الوساطه بين المتنبي وخصومه ونقد شعره

الجرجاني، أبو الحسن

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التفاضل - أطال الله بقاءك - داعيةُ التنافس؛ والتنافسُ سبب التحاسد؛ وأهل النقص رجلان: رجل أتاه التقصيرُ من قبَله، وقعَد به عن الكمال اختيارُه، فهو يساهم الفضلاءَ بطبعه، ويحنو علي الفضل بقدر سهمهِ؛ وآخرُ رأى النقص ممتزجاً بخِلقَته، ومؤثّلاً في تركيب فطرته، فاستشْعر اليأس من زواله، وقصُرتْ به الهمةُ عن انتقاله؛ فلجأ الى حسَد الأفاضل، واستغاث بانتقاص الأماثل؛ يرى أن أبلغَ الأمور في جبر نقيصته، وستْر ما كشفه العجزُ عن عورته اجتذابُهم الى مُشاركته، ووسمُهم بمثل سِمَتِه، وقد قيل: وإذا أرادَ اللهُ نشْرَ فضيلةٍ ... طُوِيَت أتاحَ لها لِسانَ حسودِ صدق والله وأحسن! كم من فضيلة لو لم تستَتِرْها المحاسد لم تبرحْ في الصدور كامنة، ومنقبةٍ لو لم تُزْعِجْها المنافسة لبقيت على حالها ساكنة! لكنها برزتْ فتناولتْها ألسنُ الحسَّد تجلوها، وهي تظن أنها تمحوها، وتشهَرُها وهي تحاول

أن تستُرَها؛ حتى عثَر بها مَن يعرف حقها، واهتدى إليها مَنْ هو أولى بها، فظهرت على لسانه في أحسن معرِض، واكتست من فضله أزينَ ملبس؛ فعادت بعد الخمول نابهة، وبعد الذبول ناضرة، وتمكنت من برِّ والدها فنوّهت بذكره، وقدَرت على قضاء حقِّ صاحبها فرفعت من قَدْره (وعَسى أن تكْرَهوا شيْئاً وهُوَ خيرٌ لكُم) . ولم تزَل العلومُ - أيّدك الله - لأهلها أنساباً تتناصرُ بها، والآدابُ لأبنائها أرحاماً تتواصل عليها، وأدنى الشِّرك في نسب جوار، وأول حقوق الجار الامتعاضُ له، والمحاماةُ دونه، وما مَنْ حفظ دمه أن يُسفك، بأولى ممّن رَعى حريمه أن يهتك ولا حرمةَ أولى بالعناية، وأحقُّ بالحماية، وأجدر أن يبذل الكريمُ دونها عِرضَه، ويمتهن في إعزازها مالَه ونفسَه من حُرمة العلم الذي هو روْنَق وجْهه، ووقاية قدْره، ومَنار اسمه، ومَطيّة ذِكره. وبحَسَب عِظَم مزيته وعلوّ مرتبته يعظم حقّ التشارك فيه، وكما تجب حياطتُه، تجب حياطة المتّصل به وبسببه، وما عقوق الوالد البَرّ، وقطيعةُ الأخ المشفِق، بأشنعَ ذِكراً، ولا أقبح وسْماً من عقوق من ناسبَك الى أكرم آبائك، وشاركك في أفخر أنسابك، وقاسمك في أزين أوصافك، ومتَّى إليك بما هو حظّك من الشرف، وذريعتُك الى الفخر. وكما ليس من شرْط صِلَة رحمك أن تحيف لها على الحق، أو تميلَ في نصرها عن القصد، فكذلك ليس من حُكم مراعاة الأدب أن تعدِل لأجله عن الإنصاف، أو تخرج في بابه الى الإسراف، بل تتصرّف على حكم العدل كيف صرَفك، وتقف على رسْمه كيف وقفَك، فتنتَصِف تارة وتعتذر أخرى، وتجعل الإقرار بالحق عليك

شاهداً لك إذا أنكرت، وتقيم الاستسلام للحجة - إذا قامت - محتجاً عنك إذا خالَفْت، فإنه لا حال أشدّ استعطافاً للقلوب المنحرفة، وأكثر استمالةً للنفوس المشمئزة، من توقّفك عند الشُبهة إذا عرَضت، واسترسالِك للحجة إذا قهرت، والحكمِ على نفسك إذا تحققت الدعوى عليها، وتنبيه خصمك على مكامن حيَلك إذا ذهب عنها؛ ومت عُرفْت بذلك صار قولُك برهاناً مسلَّماً، ورأيك دليلاً قاطعاً، واتهم خصمُك ما علمه وتيقنه، وشكّ فيما حفظه وأتقنه، وارتاب بشهوده وإن عدّلتهم المحبة، وجَبُن عن إظهار حُججه وإن لم تكن فيها غميزة، وتحامتك الخواطر فلم تقدم عليك إلا بعد الثقة، وهابتك الألسُن فلم تعرض لك إلا في الفَرْط والنُدرة. وما زلتُ أرى أهل الأدب - منذ ألحقتني الرغبةُ بجملتهم، ووصلَت العنايةُ بيني وبينهم - في أبي الطيب أحمد بنِ الحسين المتنبي فئتين: من مُطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته، منحطّ في هواه بلسانه وقلبه، يلتقي مناقِبَه إذا ذُكِرت بالتعظيم، ويُشيع محاسنه إذا حُكيت بالتفخيم، ويُعجَب ويعيد ويكرر، ويميل على من عابه بالزِّراية والتقصير، ويتناول من ينقصُه بالاستحقار والتجهيل؛ فإن عثَر على بيت مختلّ النظام، أو نِبَه على لفظ ناقص عن التمام التزم من نُصرة خطئه، وتحسين زلَله ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر. وعائبٍ يروم إزالتَه عن رُتبته، فلم يسلّم له فضله، ويحاول حطّه عن منزلةٍ بوّأه إياها أدبُه؛ فهو يجتهدُ في إخفاء فضائله، وإظهار مَعايبه، وتتبع سقطاتِه، وإذاعة غَفلاته. وكلا الفريقين إما ظالمٌ له أو للأدب فيه؛ وكما أن الانتصار جانبٌ من العدْل لا يسدّه الاعتذار؛ فكذلك الاعتذار جانب هو أولى به من الانتصار، ومَن لم يفرِّق

أغاليط الشعراء

بينهما وقفت به المَلامةُ بين تفريط المقصّر، وإسراف المفرِط؛ وقد جعل الله لكل شيء قدْراً، وأقام بين كل حديث فصْلاً؛ وليس يطالَب البَشر بما ليس في طبع البشر، ولا يُلتَمس عند الآدميّ إلا ما كان من طبيعة ولدِ آدم؛ وإذا كانت الخلقة مبنيةً على السهو وممزوجة بالنسيان؛ فاستسقاط من عزّ حالُه حيْف، والتحامُل على من وُجِّه إليه ظلم. وللفضل آثارٌ ظاهرة، وللتقدم شواهدُ صادقة، فمتى وجِدتْ تلك الآثار، وشوهدت هذه الشواهد فصاحبُها فاضل متقدم؛ فإن عُثِر له من بعدُ على زلّة، ووحدت له بعَقِب الإحسان هفْوة انتُحِل له عذرٌ صادق، أو رُخصة سائِغة؛ فإن أعوز قيل: زلّة عالم، وقلّ من خَلا منها، وأيُّ الرجال المهذب! ولولا هذه الحكومة لبطل التفضيل، ولزال الجَرْح ولم يكن لقولنا فاضل معنى يوجد أبداً، ولم نسِمْ به إذا أردنا حقيقة أحداً، وأي عالم سمعت به ولم يزلّ ويغلط! أو شاعر انتهى إليك ذكره لم يهْفُ ولم يسقط! أغاليط الشعراء ودونك هذه الدواوين الجاهلية والإسلامية فانظر هل تجد فيها قصيدة تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدْح فيه؛ إما في لفظه ونظمه، أو ترتيبه وتقسيمه، أو معناه، أو إعرابه؟ ولولا أن أهلَ الجاهلية جُدّوا بالتقدم، واعتقد الناس فيهم أنهم القدوة، والأعلام والحجة، لوجدتَ كثيراً من أشعارهم معيبة مسترذَلة، ومردودة منفية، لكن هذا الظنّ الجميل والاعتقاد الحسن ستر عليهم، ونفى الظِّنة عنهم، فذهبت الخواطر في الذبّ عنهم كلّ مذهب، وقامت في الاحتجاج لهم كل مقام،

وما أراك - أدام الله توفيقك - إذا سمعتَ قول امرئ القيس: أيا راكباً بلّغَ إخواننا ... مَن كان من كِندَة أو وائل فنصب بلغ، وقوله: فاليوْم أشْرَبْ غيرَ مُستَحقِبٍ ... إثْماً من الله ولا واغِلِ فسكن أشرب، وقوله: لَها مَتْنَتان خَظاتا كماً ... أكبّ على ساعدَيْه النّمِرْ فأسقط النون من خَظاتَا لغير إضافة ظاهرة. وقول لبيد: تَرّاكَ أمكنة إذا لم أرْضَها ... أو يرتَبطْ بعض النّفوسِ حِمامُها فسكن يرتبطْ ولا عمل فيها للَم. وقول طرفة: قد رُفِع الفَخّ فماذا تحذَري فحذف النون. وقول الأسدي:

كنا نرقّعها وقد مُزِّقت ... واتسع الخرْق على الراقع فسكن نرقّعها. وقال الآخر: تأبى قُضاعة أن تعْرِفْ لكمْ نسَباً ... وابْنا نِزار وأنتُم بيضَةُ البَلَدِ فسكن تعرف، وقول الآخر: يا عَجَباً والدهر جمٌ عجبُهْ ... من عَنْزيٍّ سبّني لم أضرِبُهْ فرفع أضربه. وقول الفرزدق: وعضُّ زمانٍ يا بْنَ مرْوانَ لم يدَعْ ... من المالِ إلا مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ فضم مجلَّفاً. وقول ذي الخِرَق الطُّهَوي: يقول الخَنى وأبغَضُ العُجْم ناطِقاً ... الى ربنا صُوْتُ الحمار اليُجَدَّعُ فأدخل الألف واللام على الفعل. وقول رؤبة:

أقْفرَتِ الوعْثاء والعُثاعثُ ... من بعْدهم والبُرَق البَرارِثُ وإنما هي البِراث جمع برَث؛ وهي الأماكن السهلة من الأرض، وروى البَوارث وكأنه جمع بارثة. وقول بعض الرّجّاز؛ أنشده المفضّل: كانت عجوزاً عُمِّرتْ زمانا ... وهي ترى سَيْئَها إحسانا تعرفُ منها الأنفَ والعَينانا ففتح النون من العينانا. وقول آخر منهم - أنشده أبو زيد: طاروا عليهنّ فطِرْ عَلاها ... واشدُدْ بمَثنى حَقَب حَقواها ناجيةً وناجياً أباها فرفع حَقواها، وحقّه النصب، كما قد نصب أباها، وحقّه الرفع. وقول الأقيشر: وقد بَدا هَنْك من المئْزرِ

وقول نقيع بن جُرموز: أطوّفُ ما أطوفُ ثم آوي ... الى أمَّى ويرويني النقيعُ فأدخل الألف في أمّى لغير نداء ولا ضرورة. وغيرُ هذا مما هو أسهلُ منه قول امرئ القيس: كأن ثَبيراً من عَرانين وبْلهِ ... كبيرُ أناسٍ في بِجادٍ مزمَّلِ فخفض مُزَمّلا، وهو وصفُ كبير. وقول الفرزدق: بخيْرِ يَدَيْ منْ كان بعد محمّدٍ ... وجارَيْه والمقتولِ للهِ صائمِ فخفض صائم. وقول رؤبة: قد شفّها النوح بمأزولٍ ضيَقْ ففتح الياء. ومثال ذلك مما يُخرِج الكتاب عن غرضه. ثم اسعرضتَ إنْكارَ الأصمعي وأبي زيد وغيرهما هذه الأبيات وأشباهها، وما جرى بين عبد الله بن أبي إسحاق الحضرَمي والفرزدق في أقواله ولحنه في قوله:

فلوْ كانَ عبدُ اللهِ موْلًى هجوتُهُ ... ولكنّ عبدَ الله موْلى مَوالِيا ففتح الياء من موالي في حال الجر، وما جرى له مع عنْبَسَة الفيل النحوي حتى قال فيه: لقد كان في معْدان والفيل شاغل ... لعنبَسَة الرّاوي عليّ القصائدا وما كان القدماء يتّبعونه في أشعار الأوائل من لحن وغلط وإحالة وفساد معنى؛ حتى قال البرْدَخْت لبعض النحويين: لقد كان في عينيك يا حفصُ شاغل ... وأنف كمثلِ العودِ مما تتبَّعُ تتبّع لحناً في كلام مرقّشٍ ... وخلْقُك مبنيٌّ على اللحن أجمع فعيناك إقواء وأنفك مكْفأ ... ووجهُك إيطاء فأنت المرقّع

عود إلى أغاليط الشعراء

وقول الأصمعي في الكميت: جُرمُقانيّ من جَراميق الشام لا يُحتجّ بشعره، وما أنكره من شعر الطّرمّاح، ولحّن فيه ذا الرُمّة. ثم تصفحتَ مع ذلك ما تكلّفه النحويون لهم من الاحتجاج إذا أمكن: تارة بطلب التخفيف عند توالي الحركات، ومرة بالإتباع والمجاورة؛ وما شاكلَ ذلك من المعاذير المتمحَّلة، وتغيير الرواية إذا ضاقت الحجّة؛ وتبيّنتَ ما راموه في ذلك من المَرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصّعبة، التي يشهد القلب أن المحرّك لها، والباعث عليها شدةُ إعظام المتقدم، والكلَفُ بنُصرة ما سبق إليه الاعتقاد، وألِفته النفس. عود إلى أغاليط الشعراء ثم عدتَ الى ما عدّده العلماء من أغاليطهم في المعاني، كقول امرئ القيس: وأركبُ في الرّوع خيْفانةً ... كسا وجْهَها شعرٌ مُنتشِرْ وهذا عيبٌ في الخيل. وقول زهير: يخرُجن من شرَباتٍ ماؤها طحِلٌ ... على الجذوع يخفن الغمّ والغرقا

والضفادع لا تخاف شيئاً من ذلك. وقول سلَمة بن الخُرشُب: إذا كان الحِزامُ لقُصرَيَيْها ... أماماً حيث يمتسِك البَريم يقول: إن الحزامَ يقرب في جولانه إذا أكثر من عدْوِه فيصير أمام القصريين. قال الأصمعي: أخطأ في الوصف؛ لأن خيرَ جرْي الإناث الخُضوع، وإنما يُختار الإشراف في جرْي الذكور، فإذا اختضعت تقدّم الحزام، كما قال بِشر بن أبي خازم: نَسوفٍ للحِزامِ بمرفَقَيها ... يسدّ خَواء طُبْيَيْها الغُبارُ وقد ساعد متمِّمُ بن نويرة على هذا الوصف سلَمة فقال: وكأنه فوتَ الجوالِب جانِئاً ... رِئْمٌ تضايَفَه كلابٌ أخضَع

فوصف الذكر بالخضوع، وإنما يُختار له الإشتراف. وكقول الجعْدي: كأن تواليهما بالضّحى ... نواعم جَعْل من الأثْأبِ والجَعْل: صغار النخل، وإنما المراد الكبار، وبه يصحّ الوصفُ فيما زعموا. وقول أبي ذؤيب يصف الفرس: قصَرَ الصّبوحَ لها فشُرِّجَ لحمُها ... بالنِّيّ فهْي تَثوخُ فيها الإصبَعُ قال الأصمعي: حمارُ القصّار خيرٌ من هذا، وإنما يوصف الفرسُ بصلابة اللحم وقول أبي النّجم: تسبح أُخْراه ويطفو أوّله واضطراب مآخيرِ الفرس قبيح. وقول المسيّب بن علَس: وكأنّ غارِبَها رباوة مخرِمٍ ... وتَمُدّ ثِنْي جديلها بشَراع أراد تشبيه العُنق بالدّقل فغلط، كما غلط طرَفة في السُكان فقال: كسُكّان بوصيّ بدَجْلَة مُصعِد

وإنما يريد الدّقَل. وقول امرئ القيس: إذا ما الثّريا في السماءِ تعرّضَتْ ... تعرُّضَ أثناء الوِشاحِ المفصَّلِ والثريا لا تتعرّض، وإنما تتعرض الجوزاء. وقول رؤبة: كنتم كمن أدخل في جُحْر يَدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا فجعل الأفعى دون الأسود، وهي أشدّ نكاية منه. وقول زهير: كأحْمرِ عادٍ ثم تُرضِعْ فتَفطِم وإنما هي أحْمر ثمود. وقول ليلى، ويروى لحُمَيد: لما تخايلت الحُمول حسبتها ... دوماً بأيلَة ناعماً مكْموما والدّوْم لا أكمام له. هذا ما يعرفونه صباحاً مساءً. ويمارسونه على طول الدهر؛ فدعْ ما يخفى عليهم ويبعُد عن أبصارهم. كقول أبي ذؤيب في الدُرّة: فجاءَ بها ما شِئتَ من لطَميّة ... يدور الفراتُ حولَها ويموجُ

فالفرات هو العذْب، والدرُّ، لا يوجد إلا في المِلْح. وقول الآخر: فيه الرماحُ وفيه كلّ سابغة ... جدْلاء مُحكَمةٍ من نسْجِ سلاّمِ وقول الآخر: وكلّ صَموتٍ نثْلَةٍ تُبّعيّةٍ ... ونسْجُ سُلَيمٍ كلّ قضّاء ذائِل أرادا داود فغلطا الى سليمان، ثم حرّفا اسمه فقال أحدهما: سلاّم وقال الآخر سُلَيم، كما قال الآخر: والشيخ عثمان بن عف أراد ابن عفان. وقال الآخر: ومحوَرٍ أُخلِص من ماء اليَلَبْ جعل اليَلَب حديداً وإنما هي سُيور؛ كما قال غيره: لم تدْرِ ما نسجُ اليرَنْدَج قبْلَها فإنه ظن أن اليرندج نسج، وإنما اليرَندَج جلود. وقول الآخر:

الشعر

برّيّة لم تأكل المرَقّقا ... ولم تذُقْ من البُقول الفُستُقا فجعل الفُستُق بقْلاً. وأشبه ذلك مما يكثر تعقبه، ولم نذكر إلا اليسيرَ منه فيما نريده - شككتَ في أن نفْعَ هذا الحكم عام، وجدْواه شامل، وأن المتقدم يضْرب فيه بسهم المتأخر، والجاهليّ يأخذ منه ما يأخذ الإسلامي، وأنه قول لا حظّ له في العصبية، ولا نسبَ بينه وبين التحامل. وليس يجب إذا رأيتني أمدح محدَثاً أو أذكر محاسن حضَريّ أن تظن بي الانحرافَ عن متقدم، أو تنسُبني الى الغضّ من بدوي؛ بل يجب أن تنظر مغْزاي فيه، وأن تكشف عن مقصدي منه، ثم تحكم عليّ حكم المنصف المتثبت، وتقضي قضاء المُقسِط المتوقّف. الشعر أنا أقول - أيدك الله - إن الشعر علمٌ من علوم العرب يشترك فيه الطبعُ والرّواية والذكاء، ثم تكون الدُّرْبَة مادةً له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرِّز؛ وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان، ولست أفضّل في هذه القضية بين القديم والمحدث، والجاهلي والمُخضرِم، والأعرابي والمولَّد؛ إلا أنني أرى حاجة المحْدَث الى الرواية أمَسّ، وأجده الى كثرة

الحفظ أفقر؛ فإذا استكشفْت عن هذه الحالة وحدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناولُ ألفاظ العرب، إلا رِواية؛ ولا طريقَ للرواية إلا السمع؛ وملاكُ الرواية الحفظ، وقد كانت العرب تروي وتحفظ، ويُعرف بعضها برواية شعرِ بعض؛ كما قيل: إن زهيراً كان راوية أوْس، وإن الحُطيْئَة راوية زهير، وإن أبا ذؤيب راوية ساعدة بن جؤيّة؛ فبلغ هؤلاء في الشعر حيثُ تراهم، وكان عبيد راوية الأعشى ولم تُسمَع له كلمة تامة، كما لم يسمع لحسين راوية جرير، ومحمد بن سهل راوية الكميت، والسائب راوية كثيّر؛ غير أنها كانت بالطبع أشدّ ثقة وإليه أكثر استئناساً؛ وأنت تعلم أن العرب مشتركة في اللغة واللسان، وأنها سواء في المنطق والعبارة، وإنما تَفضُل القبيلةُ أختها بشيء من الفصاحة. ثم تجد الرجل منها شاعراً مُفْلقاً، وابنَ عمه وجار جَنابه ولصيقَ طُنُبه بكيئاً مفحَماً؛ وتجد فيها الشاعرَ أشعرَ من الشاعر، والخطيبَ أبلغَ من الخطيب؛ فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدّة القريحة والفِطنة! وهذه أمور عامة في جنس البشر لا تخصيص لها بالأعْصار، ولا يتّصف بها دهر دون دهر. فإن قلت: فما بالُ المتقدمين خُصّوا بمتانة الكلام وجزالة المنطق وفخامة الشعر، حتى إن أعْلَمَنا باللغة وأكثرَنا رِواية للغريب لو حفظ كلّ ما ضمّت الدواوينُ المرويّة، والكتبُ المصنفة من شعر فحْل، وخبر فصيح، ولفظ رائع - ونحن نعلم أن معظم هذه اللغة مضبوط مرويّ، وجلّ الغريب محفوظ منقول - ثم أعانه الله بأصحّ طبع وأثقب ذهن وأنفذ قريحة، ثم حاول أن يقول قصيدة، أو يقرضَ بيتاً يُقارب شعر امرئ القيس وزهير، في فخامته وقوة أسْره، وصلابة معجَمه لوجده أبعد من العيّوق مُتناولاً، وأصعبَ من الكبريت الأحمر مطلباً؟ قلت: أحلتُك

على ما قالت العلماء في حمّاد وخلَف وابن دأْب وأضرابِهم، ممن نحلَ القدماء شعرَه فاندمج في أثناء شعرهم، وغلب في أضعافه، وصعُب على أهل العناية إفرادُه وتعسّر، مع شدة الصعوبة حتى تكلّف فلْي الدواوين واستقراءُ القصائد فنُفِي منها ما لعلّه أمتن وأفخم، وأجمع لوجوه الجوْدة وأسباب الاختيار مما أثبت وقُبِل. وهؤلاء مُحدثون حضريّون، وفي العصر الذي فسد فيه اللسان، واختلطت اللغة وحُظِر الاحتجاجُ بالشعر، وانقضى مَنْ جعله الرواة ساقة الشعراء. فإن قلت: فما بالُ هذا النّمط والطريقة، وهذه المنقَبة والفضيلة ينفردُ بها الواحد في العصر وهو مشحون بالشعر، وكان فيما مضى يشمل الدّهْماء ويعم الكافة؟ قلت لك: كانت العرب ومَنْ تبعها من السلَف تجري على عادةٍ في تفخيم اللفظ وجمال المنطق لم تألفْ غيرَه، ولا أنِسها سواه، وكان الشعرُ أحدَ أقسام منطقها، ومن حقّه أن يُختص بفضل تهذيب، ويُفرَد بزيادة عناية، فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة، وانضاف إليها التعمّل والصنعة خرج كما تراه فخماً جزْلاً قوياً متيناً. وقد كان القومُ يختلفون في ذلك، وتتباينُ فيه أحوالهم، فيرقّ شعرُ أحدهم، ويصلُب شعرُ الآخر، ويسهل لفظُ أحدهم، ويتوعّر منطقُ غيره؛ وإنما ذلك بحسَبِ

اختلاف الطبائع، وتركيب الخلْق؛ فإن سلامةَ اللفظ تتبعُ سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخِلقة. وأنت تجدُ ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافي الجِلْف منهم كزّ الألفاظ، معقّد الكلام، وعْر الخطاب؛ حتى إنك ربما وجدتَ ألفاظه في صوته ونغمته، وفي جرْسه ولهجته. ومن شأن البداوة أن تُحْدث بعض ذلك؛ ولأجله قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَدا جَفا. ولذلك تجد شعر عَديّ - وهو جاهلي - أسلسَ من شعر الفرزدق ورجَز رؤبة وهما آهلان؛ لملازمة عديّ الحاضرة وإيطانه الريف، وبُعده عن جلافة البدْو وجفاء الأعراب، وترى رقةَ الشعر أكثرَ ما تأتيك من قِبَل العاشق المتيّم، والغزِل المتهالك؛ فإن اتفقت لك الدماثةُ والصّبابة، وانضاف الطبعُ الى الغزل؛ فقد جُمِعت لك الرقةُ من أطرافها. فلما ضرب الإسلام بجِرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثُرت الحواضر، ونزعت البوادي الى القرى، وفشا التأدّب والتظرّف اختار الناسُ من الكلام ألينَه وأمهَله، وعمَدوا الى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنَها سمعاً، وألطفها من القلب موقِعاً؛ والى ما للعرب فيه لغاتٌ فاقتصروا على أسلسها وأشرفها؛ كما رأيتهم يختصرون ألفاظ الطويل؛ فإنهم وجدوا للعرب فيه نحواً من ستين لفظة؛ أكثرها بشِع شنع؛ كالعشنّط والعنَطْنَط والعشنّق، والجسْرَب والشّوْقَب والسّلْهب والشّوْذب، والطّاط والطّوط، والقاق والقوق، فنبذوا جميع ذلك وتركوه، واكتَفوا بالطويل لخفّته على اللّسان، وقلة نبُوّ السمع عنه. وتجاوزوا الحدّ في طلب التسهيل حتى تسمّحوا ببعض اللّحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعُجْمة، وأعلنهم على ذلك لينُ الحضارة وسهولةُ طباع الأخلاق، فانتقلت العادة، وتغير

الرّسم، وانتسخت هذه السنة، واحتذَوا بشعرهم هذا المثال، وترقّقوا ما أمكن، وكسَوا معانيَهم ألطفَ ما سنح من الألفاظ، فصارت إذا قيسَت بذلك الكلام الأول يتبيّن فيها اللين، فيُظَنّ ضعفاً، فإذ أُفرِد عاد ذلك اللّين صفاءً ورونقاً، وصار ما تخيلته ضعفاً رشاقة ولُطفاً؛ فإن رام أحدُهم الإغراب والاقتداءَ بمَن مضى من القدماء لم يتمكن من بعض ما يرومه إلا بأشدّ تكلّف، وأتم تضنع؛ ومع التكلف المقْت، وللنفس عن التصنّع نُفْرة، وفي مفارقة الطبع قلةُ الحلاوة وذهاب الرونق، وإخلاقُ الديباجة. وربما كان ذلك سبباً لطَمْس المحاسن؛ كالذي نجده كثيراً في شعر أبي تمام، فإنه حاول من بين المحدَثين الاقتداءَ بالأوائل في كثير من ألفاظه، فحصل منه على توعير اللفظ، فقبح في غير موضع من شعره، فقال: فكأنّما هي في السّماع جنادِلٌ ... وكأنّما هي في القلوب كَواكبُ فتعسّف ما أمكن، وتغلغل في التصعّب كيف قدر، ثم لم يرضَ بذلك حتى أضاف إليه طلَب البديع، فتحمّله من كل وجْه، وتوصّل إليه بكل سبب، ولم يرض بهاتين الخَلتين حتى اجتلب المعاني الغامضة، وقصد الأغراض الخفيّة، فاحتمل فيها كل غثٍّ ثقيل، وأرْصد لها الأفكار بكل سبيل؛ فصار هذا الجنسُ من شعره إذا قرع السمعَ لم يصل الى القلب إلا بعد إتعاب الفِكْر، وكدّ الخاطر، والحَمْل على القريحة؛ فإن ظفر به فذلك من بعد العناء والمشقة، وحين حسَره الإعياء، وأوْهن قوّتَه الكَلال. وتلك حالٌ لا تهَشّ فيها النفس للاستماع بحسَن، أو الالتذاذُ بمُستظرف؛ وهذه جريرةُ التكلف! ولست أقول هذا غضّاً من أبي تمام، ولا تهْجيناً لشعره، ولا عصبيّة عليه لغيره. فكيف وأنا أدينُ بتفضيله وتقديمه، وأنتحلُ موالاتَه وتعظيمه، وأراه قِبْلة

أصحاب المعاني، وقُدْوة أهلِ البديع! لكن ما سمعتني أشترطُه في صدْر هذه الرسالة أنه يُحْظر إلا إتباع الحق وتحرّي العدل والحكم به لي أو عليّ. وما عدوْت في هذا الفصل قضية أبي تمام، ولا خرجت عن شرطه أن يقول في يوصف السراج شاعر مصر في وقته: فلو تُبش المقابر عن زهير ... لعوّل بالبكاء وبالنّحيب متى كانت مَعانيه عِيالاً ... على تفسير بُقراط الطبيب وكيف لم يزل للشعر ماءٌ ... يرِفّ عليه ريحانُ القُلوبِ فخبّرني هل تعرفُ شعراً أحوج الى تفسير بقراط وتأويل أرسطوليس من قوله: جهميّةُ الأوصاف إلا أنهم ... قد لقّبوها جوْهَرَ الأشياء وقوله: يومٌ أفاض جوى أغاضَ تعزِّيا ... خاض الموى بحْرَيْ حجاه المزبِد وأيّ شعر أقلّ ماء، وأبعد من أن يرِفّ عليه رَيْحان القلوب من قوله: خشُنْتِ عليه أخت بني الخُشَيْن ... وأنجح فيك قول العاذِلَيْنِ ألمْ يُقْنعك فيه الهجرُ حتى ... بكَلْت لقلبه هجرا ببَيْن

فهل رأيت أغثّ من بكلت في بيت نسيب! ومن قوله: أأطلالَ الرسوم لطالَما قد ... أطلّت منك أجيادُ الظباء بها شُغِلت دبابيج البهاء ... فضحوَة وجهها نشر الضَّحاء لنا أيام لم تُدْمِ الليالي ... بذكر البَيْن عِرنينَ الصفاء فأضحى البينُ لا يرضَى لطَرْفي ... نواه بالبكيِّ من البكاء لقد طلع الفراقُ على ابن صبْري ... فأثكَله جلابيبَ العَزاء فالعجب كل العجب من خاطرٍ قدح بمثل قوله: أأيامَنا ما كُنتِ إلا مَواهبا ... وكنتِ بإسعاف الحبيبِ حَبائبا سنُغرِب تجديداً لعهْدِك في البُكا ... فما كنتِ في الأيام إلا غرائبا ومعتَركٍ للشوق أهدي به الهوى ... الى ذي الهوى نُجْلَ العيون ربائبا كواعب زارت في ليالٍ قصيرة ... يخيّلْن لي من حُسْنِهنّ كَواعبا سلَبْن غِطاء الحُسْن عن حُرِّ أوْجُهٍ ... تظل للُبِّ السّالِبيها سوالبا وجوهٌ لو أن الأرض فيها كواكب ... توقّدُ للساري لكانت كواكِبا وقوله: ولقد أراكَ فهل أراكَ بغبطة ... والعيشُ غضٌّ والزمانُ غلامُ أعوام وصْلٍ كان يُنسي طولَها ... ذكرُ النوى، فكأنها أيامُ ثم انبرت أيامُ هجْرٍ أردفَتْ ... بجَوى أسى، وكأنها أعوامُ

ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحْلامُ كيف يتصور فيه ذلك الكلام الغثّ! وأعجب من ذلك شاعر يرى هذه الغُرَر في ديوانه كيف يرضى أن يقرن إليها تلك الغُرَر! وما عليه لو حذف نصف شعره، فقطع ألسنَ العيب عنه، ولم يشْرَعْ للعدوّ باباً في ذمّه! ومن جنايات هذا الاختيار على أبي تمام وأتباعِه أن أحدَهُم بينا هو مسترسِل في طريقته، وجارٍ على عادته يختلِجه الطّبع الحَضري، فيعدل به متسهلاً، ويرمي بالبيت الخَنث، فإذا أُنشد في خِلال القصيدة، وُجِد قلقاً بينها نافراً عنها؛ وإذا أُضيف الى ما وراءه وأمامه تضاعفت سُهولته، فصارت رَكاكة. وربما افتتح الكلمة وهو يجري مع طبْعه، فينظم أحسن عِقْد، ويختال في مثل الروضة الأنيقة، حتى تعارضه تلك العادةُ السيئة فيتسنّم أوْعرَ طريق، ويتعسّف أخشن مرْكب، فيطمس تلك المحاسن، ويمحو طُلاوة ما قد قدّم؛ كما فعل أبو تمام في كثير من شعره؛ ومنه قوله: لو حار مرتادُ المنية لم يجد ... إلا الفراقَ على النفوس دليلا قالوا الرحيل؛ فما شككت بأنها ... نفسي من الدنيا تريدُ رَحيلا الصبر أجملُ غير أنّ تلذذاً ... في الحب أحرى أن يكون جَميلا أتظنني أجد السّبيل الى العَزا ... وجد الحِمام إذاً إليّ سبيلا ردّ الجَموحِ الصّعبِ أسهلُ مُطلبا ... ؤمن ردّ دمْعٍ قد أصابَ مَسيلا ذكرتكُم الأنواء ذِكْرى بعضكم ... فبكت عليكم بُكْرةً وأصيلا إني تأملت النوى فوجدتها ... سيفاً على أهل الهوَى مسلولا

ثم عدل عن النسيب فقال: لو جاز سلطان القُنوع وحُكْمه ... في الخلق ما كان القليلُ قليلا من كان مَرْعى عزمِه وهمومه ... روضَ الأماني لم يزَل مهزولا فهو كما تراه يعرض عليك هذا الديباج الخُسْرُواني، والوشي المنمنم، حتى يقول: لله درُّك أيُّ مِعْبر قَفْرَةٍ ... لا يوحشُ ابنَ البيضة الإجْفيلا أو ما تراها لا تراها هزة ... تشْأى العيون تعجرُفاً وذَميلا فنغّص عليك تلك اللذة، وأحدث في نشاطك فترة؛ وهذه الطريقة أحد ما نُعِي على أبي الطيّب، وسنقول فيها وفي غيرها إذا استوفينا هذه المقدمة. ولو لم تكن هذه الأبيات متناسقة مقترنة، ولم يكن يجمعها قصيدة، وتسمع في حال واحدة لكان أخفى لعَيبِها، وأسترَ لشيْنها؛ فإنك تعلم بُعد ما بين قوله: كادت لعِرْفان النوى ألفاظها ... من رِقّةِ الشكوى تكونُ دُموعا وقوله: هنّ البجاريُّ يا بُجَيْرُ ... أهدى لها الأبؤس الغُوير وقوله: أهيسٌ أليسٌ لجّاء إلى هِممٍ ... تغرق الأسد في آذيّها اللِّيسا لكنها افترقت فغابت، ولم تقترن فتُعرَف وتُشْهَر. ومتى سمعتَني أختارُ للمحدَث هذا الاختيار، وأبعثَهُ على الطبع، وأُحسِّن له

التسهيل؛ فلا تظنن أني أريدُ بالسّمْح السّهل الضعيفَ الركيك، ولا باللطيف الرشيق الخنِثَ المؤنث؛ بل أريد النّمَط الأوسط؛ ما ارتفع عن الساقط السّوقيّ، وانحط عن البدويّ الوحشي، وما جاوز سَفْسَفة نصْر ونُظرائه، ولم يبلغ تعجرُف هِمْيان بن قُحافة وأضرابه؛ نعم، ولا آمرُك بإجراء أنواع الشعر كلّه مُجرى واحداً، ولا أن تذهب بجميعه مذهبَ بعضِه؛ بل أرى لك أن تقسّم الألفاظ على رتَب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحُك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك؛ ولا هزْلك بمنزلة جِدِّك، ولا تعريضُك مثل تصريحك؛ بل ترتّب كلاً مرتبتَه وتوفّيه حقّه، فتلطِّف إذا تغزّلت، وتُفخِّم إذا افتخرت، وتتصرّف للمديح تصرُّف مواقعه؛ فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميّز عن المدح باللباقة والظّرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمُدام؛ فلكل واحد من الأمرين نهْج هو أمْلك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه. وليس ما رسمتهُ لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختصّ بالنظم دون النثر؛ بل يجب أن يكون كتابك في الفتح أو الوعيد خلافَ كتابك في التشوق والتهنئة واقتضاء المواصلة، وخطابك إذا حذّرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنّيت. فأما الهجو فأبلغُه ما جرى مجْرى الهزل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قرُبت معانيه وسهُل حفظه؛ وأسرع عُلوقُه بالقلب ولُصوقه بالنفس؛ فأما القذْف والإفحاش فسِباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم. وإذا أردتَ أن تعرف موقعَ اللفظ الرشيق من القلب، وعِظَم غَنائه في تحسين

السهل الممتنع من شعر البحتري

الشعر، فتصفّح شعر جرير وذي الرّمة في القدماء، والبحتري في المتأخرين، وتتبّع نسيب متيّمي العرب، ومتغزّلي أهلِ الحجاز؛ كعُمر، وكُثيّر، وجميل، ونُصَيب، وأضرابهم، وقسْهم بمَن هو أجود منهم شعراً، وأفصح لفظاً وسبكاً؛ ثم انظر واحكم وأنْصف، ودعْني من قولك: هل زاد على كذا! وهل قال إلا ما قاله فلان! فإن روعة اللفظ تسبق بك الى الحكم، وإنما تفضي الى المعنى عند التفتيش والكشف. ومِلاكُ الأمر في هذا الباب خاصة تركُ التكلّف ورفضُ التعمّل والاسترسالُ للطبع، وتجنّب الحمْل عليه والعنف به؛ ولستُ أعني بهذا كلّ طبْع، بل المهذّب الذي قد صقله الأدب، وشحذَتْه الرّواية، وجلَتْه الفِطنة، وأُلْهِمَ الفصل بين الرديء والجيد، وتصوّرَ أمثلة الحسن والقبح. السهل الممتنع من شعر البحتري ومتى أردت أن تعرف ذلك عِياناً، وتستثبته مُواجهة، فتعرفَ فرق ما بين المصنوع والمطبوع، وفضْل ما بين السمْح المنقاد والعَصيّ المستكرَه فاعمِد الى شعر البحتري، ودعْ ما يصدر به الاختيار، ويُعَدّ في أول مراتب الجودة، ويتبيّن فيه أثرُ الاحتفال، وعليك بما قاله عن عفْو خاطره، وأوّل فكرته، كقوله: أُلامُ على هواكِ وليس عدلاً ... إذا أحببْتُ مثلكِ أنْ أُلاما أَعيدي فيّ نظرةَ مُستَثيبٍ ... توخّى الأجْرَ أو كرِه الأثاما تَريْ كبِداً محرّقةً وعينا ... مؤرّقة وقلباً مستهاما تناءت دارُ عَلْوة بعد قُرْبٍ ... فهل ركْبٌ يبلِّغُها السّلاما وجدّد طيفُها عتْباً علينا ... فما يعْتادُنا إلا لِماما

ورُبَّتَ ليلة قد بتّ أُسْقَى ... بعينيْها وكفّيْها المُداما قطعنا الليل لثْماً واعتناقا ... وأفنيناه ضمّاً والتزاما وقوله: أُصْفيك أقصى الود غير مقلّلٍ ... إن كان أقْصى الود عندك ينْفَعُ وأراك أحسَنَ مَنْ أراه وإن بَدا ... منك الصّدودُ وبانَ وصلُك أجمَع يعتادني طرَبي إليك فيغْتلي ... وجْدي ويدعوني هواك فأتبع كلِفاً بحبّك مولَعاًويسرّنيأني امرؤ كلِفٌ بحبّك مولَعُ وقوله: ردّي على المُشتاق بعضَ رُقاده ... أو فاشْركيه في اتّصال سُهادِه أسهَرْتِه حتى هجَر الكرى ... خلّيتِ عنه ونمْت عن إسعادِه وقسا فؤادُكِ أن يَلينَ للوْعَةٍ ... باتتْ تقلقل في صميم فؤاده ولقد عززْتِ فهان طوعاً للهوى ... وجنبْته فرأيت ذُلَّ قِياده مَنْ مُنصِفي من ظالم ملّكْتُه ... ودّي ولم أملك عسيرَ وِداده ما كنت أعرف غيرَ سالفِ وُدِّه ... فبُليتُ بعد صدوده ببِعاده وقوله: أجدّك ما ينفكّ يسري لزينبا ... خيال إذا آب الظلام تأوّبا سرى من أعالي الشام يجلبُه الكَرى ... هبوب نسيم الروض تجلبه الصّبا وما زارني إلا ولِهْتُ صَبابةً ... إليه وإلا قلت: أهلاً ومرْحبا وليلتنا بالجَزْع بات مساعفاً ... يريني أناة الخطْو ناعمة الصِّبا أضرّت بضوء البدر، والبدرُ طالع ... وقامت مقام البدر لما تغيّبا

ولو كان حقاً ما أتاه لأطفأت ... غليلاً ولافْتكّتْ أسيراً مُعذّبا علمْتُك إن منيّتِ منيّتِ موعِداً ... جَهاماً وإن أبْرَقْتِ أبرقتِ خُلَّبا وكنت أرى أن الصّدود الذي مضى ... دلالاً فما إن كان إلا تجنُّبا فوا أسفي حتّام أسألُ مانعاً ... وآمَنُ خوّاناً وأعتِبُ مُذْنبا سأثني فؤادي عنك أو أتبع الهوى ... إليك إن استعفى فؤادي أو أبى ثم انظر: هل تجدُ معنى مبتذلاً ولفظاً مشتهراً مستعملاً! وهل ترى صنعة وإبداعاً، أو تدقيقاً أو إغراباً! ثم تأمّل كيف تجد نفسك عند إنشاده، وتفقّدْ ما يتداخُلك من الارتياح، ويستخفّك من الطرف إذا سمعته، وتذكّر صَبْوةً إن كانت لك تراها ممثّلة لضميرك، ومصوّرة تلقاء ناظرك. فإن قلت: هذا نسيب والنفس تهَشُّ له، والقلب يعْلَق به، والهوى يُسرع إليه، فأنشِد له في المديح قوله: بلوْنا ضرائب مَنْ قد نرى ... فما إنْ وجدنا لفَتْحٍ ضَريبا هو المرءُ أبدت له الحادثا ... تُ عزْماً وشيكا ورأياً صليبا تنقّل في خُلُقي سودَدٍ ... سماحاً مرجّى وبأساً مَهيبا فكالسّيف إنْ جئته صارخاً ... وكالبحر إن جئته مستثيبا فتى كرّم الله أخْلاقه ... وألبَسَه الحمد بُرْداً فشيبا وأعطاه من كل خبر يُعدّ ... حظّاً ومن كل مجد نصيبا فديناك من أيّ خطب عرا ... ونائبةٍ أوشكت أن تَنوبا

ثم خرج الى الاستعطاف وأخذ في العتاب: وإن كان رأيُك قد حال فيّ ... فألبستَني بعد بِشرٍ قُطوبا وخيّبت أسبابي النازعات ... إليك وما حقها أن تخيبا يريّبني الشيء تأتي به ... وأُكبِرُ قدرك أن أستَريبا وأكره أن أتمادى على ... سبيل اغترار فألْقى شَعوبا أُكذِّب ظني بأن قد سخِطْتَ ... وما كنتُ أعهد ظني كذوبا ولو لم تكن ساخطاً لم أكن ... أذُمّ الزمان وأشكو الخُطوبا ولابد من لوْمةٍ أنتحي ... عليك بها مُخطئاً أو مُصيبا أيصبح وِرْديَ في راحتيْ ... كَ رنْقاً ومرْعاي محْلاً جَديبا أبيع الأحِبةَ بيع السّوام ... وأثني عليهم حبيباً حبيبا ففي كل يوم لنا موقف ... يُشقِّق فيه الوداعُ الجيوبا وما كان سخطُك إلا الفراق ... أفاض العيون وأشْجَى القُلوبا ولو كنت أعرف ذنباً لما ... تخالجني الشكّ في أن أتوبا سأصْبِرُ حتى ألاقي رِضا ... كَ إما بعيداً وإما قريبا أراقبُ رأيك حتى يصحّ ... وأنظرُ عطفَك حتى يَثوبا

العذب من شعر جرير

العذب من شعر جرير وإنما أحلْتُك على البحتريّ؛ لأنه أقرب بنا عهْداً، ونحن به أشد أُنساً، وكلامه أليق بطباعِنا، وأشبه بعاداتنا؛ وإنما تألَف النّفس ما جانَسها، وتقْبل الأقرب فالأقْرب إليها. فإن شئت أن تعرِف ذلك في شعرِ غيره كما عرفتَه في شعره، وأن تعتبر القديمَ كاعتبارِ المولَّد فأنشد قول جرير: ألا أيها الوادي الذي ضمّ سيلُه ... إلينا نوى ظَمياءَ حُيّيتَ وادِيا إذا ما أراد الحيّ أن يتفرّقوا ... وحنّت جِمالُ الحيّ حنّت جِماليا فيا لَيت أنّ الحيَّ لم يتزيّلوا ... وأمسى جميعاً جيرَةً مُتدانيا إذِ الحيُّ في دارِ الجميع كأنّما ... يكونُ علينا نصفُ حوْلٍ لَياليا الى اللهِ أشكو أن بالغوْر حاجةً ... وأخرى إذا أبصرْتُ نجْداً بَدا لِيا نظرت برَهْبا والظّعائنُ باللّوى ... فطارَت برَهْبا شُعبةٌ من فؤادِيا وما أبصر النّارَ التي وضحَت لنا ... وراءَ جُفافِ الطّيْرِ إلا تماريا إذا ذُكِرتْ ليْلى أُتيحَ لي الهوى ... على ما تَرى من هِجرَتي واجتِنابيا حليليّ لولا أن تظنّا بيَ الهَوى ... لقُلْتُ سمِعْنا من عُقَيلةَ داعِيا قِفا فاسمَعا صوتَ المُنادي لعلّه ... قريبٌ وما دانيتُ بالوُدِّ دانِيا ولوْ أنّها شاءَت شفَتْني بهيِّن ... وإنْ كان قد أعْيا الطّبيبَ المُداوِيا

فإنكِ إن تعطي قليلاً فطالَما ... منعتِ وحلأْتِ القُلوبَ الصّواديا دُنوَّ عِتاقِ الطّيرِ أسمَحْن بعْدما ... شمَسْنَ وولّيْن الخُدودَ العواصِيا إذا اكتحَلَتْ عيني بعينِك مسّني ... بخير وجلّى غَمرَةً عنْ فُؤاديا ويأمُرني العُذّال أنْ أغلِبِ الهَوى ... وأن أكتُمَ الوجْد الذي ليس خافيا فيا حسَراتِ القلْبِ في إثْر مَن يُرى ... قريباً وتلْقى خيرَهُ منكَ نائِيا تعيّرُني الأخلافَ ليلى وأفضلَتْ ... على وصْلِ ليلى قوّةٌ من حِبالِيا تخطّى إلينا من بعيدٍ خيالُها ... يخوضُ خُداريّاً من الليلِ داجيا فحُيّيتَ من سارٍ تكلّف موهِنا ... مَزاراً على ذي حاجةٍ متراخِيا ثم خرج فقال: وإنّي لعفُّ الفَقْرِ مشترَك الغِنى ... سريعٌ إذا لم أرضَ داري احتِمالِيا وإني لأستَحْييكَ والخرْقُ بيننا ... من الأرضِ أن تلْقى أخاً ليَ قالِيا وقائلةً، والدّمْعُ يغسِلُ كُحلَها ... أبَعدَ جريرٍ تكرِمون المَواليا فردّي جِمالَ البينِ ثم تحمّلي ... فما لكِ فيهمْ من مُقام ولا لِيا تعرّضْتُ فاستمرَرتُ من دون حاجتي ... فدونَكَ إنّي مستمرٌّ لِحالِيا وإني لَمَغرورٌ أعلَّلَ بالمُنى ... لَيالي أرجو أنّ ما لك ما لِيا فأنت أخي ما لم تكُن لي حاجةٌ ... فإن أعرَضَتْ أيقنت أن لا أخالِيا بأي نجادٍ تحمِلُ السّيفَ بعدَما ... قطعْتَ القُوى من محمَلٍ كان باقِيا

الحشو في الشعر

بأي سِنانٍ تطعَنُ القَرمَ بعْدَما ... نزَعْت سِناناً من قناتِك ماضِيا ألمْ أكُ ناراً يصْطَليها عدوُّكم ... وحِرْزاً لما ألجأتُمُ من ورائِيا وباسِطَ خيرٍ فيكُمُ بيمينِه ... وقابِضَ شرٍّ عنكُمُ بشِمالِيا إذا سرّكُم أن تمسَحوا وجْهَ سابقٍ ... جَوادٍ فمُدّوا وابسُطوا منْ عِنانيا أنا ابنُ صريحَي خِندِف غيرَ دِعوةٍ ... يكون مكان السّيف منها مكانيا وليس لسَيفي في العِظام بقيّة ... وللسّيفُ أشوى وقعةً من لِسانيا ألا لا تَخافا نَبوةً في مُلمّةٍ ... وخافا المنايا أن تَفوتَكما بِيا وإنما أثبتّ لك القصيدة بكمالها، ونسختُها على هيئتها، لترى تناسبَ أبياتها وازدواجَها، واسواءَ أطرافها واشتباهها، وملاءمةَ بعضها لبعض، مع كثرة التصرف على اختلاف المعاني والأغراض. الحشو في الشعر وقد علمت أن الشعراء قد تداولوا ذكر عيون الجآذر ونواظر الغزلان؛ حتى إنك لا تكاد تجد قصيدة ذات نسيب تخلو منه إلا في النادر الفذّ؛ ومتى جمعت ذلك ثم قرنت إليه قول امرئ القيس: تصُدّ وتُبدي عن أسيلٍ وتتّقي ... بناظِرةٍ من وحْش وَجْرة مُطفِلِ أو قابلته بقول عديّ بن الرِّقاع: وكأنّه بين النساءِ أعارَها ... عينيهِ أحْوَرُ من جآذرِ جاسِمِ

رأيت إسراع القلب الى هذين البيتين، وتبيّنت قربهما منه؛ والمعنى واحد، وكلاهما خالٍ من الصنعة، بعيدٌ عن البديع؛ إلا ما حسُن به من الاستعارة اللطيفة، التي كسته هذه البهجة. هذا وقد تخلل كلّ واحد منهما من حشو الكلام ما لو حُذف لاستغني عنه وما لا فائدة في ذكره؛ لأن امرأ القيس قال: من وَحْش وَجرة، وعديّاً قال: من جآذر جاسم، ولم يذكُرا هذين الموضعين إلا استعانة بهما في إتمام النظم، وإقامة الوزن، ولا تلتفتنّ الى ما يقوله المعنويون في وجْرة وجاسم، فإنما يطْلُب به بعضهم الإغرابَ على بعض؛ وقد رأيتُ ظِباءَ جاسم فلم أرها إلا كغيرها من الظباء. وسألت من لا أُحصي من الأعراب عن وحش وجْرة فلم يرَوا لها فضلاً على وحش ضريّة وغزلان بُسَيطة، وقد يختلف خلْق الظِباء وألوانها باختلاف المنشأ والمرتع؛ وأما العيون فقلّ أن تختلف لذلك؛ وأما ما تمم به عدي الوصف، وأضافه الى المعنى المبتذَل بقوله على إثر هذا البيت: وسْنان أيقَظهُ النُعاسُ فرنّقتْ ... في عينِه سنَةٌ وليسَ بنائِمِ فقد زاد به على كلّ منْ تقدم، وسبق بفضله جميعَ من تأخر، ولو قلت: اقتطعَ هذا المعنى فصار له، وحظَر على الشعراء ادّعاء الشرك فيه لم أرني بعُدت عن الحق، ولا جانبْتُ الصدق. وقد تغزل أبو تمام فقال: دعْني وشُربَ الهوى يا شارب الكاسِ ... فإنني للذي حسيته حاسي لا يوحِشنّك ما استعجمتَ من سَقمي ... فإنّ منزلَه من أحسن الناس من قطْع ألفاظِه توصيلُ مَهلكَتي ... ووصْل ألْحاظه تقطيعُ أنفاسي متى أعيش بتأميلِ الرّجاء إذا ... ما كان قطعُ رجائي في يديْ ياسي

فلم يخْل بيت منها من معنى بديع وصنعة لطيفة؛ طابق وجانس، واستعار فأحسن، وهي معدودة في المختار من غزَله. وحقّ لها؛ فقد جمعت على قصرِها فنوناً من الحُسن، وأصنافاً من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة والقوة ما تراه؛ ولكنّني ما أظنك تجدُ له من سَورة الطرب، وارتياحِ النفس ما تجده لقول بعض الأعراب: أقول لصاحبي والعيسُ تهوي ... بنا بين المُنيفة فالضِّمار تمتّعْ من شَميم عَرارٍ نجْدٍ ... فما بعْد العشيّة من عَرارِ ألا يا حبّذا نفَحاتُ نجْدٍ ... وريّا روضهِ غِبَّ القِطارِ وعيشك إذ يحُلّ القوم نجْداً ... وأنتَ على زمانِك غيرُ زارِ شُهورٌ ينقضين وما شعرْنا ... بأنْصافٍ لهنّ ولا سِرارِ فأما ليلُهنّ فخيرُ ليلٍ ... وأقصر ما يكون من النهار فهو كما تراه بعيد عن الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المأخذ، قريب التناول. وكانت العرب إنما تُفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحّته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلّم السّبْق فيه لمَنْ وصف فأصاب، وشبّه فقارب، وبدَهَ فأغزَر، ولمَن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته؛ ولم تكن تعبأ بالتجنيس

والمطابقة، ولا تحفِل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض. وقد كان يقع ذلك في خلال قصائدها، ويتّفق لها في البيت بعد البيت على غير تعمد وقصْد، فلما أفْضى الشعر الى المحْدَثين، ورأوْا مواقعَ تلك الأبيات من الغرابة والحسن، وتميّزَها عن أخواتها في الرشاقة واللطف، تكلّفوا الاحتذاء عليها فسمّوْه البَديع؛ فمن محسن ومسيء، ومحمود ومذموم، ومقتصد ومُفرط. فإذا جاءتك الاستعارة كقول زهير: وعُرّيَ أفراس الصِّبا ورواحله وقول لبيد: إذ أصبحتْ بيد الشَّمال زِمامها وقول ابن الطّثريّة:

أخذنا بأطرافِ الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطِحُ وقول الحارث بن حِلِّزة: حتى إذا الْتَفَع الظِّباءُ بأطْ ... رافِ الظِّلال وقِلْنَ في الكُنُسِ وقول أبي نُواس: أعطتك ريحانها العُقار وقوله: بصحن خدٍّ لم يغِضْ ماؤه ... ولم تخضه أعْينُ الناس وقوله: جريْت مع الصِّبا طلْق الجُموح ... وهان عليّ مأثور القبيح وقوله: مباحة ساحة القلوبِ له ... يرتع فيها أطايب الثمر وقوله: وإذا بَدا اقْتادَتْ محاسنهُ ... قسْراً إليه أعنّةَ الحدَقِ وقوله يصف الكأس: بنينا على كِسرى سماءَ مُدامة ... مكلّلة حافاتُها بنجومِ وقول مسلم: ولما تلاقينا قضى الليلُ نحبَهُ

وقوله: ظلمتُك إن لم أجزِل الشكر إنّما ... جعلتَ الى شكري نوالَك سُلَّما فانظر كم بين استعارته السُّلّم، واستعارة أبي تمام له في قوله: ما ضرّ أروعَ يرتَقي في همة ... روعاء أن لا يرتقي في سُلّم وأول من علمناه افتتح هذه اللفظة الحُصين بن الحُمام المُرِّي في قوله: فلستُ بمبتاع الحياة بذلة ... ولا مُرتَقٍ من خشيةِ الموت سُلّما وهذا قريب من الحقيقة، وإن كان فيه شُعبة من ضرب المثل. وقول أبي تمام: أدنَت نقاباً على الخدّين وانتقبَتْ ... للناظرين بقدٍّ ليس ينتقبُ وقوله: وقد علّم الأفشَين وهو الذي به ... يُصانُ رداء الملك عن كل جاذب وقوله: رقّت حواشي الدهر فهي تمرْمَرُ ... وغدا الثّرى في حَلْيه يتكسّرُ على أن لفظة يتكسر حضَريّة مولدة.

وقوله: وكم سرق الدُجى من حُسنِ صبر ... وغطى من جِلادِ فتى جليد وقوله: ويضحكُ الدهر منهم عن غطارِفَةٍ ... كأنّ أيامَهم من حُسنِها جُمعُ وقول البحتري: يذكِّرنا ريّا الأحبّة كلّما ... تنفّس في هم في جنحٍ من الليل باردِ وقوله يصف الخيال: إذا نزعَتْه من يديّ انتباهةٌ ... عددت حبيباً راح مني أو غَدا وقوله: وإذا دجَتْ أقلامُه ثم انتحَتْ ... برَقت مصابيح الدجى في كُتْبِه وقوله: وكُنتُ إذا استبطأْتُ ودّك زُرْتُه ... بتفويف شِعْرٍ كالرِّداء المُحبَّر وقول ابن المعتز: أقول ودمع العين تسرقه يدي ... حذار لدمع الشامت المتودّد وقوله: ساروا وقد خضعت شمسُ الأصيل لهم ... حتى توقّد في ذيل الدُجى الشّفقُ

وقوله: لو ترانا إذا انتبهنا قعوداً ... نستشف القرى عن الأحلام وقوله: ما زال يلطِم خدّ الأرض وابلُها ... حتى وقَتْ خدّها الغُدْرانُ والخضرُ وشتان ما بين هذا اللطم ولطْم أبي تمام في قوله: ملْطومة بالورد أطلق دونه ... في الخَلْق فهو مع المَنون مُحكَّمُ وإنما نازع أبا نُواس قولَه: تبكي فتُذْري الدرَّ من نرْجس ... وتلطِم الورْدَ بعُنّابِ فسبق أبو نواس بفضل التقدم والإحسان، وحصل هو على نقْص السَّرَقِ والتقصير؛ لكنه أحسن في بقية البيت فجبر بعض ذلك النقص. وقول كُشاجم يصف السحاب: مُقبلةٌ والخِصْبُ في إقبالها ... والرعدُ يحدو الوُرْقَ من جِمالها بخطبة أبدع في ارتجالها ... كأنها من ثقل انتقالها تجلّها الريحُ عن استعجالها ... إلا بما تجذبُ من أذيالها

فحين ضاق الجوّ عن مجالِها ... وراحت الرياحُ من كلالِها جَنوبُها تشكو الى شَمالها ... دَنت من الأرض على أذْلالها كأنما تسألُها عن حالِها ... والزّهرُ قد أصغى الى مقالِها وكاد أن ينهضَ لاستِقبالها ... تسمّحت بالريّ من زُلالها حتى لقال التُّرب من تهطالها ... إن سجلاً أتى على سجالها ثم انثنى يُثني على فِعالِها وقول السري الموصلي: أقول لحنان العشيّ المغرد ... يهزّ صفيحَ البارقِ المتوقّد تبسّم عن ري البلاد صَبيبُه ... ولم يبتسم إلا لإنجازِ موْعِد ويا دَيرَها الشرقيّ لا زال رائح ... يحل عقود المُزْن فيك ومُغْتد عَليلة أنفاس الرياح كأنّما ... يُعَلّ بماء الورْد نرْجسها النّدي يشُقّ جيوبَ الورْد في جنباته ... نسيمٌ متى ينظر الى الماء يبرد فقد جاءك الحسنُ والإحسان، وقد أصبتَ ما أردت من إحكام الصنعة وعذوبة اللفظ.

فإذا سمعت بقول أبي تمام: باشرت أسباب الغِنى بمدائح ... ضربت بأبواب الملوكِ طُبولا وبقوله: لها بين أبوابِ الملوكِ مَزامرٌ ... من الذكْر لم تنفخ ولا هي تزمرُ وبقوله: إذا ما الدّهْر جرّ جرَت أيادي ... يديه فغشّتِ الدُنيا ظلالا وبقوله: يا دهر قوِّمْ من أخدَعَيك فقد ... أضجَجْتَ هذا الأنام من خرَقك وبقوله: الى ملك في أيكة المجد لم يزَلْ ... على كَبد المعروف من نيله برْد وبقوله: كأنني حينَ جرّدْتُ الرّجاء له ... عضب صببتَ به ماءً على الزمنِ وقول أبي نواس: يا عمْرو أضحتْ مبيضةً كبدي ... فاصبغْ بياضاً بعصفُر العنبِ

فاسدد مسامعك، واستغش ثيابك، وإياك والإصغاء إليه، واحذر الالتفاتَ نحوه؛ فإنه مما يُصدئ القلب ويُعميه، ويطمس البصيرة، ويكدّ القريحة. وربما جاءَ من هذا الباب ما يظنّه الناس استعارةً وهو تشبيه أو مثَل؛ فقد رأيت بعض أهل الأدب ذكر أنواعاً من الاستعارة عدّ فيها قول أبي نواس: والحبُّ ظهْرٌ أنت راكبُه ... فإذا صرفتَ عِنانه انصرفا ولست أرى هذا وما أشبهَه استعارة، وإنما معنى البيت أن الحب مثل ظهْر، أو الحب كظهْر تُديره كيف شئتَ إذا ملكتَ عِنانه؛ فهو إمّا ضرب مثَل أو تشبيه شيء بشيء؛ وإنما الاستعارةُ ما اكتُفِي فيها بالاسم المستعار عن الأصل، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها. وملاكُها تقريب الشَّبَه، ومناسبةُ المستعار له للمستعار منه، وامتزاجُ اللفظ بالمعنى؛ حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر. فأما التجنيس؛ فقد يكون منه المطلَق، وهو أشهر أوصافه، كقول النابغة: وأقطَعُ الخرْق بالخَرْقاء قد جعلت ... بعد الكَلال تشكّى الأيْنَ والسّأما وقول الشّنْفَرى: فبِتْنا كأن البيت حُجِّرَ فوقنا ... بريحانة ريحَت عِشاء وطُلَّت

وقول رؤبة: أحضرْت أهل حضرموت موتا فجانس في موضعين في بيت رجز. وقول أبي تمام: تطلُّ الطلولُ الدمعَ في كل موقف ... وتمثُل بالصبر الديارُ المواثِلُ فجانس في المصراعين. وقول البحتري: صدَق الغُراب لقد رأيت حمولَهم ... بالأمس تغرب عن جوانب غرّب فجانس بثلاثة ألفاظ. وقد يكون منه التجنيس المستوفى، كقول أبي تمام: ما مات من كرم الزمان فإنّه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله فجانس بيحيا ويحيى، وحروف كل واحد منهما مستوفاة في الآخر؛ وإنما عُدّ في هذا الباب لاختلاف المعنيين؛ لأن أحدَهما فعلٌ والآخر اسم؛ ولو اتفق المعنيان لم يُعدّ تجنيساً، وإنما كان لفظة مكررة، كقول امرئ القيس: فلما دنوت تسدّيتُها ... فثوباً نسيتُ وثوباً أجُرّ

فقد تكرر في البيت ذكرُ الثوب، كما تكرر ذكر يحيى في بيت أبي تمام، إلا أن هذين اتّفق معناهما، واختلف ذانك المعنيان؛ فعُدّ الأول من البديع. ومما أضيفُه الى هذا الباب وخالفني فيه بعضُ أهل الأدب قول الأعشى: إنْ تسُدِ الحوصَ فلم تعدُهم ... وعامِرٌ سادَ بني عامرِ فأقول: إنه قد جانس بعامر وعامر؛ لأن الأول اسم رجل، والآخر اسم قبيلة. وأراه يخالف قولَ الآخر: قتلنا به خيرَ الضُبَيْعات كلِّها ... ضُبَيعة قيس لا ضُبيعةَ أضْجَما لأن كلتيهما قبيلتان، فكأنّما جمع بين رجلين متَّفقي الاسم. ومنه التجنيس الناقص، كقول الأخنَس بن شهاب: وحامي لواء قد قتَلْنا وحاملٍ ... لواءً منعنا والسيوفُ شَوارعُ فجانس بحامي وحامل، والحروف الأصلية في كل واحد منهما تنقص عن الآخر. ومثله قول أبي تمام: يمدّون من أيدٍ عواص عواصِم ... تطول بأسْيافٍ قواضٍ قواضبِ فأما قوله: خلّفْتَ بالأفق الغربيّ لي سكَناً ... قد كان عيشي به حُلْواً بحلوان فهو من الأول وليس بناقص؛ لأن الألف والنون في حلوان زائدتان.

