع اعتبار عين الوصف في جنس الحكم بنص أو إجماع أو جنس الوصف في عين الحكم أو في جنسه، وأقسام ملائم المرسل الثلاثة وهي ما لم يثبت اعتبار عين الوصف في عين الحكم في المحل، لكن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عينه أو جنسه. فشمل المؤثر عند الحنفية - وهو الذي ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم أو جنسه، أو جنسه في عين الحكم أو جنسه - سبعة أقسام في عرف الشافعية1، وقالا: إنه يجب على الحنفية قبول ملائم المرسل2. فاتضح بذلك أن المؤثر شامل للملائم، وأنهما مقبولان عند الجميع، ولذا صرح الغزالي بأن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس، ونقل عن أبي زيد الدبوسي أنه قصر القياس عليه، وقال لا يقبل إلا المؤثر، لكنه أورد للمؤثر أمثلة عرف بها أنه من قبيل الملائم لكنه سماه أيضاً مؤثراً3. وأجاب عما ذكره أبو زيد "من أن الإخالة لا يمكن الدلالة عليها مع الخصم، بأن الظن به أنه عنى بذلك ما يرجع إلى شهادة القلب، ووقوع في النفس يجري مجرى الإلهام الذي يضيق نطاق العبارة عنه. قال: "وما ذكرناه من المناسب خارج عن الفن الذي ذكره، وهو الذين نعنيه بالمخيل أيضاً إذا أطلقناه".

_ 1 انظر: التقرير والتحبير 3/159، مع تصرف في العبارة. 2 المرجع السابق 3/154. 3 انظر: المستصفى مع مسلم الثبوت 2/299.

ودليل قبوله ما هو الدليل على قبول القياس المؤثر ودليل قبولهما جميعاً دليل أصل القياس وهو إجماع الصحابة، والظن بأبي زيد أنه أراد بالمؤثر المناسب الملائم، ولم يشترط التأثير على التمثيل، بل اكتفى بالمناسبة مع الملاءمة، ويشهد لذلك ما ضرب من الأمثلة للقياس المؤثر. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 1، علل لسقوط النجاسة بضرورة الطواف علينا، وللضرورات تأثير في إسقاط حكم الخطاب. قال: "وهذا ما نعنيه بالمناسب، فإن الحاجة داعية إلى المخالطة، وهذا ملائم مجانس لتصرفات الشرع في توسيع الأمر في مظان الحاجات"2. وأما الغريب وما في حكمه فقد اختلفوا فيه، فمن اكتفى بالملاءمة اعتبره ومن لم يكتف بها لم يعتبره. قال الآمدي: "وقد أنكره بعضهم وإنكاره غير متجه، لأنه يفيد الظن بالتعليل، ولهذا فإنا إذا رأينا شخصاً قابل الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة، مع أنه لم يعهد من حاله قبل ذلك شيء فيما يرجع إلى المكافأة وعدمها، غلب على الظن ما رتب الحكم عليه، والذي يؤيد ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون الحكم قد ثبت لعلة أولا لعلة، فإن كان لا لا لعلة فهو بعيد لما سبق تقريره من امتناع خلو الأحكام من العلل، وإن كنا لعلة فإما أن يكون لما لم يظهر، أو لما ظهر. الأول: يلزم منه التعبد، وهو بعيد عن ما عرف، والثاني هو المطلوب فإن قيل: الفرق بين ما نحن فيه، وبين صورة الاستشهاد أنا قد ألفنا من تصرفات العقلاء مقابلة الإحسان بالإحسان، والإساءة بالإساءة وكان ذلك من قبيل

_ 1 أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18، ابن ماجه 1/131. 2 انظر: شفاء الغليل ص 177-178.

القسم الأول، وهو الملائم المتفق عليه، لا من قبيل القسم الثاني وهو الغريب المختلف فيه. قلنا: نحن إنما نفرض الكلام في شخص لم يعهد من حاله قبل ذلك الفعل موافقة ولا مخالفة، فلا يكون من الملائم المتفق عليه ولا من الملغي، ومع ذلك فإن التعليل يظهر من فعله لكل عاقل، نظراً إلى أن الغالب إنما هو غلبة طبيعة المكافأة بالانتقام، والإحسان في حق العاقل، كما أن الغالب من الشارع اعتبار المناسبات دون إلغائها1. هذا وقد تقدم أن الحنفية إنما يشترطون التأثير بالنص أو الإجماع في وجوب العمل بالوصف المناسب، لا في جوازه. قال الزركشي: "ومنع السهروردي2 في التنقيحات وجود المناسب الغريب، ورد أمثلته إلى الملائم، وإليه أشار الغزالي في شفاء الغليل فإنه قال: وقل ما يوجد في الشرع اعتبار مصلحة خاصة إلا وللشرع التفات إلى جنسها، وعلى الأصولي التقييم، وعلى الفقيه الأمثلة"3. ونقل عن الأنباري أنه ذكر في شرح البرهان أن الوصف المناسب لا يكاد ينفك عن نظير بحال"4. هذا ما يتعلق بالمؤثر والملائم والغريب من أقسام الوصف المناسب وسنتبعه إن شاء الله تعالى بالكلام على المرسل.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/260-261. 2 هو: يحيى بن حبش إميرك، الملقب بشهاب الدين السهروردي أبو الفتوح، قرأ الحكمة وأصول الفقه حتى برع فيهما، وكان إماماً حاذقاً في فنونه جامعاً للعلوم الفلسفية، شافعي المذهب، اتهم باعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين حتى أفتى علماء حلب بقتله، ولد سنة 549هـ وتوفي سنة 587هـ، من مؤلفاته التلويحات والتنقيحات وغيرهما. انظر: هدية العارفين 1/1061، الأعلام 9/169-170. 3 البحر المحيط خ3 /ب 155. 4 نفس المصدر السابق 3/155.

الباب الثالث: في المناسب المرسل

الباب الثالث: في المناسب المرسل الفصل الأول: في تعريفه وبيان محل الخلاف والوفاق فيه بين العلماء. ... الفصل الأول في تعريف الوصف المرسل وبيان محل الخلاف والوفاق فيه بين العلماء تعريف المناسب المرسل: المرسل في اللغة مشتق من الإرسال، وهو الإطلاق والإهمال يقال: أرسلت الكلام إرسالاً، إذا أطلقته من غير تقييد له1. ومن هنا ناسب التعريف الاصطلاحي التعريف اللغوي كما سيأتي من أن الوصف المناسب المرسل هو ما لم يدل الدليل على اعتباره، ولا على إلغائه، فهو مطلق بهذا الاعتبار. أما في الاصطلاح، فقد عرفه الأصوليون بأنه الوصف الملائم لمقاصد الشرع الخالي عن دليل يدل على اعتبار صحة بناء الأحكام عليه، وعن دليل يدل على فساد بنائها عليه. ويعبرون عنه: بالمرسل، وبالاستصلاح، وبالاستدلال، وبالمصالح المرسلة2. وهم وإن اختلفت تعبيراتهم في تعريفه، إلا أنها متفقة في المعنى والقصد، وإليك أهم تعريفاتهم له: قال إمام الحرمين: "إنه معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من غير وجدان أصل متفق عليه"3.

_ 1 انظر: القاموس 3/395، المصباح المنير 1/242-243. 2 البرهان 2/1113ط، المحلى مع حاشية العطار 2/327، البحر المحيط3/239-خ-، والمحصول 2 من القسم الثاني ص 230، ط كلية الشريعة بجامعة الإمام. 3 البرهان 2/1113.

شرح التعريف: قوله "معنى": أي الوصف الذي يبنى عليه الحكم، فهو جنس في التعريف. وقوله "معنى مشعر بالحكم": مراده بهما أن الوصف المرسل هو ما يترتب على بناء الحكم عليه مصلحة، لأن ذلك هو معنى المناسبة، كما تقدم في تعريفها. وقوله "فيما يقتضيه الفكر العقلي": معناه أن مناسبته مستفادة من العقل، حيث لم تثبت بدليل من أدلة الشرع. وقوله "من غير وجدان أصل متفق عليه": معناه أن المناسبة بين الوصف والحكم لم تثبت بالأدلة التي اتفق عليها الأصوليون، والظاهر أن مراده بالأصل الدليل الدال على علية الوصف، أو الدال على عدم عليته. وبقوله: "المتفق عليه": ما اتفق عليه الأصوليون، وهذا هو معنى قول الأصوليين الآتي هو: المناسب الذي لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه. محترزات التعريف: فقوله: "معنى" أي: وصف يشمل جميع الأوصاف معتبرة أو ملغاة، أو مرسلة، والمناسب وغير المناسب. وقوله: "مشعر بالحكم ومناسب له": احترز به عن الأوصاف غير المناسبة كالوصف الشبهي والطردي. وقوله "فيما يقتضيه الفكر ... الخ": مخرج للأوصاف المعتبرة والملغية لوجود الدليل على اعتبارها أو إلغائها. أما الغزالي فقال: "إنه التعلق بمجرد المصلحة من غير استشهاد بأصل معين" 1. فقوله: "التعلق": أي تعلق المجتهد في الاحتجاج به، والاستناد إليه في بناء الأحكام.

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 207.

وقوله "بمجرد المصلحة": يعني المصلحة الخالية عن دليل يدل على اعتبارها أو إلغائها، وهو معنى قوله من غير استشهاد بأصل معين. محترزات التعريف: فالتعلق جنس يشمل تعلقه بمصلحة، أو بدليل آخر. وقوله "بمجرد المصلحة": يخرج تعلقه بالنص أو الإجماع أو غيرهما. وقوله "من غير استشهاد بأصل معين": لإخراج الأصل الخاص؛ لأن المصلحة هنا مندرجة تحت الدليل الكلي لكونها لم تتجرد عنه1. ويقول الفخر الرازي: إنه "المناسب الذي لا يعلم أن الشارع ألغاه أو اعتبره"2. وهذا هو ما ذهب إليه الآمدي في تعريفه حيث قال: "الرابع: المناسب الذي لم يشهد له أصل من أصول الشريعة بالاعتبار بطريق من الطرق المذكورة ولا ظهر إلغاؤه في صورة، ويعبر عنه بالمناسب المرسل"3. وقال ابن الحاجب: "وغير المعتبر هو المرسل"4، ومراده بذلك أنه لم يدل الدليل على اعتباره، ولا إلغائه، وبهذا قال ابن السبكي، والأسنوي نقلاً عن البيضاوي5. فظهر بذلك اتفاق مقصدهم في تعريف المناسب المرسل بأنه الوصف الملائم لمقاصد الشرع الخالي عن دليل خاص يدل على اعتبار صحة بناء الأحكام عليه، أو يدل على فساد ذلك والله أعلم.

_ 1 انظر تفاصيله في رسالة رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 144 فما بعدها. 2 المحصول 2/230. 3 الأحكام للآمدي 3/262. 4 االمختصر مع شرحه وحاشيته 2/242. 5 جمع الجوامع مع المحلى وحاشية العطار 2/327، الأسنوي 3/58.

محل الخلاف بين الأصوليين في الوصف المرسل: اختلف الأصوليون في محل الخلاف بينهم في الوصف المرسل فذهب بعضهم إلى أن الخلاف حاصل في كل وصف مرسل، وذهب البعض الآخر إلى أن الخلاف حاصل فيما هو أخص من ذلك، حيث قسموه إلى: غريب وملائم، وهؤلاء منهم من جعل الخلاف جارياً في الملائم وحكى الاتفاق على رد الغريب، ومنهم من جعل الخلاف حاصلاً في الغريب لا في الملائم، مع اتفاق من جعل الخلاف حاصلاً في كل وصف مرسل، ومن حصر الخلاف في نوع منه دون نوع على أن الجميع يسمى وصفاً مناسباً مرسلاً. ولعل الخلاف بين الفريقين - من فصل، ومن أطلق - في كون خلاف العلماء في الوصف المناسب المرسل حاصلاً فيه من غير تفرقة بين فرد من أفراده، أو في بعض أفراده يرجع إلى أن من رأى التفرقة بين نوع وآخر في تفرقته التي ذهب إليها - أن من المناسب المرسل ما له أصل كلي يندرج تحته، ولذا سماه ملائماً، وأجري فيه الخلاف، ومنه ما ليس له أصل كلي يندرج تحته، وسماه غريباً، وحكى اتفاق العلماء على رده. 2 - ومن رأى أن الخلاف جارٍ فيه بين العلماء مطلقاً من غير فرق بين نوع وأخر رأى أنه ما من وصف مناسب مرسل إلا وله أصل يندرج تحته، غير أن إفراد الوصف المناسب تختلف في البعد والقرب من الجنس والأصل الكلي المندرجة تحته، فبعضها بعيد، وبعضها أبعد مع أن الجميع يصدق عليه أنه مندرج تحت ذلك الأصل الكلي1. ولنستمع إلى أقوالهم الدالة على ذلك: قال الآمدي في تقسيم المناسب أنه: "المناسب الذي لم يشهد له أصل من أصول الشريعة بالاعتبار بطريق من الطرق المذكورة، ولا ظهر إلغاؤه في صورة،

_ 1 رأى الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 148 فما بعدها مع تصرف.

ويعبر عنه بالمناسب المرسل"1، ثم أفرده بالكلام عليه تحت اسم المصلحة المرسلة فقال: "قد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به، مع إنكار أصحابه لذلك"2. وكلامه واضح في أن الخلاف حاصل في كل نوع من أنواع الوصف المرسل بين العلماء من غير تفريق بين نوع وآخر. ويقول القرافي بعد تقسيمه للمناسب إلى ما اعتبره الشارع وإلى ما ألغاه: وإلى ما جهل حاله؛ "والذي جهل أمره هو المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها، وعند التحقيق هي عامة في كل المذاهب"3. ويقول الأسنوي: "إن المناسب قد يعتبره الشارع، وقد يلغيه، وقد لا يعلم حاله، وهذا الثالث هو المسمى بالمصالح المرسلة، ويعبر عنه بالمناسب المرسل"4. ويقول المحلى موضحاً لكلام ابن السبكي: "وإن لم يدل الدليل على إلغائه كما لم يدل على اعتباره فهو المرسل، قبله مالك مطلقاً، رعاية للمصلحة ... ورده الأكثر من العلماء مطلقاً"5. وبمثل ذلك قول الزركشي حيث قال: "وقد مر الكلام في القياس المناسب الذي اعتبره الشارع أو ألغاه، والكلام فيما جهل حاله أي سكت عن اعتباره وإهداره وهو المعبر عنه بالمصالح المرسلة، ويلقب بالاستدلال المرسل"6.

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/262. 2 انظر: المرجع السابق 4/140. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 394. 4 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/136. 5 انظر: المحلى مع حاشية العطار 2/327 فما بعدها مع تصرف باختصار. 6 انظر: البحر المحيط 3/239-خ-.

فهذه النقول يدل ظاهرها على أن هؤلاء العلماء متفقون على إجراء الخلاف بين العلماء في قبول المرسل من غير فرق بين نوع منه وآخر، لإطلاقهم الخلاف فيه من غير أن يقسموه إلى: ملائم وغريب، مثل ما فعل من قسمه هذا التقسيم وأُجري الخلاف نوع دون نوع كما سيأتي. أقوال الفريق الآخر الذين أجروا الخلاف في نوع دون نوع من المرسل. أما الفريق الآخر، فيرون أن الخلاف حاصل في نوع دون نوع آخر، فهذا الشاطبي يرى انقسام المناسب المرسل إلى نوعين: ملغى معتبر، فالملغى مردود باتفاق، والملائم هو الذي فيه الخلاف. قال: "الثالث ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره، ولا بإلغائه فهذا على وجهين: أحدهما: أن لا يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث، بالمعاملة بنقيض المقصود، بتقدير أنه لم يرد نص على وفقه، فإن هذه المعاملة لا عهد بها في تصرفات الشارع بالغرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به، فلا يمكن قبوله"1. ثم ذكر القسم الثاني من المرسل وهو الملائم بقوله: "وهو أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين"2. فمراد الشاطبي هنا أن المناسب المرسل الغريب أمر سكتت عنه نصوص الشرع وشواهده، فلم تعتبره أصلاً، لا باعتبار القريب الخاص، ولا بالاعتبار الإجمالي المشار إليه بقوله "بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر"؛ لأن هذا

_ 1 انظر: الاعتصام 2/114-115. 2 انظر: الاعتصام للشاطبي 2/115.

الاعتبار هو الاعتبار الإجمالي؛ لأنه للأجناس البعيدة للأوصاف والمصالح، فهذا لا يصح التعليل به، ولا بناء الأحكام عليه. وأشار إلى القسم الثاني المعبر عنه بملائم المرسل بأنه ما وجد اعتبار الشارع لجنسه في الجملة من غير دليل خاص. وبذلك يكون حصر الخلاف في ملائم المرسل كما هو واضح من عبارته. ويقول ابن الحاجب بعد بيانه لأنواع المناسب المعتبرة: "وغير المعتبر هو المرسل، فإن كان غريباً، أو ثبت إلغاؤه فمردوده اتفاقاً، وإن كان ملائماً فقد صرح الإمام الغزالي بقبوله، وذكر عن مالك والشافعي، والمختار رده"1، فإنه قسم المرسل إلى ثلاثة أنواع هي: "أ" ما علم إلغاؤه، وهو ما ثبت رده من الشارع. "ب" غريب، وهو ما لم يثبت اعتباره ولا رده ولم يشهد جنس من الأجناس البعيدة إلى اعتبار الشارع له. "جـ" ملائم وهو ما لم يعتبر ولم يلغ، إلا أن الشارع اعتبر جنسه البعيد. وحكى اتفاق العلماء على رد معلوم الإلغاء والغريب، وأجرى الخلاف في ملائم المرسل. وبهذا قال صاحب التحرير وشارحه، فإنهما قسما المناسب المرسل إلى: معلوم الإلغاء، وغريب وملائم، وصرحا باتفاق العلماء على رد معلوم الإلغاء والغريب، وحكيا الخلاف في الملائم بعد بيان أنه ما علم اعتبار جنسه في جنسه، أو عينه في جنسه، أو جنسه في عينه، وذكرا عن الشافعي ومالك قبوله2. وكذلك تابع البدخشي ابن الحاجب في تقسيمه، وقال: أنه التحقيق حيث قال في بيان المرسل الغريب "وهو كما مر لم يشهد له أصل اعتبار أو إلغاء، والتحقيق أن المتخلف فيه هو ما لا يكون نوعه معتبراً في نوع الحكم، لا بنص ولا

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه وحاشيته 2/242. 2 انظر: التقرير والتحبير 3/150.

بإجماع ولا بترتيب الحكم على وفقه، ولا ظهر إلغاؤه، وعلم اعتبار نوعه في جنس الحكم على ما يفهم من كلام المحقق"1. وقسم صاحب مسلم الثبوت وشارحه المرسل إلى: ما علم إلغاؤه، وذكر الاتفاق على رده، وإلى ما لم يعلم إلغاؤه قالا: "فإن لم يعلم فيه أحد اعتبارات الملائم من اعتبار نوعه أو جنسه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم لكن لم يعلم إلغاؤه أيضاً فهو الغريب المرسل، وهو المسمى بالمصالح المرسلة حجة عند مالك رحمه الله والمختار عند الجمهور من الأصوليين والفقهاء رده، وإن علم فيه أحد اعتبارات الملائم، فهو المرسل الملائم قبله إمام الحرمين، ونقله عن الشافعي، وعليه جمهور الحنفية"2. غير أن ما ذكراه من أن الغريب المرسل هو المعنى بالمصالح المرسلة المشهور عن مالك قبوله فيه نظر من وجهين: أحدهما: أنه مخالف لتقسيم ابن الحاجب الذي هو صاحب هذا التقسيم، لما تقدم قريباً أن الغريب مردود اتفاقاً. الثاني: أنه لا ينطبق على المرسل الذي ذهب إليه مالك - رحمه الله - وأتباعه؛ لأنه لا بد في المرسل عندهم في تأثير جنس الوصف ولو كان عالياً في عين الحكم أو جنسه، وهذا هو ملائم المرسل كما تقدم عن الشاطبي. وحاصل كلام صاحب مسلم الثبوت وشارحه أن المرسل نوعان: ملغي باتفاق وغير ملغي، وهو نوعان: غريب، وملائم: فالغريب رده الجمهور، ونسبا قبوله إلى مالك، وتقدم إبطاله آنفاً، والثاني: مقبول عند الشافعي رحمه الله وجمهور الحنفية. فهما وإن سلكا طريق ابن الحاجب ومن تبعه في تقسيم المناسب المرسل إلى:

_ 1 انظر: منهاج العقول مع نهاية السول 3/135، ومراده بالمحقق هو العضد كما هو اصطلاحه. 2 انظر: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت بأسفل المستصفى 2/266 مع تصرف.

ملغى، وغريب، وملائم، غير أنهما جعلا الخلاف جارياً في غريب المرسل، بينما ابن الحاجب ومن وافقه حكوا الاتفاق على رده، وجعلوا الخلاف حاصلاً في ملائم المرسل، إلا أن الجميع متفقون على أن الخلاف حاصل في نوع من أنواع المرسل، لا في المرسل مطلقاً من غير تفريق بين نوع وآخر من أنواع المرسل كما ذهب إليه الفريق الأول والله تعالى أعلم. الموزانة: يتضح من كلام الفريقين أنهم متفقون على مناسبة الوصف المرسل، غير أن الذين أجروا الخلاف في كل وصف مرسل ومنعوا الأخذ به، لا يمنعون اندراجه تحت جنس بعيد من الأجناس المعتبرة غير أنهم لا يرون الأخذ بالوصف المناسب إلا إذا شهد له الجنس القريب، وهو القياس، أو ما ورد اعتباره بالنص أو الإجماع أما ما عدا ذلك فلا يقبلونه، بل يرون أنه من الزيادة على النص. وأما من يرى قبول ملائم المرسل، فلأنه لا يرى في قبوله خروجاً عن الشرع؛ لأنه يرى العمل بكل مصلحة اندرجت تحت جنس معتبر ولو كان بعيداً. ويدل لقبول المرسل بهذا الاعتبار ما ذكره القرافي مستدلاً به على عموم القول به في جميع المذاهب ونصه: "وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب"1.

_ 1 انظر: شرح التنقيح ص394.

الفصل الثلني: في بيان مذاهب العلماء في الوصف المناسب المرسل

الفصل الثلني: في بيان مذاهب العلماء في الوصف المناسب المرسل ... الفصل الثاني في بيان مذاهب العلماء في الوصف المناسب المرسل وقد رأيت أن أحصر مذاهب العلماء في فصل مستقل ثم أفرد كل صاحب مذهب بفصل. اختلف الأصوليون في الأخذ بالوصف المناسب المرسل، وفي حكاية مذاهب العلماء فيه. فيرى إمام الحرمين أن مذاهب العلماء فيه ثلاثة: الأول: منع الأخذ به مطلقاً، والاقتصار على كل معنى له أصل. الثاني: جواز اتباع وجوه الاستصلاح قربت من موارد النص أو بعدت ما لم يعارضها أصل من كتاب أو سنة أو إجماع. الثالث: التمسك بالمعنى المناسب، وإن لم يستند إلى أصل معين بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة1. وإلى هذا ذهب الأسنوي غير أنه خالفه في الثالث، فقال فيه: إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية قبلت، وإلا فلا2. فعلى هذا تكون المذاهب حسبما ذكرا - مع إضافة مذهب الطوفي الذي ذهب إليه بعض المتأخرين، وهو اعتبار المصلحة مطلقاً سواء عارضت نصاً، أو إجماعاً تكون خمسة وهي: المذهب الأول: جواز الأخذ به مطلقاً، قربت مناسبته من موارد النص أو بعدت، وهو المشهور عن مالك رحمه الله3.

_ 1 انظر: البرهان 2/1114. 2 انظر: نهاية السول مع منهاج الوصول 3/136. 3 انظر: شفاء الغليل ص 207، البرهان 1/ 1113، البحر المحيط 3/241، وجمع الجوامع مع شرحه وحاشية العطار 2/323، والتقرير والتحبير 3/150، والمنهاج مع نهاية السول 3/136.

المذهب الثاني: منع الأخذ به مطلقاً، وبه قال القاضي الباقلاني، واختاره ابن الحاجب، وقال الآمدي إنه الحق، وحكى اتفاق الفقهاء عليه1، غير أن ما ذكر من اتفاق الفقهاء يرد عليه ما نقله إمام الحرمين عن الشافعي ومعظم فقهاء الحنفية، من العمل بالمناسب المرسل إذا كانت مصلحته مشابهة بالمصالح المعتبرة2. وما ذكره القرافي ونصه "وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا، وفرقوا بين مسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب"3. وقال الطوفي من الحنابلة: "تقدم المصلحة على النص والإجماع، لأن الإجماع اختلف في حجيته، ولكن المصلحة ما اختلف في حجيتها، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه"4. فكيف يسوغ الإجماع مع مخالفة من ذكروا، ولا سيما مخالفة الإمام الشافعي رحمه الله؟ وسيتضح ذلك إن شاء الله عند عرض الأدلة ومناقشتها. المذهب الثالث: اعتبار الأخذ به بشرط المناسبة وعدم البعد من شهادة النصوص له، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ونسب أيضاً لإمام الحرمين5. المذهب الرابع: اعتباره إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية، وبه قال الغزالي واختاره البيضاوي6.

_ 1 انظر: المنخول ص 455، البرهان 2/1113، المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/242، الأحكام 4/140، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/136. 2 انظر: البرهان 2/1114. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 394. 4 انظر: أسباب اختلاف الفقهاء ص 466. 5 انظر: البرهان 2/1114، ونهاية السول مع منهاج العقول 3/136. 6 انظر: المستصفى 1/294-295، نهاية السول مع منهاج العقول 3/136، وجمع الجوامع مع شرحه وحاشية العطار 2/329-330.

المذهب الخامس: اعتباره بشرط المناسبة مطلقاً سواء عارضت المصلحة نصاً أو إجماعاً وبه قال الطوفي1. هذه هي المذاهب التي ذكرها جمهور الأصوليين، ونسبوها لأصحابها تفصيلاً، غير أن بعض أئمة الأصوليين نسب القول باعتبار المناسب المرسل لجميع المذاهب إجمالاً من غير تفصيل، وقالوا: إن ذلك هو الحق. وممن صرح بذلك القرافي فإنه قال في التنقيح: "المصلحة المرسلة عند التحقيق عامة في جميع المذاهب"2. وقال في شرح التنقيح: "وأما المصلحة المرسلة، فالمنقول أنها خاصة بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا، وفرقوا بين مسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطل المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب"3. فكلام القرافي رحمه الله هنا ظاهر في أن جميع المذاهب التي تأخذ بالقياس اعتبرت المصلحة المرسلة، وظاهر في أنهم لا يتقيدون في الأخذ بها بأي قيد سوى المناسبة. ونقل الشوكاني4 عن ابن دقيق العيد5 أنه قال: "الذي لا شك فيه أن

_ 1 انظر: أسباب اختلاف الفقهاء ص 466. 2 انظر: تنقيح الفصول مع شرحه ص 393. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 394. 4 هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني، اليمني الفقيه المحدث الأصولي النظار، عرف بالإمام المجتهد، ولد بصنعاء سنة 1172هـ، كان فريد عصره ونادرة دهره، له مؤلفات في التفسير والحديث وأصول الفقه وغيرها، له في الأصول إرشاد الفحول، توفي سنة 1250هـ وقيل 1255هـ. انظر: الفتح المبين 3/144 فما بعدها. 5 هو: محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري أبو الفتح، تقي الدين المالكي ثم الشافعي، كان للعلوم جامعاً، وفي الفنون بارعاً حسن الاستنباط للمعاني من الكتاب والسنة، له مؤلفات منها أحكام الأحكام في الحديث والإلمام في أحاديث الأحكام، وشرح مقدمة الطرزي في أصول الفقه وغيرها، ولد سنة (625هـ) وتوفي سنة (702هـ) . انظر: شذرات الذهب 6/ 5، 6، والأعلام للزركلي 7/173-174.

لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح للاستعمال لها على غيرهما"1. فقد أثبت أن الجميع يقولون بالمصلحة المرسلة، وإن تفاوتوا في الأخذ بها، وهذا يخالف ما أطبق عليه الأصوليون من نسبة العمل بالناسب المرسل لمالك رحمه الله، واختصاصه بالاعتماد على الأخذ به حتى عرف به، وتصور أن كل قائل به إنما يكون ناطقاً باسم مالك لشدة صلته به. ولعل في استعراض أدلة المذاهب ومناقشتها توضيحاً لمدى أخذ العلماء بالمناسب المرسل، وعدم اختصاص المالكية بالقول به دون غيرهم. لذا رأيت أن أخصص أدلة كل صاحب مذهب بفصل، لاستعراض فيه أدلته ومناقشتها، وبيان مدى أخذه به فإلى ذلك.

_ 1 انظر: إرشاد الفحول ص 242.

الفصل الثالث: في بيان أدلة مذهب الإمام مالك

الفصل الثالث في بيان أدلة مذهب الإمام مالك تقدمت نسبة القول بالوصف المناسب المرسل مطلقاً لمالك رحمه الله، وأن ذلك اشتهر عند الأصوليين حتى كادوا يجمعون على أن فقه مالك يمتاز عن غيره بأنه فقه المصالح المرسلة، وامتياز الفقه المالكي عن غيره لم يكن في أصل الأخذ بهذا الدليل، وإنما هو في كثرة الأخذ به والرجوع إليه، وبناء الأحكام عليه، غير إنما نسب إليه من إطلاق عمله بالمصلحة المقتضى لعمله بالمصلحة الغربية التي يعد القول بها عملاً بالرأي وتشريعاً بالهوى، وقولاً بالتشهي غير صحيح1. ذلك أن مالكاً إنما اعتبر المصلحة التي ظهر اعتبار الشارع لها برجوعها إلى أصوله وقواعده العامة وشهدت لها نصوص الشرع في الجملة، وإن لم يشهد لها دليل معين، يدل لهذا ما ذكره الشاطبي رحمه الله فإنه قسم المناسب المرسل إلى: غريب، وملائم، وبين أن العلة في الغريب لا عهد بها في تصرفات الشارع بالفرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، قال: "وهذا لا يصح التعليل به، ولا بناء الأحكام عليه باتفاق. وأما الثاني: فملائم لتصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في جملة، بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة"2. ثم وضحه بأمثلة بين أنها توضح الوجه العملي بالمصالح المرسلة، وأنها تبين اعتبار أمور ثلاثة: 1 - أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع، فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية، بل متفقة مع المصالح التي يقصد الشارع تحصيلها بأن تكون من جنسها ليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص.

_ 1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 50. 2 انظر: الاعتصام 2/115.

2 - أن تكون معقولة في ذاتها جرت على ذوق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول. 3 - أن يكون في الأخذ بها محافظة على أمر ضروري، أو رفع لحرج لازم في الدين بحيث لو لم يؤخذ بها في مكانها لكان الناس في حرج1، واعتبار هذه الشروط في الأخذ بالمناسب المرسل يمنع أن يكون الأخذ به خلع ربقة الإسلام، وجعل النصوص خاضعة لأحكام هواه وشهواته، ذلك أن المصلحة في المرسل "ليست مصلحة مسكوتاً عنها، بل مصلحة اعتبرتها الشريعة بجملة نصوص، ومجموع أدلة، ووصف كتاب الأصول المصلحة الملائمة بالإرسال مجرد اصطلاح قصد به التفريق بين الاستدلال المرسل والقياس، إذ للقياس أصل معين يشهد لعين المصلحة، في حين أن الاستدلال المرسل توجد فيه أصول غير معينة، بمعنى أنها لم تشهد لعين المصلحة، وإن شهدت لجنسها بالاعتبار وعلى ذلك فإنه يلزم للمجتهد الذي يدعى أن هناك مصلحة توجب إعطاء الواقعة حكماً معيناً أن يثبت أن لهذه المصلحة جنساً اعتبره الشارع بنصوص شرعية، وأن يقدم النصوص، وإلا فهو تشريع منه بالرأي، وهو قول بالتشهي، وهو ابتداع في الدين، وكل أحد عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"2. ومعلوم أن مالكاً رحمه الله لم يدون أصوله التي جعلها أساساً لمذهبه في استنباط الأحكام الفرعية التي نسبت إليه، والفتاوى التي رويت عنه، وإنما كان شأنه في ذلك شأن أبي حنيفة رحمه الله، ولم يكن كتلميذه الشافعي رحمه الله الذي دون أصوله في استنباط الأحكام وضبطها وذكر البواعث التي دفعته إلى اعتبارها، ومقامها من الاستدلال، غير أن علماء المذهب المالكي استنبطوا من فتاوى مالك والفروع التي رويت عنه الأصول التي قام عليها المذهب في استنباط أحكامه منها، فدونوا تلك الأصول المستنبطة على أنها أصول مذهب مالك وعليها كان

_ 1 انظر: الاعتصام 2/129-133. 2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 65-66.