ومنه التجنيس المضاف، كقول البحتري: أيا قمر التِّمام أعَنْت ظُلْماً ... عليّ تطاولَ الليل التِّمام ومعنى التمام واحد في الأمرين، ولو انفرد لم يعدّ تجنيساً؛ ولكن أحدَهما صار موصولاً بالقمر، والآخر بالليل؛ فكانا كالمختلفين. وقد يكون من هذا الجنس ما تجانس به المفردُ بالمضاف، وقد تكون الإضافة اسماً ظاهراً ومكنيّاً، وقد تكون نسباً. ومن أملح ما سمعت فيه قول أبي الفتح بن العميد: فإن كان مسخوطاً فقل شعر كاتب ... وإن كان مرضياً فقل شعر كاتب وأما المطابقة فلها شُعَب خفية، وفيها مكامن تغمُض، وربما التبست بها أشياء لا تتميّز إلا للنظر الثاقب، والذهن اللطيف؛ ولاستقصائها موضعٌ هو أملك به. ولم نفتح هذا الكلام وقصدنا ما جرى بنا القول إليه؛ لكنّ الحديث شُجون، وربما احتاج الشيءُ الى غيره فذُكر لأجله، وربما اتصل بما هو أجنبي منه فاستصحبه. ومن أشهر أقسام المطابقة ما جرى مجرى قول دِعْبِل: لا تعجبي يا سَلْمُ من رجلٍ ... ضحِك المشيب برأسِه فبكى وقول مسلم بن الوليد: مُستَعْبر يبْكي على دِمْنة ... ورأسُه يضحكُ فيه المشيب

وقول أبي تمام: وتنظّري خبَبَ الرِّكاب ينُصُّها ... مُحْيي القَريض الى مُميت المال وقوله: أرضى الثرى وأسخط الغبارا وقوله: هذا الذي عرفت يداهُ ساحتي ... من بعد ما جهل البخيلُ مكاني فكل هذا بابٌ واحد، وقد يجيء منه جنسٌ آخر تكون المطابقةُ فيه بالنفي، كقول البحتري: يُقيّض لي من حيث لا أعلم الهوى ... ويسري إليّ الشوق من حيث أعلم لما كان قوله: لا أعلم كقوله: أجهل، وكان قوله: أجهل مطابقة كان الآخر بمثابته. ومن أغرَب ألفاظه وألطف ما وُجِد منه قول أبي تمام: مَها الوحش إلا أنّ هاتا أوانِسٌ ... قَنا الخطِّ إلا أنّ تلْك ذَوابِلُ فطابق بهاتا وتلك وأحدهما للحاضر، والآخر للغائب، فكانا نقيضين في المعنى، وبمنزلة الضدين. وقد يخلط من يقْصُر علمه ويسوء تمييزه بالمطابق ما ليس منه؛ كقول كعب بن سعد: لقد كان: أما حِلْمُه فمروَّحٌ ... علينا وأمّا جهْلُه فعزيب

لما رأى الحلم والجهل، ومروّحاً وعزيباً جعلهما في هذه الجملة. ولو ألحَقْنا ذلك به لوجب أن نُلحِق أكثر أصناف التقسيم، ولاتّسع الخرْقُ فيه حتى يستغرق أكثر الشعر. ولنا في استيفاء هذا الكلام وتحديد هذه الأضرب قولٌ سنفرِد له كتاباً يُحتمل استقصاؤه فيه. ومن أصناف البديع التصحيف؛ كقول الشاعر: ولم يكن المغترُّ بالله إذا سرى ... لِيُعجِز، والمعتزّ بالله طالبُه وقوله: فكأنّ الشّليل والنّثْرة الحصْ ... داء منه على سَليل غَريف وقوله: ما بعيني هذا الغزال الغرير ... من فُتونٍ مُستَجْلَبٍ من فُتورِ وقول اسماعيل بن عبّاد: غَمائمٌ هنّ فوق أرؤُسِنا ... عمائِم لم يُذَلْنَ بالخِرَق وهذا يدخل في بعض الأقسام التي ذكرناها في التجنيس؛ لكن ما أمكن فيه التصحيف فله بابٌ على حِياله، وجانبٌ يتميّز به عن غيره. ومنه التقسيم، وقد يكون موصولاً، كقول زهير: يطْعَنُهم ما ارتَموا حتى إذا اطّعَنوا ... ضاربَ حتى إذا ما ضارَبوا اعْتَنقا

فقسّم البيت على أحوال الحرب ومراتب اللقاء، ثم ألحق بكل قسم ما يليه في المعنى الذي قصده من تفضيل الممدوح، فصار موصولاً به، مقروناً إليه. ونحوه قول عنترة: أن يلْحَقوا أكرر وإن يستَلْحِموا ... أشدد وإن نزلوا بضيق أنْزل فهذا كالأول في الصنعة، وإن كان إنما أزوج كل قسم بقرينه، وما هو وفْقه، ولم يرض الأولُ إلا بأن قسم ثم تقدم عن كل قسم قُدُماً، وارتفع عليه درجة. وقد تكون القسمةُ مطلقة غير مشفوعة، كقول النابغة: فلله عينا من رأى أهلَ قبة ... أضرّ لمن عادَى وأكثر نافعا وأعظمَ أحلاماً وأكرم سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا فهذا ضربٌ من التقطيع على معانٍ مختلفة؛ ولستُ أسمح بتسميته تقسيماً؛ وقد رأيتُ من يُطلق له هذه التسمية. ومما يقاربُ هذا جمعُ الأوصاف، كقول أبي دُواد: بعيد مدى الظرف خاظِي البضيع ... مُمَرّ المَطا سمْهري العصَبْ وقد يجمع على نوع آخر كقول النابغة: حَديدُ الطّرْفِ والمنك ... ب والعُرقوب والقَلْبِ

وقد يُعدّ فيه التّقفية والترصيع، كقول امرئ القيس: والماء منهَمِرٌ والشّدُّ منحدِر ... والقُصْبُ مُضطَمِرٌ والمتن ملْحوب وقد يمتنع بعضُ الأدباء من تسمية بعض ما ذكرناه بديعاً؛ لكنه أحدُ أبواب الصنعة، ومعدود في حلْي الشعر، وله أشْباه تجري مجراه، وتذكر معه؛ كالالتفات والتوصل وغيرهما، ولو أقبلنا على استيعابها، وتمييز ضروبها وأصنافها لاحتجنا الى اتباع كل ما يقتضيه من شاهد وبيان ومثال. ولو فعلنا ذلك لبخسنا أبا الطيب حقه، وافتتحنا الكتاب بذكره ثم شَغلْنا معظَمه بغيره؛ وإنما قدمنا هذا النّبْذ توطئةً لما نذكره على أثره، وتدريجاً الى ما بعده؛ ليكون كالشاهد المقبول قوله، وبمنزلة المسلم أمره. والشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص وبعدهما الخاتمة؛ فإنها المواقف التي تستعْطِف أسماعَ الحضور، وتستميلهم الى الأصغاء، ولم تكن الأوائل تخصّها بفضْل مراعاة؛ وقد احتذى البُحتري على مثالهم إلا في الاستهلال، فإنه عُني به فاتفقت له فيه محاسن؛ فأما أبو تمام والمتنبي فقد ذهبا في التخلص كلَّ مذهب، واهتمّا به كل اهتمام، واتفق للمتنبي فيه خاصة ما بلغ المراد، وأحسن وزاد.

بدء الوساطة

بدء الوساطة ثم نعدل الى ما تكلفناه في هذه الوساطة فنقول: إن خصْم هذا الرجل فريقان: أحدهما يعمّ بالنقص كلّ مُحدَث، ولا يرى الشعر إلا القديمَ الجاهلي وما سُلك به ذلك المنهج، وأُجرِي على تلك الطريقة؛ ويزعم أن ساقة الشعراء رؤبة، وابن هَرْمة، وابن ميّادة، والحَكَم الخُضْري، فإذا انتهى الى من بعدهم - كبشّار وأبي نواس وطبقتهم - سمّى شعرهم مُلَحاً وطُرَفاً، واستحسن منه البيتَ استحسانَ النادرة، وأجراه مجرى الفكاهة؛ فإذا نزلت به الى أبي تمام وأضرابه نفَضَ يده، وأقسم واجتهد أن القوم لم يقرِضوا بيتاً قطّ، ولم يقعوا من الشعر إلا بالبعد. ومن كان هذا رأيهُ ومذهبُه، وهذه دعواه ونِحْلته فقد أعطاك ما أردت من وجهٍ وإن مانعك سواه، وسمح لك بما التمست وإن التوى عليك في غيره؛ لأن الذي انتصبْت له، وشغلتَ عنايتك به - إلحاقُ أبي الطيب بهذه الطبقة، وإضافتُه الى هذه الجملة، وقد بذل ذلك، وقرّب مطلبه عليك؛ فإن تكن الجماعة منسلخةً من الشعر، موسومة بالنقص، مستحقة للنفي، فصاحبك أولُهم؛ وإن تكن قد علِقَتْ منه بسبب، وحظِيت منه بطائل، وكان له فيه قدم، ومنه حظ وموقع، فهو كأحدهم. وليس الحكم بين القدماء والمولدين من التوسط بين المحدث والمُحدَث بسبيل؛ كما لا نسب بينه وبين تفضيل قديم على قديم، وإنما يستعتِب لك هذه المخاطبة مَنْ وافقك على فضل أبي تمام وحزبه، وسلّم محل مسلم ومنْ بعده، فتجعل هؤلاء شهودك وحججك، وتقيم شعرهم حكماً بينه وبينك؛ فإنك لا تدّعي لأبي الطيب طريقةَ بشار

وأبي نواس، ولا منهاج أشجع والخُرَيمي، ولو ادّعيته فإنما كنتَ تخادع نفسك، أو تُباهِت عقلك، وإنما أنت أحد رجلين: إما أن تدّعي له الصنعة المحضة فتُلحِقه بأبي تمام وتجعله من حِزْبه، أو تدّعي له فيه شركاً وفي الطبع حظّاً، فإن مِلت به نحو الصنعة فضْلَ ميْل صيّرته في جنَبَةِ مسلم، وإن وفّرت قسطه من الطبع عدلت به قليلاً نحو البحتري. وأنا أرى لك إذا كنت متوخّياً للعدل، مؤثراً للإنصاف أن تقسّم شعره؛ فتجعله في الصدر الأول تابعاً لأبي تمام، وفيما بعده واسطة بينه وبين مسلم. وما أكثر مَنْ ترى وتسمع من حفّاظ اللغة ومن جِلّة الرواة، من يلهج بسبب المتأخرين؛ فإن أحدهم يُنشد البيت فيستحسِنه ويستجيده، ويعجَب منه ويختاره؛ فإذا نُسب الى بعض أهل عصره وشعراء زمانه كذّب نفسه، ونَقض قوله، ورأى تلك الغضاضة أهون محْمَلاً وأقل مرْزأة من تسليم فضيلة لمُحدَث، والإقرار بالإحسان لمولّد. حُكي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: أنشدتُ الأصمعي: هلْ الى نظرَةٍ إليْكَ سَبيلُ ... فيُبَلّ الصّدَى ويُشْفى الغَليلُ إنّ ما قلّ منْك يكْثُرُ عندي ... وكثيرٌ ممّنْ تحِبُّ القَليلُ فقال: والله هذا الدّيباجُ الخُسرَوانيّ، لمنْ تنشدني؟ فقلت: إنهما لليلتهما فقال: لا جَرم والله إنّ أثر التكلّف فيهما ظاهر. وعن ابن الأعرابي في أبيات أبي تمام في الرّوض نحوٌ من هذا. وله نظائر

مشهورة تُحْكى عن الأصمعي ومَنْ بعده. وقد بعدت بهم العصبيّة في ذلك الى تناول بعض المتقدمين. زعم الأصمعي أن العراب لا تَروي شعر أبي دواد وعدي بن زيد؛ لأن ألفاظَهما ليست بنجْدية؛ وكيف يكون ذلك! وهذا معاويةُ يفضّل عدياً على جماعة الشعراء. وهذا الحطيئة يُسأل: مَن أشعر الناس؟ فيقول: الذي يقول، وأنشد لأبي دواد: لا أعُدُّ الإقْتار عُدْما ولكنْ ... فقْدُ من قد رُزئتُه الإعدامُ من رجال من الأقارب ماتوا ... من حُذاق هم الرّءوس الكِرام فيهمُ للمُلاينين أناةٌ ... وعُرام إذا يُراد عرام وقد يتّفق لأحد هؤلاء غلبةُ الإنصاف على قلبه في الوقت بعد الوقت، فيخلع رداء العصبية، ويُصغي ويميز فيرجِع. حدثني جماعة من أصحاب أبي رياش القيسي، ولا نعرف في زماننا راوية تقدمه، وكان معروفاً بالتحامل على هؤلاء والغضّ من أبي تمام والبحتري خاصة، حتى إنّ نسخ هذين الديوانين قلّت بالبصرة في وقته؛ لقلّة الرغبة فيهما: أنه أُنشد ذات يوم قول البحتري: نظرتُ الى طَدان فقلت ليلى ... هناك وأين ليلى من طَدان؟! ودون مزارها إيجافُ شهر ... وسبع للمطايا أو ثَمانِ

ولما غرّبت أعْراف سَلْمى ... لهنّ وشرّقت قُنَن القِنان تصوبت البلادُ بنا إليكم ... وغنّى بالإيابِ الحادِيان فقال: أحسن والله! مَن هذا البدوي المطبوع؟ فقيل: إنها للوليد بن عُبيد، فقال: أعِد، فأعيدت، فرجع عن رأيه فيه، وحض الناس على رواية شعره. ولو أُنصف أصحابُنا هؤلاء لوُجِد يسيرُهم أحقّ بالاستكثار وصغيرهم أولى بالإكبار؛ لأن أحدهم يقفُ محصوراً بين لفظ قد ضُيِّق مجاله، وحُذِف أكثره، وقلّ عدده، وحُظِر مُعظمه. ومعان قد أُخذ عفوها، وسُبِق الى جيّدها؛ فأفكاره تنبثّ في كل وجه، وخواطره تستفتح كل باب؛ فإن وافق بعضَ ما قيل، أو اجتاز منه بأبعد طرف قيل: سرق بيت فلان، وأغار على قول فلان. ولعل ذلك البيت لم يقرَع قطّ سمعه، ولا مرّ بخلَده؛ كأن التوارد عندهم ممتنع، واتفاقَ الهواجس غيرُ ممكن! وإن افترع معنى بكْراً، أو افتتح طريقاً مُبهماً لم يرض منه إلا بأعذب لفظ وأقربه من القلب، وألذِّه في السمع؛ فإن دعاه حبُّ الإغراب وشهوة التنوّق الى تزيين شعره وتحسين كلامه، فوشّحه بشيء من البديع، وحلاّه ببعض الاستعارة قيل: هذا ظاهرُ التكلف، بيّن التعسف، ناشف الماء، قليل الرونق. وإن قال ما سمحتْ به النفس ورضي به الهاجس قيل: لفظ فارغ وكلام غسيل؛ فإحسانه يُتأوّل، وعيوبه تُتمحّل، وزلته تتضاعف، وعذره يكذَّب؛ فلا تشتغلنّ بهذه الطائفة مادمت تنظر بين المتنبي وأهل عصره، وأخّر المنازعة في هذا الرأي، وإن كان الخلاف الأكبر، فإن لكل مقام مقالاً. وإنما خصمك الألَدّ، ومخالفُك

المعاند، الذي صمدْت لمحاكمته، وابتدأت بمُنازعته ومحاجّته، من استحسن رأيك في إنصاف شاعر، ثم ألزمك الحيفَ على غيره، وساعدك على تقديم رجُل، ثم كلّفك تأخير مثله؛ فهو يسابقك الى مدح أبي تمام والبحتري، ويسوّغ لك تقريظ ابن المعتز وابن الرومي؛ حتى إذا ذكرت أبا الطيب ببعض فضائله، وأسميته في عِداد من يقصر عن رتبته امتعض امتعاض الموتور، ونفر نِفار المَضيم، فغضّ طرْفه، وثنى عِطفه، وصعّر خدّه، وأخذته العزة بالإثم، وكأنما زوّى بين عينيه عليك المحاجم. وأُقبِل عليك أيها الراوي المتعتّب فأقول لك: خبّرني عمّن تعظّمه من أوائل الشعراء، ومن تفتتح به طبقاتِ المحدَثين؛ هل خلص لك شعْر أحدهم من شائبة، وصفا من كدِر ومَعابة؟ فإن ادّعيت ذلك وجدت العِيان حجيجَك، والمشاهدة خصْمك؛ وعدنا بك الى أضعاف ما صدّرنا به مخاطبتك، واستعرضنا الدواوين فأريناك فيها ما يحول بينك وبين دعواك، ويحجُزك إن كان بك أدنى مُسكة عن قولك. فإن قلت: قد أعثُر بالبيت بعد البيت أنكِره، وأجد اللفظ بعد اللفظ لا أستحسنه، وليس كلّ معانيهم عندي مرضية، ولا جميع مقاصدهم صحيحة مستقيمة. قلنا لك: فأبو الطيب واحدٌ من الجملة، فكيف خُصّ بالظلم من بينها، ورجل من الجماعة فلِم أفرد بالحيف دونها؟ فإن قلت: كثُر زللُه، وقلّ إحسانه، واتسعت معايبه، وضاقت محاسنه. قلنا: هذا ديوانُه حاضراً وشعره موجوداً ممكناً؛ هلم نستقرئه ونتصفّحه، ونقلبه ونمتحنه، ثم لك بكل سيئة عشر حسنات، وبكل نقيصة عشر فضائل، فإذا أكملنا لك ذلك واستوفيته، وقادك الاضطرار الى القبول والبهْت، ووقفت بين التسليم والعناد عُدْنا بك الى بقية شعره فحاججناك به، والى ما فضل بعد المقاصّة فحاكمناك إليه.

وقد نجد كثيراً من أصحابك ينتحل تفضيلَ ابن الرومي ويغلو في تقديمه، ونحن نستقرئ القصيدة من شعره، وهي تناهزُ المائة أو تُربي أو تُضعِف، فلا نعثر فيها إلا بالبيت الذي يروق أو البيتين؛ ثم قد تنسلخ قصائد منه وهي واقفة تحت ظلها، جارية على رسلها؛ لا يحصل منها السامع إلا على عدد القوافي وانتظار الفراغ، وأنت لا تجد لأبي الطيب قصيدة تخلو من أبيات تُختار، ومعان تستفاد، وألفاظ تروق وتعذب، وإبداع يدلّ على الفطنة والذكاء، وتصرُّف لا يصدُر إلا عن غزارة واقتدار.

تفاوت شعر أبي نواس

تفاوت شعر أبي نواس ولو تأملت شعر أبي نواس حقّ التأمل، ثم وازنت بين انحطاطه وارتفاعه، وعددتَ منفيّه ومختاره، لعظّمتَ من قدْر صاحبنا ما صغّرت، ولأكبرت من شأنه ما استحقرت، ولعلمت أنك لا ترى لقديم ولا محدَث شعراً أعم اختلالاً، وأقبح تفاوتاً، وأبين اضطراباً، وأكثر سفسفة، وأشد سقوطاً من شعره هذا؛ وهو الشيخ المقدّم والإمام المفضّل الذي شهد له خلَف وأبو عبيدة والأصمعي، وفسر ديوانه ابنُ السكيت؛ فهل طمست معايبه محاسنَه؟ وهل نقص رديُّه من قدر جيده؟ وهل ضرّ قوله: يحميك مما يستسر بفعله ... ضحكاتُ وجه لا يَريبُك مشرقِ حتى إذا أمضى عزيمة أمره ... أخذت بسَمْعِ عدوِّه والمنطقِ وقوله: يا ناقُ لا تسأمي أو تبلُغي ملكا ... تقبيلُ راحته والركن سيّانِ متى تحطّي إليه الرّحْل سالمةً ... تستجمعي الخلْق في تمثال إنسانِ وقوله: لعمرك ما غاب الأمينُ محمدٌ ... عن الشيء يعْنيه إذا حضر الفضلُ ولولا مواريثُ الخلافة أنها ... له دونه ما كان بينهما فضْلُ فإن كانت الأحساب فيها تباينٌ ... فقولُهما قولٌ وفعلُهما فعلُ أرى الفضْل للدنيا وللدين جامعاً ... كما السهمُ فيه الفوقُ والرّيشُ والنّصْل

وقوله: إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ ... فأنتَ كما نُثني وفوق الذي نُثني وإن جرتِ الألفاظُ منّا بمدحة ... لغيرك إنساناً فأنتَ الذي نعْني وقوله: لا أذودُ الطّيرَ عن شجَرٍ ... قد بلوت المُرَّ من ثمَرِه خِفْتُ مأثورَ الحديث غداً ... وغدٌ دانٍ لمُنتظره خاب مَن أسْرى الى ملِكٍ ... غير معلوم مدَى سفَرِه فامْضِ لا تمْنُن عليّ يدا ... منُّكَ المعروف من كدره رُبّ فتيان ربَأتهمُ ... مسقطَ العيّوق من سحَرِه فاتّقوْا بي ما يَريبهمُ ... إنّ تقوى الشرِّ من حذَره وقوله: قالوا كبرت فقلت ما كبِرت يدي ... عن أن تخبّ الى فمي بالكاس

وإذا عددت سنيّ كم هي لم أجدْ ... للشيب عذراً في النزول براسي وقوله: بانوا وفيهم شموسُ دُجنٍ ... تُنعِلُ أقدامَها القرونُ تعومُ أعجازُهنّ عوْماً ... وتنثني فوقها المُتونُ وقوله: وكأسٍ كمصباح السماء شربتُها ... على قُبلة أو موعد بلقاءِ أتت دونها الأيام حتى كأنها ... تساقُطُ نورٍ من فُتوق سماءِ وقوله: قامت تريك وأمرُ الليل مجتمع ... صبحاً تولّد بين الماء والعنب كأن صُغرى وكُبرى من فواقِعها ... حصْباءُ دُرٍّ على أرضٍ من الذهب كأن تُرْكاً قياماً في جوانِبها ... تواتَروا الرمي بالنشّاب من كثَب وإن كان النحويون ينكرون صغرى وكبرى بغير ألف ولام. وقوله: فإذا علاها الماء ألبَسَها ... زبَداً شبيهَ جلاجل الحِجْل

حتى إذا سكنت جوامحها ... كتبت بمثل أكارِع النمل خطّين من شتى ومُجتَمع ... غُفْل من الإعجام والشّكْل وقوله: فتمشّتْ في مفاصلهم ... كتمشي البُرْءِ في السّقم ومن سلك هذا المسلك من شعره فقد صافح السماء وتناول النجوم. هل ضرّ قولَه هذا غَثاثةُ قوله يمتدح الأمين: فعصا نداه براحتي ... أعلو بها الإفلاسَ قرْعا وعليّ سورٌ مانعٌ ... من جوده إن خفتُ كسْعا فلو أنّ دهْراً رابني ... لصفعتُه بالكفّ صَفْعا وقوله: ما لرِجْلِ المالِ أضحَتْ ... تشتكي منك الكَلالا ما لأمْوالِك منْ جا ... ءَ احتَثى منها وَكالا وقوله: أيا مَنْ وجهه الداحي ... ومن منزله الماحي أماليَ منك يا ظال ... م إلا اللاهي واللاحي وضعفُ قوله:

ألا يا قمرَ الدّار ... ويا مِسكة عطّار ويا نفْحة نسرينٍ ... ويا وردةَ أسحار ويا جدول بُستان ... على شاطئ أنهار ويا كعبَيْن من عاج ... ويا غرّةَ دينار ويا نرْداً لفِتْيان ... ويا لُعْبة أبكار ويا مسواك جمّاش ... ويا طنبور شطّار وقوله: قد غَنينا عن الشِّتا ... وعن اللّبْس للفِرا وعن الحشو للعِما ... مة والكنِّ والصِّلا وعن الفرْش والوِطا ... ببيوت بلا كرا قدم الصيف بالولا ... بةِ قدّامه اللِّوا بالمناديل والغلا ... لة والنّعل والرِّدا والطنابير والطبو ... ل وبالرقص والغِنا يُحشَرُ الناس في القيا ... مة مُرْداً بلا لِحى أنا مالي وللربا ... ط وللغَزْوِ والفِدا لستُ ممن يطوف في ... عرفات ولا مِنى أركبُ المرد في الديا ... ر وفي المدن والقُرى فإذا ما تمنعوا ... وعصوا أبذلُ الرِّشا وهو كما تراه في سُخْف اللفظ، وسوء النظم، وسقط المعنى، وقوله: حمْدان ما لك تغضبْ ... عليّ من غير مُغضبْ فقد حلفتُ يميناً ... مبرورة ليس تُكذبْ

فثق بذلك مني ... يا بنَ الكريم المَرْكَبْ فالبحر أصبح شاني ... والبحر أشهى وأطيبْ وقد تآليتُ ألاّ ... في البر ما عشتُ أركَبْ وقوله: ذاك الذي من يد الل ... هـ حار فيه القبولُ فكلّ جانب قلبي ... شوقاً إليه يميلُ ويلي! وليس يرى لي ... حقَّ الهوى فيميلُ ويلي! وما هكذا إخ ... وتي يكونُ الخليلُ لم يختَرِقْ بيتنا ... حسناً بودّ رسولُ حتى بَدا منه ما لم ... يَفعَله قطّ مَلولُ ولا اهتَدى باحتيالٍ ... إليه قطّ بخيلُ ما أفصَح الطّرْفَ حدا ... للودِّ حين يجولُ وقوله: ونائح هبّ في الغصون ضُحاً ... كمُنْتَشٍ موْهِناً إذا انْقَلبا يدعو بذكر على اسمه لهوًى ... يذكرنا في أوانه الرّطبا وقوله: فاردُدْ عليّ حياتي ... عضّاً بفيك ولَحْسا وقوله: قد حكى البدرُ بَهاكا ... فرآه مَنْ رآكا وازدَهى بالحُسْنِ لمّا ... صار في الحسنِ حَكاكا

وقوله: عليو يا ريموده ... أصبحْت لي مستعدّه وقد علِمت لعَمْر الْ ... إله أنك جَلده بالاستلاب إذا ما ... مشيت لي مشي نجده ورجرجت من وَراها ... أردافَ إيزارِ بنده وقوله: قد صبَغتْ بنتُ المدينيه ... للفطر يا عباس فوهيّه وسلّفَتْ ماشِطَها أجرة ... واشترطت في المَشْط رازيّه فاسلفوا يا قوم في ... ... من نقْدِ بيتِ المالِ بخيّه فإنها أعشق بغّايةٍ ... لهذه المعصوبة النيه يا عمْرو ما بالُ المدينيه ... لا تأكل العصبان مشْوِيه ونحو هذا مما يملّ الناظر، ويضيع وقْت الكاتب. ولو وُجد لأبي الطيب بيت مثله، وحرفٌ يقاربه لعُصِب بعارِه، ولا انطلقت الألسن بعيبه، وصُدِّر به ديوان مثالبه وصحيفة مساويه. فإن طلبَ اللحنَ والغلط أخذ عليه مثل قوله: وضيْف كأس محدثهْ ملك ... تِيهُ مُغنٍّ وظَرْفُ زِنديقِ فسكن الهاء، وقوله: يا ربيَ الجبار. فرفع الجبار. وقوله: يا خيْرَ من كان ومَنْ يكونُ ... إلا النبيّ الطاهرُ الميمونُ

وقوله: فلما خشي الإيبا ... ء من صحْبٍ وجلاّسِ وإنما هو الإباء. وقوله: وإذا نزعتَ الى الغواية فليكُن ... لله ذاك النزعُ لا للناس وإنما هو نزع عن الشيء نزوعاً، وأبيات كثيرة يضعفُ عذة في معظمها، وإن كان باب التأويل يتسع، ومذاهب الاحتيال في النحو لا تضيق. ووجد له في الإحالة مثل قوله: وأخَفْتَ أهْلَ الشِّرْكِ حتى إنّه ... لتَخافُك النُّطَفُ التي لم تُخْلَقِ وقوله: حتى الذي في الرحم لم يك نطفة ... لفؤاده من خوفه خفَقان وقوله يصف الباري، جلّ أن يوصَف: إن الذي لا يخيّب سائله ... جوهره غير جوهر البشر وقوله: كانت ذخيرة صانع متنوَّق يعنيه - جل وعز. ومن الخطأ في الوزن قوله: رأيت كل من كا ... ن أحمقاً معتوها في ذا الزمان ... صار المقدم الوجيها يا رب نذل وضيع ... نوهته تنويها هجوته لكيما ... أزيده تشويها

فبعضه مستفعلن مفعول وفعول، وبعضه مستفعلن فاعلاتن. والعَجَب ممن ينقص أبا الطيب، ويغضّ من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة كقوله: يترَشفْن من فمي رشَفاتٍ ... هنّ فيهِ أحلى من التوحيد وقوله: وأبهَرُ آيات التِّهاميّ أنّهُ ... أبوكم وإحدى ما لكُم من مَناقب وهو يحتمل لأبي نواس قوله: قلت والكاس على ك ... فَّيّ تهوي لالتثامي أنا لا أعرف ذاك ال ... يوم في ذاك الزحام وقوله: يا عاذلي في الدهر ذا هجْرُ ... لا قَدرٌ صحّ ولا جبْرُ ما صح عندي من جميع الذي ... يُذكر إلا الموتُ والقبرُ فاشرب على الدهر وأيامه ... فإنما يهلكنا الدهرُ وقوله: عاذلتي بالسّفاه والزجر ... استمعي ما أبثّ من أمري باح لساني بمضمر السرِّ ... وذاك أني أقول بالدهرِ بين رياض السرور لي شيع ... كافرة بالحساب والحشرِ

موقنة بالممات جاحدة ... لما رووه من ضغطة القبرِ وليس بعد الممات منقلب ... وإنما الموت بيضة العَقْرِ وقوله: أأترك لذة الصهباء نقداً ... لما وعدوه من لبن وخمر حياة ثم موت ثم بعْث ... حديث خرافة يا أمَّ عَمرو وقد رُوي أنهما لديك الجن. وقوله: فدع الملامَ فقد أطعتُ غَوايتي ... ونبذتُ موعظتي وراء جداري ورأيت إيثارَ اللذاذة والهوى ... وتمتعاً من طيب هذي الديارِ أحرى وأحزمُ من تنظّر آجل ... ظنّي به رجْمٌ من الأخبارِ إني بعاجل ما ترين موكل ... وسواه إرجافٌ من الآثارِ ما جاءنا أحدٌ يخبر أنه ... في جنة مذ مات أو في النار فلو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدّت الطبقات، ولَكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعري وأضرابُهما من تناول رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بُكْماً خرساً، وبِكاء مفحمين؛ ولكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر.

تفاوت شعر أبي تمام

تفاوت شعر أبي تمام ولو لزمت هذا المثال في شعر أبي تمام لتظاهرتْ عليك الحُجج، وكثرت عندك الشواهد، فقوِي في نفسك رأيي واعتقادي، وتصور لك صدقي وإصابتي؛ وإذ رأيته يقول: أموسى بنَ إبراهيم دعوة خامس ... به ظمأُ التثريب لا ظمأ الوِرْد جليد على عتب الخطوبِ إذا عرَتْ ... وليس على عتب الأخِلاّء بالجَلْدِ أأمنحُ هجْر القول من لو هجوْته ... إذا لهجاني عنه معروفه عندي كريمٌ متى أمدحْه أمدحْه والورى ... معي وإذا ما لُمته لمتُه وحْدي أردّ يدي عن عِرض حرٍّ ومنطقي ... وأملؤها من لِبدَةِ الأسد الوَرْد فإن يك سُخْطٌ عنّ أو تَكُ هفوةٌ ... على خطأ مني فعذري على عمْد

ويقول: ومن لم يسلِّمْ للنوائب أصبحت ... خلائقه جمْعاً عليه نَوائبا وقد يكْهَمُ السيف المسمى مَنيّة ... وقد يرجع المرءُ المظفَّرُ خائبا فآفة ذا ألاّ يُصادِف مضرباً ... وآفة ذا ألا يصادفَ ضاربا وقوله: أقول وقد قالوا استراحت لموتها ... من الكرب: روحُ الموت شرٌّ من الكرب قد نزلت ضنْكاً من اللحد والثرى ... ولو كان رحب الذّرْع ما كان بالرحب وكنت أرجّي القُرْب وهي بعيدة ... فقد نُقلت بعدي عن البُعْد والقرب لها منزلٌ تحت الثرى وعهدْتُها ... لها منزل بين الجوانِح والقلبِ ويقول: أرى الناسَ منْهاجَ الندى بعد ما عفَت ... مهايعُه المثلى ومحّتْ لواحِبه ففي كل نجد في البلاد وغائر ... مواهب ليست منه وهي مواهبه فيأيها السّاري اسْرِ غير محاذر ... جنان ظلام أو ردّي أنت هائبه ويقول: ذو الودّ مني وذو القربى بمنزلةٍ ... وإخوَتي أسوةٌ عندي وإخواني في دهريَ الأول المذموم أعرفهم ... فكيف أنكرهم في دهريَ الثاني عصابة جاورتْ آدابهم أدبي ... فهم إنْ فُرِّقوا في الأرض جيراني

ويقول: فتىً مات بين الضّرب والطّعن ميتةً ... تقوم مقام النصر إذ فاتهُ النصر لئن أُبغِض الدهرُ الخئون لفقده ... لَعَهدي به ممّن يحَبُّ له الدهر وكيف احتمالي للسحاب صنيعة ... بإسقائه قبراً وفي لحده البحْرُ ويقول: وما اشتبَهَتْ طريق المجد إلا ... هداك لقِبلة المعروف هادي وما سافرتُ في الآفاقِ إلا ... ومن جدْواك راحلتي وزادي مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد فيترقى في هذه الدّرج العالية، ويتصرف هذا التصرف المعجز، ثم ينحط الى الحضيض ويلصق بالتراب، ويقول: أصبحتَ نيءَ العقل فاصْل لميْسَم ... بيدي ألجِّ الناس في الإنضاج ويقول: ألا لا يمدّ الدهرُ كفّاً بسيئ ... الى مجتدى نصر فتقطع للزّنْدِ ويقول: لو كان كلّفها عُبيدٌ حاجةً ... يوماً لزنّى شدْقَماً وجَديلا وأظنه لو وجد لفظة أسقط من زنّى، وأقل مناسبة للمعنى لاستعملها.

ويقول: نمْ وإن لم أنم كراي كَراكا ... شاهدي الدّمع إنّ ذاكَ كذاكا طال ضُرّي نفسي فداؤك بل مَنْ ... أنا حتى تكون نفسي فِداكا ضاق صدري بل كيف أستطيع أن أصْ ... بِر إذ كان ناظري لايَراكا ذهبت مُقلتاي بالدّم والدمْ ... عِ الى النارِ إذ نجَتْ مُقلَتاكا ويقول: بنفسي مَنْ هواهُ أخي وترْبي ... وحِبّيه رضيعُ بنات قلبي ومن قد شفّني وصبرت حتى ... ظننتُ بأن نفسي نفسُ كلْب ويقول: قسّمَتْ لي وقاسمتني بسلطا ... نٍ من السحر مقلتا عبْدوسِ فالقسيم القَسام عن لحظات ... منهما يختلسن حب النفوس فالذي قاسمت بلحْظ إذا اللي ... ل تمطى من الكرى المنفوسِ ولست أدري - يشهد الله - كيف تصوّر له أن يتغزّل وينسِب، وأي حبيب يستعطف بالفلسفة! وكيف يتّسع قلب عبدوس هذا؛ وهو غلام غِرّ، وحدَث مُتْرف لاستخراج العويص وإظهار المعمّى! ويقول: لم يبرح البينُ المُشِتُّ جوانِحي ... حتى نروّث من دمٍ مسموم

ويقول: أأترك حاجتي غرَض التواني ... وأنت الدلوُ فيها والرِّشاءُ ويقول: ضاحي المحيّا للهجير وللقنا ... تحت العَجاج تخالُه مِحراثا ويقول: تُثَفّى الحربُ منه حين تغلي ... مراجِلُها بشيطان رجيم ويقول: ولّى ولم يُظْلَم وما ظُلِم امرؤ ... حث النّجاء وخلف التّنين فهو يجعل الممدوح تارة دلواً، وتارة محراثاً، ومرة رشاء، وأخرى تنّيناً وشيطاناً رجيماً؛ وأظنه جسَر على ذلك لما سمع قول جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزلي ... وهنّ يهوَينني إذ كنتُ شيطانا وما أبعد ما بين الكلامين، وأشد تفاوت ما بين الموضعين! ويقول: كان الزمان بكم كلباً فغادركم ... بالسيف والدهر فيكم أشهرُ الحرم

ويقول: فحرام عليك أن تقرعي ها ... مة قلبي بدمعك المهراق وما تكاد قصيدة من شعره تسلم من أبيات ضعيفة؛ وأخرى غثّة، لاسيما إذا طلب البديع وتتبّع العويص؛ فجاء بمثل قوله: لعمري لقد حرّرتُ يوم لقيته ... لو أن القضاء وحدَه لم يُبرَّدِ وقوله: لن يأكلوا هم ولا عشيرتهم ... ما كنزوه من صامت الحسب وقوله: ذلّتْ بهم عُنق الخليطِ وربما ... كان الممَنّع أخدعاً وصَليفا وقد أولع بذكر الأخدع؛ فردده في عدة أبيات لم يوفق إلا في واحد منها. قال: سأشكر فُرجة اللّبَب الرخيّ ... ولينَ أخادع الزّمِنِ الأبيّ وقال: يا دهر قوّم من أخدعيك فقد ... أضجَجْتَ هذا الأنامَ من خرَقِكْ وقال: فضربتَ الشّتاء في أخدعيه ... ضربةً غادرتْهُ عَوْداً رَكوبا

وقد أحسن في قوله: وما هو إلا الوحيُ أو حدُّ مرهفٍ ... تُميلُ ظُباه أخدَعَي كل مائلِ وقد ذكره البحتري صفحاً، فقال: عطَف ادّكارُك يوم رامة أخدَعي ... شوقاً وأعناقُ المطيّ قواصدُ فوقع من الحلاوة والحسن في الموقع الذي تراه. وقوله: لو لم تفتّ مُسنّ المجد مذ زمنٍ ... بالجود والبأس كان الجود قد خرِقا وقوله: كانوا رداء زمانهم فتصدّعوا ... فكأنما لبس الزمانُ الصوفا وقوله: ولديك آلات جنوبٌ كله ... فاحطم بأصْلبِهنّ أنف الشّمْألِ فإن حمَل نفسه على التكلّف، وفارق الطبع الى التعمق أراك مثل قوله: ألا سبيلَ ندًى إلا سبيلَ بِلَى ... لو كنت حياً لأضحى للندى سُبُل وقوله: لو لم يمت بين أطراف الرماح إذاً ... لمات إذ لم يمتْ من شدّة الحَزنِ وقوله: أيعد التي ما قبلها أفبعدها ... مقام لحرّ قلت أنت عجولُ

وقوله: ذهبت بمذهبه السماحةُ فالتوَتْ ... فيه الظنونُ أمُذهبٌ أم مذهبُ وقوله: المجدُ لا يرضى بأن ترضى بأن ... يرضى المؤمل منك إلا بالرضا بلغنا أن إسحق بن إبراهيم الموصلي سمعه ينشد هذا البيت، فقال له أن: يا هذا، لقد شققت على نفسك، إن الشعر لأقرب مما تظن. فإن أظهر التعجرف، وتشبّه بالبدو، ونسي أنه حضري متأدب، وقروي متكلف جاءك بمثل قوله: قد قلتُ لما اطْلَخَمّ الأمر وانبعثت ... عشواءُ تاليةٌ غُبْساً دَهاريسا وقوله: فعنيقُها يعضيدُها ووشيجُها ... سعدانُها وزميلُها تنّومها وقوله: إن الأشاءَ إذا أصاب مشذِّبٌ ... منه اتمهلّ ذُرًى وأثّ أسافِلا وقوله:

وحادِث أخرَق داويتُه ... ردّاعة داهِية درْدَبيسْ وقوله: ومُزَحْزِحاتي عن ذراكَ عوائِقٌ ... أصحرْن بي للعَنقَفير المؤبّدِ وقوله: مُقابلٌ في دِرى الأذواءِ منصبُه ... عيصاً فعيصاً وقُدموساً فقُدموسا ثم لو لزم ذلك واستمر عليه ديناً وعادة، واتّخذه إماماً وقِبلة لقلنا: بدوي جرى على طبعه، أو متحضِّر حنّ الى أصله؛ لكنه يُعرِض عنه صفحاً، ويتناساه جملة، ويقول وهو يمدح خليقة: مازلت في العفو للذنوب وإطْ ... لاقٍ لعانٍ في جُرمه غلِق حتى تمنّى البُراءُ أنهم ... عندك أمسوا في القِدّ والحلَق

فنازعه المعنى، وانفرد دونه بالعيب؛ لأن أبا دَهبل زعم أن البرآء يتمنون أن يُذنِبوا فيُصيبوا عفوة، ولا نقْص في ذلك على الممدوح؛ لأن انفراده بالعفو متعذّر، وإنما سببه الى ذلك ذنب المحرم وخطأ الجاني. وزاد أبو تمام فزعم أنّهم يتمنون اليُتم؛ ليصلوا الى رِفده، ويلحقوا بالأيتام في تكفّله، والممدوح ممكّن من إفاضة العدل، وبثّ العُرف، وإغنائهم عن هذا التمني الذي لا يختاره العاقل إلا بعد بلوغ الجهد منه، ووصول القُنوط الى قلبه، واستيلاء الضّنك على معيشته؛ وليس من صفة الجواد أن يعرّض مُدّاحه وقصّاده، ومن علقت به آماله، وسمت إليه همتُه لسوء الحال، ويكلّفهم الأماني الرّذْلة. وقد مدح أبا المغيث، فقال: اسقِ الرعية من بشاشتك التي ... لو أنها ماء لكان مَسوسا إن البشاشة والندى خيرٌ لهم ... من عفة جمَسَت عليك جُموسا لو أنّ أسباب العَفافِ بلا تُقًى ... نفعت لقد نفعتْ إذاً إبليسا فليتَ شعري عنه لو أراد هجوه، وقصد الغضّ منه، هل كان يزيد على أن يذم عفّته، ويصفها بالجموس والجمود، وهما من صفات البرد والثقل، ثم يختم الأمر بأن يضرب له إبليس مثلاً، ويقيمه بإزائه كُفُواً، هذا وهو يقول في مثل ذلك غير مادح، وبحيث يحتمل الاتساع ولا يضيق التصرف: عجباً لعمري أنّ وجهَك مُعرِض ... عنّي وأنت بوجهِ نفعِك مقبلُ

أوَلا ترى أن الطلاقة جُنّة ... من سوء ما تجني الظنونُ ومعقِل ومودة مطويةٌ منشورة ... فيها الى إنجاحها متعلل إن يُعطِ وجهاً كاسفاً من تحته ... كرم وطيبُ خليقةٍ لا تدخل فلرُبّ ساريةِ الغمام مطيرة ... جادت بوابلها وما تتهلل على أنه قد تحامل بقوله: إن يعط وجهاً كاسفاً، وبقوله في مثله: ليس يدري إلا اللطيفُ الخبير ... أي شيء تُطوي عليه الصّدورُ فتطلّق مع العناية إنّ الْ ... بشْر في أكثر الأمور بشيرُ إنما البشرُ روضةٌ فإذا كا ... ن ببذْل فروضةٌ وغدير فتكلم بما تجَمْجِم فالمن ... طقُ عنوان ما يجنّ الضمير فيتوصّل الى مراده أحسن ما توصل، ويعبّر عن ذات نفسه بألطف عبارة؛ وقوله: شكوت الى الزمان نحولَ جسمي ... فأرشدني الى عبدِ الحميد وإنما يُرشَد في نحول الجسم الى الأطباء، فأما الرؤساء والممدوحون فإنما يُلتَمس عندهم صلاحُ الأحوال؛ وقوله: تكادُ عطاياه يجنّ جُنونها ... إذا لم يعوّذْها بنغمةِ طالبِ

وما بالها يحوجها الى الجنون، ويلتمس لها العُوذ والرُقى، هلاّ فاكّ أسرها، وقدم خلاصها، ولم ينتظر بها نغمة الطالب، ففعل ما قاله أبو الطيب: وعطاءُ مالٍ لو عداهُ طالبٌ ... أنفقتَه في أن تلاقي طالِبا وقد تداول الناس هذا المعنى، فقال مسلم: أخ ليَ يعطيني إذا ما سألتُه ... ولو لم أعرِّضْ بالسؤال ابتَدانِيا وقال أبو العتاهية: وإنا إذا ما تركنا السؤال ... فلم نبغ نائلَه يبتَدينا وإن نحن لم نبغ معروفَه ... فمعروفُه أبداً يبتَغينا وقال أبو تمام: فأضحَتْ عطاياه نوازعَ شُرّدا ... تسائِل في الآفاق عن كلّ سائل وقوله: ورأيتَني وسألتَ نفسك سيْبَها ... لي ثم جدتَ وما انتظرتَ سؤال وقد زاد أبو الطيب عليهم بقوله: أنفقته في أن تُلاقي طالب وقوله: قلْتاً من الرّيق ناقعَالذّوب إلْ ... لا أن برْد الأكباد في جمدِهْ

فقد سلك مفسّرو هذا البيت غير طريق، وقالوا فيه غير قول، فلم يزيدوا على تأكيد المحال بالمحال، وإضافة الخطأ الى الخطأ، وما معنى جمد الريق؟ وكيف يكون برد الأكباد في جامده دون ذائبه! وقد أعطاك أن ذوبه ناقع مرّ، وهل بعد الري برد الأكباد! وبقوله: ألذّ من الماء الزُلال على الظما ... وأطرف من مَرِّ الشمال ببغْداد فجعل الشمال طرفه ببغداد، وهي أكثرُ الرياح بها هبوباً. وقد رواه بعض الرواة أظرف؛ ولا أعرف معنى الظرف في الريح؛ وقوله: ورحبَ صدْرٍ لو أنّ الأرض واسعة ... كوسعه لم يضق عن أهله بلدُ وهذا المعنى فاسد؛ لأنه جعل البلادَ إنما تضيق بأهلها لضيق الأرض، وأنها لو اتسعت اتساعَ صدره لم تضِق البلاد. ونحن نعلم أن البلاد لم تخطط في الأصل على قدر سعةِ الأرض وضيقها، وأن الأرض تتّسع لبلاد كثيرة، ولاتّساع ما فيها من المدن أيضاً، وهي على حالها؛ وإنما تؤَسس وتبتدئ على قدر الحاجة إليها؛ فإذا استمر بها الزمان وكثرت العمارة، وظهر فيها ما يستدعي الناسَ إليها ضاقت، فإن جاورَتْها فُسَح وعِراص وسّعت، وإلا احتمل لها بعض الضيق؛ فلو اتسعت الأرض حتى امتدّت إلى غير نهاية وأمكن ذلك لم تزد البلاد التي تنشأ فيها على مقاديرها. وقوله: سبعون شهراً كلها في كلِّه ... لي عائقٌ عن منزلي وبلادي

فجعل للكل كلاً، كما جعل للدهر دهراً في قوله: تحمّلتُ ما لو حُمِّل الدهرُ شطرَه ... لفكّر دهراً أي عبأَيْه أثقَلُ وقوله: رقيقُ حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفّيك ما ماريتَ في أنه بُردُ والبُرد لا يوصف بالرِّقة، وإنما يوصف بالصفاقة والدّقة. وقد أقام الرقة مقام اللطف والرشاقة في موضعٍ آخر، فقال: لك قدٌ أرقّ من أن يحاكي ... بقضيبٍ في النّعتِ أو بكثيبِ والقد لا يوصف بالرقة. وقوله: لآلٍ إذا مرّت على السمع ناسبَتْ ... لدقّة معنى نظمِها لؤلؤَ العِقْد ومناسبة اللآلئ في دقة النظم لا يُفتخَر بها، ولا يجعل ما يناسبه في ذلك لآل؛ وإنما يشبه باللآلئ في الصفا والرونق والحسن، وقد يكون من سقط الخرز وصغاره ما هو أدقّ نظماً من اللؤلؤ؛ وقد تنظِم الأعراب تيجانها من حبّ الحنظَل، وهو أدقّ نظماً من كل جوهر نفيس، وإنما أراد ذِكر السبب الذي أفاده شبه اللؤلؤ فزلّ عنه. وقوله: من الهيف لو أن الخلاخلَ صُيِّرت ... لها وشحاً جالت عليها الخلاخِلُ

أراد وصفها بدقّة الخصر، فوصفها بغاية القصر والضئولة؛ لأن الوشاح يؤخذ من العاتق ويوشح إحدى طرفيه الصّدْر والبطن، والآخر الظهر، حتى ينتهيا الى الكشح ويلتقيا على الوِرك. وكيف حالُ من يجول الخلخال من عاتقها وكشحها، وهل تكون هذه من البشَر فضلاً عن أن تُنسَب الى الحُسن! وقوله: يَدي لمن شاء رهْنٌ لم يذُق جرَعاً ... من راحتيك درَى ما الصّابُ والعسَل فحذف عمدة الكلام، وأخلّ بالنظم؛ وإنما أراد يدي لمن شاء رهن إن كان لم يذق. فحذف إن كان من الكلام، فأفسد الترتيب، وأحال الكلام عن وجهه. وقوله: حلّتْ محلّ البِكْر من مُعطًى وقد ... زُفّت من المعطي زِفافَ الأيِّم فجعل الأيّم مقابل البِكر في التقسيم، والأيّم قد تكون بِكراً؛ وإنما هي التي لا زوج لها، يقال: آمت المرأة تئيم أيْمة. وكذلك الرجل إذا ماتت امرأته؛ وإنما لأهل اللغة قولان: أحدهما أن المرأة قد تكون أيِّماً إذا لم يكن لها زوج؛ وإن لم تكن نكِحت قطّ. والثاني أنها لا تكون أيِّماً إلا وقد نُكِحت، ثم خلَت بموت أو طلاق؛ بِكراً كانت أو غير بكر، بنَى عليها الزوج أو لم يبْنِ. ويقال: تأيّمت المرأة؛ إذا لم تُنكح بعد موت زوجها. فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: الأيّم أحق بنفسها من وليّها، والبِكر تُستأذن في نفسها. فقد ذهب العراقيون فيه على ظاهر اللغة؛ فجعلوا الأيّم عاماً في الثّيّب والبكر، وجعلوا اللفظة الثانية مفردة بحكم، وداخلة من الثانية في حكمها، وأبى أصحابُنا ذلك؛ فذهب الشافعي الى أن المراد بالأيّم الثيّب، وليس يُحفظ عنه، ولا يوجد في شيء من كتبه أن الأيّم والثيّب في اللغة عبارتان عن معنى واحد، فيجد العائب طريقاً الى عيبه، ولكنه لُطف في الفكر فتوصل به الى استخراج ما غمض على غيره؛

وذلك أنه رأى الخبر تضمّن ذكر الأيّم والبكر، ووجد البكر معطوفاً على الأيّم؛ وكان ظاهر الخطاب وحقيقة اللغة يقتضي تغايرَ المعطوف والمعطوف عليه. ومن الظاهر عند أهل اللسان أن الشيء لا يُعطَف على نفسه؛ هذا هو الأصل المطّرد، فإن وُجد في الكلام ما يخرج عنه، وأُصيب ما يخالف هذه القضية فزائل عن الظاهر تابع لدليله؛ كما يوجد عموم يُخَصّ، وأمر يحمل على النّدْب، وخبرٌ يراد به الأمر؛ فلا يُترك له موضوعات الأصول ولا يُعترض به على حقائق اللغة. وكما لا يُعطف بالشيء على نفسه؛ فكذلك لا يُعطف به على جملة هو بعضُها؛ لأنه يكون معطوفاً به على نفسه وعلى شيء آخر معه. ولو قال قائل من أهل اللغة، موثوق بسداده: جاءني عمرو وأكرمني أبو زيد؛ لوجب أن يكون أحدُهما غير الآخر في مقتضى الظاهر؛ وكذلك لو قال: وجدت عبد الله عاقلاً وأبا محمد فاضلاً لكان المعقول منهما تغايرهما، وإن أمكن أن يكون المسمى هو المكنى. فلما تقرّر عنده الأصل، ووجد الأدلة تقوده إليه فصَل بين المعطوف والمعطوف عليه، فجعل الأيّم غير البِكْر؛ وليس غير الأبكار إلا الثُيَّب. وليس يعترض هذا قولُ من يزعم أنه إقرار بالعدول عن الظاهر، ومفارقة الحقيقة، فقد سلم للمخالف ورفعت المنازعة في هذه الدلالة؛ لأنا نقول: إن في الخبر ظاهرين متقابلين؛ أحدهما حقيقة الأيّم وهو انطلاقُها على كل خالية من حُرمة النكاح، والثاني ظاهر العطف ووجوب تميّز المعطوف عليه، فلما تقابل هذان الظاهران، ولم يكن من رفْض أحدهما بدّ اتّبع المتعارف، واستسلم لعادة الخطاب؛ وعادة الاستعمال في اللغات مقدمة على حقائقها، وهي أولى بالظاهر من أصولها. وأما أنا فأرى ظاهرَ الترتيب من ظاهر الألفاظ المنفردة، وإن كان من أصحابنا من يخالفني فيه.

وفي الإفصاح بما أشرت إليه، وتبيين ما أجملته كلامٌ يتسع، ولا يتصل بالغرض الذي قصدناه، وإنما نبذْت منه نُبذاً اقتضاها فصلٌ أصبته لبعض من اعترض على أبي تمام، جمع فيه بينه وبين الشافعي في النكير، ووازن بين قولهما في الخطأ، ولم أستحسن ما يتسرع إليه أصحابنا من التصريح بمخالفة اللغة، والتشبّث بالشواذ المردودة، ووجدت المعنى الذي ذكرته مستقيماً على اللغة والمعقول، وكالمصرّح به في لفظه؛ فأومأت إليه.

شعر المتنبي

شعر المتنبي ثم أعود الى نسق الكتاب وأكتفي بما قدّمته من هفوات أبي تمام وإن كان ما أغفلته أضعاف ما أثبتّه؛ إذ البغْية فيه الاعتذار لأبي الطيب، لا النّعي على أبي تمام. وإنما خصَصْتُ أبا نُواس وأبا تمام لأجمع لك بين سيّدي المطبوعين، وإمامَي أهل الصنعة، وأريك أن فضلَهما لم يحمِهما من زلل، وإحسانهما لم يصفُ من كدَر؛ فإن أنصفتَ فلك فيهما عبرة ومَقنع، وإن لججت فما تُغْني الآياتُ والنّذر عن قومٍ لا يؤمنون. وقد رأيتك - وفقك الله - لما احتفلت وتعمّلت، وجمعت أعوانك واحتشدت، وتصفّحت هذا الديوان حرفاً حرفاً، واستعرضته بيتاً بيتاً، وقلّبته ظَهراً وبطْناً، لم تزد على أحرف تلقّطَتها، وألفاظ تمحّلَتها، ادّعيت في بعضها الغلط واللحن، وفي أخرى الاختلال والإحالة، ووصفت بعضاً بالتّعسّف والغثاثة، وبعضاً بالضّعف والركاكة، وبعضاً بالتعدي في الاستعارة؛ ثم تعدّيت بهذه السمة الى جملة شعره، فأسقطت القصيدة من أجل البيت، ونفيت الديوان لأجل القصيدة، وعجّلت بالحُكم قبل استيفاء الحجة، وأبرمت القضاء قبل امتحان الشهادة، فعبت قوله: فتًى ألفُ جُزء رأيُه في زمانه ... وما قَلّ جُزء بعضُه الرأي أجمَعُ وقوله: ومن جاهل بي وهْو يجهَل جهلَه ... ويجهلُ عِلمي أنه بيَ جاهِلُ وقوله:

فقلْقَلت بالهمّ الذي قلقل الحشا ... قلاقِلَ عيسٍ كلهنّ قلاقِلُ غثاثةُ عيشي أن تغثّ كرامتي ... وليس بغثٍّ أن تغثّ المآكلُ وقوله: لك الخيرُ غيري رامَ من غيرك الغِنى ... وغيري بغيرِ اللاذقيّة لاحِقُ وقوله: عظُمتَ فلمّا لم تكلّم مهابَةً ... تواضعْتَ وهْو العُظمُ عُظماً عنِ العُظم وقوله: ولستَ بدونٍ يُرتجى الغيثُ دونه ... ولا مُنتهى الجود الذي خلْفَه خلْفُ ولا واحداً في ذا الوَرى من جماعةٍ ... ولا البعضُ من كلٍّ ولكنّك الضِّعفُ ولا الضِّعفُ حتى يتبَع الضِّعفَ ضِعفُه ... ولا ضِعفَ ضِعفِ الضّعفِ بل مثلَه ألفُ وقوله: قَبيلٌ أنت أنتَ وأنت منهُمْ ... وجدُّك بِشرٌ الملكُ الهُمامُ

وقوله: كيف ترْثي التي ترى كلّ جفْن ... رَءَاها غير جفنِها غيرَ راقي وقلت: مازلنا نتعجب من قول مسلم بن الوليد: سُلّت وسَلّت ثم سَلّ سليلُها ... فأتى سَليلُ سَليلها مسلولا حتى جاء المتنبي، فملأ ديوانه من هذا الجنس، فأنسانا بيت مسلم. وقوله: أبا شُجاعٍ بفارِسٍ عضُدَ ال ... دولة فنّاً خُسْرو شَهَنْشاها وقوله: رِواقُ العِزّ فوقَك مسبطِرٌ ... ومُلكُ عليّ ابنِك في كَمالِ يعلِّلُها نَطاسيّ الشّكايا ... وواحدُها نِطاسي المَعالي وليست كالإناثِ ولا اللواتي ... تُعدّ لها القُبور من الحِجال ولا مَن في جِنازتِها تِجار ... يكون وَداعُها نفْضَ النِّعال وقوله:

أوْهِ من انْ لا أرى محاسنها ... وأصْلُ واهاً وأوْهِ مرْآها وقوله: كيف يقْوى بكفِّك الزّندُ والآ ... فاقُ فيها كالكفّ في الآفاقِ أنت فيه وكان كلّ زمانٍ ... يشتهي بعْضَ ذا على الخلاّقِ وقوله: مَبيتي من دِمِشْقَ على فِراش ... حشاهُ لي بحرِّ حشاي حاشِ وقوله: وربّما يشهدُ الطّعام معي ... من لا يُساوي الخبزَ الذي أكلَهْ وقوله: إني على شغَفي بما في خُمْرِها ... لأعِفُّ عما في سراويلاتِها وقوله: لا خلْقَ أسمَحُ منك إلا عارِفٌ ... بك رَاءَ نفسَك لم يقُل لك هاتِها وقوله:

لساني وعيني والفؤاد وهمّتي ... أودّ اللواتي ذا اسمُها منك والشّطر وما أنا وحدي قلتُ ذا الشِّعر كلّه ... ولكن لشِعري فيك من نفسِه شعرُ وقوله: وشيخٌ في الشباب وليس شيخاً ... يسمّى كلّ مَن بلغَ المشيبا وقوله: قَسا فالأُسْدُ تفزَع من يدَيْهِ ... ورقّ فنحنُ نفزَعُ أنْ يَذوبا وقوله: وسيفي لأنْتَ السّيفُ لا ما تسُلّه ... لضرْبٍ ومما السّيفُ منه لكَ الغِمدُ وقوله: أيفطِمه التّوْرابُ قبل فِطامه ... ويأكله قبلَ البلوغ الى الأكلِ وقوله: إذا ما لبِستَ الدّهرَ مستمتعاً به ... تخرّقْت والملبوسُ لم يتخرّق وقوله:

أغرّكُمُ طولُ الجيوشِ وعرضُها ... عليٌّ شَروب للجيوشِ أكولُ إذا لم تكنْ للّيث إلا فريسةً ... غذاهُ فلم ينفَعْك أنّك فيلُ إذا الطّعنُ لم تُدخِلك فيه شجاعة ... هي الطّعن لم يُدخِلك فيه عذولُ إذا كان بعضُ الناس سيفاً لدولةٍ ... ففي الناس بوقاتٌ لها وطُبولُ وقوله: فكلّكم أتى مأتَى أبيه ... فكلّ فِعالِ كلِّكُمُ عُجابُ وقوله: مُلِثَّ القَطر أعطِشها رُبوعا ... وإلا فاسْقِها السمَّ النّقيعا أسائلُها عنِ المتديّريها ... فلا تدري ولا تُذري دُموعا إذا ماستْ رأيتَ لها ارتِجاجاً ... له لولا سواعدُها نُزوعا تألّم درْزَه والدّرزُ ليْنٌ ... كما تتألمُ العضْب الصّنيعا ذراعاها عدُوّا دُمْلُجَيها ... يظنّ ضجيعُها الزّنْدَ الضّجيعا

أحبّكِ أو يقولوا جرَّ نمْلٌ ... ثَبيراً أو ابنُ إبراهيمَ ريعا أمُنسيّ الكناسَ وحضْرَ موتاً ... ووالدتي وكِندةَ والسّبيعا وقوله: جوادٌ سمَت في الخير والشّر كفُّه ... سُموّاً أودّ الدهرَ أنّ اسمَه كفّ وُقوفَين في وقْفَين: شُكْرٍ ونائلٍ ... فناثِلُه وقْفٌ، وشُكرُهم وقْفُ ولما فقدْنا مثلَه دامَ كشْفُنا ... عليه فدامَ الفقدُ وانكشفَ الكشْفُ وقوله: ولا جلس البحرُ المحيطُ لقاصدٍ ... ومن تحتِه فرْشٌ ومن فوقِه سقْفُ وقوله: رجلٌ طينُه منَ العنبَر الوَرْ ... دِ وطينُ الرّجالِ من صلْصالِ وقوله: إنّما الناسُ حيثُ أنت وما النّا ... سُ بناسٍ في موضعٍ منكَ خالي

وقوله: لا يستَكنُّ الرّعبُ بين ضُلوعِه ... يوماً ولا الإحسانُ أن لا يُحسِنا تتقاصَرُ الأوهامُ عن إدراكِه ... مثلُ الذي الأفلاكُ فيه والدُنا وقوله: ولذا اسمُ أغطيَة العُيون جفونُها ... من أنّها عمَلَ السّيوفِ عوامِلُ وإن كان قد تغلغل الى معنى لطيف أحسن استخراجه لو ساعده اللفظ. وقوله: جفَخَتْ وهُم لا يجْفَخون بهابِهم ... شيَمٌ على الحسَب الأغرِّ دلائلُ وقوله: الطّيبُ أنت إذا أصابَك طيبُه ... والماءُ أنت إذا اغتسلْتَ الغاسِلُ وقوله: فتبيتُ تُسئِدُ مُسئِداً في نيِّها ... إسآدَها في المَهمَه الإنضاءُ وقوله: كُفي أراني ويْكِ لومَك ألوَما ... همٌ أقام على فؤادٍ أنجَما

وقوله: رماني خِساسُ الناس من صائِبِ اسْتِه ... وآخرُ قُطنٌ من يديْه الجنادِلُ وقوله: فلولا تولّي نفسِه حمْلَ حِلمِه ... عنِ الأرضِ لانهدّت وناءَ بها الحِملُ وقوله: أنّى يكونُ أبا البريّة آدمٌ ... وأبوك والثّقَلان أنت محمدُ وقوله: خفِ اللهَ واستُر ذا الجمالَ ببرقُعٍ ... فإنْ لُحتَ حاضتْ في الخدور العواتقُ وقلت: لما أنكر عليه حاضت غيّره فجعله ذابت. وقوله: مُذلُّ الأعزّاءِ المُعزّ وإنْ يئِنْ ... به يُتمُهُم فالموتِم الجابرُ اليُتمِ وقوله: تحرّج عن حقْن الدّماءِ كأنّه ... يرى قتْلَ نفْسٍ ترْك رأسٍ على جِسمِ

أطعناك طوْع الدّهر يا بْنَ ابن يوسُفٍ ... لشهوَتِنا والحاسدُ لك بالرّغْمِ إذا ما ضربْت القِرنَ ثمّ أجَزتَني ... فكِلْ ذهَباً لي مرةً منه بالكَلْمِ فكمْ قائِلٍ لو كان ذا الشخصُ نفسَه ... لكانَ قَراهُ مكْمَنَ العسكر الدّهْمِ وقائلةٍ والأرضَ أعني تعجُّباً ... عليّ امرؤٌ يمشي بوقْري من الحِلم وقوله: وأنّك في ثوبٍ وصدرُك فيكُما ... علَى أنه منْ ساحةِ الأرض أوسَعُ وقلبُك في الدُنيا ولو دخلَت بنا ... وبالجِنّ فيه ما درَتْ كيف ترْجع وقوله: أحادٌ أم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيلَتُنا المَنوطةُ بالتّنادِ وقوله: وأبعدَ بُعدَنا بعدَ التّداني ... وقرّب قُربَنا قُربَ البِعادِ

قلت: قد جمع في هذه الأبيات وفي غيرها مما احتذى به حذوَها بين البرد والغثاثة، وبين الثُقل والوخامة، فأبعد الاستعارة، وعوّص اللفظ، وعقّد الكلام، وأساء الترتيب، وبالغ في التكلّف، وزاد على التعمّق؛ حتى خرج الى السّخف في بعض، والى الإحالة في بعض. وقلت: كيف يُعدّ في الفحول المُفلقين من يقول: جمدَتْ نُفوسُهم فلما جئتَها ... أجريْتها وسقيتها الفولاذا فغَدا أسيراً قد بللْت ثيابَه ... بدمٍ وبلّ ببولِه الأفْخاذا أعْجَلت أنفسَهُم بضرْبِ رِقابِهم ... عن قولِهم لا فارسٌ إلا ذا طلبَ الإمارةَ في الثّغورِ وقد نشا ... ما بين كرْخايا الى كلْواذا فكأنّه حسِب الأسنّة حُلوةً ... أو ظنّها البرْنيّ والآزاذا وقوله: بشرٌ تصوّر غايةً في آيةٍ ... ينفي الظّنون ويُفسِد التّقييسا يا مَن نلوذُ منَ الزمان بظِلّه ... أبداً ونطرُد باسمِه إبليسا إني نثرْتُ عليك دُرّاً فانتقِدْ ... كثُر المدلِّسُ فاحذَرِ التّدليسا حجّبتُها عن أهل إنطاكيّة ... وجلوتُها لكَ فاجتليْت عَروسا خيرُ الطّيورِ على القُصور وشرّها ... يأوي الخرابَ ويسكُن النّاووسا

وقوله: ولعلّي مؤمِّلٌ بعض ما أبْ ... لُغُ باللطفِ من عزيزٍ حميدِ لسَريٍّ لباسُه خشِنُ القُطْ ... ن ومَرويُّ مرْوَ لبسُ القُرود وقوله: ألقى الكِرامُ الأولى بادوا مكارمَهم ... على الخصيبيّ عند الفرض والسُننِ فهنّ في الحَجْر منه كلّما عرضَتْ ... له اليَتامى بَدا بالمجدِ والمِنَنِ وقوله: جعلتُك بالقلبِ لي عدّةً ... لأنّك باليدِ لا تُجعَلُ وقوله: ونُصفي الذي يُكنى أبا الحسَن الهَوى ... ونُرضي الذي يُسمَى الإله ولا يُكْنى وقوله: وكلامُ الوُشاةِ ليس على الأحْ ... بابِ سُلطانُهُ على الأضدادِ وقوله:

ليس كلّ السّراة بالرّوذَباريّ ... ولا كلّ ما يطيرُ ببازِ فارسيٌ له من المجد تاجٌ ... كان من جوهرٍ على أبْرَوازِ فكأنّ الفَريدَ والدُرّ واليا ... قوتَ من لفظِه وسامَ الرِّكازِ تقضَمُ الجمْرَ والحديدَ الأعادي ... دونهُ قضْم سُكّر الأهْوازِ وقوله: ونهْبُ نُفوسِ أهل النّهبِ أولَى ... بأهل المجدِ من نهْبِ القُماش ومن قبلِ النّطاح وقبل يأني ... تبينُ لك النّعاجُ من الكِباشِ تُطاعنُ كلّ خيلٍ سرْتَ فيها ... ولو كانوا النّبيطَ على الجِحاش أتى خبَرُ الأمير فقيلَ كرّوا ... فقلت نعم ولو لحِقوا بَشاشِ ويقول: مُستقلٌ لك الديارَ ولو كا ... نَ نُجوماً آجُرُّ هذا البناء ولو أنّ الذي يخِرّ من الأمْ ... واهِ فيها من فِضّة بيضاءِ أنت أعلى محلّةً أن تُهنَّى ... بمكانٍ في الأرض أو في السماءِ ولك الناسُ والبلادُ وما يسْ ... رَح بين الغبراءِ والخضراءِ

يفضحُ الشّمسَ كلما ذرت الشمْ ... سُ بشمْس مُنيرةٍ سوداءِ إنما الجِلدُ ملبسٌ وابيضاضُ النْ ... نَفْسِ خيرٌ من ابيضاضِ القَباءِ ويقول: ما أنصفَ القومُ ضُبَّهْ ... وأمّه الطُّرطُبّهْ رموا برأسِ أبيه ... وناكوا الأمَّ غُلُبّهْ فلا بمن مات فخرٌ ... ولا بمن نيك رغْبَه وإنما قلتُ ما قل ... تُ رحمَةً لا محبَّهْ ما كنت إلا ذُباباً ... نفتكَ عنّا مِذبّه وكنت تنخَر تيهاً ... فصرتَ تضرِط رهْبَه وإنْ بعُدنا قليلاً ... حملْت رُمحاً وحرْبَه ويقول: قد بلغتَ الذي أردت من البرّ ... ومن حقّ ذا الشّريف عليْكا وإذا لم تسِرْ الى الدار في وقْ ... تِك ذا خِفتُ أن تسير إليكا وقلت: وهو أكثر الشعراء استعمالاً لذا التي هي للإشارة، وهي ضعيفة في صنعة الشعر، دالة على التكلّف، وربما وافقت موضعاً يليقُ بها، فاكتست قبولاً؛ فأما في مثل قوله في هذين البيتين: ومن حق ذا الشريف عليكا؛ وفي وقتك ذا، وقوله:

لو لم تكن من ذا الورى اللّذْ منك هوْ ... عقمَتْ بمولِد نسلِها حوّاء وقوله: عن ذا الذي حُرم الليوثُ كمالَه ... يُنسي الفرسيةَ خوفَه بجمالِه وقوله: وإن بكيْنا له فلا عجبٌ ... ذا الجزْر في البحر غيرُ معهودِ وقوله: ذا الذي أنت جدّه وأبوه ... دِنيةً دون جدّه وأبيه وقوله: أفي كل يومٍ ذا الدُمُستُق مُقدمٌ ... قفاه على الإقدام للوجه لائِمُ وقوله: أبا المِسك ذا الوجهُ الذي كنت تائِقاً ... إليه وذا الوقتُ الذي كنت راجيا وقوله: نحن في أرض فارسٍ في سُرور ... ذا الصّباح الذي بُرَى ميلادُهْ كلما قال نائلٌ: أنا منه ... سرَفٌ، قال آخر: ذا اقتصادُهْ

وقوله: فإن يكنِ المهديّ من بان هديُه ... فهذا وإلا فالهُدى ذا فما المَهدي وقوله: يعلِّلنا هذا الزمان بذا الوعْدِ ... ويخدَع عما في يديه من النّقدِ وقوله: وهذا أوّل الناعين طُراً ... لأولِ ميتَةٍ في ذا الجلالِ وقوله: فإن أتى حظُّها بأزمِنَةٍ ... أوسعَ من ذا الزّمانِ أبداها وقوله: حلفَتْ لذا ذركاتُ غُرة ذا ... في المهد أن لا فاتَهم أملُ فهذا صالح، وقوله: فبعْدَه وإلى ذا اليوم لو ركضتْ ... بالخيلِ في لهَواتِ الطّفلِ ما سَعلا فهو - كما تراه - سخافةً وضعفاً، ولو تصفّحت شعره لوجدت فيه أضعاف ما ذكره من هذه الإشارة؛ وأنت لا تجد منها في عدة دواوين جاهلية حرفاً، والمحدَثون أكثر استعانة بها، لكن في الفَرْط والنّدرة، أو على سبيل الغلط والفلتة.