اعتماده وعليها يرجع في التفريع، ويقيد نفسه بها، وإن لم يصرح بها كما نقل ذلك عنه أتباعه1. وليس للباحث إلا أن يسلم صحة ذلك، لأن اتباع الإمام، وعلماء المذهب أعلم الناس بمذهب إمامهم، وقد عزوا ذلك إليه، وذكروا أنه كان يحتج بالمناسب المرسل. والآن ننتقل إلى ذكر أدلة ذلك المذهب. أدلة المذهب الأول على اعتبار الوصف المناسب المرسل مطلقاً، استدل أهل هذا المذهب بما يأتي: الدليل الأول: ما صرح به القرافي، وهو: "أن الله تعالى إنما بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحصيل مصالح العباد عملاً بالاستقراء، فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع2. ومعنى كلامه رحمه الله أن استقراء النصوص دل على أن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام، واعتبار الشارع جنس المصالح في جنس الأحكام يفيد ظناً قوياً باعتبار مصلحة الوصف المناسب المرسل، وإذا غلب على ظننا اعتبار الشارع لها لزمنا العمل بها؛ لأن الظن يجب العمل به. يدل لهذا ما استدل به البيضاوي لمالك رحمهما الله على ما نسبه إليه من القول بالمناسب المرسل مطلقاً حيث قال: "وأما مالك فقد اعتبره مطلقاً، لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتباره"3، والضمير في قوله: اعتبره، واعتباره راجع إلى المناسب المرسل. وأوضح الأسنوي كلام البيضاوي "بأن الشارع اعتبر جنس المصالح في

_ 1 انظر: مالك بن أنس ص 233، ونظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 47. 2 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 446. 3 انظر: المنهاج مع شرحه نهاية السول، ومنهاج العقول 3/135-136.

جنس الأحكام كما مر في القياس، واعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها فرداً من أفرادها"1. اعترض على هذا الدليل بأن المصلحة في المناسب المرسل مسكوت عنها، فليس العمل بها أولى من إلغائها، بمعنى أن إلحاقها بالمصالح المعتبرة ليس بأولى من إلحاقها بالمصالح الملغاة، وذلك أن الشارع كما اعتبر بعض المصالح ألغى البعض الآخر، فترجيح اعتبارها على إلغائها ترجيح بغير مرجح، وهو باطل. ولما كان هذا الاعتراض وارداً فقد أشار البدخشي إلى رده، بأن من خواص المصلحة المعتبرة شرعاً أن تكون غالبة، إن لم تكن خالصة، والمصلحة في الوصف المرسل هنا قد ظهر لنا غلبتها على المفسدة، فإلحاقها بالمعتبرة هو اللائق2. قال البدخشي: "لأنه إذا ظن أن في هذا الحكم مصلحة غالبة على المفسدة - ومعلوم أن كل مصلحة كذلك معتبرة شرعاً - لزم ظن أن هذه المصلحة معتبرة، والعمل بالظن واجب"3. فكلامه هنا ظاهر في أن المصلحة هنا غالبة على المفسدة، وهو كاف في ترجيح العمل بها على اعتبار إلغائها. يدل لهذا ما ذكره الشاطبي ونصه: "فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتبار، فهي المقصود شرعاً، ولطلبها وقع الطلب على العباد" 4. ويدل لترجيح العمل بالمصلحة هنا ما ذكره صاحب نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي نقلاً عن الغزالي في وجه اعتبار المناسب الغريب، وهو ما عبر عنه الأصوليون بأنه ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بمجرد ترتيب الحكم على وفقه

_ 1 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/136. 2 انظر: تفاصيله في رسالة الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 188-189 مع تصرف. 3 منهاج العقول مع نهاية السول 3/136. 4 انظر: الموافقات 2/26-27.

حيث قال: إنه في محل النظر، ثم وجه القول بأنه حجة بقوله: "العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة، وهذا فرد من أفراده، وهو وإن لم يكن موافقاً لأصل، فلا مخالفة فيه أيضاً، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة: فيتعارضان، ويسلم أصل العمل بالظن ... وقد اعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس"1. الدليل الثاني: قرر الشاطبي أن الاستدلال المرسل أصل من أصول الفقه، وقاعدة من قواعده، وهو عنده دليل قطعي أخذ من استقراء نصوص الشريعة استقراء يفيد القطع، فبناء الأحكام عليه بناء على أصل كلي ودليل قطعي. قال رحمه الله: "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائماً لتصرفات الشرع، ومأخوذ معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به؛ لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها ... ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين، فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين، وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحاً في بعض المسائل، حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك يبنى على هذا الأصل؛ لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس"2. فكلام الشاطبي هنا يدل على أن المرسل عنده هو الوصف الذي لم يشهد الشرع لا باعتباره، ولا بإلغائه، ولكنه ملائم لجنس مقاصد الشارع وهذا يدل على أنه يقول بحجية ملائم المرسل، ولا يقول بغريبه، وهو الذي لا يلائم مقاصد الشرع، ولم يشهد له أصل معين.

_ 1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 60. 2 انظر: الموافقات 1/39-40.

كما يدل على أنه يرى أن مناسبة المرسل إنما تؤخذ من جملة أدلة وعدة نصوص لا من نص واحد، وبذلك يفيد القطع بمجموع تلك الأدلة، وإن لم تفده بآحادها، وذلك دون اشتراط التأثير الذي يقول به الحنفية فالأصل الذي يؤخذ في الاستقراء لاستنباط المصلحة الكلية، والأصل العام يكفي فيه أن يثبت الحكم مع الوصف، وإن لم يدل النص أو الإجماع على أن ذلك الوصف مناط الحكم. وهذا مصير من الشاطبي إلى موافقة الجمهور في أن ترتيب الحكم على الوصف يفيد ظن اعتبار الشارع له، وبذلك يؤخذ مثل هذا في استنباط الوصف الكلي، وهو ما أسماه الأصل الكلي. فهو يفرق بين الأصل الكلي، وبين تحقيق مناطه أحد جزئياته، فالأصل الكلي هو المأخوذ بالاستقراء من عدة نصوص، وأصول تفيد القطع بمجموعها، أما تحقيق مناط هذا الأصل الكلي في أحد الجزئيات، فظني كالشأن في تحقيق مناط أية علة، ولو ثبتت بالنص وعلى هذا الأساس تكون المصلحة الجزئية المتحققة في الفرع الذي يراد معرفة حكمه مصلحة ظنية، وعلى هذا فالمراد بقطعية المصلحة المرسلة هو كونها كلية. أما إذا أطلق القول، بأن المصلحة دليل ظني، فإنما المراد بذلك تحقيق مناط الأصل الكلي في أحد الجزئيات. ويرى الشاطبي أن الاستحسان عند المالكية نوع من التعارض بين المصلحة المرسلة والقياس، ويرى تقديمه لذلك على القياس، لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، وهو يؤكد أن القول بالاستدلال المرسل، يعارض القياس ويقدم عليه، ولكنه لا يناقض النص الشرعي1. ثم ساق اعتراضاً وأجاب عنه بما نصه: "فإن قيل: الاستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح، لأن الأصل الأعم كلي، وهذه القضية

_ 1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 55-57 مع تصرف باختصار العبارة.

المفروضة جزئية خاصة، والأعم لا أشعار له بالأخص، فالشرع وإن اعتبر كلي المصلحة من أين يعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها؟ "1. "ومعنى هذا الاعتراض أن الأدلة قامت على أن المصلحة العامة تقدم على الخاصة مثلاً، وذلك في منع بيع الحاضر للبادي، رعاية لمصلحة أهل السوق. وكذلك المنع من تلقي الركبان لمصلحة أهل الحضر، وغير ذلك من الجزئيات التي تفيد أن تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة مقصود للشارع. فإذا منعنا مسلماً من إقامة مصنع في جهة آهلة بالسكان، وفرضنا عليه قيوداً معينة في استعمال ملكه مراعاة لمصلحة الجماعة، فكيف نعرف أن الشارع قصد تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في صورة المنع من بناء المصنع، أو تقييد البناء؟ "2. أجاب عنه "بأن الأصل الكلي إذا انتظم في الاستقراء يكون كلياً جارياً مجرى العموم في الأفراد"3. ثم يوضح الشاطبي هذا المعنى بقوله: "أن المجتهد إذا استقرى معنى عاماً من أدلة خاصة، وأطرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن، بل يحكم عليها إن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذ صار ما استقرى من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة"4. فالمصلحة المرسلة باعتبارها أصلاً كلياً عاماً استفيد من استقراء نصوص الشريعة.

_ 1 انظر: الموافقات 1/40-41. 2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 57. 3 انظر: الموافقات 1/41. 4 انظر: الموافقات 3/304.

ولقد قرر الشاطبي أن العام المستفاد من استقراء نصوص الشريعة يجري في قوة الاحتجاج به مجرى العام المستفاد من الصيغة، فيقول: "العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ... ، بل من استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغة". ومثل لذلك بقاعدة رفع الحرج في الدين فقال: "فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم قد شرع عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام، والقصر والفطر في السفر والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف من التلف الذي هو أعظم المشقات، والصلاة إلى أي جهة عند تعسر إخراج القبلة، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز عنه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه، إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج". فإذا تم للمجتهد هذا الاستقراء، فإنه يطبق هذا العموم الاستقرائي على كل ما تحقق فيه مناطه تماماً كما يفعل في العموم اللفظي. ويقول الشاطبي بعد أن أثبت أن رفع الحرج مقصود للشارع: "فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء، فكأنه عموم لفظي"1. والحاصل أن المصلحة في الوصف المرسل مصلحة دلت أصول الشريعة وقواعده العامة على اعتبارها، فهي مأخوذة من استقراء نصوص الشرع، وهي حجة، لأنه وإن لم تشهد لها نصوص معينة غير أنها شهدت لها أصول الشرع وقواعده العامة، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: الموافقات 3/299، ونظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 58-59.

الدليل الثالث: قالوا: لو لم تعتبر المصلحة في المناسب المرسل لأدى عدم اعتبارها إلى خلو بعض الوقائع عن حكم الله تعالى، ذلك لأن النصوص والأقيسة المحمولة عليها محصورة، والحوادث غير محصورة، والمحصور لا يفي بغير المحصور، وعلى هذا لزم خلو بعض الحوادث المتجددة عن الأحكام1، وخلو الحوادث عن الأحكام باطل، بدليل أن أئمة التشريع السابقين وولاة الأمر، وأهل الفتوى والأقضية لم يكونوا يخلون حادثة عن حكم الله تعالى مع كثرة الحوادث والوقائع التي كانت ترد عليهم، ولو كان يمكن خلو واقعة عن حكم لحصل ذلك في زمنهم، ولو حصل لنقل إلينا لأن العادة تقتضي نقل مثل هذا إلينا، فلما لم ينقل إلينا علمنا أنهم لم يخلو واقعة عن حكم فثبت أن كل واقعة لا بد لها من حكم. ومن المعلوم أن الأحكام التي كانوا يصدرونها في الوقائع لم تكن كلها صادرة عن نص أو قياس، بل كان بعضها عن نص، والآخر عن قياس، وبعضها محكوم فيه بالمصلحة، ولو جاز خلو الواقعة عن حكم لما حكموا فيما لم يرد في نص ولا قياس بالمصلحة، ولأخلوا بعض الحوادث عن حكم، ولكن الواقع خلاف ذلك. يدل لهذا ما نقله إمام الحرمين عن الشافعي رحمهما الله، ونصه: "قال الشافعي: إنا نعلم قطعاً أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ... وذلك أن الأئمة السابقين لم يخلوا واقعة على كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى عن حكم الله تعالى، ولو كان ذلك ممكناً لكانت تقع، وذلك مقطوع به أخذاً من مقتضى العادة، وعلى هذا علمنا أنهم رضي الله عنهما استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق بانبساطها على الوقائع متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح، متشوف إلى ما سيقع، ولا يخفى على المنصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى: ما يعرى عن حكم الله تعالى، وإلى ما لا يعرى

_ 1 انظر: المختصر مع شرحه 2/289 والمنخول ص 357.

عنه: فإذا تبين ذلك بنينا عليه المطلوب، وقلنا: لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع باب الاجتهاد، فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع في متسع الشريعة غرفة من بحر. ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم، وهذا إذا صادف تقريراً لم يبق لمنكري الاستدلال مضطرباً"1. فوجه دلالة ما نقله إمام الحرمين هنا عن الشافعي على ما ذهب إليه الماليكة من القول بالمرسل مطلقاً، هو ما صرح به من عدم إخلاء الأئمة واقعة عن حكم شرعي مع كثرة الوقائع وازدحام الأقضية والفتاوى، واسترسالهم في بناء الأحكام استرسال واثق بانبساطها على الأحكام، مما جعل الدليل يدل على اعتبار المصلحة المرسلة مطلقاً، وإن استدل به الشافعية الذين يقولون بقبولها بشرط القرب من الأصول المعتبر على ما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. فبناء على هذا قال المالكية في هذا الدليل لو ترك العمل بالمناسب كُلاً أو بعضاً لأدى إلى خلو بعض الأحكام عن الحوادث ... الخ. الاعتراضات الواردة على هذا الدليل: اعترض المانعون للقول المناسب المرسل على هذا الدليل بما سيأتي: 1 - إن دعوى منع خلو الحوادث عن الأحكام غير مسلمة، فقد نقل الغزالي عن القاضي جواز خلو واقعة عن حكم الله تعالى حتى كاد يوجبه، وقال مستدلاً على ذلك: "المآخذ محصورة، والوقائع لا نهاية لها، فلا تستوفيها مسالك محصورة"2. وأجاب عنه الغزالي بقوله: "والمختار عندنا إحالة ذلك وقوعاً في الشرع، لا جوازاً في العقل، لعلمنا بأن الصحابة على طول الأعصار ما انحجزوا عن واقعة،

_ 1 انظر: البرهان 2/1116-1117. 2 انظر: المنخول ص 485.

وما اعتقدوا خلوها عن حكم الله تعالى، بل كانوا يهجمون عليها هجوم من لا يرى لها حصراً"1. 2 - قالوا: سلمنا منع خلو الحوادث عن الأحكام، لكن لا نسلم اللزوم، لأن العمومات والأقيسة تأخذ الجميع، فلم تخل الحوادث عن الأحكام، لاعتمادها على العمومات والأقيسة. 3 - سلمنا عدم شمول العمومات والأقيسة للحوادث، لكن لا نسلم خلو الحوادث عن الأحكام، لأن عدم وجود دليل على الإذن أو المنع في الحادثة دليل على التخيير فيها، والتخيير حكم شرعي2. ولم أر من أجاب عن هذين الاعتراضين، ولعل ذلك تسليماً بورودهما. الدليل الرابع: أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على الأخذ بأمور ليس لها مستند سوى مطلق المصلحة، من غير أن يرد شاهد خاص يدل على اعتبارها. قال القرافي: "ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف، ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر3 لعمر4 رضي

_ 1 المصدر السابق ص 485. 2 انظر: المختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/289. 3 هو: عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق القرشي التيمي، أول الخلفاء الراشدين، وأفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد بعد عام الفيل بسنتين، ومن السابقين في الإسلام، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامته بمكة وفي الغار وفي سفره إلى الهجرة، وفي غزواته كلها، وحج بالناس نيابة عنه، ومآثره كثيرة، توفي رضي الله عنه سنة 13هـ، ودفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها. انظر: الإصابة 6/155 فما بعدها، والاستيعاب بذيل الإصابة 6/361، تذكرة الحفاظ 1/2، وفتح الباري 7/16 فما بعدها، والأعلام 4/238. 4 هو: عمر بن الخطاب بن نفيل أبو حفص القرشي العدوي ثاني الخلفاء الراشدين، ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وبويع بالخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق فقام فيها أحسن قيام، وأسلم بعد إسلام أربعين رجلاً فأعز الله به الإسلام، وكان من المهاجرين الأولين، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، وشهد بدراً وما بعدها ومات شهيداً سنة 23هـ ومآثره كثيرة. انظر: الإصابة 7/74-76، والاستيعاب 8/242 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ 1/5 فما بعدها، وفتح الباري 7/40 فما بعدها.

الله عنهما، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى، وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن فعل ذلك عمر رضي الله عنه، وهدم الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه فعله عثمان1 رضي الله عنها، وتجديد الأذان في الجمعة بالسوق، وهو الأذان الأول فعله عثمان رضي الله عنه، ثم نقله هشام2 إلى المسجد وذلك كثير جداً، لمطلق المصلحة"3. وقد عقد ذلك صاحب مراقي السعود بقوله - بعدما عرف المرسل، وذكر قبول المالكية له - فقال: نقبله لعمل الصحابة ... كالنقط للمصحف والكتابة تولية الصديق للفاروق ... وهدم جار مسجد للضيق وعمل السكة تجديد الندا ... والسجن تدوين الدواوين بدا يعني أن المالكية يجوزون العمل بالمرسل رعاية للمصلحة، وذلك لكون الصحابة رضي الله عنهم عملوا به كما في نقطهم للمصحف، وتشكيلهم لحروفه، وجمعه في مصحف واحد بعد أن كان متفرقاً في اللخاف4 وغيرها، لأجل حفظه

_ 1 هو: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي الخليفة الثالث، المكنى بأبي عبد الله وأبي عمر، الملقب بذي النورين، ولد بعد عام الفيل بست سنين على الأصح، وأسلم قديماً على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه: رقية وبعد وفاتها أم كلثوم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وممن بايع بيعة الشجرة، قتل يوم الجمعة 22/12/35هـ، ومآثره كثيرة رضي الله عنه. انظر: الإصابة 6/391 فما بعدها، والاستيعاب 8/27 فما بعدها، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 7/52 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/8 فما بعدها. 2 هشام بن عبد الملك بن مروان، أحد ملوك الدولة الأموية، بالشام ولد بدمشق وبويع فيها بعد وفاة أخيه يزيد سنة 105هـ وخرج عليه زيد بن علي بن الحسين بالكوفة، فوجه إليه من قتله، وفتحت خاقان في أيامه، كان حسن السياسة يقظاً في أمره، يباشر الأعمال بنفسه وكان فظاً غليظاً يجمع الأموال ويعمر الأرض ويقيم الحلبة حتى اجتمع له من المال ما لم يجتمع لأحد قبله من بني أمية ومن الخيل ما لم يجتمع لأحد في جاهلية ولا إسلام، توفي سنة 125هـ بعد أن مكثت خلافته عشرين سنة إلا شهراً. انظر: شذرات الذهب 1/163، الأعلام للزركلي 9/84-85. 3 انظر: شرح تنقيح الفصول ص 446. 4 اللخاف بالكسر حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة، بوزن صفحة وهي في حديث زيد ابن ثابت رضي الله عنه ا. هـ، مختار الصحاح ص 595 حيث قال: في سبب جمع القرآن في أيام أبي بكر الصديق بأمره رضي الله عنه "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاذ وصدور الرجال" الحديث. انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/57.

من التصحيف في النقط والشكل، وفي الكتابة من الذهاب والنسيان، وكما في تولية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، لكونه أحق بالخلافة ممن سواه، وكما في ترك عمر الخلافة شورى بين الستة1؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض، وكما في هدم الدور المجاورة للمسجد لقصد توسعته للمصلين، وكعمل عمر للسكة تسهيلاً لمعاملة المسلمين، وكإحداث عثمان رضي الله عنه الأذان الأول يوم الجمعة تنبيهاً للناس في حضور وقت صلاة الجمعة، وكاتخاذ عمر سجناً لمعاقبة المجرمين، وتدوين الدواوين كما فعل عمر رضي الله عنه، فهو أول من فعل ذلك ولم يتقدم في هذه الأمثلة أمر من الشارع ولا نظير لها2. قال الشاطبي بعد ذكر اتفاق الصحابة على جمع القرآن: "ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد علم النهي عن الاختلاف بما لا مزيد عليه"3. وممن احتج لمالك رحمه الله بأنه احتج بعمل الصحابة على اعتبار المناسب المرسل الأسنوي فإنه قال: "احتج مالك بأن من تتبع أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - قطع بأنهم كانوا يفتون في الوقائع بمجرد المصالح، ولا يبحثون عن أمر آخر، فكان ذلك إجماعاً منهم على قبولها"4. وجه استدلال المالكية بهذه النصوص هو أنه إذا صح أن الصحابة كانوا

_ 1 وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. 2 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/188-189. 3 انظر: الاعتصام 2/117. 4 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/137.

يعملون بالمصلحة، ويعتمدون عليها في الحكم عند عدم وجود الحكم في غيرها من غير تفريق بين نوع منها وآخر، فيكون كافياً في إثبات اعتبار المصلحة المرسلة. اعترض القاضي على هذا الدليل بما نقله عنه الغزالي من أنه قال: "لعلهم كانوا يعتمدون معاني يعلمون أن أصول الشريعة تشهد لها، وإن كان لا يعينونها كالفقيه يتمسك في مسألة المثقل بقاعدة الزجر، فلا يحتاج إلى تعيين أصل"1. وقد أجاب الغزالي عن هذا الاعتراض بعد تسليم ورود الاحتمال فقال: "والذي نراه أن هذا في مظنة الاحتمال، والاحتكام عليه بعد تمادي الزمان لا معنى له"2، ومراده أن التماس مثل هذا الاحتمال البعيد بعد مضي الزمن، وبعد العهد بيننا وبينهم أمر لا معنى له. ولذا يكون هذا الدليل حجة في اعتبار المناسب المرسل، لسلامته مما يقدح فيه كغيره من الأدلة التي تقدمت والله تعالى أعلم. هذه هي الأدلة التي استدل بها لمذهب مالك حسبما وقفت عليه، والذي نسب إليه القول بالمناسب المرسل مطلقاً، حتى عرف به رحمه الله. والآن ننتقل إلى استعراض بعض الأمثلة التي كان اعتماد المالكية في القول بها على المناسب المرسل، وذلك لقصد معرفة ما إذا كان قول المالكية بها اعتماداً على شهادة القواعد العامة للشرع وشهادة نصوصه لها في الجملة، وإن لم يشهد لها أصل معين بالاعتبار، أم أن قولهم بها كان قولاً بالرأي المجرد عن الدليل واعتماداً على المصلحة، وإن لم يشهد لها أصل، بل كان قولهم بها تقديماً لها على النصوص كما يدعيه خصومهم. 1 - ضرب المتهم بالسرقة، والزنا، والقتل، وما يجري خفية، فقد رأى المالكية ضربه، وسجنه انتزاعاً لإقراره، حيث إن الجاني لا يقر على نفسه

_ 1 انظر: المنخول ص 357. 2 انظر: المنخول ص 378، ورأى الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان من حيث الحجية ص 187.

باختياره؛ ولأن إقامة البينة لا تمكن على ما يعمل خفية، فرأوا أن المصلحة تقتضي ذلك حفظاً للنفوس والأعراض والأموال، إذ لو علم أنه لا ينتزع منه الإقرار بالضرب والسجن مع تعذر إقامة البينة عليه، وتمكنه من السطو، ووسائل الهرب، ولا سيما مع ضعف الوازع الديني، لأدى ذلك إلى ضياع الحقوق وانتشار الفساد. ولما كان الأخذ بهذه المصلحة معارضاً بمصلحة حفظ عرض وبدن المتهم، كانت محل الخلاف بين العلماء ومثال نقد على المالكية، وعلى الإمام مالك رحمه الله بصفة خاصة، حتى نسب إليه مخالفوه ما لم يقله، فنسب إليه الغزالي القول بضرب المتهم1، مع أن الواقع خلاف ذلك، إذ لا تصح نسبة ذلك إليه، وإن كان نسبه إليه بعض المالكية وغيرهم لما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. وهذه نقول تدل على هدم صحة هذه النسبة نذكرها فيما يلي: 1 - ما جاء في المدونة أن سحنوناً2 قال: "قال: أرأيت إن أقر بشيء من الحدود بعد التهديد أو القيد، أو الوعيد أو السجن أو الضرب، أيقام عليه الحد أم لا؟ قال ابن القاسم3: قال مالك: "من أقر بعد التهديد أقيل، فالوعيد

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 228 فما بعدها. 2 هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي أبو سعيد المالكي الفقيه الثقة الحافظ، ولد سنة 160هـ، وأخذ العلم عن مشائخ القيروان ورحل في طلب العلم إلى تونس وغيرها، وأخذ عن ابن القاسم وابن وهب وأشهب وغيرهم، كان ورعاً شديداً على أهل البدع، انتهت إليه رياسة المذهب في المغرب، واشتغل بالتدريس والتصنيف، وانتشر علم مالك بالمغرب عنه، فهو فقيه أهل زمانه وشيخ عصره، وقاضي إفريقية إلى أن توفي سنة 240هـ وصلى عليه الأمير محمد بن الأغلب، من مؤلفاته المدونة. انظر: الديباج 2/30 فما بعدها. 3 هو: عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، الإمام المشهور المكنى بأبي عبد الله الفقيه المالكي، روى عن مالك والليث وعبد العزيز بن الماجشون وغيرهم، روى عنه أصبغ وسحنون وغيرهما، ثقة ثبت، كان أثبت من روى الموطأ عن مالك، وكان لا يقبل جوائز السلطان، ولد سنة132هـ وقيل سنة 128هـ صحب مالكاً عشرين سنة، توفي رحمه الله سنة 191هـ بمصر، ودفن بالقرافة الصغرى. انظر: الديباج المذهب 1/465 فما بعدها، ووفيات الأعيان 3/129.

والسجن والضرب تهديد كله، وأرى أن يقال"1. فهذا النص صريح في عدم صحة ما نسب لمالك من القول بضرب المتهم، وذلك لأنه لم يرتب عليه أثره من اعتبار الإقرار المنتزع بالتهديد فهو إذاً لا يقول بضرب المتهم وتهديده ولا يعتبره إقراره ما لم تقم عليه بينة، أو يقر مختاراً. 2 - إن الشاطبي رحمه الله صرح بأن مالكاً إنما ذهب إلى جواز سجن المتهم، وأن ضربه إنما هو نص أصحابه. قال: "ذهب مالك إلى جواز السجن في التهم، وإن كان السجن نوعاً من العذاب، ونص أصحابه على جواز الضرب"2، ولعل من نسب ذلك لمالك من المالكية وغيرهم كان اعتماده فيه على ما نقله الدردير3 عن سحنون أنه قال: "يعمل بإقرار المتهم، وبه الحكم إن ثبت عند الحاكم أنه من أهل التهمة، فيجوز سجنه وضربه ويعمل بإقراره"4. قال الدسوقي5: "وبه القضاء كما في تحفة الأحكام، ونسبه لمالك حيث قال: وأن يكن مطالباً من يتهم ... فمالك بالسجن والضرب حكم

_ 1 انظر: المدونة 4/426. 2 انظر: الاعتصام 2/120. 3 هو: الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري الشهير بالدردير، العالم العلامة، أوحد وقته في العلوم العقلية، ولد رحمه الله سنة 1127هـ حفظ القرآن في صغره، وتعلم على مشائخ مصر حتى أفتى في حياة شيوخه، وتولى الإفتاء بعد وفاة شيخه وتولى التدريس والتأليف، له مؤلفات منها شرحه المختصر خليل المسمى بالشرح الكبير، وشرحه لمختصر خليل الذي سماه أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك ورسالة في متشابه القرآن وغيرها، توفي سنة 1201?. انظر: مقدمة حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ب. 4 انظر: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4/345. 5 محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي الفقيه المالكي، ولد بدسوق قرية من قرى مصر وتعلم على مشائخها حتى تصدر للتدريس والقراءة، عرف بوضوح البيان وجودة التحرير وحسن الخلق والتواضع، له مؤلفات منها حاشيته على الشرح الكبير شرح مختصر خليل، وأخرى على مختصر السعد على التلخيص وغيرهما، توفي سنة 1230هـ بمصر. انظر: مقدمة حاشية الدسوقي 1/جـ فما بعدها.

وحكموا بصحة الإقرار ... من ذاعر يجس لاختبار1 ولعل وجه الاشتباه على من نسب ذلك لمالك رحمه الله أن المدونة من رواية سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، فلم يفرق الناقل منها بين ما كان عن مالك منها، وما هو لسحنون دون مالك، والله تعالى أعلم. 3 - ما نقله ميارة2 عن اللخمي3 أن قول مالك هو أنه لا حكم لإقراره ولا يؤخذ به حيث قال في المدونة: "وإن أخرج السرقة أو القتيل في حال التهديد لم أقطعه ولم أقلته حتى يقر بعد ذلك آمناً، وإلى هذا ذهب الشيخ خليل4 في مختصره، حيث قال: "وثبت بإقرار إن طاع، وإلا فلا وإن عين السرقة وأخرج القتيل"5. فتحصل أن ما نسب لمالك من القول بضرب المتهم غير صحيح، كما قال مشايخ المالكية، وأنه إنما قال بسجنه، وأن القول بضربه هو نص أصحابه.

_ 1 انظر: حاشية الدسوقي 4/345، وفي القاموس الذاعر الخائف ا. هـ 2/35، وفسره عبد الباقي بأنه بالذال المعجمة الخائن، وبالمهملة المفسد، انظر: الحطاب 8/107. 2 هو: محمد بن أحمد بن محمد أبو عبد الله ميارة، الفقيه المالكي، الفاسي، ولد سنة999هـ له مؤلفات منها الاتفاق والأحكام في شرح تحفة الحكام، مطبوع والدرر الثمين في شرح منظومة المرشد المعين في الفقه المالكي وغيرهما، توفي سنة 1072 رحمه الله. انظر: الأعلام للزركلي 6/238. 3 هو: طليب بن كامل اللخمي، ويسمى أيضاً بعبد الله من كبار أصحاب مالك رحمهما الله وجلسائه، كنيته أبو خالد، سكن الاسكندرية أخذ عنه ابن القاسم، وابن وهب، وبه تفقه ابن القاسم قبل رحلته إلى مالك، وكان عنده من أوثق أصحاب مالك، توفي سنة 173هـ في حياة مالك بن أنس. انظر: الديباج 1/405. 4 هو: خليل بن إسحاق بن موسى، المالكي صاحب المختصر، الفقيه العلامة، الملقب بضياء الدين المصري، كان يلبس زي الجندي، تعلم على مشائخ القاهرة حتى صارت له يد في الحديث والفرائض والعربية وجمع بين العلم والعمل، وتفقه حتى ولي الإفتاء على مذهب مالك وتخرج على يديه جماعة من الفقهاء الفضلاء شيوخ مصر، له مؤلفات منها: التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب، ومختصره هو الذي توالت عليه أيدي علماء المالكية بالشرح والتعليق، وله المناسك وغيرها، توفي رحمه الله سنة 776هـ. انظر: مقدمة حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/ب، والأعلام 2/364. 5 انظر: شرح ميارة لتحفة الأحكام 2/267.

ولما كان يرد على المالكية أن الأخذ بهذا النوع من تعذيب من لم تقم عليه بينة بارتكاب ما يوجب ذلك في حقه، بينوا أن الآخذ بمثل هذا أخذ بمصلحة ملائمة لتصرفات الشرع من تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولذا يقول الشاطبي مبيناً لذلك، ومجيباً عما يرد عليه من الاعتراضات بعد إيرادها: "وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم، لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ قد يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة وسيلة إلى التعذيب والإقرار. فإن قيل: هذا فتح باب لتعذيب البريء؟ قيل: ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضرراً، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس، وتؤثر في القلب نوعاً من الظن. فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته فتغتفر كما اغتفر في تضمين الصناع"1. فإن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمينهم، قال علي رضي الله عنه: "لا يصلح الناس إلا ذلك". فإن قيل: أن هذا نوع فساد، لما فيه من تضمين من قد يكون بريئاً لم يتلف ما تحت يده، ولم يفرط فيه. أجيب بأن الناس في حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، فالتفريط غالب عليهم، كما أنهم إذا علموا أنهم لا يضمنون ما تحت أيديهم ربما ادعوا التلف، ولم يكن تلف فلو لم يضمنوا مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأدى ذلك إلى أحد أمرين: 1 - ترك الاستصناع بالكلية، وهذا يلحق بالناس ضرراً.

_ 1 انظر: الاعتصام 2/120.

2 - أن يعملوا ولا يضمنوا ما تلف بدعواهم هلاكه وضياعه، فتضيع الأموال ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة. فكانت المصلحة في تضمينهم كما قال علي رضي الله عنه، وهو تقديم للمصلحة العامة على الخاصة، وهو أصل شهدت له نصوص الشرع وقواعده العامة1. فإن حصل تضمين بريء اغتفر، لذا قال الشاطبي آنفاً في ضرب المتهم: وإن أمكن مصادفته فتغتفر كما اغتفر في تضمين الصناع، مع أنه صرح بأن الضرب إنما يكون في حق من قامت القرائن القوية بإدانته، وذلك إما بظهور مثل ذلك عليه سابقاً، أو لصحبته السراق، أما من لم تقم القراء على إلصاق التهمة به، فهذا لا يسجن، ولا يضرب، وقد عقد ذلك صاحب تحفة الحكام2 بقوله: وإن يكن مدعياً على ... من حاله في الناس حال الفضلا فليس من كشف لحاله ولا ... يبلغ بالدعوى عليه أملا وإن يكن مطالباً من يتهم ... فمالك بالضرب والسجن حكم3 ومعنى الأبيات أن من ادعى السرقة على من لا بينة له عليه أنه ينظر في حال المدعى عليه السرقة، فإن كان من أهل الخير والفضل بعيداً عن التهمة فإنه لا يكشف عن حاله، ولا يلتفت إلى هذه الدعوى لبعدها عادة. وإن كان المدعي عليه ممن يتهم بمثل ذلك، فالحكم أن يسجن حتى يعلم حاله، وقد يشدد عليه بالضرب بحسب ما دلت عليه القرائن من شهرة تهمته وثبوت مثل ذلك عليه ونحو ذلك4.

_ 1 انظر: الاعتصام 2/119. 2 هو: محمد بن محمد بن محمد أبو بكر بن عاصم القيسي الغرناطي، الأندلسي، قاض من فقهاء المالكية بالأندلس، ولد بغرناطة سنة 760هـ وتوفي بها سنة 829هـ، له مؤلفات منها: منظومة تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام مطبوعة، وغيرها. انظر: الأعلام للزركلي 7/274. 3 انظر: تحفة الحكام مع شرحها 2/266. 4 انظر: شرح تحفة الحكام 2/266.

أما ما عزاه لمالك من القول بضرب المتهم، فقد تقم قريباً إبطال نسبة ذلك له. فإن حصل في النادر إصابة بريء بالتعزير، فيغتفر ذلك، لأنه حينئذ من باب تقديم مصلحة عامة هي مصلحة حفظ المال التي هي مقصود شرعي عرف اعتبار الشرع له من استقراء نصوصه على مصلحة خاصة هي صون المتهم أن يصيبه تعزير وهو بريء. وفي هذه الحال، تقدم المصلحة العامة على الخاصة، كما في تضمين الصناع، فإن وقع التعزير على بريء اغتفر كما صرح به الشاطبي1، فقد ظهر أنهم قالوا بهذا على أنه مصلحة ملائمة لتصرفات الشارع، لا أنه من باب الغريب الذي يعد القول به قولاً بالرأي، وتشريعاً بالهوى والتشهي، لأن تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة أصل شهدت له نصوص الشرع وقواعده العامة بطريق الاستقراء المفيد للقطع. ولذا فإن الغزالي مع شدة إنكاره على المالكية في أخذهم بهذه المصلحة، ومنعه الأخذ بها على أساس أنها مصلحة تتعلق بحفظ المال فإنه إنما يمنع اعتبارها، لكونها مصلحة موهومة معارضة بمصلحة محققة تقابلها هي حفظ نفس معصومة، وعصمتها تقتضي صونها عن الضياع وحفظ النفوس مقدم على حفظ المال، لدلالة نصوص الشرع على ذلك، فإنه لا يقطع بخطأ مالك حيث يقول: "هذه المصلحة غير معمول بها عندنا، وليس "ذلك" لأنا لا نرى اتباع المصالح، ولكن لأنها لما لم تسلم عن المعارضة بمصلحة تقابلها"2، فلم ير الأخذ بها. ويقول: "وعلى الجملة: هذه المسألة في محل الاجتهاد، ولسنا نحكم ببطلان مذهب مالك رحمه الله على القطع، فإذا وقع النظر في تعارض المصالح كان ذلك قريباً من النظر في تعارض الأقيسة التي ذكرناها"3.

_ 1 انظر: الاعتصام 2/120. 2 انظر: شفاء الغليل ص 229. 3 انظر: شفاء الغليل ص 234.

فكلامه هنا رحمه الله صريح في أنها في محل الاجتهاد مع أنه صرح في غير هذا الموضع بأن المصلحة الغريبة التي لا تلائم ولا يشهد لها أصل معين مردودة من غير معرفة مخالف1. أما التي في محل الاجتهاد، فهي ملائمة لجنس تصرفات الشرع، وهذا تصريح منه بأن عدم أخذه بها، لأنه إذا كانت مصلحة ذي المال في ضرب المتهم رجاء أن يكون هو الجاني، فيقر، فمصلحة المأخوذ في الكف عنه، وترك الأضرار به، وليس أحدهما برعاية مصلحته أولى من الآخر، فوجب الوقوف على جادة الشرع في أن لا عقوبة إلا بجناية، ولا تظهر الجناية في حقنا إلا ببينة". فأخذ المالكية إذاً بهذه المصلحة، أخذ بمصلحة ملائمة لتصرفات الشارع بشهادة نصوص الشرع وقواعده العامة لها، وليس الأخذ بها أخذ بالرأي المجرد عن الشرع كما ادعاه خصومهم. هذا على تسليم أن المالكية كان اعتمادهم في الأخذ بهذه المسألة بناء على المصلحة المرسلة، أما إذا كان اعتمادهم فيما ذهبوا إليه على ما ورد من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب وسجن المتهم، فلا يرد عليهم ما ذكره خصومهم؛ لأن المسألة حينئذ يكون الأخذ بها من باب الأخذ بما دل عليه الدليل، إن صحت تلك الآثار. فمن ذلك ما رواه أبو داود2 في سننه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة3.

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 188. 2 هو: سلميان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر السجستاني، الحافظ الإمام الثبت صاحب السنن، ولد سنة 202هـ سمع القعنبي، والطيالسي والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، وعنه الترمذي والنسائي وغيرهما، قال النووي: اتفق العلماء على أن الثناء عليه بالحفظ والورع والفهم، توفي سنة 275هـ بالبصرة. انظر: مقدمة كتابه السنن 1/هـ فما بعدها. 3 انظر: سنن أبي داود 2/282.

ومنها ما ذكره الحافظ ابن حجر1 في شرحه لحديث الإفك في كتابه فتح الباري أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهر بريرة2 حين سألها النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة3 رضي الله عنها، فذكرت أنها ما علمت فيها إلا خيراً، وفي رواية قال لعلي4 شأنك بالجارية فسألها علي وتوعدها فلم تخبره إلا بخير، ثم ضربها وسألها، فقالت: والله ما علمت على عائشة سوءاً"5.

_ 1 هو: أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد شهاب الدين أبو الفضل الشهير بابن حجر الكناني، العسقلاني المصري، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام أمير المؤمنين في الحديث حافظ عصره، الشافعي الفقيه، ولد سنة 773هـ توفي والده وهو صغير فتربى في حضانة أحد أوصياء أبيه، وحفظ القرآن وسمع الحديث بمصر، وغيرها ودرس حتى برع في العلم، وتولى التدريس والقضاء والتصنيف، له مؤلفات نفيسة منها فتح الباري، وتهذيب تهذيب الكمال، وتقريب التهذيب وغيرها. توفي سنة 852هـ. انظر: شذرات الذهب 7/270 فما بعدها، ومقدمة الإصابة 1/ص فما بعدها. 2 هي مولاة عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، قيل: كانت لناس من الأنصار كما وقع عند أبي نعيم، وقيل: لناس من بني هلال كما قال ابن عبد البر، وكانت تخدم عائشة قبل أن تعتق كما جاء في حديث الإفك، وعاشت إلى خلافة معاوية رضي الله عنه. انظر: فتح الباري 5/188، الإصابة 12/157. 3 هي: عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وحبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب نسائه إليه، من أكبر فقهاء الصحابة، ولدت قبل الهجرة بنحو ثمان سنين، وتزوجها رسول الله وهي بنت ست سنين، ودخل بها وعمرها تسع سنين، بعد غزوة بدر، وكانت محل السؤال والفتيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم من أمور الدين، وتوفي عنها وعمرها نحو ثماني عشرة سنة، توفيت رضي الله عنها سنة 57هـ وقيل 58هـ ومآثرها كثيرة. انظر: الإصابة 13/38 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ 1/27 فما بعدها، وفتح الباري 7/106 فما بعدها 223-224. 4 هو الخليفة الرابع علي بن أبي طالب بن هشام القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته فاطمة الزهراء، المكنى بأبي الحسن، أول من آمن من الرجال برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من صلى معه وصاحب لوائه يوم خيبر، وأحد من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة تبوك، فإنه خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى عياله، بويع بالخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه من جميع المهاجرين والأنصار إلا نفراً فلم يهجهم، وقتل في رمضان سنة 40هـ ومآثره كثيرة جداً. انظر: الاستيعاب 8/131 فما بعدها، تذكرة الحفاظ 1/10 فما بعدها، وفتح الباري 7/70 فما بعدها، والأعلام 5/107 فما بعدها. 5 انظر: فتح الباري 8/469، وحديث الإفك في البخاري في نفس المجلد 458 فما بعدها.

2 - توظيف الخراج: ذهب المالكية إلى جواز فرض الضرائب على بعض الرعية عند حاجة الدولة إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار عند عجز خزينة الدولة عن الوفاء بحاجة الجند، إذا أمن الإسراف، لكون الإمام عادلاً، فإن له أن يفرض على الأغنياء والغلات والثمار وغيرها ما يسد حاجة الجند، لصد الأعداء إلى أن يظهر للدولة مال يكفي. فهذه مصلحة لم يشهد لها نص معين بالاعتبار، أو الإلغاء، غير أنها ملائمة لتصرفات الشارع، إذ لا تنتظم مصلحة الدين والدنيا، إلا بإمام. عادل مطاع يحمي حوزة الدين ومصالح الأمة، ولا يثبت له ذلك إلا بجنده وعدته. ولذا لم يخل عصر من ذلك، إذ لو خلت الأمة عن إمام عادل وجند قادر على مجاهدة الكفار، وحماية الثغور، وكف الظلمة الطغاة المارقين والضرب على أيديهم عن السطو على الأنفس والأموال الحرم، لاختل الأمن وصارت ديار الإسلام عرضة لاستيلاء الكفار عيلها1. "فإن قيل: هذه مصلحة غريبة لا عهد بها في الشرع ولا بمثلها وحاصلها يرجع إلى مصادرة الخلق في أموالهم، وهو محظور نعلم حظره من وضع الشرع، ولذا لم ينقل عن الخلفاء الراشدين قبل أن صارت الخلافة ملكاً عضوضاً، وإنما أبدعها الملوك المترفون المائلون عن سمت الشرع"2. أجيب عنه بأمرين: 1 - إنه إنما لم ينقل ذلك عند صدر هذه الأمة، لاتساع بيت المال في زمانهم واشتماله على ما يسع الجند من الغنائم في ذلك الوقت3.

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 234، والاعتصام 2/121. 2 انظر: شفاء الغليل ص 236. 3 انظر: شفاء الغليل ص237، الاعتصام 2/121.

2 - إن من أخذت منهم تلك الضرائب اليسيرة، لو تنقطع عنهم شوكة السلطان يستحقرون - بالإضافة إلى ما قد يصيبهم من ظلم الظلمة في نفوسهم وأموالهم - ما لو أخذت أموالهم كلها فضلاً عن الجزء اليسير منها. فلو عورض هذا الضرر العظيم، بالضرر اليسير اللاحق لهم في حياتهم بأخذ اليسير من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني على الأول. وهو مما يعلم قطعاً من مقصود الشرع قبل النظر في شواهد الشرع في حماية الدين والدنيا، فهذا وجه ملاءمتها لمقاصد الشرع. والملاءمة الثانية هي أن الأب في طفله، والوصي في من هو موصى عليه مأمور برعاية الأصلح له، وهو يصرف ماله في وجوه من النفقات والمؤمن في الغرامات، وكل ما يراه سبباً في تنمية ماله وحفظه من التلف، جاز له صرف المال في تحصيل ذلك. ومصلحة حفظ الإسلام والمسلمين لا تتقاصر عن مصلحة طفل واحد، ونظر الإمام في رعاية حفظ الإسلام والمسلمين لا يتقاصر عن نظر فرد واحد في حق من ولي أمره. ولو وطئ الكفار دار الإسلام، وجب على الكافة دفعهم، ولو دعاهم الإمام إلى الجهاد لزمتهم الإجابة، وفي ذلك إتعاب النفوس، وتعريضهم إلى الهلكة، زيادة على إنفاق المال، وليس هذا إلا لحماية الدين والمسلمين. فهذه ملاءمة صحيحة تفيد القطع في هذه الصورة؛ لأنها في محل الضرورة، فلا يصح الحكم فيها إلا مع وجودها1. وعلى هذا فلا يقال: إنّ القول بهذه المصلحة قول مجرد عن الدليل بل قول بمصلحة شهدت لها نصوص الشرع بما يفيد القطع، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 237 فما بعدها، الاعتصام 2/121-122.

3 - إذا طبق الحرام الأرض: ذهب الملكية إلى أنه إذا طبق الحرام الأرض، أو ناحية منها بحيث يعسر الانتقال منها، وانسدت طرق المكاسب، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق، فإن ذلك يسوغ الزيادة على قدر الضرورة، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس والمسكن، إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال، ولم يزل الناس في مقاسات إلى أن يهلكوا وفي ذلك خراب الدين، لكنه لا ينتهي إلى الترفه والتنعم، كما لا يقتصر على قدر الضرورة. وقد أوضح الشاطبي رحمه الله وجه ملاءمة هذا القول بقوله: "وهذا ملائم لتصرفات الشرع، وإن لم ينص على عينه، فإنه قد أجاز أكل الميتة للمضطر، ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث المحرمات"1. وبمثل قول المالكية قال الغزالي رحمه الله في كتابه المنخول وشفاء الغليل، وإليك نص كلامه فيهما، قال في المنخول: "لو فرضنا انقلاب أموال العالمين بجملتها محرمة لكثرة المعاملات الفاسدة واشتباه المغصوب بغيره، وعسر الوصول إلى الحلال المحض، وقد رفع، فما بالنا بقدر تبيح لكل محتاج أن يأخذ مقدار كفايته من كل مال، لأن تحريم التناول يفضي إلى القتل، وتجويز الترفه والتنعيم في محرم، وتخصيصه بمقدار سد الرمق، يكف الناس عن معاملاتهم الدينية والدنيوية، ويتداعى ذلك إلى فساد الدنيا وخراب العالم وأهله فلا يتفرغون وهم على حالتهم مشرفون على الموت إلى صناعاتهم وأشغالهم والشرع لا يرضى بمثله قطعاً"2. ويقول في شفاء الغليل: "فإن قال قائل: لو طبق الحرام طبقة الأرض ... وانحسمت وجوه المكاسب الطيبة على العباد، ومست حاجتهم على قدر الزيادة على قدر سد الرمق من الحرام، ودعت المصلحة إليه، فهل يسلطون على تناول

_ 1 انظر: الاعتصام 2/125. 2 انظر: المنخول ص 369.

قدر الحاجة من الحرام لأجل المصلحة؟. فإذا أبيتم ذلك خالفتم وجه المصلحة، وإن رأيتم ذلك اخترعتم أمراً بدعاً، لا يلائم وضع الشارع. قلنا: إن اتفق ذلك ... فيجوز لكل أحد أن يزيد على قدر الضرورة، ويترقى إلى قدر الحاجة في الأقوات والملابس والمساكن، لأنهم لو اقتصروا على سد الرمق لتعطلت المكاسب وانبتر النظام، ولم يزل الخلق في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا، وفيه خراب أمر الدين، وسقوط شعائره، فلكل أحد أن يتناول مقدار الحاجة، ولا ينتهي إلى حد الترف، والتنعم والشبع، ولا يقتصر على قدر الضرورة. وقول القائل: إن هذا غير ملائم للشرع، فليس الأمر كذلك، فإن الشرع سلط على أكل لحم الخنزير، وهو أخبث المحرمات عند الضرورة، ولكن اختلف العلماء في أنه هل يقتصر على حد الرمق، أو يتناول قدر استقلال وتلاقي القوة، والحاجة العامة - في حق كافة الخلق - تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد، والحاجة عامة إلى الزيادة على سد الرمق"1. فهذان النصان دلا على أن ما فوق الضرورة مصلحة مرسلة لم يتضمنها النص الدال على تناول الحرام لصيانة النفس عن الهلاك في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} 2 الآية، إذ سد الرمق يمنع إتلاف النفس، وما زاد على ذلك حاجة، إلا أنها ملائمة لتصرفات الشارع، إذ في الاقتصار على سد الرمق تعطيل المكاسب، وهو يؤدي إلى الهلاك، والهلاك يؤدي إلى فوات المحافظة على النفس الذي هو مقصد دل الشرع على طلب حفظه. قال الشاطبي: "ولذا أجاز العلماء أخذ مال الغير عند الضرورة أيضاً، فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك"3.

_ 1 انظر: شفاء الغليل ص 245-246. 2 سورة المائدة آية: 3. 3 انظر: الاعتصام 2/125.

فالقول بهذه المصلحة، قول بمصلحة ظهرت ملاءمتها بشهادة نصوص الشرع وقواعده العامة لها في الجملة. فقد اتضح من هذه الأمثلة الثلاثة التي سقتها كنموذج دال على أن أخذ المالكية بالمناسب المرسل أخذ بمصلحة ملائمة شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة في الجملة، وإن لم يشهد لها نص معين بالاعتبار والله تعالى أعلم. وحيث إن بعض الأصوليين ذكر أن الإمام أحمد رحمه الله يجئ في الدرجة الثانية في القول بالمناسب المرسل بعد الإمام مالك رحمه الله، فقد رأيت أن أرتب ذكر الأئمة الأربعة لمعرفة موقف كل واحد منهم من القول بالمناسب المرسل على قدر اعتماده عليه في الفقه حسبما ذكره الأصوليون، والله أسأل التوفيق والسداد في القول والعمل.

الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد رحمه الله هو وأتباعه في الأخذ بالمناسب المرسل

الفصل الرابع: في بيان رأي الإمام أحمد رحمه الله هو وأتباعه في الأخذ بالمناسب المرسل ... الفصل الرابع في بيان رأي الإمام أحد رحمه الله هو وأتباعه في الأخذ بالمناسب المرسل قرر بعض الأصوليين أن الإمام أحمد رحمه الله أخذ بمبدأ القول المناسب المرسل من غير نكير من أصحابه، ويدل لهذا ما نقله عنه أصحابه من الفتاوى والفروع التي يعد القول لها أخذاً بالمصلحة المرسلة، كما أن فقهاء الحنابلة يعتبرون المصالح المرسلة أصلاً من أصول الاستنباط وينسبون ذلك إلى الإمام أحمد رحمه الله، فإن ابن القيم يقرر أنه ما من أمر شرعه الشارع إلا وهو متفق مع مصالح العباد، وأن أمور الشريعة التي تتصل بمعاملات الناس تقوم على إثبات المصلحة، ومنع الفساد والمضرة1، لأن الأخذ بالمصلحة المرسلة واعتبارها أصلاً فقهياً ينبني عليه الاستنباط هو الذي يتفق مع أتباع أحمد للسلف الصالح في استنباطهم، وعدم الخروج عن طبيعتهم، فقد أجمع الصحابة على جمع المصحف، رعاية لحفظ الدين بحفظ القرآن، ومنعاً للناس من الاختلاف وولَّى أبو بكر عمرَ - رضي الله عنهما - على الخلافة، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره. وإذا كان الإمام مالك - رحمه الله - قد اشتهر بالقول المرسل، واشتهر به المرسل، وكان له ترجيح على غيره في الأخذ به، فإن الإمام أحمد يليه في القول به، ويدل لهذا ما يأتي: الأول: ما نقله الزركشي عن ابن دقيق العيد ونصه: قال: نعم إنَّ الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع - يعني القول بالمناسب المرسل - ويليه الإمام أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في استعماله على غيرهما2.

_ 1 انظر تفاصيله في كتاب أبي زهرة أحمد بن حنبل ص 344-345. 2 انظر: البحر المحيط 3/241-242 -خ-.

الثاني: ما جاء في المسودة عن ابن برهان1 أنه قال: "الحق ما قاله الشافعي، قال: إن كانت ملائمة - يعني المصلحة المرسلة - لأصل كلي من أصول الشريعة، أو لأصل جزئي جاز لنا بناء الأحكام عليها وإلا فلا"2. وما ذكره ابن برهان هنا هو ما ذهب إليه المالكية من أم المرسل إذا كانت المصلحة فيه ملائمة لأصول الشريعة وقواعدها العامة قبل، وإن لم يشهد له أصل معين، وإن لم تكن المصلحة فيه ملائمة، فلا يقبل، وهو الغريب الذي تقدم إيضاحه، ونقل الاتفاق على رده بما يغني عن إعادته. الثالث: نقول من فتاوى الإمام مالك رحمه الله، وأقوال بعض علماء الحنابلة تدل على اعتبار الإمام أحمد وأتباعه الآخذ بالمناسب المرسل، من ذلك ما نقله ابن القيم من رواية المروزي3، وابن منصور4، قال: "والمخنث يُنفى لأنه يقع منه الفساد والتعرض له، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله، وإن خالف به عليهم حسبه". ومنها ما رواه ابن القيم عن الإمام أحمد أيضاً في من طعن على الصحابة أنه

_ 1 هو: أحمد بن علي بن محمد الوكليل المعروف بابن برهان، أبو الفتح الفقيه الشافعي البغدادي، عرف بالتبحر في الأصول والفروع وغيرهما، تولى التدريس في المدرسة النظامية نحو شهر ثم عزل، له مؤلفات منها في أصول الفقه الوجيز، أخذ عن أبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي، والكيا الهراس حتى تبحر في العلوم، ولد ببغداد سنة 479هـ وتوفي سها سنة 518هـ. انظر: وفيات الأعيان 1/99، الأعلام للزركلي 1/167. 2 انظر: المسودة لآل تيمية ص 451. 3 هو: أحمد بن محمد بن الحجاج شيخ بغداد، أبو بكر الفقيه أجل أصحاب الإمام أحمد، لزمه دهراً حتى أخذ عنه العلم والعمل، وعن محمد بن المنهال الضرير، وغيرهما، وأخذ عنه الخلال الفقيه ومحمد بن مخلد العطار وغيرهما، كان إماماً في السنة شديد الاتباع، مات سنة 275هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 2/631-633. 4 هو إسحاق بن منصور بن برهام أبو يعقوب المروزي المعروف بالكوسج، فقيه حنبلي من رجال الحديث، ولد بمرو، ورحل إلى العراق والحجاز والشام واستوطن نيسابور حتى مات بها سنة 251هـ، ألف المسائل في الفقه الحنبلي التي دونها عن الإمام أحمد. انظر: الأعلام للزركلي 1/289.

وقد وجب على السلطان عقوبته، وليس للسلطان أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا عاد إلى العقوبة"1. وواضح مما نقله ابن القيم في هذين النصين عن الإمام أحمد أنه إنما اعتمد في الفتوى هنا على المصلحة التي لم يشهد لها أصل معين وإن كانت ملائمة لتصرفات الشارع، وشهدت لها نصوصه في الجملة. ومنها ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ونصه: "إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء هل هو على الإباحة أو التحريم، فلينظر مفسدته، وثمرته، وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به، أو إباحته بل يقطع أن الشارح يحرمه، ولا سيما إذا كان مفضياً إلى ما يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"2. ويقول: "ومن استقرى الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 3. فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب، أو عمل محرم - لم يحرم عليهم، لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد4. ومنها قول ابن القيم: "فإذا قدر أن قوماً اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوكة ... وجب على صاحبه بذله بلا نزاع، لكن هل له أن يأخذ عليه أجراً؟ فيه قولان للعلماء وهما وجهان لأصحاب أحمد"5.

_ 1 انظر: أعلام الموقعين 4/467-468. 2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 472، نقلاً عن المنار المجلد التاسع 769، فقد نقل عن الشيخ جمال الدين القاسمي هذه العبارة عن ابن تيمية وهو يعلق على شرح الطوفي لحديث "لا ضرر ولا ضرار" والمصلحة في التشريع الإسلامي ص 56-57. 3 سورة البقرة آية: 173. 4 انظر: فتاوى ابن تيمية 3/294. 5 انظر: الطرق الحكمية ص 305.

وهذا مصير منه إلى الأخذ بالمصلحة الملائمة لجنس تصرفات الشارع، وإن لم يشهد لها نص معين غير أنها تدخل تحت أصل كلي شهد الشرع باعتباره. وقد ذكر الشاهد لاعتبار هذا الأصل بالكلي بقوله: "وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركاً له في عبد وكان له من المال ما لم يبلغ ثمن العبد - قوم عليه قيمة عدل، لا وكس، ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد" 1. ثم قال: "وصار هذا الحديث أصلاً في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهراً بثمنه للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة"2. وخرج على هذا الأصل أنه "إن احتاج الناس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك - فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة المثل، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك"3. ثم يستدل على رجوع هذه المصلحة إلى أصل كلي مأخوذ من نصوص الشرع بقوله: "وفي السنن أن رجلاً كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة، فشكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقبل بدلها، أو يتبرع له بها، فلم يفعل، فأذن لصاحب الأرض أن يقلعها وقال لصحاب الشجرة: "إنما أنت مضار" 4. وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يقلعها، لما في ذلك من مصلحة صاحب الأرض بخلاصه من تأذيه بدخول صاحب الشجرة ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم.

_ 1 انظر: المرجع السابق ص 303، والحديث أخرجه البخاري مع الفتح 5/156، م 5/95. 2 المصدر السابق ص 304. 3 انظر: المصدر السابق ص 289. 4 أخرجه أبو داود 2/283.

فالشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما، فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة وإن أباه من أباه. والمقصود أن هذا دليل على وجوب البيع لحاجة المشتري، وأين حاجة هذا في حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره؟ والحكم في المعارضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها كمنافع الدور والطحن والخبز وغير ذلك حكم المعاوضة على الأعيان"1. فإجبار المالك على أن يسكن في ملكه من يحتاج إلى سكناه مع إعطاء المالك أجرة المثل من غير استغلال حاجة المحتاج وإجبار أرباب المهن والصناعات الذين يحتاج الناس إليهم في أعمالهم مع دفع الأجرة العادلة لهم مصلحة ملائمة لتصرفات الشارع وراجعة إلى أصل شرعي، وإن لم يشهد لها أصل معين بالاعتبار إلا أن تتبع نصوص الشرع وأحكامه باستقرائها يدل على اعتبارها. وقال ابن القيم - مبيناً أن الأخذ بالسياسة هو الحزم، وأنه لا يخلو منه إمام: "وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل2 وبين بعض الفقهاء، فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به الوحي، فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع أي يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن أردت ما لم ينطق به الشرع، فغلط وتغليطه للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأياً اعتمدوا فيه على المصلحة، وكذلك تحريق علي

_ 1 انظر: الطرق الحكمية ص 310. 2 هو: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي، المكنى بأبي الوفاء، الفقيه الأصولي الحنبلي الواعظ المتكلم، ولد سنة 431هـ وتفقه على أبي يعلى الفراء، كان قوي الحجة واسع الدائرة في العلوم والفنون والتصانيف، حتى كان في عصره قطب الأعلام وشيخ الإسلام، من مؤلفاته الواضح في أصول الفقه، توفي سنة 513هـ. انظر: الفتح المبين 2/12.

- كرم الله وجهه - الزناديق في الأخاديد، ونفي عمر رضي الله عنه نصر بن حجاج1 لكفى ذلك. ومنها: إنهم أوجبوا التسعير بوضع حد أعلى للبيع إذا كان الناس في حاجة إلى المبيع ويلحقهم الحرج بعدم بيعه، وهذا مخالف لعموم ما أخرجه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن2. عن أبي هريرة3 رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل ادعوا الله، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة" 4. فقالوا: إنه محمول على قضية خاصة معينة، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع ما الناس في حاجة إليه"5. ونقل ابن القيم عن شيخه أنه قال: إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم

_ 1 انظر: إعلام الموقعين 4/460-461. ونصر هو: ابن الحجاج بن علاط بكسر العين وتخفيف اللام، السملي شاعر أهل المدينة كان جميلاً، نفاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن حلق شعره إلى البصرة لما سمع امرأة بالليل تذكره في أبيات منها: هل من سبيل إلى خمر فأشربها؟ ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج؟ وذكر أنه جرت له قصة مع امرأة أخرى بالبصرة، فنفاه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى فارس، وأعجبت به دهقانة، فجز شعره وشمرت ثيابه وألزم المسجد، وبعد قتل عمر عاد إلى المدينة. انظر: الأعلام للزركلي 8/339. 2 هو: العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب أبو شبل المدني مولى الحرقة روى عن أبيه عبد الرحمن وأنس وطائفة، قال أبو حاتم، ما أنكر من حديثه شيء توفي سنة 138هـ. انظر: شذرات الذهب 1/27. 3 هو: عبد الرحمن بن صخر على الأشهر، الدوسي الحافظ اليماني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم على النبي مهاجراً ليالي فتح خيبر، وكان من أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظاً لحديثه، روى عنه أبو مسلم الأغر وسعيد بن المسيب وحفص بن عاصم وغيرهم، قال البخاري روى عنه ثمانمائة نفس أو أكثر، توفي سنة 57 أو 59هـ. انظر مآثره في: تذكرة الحفاظ 1/32 فما بعدها. 4 أخرجه أبو داود 2/244. 5 انظر: الطرق الحكمية ص 302-303.

بيعه، فهذا يؤمرون بالواجب، ويعاقبون على تركه، وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع"1. وقسمه ابن القيم إلى ما هو: ظلم حرام، وما هو عدل جائز، فقال: "فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز، بل واجب. فأما القسم الأول: فمثل ما روى أنس قال: غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت لنا، "فقال: إن الله هو القابض الرزاق، الباسط المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال" 2. فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة الناس إليها، إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به"3. والذي تفيده هذه النصوص أن علماء الحنابلة اعتمدوا الأخذ بالمناسب المرسل اعتماد من يراه أصلاً لاستنباط الأحكام إذا كانت المصلحة ملائمة لتصرفات الشارع، وإن لم يشهد لها نص معين.

_ 1 انظر: الطرق الحكمية ص 303. 2 الحديث أخرجه أبو داود 2/244. 3 انظر: الطرق الحكمية ص 285-286.

قال ابن القيم: "وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم، تسعير عدل لا وكس، ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل"1. "فإن قيل: فقد ذكر كثير من أتباع الإمام أحمد أصوله التي اعتمد عليها في البحث والاجتهاد، كابن القيم، ولم يذكر منها أصل الاستصلاح. فالجواب أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يكن يعد استصلاح أصلاً خاصاً برأسه بمعنى كونه قسيماً للكتاب والسنة والقياس، بل كان يعد ذلك معنى من معاني القياس، فهو أصل في استنباط المعاني من جملة الأدلة الأخرى وأخذ القياس بهذا المعنى الواسع كان اصطلاحاً يكاد يكون عاماً في صدر عصر الأئمة"2. والحاصل أنه قد اتضح مما نقلته عن الإمام أحمد وأتباعه اعتمادهم على الأخذ بالمناسب المرسل، وإن أخذهم به كان على نهج الصحابة، فلم يعتبروا من المصلحة إلا ما شهدت أصول الشريعة وقواعدها العامة باعتباره شأن المالكية حسبما تقدم أنهم يأخذون بكل مصلحة شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة، وإن لم يشهد لها نص معين، شريطة أن لا تعارض نصاً، وأن تكون ملائمة لتصرفات الشارع، وأن يكون في الأخذ بها رفع لحرج لازم لو لم يؤخذ بها. وبهذا يتم ما تقدم نقله عن ابن دقيق العيد من أن الإمام أحمد يلي مالكاً رحمهما الله في الأخذ بالمناسب المرسل، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: المصدر السابق ص 310. 2 ضوابط المصلحة ص 368.

الفصل الخامس: في ذكر أدلة مذهب القاضي ومن وافقه ومناقشتها

الفصل الخامس في ذكر أدلة مذهب القاضي ومن وافقه ومناقشتها استدل أهل المذهب الثاني القائلون بمنع الأخذ بالوصف المناسب المرسل مطلقاً بما يأتي: الأول: ما ذكره الغزالي "أن القاضي أبا بكر تمسك به في نفي اعتبار المناسب المرسل حيث قال أنه تمسك بثلاثة مسالك: المسلك الأول: أن الاستدلال لو قيل به لصارت الشريعة فوضى بين العقلاء يتجاذبون بظنونهم أطرافها من غير التفات إلى الشريعة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليدعوا الناس إلى أتباعه في قوله والمفهوم من قوله من المصالح، فأما ما يعين ابتداء، ولم يفهم منه فما بعث الشارع للدعاء إليه. الثاني: أن المستدل إن لاحظ مصالح الشريعة فهو صحيح، وإن أضرب عنها فهو شارع تحقيقاً فيطالب بالمعجزة، فإنه افتتح أمراً لا مستند له في الشرع مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين، فكيف يفتتح بعده شرع؟ الثالث: إن قال: إذا وجب اتباع المصالح لزم تغيير الأحكام عند تبدل الأشخاص، وتغيير الأوقات، واختلاف البقاع عند تبدل المصالح وهذه تفضي إلى تغيير الشرع بأسره، وافتتاح شرع آخر لم يثبت من الشارع وهذا محال، أو أنهم يقولون نحن مع المصالح بشرط أن لا نهجم على نص الرسول صلى الله عليه وسلم بالدفع"1. ومقتضى كلامه رحمه الله أن اعتبار الوصف المرسل يلزم عليه إحداث شرع جديد وإحداث شرع جديد باطل بالإجماع، لكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع.