وقلت: احتملنا له ما قدّمناه على ما فيه من فنون المعايب، وأصناف القبائح؛ كيف يُحتمل له اللفظُ المعقّد، والترتيب المتعسَّف لغير معنى بديع يفي شرفُه وغرابتُه بالتعب في استخراجه، وتقوم فائدة الانتفاع بإزاء التأذي باستماعه، كقوله: وفاؤكُما كالرّبْعِ أشجاهُ طاسِمُه ... بأن تُسعِدا والدّمعُ أشفاه ساجِمُهْ ومن يرى هذه الألفاظ الهائلة، والتعقيد المُفرط، فيشك أن وراءَها كنزاً من الحكمة، وأن في طيّها الغنيمة الباردة؛ حتى إذا فتّشها، وكشف عن سترها، وسهِر ليالي متوالية فيها حصل على أن وفاء كما يا عاذليّ بأن تُسعِداني إذا درس شجاي، وكلما ازداد تدارُساً ازددت له شجْوا؛ كما أن الربع أشجاه دارسُه. فما هذا من المعاني التي يضيع لها حلاوة اللفظ، وبهاء الطبع، ورونق الاستهلال، ويشح عليها حتى يهلهِل لأجلها النَسْج، ويفسِد النظم، ويفصِل بين الباء ومتعلقها بخبر الابتداء قبل تمامه، ويقدّم ويؤخّر، ويعمّي ويعوّص! ولو احتمل الوزن ترتيب الكلام على صحته فقيل: وفاؤكما بأن تسعِدا أشجاه طاسِمُه كالربع، أو وفاؤكما بأن تسعدا كالربع أشجاه طاسمه، لظهر هذا المعنى المضْنون به، المتنافَس فيه؛ فأما قوله: والدمعُ أشفاه ساجمُه فخطاب مستأنَف، وفصلٌ منقطِع عن الأول، وكأنه قال: وفاؤكما والربع أشجاه ما طسم، والدمع أشفاه ما سجَم. وكذلك قوله: أحادٌ أم سُداسٌ في أُحادٍ ... لُييلَتنا المنوطةُ بالتّنادِ

تعرّض فيه لوجوهٍ من الطعن: منها قوله: سُداس، وقد زعموا أنها غير مروية عن العرب، وإنما رُوي أُحاد وثُناء وثُلاث ورُباع وعُشار، وهذه معدولات لا يُتجاوز بها السماع، ولا يسوغ فيها القياس. ومنها أنه أقام أُحاداً وسُداساً مقام واحد وستة؛ والعرب إنما عدلوا به عن واحد واحد، واثنين اثنين، ولذلك لا يقولون للاثنين والثلاثة، هذا ثُناء وهذا ثُلاث؛ وإنما يقولون: جاء القوم أُحاد ومَثنى وثُلاث: أي واحداً واحداً، واثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة؛ وبذلك نطق القرآن، قال الله تعالى: (قُل إنّما أعِظُكم بواحِدةٍ أن تقوموا للهِ مَثْنى وفُرادَى) . أي اثنين اثنين، وقال تعالى: (فانْكِحوا ما طابَ لكُم من النّساءِ مثْنى وثُلاثَ ورُباع) ، أي اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. ومنها أنه صغّر الليلة، ثم وصفها بالطّول، ووصلها بالتّنادِ، حتى احتاج الى إطالةِ الاعتذار الى التناول والاستشهاد. وأنت إذا امتحنْت الذي عزاه لم تجد أكثر من أواحِدة ليلتُنا هذه أم ستّ ليال في واحدة وهل يساوي ذلك - وإن عُرض سمْحاً مطاوعاً ووُجد سهلاً مُواتياً - أن يُفتَتح به قصيدة، أو تُعقَد عليه قافية! وما باله خصّ سُداساً، وعُشارٌ أكثر إن أراد التكثير! واجتماع عشر ليالٍ أطول من اجتماع ست. فإن ادعى مُدّع أنه أراد استيفاء ليالي الأسبوع، فجمعها في الست والواحدة، فكملت سبْعاً استدلّ النابهُ على ضعف بصره بالحساب؛ لأن الستّ في الواحدة ستّ، فأين السابعة؟ ولمَ اقتصر على الأسبوع وهو يريدُ المبالغة في الطول؟ وهلا بلغ أقصى ما يحتمله الوزن وأكثر ما يُمكنه النظم! فإن توسّعت في الدعاوى فضلَ توسّع، ومِلتَ مع الحيْف بعض الميل حتى تناولت طائفةً من المختار، فجعلتَه في المنفي، وأخذْت صدْراً من الجيد فجعلته مع الرديء - ولسنا نُنازِعك في هذا الباب - فهو باب يضيق مجالُ الحجةِ فيه، ويصعبُ

وصول البرهان إليه. وإنما مدارُه على استشهاد القرائح الصافية، والطبائع السليمة، التي طالت مُمارستُها للشعر، فحذقَت نقدَه، وأثبتت عياره، وقوِيت على تمييز، وعرفت خلاصه، وأنما نُقابل دعواك بإنكار خصْمك، ونُعارض حُجّتك بإلزام مخالفك إذا صِرنا الى ما جعلتَه من باب الغَلط واللّحْن، ونسبتَه الى الإحالة والمناقضة، فأما، وأنت تقول: هذا غثٌ مستبرَد، وهذا متكلّف متعسّف، فإنما تخبِر عن نُبوِّ النفس عنه، وقلّة ارتياح القلب إليه. والشعر لا يحبَّبُ الى النفوس بالنظر والمحاجّة، ولا يحلّي الصدور بالجِدال والمُقايسة؛ وإنما يعطِفها عليه القبول والطّلاوة، ويقرّبه منها الرونق والحلاوة؛ وقد يكون الشيء متقَناً مُحكماً، ولا يكون حُلواً مقبولاً، ويكون جيداً وثيقاً، وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً. وقد يجدُ الصورة الحسنة والخِلقة التّامة مقلية ممقونة، وأخرى دون مُستحلاة موموقة؛ ولكل صناعة أهلٌ يُرجع إليهم في خصائصها، ويُستَظهر بمعرفتهم عند اشتباه أحوالها. ومما أُنكر أن يكون كثير مما عددته من هذه الأبيات ساقطة عن الاختيار، غير لاحقة بالإحسان، وأن منها ما غلب عليه الضعف، ومنها ما أثر فيه التعسّف؛ ومنها ما خانه السّبك؛ فساء ترتيبه، وأخلّ نظمه. ومنها ما حمل عليه التعمّق؛ فخرج به الى الغَثاثة والبرْد، وإن كان أكثرُها لم يأتِ من قِبَل المعنى وشرفه، وكنا نجد لكل واحد منها مثالاً يحسّنه، وشبيهاً يعضده ويسدده: ولكن الذي أطالبك به وأُلزمك إياه ألا تستعجل بالسيئة قبل الحسنة، ولا تقدّم السُخْط على الرحمة، وإن فعلتَ فلا تُهمِل الإنصاف جملة، وتخرج عن العدْل صِفراً؛ فإن الأديب الفاضل لا يستحسن أن يعقد بالعثرة على الذنب اليسير من لا يحمد منه الإحسان الكثير؛ وليس من شرائط النَّصفة أن تنعى على أبي الطيب بيتاً شذّ، وكلمة ندَرت،

وقصيدةً لم يُسعِده فيها طبعُه؛ ولفظةً قصرت عنها عنايته، وتنسى محاسنَه، وقد ملأت الأسْماع، وروائعه وقد بهرت. ولا من العدل أن تؤخره الهفوةُ المنفردة، ولا تقدمه الفضائل المجتمعة، وأن تحطه الزلةُ العابرة، ولا تنفعه المناقبُ الباهرة. وكيف أسقطته عن طبقات الفحول وأخرجتَه من ديوان المحسنين لهذه الأبيات التي أنكرتَها، ولم تسلّم له قصب السّبْق ونصال النضال، وتُعَنْون باسمه صحيفة الاختيار لقوله: هو الجدّ حتى تفضُل العينُ أختَها ... وحتى يكون اليومُ لليوم سيّدا وما قتل الأحْرار كالعفْو عنهُم ... ومن لك بالحُرّ الذي يحفَظُ اليَدا إذا أنت أكرَمت الكريمَ ملكتَه ... وإن أنت أكرمْتَ اللئيم تمرّدا أزِل حسَد الحُسّادِ عنّي بكبتِهم ... فأنت الذي صيّرتَهم ليَ حُسَّدا وما أنا إلا سمهريٌّ حملتَه ... فزيّن معروضاً وراع مُسدَّدا أجِزْني إذا أُنشِدْت شِعراً فإنّما ... بشِعري أتاكَ المادِحون مرَدَّدا ودعْ كلَّ صوتٍ دون صوتي فإنّني ... أنا الصائحُ المَحكيُّ والآخرُ الصّدَى تركتُ السُرى خلفي لمَن قلّ مالُه ... وأنعلْتُ أفراسي بنُعماكَ عسْجَدا

وقيّدتُ نفسي في ذَراك محبّةً ... ومن وجدَ الإحسانَ قيْداً تقيّدا إذا سأل الإنسانُ أيامه الغِنى ... وكُنتَ على بُعدٍ جعلتك موعِدا وقوله: وأطمعَ عامرَ البُقيا عليهمْ ... ونزّقها احتمالُك والوقارُ وكانت بالتّوقّف عن رَداها ... نُفوساً في رَداها تُستشارُ وكنت السّيفَ قائمهُ إليها ... وفي الأعْداء حدُّك والغِرار وظلّ الطّعنُ في الخيْلَين خَلساً ... كأنّ الموتَ بينهمُ اختصارُ مضوْا مُتسابقي الأعضاء فيه ... لأرؤسِهمْ بأرجُلِهم عِثار إذا صرفَ النهارُ الضّوءَ عنهم ... دَجا ليلان: ليلٌ والغُبار وإن جُنحُ الظلامِ انجابَ عنهمْ ... أضاءَ المشرفيّة والنهارُ إذا فاتوا الرِّماح تناولتْهم ... بأرماحٍ من العطشِ القِفارُ يرون الموتَ قُدّاماً وخلْفاً ... فيختارون والموتُ اضطِرارُ إذا سلك السّماوةَ غير هادٍ ... فقتْلاهُمْ لعينيْهِ منارُ فمن طلب الطِّعان فذا عليٌ ... وخيلُ الله والأسَلُ الحِرارُ

يراه الناسُ حيثُ رأتْه كعْبٌ ... بأرضٍ ما لنازِلها استِتارُ بنو كعْبٍ وما أثّرْتَ فيهم ... يدٌ لم يُدْمِها إلا السِّوارُ بها من قطْعه ألمٌ ونقْصٌ ... وفيها من جلالَتِه افتِخارُ لهم حقٌ بشِركِك في نِزارٍ ... وأدنى الشِّرْكِ في نسبٍ جِوارُ لعلّ بنيهُمُ لبَنيكَ جُندٌ ... فأوّل قُرَّحِ الخيلِ المِهارُ وقوله: نزَلوا في مصارِعٍ عرفوها ... يندُبون الأعمام والأخوالا تحمِلُ الريح بينهم شعَرَ الها ... مِ وتُذري عليهمُ الأوصالا تُنذِر الجسمَ أن يُقيم لديْها ... وتُريه لكلّ عُضْو مِثالا أبصَروا الطّعْن في القُلوب دِراكا ... قبل أن يُبصِروا الرّماح خَيالا ينفُض الرّوْعُ أيدِياً ليس تدري ... أسُيوفاً حملْن أم أغْلالا وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ ... طلب الطّعْنَ وحْدَه والنِّزالا إنّ دون التي على الدّرْب والأحْ ... دَبِ والنّهرِ مِخلَطاً مِزْيالا غَصَبَ الدّهرَ والمُلوكَ عليها ... وبَناها في وجْنةِ الدّهرِ خالا

إنما أنفُسُ الأنيس سِباعٌ ... يتفارسْن جهْرةً واغتِيالا من أطاقَ التِماس شيءٍ غِلاباً ... واغتِصاباً لم يلتمِسْهُ سؤالا وقوله: قادَ الجيادَ الى الطِّعان ولم يقُدْ ... إلا الى العادات والأوطانِ إن خُليَتْ رُبطَتْ بآدابِ الوغى ... فدعاؤها يُغني عن الأرْسانِ في جحْفَل ستَر العيونَ غُبارُه ... فكأنّما يُبصِرْن بالآذانِ يرْمي بها البلدَ البعيد مظفّرٌ ... كلُّ العبيد له قريبٌ دانِ حتى عبرْن بأرسَناسَ سَوابحاً ... ينشُرنَ فيه عَمائِمَ الفُرسانِ يقمُصنَ في مثل المُدى من باردٍ ... يذَرُ الفُحولَ وهنّ كالخِصيان بحرٌ تعوّد أو يُذمُّ لأهلِه ... من دهْره وطوارِقِ الحِدثانِ فتركتَه وإذا أذَمّ من الوَرى ... راعاكَ واستَثْنى بني حمْدانِ نظروا الى زُبَرِ الحديد كأنما ... يصعدْن بين مناكِبِ العِقْبانِ وفوارِسٍ يُحيي الحِمامُ نفوسَها ... فكأنها ليست من الحيوانِ

مازِلتَ تضربُهم دِراكاً في الذُرى ... ضرْباً كأنّ السيف فيه اثنانِ خصّ الجماجمَ والوجوهَ كأنّما ... جاءتْ إليك جسومُهم بأمانِ وقوله: لو كلّتِ الخيلُ حتى لا تحمّلُه ... تحمّلَتْه الى أعدائه الهِمَمُ يحُبٌ تمرّ بحِصن الرّانِ مُمسكةً ... وما بها البُخلُ لولا أنها نِقمُ وشُزّبٍ أحمت الشِّعرَى شكائمها ... ووسّمتْها على آنافِها الحكَمُ ترمي على شفَراتِ الباتِراتِ بهم ... مكامِنُ الأرض والغيطانُ والأكَمُ وما يصدُّك عن بحرٍ لهم سَعةٌ ... وما يردّك عن طوْدٍ لهم شمَمُ ضربْتَه بصدورِ الخيلِ حاملةً ... قوماً إذا تلِفوا قُدْماً فقد سلِموا وفيها: هنديةٌ إن تصغِّرْ معشَراً صَغُروا ... بحدِّها أو تعظِّمْ معْشَراً عظُموا

قاسَمتَها تلَّ بِطريقٍ فكان لها ... أبطالُها ولك الأطفالُ والحُرَم وقد تمنّوا غَداةَ الدّرْب في لجَبٍ ... أن يُبصروك فلمّا أبصروك عَموا فكان أثبتَ ما فيهم جُسومُهُم ... يسقُطنَ حولكَ والأرواحُ تنهزِمُ إذا توافقتِ الضّرْبات صاعدةً ... توافقتْ قُلَلٌ في الجوّ تصطدِمُ لا يأمَلُ النفَسَ الأقصى لمُهجتِه ... فيسرِق النّفَسَ الأدنى ويغتنِمُ ألقَتْ إليك دِماءُ الرومِ طاعتَها ... فلو دعوْت بلا ضرْبٍ أجابَ دمُ يُسابقُ القتلُ فيهم كلّ حادثة ... فما يُصيبهُم موتٌ ولا هرَمُ ألهى الممالكَ عن فخرٍ قفلْتَ به ... شُرْبُ المُدامةِ والأوتارُ والنّغمُ مقلَّداً فوقَ شُكَّرِ الله ذا شُطَب ... لا تُستَدامُ بأمضى منهما النِّعمُ وقوله: يا أعدلَ الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصمُ والحكمُ إذا رأيت نيوبَ الليثِ بارزةً ... فلا تظنّنّ أن الليثَ يبتسمُ ومهجةٍ مُهجتي من همِّ صاحبِها ... أدركتُها بجوادٍ ظهرُه حرمُ رجلاه في الركضِ رِجْلٌ واليَدان يدٌ ... وفعلُه ما تُريدُ الكفُّ والقدَمُ يا من يعزّ علينا أن نفارقهمْ ... وِجدانُنا كل شيء بعدَكم عدمُ ما كان أخلقَنا منك بتكرِمةٍ ... لو أنّ أمرَكمُ من أمرِنا أمَمُ

إن كان سرّكمُ ما قال حاسِدُنا ... فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ وبيننا لو رعيتُم ذاك معرفةٌ ... إنّ المعارِف في أهل النُهى ذمَمُ ما أبعدَ العيبَ والنُقصانَ من شيَمي ... أنا الثُريّا وذانِ الشّيبُ والهرمُ ليتَ الغَمامَ الذي عندي صواعقُه ... يُزيلهنّ الى مَنْ عندَه الدِّيَمُ شرّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ به ... وشرّ ما يكسِبُ الإنسان ما يصِمُ وشرّ ما قنصَتْه راحتي قنَصٌ ... شُهْبُ البُزاةِ سواءٌ فيه والرّحَمُ ويقول: الناسُ ما لم يروك أشباه ... والدهرُ لفظٌ وأنت معناهُ والجودُ عينٌ وأنت ناظرها ... والبأس باعٌ وأنت يُمناهُ تُنشدُ أثوابُنا مدائِحَه ... بألسُنٍ ما لهنّ أفواهُ إذا مررنا على الأصمِّ بها ... أغنَتْه عن مِسمَعَيْه عيناهُ يا راحِلاً كلّ من يودِّعُه ... مودِّعٌ دينَه ودُنياهُ إن كان فيما نراه من كرَمٍ ... فيكَ مزيدٌ، فزادَك اللهُ وقوله: وفارسُ الخيل من خفّت فوقّرها ... في الدّرب والدمُ في أعطافِها دُفَعُ

فأوحَدَته وما في قلبِه قلقٌ ... وأغضبتْه وما في لفظِه قذَعُ قاد المقانِبَ أقصى شُربِها نهَلٌ ... على الشّكيم وأدنى سيرِها سرَعُ لا يعتَقي بلدٌ مسراهُ عن بلدٍ ... كاموتِ ليس له ريٌّ ولا شِبعُ يطمِّع الطيرَ فيهم طول أكلِهم ... حتى تكادَ على أحيائِهم تقعُ ذمّ الدُمُستُق عينيه وقد طلعت ... سودُ الغَمام فظنّوا أنها قزَعُ فيها الكُماة التي مفطومُها رجلٌ ... على الجياد التي حوليُّها جذَعُ كأنها تتلقهم لتسلُكهم ... فالطّعن يفتح في الأجواف ما تسُع إذا دعا العِلْجُ عِلجاً حال بينهُما ... أظْمى تُفارِق منه أختَها الضِّلَعُ لا تحسبوا من أسرْتُم كان ذا رمَقٍ ... فليس يأكلُ إلا الميتةَ الضَّبُعُ وإنما عرّض الله الجنودَ بكم ... لكي يكونوا بلا فسْل إذا رجعوا وهل يشينُك وقتٌ أنت فارسُه ... وكان غيرُك فيه العاجزُ الضّرعُ من كان فوق محلِّ الشمسِ موضعُه ... فليس يرفعُه شيءٌ ولا يضعُ لا يُسلمُ الكرّ في الأعقابِ مهجتَه ... إن كان أسلمَها الأصحابُ والشِّيَعُ وما حمِدتُك في هوْلٍ ثبتّ له ... حتى بلوتُك والأبطالُ تمتَصِعُ

فقد يُظنّ شُجاعاً من به خرَقٌ ... وقد يُظنّ جباناً من به زمَعُ وقوله: خليليّ إني لا أرى غير شاعرٍ ... فلِمْ منهمُ الدّعوى ومنّي القصائدُ فلا تعجَبا إن السيوفَ كثيرةٌ ... ولكنّ سيفَ الدولة اليوم واحدُ له من كريم الطبع في الحرب منتضٍ ... ومن عادةِ الإحسانِ والصّفحِ غامدُ ولما رأيتُ الناس دون محلّه ... تيقنت أن الدهر للناس ناقدُ ومن شرفِ الإقدامِ أنّك فيهم ... على القتل موموقٌ كأنّك شاكِدُ وأنّ دماً أجريتَه بك فاخِرٌ ... وأنّ فؤاداً رُعْتَه لكَ حامِدُ وكلٌ يرى طُرْقَ الشجاعة والنّدى ... ولكنّ طبعَ النفس للنّفس قائِدُ نهبْتَ من الأعمار ما لو حويْتَه ... لهُنِّئتِ الدُنيا بأنّك خالدُ وقوله - يرثي عبداً لسيف الدولة: ومن سرّ أهل الأرض ثم بكى أسًى ... بكى بعيونٍ سرّها وقُلوبِ سُبِقنا الى الدنيا فلو عاش أهلُها ... منِعْنا بها من جيئَةٍ وذهوبِ وأوفى حياةِ الغابرين لصاحِبٍ ... حياةُ امرئٍ خانتْه بعد مَشيبِ وفيها: فإن يكنِ العِلقَ النفيسَ فقدتَه ... فمن كفِّ مِتلافٍ أغرّ وَهوبِ كأنّ الرّدى عادٍ على كلّ ماجدٍ ... إذا لم يعوِّذْ مجدَه بعُيوبِ

ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفَلْنا فلم نشعُر له بذُنوبِ تسَلّ بفِكرٍ في أبيك فإنما ... بكيتَ وكان الضّحكُ بعدَ قريبِ وقوله: نزلنا عنِ الأكوارِ نمشي كرامةً ... لمن بان عنهُ أن نُلمّ به ركْبا نذمّ السّحابَ الغرَّ في فعلِها به ... ونُعرِضُ عنها كلّما طلعتْ عتْبا ومن صحِبَ الدُنيا طويلاً تقلّبتْ ... على عينِه حتى يرى صدقَها كِذبا ذكرتُ به وصْلاً كأنْ لم أفُز به ... وعيشاً كأني كنتُ أقطعُه نهْبا وقوله فيها: مضى بعد ما التفّ الرِّماحان ساعةً ... كما يتلقّى الهُدْب في الرّقْدةِ الهُدْبا ولكنه ولّى وللطّعْن سَورةٌ ... إذا ذكرتْها نفسُه لمسَ الجَنْبا أرى كلَّنا يبغي الحياةَ بسعيهِ ... حريصاً عليها مُستَهاماً بها صبّا فحبّ الجبانِ النّفسَ أوردَهُ التُقى ... وحبّ الشُجاعِ النفسَ أوردهُ الحرْبا ويختلف الرّزقانِ والفعلُ واحدٌ ... الى أن يُرى إحسانُ هذا لِذا ذنْبا وفيها: ولم نفترِقْ عنه الإسنّة رحمةً ... ولم يترُكِ الشامَ الأعادي له حُبّا ولكنْ نَفاها عنهُ غيرَ كريمةٍ ... كريمُ الثنا ما سُبّ قطّ ولا سَبّا وجيشٌ يُثنّي كل طوْد كأنّه ... خريقُ رياحٍ واجهتْ غُصُناً رطْبا كأنّ نجومَ الليلِ خافتْ مُغارَه ... فمدّتْ عليه من عجاجتهِ حُجْبا

ويقول - يذكر رسول صاحب الروم: رأى ملكُ الروم ارتياحَك للنّدى ... فقامَ مقام المُجتَدي المتملّقِ وخلّى الرماحَ السّمهريّة صاغراً ... لأدْربَ منه بالطّعانِ وأحذَقِ وكاتبَ من أرض بعيدٍ مرامُها ... قريبٍ على خيلٍ حوالَيك سُبَّقِ وقد سار في مسْراك منها رسولُه ... فما سار إلا فوقَ هامٍ مفلَّقِ وكنتَ إذا كاتبتَه قبل هذه ... كتبتَ إليه في قَذال الدُمُستُقِ وهل ترك البيضُ الصّوارم منهمُ ... حبيساً لفادٍ أو رفيقاً لمُعتِقِ وقوله: فلوْ خُلِق الناس من دهرِهم ... لكانوا الظّلامَ وكنتَ النّهارا أشدّهُم في النّدى هِزّة ... وأبعدُهُم في عُدوٍّ مُغارا سما بك همّي فوق الهُمومِ ... فلستُ أعدّ يَساراً يسارا ومن كنتَ بحْراً له يا عل ... يّ فلم يقبَلِ الدُرَّ إلا كِبارا وعندي لك الشُرَّدُ السّائرا ... تُ لا يختصِصْنَ من الأرضِ دارا وكنّ إذا سِرْن من مِقوَلي ... وثبْنَ الجِبالَ وخُضْنَ البِحارا وقوله:

ورُعْن بنا قلبَ الفراتِ كأنّما ... تخِرّ عليهِ بالرّجالِ سُيولُ يطارِدُ فيه موجَهُ كلّ سابحٍ ... سَواءٌ عليه غمرةٌ ومسيلُ تراه كأنّ الماءَ مرّ بجسمِه ... وأقبلَ رأسٌ وحدَه وتَليلُ تمَلُّ الحصونُ الشُمّ طولَ نِزالِنا ... فتُلقي إلينا أهلَها وتَزولُ ولما رأوه وحدَه قبلَ جيشِه ... درَوا أنّ كلّ العالمينَ فُضولُ فودّع قتْلاهُم وشيّع فلّهمْ ... بضرْبٍ حُزونُ الأرضِ فيه سُهولُ وإنا لنَلْقى الحادِثاتِ بأنفُسٍ ... كثيرُ الرّزايا عندَهنّ قليلُ وفيها: شريكُ المنايا والنّفوسُ غنيمةٌ ... فكلّ مماتٍ لم يُمِتْهُ غُلولُ فإنْ تكنِ الدّوْلاتُ قِسماً فإنها ... لمَنْ باشَر الموتَ الزّؤامَ تَدولُ لمَنْ هوّن الدُنيا على النّفسِ ساعةً ... وللبيضِ في هام الكُماةِ صَليلُ وقوله: أيدْري ما أرابكَ من يُريب ... وهل ترْقى الى الفلكِ الخطوبُ يجشِّمُك الزمانُ هوًى وحُباً ... وقد يؤذَى من المِقَة الحبيبُ وكيف تعِلّك الدُنيا بشيء ... وأنت لعلّةِ الدنيا طَبيبُ

وكيف تنوبُك الشّكوى بداءٍ ... وأنت المُستَغاثُ لِما ينوبُ ملِلْتَ مُقامَ يومٍ ليس فيه ... طِعانٌ صادِقٌ ودمٌ صَبيبُ وما بك غير حُبِّك أن تراها ... وعِثْيَرُها لأرجُلها جَنيبُ مجلّحَةً لها أرضُ الأعادي ... وللسُمْر المناحِرُ والجُنوبُ وقوله: المجدُ عوفيَ إذ عوفيتَ والكرَمُ ... وزال عنك الى أعدائك الألمُ صحّتْ بصحّتِك الغاراتُ وابتهجتْ ... بها المكارِمُ وانهلّتْ بها الديَمُ ولاح برقُك لي من عارضَي ملِكٍ ... ما يسقُطُ الغيثُ إلا حيث يبتسِمُ وما أخصّك في بُرء بتهنئَةٍ ... إذا سلِمْت فكل الناسِ قد سلِموا وقوله: ما الدّهر عندكَ إلا روضةٌ أُنُفٌ ... يا مَن شمائلُه في دهرِه زهَرُ ما ينتهي لك في أيامِه كرَمٌ ... فلا انتهى لك في أعوامِه عُمرُ فإنّ حظّك من تكرارِها شرَفٌ ... وحظَّ غيرِك منهُ الشّيبُ والكبَرُ

وقوله يذكر رسول صاحب الروم: وأنّى اهتدى هذا الرسولُ بأرضِه ... وما سكنَتْ مذْ سِرْتَ فيها القساطِلُ ومن أيِّ ماءٍ كان يسقي جيادَهُ ... ولم تصْفُ من مزْجِ الدماءِ المناهِلُ أتاك يكادُ الرأسُ يجحَدُ عُنقَه ... وتنقدُّ تحت الدِّرْعِ منه المفاصِلُ فما بلّغَتْه ما أراد كَرامةٌ ... عليكَ ولكن لم يخِبْ لك سائل وأكبَرَ منه همّةً بعثَتْ به ... إليك العِدى واستنظَرتْهُ الجحافلُ فأقبلَ من أصحابه وهْو مُرسَلٌ ... وعاد الى أصحابه وهو عاذِلُ إذا عاينتْك الرُسْلُ هانت نفوسُها ... عليها وما جاءت به والمُراسِلُ وقد زعموا أنّ النجومَ خوالِدٌ ... ولو حاربَتْه ناحَ فيها الثّواكِلُ وما كان أدناه له لو أرادَها ... وألطَفَها لو أنّه المُتناوِلُ وقوله: طلبتَهم على الأمواه حتى ... تخوّفَ أن تُفتّشهُ السّحابُ وتسأل عنهم الفلَواتِ حتى ... أجابكَ بعضُها وهُم الجوابُ إذا ماسِرْتَ في آثار قومٍ ... تخاذلَتِ الجماجِم والرِّقابُ ولو غيرُ الأمير غَزا كِلاباً ... ثناهُ عن شموسِهمُ ضَبابُ ولاقى دون ثايهمُ طِعاناً ... يُلاقي عنده الذئبَ الغُرابُ

وخيلً تغتذي ريحَ الموامي ... ويكفيها من الماءِ السّرابُ ويقول: هلِ الحدَثُ الحمْراءُ تعرِفُ لونَها ... وتعلمُ أيُّ السّاقيَينِ الغمائمُ سقَتْها الغمامُ الغُرُّ قبل نُزولِه ... فلما دنا منها سقتْها الجماجِمُ وكان بها مثلُ الجُنونِ فأصبحَتْ ... ومن جُثثِ القتْلى عليه تَمئمُ طريدةُ دهْرٍ ساقَه فرددْتَها ... على الدّين بالخطّيِّ والدّهرُ راغِمُ تُفيتُ اللّيالي كل شيء أخذتَه ... وهنّ لما يأخُذن منك غوارِمُ أتوك يجرّون الحديدَ كأنّهم ... سَروا بجِيادٍ ما لهنّ قوائمُ وقفتَ وما في الموت شكٌ لواقفٍ ... كأنك في جفْنِ الرّدى وهو نائمُ تمرّ بك الأبطالُ كلمى هزيمةً ... ووجهُك وضّاحٌ وثغرُك باسمُ ضممت جناحيهم الى القلب ضمّةً ... تموت الخوافي تحتها والقوادِمُ بضرْبٍ أتى الهاماتِ والنّصرُ غائبٌ ... وصار الى اللّبّات والنصرُ قادِمُ وقوله: ودانت له الدُنيا فأصبح جالساً ... وأيامُه فيما يُريدُ قيامُ وكل أناسٍ يتبعون إمامَهُم ... وأنتلأهلِ المكرُماتِ إمامُ ورُبّ جوابٍ عن كتابٍ بعثْتَه ... وعُنوانُه للناظِرينَ قَتامُ

تضيقُ به البيداءُ من قبل نشرِه ... وما فُضَّ بالبيداءِ عنه ختامُ وربّوا لك الأولادَ حتى أصبْتَها ... وقد كعبَتْ بنتٌ وشبّ غُلمُ جرى معك الجارون حتى إذا انتهَوا ... الى الغاية القُصوى جريْتَ وقاموا وقوله: للنّفسِ أخلاقٌ تدلّ على الفتى ... أكان سخاءً ما أتى أم تساخِيا خُلقْتُ أَلوفاً لو رحلْتُ الى الصِّبا ... لَفارَقْتُ شيبي موجَعَ القلبِ باكِيا فإنّ دموعَ العين غُدرٌ بربِّها ... إذا كنّ إثْرَ الغادِرين جوارِيا وجُرْداً مددْنا بين آذانِها القَنا ... فبتْن خِفافاً يتّبعْن العَواليا تماشى بأيْدٍ كلّما وافَتِ الصّفا ... نقشْن به صدْر البُزاةِ حوافِيا وتنظُر من سودٍ صوادِقَ في الدُجى ... يرَينَ بعيداتِ الشُخوص كما هِيا وتنصِبُ للجَرسِ الخفيّ سوامعاً ... يخلنَ مُناجاة الضّمير تنادِيا تجاذِبُ فرسانَ الصّباح أعنّةً ... كأنّ على الأعناقِ منها أفاعِيا قواصِدَ كافورٍ توارِك غيرِه ... ومنْ قصد البحرَ استقلّ السّواقِيا فجاءتْ بنا إنسانَ عينِ زمانِه ... وخلّتْ بَياضاً خلفَها ومآقِيا نحوز عليها المُحسنين الى الذي ... نرى عندَهم إحسانَهُ والأيادِيا وقوله: وما زال أهلُ الدهر يشتبهون لي ... إليك فلما لُحتَ لي لاح فَردُهُ

يُقال إذا أبصَرْتَ جيشاً وربّه ... أمامكَ ربٌ ربُّ ذا الجيش عبدُهُ وألقى الفمَ الضّحّاكَ أعلمُ أنّه ... قريبٌ بذي الكفّ المفدّاةِ عهدُهُ فكُنْ في اصطِناعي مُحسِناً كمجرِّبٍ ... يبنِ لك تقريبُ الجوادِ وشدُّهُ وما الصّارمُ الهنديُّ إلا كغيرِه ... إذا لم يُفارِقهُ النِّجادُ وغمدُهُ فإنك ما مرّ النّحوسُ بكوكبٍ ... وقابلْتَه إلا ووجهُك سعدُهُ وقوله: إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءَتْ ظُنونُه ... وصدّقَ ما يعتادُه من توهّمِ وعادى محبّيهِ بقوْل عُداتِه ... وأصبحَ في ليلٍ من الشّكّ مظلِمِ أُصادِقُ نفسَ المرءِ من قبلِ جسمِه ... وأعرِفها في فعلِه والتكلّمِ وما كل هاوٍ للجميل بفاعِلٍ ... ولا كلّ فعّالٍ له بمتمِّمِ وأبلجَ يعصي باختِصاصي مُشيرَهُ ... عصيْتُ بقصْديهِ مُشيري ولوّمي فساقَ إليّ العُرفَ غير مكدَّرٍ ... وسُقْتُ إليه الشُكْرَ غير مجمْجَمِ فأحسَنُ وجْهٍ في الوَرى وجهُ مُحسنٍ ... وأيمَنُ كفٍّ فيهمُ كفُّ مُنعِمِ ولو كنت أدري كم حَياتي قسمتُها ... وصيّرتُ ثُلثَيْها انتظارَك فاعْلَمِ وقوله: أما تغلَطُ الأيامُ فيّ بأنْ أرى ... بغيضاً تُنائي أو حبيباً تقرِّبُ

ويومٍ كليلِ العاشقينَ كمنْتُه ... أراقبُ فيه الشمسَ أيّانَ تغرُبُ وعيني الى أذنَيْ أغرَّ كأنّه ... من الليلِ باقٍ بين عينيْه كوكبُ له فضلةٌ عن جسمِه في إهابه ... تجيءُ على صدرٍ رحيبٍ وتذهَبُ شققْتُ به الظّلماءَ أُدْني عِنانَه ... فيَطْغى وأُرخيهِ مِراراً فيلعَبُ وأصرَعُ أيّ الوحشِ قفَّيتُه به ... وأنزِلُ عنه مثلَه حين أركَبُ وما الخيلُ إلا كالصديقِ قليلةٌ ... وإن كثُرَتْ في عينِ من لا يجرِّبُ إذا لم تُشاهِدْ غيرَ حُسنِ شياتِها ... وأعضائِها فالحُسنُ عنكَ مغيَّبُ وفيها: يُريد بك الحُسّاد ما اللهُ دافِعٌ ... وسُمرُ العوالي والحديدُ المذرَّبُ إذا طلبوا جدْواكَ أُعطوا وحُكِّموا ... وإن طلبوا المجْدَ الذي فيك خُيبوا ولو جاز أن يحْووا عُلاك وهبْتَها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهَبُ وأظلَمُ أهلِ الظُلمِ من بات حاسداً ... لمَنْ بات في نَعمائه يتقلّبُ ويُغنيكَ عمّا ينسُب الناسُ أنه ... إليك تناهَى المكرُماتُ وتنسَبُ وتعذُلُني فيكَ القوافي وهمّتي ... كأني بمدْح قبلَ مدحِكَ مذنِبُ وقوله: رأيتُكم لا يصونُ العِرضَ جارُكُم ... ولا يدِرُّ على مرْعاكُم اللبَنُ جزاءُ كلِّ قريبٍ منكُم ملَلٌ ... وحظُّ كل محِبٍ منكُمُ ضغَنُ

وتغضبون على من نال رِفدَكُمُ ... حتى يعاقبَهُ التنْغيصُ والمِنَنُ فغادرَ الهجْرُ ما بيني وبينكُمُ ... يهْماء تكذِبُ فيها العينَ والأذُنُ تحْبو الرّواسمُ من بعدِ الرّسيم بها ... وتسألُ الأرض عن أخفافِها الثّفِن سهرتُ بعد رحيلي وحشةً لكُم ... ثم استمرّ مريري وارعَوَى الوسنُ وإن بُليت بودٍّ مثلِ ودِّكُمُ ... فإنني بفِراقٍ مثلِه قمِنُ وقوله: برغم شَبيبٍ فارقَ السيفَ كفُّه ... وكانا على العِلاّت يصطحبان كأنّ رقابَ الناسِ قالت لسيفِه ... رفيقُك قيسيٌ وأنت يماني وهل ينفعُ الجيشَ الكثيرَ التفافُهُ ... على غيرِ منصورٍ وغيرِ مُعانِ ثنى يدَه الإحسانُ حتى كأنّها ... وقد قُبضَتْ كانت بغيرِ بَنانِ وقوله: عُيون رواحلي إن حِرتُ عيني ... وكلّ بُغامِ رازِحةٍ بفغامي فقد أرِدُ المياهَ بغيرِ هادٍ ... سوى عدّي لها برْقَ الغَمامِ

ولما صارَ ودُّ الناسِ خِبّاً ... جزَيتُ على ابتِسامٍ بابتِسامِ وصرتُ أشكّ فيمَن أصطَفيه ... لعِلمي أنّه بعضُ الأنامِ أرى الأجداد تغلِبُها كثيراً ... على الأولادِ أخلاقُ اللّئامِ وقوله: وزائِرتي كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلامِ بذلْتُ لها المطارِفَ والحشايا ... فعافتْها وباتت في عِظامي يضيقُ الجِلدُ عن نفسي وعنها ... فتوسِعهُ بأنواعِ السّقامِ إذا ما فارقَتْني غسّلَتْني ... كأنّا عاكِفانِ على حرامِ كأنّ الصُبحَ يطردُها فتجري ... مدامِعُها بأربعةٍ سِجامِ أراقِبُ وقتَها من غيرِ شوقٍ ... مُراقبةَ المَشوقِ المُستهام ويصدُقُ وعدُها والصّدقُ شرٌ ... إذا ألْقاكَ في الكُرَبِ العِطام ومنها: ألا يا ليتَ شعرَ يدي أتمسي ... تصرّفُ في عِنانٍ أو زِمام وهل أرمي هَواي براقصاتٍ ... مُحلاّةِ المقاودِ باللُغامِ فربّتما شفيتُ غليلَ صدري ... بسيرٍ أو قناةٍ أو حُسامِ وضاقتْ خطّةٌ فخلصْتُ منها ... خلاصَ الخمرِ من نسْجِ الفِدامِ

وفارقتُ الحبيبَ بلا وداعٍ ... وودّعتُ البِلادَ بِلا سلامِ يقول ليَ الطّبيبُ أكلتَ شيئاً ... وداؤك في شرابِك والطعامِ وما في طبِّه أني جوادٌ ... أضرَّ بجسمِه طولُ الجَمام تعوّد أن يغبِّر في السّرايا ... ويدخُل من قَتامٍ في قتامِ فأُمسِكَ لا يُطالُ له فيرْعَى ... ولا هو في العَليقِ ولا اللّجامِ فإنْ أمرَضْ فما مرِضَ اصطِباري ... وإن أُحْمَم فما حُم اعتِزامي وإنْ أسلَمْ فما أبقى ولكنْ ... سلِمْتُ من الحِمام الى الحِمامِ وهذه القصيدة كلّها مختارة؛ لا يعلمُ لأحدٍ في معناها مثلُه. والأبياتُ التي وصف فيها الحمى أفراد، وقد اخترع أكثر معانيها، وسهل في ألفاظها؛ فجاءت مطبوعةً مصنوعة. وهذا القسمُ من الشعر هو المطمِع المؤيس. وقد أحسن عبد الصّمد بن المعذَّل في قصيدته الرائية التي وصف فيها الحمَّى، وقصر في الضادية وفي مقاطيع له في وصفها، وكأن أبا الطيب قصد تنكُّب معانيه فلم يُلِمّ بشيء منها؛ قال عبد الصّمد: وبنْت المنيّةِ تنْتابُني ... هَدوّاً وتطرُقُني سفحْرَه إذا وردَتْ لم يدَعْ وِرْدَها ... عن القلب حجبٌ ولا سُتْرَه كأنّ له ضَرماًفي الحشى ... وفي كل عُضوٍ لها جمْرَه إذا لم تَرُحْ أصلاً في العشيّ ... فأقصى مواعِدها بُكْره

لها قُدرةٌ في جسومِ الأنام ... حَباها اللهُ ذو القُدره تغاليت باسم سواها لها ... كأن ليس لي باسمها خُبرَه فَطَوراً ألقّبها سُخنةً ... وطَوراً ألقّبها فتْرهْ أسائل أهيَ عن سُخنتي ... وأمنحهم نظرةً نظرَه فأجزعُ إن قيل لي حُمرة ... وأُشفِق إن قيلَ لي صُفره وصرت إذا جُعتُ يوماً ظللت ... كأنّ على كبدي شفرَه ويربو الطّحال إذا ما شبعت ... فتعلو الترائب والصُدره فأُمسي كأني من معدتي ... لبستُ الثيابَ على زُكرَه إذا ما رأيتُ امرأ مطلقاً ... له الأكل تخنقني العَبره كأني في منزلي مُخصِباً ... ببلقَعةٍ جدْبَة قَفره فأحسن وأجاد، وملح واتسع، وأنت - إذا قِست أبيات أبي الطيب بها على قصَرها، وقابلت اللفظ باللفظ، والمعنى بالمعنى، وكنت من أهل البصر، وكان لك حظٌ في النقد تبينت الفاضل من الفضول. فأما أنا فأكرهُ أن أبتّ حُكماً أو أفضّل قضاء، أو أدخل بين هذين الفاضلين، وكلاهما مُحسِن مصيب. وقوله: تسوِّد الشّمسُ منّا بيضَ أوجهِنا ... ولا تسوّدُ بيضَ العذر واللّمَم

وكان حالُهما في الحُكم واحدةً ... لوِ احْتكمنا من الدنيا الى حكَمِ طردْتُ من مصرَ أيديها بأرجُلِها ... حتى مرقْن بنا من جوْشَ والعلَمِ في غِلمةٍ أخطرُوا أرواحَهم ورَضوا ... بما لقينَ رِضا الأيْسار بالزّلَمِ حتى رجَعتُ وأقلامي قوائلُ لي ... المجدُ للسيفِ ليسَ المجدُ للقلَم اكتُب بنا أبداً بعد الكِتاب به ... فإنما نحن للأسياف كالخدَمِ منِ اقتضى بسوى الهِنديّ حاجتَهُ ... أجابَ كلّ سؤالٍ عن هلٍ بلَمِ توهّم القومُ أنّ العجزَ قرّبنا ... وفي التّقرُّب ما يدْعو الى التُهَمِ ولم تزَلْ قلةُ الإنصافِ قاطعةً ... بين الرجالِ وإن كانوا ذوي رحِم فلا زيارَة إلا أن تزورَهُم ... أيْدٍ نشأنَ مع المصْقولَة الخُذُم صُنّا قوائمها عنهمْ فما وقعتْ ... مواقعَ اللؤْم في الأيدي ولا الكزَمِ هوِّنْ على بصرٍ ما شقّ منظرُه ... فإنما يقظتُ العينِ كالحُلُمِ ولا تشَكَّ الى خلْقٍ فتُشمِتَه ... شكْوى الجريح الى الغِرْبان والرّخَم وقوله:

تزاحَم الجيشُ حتى لم يجِد سبباً ... الى بساطِك لي سمْعٌ ولا بصرُ فكنت أشهدَ مُختصٍّ وأغيَبَهُ ... مُعايَناً وعِياني كلّه خبَرُ وقوله: إنْ ترَيْني أدُمْتُ بعدَ بَياضٍ ... فحَميدٌ من القناةِ الذبولُ صحبَتْني على الفَلاةِ فتاةٌ ... عادةُ اللّونِ عندها التّبديلُ سترَتْكِ الحِجالُ عنها ولكنْ ... بكِ منها منَ اللّمى تقْبيلُ وقوله: أخو الحرْبِ يُخدِم مما سَبى ... قناهُ، ويخلَع مما سلَبْ إذا حاز مالاً فقد حازَه ... فتًى لا يُسرُّ بما لا يهَبْ وقد علِمَتْ خيلُه أنّه ... إذا همّ وهْو عليلٌ ركِبْ أتاهُمْ بأوسَعَ من أرضِهِم ... طِوالَ السّبيب قِصارَ العُسُبْ ولا تعبُرُ الرّيحُ في جوّه ... إذا لم تخَطّ القَنا أو تَئِبْ وقوله - يصف السيف: قلّدتني يمينُه بحُسامٍ ... أعقبَتْ منه واحداً أجدادُهْ كلما استُلّ ضاحكَتْهُ إياةٌ ... تزعُم الشمسُ أنها أرآدُهْ

مثّلوه في جفنِه خشيَةَ الفقْ ... دِ ففي مثلِ أثْرِهِ أغمادُه مُنعَلٌ لا منَ الحَفا ذهباً يحْ ... مِلُ بحْراً فِرِنْدُهُ إزْبادُهْ يَقسِمُ الفارِسَ المدجّجَ لا يسْ ... لَمُ من شفرَتَيْهِ إلا بِدادُهْ جمَع الدّهرُ حدَّهُ ويدَيْه ... وثَنائِي فاستَجْمعتْ آحادُه وقوله: تبدِّل أيّامي وعيشي ومنزِلي ... نجائِبُ لا يُفكِرْن في النّحْس والسّعدِ وأوجُهُ فِتيانٍ حياءً تلثّموا ... عليهنّ لا خوْفاً من الحرّ والبردِ إذا لم تُجِزْهُم دارَ قومٍ مودّةٌ ... أجازَ القَنا والخوفُ خيرٌ من الوُدِّ ومن يصْحَبِ اسم ابنِ العميدِ محمّدٍ ... يَسِرْ بين أنيابِ الأساوِدِ والأُسدِ كفانا الرّبيعُ العِيسَ من برَكاتِه ... فجاءَتْه لم تسمَعْ حُداءً سوى الرّعدِ كأنّا أرادتْ شُكرَنا الأرضُ عنده ... فلمْ يُخلِنا جوٌ هبطْناهُ من رِفْدِ فتًى فاتَتِ العدْوى من الناس عينُه ... فما أرمدَتْ أجفانَه كثرةُ الرُّمْدِ يغيِّرُ ألوانَ اللّيالي على العِدَى ... بمنشورَة الرّاياتِ منصورةِ الجُندِ ومبثوثةً لا تُتّقى بطليعَةٍ ... ولا يفحتَمى منها بغوْرٍ ولا نجْدِ يغِضْنَ إذا ما غِرْنَ في مُتفاقِدٍ ... منَ الكُثْر غانٍ بالبعيدِ عن الحشدِ

حثَتْ كلّ أرضِ تُربةً في غُبارِه ... فهنّ عليه كالطّرائِقِ في البُردِ وقوله: أروحُ وقد ختمْت على فؤادي ... بحبِّك أن يحُلّ بهِ سِواكا لعلّ اللهَ يجعلُه رَحيلاً ... يُعينُ على الإقامةِ في ذَراكا ولو أنّي استطعْتُ خفضْتُ طرْفي ... فلم أُبصِرْ به حتى أراكا وكم طرِبِ المَسامِع ليس يدري ... أيعجَبُ من ثَنائي أم حُلاكا وفي الأحبابِ مختَصٌ بوجدٍ ... وآخرُ يدّعي معهُ اشتِراكا إذا اشتبهَتْ دموعٌ في خدودِ ... تبيّن مَن بكى ممّن تباكَى وأيّا شِئْتِ يا طُرُقي فكوني ... أذاةً أو نَجاةً أو هلاكا فلو سِرْنا وفي تَشرينَ خمسٌ ... رأوْني قبلَ أن يرَوا السِّماكا وقوله: وما زِلتُ أطوي القلبَ قبل اجتماعِنا ... على حاجةٍ بين السّنابِك والسُبْلِ ولو لم تسِرْ سِرْنا إليكَ بأنفُسٍ ... غرائِبُ يؤْثِرن الجِيادَ على الأهلِ وخيلٍ إذا مرّت بوحْشٍ وروضةٍ ... أبتْ رعْيَها إلا ومِرجَلُنا يغلي وقوله:

قومٌ بُلوغُ الغُلام عندَهُمُ ... طعْنُ نُحورِ الكُماة لا الحُلُمُ كأنّما يولَد النّدى معهمْ ... لا صِغَرٌ عاذِرٌ ولا هرَمُ إذا تولّوا عَداوَةً كشَفوا ... وإنْ تولّوا صَنيعةً كتَموا تظنّ من فقدِك اعتِدادَهُم ... أنهمُ أنْعَموا وما علِموا إن برَقوا فالحُتوفُ حاضرةٌ ... أو نطَقوا فالصّواب والحِكَمُ أو حلَفوا بالغَموسِ واجتَهدوا ... فقولهم: خاب سائِلي القسَمُ أو ركِبوا الخيْلَ غير مُسرجةٍ ... فإنّ أفخاذَهُم لها حُزُمُ أو شهِدوا الحربَ لاقِحاً أخذوا ... من مهَجِ الدّارِعين ما احْتَكموا تُشرِقُ أعراضُهُم وأوجُهُهم ... كأنها في نفوسِهم شيَمُ أعيذُكُمُ من صُروفِ دهرِكُمُ ... فإنّه في الكِرامِ متّهمُ وقوله: ملكٌ سِنانُ قناتِه وبنانُه ... يتبارَيان دماً وعُرْفاً ساكِبا إنْ تلْقَه لا تلْقَ إلا جحْفَلاً ... أو قسطَلاً أو طاعِناً أو ضارِبا وإذا نظرتَ الى السُهولِ رأيتَها ... تحت الجِبالِ فَوارِساً وجَنائِبا وعَجاجةً تركَ الحديدُ سوادَها ... زِنجاً تبسّم أو قَذالاً شائِبا

كالبحرِ يقذِفُ للقريبِ جواهِراً ... جُوداً ويبعثُ للبعيد سحائِبا وقوله يصف كلباً: فحلّ كلاّبي وثاقَ الأحبُلِ عن أشدَقٍ مسَوجَرٍ مُسلسَلِ مؤجّدِ الفِقرةِ رِخْوِ المفْصِلِ لّ إذا أدْبَرَ لحْظُ المُقبِلِ يعْدو إذا أحزَنَ عدْوَ المُسهلِ يُقعي جلوسَ البدويّ المُصطَلي بأربَعٍ مجدولَةٍ لم تُجدَلِ فُتْلِ الأيادي رَبِذاتِ الأرجُلِ آثارُها أمثالُها في الجندَلِ يكادُ في الوثْبِ منَ التفتّلِ يجمعُ بين متنِه والكلْكَلِ وبين أعْلاهُ وبين الأسفَلِ وقوله:

أغرُّ أعداؤهُ إذا سلِموا ... بالهرَبِ استكثروا الذي فعلوا يُقبلُهُمْ وجهَ كل سابحةٍ ... أربَعُها قبلَ طرْفِها تصِلُ جرْداءَ ملءَ الحِزامِ مُجفَرَةٍ ... تكون مثلَيْ عسيبها الخُصَلُ إن أدبرَت قلت: لا تَليلَ لها ... أو أقبلت قلت: ما لها كفَلُ سارٍ ولا قفْرَ في مواكِبهِ ... كأنّما كلّ سبْسَبٍ جبَلُ إنّك من معشرٍ إذا وهبوا ... ما دون أعمارِهم فقد بخِلوا كتيبةٌ لستَ ربّها نفَلٌ ... وبلدَةٌ لستَ حلْيَها عطُلُ ثم وصف خطأ الفاصِد فقال: عُذرُ المَلومَينِ فيكَ أنّهُما ... آسٍ جبانٌ ومِبضَعٌ بطَلُ مددْتَ في راحةِ الطّبيبِ يداً ... وما دَرى يُقطَعُ الأملُ خامرَهُ إذ مددْتَها جزَعٌ ... كأنّ من حَذاقَةٍ عجِلُ أبلَغُ ما يُطلَبُ النّجاحُ به الطّبْ ... عُ وعندَ التعمّقِ الزّللُ وقوله: سبقْتَ السّابقين فما تُجارَى ... وحاوَزْتَ العُلوّ فما تُعالَى

وأقسِم لو صلَحْت يمينَ شيء ... لما صلَح العِبادُ له شِمالا أقلِّبُ منكَ طرْفي في سماء ... وإنْ طلعتْ كواكِبُها خِصالا وقوله: مَحكٌ إذا مطلَ الغَريمُ بدَيْنِه ... جعلَ الحُسامَ بما أرادَ كَفيلا أعْدى الزّمانَ سخاؤهُ فسَخا به ... ولقدْ يكون بهِ الزّمانُ بَخيلا ثم وصف الأسد فقال: وقعتْ على الأُردُنِّ منه بَليّةٌ ... نضدَتْ بها هامَ الرِّفاق تُلولا متخضِّبٌ بدمِ الفوارسِ لابسٌ ... في غيلهِ منْ لِبدتَيْهِ غِيلا ما قوبلَتْ عيناهُ إلا ظُنّتا ... تحت الدُجى نارَ الفريق حُلولا يَطأ الثّرى مترَفِّقاً من تِيهه ... فكأنّه آسٍ يجُسّ عَليلا ويردّ غُفرَتَه الى يافوخِه ... حتى تَصيرَ لرأسهِ إكليلا وتظنّه ممّا يزمْجِر نفسُه ... عنها بشدّةِ غيظهِ مشغولا قصرَتْ مخافتُه الخُطى فكأنّما ... ركِب الكميُّ جوادَه مشْكولا ألْقى فريستَهُ وبرْبرَ دونَها ... وقرُبْتَ قُرْباً خالَهُ تطْفيلا فتشابَه الخُلُقان في إقدامِه ... وتخالَفا في بذْلِك المأكولا أسدٌ يرى عُضوَيْه فيكَ كليْهما ... متْناً أزلّ وساعِداً مفْتولا

في سرْجِ ظامِئَةِ الفُصوص طِمرّة ... يأبى تفرّدُها لها التّمثيلا نيّالةِ الطّلِباتِ لوْلا أنّها ... تُعطي مكانَ لجامِها ما نِيلا تنْدى سوالفُها إذا استحضرْتَها ... وتظنّ عقْدَ عِنانِها محْلولا ما زالَ يجمَع نفسَه في زورِه ... حتى حسِبْتَ العرْضَ منه الطّولا ويدقّ بالصّدْرِ الحِجارَ كأنّه ... يبغي الى ما في الحضيض سَبيلا أنَفُ الكَريم منَ الدّنيّةِ تارِكٌ ... في عينِه العددَ الكثيرَ قَليلا والعارُ مضّاضٌ، وليس بخائِفٍ ... من حتْفِه من خافَ ممّا قِيلا قبضَتْ منيّتُه يديْهِ وعُنقَهُ ... فكأنّما صادَفْتَه مغلولا ولولا أبياتُ البحتري في هذا المعنى لعددتُ هذه من أفراد أبي الطيب؛ لكن البحتري قال يصف قتْل الفتح بن خاقان أسداً عرَض له: غَداةَ لقيتَ اللّيث والليثُ مُخدِرٌ ... يحدِّدُ ناباً للّقاءِ ومِخْلَبا يحصِّنه من نهر نيزك مَعقِلٌ ... مَنيعٌ تسامَى غابُه وتأشّبا إذا شاءَ غادَى عانة أو غَدا على ... عقائل سِرْبِ أو تقنّصَ ربْرَبا يجرّ الى أشبالهِ كلّ شارقٍ ... عبيطاً مُدمًى أو رَميلاً مُخَضّبا