_ 1 انظر: المنخول ص 355-356.

ووجه الإلزام في كون التمسك بالمناسب المرسل يقتضي إثبات شرع جديد من ثلاثة أوجه: 1 - إن اعتباره يؤدي إلى أن تكون الشريعة فوضى يتجاذبها العقلاء بحسب ظنونهم من غير التفات إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لا يلتفت فيه إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو إحداث لشرع جديد. وجه ذلك أن الوصف المرسل هو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء، فالعامل بمقتضى ذلك ليس له مستند سوى الظن، والعمل بالظن المجرد عن الدليل فيه التفات عن الشرع، ثم هو يؤدي إلى إحداث شرع جديد، وإحداث شرع جديد باطل، فالتمسك بالوصف المناسب المرسل باطل. 2 - إن المعتبر للوصف المرسل إن لاحظ مصالح الشريعة فهذا صحيح مسلم به، وإن أضرب عنها بأن لم يلاحظها، فهو منشئ لشرع جديد، ولا شرع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم الأنبياء، فالعامل بالوصف المرسل غير ملاحظ للشريعة، وإنما هو عامل بشرع جديد، ولا شرع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - إن اعتبار الوصف المناسب يقتضي تغيير الأحكام عند تبدل الأشخاص والأماكن والأزمنة، لأن المصلحة تختلف باختلاف الأشخاص، فما يكون مصلحة لشخص، يكون مفسدة لغيره، وكذلك ما يكون مصلحة في زمن يكون مفسدة في زمن آخر، وكذلك الأمكنة، وتغيير الأحكام باعتبار ذلك يؤدي إلى تغيير الشرع، وإثبات شرع جديد، وإثبات شرع جديد باطل. وظاهر من الأوجه الثلاثة أنها ترجع إلى شيء واحد هو إحداث شرع جديد بسبب اعتبار الوصف المناسب المرسل1. وأجيب عنه بمنع الملازمة بين اعتبار الوصف المناسب المرسل وبين إحداث شرع جديد بالهوى من غير التفات إلى نصوص الشرع، لأن من اعتبر الوصف المرسل لم يكن مستقلاً بحكمه به من غير التفات إلى الشرع مطلقاً؛ لأنه وإن لم

_ 1 انظر رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان من حيث الحجية ... ص 192.

يستند إلى دليل خاص غير أنه إنما اعتبره استناداً إلى القواعد العامة، والمقاصد الكلية التي يغلب على الظن دخول المصلحة تحتها، وفيما "ذكره القاضي عنهم من أنهم يقولون بالمصلحة بشرط عدم مصادمتها النص، هو أبلغ رد على مسالكه الثلاثة في رد الاستدلال المرسل. فهو يرد الاستدلال الذي تتبع فيه الشهوات، وتعطل النصوص، وتغير به الشريعة، ويصبح المستدل فيه مشرعاً. وأما القائلون بالاستدلال المرسل، فلا يقولون به إلا إذا انعدم النص؛ لأن المصلحة المرسلة فرع انعدامه، وإذا وجد فالمصير إليه أولاً وأخيراً، فلا يمكن أن يتصور التعارض بين النص والمصلحة المرسلة، علاوة على العمل بها في مصادمته وإبطاله"1. الدليل الثاني: إن المصلحة في الوصف المرسل مترددة بين المصلحة التي اعتبراه الشارع، وبين المصلحة التي ألغاها، فيحتمل أن تكون مما اعتبره الشارع، ويحتمل أن تكون مما ألغاه، ومع قيام الاحتمال لا يصح اعتبارها وبناء الأحكام عليها لعدم وجود شاهد بالاعتبار يعرف أنها من قبيل المعتبر دون الملغى، لأن اعتبارها حينئذ ترجيح بدون مرجح2. وأجيب عنه بأن العمل بالمصالح المرسلة مبني على ظن اعتبارها وإلحاقها بالمصالح المعتبر اتفاقاً، ويدل لهذا ما قرر به البدخشي ما استدل به البيضاوي للقائلين بالمصلحة المرسلة، قال: "لأن الظن، اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتباره"3 أي الوصف المرسل. قال البدخشي موجهاً لكلام البيضاوي: "لأنه إذا ظن أن في هذا الحكم

_ 1 انظر: تعليق محمد حسن هيتو على المنخول ص 356-357. 2 انظر: الأحكام للآمدي 4/140. 3 انظر: المنهاج مع شرحيه نهاية السول، ومنهاج العقول 3/136.

مصلحة غالبة على المفسدة ومعلوم أن كل مصلحة كذلك معتبرة شرعاً لزم ظن أن هذه المصلحة معتبرة، والعمل بالظن واجب"1. فظهر أن لحوقها بكل من المعتبرة والملغاة ليس على السواء حتى يلزم عليه عدم الدليل، بل دل الدليل على أن لحوقها بالمعتبرة أرجح، والله أعلم. الدليل الثالث: ما استدل به الزنجاني2 للقاضي ومن معه في منع الاستدلال بجنس المصلحة قال: "إن الأصل أن لا يعمل بالظن، لما فيه من خطر فوات الحق إذ الإنسان قد يظن الشيء مفسدة وهو مصلحة، وقد يظنه مصلحة وهو مفسدة، غير أنا صرنا إلى العمل به عند الاستناد إلى أصل خاص، وهو الإجماع وبقينا فيما عدا ذلك على مقتضى الأصل"3. ومراده أن العمل بالمصلحة المجردة على الدليل عمل بالظن، والأصل عدم العمل بالظن؛ لأنه لا يؤمن فيه من الوقوع في الخطأ، وذلك لأن الإنسان لقصوره قد يرى ما يظنه مصلحة، وهو في الواقع مفسدة، وما يظنه مفسدة، وهو في الواقع مصلحة، والعمل بالظن في الشرع إنما جاز للاستناد إلى الدليل. وذلك أن المجتهد إذا أعمل فكره في أدلة الشرع، وأداه فكره إلى ظن حكم شرعي، جاز له العمل به، للإجماع على جواز العمل بالظن المستند إلى دليل شرعي، ومنع العمل بالمصلحة التي لم تستند إلى دليل شرعي على ما هو الأصل من منع العمل بالظن المجرد عن الدليل، أجيب عنه بأنه وإن سلم أن الظن الذي لا مستند له إلا اتباع الهوى أنه لا يغني من الحق شيئاً، فإن الظن هنا وإن دخل في جنس الظن، غير أنه هنا مستند إلى قواعد الشرع، وأدلته العامة، وليس

_ 1 انظر: منهاج العقول مع نهاية السول 3/136. 2 هو: أبو المناقب محمود بن أحمد الزنجاني الشافعي أحد الأعلام، درس بالنظامية ثم المنتصرية، وعلا شأنه في اللغة وعلم الخلاف والأصول والتفسير حتى صار من بحور العلم، من مؤلفاته تخريج الفروع على الأصول، توفي سنة 656هـ. انظر: مقدمة كتابه تخريج الفروع على الأصول لمحمد أديب صالح ص 11. 3 انظر: تخريج الفروع على الأصول ص 324.

للعقل فيه مجال إلا الاجتهاد والنظر في أدلة الشرع، ومن فيه أهلية الاجتهاد فله أن ينظر في أدلة الشرع، ليستنبط منها ما يؤديه إليه عقله واجتهاده. فالقول المناسب المرسل إنما هو قول بمصالح مندرجة تحت مصالح عامة شهدت لها نصوص الشرع وقواعده، ومثل هذا ليس من الظن المحض الذي لم يستند إلى دليل. فإن قيل: إن المعتبر من الأدلة، هو ما أفادته النصوص بدلالاتها أو حمل على ما أفادته بالقياس، وما عدا ذلك فليس معتبراً دليلاً شرعياً، أجيب بأن الشارع أقر الاجتهاد عند فقد نص الكتاب والسنة من غير قيد في الاجتهاد بكونه إلحاف فرع بأصل، فهو شامل للاجتهاد المصلحي، فيكون العمل بالمصلحة عملاً بالظن المعتبر، لدخوله في الاجتهاد الذي أذن فيه الشارع1. الدليل الرابع: قالوا: "لو جاز ذلك - أي الحكم بالمصلحة المرسلة - لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه السياسات إذا راجع المفتين في حادثة وأعلموه أنها ليست منصوصة، ولا أصل لها يضاهيها يجوز له حينئذ العمل بالأصوب عنده واللائق بطريق الاستصلاح، وهذا صعب لا يجترئ عليه متدين"2. وأجيب عنه: بأن "المصلحة المرسلة هي ما لم يرد فيها دليل بالاعتبار ولا بالإلغاء ومصلحة هذا وصفها تجل عن أن يحوم حولها العلماء الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد، فضلاً عن العامة والدهماء"3، فليس كل ما يبدو للعقل أنه مصلحة يدخل في قبيل المصالح المرسلة، وتبني عليه الأحكام، وإنما هي المصالح التي يتدبرها من هو أهل لتعرف الأحكام من مآخذها حتى يثق بأنه لم يرد في الشريعة شاهد على مراعاتها أو إلغائها4.

_ 1 انظر: رأي الأصوليين في المصلحة المرسلة والاستحسان ص 194-195، مع تصرف. 2 انظر: المصدر السابق ص 193، نقلاً عن شرح القرافي للمحصول 3/201. 3 انظر: المصدر السابق ص 198 نقلاً عن تعليل الأحكام للشيخ شلبي ص 275. 4 انظر: المصدر السابق ص 198، نقلاً عن رسائل الإصلاح 2/66.

وإليك كلام القرافي في الرد على من زعم أن قول مالك بالمصلحة يجوز للعامة التجرأ على الإفتاء في الشريعة، قال: "وأما قولهم العالم بالسياسة، إذا أخبره المفتون بعدم الأصول، فيكون له الأخذ برأيه. قلنا: لا يلزم ذلك فإن مالكاً يشترط في المصلحة أهلية الاجتهاد وأن يكون الناظر متكيفاً بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول يكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة، فيهجم على مخالفة الشريعه من غير شعور"1. ويقول الشيخ عمر الفاسي2 في رسالته في الوقف مستبعداً ومستنكراً حول من ليس من أهل البحث والنظر في الأدلة في هذا المقام "وأنى للمقل أن يدعى غلبة الظن أن هذه المصلحة فيها تحصيل مقصود الشارع، وأنها لم يرد في الشرع ما يعارضها ولا ما يشهد لها بالإلغاء مع أنه لا بحث له في الأدلة، ولا نظر له فيها، وهل هذا إلا الاجتراء على الدين، وإقدام على حكم شرعي بغير يقين"3.

_ 1 انظر: المصدر السابق ص 198، نقلاً عن نفائس الأصول 3/201. 2 قال صاحب هدية العارفين في جزء 2/1380: عمر بن عبد الله الفاسي، له تحفة الحذاق شرح لامية الزقاق (فقه مالك) فاس 1306 ص 336، ولم أعثر على من ترجم له بغير هذا. 3 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 198، نقلاً عن رسائل الإصلاح 3/66.

الفصل السادس: في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل

الفصل السادس في ذكر أدلة مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - وبيان موقفه من الأخذ بالمناسب المرسل تمهيد تقدمت نسبة المذهب الثالث للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله وأنه يشترط لاعتبار المناسب المرسل: المناسبة وعدم البعد عن شهادة النصوص له. ومما هو معلوم أنه لم يرد في أصول مذهب كل من الإمامين عدم الأخذ بالمناسب المرسل أصلاً مستقلاً لبناء الأحكام عليه، بل إنهما إنما اعتمدا في بناء الأحكام واستنباطها على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم. أمام أبو حنيفة فسيأتي بيان أصول مذهبه في الفصل الآتي بعد هذا. وأما الشافعي فإنه قد دون أصول مذهبه التي اعتمد عليها في الاستنباط وبناء الأحكام، وألزم نفسه بها، فهو الوحيد الذي ألف أصول مذهبه من بين الأئمة، بل هو أول من ألف في هذا الفن كتاباً مستقلاً على أرجح أقوال أهل الأصول، وإن كان بعضهم صرح بأسبقيته قال صاحب المراقي: أول من ألفه في الكتب ... محمد بن شافع المطلب وغيره كان له سليقه ... مثل الذي للعرب من خليقه يعني أن أول من ألف علم الأصول في كتاب حتى صار فناً مستقلاً هو الإمام الشافعي محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، ألفه في كتابه الرسالة الموجود بأيدينا وغير الشافعي من المجتهدين كالصحابة فمن بعدهم كانت معرفتهم لعلم أصول الفقه سليقة مركوزة في طبيعته كما كان علم العربية من نحو ولغة وتصريف وغيرها طبيعة في فطرهم"1.

_ 1 انظر: نشر البنود شرح مراقي السعود 2/19.

أما الأدلة التي اعتبرها أصولاً لمذهبه فهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول بعض الصحابة الذي لم يعلم له مخالف، واختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس. وهذه الأدلة عنده طبقات بعضها أرفع من بعض، يدل لهذا ما ذكره في كتابه الأم حيث قال: العلم طبقات شتى. الأولى: الكتاب والسنة، إذا ثبتت السنة. ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة. والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولاً ولا نعلم له مخالفاً منهم. والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. والخامسة: القياس على بعض الطبقات. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى"1. ولا يهمني هنا كون الشافعي اعتمد الكتاب والسنة شيئاًَ واحداً، لكونه جعل السنة بياناًَ للكتاب، وإنما الذي يهمني هو تصحيح إثبات نسبة القول بالمناسب المرسل للإمام الشافعي، واعتماده عليه في الاستنباط، وبناء الأحكام عليه، وإن لم يعتبره أصلاً مستقلاً، فإلى أدلة إثبات ذلك. الدليل الأول: وردت نصوص عن الشافعي تدل على أنه يعتبر المرسل داخلاً في القياس، وإن لم يعده أصلاً مستقلاً من أصوله التي اعتمد عليها في استنباط الأحكام، وجعلها قاعدة لفروع الأحكام، إلا أنه يرى أنه قياس، لأن الاستدلال لا يعدو استنباط الحكم من معقول جملة نصوص شرعية شهدت لجنس المصلحة بالاعتبار. ذلك أن الشافعي يرى أن نصوص الشرع وافية بحكم كل حادثة تحدث، فلا توجد واقعة إلا ولها دليل يدل عليها، إما بنصه أو معقوله، يدل لهذا قوله:

_ 1 انظر: الأم 7/265.

"فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله دليل على سبيل الهدى فيها"1. ويقول: "كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم اتبعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس"2. ويقول: "وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد علم الحق، ولا يكون الحق معلوماً إلا عن الله نصاً، أو دلالة عن الله، فقد جعل الله الحق في كتابه، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليست تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب ينص عليها نصاً أو جملة ... فإن قال قائل: أرأيت ما لم يمضِ فيه كتاب ولا سنة ولا يوجد الناس، اجتمعوا عليه فأمرت بأن يؤخذ قياساً على كتاب أو سنة يقال لهذا قيل عن الله؟ قيل: نعم قيلت جملة عن الله، فإن قيل: ما جملته؟ قيل: الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة3. ويقول: "والحق فيما أمر الله ورسوله باتباعه، أو دل الله ورسوله عليه نصاً أو استنباطاً بدلائل"4. فهذه النصوص تدل على أن الشافعي يرى أن كل حادثة تقع لمسلم ففي كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دليل على حكمها إما نصاً أو استنباطاً من معقول النص بالقياس، وإذا كان استنباط الحكم فيما ليس فيه نص يعد اتباعاً للنص، وأخذاً للحكم من معقول النص ويقال فيه أنه قيل عن الله تعالى، فالاجتهاد والقياس إذن عند الشافعي بمعنى واحد، وهذا يقتضي القول بالاستدلال؛ لأن الاستدلال لا يعدو استنباط الحكم من معقول جملة نصوص شرعية شهدت لجنس المصلحة بالاعتبار، وإن لم يشهد لها نص معين، وعلى هذا فمتى توصل

_ 1 انظر: الرسالة ص 48. 2 انظر: الرسالة ص 477. 3 الأم 7/298-299. 4 الأم 7/301.

المجتهد إلى حكم فهو متبع للنص، ولذا فهو يقول: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الإسلام نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها". ويقول: "وكل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو علي سبيل الحق في دلالة موجودة وعليه إذا كان فيه بعينه حكم أتبعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد "القياس". ومما يدل على أن الشافعي يسوي بين القياس والاجتهاد وأن القياس عنده شامل للاستدلال ما نقله عنه الزنجاني ونصه: "ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كلي الشرع وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة جائز"1. فالاستدلال عند الشافعي داخل في القياس بالمعنى الأعم، يقول البوطي2: "أما الاستصلاح فهو من قبيل الاجتهاد على طلب الشيء والبحث عنه، وذلك لما قلنا من أنه داخل في مقاصد الشارع لاحق بالعهود من أحكامه وقواعده، وهو بذلك يعتبر لوناً من ألوان القياس عنده - يعني الشافعي - ولذا يقول: "الاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلب الشيء لا يكون بدلائل، والدلائل هي القياس"3. فكلام البوطي صريح في أن الشافعي يرى أن الاستدلال نوع من أنواع القياس، وأنه اعتبره دليلاً لاستنباط الأحكام وتفريعها عليه، لأن الاجتهاد أعم من أن يكون قياس نظير على نظير، فهو كما يكون كذلك يكون بتطبيق مقاصد الشرع، واعتبار كل ما دلت عليه نصوص الشرع في الجملة، وهذا هو الاستدلال المرسل، ويؤيد ذلك ما ذهب إليه العز بن عبد السلام4 من اعتبار المرسل مما يدل

_ 1 انظر: تخريج الفروع على الأصول ص 320. 2 هو: الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، أستاذ معاصر، أخذ الدكتوراه في أصول الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر، وأحد مدرسي كلية الشريعة بجامعة دمشق. 3 انظر: ضوابط المصلحة ص 378، والنص في الرسالة ص 505. 4 هو: عبد العزيز بن عبد السلام، أبو القاسم الفقيه الأصولي المحدث الأديب، السلمي الدمشقي الشافعي الملقب بعز الدين المعروف بسلطان العلماء شيخ الإسلام والمسلمين، وإمام عصره وفريد زمانه ولد سنة 577هـ بدمشق ونشأ بها، وقرأ على ابن عساكر وسيف الدين الآمدي وغيرهما حتى صار علماً من الأعلام تولى خطابة الجامع الأموي بدمشق، ثم جامع عمرو بن العاص بمصر، ورياسة قضاء مصر غير القاهرة ثم عزل نفسه عن القضاء وبنى مدرسة الصالحية ودرس بها، حتى تخرج عنه أئمة، مؤلفاته كثيرة منها: قواعد الأحكام، والإلمام في أدلة الأحكام في أصول الفقه وغيرهما. توفي رحمه الله سنة 660هـ بالقاهرة ودفن بالقرافة الكبرى. انظر: الفتح المبين 2/73.

على أنه سلك مسلك إمامه في اعتبار المرسل فهو يقول: "ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس، خاص فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك"1. وظاهر من كلام العز أنه يرى اعتبار المناسب المرسل، حيث بنى اعتباره على حصول العلم، أو العرفان باعتبار المصلحة، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص، بمعنى أنه لم يشهد لها نص معين، وإن شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة في الجملة لأن مناسبتها إنما تكون بذلك. ويدل على المصلحة بهذا الاعتبار تعد قياساً عند الشافعي، ما ذكره الغزالي ونصه: "كل مصلحة ملائمة، فيتصور إيرادها في قالب قياس بجمع متكلف يعتمد التسوية في قضية عامة، لا تتعرض لعين الحكم ... بمعنى مناسب فهو الذي نريده بالاستدلال المرسل. وكيف لا ينتظم هذا الشكل؟ وما من مسألة إلا ويمكن أن يقال: هذه مصلحة على وجه كذا، فينبغي أن تراعى قياساً على مسألة كذا، والمصلحة عبارة تشتمل مختلفة تندرج تحت المتباعدات، وتنتظم بالتحرير فيها صورة القياس، وهذا غير منكر جريانه في الاستدلال المرسل"2. ثم إن تصريح العز بن عبد السلام باعتبار المصلحة وإن لم يشهد لها قياس خص يدل على أنه يرى أن القياس نوعان:

_ 1 انظر: قواعد الأحكام 2/260. 2 انظر: شفاء الغليل ص 217-218.

أحدهما: خاص وهو الذي يجمع فيه بين النظرين بعلة خاصة. والثاني: عام، وهو الذين يندرج تحت علة عامة بمعنى أنه يكون اعتبار المصلحة بشهادة الأصول والقواعد العامة، وإن لم يشهد لها نص معين. فما ذهب إليه هنا من انقسام القياس إلى: خاص وعام، وهو عين ما قررت أن الشافعي ذهب إليه من أن القياس شمال للاستدلال المرسل، وعلى هذا يكون القياس خاصاً وعاماً يشملهما الاجتهاد. يقول الشافعي: "الاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلب الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائل هي القياس"1. فهذا صريح في أن الاستدلال عنده من قبيل الاجتهاد في طلب الشيء والبحث عنه، وذلك لدخوله في مقاصد الشرع2. الدليل الثاني: ما نقله الزركشي عن ابن برهان أنه قال: "إن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشريعة، أو لأصل جزئي، جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا، ونسبه ابن برهان في الوجيز للشافعي، وقال: إنه المختار"3. الدليل الثالث: قال إمام الحرمين: "ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى اعتماد الاستدلال، وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل، ولكنه لا يستجيز النأي، والبعد والإفراط، إنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقاً، وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة"4. الدليل الرابع: ما ذكره إمام الحرمين أيضاً فإنه قال: "وأما الشافعي فإنه

_ 1 انظر: الرسالة ص 505، وذكره معناه في الأم 7/301. 2 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 42، وضوابط المصلحة ص 378. 3 انظر: البحر المحيط 3/240. 4 انظر: البرهان 2/1114.

قال: إنا نعلم قطعاً أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم على ما سنقرر في كتاب الفتوى - والذي يقع به الاستقلال هاهنا هو أن الأئمة السابقين لم يخلوا واقعة على كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى - عن حكم الله تعالى، ولو كان ذلك ممكناً لكانت تقع، وذلك مقطوع به أخذاً من مقتضى العادة، وعلى هذا علمنا بأنهم رضي الله عنهم استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق بانبساطها على الوقائع، متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح متشوف إلى ما سيقع ولا يخفى على المنصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى: ما يعرى عن حكم الله، وإلى ما لا يعرى عنه، فإذا تبين بنينا عليه المطلوب، وقلنا: لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها، لما اتسع باب الاجتهاد فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع في متسع الشريعة غرفة من بحر، ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهد أمثالها، لكان وقوفهم عن الحكم يزيد على جريانهم، وهذا إذا صادف تقريراً لم يبق بمنكري الاستدلال مضطرباً، ثم عضد الشافعي هذا بأن قال: من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر، لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل، أو استثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، فإذا ثبت اتساع الاجتهاد واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات، وانضم إليه عدم احتفال علماء الصحابة بتطلب الأصول - أرشد مجموع ذلك إلى القول بالاستدلال. ثم قال: ومما يتمسك به الشافعي رضي الله عنه أن يقول: إذا استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست الأصول وأحكامها حججاً، وإنما الحجج في المعنى، ثم المعنى لا يدل بنفسه حتى يثبت بطريق إثباته وأعيان المعاني ليست منصوصة وهي المتعلق، فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص وهي متعلق النظر والاجتهاد، ولا حجة في انتصابها لا تمسك الصحابة رضي الله عنهم

بأمثالها، وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي، فإن كان الاقتداء بهم فالمعاني كافية، وإن كان التعلق بالأصول فهي غير دالة ومعانيها غير منصوصة. ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقاً بأصل، ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة، فإن عدمها التفت إلى الأصول مشبهاً كدأبه إذ قال طهارتان فكيف يفترقان؟ 1. ثم بين أن الشافعي يشترط في قبول المصلحة المرسلة أن تكون شبيهة بالمصالح المعتبرة، فيقول: "وقد ثبتت أصول معللة اتفق القائسون على عللها، فقال الشافعي: أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الاستدلالات قريبة منها، وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلاً أصول، والاستدلال معتبر بها، أو اعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورة بمعنى جامع، فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها، فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع، ولم يرده أصل كان استدلالاً مقبولاً2. ووجه الاستدلال هنا في كلام إمام الحرمين على اعتبار الشافعي المناسب المرسل أصلاً من أصول الاستنباط في بناء الأحكام عليه هو: أنه لا تخلو حادثة عن حكم الله تعالى مع كثرة الحوادث وتجددها قطعاً، ويستدل لذلك بأن الأئمة السابقين لم يخلوا واقعة عن حكم الله تعالى مع كثرة الوقائع إذ لو حصل ذلك لنقل إلينا، فلما لم ينقل إلينا علمنا نه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى مع استرسالهم في إعطاء كل واقعة حكماً يستلزم اعتمادهم على الاستدلال المرسل، لأن النصوص وما حمل عليها بالقياس محصور، والوقائع غير محصورة، والمحصور لا يفي بغير المحصور، لذلك لزم الاعتماد على المعاني الكلية، والقواعد العامة التي دلت نصوص الشرع على اعتبارها في الجملة، وإذا كانت النصوص وما حمل عليها لا تفي بإعطاء كل حادثة حكماً مع كثرة الحوادث وتجددها، لزم أن يعتمد المجتهد

_ 1 انظر: البرهان 2/1116-1118. 2 انظر: البرهان 2/1121-1122.

في إعطاء كل حادثة حكماً على المعاني الكلية العامة، وهذا هو عين الاستدلال المرسل. ولما كان اعتبار مثل هذا يحتاج إلى دليل فقد بين أن الشافعي عضد استدلاله هذا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون فيما لم يرد فيه نص على المصالح التي شهدت النصوص لاعتبارها في الجملة، وإن لم يشهد لها نص معين فإنه قال: "لم يرو عن أحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل أو استثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، يعني بذلك والله أعلم أن محل ذلك فيما لم يرد فيه نص ميعن أو لم يكن فيه قياس إلحاق بنظير، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتمدون في الفتوى على الأصول التي شهدت لها النصوص بالاعتبار ولو كانت في الجملة وإن لم يذكروا هذه الأصول وتلك الفتوى لقوة معرفتهم بالأصول ومقاصدها فهم لم يكونوا محتاجين بعد إلى ذكر مثل ذلك. ثم بين أن المراد من النصوص معانيها، والمعاني ليست منصوصة على سبيل التعيين، والمعاني إذا استندت إلى الأصول جاز التمسك بها، وعلى هذا فلا يمكن التمسك بالنصوص وحدها أو الأصول بمفردها، لأنها لا تفي في الدلالة على حكم كل واقعة بعينها، كما أن المعاني الجزئية لا تفي أيضاً بذلك. وعلى هذا فلا بد من التمسك بالمعاني الكلية التي ترجع إلى أصول الشرع وقواعده العامة، وهذا هو الاستدلال المرسل. ثم بين أن الشافعي إنما يعتبر المصلحة إذا كانت شبيهة بالمصالح المعتبرة وقريبة من معاني الأصول الثابتة، وإن لم يشهد لها أصل معين، لأنه يرى أن اعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورة بصورة، بمعنى جامع، وهذا هو الاستدلال المرسل، لأنه اعتبار مصلحة لمشابهتها مصلحة أخرى تشترك معها في جنس عام دل الشرع على اعتباره في الجملة بشرط أن لا تعارض نصاً، فإن عارضها نص كان ذلك دليلاً على إلغائها1.

_ 1 انظر تفاصيله في: نظيرة المصلحة في الفقه الإسلامي ص 355-357.

ولقد لخص الغزالي هذا الدليل وذكر اعتراضاً أورد القاضي على ما استدل به من استرسال الصحابة في إعطاء كل حادثة حكماً الخ، وأجاب عنه بما نصه: قال: "لعلهم كانوا يعتمدون معاني يعلمون أن أصول الشريعة تشهد لها، وإن كان لا يعينونها، كالفقيه يتمسك في شأن المثقل بقاعدة الزجر، فلا يحتاج إلى تعيين أصل". ثم قال جواباً عنه: "والذي نختاره أن هذا في مظنة الاحتمال، والاحتكام عليهم بعد تمادي الزمان لا معنى له"1. الدليل الخامس: "أن معاذ بن جبل2 - رضي الله عنه - قال: "اجتهد رأيي حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن عدمت النص" 3 فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعدام نص يشعر بإعوازه، وإعوازه المفهوم عنه واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة، ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه"4. فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر معاذاً على الاجتهاد وأثنى عليه، والاجتهاد الذي أقره عليه وأثنى عليه بسببه أعم من أن يكون قياس نظير، فهو كما يكون كذلك، يكون بتطبيق مقاصد الشريعة واعتبار كل ما دلت النصوص على اعتباره في الجملة، وهذا هو الاستدلال المرسل، ويدل لهذا قول الغزالي واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة، ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص".

_ 1 انظر: المنخول ص 357-358. 2 هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصار الخزرجي، أبو عبد الرحمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدراً والعقبة، والمشاهد كلها، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، ومناقبه كثيرة جداً، قدم من اليمن في خلافة أبي بكر، وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة 17، أو 18هـ. انظر: الاستيعاب بذيل الإصابة 10/104 فما بعدها، وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/19 فما بعدها. 3 لفظ الحديث كما في أبي داود 2/272: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذ إلى اليمن، قال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم تجد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ " قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله". 4 انظر: المنخول ص 358.

والظاهر أن معنى هذه العبارة "أن الشارع لم يقل لمعاذ إن اجتهدت فلاحظ النصوص ومعانيها ولا تخرج عن ذلك أن المعاني التي خرجت عن النصوص والأقيسة، فكأن وجه الاستدلال مكون من جهتين: الأولى: التمسك في الأحكام بغير النصوص. الثانية: عدم المطالبة بملاحظة النصوص عند الاجتهاد بل الاكتفاء بالرأي المفيد في فهم مقاصد الشريعة. وهذه الزيادة، وهي قول ولم يكلفه الشارع الخ، لها مكانتها في تمام الاستدلال بالحديث، إذ القاضي ومن سلك مسلكه من منكري المصلحة لا ينكرون التعلق بما عد الكتاب والسنة مطلقاً، وإنما ينكرون بعض ذلك، وهو المصلحة، فلا بد في الرد عليهم من زيادة عدم مطالبته عليه الصلاة والسلام له بملاحظة الأدلة الخاصة عند الاجتهاد. واسم الرأي: شامل لما يلتفت فيه إلى الأدلة الخاصة في استنباط الأحكام كالقياس الذي لا بد فيه من وجود أصل دل عليه النص، وإلى ما لا يلتفت فيه إلى ذلك بل إلى الأدلة العامة، ومقاصد الشريعة"1. "وعلى هذا النحو يعالج قدماء الشافعية رعاية المصلحة فيؤكدون أن الشارع قد راعى المصالح جميعها، ثم يحتمون رعاية كل مصلحة جزئية لم يراعها الشارع بذاتها، هذا ما دامت مصلحة فعلاً لأن فهم نفس الشرع يوجب هذه الرعاية. أما المتأخرون من فقهاء الشافعية فيدعون أن إمامهم لم يقل بالمصالح، وأن الجويني يوافق مالكاً في القول بها ناسين أن في مذهبهم فروعاً كثيرة لا مستند لها إلا رعاية المصلحة، وأنهم مهما يقولون في تعليل عدول الإمام عن مذهبه القديم إلى مذهب آخر جديد بعد أن قدم مصر - فليسوا مستطيعين أن ينكروا أن المصلحة - كما رأى صورها في مصر تختلف عما رآها عليه في بغداد، وأن هذا كان

_ 1 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 183-184.

أحد الأسباب التي عدل على ضوئها بعض آرائه وغير فيها"1. وإليك بعض الفروع التي كان اعتماد الشافعية فيها على اعتبار المناسب المرسل. 1 - ما نقله الربيع2 عن الإمام الشافعي أنه قال: "الرجوع عن الشهادات ضربان، فإذا شهد الشاهدان أو الشهود على رجل بشيء يتلف من بدنه أو ينال مثل قطع أو جلد أو قصاص في قتل أو جرح، وفعل ذلك به ثم رجعوا فقالوا: عمدنا أن ينال ذلك منه، فهي كالجناية عليه، ما كان فيه من ذلك قصاص خير بين أن يقتص، أو يأخذ العقل، وما لم يكن فيه قصاص أخذ فيه العقل وعزروا دون الحد"3. 2 - وهو قريب من الأول قال: ولو شهدوا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً، فرق بينهما الحاكم ثم رجعوا ألزمهم الحاكم صداق مثلها، إن كان دخل بها، وإن لم يكن دخل بها غرمهم نصف صداق، مثلها لأنهم حرموها عليه، ولم يكن لها قيمة إلا مهر مثلها، ولا التفت إلى ما أعطاها قل أو كثر، إنما التفت إلى ما التفتوا عليه، فاجعل له قيمة4. فالقول بالقصاص من الشهود بما نيل من المشهود عليه بسبب شهادتهم إذا اعترفوا بأن شهادتهم عليه كانت زوراً لقصد أن ينال منه، وتغريمهم ما فات عليه بسبب شاهدتهم لم يدل عليه نص معين، وإنما هو مصلحة اقتضتها عصمة الدم والمال، والأخذ بها ملائم لتصرفات الشرع، إذ لو لم يؤخذ بها لكان كل من أراد

_ 1 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 42-43. 2 هو: الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم صاحب الإمام الشافعي، وراوية علمه، الإمام الحافظ الثقة الثبت في روايته، محدث الديار المصرية، ولد سنة 174هـ سمع من ابن وهب، وشعيب ابن الليث، وبشير بن بكر وغيرهم، وسمع منه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم، توفي سنة 270هـ. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/586، وطبقات الشافعية لابن السبكي 2/132-134. 3 انظر: الأم للشافعي 7/55. 4 انظر: الأم 7/55.

النيل من غريمه اتخذ الشهادة وسيلة إلى بلوغ مراده، لعلمه أنه لا يقتص منه ولا يغرم ما فوته على من شهد عليه. 3 - قال عز الدين: "ولم عم الحرام الأرض، بحيث لا يوجد فيها حلال، جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات؛ لأنه لو وقف عليها، لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولا يقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام"1. ثم وضح وجه اعتبار ذلك وأنه لا يقف تحليل استعمال الحرام على الضرورات، لأنه لو وقف عليها، لأدى إلى الحرج بضعف المسلمين وأن اعتبار مثل هذا وإن لم يدل عليه نص معين، غير انه دلت عليه نصوص الشرع وقواعده العامة. قال: "ومن تتبع مقاصد الشرع بجلي المصالح ودفع المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع، ولا نص، ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك"2. والحاصل أنه اتضح لنا مما تقدم أن الشافعي رحمه الله يعتبر الاستدلال المرسل، ويأخذ به وإن كان يرى أنه من باب القياس العام أي من باب الأخذ بالمصلحة التي شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة، وإن لم يشهد لها نص معين، وكذلك علماء مذهبه وهذا هو بعينه الاستدلال المرسل، لأنه في الحقيقة قياس في الجملة فقد فيه أحد أركان القياس وهو الأصل. فإن قيل: هل معنى هذا أن الشافعي يقول بالاستدلال المرسل مطلقاً؟ أجيب بأنه كما تقدم نقله عن إمام الحرمين أنه يقول بالاستدلال بشرط أن

_ 1 انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/159-160. 2 انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/160.

تكون المصلحة قريبة، وشبيهة بالمصالح المعتبرة، وهذا هو بعينه المصلحة المرسلة، إذ هي المصلحة الداخلة تحت مقاصد الشرع الملائمة لها، وإن لم يشهد لها نص بالاعتبار ولا بالإلغاء، وإن كانت نسبة الملائمة فيها تختلف باختلاف جزئيات مسائلها قوة وضعفاً. أما إذا لم تكن المصلحة ملائمة ولا داخلة تحت مقاصد الشرع، فهي حينئذ ملغاة، فلا تدخل تحت تعريف المصلحة المرسلة، والله تعالى أعلم.

الفصل السابع: في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل

الفصل السابع في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل تمهيد أشرت فيما سبق إلى أن أبا حنيفة رحمه الله لم يدون أصول مذهبه التي كان يعتمد عليها في الاستنباط وتفريع الأحكام، شأنه في ذلك شأن مالك وأحمد رحمهما الله تعالى، غير أنه مما لا شك فيه أنه كان يقيد نفسه في الأقيسة التي كان يقيسها، وفي طريقة استنباطه للأحكام واستخراج العلل بأصول وقواعد يلزم نفسه بها، ولا يخرج عنها، وإن لم يدونها. وكيف لا تكون له أصول يعتمد عليها وهو إمام مدرسة أهل الرأي في زمنه؟! وقد عرف بكثرة تفريع المسائل فهو وإن لم تؤثر عنه أصول مفصلة للأحكام التي كان يستنبطها، فلا بد أن تكون له أصول يلاحظها ويربط نفسه بها في استنباط الأحكام، وإن يدونها كما لم يدون فروعه، فإن التناسق والتجانس الفكري بين أنواع الفروع التي رويت عنه يدل على أنه كان يقيد نفسه بقواعد لا يخرج عنها، وكونه لم يدون أصول مذهبه فهذا ليس دليلاً على عدم وجودها فشأنه في ذلك شأن غيره من أئمة المذاهب الذين لم يدونوا أصول مذاهبهم غير أن أتباعهم دونوها. وليس للباحث إلا أن يسلم صحة ما نسبه علماء المذهب لإمامهم وإذا كان علماء الأحناف دونوا أصولاً اعتبروها أصول مذهب إمامهم والتزموها في استنباط الأحكام وتفريع الفروع على أنها أصول مذهب الإمام، فليس لنا إلا اعتبار ذلك، وإن لم تتصل لنا نسبة ذلك إليه، ويدل لهذا ما جاء في تاريخ بغداد، نقلاً عن أبي حنيفة ونصه: "آخذ بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى

الأمر، أو جاء الأمر إلى: إبراهيم1، والشعبي2، وابن سيرين3، والحسن4، وعطاء5، وسعيد بن المسيب6، وعد رجالاً قوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا7. وجاء في الانتقاء لابن عبد البر8 مثل هذا9.

_ 1 هو: إبراهيم بن يزيد بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حارثة بن سعد ابن مالك النخعي، المكنى بأبي عمارة وأبي عمار، الفقيه الكوفي أحد الأئمة الأعلام المشاهير، تابعي، روى عن عائشة رضي الله عنها، ودخل عليها ولم يثبت له منها سماع، توفي سنة ست وقيل خمس وتسعين هـ. انظر: وفيات الأعيان 1/251، وتذكرة الحفاظ 1/73، 74. 2 هو: عامر بن شراحيل الهمداني، الكوفي الحميري، ولد في خلافة عمر رضي الله عنه، كان إماماً حافظاً فقيهاً متفنناً، وكان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، ممن أخذ عنه الأعمش، وأبو حنيفة وغيرهما. انظر سيرته ومآثره في تذكرة الحفاظ 1/79 فما بعدها. 3 هو: محمد بن سيرين البصري، مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، تابعي، روى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأنس وغيرهم، وعنه قتادة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم، من الأئمة، وأحد فقهاء أهل البصرة وعرف بتعبير الرؤيا، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وتوفي سنة 110هـ. انظر: وفيات الأعيان 4/181 - 182، وتذكرة الحفاظ 1/77 فما بعدها. 4 هو: الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري الأنصاري مولاهم، من كبار علماء التابعين الإمام شيخ الإسلام، ثقة فاضل مشهور، كان يرسل الحديث ويدلس، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: رأس أهل الطبقة الثالثة، مات سنة 110هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 1/71 - 72، وتقريب التهذيب 1/165. 5 هو: عطاء بن أبي رباح مفتي أهل مكة، ومحدثهم القدوة العلم، أبو محمد بن أسلم، القرشي مولاهم المكي، ولد في خلافة عثمان، وقيل: عمر رضي الله عنهما، سمع من عائشة وأبي هريرة وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم وطائفة، وعنه أيوب وابن جريج وإسحاق والأوزاعي، وأبو حنيفة، وغيرهم، مات على الأصح سنة 114هـ. انظر: تذكرة الحفاظ 1/98. 6 هو: الإمام سعيد بن المسيب المخزومي، شيخ الإسلام المكنى بأبي محمد، كان من أجل التابعين علماً وفقهاً، ولد سنة 15هـ في خلافة عمر رضي الله عنه، أخذ العلم عن الصحابة حتى صار أحد فقهاء المدينة السبعة وعلمائها المفتين بها، توفي رحمه الله سنة 94هـ على أصح الأقوال في وفاته. انظر مآثره في تذكرة الحفاظ 1/54 فما بعدها، والفتح المبين 1/87. 7 انظر: تاريخ بغداد 13/368. 8 هو: أبو عمر بوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الحافظ القرطبي شيخ علماء الأندلس، وكبير محديثها في وقته، وأحفظ من كان فيها، ولد سنة 368هـ وتوفي سنة 463هـ، مؤلفاته تنبئ عن جلالة علمه منها: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، والاستذكار، وجامع بيان العلم وفضله وغيرها. انظر: الديباج المذهب 2/367 - 370. 9 انظر: الانتقاء لابن عبد البر ص143.

فهذا النص يدل على أن أبا حنيفة1 كان يعتمد في استنباط الأحكام وتفريع المسائل على كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أقوال أصحابه يختار منها ما شاء ويدع ما شاء، ولا يخرج عنهم، فإن لم يجد مطلبه في الأدلة المذكورة اجتهد رأيه. وذكر الموفق المكي2 في كتابه مناقب أبي حنيفة ما نصه: "كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلح عليه أمرهم يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، فكان يوصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلى استحسان3 أيهما كان أوفق رجع إليه.

_ 1 هو: النعمان بن ثابت بن زوطي، المكنى بأبي حنيفة، الإمام العالم الثبت الفقيه المتطلع إلى الحقائق، الحاضر البديهة، الرحب الصدر للمناظرة أسنّ الأئمة الأربعة، ولد سنة 80هـ، اتفق العلماء على إمامته وعلمه، من تأليفه المسند في الحديث وينسب إليه الفقه الأكبر، قيل: إنه أدرك أنس بن مالك رضي الله عنه، وقيل غير ذلك، نشأ بالكوفة وتربى فيها بدأ بالجدل حتى صار رأساً فيه، ثم اتجه إلى الفقه، ودرس على علماء بلده كحماد بن أبي سليمان وغيره من علماء التابعين حتى صار إماماً، توفي رحمة الله سنة 150هـ. انظر: أبو حنيفة لأبي زهرة، والفتح المبين 1/101 فما بعدها. 2 الذي عثرت على ترجمته ممن ألف في مناقب أبي حنيفة هو محمد بن محمد الكردري، حافظ الدين الفقيه الحنفي المشهور بابن البزاري، من مؤلفاته مناقب الإمام الأعظم وقد طبع، توفي سنة 827هـ. انظر: شذرات الذهب 7/183، الأعلام 7/274، غير أنهما لم يصرحا بأنه ملقب بالموفق المكي، والله أعلم. 3 الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه، وقيل: هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه، وقيل: هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس، وقيل: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته، وقد عقد ذلك صاحب المراقي بقوله: والأخذ بالذي له رجحان ... من الأدلة هو استحسان أو هو تخصيص بعرف ما يعم ... ورأي اسستصلاح بعضهم يؤم ورَدّ كونه دليلاً ينقدح ... ويقصر التعبير عنه متضح انظر: المحلى مع الآيات البينات 4/193، ومختصر ابن الحاجب مع شرحه 2/288، ونشر البنود شرح مراقي السعود 2/262 فما بعدها.

قال سهل1: "هذا علم أبي حنيفة رحمه الله علم العامة"2. وواضح مما نقله عنه إنه كان يعتبر القياس أصلاً حيث لا نص ولا قول صحابي ما دام سائغاً، فإن لم يبق سائغاً أخذ بالاستحسان ما استقام له، فإن لم يستقم له أخذ بما يتعامل به الناس، وهو العرف، والأخذ بالعرف والاستحسان يقتضي اعتبار المناسب المرسل. فعدم ورود عدم الاستدلال المرسل أصلاً من الأصول التي نقل أنه كان يعتمد عليها في استنباط الأحكام لا يعني أنه لم يأخذ به، بل لعل في تصريحه بعمله بالاجتهاد ورجوعه إلى ما يتعامل به الناس عند عدم صلاحية القياس دليلاً على اعتبار الأخذ بالمناسب المرسل، لأن اعتبار ما يتعامل به المسلمون هو الأخذ بالعرف3. وبعد هذا التمهيد نعود إلى ذكر الأدلة الدالة على اعتبار الحنفية المناسب المرسل مما يقتضي أن يكون اعتبارهم له اتباعاً لإمامهم، وهذه الأدلة هي: 1 - أنهم يعتمدون على الاستحسان والعرف في استنباط الأحكام، وتفريع الفروع عليهما، مما يدل على اعتبارهم للمناسب المرسل. 2 - نقول عن الأحناف تدل على ذلك. 3 - فروع تدل على أن الأخذ بها كان اعتماداً على المناسب المرسل. الدليل الأول: ما تقدم نقله عن الموفق المكي حيث قال: "كلام أبي حنيفة

_ 1 لعله أن يكون هو سهل بن عمار بن عبد الله العنكي أبو يحيى النيسابوري القاضي، ذكره في منتخب تاريخ هراة، وقال: كان من أصحاب أبي حنيفة وكان قاضي هراة، حدث عن يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه العباس بن حمزة وأبو يحيى البزاز وغيرهما، توفي سنة 267هـ. انظر: الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية 2/239. 2 انظر: المناقب للمكي 3/87، نقلاً عن كتاب أبي حنيفة لأبي زهرة ص 266. 3 العرف ما تعارفه الناس، وما ساروا عليه من قول أو فعل ويسمى العادة وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة، أصول عبد الوهاب خلاف ص 89، وقال الجرجاني: العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول ... وكذا العادة وهي ما استمر الناس عليه على حكم المعقول، وعادوا إليه مرة أخرى. انظر: التعريفات ص 149.

أخذ بالثقة، وفرار من القبح والنظر في معاملات الناس، وما استقاموا عليه وصلح عليه أمرهم يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به"1. فهذا النص صريح في أن أبا حنيفة رحمه الله كان يأخذ بالاستحسان والعرف، وأما الاستحسان فهو كما نقله عنه أصحابه كان أرحب مجال له في المناقشة والاستدلال، ولذا قال محمد بن الحسن2: "إن أصحابه كانوا ينازعونه القياس، فإذا قال: استحسن لم يلحق به أحد" 3. وكان في إكثاره من الاستحسان والاعتماد عليه مثار نقد وطعن في فقهه ممن لم يقف على حقيقة معنى الاستحسان عند أبي حنيفة حيث حمله على محض القول المجرد عن الدليل، كما فهمه الشافعي رحمه الله ورد عليهم. وعلى فرض أن الاستحسان شامل للقول المجرد عن الدليل العاري عن أي دليل فهو أيضاً شامل من باب أولى لدليل الرأي المستند إلى ما يعضده من المصالح التي شهدت أصول الشرع وقواعده العامة باعتبارها "ومعنى هذا أن القدر الذي أنكره الشافعي من الاستحسان غير شامل لما ينطبق عليه اسم الاستصلاح بدليل ... إنه هو بنفسه كان يأخذ به تحت اسم القياس، وإذا فالقدر الذي يدخل منه في باب الاستصلاح، وهو ما سموه باستحسان المصلحة، ليس هو المراد بإنكار الشافعي للاستحسان، وما جاء في كلامه حوله"4. ولذلك حاول الحنفية بيان معنى الاستحسان بما يخرجه عن كون الأخذ به

_ 1 انظر: المناقب للمكي 3/87، نقلاً عن أبي حنيفة لأبي زهرة ص 266. 2 هو: محمد بن الحسن الشيباني الإمام الفقيه الأصولي اللغوي، المكنى بأبي عبد الله صاحب أبي حنيفة، وناشر علمه، ولد سنة 131هـ بواسط بالعراق، وتفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، وتبحر في الفقه والأصول حتى كان مرجع أهل الرأي بالعراق، اجتمع به الشافعي وأخذ عنه وقال فيه: ما رأيت أعلم بالقرآن والحلال والحرام والعلل والناسخ والمنسوخ من محمد بن الحسن، له مؤلفات في الأصول والفقه، توفي سنة 189هـ بعد أن كان قاضياً للرشيد. انظر: شذرات الذهب 1/321 فما بعدها، والأعلام 6/309، الفتح المبين 1/110 - 111. 3 انظر: أبو حنيفة لأبي زهرة ص 387. 4 انظر: ضوابط المصلحة ص 381.

عملاً بالتشهي، وقولاً بمحض الرأي العاري عن الدليل الشرعي، بل حاولوا بيان أن القول به قول بالدليل الشرعي، وإليك أهم التعريفات الدالة على ذلك: 1 - ما نقله السعد عن الكرخي حيث قال: "إنه العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلا خلافه بوجه هو أقوى"1 يقتضي العدول عن الأول. 2 - قال السرخسي: "الاستحسان في الحقيقة قياسان: أحدهما جلي ضعيف الأثر، فيسمى قياساًَ، والآخر خفي قوي الأثر، فيسمى استحساناً أي قياساً مستحسناً، فالترجيح بالأثر لا بالخفاء والظهور". ويقول: "كان شيخنا يقول: الاستحسان ترك القياس، والأخذ بما هو أوفق للناس" وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام. وقيل الأخذ بالسعة، وابتغاء الدعة، وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة. وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، وقال صلى الله عليه وسلم: "خير دينكم اليسر" 3. وبيان هذا أن المرأة عورة من قرنها إلى قدمها، وهو القياس الظاهر، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "المرأة عورة مستورة" 4 ثم أُبيح به النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة، فكان ذلك استحساناً لكونه أرفق بالناس"5.

_ 1 انظر: التلويح 2/81. 2 سورة البقرة آية: 185. 3 لفظ البخاري: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" رواه تعليقاً، ثم ساق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" الحديث. انظر: البخاري 1/17، 63. 4 انظر: الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/337. 5 انظر: المبسوط 10/145 ط الأولى، مطبعة السعادة بمصر سنة 1326هـ.

3 - ما ذكره صاحب التوضيح ونصه: "أنا نعني به - يعني الاستحسان - دليلاً من الأدلة المتفقة عليها يقع في مقابلة القياس الجلي، فلا يمكن إنكاره لأنه إما من باب الأثر ... وإما من باب الإجماع، أو الضرورة، وإما بالقياس الخفي1. فمعنى كلام الكرخي أنه قد "يجيء الحكم مخالفاً لقاعدة مطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من الاستمساك بالقاعدة، فيكون الاعتماد عليه أقوى استدلالاً في المسألة من القياس. ويصوران الاستحسان كيف ما كانت صوره وأقسامه، يكون في مسألة جزئية ولو نسبياً في مقابلة قاعدة كلية، فيلجأ إليه الفقيه في هذه الجزئية لكيلا يؤدي إلى الإغراق في القاعدة إلى الابتعاد عن الشرح في روحه ومعناه"2. وأما قول شمس الأئمة السرخسي: "إنه الأخذ بما هو أرفق بالناس، وأنه طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام"، فإنه تنبيه على أن معظم الأحكام التي أخذ بها كثير من الأئمة استصلاحاً خرجت مخرج الاستحسان عند أبي حنيفة عن القاعدة العامة، وذلك لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع. ولذا قال: "وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر، وهو أصل الدين" ثم استدل على ذلك بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3. ويقول: "إن المرأة عورة ثم أُبيح النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة، فكان ذلك أرفق بالناس".

_ 1 انظر: التوضيح مع التلويح 2/81 - 82. 2 انظر: أبو حنيفة ص 389. 3 سورة البقرة آية: 185.

ومن المعلوم أن الحاجة العامة في حق عامة الناس تتنزل منزلة الضرورة في حق الفرد لما تقدم عن السرخسي في قوله في الاستحسان: "إنه ترك العسر لليسر" ثم يقول: أنه أصل قطعي في الدين الخ. ويدل له أيضاً ما قاله ابن نجيم1 ونصه: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، ولهذا جوزت الإجارة على خلاف القياس للحاجة. ولذا قلنا: لا يجوز إجارة بيت بمنافع بيت لاتخاذ جنس المنفعة فلا حاجة، بخلاف ما إذا اختلف، ومنها ضمان الدرك2 جوز على خلاف القياس. ومن ذلك جواز السلم3 على خلاف القياس، لكونه بيع المعدوم دفعاً لحاجة المفاليس4 ومنها جواز الاستصناع للحاجة، ودخول الحمام مع جهالة مكثه فيها، وما يستعمله من مائها وشربة السقاء، ومنها الإفتاء بصحة بيع الوفاء حين كثر الدين على أهل بخارى وهكذا بمصر، وقد سموه بيع الأمانة والشافعية يسمونه الرهن المعاد5، فكلام ابن نجيم هنا ظاهر في أنه أطلق تنزيل الحاجة منزلة الضرورة سواء كانت عامة أو خاصة، والمعروف هو أنه إنما تنزل الحاجة منزلة

_ 1 هو: زين الدين بن إبراهيم بن محمد المشهور بابن نجيم، العالم الفقيه المصري، الحنفي، الأصولي، له مؤلفات تدل على عزارة علمه وتدقيقه، منها: الأشباه والنظائر في قواعد الفقه، ومنها في الأصول: شرح المنار، ولب الأصول، توفي سنة 970هـ. انظر: الفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/78، الأعلام للزركلي 3/104. 2 الدرك التبعة، وضمان الدرك هو أن يقول كفيل لمن يريد شراء سلعة أنا ضامن لك ثمن المبيع إن استحقه أحد، مع جواز أن يظهر استحاق بعضه أو كله. ووجه مخالفته للقياس هو أنه ضمان بالمجهول. انظر: فتح القدير شرح الهداية 7/181، والعناية بأسفله 7/182. 3 السلم بفتحتين السلف، وزناً ومعنى، والسلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز، وهو في اصطلاح الشرع بيع موصوف في الذمة إلى أجل معين بثمن معجل، وهو نوع من البيع، يعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع وينعقد بما ينعقد به. انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 4/428، المغني لابن قدامة 4/246. 4 جمع مفلس، وهو من لا فلوس له، لانتقاله من حال اليسر إلى حال العسر. انظر: المصباح المنير 2/137. 5 انظر: الأشباه والنظائر ص 91 - 92.

الضرورة إذا كانت عامة، ثم إن الأمثلة التي ذكرها لم تتضمن مثالاً يتضمن تنزيل الحاجة الخاصة منزلة الضرورة، كما أن الأمثلة التي مثل بها ما هو منصوص عليه كالسلم والإجارة وقد عد البعض هذا من الاستحسان بالنص، وذكر أمثلة اعتبرها البعض الآخر من باب الاستحسان بالإجماع كالاستصناع ودخول الحمام، والشرب من السقاء، وهذه أساس الفتوى فيها هو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، غير أنه أورد عليه أن الفتوى فيها كانت بعد تعارف الناس عليها فهي من العرف على هذا. وقد يجاب عنه: بأن بدأ العرف الخاص بها لا يمنع من صحة فتوى الفقيه بها، وعلى هذا فمن نظر إلى بدأ العمل بها قال: إن أساس الاستحسان فيها هو العرف، ومن نظر إلى صحة فتوى الفقيه بهذا العرف قبل أن يصير عرفاً عاماً وإجماعاً عملياً قال: إن أساس الاستحسان فيها هو المصلحة، ومن نظر إلى اتفاق المجتهدين أخيراً على جواز التصرف بهذا النوع قال: إن أساس الاستحسان فيها هو الإجماع، وعلى هذا فلا تناقض حيث إن كل واحد نظر في هذه التصرفات إلى مرحلة من مراحل العمل بها1. وأما الأخذ بالعرف في غير موضع النص، فإنما يرجع إلى اعتبار المصلحة؛ لأن الناس إنما تستقر أعرافهم وعاداتهم في معاملاتهم على أساس مصالح حياتهم ومعاشهم، فالأخذ به أخذ بالاستصلاح؛ لأنه من باب الأخذ بما شهدت له مقاصد الشرع وقواعده العامة، فلذا كان محل اعتبار من الأئمة بصفة عامة وأبي حنيفة بصفة خاصة، كما نقله عنه الموفق المكي، ولأن في الأخذ به رفقاً بالناس ويسراً ورفعاً للحرج. يقول البوطي: "والناظر أبداً في المعاملات من كتب الفقه الحنفية يجدها مملوءة بمسائل الاستصلاح باسم الاستحسان آناً، وباسم عرف الناس آناً أخر"2. فما أخذ به الأئمة من الاستحسان والعرف "يرجع في الواقع إلى استحسان

_ 1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 596 - 597، مع تصرف واختصار. 2 ضوابط المصلحة ص 383.

المصلحة إذ الفقهاء إنما يجمعون على صحة ما تعارف عليه الناس، لأن الحكم بصحته مصلحة تتفق مع تصرفات الشارع في الجملة"1. كما أن مستند الاستحسان في الواقع إنما هو رعاية المصلحة التي شهدت لها نصوص الشرع إما بشهادة نص معين، وإما بشهادة معقولة. وإما بشهادة جملة نصوص الشرع وقواعده العامة، لذا كان محل اعتبار من جميع الأئمة بصفة عامة، وأبي حنيفة بصفة خاصة. الدليل الثاني: إن الحنفية يشترطون في صلاحية الوصف لأن يكون علة أن يكون مناسباً وأن يكون مؤثراً في الحكم، ويعرفون التأثير بما يدخل المناسب المرسل في المؤثر عندهم، وعلى هذا فالمناسب المرسل معتبر عندهم وإن لم يصرحوا بذلك، فإذاً لا بد من بيان أقسام المرسل عندهم أولاً، ثم بيان ما فيه الخلاف من أقسامه وما ليس فيه خلاف، وما يلزم الحنفية قبوله فإلى ذلك. أما صاحب التحرير وشارحه فقد قسما المرسل إلى: ما علم إلغاؤه، وغريب وملائم، وذكرا أن الملغي والغريب مردودان اتفاقاً وأجريا لخلاف في الملائم، وبيناه بأنه هو ما علم فيه اعتبار جنس الوصف في عين الحكم، أو عين الوصف في جنس الحكم، أو جنس الوصف في جنس الحكم2. فهذا هو المرسل الملائم قالا: "وسنذكر أنه يجب من الحنفية قبول ملائم المرسل"، وأن اتفاق العلماء المذكور إنما هو رد ما علم إلغاؤه والغريب من المرسل3. فقد صرحا بأن ملائم المرسل هو المرسل، وأنه يجب من الحنفية قبوله وأن اتفاق العلماء إنما هو في رد الملغى والغريب من المرسل، ولذا قالا: فالتعليل بالمرسل تعليل بمصالح خاصة ابتداء اعتبرت في جنس الحكم الذي يراد إثباته

_ 1 نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 599. 2 انظر: التقرير والتحبير 30/150. 3 نفس المرجع السابق 3/151.

أو جنس المصلحة في عين الحكم، أو جنسه، لكن بشرط الضرورية والكلية فيها، على ما تقدم عند قائله أي المرسل وهو الغزالي. فإن قلت: المثال حنفي، والحنفي يمنع المرسل، فكيف يتم على قوله؟ قلنا: سبق أنه يجب القول بعملهم ببعض ما يسمى مرسلاً عند الشافعية، ويدخل ذلك في المؤثر عند الحنفية كما سيظهر1. ووجه دخوله في المؤثر هو أن المؤثر عند الحنفية هو - كما في مسلم الثبوت -: الوصف المناسب الملائم عند العقول الذي ظهر تأثيره شرعاً، بأن يكون لجنسه تأثير في عين الحكم كإسقاط الصلاة الكثيرة بالإغماء، فإن لجنسه الذي هو العجز عن الأداء من غير حرج تأثيراً في سقوطها كما في الحائض، أو في جنسه كإسقاطها عن الحائض بالمشقة وقد أسقطت مشقة السفر الركعتين، فقد أثر جنس المشقة في جنس السقوط أو بأن يكون لعينه تأثير في جنس الحكم كالأخوة لأب وأم في قياس التقدم في ولاية النكاح، وقد تقدم هذا الأخ في الميراث، فقد أثر في مطلق التقدم أو يكون لعينه تأثير في عينه، أي الحكم وذلك كثير في الأقيسة الجزئية2. "وإذا كان هذا هو معنى التأثير عند الحنفية فإن ملائم المرسل حجة عندهم، ذلك لأنهم عرفوا ملائم المرسل بأنه الوصف الذي لم يثبت الحكم معه في أصل ما، ولم يثبت بنص ولا إجماع اعتبار عينه في عين الحكم ولكن قام النص أو الإجماع على اعتبار وصف من جنسه في حكم من جنس الحكم الذي يوجهه، وكأن اعتبار الشارع للوصف الذي من جنسه في الحكم الذي من جنس حكمه اعتبار لجنس الوصف في جنس الحكم. وهذا التعريف لملائم المرسل يجعل شرط التأثير متوفراً فيه، ذلك أن الحنفية لا يطلبون في التأثير أن يدل النص أو الإجماع على أن عين الوصف مناط لعين الحكم فقط، بل يدخلون فيه دلالة النص أو الإجماع على أن جنس الوصف مناط ومؤثر

_ 1 انظر: التقرير والتحبير 3/156. 2 انظر: فوات الرحموت مع المستصفى 20/267.

في جنس الحكم، وذلك بالنص أو الإجماع على أن وصفاً من جنس الوصف مناط لحكم من جنس الحكم، وبعبارة أخرى فإن التأثير عندهم يشمل صورتين إحداهما دلالة النص أو الإجماع على أن وصفاً بعينه مناط لحكم بعينه وذلك ... كما في جعل الطواف بعينه مناطاً للطهارة بعينها. وثانيتهما: دلالة النص أو الإجماع على أن جنس الوصف مناط أو علة أو مؤثر في جنس الحكم، وذلك ليس بالنص على أن جنساً من الوصف مناط لجنس من الحكم، كأن يرد نص الشارع بأن المشقة موجبة لمطلق التخفيف أو أن المصلحة العامة مقدمة على الخاصة، وإلا اتحد مع القسم الأول وكان مما دل النص فيه على أن عين الوصف مناط لعين الحكم. وإنما مراد الأحناف بورود النص أو الإجماع أن جنس الوصف مناط لجنس الحكم أن ينص الشارع أو يقوم الإجماع على أن وصفاً مغايراً للوصف، ولكنه من جنسه مناط لحكم مغاير للحكم ولكنه من جنسه، وذلك لأنهم يعتبرون أن النص على أن نوعاً من الوصف مناط لنوع من الحكم دليل من الشارع على اعتبار أن جنس الوصف مناط لجنس من الحكم. وعلى هذا يكون ملائم المرسل علة توافر بالنسبة لها شرط التأثير الذي يلتزمه الحنفية في صحة العلل"1. وعلى هذا يكون الحنفية قائلين بالمرسل كما يقول به غيرهم أو يجب عليهم قبوله كما قال صاحب التحرير بأنه يجب على الحنفية قبوله فقال: "وما علم اعتبار أحدهما أي الجنس في الجنس وهو الملائم المرسل، وهو المسمى بالمصالح المرسلة، وسنرى أن الحنفية قبلوا القسم الأخير أي الملائم المرسل ... فاتفاقهم في نفي الأولين مما علم إلغاؤه هو والغريب"2. ويقول: وظهر أن المؤثر عند الحنفية أعم من المؤثر عند الشافعية، وهو ما

_ 1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 573 - 575. 2 انظر: التقرير والتحبير 3/150.

ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم، ومن الملائم الأول أي الذي هو من أقسام المناسب بأقسامه الثلاثة ... وما من المرسل أي وثلاثة أقسام الملائم المرسل، وهو ما لم يثبت العين مع العين في المحل، لكن ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عينه أو جنسه، فشمل المؤثر عند الحنفية سبعة أقسام في عرف الشافعية، إذ لم يقيدوا أي الحنفية الثلاثة التي هي تأثر الجنس في عين الحكم أو في جنسه، وتأثير العين في الحكم بوجود العين مع العين في المحل أي الأصل، وكذا تصريحهم أي الحنفية فيما تقدم أن التعليل بما اعتبر جنسه مقبول وقد لا يكون قياساً بأن لم يتركب مع أحد الأمرين أي العين أو الجنس في العين1. وأما صاحب مسلم الثبوت فيقول: وإن لم يعتبر "أي الوصف" أصلاً لا مع الحكم ولو في صورة ما ولا مؤثراً فيه، فهو المرسل، وينقسم إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لم يعلم، فإن لم يعلم فيه أحد اعتبارات الملائم من اعتبار نوعه أو جنسه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم فهو الغريب المرسل، وهو المسمى بالمصالح المرسلة حجة عند مالك ... وإن علم فيه ذلك أي أحد اعتبارات الملائم فهو المرسل الملائم قبله الإمام ونقل الشافعي وعليه جمهور الحنفية2. ويقول: فالمؤثر ثلاثة من الملائم وثلاثة من ملائم المرسل في عرف الشافعية كلها، مقبولة مؤثر عند الحنفية دون الغريب من المرسل لعدم ظهور تأثيره شرعاً3. فهذا يدل على أن ملائم المرسل يعد عند الحنفية من المؤثر الذي يعتبرونه حجة في بناء الأحكام عليه، وذلك لأن توفر شروط التأثير فيه يجعله علة معتبرة عندهم.