فلم أر ضِرغاميْنِ أصدق منكما ... عِراكاً إذا الهيّابةُ النِّكْس كذَبا هزَبرٌ مشَى يبغي هِزَبْراً وأغلبٌ ... من القومِ يغْشى باسِلَ الوجهِ أغْلبا أذلّ بشَغْب ثم هالته صوْلَةٌ ... رآك لها أمضى جَناناً وأشْغَبا فأحجَم لما لم يجدْ فيك مَطمَعاً ... وأقدَم لما لم يجدْ عنك مهْرَبا حملتَ عليه السيفَ، لا عزمُك انثنى ... ولا يدُك ارتدّتْ ولا حدُّه نَبا وكنتَ متى تجمَعْ يمينك تهتك الضْ ... ضَريبةَ أو لا تُبق للسيف مضْربا فاستوفى المعنى، وأجاد في الصِّفة، ووصل الى المراد. وأما أبو زبيد فإنما وصف خلْق الأسد وزئيره وجرأته وإقدامه، وكأنما هو مرعوب أو محذر، والفضل له على كل حال، لكن هذا غرضٌ لم يرُمْه، ومذهب لم يسلُكه. وقوله: نيطَتْ حمائِلُه بعاتِقِ محرَبٍ ... ما كرّ قطّ وهلْ يكُرّ وما انثنى أمضى إرادَته فسوْف له قدٌ ... واستقْرَبَ الأقصى فثمّ لهُ هُنا وقوله: وجدْتُ المُدامةَ غلاّبَةً ... تُهيِّجُ للقلْبِ أشواقَهُ تُسيءُ منَ المرء تأديبَه ... ولكنْ تحسِّنُ أخلاقَهُ

وأنفَسُ ما للفَتى لُبّهُ ... وذو اللُّبِّ يكرَهُ إنْفاقَهُ وقد مُتّ أمسِ بها موتَةً ... ولا يشتَهي الموتَ مَن ذاقَهُ وقوله: قِرانٌ تلاقَى الصّلْتُ فيه وعامرٌ ... كما يتلاقَى الهُندُوانيّ والنّصرُ فجاءَا به صلْتَ الجبينِ معظَّما ... ترى الناسَ قُلاًّ حولَه وهمُ كُثرُ وما زلتُ حتى قادَني الشّوْق نحوَه ... يُسايرُني في كلّ ركْبٍ له ذِكرُ وأستَكْبِرُ الأخبارَ قبلَ لِقائِه ... فلما التقَيْنا صغّر الخبرَ الخُبرُ أزالَت بكَ الأيامُ عتْبي كأنما ... بَنوها لها ذنْبٌ وأنت له عُذرُ وقوله: وقَفنا كأنّا كلّ وجْدِ قُلوبِنا ... تمكّن من أذوادِنا في القوائمِ ودُسنا بأخْفافِ المطيّ تُرابَها ... فلا زِلتُ أستشفي بلثْم المناسِمِ ديارُ اللّواتي دارُهنّ عزيزةٌ ... بطولِ القَنا يُحفَظْنَ لا بالتّمائِمِ حِسانُ التثنّي ينقُشُ الوشْيُ مثلهُ ... إذا مِسْنَ في أجسامهنّ النّواعِم ويبسِمْن عن درّ تقلّدْن مثلَه ... كأنّ التّراقي وشِّحَت بالمَباسِم

من الحِلمِ أن تستعمِلَ الجهلُ دونَه ... إذا اتّسعتْ في الحِلمِ طُرْقُ المظالمِ وأن ترِدَ الماءَ الذي شطرُه دمٌ ... فتسْقي إذا لم يسْقِ من لم يُزاحمِ ومن عرَفَ الأيامَ معرفتي بها ... وبالنّاسِ روّى رمحَه غيرَ راحِم وفيها: وذي لجَبٍ لا ذو الجناحِ أمامه ... بتاجٍ، ولا الوحشُ المُثارُ بسالِم تمرّ عليه الشمسُ وهْي كليلةٌ ... تُطالِعُه من بينِ ريشِ القَشاعِم إذا ضوءُها لاقى من الطّيرِ فَرجةً ... تدوَّر فوق البيضِ مثلَ الدّراهمِ أرى دون ما بين الفراتِ وبرْقةٍ ... ضِراباً يمشّي الخيلَ فوق الجماجمِ وطعْنَ غطاريفٍ كأنّ أكفّهم ... عرفْن الرُدَينيّاتِ قبلَ المعاصِمِ حمتْه على الأعداءِ من كلّ جانبٍ ... سُيوفُ بني طُغْجِ بنِ جُفِّ القَماقمِ هُمُ المحسِنون الكَرّ في حومةِ الوَغى ... وأحسنُ منهُ كرّهُم في المكارمِ ولولا احتِقارُ الأُسْدِ شبّهتهُم بها ... ولكنها معدودةٌ في البهائم

كريمٌ نفضْتُ الناسَ لمّا لقيتُه ... كأنهمُ ما جفّ من زادِ قادِم وكاد سروري لا يَقي بنَدامتي ... على تركِه في عُمريَ المُتقادِم وقوله: وشامِخٍ منَ الجبالِ أقْوَدِ فرْدٍ كيافوخِ البعيرِ الأصيَدِ يُسارُ من مَضيقِه والجلْمَدِ في مثلِ متْنث المسَدِ المعقّدِ زُرْناهُ للأمرِ الذي لم يُعْهَدِ للصّيدِ والنُزهةِ والتّمرّدِ بكلّ مسْقيِّ الدّماءِ أسودِ مُعاودٍ مقوّدٍ مقلَّدِ كطالبِ الثأرِ وإن لم يحقِدِ يقتُلُ ما يقتُلُه ولا يَدي فثار من أخضرَ ممْطورٍ نَدي كأنه بدْزُ عِذارِ الأمْردِ

فلم يكدْ إلا لحتْفٍ يهتدي ولم يقعْ إلا على بطْنِ يدِ وقوله: فتًى علّمتهُ نفسُه وجُدودُه ... قِراعَ العوالي وابتِذالَ الرغائِبِ فقد غيّب الشُهّادَ عن كلّ موطِن ... وردّ الى أوطانِه كلّ غائِبِ كذا الفاطميّون النّدَى في بَنانِهم ... أعزُّ امِّحاءً من خُطوطِ الرّواجبِ ألا أيها المالُ الذي قد أبادَه ... تعزَّ فهذا فعلُه بالكتائِبِ لعلّك في وقتٍ شغلْتَ فؤادَه ... عن الجودِ أو كثّرْت جيشَ مُحاربِ وقوله: يرى الجُبناءُ أنّ الجُبْنَ عقلٌ ... وتلكَ خديعةُ الطّبْعِ اللّئيمِ وكم من عائِبٍ قولاً صحيحاً ... وآفتُه من الفهْمِ السّقيمِ ولكنْ تأخذُ الآذانُ منهُ ... على قدْرِ القرائِحِ والعُلومِ وقوله:

يا بَني الحارِثِ بن لُقمانَ لا تعْ ... دَمكُمُ في الوغى مُتونُ العِتاقِ بعثوا الرعْبَ في قُلوب الأعاد ... يّ فكان القِتالُ قبلَ التّلاقي وتكادُ الظُبَى لِما عوّدوها ... تنتَضي نفسَها الى الأعناقِ وإذا أشفقَ الفوارسُ من وقْ ... عِ القَنا أشفَقوا منَ الإشفاقِ كلّ ذِمْرٍ يزيدُ في الموتِ حُسناً ... كبُدورٍ تمامُها في المُحاقِ جاعِلٍ درعَهُ منيّتَه إنْ ... لم يكنْ دونها منَ العارِ واقِ كرمٌ خشّن الجوانبَ منهُمْ ... فهْو كالماءِ في الشِّفارِ الرِّقاقِ ومَعالٍ إذا ادّعاها سواهُمْ ... لزمَتْهُ خيانَةُ السّراقِ وقوله: سرْ حلَّ حيث تحُلُّه النّوّارُ ... وأراد فيكَ مُرادَك المِقْدارُ وإذا ارتحلْتَ فشيّعتْكَ سلامةٌ ... حيث اتّجهْتَ وديمةٌ مِدرارُ وأراك دهرُك ما تُحاولُ في الفِدى ... حتى كأنّ صُروفَه أنصارُ أنت الذي بجحَ الزمانُ بذكرهِ ... وتزيّنتْ بحديثِه الأسْمارُ وقوله في بازٍ أطلق: وطائرةٍ تتبّعُها المنايا ... على آثارِها زجِلُ الجناحِ

كأنّ رؤوسَ أقلامٍ غِلاظ ... مسحْنَ بريشِ جؤجُئِه الصِّحاحِ فأقعَصَها بحُجْنٍ تحت صفرٍ ... لها فعلُ الأسنّةِ والرّماحِ كأنّ الريشَ منهُ في سِهامٍ ... على جسدٍ تجسّم من رياحِ فقلت: لكلّ حيٍّ يومُ سوءٍ ... وإنْ حرِصَ النّفوسُ على الفَلاحِ وقوله: فواهِبٌ والرّماحُ تشجُرُه ... وطاعنٌ والهِباتُ متّصلَهْ وكلما آمنَ البلادَ سرَى ... وكلما خيفَ منزلٌ نزلَهْ وكلما جاهرَ العدوَّ ضُحًى ... أمكنَ حتى كأنهُ ختَلَه وقوله: أنا منكَ بين فضائلٍ ومكارمٍ ... ومنَ ارتياحِكَ في غَمامٍ دائمِ ومن احتقارِك كلّ ما تحْبو به ... فيما ألاحظهُ بعينَي حالِم إنّ الخليفةَ لم يسمِّكَ سيفها ... حتى ابتلاك فكنتَ عينَ الصّارمِ فإذا تتوّجَ كنتَ دُرّةَ تاجِه ... وإذا تختّم كنتَ فصّ الخاتَمِ

وإذا انتضاكَ على العِدى في معْرَكٍ ... هلَكوا وضاقتْ كفّهُ بالقائمِ أبدى سخاؤكَ عجْزَ كلِّ مشمّرٍ ... في وصفِه وأضاق ذرْعَ الكاتِمِ وقوله: فكأنها والدمعُ يقطرُ فوقَها ... ذهبٌ بسمْطَيْ لؤلُؤٍ قد رُصِّعا نشرَتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شعرِها ... في ليلةٍ فأرَتْ لياليَ أربَعا واستقبلَتْ قمرَ السّماءِ بوجهها ... فأَتْني القمريْنِ في وقتٍ مَعا وقوله: وشكيّتي فقدُ السّقامِ لأنه ... قد كان لمّا كان لي أعضاءُ مثلْتِ عينَك في حشايَ جراحةً ... فتشابَها كِلتاهما نجْلاءُ قوله: فتَشابها كان حقّه فتشابهتَا، ولكن حمل الجراحة على الجرح والعين على العضو. نفذَتْ عليّ السّابِريّ وربما ... تنْدَقّ فيه الصّعدَةُ السّمْراءُ وقوله: كأنّ العيسَ كانت فوقَ جَفْني ... مُناخاتٍ فلمّا سِرْنَ سالا

لبسنَ الوشيَ لا متجمِّلاتٍ ... ولكنْ كيْ يصُنّ به الجَمالا بدت قمَراً ومالت خوطَ بانٍ ... وفاحتْ عنبراً ورنَتْ غَزالا وقوله: كانتْ منَ الكحْلاءِ سولي إنّما ... أجَلي تمثّلَ في فؤاديَ سولا أجِدُ الجَفاءَ على سواكِ مروءةً ... والصّبْرَ إلا في نَواكِ جَميلا وأرى تدلُّلكِ الكثيرَ محبَّباً ... وأرى قَليلَ تدلّلٍ ممْلولا تشْكو روادِفَكِ المطيّةُ فوقَها ... شكْوى التي وجدتْ هواكِ دَخيلا وقوله: الحبّ ما منع الكلامَ الألسُنا ... وألذّ شكْوى عاشقٍ ما أعْلَنا ليتَ الحبيبَ الهاجري هجْرَ الكرى ... من غيرِ جُرمٍ واصِلي صلةَ الضّنى بنّا فلوْ حليلتَنا لم تدْر ما ... ألوانُنا ممّا امتُقِعْن تلوُّنا وتوقّدتْ أنفاسُنا حتى لقد ... أشفقْتُ تحتَرِقُ العواذلُ بينَنا أفدي المودّعةَ التي أتبعْتُها ... نظراً فُرادَى بينَ زفْراتٍ ثُنا أنكرْتُ طارِقةَ الحوادثِ مرّةً ... ثمّ اعترفْت بها فصارتْ ديدَنا

وقوله: إلامَ طماعيةُ العاذلِ ... ولا رأْيَ في الحبِّ للعاقِلِ يُرادُ من القلبِ نسيانُكمْ ... وتأبى الطِّباعُ على النّاقِل وإني لأعشَقُ من عِشقِكُم ... نُحولي وكلّ فتًى ناحِل ولو زُلتُمُ ثمّ لم أبكِكُمْ ... بكيتُ على حبّي الزّائلِ أينكِرُ خدّي دُموعي وقد ... جرتْ منه في مسلَكٍ سابِل أأوّلُ دمْعٍ جرى فوقَه ... وأوّلُ حُزنٍ على راحِلِ وهبتُ السّلوَّ لمن لامني ... وبتّ من الشّوقِ في شاغِل كأنّ الجفونَ على مُقلتي ... ثيابٌ شُقِقْنَ على ثاكِل وقوله: وما عشتُ من بعدِ الأحبّةِ سلوةً ... ولكنّني للنّائِباتِ حَمولُ وإنّ رحيلاً واحداً حال بيننا ... وفي الموتِ من بعدِ الرّحيل رحيلُ إذا كان شمّ الرَّوْحِ أدنى إليكُمُ ... فَلا برحَتْني روضةٌ وقَبولُ

وما شرَقي بالماءِ إلا تذكّراً ... لماءٍ به أهلُ الحبيبِ نُزولُ يحرِّمُه لمْعُ الأسنّةِ فوقَه ... فليسَ لظمآنٍ إليهِ وصولُ أمَا في النّجومِ السّائراتِ وغيرِها ... لعيني على ضوْءِ السماءِ دَليلُ ألمْ يرَ هذا الليلُ عينيْكِ رؤيتي ... فتظهرَ فيهِ رقّةٌ ونُحولُ لقيتُ بدرْبِ القُلّةِ الفجْر لُقيةً ... شفتْ كمَدي والليلُ فيه قتيلُ ويوماً كأنّ الحُسن فيه علامةٌ ... بعثتِ بها والشمسُ منكِ رسولُ وقوله: دِمَنٌ تكاثرَتِ الهُمومُ عليّ في ... عرَصاتِها كتكاثُرِ اللّوّامِ فكأنّ كلّ سحابةٍ وكفتْ بها ... تبكي بعينَي عُروةَ بن حِزامِ ولطالَما أفنيتُ ريقَ كعابها ... فيها وأفنَتْ بالعِتابِ كلامي وقوله: شاميّةٌ طالَما خلوْتُ بها ... تُبصِرُ في ناظرِ مُحيّاها فقبّلَتْ ناظري تُغالطُني ... وإنما قبّلتْ به فاها تبُلّ خدّيَّ كلّما ابتسمَتْ ... من مطرٍ برقُه ثناياها ما نفّضتْ في يدي غدائِرُها ... جعلَتْه في المدامِ أفْواها

في بلدٍ تُضرَبُ الحِجالِ بهِ ... على حِسانٍ ولسْن أشْباها لَقيننا والحُمولُ سائِرةٌ ... وهنّ درٌ فذُبْنَ أمْواها كلّ مَهاةٍ كأنّ مُقلتَها ... تقولُ إيّاكمُ وإيّاها وقوله: أوَما وجدْتُمْ في الصّراةِ مُلوحةً ... ممّا أرقرِقُ في الفراتِ دُموعي رحَل العزاءُ برحلَتي فكأنّما ... أتبعتُه الأنفاسَ للتّشْييعِ وقوله: ما كنتُ أحسِبُ قبل دفنِك في الثّرى ... أنّ الكواكبَ في التُرابِ تَغورُ ما كنتُ آمُلُ قبلَ نعشِكَ أن أرى ... رضْوَى على أيدي الرِّجالِ تسيرُ خرَجوا به ولكلّ باكٍ خلفَه ... صعَقاتُ موسى يومَ دُكَّ الطّورُ والشمسُ في كبدِ السماءِ مريضةٌ ... والأرضُ واجفةٌ تكادُ تمورُ وحفيفُ أجنحةِ الملائِكِ حولَه ... وعُيونُ أهلِ اللاذقيّةِ صورُ حتّى أتوْا جدَثاً كأنّ ضريحَه ... في قلبِ كلّ موحّدٍ محْفورُ

كفَلَ الثّناءُ له بردِّ حياتِه ... لمّا انطَوى فكأنّه منشورُ وقوله: نفَرٌ إذا غابتْ غُمودُ سُيوفِهمْ ... عنها فآجالُ العِبادِ حُضورُ وقوله: ومن لم يعشقِ الدُنيا قديماً ... ولكنْ لا سبيلَ الى الوصالِ نصيبُك في حياتِك من حبيبٍ ... نصيبُك في منامِك من خَيالِ رماني الدهرُ بالأرْزاءِ حتى ... فؤادي في غِشاء من نِبالِ فصِرْتُ إذا أصابتْني سِهامٌ ... تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ وهانَ فما أُبالي بالرّزايا ... لأنّي ما انتفَعتُ بأنْ أُبالي وهذا أوّلُ النّاعينَ طُرّاً ... لأوّلِ مَيتَةٍ في ذا الجَلالِ كأنّ الموتَ لم يفجَعْ بنفْسٍ ... ولم يخطُرْ لمخلوقٍ ببالِ صلاةُ اللهِ خالِقِنا حَنوطٌ ... على الوجهِ المكفَّنِ بالجَمالِ على المدْفونِ قبلَ التُرْبِ صوْناً ... وقبلَ اللّحْدِ في كرَمِ الخِلالِ فإنّ لهُ ببَطْنِ الأرضِ شخْصاً ... جديداً ذِكْرُناهُ وهو بالي وفيها:

أتتْهُنّ المصائِبُ غافِلاتٍ ... فدمْعُ الحُزنِ في دمْعِ الدّلالِ ولو كان النِّساءُ كمَنْ فقدْنا ... لفُضِّلتِ النساء على الرّجالِ وقوله: أجدُ الحزنَ فيكَ حِفظاً وعقْلاً ... وأراهُ في الخلْقِ ذُعْراً وجهْلا لك إلْفٌ يجرّه وإذا ما ... كرُم الأصلُ كان للإلْفِ أصْلا ووفاءٌ نبتّ فيه ولكنْ ... لم يزلْ للوَفاءِ أهلُك أهْلا إنّ خيرَ الدُموعِ عوْناً لَدَمْعٌ ... بعثتْهُ رعايةٌ فاستَهلاّ أينَ ذي الرِّقّة التي لك في الحرْ ... بِ إذا استُكْرِهَ الحديدُ وصلاّ أينَ خلّفتَها غَداةَ لقيتَ الرْ ... رُومَ والهامُ بالصّوارمِ تُفلَى قاسمَتْك المَنون شخصَينِ جَوْراً ... جعلَ القِسمُ نفسَه فيكَ عدْلا فإذا قسْتَ ما أخذْنَ بما غا ... دَرْنَ سرّى عنِ الفؤادِ وسلّى وتيقّنتَ أنّ حظّكَ أوْفى ... وتبيّنْتَ أنّ جدَّك أعلَى ولَعَمري لقد شغلْتَ المَنايا ... بالأعادي فكيفَ يطلُبْنَ شُغْلا

وكم انتشْتَ بالسيوفِ من الدّهْ ... رِ أسيراً وبالنّوالِ مُقِلا عدّها نُصرةً عليه فلمّا ... صال ختْلاً رآهُ أدركَ تبْلا وإذا لم تجدْ من الناسِ كُفْواً ... ذاتُ خِدْرٍ أرادتِ الموتَ بعْلا ولذيذُ الحياةِ أنفَسُ في النّفْ ... سِ وأشهى من أن يُمَلَّ وأحْلى وإذا الشيخُ قال أفٍّ فما م ... لَّ حياةً وإنما الضُعفَ ملاّ آلةُ العيشِ صحّةٌ وشَبابٌ ... فإذا ولّيا عنِ المرءِ ولّى أبداً تستردُّ ما تهَبُ الدُن ... يا فيا ليْت جودَها كان بُخْلا وهْيَ معشوقةٌ على الغدْرِ لا تحْ ... فَظُ عهْداً ولا تتمِّمُ وصْلا كلّ دمْعٍ يسيلُ منها عليها ... وبفَكِّ اليَدينِ عنها تُخَلّى شيَمُ الغانِياتِ فيها فلا أدْ ... ري لِذا أنّثَ اسْمَها الناسُ أم لا يا مَليكَ الوَرى المفرِّقَ محْيا ... ومَماتاً فيهمْ وعِزّاً وذُلاّ قلّدَ اللهُ دولةً سيفُها أنْ ... تَ حُساماً بالمكْرُماتِ مُحلّى فبِه أغنَتِ الموالي بذْلاً ... وبهِ أفنَتِ الأعاديَ قتْلا أيُّها الباهِرُ العُقولَ فما يُدْ ... رَكُ وصْفاً أتعَبْتَ فِكري فمَهْلا مَنْ تعاطى تشبُّهاً بكَ أعْيا ... هُ ومَنْ دلّ في طريقِك ضلاّ وإذا ما اشتهَى خُلودَك داعٍ ... قال لا زُلْتَ أو نَرى لك مِثْلا

وقوله: النّومُ بعدَ أبي شُجاعٍ نافِرٌ ... والليلُ مُعْيٍ والكواكِبُ ظُلَّعُ إني لأجْبُنُ منْ فِراقِ أحبّتي ... وتُحِسّ نفْسي بالحِمامِ فأشجُعُ ويَزيدُني غضَبُ الأعادي قسوةً ... ويُلمّ بي عتْبُ الصّديقِ فأجْزَعُ تصْفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافِلٍ ... عما مضى منها وما يتوقَّعُ ولمَنْ يُغالِطُ في الحقائقِ نفسَه ... ويسومُها طلبَ المُحالِ فتطمَعُ أين الذي الهَرَمانِ من بُنيانِه ... ما يومُه ما قومُه ما المصْرَعُ تتخلّفُ الآثارُ عن أصحابِها ... حيناً ويدرِكُها الفَناءُ فتتْبعُ وإذا حصلْتَ من السِّلاحِ على البُكا ... فحشاكَ رُعْتَ به وخدّكَ تقْرَعُ وقوله: طوَى الجزيرةَ حتى جاءَني خبرٌ ... فزِعْتُ فيه بآمالي الى الكذِبِ حتى إذا لم يدَعْ لي صدْقُه أمَلاً ... شرِقْتُ بالدمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي تعثّرَتْ به في الأفْواهِ ألسُنُها ... والبُردُ في الطُرْقِ والأقلامُ في الكتُبِ فإن تكنْ تغلِبُ الغلْباءُ عُنصُرَها ... فإن في الخمر معْنًى ليس في العِنَبِ

وما ذكرْتُ جميلاً من صنائِعِها ... إلا بكيْتُ، ولا ودٌ بلا سببِ فلا تنلْكَ الليالي إنّ أيديَها ... إذا ضربْن كسرْنَ النّبْعَ بالغرَبِ ولا يُعِنّ عدوّاً أنت قاهِرُهُ ... فإنّهنّ يصِدْنَ الصّقْرَ بالخرَبِ وربما احتسَب الإنسانُ غايتَها ... وفاجأتْهُ بأمرٍ غيرِ محتسَبِ وما قضى أحدٌ منها لُبانتَهُ ... ولا انتهى أربٌ إلا الى أرَبِ ومن تفكّر في الدُنيا ومُهجتِه ... أقامَه الفِكرُ بين العجْزِ والتّعبِ وقوله: نحن بَنو الموتِ فما بالُنا ... نعافُ ما لا بدّ من شُرْبِه تبخَلُ أيدينا بأرواحنا ... على زمانٍ هنّ منْ كسْبِهِ فهذه الأرواحُ من جوِّهِ ... وهذه الأجسامُ من تُربِه لو فكّر العاشِقُ في مُنتَهى ... حُسنِ الذي يسْبيه لم يسْبِه لم يُرَ قرْنُ الشمسِ في شرْقِه ... فشكّتِ الأنفُسُ في غرْبِه يموتُ راعي الضّأنِ في جهلِه ... ميتَةَ جالينوسَ في طِبِّه

وربما زاد على عمرِه ... وزادَ في الأمْنِ على سربِه وغايةُ المُفرطِ في سِلمِه ... كغايةِ المُفرِط في حرْبِه فلا قضى حاجتَه طالبٌ ... فؤادُهُ يخفِقُ من رُعبِه حاشاك أن تضعُفَ عن حملِ ما ... تحمّلَ السّائرُ في كُتْبِه وقوله - يرثي جدته: عرفْتُ الليالي قبلَ ما صنعَتْ بنا ... فلما دهَتْني لم تزِدْني بها عِلْما حَرامٌ على قلْبي السرورُ فإنني ... أعدّ الذي ماتتْ بهِ بعدَها سمّا تعجّبُ من حظّي ولفْظي كأنها ... ترى بحروف السطرِ أغرِبَةً عُصْما وتلثَمهُ حتى أصارَ مِدادُهُ ... محاجِرَ عينَيْها وأنيابَها سُحْما رَقا دمعُها الجاري وجفّتْ جُفونُها ... وفارَقَ حُبّي قلبَها بعد ما أدْمى ولم يُسْلِها إلا المنايا، وإنما ... أشدُّ من السُقْمِ الذي أذهبَ السُقْما وكنتُ قُبيلَ الموتِ أستعظِمُ النّوى ... فقد صارتِ الصُغْرى التي كانتِ العُظمى وما انسدّتِ الدنيا عليّ لِضيقِها ... ولكنّ طرْفاً لا أراكِ به أعْمى وقوله:

يا أختَ معتَنِقِ الفوارسِ في الوغى ... لأخوكِ ثمّ أرقّ منكِ وأرحَمُ يرْنو إليكِ مع العَفافِ وعندَهُ ... أنّ المجوسَ تُصيبُ فيما تحْكُم راعتْكِ رائِعةُ البَياضِ بعارِضي ... ولوَ انّها الأولى لراعَ الأسْحَمُ لو كان يمكنُني سفرْتُ عنِ الصِّبا ... فالشّيبُ من قبْلِ الأوانِ تلثُّمُ ولقد رأيتُ الحادِثاتِ فلا أرى ... يقَقاً يُميتُ ولا سَواداً يعصِم والناسُ قد نبَذوا الحِفاظَ فمُطلَقٌ ... ينْسى الذي يولَى وعافٍ يندَمُ لا يسلَم الشّرفُ الرّفيعُ من الأذى ... حتى يُراقَ على جوانِبه الدّمُ الظُلْمُ من شيَمِ النّفوسِ إن تجِدْ ... ذا عِفّةٍ فلِعلّةٍ لا يظْلِمُ ومنَ البليّة عذلُ من لا يرْعَوي ... عن جهلِه وخِطابُ منْ لا يفهَمُ ثم هجا وقال: يحمي ابنُ كيْغَلغَ الطّريقَ وعِرسُهُ ... ما بين رجلَيْها الطّريقُ الأعظمُ يمشي بأربعةٍ على أعْقابِه ... تحت العُلوجِ ومن وراءٍ يُلجَمُ وجُفونُه ما تستقرُّ كأنّها ... مطروفةٌ أو فُتَّ فيها حِصرِمُ وإذا أشارَ محدِّثاً فكأنّها ... قِردٌ يقهقهُ أو عجوزٌ تلطِمُ يقْلي مُفارقةَ الأكفّ قَذالُهُ ... حتى يكادَ على يدٍ يتعمّمُ

ومن العَداوةِ ما ينالُك نفْعُهُ ... ومنَ الصّداقةِ ما يضُرُّ ويؤْلِمُ وقوله: من علّمَ الأسودَ المخْصيَّ مكرُمَةً ... أقوْمُهُ البيضُ أم آباؤُهُ الصِّيدُ أم أذنُه في يدِ النّخاسِ داميةً ... أم قدرُهُ وهو بالفَلْسَيْنِ مردودُ وقوله: وأسود أمّا القلبُ منه فضيّقٌ ... نخيبٌ وأما بطنُه فرَحيبُ يموتُ به غيْظاً على الدّهْرِ أهلُه ... كما مات غيْظاً فاتكٌ وشبيبُ إذا ما عدِمتَ الأصلَ والعقلَ والنّدى ... فما لحياةٍ في جنابكِ طيبُ وقوله: كأنّما مائِجُ الهواءِ به ... بحْرٌ حوَى مثلَ مائه عنَما ناثرُهُ ناثِرُ السيوفِ دَماً ... وكلّ قولٍ يقولهُ حكَما والحَيْلَ قد فصّلَ الضّياعَ بها ... والنِّعَمَ السّابِغاتِ والنّقَما فليُرنا الوردُ إن شكا يدَهُ ... أحسنَ منه من جودِها سلِما وقُل له لستَ خيرَ ما نثرَتْ ... وإنما عوّذَتْ بكَ الكرَما

ومن حُسنِ التخلّص وحسن الخروج قوله: حدَقٌ يُذمُّ من القواتِل غيرَها ... بدْرُ بنُ عمّارِ بنِ إسماعيلا وقوله: وهزٌ أطارَ النّومَ حتى كأنني ... من السُكْر في الغرَزَينِ ثوبٌ شُبارِقُ شدَوْا بابْنِ إسحاقَ الحُسينِ فصافحَت ... ذَفاريَها كيرانُها والنّمارقُ وقوله: مرّتْ بنا بينَ تِربَيْها فقلت لها ... من أينَ جانسَ هذا الشّادِنُ العرَبا فاستضحكَتْ ثمّ قالت كالمُغيث يُرى ... ليثَ الشّرى وهْوَ من عِجْلِ إذا انتسَبا وقوله: وحُبيتُ من خوصِ الرِّكابِ بأسوَدٍ ... من دارِشٍ فغدوْتُ أمشي راكِبا حالاً متى علِمَ ابنُ منصورٍ بها ... حاءَ الزّمانُ إليّ منها تائِبا وقوله: جمح الزمانُ فما لذيذٌ خالصٌ ... مما يشوبُ ولا سرورٌ كاملُ

حتى أبو الفضلِ بنُ عبد الله رؤْ ... يتُه المُنى وهْيَ المَقامُ الهائلُ وقوله: ومقانِبٍ بمقانِبٍ غادرْتُها ... أقْواتَ وحشٍ كنّ من أقْواتها أقبلتُها غُرَرَ الجيادِ كأنما ... أيدي بني عِمرانَ في جبَهاتِها وقوله: وغيثٍ ظنَنّا تحته أنّ عامراً ... عَلا لم يمُتْ أو في السّحابِ لهُ قبْرُ وقوله: إذا صُلْتُ لم أترُكْ مَصالاً لفاتِكٍ ... وإن قلت لم أترُكْ مَقالاً لعالمِ وإلا فخانَتْني القَوافي وعاقَني ... عن ابن عُبَيدِ اللهِ ضُعفُ العزائِمِ وقوله: ولو كنتُ في أسْرِ غير الهوى ... ضمِنْتُ ضمانَ أبي وائِلِ فَدَى نفسه بضمانِ النُضارِ ... وأعطى صُدورَ القَنا الذّابل وقوله: نودِّعهم والبيْنُ فينا كأنّهُ ... قَنا ابْنِ أبي الهيجاءِ في قلبِ فيلَق

وقوله: وتعذُّرُ الأحرار صيّر ظهْرها ... إلا إليكَ عليّ ظهْرَ حرامِ وقوله: كلما رحّبتْ بنا الروضُ قُلنا ... حلَبٌ قصدُنا وأنتِ السّبيلُ فيكِ مرْعَى جيادِنا والمطايا ... وإليها وجيفُنا والذميلُ والمسمَّوْنَ بالأمير كثيرٌ ... والأميرُ الذي بها المأمولُ وقوله: لو أنّ فنّا خُسْرَ صبّحكم ... وبرزْتِ وحْدَكِ عاقَهُ الغزَلُ ما كنتِ فاعلةً وضيفُكمْ ... ملِكُ الملوكِ وشأنُكِ البَخَلُ أتمنِّعينَ قِرًى فتفتَضحي ... أم تبذُلين له الذي بسَلُ بل لا يحُلّ بحيث حلّ بهِ ... بُخْلٌ ولا جوْرٌ ولا وجَلُ ولعلك لا تجدُ له تخلّصاً مستكرهاً إلا قوله: أحبّكِ أو يقولوا جرّ نمْلٌ ... ثَبيراً أو ابنُ إبراهيمَ رِيعا وقوله: فأفنى وما أفنتْهُ نفسي كأنما ... أبو الفرج القاضي له دونها كهْفُ

وقوله: لوِ استطَعْتُ ركِبْتُ الناسَ كلهمُ ... الى سعيدِ بن عبد الله بُعْرانا وقوله: أعزُّ مكانٍ في الدُنى سرْجُ سابحٍ ... وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ وبحرٌ أبو المِسكِ الخِضَمِّ الذي له ... على كلِّ بحْرٍ زخْرَةٌ وعُبابُ فهي وإن لم تكن حسنةً مختارة، فليست من المستهجَن الساقط. ومن عاب من ابتدائه مثل قوله: كُفّي أراني ويْ: ِ لوْمِكِ ألْوَما وقوله: هَذي برزْتِ لنا فهِجْتِ تَسيسا ... ثم انثنَيْت وما شفَيْتِ نَسيسا وقوله: أوْهِ بَديلٌ من قوْلتي واها ... لمَنْ نأتْ والبَديلُ ذكراها واستَبْردَ قوله:

أمُساورٌ أم قرْنُ شمْس هذا ... أم ليثُ غابٍ يقْدُمُ الأستاذا؟ وقوله: اِثْلِثْ فإنّا أيها الطّللُ وقوله: أحادٌ أم سُداسٌ في أحادِ وقوله: مُلِثَّ القَطْرِ أعطِشْها رُبوعا وقوله: بقائي شاء ليسَ همُ ارتحالا ... وحُسنَ الصبر زمّوا لا الجمالا وقوله: سرْبٌ محاسنُه حُرِمْتُ ذواتها وقوله: أنا لائمي إن كنتُ وقتَ اللّوائِمِ

وقوله: مَبيتي من دمِشقَ على فِراش ... حشاهُ لي بحرِّ حشاي حاشي وقوله: وفاؤكُما كالرّبْع أشجاهُ طاسِمُهْ واستقبح افتتاحه مخاطبةَ ملك بقوله: كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافياً ... وحسْبُ المَنايا أنْ يكنّ أمانيا وضرب له الأمثال، فروى له خبر ذي الرُمّة حين استنشده بعضُ الملوك من بني أميّة - ويقال: إنه عبدُ الملك بن مروان - فأنشده قوله: ما بالُ عينِك منها الماءُ ينسكِبُ فقال: وما سؤالك عن هذا يا بن اللّخْناء! وأمر بإخراجِه. وكانت عينُ الممدوح بها عِلّة فدمعُها لا يستمسك. وأنا أرتابُ بهذا الخبر، ولا أظنه ثبتاً. وخبر أبي حكيمة لما استنشده أبو دُلَف بعضَ ما وصف به هَنَه، فأنشدَه: ألا ذهب ... الذي كنت تعرف فقال: أمّ الأبعد به أعرف. فليغتَفِرْ ذلك له لقوله:

أتُراها لكثرةِ العُشاقِ ... تحسِبُ الدمعَ خِلقةً في المآقي فإنه ابتداءٌ ما سُمِع مثله، ومعنى انفردَ باختراعه، وقوله: على قدْرِ أهل العزمِ تأتي العزائم وقوله: الرأيُ قبل شجاعةِ الشُجعانِ ... هو أولٌ وهي المحلّ الثاني فإذا هما اجْتَمعا لنَفْسٍ مِرّةٍ ... بلغَتْ من العلياءِ كلّ مكانِ وقوله: لكلّ امرئٍ من دهرِه ما تعوّدا ... وعادة سيفِ الدولةِ الطّعْنُ في العِدا وقوله: فدَيناكَ من رَبعٍ وإن زِدْتَنا كرْبا وقوله: إذا كان مدْحٌ فالنّسيبُ المقدَّمُ ... أكلُّ فَصيحٍ قال شِعْراً متيَّمُ وقوله: أيدْري الرّبْعُ أيَّ دمٍ أرَاقا وقوله:

أُغالِبُ فيكَ الشوقَ والشوقُ أغلبُ وقوله: حاشَى الرّقيبَ فخانتْهُ ضمائرهُ ... وغيّضَ الدمع فانهلّت بوادرُهُ وقوله: سِرْ حَلّ حيثُ يحُلّه النّوّارُ ... وأراد فيكَ مُراداكَ المِقدارُ وقوله: أعْلى الممالِكِ ما يُبْنى على الأسَلِ وقوله: أفاضِلُ النّاسِ أغراضٌ لِذا الزّمنِ وقوله: فؤادٌ ما تُسلّيهِ المُدامُ ... وعُمرٌ مثلُ ما تهبُ اللئامُ وقوله: اليومَ عهدُكمُ فأين الموعدُ ... هيهاتَ ليسَ ليومِ عهدِكُمُ غدُ وأمثال ذلك إن طلبتَه هداك الى موضعه، وإنما التمستَه دلّك على نفسك. وهذه أفرادُ أبيات منها أمثالٌ سائرة، ومنها معانٍ مستَوفاة، لم تجد في أخواتها، وجارات

جنبها ما يصلُح لمُصاحبتها. ولعل أكثرَها، أو معظم ما أثبت منها، وكثيراً مما ذُكر في درج ما تقدّمها من اللُّمَع المختارة، مختارة المعاني مفترعة المذاهب. وليس لك أن تُلزمني تمييز ذلك وإفرادَه والتنبيهَ عليه بأعيانه كما فعله كثيرٌ ممن استهدف للألسن، ولم يحترز من جناية التهجّم؛ فقال: معنى فرد، وبيت بديع، ولم يُسْبق فلان الى كذا، وانفرد فلان بكذا؛ لأني لم أدّع الإحاطة بشعر الأوائل والأواخر؛ بل لم أزعم أني نصَفتُه سماعاً وقراءة، فدع الحِفظ والرواية. ولعل المعنى الذي أسمُه بهذه السّمة، والبيت الذي أضيفه الى هذه الجملة في صدر ديوان لم أتصفّحه؛ أو تصفّحتُه ولم أعثر بذلك السطر منه، أو عساني أن أكون رويتُه ثم نسيتُه، أو حفظته لكني أغفلتُ وجهَ الأخذِ منه، وطريقة الاحتذاء به. وإنما أجسر في الوقت بعد الوقت فأُقدِم على هذا الحكم انقياداً للظن، واستنامة الى ما يغلبُ على النفس؛ فأما اليقين الثقة، والعلم الإحاطة فمعاذ الله أن أدعيه! ولو ادعيتُه لوجب ألا تقبلَه، مع علمك بكثرة الشعراء واختلاف الحظوظ، وخمول أكثر ما قيل: وضياع جلّ ما نُقِل. وأظنّك قد سمعتَ أو انتهى إليك أن البحتري أسقط خمسمائة شاعر في عصره، فما يؤمنني من وقوع بعض أشعارهم الى غيري؟ وما يدريني ما فيها؟ وهل هذا المستغرب المستحسن منقول عنها، ومقتبَس منها؟ وهؤلاء المحدَثون الذين شاركونا في الدار والبلد، وجاورونا في العصر والمولد. فكيف بمَن بعُد عهده، وقدُم زمانه، وتناسخت الأمم بيننا وبينه! زعم بعض آل الزبير أنه زار عُروة بن الزبير ذات يوم، فسأله عما يُعنى بطلبه من العلوم، فقال: قلت الشعر. فقال: لأي قبائل العرب أنت أروى! فقلت: لبني سُلَيْم، فأنشدني لعدة أكثرها من بني سُليم، ولم أعرف واحداً منهم.

وقد ذكر الأصمعي عن كِرْدِيْن المِسمَعي: أن فتية من الحيّ أتوا أبا ضمْضَم الراوية، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: أتيناك نتحدّث. قال: كذبتم. قلتم: خرِف الشيخ، هلمّوا نتغفّله. ثم أنشدهم لمائة أو ثمانين شاعراً، كلّهم يسمّى عَمراً. قال الأصمعي: فجهدنا أن نتمّ ثلاثين شاعراً يسمى عَمراً، فلم نجد. وزعم الأصمعي أيضاً أن إخوة من بني سعد يسمون مُنذِراً، ومُنتذراً، ونذيراً، كانوا رجّازاً، فلم يهبطوا الأمصار، فذهبت أشعارُهم. وأن أُرجوزة رؤْبة القافيّة التي هي قلادتُه، وعينُ شعره لنذير. وقد يرى في أشعار القبائل الأبيات تُنسب الى الرجل المجهول الذي لم يُرْوَ له غيرها، ولا يعرف له اسمٌ إلا بها؛ وكأن النفس تشهد أنّ مثلها لا يكونُ باكورة الخاطر، ولا تسمحُ بها القريحةُ إلا بعد الدُّرْبة وطولِ الممارسة، ومن ذا يسمع قول الهُذَلي: أبو مالك قاصِرٌ فَقرَه ... على نفْسه ومُشيعٌ غِناهُ إذا سُدَتْه سُدْت مِطواعةً ... ومهما وكَلْتَ إليه كفاهُ فيشكّ أنها لم تندفر فلْتة، وتصْدر بغْتة، وأن لها مقدمات سهّلْت سبيلَها، وأخوات قرّبت مأخذها؛ وهي في شعر الهذليين أبيات لم يُرْوَ لشاعر غيرها. وقد كان قدم مكة أيام مقامي بها شيخٌ بدَويّ من بني عامر بن ربيعة؛ يدعى مطرف بن سفيان، فأنشدنا قصيدة مدح بها جعفر بن محمد الحسني وجدتُها متنافرةَ

الأبيات، مختلفةَ الأطراف، بين عيْنٍ نادر، ومتوسّط متقارب، وضعيف ساقط؛ فكنت كالمتعجِّب لما أراه من اضطرابها، وظهورِ تفاوتها؛ وامتحنتُ الشيخ فوجدتُ شعره الى الضعف ما هو؛ فنحن كذلك إذ أتانا بعض مَنْ كان بقُرْبه من أصحابنا، فسألناه عن العامري فأثبته معرفة، وذكر أنه حضر الحيّ وقت تأهبه للوفادة، فرآه في نادي القوم، وقد جمع فِتْيان الحلّة، وأحداث القبيلة، فقال: إن شيخكم يريد امتداحَ هذا الشريف بمكة، فزوّدوه! فزوّدَه كلّ رجل منهم البيتين والثلاثة، ثم نظمها قصيدة، وإذا سببُ ذلك التباين تفاضلُ القرائح، واختلافُ الأفكار والهواجس. فإذا كان هذا الشعر عندهم اليوم، وهذه عدّة من يقرض منهم وينظم، واللغة فاسدة، واللسان مدخول، والأمر مُدبِر، وأكثر العرب مستعجم؛ فما ظنّك بهم والعربُ عرب، والدار خالصة لهم، والحضَر بعيد منهم، وأسباب الفساد منقطعة عنهم! وهل يُمكن مع هذه الأحوال إحصاء المقرر المتوسّع، فضلاً عن المُقِلّ المتطرّف! أفتستَجيزُ لي على ما تراه أن أتسرع ولا أتحرّز، وأعجل ولا أتلبّث؟ كلا؛ بل أفصّل لك بين المراتب والمقادم، وأعزل لك المقدّم عن المؤخر، وأميز ما يقرب عندي من الإبداع عما أشهد عليه بالأخذ؛ فإن ألحقت به المأخوذ المُستَرق فلبعض الأغراض المتقدّمة: أو لزيادة فيه مستحسنة، فأسلم من تورط المسترسِل، ولا أقف موقف المتكلّف. فمن تلك الأبيات قوله: وكنتُ إذا يممتُ أرضاً بعيدةً ... سرَيْتُ فكنت السّرَّ والليلُ كاتِمُهْ

أزورهم وسوادُ الليلِ يشفعُ لي ... وأنثني وبياضُ الصُبحِ يفغري بي قِفي تغْرَمِ الأولى من اللحظِ مهجَتي ... بثانيةٍ والمُتلِفُ الشيءَ غارمُهْ ضُربْنَ إلينا بالسّياطِ جَهالةً ... فلما تعارفْنا ضُربْنَ بها عنّا لو كنتَ عصْراً مُنْبتاً زَهَراً ... كنت الربيعَ وكانت الوَرْدا وما الجمعُ بينَ الماءِ والنار في يدي ... بأصْعَبَ من أن أجمعَ الجدّ والفَهْما وأسمعُ من ألفاظِه اللغةَ التي ... يلَذّ بها سمْعي وإن ضُمّنَتْ شتْمي ولا تُنكِرا عصْفَ الرّياح فإنها ... قِرَى كلّ ضيْفٍ بات عند سِوارِ دُعيتُ بتقريظِيكَ في كلّ مجلسٍ ... وظنّ الذي يدعو ثنائي عليك اسمي

كأنّ الهامَ في الهَيجا عُيونٌ ... وقد طُبعَتْ سيوفُك من رُقادِ وقد صُغْتَ الأسنّة من هُمومٍ ... فما يخطُرْنَ إلا في فؤادِ بكل أرضٍ وطِئْتَها أمَمٌ ... تُرْعى بعبْدٍ كأنها غنَمُ يستخشِنُ الخَزّ حينَ يلمَسهُ ... وكان يُبْرى بظُفرِه القلَمُ حالٌ كأنّ غُرابَ البينِ يرقُبُه ... فكلما قيل هذا مجتَدٍ نَعبا ما زالَ كلّ هزيمِ الودْقِ ينحِلُها ... والسُقْم ينحِلُني حتى حكَت جسَدي فقد خفِيَ الزمانُ به علينا ... كسِلْكِ الدُرِّ يُخْفيهِ النظامُ لقد حسُنَت بك الأوقات حتى ... كأنك في فمِ الدهر ابتسامُ قفْ على الدّمنتَيْنِ بالدّوِّ من ر ... يّا كخالٍ في وجنةٍ جنْبَ خالِ

بطُلولٍ كأنهن نُجومٌ ... في عِراسٍ كأنهن لَيالِ ولو حيزَ الحِفاظُ بغير عقلٍ ... تجنّبَ عُنقَ صيقَلِهِ الحُسامُ وكلما فاضَ دمْعي غاضَ مُصطَبَري ... كأن ما سالَ من جفنيّ من جلَدي كلّ هوْجاءَ للدّياميمِ فيها ... أثرُ النّارِ في سَليطِ الذُبالِ من بنات الجديلِ تمْشي بنا في الْ ... بيدِ مشْيَ الأيامِ في الآجالِ وإذا خفيتُ على الغبيّ فعاذِرٌ ... أن لا تراني مُقلةٌ عمياءُ أمضَى إرادتَهُ فسوف له قدٌ ... واستقربَ الأقصى فثَمّ له هُنا منْ يهُنْ يسهُلِ الهوانُ عليه ... ما لجُرحٍ بميّت إيلامُ

طربَتْ مراكبُنا فخِفْنا أنها ... لولا حياءٌ عاقَها رقصتْ بنا عقدَتْ سنابكُها عليها عِثْيراً ... لو تبْتغي عنَقاً عليه لأمْكِنا يتعثّرْنَ بالرءوس كما مرّ ... بتاآت نُطقِه التّمتامُ خيرُ أعضائِنا الرءوسُ ولكنْ ... فضلتْها بقصدِكَ الأقدامُ فلو كنتَ امرأ يُهجى هجوْنا ... ولكن ضاق فِتْرٌ عن مسيرِ لا يُعجِبنّ مَضيماً حُسنُ بزّته ... وهل تروقُ دَفيناً جودَةُ الكفن دونَ التّعانُقِ ناحِلَيْنِ كشَكْلَتيْ ... نصْبٍ أدقّهما وضمّ الشّاكِلُ للهو آوِنةٌ تمرّ كأنها ... قُبَلٌ يزوَّدُها حبيبٌ راحِلُ قد كنت أشفقُ من دمعي على بصري ... فاليومَ كلّ عزيز بعدكم هانا

فكأنها نُتِجَت قياماً تحتهم ... وكأنهم وُلدوا على صهَواتِها ولو لم يعْلُ إلا ذو محلّ ... تعالى الجيشُ وانحطّ القتامُ ومن يُنفِق الساعاتِ في جمع مالِه ... مَخافةَ فقْرٍ فالذي فعل الفقرُ وأنفُسٌ يلمَعيّات تحبّهمُ ... لها اضطِراراً ولو أقصوْكَ شنْآنا كأن ألسُنَهم في النُطق قد جُعِلتْ ... على رماحهم في الطّعْنِ خُرصانا لو مرّ يركُض في سُطور كِتابةٍ ... أحصى بحافرِ مُهرِه ميماتِها أعيا زوالُكِ عن محلٍّ نلتَه ... لا تخرجُ الأقمارُ عن هالاتها ومن نكدِ الدُنيا على الحرّ أن يرى ... عدواً له ما منْ صداقتِه بُدّ تلَجُّ دموعي بالجفون كأنّما ... جُُفوني لعينَيْ كلِّ باكية خدُّ

ذُكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنتَ البديعَ الفردَ من أبياتها كأن الجوّ قاسى ما أُقاسي ... فصار سوادُه فيهِ شُحوبا أقلِّبُ فيه أجفاني كأني ... أعدّ به علىالدّهر الذّنوبا مَنْ خصّ بالذّم الفِراق فإنني ... من لا يرى في الدهر شيئاً يُحْمَدُ إذا غدرت حسناءُ وفّت بعهدِها ... ومن عهدِه أن لا يدومَ لها عهدُ فإنْ يكُ سيّارُ بنُ مكْرمٍ انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الوردُ عرفتُ نوائبَ الحِدْثان حتى ... لوِ انتسَبَتْ لكنتُ لها نَقيبا يُصيب ببعضها أفواقَ بعضٍ ... فلولا الكسْرُ لاتّصلتْ قضيبا فآجرَك الإلهُ على عليلٍ ... بعثْت الى المسيحِ به طبيبا

صيامٌ بأبواب القِباب جيادُهم ... وأشخاصُها في قلْب خائِفِهم تعْدو بعيدةُ ما بين الجفونِ كأنما ... عقدْتم أعالي كلِّ هدْبٍ بحاجبِ ولو قلمٌ أُلقيتُ في شَقِّ رأسه ... من السُّقمِ ما غيّرتُ من خطّ كاتبِ ولربّما أطرَ القناة بفارِسٍ ... وثنى فقوّمها بآخرَ منهمُ لو سار ذاك الحبيبُ عن فلَكٍ ... ما رضي الشمسَ برجُه بدَلَهْ رأيتك في الذين أرى مُلوكاً ... كأنكَ مستقيمٌ في مُحالِ فإنْ تفُق الأنامَ وأنت منهمْ ... فإنّ المسكَ بعضُ دم الغزالِ أنت الذي لو يُعابُ في ملأٍ ... ما عيبَ إلا بأنّه بشَرُ إني لأبغِضُ طيفَ مَن أحببتُه ... إذ كان يهجرُنا زمانَ وصالِه

ونُراعُ غير معقّلاتٍ حولَه ... فيَفوتها متجفّلاً بعِقالِه لو لم تكنْ تجري على أسيافِه ... مهَجاتُهُم لجرَتْ على إقبالِه فكأنّما قذي النهارُ بنقعِه ... أو غضّ عنه الطّرْفَ من إجلالِه وخصْرٌ تنبُتُ الأبصارُ فيه ... كأنّ عليه من حدَقٍ نِطاقا أول حرْفٍ من اسمِه كتبتْ ... سنابِك الخيلِ في الجلاميدِ كأن العِدا في أرضهم خُلفاؤه ... فإنْ شاءَ حازوها وإن شاءَ سلّموا لها في الوَغى زِيُّ الفوارس فوقَها ... فكلّ حِصانٍ دارعٌ متلثّمُ وما ذاك بُخْلاً بالنفوس على القنا ... ولكنّ صدْمَ الشّرّ بالشرِّ أحزَمُ وملمومةٌ زرَدٌ ثوبها ... ولكنّه في القنا مُخمَلُ يفاجئُ جيشاً به حينُه ... ويُنذِر جيشاً به القسْطَلُ

فلا تُنكرنّ له صرْعةً ... فمنْ فرَحِ النّفس ما يقتُلُ وما اعتمدَ اللهُ تقويضَها ... ولكن أشر بما تفعَلُ إن كنتَ ترضى بأن يُعطوا الجِزَى بذلوا ... منه رِضاكَ ومَن للعُورِ بالحوَلِ لعلّ عتْبَك محمودٌ عواقبُه ... فرُبما صحّتِ الأجسام بالعللِ ويرجِعُها حُمْراً كأنّ صحيحَها ... يبكي دماً من رحمةِ المتدفّقِ ما الخِلّ إلا منْ أودّ بقَلبِه ... وأرى بطرْفٍ لا يرى بسوائِهِ كأني عصَتْ مُقلَتي فيكمُ ... وكاتَمتِ القلبَ ما تُبصرُ إذا ما قدرْتُ على نطقَةٍ ... فإني على ترْكِه أقدَرُ فلا غفَلَ الدهرُ عن أهلِه ... فإنك عينٌ بها ينظرُ وكيف انتفاعي بالرُقاد وإنما ... بعلَّته يعتلّ في الأعيُن الغُمضِ

وأتعب مَن ناداك من لا نجيبُه ... وأغيَظُ من عاداكَ من لا تُشاكِلُ إذا كان ما تنويهِ فعلاً مُضارعاً ... مضى قبلَ أن تُلقى عليه الجوازِمُ قُشيْرٌ وبَلْعَجْلانِ فيها خفيّةٌ ... كراءَينِ في ألفاظِ ألثغَ ناطق أسيرُ الى إقطاعهِ في ثيابِه ... على طِرْفه من داره بحُسامِه وإذا حاولتْ طعانك خيلٌ ... أبصرَت أذرُعَ القَنا أميالا كأنّ كلَّ سؤالٍ في مسامعه ... قميصُ يوسفَ في أجفانِ يعقوب بوادٍ به ما بالقلوبِ كأنّهوقد رحلوا جيَدٌ تناثَر عِقدُه

لا تُنكر الحسّ من دار تكون بها ... فإنّ ريحكَ روحٌ في مغانيها إنما تنجحُ المقالةُ في المرْ ... ءِ إذا وافقَتْ هوًى في الفؤادِ وإذا الحِلمُ لم يكن عن طِباع ... لم يحلّم تقدُّم الميلادِ وإذا كان في الأنابيبِ خلفٌ ... وقع الطّيشُ في صدور الصِّعادِ تحمّلوا حملَتْكُم كلّ ناجيةٍ ... فكلّ بينٍ عليّ اليومَ مؤتمَنُ كلّما أنبَتَ الزمانُ قناةً ... ركّب المرء في القناةِ سنانا وإذا لم يكن من الموت بُدٌ ... فمِن العجز أن تكون جَبانا إنّا لفي زمنٍ ترْكُ القبيح به ... من أكثرِ الناسِ إحْسانٌ وإجمالُ ذِكرُ الفتى عُمرهُ الثاني وحاجتُه ... ما فاتَه وفُضول العيش أشْغالُ لطّفْتَ رأيكَ في بِرّي وتكرِمَتي ... إنّ الكريم على العلياءِ يحْتالُ

ردينيّةٌ تمّت وكاد نباتُها ... يركّبُ فيها زُجَّها وسنانَها وسمراءُ يستغْوي الفوارس قدُّها ... ويُذكِرها كرّاتِها وطِعانها وغالبَه الأعداءُ ثم عنوا له ... كما غالبَتْ بيضَ السّيوفِ رِقابُ ولا مُلْكَ إلا أنتَ والمُلكُ فضلَةٌ ... كأنّك سيفٌ فيه وهْو قِرابُ فلا تُرجِّ الخير عند امرئٍ ... مرّت يدُ النّخاسِ في رأسِه إذا أتت الإساءةُ من وضيعٍ ... ولم ألُمِ المُسيءَ فمن ألومُ لا تشترِ العبد إلا والعصا معه ... إنّ العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ ومن جهِلتْ نفسُه قدرَه ... رأى غيرُه منه ما لا يرى كلّما عاد مَن بعثتُ إليها ... غار منّي وخان فيما يقول

أفسدَتْ بيننا الأماناتِ عينا ... ها وخانتْ قلوبهنّ العُقولُ ومن ركبَ الثورَ بعد الجوا ... دِ أنكرَ أظلافه والغبَبْ أتى الزمانَ بنوهُ في شيبته ... فسرّهُمْ وأتيناهُ على الهرَم إنْ أوحشَتْك المعالي ... فإنها دارُ غُربَهْ أو آنسَتْك المخازي ... فإنها لك نِسْبَهْ إذا سمِع الناسُ ألفاظه ... خلقْنَ له في القلوبِ الحسدْ وغيْظٌ على الأيام كالنارِ في الحشا ... ولكنه غيْظُ الأسير على القِدِّ وقد كنت أدركت المُنى غير أنني ... يُعيِّرُني أهلي بإدراكها وحْدي وألقى الشرقُ منها في ثيابي ... دنانيراً تفِرّ من البنانِ

وهو مثل قوله في كلمة أخرى: إذا ضوءُها لاقى من الطيرِ فَرجةً ... تدوَّرَ فوق البيض مثل الدراهمِ فلو طُرِحت قلوبُ العشقِ فيها ... لما خافت من الحدَقِ الحِسانِ قالت: ألا تصْحو! فقلت لها ... أعلَمتِني أنّ الهوى ثمِلُ فوقَ السماءِ وفوقَ ما طلبوا ... فإذا أرادوا غايةً نزَلوا وما أنا غيرُ سهمٍ في هواء ... يعود ولم تجدْ فيه امتِساكا شُجاعٌ كأنّ الحربَ عاشقَةٌ له ... إذا زارها فدّتهُ بالخيل والرِّجلِ يرْمي النجومَ بعينَيْ من يحاولُها ... كأنها سلَبٌ في عينِ مسلوب رقّت مضاربُه فهنّ كأنما ... يُبدينَ من عشقِ الرّقاب نُحولا

وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ وما التيهُ طِبّي فيهمُ غير أنني ... بغيضٌ إليّ الجاهلُ المتعاقِلُ فما تُرجّي النفوسُ من زمنٍ ... أحمَدُ حالَيهِ غيرُ محمودِ وقد وَفينا لك بما اقتضاه شرطُ الضمان وزدنا، وبرئنا إليكَ مما يوجبه عقد الكفالة وأفضلنا، ولم تكن بُغيتنا استيفاءَ الاختيار، واستقصاءَ الانتقاد؛ فيقال: هلا ذكرتَ هذا فهو خير مما ذكرت؛ وكيف أغفلتَ ذاك وهو مقدَّم على ما أثبت! وإنما دعوناك الى المقاصّة، وسِمْناك في ابتداء خطابنا المحاجّة والمحاكمة؛ فلزمنا طريقة العدل فيها، والتقطنا من عُروض الديوان أبياتاً لم نذهب - إن شاء الله - في أكثرها عن جهة الإصابة، فإن وقع في خلاله البيتُ والبيتان فلأنّ الكلام معقود به، والمعنى لا يتمّ بدونه، وما يتقدمه وما يليه مفتقر إليه، أو لغرض لا تعظم الفائدة إلا بذكره، ويضيقُ هذا القدر من الخطاب عن استقصاء شرحه، أو لسهو عارضَ التمييز، وغفْلةٍ لابست الاختيار. وقد جعلنا لك أن تحذف منه ما أحببت؛ وأبحنا لك أن تُسقط ما أردت، فإن الذي يفضل نقدك منه، ويوافقنا رأيك عليه، ينجز وعدك ويبلغ غايتك؛ ويبقى ما وقعت الموافقةُ عليه بيننا وبينك. ثم طالع بقية شعرِه، وتصفّح فضالة ديوانه؛ لتعلم أنا لم نقصد استيعابَ

عيونه، وأخْذ صفوته ولُبابه، وأن فيما غادرنا منه ولم نعرض له ما يمكن فيه محاكمتك، ولا تضعف معه محاجّتك؛ ولعلك إذا رأيت هذا الجدّ في السعي، والعنف في القول تقول: إنما وقفت موقف الحاكم المسدد، وقد صرت خصْماً مجادلاً، وشرعت شروع القاضي المتوسط، ثم أراك حرباً منازعاً؛ فإن خطر ذلك ببالك وحدثتْك به نفسك فأشعِرها الثقة بصدقي، وقرّر عندها إنصافي وعدْلي، واعلم أني رسولٌ مبلّغ، وسامع مؤدّ، وإني كما أناظرك أناظر عنك، وكما أخاصمك أخاصم لك؛ فإن رأيتني جاوزتُ لك موضع حجة فردّني إليها، ونبّهني عليها، فما أبرّئُ نفْسي من الغفْلة، ولا أدّعي السلامة من الخطأ؛ والمدّعي أشد اهتماماً بما يحقق دعواه من المتوسط، وعناية الخصم بشهوده أتمّ من عناية الحاكم. وأعود الى نسَق الكلام الأول فأقول: ورأيتك وأصحابك أنحيْتم في منازعة خصمكم على الدّعاء السّرَق؛ فقال قائلكم: ما يسلَم له بيت، ولا يخلص من معانيه معنى؛ وما هو إلا ليث مُغير، أو سارق مُختلِس، وأنشد منشدكم قول أبي تمام: مَن بنو بحْدَل من ابن الحُباب ... من بنو تغلب غداة الكلاب إذا الضيغمُ الهصورُ أبو الأشْ ... بالِ رِئْبالُ كل خيس وغابِ من عدَتْ خيلُه على سرح شعري ... وهو للحين راتعٌ في كتابي غارة أسخنت عيونَ المعالي ... واستحلّت محارمَ الآداب

يا عَذارى الكلام صِرتُنّ من بعْ ... دي سبايا تُبَعْنَ في الأعراب وقلت: إنما عمد الى شعر أبي تمام فغيّر ألفاظه، وأبدل نظمه؛ فأما المعاني فهي تلك بأعيانها؛ أو ما سرقه من غيرها، فإن اعتمد على قريحته، وحصل على فكره وخاطره، جاء بمثل قوله: إن كان لا يُدْعى الفَتى إلا كذا ... رجُلاً فسمِّ الناسَ طُرّاً إصْبَعا ومثل قوله: أيا أسداً في جسمِه روحُ ضيْغَمٍ ... وكم أُسُدٍ أرواحُهُنّ كِلابُ جرى الخُلْفُ إلا فيك أنّك واحدٌ ... وأنّك ليثٌ والملوك ذئابُ وأنك إن قويِسْتَ صحّفَ كاتب ... ذئاباً ولم يُخطئْ فقال ذُبابُ ومثل قوله: لو كان صادفَ رأسَ عازرَ سيفُه ... في يوم معركةٍ لأعْيا عيسَى أو كان لُجُّ البحرِ مثلَ بمينِه ... ما انشَقّ حتى جاز فيه موسَى أو كان للنّيران ضوءُ جبينِه ... عُبدَتْ فكان العالَمون مَجوسا فأعيته المعاني، حتى التجأ الى استصغار الأنبياء - عليهم السلام. وقوله: لم تُسْمَ يا هارون إلا بعد ما اقْ ... ترَعْتَ ونازعَتِ اسمكَ الأسماءُ فغدوْتَ واسمُك فيك غيرُ مُشارَكٍ ... والناسُ فيما يديْك سواءُ

وقوله: فخُذا ماءَ رِجلِه وانْضَحا في الْ ... مُدْنِ تأمَنْ بوائقَ الزّلْزالِ رجُلٌ طينُه منَ العنبَر الورْ ... دِ وطينُ الرّجالِ من صلْصالِ وبقيّاتُ طينِه لاقتِ الما ... دَ فصارتْ عُذوبةً في الزُّلالِ فهذا مقدارُ اختراعه، وهذه طريقةُ ابتداعه، فإن زاد عليه وتجاوزه قليلاً اضطرّ الى تعقيد اللفظ، وفساد الترتيب، واضطراب النّسْج؛ فصار خيرُه لا يفي بشرّه، وجُرْمه يزيدُ على عُذره؛ ثم لم يظفر فيه بمعنى شريف؛ وإنما هو الإفراط والإغراق والمبالغة والإحالة كقوله: لوْ طابَ مولدُ كلّ حيٍّ مثلَه ... ولدَ النّساءُ وما لهنّ قوابِلُ ولِمَ يُستغنى بطيب المولد عن القابلة؟ وإذا استُغني عنها كان ماذا؟ وأي فخْر فيه؟ وأي شرف يناله؟ وقوله: لمن مالٌ تمزّقُه العطايا ... ويشْرَكُ في رغائِبِه الأنامُ ولا ندعوكَ صاحبَهُ فترْضَى ... لأنّ بصُحبةٍ يجبُ الذِّمامُ لما وقع له المعنى الذي يُقارب الحسن ضعُفَ عن تحسين لفظه؛ فجاء كما ترى. وقوله: لم تحْكِ نائِلَكَ السّحابُ وإنما ... حُمّتْ به فصَبيبُها الرُحَضاءُ

هل زاد على أن جعل السحاب يحمّ فأفرط؛ كما جعل أبو تمام الدهر يصرع في قوله: خطوبٌ كأنّ الدهرَ منهن يُصرَعُ وجعل بشّار الزمانَ يموقُ في قوله: وما أنا إلا كالزّمان فإن صَحا ... صحوْتُ وإن ماقَ الزّمانُ أموقُ وقوله: فإن مارَيتَني فارْكَب حصاناً ... ومثِّلْهُ تخِرَّ له صَريعا وهذا المعنى عامي، وكذلك قوله: وكلّ مكانٍ أتاه الفتى ... على قدَر الرِّجل فيه الخُطا وقوله: لوِ الفلَكَ الدّوارَ أبغضْتَ سعيَهُ ... لعوّقَه شيءٌ عن الدّورانِ وهذا البيت من قلائده، إلا أنك تعلم ما في قوله شيء من الضعف الذي يجتنبه الفحول، ولا يرضاه النقّاد. وهو وأشباه هذا مما لم نُرد استقصاءَه؛ وإنما دللْناك على منهاجه، وأريناك بابَه، وقد قدّمنا ما استرذلنا من شعرِه.