_ 1 انظر: التقرير والتحبير 3/159. 2 انظر: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت مع المستصفى 2/266. 3 انظر: المرجع السابق 2/266.

فعلى هذا يكون الوصف المرسل عندهم حجة وإن كان صاحب مسلم الثبوت اعتبر المرسل هو الغريب وجعل الخلاف حاصلاً فيه، ونسب إلى مالك القول به غير أن ما ذكره من أن مالكاً رحمه الله يعتبر الغريب حجة غير صحيح لما تقدم من بيان أن الذي قال به مالك إنما هو ملائم المرسل، أما الغريب فقد صرح المالكية بأنه مردود اتفاقاً؛ لأن اعتباره يعد قولاً بالتشهي وتشريعاً بالهوى1. الدليل الثالث: أمثلة فقهية من فقه السادة الأحناف، اعتمدوا في الأخذ بها على الاستحسان والعرف مستندين إلى الأخذ بالمناسب المرسل. 1 - ما جاء في الدر مختار من قول أبي حنيفة بعدم قبول توبة الزنديق إذا تاب بعد القبض عليه، قال: "إذا أخذ الساحر أو الزنديق المعروف قبل توبته ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل". وعلق ابن عابدين2 على ذلك قائلاً: "وهو قياس قول أبي حنيفة، وهو حسن جداً"3. 2 - تضمن الأجير المشترك: وإن لم يخالف عمله ما اتفق عليه مع المؤجر إلا ما هلك تحت يده بغير فعله كموت وسرقة ونحوهما، ولكن لا يصدق على دعوى ذلك إلا ببينة يقيمها. قال شمس الأئمة السرخسي: "لو كان الراعي مشتركاً يرعى لمن يشاء على قول أبي حنيفة رحمه الله هو ضامن لما يهلك بفعله من سباق أو سعي، أو غير ذلك، لأن الأجير المشترك ضامن ما حنت يده، وإن لم يخالف في إقامة العمل

_ 1 انظر: الاعتصام للشاطبي 2/115، والمختصر مع شرحه وحاشية السعد 2/242. 2 هو: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم المعروف بابن عابدين، ولد بدمشق سنة 1198هـ الحنفي العلامة، اشتغل بالتدريس والتصنيف حتى صار يشار إليه بالبنان، له مؤلفات كثيرة منها في الفقه: رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار وغيره، وفي أصول الفقه: شرح المنار، توفي سنة 1252هـ. انظر: الفتح المبين 3/147 - 148. 3 انظر: الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3/458 - 459.

ظاهراً كما في القصار إذا دق الثوب فتخرق"1. فتضمين الأجير المشترك قول بالاستدلال المرسل رعاية لمصلحة الناس فيما يلحقهم من الضرر بفوات أموالهم إذا لم يضمن الأجير المشترك، إذ الأصل أنه مؤتمن، وإذا علم أنه لا يضمن ما أدعى تلفه، سهل عليه دعوى ذلك، وترك الاستئجار يلحق بالناس الضرر والحاجة، فكان القول بتضمين الأجير المشترط مصلحة مستحسنة اعتبرتها قواعد الشرع ونصوصه في الجملة. ولذا قال صاحب بدائع الصنائع: "وأما على أصليهما - يعني أبا يوسف2، ومحمد بن الحسن - فلأن وجوب الضمان في الأجير المشترك ثبت استحساناً صيانة لأموال الناس"3. 3 - "إن أبا حنيفة قال: إذا شهدت أربعة على رجل بالزنا، ولكن عين كل واحد غير الجهة التي عينها الآخر، فالقياس أن لا يحد، ولكن استحسن الحد4. قال صاحب البداية: "وإن اختلفوا في بيت واحد - يعني شهود الزنا - حد الرجل والمرأة". قال صاحب الهداية5 موضحاً ذلك: "معناه أن يشهد كل اثنين على الزنا

_ 1 انظر: المبسوط 15/161، وضوابط المصلحة ص 384. 2 هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، المكنى بأبي يوسف، الملقب بالقاضي، صاحب الإمام أبي حنيفة وراوية مذهبه، الإمام المجتهد، ولد سنة 113هـ، وقد خالف إمامه في بعض المسائل، من تلاميذه محمد بن الحسن الشيباني والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وغيرهم، تولى القضاء والتدريس، له مؤلفات منها: كتاب الخراج، توفي سنة 182هـ. الفتح المبين 1/109. 3 انظر: بدائع الصنائع 4/211. 4 انظر: الاعتصام 2/140. 5 هو: برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيثاني، المكنى بأبي الحسن الحنفي الفقيه، صاحب كتاب الهداية شرح البداية والمنتقى وغيرهما، كان حافظاً مفسراً محققاً أديباً، عد من المجتهدين، ولد سنة 530هـ وتوفي سنة 593هـ. انظر: الأعلام للزركلي 5/73، تعليق د. عبد العزيز القاري على الفكر السامي 2/182، أسماء الكتب المتمم لكشف الظنون لعبد اللطيف رياض زاده ص79 - 80.

في زاوية وهذا استحسان، والقياس أن لا يجبي الحد، لاختلاف المكان حقيقة، وجه الاستحسان التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب "ولأن الواقع في وسط البيت فبحسبه من في المقدم في المقدم ومن في المؤخر في المؤخر، فيشهد بحسب ما عنده"1. 4 - ما جاء في البحر من "رواية أبي عصمة2 عن الإمام - أبي حنيفة - أنه يجوز دفع الزكاة لبني هاشم في زمانه، لأن عوض الزكاة وهو خمس الخمس لم يصل إليهم لإهمال الناس أمر الغنائم وإيصالها إلى مستحقيها وإذا لم يصل إليهم العوض عادوا إلى المعوض"3. ودفع الزكاة لبني هاشم مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تحل لهم4 وكان القول بذلك اعتماداً على دفع حاجة الفقر عنهم وسد خلة المحتاج منهم، وسد خلة المحتاج مصلحة شهدت لها نصوص الشرع وقواعده العامة. وأما أمثلة العرف فكثيرة جداً، وقد تقدم أن الحنفية اعتبروا الأخذ بالعرف قاعدة لتفريع الأحكام. ومما يدل على ذلك أن ابن عابدين وطأ لذكر بعض المسائل المخرجة على العرف بما نقله عن البحر ونصه "قال: الأحكام تنبني على العرف فيتعبر في كل أقليم عرف أهله"5. ثم أوضح ابن عابدين ذلك بأن قال: "المسائل الفقهية الثابتة بالاجتهاد والرأي كثير منها يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان

_ 1 انظر: الهداية مع شرحه وحواشيه 5/286. 2 هو: نوح بن أبي مريم أبو عصمة، الفقيه القاضي بمرو، لقب بالجامع، لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن الحجاج بن أرطأة والمغازي عن ابن إسحاق والتفسير عن مقاتل، وهو متروك الحديث، قاله في العبر. انظر: شذرات الذهب 1/283. 3 انظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق 2/266. 4 انظر: سنن أبي داود 1/384. 5 انظر: رد المختار 5/188.

العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً، ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، ولحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ورفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام، ولهذا نرى مشائخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه. فمن ذلك إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه، لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة أو صنعة يلزم ضياع القرآن والدين، فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان كذلك مع أنه مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن وغير ذلك"1، وهذا يدل على ما يأتي: 1 - إنه اعتبر العرف أصلاً تبنى عليه الأحكام ولذا قال: "فيعتبر في كل أقليم عرف أهله" وهذا صريح في اعتبار العرف أصلاً تبنى عليه الأحكام، وهو صريح في اعتبار المصالح، ومعلوم أن اعتبار العرف يكون حيث وجدت المصلحة، واعتبرتها نصوص الشرع وقواعده العامة وإن لم يشهد لها نص معين، وهذا هو الاستدلال المرسل، الذي أخذ به جميع الأئمة سواء سمي باسم المرسل أم باسم القياس أم باسم الاستحسان والعرف. 2 - ذكر أن كثيراً من مسائل الفقه بناها المجتهد على العرف في زمنه وأنه لو كان في الزمن الذي حدث بعده لقال بخلاف ما قال به أولاً واستدل على ذلك

_ 1 انظر: رسال ابن عابدين ص 125 - 126.

بأن المصلحة وحفظ نظام العالم يقتضي ذلك، لتغير أهله وفسادهم، وأن مراعاة ذلك هو مقتضى ما جاءت به الشريعة من التيسير والسهولة ودفع الضرر والفساد واعتبار مثل هذا هو عين الأخذ بالاستدلال المرسل. 3 - أوضح ذلك بالأمثلة التي ساقها كالاستئجار على تعليم القرآن وعلى الأذان والصلاة بالناس، وبين أن ذلك وإن كان مخالفاً لما اتفق عليه الإمام وصاحباه على منع أخذ الأجرة عليها كبقية العبادات، إلا أن حاجة حفظ الدين بإقامة تلك الشعائر وحفظ قوام حياة القائم بها ومن يعوله اقتضى ذلك. وهذا لا يبقى معه مجال للشك في أن أبا حنيفة وأتباعه رحمهم الله يعتبرون الاستدلال بالمرسل أصلاً تبنى عليه الأحكام وتفرع عليه الفروع، وما ذكرته قليل من كثير كما قال ابن عابدين فإنه بعد ذكر الأمثلة التي نقلت عنه وغيرها قال: وهي كثيرة جداً لا يمكن استقصاؤها1. وحيث إنه ليس من موضوعي استقصاؤها فإنني أكتفي بما ذكرته كدليل على اعتبار الأحناف للمناسب المرسل أصلاً تبنى عليه الأحكام وأن الأخذ به لا يعد أخذاً بالرأي المجرد عن الدليل، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: رسائل الإصلاح لابن عابدين 2/127.

الفصل الثامن: في رأي الغزالي في قبول المرسل

الفصل الثامن: في رأي الغزالي في قبول المرسل ... الفصل الثامن في رأي الغزالي وبيان وجه قبوله للمرسل إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية وهو كما تقدم اختيار البيضاوي. وقبل عرض ما استدل به الغزالي على ما ذهب إليه لا بد من بيان تحديد ما اعتبره من المرسل، وما لم يعتبره على ما ذكره هو بنفسه لا ما نقل عنه، وذلك لأن الغزالي - رحمه الله - اختلفت مناهجه في كتبه: المستصفى وشفاء الغليل والمنخول، وليس من همي ذكر تلك المناهج وبيان وجه الخلاف، والوفاق بينها، وإنما الذي يهمني إنما هو مذهبه في المرسل ودليل اعتباره لما اعتبره منه، فأقول: مهد الغزالي لاعتبار المرسل في كتابه المستصفى بذكر أقسام المصلحة، بالإضافة إلى شهادة الشرع لها، فذكر أقسامها الثلاثة: ما شهد الشرع باعتباره، وما شهد الشرع برده، وما سكتت عنه شواهد الشرع بالاعتبار والرد1. ثم قال في الثالث: "وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيماً آخر وهو: أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى: ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي في رتبة الحاجيات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد عن رتبة الحاجات2. ثم بين أنه يعني "بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهي: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم، وما لهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة، فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول، فهو مفسدة ودفعها مصلحة3. ثم قال: "فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول: الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا

_ 1 انظر: المستصفى 1/284 فما بعدها. 2 انظر: المستصفى 1/286. 3 انظر: المستصفى 1/287.

يجوز الحكم بمجرده، إن لم يعتض بشهادة أصل، إلا أنه يجري مجرى الضرورات، فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشرع الشرع بالرأي، فهو كالاستحسان، فإن يعتضد بأصل، فذاك قياس، وأما الواقع في رتبة الضرورات، فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين"1. ثم مثل للمصلحة الضرورية بالمثال الذي نقله عنه الأصوليون وهو "أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ويقتلون الأسارى أيضاً2. ثم بين أن حفظ جميع المسلمين أو أكثرهم مصلحة ضرورية، وأنه أقرب إلى مقصود الشرع، فقال: "لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإذا لم نقدر على الحسم، قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتاً إلى مصلحة علم بالضرورة، كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر3. ثم قال: "فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أو صاف: أنها ضرورية قطعية كلية". ثم أوضح محترزات المثال الذي مثل به عما لم يكن ضرورياً ولا قطعياً ولا كلياً، حيث قال: "وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فبنا غنية عن القلعة فنعدل عنها، إذا لم نقطع بظفرنا بها، لأنها ليست قطعية بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة، لو طرحوا واحداً منهم لنجوا، وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليس كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور،

_ 1 انظر: المستصفى 1/293 - 294. 2 المرجع السابق 1/294. 3 المرجع السابق 1/295.

وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق، إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحداً بالقرعة، لنجوا، فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية"1. وعلى أساس ما ذكره هنا اختلفت آراء الأصوليين في مذهبه المرسل، فذهب كثير منهم إلى أن الغزالي لا يقبل من المرسل إلى ما كانت المصلحة فيه ضرورية قطعية كلية، أخذاً من كلامه هنا في المستصفى. وممن ذهب إلى هذا العضد في شرحه لمختصر ابن الحاجب والكمال بن الهمام في التحرير وغيرهما واختاره البيضاوي في المنهاج2. وذهب ابن السبكي إلى أن الغزالي إنما اشترط في المصلحة أن تكون ضرورية قطعية كلية لإخراجها عن محل النزاع، وبيان أنّ مثل هذه المصلحة يجب أن يكون محل اتفاق أما ما لم تكن ضرورية قطعية كلية، فهي التي فيها الخلاف بين العلماء. قال: "وليس منه - أي المناسب المرسل - مصلحة ضرورية كلية قطعية، لأنها مما دل الدليل على اعتبارها قطعاً، واشترطها الغزالي للقطع بالقول به لا لأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع3. وعلق البناني على ابن السبكي بقوله: "الذي يفيده صنيع المصنف، بل تكاد أن تصرح عبارته به أن الغزالي قال بالمرسل إن لم تكن المصلحة بالصفات المذكورة، إذ لو كان مذهب الغزالي أنه لا يقول بالمرسل إلا إذا كانت المصلحة بتلك الصفات، لكان سياق الحكاية عنه أن يقول: وقبله الغزالي إذا كانت المصلحة ضرورية الخ. وأما قول الشارح فجعلها منه مع القطع بقبولها فمعناه أن كون المصلحة

_ 1 المستصفى 1/296. 2 انظر: شرح المختصر مع حاشية السعد 2/242، والتحرير مع شرحه التقرير والتحبير 3/139، المنهاج مع شرحيه نهاية السول والمنهاج 3/135، ونهاية السول 3/136، والأحكام 4/140. 3 انظر: جمع الجوامع مع شرحه وحاشية البناني 2/284.

بتلك الصفات لا يخرجها عن الإرسال، وهذا لا يفهم منه عدم قوله بالمرسل، إذا لم تكن المصلحة بتلك الصفات قطعاً. وليس معناه أنه جعل المرسل ما كانت فيه المصلحة بتلك الصفات حتى يفهم منه عدم القول به إذا لم تكن كذلك1. فعلى هذا فإن الشروط الآنفة الذكر، التي اشترطها الغزالي في اعتبار المصلحة حجة لا تعني أنه لا يأخذ بالمرسل، إلا إذا كانت المصلحة متصفة بتلك الشروط، ومما يدل على هذا أن الغزالي - رحمه الله - لم يحصر اعتباره للمصلحة المرسلة في كتابه شفاء الغليل على المصلحة الضرورية فقط، بل صرح فيه بقبوله للمصلحة الحاجية أيضاً، فهو يقول: "وأما الواقع من المناسبات في رتبة الضرورات أو الحاجيات، كما فصلناها فالذي نراه فيها أنه لا يجوز الاستمساك بها، إن كان ملائماً لتصرفات الشرع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريباً لا يلائم القواعد2. فهو هنا لم يعرج على اشتراط كون المصلحة ضرورية قطعية كلية، فالذي يقتضيه كلامه هنا أنه قائل بكل من المصلحة الضرورية والحاجية مطلقاً سواء كانتا عامتين أو غالبتين أو خاصتين، لكنه اشترط لذلك أن لا يكون الوصف غريباً وأن لا يصادم نصاً فيتعرض له بالتغيير. وقد صرح بهذا بعد ذكره لأقسام المصلحة باعتبار كونها ضرورية وحاجية وتحسينية، فقال: "وتنقسم قسمة أخرى بالإضافة إلى مراتبها في الوضوح والخفاء: فمنها ما يتعلق بمصلحة عامة في حق الخلق كافة، ومنها ما يتعلق بمصلحة الأغلب، ومنها ما يتعلق بمصلحة شخص معين في واقعة نادرة، وتتفاوت هذه المراتب بتفاوت مصالحها في الظهور كل ذلك حجة بشرط أن لا يكون غريباً بعيداً وبشرط أن لا يصادم نصاً ولا يتعرض له بالتغيير"3. وصرح بأن المصلحة التحسينية لا يجوز التمسك بها ما لم يشهد لها نص معين، يشهد لعين المصلحة حتى يكون العمل بها من باب القياس على الأصل

_ 1 انظر: حاشية البناني على المحلى 2/285. 2 انظر: شفاء الغليل ص 209. 3 انظر: شفاء الغليل ص210 - 211.

الذي يشترك مع الفرع في العلة وينتقل منه إلى الفرع نوع الحكم، لا حكم عن جنسه حيث قال بعد أن ذكر انقسام المصلحة إلى: ضرورية، وحاجية، وتحسينية، فالواقع منها في هذه الرتبة الأخيرة لا يجوز الاستمساك بها ما لم يعتض بأصل معين، ورد من الشرع الحكم فيه على وفق المناسبة، فأما إذا لم يرد من الشرع حكم على وفقه، فاتباعه وضع للشرع بالرأي والاستحسان، وهو منصب الشارعين لا منصب المتصرفين في الشرع1. وواضح من هذا أنه قائل بكل مصلحة ما لم تكن تحسينية، وأن الشرط المهم هو كون المصلحة ملائمة لتصرفات الشارع، وأن لا تصادم نصاً، أما الغريبة والمصادمة للنص، فلا يعمل بها. ومما يدل على هذا أنه ذكر في كتابه المنخول "إن أصول الشريعة شاهدة له على الإجمال، وإن لم تتعين قطعاً"2. ومعلوم أن شهادة الأصول على الإجمال هي غير شهادة الأصول على التعيين. وهذه الشهادة هي المعبر عنها بالملاءمة، وذكره لها هنا غير مقيد بشرط كونها ضرورية قطعية كلية، أو حاجية، أو غالبة، أو جزئية، دليل على اعتباره للمرسل ما لم تكن المصلحة فيه تحسينية كما صرح به قبل، وعلى هذا لا يكون فيه فرق بين مذهبه، ومذهب غيره من الشافعية3. فالحاصل أن الغزالي قائل بكل مصلحة مرسلة إذا كانت ضرورية أو حاجية، ونعني بالضرورية إذا كانت متعلقة بإحدى الضروريات الخمس كما في مسألة الترس، ولكنه يشترط في قبولها أن تكون ملائمة لجنس تصرفات الشارع حتى يمكن اعتبارها حجة، وأن لا تصادم نصاً شرعياً. وهذا في الحقيقة ليس

_ 1 انظر: المنخول ص 361. 2 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 368. 3 انظر: رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 368.

شرطاً في كونها مرسلة، ولا شرطاً زائداً في قبول الاحتجاج بها؛ لأن المصلحة المناقضة للشرع مصلحة ملغاة، ولذا فهو يقول: "كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع، لا يرده أصل مقطوع به مقدم عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، فهو مقول به، وإن لم يشهد له أصل معين"1. فالمصلحة عنده راجعة إلى مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، يدل لهذا قوله: "فإن قيل: قد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح، ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة، فليلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلاً خامساً بعد الكتاب والسنة، والإجماع والعقل. قلنا: هذا من الأصول الموهومة، إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجاً عن هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياساً، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات، تسمى لذلك مصلحة مرسلة"2. فالمصلحة على هذا عنده ليست دليلاً زائداً على الكتاب والسنة والإجماع، بل طريق من طرق الاستدلال التي تعتمد على النصوص. وإذا أريد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع فهي حجة قطعية لا ينبغي

_ 1 انظر: المنخول ص 364. 2 انظر: المستصفى 1/310 - 311.

الخلاف فيها بين العلماء، وإذا ثار خلاف بينهم بشأنها فهو خلاف يرجع إلى تطبيق الأصل لا إلى أصل صحة الاحتجاج به، والرجوع إليه1. يقول الغزالي: "وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقاصد الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى" 2. ولما كان مقتضى ما ذهب إليه من قبول المصلحة إذا كانت ضرورية أو حاجية، يوهم اتفاقه مع مالك رحمه الله حيث إنهما اتفقا في قبولها وفي كون كل منهما يشترط في قبولها أن تكون ملائمة لتصرفات الشرع بدخولها تحت قواعده العامة، وأن لا تصادم نصاً من كتاب أو سنة أو إجماع فقد أجاب ببيان الفرق بينه وبين مالك رحمهما الله بقوله: "الفرق بيننا أننا نبهنا لأصل عظيم لم يكترث مالك به، وهو أنا قدمنا إجماع الصحابة على قضية المصلحة، وكل مصلحة يعلم على القطع وقوعها في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وامتناعهم عن القضاء بموجبها، فهي متروكة، ونعلم على القطع أن الأعصار لا تنفك عن السرقة، وكان ذلك يكثر في زمن الصحابة، ولم يعزوا بالتهمة، ولم يقطعوا قط لساناً في المهذر مع كثرة المهذران ولا صادروا غنياً مع كثرة الأغنياء ومسيس الحاجة، وكل ما امتنعوا عنه نمتنع عنه، ومالك لم يتنبه لهذا الأصل"3. فالفرق إذاً بينهما هو أن الغزالي يشترط في المصلحة المرسلة أن تكون حديثة بمعنى أنه لم يقع مثلها في زمن الصحابة رضي الله عنهم من غير أن يشرعوا حكماً على وفقها، وأما مالك فلم يشترط ذلك، وبهذا يتضح أن الغزالي قال بالمرسل ما لم تكن المصلحة فيه تحسينية، شأنه في ذلك شأن غيره من الأئمة، والله تعالى أعلم. والآن ننتقل إلى عرض أدلته على اعتبار المرسل.

_ 1 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 425. 2 انظر: المستصفى 1/311. 3 انظر: المنخول ص 366.

أدلة اعتبار الغزالي للمرسل: استدل الغزالي على اعتبار المرسل فيما إذا لم تكن المصلحة فيه تحسينية، وتوفرت فيه الشروط المتقدمة، وهي كونه ملائماً لتصرفات الشارع، وأن لا يعارض نصاً، وأن تكون المصلحة حديثة لم يتقدم مثلها في زمن الصحابة رضي الله عنهم بدليلين: أحدهما: الدليل على إثبات القياس، وهو إجماع الصحابة على القول بالقياس، ومستندهم في الإجماع أمران: الأول: علمهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، ومقاصد الشرع في مراعاة المعاني والأسباب من حيث بناء الأحكام عليها، كما في حديث "أنها من الطوافين عليكم" 1، فقد رتب طهارة سؤر الهرة على سبب هو كثرة تطوافها علينا، ومخالطتها لنا. الثاني: إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في بناء الأحكام على المعاني التي يفهمونها من أدلة الشرع كما في إقراره لمعاذ رضي الله عنه على الاجتهاد حيث قال له: أجتهد رأيي" والاجتهاد هو استنباط الأحكام واستخراجها على ما فهموه من معاني النصوص2. قال الغزالي: "فإن قال قائل: لم قلتم إن هذا الجنس حجة؟ وما وجه التمسك به؟ وما الدليل عليه؟ وقد اضطربت فيه مسالك العلماء، وقد قطعتم القول بقبوله؟ قلنا إنما دلنا عليه ما دلنا على قبول أصل القياس3، فإنا بينا أن حاصل ذلك كله راجع إلى القول بالرأي الأغلب في فهم مقاصد الشرع.

_ 1 ابن ماجه 1/131، أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18. 2 انظر تفاصيل ذلك في رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 279. 3 استدل الغزالي على قبول القياس بأمرين: أحدهما: أن مستند القول بالقياس إجماع الصحابة، والمنقول عنهم التعليل بالمعاني الملائمة، دون المناسبات الغريبة التي لا نظير لها في الشرع. الثاني: أن نكشف عن مستند المستند فنقول: حكم الصحابة بالرأي والقياس لا من تلقاء أنفسهم، بل فهموا من مصادر الشرع وموارده ومداخله وأحكامه ومجاربه ومباعثه - أنه عليه السلام - كان يتبع المعاني ويتبع الأحكام الأسباب المتقاضية لها من وجوه المصالح، فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك، ثم فهموا أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه، كقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: (بم تحكم؟) ، وتقريره على قوله: (أجتهد رأيي) ا. هـ من شفاء الغليل ص 190 - 191.

وإلى هذا يرجع ما يجوز التمسك به، وكل مثال نذكره ففيه دليل على قبوله إذا أظهرنا وجه الرأي فيه، ويشهد على جنس ذلك أمر كلي، وهو مثال منقول عن الصحابة واشتهر بين أئمتهم وتطابقوا عليه، وذلك ما روي عن أناس لما تتابعوا في شرب الخمر واستخفوا الحد المشرع فيه، جمع عمر رضي الله عنه الصحابة، واستشارهم واستطلع آراءهم، فضربوا فيه بسهام الرأي حتى قال علي رضي الله عنه: من شرب سكر، ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه حد المفتري1. فأخذوا بقوله واستصوبوه واستمروا عليه، وهذه هي المصلحة المرسلة التي يجوز اتباع مثلها"2. وقال في موضع آخر: "فإن الفتوى بالمصلحة اجتهاد، وقد قال معاذ رضي الله عنه: "أجتهد رأيي"3. وقال: "وعلى الجملة المفهومة من الصحابة اتباع المعاني، والاقتصار في درك المعاني على الرأي الغالب دون اشتراط درك اليقين، فإنهم حكموا في مسائل مختلفة بمسالك متفاوتة الطرق، ومتباينة المناهج لا يجمع جميعها إلا الحكم بالرأي الأغلب والأرجح، وهو المراد بالاجتهاد الذي قرر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً عليه، فعلينا أن نتبين أن هذا يفيد غلبة الرأي"4. فاتباع الصحابة للمعاني المأخوذة من نصوص الشرع يفيد حصول الظن الغالب بدرك الأحكام منها، وذلك هو معنى الاجتهاد الذي أقر النبي صلى الله عليه وسلم عليه

_ 1 أبو داود 2/475، ولفظه: "عن علي أن الرجل إذا شرب افترى، فأرى أن تجعله كحد الفرية". ولفظ مسلم: عن عبد الرحمن بن عوف "أرى أن تجعلها كأخف الحدود"، صحيح مسلم 5/125. 2 انظر: شفاء الغليل ص 211 - 212. 3 انظر: شفاء الغليل ص 221، والحديث أخرجه أبو داود 2/472. 4 انظر: شفاء الغليل ص 195.

معاذاً رضي الله عنه، والاجتهاد معنى عام شامل لاستنباط الأحكام بطريق القياس، كما يشمل استنباطه بطريق فهمه من مقاصد الشرع، والنظر في أدلته الإجمالية، وهذا هو المعبر عنه بالمصلحة المرسلة، وكلا الأمرين مفيد للحكم. ولذا أجمع الصحابة على العمل بها اعتماداً على الإذن لهم في الاجتهاد الشامل بها، ويدل لهذا ما صرح به الغزالي ونصه: "إن معاذ بن جبل قال: "أجتهد رأيي" حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإن عدمت النص"؟ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإعدام النص يشعر بإعوازه، وإعوازه المفهوم عنه، واجتهاد الرأي مشعر باتباع قضية النظر في المصلحة، ولم يكلفه الشارع ملاحظة النصوص معه"1. الثاني: قال الغزالي: "وكون هذه المعاني عرفت بلا دليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، وتفاريق الأمارات، تسمى لذلك مصلحة مرسلة. وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى"2. وما ذهب إليه هنا من أن اعتبار المصلحة المرسلة عرف لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة، وأن ذلك يفيد القطع، هو ما ذكره الشاطبي أيضاً على ما سنقرره قريباً، ولعل الشاطبي اتبع الغزالي في حيث قال: "إنما الأدلة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد، حتى أفادت فيه القطع، فإن للإجماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه. فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم، فهو الدليل المطلوب، وشبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه،

_ 1 انظر: المنخول ص 358، والحديث أخرجه أبو داود في سننه 2/272. 2 انظر: المستصفى 1/311.

وجود حاتم1، المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما2. ثم مثل لذلك بقوله: "فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد، ولو استندت إلى شيء معين، لوجب عادة تعيينه، وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك، لأن محلّ واحد منها بانفراده ظني، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي وغيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد، وإن كان الظن يختلف باختلاف أحوال الناقلين، وأحوال دلالات المنقولات، وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه، وكثرة البحث وقلته إلى غير ذلك"3. ثم استدل على صحة هذا بالتمثيل لها بقوله: "فالنفس نهى عن قتلها، وجعل قتلها موجباً للقصاص متوعداً عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك، كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجب الزكاة والمواساة، والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفيه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف إلى هذا"4.

_ 1 هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن حزم الطائي الفارسي الجواد المشهور، أحد شعراء الجاهلية، يكنى أبا عدي، وأبا سفانة، - بقتح السين وتشديد الفاء - ابنه عدي أدرك الإسلام وأسلم، وأتي بابنته سفانة مسبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفت أباها بأنه كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، رجاء أن يخلي سبيلها، فخلى سبيلها. قال الزركلي مات سنة 46، ورمز بحرف (ق) . انظر: الأعلام 2/151، وخزانة الأدب للبغدادي 1/494. 2 انظر: الموافقات 1/36. 3 انظر: الموافقات 1/38. 4 انظر: الموافقات 1/39.

ثم أوضح أن هذا يدل على اعتبار المصلحة المرسلة، مما يدل أنه تبع فيه الغزالي حيث قال: "وينبني على هذه المقدمة أن كل أصل شرعي لم يشهد له أصل معين، وكان ملائماً لتصرفات الشارع، ومأخوذاً معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به، لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها، كما تقدم، لأن ذلك كالمتعذر، ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين، فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين، وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما أنه قد يكون مرجوحاً في بعض المسائل، حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح"1. وواضح من كلام الشاطبي هنا أنه يسير على نهج الغزالي، إذ أن ما ذكره هنا لا يعدو أن يكون كالشرح لما ذكره الغزالي، ولا يهمني هنا بيان وجه الخلاف والوفاق بينهما في الطريقة التي سلكاها في هذا الموضوع، وإنما الذي يهمني هو أنهما اتفقا على أن اعتبار المصلحة المرسلة ثابت بالاستقراء من أدلة الشرع في الجملة بما يشبه التواتر المعنوي، حيث شهدت لها أصول الشريعة وقواعدها العامة، وإن لم يشهد لاعتبارها نص معين. وعلى هذا يكون الغزالي قائلاً بالمرسل ما لم تكن المصلحة فيه تحسينية، شأنه في ذلك شأن غيره من الأئمة إلا ما تقدم أنه يشترط في المصلحة أن تكون حديثة بمعنى أنه لم يقع مثلها في زمن الصحابة رضي الله عنهم ... الخ. ولذا فهو يقول: "كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع لا يرده أصل مقطوع به، مقدم عليه من كتاب أو سنة أو إجماع، فهو مقبول وإن لم يشهد له أصل معين"2، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: الموافقات 1/39 - 40. 2 انظر: المنخول ص 364.