وإنما تجدُ له المعنى الذي لم يسبقه الشعراءُ إليا إذا دقق، فخرج عن رسْم الشعر الى طريق الفلسفة، فقال: ولَجُدْتَ حتى كِدْتَ تبخَلُ حائِلاً ... للمنتهَى ومن السرورِ بُكاءُ وقال: إلْفُ هذا الهواءِ أوقعَ في الأنْ ... فُس أنّ الحِمامَ مُرُّ المذاقِ والأسى قبلَ فُرقةِ الرّوح عجْزٌ ... والأسى لا يكونُ بعد الفِراقِ وقوله: تخالفَ الناسُ حتى لا اتّفاق لهم ... إلا على شجَبٍ والخُلْفُ في الشّجَبِ فقيلَ تخْلُصُ نفسُ المرءِ سالمةً ... وقيل تشرَكُ جسمَ المرء في العطبِ وقوله: خلفَتْ صِفاتُك في العيون كلامَه ... كالخطّ يملأُ مِسمَعَي مَنْ أبصرا

السرقات الشعرية

السرقات الشعرية قد أنصفناك في الاستيفاءلك، والتبليغ عنك، ولسنا نُنكِر كثيراً مما قلتَه، ولا نردّ اليسير مما ادّعيته، غير أن لخصمك حُجَجاً تُقابل حُجَجك، ومقالاً لا يقصّر عن مقالك. وزعم خصمُك أنك وأصحابك وكثيراً منكم لا يعرف من السَّرَق إلا اسمَه، فإن تجاوزه حصل على ظاهره، ووقف عند أوائله؛ فإن استُثبتَ فيه، وكُشِف عنه، وُجد عارياً من معرفة واضحهِ، فضلاً عن غامضه، وبعيداً من جليه، قبل الوصول الى مُشكله؛ وهذا باب لا ينهض به إلا الناقد البصير، والعالم المبرِّز. وليس كل من تعرّض له أدركه استوفاه واستكمله. ولستَ تعدّ من جهابذة الكلام، ونُقّاد الشعر، حتى تميّز بين أصنافه وأقسامِه، وتحيط علماً برُتَبه ومنازله، فتفصل بين السرق والغصْب، وبين الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرِق بين المشترك الذي لا يجوز ادّعاء السّرَق فيه، والمبتذل الذي ليس أحدٌ أولى به، وبين المختصّ الذي حازه المبتدئ فملكه، وأحياه السابق فاقتطعه، فصار المعتدي مُختلساً سارقاً، والمشارِك له محتذياً تابعاً، وتعرف اللفظ الذي يجوز أن يقال فيه: أُخذ ونقل، والكلمة التي يصح أن يقال فيها: هي لفلان دون فلان. فمتى نظرت فرأيت أن تشبيه الحسَن بالشمس والبدر، والجواد بالغيث والبحر، والبليد البطيء بالحجر والحمار، والشجاع الماضي بالسيف والنار، والصبّ المستهام بالمخبول في حيرته، والسليم في سَهره، والسقيم في أنينه وتألّمه، أمور متقررة في النفوس، متصورة في العقول، يشتركُ فيها الناطق والأبكم، والفصيح والأعجم،

والشعر والمفحَم، حكمتَ بأن السرقة عنها مُنتَفية، والأخذ بالاتباع مستحيل ممتنع، وفصلتَ بين ما يشبه هذا ويباينُه، وما يلحق به وما يتميز عنه، ثم اعتبرت ما يصح فيه الاختراع والابتداع؛ فوجدتَ منه مستفيضاً مُتداوَلاً متناقلاً لا يعدّ في عصرنا مسروقاً، ولا يُحسَب مأخوذاً، وإن كان الأصل فيه لمن انفرد به، وأوّله للذي سبق إليه؛ كتشبيه الطّلل المُحيل بالخطّ الدارس وبالبُرد النّهج والوشْم في المِعصم، والظُعُنِ المتحمّلة بالنّخل، وعلائقها بأعذاق البُسْر، والفحل بالفَدَن المَشيد، والظّليم المهيج بأحقَب يسوقُ أُتنه، وكوصف الحمول ومَوران الآلِ بها، وذم الغراب، والصُرَد، والسانح، والبارح، وسؤال المنزل عن أهله، والتفجّع لمن استبدل بعد ساكنه، ولومِ النفس على بُكاء الدار، واستعطاف العقل واستبطاء الصبر، وتحسينه تارة وتقبيحه أخرى، وتشبيه الفرس باللّقوَة، والظّبي بشهاب قُذُف، والعقاب بالدّلو التي خانها الرّشاء، وكوصف الغيثِ بالعموم والتطبيق، واقتِلاع الدوح، وتفريق الوحش، وتشبيه دفْعه بعَطّ المَزاد، وحلّ العزالي

ووصف البرق بخطْف الأبصار، وسرعة اللّمح، وأنه كالقَبَس من النار، وكالحريق المتضرّم، وكمصباح الراهب. ولم أرد هذه بأعيانها دون غيره، ولم أوردها إلا دلائل على أمثالها؛ فإذا اعتبرتَها تصنّفت لك صنفين: إما مشترك عامّ الشّركة، لا ينفرد أحد منه بسَهم لا يُساهَم عليه، ولا يختص بقسم لا يُنازَع فيه؛ فإن حُسن الشمس والقمر، ومضاء السيف، وبلادة الحمار، وجوْد الغيث، وحيرة المخبول، ونحو ذلك مقرر في البداية، وهو مركّب في النّفس تركيبَ الخِلقة. وصنْفٌ سبق المتقدّم إليه ففاز به، ثم تدوول بعده فكثُر واستُعمل؛ فصار كالأول في الجلاء والاستشهاد، والاستفاضة على ألسُن الشعراء، فحمى نفسه عن السَّرق، وأزال عن صاحبه مذمّة الأخذ، كما يُشاهد ذلك في تمثل الطّلل بالكتاب والبُرد، والفتاة بالغزال في جيدها وعينيها، والمَهاة في حُسنها وصفائها. ومتى شئتَ أن ترى ما وصفتُه عِياناً، وتعلمه يقيناً فاعترض أوّل عامي غُفْل تستقبله، وأعجمي جِلف تلقاه، ثم سلْه عن البرق فإنه يؤدي الى معنى قول عنترة: ألا يا ما لذا البرْقِ اليَماني ... يُضيءُ كأنّه مِصباحُ بانِ وإن لم يذكر لك البان لجهله بعادة العرب في الاستصباح به، ولأنه لم يعرف منه ما عرفه عنترة، ومعنى امرئ القيس في قوله: يُضيءُ سناه أو مصابيحُ راهبٍ ... أمالَ السّليطَ بالذُبال المفتّل

وهيهات أن يعرضَ لك الأديب الفطِن لقول عامر الثقفي: كأن ريِّقه لما علا سَبطاً ... أقرابُ أبلق ينفي الخيلَ رمّاح وقول آخر: وترى البرقَ عارضاً مُستطيراً ... مرَح البُلق جُلنَ في الأجلال إلا عن روية كثيرة، أو فكر طويل، ولو سمعتَ قائلاً يقول إن فلاناً الشاعر أخذ عن فلان قوله: لا مرحباً بالشيب، وحبّذا الشباب! وكيف لو عاد، ويا أسفي لفراق الأحبة! وما لذذت العيش بعدهم، وفاضت عيني صبابةً لذِكرهم. لحكمت بجهله، ولم تشك في غفلته. وقد يكون في هذا الباب ما تتّسعُ له أمة، وتضيق عنه أخرى، ويسبق إليه قوم دون قوم؛ لعادة أو عهد، أو مشاهدة أو مِراس؛ كتشبيه العرب الفتاة الحسناء بتريكة النّعامة، ولعل في الأمم من لم يرَها؛ وحمرةَ الخدود بالورد والتفاح؛ وكثيرٌ من الأعراب لم يعرفهما؛ وكأوصاف الفلاة، وفي الناس من لم يُصْحِر؛ وسيرَ الإبل؛ وكثير منهم لم يركب. وقد يتفاضل متنازعو هذه المعاني بحسب مراتبهم من العلم بصنعة الشعر؛ فتشترك الجماعة في الشيء المتداوَل، وينفردُ أحدهم بلفظة تُستعذب، أو ترتيب يُستحسَن، أو تأكد يوضع موضعه، أو زيادة اهتدى لها دون غيره؛ فيريك المشترَك المبتذل في صورة المبتدَع المخترع، كما قال لبيد:

وجَلا السّيولُ عن الطّلولِ كأنها ... زبُرٌ تجِدّ متونَها أقلامُها فأدى إليك المعنى الذي تداولته الشعراء، قال امرؤ القيس: لمَن طللٌ أبصرتُه فشجاني ... كخطّ زَبورٍ في عسيبِ يماني وقال حاتم: أتعرِفُ أطلالاً ونؤياً مهدّما ... كخطّك في رقٍّ كتاباً مُنَمنَما وقال الهذلي: عرفتُ الديار كرسْم الكتا ... بِ يزْبُره الكاتب الحِميَري وأمثال ذلك مما لا يحصى كثرة، ولا يخفى شُهرة، وبين بيت لبيد وبينهما ما تراه من الفضل، وله عليه ما تشاهد من الزيادة والشِّف. ولم تزَل العامّة والخاصة تشبّه الوردَ بالخدود، والخدود بالورد، نثراً ونظماً، وتقول فيه الشعراء فتُكثِر، وهو من الباب الذي لا يمكن ادّعاء السّرقة فيه إلا بتناول زيادة تُضمّ إليه، أو معنى يُشفَع به، كقول علي بن الجهم: عشيةَ حيّاني بوردٍ كأنه ... خدودٌ أُضيفت بعضُهن الى بعض فأضاف بعضهم الى بعض له، وإن أُخذ فمنه يُؤخذ، وإليه ينسب. وكقول ابن المعتز: بياضٌ في جوانبه احمرارٌ ... كما احمرّت من الخجل الخدودُ

والخَجِل إنما يحمر وجنتاه، فأما منبت الأصداغ ومخطّ العِذار فقليلاً ما يحمران؛ فهذا التمييز مسلّم له، وإن لم يكن يسبق إليه، ولو اتفق له أن يقول: حمرة في جوانبها بياض، لكان قد طبّق المفصِل، وأصاب الغرَض، ووافق شبَه الخجل؛ لكن أراد أن البياض والحمرة يجتمعان، فجعل الاحمرار في جوانب البياض، فراغ عن موقع التشبيه. ثم قال أبو سعيد المخزومي: والوردُ فيه كأنما أوراقُه ... نزِعت وردّ مكانهن خدود فلم يزد على ذلك التشبيه المجرّد، لكنه كساه هذا اللفظَ الرشيق، فصرت إذا قستَه الى غيره وجدتَ المعنى واحداً، ثم أحسست في نفسك عنده هِزّة، ووجدت طرْبَة تعلم لها أنه انفردَ بفضيلة لم يُنازع فيها. ومتى جاءت السرقةُ هذا المجيء، لم تعدّ مع المعايب، ولم تُحْص في جملة المثالب وكان صاحبها بالتفضيل أحق، وبالمدح والتزكية أولى. ومن ذا يشكّ في فضل امرئ القيس يشبّه الناقة في سرعتها بتَيس الظباء في عدوه بقوله: أو تيس أظبٍ ببطن واد ... يعدو وقد أُفرِد الغزالُ على كل ما قيل فيه، والمعنى واحد؛ لكن امرأ القيس زاد في إفراد الغزال، وهذه زيادة حسنة؛ لأنه إذا أُفرد اجتمع للتيس الخوف والوَلَه؛ فكان أشدّ لعدْوه، وإن امرأ القيس زاد في قوله يصف الطعنة: كجيْبِ الدِّفْنِس الوَرْها ... ءَ ريْعَت وهي تستَفْلي

على كل من شبّها بجيْب الحمقاء، وجيب الفتاة، لأنها إذا ريعَت وهي تستفلي عجلت عن الرّفق. وقال أوس بن حجَر: وفي صدرِه مثلُ جيب الفتا ... ة تشهق حيناً وحيناً تهِرّْ فزاد بالتقسيم الجاري على الشهيق والهَرير، ولكن زيادة الأول أحسن وأغمَض مأخذاً، وأوقع تشبيهاً، فأما الفِنْد فإنه أورد البيت على حاله: واضطرته القافية الى ترك الزيادة التي ذكرناها؛ فقال: كجيْبِ الدفْنِس الورْها ... ء ريعَت بعد إجفالِ ومتى سمعت قول أبي دهْبل الجُمَحي: وكيف أنساك! لا أيديك واحدة ... عندي ولا بالذي أوْلَيت من قِدَم علمتَ أنه من قول النابغة: أبى غفلتي أني إذا ما ذكرتُه ... تقطّع حزنٌ في حشى الجوف داخِل وأنّ تلادي إنْ نظَرت وشِكّتي ... ومُهْري وما ضمّت إليّ الأناملُ حِباؤُك والعيسُ العِتاقُ كأنها ... هِجان المها تُرْدى عليها الرحائل فإذا أنصفت أبا دهبل عرفت فضلَه، وشهدتَ له بالإحسان؛ لأنه جمع هذا الكلام الطويل: في ولا أيديك واحدة عندي. ثم أضاف إليه ولا بالذي أوليت من قدَم. فتم المعنى، وأكده أحسن تأكيد؛ لأن الأمور العظيمة قد تُنسي إذا طال أمدُها، وتقادَم عهدُها؛ فنفى عنه وجوه النسيان كلها، وقد اختصر

النابغة أبياته هذه في بيتٍ من كلمة أخرى؛ فقال: وما أغفلتُ شكرَك فانتصحني ... فكيف ومن عطائِك جلُّ مالي فأحسن وزاد على أبي دهبل بأن جعل كُلّ ماله من عطائه. واقتصر أبو دهبل على تتابع الأيادي، وقد تصْغُر وقد تكثُر، لكنه انفرد بالمصراع الثاني، فحصل له زيادة لا تقصر عن معنى منفرد. وما أبعد ما وقع العطَوي من أبي دهبَل؛ إذ أخذ قولابن مُناذر قال الأصمعي: ابن مَناذر جمع مُنذر. قال القاضي؛ وهو أعرف به لأنه بصري؛ فقال: تراضَيْنا بحكمِ الله فينا ... لنا أدبٌ وللثّقَفيّ مالُ ففرّقه في أربعة أبيات، بيتُ ابن مناذر خيرٌ من جميعها؛ فقال: رضينا بحُكمِ الله بين عباده ... رِضا عُلَماء لا تسخُّط جُهّال لئن خصّ قوماً بالنباهة والغِنى ... وألبسَنا ثوبَيْ خمول وإقلالِ لقد جاء بالعِلم النفيس الذي به ... رُشِدْنا فلم نلبس ملابسَ ضُلاّلِ فلو سُمتَنا لم نُعطِ علماً بثروة ... ولم نرَ للتمييز كُفْواً منَالمالِ وما ضرّ قول المتنبي: فاستعارَ الحديدُ لوناً وألقى ... لونَه في ذوائبِ الأطفالِ وإن كان مأخوذاً من قول العامة: هذا أمر يشيب الطفل. وكانتِ الشعراء قد تداولتْه وابتذلته حتى أخلق ورثّ، وقد زاد فيه الزيادة المليحة، وإنما العيبُ على أبي

الجويرية. العبدي إذ أخذ قول نُصَيب، فقال: قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل وَدّانَ طالبُ فعاجُوا فأثْنَوا بالذي أنت أهلُه ... ولو سكتوا أثنت عليكَ الحقائبُ فنقل معناه وكثيراً من ألفاظه، ثم يقعُ من إحسانه أحسن موقع فيقول: أقول لقافلين يُرى عليهمْ ... عطايا منك ليس لها حِساب قِفوا أُخبرْكمُ وتُخبّروني ... قليلاً واسّرابُ له اختِباب لأفصِحَهم وما كفروك حُسْنا ... ولو فعلوا لكذّبه العِياب وقد أخذ أبو الجُوَيرية بيتي الخنساء أحسن مأخذ، وجمعهما في بيت استوفى فيه معنييهما. قال الخنساء: وما بلَغت كفُّ امرئٍ متناول ... من المجد إلا والذي فيك أطوَلُ وما بلغ المُهدون نحوك مِدحَة ... وإن أطنَبوا إلا وما فيك أفضلُ فقال أبو الجُويرية: يزيد على سرْوِالرجال بسرْوِه ... ويقصر عنه قولُ مَنْ يتمدّح وعلى من يأخذ قول أبي العطاء: جلّتْ رزيّتُه فعمّ مُصابها ... فالناسُ فيه كلّهم مأجور

فيقول: ولقد أصاب غليلُها مَنْ لم يُصَب ... وتصيّرَت فقْداً لمن لم يفْقِد وبين الكلامين في صحّة النظم وعذوبة المنطق ما تراه. ثم قد كرر المعنى في المصراعين، ولم يزد على قول أبي العطاء: فعم مصابه، وبقية البيت فضل. ومن يأخذ قول ساعدة بن جؤية: للمشرفيّة وقعٌ في قِلالِهم ... نخْتَ القُيون رِطاب الأثْل بالقُدُم فيقول: للمشرفيّة وقعٌ في قِلالهم ... وقْع القَدوم بكفّ القيْن في الخشبِ فيبدل تلك الألفاظ، والبيت نقلاً ونسخاً على هيئته لما كان هذا المعنى يُعدّ مسروقاً؛ لأنه من المبتذَل العامي المشاهَد في كل حال. ومتى أحكمتَ هذا الباب حقّ الإحكام، وأوليتَه حسنَ التمييز فقد ألقيت عن نفسك ثقلاً، وكفيتها مؤونة، ولم يبقَ عليك إلا أن تحترس من التفريط، كما احترستَ من الإفراط. فلا تكن كمن يرى السّرَق لا يتمّ إلا باجتماع اللفظ والمعنى، ونقْل البيت جملة، والمصراع تامّاً؛ بل لا يعرِفُ السارق إلا من يفعل فِعل عبد الله بن الزبير بأبيات معن بن أوس. حكى أبو عبيدة وغيره أن عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده لنفسه: إذا أنت لم تُنصِف أخاك وجدتَه ... على طرَفِ الهِجران إن كان يعقِل ويركبُ حدّ السيفِ من أن تَضيمه ... إذا لم يكن عن شفرَةِ السيفِ مزحَلُ فقال له معاوية: لقد شعرت بعدي يا أبا بكر! ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معنُ بن أوس المزني، فأنشده كلمته التي أولها:

لعمرُك ما أدري وإني لأوجَلُ ... على أيِّنا تعْدو المنيةُ أولُ حتى أتى عليها، وهذه الأبيات فيها. فأقبل معاوية على عبد الله بن الزبير فقال: ألم تخبرني أنها لك؟ فقال: المعنى لي واللفظ له؛ وبعدُ فهو أخي من الرضاع وأنا أحق الناس بشعره. وكفعل جرير بقول سُويد بن كراع العُكلي: وما بات قومٌ ضامِنينَ لنا دماً ... فنوفيها إلا دماءٌ شوافِعُ فإنه نقل البيتَ الى قصيدة له، فلما أنشدها نبه عليه عمر بن نجاء التيمي، وكان أحد الأسباب التي هاجت الشر بينهما. وفِعل الفرزدق إذ سمع جميلاً ينشد: ترى الناسَ ما سِرْنا يسيرون خلْفنا ... وإن نحنُ أومأنا الى الناس وقّفوا فقال: أنا أحق بهذا البيت، فأخذه غصباً. وكما ادعى دِعبِل على أبي تمام في كلمته الرائية، التي رثى بها محمد بن حميد؛ فإنه زعم أن أبا مكنف المُزني، من ولد زهير بن أبي سلمى رثى ذُفافة العبْسي، فقال: أبعد أبي العباس يُستعتب الدهرُ ... وما بعده للدهرِ عُتبى ولا عُذر ألا أيها الناعي ذُفافةَ والنّدى ... تعِستَ وشلّت من أناملِك العشْر إذا ما أبو العباس خلّى مكانه ... فما حملَت أنثى ولا مسّها طُهر ولا مطَرت أرضاً سماءٌ ولا جرَت ... نجومٌ ولا لذّت لشاربها الخمرُ كأنّ بني القَعْقاع بعد وفاتِه ... نجومُ سماء خرّ من بينها البدرُ

توفّيت الآمال بعد ذُفافةٍ ... وأصبح في شُغلٍ عن السّفر السّفْر يعزَّوْن عن ثاوٍ تعزّى به العُلا ... ويبكي عليه البأسُ والمجدُ والشعرُ وما كان إلا مالَ من قلّ مالُه ... وذخراً لمن أمسى وليس له ذُخر فأخذ أبو تمام أكثر هذه القصيدة وجعل مكان بني القعقاع بني نبهان وأبدل باسم ذُفافة محمداً. أو كما فعل أبو نُخيْلة بأرجوزة العجّاج: زعم أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن أبا نُخيلة قال: وفدتُ على مسلمة بن عبد الملك وقد مدحته فأكرمني وأنزلني، ثم قال لي: ما لكَ والقصيد وأنتَ من بني سعد! عليك بالرجز! فقلت: أولستُ بأرجز العرب؟ فقال: أسمعني، فأنشدته: يا صاحِ ما شاقَك من رسْم خالِ ... ودمنةٍ تعرفُها وأطلالِ وهو من قول العجّاج، فلما سمع أولها أصاخ، فلما أسهبتُ فيها قال: أمسك. فنحن أروى لهذا منك، وظننته مقتَني، فما أصبت منه خيراً. وكما أخذ زُهير بيت أوس: إذا أنت لم تعرِض عن الجهل والخنا ... أصبتَ حليماً أو أصابكَ جاهلُ وهو مرويٌ في قصيدته. وكقول المعلوط: إن الظائنَ يومَ حزمِ عُنيزةٍ ... بكّيْن عند فراقهنّ عُيونا غيّضْن من عبَراتِهنّ وقلنَ لي ... ما لقيتَ من الهوى ولقينا وقال جرير: إن الذين غدَوا بلبّك غادروا ... وشَلاً بعينك ما يزال مَعينا

غيّضنَ من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولَقينا ولا تعدّ المعنى مأخوذاً حتى يجيء مجيء قول النابغة: لو أنها عرضَت لأشْمَطَ راهبٍ ... عبَد الإلهَ صَرورةٍ متعبِّدِ وقول ربيعة بن مقروم: لو أنها عرضَتْ لأشمَط راهبٍ ... عبَد الإلهَ صَرورةٍ متبتِّل وقول امرئ القيس: كأني لم أركَب جَواداً للذّةٍ ... ولم أتبطّنْ كاعِباً ذاتَ خَلخالِ ولم أسْبأ الزِّقَّ الرّوي ولم أقل ... لخيْلي كُرّي كرّةً بعد إجفالِ وقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي: كأني لم أركبْ جَواداً ولم أقل ... لخيليكُرّي نفّسي عن رِجاليا ولم أسبأ الزّق الرويّ ولم أقل ... لأيْسارِ صدْقٍ عظِّموا ضوْءَ نارِيا وقول النابغة: وما كان دون الخير لو جاء سالماً ... أبو حجر إلا ليالٍ قلائل

وقول الحطيئة: وما كان بيني لو لقيتُك سالماً ... وبين الغِنى إلا ليالٍ قلائل وقال مالك بن الرّيب: العبد يُقرَع بالعصا ... والحرّ يكفيه الوعيدْ وقول يزيد بن ربيعة بن مفرِّغ: العبدُ يُقرع بالعصا ... والحرّ تكفيه الملامَهْ وقال آخر بعدهما: العبدُ يُقرع بالعصا ... والحرّ تكفيه الإشارَهْ وقول ذي الرُمّة: يطرحْن بالدّويّةِ الأمْلاس ... لكلّ ذئب قفرَة ولاّس موتى العظام حيّةَ الأنفاس وقول رؤبة: يطرَحْن بالدّوّيّة الأغفالِ ... كلّ جنين لفق السِّرْبال حتى الشّهيق ميّتِ الأوصال

وقول امرئ القيس بن عابس: قِفِ الدّيار وقوفَ حابسْ ... وتأنّ إنك غير آيسْ ماذا عليك من الوقو ... ف بهامدِ الطّللين دارِسْ لعبَت بهن العاصفات الرا ... ئحات من الرّوائسْ وقول الكميت: قف بالديار وقوفَ زائرْ ... وتأنّ إنك غيرُ صاغرْ ماذا عليك من الوقو ... ف بهامد الطّللين داثِرْ درجت عليك الغاديات الرّا ... ئحات من الأعاصرْ ومثل قول الأُقيْشر - إن كانت له: جريْتُ مع الصِّبا طلْقَ العتيقِ ... وهانَ عليّ مأثورُ الفسوقِ وجدْتُ ألذّ عاريةِ الليالي ... قرانَ النّغمِ بالوتَرِ الخَفوقِ ومُسمعةً إذا ما شئت غنّت ... متى نزل الأحبّة بالعقيق تمتّعْ من شباب ليس يبقى ... وِصلْ بعُرَى الصّبوح عُرى الغَبوقِ وقول أبي نواس: جريتُ مع الصّبا طلْق الجُموح ... وهان عليّ مأثورُ القبيحِ وجدْت ألذّ عاريةِ اللّيالي ... قِران النّغمِ بالوتَرِ الفصيحِ ومُسمعةً إذا ما شئتُ غنّت ... متى كان الخيامُ بذي طُلوحِ

تمتّع من شبابٍ ليس يبقى ... وصل بعُرى الغبوق عُرى الصّبوح وأنا أرتابُ بأبيات الأقيشر؛ فإنها لا تُشبه شعرَه، ولم أرها في ديوانه. وقول الرّاعي: فتًى يشتري حُسنَ الثناءِ بماله ... إذا ما اشترى المَخزاةَ بالمال بيْهَسُ وقال الأبيرِد: فتى يشتري حسن الثناء بماله ... إذا السّنةُ الشّهباءُ أعوزَها القطْرُ وقول أبي نواس: فتىً يشتري حسنَ الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور وقول محمد بن وهْب: هل الدّهر إلا غمرةٌ وانجلاؤها ... وشيكاً ولا ضيقةٌ تتفرّج وقول البحتري: هل الدهرُ إلا غمرة ثم ينجَلي ... عَماها وإلا ضيقةٌ وانفِراجُها وقول حزْن بن جَناب المِنقريّ: وما المرءُ إلا حيث يجعلُ نفسَه ... ففي صالح الأخلاق نفسَك فاجعَلِ

وقول حُريث أبو اللّحّام: وما المرءُ إلا حيث يجعل نفسَه ... فأبصِر بعينيك امرأً حيث يعمد وقال مالك بن الريب: يقولون لا تبعَد وهم يدفنونني ... وليس مكانُ البُعد إلا مكانيا وقول هُدبة بن الخشْرم: يقولون لا تبعَد وهم يدفنونني ... وليس مكان البُعد إلا ضرائحي وقول العباس بن المطلب: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدارُ بالدار التي كنت تعلمُ وقول الفرزدق: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدارُ بالدار التي كنت تعرفُ وقول نافذ بن عُطارد: وإني لأعطي المال مَن ليس سائلاً ... ومن لم يكن يوماً ليُعطيني سُؤلي وقول الأصلع بن قصّاب: وإني لأعطي المال من ليس سائلاً ... وأُعرِض عن بادي الشّذاةِ مُليم

وقول المخضّع العبْدي: ومن يقترف خُلقاً سوى خُلقِ نفسه ... يدعْه وترجِعه إليه الرّواجع وقول الأعور الشّنّي: ومن يقترف خُلقاً سوى خُلق نفسه ... يدَعْه ويغْلبه على النّفس خيمُها وقول والبة: يا شقيقَ النّفس من أسَد ... نمتَ عن ليلى ولم أكدِ وقول أبي نواس: يا شَقيق النّفس من حكَمٍ ... نمتَ عن ليلى ولم أنم وقول حاتم: وإني لعفُّ الفقْر مشترَكُ الغِنى ... وتاركُ شكلٍ لا يوافقُه شكلي وقول جرير: وإني لعفّ الفقرِ مشتركُ الغِنى ... سريعٌ إذا لم أرضَ داري احتماليا وأشبه ذلك مما جمع اتفاق الألفاظ، وتساوي المعاني، وتماثُل الأوزن.

وأول ما يلزمُك في هذا الباب ألا تُقصِر السّرقة على ما ظهر ودعا الى نفسه دون ما كمَن، ونضح عن صاحبه؛ وألا يكون همّك في تتبّع الأبيات المتشابهة، والمعاني المتناسخة طلب الألفاظ والظواهر دون الأغراض والمقاصد، ولن تُكمِل ذلك حتى تعرفَ تناسب قول لبيد: وما المالُ والأهلونَ إلا ودائع ... ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائعُ وقول الأفوه الأوْدي: وإنما نِعمةُ قومٍ متعةٌ ... وحياةُ المرءِ ثوبٌ مُستعارُ وإن كان هذا ذكر الحياة، وذلك ذكر المال والولد، وكان أحدُهما جُعل وديعة، والآخر عارية، وتعلم أنّ قول الشاعر: وما المرءُ إلا حيث يجعلُ نفسه هو من قول الآخر: فنفسَك أكرِمها فإنّك إن تهُن ... عليك فلن تلْقى لها الدهرَ مُكرِما وحتى تتأمل هذه الأبيات فتعرف انتسابَ بعضِها الى بعض، واتصال كلّ واحد منها بصاحبه، مع افتِنان مذاهبهما، واختلاف مواقعهما، كقول زهير: وليس لمنْ لم يركب الهوْلَ بُغية ... وليس لمن قد حطّه الله حاملُ وقول حاتم: إذا أوطنَ القومُ البيوتَ وجدتَهم ... عُماةً عن الأخبار خُرْقَ المكاسبِ

وقول الآخر: خاطرْ بنفسك كي تصيبَ غنيمةً ... إن القعودَ مع العيالِ قبيح وقول الآخر: ومن يكُ مثلي ذا عيال ومُقتِراً ... من المالِ يطرحْ نفسَه كلّ مطْرَحِ وقال غيره - ويقال لسهم بن حنظلة: اعْصِ العواذلَ وارمِ الليل عن عرَض ... بذي سبيب يُقاسي لَيلَه خَببا حتى تصادِفَ مالاً أو يُقالَ فتًى ... لاقى الذي شعَب الفِتيان فانْشعَبا وقول هبيرة بن عبد مناف: إذا المرُ لم يغْشَ الكريهةَ أوشكَتْ ... حبالُ الهوينى بالفتى أن تقطّعا وقول أبي تمام: ذَريني وأهوال الزمان أعانِها ... فأهوالُه العظمى تليها رغائبُه وتعلم أن زهيراً جمع في قوله: وليس لمن لم يركب الهولَ بُغية ما بسطه هؤلاء، وأن أبا تمام زاد بأن حقق درك البُغية، وحصول المراد لا محالة؛ واقتصر زهير على التأميل؛ فلأبي تمام فضيلة التأكيد، وأن الغرض الحث على تجشّم الأهوال في الطلب، فكلما ازداد الكلامُ تأكيداً كان أبلغ. ولزهير مزيّة الصدق؛ لأن الأملَ مقرون بهذه الحال، والبغية مطلوبة؛ فأما الظفرُ الذي حكم به

أبو تمام فقد يكون، وقد يُقتَطع الطالب دونه، ويُحال بينه وبينه. وألطف من هذا التناسب، وأغمض مأخذاً ما تجده بين هذه الأبيات إذا حذفتَ عنك اعتبار أمثلتها، وأقبلت على صريح معانيها: قال بعض العرب: يهاب العديدَ الدُهْم من حيث لا يُرى ... ويخشى شَذاةَ العِزّ والعزّ غائبُ وقال أبو هفّان: أنا السيفُ يُخشى حدّه قبل هزّه ... فكيف وقد هُزّ الحُسامُ المهنّدُ وقول البحتري: ويخشى شَذاهُ وهو غيرُ مسلّط ... وقد يُتوقّى السيفُ والسيفُ في الغمدِ وقول المتنبي: تُهاب سُيوفُ الهند وهيَ حدائدُ ... فكيف إذا كان نزاريةً عُرْبا ويُرهبُ نابُ الليثِ والليثُ وحدَه ... فكيف إذا كان الليوثُ له صَحْبا ويُخشى عُباب البحرِ وهو مكانه ... فكيف بمنْ يغْشى البلادَ إذا عبّا معنى هذه الأبيات الثلاثة واحد، وإن اختلفت المعارض والأمثلة. وكاختلافها واتفاق أغراضها قول الطُفيل الغنَوي:

نجومُ سماءٍ كلّما انقضّ كوكبٌ ... بدا وانجلَت عنه الدُجنّة كوكبُ وقول أبي الطّمَحان القيْني: نجوم سماء كلّما غارَ كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكِبُه وقال أوس: إذا مُقرَم منّا ذَرا حدُّ نابه ... تخمّط منا نابُ آخرَ مُقرَم وقال الخُرَيمي: إذا قمرٌ منا تغوّر أو خَبا ... بدا قمرٌ في جانب الأفْق يلمعُ وقال أبو تمام: رأيتهُم ريشَ الجناح إذا مضت ... قوادمُ منه بشّرت بقوادِم وحتى لا يغرَّك من البيتين المتشابهين أن يكون أحدُهما نسيباً، والآخر مديحاً، وأن يكون هذا هجاءً، وذاك افتخاراً؛ فإن الشاعر الحاذق إذا علِق المعنى المختَلس عدَل به عن نوعه وصِنفه وعن وزنه ونظمه، وعن روّيه وقافيته، فإذا مرّ بالغبيّ الغُفْل وجدهما أجنبيين متباعدين، وإذا تأملهما الفَطِن الذكي عرف قرابةَ ما بينهما، والوصْلَة التي تجمعهما، قال كثيّر:

أريد لأنْسى ذكرَها فكأنما ... تمثّلُ لي ليلي بكلّ سبيل وقال أبو نواس: ملك تصوّر في القلوب مثالُه ... فكأنه لم يخْلُ منه مكان فلم يشكّ عالمٌ في أن أحدهما من الآخر، وإن كان الأول نسيباً والثاني مديحاً. وقال أبو نواس: خُليتَ والحُسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتَخِب فاكْتسَتْ منه طرائفَه ... واستزادت فضلَ ... وقال عبد الله بن مُصعَب: كأنك جئت مُحتكِماً عليهم ... تخيّرُ في الأبوّة ما تشاءُ فأحدُ البيتين هو الآخر في المعنى، وإن كان أحدُهما يتخيّر الحسن والآخر الأبوة، وإنما هما من قول بشار: خُلِقْتُ على ما فيّ غيرَ مخيّرٍ ... هواي ولو خيِّرتُ كنتُ المهذّبا ثم تناوله أبو تمام، فأخفاه فقال: ولو صورتَ نفسكَ لم تزِدْها ... على ما فيك من كرَمِ الطِّباعِ

وقد أخذ أبو نواس قول جرير: بعثن الهوَى ثم ارتمَيْن قُلوبَنا ... بأسهُم أعداءٍ وهنّ صديقُ فقال: إذا امتحنَ الدنيا لبيبٌ تكشّفتْ ... له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ وأخذ أيضاً قول أبي خِراش الهُذَلي: ولم أدرِ من ألقى عليه رِداءَه ... على أنه قد سُلّ من ماجدٍ محْض فقال - يصف شَرْباً: ولم أدرِ منه غير ما شهدت به ... بشرقيّ ساباط الدّيار البَسابِس فلم يخْفَ موضع لأخذ؛ وإن كان قد نقل الغزَل الى الزّهد، والمرثيّة الى المنادمة. ومن لطيف السّرَق ما جاء به على وجه القلب، وقصد به النقض، كقول المتنبي: أأحبّه وأحبّ فيه ملامةً ... إنّ الملامةَ فيه من أعدائه إنما نقض قول أبي الشُيص: أجد الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبّاً لذكرِكِ فليَلُمْني اللّوَّمُ

وأصله لأبي نواس في قوله: إذا غاديتني بصَبوح عذلٍ ... فممزوجاً بتسميةِ الحبيبِ فإني لا أعُدَّ اللوم فيه ... عليكِ إذا فعلتِ من الذّنوب وقول المتنبي: والجِراحاتُ عندَه نغَماتٌ ... سبقَتْ قبل سَيْبه بسؤالِ إنما ناقض به أبا تمام في قوله: ونغمةُ مُعتفٍ جدْواه أحلى ... على أذنَيْه من نغمِ السَّماعِ وقد تبعه البحتري؛ فقال: نشْوان يطربُ للسؤال كأنما ... غنّاه مالك طيئ أو معبَد وقول المتنبي: أنت نقيضُ اسمِه إذا اختلفَتْ ... قواضِبُ البيض والقَنا الذُبُل إنما هو نقيض قول أبي نواس: عباسُ عباسٌ إذا احْتدَم الوغى ... والفضلُ فضلٌ والرّبيعُ ربيعُ وقول ابن أبي طاهر:

يشترك العالَمُ في ذمّه ... لكنني أمدحه وحْدي إنما هو عكس قول أبي تمام: كريمٌ متى أمدحْه أمدحْه والورى ... معي وإذا ما لمتُه لمتُه وحْدي وهذا بابٌ يحتاج الى إنعام الفِكر، وشدّةِ البحث، وحسن النظر، والتحرّز من الإقدام قبل التبيّن، والحكم إلا بعد الثقة. وقد يغمُض حتى يخفى، وقد يذهب منه الواضح الجلي على من لم يكن مرتاضاً بالصناعة، متدرّبا بالنقد؛ وقد تحمِل العصبيةُ فيه العالِمَ على دفع العِيان، وجحْدِ المشاهدة، فلا يزيد على التعرّض للفضيحة، والاشتهار بالجَوْر والتحامل!

ادعاء السرقة في شعر البحتري وأبي نواس وأبي تمام

ادعاء السرقة في شعر البحتري وأبي نواس وأبي تمام ومتى طالعتَ ما أخرجه أحمد بن أبي طاهر وأحمد بن عمار من سرقات أبي تمام، وتتبّعه بِشْر بن يحيى على البُحتري، ومهلهل بن يموت على أبي نواس عرف قُبح آثار الهَوى، وازداد الإنصاف في عينك حسناً. زعم مهلهل أن قول أبي نواس: إليك أبا العبّاس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرَميّ المُلَسَّنا مأخوذ من قول كثيّر: لهم أزُرٌ حُمرُ الحواشي يَطَوْنَها ... بأقْدامهم في الحضرميّ الملسَّنِ والحضرمي الملسّن أشهر عند العرب من أن يُفتَقر فيه الى قول كثير أو غيره، وإنما هو صنف من نِعالهم كان مستحسناً عندهم، فما في ذِكر أبي نواس له من السرقة المعروفة شيء، ثم لو ذكر بعض شعرائنا اليماني المخصّر والكنانيّ المُطبّق، ثم وجدنا في شعر غيره، أكنّا نقول: إنه مأخوذ منه؟ أو كنا نعدّه سرقة؟ وليس بين البيتين اتّصال ولا تناسب إلا في هذه اللفظة؛ لأن كثيراً مدح قوماً فوصفهم بالمَرح والنعمة والخُيَلاء، وذكر سُبوغَ أزُرِهم، وأنهم يطئونها بنعالهم الحضْرمية المُلسّنة هَواناً بها، وقصد أبو نواس معنًى آخر فذكر أنه قصَد ممدوحه ماشياً

وامتطى نعله الحضرمية الملسّنة؛ فما أرى بينها غيرَ ما ذكرت. وزعم أن قول أبي نواس: نعزّي أميرَ المؤمنين محمداً ... على خير ميْتٍ غيّبته المقابرُ وإنّ أميرَ المؤمنين محمداً ... لَرابِطُ جأش للخُطوب وصابرُ من قول موسى شهَوات: بكتِ المنابرُ يوم مات وإنما ... أبكى المنابرَ فقدُ فارسهنّه لما علاهنّ الوليدُ خليفةً ... قلن: ابنُه ونظيرُه فسكنّه وهذا أعجبُ من الأول؛ لأنهما لم يتشابها في لفظ ولا معنى، وأكثر ما فيها أن كل واحد منهما عزّى خليفة عن أبيه ومدَحه، فإن كان هذا سرقة فالكلامُ كله سرقة؛ وإنما الذي يقاربُ قولَ موسى قول محمد بن عبد الملك يرثي المعتصم ويمدح الواثق: لن يجبرَ الله أمةً فقدتْ ... مثلَك إلا بمثلِ هارون لأنه جعل انجبارَ الأمة بعد الوهن الشديد بهارون كسُكون المنابر بالوليد بعد البُكاء على أبيه؛ وهذا أخذٌ لطيف. وقد زعم أن قوله: حبا رياب جَلهَتي ملحوبِ ... فالقُطبيّات الى الذَّنوب من قول عبيد: أقْفرَ من أهْله ملحوب ... فالقُطبيّاتُ فالذَّنوبُ وهذه أسماءُ مواضع لا معنى للسّرقة فيها، ولو كان الجمع بينها سرقة لكان إفرادها كذلك، فكان يحرم على الشاعر أن يذكرَ شيئاً من بلاد العرب. وأن قوله في الخمر:

أتت دونها الأيامُ حتى كأنها ... تساقُط نور من فُتوق سماء من قول جرير: يجري السِّواك على أغرَّ كأنه ... برَدٌ تحدّر من مُتونِ غَمامِ ولست أرى شبهاً يشتركان فيه إلا إن ادُّعي احتذاء المثال فلعلّه. وأن قوله: ترى العينَ تستَعفيك من لمعانِها ... وتحسِر حتى ما تُقلُّ جفونَها من قول الأبيرِد: وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأمر لي فيه وإن عظُم الأمر ولا أراهما اتفقا إلا في الاستعفاء، وهي لفظةٌ مشهورة مبتذَلة، فإن كانت مستَرقة فجميعُ البيت مسروق، بل جميع الشعر كذلك؛ لأن الألفاظَ منقولة متداوَلة وإنما يُدَّعى ذلك في اللفظ المستعار أو الموضوع، كقول أبي نواس: طوى الموتُ ما بيني وبين محمدٍ ... وليس لما تَطوي المنيةُ ناشرُ وقول البطَيْن البَجلي: طوى الموتُ ما بيني وبين أحبّةٍ ... بهم كنتُ أعطي ما أشاءُ وأمنعُ وكقوله: سقَتْه كفُّ الليل أكؤُسَ الكَرى وقول الآخر: سقاه الكرى كأسَ النُعاس فرأسُه ... لدِين الكَرى في آخرِ الليلِ ساجِدُ

وقوله: كدّت منادمةُ الدماءِ سيوفَه ... فلقلّما تختارُه الأجفان وقول بعض العرب: وتنادمت دُفع الدماءِ سيوفنا ... حتى اجْتوى أصحابها سُكْر القَنا وقول أبي تمام: حتى تعمّم صُلْعُ هامات الرُبى ... من دونه وتأزّرَ الأهضامُ وقول بعض الأعراب: أصبحت العُقدة صَلعاء اللِّمم ... وأصبح الأسودُ مخضوباً بدَم وقول آخر: بكى فاستملّ الشوقَ منْ في حمامةٍ ... أبت في غصونِ الأيْكِ إلا ترنّما وقول أبي تمام: وقد كاد يُنسى عهدُ ظَمياءَ باللِّوى ... ولكن أملّتْه عليه الحمائِم فأخذ أملّ من استملّ، وإن كان تهييجُ الحمام صبابةَ المشتاقِ مبتذلاً. وقول أشجع: إذا خالطَ الشيبُ الشباب تجهّزتْ ... الى البين أفراسُ الصِّبا ورواحِله

وقول زهير: صَحا القلبُ عن سلمى وأقصرَ باطلُه ... وعُرِّي أفراسُ الصّبا ورواحلُه وقول الحلاّج: نفضنا الى الموت أدْراعَنا ... كما تنفُض الأسدُ ألْبادَها وقول حسان: ويثربُ تعلمُ أنّا بِها ... أُسودٌ تنفِّضُ ألبادَها ومما ادّعاه أيضاً على أبي نواس قوله: كأنّ فخذَيه وقد ضُمَّتا ... وال ... فيه عقد عشرينا أنه مأخوذ من قول عبد بني الحسحاس: وأشهدُ بالرحمن أني رأيتُها ... وعشرين منها إصبعاً من ورائِيا وليس بين البيتين اتفاق بحال إلا في ذكر العشرين، والمعنيان شديدا التباين؛ هذا يذكرُ أنه علاها والتحفتْ عليه فعقدت يديها ورجليها فصارت أصابعها العشرون من ورائه، وأو نواس يشبّه ما ذكره بعقد عشرين، فأيّ قُرْبى أو نسب بين هذين. وشبيه بهذا ما زعم ابن قتيبة في قول هُدبة: ولا أتمنّى الشرَّ والشرُ تارِكي ... ولكن متى أحمَل على الشرِّ أركَب أنه مأخوذ من قول تأبّط شراً: ولستُ بمِفراحٍ إذا الدهر صرّني ... ولا جازعٍ من صرْفِه المتحوِّلِ

تأمّلهما فإنك ترى بينهما من التّباين ما يحظُر ادِّعاء ذلك فيهما، ولو احتمل الكتابُ استقصاءَ ما حافَت به هذه الطائفة على أبي نواس وأبي تمام والبحتري لبسطنا القولَ فيه؛ لكنه لما ضاق عنه اقتصرنا على قدْر ما أريناك به الطريقة، ووقفْناك به على المنْهج، فإن سمَتْ بك همّة، ونازعتك رغبة، فاقْتَفِ فيه هذا الأثر، وعايره بهذا المعيار فإنك لا تبعدُ عن الإصابة ما لم تمِلْ بك العصبيةُ، ويستولي عليك الهوى والمداهنة. والسَّرَق - أيدك الله - داءٌ قديم، وعيبٌ عتيق، وما زال الشاعر يستعينُ بخاطرِ الآخر، ويستمدّ من قريحته، ويعتمدُ على معناه ولفظه؛ وكان أكثره ظاهراً كالتوارد الذي صدّرنا بذكره الكلام، وإن تجاوزَ ذلك قليلاً في الغموض لم يكن فيه غيرُ اختلاف الألفاظ، ثم تسبّب المحدثون الى إخفائه بالنقل والقلب؛ وتغيير المنهاج والترتيب، وتكلّفوا جبْرَ ما فيه من النقيصة بالزيادة والتأكيد والتعريض في حال، والتصريح في أخرى، والاحتجاج والتعليل؛ فصار أحدهم إذا أخذ معنى أضاف إليه من هذه الأمور ما لا يقصر معه عن اختراعه وإبداع مثله. وقد ادّعى جرير على الفرزدق السَّرَق فقال: سيعلمُ منْ يكونُ أبوه فينا ... ومن عُرِفت قصائدهُ اجتلابا وادّعى الفرزدق على جرير فقال: إنّ استراقَك يا جريرُ قصائدي ... مثل ادّعاك سوى أبيكَ تنقُّلُ ومتى أنصفتَ علمت أن أهل عصرِنا، ثم العصر الذي بعدنا أقربُ فيه الى المعذرة، وأبعد من المذمّة؛ لأن من تقدّمنا قد استغرق المعاني وسبق إليها، وأتى على معظمها؛ وإنما يحصل على بقايا: إما أن تكونَ تُرِكت رغبةً عنها، واستهانةً بها، أو لبعدِ

مطلَبها، واعتياص مرامها، وتعذّر الوصول إليها؛ ومتى أجهَد أحدُنا نفسَه، وأعمل فكرَه، وأتْعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى يظنّه غريباً مبتدَعاً، ونظم بيت يحسبه فرداً مخترعاً، ثم تصفّح عنه الدواوين لم يُخطِئه أن يجدَه بعينه، أو يجد له مثالاً يغضّ من حُسنِه؛ ولهذا السبب أحظر على نفسي، ولا أرى لغيري بتّ الحكم على شاعر بالسرقة. وقد أحسن أحمد بن أبي طاهر في محاجّة البحتري لما ادّعى عليه السّرَق قوله: والشعرُ ظهر طريقٍ أنت راكبه ... فمنه مُنشَعِب أو غيرُ منشعِب وربما ضمّ بين الرّكب منهجه ... وألصَق الطُّنُبَ العالي على الطُنُبِ إلا أني إذا وجدتُ في شعره معاني كثيرة أجدها لغيره حكمت بأن فيها مأخوذاً لا أثبته بعينه، ومسروقاً لا يتميز لي من غيره، وإنما أقول: قال فلان كذا وقد سبقه إليه فلان فقال كذا، فأغتنم به فضيلةَ الصدق، وأسلم من اقتحام التهوّر.

سرقات المتنبي

سرقات المتنبي وهذا ما ادُّعي على أبي الطيب فيه السّرقة، وما أُضيف إليه مما عثرت به: قال أبو تمام - وقد روى هذا البيت لبكر بن النَّطاح، وقد دخل في شعر أبي تمام: ولو لم يكن في كفهِ غيرُ نفسه ... لجادَ بها فليتّق اللهَ سائلُه قال أبو الطيب: يا أيّها المُجْدَى عليهِ روحُه ... إذ ليس يأتيه لها استِجْداءُ احمَدْ عُفاتَك لا فُجِعْتَ بفَقْدِهم ... فلَتَرْكُ ما لم يأخذوا إعْطاءُ وبيت أبي تمام أو بكر بن النّطاح أملحُ لفظاً وأصحّ سبكاً. وزاد أبو الطيب بقوله: إنه يجدي عليه روحه. ولكن في اللفظ قصور، والأول نهاية في الحسن، ثم نقل المعنى عن الروح الى الجسد، فقال: لو اشتهَتْ لحْمَ قاريها لبادرَها ... خراذِلٌ منهُ في الشِّيزَي وأوصالُ وهذا هو الأول، ومن جاد بأوصاله فقد جاد بروحه، وكأنه من قول ابن الرومي: لو حزّ من جسمه لسائِلِه ... أنفَسُ أعضائِهِ لما ألِما ثم كرره وغيّره بعض التغيير فقال:

مِلت الى من يكادُ بينَكُما ... لو كُنتما السّائلَيْن ينقسِمُ ثم لاحظ هذا فأخفاه؛ وأحسن ما شاء، فقال: إنّك من معشرٍ إذا وهبوا ... ما دون أعمارِهم فقد بخِلوا فجاء به معنى مفرداً، وهو من باب السماحة بالرّوح. والغرض واحد. ومن هذا المعنى قول بكر بن النَّطاح: ولو خذلَتْ أموالُه فيضَ كفّه ... لقاسم من يرجوه شطْرَ حياته قال أبو تمام: لو حار مُرتادُ المنيّة لم يجدْ ... إلا الفِراقَ على النّفوس دَليلا قال أبو الطيب: لولا مُفارقَةُ الأحباب ما وجَدتْ ... لها المنايا الى أرواحِنا سُبُلا وقال الأعشى: لو أسندْتَ ميْتاً الى نحرِها ... عاشَ ولم يُنقَل الى قابرِ وقال أبو الطيب: فذُقْتُ ماءَ حياةٍ من مقبَّلها ... لو صابَ تُرباً لأحْيا سالفَ الأممِ

وهذا معنى متداوَل بعد الأعشى، وقد قيل فيه ما كثُر. قال أبو العباس الناشئ الأكبر: لفظي ولفظُك بالشّكوى قدِ ائتَلَفا ... يا ليتَ شِعري فقلْبانا لمَ اختَلفا قال أبو الطيب: أبدَيْتث مثل الذي أبديتُ من جزَعٍ ... ولم تجِنّي الذي أجنَنْتُ من ألَمِ والأول أملح لفظاً. قال محمد بن داود: كأنّ رقيباً منكِ يرْعى خواطِري ... وآخرَ يرعى ناظري ولساني وإنما أخذه من قول العبّاس بن الأحنف: أقامتْ على قلبي رقيباً وناظري ... فليس يؤدّي عن سواها الى قلبي قال أبو الطيب: كأنّ رقيباً منكِ سدّ مسامِعي ... نِ العذْل حتى ليس يدخُلُها عذْلُ أبو تمام: مُتواطئو عقبَيْكَ في طلبِ العُلا ... والمجدِ ثمّتَ تستوي الأقدامُ

قال أبو الطيب: رأيتُ عليّاً وابنَه خيرَ قومِه ... وهم خيرُ قومٍ واستوى الحرُّ والعبدُ وأعاده فقال: حتى يُشار إليكَ ذا مولاهُمُ ... وهمُ الموالي والخليقةُ أعبدُ قال أبو تمام: غرّبَتْه العُلا على كثرةِ الأه ... لِ فأضحى في الأقرَبين جنيبا فليَطُلْ عمرُه فلو ماتَ في مرْ ... وَمُقيماً بها لمات غريبا وقال أبو الطيب: وهكذا كنتُ في أهلي وفي وطَني ... إنّ النفيسَ غريبٌ حيثما كانا وبيتُ أبي الطيب أجودُ وأسلم، وقد أساء أبو تمام بذكر الموت في المديح، فلا حاجةَ به إليه؛ والمعنى لا يختلّ بفقده، ومن مات في بلده غريباً فهو في حياته أيضاً غريب، فأي فائدة في استقبال الممدوح بما يتطيّر منه! قال أبو تمام: كفى فقتْلُ محمد لكَ شاهد ... أنّ العزيزَ مع القضاء ذَليلُ قال أبو الطيب:

ألا إنما كانت وفاةُ محمّد ... دَليلاً على أنْ ليسَ للهِ غالبُ قال كُثير: أريد لأنسى ذكرَها فكأنما ... تمثَّلُ لي ليلَى بكلِ سبيلِ وقال أبو نواس: ملكٌ تصوّرَ في القلوبِ مثالُه ... فكأنّه لم يخلُ منه مكانُ قال أبو الطي: كذب المخبِّرُ عنك دونَك وصفُه ... منْ بالعراقِ يراك في طرْسوسا فقصّر، لأنه اقتصر على مَن بالعراق، وعمّ أبو نواس القلوب والأماكن، وبين اللفظين بوْن في الجزالة والصّحة؛ وقد كرّره واستوفى، فقال: هذا الذي أبصرتَ منه حاضراً ... مثلُ الذي أبصرتَ منه غائبا ثم مثّل فقال: كالبدرِ من حيثُ التفتّ رأيتَه ... يُهدي الى عينيك نوراً ثاقِبا قال عبد الله بن محمد المهلّبي: ما كنتَ إلا كلَجْم ميتٍ ... دعا الى أكله اضطِرارا وقال أبو الطيب: غيرَ اختيارٍ رضيتُ برّكَ بي ... والجوعُ يُرضي الأسودَ بالجيَفِ

وقريب منه قول أبي عليّ البصير: ولكنّ البلادَ إذا اقشعرّتْ ... وصوّح نبتُها رُعِي الهشيمُ ومنه قول الآخر: فلا تحمَدوني في الزيارةِ إنني ... أزورُكمُ إذ لا أرى متعلِّلا وهذا مما قدمتُ لك ذكرَه من اختلاف صور الأمثلة على المعنى الواحد. قال أبو تمام: هانت على كلّ شيءٍ فهو يسفكُها ... حتى المنازلُ والأحداجُ والإبلُ قال أبو الطيب: فما أمرّ بربْعٍ لا أسائِله ... ولا بذاتِ خِمارٍ لا تُريقُ دمي جعل أبو تمام كل شيء يسفك دمه، وجعل أبو الطيب ذات خمار تريق دمه، فاقتصر على بعض تلك الجملة. قال بشار: إذا أنشَد حمّادٌ ... فقُل أحسنَ بشّارُ وقال أبو هفّان يهجو ابن أبي طاهر: إذا أنشدكم شِعْراً ... فقولوا أحسنَ النّاسُ

وقال أبو تمام مثله في غير هذا المعنى: ومهما تكنْ من وقعَةٍ بعدُ لا تكنْ ... سوى حسَنٍ مما فعلْتَ مردَّدِ فقال أبو الطيب: أجِزني إذا أُنشِدْتَ شعراً فإنما ... بشِعري أتاك المادِحون مردَّدا وقال أبو تمام: وكانت وليس الصُبحُ فيها بأبيض ... فأمست وليس الليلُ فيها بأسودِ وقال أبو الطيب: فالليل حين قدِمتَ فيها أبيضٌ ... والصُبْحُ منذ رحلْتَ عنها أسودُ وقال أبو تمام: لبستُ سواهُ أقواماً فكانوا ... كما أغنى التّيممُ بالصّعيد قال أبو الطيب: وزارَك بي دون الملوكِ تحرّجي ... إذا عنّ بحرٌ لم يجُز لي التّيممُ

قال ابن الخياط: لمسْتُ بكفّي كفَّهُ أبتغي الغِنى ... ولم أدرِ أنّ الجودَ من كفِّه يُعدي فلا أنا منهُ ما أفادَ ذوو الغِنى ... أفدْتُ، وأعْداني فأتلَفْتُ ما عندي قال أبو تمام: علّمني جودُك السّماحَ فما ... أبقيْتُ شيئاً لديّ من صلَتِكْ وقال آخر: لستُ أُضحي مصافحاً لسلام ... إنني إن فعلتُ أتلَفْتُ مالي فنقله أبو الطيب الى الزمان، فصار كالمعنى المنفرد، فقال: أعْدى الزمنَ سخاؤهُ فسخا به ... ولقد يكون بهِ الزمانُ بخيلا وأما بخل الزمان فمن قول أبي تمام: هيْهاتَ لا يأتي الزمانُ بمثلِه ... إنّ الزمانَ بمثلِه لبَخيلُ أبو تمام: لمّا انتضيتُك للخُطوبِ كفيتَها ... والسيفُ لا يكفيكَ حتى يُنْتضى أبو الطيب: وما الصارمُ الهنديُّ إلا كغيرِه ... إذا لم يفارِقْه النِّجادُ وغمدُه

أبو تمام: فاضت سحائبُ من نَعمائه وكفَتْ ... بؤساً على البؤس حتى اجتثّتِ البؤْسا قال أبو الطيب: نقَمٌ على نِقَم الزّمان يصُبُّها ... نعَمٌ على النِّعمِ التي لا تُجحَدِ أبو تمام: كتبْتَ أوجهَهُم مشْقاً ونمنَمةً ... طعْناً وضرْباً يفُلّ الهامَ والصُّلُفا قال أبو الطيب: وكلّ فتًى للحُرب فوق جبينه ... منَ الضّرْبِ سطْرٌ بالأسنّة معجَمُ العتّابي: فإنّ جسيماتِ المعالي مشوبةٌ ... بمستَودَعاتٍ في بُطونِ الأساوِدِ أبو الطيب: تُريدين إدراكَ المعالي رخيصةً ... ولا بدّ دون الشّهْدِ منْ إبرِ النّحْل

قال أبو تمام: لا يحسَبُ الإقلالَ عُدْماً بل يرى ... أنّ المُقِلّ منَ المروءةِ معدِمُ فقال أبو الطيب - وهو منقول: وربّ مالٍ فقيراً من مروّتِه ... لم يُثرِ منها كما أثرى منَ العدَمِ أبو تمام: هم صيّروا تلك البروقَ صواعقاً ... فيهم وذاك العفوَ سوطَ عذاب قال أبو الطيب: ولما سقى الغيثَ الذي كفَروا به ... سقى غيره في تلكَ البوارِق وقد ألمّ بألفاظه فقال: ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقُه ... يزيلهُنّ الى منْ عندَهُ الدِّيَمُ فأما صريحُ المعنى فمن قول أبي تمام: فلو شاءَ هذا الدهرُ أقصرَ شرَّهُ ... كما قصُرَت عنّا لُهاهُ ونائلُهْ قال أبو تمام: تلْقى السّعودَ بوجهِه وتجيئه ... وعليك مَسحةُ بغضةٍ فتحَبَّبُ

قال أبو الطيب: فإنّك ما مرّ النّحوسُ بكوكبٍ ... وقابلْتَه إلا ووجهُك سعدُه أبو تمام: إن حنّ نجدٌ وأهلوهُ إليكَ فقد ... مررتَ فيه مرورَ العارضِ الهطِلِ أبو الطيب: وليستْ من مواطِنِه ولكنْ ... يمرّ بها كما مرّ الغمامُ أبو تمام: وأنا الفداءُ إذا الرماح تشاجرَت ... لك والرماحُ من الرماح لكَ الفِدا أبو الطيب: ولك الزمانُ من الزمانِ وقايةٌ ... ولك الحِمام من الحِمام فداءُ أبو تمام: لبسَ الشّجاعة إنها كانت له ... قِدْماً نَشوغاً في الصِّبا ولدودا أبو الطيب:

ألِفَ المروّةَ مذْ نشا فكأنّما ... سُقيَ اللّبانَ بها صبيّاً مُرضَعا أبو تمام: أيقنْتَ أنّ من السّماحِ شجاعةً ... تُدمي وأنّ من الشجاعة جودا أبو الطيب: هو الشجاع يَعدّ البُخلَ من جُبُنٍ ... وهْو الجوادُ يعدّ الجبنَ من بخَلِ وقال في أخرى: فقلت: إنّ الفتى شجاعَتُه ... تُريه في الشُحّ صورةَ الفرَقِ وقد لوحظ في هذه الأبيات قول مسلم؛ إذ بيّن أنّ الشجاعة جود بالنفس في قوله: تجودُ بالنّفس إذ ضنّ الجوادُ بها ... والجودُ بالنّفسِ أقصى غايةِ الجودِ عبد الله بن طاهر في السيف: أخو ثِقةٍ أرضاهُ في الرّوعِ صاحِباً ... وفوقَ رضاهُ أنّني أنا صاحبُهْ أبو الطيب في الرمح: وأسمَرَ ذي عِشرين ترْضاهُ وارِداً ... ويرْضاكَ في إيرادِه الخيلَ ساقِيا

وأصله من قول موسى بن جابر الحنفي، وهو من خفيّ الأخذ: فلا أسلمَتْنا عند قوم حفيظةٌ ... ولا نحنُ أغمدنا السيوفَ على وتْرِ عبد الله بن طاهر: إنّ الفتوحَ على قدرِ المُلوك وهمْ ... ماتِ الولاةِ وأقدامِ المقادير أبو الطيب: على قدْرِ أهل العزْم تأتي العزائم ... وتأتي على قدرِ الكِرام المكارمُ العباس بن الأحنف: بكت غيرَ آنسةٍ بالبُكا ... ترى الدمعَ في مُقلتَيها غريبا أبو الطيب: أتتهُنّ المصائب غافِلاتٍ ... فدمْعُ الحزنِ في دمْعِ الدّلالِ فزاد وأحسن وملح بذكر الدّلال. منصور بن الفرج: حلّ في جِسميَ ما كا ... نَ بعينيكَ مُقيما البحتري:

وكأنّ في جسمي الذي ... في ناظرَيكَ منَ السّقَمْ أبو الطيب: أعارَني سُقمَ جفنَيهِ وحمّلَني ... من الهوى ثِقلَ ما تحْوي مآزِرُه فاختصر وأحسن وأورد البيت في نصف مِصراع. أبو عُيينة: لو كما تنقُصُ تزدا ... دُ إذَنْ نلتَ السّماءَ فنقله أبو تمام: أمَا لو أنّ جهْلَكَ كان عِلْماً ... إذنْ لنفَذْتَ في عِلمِ الغُيوبِ أبو الطيب: ولو نقصْتُ كما قد زِدْتَ من كرمٍ ... على الورى لرأوْني مثلَ شانِيكا فزاد بقوله: لرأوني مثل شانيكا. قال جرير: كأن رءوسَ القومِ فوقَ رماحِنا ... غداةَ الوَغى تيجانُ كِسرى وقيصَرا مسلم: يكسو السيوفَ نفوسَ النّاكثينَ به ... ويجعلُ الهامَ تيجانَ القنا الذُّبُل

وقريب منه قول أبي تمام: أبدلْتَ أرؤُسَهم يوم الكريهة من ... قنا الظّهورِ قَنا الخطّيِّ مدَّعَما وقد عدّ هذا من سرقاتِ أبي تمام، ولست أراه كذلك؛ لأنه ليس فيه أكثر من رفع الرءوس على القنا، وهذا معنى مشترَك لا يسرق، فأما إبدالُ القَنا بقنا الظهور فلم يعرِض له مسلم ولا جرير، وهي ملاحظة بعيدة. وأقرب من ذلك إليه قول أبي تمام: من كلّ ذي لِمّةٍ غطّت ضفائرُها ... صدْرَ القناةِ فقد كادت تُرَى علَما ومثله قول أبي الطيب: مبَرْقِعي خيلِهم بالبيضِ متّخذي ... هامَ الكُماةِ على أرْماحِهم عذَبا قال البحتري: متسرّعين الى الحُتوفِ كأنها ... وفْرٌ بأرضِ عدوِّهم يُتنهَّبُ قال أبو الطيب: بكلّ أشعَثَ يلْقى الموتَ مُبتسماً ... حتى كأنّ له في قتلِه أرَبا وإنما نقل البحتري كلام أبي تمام: مُسترسلينَ الى الحُتوفِ كأنّما ... بين الحُتوفِ وبينَهم أرحامُ

وقال البحتري أيضاً: تسرّع حتى قال من شهِدَ الوغى ... لقاء أعادٍ أم لقاء حبائب ونحوه قول أبي تمام: حنّ للموتِ حتى ظنّ جاهلُه ... بأنّه حنّ مُشتاقاً الى الوطنِ فأخذه أبو الطيب فقال: مُقيمٌ من الهيجاءِ في كل منزلٍ ... كأنّك من كلِّ الصّوارمِ في أهْلِ البحتري: تعْنو لهُ وُزَراءُ المُلْكِ خاضِعَةً ... وعادةُ السيفِ أن يستخدِمَ القَلما أبو الطيب: حتى رجعْتُ وأقلامي قوائلُ لي ... المجدُ للسيفِ ليسَ المجدُ للقلَمِ اكْتُبْ بِنا أبداً بعدَ الكتابِ به ... فإنّما نحن للأسيافِ كالخدَمِ بعضهم: أُحامقُه حتى يقولَ سجيّةٌ ... ولو كان ذا عقلٍ لكُنتُ أُعاقلُهْ أبو الطيب: وخلّةٍ في جليسٍ أتّقيه بها ... كيْما يُرى أننا مِثلانِ في الوهَنِ

أبو تمام: نوالُك ردّ حُسّادي فُلولاً ... وأصْلحَ بين أيامي وبيْني وله: كثُرَت خطايا الدّهر فيّ وقد يُرى ... بنَداك وهو إليّ منها تائبُ أبو هفان: أصبحَ الدهرُ مسيئاً كله ... ما لَه إلا ابنُ يحيى حسنَهْ أبو الطيب: أزالَتْ بكَ الأيامُ عتْبى كأنّما ... بنوها لها ذنْبٌ وأنت لها عُذر النّمري: وقَفْتُ على حاليْكُما فإذا النّدىعليك أميرَ المؤمنين أميرُ أبو تمام: ألا إنّ النّدى أضحى أميراً ... على مالِ الأميرِ أبي الحسينِ أبو الطيب: أميرٌ أميرٌ عليه النّدى ... جوادٌ بخيلٌ بأنْ لا يجودا

أبو تمام: وترْكي سُرعةَ الصّدرِ اغتِباطاً ... يدلّ على موافقَة الورودِ وقال أيضاً: همَمي معلّقةٌ عليك رقابُها ... مغلولةٌ إن الوفاءَ إسار ألمّ به أبو الطيب فقال وأحسن: وقيّدتُ نفسي في ذَراك محبّة ... ومَن وجد الإحسانَ قيْداً تقيّدا وقد قال: وما قيّدت من صُعلوكِ قوْم ... بنيلِ الرّزْق تُخرِجه الرِّقاع البحتري: أضرّت بضوءِ البدرِ والبدرُ طالعٌ ... وقامت مقامَ البدرِ لمّا تغيّبا وهذا معنى متداوَل، وهو أحسنُ ما جاء فيه، وأشدّ استيفاء واختصاراً. وقال أبو الطيب فأتى بالمصراع الثاني: وما حاجةُ الأظعانِ حولَك في الدُجى ... الى قمرٍ ما واجِدٌ لك عادِمُهْ يزيد بن الطّثريّة: وليس قليلاً نظرةٌ إن نظرْتُها ... إليكَ، وكلا ليس منك قليلُ

إسحاق الموصلي: إنّ ما قلّ منكَ يكثرُ عندي ... وكثيرٌ من المحبِّ القليلُ أبو الطيب: وجودُك بالمقامِ ولو قليلاً ... فما فيما تجودُ به قليلُ بعض العرب - وهو عروة بن الورد: تقول سُليمى لو أقمْتَ بأرضِنا ... ولم تدْرِ أنّي للمُقامِ أطوِّفُ العبّاس بن الأحنف: سأطلُبُ بُعدَ الدارِ عنكم لتقرفبوا ... وتسكُب عينايَ الدموعَ لتَجمُدا أبو تمام: أآلِفةَ النّحيبِ كمِ افتِراقٍ ... ألمّ فكان داعيةَ اجتماعِ أبو الطيب: لعلّ اللهَ يجعلُه رحيلاً ... يُعينُ على الإقامة في ذَراكا بعضهم: غمضْتُ عيني لا أرى أحداً ... حتى أراهُم آخرَ الدهرِ أبو الطيب:

فلو أنّي استطعْتُ خفضْتُ طرْفي ... فلم أُبصِر به حتى أراكا أشجع: فقد كنتَ تبكي وهم جيرةٌ ... فكيفَ تكون إذا ودّعوا آخر: أبكي إذا غضبت حتى إذا رضيتْ ... بكيت عند الرّضا خوفاً من الغضبِ آخر: فتبكي إن نأى شوقاً إليه ... وتبكي إن دنا خوفَ الفِراقِ آخر: لقد كنتُ أبكي خيفةً لفِراقها ... فكيف إذا بان الحبيبُ فودّعا أبو الطيب: أرى أسفاً وما سِرْنا شديداً ... فكيفَ إذا غدا السيرُ ابتِراكا وله: بكيتُ عليها خيفةً في حياتِها ... وذاقَ كِلانا ثُكلَ صاحبِه قِدْما وقال في أخرى: ولقد بكيتُ على الشّبابِ ولمّتي ... مسودّةٌ ولِماءِ وجهيَ رونَقُ

حذَراً عليه قبلَ يوم فِراقِه ... حتى لكدْتُ بماءِ دمعيَ أشرَقُ بشار: يا أطيب الناس ريقاً غير مُختبَرٍ ... إلا شهادة أطراف المساويك أبو الطيب: ويمنعُ ثغرَهُ من كل صبٍّ ... ويمنحُه البشامةَ والأراكا عمْران بن حِطّان: أنكرتُ بعدَك مَن قد كنتُ آلفُه ... ما النّاس بعدَك يا مرداسُ بالناسِ قال أبو الطيب: ومن أعتاضُ عنكَ إذا افترَقْنا ... وكلّ الناسِ زورٌ ما خَلاكا وله في أخرى: إنما الناسُ حيثُ أنت وما النّا ... سُ بناسٍ في موضعٍ منكَ خالِ فتبرّد وبالغ. أبو تمام:

لا أظلِمُ البينَ قد كانت خلائِقُها ... من قبلِ وشْك النّوى عندي نوًى قُذُفا وله: ففِراقٌ جرَعْتُه من فِراقٍ ... وفراقٌ جرعْتُه من صُدودِ البحتري: على أنّ هجرانَ الحبيبِ هو النّوى ... لديّ وعِرفانَ المُسيءِ هو العذلُ قال أبو الطيب: أبعَدُ نأْي المليحةِ البخَلُ ... في البُعدِ مالاً تكلَّفُ الإبلُ فاستوفى المعنى وأكّده في مصراع واحد. وقد أحسن إبراهيم بن العباس في هذا المعنى بقوله: وإنّ مُقيماتٍ بمنقَطَع اللِّوَى ... لأقرَبُ من ليْلَى وهاتيكَ دارُها ابن الرومي: شكرَتْ نعمةَ الوليّ على الوسْ ... ميّ ثمّ العِهادِ بعدَ العِهادِ فهيَ تُثني على السّماءِ ثناءً ... طيّبَ النّشرِ شائعاً في البِلادِ من نسيمٍ كأنّ مسراه في الأر ... واحِ مسرَى الأرواحِ في الأجسادِ أبو الطيب:

وذكيُّ رائحةِ الرّياض كلامُها ... تبغي الثّناءَ على الحيا فتفوحُ بعضهم: اعدد ثلاثَ خِلالِ قد جُمعن له ... هل سُبّ من أحد أو سَبّ أو بَخِلا أبو الطيب: ولكنْ نفاها عنهُ غيرَ كريمةٍ ... كريمُ النّثا ما سُبّ قطُّ ولا سَبّا أبو تمام: لقد بثّ عبدُ الله خوفَ انتقامِه ... على الليلِ حتى ما تدبُّ عقاربه فنقله أبو الطيب فقال: تصُدّ الرياحُ الهوجُ عنها مخافةً ... وتفزَعُ فيها الطيرُ أن تلقُطَ الحبّا محمود الورّاق: إذا أنتَ لم تسْلُ اصطِباراً وحِسبةً ... سلوْتَ على الأيام مثلَ البهائم أبو تمام: أتصبِرُ للبَلْوى عزاءً وحِسبةً ... فتُؤجرَ أم تسْلو سُلوّ البهائم

وقال أبو الطيب: وللواجِد المكروبِ من زفَراتِه ... سُكونُ عَزاءٍ أو سُكون لُغوبِ بعضهم: إني رأيتُك في نومي تُعانقُني ... كما تعانقُ لامُ الكاتبِ الألِفا ألمّ به أبو الطيب فقال: دون التّعانُق ناحلَينِ كشَكلَتيْ ... نَصبٍ أدقّهُما وضَمّ الشّاكِلُ فكأنه معنى مفرد؛ ولئِن أخذه منه كما يزعمون فما عليه معْتب؛ لأن التعبَ فيه ونقْلَه لا ينقص عن التعب في ابتدائه. أبو تمام: وإن نجِدْ علّةً نُغَمّ بها ... حتى ترانا نُعادُ من مرضِهْ علي بن الجهم: وإذا رابكُم من الدهرِ ريبٌ ... عمّ ما خصّكُم جميعَ الأنامِ أبو هفّان: قالوا اعتلَلْتَ فقلتُ ك ... لاّ إنما اعتلّ العِبادُ أبو الطيب:

وما أخصُّك من بُرءٍ بتهنئةٍ ... إذا سلمْتَ فكل الناسِ قد سلِموا وله: إذا اعتلّ سيفُ الدولة اعتلّتِ الأرضُ ... ومن فوقَها والبأسُ والكرَمُ المحضُ علي بن الجهم - في السحاب: إذا أوقِدَت نارُها بالعراق ... أضاءَ الحجازَ سنا نارِها نقله أبو الطيب الى السيف، فقال: سلّهُ الرّكضُ بعد وهْنٍ بنجدٍ ... فتصدّى للغيثِ أهلُ الحجازِ يعقوب بن الربيع يرثي جارية له تسمى ملكاً: يا مَلْكُ إن كنتِ تحت الأرضِ باليةً ... فإنني فوقَها بالٍ منَ الحزَنِ أبو الطيب: بنا منكَ فوق الرّملِ ما بكَ في الرّمل ... وهذا الذي يُضْني كذاكَ الذي يُبْلي محمد بن وهْب: وحارَبَني فيه ريْب الزمان ... كأنّ الزّمانَ لهُ عاشِقُ

البحتري: قدْ بيّن البينُ المفرِّقُ بيننا ... عِشْقَ النّوى لربيبِ ذاك الرّبرَب أبو الطيب: مَلامُ النّوى في ظُلمِها غايةُ الظُلْمِ ... لعلّ بها مثلَ الذي بي منَ السُقْمِ فلو لم تغَرْ لم تزْوِ عنّي لقاءَكُمْ ... ولو لم تُرِدْكُم لم تكُن فيكُمُ خصْمي أبو تمام: أقولُ وقد قالوا استراحَ لموتِها ... من الكرْبِ روحُ الموتِ شرٌ من الكرْبِ وقريب منه قوله: أجارَك المكروهُ من مثلِه ... فاقِرةٌ نجّتكَ من فاقِرَهْ أبو الطيب: ولمْ يُسلِها إلا المَنايا وإنما ... أشدُّ من السُقْمِ الذي أذهبَ السُقْما حاتم، ويروى لربيعة بن مِرداس: متى ما أتى يوماً الى المالِ وارِثي ... يجدْ ملءَ كفٍّ غير مَلأى ولا صِفْرِ يجدْ فرساً ملءَ العِنان وصارِماً ... حُساماً إذا ما هُزّ لم يرْضَ بالهَبْرِ

وأسمرَ خطّياً كأنّ كُعوبَه ... نَوى القسْبِ قد أرْبى ذِراعاً على العَشْرِ امرأة من العرب: مضى وورِثناهُ دَريس مُفاضةٍ ... وأبيضَ هِندياً طويلاً حمائِلُهْ عروة بن الورد: وذي أملٍ يرجو تُراثي وإنّ ما ... يصيرُ له منْه غداً لَقليلُ وماليَ مال غير دِرْع ومِغفَر ... وأبيض من ماء الحديد صَقيلُ وأسمرُ خطّيُّ القناةِ مثقّفٌ ... وأكردُ عُريان السّراةِ طويلُ أبو الطيب: كنّا نظنّ ديارَهُ مملوءةً ... ذهباً فمات وكلّ دارٍ بلْقَعُ وإذا المكارمُ والصّوارمُ والقنا ... وبناتُ أعوجَ كلُّ شيء يجمَعُ الفرزدق: وهمْ قادوا سَفيهَهُم وخافوا ... قلائدَ مثلَ أطواقِ الحمامِ

ابن هرْمة: عقدْتُ من مُلتَقى أوداج لَبّته ... طوقَ الحمامة لا يبْلى على القِدَم بعضهم: وهنّ إذا وسمتَ بهنّ قوماً ... كأطْواقِ الحمائم في الرّقابِ أبو الطيب: أقامتْ في الرِّقاب له أيادٍ ... هي الأطواقُ والناسُ الحمامُ وهذا من المبتذل الذي لا يعد سرقة إلا بزيادة تلحقه، وزيادة أبي الطيب فيه حسنة بديعة، ولأجلها ذكرتُ الأبيات. محمود الوراق: كفاكَ بالشّيبِ ذنْباً عند غانيةٍ ... وبالشّبابِ شفيعاً أيها الرجلُ أبو نواس في الشباب: كان المشفّع في مآربه ... عند الفتاةِ ومدرِك القبل النمري: وإذا توسّل بالشّباب أخو الهَوى ... ألْفاهُ نِعمَ وسيلةُ المتوسِّل أبو الطيب: وغضْبَى من الإدْلالِ سكْرى من الصِّبا ... شفعْتُ إليها من شبابي بريِّقِ والمعنى مبتذل.

بكر بن النطّاح: ولو لم يجر في العُمر قسمٌ لمالكٍ ... وجاز له الإعطاءُ من حسناتِه لجادَ بها من غيرِ شِركٍ بربِّه ... وأشْركَنا في صوْمِه وصلاتِه أبو الطيب: ولو يمّمتَهُم في الحشرِ تجْدو ... لأعطَوْكَ الذي صلّوا وصاموا وهذا معنى مليح. ولفظ ابن النطاح أحسن، وله زيادة قوله: من غير شِرْك بربه، وفيه نفي التهمة في الاستهانة بالأعمال الصالحة، ولأبي الطيب فضيلة ذكر الحشْر؛ لأنه خصّ الوقت الذي يظهر فيه الافتقار الى الحسنات، والضنّ بها؛ وأصلُه لأبي العتاهية، قال: فمَن لي بهذا؟ ليت أني أصبْتُه ... فقاسَمتُه مالي من الحسَنات أبو خِراش: فإذا وذلك ليسَ إلا ذكْره ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعَل متمّم بن نويرة: فلمّا تفرّقْنا كأني ومالكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا عليّ بن جبَلة: شبابٌ كأنْ لم يكن ... وشيب كأنْ لم يزَلْ

وما أملح ما قال البحتري في قريب من هذا المعنى: فلا تذْكُرا عهدَ التّصابي فإنّه ... تقضّى ولم يشعُرْ به ذلك العصرُ أبو الطيب: ذكرْتُ به وصْلاً كأنْ لم أفُزْ به ... وعيشاً كأني كنتُ أقطعهُ وثْبا فأما المصراع الثاني فمن قول الهذلي: عجبتُ لسعي الدهر بين وبينكم ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهرُ فجعل أبو الطيب السعيَ وثْباً. وقد ملح في اللفظ علي بن جبلة: وأرى الليالي ما طوتْ من قوّتي ... زادَتْه في عقلي وفي أفهامي ابن المعتز: وما يُنتَقصْ من شباب الرجال ... يزِد في نُهاها وألبابِها فقلبه أبو الطيب فقال: ليتَ الحوادثَ باعَتْني الذي أخذتْ ... مني بحِلمي الذي أعطتْ وتجريبي فما الحداثةُ من حِلمٍ بمانِعةٍ ... قد يوجَدُ الحِلمُ في الشُبّان والشّيبِ وقد اقتدى في قوله بأبي تمام في قوله: حلّمتني زعمتمُ وأراني ... قبل هذا التحليم كنتُ حليما

فجمع هذا المعنى الى المعنى الأول ببيتيه. علي بن جبلة: قمر نمّ عليه نورُه ... كيف يُخفي الليل بدراً طلَعا أبو الطيب: أمنَ ازديارَكِ في الدُجى الرُقَباءُ ... إذ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ دِعبل: تلك المساعي إذا ما أخّرتْ رجلاً ... أحبّ للناس عيباً كالذي عابَه كذاك من كان هدمُ المجد غايتَه ... فإنه لبُناةِ المجد سبّابَه أبو تمام: وذو النّقْص في الدنيا بذي الفضلِ مولَعُ مروان بن أبي حفصة: ما ضرّني حسدُ اللّئام ولم يزلْ ... ذو الفضل يحسُده ذوو التّقصير غيره: وأجرأ مَن رأيت بظهر غيب ... على عيبِ الرجال ذوو العُيوب أبو الطيب: والحُرّ ممتحَنٌ بأولادِ الزِّنى

ومثله له: تُعادينا لأنّا غيرُ لُكْنٍ ... وتُبغضُنا لأنّا غيرُ عور ثم نقله وزاد فيه وغيّره فأحسن: وإذا أتتْك مذمّتي من ناقصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأني كامِلُ ومن هذا المعنى قول الطّرمّاح: لقد زادَني حباً لنفسيَ أنّني ... بغيضٌ الى كل امرئ غيرِ طائل وإني شقيٌ باللّئام ولن ترى ... شقياً بهم إلا كريمَ الشمائل أبو سعيد المخزومي: قوم إذا أخذوا عليك ثنيّة ... ضاقت عليك سهولُها ووعورُها أبو الطيب: أخذت على الأرواح كل ثنيّةٍ ... من العيشِ تعطي ما تشاء وتمنعُ قد أخرج هذا في سرقاته وما أراه منها؛ لأن أخذ الثنية لفظة مستعملة عند العرب. المخزومي: أمَلي في التاج ألبَسه ... وله في الشعر آمال أبو الطيب:

وشُغلُ النفسِ عن طلَب المعالي ... ببيعِ الشّعر في سوقِ الكسادِ النمري: ومصلتات كأنّ حقداً ... بها على الهام والرّقاب أبو تمام: كأنها وهي في الأوداجِ والغةٌ ... وفي الكُلَى تجدُ الغيظَ الذي تجِد أبو الطيب: تحمي السيوفُ على أعدائِه معهُ ... كأنّهنّ بنوهُ أو عشائِرُه أبو عطاء السندي: عشية قامَ النائحاتُ وسُقّقَتْ ... جُيوبٌ بأيدي مأتَم وخُدودِ أبو تمام: شقّ جَيْباً من رجالٍ لو اس ... طاعوا لشقّوا ما وراءَ الجُيوبِ أبو الطيب: عليْنا لك الإسعادُ لو كان نافعاً ... بشقّ قلوبٍ لا بشقّ جُيوبِ

الفرزدق: وما وامَرَتْني النفسُ في رحلة الى ... جَدا أحدٍ إلا إليك ضميرُها أبو نواس: وإن جرتِ الألفاظُ يوماً بمَدحةٍ ... لغيرِك إنساناً فأنت الذي نعْني أبو الطيب: وظنّوني مدحتُهُم قديماً ... وأنت بما مدحتُهم مُرادي أبو تمام: مُقيمُ الظنّ عندَك والأماني ... وإن قلقَتْ ركابي في البلادِ أبو الطيب: وإني عنكَ بعدَ غدٍ لغادٍ ... وقلبي عن فِنائِكَ غيرُ غادِ أبو تمام: وما سافرْت في الآفاق إلا ... ومن جدواكَ راحلتي وزادي أبو الطيب: محبُّكَ حيثُما اتّجهتْ ركابي ... وضيفُك حيثُ كنتُ من البلادِ وهذا من أقبح ما يكون من السّرَق، لأنه يدل على نفسه باتفاق المعنى والوزن والقافية، ومثل المصراع الأول لأبي الطيب وهو محتذ قول البحتري:

متى ما أسيّر في البلاد ركائبي ... أجد سائقي يهوي إليك وقائدي وقد لاحظ أبو تمام قول المثقّب: الى عمْرو ومن أثنى عليه ... أخي النّجدات والحِلْم الرّزين أبو تمام: له منظرٌ في العينِ أبيضُ ناصعٌ ... ولكنّه في القلبِ أسودُ أسفَعُ أبو الطيب: ابعَدْ بعِدْتَ بياضاً لا بياضَ له ... لأنْت أسودُ في عيني من الظُلَمِ أبو دُلَف: وكلّ يومٍ أرى بيضاءَ قد طلعتْ ... كأنّما طلعتْ في ناظرِ البصَر أبو الطيب: إذا لحظَتْ بياضَ الشيبِ عيْني ... فقد وجدَتْهُ منها في السّوادِ أبو تمام: أثافٍ كالخُدودِ لُطمْنَ حُزناً ... ونُؤيٌ مثلُ ما انقصَم السِّوارُ أبو الطيب:

ونؤِيٍّ كأنّهنّ عليه ... نّ خِدامٌ خُرسٌ بسوق خِدالِ نقل اللفظ من السوار الى الخِدام، وقد أحسن أبو تمام بقوله: مثل ما انقصم السوار؛ لأن النؤي لا تستدير بالبيت إلا وفيه فرج، وربما كان من أحد الجوانب تعريج، فهو كالسوار المنقصم. وقصّر أبو الطيب عنه في هذا الوجه، وإنما جعلها خُرساً، وجعل السوق خِدالاً؛ لأنها إذا كانت لاصقة بالبيوت، فهي كأنما تضغطها ضغطة الخدمة الساق الخدلة، وإذا كانت كذلك فهي خُرس، لأنها لا تتحرك فتصوّت؛ وإنما أخذه أبو تمام من قول الأول: نُؤْيٌ كما نقصَ الهِلال محاقُهُ ... أو مثلُ ما قصَم السّوارَ المعصَمُ أحمد بن أبي فنن: حان الرّحيلُ وقد أولَيْتَنا حسناً ... والآن أحوجُ ما كُنّا الى زادِ أبو الطيب: وقد نظرْتُك حتى حان مرتحَلٌ ... وذا الوَداعُ فكُن أهلاً لما شِيتا أبو تمام: فرُدّتْ علينا الشمسُ والليلُ راغمٌ ... بشمسٍ لهمْ من جانبِ الخِدرِ تطلُع أبو الطيب: رأتْ وجْه من أهْوى بليلٍ عواذِلي ... فقلنَ نرى شمساً وما طلع الفجرُ

البحتري: ولم ألْقَ في رنْقِ الصّرى لي مورِداً ... فحاولْتُ وِرْدَ النّيلِ عند احتِفالِه أبو الطيب: قواصِدَ كافورٍ توارِكَ غيرِه ... ومن قصد البحرَ استقلّ السّواقيا وهذا مصراع نادر، مستوفي المعنى سائر المثَل البحتري: وأشهدُ أني في اختِياريكِ دونهمْ ... مؤدًّى الى حظّي ومتّبع رُشدي أبو الطيب: وما شئتُ إلا أن أدُلّ عواذِلي ... على أنّ رأيي في هَواك صوابُ وأعلِمَ قوماً خالفوني وشرّقوا ... وغرّبْتُ أني قد ظفِرْتُ وخابوا البحتري: إذا سار كفّ اللحْظِ عن كل منظر ... سواه وغضّ الطرْف عن كل مُسمع فلستَ ترى إلا أفاضة شاخص ... إليه بعينٍ أو مشيرٍ بإصبَع أبو الطيب: بمَنْ تشخَصُ الأبصارُ يومَ رُكوبه ... ويُخرَقُ من زحْمٍ على الرّجلِ البُردُ وتُلقي وما تدري البنانُ سلاحَها ... لكثرة إيماء إليه إذا يبدو

فأكد المعنى وزاد فيه، كأنه اقتبس معنى البيت الثاني من قوله تعالى: (فلمّا رأينَه أكبَرْنَه) . البحتري: تقاذَفُ بي بلادٌ عن بلادٍ ... كأنيَ بينها عيرٌ شَرودُ بعضهم: كأني قذًى في عين كلّ بلادِ أبو الطيب - وهو منقول الى معنى آخر كالمفرد: يُخيَّل لي أنّ البلاد مسامِعي ... وأني فيها ما تقولُ العواذِلُ أشجع: وعلى عدوّك يا بنَ عمّ محمدٍ ... رصَدانِ: ضوءُ الصُبْحِ والإظلامُ فإذا تنبّه رُعْتَه وإذا غفا ... سلّتْ عليه سُيوفَك الأحلامُ أبو الطيب: يرى في النوم رمحَك في كُلاه ... ويخشى أن يراهُ في السُهاد فقصّر في ذكر السُهاد؛ لأنه أراد أن يقابل بها النوم، وبذلك يتم المعنى، وليس كل يقظة سهاداً؛ إنما السهاد امتناع الكرى في الليل، ولا يسمى المتصرف في حاجاته بالنهار ساهداً وإن كان مستيقظاً، وقد جاء به في بيت آخر فقال: وكلّما حلمَت عذراءُ عندَهُم ... فإنما حلمَت بالسّبي والجمَل

وإنما ذكر الجمل؛ لأن الروم لا تعرفه إلا إذا غزاها المسلمون، فهم أشد شيء فرَقاً منه ونفاراً عنه. أبو تمام: شابَ رأسي وما رأيت مشيب الرّ ... أسِ إلا من فضلِ شيبِ الفؤادِ وهو مما استقبح من استعاراته، وزعموا أنه لما أنشد ذلك بحضرة أحمد بن أبي دؤاد قال من حضر: وكيف يشيب الفؤاد؟ فقال ارتجالاً: وكذاك القلوب في كل بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائع الأجسادِ فقال أبو الطيب - ونقل شيب الفؤاد الى الكبد: إلا يشِبْ فلقد شابَت له كبدٌ ... شيْباً إذا خضّبته سَلوةٌ نَصَلا قال أبو نواس: وليس على الله بمُستَنكرٍ ... أن يجمَع العالَمَ في واحِدِ وكرره فقال: متى تحُطي إليه الرحلَ سالمة ... تستجمعي الخلْق في تمثال إنسان قال أبو الطيب: هديّةٌ ما رأيتُ مُهديَها ... إلا رأيتُ العِبادَ في رجُلِ ثم كرره فقال:

أَمِ الخلقُ في شخص حيّ أُعيدا ومثل قوله: ومنزلُك الدُنيا وأنتَ الخلائِقُ وكرر وزاد فقال: ولقيتُ كل الفاضِلين كأنّما ... ردّ الإلهُ نفوسَهم والأعصُرا ومن مليح ما يشاكل هذا قوله: نُسِقوا لنا نسْقَ الحساب مقدَّماً ... وأتى فذلك إذ أتيتَ مؤخَّرا فعلل وشبه، وأوضح المعنى بذكر الحساب واجتماع أعداده في الفذْلكة، وهو قريب من قوله في أخرى: مضى وبنوه وانفردْتَ بفضلهم ... وألفٌ إذا ما جُمِّعتْ واحدٌ فرْدُ فجعل الألف واحداً فرداً، يجمع ما تحته من الأعداد؛ كجمع هذا فضائل آبائه وهو فرد، كجمع الفذلكة ما تقدمها من تفضيل الحساب. أبو تمام:

أفي الحقِّ أن يُضحي بقلبيَ مأتمٌ ... من الشوقِ والبلْوى وعيني في عرْسِ أبو الطيب: حشايَ على جمْرٍ ذكيّ من الهَوى ... وعينايَ في روضٍ من الحسن ترتَع وهو نحو قول العباس بن الأحنف: إذا زرت شمساً تستضيء بشمسِه ... فقلبك مغبونٌ وطرْفُك رابحُ ومن هذا قول أبي الطيب، وقد أحسن: فإني قد وصلْت الى مكانٍ ... عليه تحسُدُ الحدَقَ القلوبُ البحتري: سُلِبوا وأشرقَتِ الدماءُ عليهمُ ... محمرّةً فكأنّهم لم يُسلَبوا وهو من قول بعض العرب: وفرّقْت بين ابني هُشيمٍ بطعنة ... لها عائدٌ يكسو السّليبَ إزارا فنقله أبو الطيب الى السيف، فقال: يبسَ النّجيعُ عليه وهْو مجرّدٌ ... من غِمدِه فكأنّما هو مُغمَدُ البحتري - وهو معنى مبتذل كثير: ولو أنّ الجبالَ فقدْن إلْفاً ... لأوشَكَ جامدٌ منها يذوبُ

أبو الطيب: ولو لقيتْ صمُّ الجبالِ الذي بنا ... غداةَ افترقْنا أوشكتْ تتصدّعُ البحتري: لا يتمطّى كما احتاجَ البخيلُ ولا ... يُحب من مالِه إلا الذي يهَبُ أبو الطيب: إذا حاز مالاً فقدْ حازَه ... فتًى لا يُسرّ بما لا يهَبْ البحتري: وإذا اجتداه المجتَدون فإنّه ... يهَبُ العُلا في نيلِه الموهوبِ أبو الطيب: إذا كسبَ الناسُ المعالي بالنّدى ... فإنّك تُعطي في نداك المعالِيا البحتري: ملكٌ له في كل يومِ كريهةٍ ... إقدامُ غِرٍّ واعتِزامُ مجرِّبِ

أبو تمام: ومجرِّبون سقاهمُ من بأسِه ... فإذا لُقوا فكأنهم أغمارُ وله: كهلُ الأناةِ فتى الشّذاةِ إذا غدا ... للحربِ كان الماجِدُ الغِطريفا أبو الطيب: تدبيرُ ذي حُنَكٍ يفكِّر في غدٍ ... وهجومُ غِرٍ لا يخاف عواقِبا وقد قالوا: إن الأصل فيه قول قَطري بن الفُجاءة: ثم انثنيت وقد أُصبتُ ولم أصِبْ ... جذَع البصيرة قارح الإقدام وليس هو عندي كذلك؛ لأن قطرياً زعم أن إقدام قارح، وبصيرَته بصيرة جذَع، والقارح أتم سناً من الجذع. وهؤلاء زعموا أن إقدامهم إقدام غِرّ، وتجاربهم تجارب كهلٍ محنّك؛ فهو ضد ذلك المعنى، اللهم إلا أن يُقال قلَبه؛ فلا يبعد ذلك عن الصواب. أبو نواس: جُدت بالأموال حتى ... قيل ما هذا صحيحُ

وقال: جاد بالأموالِ حتى ... حسِبوه الناسُ حُمْقا أبو تمام: ما زال يهذي بالمكارِمِ والنّدى ... حتى ظننّا أنه محمومُ فتناول معنى بارداً، وغرضاً فاسداً، فأكده وأضاف الى الحمى الهذيان. وقال البحتري: إذا معشر أصابوا السماح تعسّفت ... به همةٌ مجنونة في ابتذالها وقال آخر في قريب من هذا المعنى: بطل تناذره الكُماة كأنه ... مما يدلّ على الفوارس أحمقُ وأصله من قول العنبري: ما كان يُعطي مثلَها في مثلِه ... إلا كريمُ الخيمِ أو مجنونُ فقال أبو الطيب: حتى يقولَ الناسُ ماذا عاقِلاً ... ويقول بيتُ المالِ ماذا مُسلِما قال أبو العتاهية: وإن نحن لم نبغِ معروفَه ... فمعروفُه أبداً يبتَغينا

أبو تمام: تكادُ مغانيه تهشّ عِراصُها ... فتركبُ من شوقٍ الى كلّ راكبِ وله: وفدتْ الى الآفاق من نفَحاتِه ... نعمٌ تسائلُ عن ذوي الإقْتار وله: فإن لم يفِد يوماً إليهنّ طالبٌ ... وفدْن الى كلّ امرئٍ غير طالِبِ أبو الطيب: قَيلٌ بمنبجَ مثْواهُ ونائلُه ... في الأفْقِ يسألُ عمّن غيرَهُ سألا ثم كرره فقال: وأنفسُهم مبذولةٌ لوفودِهم ... وأموالُهم في دارِ من لم يفِد وفْدُ ثم كرره فزاد وأحسن، فقال: وعطاء مالٍ لو عداهُ طالبٌ ... أنفقتَه في أن تُلاقي طالِبا لبعضهم في طاهر بن الحسين: عجبتُ لحرّاقةِ ابنِ الحسيْ ... نِ لا غرقت كيف لا تغرَقُ وبحرانِ: من فوقِها واحد ... وآخر من تحتها مُطبِقُ وأعجبُ من ذاك عيدانُها ... وقد مسّها كيفَ لا تورِقُ

قال أبو الطيب: وعجبتُ من أرض سحابُ أكفِّهم ... من فوقِها وصخورُها لا تورِق وأصله من قول أبي صخْر الهذَلي، وإن كان في النسيب: تكادُ يدي تندى إذا ما لمستها ... وينبُتُ من أطرافها الورقُ النّضرُ بشار: أو كبدْر السّماء غير قريب ... حين يوفي والضوء منه قريب أبو عيينة: وقلت لأصحابي هي الشمسُ ضوءها ... قريبٌ ولكنْ في تناوُلِها بُعدُ الطّرمّاح: أنا الشمسُ لما أن تغيّب ليلُها ... وغرتْ فما تبدو لعينٍ نجومُها تراها عيونُ الناظرينَ إذا بدت ... قريباً ولا يسطيعُها مَن يرومُها أبو الطيب: كأنها الشمسُ يُعيي كفّ قابضِها ... شُعاعها ويراه الطّرفُ مُقتَربا أبو تمام: قريبُ النّدى نائي المحلّ كأنه ... هِلالٌ قريبُ النّور ناء منازله

البحتري: كالبدرِ أفرطَ في العُلوّ وضوءه ... للعُصبة السّارين جدُّ قريبِ أبو الطيب: كالشمسِ في كبدِ السماء وضوءها ... يغْشى البلاد مشارقاً ومغارِبا العباس بن الأحنف: نعمةٌ كالشمسِ لما طلعتْ ... بثّتِ الإشراقَ في كلّ بلد البحتري: عطاء كضوءِ الشمس عمّ فمغرِبٌ ... يكون سواءً في سناهُ ومَشرقُ أبو الطيب: كالبدرِ من حيثُ التفتّ رأيتَه ... يُهدي الى عينيكَ نوراً ثاقبا أبو تمام: مضَوا وكأن المكرُمات لديهمُ ... لكثرةِ ما أوصوا بهنّ شرائعُ ثم قلبه فقال: جودٌ تدين بحُلوهِ وبمرّه ... فكأنه جزءٌ من التوحيدِ أبو الطيب:

كأن سخاءَك الإسلامُ تخشى ... متى ما حُلْتَ عاقبةَ ارتِداد العوام بن سوذب الشيباني: ولو أنها عُصفورة لحسِبتها ... مسوّمةً تدعو عُبيداً وأزْنَما جرير: ما زال يحسِب كل شيء بعدهُم ... خيلاً تكرّ عليهمُ ورِجالا عُروة بن عُتبة الكلابي: إذ تحسِب الشّجراء خلف ظهورنا ... خيلاً وأن أمامنا الصحراء أبو نواس في غير هذا المعنى: فكل كفٍ رآها ظنها قدَحاً ... وكل شخص رآه ظنه الساقي أبو الطيب: وضاقت الأرض حتى كان هاربُهم ... إذا رأى غيرَ شيء ظنّه رجُلا فبالغ حتى أحال وأفسد المعنى. البحتري: جلّ عن مذهبِ المديح فقد كا ... دَ يكون المديحُ فيه هجاء

المتنبي: تجاوز قدْر المدْح حتّى كأنه ... بأحسنِ ما يُثنى عليه يُعابُ ونحوه له: وعُظمُ قدرِك في الآفاق أوهمني ... أني بقلّةِ ما أثنيْتُ أهجوكا وكرره فقال: وكان مَنْ عدّد إحسانَه ... كأنه أسرفَ في سبِّه بعضهم - في وصف عقعَق: يقلِّبُ عينين في رأسِه ... كأنّهما قطْرَتا زئبَقِ أبو الطيب: أدرْن عُيوناً حائراتٍ كأنها ... مركّبةٌ أحداقُها فوقَ زئبقِ الفرزدق: جُعلتَ لأهل الأرض عدلاً ورحمة ... وبُرءاً لآثار الجروح الكَوالِم كما بعث الله النبيّ محمداً ... على فترة والناس مثلُ البَهائم أبو الطيب: مثل ما أحدث النبوّة في العا ... لمِ والبعثَ حين شاع فسادُهْ

البحتري: في كل مشرفةٍ حصاها لؤلؤٌ ... وتُرابُها مسكٌ يُشابُ بعنبَر أبو الطيب: وليلاً توسّدْنا الثؤيّة تحته ... كأن ثراها عنبر في المفارِق بلادٌ إذا زار الحسانَ بغيرِها ... حصا تُربِها ثقّبْنَه للمخانِقِ البحتري: ملكٌ بعاليةِ العِراق قبابُه ... يقْري البُدورَ بها ونحنُ ضُيوفهُ المتنبي: ومللتُ نحر عِشارِها فأضافَني ... من ينحَر البدرَ العِشار لمن قَرى عمر بن أبي ربيعة: ألقى عصاه وأرخى من عِمامَتِه ... وقال: ضيف فقلت: الشيبُ؟ قال: أجلْ آخر في الشيب: أهلاً وسهلاً بضيفٍ نزلْ ... وأستودِعُ الله إلفاً رحلْ أبو الطيب - وهو مبتذل:

ضيفٌ ألمّ برأسي غير محتشِم ... والسيف أحسنُ فِعلاً منه باللّمَمِ والمصراع الثاني من قول البحتري: ودِدْتُ بياضَ السيفِ يومَ لقينَني ... مكان بياضِ الشّيبِ حلّ بمفرِقِ عبد الله بن محمد المهلّبي: يا ذا اليمين لم أزُرْك ولم ... أصحبك من خَلّة ولا عدَمِ زارتْك بي همّةٌ منازعةٌ ... الى جسيمٍ من غاية الهِمَم أبو تمام: ونادبٌ رفعةً قد كنتُ آملُها ... لديك لا فضةً أبكي ولا ذهبا وقال يزيد بن محمد المهلّبي في معناه وأحسن: لم تزرني أبا علي سِنو الجدْ ... بِ وعندي بعدَ الكَفاف فضولُ غير أني باغي الجَليلِ من الأمْ ... ر وعند الجليل يُبْغى الجليلُ أبو تمام: ومن خدَم الأقوام يرْجو نوالَهُم ... فإني لم أخدُمك إلا لأُخدَما أبو الطيب: وما رغبتي في عسجَدٍ أستَفيدُه ... ولكنها في مَفخَرٍ أستجدّه وله:

فسِرْتُ إليكَ في طلب المعالي ... وسار سوايَ في طلبِ المعاشِ عبد الله بن المهلّب: فهلْ لك في الإذْن لي راضياً ... فإني أرى الإذنَ غُنْماً كبيرا أبو الطيب: إذنُ الأمير بأن تسير إليهمُ ... صلةٌ تسيرُ بذكرِها الأشعارُ العباس بن الأحنف: فما بكيتُ ليومٍ منك أسخطَني ... إلا بكيتُ عليه بعدَ ما ذهبا عبد الله المهلّبي: وكم مُدركٍ أمنيّةً كان داؤه ... بإدراكها والغيبُ عنه محجّب نحوه لغيره: رُبّ يومق بكيتُ منه فلما ... صرتُ في غيرِه بكيتُ عليهِ أبو الطيب: فكيف أذمّ اليوم ما كنتُ أشتهي ... وأدعو بما أشكوه حين أُجابُ الجُلاح: وللمنْع خيرٌ من عطاءٍ مكدّر أبو الطيب، وهو معنى مشهور كثير: أبداً تستردّ ما نَهبُ الدُنْ ... يا، فيا ليتَ جودَها كان بُخلا!

وهو مستوفى زائد. وقريب من قوله هذا قول عليّ بن جبلة: وما صاحب الأيام إلا دربة ... على أنها تغذوه وهو لها أكل ذو الرمة: لِنِي وَليةً تُمرِع جَنابي فإنني ... لما نِلتُ من وسْميّ نيلَكِ شاكرُ أبو الطيب: أمُنعمةٌ بالعودة الظّبيةُ التي ... بغير وليٍّ كان نائلَها الوسْميّ وهذا من الألفاظ التي يصح فيها الأخذ. ابن المعتز: وأرى الثُريّا في السماءِ كأنها ... خُرُدٌ تبدّتْ في ثيابِ حِدادِ أبو الطيب: كأن بناتِ نعشٍ في دُجاها ... خرائدُ سافِراتٌ في حِداد الراعي:

رجاؤك أنساني تذكُّرَ إخوَتي ... ومالُك أنساني بوهْبَين مالِيا البحتري: ومثلُ نداكَ أذهلَني حبيبي ... وأكسبَني سُلوّاً عن بلادي أبو الطيب - وأساء غاية الإساءة: أمُنسيّ السكونَ وحضْر موتاً ... ووالدتي وكندةَ والسّبيعا ونحوه له - وقد أحسن: لولاك لم أترُك البحيرةَ وال ... غَورُ دَفيءٌ وماؤها شَبِم البحتري: أرى الحلم بؤساً في المعيشة للفتَى ... ولا عيشَ إلا ما حَباك به الجهلُ المتنبي: ذو العقل يشقى في النّعيم بعقلِه ... وأخو الجَهالَة في الشّقاوة ينعَمُ وله: تصْفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ ... عمّا مضى منها وما يُتوقّعُ ومثله له:

يخلو من الهمّ أخلاهُم منَ الفِطَنِ البحتري: يذكّرنا ريّا الأحبّةِ كلّما ... تنفّسَ في جُنحٍ من الليل باردُ نقله أبو الطيب وأحسن: إذا كان شمُّ الرَّوْح أدنى إليكمُ ... فلا برحَتْني روضةٌ وقَبول وفي هذا المعنى كلام. البحتري: سَماحاً وبأساً كالصّواعقِ والحَيا ... إذا اجتَمعا في العارض المتراكمِ أبو الطيب: فتًى كالسّحاب الجُونِ يُرجى ويُتّقى ... يرجّى الحَيا منه وتُخشى الصّواعقُ البحتري: وحاولنَ كِتمانَ التّرحّلِ في الدُجى ... فباحَ بهنّ المِسكُ حين تضوّعا أبو الطيب:

قلقُ المليحة وهي مسكٌ هتْكُها البحتري: نزلوا بأرضِ الزّعفران وجانَبوا ... أرضاً تربُّ الشّيحَ والقَيصوما أبو الطيب: تركتْ دُخان الرّمث في أوطانها ... طلباً لقومٍ يوقدونَ العَنبرا البحتري - في وصف الأسد: شارَكْتَه في البأسِ ثم فضلْتَه ... بالجودِ محْقوقاً بذاك زَعيما قال أبو الطيب: فتشابَه الخُلُقان في إقدامِه ... وتخالَفا في بذْلِك المأكولا حاتم: إذا كان بعضُ المال ربّاً لأهلِه ... فإني بحمدِ الله مالي معبَّدُ حُطائط بن يعفُر: ذَريني أكن للمال ربّاً ولا يكنْ ... لي المالُ ربّاً تحمَدي غِبهُ غَدا

أبو نواس: أنت للمال إذا أمسكتَه ... وإذا أنفقتَه فالمالُ لكْ أبو تمام: فلمالُك العبدُ المذل إذا غدوا ... وهم لمالهم المصونِ عبيدُ ونحوه قول المخزومي: إنّ ربّ المال آكِلُه ... وهْو للبُخّال أكّال أبو الطيب: همُ لأموالِهم وليس لهمْ ... والعار يبقى والجُرحُ يلتئمُ حاتم: لحى الله صُعلوكاً مُناه وهمّه ... منَ الدّهر أنْ يلقى لَبوساً ومطْعَما آخر: وليس فتى الفِتيان من راح واغْتَدى ... لشُربِ صَبوح أو لشُربِ غَبوقِ والأصل قول امرئ القيس: فلو أنّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني ولم أطلُب قليلٌ من المال ولكنّما أسعى لمجدٍ مؤثّلٍ ... وقد يدرِك المجدَ المؤثّلَ أمثالي فأخذه خُفاف بن غُصَين البُرجُمي فقال: فلو أنّ ما أسعى لنفسيَ وحدَها ... لزادٍ يسيرٍ أو ثياب على جِلدي

لأُبتُ على نفسي وبلّغ حاجتي ... من المالِ مالٌ دون مالي الذي عندي ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وكان أبي نال المكارم عن حدّي ثم أكثر الناس فيه. وقال أبو الطيب: تهوى بمُنجردٍ ليست مذاهبُه ... للُبْسِ ثوبٍ ومأكولٍ ومشروبِ وقال: وفي الناس من يرضى بميْسور عيشِه ... ومرّ كوبُه رجلاهُ والثوبُ جلدُه ولكنّ نفساً بين جنبيّ ما لَها ... مدًى ينتهي بي في مُرادٍ أحُدُّهُ قوله: والثوب جلده، من قول أبي هفّان: وما شعاري الدّهرَ غير جِلدي مُسلِم: قتِلَتْ وعالجها المديرُ ولم تُقَدْ ... فإذا به قد صيرتُه قتيلا ديك الجن - ونقله الى غرض آخر: تظل بأيدينا نتعتعُ روحَها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارَها أبو تمام: وكأسٍ كمعسولِ الأماني شربْتُها ... ولكنه أجلَت وقد شربَت عقْلي وله: أفيكُم فتًى حيٌ فيُخبِرَ كم عنّي ... بما شربَتْ مشروبَةُ الرّاح من ذِهني

أبو الطيب: نال الذي نلتُ منه منّي ... لله ما تصنعُ الخَمور الأفوه الأودي: وترى الطّيرَ على آثارِنا ... رأيَ عينٍ ثقةً أن سَتُمارْ النابغة: إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقَهم ... عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائب حُميد بن ثوْر: إذا ما غدا يوماً رأيت غمامة ... من الطير ينظُرْن الذي هو صانِع أبو نواس: تتأبّى الطيرُ غُدوتَه ... ثقةً بالشِّبْع من جزَرهْ أبو تمام: وقد ظُلِّلَتْ عِقبانُ أعلامِه ضُحًى ... بعِقبان طيرٍ في الدّماءِ نواهِلِ أقامت مع الرّاياتِ حتى كأنّها ... منَ الجيش إلا أنّها لم تُقاتِلِ زعم كثير من نقاد الشعر أن أبا تمام زاد عليهم بقوله: إلا أنها لم تُقاتِل، فهو المتقدم، وأحسنُ من هذه الزيادة عندي قوله: في الدماء نواهل، وإقامتها مقام الرايات، وبذلك يتم حسنُ قوله: إلا أنها لم تقاتل، على أن الأفوَه الأوديّ قد فضل الجماعة بأمور: منها السبق وهي الفضيلةُ العظمى، والآخر قوله: رأيَ عين،

فخبر عن قُربها لأنها إذا بعُدت تُخيِّلَتْ ولم تُر، وإنما يكون قُربُها متوقعاً للفريسة، وهذا يؤيد المعنى، ثم قال: ثقة أن سَتُمار، فجعلها واثقة بالميرَة، ولم يجمع هذه الأوصاف غيرُه، فأما أبو نواس فإنه نقل اللفظ ولم يزد فيفضَّلُ. وقال أبو الطيب: سَحابٌ من العِقبان يزحَفُ تحتَها ... سَحابٌ إذا استَسْقَتْ سقَتْها صوارمُهْ فزاد إذ جعلها سحابتين، وجعل السحابة السفلى تسقي ما فوقها، وهذا غريب، وقد يعيبُه المتكلّفون في هذا البيت بأمرين: أحدُهما أنّ السحاب لا يسقي ما فوقه، والآخر أن العقبان والطير لا تستقي، وإنما تستطعِم، فأما إسقاء ما فوقه فهو الذي أغرَب به، ولم يجعل الجيش سحاباً في الحقيقة فيمتنع إسقاؤه ما فوقه، وإنما أقامه مقام السحاب من وجهين لتزاحمه وكثافته، وقد فعلت العرب ذلك في أشعارها، وأما أنه يستسقي كاستسقاء السحاب فلأنه لما سماه سحاباً جعله يستسقي. وقد قال أبو تمام في صفة المنجنيق: أرض على سمائها درور مع أن الطير لا تُصيبُ فرائسها وهي في الجو، وإنما تهبط الى الأرض فهي تستسقي والسحاب الساقي عال عليها، وأما استسقاء الطير فجار على عادة العرب في استعارة هذه اللفظة في كل طلب، تعظيماً لقدْر الماء، ولذلك قال علقمة: وفي كل حيٍ قد خبطْتَ بنعمة ... فحُقّ لشأسٍ من نداك ذَنوب وقال رؤبة: يا أيها المائح دلوي دونَكا وهما لم يستسقيا ماء، وإنما طلب أحدهما مالاً واظتطلق الآخر أسيراً. ولذلك

سموا الجندي والسائل مستميحين، وإنما الميح جمع المائح الماء في الدلو، والمائح الرجل الذي ينزل في البئر يملأ الدلاء، وقد تلغ سباع الطير الدماء. ولذلك قال أبو تمام: بعِقبانِ طيرٍ في الدّماء نواهِل وإنما النّهَل في الشراب. وقد كرر أبو الطيب هذا المعنى فغيّره، ولطُف فجاء كالمعنى المخترع فقال: يفَدّى أتمُّ الطّيرِ عُمراً سلاحَهُ ... نُسورُ المَلا أحداثُها والقشاعمُ وما ضرّها خلْق بغير مخالبٍ ... وقد خُلِقت أسيافُه والقوائم أبو تمام: تعوّد بسْط الكفّ حتى لو انّه ... ثَناها لقبضٍ لم تُطِعْه أناملُه أبو الطيب - ونقله الى البأس: وفي الحرب حتى لو أراد تأخّراً ... لأخّره الطبعُ الكريمُ الى القُدْم أبو تمام: عطاءٌ لو اسْطاع الذي يستميحُه ... لأصبح ما بين الوَرى وهو عاذله أبو الطيب: وكنتُ أعيبُ عذْلاً في سماحٍ ... فها أنا في السّماح له عَذول

البحتري: وأحَبُّ أقطار البلاد الى الفتى ... أرضٌ ينالُ بها كريم المطلَبِ أبو الطيب: وكل مكانٍ يُنبتُ العزَّ طيبُ أبو تمام: وليس يعرفُ طيبَ الوصل صاحبُه ... حتى يصابَ بنأيٍ أو بهِجران وله: والحادثاتُ وإن أصابَك بؤسُها ... فهو الذي أنْباك كيف نعيمُها وله: قد علمت ما رزئتْ إنما ... يُعرفُ فقْد الشمس عند المغيب وله: سمُجَت ونبّهنا على استِسْماجِها ... ما حولها من نُضرةٍ وجمال وكذاك لم تفرط كآبةُ عاطل ... حتى يجاورها الزمانُ بحال وله: بيّن البينُ بينَها قلّما تعْ ... رف فقْداً للشمس حتى تَغيبا

البحتري: وقد زادها إفراط حسنٍ جوارُها ... خلائق أضداد من المجد غُيَّبِ وحسن دراري الكواكب أن تُرى ... طوالع في داجٍ من الليلِ غيْهَبِ وقد ملُح بشار في هذا المعنى بقوله: وكن جواري الحيّ ما دُمتِ فيهمُ ... قِباحاً فلما غِبتِ صِرن مِلاحا وقال أبو الطيب: ونذمّهم وبهِم عرفْنا فضلَه ... وبضدّها تتبيّنُ الأشياءُ فصرّح بالمعنى، وبين أن المضادة هي التي تُثبتُ حُسنَ الشيء وقُبحَه، ثم أخفاه فقال: ولولا أيادي الدهرِ في الجمع بينَنا ... غفَلْنا فلم نشعُر له بذنوبِ وهذا قلب بيت أبي تمام الأول: ما إنْ ترى شيئاً لشيءٍ مُحيياً ... حتى تُلاقيه لآخَر قاتِلا أبو الطيب: بذا قضتِ الأيامُ ما بين أهلِها ... مصائبُ قوم عند قومٍ فوائدُ وله: ومَوالٍ تُحييهم من يديهِ ... نعَمٌ غيرُهم بها مقتولُ

وهذا البيت كأنه من قول النابغة: يريشُ قوماً ويبرى آخرين بهم ... لله من رائش عمرو ومن باري الحُصين بن الحُمام: يطأْن من القتْلى ومن قِصَد القَنا ... خَباراً فما يجْرين إلا تجشُّما أبو الطيب: يطأن من الأبطال من لا حملْنَه ... ومن قِصَد المُرّان ما لا يُقوَّمُ قيس بن ذَريح: وما كنتُ أخشى أن تكون منيّتي ... بكفّيّ إلا أنّ ما حان حائنُ دِعبل: لا تأخُذا بظُلامتي أحداً ... قلبي وطرْفي في دَمي اشتَركا أبو الطيب: وأنا الذي اجتلَب المنيّة طرفُه ... فمَنِ المُطالَبُ والقتيلُ القاتِلُ

أبو تمام: كثُرتْ خطايا الدهرِ فيّ وقد يُرى ... بنَداك وهْو إليّ منها تائبُ أبو الطيب: حالٌ متى علِم ابنُ منصورٍ بها ... جاء الزمانُ إليّ منها تائِبا ابن وهيب: لبسا البلى فكأنما وجَدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد أبو الطيب: ما زال كل هزيمِ الودْق يُنحِلُها ... والسّقمُ ينحِلُني حتى حكتْ جسدي وله نحوه، وقد زاد في الصراع الأول: أثافٍ بها ما بالفؤاد منَ الصّلى ... ورسمٌ كجِسمي ناحلٌ متهدّمُ عقيل بن عُلّفة: طويلُ نِجادِ السيفِ وهو كأنّما ... تَصول إذا استنجدْتَه بقَبيل أبو تمام: ثبتُ المقام يرى القبيلة واحداً ... ويُرى فيحسبُه القبيلُ قَبيلا

أبو الطيب: بقيَتْ جُموعُهم كأنك كلُّها ... وبقيتَ بينَهُم كأنّك مُفرَدُ أبو تمام: فرأيتُ أكثر ما حبَوْتَ من اللُهى ... نزْراً وأصغَر ما شكرْتَ جَزيلا أبو الطيب: يستصغِر الخطر العظيم لوفْدِه ... ويظنّ دجلَة ليس تكْفي شارِبا أبو تمام: يودّ وداداً أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقاً إليها المسامع غيره: غنّتْ فلم تبق فيّ جارحة ... إلا تمنّتْ بأنّها أذُنُ أبو تمام في غير هذا المعنى: ترى صِلاً تخال بكل عضو ... له من شدة الحركات قلْبا أبو الطيب: حتى كأنّ لكلِّ عظْمٍ رنّةً ... في جِلدِه ولكلِّ عِرقٍ مدْمَعا

بشار: صحِبْته في الملك أو سوقة ... فزاد في كثرَة حُسّادي أبو نواس: دعيني أكثِّرْ حاسِديك برحلةٍ ... الى بلدٍ فيه الخصيبُ أميرُ البحتري: وألبَستَني النُعمى التي غيّرَتْ أخي ... عليّ فأمسى نازِحَ الودِّ أجْنَبا أبو الطيب: أزِل حسَد الحُسّاد عني بكبْتِهم ... فأنت الذي صيّرْتَهُم ليَ حُسَّدا وأصله لأبي جُويرية العبديّ، وهو أحسن ما قيل فيه: وما زال يُعطيني وما ليَ حاسدٌ ... من الناس حتى صرْت أرْجَى وأحسَدُ بشار: خُلِقوا سادةً فكانوا سَواء ... ككُعوبِ القناةِ تحت السِّنان البحتري: كالرُمحِ فيه بضْعَ عشرةَ فقْرةً ... منقادةً تحت السّنان الأصيدِ أبو الطيب:

وكلّ أنابيبِ القَنا مَدَدٌ له ... وما تنكُثُ الفُرسانَ إلا العواملُ معاوية بن مالك بن جعفر بن كِلاب: رأيت الصّدْع من كعْب جميعاً ... وكان الصّدْع لا يعْدو ارتيابا فأمسى كعبُها كعباً وكانت ... من الشنآن قد دعيت كِعابا أبو الطيب: وعمْرٌ في ميامِنِهمْ عُمورٌ ... وكعبٌ في مياسرِهم كِعابُ وقال ذؤيب بن كعب التّيمي: جانيك من يجني عليكَ وقد ... تُعدى الصِّحاحَ مبارِكُ الجُرْبِ آخر: الحرب يلحق فيها الكارهون كما ... تدنو الصِّحاح الى الجرْبَى فتُعديها ومثله قول الآخر: إنّ الفتى بابْنِ عمِّ السوء مأخوذُ

البحتري: نصدُّ حياءً أن نَراك بأعين ... أتى الذنبَ عاصيها فليمَ مُطيعها أبو الطيب: وجُرمٍ جرّه سُفَهاءُ قومٍ ... وحلّ بغير جارِمِه العذابُ كأنّما اقتبسه من قوله تعالى: (أتُهلِكُنا بما فعلَ السُفَهاء منا) . أبو تمام: في عُصبةٍ إن سرَوا فجِنٌ ... أو يمّموا شُقّةً فيرُ أبو الطيب: نحن ركبٌ مِلجِنِّ في زِيّ ناسٍ ... فوقَ طيرٍ لها شُخوصُ الجِمالِ أبو تمام: إذا أنا لم ألُمْ عثراتِ دهرٍ ... أُصبْتُ به الغَداةَ فمَن ألومُ أبو الطيب فأحسن وزاد: إذا أتتِ الإساءة من وضيعٍ ... ولم ألُمِ المسيءَ فمنْ ألومُ!