الفصل التاسع: في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع

الفصل التاسع في أدلة مذهب الطوفي فيما ذهب إليه من تقديم المصلحة على النص والإجماع تميهد تقدم أن القائل بهذا المذهب هو الطوفي1 - رحمه الله - وأنه قائل بالمناسب المرسل، بل وبالمصلحة مطلقاً حتى لو عارضت النص والإجماع، ذلك أن الطوفي يرى أن المصلحة دليل شرعي مستقل عن النصوص الشرعية، فهي في نظره لا تحتاج إلى شهادة أصل لها بالاعتبار، وإنما تعتمد على حكم العقل أخذاً من العادات والتجارب. ولذا فهو يقول: "إن الله عز وجل جعل لنا طريقاً إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مبهم "يعني النصوص الشرعية" يحتمل أن يكون طريقاً إلى المصلحة، أو لا يكون"2. ويقول: "ولا يقال أن الشرع أعلم بمصالحهم، فلتأخذ من أدلته.. "لأن"

_ 1 هو: الربيع بن سليمان بن عبد الكريم بن سعيد الملقب بنجم الدين الطوفي، نسبة إلى طوفى، قرية من سواد العراق، كان الطوفي ذا ذكاء شديد وقوة حافظة ومعروف بحرية الرأي، وكان فققيهاً حنبلياً، ثم رمي بالتشيع بل وبالرفض حتى نقل عنه من شعره قوله: حنبلي رافضي ظاهري ... أشعري إنها إحدى العير وقد اختلف الكتاب في عقيدته ومذهبه: فمنهم المدافع عنه كالدكتور مصطفى زيد في رسالته المصلحة في التشريع الإسلامي. ومنهم الحامل عليه كالدكتور محمد سعيد البوطي في رسالته ضوابط المصلحة. فمن أراد الاطلاع على ما كتبناه عنه، فليرجع إلى الكتابين المذكورين. أما ثروته العلمية فهي كثيرة حيث أوصلها الدكتور مصطفي زيد إلى اثنين وأربعين مؤلفاً، صنفها في القرآن، وأصول الدين، والفقه، وأصول الفقه، واللغة والأدب، وغيرها، ومن مؤلفاته في الأصول: مختصر الروضة وشرحه، وغيرهما، ولد الطوفي سنة 675هـ على ما رجحه صاحب رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي، وتوفي سنة 716هـ. انظر: طبقات الحنابلة 2/746، والدرر الكامنة 2/154، وشذرات الذهب 6/39 نقلاً عن المصلحة في التشريع الإسلامي ص 67 فما بعدها. 2 انظر: شرح الأربعين النوويية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 233.

هذا إنما يقال في العبادات التي تخفي مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا دليل الشرع متقاعداً عن إفادتها، علمنا أنا أحلنا في تحصيلها على رعايتها"1. ومن هنا كان الطوفي مخالفاً لجميع من قالوا باعتبار المصلحة دليلاً شرعياً؛ لأن القائلين باعتبارها دليلاً شرعياً صرحوا بأنها لا تعتبر إلا إذا شهدت لها نصوص الشرع بالاعتبار، وذلك بملاءمتها لتصرفات الشرع في الجملة. وعلى هذا فهم إنما يستدلون بمعقول النصوص الشاهدة لها باعتبار في الجملة فالمصلحة عندهم إنما تستمد حجيتها من نصوص الشريعة. أما الطوفي فقد ظهر من النصين السابقين أنه يرى استقلال العقل بإدراك المصلحة، بل ويرى تقديمها على النص والإجماع، لأنها أقوى منهما في نظره، إذ يقول - بعد حصره لأدلة الشرع في تسعة عشر دليلاً - "وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما: أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نزاع، إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي: النص والإجماع، ورعاية المصلحة المستفادة، من قوله عليه الصلاة والسلام "لا ضرر ولا ضرار" 2، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الإفيئات عليهما، والتعطيل لهما"3. لكن كيف يتفق هذا مع ما ذكره من اهتمام الشارع بها جملة وتفصيلاً، واستدلاله على ذلك من جهة الجملة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} 4.

_ 1 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 240. 2 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122. 3 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 209. 4 سورة يونس آية: 57 - 58.

ويوضح وجه دلالة الآيتين على ذلك بالوجوه التي ذكرها، مقرراً بعدها أن الشرع راعى مصلحة المكلفين، واهتم بها، وإنا لو استقرينا أدلة الشرع لوجدنا على ذلك أدلة كثيرة، ثم لا يكتفي بهذا القدر من الاستدلال على اهتمام الشارع برعاية المصلحة، بل يعود مرة أخرى ويقرر أن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد تفضلاً منه على خلقه، واجبة عليه بالتفضل، لا بالوجوب عليه، وإنه حيث راعى مصالحهم راعى في كل محل ما يصلحهم، وينتظم به حالهم، ويخلص من تفصيل الاستدلال على ذلك إلى أنه "من المحال أن يراعى الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم، ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أعم فكانت بالمراعاة أولى، لأنها أيضاً من مصلحة معاشهم، إذ بها صيانة أموالهم، ودمائهم وأعراضهم، ولا معاش بدونها، فوجب القول بأنه راعاها لهم وإذ ثبت رعايته إياها لم يجزاهما لها بوجه من الوجوه"1. وما ذكره هنا صحيح جملة وتفصيلاً، غير أنه من العجيب أن يتبعه بقوله: "فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع، فلا كلام، وإن خالفهما دليل شرعي وفق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها، وتقديمها بطريق البيان"2. ووجه العجب أنه قد حكم بأن إهمال الشارع للمصلحة محال، ثم فرض أن أدلته قد تصادمها، ورتب على هذا الفرض حكماً، وهو تقديمها عليه عند عدم إمكان الجمع، لأنها أقوى من النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع، وإذا كانت رعاية المصلحة قد ثبتت بأدلة الشرع بالحد الذي حمل الطوفي على تقرير أن الشارع لم يهملها، فكيف يسوغ له أن يفترض بعد هذا أن النص قد يعارضها؟ وكيف يبنى على هذا الافتراض، وهو أساس موهوم في رعاية المصلحة؟ إنه قد ثبت ما لا يقبل الشك أن الشارع قد راعى المصلحة في أدلته جميعاً: أما الكتاب، فلأنه ما من آية منه إلا تشتمل على مصلحة أو مصالح.

_ 1 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 217 - 211. 2 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 217.

وأما السنة فمن حيث هي بيان للكتاب، والبيان على وفق المبين. وأما الإجماع؛ فلأن العلماء - المعتد بهم - جميعاً يعللون الأحكام بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، حتى المخالفون منهم فيكون الإجماع حجة. وأما النظر، فلأن كل ذي عقل صحيح يؤمن بأن الغاية من أحكام المعاملات والعادات في كل شريعة عادلة، هي تحقيق مصالح الناس، وليس من الشرائع أعدل من الشريعة الإسلامية، فهي إذاً أجدر الشرائع برعاية المصالح. هكذا قرر الطوفي، فكيف ساغ له في مذهبه بعد هذا أن يفترض مصادمة النصوص والإجماع للمصلحة، وكيف يقرر مبدأ رعاية الشريعة الإسلامية للمصلحة، ثم يقرر إنما جاءت به هذه الشريعة قد يخالف المصلحة1؟ وأنها حينئذ تقدم على النص والإجماع. فإن قيل: يحتمل أنه إنما يقصد التعارض في الظاهر، وحينئذ ينسجم كلامه. أجيب عنه بأن ما استدل به على تقديمها على النص والإجماع ينفي إرادته لذلك، فإلى تلك الأدلة: أدلة الطوفي على تقديم المصلحة على النص والإجماع: يقول الطوفي مستدلاً على تقديم رعاية المصلحة على النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع: "وإنما يدلنا على تقديم رعاية المصلحة على النص والإجماع ... وجوه: أحدها: أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح، فهي إذاً محل وفاق والإجماع محل خلاف؛ والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه. الوجه الثاني: أن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلافي في الأحكام المذموم شرعاً، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعاً، فكان اتباعه أولى، وقد قال عز وجل:

_ 1 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 143 مع تصرف واختصار.

{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} 1، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" 3. الوجه الثالث: أنه قد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح ونحوها في قضايا: منها: معارضة ابن مسعود للنص والإجماع في التيمم بمصلحة الاحتياط في العبادة. ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه حين فرغ من الأحزاب: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"4، فصلى بعضهم قبلها، وقالوا: لم يرد منا ذلك. ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "لولا قومك حديثوا عهد بالإسلام، لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم" 5، وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها، فتركه لمصلحة الناس. ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام لما أمر بجعل الحج عمرة، قالوا: "كيف وقد سمينا الحج؟ "6 وتوقفوا، وهو معارضة للنص بالعادة7. ثم قال: "إن تقديم رعاية مصالح المكلفين على باقي أدلة الشرع بقصد إصلاح شأنهم، وانتظام حالهم، وتحصيل ما تفضل الله عز وجل به عليهم من

_ 1 سورة آل عمران آية: 103. 2 سورة الأنعام آية: 159. 3 أخرجه مسلم في صحيحه 2/30. 4 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 227، والحديث أخرجه البخاري، انظره مع فتح الباري 7/408. 5 انظر: صحيح مسلم 4/97. 6 انظر: صحيح مسلم 4/38. 7 انظر: شرح الأربعين النووية ملحق رسالة المصلحة في التشريع الإسلامي ص 231.

الصلاح وجمع الأحكام من التفرق، وائتلافها عن الاختلاف يحب أن يكون جائزاً إن لم يكن متعيناً". وقال: "فوجب أن يكون تقديم رعاية المصالح على باقي أدلة الشرع من مسائل الاجتهاد على أقل أحواله، وإلا فهو راجح متعين كما ذكرنا"1. مناقشة الأدلة: أما الوجه الأول، فيرد عليه أن ما ادعاه من أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصلحة، فإنه غير مسلم، لأن الشيعة "لا يقولون برعاية المصلحة، لأنها رأي، والدين لا يقال بالرأي، وإنما يتلقى من معصوم ... فليس إذاً أنهم يقولون برعاية المصالح. وأما النظام2 فلسنا ندري من أين للطوفي أنه يقول برعاية المصالح، مع أن الجاحظ3 قد نقل عنه أنه يجوز أن تجتمع الأمة كلها على ضلالة من جهة الرأي والقياس، وأنه كما لم يؤمن بالإجماع لعدم إمكانه لم يؤمن به لهذا الجواز؛ إذ كان قليل الإيمان بالقياس والرأي، وواضح أن رعاية المصلحة تعتمد - قبل كل شيء - على القياس والرأي، فكيف إذا كان يقول بها"4.

_ 1 انظر: نفس المصدر السابق ص 232. 2 هو: إبراهيم بن يسار بن هاني البصري، المكنى بأبي إسحاق، الملقب بالنظام، قيل: لنظم كلامه، وقيل: لنظمه الشعر، أحد أئمة المعتزلة، وإليه تنسب الفرقة النظامية، أخذ الكلام عن أبي الهذيل العلاف، كان قوى المعارضة في المناظرة، شديد الإفحام في الخصومة، وله مذهب خاص بسبب أن ثقافته كانت مزيجاً من آراء المعتزلة، والفلاسفة، ومذهب المانوية المجوس، مما جعل لمذهبه ميزات خاصة، ولد سنة 185هـ، له مؤلفات في الفلسفة، مات سنة 221هـ، على ما قاله صاحب الفتح المبين في طبقات الأصوليين في 1/141، وقال الزركلي مات سنة 231. انظر: الأعلام 1/36. 3 هو: عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن، شرف الدمياطي، أبو أحمد، وأبو محمد كما يعرف بابن الجامد، تشاغل أولاً بالفقه، ثم طلب الحديث، سمع بالإسكندرية والقاهرة والحرمين، وكتب الكثير وبالغ في الجمع، وحدث وأملى، وكتب عنه وصنف في الصلاة الوسطى والحيل والسيرة النبوية وغيرها، قال فيه الذهبي: "إنه كان فصيحاً لغوياً مقرئاً جيد العبارة كبير النفس، صحيح الكتب، مفيداً جيد المذاكرة"، ومات سنة 705هـ بعد أن عمر. انظر: الدرر الكامنة 2/417 - 418، نقلاً عن المصلحة في التشريع ص 74. 4 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 153.

فما ادعاه من اعتبار المصلحة من منكري الإجماع لم يثبت، وعلى التسليم الجدلي أن رعاية المصالح أمر متفق عليه، بين منكري الإجماع، وبين من يقول به، فإن الذي يستفيده الطوفي مما ذكره هنا هو أن المصلحة التي يحتج بها الأئمة وعلى رأسهم الإمام مالك رحمه الله هي المصلحة المرسلة، أما المصلحة التي يقصدها الطوفي ويستدل على تقديمها على أدلة الشرع فهي أبلغ من ذلك، فلم تكن تلك التي اتفق الأئمة عليها، سواء من قال بالإجماع، أو من أنكره. والشيء العجيب هو أن الطوفي ادعى أن المصلحة أقوى من الإجماع، بل أقوى من أدلة الشرع كلها، لأن الأقوى من الأقوى أقوى واستدل على ذلك بيان اهتمام الشارع بها، وبإيراد الاعتراضات على أدلة الإجماع الموهنة لحجيته، ثم قرر أنه ليس من غرضه إهدار الإجماع بالكلية، لأنه يقول به في العبادات والمقدرات، وإن غايته غنما هي بيان أن رعاية المصلحة المستفادة من حديث "لا ضرر ولا ضرار" 1 أقوى من الإجماع، لأن مستندها أقوى من مستنده2، ناسياً أنه استدل على تقديمها على الإجماع، بأن الإجماع قد انعقد على رعاية المصلحة، فصار معنى كلامه: رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، لأن رعاية المصلحة قد أجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه. ألا يعد هذا تناقضاً، حيث استدل على تقديم رعاية المصلحة بالإجماع، في الوقت الذي قرر فيه أن الإجماع مختلف فيه، بل وقلل من أهميته بإزاء المصلحة المجردة. وأما الوجه الثاني: فإن ما استدل به على كون المصلحة مقدمة على النصوص لاختلاف النصوص وتعارضها، لذا كانت سبب الخلاف المذموم شرعاً في الأحكام، وأن رعاية المصلحة أمر متفق عليه في نفسه لا يختلف فيه، فهي سبب الاتفاق المطلوب شرعاً، فكان اتباع المصلحة أولى، فإن ما ادعاه من اختلاف

_ 1 انظر: الموطأ مع تنوير الحوالك 2/122. 2 شرح الأربعين النووية ملحق المصلحة في التشريع الإسلامي ص 227.

النصوص وتعارضها حيث كانت سبباً للاختلاف في الأحكام، أمر باطل، لأنه إما أن يكون مراده أنها مختلفة ومتعارضة في الواقع، وفي نفس الأمر، بمعنى أن الله تعالى يأمر بالشيء وضده، وينهى عن الشيء وضده. وإما أن يكون مراده أنها مختلفة متعارضة في الظاهر بالنسبة إلى المجتهدين، بحيث يفهم أحدهم حكماً من النص، ويفهم الآخر من النص حكماً آخر. أما الأول: فلا أرى أن الطوفي - رحمه الله - يريده، حيث لم يقل به أحد من المسلمين، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بما يدل على بطلانه حيث قال جل شأنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} 1، فقد نفى سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن يكون في القرآن اختلاف أو تعارض، وأمرنا سبحانه وتعال بالتحاكم فيما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2، وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} 3 الآية. فالرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد موته هو الرد إلى سنته، وليس ذلك إلا لرفع الخلاف والنزاع ورفع الخلاف والنزاع لا يكون بالمختلف المتعارض، وإنما يكون بالمتفق، إلى غير ذلك من آيات القرآن الدالة على هذا، ولو كان فيه ما يقتضي الاختلاف، والتعارض، لم يكن في الرجوع إليه فائدة. وإن كان يريد الثاني: فهذا مسلم، غير أنه لا يؤدي إلى ما ادعاه من كونه يؤدي إلى الفرقة والتناحر، والخلاف المذمومة شرعاً. وأما دليل تسليمه، فلأنه الواقع، ولذا يقول الشاطبي: "وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان، فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في أنظار المجتهدين،

_ 1 سورة النساء آية: 82. 2 سورة الشورى آية: 10. 3 سورة النساء آية: 59.

لا في نفس الأمر، فالأمر على ما قالوه جائز، ولكن لا يقضي ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة. وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر، فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه، ولا أظن أن أحداً منهم يقوله"1. وأما كونه لا يفيد الطوفي في دعواه، فلأنه استدل على اختلاف النصوص وتعارضها، وتقديم المصلحة عليها، "بالخلاف الذي وقع بين الأئمة والفقهاء بسبب النصوص، ولست أدري كيف يتصور عاقل من الناس ضرورة المصلحة بين هذا الدليل، وذلك الزعم. فالخلاف الذي وقع بين الأئمة في الفروع، إنما هو خلاف في فهم النصوص، والوصول إلى حقيقة مدلولاتها، لتفاوت الإفهام فيما بينهم، لا خلاف بين النصوص في ذاتها، وهذا الخلاف أمر متصور الوقوع في الاجتهاد، ومعلوم أن اختلاف المذاهب في الاجتهاد لا يعني بحال اختلاف النصوص في مدلولاتها، ولكنه يعني أن واحداً غير معين قد وافق الحقيقة، وأخطأها الآخرون، وقد رفعت الشريعة عنهم تبعة هذا الخطأ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: "إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" 2. ذلك أن الله لم يلزم أهل العلم بأكثر من بذل الجهد للوقوف على ما اشتبه عليهم من الأحكام، وهو في ذاته نوع من العبادة، تعبدهم الله به لحكمة3. وما ذكره من أن رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه، لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب، فكانت أولى بالاتباع، وإن النصوص مختلفة متعارضة الخ. إن كان يقصد باختلاف النصوص اختلافها في حقيقتها، لا الفهم لها فهذا باطل، وقد تقدم من أدلة بطلانه ما يغني عن إعادته.

_ 1 انظر: الموافقات 4/129. 2 أخرجه البخاري مع الفتح 3/318، ومسلم 5/136، وابن ماجه 2/27. 3 انظر: ضوابط المصلحة ص 212 - 213.

وإن كان يريد بكون رعاية المصلحة أمراً حقيقياً أن أصل اتباع المصالح في التشريع بحيث يلجأ المجتهد عند نزول الواقعة إلى معرفة حكمها بناء على تحقيق مناطها باعتبار أدلة الشرع، وشهادة نصوصه لها، فهذه الحقيقة متفق على رعايتها، "ولكنها ليست هي التي يقع بها التعارض مع النص على فرض صحة وقوعه، وإنما يكون التعارض بما يوجد من صور جزئية لها في الخارج"1. لكننا نقول: إن النصوص الشرعية أمر حقيقي في نفسه، هو كذلك لا نختلف فيه، فإذا نزلت النازلة لجأ الفقيه إلى عرض الواقعة عليها، وهذا أمر لا يقتضي اختلافاً ما دامت الوسيلة إلى معرفة الحكم في الواقعة المستجدة هي تحقيق مناط النص الشرعي على الوقائع، وتطبيقها على الجزئيات، فكل من النص والمصلحة أمر حقيقي لا يختلف فيه بهذا المعنى. فإذا كان الطوفي يقصد بكون رعاية المصلحة أمراً حقيقياً في نفسه لا يختلف فيه الخ، هذا المعنى فلا خلاف معه في هذا القدر، إذ الفرض عدم الخلاف، ولكن استدلال الطوفي لا يستقيم ما دام يعتبر النصوص تعادل المصلحة2. "وأما إذا كان الطوفي لا يقصد برعاية المصالح تحقيق مناط الأصل في الوقائع، وتطبيقه على الجزئيات بحيث تعرض الواقعة التي يراد معرفة حكم الشرع فيها على المجتهدين في الأمة ليحكموا فيها وفق المصلحة التي يهدي إليها العقل مسترشداً بالعادات والتجارب، فإننا لا نوافق الطوفي على أن المصلحة بهذا المعنى أمر حقيقي في نفسه، لا يختلف فيه، حتى تكون سبباً للاتفاق المطلوب شرعاً". ودليلنا على ذلك الواقع المشاهد، فقد رأينا العقول التي لا تصدر في أحكامها عن هدي السماء تختلف في أصل المصالح والمفاسد، بل ومع اتفاقهم على أن الأمر مصلحة ومفسدة، يختلفون في الأحكام الجزئية التي تحصل هذه المصالح وتدفع

_ 1 انظر: المصدر السابق ص 214. 2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 562 مع تصرف واختصار.

تلك المفاسد، فقديماً قال قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} 1، فكانت الطهارة مفسدة عقوبتها النفي في منطق هؤلاء، وأن المستوطن الصالح الذي يتمتع بخيرات بلده هو الذي يزاول فاحشة اللواط، ويدعو إليها، فهل خلق هؤلاء بلا عقول تهتدي إلى معرفة وجه المصالح، والمفاسد؟ وهل يظن الطوفي أن العقول لا تختلف في مصلحة هذا الجرم وفساده2؟ كيف! والواقع المشاهد يقطع بأن العقول تختلف فيما يعتبر مصلحة ومفسدة، وفي طريق تحصيل المصلحة، ودفع المفسدة "وليته تخلف به الزمان حتى رأى عصرنا الحاضر، وتعقد مسائله، وحيرة أهله، وتضارب آراءهم، وتباين مذاهبهم، إذاً لوجد أن المصلحة التي سماها حقيقة لا تختلف ليست إلا سراباً قد ضل سعي الناس وراءه"3، ولأجل هذا جاءت الشريعة السمحاء لتهدي الناس إلى تحصيل مصالحهم، ودرء مفاسدهم، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 4، وقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 5. الآية. "فالخالق أدرى حيث تكمن مصالح عباده، وحيث تكمن مضارهم، ومن هنا كانت المصلحة الحقيقية ما عرفت بهدي النصوص أو توابعها، ولا عبرة بمن قد يحسبها مفسدة، وكان كل ما خالفها مفسدة ولا عبرة يوهم من ظنها مصلحة"6. وأما الوجه الثالث: فإن ما ادعاه من معارضة السنة بالمصلحة، وما سرده من أمثلة لذلك جعلته يرى أن تقديم رعاية المصلحة على باقي أدلة الشرع راجح

_ 1 سورة النمل آية: 56. 2 انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 562 - 563. 3 انظر: ضوابط المصلحة ص 215. 4 سورة الإسراء آية: 9. 5 سورة الشورى آية: 52. 6 ضوابط المصلحة ص 215.

متعين كما قال، فإن هذه الدعوى باطلة، لأن هذه الوقائع التي ذكرها مشتملة على عمل من الشارع نفسه صلى الله عليه وسلم، فإن المستند فيها هو قوله، أو فعله، أو تقريره صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ترك البيت، ولم يعد بناءه على قواعد إبراهيم، وتركه له على الحالة التي هو عليها نص، لا أنه عارض النص بالمصلحة كما يقول الطوفي، لأن قوله وفعله وتقريره كلها نصوص كما هو معلوم عند الجميع. وأما مسألة التيمم، فإن سبب مخالفة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إنما هو تفسير للمس في قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} ، بأن المراد به اللمس الذي ينقض الوضوء1، وإنكاره اقتناع عمر بقول عمار، وقد روى عنه وعن عمر رضي الله عنهما، أنهما رجعا عن قولهما، فليس إذاً مخالفة ابن مسعود في هذه المسألة هي أخذه مصلحة الاحتياط كما يقول الطوفي. وأما صلاة الصحابة رضي الله عنهم لصلاة العصر قبل الوصول إلى بني قريظة، مع نهيه صلى الله عليه وسلم عنها، فإنما كان لأنهم راوا أن مراده صلى الله عليه وسلم من النهي الحث على سرعة الوصول إليها، لا أنه نهى عن الصلاة نفسها وقد صرح الطوفي بذلك في دليله. وأما التوقف عن فسخ الحج في العمرة بعد تسميته مع أمره صلى الله عليه وسلم لهم بجعله عمرة، فلم يكن لتقديم المصلحة على السنة، وإنما كان تحرجاً منهم لما ألفوه من منع فسخ الحج قبل إتمام مناسكه، ولكونهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم باقياً على إحرامه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة" 2، فتحللوا ولم يبق توقفهم سنة لعدم إقراره صلى الله عليه وسلم"3.

_ 1 انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/223، والآية من سورة النساء: 43. 2 انظر: صحيح مسلم 4/38. 3 انظر: المصلحة في التشريع الإسلامي ص 147، ونظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 568.

الفصل العاشر: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها أو راجحة أم لا تنخرم

الفصل العاشر: هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها أو راجحة أم لا تنخرم ... فصل هل تنخرم مناسبة الوصف لوجود مفسدة مساوية لها أو راجحة أم لا تنخرم؟ إذا كان الوصف مشتملاً على مصلحة تقتضي مشروعية الحكم، وتجعله مناسباً، وعلى مفسدة راجحة أو مساوية لتلك المصلحة تجعله غير مناسب لمشروعية الحكم، فهل يكون اشتماله على هذه المفسدة موجباً لبطلان مناسبته أم لا؟ "وذلك كما إذا سلك مسافر الطريق البعيد لا لغرض غير القصر، فإنه لا يقصر على الأظهر، لأن المناسب وهو السفر البعيد عورض بمفسدة هي العدول عن القريب، لا لغرض غير القصر حتى كأنه حصر قصده في ترك الركعتين من الرباعية. والحاصل أن المشقة في السفر المناسب للقصر تترتب عليها مصلحة التخفيف بالقصر، فإذا عدل عن طريق قصير إلى الطويل كان ذلك مفسدة، لدخوله على إسقاط شطر الصلاة بدون عذر، فقد عارضت هذه المفسدة مصلحة القصر"1، لذا اختلف العلماء في هذه المسألة إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: تبطل مناسبته، ويصير الوصف غير مناسب للحكم في محل وجود المفسدة، واختار هذا المذهب ابن الحاجب، وابن السبكي، واستدلا على ذلك بأن العقل قاض بأنه لا مصلحة مع مفسدة راجحة أو مساوية لها، لأن العقلاء يعدون فعل ما فيه مفسدة راجحة على مصلحة أو مساوية لها خروجاً عن تصرفات العقلاء، فمن قال لعاقل: بع هذا بربح قدر ما تخسر، أو أقل منه، لم يفعل، ولو فعل لعد خارجاً عن تصرفات العقلاء، وعلل بأنه لا ربح حينئذ2. واعترض على هذا الدليل بأن القائلين به "إن أرادوا بنفي المصلحة عدم

_ 1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/331. 2 انظر: المختصر مع شرحه 2/241، وجمع الجوامع مع شرحه وحاشية العطار 2/331.

وجودها حقيقة، فغير مسلم، لأن المفروض وجود مفسدة معارضة للمصلحة، وإن أرادوا به عدم اعتبارها، فغاية ما يدل عليه الدليل حينئذ هو عدم اعتبار المناسبة، لعدم اعتبار المصلحة، لا لبطلانها، وهو خلاف المدعى1. وما استند إليه من مثال البيع إنما يقتضي عدم ترتب الحكم، لا زوال المصلحة، والمناسبة بالكلية، وذلك متفق عليه كما سيأتي2. المذهب الثاني: إنها لا تبطل، غير أنها لا تعتبر شرعاً، فلا يترتب عليها الحكم، واختاره الإمام الرازي وأتباعه ومنهم البيضاوي في المنهاج3. استدل الإمام على ما ذهب إليه بأدلة كثيرة من أهمها: 1 - "أن المناسبتين المتعارضتين، إما أن تكونا: متساويتين، أو إحداهما أرجح من الأخرى، فإن كان الأول، لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى، - أولى من العكس: فإما أن تبطل كل واحدة منهما بالأخرى - وهو محال؛ لأن المقتضى لعدم كل واحدة منهما وجود الأخرى، والعلة لا بد أن تكون حاصلة مع المعلول، فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى، لزم أن تكونا موجودتين حال كونهما معدومتين، وذلك محال. وإما أن لا تبطل إحداهما بالأخرى - عند التعارض - وذلك هو المطلوب. وأما إن كانت إحدى المناسبتين - أقوى، فها هنا لا يلزم التفاسد أيضاً، لأنه لو لزم التفاسد لكان لما بينهما من المنافاة، لكنا بينا في القسم الأول أنه لا منافاة بينهما، لأنهما اجتمعتا، وإذا زالت المنافاة لم يلزم من وجود إحداهما عدم الأخرى4. لكن يرد عليه أن بطلان المصلحة هنا راجح، لأن درء المفاسد مقدم على

_ 1 انظر: رسالة مباحث القياس الأصولي للشيخ سويلم طه ص 159. 2 نبراس العقول في تعريف القياس عند علماء الأصول 1/322. 3 المحصول 2 من القسم الثاني ص 232، نهاية السول 3/61. 4 المحصول 2 من القسم الثاني ص 232.

جلب المصالح، فلم يكن الترجيح بدون مرجح". 2 - "إنه قد تقرر في الشرع إثبات الأحكام المختلفة نظراً إلى الجهات المختلفة، مثل الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها من حيث إنها صلاة سبب الثواب، ومن حيث إنها غصب سبب العقاب، والجهة المقتضية للثواب مشتملة على المصلحة، والجهة المقتضية للعقاب مشتملة على المفسدة ... وهذا الوجه مبني على قول الفقهاء الصلاة في الدار المغصوبة عبادة من وجه، ومعصية من وجه آخر"1 فكل من المصلحة والمفسدة هنا معتبر شرعاً، فلو كانت المصلحة تبطل بمعارضة المفسدة، لما صحت الصلاة، ورتب الثواب عليها. واعترض على هذا بأنه خارج عن الموضوع، لأن الكلام في مصلحة ومفسدة لشيء واحد، أما مفسدة الغصب هنا فلم تنشأ عن الصلاة؛ لأن شغل المكان حرام عليه ويأثم به، ولو كان بغير الصلاة، كما أن مصلحة الصلاة غير ناشئة عن الغصب، إذ لو صلى في غير مكان الغصب لصحت صلاته وأثيب عليها2. 3 - "أن العقلاء يقولون في فعل معين، الإتيان به مصلحة في حقي لولا ما فيه من المفسدة الفلانية، ولولا صحة اجتماع وجهي المفسدة والمصلحة، لما صح هذا الكلام"3. غير أن الآمدي اعترض على هذا بأن بقاء المصلحة لا يستلزم بقاء المناسبة إذ يقولون: "إن أردت أن مناسبة الوصف تنبني على أنه لا بد في المناسبة من المصلحة على وجه لا يستقل بالمناسبة فمسلم، ولكن لا يلزم من وجود بعض ما لابد منه في المناسبة تحقق المناسبة". وإن أردت أنها مستقلة بتحقق المناسبة، فممنوع، ثم بين وجه المنع بقوله: "وذلك لأن المصلحة وإن كانت متحققة في نفسها، فالمناسبة أمر عرفي، وأهل العرف لا يعدون المصلحة المعارضة بالمفسدة المساوية أو الراجحة مناسبة. ولهذا

_ 1 انظر: المحصول 2 من القسم الثاني ص 235. 2 انظر: العضد على المختصر 2/241. 3 انظر: المحصول 2 من القسم الثاني ص 236.

فإن من حصل مصلحة درهم على وجه يفوت عليه عشرة يعد سفيهاً خارجاً عن تصرفات العقلاء، ولو كان ذلك مناسباً لما كان كذلك، وعلى هذا فلا يلزم من اجتماع المصلحة والمفسدة تحقق المناسبة. وقول القائل: "إن الدواعي موجودة، فالمراد به المصلحة دون المفسدة"1. أما البيضاوي فقد استدل بما قرره الأسنوي "بأن الفعل وإن تضمن ضرراً أزيد من نفعه، لا يصير نفعه غير نفع، لاستحالة انقلاب الحقائق، وإذا بقي نفعه بقيت مناسبته، وهو المطلوب. "وإذا ثبت عدم بطلان المصلحة مع وجود المفسدة الراجحة، فكذلك مع المفسدة المساوية"، غاية ما في الباب أنه لا يترتب عليه مقتضاه، لكونه مرجوحاً"2، أو مساوياً. غير أن صاحب النبراس نظر فيه من وجهين حيث قال: الأول: لا نسلم أن المصلحة كانت، ثم انقلبت إلى مفسدة، لأن عدم لزوم المفسدة شرط في كونها مصلحة، فمع وجود المفسدة المساوية أو الراجحة لم تحقق المصلحة بالمرة. الثاني: أننا لو سلمنا ما ذكر في الوجه الأول، لا نسلم أنه يلزم من بطلان المناسبة زوال المصلحة، كما يؤخذ من عبارة الأحكام، للآمدي في الرد على الدليل القائل بعدم البطلان3، يريد به ما تقدم من أن بقاء المصلحة لا يستلزم بقاء المناسبة. المذهب الثالث: إنها لا تبطل شرعاً، ويترتب عليه الحكم كما يترتب على المفسدة حكمها وبه قال الحنفية، ولذا قالوا بلزوم نذر صوم يوم العيد مع أن صومه حرام، فرتبوا على كل من المصلحة والمفسدة حكمها بوجوب الفطر،

_ 1 انظر: الأحكام للآمدي 3/255 - 256. 2 انظر: نهاية السول مع منهاج العقول 3/61. 3 انظر: نبراس العقول 1/320 - 321، الأحكام للآمدي 3/255 - 256.