أبو تمام: طلعَت على الأموال أنحسَ مطْلَع ... وعدَتْ على الأمال وهيَ سُعود أبو الطيب: فأنجُمُ أموالِه في النّحوسِ ... وأنجمُ سؤّالِه في السّعودِ أبو تمام: تبشِّرُهُ خُدّامُه بعُفاتِه ... كما بشّر الظّمآنَ بالماءِ واشِلُهْ أبو الطيب: يعطي المبشِّرَ بالقُصّاد قبلَهم ... كمنْ يبشّرُهُ بالماءِ عطْشانا أبو تمام: لقد خاب مَن يهدي سويداءَ قلبِه ... لحدّ سِنان في يدِ الله عاملُهْ أبو الطيب: على عاتِقِ المُلكِ الأغرّ نجادُه ... وفي يدِ جبّار السّموات قائمُه وله: فأنت حُسام المُلكِ والله ضاربٌ ... وأنت لواءُ الدّين واللهُ عاقدُ أبو تمام:

فحاط له الإقرارُ بالذّنبِ روحَه ... وجُثمانَه إذ لم تحُطْهُ قنابلُه أبو الطيب: أعدّوا رِماحاً من خضوعٍ فطاعَنوا ... بها الجيشَ حتى ردّ غرْبَ الفيالِقِ بعض العرب: ما قصّر الجودُ عنكم يا بني مطرٍ ... ولا تجاوزَكُم يا آل مسعودِ يحُلّ حيثُ حللتُم لا يفارِقُكم ... ما عاقبَ الدهرُ بين البيضِ والسودِ الكُميت: يصير أبانٌ قريع السّما ... حِ والمكرُمات معا حيث صارا أبو نواس: فما جازه جودٌ ولا حلّ دونَه ... ولكن يصير الجودُ حيث يصير أشجع: فما خلْفَه لامرئٍ مطمعٌ ... ولا دونَه لامرئٍ مَقنَعُ أبو تمام: إليكَ تناهى الجودُ من كلِّ وِجهة ... يصيرُ فما يعدوك حيثُ تصيرُ أبو الطيب: ولستَ بدونٍ يُرتجى الغيثُ دونَه ... ولا مُنتَهي الجودِ الذي خلفَه خلْفُ

فأساء وجاوز حتى قارب الهذيان. منصور النمري: الجودُ أخشنُ مسّاً يا بَني مطرٍ ... من أن تبُزّكُموه كفُّ مستلِب ما أعرفَ الناسَ أنّ الجودَ مدفعة ... للذم لكنّه يأتي على النّشَبِ أبو الطيب: لولا المشقّةُ سادَ الناسُ كلهُم ... الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتّالُ فزاد بقوله: الإقدام قتّال. أشجع: وليس بأوسعِهم في الغِنى ... ولكنّ معروفَه أوسَعُ أبو الطيب: بمِصر مُلوكٌ لُم ما لَه ... ولكنّهم ما لَهُم همّهُ وأصله قول الأعرابي: ولم يكُ أكثرَ الفتيانِ مالاً ... ولكنْ كان أرحبَهُم ذِراعا أبو تمام: وقد يكهَمُ السيفُ المسمّى منيةً ... وقد يرجعُ النّجدُ المظفَّرُ خائبا

فآفةُ ذا ألا يصادف مضرباً ... وآفة ذا ألا يصادف ضاربا البحتري: رمى كلَب الأعداء عن حدّ نجدة ... بها قطعت تحت العَجاج مناصِلُه وما السيفُ إلا بزُّ غادٍ لزينةٍ ... إذا لم يكن أمضى من السيف حاملُهْ أبو الطيب: إن السيوف مع الذين قلوبُهم ... كقلوبهنّ إذا التقى الجمْعان تلْقى الحسامَ على جَراءَةِ حدِّه ... مثلَ الجبان بكفِّ كلّ جبانِ ثم نقله وغيّره: إذا ضربَتْ بالسيف في الحرب كفُّه ... تبيّنْت أن السيفَ بالكف يضربُ ومثل هذا البيت قول البحتري: فلا تغلبَنْ بالسيف كلّ غلائِه ... ليمضي فإن الكفّ لا السيف يقطع وقد أعاد المتنبي، فقال: إذا الهند سوّت بين سيفَي كريهةٍ ... فسيفُك في كفٍّ تُزيلُ التّساوِيا ثم نقله الى الخيل فقال: فما تنفعُ الخيلُ الكرامُ ولا القَنا ... إذا لم يكنْ فوقَ الكِرام كرامُ

أبو تمام: فهل كنتُ إلا مذنِباً يوم أنتحي ... سواك بآمالي فجئتُك تائِبا أبو الطيب: وتعذُلُني فيك القوافي وهمّتي ... كأني بمدحٍ قبلَ مدحِك مذنِبُ أبو تمام: فغرّبْتُ حتى لم أجِد ذكرَ مشرِقٍ ... وشرّقتُ حتى قد نسيتُ المَغاربا البحتري: فأكون طوراً مشرقاً للمشرق ال ... أقصى وطوراً مغرِباً للمغرب أبو الطيب: فشرّق حتى ليس للشّرق مشرِقُ ... وغرّب حتى ليسَ للغرب مغرِبُ بعض العرب: تخاله مستَقْبلاً أقْعَدا ... وهو إذا استدبَرْتَ مكبوب عليّ بن جبلة: تحسِبُه أقعدَ في استقبالِه ... حتى إذا استدبرْتَه قلتَ أكبّْ المتنبي: إنْ أدبرَتْ قلتَ لا تَليلَ لها ... أو أقبلتْ قلتَ ما لها كفلُ

وهو مأخوذ من قول أقيشر الأسدي لما سُئل عن أكرم الخيل، فقال: هو الذي إذا استقبلته أقْعى، وإذا استدبرته جَثا، وإذا استعرضته استوى. يحيى بن مال: أحقاً فما وجدي عليك بهيّنٍ ... ولا الصّبرُ إن أُعطيتُه بجميلِ العتبي: والصّبْرُ يحسُن في المواقِفِ كلِّها ... إلا عليْكَ فإنّه مذمومُ أبو تمام: وقد كان يُدعى لابسُ الصّبرِ حازِماً ... فأصبحَ يُدعى حازماً يجزَع وله: لا تُنكرنّ مع الفراقِ تبلّدي ... فبراعةُ المشتاقِ أن يتبلّدا أبو الطيب: وجلا الوداعُ من الحبيبِ محاسِناً ... حُسنُ العزاء وقد جُلِينَ قبيح وقال: أجدُ الجفاءَ على سواك مروءةً ... والصبرَ إلا في نواكِ جميلا

العباس بن الأحنف: لو قسّم اللهُ جزءاً من محاسنِها ... في الناس طُرّاً لتمّ الحسنُ في الناس أبو تمام: لو اقتُسمَتْ أخلاقُه الغُرُّ لم تجدْ ... معيباً ولا خَلْقاً من الناسِ عائِبا وقلبه فقال: لو أنّ عُشر الذي أمسى وظلّ به ... بالعالمين من البلْوى إذاً فسدوا منصور الفقيه: لو أنّ ما فيه من جودٍ تقسّمَه ... أولادُ آدمَ عادوا كلهم سمحا أبو الطيب: لو فرّق الكرَمَ المفرِّقَ مالَه ... في الناسِ لم يكُ في الزمان شحيح ابن المعذّل: باكرَتْه الحُمّى وراحتْ عليه ... فكسَتْه حمّى الرّواح بَهارا لم تشِنْه لمّا ألحّت ولكِنْ ... بدّلَتْه بالاحمِرار اصفِرارا أبو تمام:

لهم من لوعةِ البين التِدامٌ ... يُعيد بنَفسَجاً ورْدَ الخُدود أبو الطيب: وقدصارتِ الأجفانُ قرْحى من البُكا ... وصار بَهاراً في الخدود الشّقائقُ البحتري: إذا ما الجرحُ رُمَّ على فسادٍ ... تبيّن فيه تفريطُ الطّبيبِ أبو الطيب: فإنّ الجرحَ ينفِر بعد حينٍ ... إذا كان البناءُ على فسادِ نصر بن سيّار: وإن النار بالزَّندَين تورَى ... وإنّ الفعلَ يقدُمه الكلام أبو الطيب: وإنّ الله يجري من جمادٍ ... وإنّ النار تُقدَح من زِنادِ النابغة الذُبياني: قد عيّرتني بنو ذُبيان رهبتَهُ ... وهل عليّ بأنْ أخشاهُ من عار

شمْعَلَة بن قائد: وإن أميرَ المؤمنينَ وفِعله ... لكالدّهرِ لا عارٌ بما فعَل الدهرُ أبو تمام: خضَعوا لصولتِك التي هي عندَهم ... كالموت يأتي ليس فيه عارُ أبو الطيب: وما في سطوةِ الأرباب عيبٌ ... ولا في ذِلّةِ العِبدانِ عارُ وكل ما تقدمه أحسن منه. وقد أحسن يزيد بن محمد المهلّبي في قوله: لا عار إن ضامَك دهر أو ملِك ومثل هذا الأخذ هو الذي يرحَضُ العار عن صاحبه. عنترة: وأنا المنيّةُ في المواقفِ كلِّها ... والطّعْنُ منّي سابِقُ الآجالِ أبو تمام: يكادُ حين يُلاقي القِرْنَ من حنَقٍ ... قبلَ السِّنان على حَوبائِه يرِدُ أبو الطيب: يسابِقُ سيفي منايا العِبادِ ... إليهم كأنّهُما في رِهان ثم قلبه وغيّره فقال:

يكاد من طاعة الحِمام له ... يقتُل من مادَنا له أجل ذو الرمة: كأنها فضّةٌ قد مسّها ذهبُ أبو الطيب: لوني كما صبغَ اللجينَ العسجدُ أبو نواس: إليكَ أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطيْنا الحضرميّ الملَسّنا قلائصَ لم تعرِفْ حنيناً الى طلاً ... ولم تدْرِ ما قرْعُ الفَنيقِ ولا الهِنا أراد بالحضرمي الملسَّن النعال فجعلها قلائص تمتطى وتركب، وتبعه أبو الطيب فغيّر الوصف فقال: لا ناقتي تقبَل الرّديف ولا ... بالسّوط يومَ الرهان أُجهِدُها

شِراكُها كورُها ومشفَرُها ... زِمامُها والشّموعُ مقوَدُها ثم أكمل المعنى ونقله الى ذكر الخُفّ فقال: وحُبيتُ من خوصِ الرّكاب بأسوَدٍ ... من دارِشٍ فغدوْت أمشي راكِبا وأظنهما لاحظا قول بعض المفسرين لبيت عنترة: وابن النّعامةِ يوم ذلك مركبي فإنه زعم أن ابن النعامة عِرْق في باطن القدم؛ لأن معنى البيت أنه راكب أخمصَه ماشياً. وقد جاء في تفسير قوله تعالى: (قل لا أجدُ ما أحملُكُم عليه) أنهم التمسوا نعالاً. ومثله ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: المُنتعِل راكِب. بعض العرب: أنخْتُ قَلوصي واكتلأتُ بعينها ... وأمّرْتُ نفسي أيَّ أمرَيَّ أفعلُ أبو الطيب: وعيني الى أذْنَي أغرَّ كأنّه ... من الليلِ باقٍ بين عينيه كوكبُ

فنقل العين الى الأذن واكتلائها. قال عنترة: وإذا صحوْتُ فما أقصّر عن ندًى ... وكما علِمْت شمائلي وتكرّمي وأجود منه قول زهير: أخو ثِقةٍ لا تُهلكُ الخمرُ ما له ... ولكنه قد يُهلِكُ المال نائلُهْ وقول أبي نواس: فتًى لا يذيبُ الخمر شحمةَ مالِه ... ولكنْ أيادٍ عُوَّدٍ وبوادي أبو الطيب: لا تجدُ الخمرُ في مكارمِه ... إذا انتشى خلّةً تلافاها بعض العرب: تغضي العيونُ إذا تبدّى هيبةً ... وينكّسُ النظّارُ لحظَ النّاظر الحزين الدّؤلي: يُغضي حياءً ويُغضى من مهابتِه ... فلا يكلَّمُ إلا حين يبتسِمُ

أبو نواس: إنّ العيون حُجبنَ عنك؛ بهيبةٍ ... فإذا بدوْت لهنّ نكِّسَ ناظرُ أبو الطيب: إذا بدا حجبَتْ عينيكَ هيبته ... وليس يحجُبه سترٌ إذا احتجَبا والمصراع الثاني مثل قوله: أصبحْتَ تأمر بالحجاب بخلوة ... هيهات لستَ على الحجاب بقادر من كان ضوء جبينه ونواله ... لم يُحْجَبا لم يحتجِب عن ناظر فإذا احتجَبْت فأنت غيرُ محجّب ... ورذا بطَنْت فأنت عينُ الظاهرِ أما ذكره الجود؛ فمن قول أبي تمام: يا أيها المُعرضُ النّائي برؤيته ... وجوده لمراعي جودِه كثبُ وقد كرره أبو الطيب فقال: حتى وصلْتُ الى نفسٍ حجّبة ... تلقى النّفوسَ بفضلٍ غيرِ محجوبِ وأما ضوء جبيه، فمن قول قيس بن الخطيم: قضى لها الله حين صوّرها ال ... خالِق أن لا يُكنّها سدَف ومن هذا المعنى أخذ أبو تمام: فنعمْتِ من شمسٍ إذا حُجبَت بدتْ ... من خِدرِها فكأنّها لم تُحجَبِ وقول أبي نواس في الخمر:

ترى ضوءَها في باطن الكأس ظاهِراً ... عليك ولو عطّيتها بغِطاء أوس بن حجَر: الألمعيّ الذي يظنّ بك الظ ... نّ كأنْ قد رأى وقد سمِعا أبو تمام: ولذاك قيلَ من الظنون جليةٌ ... علمٌ وفي بعض القُلوب عُيونُ وقد أكثر الناس فيه. أبو الطيب: ماضي الجَنان يُريه الحزمُ قبلَ غدٍ ... بقلبِه ما ترى عيناهُ بعدَ غدِ وكرره فقال: ذكيُّ تظنيه طليعةُ عينِه ... يرى قلبُه في يومِه ما يرى غَدا وأعاده فقال: ويعرفُ الأمرَ قبلَ موقِعِه ... فما له بعدَ فعلِه ندمُ وقال أيضاً: مستَنبِطٌ من علمِه ما في غدٍ ... فكأنّ ما سيكونُ فيه دوِّنا وهذا المعنى الآخر يقرب من قول أبي نواس: ما تنطوي منه القلوب بعجرَةٍ ... إلا تكلّمه به العينان علي بن الخليل: كلّمني لحظُك عنك لمّا ... أضمَرهُ قلبُك من غدْرِ

الخليع: أما تقرأ في عين ... يّ عُنوان الذي عندي وقد سبق إليه المتقدمون، قال الثقفي: تخيّرني العينانِ ما القلبُ كاتِمٌ ... وما جنّ بالبَغْضاء والنّظر الشّزْرِ آخر: تكاشِرُني كُرهاً كأنّك ناصحٌ ... وعينُك تبدي أنّ قلبَك لي دَوي أبو الطيب: كأنّك ناظرٌ في كلّ قلبٍ ... فما يخْفى عليكَ محلُّ غاشِ وله: له خطَراتٌ تفضحُ الناس والكُتْبا ومثله له: ووكّل الظنَّ بالأسرار فانكشفَتْ ... له ضمائرُ أهلِ السّهلِ والجبلِ وهذا المعنى هو الأول، وإنما فرق ما بينهما أن ذاك في العواقب، وهذا في الأسرار والضمائر، والمراد منهما صحة الحدْس وجودة الظن، ومثل قول الثّقفي: تخبِّرني العينان ما القلبُ كاتِم قول أبو الطيب: يُخفي العداوةَ وهْي غيرُ خفيّة ... نظرُ العدوِّ بما أسرّ يبوحُ

علاثة بن عربي: وكنتم قديماً في الحُروب وغيرها ... ميامينَ في الأدنى لأعدائكم نكدُ لبيد: مُمقِرٌ مرٌّ على أعدائه ... وعلى الأدنَينَ حلوٌ كالعسلْ وهو معنى قد تُدوول بأمثلة مختلفة، منها قول المسيَّب بن علس: هم الربيعُ على من ضاف أرحُلَهم ... وفي العدوّ مناكيدٌ مشائيمُ وقال كعب بن الأجذم: بنو رافِع قومٌ مشائيمُ للعِدا ... ميامينُ للمولى وللمُتحرِّم وقال أبو دؤاد: فهُمُ للمُلاينين أناةٌ ... وعُرامٌ إذا يُرادُ عُرامُ وأخذه بشار فزاد فيه وشبّه وأحسن فقال: يلينُ حيناً وحيناً فيه شدّتُه ... كالدّهر يخلِطُ إيْساراً بإعسارِ وتبعه أبو نواس فقال: حذرَ امرئ نُصِرَتْ يداهُ على العِدا ... كالدهرِ فيه شراسةٌ وليانُ وأخذه أبو الشّيص فأحسن ما شاء، ونقل التشبيه من الدهر الى السيف فقال: وكالسّيف إنْ لا ينتَه لان متنُه ... وحدّاه إنْ خاشنْتَه خشِنان فقال أبو الطيب:

أنت طوراً أمرُّ من ناقِع الس ... مِّ وطوراً أحلى من السّلْسالِ وهو بيت لبيد لفظاً ومعنى، وقد قصّر عنه؛ لأن لبيداً فصّل الحالين بين الأعداء والأدنين، وأجمل أبو الطيب القول، ثم أعاده فأخفاه وأجاده فقال: متفرِّقُ الطَّعمينِ مجتمعُ القوى ... فكأنّه السرّاءُ والضرّاءُ وكأنه ما لا تشاءُ عُداتُه ... متمثِّلاً لوفودِه ما شاءوا البحتري: وإذا ما تنكّرَتْ لي بلادٌ ... أو صديقٌ فإنني بالخِيارِ وهو معنى مبتذل بين المتقدمين والمتأخرين، وقد جمع هذا البيت طرافة. وقال ابن المعذل فأحسن وأوجز؛ لكنه اقتصر على البلد: إذا وطنٌ رابني ... فكلّ بلادٍ وطنْ وقد أجاد البحتري في قوله: فالأرضُ من تُربة والناسُ من رجُلِ وقال أبو الطيب واحتذى مثال البحتري وأجاد، وللبحتري الفضل: إذا صديقٌ نكِرْتُ جانبَه ... لم تُعيني في فراقِه الحيَلُ

في سَعة الخافِقَينِ مضطرَبٌ ... وفي بلادٍ من أختِها بدَلُ البحتري: إذا شئتَ ألا تعذِلَ الدهرَ عاشقاً ... على كمدٍ من لوعةِ البين فاعْشقِ أبو الطيب: لا تعذِلِ المشتاق في أشواقِه ... حتى يكون حشاكَ من أحشائِه أوس - من مرثيّة: أبا دُلَيجةَ من توصي بأرملةٍ ... أم من لأشْعَث ذي هِدمَين ممْحال أبو الطيب في مثله: ومنِ اتّخذْت على الضيوفِ خليفةً ... ضاعوا ومثلك لا يكاد يُضيِّع فزاد المصراع الثاني زيادة صالحة. أوس: وأفضلتَ في كل شيء فما ... تناول سعيُك من طالِب أبو نواس: كأنّما أنت شيءٌ ... حوى جميعَ المعاني أبو الطيب:

يُدِلّ بمعنًى واحدٍ كلّ فاخِرٍ ... وقد جمعَ الرحمَنُ فيك المعانِيا بعضهم: إذا أسلَفتْهُنّ الملاحمُ مغنماً ... دعاهنّ من كسْب المكارم مَغرَمُ أبو تمام: إذا ما أغراروا واحتَووا مال معشر ... أغارت عليهمْ فاحتوتْهُ الصّنائعُ أبو الطيب: فالسِّلْمُ يكسِرُ من جَناحَيْ مالِه ... بنوالِه ما تجبُرُ الهيجاءُ أبو تمام: لو أنّ إجماعَنا في فضْل سؤدُدِه ... في الدين لم يختلِف في الملّةِ اثنانِ البحتري: أرى الناس مُجمعينَ على فضْ ... لِك من بينِ سيدٍ ومَسودِ أبو الطيب: جرى الخُلفُ إلا فيك أنّك واحدٌ ... وأنّك ليثٌ والملوكُ ذئابُ أبو تمام: فتًى لا يرى أن الفريصةَ مقتلٌ ... ولكنْ يرى أنّ العيوبَ المقاتِلُ

أبو الطيب: يرى أن ما ما بانَ منك لضاربٍ ... بأقْتل مما بان منكَ لعائِبِ أبو تمام: ولولا خِلالٌ سنّها الشعرُ ما درَى ... بغاةُ العُلا من أينَ تأتي المكارمُ أبو الطيب: وعلّموا الناس منك المجدَ واقتدَروا ... على دقيقِ المعاني من معانيكا والمصراع الثاني من قول أبي تمام: تُغري العيونُ به فيفلِقُ شاعر ... في نعته وصْفاً وليس بمُفلِق ونحوه، وهو كالمحتوي على معنى البيتين قول أبي العتاهية: شيَمٌ فتّحَتْ منَ المجدِ ما قدْ ... كان مُستغلِقاً على المدّاح وقول ابن أبي فنن: يعلّمنا الفتحُ المديحَ بجودِه ... ويُحسِن حتى يحسِنَ القولَ قائِلُه ومثل لأبي الطيب: أحييتَ للشعراءِ الشعرَ فامتدحوا ... جميعَ من مدحوه بالذي فيكا علي بن جبلة: يأسو الذي يجرحُ أعداؤه ... وما لما يجرحْهُ آسِ

أشجع: فما يرفعُ الناسُ من حطّه ... ولا يضعُ الناسُ من يرفَعُ أبو تمام: فإنْ أفسَدْت شيئاً فليس بصالح ... وإن أصلحْت شيئاً فليس بفاسد أبو الطيب: فلا ترتُقِ الأيامُ ما أنت فاتقٌ ... ولا تفْتق الأيامُ ما أنت راتق أبو تمام في القلم: أحدُّ اللفظِ ينطق عن سواهُ ... فيُفهِمُ وهْو ليس بذي سَماع أبو الطيب في مثله: ويُفهِم عمّن قال ما ليس يسمعُ أبو العتاهية: إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعتْ إليكَ سَباسِباً ورِمالا أبو الطيب: قُصِدْتَ من شرقِها ومغرِبِها ... حتى اشتكتْك الرِّكابُ والسبُلُ فزاد السبل.

وقال جرير: إنْ كان شأنُكُم الدّلالَ فإنّه ... حسنٌ دلالُك يا أمَيْمَ جميلُ أبو الطيب: وأرى تدلّلَك الكثيرَ محبّباً ... وأرى قليلَ تدلّلٍ مملولا أبو تمام: لو سعَتْ بُقعةٌ لإعظامِ أخرى ... لسعى نحوَها المكانُ الجديبُ البحتري: ولو أنّ مُشتاقاً تكلّف فوق ما ... في وُسعِه لسعى إليكَ المنبرُ أبو الطيب: تحاسدَتِ البلدان حتى لو انّها ... نفوس لسار الشرق والغرب نحوَكا لبعض العرب، وينسب الى المجنون: ولا شوق حتى يلصَقَ الجلدُ بالحشى ... وتصمُت حتى لا تُجيبَ المُناديا وقال قيس بن ذريح:

وما هو إلا أن أراها فجاءةً ... فأبهَت حتى ما أكاد أجيبُ أبو الطيب: الحبّ ما منع الكلامَ الألسُنا ... وألذّ شكْوى عاشقٍ ما أعلَنا فأما المصراع الثاني فمن قول أبي نواس: ولا خيرَ في اللّذاتِ من دونِها سِترُ بعضهم: الله يعلمُ أني لست أذكره ... وكيف يذكرُه من ليس ينْساهُ نقله أبو الطيب فقال: نيطَت حمائلُه بعاتِقِ محرَبٍ ... ما كرّ قطُّ وهل يكُرّ وما انْثَنى بعضهم: وإذا جهِلتَ من امرئٍ أعراقه ... وأصولَه فانظُر الى ما يصنعُ أبو تمام: فُروعٌ لا ترفّ عليك إلا ... شهدت لها على طيب الأرومِ أبو الطيب:

أفعالُه نسبٌ لو لم يقُل معها ... جدّي الخصيبُ عرفْنا العرقَ بالغُصُنِ أبو تمام: أغارُ من القميص إذا علاه ... مخافةَ أن يلامسَه القميصُ الخُبزَأرزي: من لُطف إشفاقي ودقّة غيرَتي ... أني أغار عليك من ملَكَيْكا ولو استطعتُ جرحتُ لفظَك غيرةً ... أني أراه مُقبِّلاً شفتَيْكا أبو الطيب: أغارُ من الزجاجةِ وهي تجري ... على شفةِ الأمير أبي الحسين فأساء؛ لأن هذه الغيرة إنما تكون بين المحب ومحبوبه؛ فأما الأمراء والملوك فلا يُغار على شِفاههما. أبو تمام: قومٌ إذا اسودّ الزمان توضّحوا ... فيهِ وغودِرَ وهْو منهم أبلقُ أبو الطيب: أفاعيلُ الورى من قبلُ دهمٌ ... وفعلُك في فِعالِهمُ شياتُ أبو تمام:

لو لم يقُدْ جحفلاً يوم الوغى لغدا ... من نفسِه وحدَها في جحفلٍ لجِبِ أبو الطيب: الجيشُ جيشُك غير أنّك جيشُه ... في قلبِه ويمينه وشمالِه أبو تمام: وكأنّ الأناملَ اعتصرَتْها ... بعد كدٍ من ماءِ وجهِ البخيل أبو الطيب: وعُمرٌ مثلُ ما يهَبُ اللّئامُ أبو تمام: إليك تجرّعْنا دُجًى كحِداقِنا أبو الطيب: لقى ليلٍ كعينِ الظّبيِ لوناً ... وهمٍ كالحُميّا في المُشاشِ وأما المصراع الثاني فكثير؛ منه قول الأبيرد: عساكرُ تغشى النّفسَ حتى كأنني ... أخو سَكرةٍ دارتْ بهامته الخمرُ

الناشي الأكبر: ولو لم يبُحْ بالشُكر لفظي لخبرَتْ ... يميني بما أولَيتَني وشِمالِيا أبو الطيب: أقرّ جِلدي بها عليّ فما ... أقدِرُ حتى المماتِ أجحدُها وأصله من قول الله سبحانه وتعالى: (وقالوا لجُلودِم لمَ شهدْتُم علينا) الآية. وهو كثير للمتقدمين ومن بعدهم. مسلم: يفترّ عندَ افتِرار الحرب مُبتسماً ... إذا تغيّر وجهُ الفارسِ البطلِ أبو الطيب: تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهُك وضّاحٌ وثغرُك باسمُ وله: بكلّ أشعثَ يلقى الموتَ مبتسماً ... حتى كأنّ له في قتلِه أرَبا دِعبِل: وقد علمتُ وما أصبحتُ مرتيبا ... أن التي أدركتني حرفةُ الأدب الحمدوني: إن المقدَّمَ في حِذقٍ بصنعته ... أنّى توجّه فيها فهْو محرومُ

أبو الطيب: وما الجمعُ بين الماءِ والنارِ في يدي ... بأصعبَ من أن أجمعَ الجدَّ والفَهْما فزاد وأكّد. البحتري: وإذا تلألّق في النّديّ كلامُه ال ... مصْقولُ خِلتَ لسانَه من عضْبِه أبو الطيب: كأنّ ألسُنَهم في النُطقِ قد جُعِلَتْ ... على رماحِهم في الطّعن خُرْصانا أوس بن حجر: وإنا وجدْنا الحلم أنفسَ ساعةً ... الى الصّون من رَيْط يمانٍ مسهّمِ فقد تداوله الشعراء فأكثروا؛ فقال سالم بن وابصة: إنّ من الحِلم ذُلاً أنت عارفُه ... والحِلمُ عن قُدرةٍ فضلٌ من الكرمِ وقال الخُزَيمي ففصّل معنيَيْه، وتبع سالماً: أرى الحِلمَ في بعض المواطنِ ذِلّةً ... وفي بعضِها عِزّاً يسوِّدُ صاحِبَه أبو الطيب: إذا قيلَ مهلاً قال للحِلمِ موضِعٌ ... وحِلمُ الفتى في غيرِ موضِعِه جهلُ

ونحوه له: فوضْع الندى في موضِع السيفِ بالعُلا ... مُضرٌ كوضْعِ السيفِ في موضع النّدى وله في مثله: إنّي أصاحبُ حِلمي وهْو بي كرمٌ ... ولا أصاحبُ حِلمي وهْو بي جُبُنُ وله في معنى قول الخُرَيمي: كلّ حِلمٍ أتى بغير اقتِدارٍ ... حُجّةٌ لاجئٌ إليها اللئامُ فبيّن العلة، ونحوه له: من الحِلمِ أنْ تستعمِل الجهلَ دونه ... إذا اتّسعتْ في الحِلم طُرْقُ المظالمِ امرؤ القيس: ألم ترَ أنّي كلّما جئتُ طارِقاً ... وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيّبِ فأخذه الناس بعده وأكثروا فيه. أبو الطيب: أتتْ زائِراً ما خامرَ الطيبُ ثوبَها ... وكالمِسكِ من أرْدانِها يتضوّع أبو نواس: سُنّة العُشّاقِ واحدة ... فإذا أحببْت فاستَكِنِ

بعض المحدثين: كن إذا أحببْتَ عبداً ... للذي تهوى مُطيعا أبو الطيب: تذلّلْ لها واخضعْ على القربِ والنوى ... فما عاشقٌ من لا يذِلّ ويخضعُ بشار: خلقْنا سماءً فوقَنا بنُجومِها ... سُيوفاً ونقْعاً يقبضُ الطّرْفَ أقتَما ومثله لبشار: كأنّ مثار النّقعِ فوق رؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه بعضهم: نسجَتْ حوافرُها سماءً فوقنا ... جعلتْ أسنّتَنا نجومَ سمائِها أبو الطيب: يزورُ الأعادي في سماءِ عجاجةٍ ... أسنّتُها في جانبيها كواكبُ البحتري: ملوكٌ يعُدّون الرماحَ مخاصِراً ... إذا زعزعوها والدّروعَ غَلائِلا ثم أعاده فقال:

متعوِّداً لُبسَ الدّروع يخالُها ... في البردِ خزّاً والهواجر لاذا ففصّل ما أجمل البحتري في قوله: والدروع غلائلا، وقصر في اللفظ، وسلم للبحتري بقية بيته، وحسن لفظه. أمية - ويروى لغيره: عطاؤك زينٌ لامرئٍ إن أصبتَه ... بخيرٍ وما كلّ العطاءِ يزينُ وليس بعارٍ لامرئٍ بذلُ وجهه ... إليكَ كما بعضُ السؤالِ يَشينُ فتبعه فيه الشعراء وأكثروا. وقال أبو الطيب فسفسف: وقبْضُ نوالِه شرفٌ وعزٌ ... وقبضُ نوالِ بعضِ القومِ ذامُ أبو تمام: وقفْتُ وأحشائي منازِلُ للأسى ... به وهْو قفْرٌ قد تعفّتْ منازلُه أبو الطيب: لكِ يا منازلُ في القُلوبِ منازلُ ... أقفرْتِ أنتِ وهنّ منكِ أواهِلُ

أبو نواس: قالت لقد أبعدَ المسْرى فقلت لها ... من عالجَ الشوقَ لم يستبعد الدّارا نقله أبو تمام فقال: هيهات لم يعلمْ بأنك لو ثوَى ... بالصين لم تبعد عليك الصين. ابن الناصر: من لم يُزَر زيرَ إن الشوق راحلةٌ ... تُدني البعيدَ وتطوي السّبسَبَ العافي العباس: يقرّب الشوقُ داراً وهي نازحة ... من عالج الشوق لم يستعِدِ الدارا وأصله قول الأعرابي: بعيدٌ على كسلان أو ذي ملالةٍ ... فأما على ذي حاجةٍ فريبُ أبو الطيب: نضحتُ بذِكراكُم حرارةَ قلبها ... فسارتْ وطولُ الأرضِ في عينها شِبر وله: يرمي بها البلدَ البعيد مظفرٌ ... كلّ البعيدِ له قريبٌ داني وله: كن حيثُ شئْت فما تحولُ تنوفةٌ ... دون اللقاءِ ولا يشِطّ مزارُ مسلم:

بارزتُه وسلاحُه خلخالُه ... حتى فضضْتُ بكفّيَ الخَلخالا أبو الطيب: من طاعِني ثُغَرَ الرجالِ جآذرٌ ... ومنَ الرماحِ دمالِجٌ وخلاخِلُ والغرض غير الأول؛ لكنهما جعلا الخلخال سلاحاً. أبو تمام: ويضحكُ الدهرُ منهم عن غطارفةٍ ... كأنّ أيامهُم من أنسِها جُمَعُ أبو الطيب: لقد حسُنَت بك الأوقاتُ حتى ... كأنك في فمِ الدهرِ ابتِسامُ فزاد وأحسن؛ على أن أبا تمام لم يقصّر. بعض العرب: إذا نحنُ أدْلجْنا وأنت أمامَنا ... كفى لمطايانا بريّاكَ هادِيا نقله أبو العتاهية الى المدح فقال: ولو أنّ ركْباً يمّموكَ لقادَهم ... نسيمُك حتى يستدِلّ به الرّكْبُ وتبعه أبو الطيب فقال:

أدلّتُها رياحُ المسكِ فيه ... إذا فتحَتْ مناخِرَها انتِشاقا الخنساء: وما بلغ المُهدون نحوَك مِدحةً ... وإنْ أطنَبوا إلا وما فيك أفضلُ أبو نواس: إذا نحن انثنَيْنا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نُثني وفوقَ الذي نُثني أشجع: وما ترك المُدّاح فيك مقالة ... ولا قال إلا دون ما فيك قائلُ أبو الطيب: ويبقى ضِعفُ ما قد قيلَ فيه ... إذا لم يتّرِكْ أحدٌ مقالا إياس الكِلابي: فإن تكُ في عديدِكم قليلُ ... فإنا في عدوّكُمُ كثيرُ أبو الطيب: كثيرٍ إذا شدّوا قليلٍ إذا عُدّوا خالد الكاتب:

صباً كئيباً يتشكّى الهوى ... كما اشتكى نصفُك من نصفِكا أبو الطيب: ظَلومٌ كمَتنَيها لصبٍّ كخصْرِها ... ضعيفُ القوى من فعلِها يتظلّمُ فأما المصراع الثاني فمشهور متداول. عبد الله بن الحسن العلَوي، وهو متداول: يُحسَبن من لين الكلام زَوانِياً ... ويصدّهنّ عن الخَنا الإسلامُ أبو الطيب: بيضاءُ تُطمِعُ فيما تحت حُلّتها ... وعزّ ذلِك مطلوباً إذا طُلِبا بشار: وقد عركت بتدمُر خيلُ قيس ... وكان لتدمُرٍ فيها دمار أبو الطيب: وليس بغيرِ تدمُر مستَغاتٌ ... وتدمرُ كاسْمِها لهُمُ دمارُ أبو العتاهية: فما آفةُ الآجالِ غيرُك في الوغى ... ولا آفةُ الأموالِ غيرُ حِبائكا أبو الطيب:

ولا موتَ إلا من سنانِك يُتّقى ... ولا رِزقَ إلا من يمينك يُقسَمُ أبو العتاهية: بدت بين حورٍ قِصارِ الخُطا ... تجاهِدُ بالمشْي أكفالَها أبو الطيب: بانوا بخُرعوبَةٍ لها كفَلٌ ... يكادُ عندَ القيامِ يُقعِدُها أبو نواس: ألا يا بْنَ الذي فنوا وبادوا ... أما والله ما بادوا لتبقى أبو الطيب: نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعافُ ما لا بدّ من شُربِه وأصله لمتمّم بن نويرة: فعدوْت آبائي الى عرقِ الثّرى ... فدعوتُهُم فعلمتُ أنْ لم يسمَعوا ولقد علمْتُ ولا محالةَ أنّني ... للحادِثات فهل تَريْني أجزَعُ

بعض العرب: وإنما القرْمُ من الأفيلِ ... وسُحقُ النّخلِ من الفَسيل أبو الطيب: فأول قُرّحِ الخيل المِهارُ أبو نواس: تبكي فتُذري الدُرّ من نرجِسٍ ... وتلطِمُ الوردَ بعنّابِ ابن الرومي: كأنّ تلكَ الدموعَ قطرُ ندًى ... يقطُرُ من نرجسٍ على ورْدِ أبو الطيب: وتمسَحُ الطّلَّ فوق الوردِ بالعنَمِ أبو نواس: فهْي إذا سميَتْ فقد وُصفَتْ ... فيجمَعُ الإسمُ معنَيْن معا

فقلبه أبو الطيب فقال: ومَن يصِفْك فقد سمّاك للعَرَبِ منصور النّمَري: من كلّ سمْحِ الخُطى وكلّ يعمَلةٍ ... خُرطومُها باللُّغامِ الجعْدِ ملتَفِعُ أبو الطيب: وهل أرمي هوايَ براقِصاتٍ ... مُحلاّةِ المقاودِ باللُّغامِ الخُريمي: شفعتْ مكارمُه لهُم فكفتْهُم ... جهدَ السؤال ولُطفَ قولِ المادح أبو تمام: طوى شِيماً كانت تروحُ وتغتدي ... وسائِلَ من أعيتْ عليه وسائِلُهْ أبو الطيب: إذا عرضَتْ حاجٌ إليه فنفْسُه ... الى نفسِه فيها شفيعٌ مشفَّعُ

الخُرَيمي: صبرْتُ فكان الصبرُ خيرَ مغبّةٍ ... وهل جزَعٌ أجدى عليّ فأجزَعُ أبو الطيب: وهان فما أبالي بالرّزايا ... لأني ما انتفعْتُ بأنْ أبالي العباس: لا تحسبنّي عنكمُ مقْصِراً ... إني على حبّكم مطبوعُ أبو الطيب: يُراد من القلب نسيانُكم ... وتأبى الطباعُ على النّاقِلِ أحمد بن طاهر: وأبوهم أبو الصنائع عندي ... حين أعتدّ بالصنائع عندي أبو الطيب: فكم وكم نِعمةٍ مجلّلةٍ ... ربّيتَها كان منكَ مولدُها فأخذ الولادة وزاد فيه ربيته وهو حسن. أبو تمام: ثمّ انقضتْ تلك السّنون وأهلُها ... فكأنّها وكأنهم أحلامُ وهو كثير مشهور: أبو الطيب:

نصيبُك في حياتك من حبيب ... نصيبُك في منامك من خيالِ أبو طاهر: خلائِقُكم للمكرُمات مناسِب ... تناهى إليها كلّ مجدٍ مؤثّل نقله أبو الطيب فقال: ويُغنيكَ عما ينسُبُ الناس أنه ... إليك تناهى المكرُماتُ وتُنسَبُ أبو هفّان: وزادَه عجَباً أن رُحتُ في سمَلٍ ... وما درَتْ دُرُّ أنّ الدرَّ في الصّدَفِ نقله أبو الطيب فقال: لو كان سُكناي فيكَ منقصةً ... لم يكن الدرّ ساكنَ الصّدفِ أبو العتاهية: هب لي أمينَ الله من بعضِ ما ... ملّككَ الرّحمنُ من نفْسي أبو الطيب: فاغفِر فدًى لك واحبُني من بعدِها ... لتَخُصّني بعطيّةٍ منها أنا ونحوه: له أيادٍ إليّ سابقةٌ ... أعدّ منها ولا أعدِّدُها

البحتري وهو كثير مشهور: من قهوةٍ تُنسي الهمومَ وتبعث الشّوْ ... قَ الذي قد ضلّ في الأحشاءِ أبو الطيب: رأيتُ المُدامةَ غلاّبةً ... تهيّجُ للقلب أشواقَهُ البحتري: كلّ الذي تبغي الرجال تُصيبُه ... حتى تبغّي أن ترى شرْواهُ وله مثله: ولئن طلبْتُ شبيهَهُ إني إذاً ... لمكلِّفٌ طلبَ المحال ركابي نقله أبو الطيب فقال: وما عزّه فيها مُرادٌ أراده ... وإنْ عزّ إلا أن يكون له مثلُ فزاد؛ لأنه بيّن وجهين من المدح: أحدُهما وصفُه بالاقتدار والتمكّن من المراد، والثاني انفرادُه بالفضل عن الأمثال، وقد قال مقتصراً على المعنى الأول: أمُريدَ مثلِ محمدٍ في عصره ... لا تبلُنا بطلابِ ما لا يُلحَقُ البحتري: يتعثّرْن في النّحورِ وفي الأوْ ... جُه شُكراً لمّا شربْن الدماءَ أبو الطيب:

تميل كأن في الأبطال خمْراً ... عُلِلنَ اصطِباحاً واغْتِباقا ثم نقله الى الخيل فقال: ما زال طِرفُك يجري في دمائِهمُ ... حتى مشى بك مشيَ الشاربِ الثّملِ ابن المعتز، وهو معنى مشهور، وهذا من مليح ما قيل فيه: إنّا على البِعاد والتفرّق ... لنَلتقي بالذّكرِ إن لم نلتَقِ أبو الطيب: لنا ولأهلِه أبداً قُلوبٌ ... تلاقَى في جُسومٍ ما تَلاقى وله نحوه: قرُب المزارُ ولا مزارَ وإنّما ... يغدو الجَنانُ فنلتقي ويروحُ البحتري: وأصفحُ للبلى عن ضوءِ وجهٍ ... غنيتُ يروعُني فيه الشّحوبُ أبو الطيب: وبالٍ كان يُفكِرُ في الهُزالِ أبو تمام: هم رهْطُ من أمسى بعيداً رهْطُه ... وبنو أبي رجُلٍ بغيرِ بني أبِ

أبو الطيب: إذا تركَ الإنسانُ أهلاً وراءَه ... ويمّم كافوراً فم يتغرّبُ وأصله قول الأول: ومن تكرّمِهم في المحلِ أنهُمُ ... لا يعلم الجارُ فيهم أنه جارُ مثله: وما زال بي إكرامُهم وافتِقادُهم ... وإلطافهمْ حتى حسبتُهمُ أهلي أبو تمام: فلقَبلُ أظهرَ صقْلُ سيفٍ أثرَه ... فبَدا وهذّبَتِ النّفوسَ همومُها أبو الطيب: ويبقى على مرِّ الحوادثِ صبرُهُ ... ويبدو كما يبدو الفِرِندُ على الصّقْلِ أبو تمام: لها منزلٌ تحت الثرى وعهدتُها ... لها منزلٌ بين الجوانحِ والقلبِ أبو الطيب: فإن تكُ في قبرٍ فإنّك في الحشا أبو تمام:

قد قلّصَتْ شفتاهُ من حفيظَتِه ... فخيلَ من شدّة التّعبيسِ مبتسما أبو الطيب: إذا رأيت نيوبَ الليث بارزةً ... فلا تظنّن أن الليثَ يبتسمُ البعيث: وإنا لنُعطي المشرفيّة حقها ... فنقطَعُ في أيمانِنا وتقطّعُ أبو تمام: وما كنتَ إلا السيف لاقى ضريبةً ... فقطّعها ثم انثَنى فتقطّعا المتنبي: وهولٍ كشفْتَ ونصلٍ قصفْتَ ... ورُمحٍ تركْت مُباداً مُبيدا ثم أعاده فقال: فتُسفِر عنه والسّيوفُ كأنما ... مضاربُها مما انفلَلْن ضرائِبُ ثم أعاد وزاد؛ إذ جعل الحديد مقتولاً فقال: قتلْت نُفوسَ العِدا بالحدي ... دِ حتى قتلْتَ بهنّ الحديدا وكأنّه ألمّ في استعارة القتل للحديد بقول أبي تمام: وما مات حتى مات مضرِبُ سيفِه ... من الضّربِ واعتلّتْ عليه القَنا السُمْرُ

ثم كرره وزاد إذ جعله مقتولاً في جسم القتيل وجعل للسيوف آجالاً فقال: القاتلُ السيفَ في جسمِ القتيلِ به ... وللسيوفِ كما للناس آجالُ ثم أعاد وزاد تشبيهاً فقال: ومنعفِرٍ لنصْلِ السيفِ فيه ... تواري الضّبِّ خافَ من احتِراشِ وكأنه اقتدى في ترْكِ السيف في جسم القتيل بقول الحُصين بن الحُمام: نطاردُهم نستنفِذُ الجُرد كالقَنا ... ويستنفِذون السّمهريَّ المقوَّما قيل في تفسير قوله: ويستنفِذون السّمهريَّ المقوّما إنا نطعنهم فتبقى الرماح أو عواليها فيهم إذا أعجلونا بركْضِ الخيل عن انتزاعِها؛ وقيل غير ذلك. وقد قالت امرأة من بني عامر: تعرفكم جزر الجزور رماحُنا ... ويمسِكْن بالأكبادِ مُنكسرات وقد قيل في تفسيره: إن التماح تنكسر فتعلق بالأكباد عواليها. وقد قال أبو الطيب: نصرِّفُه للطّعْنِ فوقَ حواذِرٍ ... قدِ انقصفَتْ فيهنّ منهُ كِعابُ

وقال، وقد زاد كأنه اخترع المعنى وإن كان يلاحظ بيت أبي تمام: ونالتْ ثارَها الأكبادُ منه ... فأولَتْه اندقاقاً أو صُدوعا سعيد بن حُميد: جلّت يدُ الدهرِ عندي في اجتماعهما ... وإن أساء بنا في كلّ ما صنعا أبو الطيب: يدٌ للزمان الجمعُ بيني وبينه ... لتفريقِه بيني وبين النّوائب وقد نقله الى معنى آخر فقال: ولولا أيادي الدهْر في الجمْع بيننا ... غفَلْنا فلم نشعُر له بذُنوبِ وكأنّه ألمّ في هذا المعنى بقول البحتري - وإن كان في الغرضين بعض الاختلاف: تنسى أيادي الزّمانِ فينا فما ... نذْكرُ شيئاً منه سوى نُوَبِهْ الكميت: وكائِن في المعاشر من أناسٍ ... أخوهم فوقهم وهمُ كِرامُ أبو الطيب: كلّ آخائِه كِرامُ بني الدنْ ... يا ولكنّه كريمُ الكِرامِ

أبو تمام: مضى طاهرَ الأخلاق لم يبق بقعة ... من الأرض إلا واشتهَتْ أنها قبرُ أبو الطيب: وتغبِطُ الأرضُ منها حيثُ حلّ به ... وتحسُدُ الخيلُ منها أيّها ركِبا غيره: إن أجرَمَتْ لم تنصّلْ من جرائِمِها ... وإن أساءَت الى الأقوامِ لم تُلَمِ أبو الطيب: وجدْنا ابنَ إسحاقَ الحُسين كجدِّه ... على كثرةِ القتْلى برِيّاً من الإثم أبو تمام: مستَبسِلون كأنما مهَجاتُهم ... ليست لهم إلا غداةَ تسيل ألِفوا المَنايا فالقتيلُ لديهمُ ... لم يُخَلّ العيش وهْو قتيلُ ونحو هذا اللفظ قول أبو الطيب: وكقتْلِه ألا يموتَ قَتيلا

ومثله: لا ييأسون من الدنيا إذا قُتِلوا أبو الطيب: ضربْتَه بصدورِ الخيلِ حاملةً ... قوماً إذا تلِفوا قُدْماً فقد سلِموا وله: وفوارسٍ يُحيي الحِمامُ نُفوسَها ... فكأنها ليستْ من الحيوان وأنا أرى أن هذا المعنى منقول من قول زهير: تراهُ إذا ما جِئتَه متهلِّلاً ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائلُه لأن زهيراً جعله يُسَر بالبذل حتى كأنه أخذ، وجعله هذا يسرع الى القتل حتى كأنّه حياة، فالمعنيان واحد في التحصيل، وقد قال أبو الطيب في معنى قول زهير: من القاسمين الشُكْرَ بيني وبينهم ... لأنهم يُسْدَى إليهم بأن يُسْدوا أبو تمام: ويهتزّ مثلَ السيفِ لو لم تسُلَّهُ ... يدانِ لسلّتْه ظُباه من الغِمدِ

أبو الطيب: وتكاد الظُبى لِما عوّدوها ... تنتَضي نفسَها الى الأعناق زيد الخيل: وأسمَر مرفوعٍ يرى ما أريْتُه ... بصيرٍ إذا صوّبْتُه بالمقاتِلِ أبو تمام: من كل أزرق نظّارٍ بلا نظَرٍ ... الى المقاتلِ ما في متنِه أودُ أبو الطيب: يرى حدُّهُ غامِضاتِ القُلوبِ ... إذا كنتُ في هبْوةٍ لا أراني وقد زعموا أن قوله: وقد صُغْتَ الأسنّة من هُمومٍ ... فما يخطُرْنَ إلا في فؤادِ مأخوذ من هذا، ومن قول أبي تمام: يظل فؤاداً للفؤاد سنانُه ولا أبعد أن يكون قد لاحظه؛ لنّه قد أبرّ به على كل مخترع وسابق ومنفرد. والأقربُ عندي أن يكون مأخوذاً من قول أبي تمام: كأنّه كان تِرْبَ الحبِّ مذْ زمنِ ... فليس يحجُبُه قلبٌ ولا كبِدُ أبو تمام: تجاوز غاياتِ العُقولِ رغائبٌ ... تكادُ بها لولا العِيان يُكذّبُ

البحتري: وحديث مجدٍ عنك أفرَط حُسنُه ... حتى ظننّا أنه موضوع وأصله قول بعض العرب: أحدّث من لاقيتُ يوماً بلاءَه ... وهم يحسبون أنني غيرُ صادق أبو الطيب: كرَماً فلو حدّثْتَه عن نفسِه ... بعظيم ما صنَعتْ لظنّك كاذِبا فأساء؛ لأنه جعله يستعظم فعله، وإنما الجيد قوله: يستصغِرُ الخطَر العظيمَ لوفدِه ... ويظنّ دِجلةَ ليس تكفي شاربا أبو نواس في الكئوس: طالعات مع السُقاةِ علينا ... فإذا ما غرّبْنَ يغرُبْنَ فينا أبو الطيب في السيوف: طلعْنَ شُموساً والغمودُ مشارقٌ ... لهنّ وهاماتُ الرجالِ مغارِبُ فأما جعل السيوف شموساً فكثير النابغة: لَما أغفَلْتُ شكرَك فانتَصِحْني ... فكيف ومن عطائِكَ جُلّ مالي ثم فسر فقال: وإنّ تِلادي إنْ نظرتُ وشِكّتي ... ومُهري وما ضمّت إليّ الأناملُ

حِباؤكَ والعيسُ العِتاقُ كأنّها ... هِجانُ المَهى تُحدَى عليها الرّحائلُ أبو نواس: وكلّ خيرٍ عندهُم من عندِه وفسر أبو الطيب وشرح وملح: أسيرُ الى إقطاعه في ثيابِه ... على طِرفِه من دارِه بحُسامِه وما مطَرتنيه من البيضِ والقَنا ... ورومِ العِبِدَّى هاطِلاتُ غَمامِه حاتم: ومن يبتدِعْ ما ليس من خِيمِ نفسِه ... يدعْه ويغلبْه على النفس خِيمُها وقال الأعور الشّنّي: ومن يقترف خُلْقاً سوى خُلقِ نفسِه ... يدعْهُو تغلبْه عليه الطّبائعُ إبراهيم بن المهدي: من تحلّى شيمةً ليستْ له ... فارقَتْه وأقامتْ شيمتُه أبو الطيب: وأسرعُ مفعولٍ فعلْتَ تغيُّراً ... تكلّفُ شيءٍ في طباعكَ ضدُّه

وهذا المعنى متداول، وقد أكثر الناسُ فيه، وأشبهه بقول أبو الطيب قول الأعور الشّنّي: وأدْوَم أخلاقِ الفَتى ما نَشا به ... وأقصَرُ أفعالِ الرجالِ البدائِعُ المصراع الثاني هو بيت أبو الطيب بكماله. طُفَيل: وما أنا بالمُستَنِْر البيْن إنّني ... بذى لطَفِ الجيرانِ قِدْماً مفجَّعُ أبو الطيب: وما استغرَبَتْ عيني فِراقاً رأيتُه ... ولا علّمتْني غيرَ ما القلبُ عالِمُه المصراع الثاني من قول عديّ بن الرّقاع: وعرفْتُ حتى لستُ أسأل عالِماً ... عن حرفِ واحدةٍ لكيْ أزدادَها ومن قوله الأعور: لقد أصبحتُ ما أحتاج فيما ... بلوْتُ من الأمورِ الى السؤال وقد كرره أبو الطيب فقال: عرفتُ الليالي قبلَ ما صنعتْ بِنا ... فلمّا دهَتْني لم تزِدْني بها عِلما أبو الطيب: فلا يتّهمْني الكاشِحون فإنني ... رعيْتُ الرّدى حتى حلَتْ لي علاقِمُهْ

وهو من قول الآخر: وفارَقتُ حتى ما أحِنّ الى هوًى ... وإنْ بان جيرانٌ عليّ كِرامُ وقد جعلتْ نفسي على النّأيِ تنطوي ... وعيني على فقْدِ الحبيبِ تنامُ وهو معنى قوله حتى حلت لي علاقمه. ومثله قول المؤرِّج بن عمرو: رُوِّعْتُ بالبين حتى ما أراعُ له ... وبالتفرّقِ من أهلي وجيراني أو قول الخُريمي: لقد وقرَتْني الحادثاتُ فما أُرى ... لنازلةٍ من ريْبها أتوجّعُ وقد بسطه أبو الطيب وشرحه وزاد فيه تمثيلاً حسناً فقال: رماني الدهرُ بالأرْزاءِ حتى ... فؤادي في غِشاءٍ من نِبال فصِرْتُ إذا أصابتْني سهامٌ ... تكسّرتِ النِّصالُ على النّصالِ وقد تقدم ما يقارب هذا المعنى، وإن كنا أعدناه لتمييز أحدهما عن الآخر. الطّرمّاح: يفرّق منا من نحبّ اجتماعَه ... ويجمع منا بين أهلِ الضّغائن آخر: عجِبتُ لتطويح النّوى من أحبّه ... وإدْناءِ من لا يُستلذّ له قُربُ

وهو كثير، وأصله لمضرِّس بن ربعي من قوله: لعمرُك إني بالخليل الذي له ... عليّ دلالٌ واجبٌ لمفجّعُ وإني بالمولى الذي ليس نافِعي ... ولا ضائِري ما ساءه لممتّعُ فنقله أبو الطيب فأحسن وأطاب: أما تغلَطُ الأيامُ فيّ بأن أرى ... بغيضاً تُنائي أو حبيباً تقرِّبُ يزيد المهلّبي، وهو معنى مشهور: إن يُعجز الدهرُ كفّي عن جزائِكُمُ ... فإنني بالهَوى والشُكرِ مجتهدُ أبو الطيب: لا خيلَ عندَك تهديها ولا مالُ ... فليُسعِدِ النُطقُ إن لم تُسعِدِ الحالُ وأصله قول الأول: يَجزيك أو يُثْنى عليك وإنّ منْ ... أثنى عليك بما فعلتَ كمن جزَى أبو العَمَيثل الأعرابي: اصْدُقْ وعِفّ وبر واصْبِر واحتمِلْ ... واصفَحْ ودارِ وكافِ وابذُل واشْجُعِ أبو الطيب: أقلْ أنِل أُنْ صنِ احمِلْ علِّ سلِّ أعِدْ ... زِدْ هشَّ بَشَّ هبِ اغفرْ أدْنِ سُرَّ صِلِ فزاد، وأصل هذه الطريقة قول امرئ القيس:

أفاد وجادَ وسادَ وزاد ... وقاد وعادَ وأفضَلْ الحُصين بن الحمام: تأخرتُ أستَبقي الحياةَ فلم أجِدْ ... لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدّما أبو الطيب: فحبُّ الجبانِ النّفْسَ أوردَه التُقى ... وحبّ الشُجاعِ النّفسَ أوردَهُ الحرْبا سعيد بن حُميد: يا ليلُ لو تَلْقى الذي ... ألقى به أو تجدُ قصّرَ من طولِك أو ... أضعفَ منك الجلدُ نقله أبو الطيب فقال: كأنّ الليلَ قاسى ما أُقاسي ... فصارَ سوادُه فيه شُحوبا علي بن محمد البسّامي: منْ كان في الدنيا له شارةٌ ... فنحن من نظّارة الدنيا نرمُقها من كثَبٍ حسرةً ... كأنّنا لفظ بلا معنى أبو الطيب: والدهرُ لفظٌ وأنت معناهُ

بعضهم: وأُسَرُّ في الدُنيا بكلِّ زيادةٍ ... وزيادَتي فيها هوَ النّقْصُ أبو الطيب: زيادةُ شيب وهي نقْصُ زيادتي ... وقوّةُ عِشقٍ وهيَ من قوّتي ضعفُ ومثله له: متى ما ازددْتُ من بعدِ التناهي ... فقد وقع انتِقاصي في ازْدياد علي بن الجهم في صفة الشعر، وهو معنى مشهور: فصار مسيرَ الشمسِ في كل بلدة ... وهبّ هبوبَ الريح في البرّ والبحرِ أبو الطيب: قوافٍ إذا سِرْنَ عن مِقولي ... وثبْنَ الجبال وخُضْنَ البِحارا وله مثله: إذا قُلتُه لم يمتنِعْ من وُصولِه ... جدارٌ معلَّى أو خِباءٌ مطنّبُ وأصله قول عنترة بن الأخرس: ألم تر أنّ شِعري سار عنّي ... وشِعرَك حولَ بيتك ما يسير

ابن الرومي: وما ازْدادَ فضلٌ فيك بالمدْح شُهرةً ... بلى؛ كان مثل المِسك صادفَ مِخْوضا أبو الطيب: وذاك النّشر عِرضُك كان مسْكاً ... وهذا الشعرُ فهْري والمَداكا الحادرة: فأثنوا عليْنا لا أبا لأبيكُمُ ... بأحسابنا إن الثّناء هو الخُلدُ غيره: ردّت صنائِعُه عليهِ حياتَه ... كأنهُ من نشرِها منشورُ أبو تمام: سلَفوا يرَوْن الذّكْرَ عيشاً ثانياً ... ومضَوْا يعدّون الثّناءَ خُلودا أبو الطيب: كفَلَ الثّناءُ له بردِّ حياتِه ... لما انْطوى فكأنّه منشورُ وكأنّما عيسى ابنُ مريمَ ذكرُه ... وكأن عازَر شخصُه المقبورُ وكرره فقال:

فإنّ له ببطنِ الأرضِ شخصاً ... جديداً ذِكرُناهُ وهو بالي بعض العرب: وقاسَمَني دهْري بنيَّ بشطْرِه ... فلما تقضّى شطرُهُ عادَ في شطْري أبو الطيب: قد كان قاسمَك الشّخصين دهرُهُما ... وعاش دُرُّهُما المفدِيُّ بالذّهبِ وعاد في طلبِ المتروكِ تاركُه ... إنّا لنغفُلُ والأيامُ في الطّلبِ ومثل المصراع الأخير قولُ النمِر بن تولَب: تدارك ما قبل الشباب وبعده ... حوادث أيام تمرّ وأغفُلُ بعض المُحدَثين: وما فسدَتْ لي يشهدُ الله نيّةٌ ... عليك بلِ استفْسَدْتَني فاتّهَمْتني أبو الطيب وأحسن غاية الإحسان: إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءتْ ظُنونه ... وصدّقَ ما يعتادُه من توهُّمِ وعادى محبّيه بقولِ عُداتِه ... وأصبحَ في ليلٍ من الشكِّ مُظلِمِ بعض العرب: لمّا رأوهُم لم يُحسّوا مُدرِكاً ... وضعوا أناملَهُم على الأكباد أبو الطيب:

ظَلْتَ بها تنطَوي على كبِدٍ ... نضيجةً فوقَ خِلبِها يدُها يحيى بن زياد: دفَعْنا بكَ الأيامَ حتى إذا أتتْ ... تُريدُك لم تسْطِع لها عنك مدفعا أبو الطيب: ما زِلْت تدفعُ كلّ أمرٍ فادِحِ ... حتى أتى الأمرُ الذي لا يُدفَع أبو تمام: محاسنُ من مجدٍ متى يقرِنوا بها ... مناقبَ أقوامٍ تكُنْ كالمَعايبِ أبو الطيب: شادوا مناقبَهم وشِدْتَ مناقباً ... وُجِدَتْ مناقبُهم بهنّ مثالِبا الحطيئة: قومٌ همُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُم ... ومن يسوِّي بأنفِ النّاقةِ الذّنَبا المتنبي: قصدْتُك والرّاجون قصْدي إليهِمُ ... كثيرٌ ولكنْ ليسَ كالذّنَبِ الأنفُ

الحُصين بن الحمام: ولما رأيت الودَّ ليس بنافعي ... عمدْتُ الى الأمر الذي كان أحْزَما أبو الطيب: إذا لم تُجزهُم دارَ قومٍ مودّةٌ ... أجازَ القَنا والخوفُ خيرٌ من الودِّ والعرب تقول: رهَبوت خير من رحَموت؛ أي أن تُرهِب خير من أن ترحَم بعض العرب: ولا خيرَ في حسن الجُسوم ونُبلِها ... إذا لم تزِنْ حُسنَ الجُسومِ عقولُ عمرو بن معدي كرِب: ليسَ الجمالُ بمئزرٍ ... فاعْلَم وإنْ رُدّيَت بُرْدا إن الجمالَ معادنٌ ... ومناقبٌ أورثْنَ مجْدا العباس بن مِرداس؛ ويروى لربيعة بن ثابت الرّقي: فما عِظَمُ الرجالِ لهُم بفخْرٍ ... ولكنْ فخرُهُم كرمٌ وخيرُ أبو الطيب: وما الحُسنُ في وجهِ الفتى شرَفاً له ... إذا لم يكنْ في فِعلِه والخلائِق ومثله له في وصف الخيل: إذا لم تُشاهِدْ غيرَ حُسنِ شياتِها ... وأعضائِها فالحُسنُ عنكَ مغيَّبُ

وقريب منه قوله: يحبُّ العاقلونَ على التّصافي ... وحبُّ الجاهلينَ على الوسامِ بعض العرب: ولستُ وإن أحببتُ من يسكُنِ الغَضا ... بأولِ راجِ حاجةً لا ينالُها أبو الطيب: وليس بأولِ ذي همّةٍ ... دعتْهُ لِما ليسَ بالنّائِلِ جابر بن حيّان: وإنْ يقتسِمْ مالي بنيَّ ونسوتي ... فلم يقسِموا خُلُقي الكريمَ ولا فِعلي أبو تمام: وانفَحْ لنا من طيب خيمِك نفحةً ... إن كانتِ الأخلاق مما يوهَبُ أبو الطيب: إذا طلبوا جدْواكَ أُعطوا وحُكِّموا ... وإن طلَبوا المجدَ الذي فيك خُيِّبوا ولو جاز أن يحْووا عُلاك وهبْتَها ... ولكَنْ منَ الأشياءِ ما ليسَ يوهَبُ

بعض العرب: لا أُمسِكُ المالَ إلا ريْثَ أُتلِفُه ... ولا تغيّرُني حالٌ الى حالِ أشجع: تغيِّرُ الأيامُ حالاته ... وجودُه باقٍ على حال أبو الطيب: وحالاتُ الزّمانِ عليكَ شتّى ... وحالُك واحدٌ في كلِّ حالِ أبو تمام: همّةٌ تنطحُ النّجومَ وجدٌّ ... آلِفٌ للحضيضِ فهو حضيضُ أبو الطيب: أبداً أقطَعُ البلادَ ونجْمي ... في نُحوسٍ وهمّتي في سُعودِ أبو تمام: وما زال منشوراً عليّ نوالُه ... وعندي حتى قد بقيتُ بلا عندِ أبو الطيب: ويمنعني ممّن سوى ابنِ محمدٍ ... أيادٍ له عندي يضيقُ بها عندُ

أبو تمام: يمدّون بالبيضِ القواطعِ أيدياً ... وهنَّ سواءٌ والسّيوفُ القواطعُ نقله أبو الطيب فقال: هُمامٌ إذا ما فارقَ السيفُ غمدَه ... وعاينْتَه لم تدْرِ أيُّهما النّصْلُ أبو تمام وهو كثير: قد نبَذوا الحَجَفَ المحبوك من زؤدٍ ... وصيّروا هامهم بل صُيِّرَتْ حَجَفا أبو الطيب: تقي جبَهاتُهُم ما في ذُراهُم ... إذا بشِفارِها حَمِيَ اللّطامُ أبو تمام: ولكَمْ عدوٍّ قال لي متمثّلاً ... وكم من ودودٍ ليس بالمودودِ أبو الطيب: هو الحبيبُ ولكنّي أعوذ به ... من أنْ أكونَ محبّاً غير محبوبِ أبو تمام: ملْقى الرّجاء وملْقى الرَّحْل في نفر ... الجودُ عندهُمُ قولٌ بلا عمَل

وله: وأقلُّ الأشياءِ محصولَ نفْعٍ ... صحةُالقول والفَعالُ مريضُ وهو كثير. قال أبو الطيب: جودُ الرّجالِ من الأيدي وجودُهُمُ ... من اللسانِ فلا كانوا ولا الجودُ وقال في أخرى: ونُعْمى الناسِ أقوالُ وقال في أخرى: أرى أناساً ومحصولي على غنَمٍ ... وذكرَ جودٍ ومحْصولي على الكلِمِ وقد يزعم بعضُ من يذهب على تمييز السّرَق أن المِصْراع الأول مأخوذٌ من قولهم: فلان بهيمة وحمار. ومن قول النّمَري: شاءٌ من الناس راتع هامِلُ ومن قول السّيد: قد ضيّع اللهُ ما جمّعتُ من أدبٍ ... بين الحَميرِ وبين الشّاءِ والبقَرِ قال أبو الحسن: وهذا البيت يروى للمخيم الراسي. قال: والجماعة اعتمدَتْ فيه على قول الله عز وجل: (إنْ هُمْ إلا كالأنْعامِ بل هُمْ أضلُّ) ، وهذا كما زعم الصولي أن قول البحتري:

عليّ نحْتُ القوافي من مقاطِعها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ مأخوذ من قول أبي تمام: لا يدْهمنّك من دهمائهم نفر ... فإنّ جلَّهم بل كلهم بقرُ هذا مع اتساعه في الدعاوى، وتحققه عند نفسه بنَقْد الشعر، وادعائه أن أحداً لم يسبقه الى هذا العلم، وأنه طريق لم تُسلَك قبلَه، وباب لم يزلْ مستغلقاً حتى افتتحه؛ كأنْ لم يعلم أن العقلاء منذ كانوا يسمّون البليدَ الغبي حماراً أو بقرة. وإذا استْبعدوا ذهن مخاطَب واستخفوا فطنه منازع قالوا: هذا ثور وتيْس؛ حتى شاع ذلك على أفواه العامة وألْسن النّساء والصبيان. وكيف يُدّعى في هذا السَّرق! ومن جعل بعضَ الناس أولى به من بعض وهم فيه شرَعٌ واحد! وأي ذهن يغيب عنه ذلك حتى يفتقر الى الاعتماد فيه على غيره والاستمداد ممّن تقدم قبله! وإنما يصحّ في مثل هذا الأخذ إذا أضيفتْ إليه صنعةُ لفظ، أو وُصِل بزيادة معنى، كبيت البحتري فإنّه لم يرض أن يقول: القوم بقر وبهائم؛ كما قال أبو تمام حتى قال: عليّ نحتُ القوافي من مقاطعها أي عليّ أن أجيد وأبدِع وأتأنّق في شعري، وما عليّ إفهام البقر؛ فهذه زيادة يصح فيها نقد وسرِقة، وأما بيتُ أبو الطيب فليس إلا صريح التمثيل المتداول الذي عرفناك انتفاء هذه الدعوى عنه.