والقضاء، ويدل لهذا ما جاء في مسلم الثبوت وشرحه، ونصه "وأعلم أن الكلام هنا في مقامين". الأول: إن المفسدة تبطل المناسبة وتعدمها وبه قال قائلوا الانخرام، وهذا ضروري البطلان، إذ المفروض كونه مناسباً مشتملاً على مصلحة، ومع هذا مشتمل على مفسدة، والواقع لا يبطل. الثاني: أن المفسدة توجب عدم اعتبار الشارع المناسبة معها، وهو مختار صاحب المحصول، وجمهور الشافعية. واستدلوا بأن اعتبار مصلحة مع لزوم مفسدة أبعد من الحكيم كل البعد، وما ذكره المصنف لا يبطل هذا، بل الوافي به، أن مقتضى حكمة الحكيم أن لا يهدر ما هو الواقع، والواقع ههنا مصلحة ومفسدة، فللحكيم أن يوفي حقهما، إذ لا مانع، إذ المانع الذي يتخيل هو التضاد، والتضاد غير مانع لاختلاف الجهة، فافهم فإنه دقيق وبالتأمل حقيق. ومن ههنا أي من أجل جواز اجتماعهما من جهتين صح النذر بصوم يوم العيد عند الحنفية، فإنه من جهة كونه صوماً منسوباً لله تعالى كاسراً للشهوة فيه مصلحة، فأثر فيه النذر فوجب به. ومن جهة كونه إعراضاً عن ضيافة الله تعالى فيه مفسدة وهو حرام1، غير أنه يصح لقائل أن يقول: هل كل فعل فيه مصلحة ومفسدة مساوية أو راجحة يترتب عليه حكم المصلحة، وحكم المفسدة، حتى ولو كان الحكمان متنافيين، أو ذلك مشروط بما إذا أمكن اجتماع الفعلين، على الحكم الواحد؟ والظاهر أنه لا بد من إمكان اجتماع الحكمين2. هذه هي مذاهب العلماء في هذه المسألة وأدلتها، فهل للخلاف فيها ثمرة؟ أما المذهب القائل ببطلان المناسبة، والثاني القائل بعدم بطلانها، فالظاهر

_ 1 انظر: فواتح الرحموت مطبوع مع المستصفى 2/264. 2 انظر: نبراس العقول 1/323.

مما نقلته عنهما أنهما متفقان على عدم ترتيب الحكم على الوصف المناسب في محل المفسدة الراجحة، أو المساوية، غير أنهما مختلفان في علة ذلك، فعند القائل بالبطلان، قال: لعدم وجود المقتضي، لبطلان المناسبة بالمعارضة بالمفسدة. وعند القائل بعدم البطلان، قال: لوجود المانع، وهو المفسدة؛ لأن من شرط تأثير المقتضى انتفاء المانع، فالخلاف لفظي كما قال العطار1، ويرجع هذا إلى جواز تخصيص العلة، وعدم جوازه، فمن منع التخصيص قال بالبطلان، ومن قال بالتخصيص قال بعدم البطلان. وليس يترتب على خلافهما فائدة إلا ما ذكره الشربيني من "أنه يترتب عليه انقطاع المستدل، وعدمه، فإنا إذا قلنا: لا تنخرم وتخلف الحكم عن العلة في صورة، فمن قال إن التخلف للمانع لا يضره ذلك التخلف، لبقاء العلية معه، ومن قال تنخرم يضره ذلك، لتبين إنما علل به ليس تمام العلة"2. وأما بين المذهبين الأولين، وبين المذهب الثالث فالخلاف بينهما خلاف حقيقي، وثمرته ظاهرة كما في مثال نذر صوم يوم العيد، حيث إن القائلين بالمذهبين الأولين يريان أن النذر باطل، ويحرم الوفاء به. أما الحنفية أهل المذهب الثالث فقالوا: يلزمه، ويحرم صوم نفس يوم العيد، لكنه يجب قضاؤه على القاعدة السابقة من أن معارضة المصلحة بالمفسدة الراجحة أو المساوية لا تبطل مناسبتها كما تقدم نقله عنهم، غير أنه لم يسلم لهم دليلهم.

_ 1 انظر: حاشية العطار على المحلى 2/331، ولب الأصول ص 127. 2 انظر: تقريرات الشربيني بهامش حاشية العطار 2/231، وغاية الوصول شرح لب الأصول ص 127.

فالذي أراه أنه لا يصح ترتيب الحكم على المصلحة المعارضة بمفسدة راجحة، أو مساوية لها، سواء كان ذلك على رأي من قال ببطلانها، أو على رأي من قال بتخلف الحكم لوجود مانع، لأن هذا هو عين الحكمة، لما تقدم من الأدلة على ذلك، ولأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، أما إذا كانت المصلحة راجحة والمفسدة مرجوحة، فإنها لا توجب بطلان المناسبة، ولا تمنع ترتيب الحكم عليها اتفاقاً، إذ ليس من الحكمة إهدار الخير الكثير لدفع الشر اليسير كما في تفويت النفس بمشروعية الجهاد، لأن مفسدة موت بعض المجاهدين مفسدة غير أن مصلحة حفظ الإسلام، وإعلاء شأنه مصلحة عظمى أرجح من مفسدة إهلاك بعض المجاهدين1، والله تعالى أعلم.

_ 1 انظر: فواتح الرحموت بذيل المستصفى 2/264.

الخاتمة هذه بعض النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث: 1 - إن الأصوليين سلكوا في تعريف القياس طريقتين: الأولى: سلك أهلها في تعريفه ما ينبئ بأنه فعل المجتهد فعبروا عنه بالإثبات والإلحاق، وما في معناهما اعتماداً على المساواة في علة الحكم. الثانية: اعتبر أهلها القياس دليلاً نصبه الشارع دليلاً على الحكم الشرعي نظر في المجتهد، أو لم ينظر، فعبروا عنه بالمساواة لأن عمل المجتهد أثر مترتب عليها بتحقيق مساواة الفرع للأصل في العلة الجامعة بينهما. فإن الطريقتين متفقتان في أن المعول عليه في القياس هو المساواة في العلة، وأن المعتبر في تحقيق هذه المساواة هو نظر المجتهد واستنباطه الذي يحقق به وجود القياس الذهني والخارجي الذي تحقق به أركان القياس الأربعة. 2 - أن الخلاف بينهما لفظي اعتباري، لا يترتب عليه أثر، فلا حرج على من أخذ بكل من الطريقتين. 3 - أن الخلاف بين أهل السنة في تعريف العلة خلاف لفظي لم يترتب عليه أثر، فهم متفقون في الغاية والقصد من نسبة التأثير إلى الله تعالى. 4 - أن أفعال الله تعالى وأحكامه مشتملة على حكم ومصالح ترجع إلى العباد تفضلاً منه سبحانه عليهم. 5 - يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي. 6 - يجوز التعليل بالوصف المركب. 7 - لا يجوز التعليل بالحكمة المجردة عن الضابط. 8 - يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي. 9 - يجوز التعليل بالعلة القاصرة. 10 - يجوز تعليل الحكم بعلتين أو علل كل علة مستقلة.

11 - يجوز تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة. 12 - أن المناسبة تفيد العلية. 13 - إن الأصوليين اتفقوا على قبول المؤثر والملائم من أقسام الوصف المناسب. 14 - إن المؤثر عند الحنفية أعم منه عند الشافعية، ومن الملائم عند الشافعية بأقسامه الثلاثة. 15 - أن العمل بالمناسب المرسل المستند إلى شهادة الأصول الشرعية استدلال بنصوص الشريعة، ولا يقال فيه: أنه عمل بمصلحة مجردة عن الدليل، ولا أنه ترك نص الشارع. 16 - أنه قد ثبت بما نقلته عن الأئمة أن الأخذ بالمناسب المرسل محل اتفاق بين جمهور الأئمة والفقهاء، ولا يضر ذلك أن كثيراً منهم لم يعتبره أصلاً مستقلاً بذاته، وأنهم قبلوه باعتبار آخر ككونه اجتهاداً أو قياساً، إذ لا مشاحة في الاصطلاح كما قيل: إذ حصل الاتفاق في الغاية. 17 - أن المصلحة معتبرة إذا شهدت لها نصوص الشريعة بالاعتبار، أما إذا لم تشهد لها بالاعتبار، فلا تعتبر، ومن ثم بطل تقديم المصلحة على النص الشرعي، والإجماع. 18 - أنه ثبت بما نقلته عن مالك رحمه الله وأتباعه بطلان دعوى انه يقدم رعاية المصلحة على النص، وأنه يأخذ بالمرسل الغريب، وأثبت أنه إنما أخذ بملائم المرسل شأنه في ذلك شأن غيره من الأئمة. 19 - إن الأخذ بالمناسب المرسل أخذ بأصل من أصول أدلة الشرع الإسلامي ومنهج من منهاج الشرع، تعرف به الأحكام، وأن العمل به لا يعد خلعاً لربقة الإسلام، ولا قولاً بالتشهي وإهمالاً لنصوص الشرع.

20 - بطلان ما ادعاه الطوفي من تقديم المصلحة على النص، أو الإجماع، وأنه في هذا الرأي يختلف مع جميع الأئمة والفقهاء الذين قالوا باعتبار المصلحة. وأختم بحثي هذا بما بدأته به من حمد الله تعالى على ما منَّ به عليَّ من إتمامه راجياً الله تعالى أن يوفقني في القول والعمل وأن يختم لي بالصالحات ويهديني سواء السبيل، وأن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم ووسيلة إلى مرضاته إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ... ليلة الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة عام 1402هـ

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس المراجع ابن حنبل، حياته وعصره، وآراؤه وفقهه: للدكتور محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. الابهاج شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول: لتاج الدين السبكي المتوفى سنة 771هـ، مطبعة التوفيق بمصر. أبو حنيفة حياته وعصره، وآراؤه، وفقهه: للدكتور محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي الشافعي المتوفى سنة 911هـ، الطبعة الثالثة سنة 1370-1951م، مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. الأم: للإمام محمد بن إدريس الشافعي (150-204هـ) ، مطبعة دار المعرفة والنشر، بيروت، لبنان. آداب البحث والمناظرة: للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. الأحكام في أصول الأحكام: لسيف الدين أبي الحسن علي ابن علي ابن محمد الآمدي (551-631هـ) ، تحقيق أحمد الأفضل، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، القاهرة سنة 1387هـ-1967م. أحكام القرآن: لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي (468-543هـ) تحقيق على محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي. أحكام القرآن: لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370هـ طبعة بالأوسفت، دار الفكر العربي، بيروت لبنان.

الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: للعباس بن محمد عباس، مطبعة دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: للشيخ محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ الطبعة الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، سنة 1356هـ 1937م. أسباب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية: للدكتور مصطفى إبراهيم الزلمي، الطبعة الأولى، سنة 1396هـ-1976م، الدار العربية للطباعة. الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لأبي عمر يوسف بن عبد البر (368-463هـ) بذيل الإصابة، تحقيق الدكتور طه محمد الزيني، الطبعة الأولى، مطبعة الكليات الأزهرية. الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، المتوفى سنة 911هـ، طبعة دار العلم، بيروت، لبنان. الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان: لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم المتوفى سنة 970هـ. تحقيق وتعليق عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي، القاهرة سنة 1387هـ-1968م. الإصابة في تمييز الصحابة: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852هـ، الطبعة الأولى، مطبعة الكليات الأزهرية. أصول الفقه، وابن تيمية: للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، الطبعة الأولى، سنة 1400هـ-1980م. أصول الفقه: للدكتور محمد أبي زهرة، ملتزم الطبع والنشر دار الفكر العربي. أصول الفقه: للشيخ محمد أبي النور زهير، الأستاذ بكلية الشريعة ووكيل جامعة الأزهر، دار الطباعة المحمدية، القاهرة.

أصول الفقه: للشيخ محمد الخضري بك المفتش بوزارة المعارف، ومدرس التاريخ بالجامعة المصرية، الطبعة السادسة سنة 1389هـ-1969م، دار الاتحاد العربي للطباعة. أصول السرخسي: للإمام أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي المتوفى سنة 490هـ، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، سنة 1393هـ 1973م. الأصول شرح المحصول: للعلامة محمد بن محمود العجلي الشافعي الأصفهاني (616-688هـ) مخطوط بمكتبة مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى. أصول الفقه الإسلامي: للشيخ بدران أبو العينين، طبع سنة 1393هـ-1973م. أصول الفقه: للشيخ عبد الوهاب خلاف، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق، جامعة القاهرة، الطبعة العاشرة، سنة 1392هـ-1972م، مطبعة دار القلم. الاعتصام: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790هـ، الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. أعلام الموقعين عن رب العالمين: لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم، المتوفى سنة 751هـ، تحقيق وضبط عبد الرحمن وكيل. إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم: لأبي عبد الله محمد بن خلف الأبي اختلف في وفاته فقيل سنة 827هـ، وقيل سنة 828هـ، دار الكتب العليمة. إملاء الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي على مراقي السعود: مخطوط، وهو عندي.

الآيات البينات: للعلامة شهاب الملة والدين أحمد بن قاسم العبادي المتوفى سنة 994هـ، على شرح جمع الجوامع، طبعة قديمة. البحر المحيط: للعلامة محمد بن بهادر الزركشي الشافعي (745-794هـ) ، مخطوط بكل من مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ومركز البحث العلمي بحامعة أم القرى، وقد طبع في الكويت. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الملقب بملك العلماء المتوفى سنة 587هـ، الطبعة الأولى الجمالية سنة 1328هـ-1910م. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: للإمام أبي الوليد محمد بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (520-595هـ) ، الطبعة الثالثة سنة 1379هـ-1960م، مصطفى البابي الحلبي، بمصر. البرهان في أصول الفقه: لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك ابن عبد الله بن يوسف (419-478هـ) ، تحقيق الدكتور عبد العظيم الديب، الطبعة الأولى سنة 1399هـ، طبع على نفقة أمير دولة قطر. البرهان في علوم القرآن: للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (745-794هـ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، عيسى البابي الحلبي. تاج العروس من جواهر القاموسي: لمحمد محمد عبد الرزاق مرتضى الحسيني الزبيدي أبو الفيض (1145-1205هـ) . تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: للإمام الحافظ أبو العلي محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (1282-1353هـ) تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر المكتبة

السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية سنة 1385هـ-1965م. دار الإتحاد العربي للطباعة. تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام: لأبي بكر محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي المالكي المتوفى سنة 829هـ، مطبعة التجديد مصر. تخريج الفروع على الأصول: لأبي المناقب شهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني المتوفى سنة 656هـ، تحقيق الدكتور محمد أديب صالح رئيس قسم علوم القرآن والسنة بجامعة دمشق، مؤسسة الرسالة. تذكرة الحفاظ: للإمام الذهبي (748هـ) من الطبعة الأولى إلى السابعة، دار إحياء التراث العربي. تفسير القرآن العظيم: للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774هـ، دار إحيات الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي وشركاه. تعليقات الدكتور عثمان مريزيق (المتوفى سنة 1400هـ) : وهي إملاء كان أملاه عليّ أيام دراستي عليه بالسنة المنهجية في قسم الدراسات العليا بكلية الشريعة بمكة المكرمة. تقريب التهذيب: للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (773-852هـ) تحقيق وتعليق وترقيم عبد الوهاب عبد اللطيف الأستاذ بكلية الشريعة بالأزهر، الطبعة الأولى سنة 1380هـ-1960م، دار الكتاب العربي بمصر. تقريرات العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن الشربيني على جمع الجوامع المتوفى سنة 1326هـ: لابن السبكي بهامش حاشية العطار، مطبعة مصطفى محمد، بمصر. التقرير والتحبير شرح تحرير الكمال: لابن أمير الحاج، المتوفى سنة 879هـ، الطبعة الأولى، المطبعة المنيرية بمصر، سنة 1316هـ.

التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه: لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي المتوفى سنة 792هـ، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر. تنقيح الفصول في اختصار المحصول مع شرحه: للإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684هـ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، طبع دار الفكر، منشورات مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. تهذيب شرح الأسنوي على منهاج الوصول إلى علم الأصول: تأليف الدكتور: محمد إسماعيل شعبان، جامعة الأزهر، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة. التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه: للقاضي صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري، المتوفى سنة 747هـ، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر، مع شرحه التنقيح للتفتازاني. تيسير التحرير: للعلامة محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحسيني الحنفي، شرح تحرير الكمال بن الهمام المتوفى سنة 861هـ، مطبعة الحلبي بمصر، سنة 1350هـ. جامع البيان عن تأويل آي القرآن: للإمام أبي جعفر محمد ابن جرير الطبري، المتوفى سنة 310هـ، الطبعة الثالثة سنة 1388هـ-1968م، مطبعة الحلبي بمصر. الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة 671هـ، الطبعة الثالثة، دار الكتب العربية للطباعة والنشر 1387هـ-1967م. الجامع الصغير: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911هـ، مع شرحه فيض القدير، الطبعة الأولى سنة 1356هـ-1938م، مطبعة مصطفى محمد، بمصر. جمع الجوامع: لتاج الدين عبد الوهاب بن عبد الكافي المعروف بابن السبكي، (727-771هـ) مطبوع مع شرحه للمحلى مع حاشية العطار.

الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية: لمحيي الدين أبي محمد عبد القادر بن محمد الحنفي (696-775هـ) تحقيق الدكتور: عبد الفتاح محمد الحلو، الحلبي بمصر. حاشية الشيخ سليمان عبد الله الأزميري المتوفى سنة 1102هـ على مرآة الأصول: المطبعة العامرة، الشركة الصحافية العثمانية. حاشية العلامة عبد الرحمن جاد الله البناني المتوفى سنة 1198هـ على شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع لابن السبكي: طبع دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي وشركاه. حاشية الشيخ إبراهيم محمد الباجوري (1198-1277هـ) على متن السلم في فن المنطق للإمام الأخضري (عبد الرحمن 918-983هـ) . حاشية الدسوقي محمد أحمد عرفة المتوفى سنة 1230هـ على الشرح الكبير: طبع دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، مصر. حاشية رد المختار على الدر المختار: لمحمد الأمين الشهير بابن عابدين الحنفي 01198-1252هـ) ، الطبعة الثانية الحلبي سنة 1386هـ-1966م. حاشية الرهاوي المصري على شرح المنار: لابن ملك، مطبعة نظارة المعارف العمومية الهندية سنة 1313هـ. حاشية الشيخ سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة 791هـ على شرح عضد الدين لمختصر ابن الحاجب: مراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل، مطبعة الكليات الأزهرية سنة 1393هـ. حاشية الشيخ حسن العطار المتوفى سنة 1250هـ على شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع: مطبعة مصطفى محمد، بمصر. حلية اللب المصون: للشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري شيخ الجامع الأزهر (1101-1192هـ) شرح الجوهر المكنون للإمام عبد الرحمن الأخضري، الطبعة الثانية سنة 1370هـ-1950م، مصطفى البابي الحلبي، مصر.

خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: للشيخ عبد القادر ابن عمر البغدادي 1030-1093هـ) دار صادر، بيروت. الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب: لبرهان الدين إبراهيم بن علي المعروف بابن فرحون المالكي المتوفى سنة 799هـ، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث للطباعة والنشر، القاهرة. ذيل تذكرة الحفاظ: لتلميذ الذهبي محمد بن علي الحسيني الدمشقي المتوفى سنة 765هـ، طبع دار إحياء التراث العربي. رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان: للدكتور زين العابدين محمد النور السوداني. الرسالة: للإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي (150-204هـ) ، تحقيق وشرح أحمد شاكر سنة 1309هـ. رسالة مباحث القياس الأصولي: للشيخ يس سويلم طه الأصولي، المدرس بكلية الشريعة. رسائل الإصلاح: لابن عابدين محمد أمين (1198- 1252هـ) . رسالة التوحيد: للإمام محمد عبده المتوفى سنة 1323هـ، مطبعة المنار بمصر سنة 1326هـ. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: للشيخ شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي المتوفى سنة 1270هـ، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان. روضة الناظر وجنة المناظر: لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (541-620هـ) القاهرة 1378هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها.

سلم الوصول: للشيخ محمد بخيت المطيعي المتوفى سنة 1935م، على نهاية السول للأسنوي، المطبعة السلفية لمحب الدين الخطيب، القاهرة سنة 1345هـ. سنن أبي داود: للإمام الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275هـ، وعليه تعليق الشيخ أحمد سعد، الطبعة الأولى سنة 1371هـ-1952م، مطبعة مصطفى الحلبي، بمصر. سنن ابن ماجه: للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه (207-275هـ) تحقيق وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي. السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ، تحقيق ومراجعة محمد عبد الله السمان، توزيع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. الشافعي، حياته، وعصره، وآراؤه، وفقهه: للدكتور محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: للشيخ محمد محمد مخلوف، طبعة جديدة بالأوفست عن الأولى سنة 1349هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. تنقيح الفصول في اختصار المحصول: لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684هـ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، دار الفكر للطباعة والنشر. شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد عبد الحي ابن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت طبعة بالأوفست. شرح المحلى محمد بن أحمد الشافعي المتوفى سنة 864هـ لجمع الجوامع مع حاشية العطار: مطبعة مصطفى محمد بمصر.

شرح موطأ الإمام مالك: لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني (1055-1122هـ) ، مطبعة مصطفى الحلبي، بمصر. شرح صحيح مسلم: للإمام النووي محيي الدين بن شرف (631-676هـ) ، المطبعة المصرية ومكتبتها. الشرح الكبير: لأبي البركات أحمد محمد الدردير المتوفى سنة 1201هـ، لمختصر خليل بن إسحاق المالكي، طبع دار الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي. شرح القاضي عضد الملة والدين عبد الرحمن الأيجي المتوفى سنة 756هـ لمختصر المنتهى الأصول لابن الحاجب المالكي المتوفى سنة 646هـ: مراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1393هـ1973م. شرح المنار: لعز الدين بن عبد اللطيف بن ملك المتوفى سنة 801هـ/ مع حواشيه، مطبعة المعارف العمومية. شرح المواقف: للسيد الشريف الجرجاني علي بن محمد المتوفى سنة 816هـ، دار الطباعة العامرة. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: لشمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ. شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل، ومسالك التعليل: لحجة الإسلام أبي حامد محمد محمد الغزالي (450- 505هـ) تحقيق الدكتور حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد ببغداد سنة 1390-1971م. صحيح البخاري: للإمام محمد بن إسماعيل الجعفي (194-256هـ) مكتبة الجمهورية العربية، لعبد الفتاح عبد الحميد مراد بشارع الصنادقية، بمصر.

صحيح مسلم بن الحجاج القشيري المتوفى سنة 261هـ: مطبعة محمد علي صبيح، بمصر. ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الأستاذ بجامعة دمشق، مؤسسة الرسالة. ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة: للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني، طبع دار القلم، دمشق بيروت. طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين عبد الوهاب بن علي ابن عبد الكافي (727-771هـ) تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناحي، الطبعة الأولى، عيسى البابي الحلبي. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، المتوفى سنة 751هـ، قدم له وعرفه محمد محيي الدين عبد الحميد، وراجعه وصححه أحمد عبد الحليم سنة 1380هـ 1961م، المؤسسة العربية للطباعة والنشر بالقاهرة. العناية شرح الهداية: لمحمد محمود البابرتي المتوفى سنة 786هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، بمصر. غاية الوصول شرح لب الأصول: كلاهما لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي المتوفى سنة 926هـ، الطبعة الأخيرة، مصطفى البابي الحلبي سنة 1360هـ 1941م. غاية المرام في علم الكلام: لسيف الدين الآمدي (551-631هـ) طبع لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، القاهرة سنة 1391هـ-1971م. فتح الباري: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 0773-852هـ) ، شرح صحيح البخاري، رقم كتبه وأبوابه محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية ومكتبتها.

الفتح المبين في طبقات الأصوليين: للشيخ عبد الله مصطفى المراغي معاصر، الطبعة الثانية سنة 1394هـ1974م، الناشر محمد أمين دمج وشركاه، بيروت، لبنان. فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي: تأليف شمس الدين ابن محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902هـ، ضبظ وتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. فتح القدير شرح الهداية: للشيخ كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي، المتوفى سنة 681هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. فتح الودود: للشيخ محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي شرح مراقي السعود للشيخ سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم، الطبعة الأولى، بالمطبعة المولوية بفاس سنة 1321هـ. الفصل في الملل والأهواء والنحل: للإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي المتوفى سنة 456هـ، ومعه الملل والنحل، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر. فصول البدائع في أصول الشرائع: لشمس الدين محمد بن حمزة الفناري (751-834هـ) مطبعة يحيى أفندي سنة 1289هـ. فواتح الرحموت: لعبد العلي محمد نظام الدين الأنصاري المتوفى سنة 1180هـ شرح مسلم الثبوت في أصول الفقه مع المستصفى، طبعة جديدة بالأوفست مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة. الفكر السامي: للشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي (1291-1376م) ، خرج أحاديثه وعلق عليه الدكتور عبد العزيز عبد الفتاح القاري، مكتبة محمد سلطان النمنكاني بالمدينة المنورة.

القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (729-817هـ) ، الطبعة الثانية سنة 1371هـ-1952م، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، بمصر. القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني: للدكتور عبد الكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، لبنان. قواعد الأحكام في مصالح الأنام: للشيخ سلطان العلماء أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، المتوفى سنة 660هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. القياس في الشرع الإسلامي: لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ وابن القيم المتوفى سنة 751هـ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. كتاب الحدود في الأصول: للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي، المتوفى سنة 474هـ، تحقيق الدكتور نزيه حماد، الناشر مؤسسة الزعبي للطباعة والنشر، بيروت، لبنان. كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: للشيخ إسماعيل العجلوني، المتوفى سنة 1162هـ، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، بيروت. كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي: تأليف علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي المتوفى سنة 720هـ، طبعة جديدة بالأوفست سنة 1394هـ- 1974م، دار الكتاب العربي، بيروت. كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون: لمصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة (1017-1067هـ) منشورات مكتبة المتنبي، بغداد، طبعة بالأوفست، بيروت. كنز الأصول في أصول الفقه المعروف بأصول البزدوي: لفخر الإسلام علي محمد البزدوي (400-482هـ) مطبوع مع شرحه كشف الأسرار.

لسان العرب: لابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري (630-711هـ) مطبعة مصورة عن طبعة بولاق، دار صادر للتأليف والترجمة. مالك بن أنس، حياته، وعصره، وآراؤه، وفقهه: للدكتور أبي زهرة، دار الفكر العربي. مجموع الرسائل الكبرى: لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم المتوفى سنة 728هـ، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر. المحصول في علم أصول الفقه: للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي (544-606هـ) ، نقلت عنه مخطوطاً، بمكتبة الجامعة الإسلامية، وبمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، ومطبوعاً بتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني، الطبعة الأولى سنة 1399هـ 1979م، جامعة الإمام محمد بالرياض. مختار الصحاح: للشيخ محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي، عني بترتيبه محمود خاطر بك، الناشر دار الفكر. مختصر المنتهى الأصولي: لابن الحاجب المالكي، المتوفى سنة 646هـ، مع شرحه وحواشيه، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة. المختصر في أصول الفقه: للشيخ علي بن محمد بن علي البعلي الدمشقي الحنبلي المعروف بابن اللحام، تحقيق الدكتور محمد مظهر، مطبوعات جامعة الملك عبد العزيز، بجدة. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: للشيخ عبد القادر ابن أحمد المعروف بابن بدران المتوفى سنة 1346هـ، الدمشقي، إدارة الطباعة المنيرية، بمصر. المدونة الكبرى: لسحنون بن سعيد التنوخي (160- 240هـ) عن عبد الرحمن بن القاسم المتوفى سنة 191هـ، دار الفكر بيروت، سنة 1398هـ 1978م.

مذكرة أصول الفقه: للشيخ محمد الأمين محمد المختار الشنقيطي، المتوفى سنة 1393هـ، على روضة الناظر لابن قدامة، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. المرشد السليم في المنطق الحديث والقديم: للدكتور عوض الله حجازي أستاذ وعميد كليه أصول الدين بجامعة الأزهر، الطبعة الرابعة، دار الطباعة المحمدية، القاهرة. مراقي السعود إلى مبتغي الرقي والصعود، نظم في أصول الفقه: للعلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي المتوفى في حدود سنة 1233هـ/ مطبوع مع شرحه نشر البنود لصاحب النظم، طبع وزارة الأوقاف المغربية. المستصفى من علم الأصول: لحجة الإسلام محمد محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ، مطبوع مع فواتح الرحموت، طبعة بالأوفست الجديدة، مؤسسة الحلبي. مسلم الثبوت: لمحب الله بن عبد الشكور المتوفى سنة 1119هـ، طبع مع شرحه فواتح الرحموت بذيل المستصفى، طبعة بالأوفست، مؤسسة الحلبي. المسودة لآل تيمية: تحقيق وتفصيل وضبط محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني بالقاهرة. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: تأليف العالم أحمد ابن محمد الفيومي المتوفى سنة 770هـ، تصحيح مصطفى السقا، مطبعة مصطفى الحلبي، بمصر. المصلحة في التشريع الإسلامي: للدكتور مصطفى زيد. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.

موطأ الإمام مالك بن أنس رحمه الله المتوفى سنة 179هـ، مع تنوير الحوالك للسيوطي المتوفى سنة 911هـ: الطبعة الأخيرة سنة 1370هـ 1951م، مصطفى البابي الحلبي. المعتمد في أصول الفقه: لأبي الحسين البصري المتوفى سنة 436هـ، هذبه وحققه محمد حميد الله بتعاون مع محمد بكر وحسن حنفي، دمشق سنة 1384هـ- 1964م. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: لمحمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: ترتيب وتنظيم لفيف من المستشرقين، مكتبة برلين -ليدن 1926م. المغني في الفقه: لأحمد بن محمد بن قدامة المتوفى سنة 620هـ، شرح مختصر الخرقي، تصحيح الدكتور محمد خليل هراس، مطبعة الإمام بمصر. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: للشيخ محمد الشربيني المتوفى سنة 1321هـ، طبع سنة 1352هـ-1933م، مطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. مقدمات ابن رشد لبيان ما اقتضته المدونة من الأحكام: لابن الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 520هـ بذيل المدونة، دار الفكر، بيروت سنة 1398هـ-1978م. مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة 330هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية سنة 1389هـ-1969م، مطبعة مكتبة النهضة. مكمل إكمال الأكمال: لمحمد محمد السنوسي، المتوفى سنة 895هـ على إكمال إكمال المعلم، دار الكتب العلمية.

الملل والنحل: لعبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ بذيل الفصل، مطبعة محمد علي صبيح، بمصر. المنخول من تعليقات الأصول: لأبي حامد محمد محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ، تحقيق محمد حسن هيتو. منتهى السول في علم الأصول: لسيف الدين الآمدي المتوفى سنة 631هـ، مطبعة محمد علي صبيح بمصر. منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل: لابن الحاجب عثمان بن عمر المتوفى سنة 646هـ، الطبعة الأولى سنة 1326هـ، مطبعة السعادة بمصر. منهاج السنة في نقض كلام الشيعة والقدرية: لابن تيمية أحمد بن عبد الحليم المتوفى سنة 728هـ مكتبة دار العروبة، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم. منهاج العقول شرح منهاج الوصول: تأليف الشيخ محمد حسن البدخشي مع نهاية السول، مطبعة محمد علي صبيح، بمصر. المواقف في علم الكلام: لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الأيجي المتوفى سنة 756هـ، عالم الكتب، بيروت. الموافقات في أصول الشريعة: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790هـ، دار المعرفة للطباعة والنشر، تحقيق وتعليق الشيخ عبد الله دراز. مواهب الجليل شرح خليل: للحطاب محمد محمد عبد الرحمن الطرابلسي المتوفى سنة 954هـ، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا. ميارة على تحفة الحكام: تأليف محمد أحمد ميارة الفاسي المتوفى سنة 1072هـ.

نبراس العقول في تحقيق القياس، عند علماء الأصول: للشيخ عيسى منون المولود سنة 1308هـ، مطبعة التضامن الأخوي، بمصر. نشر البنود شرح مراقي السعود: كلاهما للشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، المتوفى في حدود سنة 1233هـ، طبع وزارة الأوقاف المغربية. نصب الراية لأحاديث الهداية: للشيخ جمال الدين عبد الله ابن يوسف الحنفي الزيلعي المتوفى سنة 762هـ، مطبوعات المجلس العلمي بدمشق. نهاية السول شرح منهاج الوصول: لعبد الرحيم الأسنوي، المتوفى سنة 772هـ، مع منهاج العقول، محمد علي صبيح بمصر. نهاية الإقدام في علم الكلام: لعبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ. نيل الأوطار: للشيخ محمد علي الشوكاني المتوفى سنة 1255هـ، شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، الطبعة الأخيرة، مصطفى البابي الحلبي بمصر. الهداية شرح البداية: لبرهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني الحنفي، المتوفى سنة 593هـ، مصطفى الحلبي، بمصر. هدية العارفين في أسماء المؤلقين وآثار المصنفين: لإسماعيل محمد أمين باشا البغدادي المتوفى سنة 1339هـ، مطبعة وكالة المعارف، استنبول سنة 1951م، طبعة بالأوفست، مكتبة المثنى ببغداد. الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: للدكتور وهبة الزحيلي، الطبعة الثاني سنة 1388هـ، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (608-681هـ) تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.

§1/1