أبو تمام: وكأنّما نافسْتَ قدْرَك حظَّهُ ... وحسدْت نفسَك حين أن لم تُحسَدِ أبو الطيب: يحدّثُ عن قلبِه مُكرَهاً ... كأنّ لهُ منهُ قلباً حَسودا إن كان فيه أخذٌ ففي اللفظ، ومثله قد يؤخذ؛ فأما المعنيان فمختلفان، لأن أبا تمام أراد أنك نافستَ قدرَك، وحسدْت نفسَك، فطفِقتَ تُناهي في شرف الفعل، وتَزيد على كلِّ غاية تصلُ إليها، وإن كنتَ فيها منقطعَ القرين فائت الشأو، وأبو الطيب يقول: كأن قلبك يحسُدُك على فضائلك فهو يكره أن يستقبل بذكرها. وهذا نوع آخر من المديح وفي غير المذهب الأول؛ لكنهما اجتمعا في حسَدِ النفس والقلب. أبو تمام: خابَ امرؤٌ بخِسَ الحوادثُ سعيَه ... فأقامَ عنكَ وأنت سعدُ الأسعُدِ أبو الطيب: عجْزٌ بحُرٍّ فاقَةٌ ووراءَهُ ... رِزْقُ الإلهِ وبابُك المفتوح أبو تمام: فالمشْيُ همْسٌ والنِّداءُ إشارةٌ ... خوفَ انتقامِك والحديثُ سِرارُ

أبو الطيب واقتصر على ذكر المشي فقال: قصرَتْ مخافتَهُ الخُطا فكأنّما ... ركبَ الكميُّ جوادَهُ مشكولا ونحوه له: فلم يسرَحْ لهم في الصُبْحِ مالٌ ... ولم توقَدْ لهُم بالليلِ نارُ الحُصَين بن الحِمام: فلستُ بمبتاع الحياةِ بذلّةٍ ... ولا مُرتَقٍ من خشية الموت سُلَّما تأبط شراً: هُما خُطّتا إمّا إسارٌ وذلّةٌ ... وإما دمٌ، والقتلُ بالحرِّ أجملُ بشار: ولَلموتُ خيرٌ من حياة على أذى ... يضيمك فيها صاحب وتراقبه وقد أكثر الناس وتصرفوا في أمثلته. أبو الطيب: ذلّ من يغبِطُ الذّليلَ بعيشٍ ... رُبّ عيشٍ أخفُّ منهُ الحِمامُ

وله: عِشْ كريماً أو متْ وأنت عزيزٌ ... بين طعنِ القنا وخفْقِ البُنودِ وقد أعاده فزاد وأحسن فقال: تغُرُّ حلاواتُ النفوسِ قلوبَها ... فتختارُ بعضَ العيش وهُو حِمامُ وشرُّ الحِماميْنِ الزّؤامين عيشةٌ ... يذِلُّ الذي يختارُها ويُضامُ ونحوه له: وأمَرُّ مما فرّ منهُ فِرارُهُ ... وكقتْلِه أن لا يموت قَتيلا والمصراع الثاني من قول أبي تمام - وقد قدمناه: ألِفوا المَنايا فالقتيلُ لديهُمُ ... من لم يُخَلِّ العيشَ وهْو قتيلُ ونحوه قول المتنبي: فاطْلُبِ العزَّ في لظًى وذرِ الذ ... لّ ولو كان في جِنانِ الخُلودِ وهو من قول الناس: النار ولا العار. ومثل الأول قوله: لقيتُ القَنا عنهُ بنفْسٍ كريمةٍ ... الى الموت في الهيجا من العار تهرُب الأهْتم بن سِنان: وما كلّ من يغْشى القِتالَ بميّتٍ ... ولا كلُّ منْ يرْجو الإيابَ بسالِم زياد الأعجم: مات المغيرةُ بعد طولِ تعرُّضٍ ... للقتل بين أسنّةِ وصفائح

والقتلُ ليس الى القِتال ولا أرى ... سبباً يؤخَّرُ للشّفيق الناصح أبو الطيب: وقد يترُك النفسَ التي لا تهابُه ... ويخترِمُ النّفْسَ التي تهيَّبُ وله: يُقتَل العاجزُ الجبانُ وقد يعْ ... جِزُ عن قطعِ بُخْنُقِ المولودِ ويوقَّى الفتى المِخَشُّ وقد خوّ ... ضَ في ماءِ لبّةِ الصّنديدِ بعض العرب: إني لأستُر ما ذو العقلِ ساترُه ... من حاجةٍ وأُميتُ السرَّ كِتْمانا عِمران بن حِطّان: وكنتُ أجُنَّ السرَّ حتى أميتَه ... وقد كان عندي للأمانةِ موضِعُ أبو الطيب: وسرُّكُم في الحَشا ميّتٌ ... إذا أُنشِرَ السرُّ لا يُنشَرُ الأعور الشنيّ - وهو كثير: إذا صبّحَتْني من أُناسٍ ثعالبٌ ... لأدفَع ما قالوا منحتُهُم حقْرا أبو الطيب: ويحتقِرُ الحُسّادَ عن ذكرِه لهُم ... كأنهُمُ في الخَلقِ ما خُلِقوا بعْدُ

وله: أبْدو فيسْجُدُ من بالسّوءِ يذكُرُني ... فلا أعاتِبُه صَفْحاً وإهْوانا المصراع الثاني هو المعنى الأول، وقد كثر حتى خرج عن باب السّرق. زياد الأعجم: إنّ السماحةَ والمروءة ضُمِّنا ... قبْراً بمَرْوَ على الطّريقِ الواضِح أبو الطيب: فيهِ الفصاحةُ والسّماحةُ والتُقى ... والبأسُ أجمَعُ والحِجا والخِيرُ المؤرج التغلبي: يغتابُ عِرضي خالياً ... وإذا تلاقَيْنا اقشَعرّا يُبدي كلاماً ليّناً ... عِندي ويُخفي مُستَسِرّا سويد بن أبي كاهل: ويُحيّيني إذا لاقيتُه ... وإذا يخلو له لحْمي رتَعْ ولأبي الطيب: محسَّدُ الفصْلِ مكذوبٌ على أثَري

الخُرَيميّ وهو مشهور وهذا من أملحه: زاد معروفُك عندي عِظَماً ... أنّه عندَك محقور صغير تتناساهُ كأنْ لم تأتِهِ ... وهْو في العالم مشهورُ كثيرُ قال أبو الطيب - وأحسن وتناهى في الإحسان: تظنّ من فقدِك اعتِدادَهُمُ ... أنّهمْ أنعَموا وما علِموا ذو الإصبع العدواني - وهو كثير: أطافَ بنا ريْبُ الزّمان فداسنا ... له طائِفٌ بالصّالحين بصيرُ البحتري: ألم ترَ للنّوائبِ كيف تسْمو ... الى أهلِ النّوافِلِ والفضولِ أبو الطيب: أفاضِلُ الناس أغراضٌ لِذا الزّمنِ ومثل هذا قوله: أُعيذُكُم من صُروفِ دهرِكُم ... فإنّه في الكِرام متّهَمُ ومن هذا المعنى قول أبي تمام: إنْ ينتحِل حدَثانُ الدهرِ أنفُسَكُم ... ويُسلمُ الناسَ بين الحوْضِ والعطَنِ فالماءُ ليس عجيباً أنّ أطيبَهُ ... يفْنى ويمتدّ عُمرُ الآجِن الأسِنِ

وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: أعظَمُ الناس بلاءً الأمثَلُ فالأمثل. مُزاحم العُقيلي: وجوهٌ لو انّ المُدلجين اعتَشَوْا بها ... قطعْن الدجى حتى ترى الليلَ ينجَلي أشجع: ملكٌ بنورِ جبينِه ... يسْري وبحْرُ الليلِ طامِ أبو الطيب: فما زال لولا نورُ وجهِك جُنحُه ... ولا جابَها الرُكْبانُ لولا الأيانُقُ المرّار بن سعيد، وقد وصف فلاةً ودليلها، وهو كثير عن العرب. وهذا من مليح ما جاء فيه: يسْري الدليلُ بها خيفة ... وما بكآبته من خفاء إذا هو أنكر أسماءَها ... وعيَّ وحُقَّ له بالعياء له نظرتان مرفوعةٌ ... وأخرى تأمل ما في السِّقاء وثالثة بعد طول الصمات ... إليّ وفي حلقه كالبُكاءِ هُدبة: يطلُّ بها الهادي يقلِّبُ طرْفَه ... منَ الهولِ يدْعو ويْلَهُ وهو خائف

آخر: إذا اجْتازَها الخرِّيتُ قال لنفسِه ... أتاك برجلي حائن كلُّ حائن أبو الطيب: يتلوّنُ الخِرّيتُ من خوفِ التّوَى ... فيها كما تتلوّن الحِرْباءُ وملح في قوله: كم مهمَهٍ قُذُفٍ قلبُ الدّليل به ... قلبُ المُحبِّ قضاني بعدَما مطَلا ومن هذا المعنى قول دِعبِل: إذا أُقحِمَ الرّكبان فيها تبتّلوا ... فمستغفر من ذنبه ومسبِّح عبد الرحمن بن دارة وهو كثيرٌ عن العرب: فإن أنتم لم تقتلوا بأخيكُم ... فكونوا بَغايا للخَلوق وللكحل وبيعوا الرُدَينِياتِ بالحُلى واقعدوا ... على الذل وابتاعوا المغازل بالنّبْل أبو الطيب: إذا كنتَ ترْضى أن تعيشَ بذلّةٍ ... فلا تستعِدّنّ الحُسامَ اليَمانِيا ولا تستطيلَنّ الرّماحَ لغارةٍ ... ولا تستجيدَنّ العِتاقَ المذاكِيا أبو تمام: كم نعمة للهِ كانت عندَه ... فكأنّها في غُربةٍ وإسار

آخر: لا يليقُ الغِنى بوجه أبي يعْ ... لَى ولا نورُ بهجةِ الإسلامِ أبو الطيب: والغِنى في يدِ اللّئيم قبيحٌ ... قدْرَ قُبحِ الكريمِ في الإمْلاقِ أبو جُويرية العبْدي: وبدأة مجدٍ لم تكُنْ فافْترعْتها ... الى كل أفْق تحتويها القصائدُ البحتري: وغرائب في المجد تعلم أنها ... من شاعرٍ أو عالم أو كاتبِ وهو من قول أبي تمام: وأرى سماحك يا بن وهب شاعراً ... يلقى المديح من الندى بنقائص أبو الطيب: شاعِرُ المجدِ خِدْنُه شاعرُ اللّفْ ... ظِ كلانا ربُّ المعاني الدِّقاقِ ومثل هذا المعنى بعينه قول أبي تمام: غرُبَتْ خلائقُه وأغرَب شاعرٌ ... فيه فأحسنَ مُغرِبٌ في مُغرِبِ وقد كرره أبو الطيب وخالف بين أمثلته فقال: ترفّعَ عن عونِ المكارمِ قدرُه ... فما يفعَلُ الفَعْلاتِ إلا عذارِبا

وقال: يُريكَ من خلقِه غرائِبَهُ ... في مجدِه كيف يُخلَقُ النّسَمُ فزاد في البيتين معاً وقال: يمشي الكرامُ على آثارِ غيرهُمُ ... وأنتَ تخلُقُ ما تأتي وتبتَدِعُ بعض المحدثين: شخصَ الأنامُ الى جمالك فاستعِذْ ... من شرِّ أعيُنِهم بعيْبٍ واحدِ مثله: قد قلتُ حينَ تكاملَتْ وغدتْ ... أفعالُه زَيْناً من الزّينِ: ما كان أحوجَ ذا الكمالَ الى ... عيب يوقّيهِ من العيْنِ أبو الطيب: كأنّ الرّدى عادٍ على كل ماجدٍ ... إذا لم يعوِّذْ مجْدَه بعُيوبِ ومثله: فقل له لستَ خيرَ ما نثرَتْ ... وإنّما عوّذتْ بك الكَرَما خوفاً من العينِ أن تُصابَ بها ... أصاب عيناً بها يُعان عَمى

ذو الرمة: رجيعةُ أسفارٍ كأنّ زِمامَها ... شُجاعٌ لدى يُسرى الذّراعينِ مُطرِقُ أبو الطيب: تُجاذبُ فرسانَ الصّباحِ أعنّةً ... كأنّ على الأعْناقِ منها أفاعِيا وفي هذا البيت معنى يخرِجه عن اتباع البيت الأول، لأن ذا الرُمّة لم يزِدْ على التشبيه وليس هو الذي قصده أبو الطيب، وإن كان قد جرى في غرض بيته، وإنما أراد أنها لا تترك الأعنة تستقر في أيدي فرسانها، لما يزعجها من سوْرة المرَح، وحسن البقية بعد طول السُّرى؛ فكأنما الأعنة أفاعي تلدغ أعناقها إذا باشرتها، فيجاذبها الفارس فرسَه وهي تجاذبه إياها. وهذا غرض آخر ومقصد لم يتعرض له ذو الرمة. بكر بن النّطّاح: كأنك عندَ الكرِّ في حومةِ الوغى ... تفرُّ من الصّفِّ الذي من ورائِكا أبو الطيب: فكأنّه والطعْنُ من قُدّامِه ... متخوِّفٌ من خلفِه أن يُطعَنا بكر بن النّطاح: كأنّ المنايا ليس يجرين في الوغى ... إذا التقتِ الأبطالُ إلا برأيهِ

أبو الطيب: تغْدو المنايا فما تنفكّ واقفةً ... حتى يقولَ لها عودي فتندفِعُ أبو نواس: وقد غلبَتْها عَبرةٌ فدُموعُها ... على خدِّها حُمرٌ وفي نحرِها صُفرُ أبو الطيب: تبُلُّ الثّرى سوداً من المِسكِ وحدَه ... وقد قطرَتْ حُمراً على الشّعَرِ الجثْلِ أبو تمام: فغرّبْتُ حتى لم أجِدْ ذكرَ مشرقٍ ... وشرّقتُ حتى قد نسيت المغاربا أبو الطيب: فشرّق حتى ليس للشرقِ مشرِقٌ ... وغرّب حتى ليس للغربِ مغربُ البحتري: لما أتاك يقودُ جيشاً أرْعنا ... يمشي عليْهِ كثافةً وجُموعا فنقله أبو الطيب الى كثافة الرّهج فقال: عقدَتْ سنابُكُها عليها عثْيَراً ... لو تبتغي عنَقاً عليه لأمْكنا

وقال ابنُ الرومي مثل هذا: فلو حصبَتْهُم بالفضاء سحابةٌ ... لظلّ عليهِم حصبُها يتدَحْرَجْ وتبعه أبو الطيب فقال: يمنعُها أن يُصيبَها مطَرٌ ... شدّةُ ما قد تضايقَ الأسَلُ مُسلم: في عسكرٍ تشرقُ الأرضُ الفضاءُ به ... كالليلِ أنجُمُه القُضبانُ والأسلُ أبو الطيب: وكأنّما كُسي النهارُ به دُجى ... ليلٍ وأطلعَتِ الرّماحُ كواكِبا وقد نقله الى مثال آخر فقال: يزور الأعادي في سماء عجاجةٍ ... أسنّتُه في جانبَيها الكواكبُ وقد ذكرنا أصله فيما تقدم. الحصين بن الحِمام: يطأْن من القتْلى ومن قِصَد القنا ... خَباراً فما يجْرينَ إلا تجشُّما أبو الطيب: يطأن من الأبطال من لا حمَلْنَه ... ومن قِصَد المُرّان ما لا يقوَّمُ وقد أخذ الشعراء هذا المعنى فتداولوه، ومنه قول أبي تمام:

حوافِرها مخضوبةٌ بدِمائه ... ومن غُنمِها تيجانُه وخلاخِلُه ونحو هذا البيت قول أبي الطيب: أجلّتُها من كلّ طاغٍ ثيابُه ... وموطئُها من كلّ باغٍ ملاغِمُهْ وكرر المعنى فقال: غزَوْتَ بها دورَ المُلوكِ فباشرَتْ ... سنابِكُها هاماتِهمْ والمغانِيا ثم أعاد وزاد وأحسن فقال: حتى انتهى الفرسُ الجاري وما وقعَتْ ... في الأرضِ من جيَفِ القتْلى حوافرُهْ البحتري: ولم أرَ أمثالَ الرّجالِ تفاوتتْ ... لدى المجدِ حتى عُدّ ألفٌ بواحدِ أبو الطيب: لما وزَنْتُ بك الدُنيا فمِلْتَ بها ... وبالورى قلّ عندي كثرةُ العددِ البحتري: وإنّ مُقامي حيثُ خيّمْت محنةٌ ... تخبِّرُ عن فهم الكرامِ الأجاودِ أبو الطيب: أنا الذي بيّن الإلهُ له ال ... أقدارَ والمرءُ حيثُما جعلَهْ

البحتري وهو كثير: صَحا واهتزّ للمَعرو ... فِ حتى قيلَ نشْوانُ أبو الطيب: وجاد فلوْلا جودُه غيرَ شاربٍ ... لَقيلَ كريمٌ هيّجَتْه ابنةُ الكرْم عُمير بن جُعيْل: يُثيران من نسجِ التراب قمي ... صيْنِ أسْمالاً ويرتديان عديّ بن الرّقاع: يتعاوران من الغُبار مُلاءةً ... هدْباءَ سابغةً هُما نسَجاها أبو الطيب: خافِياتِ الألوانِ قد نسجَ النّقْ ... عُ عليها براقِعاً وجِلالا البحتري في السيف: مُصْغٍ الى حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفتْ وإذا قضى لم يعْدِل أبو الطيب ومثله كثير: لمّا تحكّمتِ الأسنةُ فيهِمُ ... جارتْ وهنّ يجُرْنَ في الأحكامِ أعشى باهلة: لا يأمن الناس مُمْساه ومُصبَحه ... من كل أوْبٍ وإنْ لم يأتِ يُنتظَرُ

خُزَر بن لوذان: ودعوتَ جيشاً بالثغور محلّهم ... والجيشُ باسم أبيهمُ يُستَهْزمُ ومثله قول الفرزدق: لقوا مثلهم فاستهزَموه بدعوةٍ ... دعَوْها وكيعاً والجيادُ بهم تجري يقول: إذا انتموا فَرِق القوم منهم فانهزموا. وقد أكثر الناس في الرّعب، وتصرفوا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نُصِرْتُ بالرعب. قال أشجع: كأنّ عليها من مخافة جعفَرِ ... كتائبهُ مبثوثة وجَحافِله العَكوك: غدا مجتمِع العزم ... له جُندٌ من الرُعْبِ أبو تمام: إلا تكُن حُصِرَتْ فقد أضحى لها ... من خوف قارِعة الحِصار حِصارُ وله: لو لمْ يُزاحِفْهُم لزاحَفَهم له ... ما في صدورهُمُ من الأوْجالِ أبو الطيب: إذ ما لم تُسِرْ جيشاً إليهم ... أسرْتَ إلى قلوبهمُ الهُلوعا وله: بعثوا الرُعبَ في قلوب الأعادي ... فكأنّ القتالَ قبل التّلاقِ وله: قد ناب عنكَ شديدُ الخوفِ واصطَنَعَتْ ... لك المهابةُ ما لا تصنَعَ البُهَمُ

وله: أبصَروا الطّعْنَ في القُلوب دِراكاً ... قبلَ أن يُبصروا الرّماحَ خَيالا وله: فهُمُ لاتّقائِه الدّهرَ في يوْ ... مِ نِزالٍ وليس يومَ نِزالِ وله: صيامٌ بأبواب القِباب جيادُهم ... وأشخاصُها في قلبِ خائِفهم تعْدو وله: تغيرُ عنه على الغاراتِ هيبتَهُ ... وما لهُ بأقاصي البرِّ إهْمالُ عمرو بن الأهتم: إذا المرءُ لم يُحبِبْك إلا تكرُّهاً ... يدلُّكَ من أخلاقِه ما يغالِبُ وأصله قول زهير: ومهما تكنْ عندَ امرئٍ من خليقة ... وإن خالَها تخفى على الناس تُعلم أبو الطيب: وللنّفسِ أخلاقٌ تدلّ على الفتى ... أكانَ سخاءً ما أتى أم تساخِيا أبو تمام: مفازَةُ صدْرٍ لو تطرّق لم يكن ... ليسلُكها فرداً سُلَيكُ المقانب

وله: ورُحْبَ صدْر لو انّ الأرض واسعةٌ ... كوُسعِه لم يضِقْ عن أهلِه بلَدُ البحتري: كريمٌ إذا ضاقَ الزمانُ فإنّه ... يضلُّ الفضاء الرّحبُ في صدرِه الرّحْبِ وله: ليس الذي ضلت تميمٌ وسطها الد ... هْناء لا بل صدرُك الدّهْنا أبو الطيب: شيَمُ الليالي أن تُشكّكَ ناقتي ... صدري بها أفْضى أم البيداء وله: تضيقُ عن جيشه الدُنيا ولو رحُبَتْ ... كصدرِه لم تبنْ فيها عساكِرُه وله - وقد أساء: وأنّك في ثوبٍ وصدرُك فيكما ... على أنه من ساحةِ الأرض أوسَعُ وقلبُك في الدنيا ولو دخلَتْ بنا ... وبالجِنّ فيه ما درَتْ كيف ترجِعُ

أبو تمام: لما نطَقْتُ نطقتُ فيك بمنطِقٍ ... حقٍّ فلم آثَمْ ولم أتحوَّبِ ولو امتدحتُ سواكَ كنتُ متى تضِقْ ... عنّي له صِدْقُ المقالةِ أكذِبِ أبو الطيب: وإنّ مديحَ الناسِ حقٌ وباطلٌ ... ومدحُك حقٌ ليس فيه كِذابُ أبو تمام: ولم أمدَحْكَ تفخيماً لشعري ... ولكنّي مدحْتُ بكَ المديحا أبو الطيب: إذا خلعْتُ على عِرضٍ له حُلَلاً ... وجدُها منهُ في أبهى من الحُلَلِ مطرز بن سبح: فما أدرك الساعون فينا بوترِهم ... ولا فاتنا من سائر الناس واتر الطّرمّاح: إن نأخذ الناس لا تُدرَك أخيذَتُنا ... أو نطّلب نتعدى الحق في الطّلب وهو كثير في شعر العرب؛ نقله أبو الطيب الى الدهر فقال: تُفيتُ الليالي كلَّ شيءٍ أخذْتَه ... وهنّ لِما يأخُذنَ منكَ غوارِمُ

أبو تمام: قَفا سِندِبايا والمنايا مُشيحةٌ ... تهدَّى الى روحِ الكميِّ فتهتَدي أبو الطيب: هَوادٍ لأملكِ الجيوشِ كأنها ... تخيّرُ أرواحَ الكُماةِ وتنتَقي وهذا المعنى هو الذي سبقت إليه العرب، فقال عبد يغوث بن صلاءة: ولكنني أحمي ذِمار أبيكم ... وكان الرماحُ يخْتطفن المُحامِيا فقالت امرأة من العرب: وقالوا ماجداً منكم قتَلْنا ... كذاك الرّمح بكففُ بالكريم أشجع: فما وجه يَحْيى وحدَه غاب عنهمُ ... ولكنّ يحْيى غاب بالخير أجمعا أبو الطيب: غاب الأميرُ فغاب الخيرُ عن بلدٍ ... كادت لفقْدِ اسمِه تبكي منابِرُه فأما بكاء المنابر فمن قوله: بكت المنابرُ من فَزارَةَ شجْوَها ... فاليوم من قيسٍ تضِجّ وتجزع وقد قال موسى شهوات: بكتِ المنابرُ يوم ماتَ وإنّما ... أبكى المنابرَ فقْدُ فارسِهنّهْ ونحوه قول أبي الطيب:

وأصبحَ مِصرٌ لا تكون أميرَه ... ولو أنّه ذو مُقلةٍ وفم بكَى أشجع: شدّ الخِطامَ بأنْفِ كلِّ مُخالفٍ ... حتى استقامَ له الذي لم يُخطَمِ أبو الطيب: وقد عايَنوه في سِواهُم وربّما ... أرى مارِقاً في الحرْبِ مصرَعَ مارق ونحوه له: فهُم حِزَقٌ على الخابور صرْعى ... بهمْ من شُرْبِ غيرهمُ خُمارُ ونحوه له: تلَفُ الذي اتّخذَ الجَراءَةَ خُلّةً ... وعظَ الذي اتّخذَ الفِرارَ خَليلا أشجع: وتنالُ منكَ بحدِّ مُقلَتِها ... ما لا يُنال بحدة النّصل وهو كثير مشهور: أبو الطيب: نفذَتْ عليّ السّابِريّ وربّما ... تندَقُّ فيه الصّعْدَةُ السّمْراءُ

أشجع: يسبِقُ الرّعْدَ بالنّوالِ كما يسْ ... بِقُ برْقَ الغيوثِ صوْبُ الغَمامِ أبو الطيب: وحالَتْ عطايا كفِّه دونَ وعدِه ... فليسَ لهُ إنجازُ وعْدٍ ولا مطْلُ ونحوه له: لقد حالَ بالسّيفِ دونَ الوعيد ... وحالتْ عطاياهُ دون الوُعودِ ونحوه له: واجْزِ الأميرَ الذي نُعْماهُ فاجئَةٌ ... بغيرِ قولٍ ونُعْمى الناسِ أقوالُ وقد سبقه الى هذا اللفظ يزيد المهلّبي في قوله: وكم لكَ نائِلاً لمْ أحتَسِبْهُ ... كما يُلقى مُفاجأةً حبيبُ أشجع: يُعطي زِمامَ الطّوعِ إخوانَه ... ويلْتَوي بالملِكِ القادرِ أبو تمام: جليدٌ على عتْبِ الخُطوبِ إذا عرَتْ ... وليس على عتْبِ الأخِلاّءِ بالجَلْدِ أبو الطيب: إني لأجْبُنُ عن فِراقِ أحبّتي ... وتُحسُّ نفسي بالحمامِ فأشجُعُ ويزيدُني غضبُ الأعادي قسوةً ... ويلِمّ بي عتْبُ الصّديقِ فأجزَعُ الخريمي، وقد تقدمه فيه جماعة من الشعراء:

إذا أن لم تحْمِ القديمَ بحادثٍ ... من المجدِ لم ينفَعْكَ ما كان من قبْلُ البحتري: ولستُ أعتدّ للفتى حسَباً ... حتى يُرى فعاله حسَبُه أبو الطيب: إذا لم تكن نفسُ النسيب كأصلِه ... فماذا الذي يُعني كرامُ المناصبِ ومثله كثير؛ وله أمثلة؛ ومن قديم ما جاء فيه قول المتوكل الليثي: لسْنا وإن كرُمَت أوائِلُنا ... يوماً على الأحْساب نتّكلُ نبْني كما كانت أوائلُنا ... تبني ونفعلُ مثل ما فعَلوا ومثل هذا قول أبي الطيب: ولستُ بقانعٍ من كلِّ فضلٍ ... بأنْ أُعْزَى الى جدٍ هُمامِ وقريب منهم قول بعضهم: أبوك أبٌ حرٌ وأمكَ حرّةٌ ... وقد يلِدُ الحُرّان غيرَ نجيبِ وقول الآخر: لئنْ فخَرْت بآباء لهم شرفٌ ... لقد صدَقْتُ ولكنْ بئس ما ولَدوا أبو الطيب: أرى الأجْدادَ يغلِبُها كثيرٌ ... على الأولادِ أخلاقُ اللئامِ الخُرَيمي: كأنّ عليه الشُكرَ في كل نعمةٍ ... يقلدُنيها بادياً ويُعيدُها أبو الطيب: من القاسِمينَ الشُكْرَ بيني وبينهم ... لأنّهم يُسْدى إليهمْ بأنْ يُسْدوا

فشكري لهم شُكران: شُكرٌ على الندى ... وشكرٌ على الشُكرِ الذي وهبوا بعْدُ وله: إذا سألوا شكرْتَهُمُ عليهِ ... وإنْ سكَتوا سألتَهُم السّؤالا علي بن جبلة - وقد جاء مثله في شعر العرب: وما يشْفي صُداعَ الرّأْ ... سِ مثل الصارم العضْبِ أبو الطيب: إذا وصَفوا له داءً بثغْرٍ ... سقاهُ أسنّةَ الأسَلِ الطِّوالِ علي بن جبلة: به علِمَ الإعطاءَ كلّ مبخَّلٍ ... وأقدمَ يومَ الرّوْعِ كلّ جبانِ أبو الطيب: فيا أجبَن الفُرسانِ صاحِبْهُ تجتَرئُ ... ويا أشْجَع الشُجْعان فارقْهُ تفرَق وله: أضْرَتْ شجاعتُه أقصى كتائِبِه ... على الحِمامِ فما موتٌ يمرْهوبِ علي بن جبلة: فلوْ جزأ اللهُ العُلا فتجزّأتْ ... لكانت لكَ العينانِ والأُذنان

أبو الطيب - وقد زاد وأحسن: الجودُ عينٌ وفيك ناظرُها ... والبأسُ باعٌ وأنتَ يُمْناهُ علي بن جبلة: كأنهُمُ والرّماحُ شابكة ... أُسدٌ عليها أظلّتِ الأجمُ أبو تمام: آسادُ غِيلٍ مُخدَراتٌ ما لَها ... إلا الصّوارمُ والقَنا آجامُ وله: أُسْدُ العرينِ إذا ما الرّوعُ صبّحها ... أو صبّحَتْه ولكنْ غابُها الأسَلُ أبو الطيب: بنو العَفَرْنَى محطّةَ الأسدِ ال ... أُسْدُ ولكنْ رماحُها الأجمُ ابن جبلة: وما سوّدَتْ عِجْلاً مآثر عزمِهمْ ... ولكنْ بهم سادت على غيرها عِجْل وهذا معنى سوء يقصّر بالممدوح، ويغضّ من حسَبه، ويحقِّر من شأن سلَفه، وإنما طريقةُ المدح أن يجعلَ الممدوحُ يشرُف بآبائه، والآباء تزداد شرفاً به، فيجعل لكل منهم في الفخْر حظاً، وفي المدح نصيباً؛ فإذا حصَلت الحقائق كان النصيبان مقسومين عليهم؛ بل كان لكل فريق منهم، لأن شرف الوالد جزء من ميراثه،

ومنتقل الى ولده كانتقال مالِه؛ فإن رُوعي وحُرِس ثبت وازداد، وإن أهمل وأضيع هلك وباد، وكذلك شرف الولد يعمّ القبيلة، وللوالد منه القِسم الأوفر، ولو اقتصر على قوله: بهم سادت على غيره عِجْل لوجد العُذر إليه مسلكاً، ولأمكن أن يقال: إن عِجْلاً تسود بهم وبأفعالها أيضاً فقد تسود القبيلة، وقد يجتمع للإنسان وجوه من الشرف كلها تقدّمه وتَشيد مجدَه وتسوِّده، فكأنهم مفاخر عِجْل التي تسود بها؛ لكنّه وعّر هذه الطريقة بقوله وما سوّدت عجلاً مآثر عزمهم فجعل الرجل خارجياً بائناً، لا حظّ له في حسب آبائه وشرفهم. وإنما الجيد ما قال زهير: وما يكُ من خير أتوه فإنّما ... توارثَه آباءُ آبائِهِم قبلُ وقد تجاوز هذا، فجعل الأبَ أوْلى بالشرف فقال: يطلُبُ شأوَ امرأيْنِ قدّما حسنا ... نالا الملوكَ وبذّا هذه السّوَقا هو الجوادُ فإن يلحَقْ بشأوِهِما ... على تكاليفِه فمثلُه لحِقا أو يسبقاه على ما كان من مهَلٍ ... فمثل ما قدّما من صالح سبَقا وجرى أبو الطيب على منهاج ابن جبَلة فقال: ما بقومي شرُفْتُ بل شرُفوا بي ... وبنفسي فخرْتُ لا بجُدودي فختم القول بأنه لا شرف له بآبائه. وهذا هجْوٌ صريح، وقد رأيتُ من يعتذر به فيزعم أنه أراد: ما شرفت فقط بآبائي، أي لي مفاخر غير الأبوة، وفيّ مناقبُ سوى الحسب. وباب التأويل واسع، والمقاصد مغيّبة، وإنما يُستشهد بالظاهر،

ويتبع موقع اللفظ. فأما قوله: وبنفسي فخرت لا بجدودي فهو صالح؛ لأنه لم ينْفِ أن يكون له فيهم وبهم رتبة في الفخر، لكنه قال: أكتفي في افتخاري عليكم بنفسي فأفضلُكم ولا أفتقر الى مفاخر جدودي وأتركها وادعة موفورة؛ وقد صرح بهذا في قوله: وإنما يذكرُ الجُدودَ لهم ... من نفَروه وأنفَذوا حِيَلَهْ هُدْبة بن خشرَم: وإني لأُخْلي للفتاةِ فراشَها ... وأصْرِمُ ذات الدلِّ والقلبُ آلِفُ ومثله كثير. أبو الطيب: يرُدّ يداً عن ثوبها وهْو قادِرٌ ... ويعْصي الهوى في طيفِها وهْو راقِدُ أشجع: فأصْبَح في لحْدٍ من الأرض ميتاً ... وكانت به حياً تضيق الصّحاصح أبو الطيب: ومن ضاقَتِ الأرضُ عن نفسِه ... حرًى أن يضيقَ بها جِسمُهُ

أبو عيينة: تطيّبُ دُنيانا إذا ما تنفّستْ ... كأنّ فتيتَ المِسكِ في دورِنا هبّا أبو الطيب: تنفّسُ والعواصمُ منك عَشْرٌ ... فيُعرَفُ طيبُ ذلكَ في الهواء حسّان: إذا ما نضيْنا بأسيافنا ... جعلْنا الجماجمَ أغمادَها وقد أكثر الناس فيه بعده. ومن مليحه قول الحماسي: منابرُهن بطون الأك ... فّ وأغمادُهن رءوس الملوك وقال أبو الطيب: لعِلمِها أنها تصيرُ دماً ... وأنّه في الرِّقاب يُغمدُها صالح بن عبد القدوس: عدوّكَ ذو العقلِ خيرٌ من الصّ ... ديقِ الوامِقِ الأحمَقِ أبو الطيب: ومن العداوةِ ما ينالُك نفعُه ... ومن الصّداقةِ ما يضرُّ ويؤلمُ أمية بن أبي الصّلت: أأذْكرُ حاجَتي أم قد كفاني ... حياؤكَ إنّ شيمتَك الحياءُ

إذا أثنى عليك المرءُ يوماً ... كفاهُ من تعرُّضِه الثّناءُ أبو بكر الخوارزمي: وإذا طلبْتَ الى كريم حاجةً ... فلِقاؤه يكفيكَ والتّسليمُ وإذا رآك مسلِّماً عرَف الذي ... حمّلْتَه فكأنّه مزومُ أبو الطيب: وفي النّفسِ حاجاتٌ وفيك فطانةٌ ... سُكوتي بيانٌ عندَها وخطابُ عُروة بن الورد: أقسِّمُ جِسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قَراح الماءِ والماءُ باردُ ألمّ به أبو الطيب فقال: منافِعُها ما ضرّ في نفْعِ غيرها ... تغذّى وتَرْوى أن تجوعَ وأن تظْما خداش بن زهير: ولا أكونُ كمنْ ألْقى رحالَتَه ... على الحمارِ وخلّى صهوةَ الفرَس نقله أبو الطيب فزاد وأحسن فقال: من ركِبَ الثّورَ بعدَ الجوا ... دِ أنْكرَ أظْلافَهُ والغبَبْ

بعضهم: ورُحْتُ لا تحمِلُني ... أعواد سَرْجيَ مُسرَجا أبو الطيب: قُحٍّ يكادُ صهيلُ الخيلِ يقذِفُه ... من سرْجِه مرَحاً بالعزِّ أو طرَبا علي بن جبلة: أعطَيتَني يا وليّ الحمدِ مبتدياً ... عطيّةً كافأتْ مدحي ولم ترَني ما شِمْتُ برقَك حتى نلتُ ريِّقَه ... كأنما كنتَ بالجدْوى تبادرُني وهذا من جيده وجيّد شعرِ المحدثين، وهو واقع في كل اختيار عرضَ له أبو الطيب، فقال - وهو معنى متداول: تهلّل قبلَ تسليمي عليهِ ... وألقى كيسَه قبلَ الوِساد أبو تمام: كأنّ السّحابَ الغُرَّ غيّبْن تحتَها ... حبيباً فما تَرُقا لهنّ مدامِعُ محمد بن أبي زرْعة: كأن صبّيْن باتا طولَ ليلِهِما ... يستَمطِرانِ على غُدْرانِها المُقَلا أبو الطيب:

وكأنّ كلَّ سحابةٍ وكفَتْ بها ... تبكي بعيْنَي عُروةَ بنِ حِزامِ أشجع: إنّ خُراسان وإنْ أصبحَتْ ... ترفَعُ من ذي الهمّةِ الشّانا لم يحْبُ هارونُ بها جعْفَراً ... لكنّه حابَى خُراسانا غيره: والله ما فجعوك بالدّيوان إذ ... صرفوك بل فجَعوا بك الدّيوانا أبو الطيب: نهنّي بصورٍ أمْ نهنِّئها بكا ... وقل للذي صورٌ وأنتَ له لَكا وما صغُر الأردُنّ والساحلُ الذي ... حُبيتَ به إلا الى جنْبِ قدْرِكا بعضهم: أتيتُ فؤادَها أشكو إليهِ ... فلم أخلصْ إليهِ من الزِّحامِ أبو الطيب وهو منقول الى معنى آخر: أبِنْتَ الدّهرِ عندي كلُّ بنْتٍ ... فكيْفَ وصلْتِ أنتِ من الزِّحام عنترة بن الأخرس: إذا أبصرْتَني أعرَضْتَ عني ... كأنّ الشمسَ من قِبَلي تدورُ

أبو الطيب - وهو منقول عن غرَضه: كأنّ شُعاع عين الشمسِ فيه ... ففي أبصارِنا عنه انكِسارُ زياد العبْدي: صفّان مختلفانِ حين تلاقيا ... آبا بوجهِ مطلَّق أو ناكح مسلم: إذا ما نكحْنا الحربَ بالبيضِ والقَنا ... جعلنا المنايا والدماءَ طلاقَها سلْم الخاسر: يرمي العجاج بها أغرّ محجّلٌ ... جعل السيوفَ مناكحاً وطلاقا أبو الطيب: يجنِّبها من حتفُه عنه عاقِلٌ ... ويصْلَى بها من نفسُه منه طالِق وهذه الأبيات مختلفة المعاني، وييب أبي الطيب بمعزل عنها؛ وإنما استعار منها لفظة الطلاق فقط. مسلم: لو كان عندَك ميثاقٌ يخلِّدُنا ... الى المشيبِ انتظرْنا سلْوةَ الكِبر ألمّ به أبو الطيب فقال: ولو كنتُ أدري كم حياتي قسمْتُها ... وصيّرْتُ ثلثَيْها انتظارَك فاعْلَمِ أبو تمام: ثوَى مالُه نهْبَ المعالي وأوجبَتْ ... عليهِ زكاةُ الجودِ ما ليس واجبا

أبو الطيب: ويدٌ كأنّ نوالَها وقِتالَها ... فرْضٌ يحقّ عليكَ وهو تبرُّعُ حمزة بن بيض: وهمّك فيها جِسامُ الأمور ... وهمُّ لِداتِك أن يلعَبوا أبو الطيب: وهمُّها في العُلا والمجدِ ناشئةً ... وهمُّ أترابِها في اللهْوِ واللّعِبِ ابن الرومي: وما الشُكْرُ إلا توأمُ الحِقدِ في الفتى ... وبعضُ السّجايا ينتَمين الى بعضِ أبو الطيب: جزاك ربُّك بالإحسانِ مغفِرةً ... فحُزْنُ كلّ أخي حزْنِ أخو الغضَبِ غيره: فما كان قيسٌ هُلْكُه هلْكٌ واحدٍ ... ولكنّه بُنيانُ قومٍ تهدّما ابن المقفع: وتقْتُلني فتقْتُل بي كريماً ... يموت بموته بشرٌ كثيرُ

أبو الطيب: غدرْتَ يا موتُ كم أفنَيتَ من عددٍ ... بمن أصبْتَ وكم أسْكتّ من لجَبِ والبيت الذي بعده: وكم صحِبْتَ أخاها في مُنازلةٍ ... وكم سألْتَ فلم يبخَلْ ولم تخِبِ ومثل قول البحتري: ترى البيض لم تعرفهم حين واجهتْ ... وجوهَهم في المأزِق المتجهِّم ولم تذكرْ ريَّها بأكفّهم ... إذا أوردوها تحت أغْبر أقتمِ البحتري: لعَمرُك ما المكروهُ إلاّ ارتِقابُه ... وأبرَحُ مما حلّ ما يُتوقَّعُ أبو الطيب: كلّ ما لم يكن من الصّعبِ في الأنْ ... فُسِ سهلٌ فيها إذا هو كانا قال: فلسنا على الأعقاب تدْمي كلومنا ... ولكنْ على أقدامنا يُقطرُ الدمُ أبو الطيب: رمَوْا بنواصيها القِسيّ فجئْنَها ... دوامي الهَوادي سالِماتِ الجوانبِ

قال: والعين تُبصرُ من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخْلو من البصَر وهو معنى متداول. بعض المحدَثين: ولا هممتُ بشربِ الماء من عطشٍ ... إلا رأيتُ خيالاً منك في الماء أبو الطيب: ممثّلةٌ حتى كأنْ لم تُفارِقي ... وحتى كأنّ اليأسَ من وصلِك الوعدُ ومن هذا المعنى قول ابن المعتز: إنّا على البِعاد والتفرق ... لنَلتقي بالذكر إنْ لم نلتقِ وقول أبي الطيب: لنا ولأهلِه أبداً قُلوبٌ ... تلاقى في جُسوام ما تَلاقَى حسان: إذا قال لم يترُك مقالاً لقائلٍ ... بملتقطاتِ لا ترى بينها فضْلا أبو الطيب: إذا صُلتُ لم أترُك مصالاً لفاتِكٍ ... وإن قلتُ لم أترُكْ مقالاً لعالِم الطرمي في رطازاته: ورأسيَ مرفوعٌ لنجمٍ كأنّما ... قفاي الى صُلبي بخيطٍ مخيّطِ

فتبعه بعض الرطّازين: ورأسيَ مرفوعٌ إليه كأنّما ... برأسيَ مسمار الى النجمِ موتَدُ أبو الطيب - وهو من فرائده: بعيدةُ ما بين الجفونِ كأنّما ... عقدْتُم أعالي كلِّ هُدبٍ بحاجبِ وقريب منه قول بشار: كأن جفونَها عنها قصار أبو تمام: فإنْ يكُ من بني أُدَدٍ جناحي ... فإنّ أثيثَ ريشي من إيادِ أبو الطيب وهو منقول: فإنْ يكُ سيفَ دولةِ غيرِ قيسٍ ... فمنهُ جلودُ قيسٍ والثّيابُ ابن المعتز: فكرّتْ كنصل السيفِ تتلو لواقِحاً ... كأن حصى الصمّان من وقعها رمْلُ أبو الطيب: إذا وطِئَتْ بأيديها صُخوراً ... يفِئْنَ لوطء أرجُلها رِمالا وقد أحسن في قوله يفئن لوطء أرجلها، وزاد بأن جعل للأيدي ما جعله الأول لجملة القوائم؛ وللأول من الفضل أنه خصّ الحصى وهو أشدّ من الصخر وأصلب، وهذا المعنى كثير مُبتذل؛ وإنما ذكرنا ما تنازعه الشبه لفظاً ومعنى.

البحتري: وما أنا إلا عبدُ نعمتِك التي ... نُسِبْتُ إليها دون رهْطي ومعشَري نقله أبو الطيب فقال: دُعيتُ بتقريظك في كل مجلسٍ ... وظنّ الذي يدعو ثنائي عليكَ اسْمي البحتري: ومظفّرٍ بالمجدِ إدراكاتُه ... في الحظّ زائدةٌ على أوطارِه أبو الطيب - وقد فسر ما أغفله البحتري: تُمسي الأمانيُّ صرْعى دون مبلغِه ... فما يقولُ لشيءٍ ليتَ ذلِكَ لي زياد الأعجم: ترى الطفْلَ منهم يبتغي المجد شيمةً ... وليس بمُنسبِه ابتناءٌ على الهرمِ وإن هو وفّى العمر تسعين حجة ... هذي بقرَى الأضيافِ والجار والذِّمَم الرواية: ينسيه بناء مجده العدم. البحتري: عريقون في الإفضالِ يؤتَنَفُ النّدى ... لناشِئِهِم من حيثُ يؤْتَنَفُ العُمرُ أبو الطيب:

كأنّما يولَدُ الندى معهُم ... لا صِغَرٌ عاذِرٌ ولا هرمُ علقمة بن أصوى: فما إنْ رأوا ناراً تُشَبّ لدى الوغى ... ولكنْ رأوْا ناراً بها ورق الدم زُفَر بن الحرث: سقيْناهم كأساً سقَوْنا بمِثلِها ... ولكنّهم كانوا على الموت أصْبَرا أبو الطيب: وما عدِمَ اللاقوكَ بأساً وشدةً ... ولكنّ من لاقَوْا أشدُّ وأنجَبُ عبد الله بن معاوية، ويروى لإسحاق الموصلي: أرى نفسي تتوقُ الى أمورِ ... يقصِّرُ دونَ مبلغِهنّ مالي فلا نفسي تطاوعُني ببخلٍ ... ولا مالي يبلّغني فَعالي وهو من قول الأول: ذَريني أطوِّف في البلاد لعلّني ... أصيبُ غنى فيه لذي الحق محمَلُ أليس عجيباً أن تلمّ مُلمَّه ... وليس علينا في الخطوب معوَّلُ ومثله قول الآخر: وتقصرُ أموالُ الفتى دون همِّه ... وقد كان لولا القلُّ طلاعَ أنجُدِ ونحوه قول ابراهيم الموصلي: فَعالي فعالُ المكثرين توسّعاً ... ومالي كما قد تعلمين قليل

وحكي عن بعض الحكماء أنه سُئِل عن أسوأ الناس حالاً فقال: من قويت شهوتُه وبعدت همّتُه، واتسعت معرفته، وضاقت مقدرته. أبو الطيب: وأتعَبُ خلق اللهِ من زاد همّه ... وقصّر عمّا تشتَهي النّفْسُ وجدُه ونحوه قوله: لَحا اللهُ ذي الدُنيا مُناخاً لراكبٍ ... فكلّ بعيدِ الهمِّ فيها معذَّبُ والأبيات التي تلي هذا البيت متصلة به وهي قوله: فلا ينحَلِلْ في المجدِ مالُك كلّه ... فينحَلّ مجدٌ كان بالمال عقدُه ودبِّرْهُ تدبيرَ الذي المجدُ كفُّهُ ... إذا حاربَ الأعداءَ والمالُ زَندُهُ فلا مجْدَ في الدُنيا لمَنْ قلّ مالُه ... ولا مالَ في الدُنيا لمنْ قلّ مجدُه وكأنها مجموعة من معاني أبيات قديمة وحديثة، منها قول أُحَيحة بن الجُلاح: ولا أزال على الزّوار أعمُرها ... إنّ الكريم على الإخوان ذو المال وإن أردْتَ مُساماةً تقاعَدُ بي ... عمّا ينوِّه باسْمي رقّةُ الحالِ وقول ابن المعتز: يا رُبّ جودِ جرَّ فقرَ امرئ ... فقام في الناس مقام الذّليل وحكى الجاحظ عن بعض الحكماء أنه كان يقول في دعائه: اللهم ارزقني حمداً ومجداً؛ فإنّه لا حمد إلا بفَعال، ولا مجد إلا بمال.

بكر بن النّطاح: هذا أبو دُلف الذي لسيوفه ... ورماحه تتعبّد الأقدارُ علي بن جبلة - ويروى لخلف بن مرزوق: أنت الذي تُنزل الأيامَ منزلها ... وتنقل الدهرَ من حال الى حال أبو الطيب: نفذَ القضاءُ بما أردْتَ كأنّه ... لك كلما أزمَعْت شيئاً أزْمَعا وأطاعَك الدهرُ العصيُّ كأنّه ... عبدٌ إذا ناديتَ لبّى مُسرعا ونحوه له: ملكٌ تكوّن كيف شاءَ كأنّما ... يجري بفضل قضائِه المقدورُ وأما المصراع الأول فقد قدمنا ذكر أمثاله ونحوه له: وأراك دهْوك ما تحاول في العِدى ... حتى كأنّ صروفَه أنصارُ وله: وأراد فيكَ مرادَك المقدارُ يزيد المهلّبي: سعيتُم فأدركْتُم بصالح سعيِكُم ... وأدرَك قومٌ غيرُكم بالمقادِر وله: إذا قدّم السلطانُ قوماً على الهوى ... فإنّكُمُ قُدِّمتُم بالمناقِب

أبو الطيب: وما كنتَ ممن أدرك المجدَ بالمُنى ... ولكنْ بأيامٍ أشَبْن النّواصِيا واللفظ من قول نُفَيع بن صفار: أيا مالِكاً لا يُرتَجى المُلْكُ بالمُنى ونحوه له: ليسَ إلا أبا العشائِر خلْقٌ ... ساد هذا الأنامَ باستِحْقاقِ قال بعضهم: وخبرني البوّابُ أنّك نائمٌ ... وأنت إذا استيقظت أيضاً فنائم أبو الطيب: ونامُ الخُويدِمُ عن ليلِنا ... وقد نام قبلُ عمًى لا كرى حسان بن ثابت: لا عيبَ بالقومِ من طولِ ومن قصَرٍ ... جسمُ البِغالِ وأحلامُ العصافيرِ العباس بن مِرداس ويروى لربيعة الرّقي: فما عظِمُ الرّجالِ لهم بفخرٍ ... ولكنْ فخرُهم كرَمٌ وخيرُ

ومثله كثير: أبو الطيب: ودهْرٌ ناسُه ناسٌ صِغارٌ ... وإن كانت لهم جثَثٌ ضِخامُ أبو جُويرية العبدي - وقد تقدمه غيره: نزينُ الحلْيَ إن لبسَتْ سُليمى ... وتحسُن حينَ تلبَسُها الثّيابُ وأكثر المحدثين فيه فقال بعضهم: وإذا الدُرُّ زان حُسنَ وجوهٍ ... كان للدُرِّ حسنُ وجهِك زَيْنا وتزيدين أطيبَ الطّيب طِيباً ... أن تمسِّيهِ؛ أين مثلُك أيْنا! أبو الطيب، وتعسّف اللفظ: الطّيبُ أنت إذا أصابَك طيبُه ... والماءُ أنت إذا اغتسلْتَ الغاسلُ وتقدير الكلام: الطّيب أنت طيبُه إذا أصابك، والماء أنت الغاسلُ له إذا اغتسلت به. زياد الأعجم وهو كثير مشهور: لله دَرُّ منية فاتتْ به ... فلقَد أراهُ يردّ غرْبَ الجامِحِ ولقد أراهُ مُجفِّفاً أفراسَه ... يغْشى الأسنة فوق نهدِ قارح

لو عند ذلك هايَجَتهُ منية ... برَح الخفاء وضُمَّ سرْح السّارِح يزيد المهلّبي: جاءت منيّتُه والعينُ هاجعةٌ ... هلاّ أتتْهُ المنايا والقَنا قصد أبو الطيب: أتتهُ المنايا في طريق خفيّة ... على كل سمعٍ حولَه وعِيان ولو سلكتْ طُرق السّلاح لردّها ... بطولِ يمينٍ واتساعِ جنانِ ومقلوب هذا قول الآخر: دفعْنا بكَ الأيامَ حتى إذا أتت ... تُريدُك لم نسطِعْ لها عنك مدْفَعا ومثله لأبي الطيب: ما زلتَ تدفعُ كل أمرٍ فادح ... حتى أتى الأمرُ الذي لا يُدفَعُ وظللْتَ تنظر لا رماحُك شُرَّع ... فيما عَراك ولا سُيوفُك قُطّعُ وهو مثل قول عمران بن حِطان؛ على أنه كثير مبتذل: ولم يُغْنِ عنه الموتُ يا حمْز إذ أتىرجالٌ بأيديهم سيوفٌ قواضِبُ ومن هذا المعنى قول الآخر: أخِلاّي لو غيرُ الحمام أصابكم ... عتبتُ ولكن ما على الموتِ معتَبُ ومثله لأبي الطيب: هبيني أخذْت الثأر فيك من العِدَى ... فكيف بأخْذ الثأر فيكِ من الحُمّى

الأعور الشّني: وعوراءَ جاءت من أخ فرددتُها ... بسالمة العينين طالبة عُذْرا وأغضيْت عنه وانتظرت به غدا ... لعل غداً يبدي لمنتظرٍ أمرا سالم بن وابصه: وكاشِحٍ من موالي السوءِ ذي حسَدٍ ... يقْتاتُ لحمي وما يشفِيه من قرَمِ داويتُ صدْراً طويلاً غِمرُه حقِداً ... منهُ، وقلّمْتُ أظفاراً بلا جلَمِ وقد أكثر الشعراء فيه. أبو الطيب: وأحلم عن خِلّي وأعلم أنني ... متى أجزِه حِلماً على الجهلِ يندَمِ امرؤ القيس: فللزّجرِ ألهوبٌ وللساق درّةٌ ... وللسوط أخرى غربُها يتدفّع ثم أكثر الناس فيه. أبو الطيب: رِجلاه في الركضِ رجلٌ واليدانِ يدٌ ... وفعلُه ما تُريدُ الكفَّ والقدَمُ المصراع الأول نحو قول رؤبة: يهْوين شتى ويقعن وقْعا

الطّرمّاح: تحييها الكُماة بكلِّ يوم ... مريض الشمس محمرِّ الخوافي أبو الطيب: تمر عليه الشمس وهي ضعيفة بعض المحدثين: خبَري خُذيهِ عن الضّنى وعن الأسى ... ليس اللسانُ وإن تلِفْتُ بمُخبِر أبو الطيب: أمرَ الفؤاد لسانَه وجُفونَه ... فكتمْنَه وكفى بجِسمِك مُخبِرا وهو معنى قوله: بادٍ هواك صبَرْتَ أم لم تصبِرا ... وبُكاك إن لم يجْرِ دمعُك أو جرى أبو نواس: يزيدك وجهُه حُسناً ... إذا ما زِدتَه نظَرا أبو الطيب: وهو المضاعَفُ حُسنُه إن كُرِّرا

الجلاح ابن عبد الله السّدوسي: مددتِ حبل غُرور غير مؤيِسَةٍ ... فوْتَ الأكفِّ فلا جودٌ ولا بخَلُ والصّرْمُ أرْوَحُ من غيثٍ يطمِّعُنا ... فيه مخايلُ ما يُلفَى بها بلَلُ ونحوه لابن الرّقيات ولم يصرح باختيار أحدهما: تركْتَني واقفاً على الشكّ لم ... أصدُر بيأس منكم ولم أرِدِ ومثله قول ابن أبي زرعة الدمشقي: وكأني بين الوصال وبين ال ... هَجر ممّن مقامَه الأعرافُ في محلٍ بين الجانِ وبين النا ... رِ طوراً أرجو وطَوراً أخاف وقال أبو حفص الشطرنْجي، فاختار ضد ما اختار الأول: وأحسنُ أيامِ الهوى يومُك الذي ... تهدَّدُ بالتّحريش فيه وبالعَتبِ إذا لم يكن في الحبّ سُخطٌ ولا رِضى ... فأين حلاواتُ الرسائلِ والكُتبِ وتبعه أبو الطيب: وأحلى الهوى ما شكّ في الوصلِ ربُّه ... وفي الهجْر فهو الدهر يرجو ويتّقي وقد لاحظ في هذا قول الخليع: وجدْت ألذّ العيش فيما بلوْته ... ترقُّب مشتاقٍ زيارَ شائق لأنه أيضاً يرجو ويتقي ويخاف ويأمل. وقد أكثر الناس فيه على المعنيين معاً. أبو نواس: يسبِق طرْف العين في التِهابه وهو معنى عامي مبتذل.

أبو الطيب: يُقبِلُهُم وجْهَ كلِّ سابحةٍ ... أربَعُها قبلَ طرْفِها تصِلُ أبو تمام: فهْو غضُّ الإباءِ والرأْي غضّ ال ... حزم غضُّ النّوالِ غضّ الشبابِ أبو الطيب: حديدُ اللسان حديدُ الجنان ... حديدُ الحُسام حديد السنان بعض العرب: كأنّ يديها حين جدّ نَجاؤها ... طَريدان والرِّجلان طالِبتا وِتْرِ رؤبة: يداه بالضّبْعين يشدوانه ... ورجلا أحرج يحدوانه أبو الطيب: طردْتُ من مصرَ أيديها بأرجُلها ... حتى مرقْن بنا من جوْشَ والمعلَمِ بعض رجال العرب: إني إذا ما القوم كانوا أنجيه ... واضطرب القوم اضطراب الأرشِيهْ وشد فوق بعضهم بالأدْويه ... هناك أوصيني ولا توصي بيهْ وقال الأصمعي وغيره يصف قوماً أتعبهم السير والسهر: فرقدوا على ركابهم،

واضطربوا كاضطراب أرشية الدِّلاء، وشدّ بعضهم على ناقته حِذار سقوطه عنها. وقال بعضهم: إنما ضربه مثلاً لنزول الأمر الملمّ؛ إذ جعل القومَ يضطربون فيه فلا يستقرون كاضطراب الحبال، وبعضهم يشد على البعير للهرب به. قال: ولذلك كانوا أنجية؛ وهو جمع نجيّ والنيام لا يكونون أنجية، وعلى المذهب الأول احتذى أبو الطيب في قوله: وهزٌ أطار النومَ حتى كأنني ... من السُكْرِ في الغرَزَين ثوبٌ شُبارِقُ تميم بن مقبل: ولو كُحِلتْ حواجبُ خيل قيس ... بتغلِبَ بعد كلبٍ ما قُذينا أبو الطيب: فبعده والى ذا اليوم لو ركضَتْ ... بالخيل في لهَوات الطفلِ ما سَعلا رؤبة: قد رفع العجّاجُ باسمي فادعُني ... باسمي إذا الأنسابُ طالتْ يكفِني وإنما أخذه من قول النّسابة البكري لما أتاه فقال له: من أنت؟ فقال: رؤبة ابن العجاج. قال: قصرت وعرّفت. أبو الطيب: يا أيّها الملك الغاني بتسميةٍ ... في الشرقِ والغربِ عن وصفٍ وتلْقيبِ

دِعبِل: هي النفسُ ما حسنْتَه فمحسَّن ... لديها وما قبّحْتَه فمقبَّحُ أبو الطيب: فما الخوف إلا ما تخوّفَه الفتى ... وما الأمنُ إلا ما رآه الفتى أمْنا وهو قريب من قول لبيد: اكذب النّفْسَ إذا حدّثْتها ... إنّ صدقَ النفسِ يُزري بالأمل أبو تمام: ترى قسَماتِنا تسَوَّد فيها ... وما أخلاقُنا فيها بسودِ أبو الطيب: تسوِّدُ الشمسُ منا بيضَ أوجُهِنا ... ولا تسوِّدُ بيضَ العُذرِ واللِّمَمِ قال: وليس الذي يجري من العين ماءَها ... ولكنها روحي تذوبُ فتقطُرُ أبو الطيب: أرواحُنا انهملَتْ وعِشنا بعدَها ... من بعدِ ما قطرَتْ على الأقدامِ ابن المعتز: تخالُ آخرَه في الشدِّ أوّلَه ... وفيه عدْوٌ وراءَ السّبْقِ مذْخورُ

أبو الطيب: وأصْرَعُ أي الوحشِ قفّيتُه به ... وأنزِلُ عنه مثلَه حين أركَبُ النابغة الجَعدي: ونُنكِر يومَ الرّوعِ ألوانَ خيلِنا ... من الطّعْنَ حتى تحسِبَ الورْدَ أشْقَرا أبو الطيب: جفَتْني كأني لستُ أنطَقَ قومِها ... وأطعَنهم والشُهْبُ في صورةِ الدُهْم أبو تمام: وما نفْعُ مَن قد مات بالأمسِ صادِيا ... إذا ما سماءُ اليومِ طال انهِمارُها وأظنه أخذه من قول طرَفة - وإن كان غامضاً: فسقى ديارَكِ غير مفسِدِها ... صوبُ الرّبيع وديمةٌ تهْمي البحتري: واعلَمْ بأنّ الغيثَ ليس بنافِع ... للناس ما لم يأتِ في إبّانِه أبو الطيب: سبقْتَ إليهم مناياهُم ... ومنفعة الغوثِ قبلَ العطَبْ أبو نواس: وإذا المطيُّ بنا بلغْنَ محمّداً ... فظُهورُهنّ على الرِّجالِ حرامُ

أبو الطيب: وتعذُّرُ الأحْرارِ صيّر ظهرَها ... إلا إليك عليّ فرْجَ حرامِ قال زهير: سئِمتُ تكاليفَ الحياة ومن يعِشْ ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ قال العلماء بالشعر: إنما سئم تكاليف الحياة لا الحياة، فهو أصح معنى من قول لبيد إذ يقول: ولقد سئِمت من الحياة وطولها ... ومقالها هذا الناس كيف لبيدُ فقال أبو الطيب: وإذا الشيخُ قال أفٍ فما م ... لّ حياةً وإنّما الضعفُ ملاّ البحتري: وطيُّك سراً لو تكلّفَ طيّه ... دُجى الليلِ عنا لم تسَعْهُ ضمائِرُهْ فنقله أبو الطيب، وغيّر معناه فقال وأحسن ما شاء: وكنتُ إذا يمّمتُ أرضاً بعيدةً ... سريْتُ فكنتُ السّرّ والليلُ كاتِمُهْ البحتري: غَدا قسمُه عدْلاً ففيكُم نوالُه ... وفي سرّ نبهانَ بنِ عمرٍو مآثرُه

أبو الطيب: تفرّد العُربُ في الدنيا بمحتِدِه ... وشارك العُربَ في إحسانِه العَجمُ البحتري: وما اخترتُ داراً غير دارِك من قِلًى ... وأين ترى قصْدي ومن دوني البحرُ أبو الطيب: أأطرحُ المجدِ عن كتِفي وأطلُبُه ... وأترُك الغيثَ في غِمدي وأنتجِعُ أنشد الجاحظ لبعضهم: غزا ابن عمير غزوةً تركت لها ... ثناءً كريح الجورَبِ التمزق أبو الطيب: تستغرقُ الكفّ فودَيهِ وأخدعه ... وتكتسي منه ريحَ الجورب العرِق بعضهم: بِتْنا وبات جليدُ الليلِ يضربُنا ... بين البيوت قِرانا نبْحُ دِرْواسِ أبو الطيب:

ولا تُنكِرا عصْفَ الرياح فإنّها ... قِرَى كلِّ ضيفٍ بات عندَ سِوارِ أبو نواس في وصف كلب: يجمع قطريه من انضِماره أبو الطيب: يكادُ في العدْو من التفتّل ... يجمعُ بين متنِه والكلكَلِ وبين أعلاه وبين الأسفلِ أنشد الأصمعي لبعض باهلة: تُباهي به الأرض السماء إذا مشت ... عليها وتحيي نسمة المتماوت أبو الطيب: أكارمٌ حسد الأرضَ السماءُ بهم ... وقصّرتْ كلّ مِصر عن طرابُلُسِ البحتري: سماحاً وبأساً كالصواعقِ والحَيا ... إذا اجتمعا في العارض المتراكمِ أبو الطيب: فتًى كالسّحابِ الجونِ يُخشى ويُتّقى ... يرَجّى الحيا منهُ وتُخْشى الصواعقُ عبد الله بن الزبير الأسدي: لو شددنا من أخدَعَيهِ قليلا ... لبَنينا من الرؤوس منارا

أبو الطيب - وهو غامض: تعوّد أن لا تقضَم الحَبَّ خيلُه ... إذا الهامُ ترفَعْ جُنوبَ العلائقِ ثابت بن قُطْنة العتكي: هدانا اللهُ بالقتلى نراها ... مصلّبةً كأفواهِ الشّعاب أبو الطيب: إذا سلك السّماوةَ غيرُ هادٍ ... فقتْلاهُم لعينيهِ منارُ أنشد الأصمعي لبعض العرب - وهو معروف عندهم: رِدي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمّاً ... كُدْرِيّةٍ أعجبها بردُ الْما أبو الطيب: وُرودَ قطاً صُمٍ تشايَحْنَ في وِرْدِ

مزرّد: من المُلسِ هنديّ متى يعْلُ حدُّهُ ... ذُرَى البيض لم تسلَم عليه الكواهلُ أبو الطيب: إذا ما ضربْت به هامةً ... بَراها وغنّاكَ في الكاهلِ أبو تمام: البين أكثر من أشواقي وأحزاني أبو الطيب: دمَنٌ تكاثرتِ الهمومُ عليّ في ... عرَصاتِها كتكاثُر اللّوّامِ بعض العرب: زُرْقٌ تصايحنَ في المَنون كما ... هاج دجاجَ المدينة السَّحَرُ آخر: تصيحُ الرُدينياتُ فينا وفيهمُ ... صياحَ بناتِ الماءِ أمسينَ جوّعا

أبو الطيب: ناشوا الرماح وكانت غير ناطقة ... فعلّموها صياحَ الطير في البُهَم كثيّر: رمتْني بسهمٍ ريشُه الهُدْب لم يُصبْ ... ظواهر جلْدي وهو في القلب جارحي أبو الطيب: رمتني بأسهم ريشُها الهدْ ... بُ تشقّ القلوبَ قبل الجُلود الفرزدق: وأبَحْت أمكَ يا جريرُ كأنها ... للناس باركة طريق مُعمَلُ أبو الطيب: يحمي ابنُ كيغَلَغ الطّريقَ وعِرسُه ... ما بين رجَليها الطريق الأعظمُ الفرزدق: وقد تلتفي الأسماء في الناس والكُنى ... كثيراً ولكنْ فُرِّقوا في الخلائق

أبو الطيب: فلا تعجَبا إنّ السيوف كثيرةٌ ... ولكنّ سيفَ الدولة اليومَ واحدُ البحتري: بلوت منك خلائفاً محمودةً ... لو كن في فلكٍ لكُنّ نُجوما أبو الطيب: أقلّبُ منك طرْفي في سماءٍ ... وإنْ طلعت كواكبُها خِصالا ابن الرومي: أخشى عليك اتّقاد الفِكر لا حَذَرا أبو الطيب: أشفِق عند اتّقاد فكرتِه ... عليه منها أخاف يشتعِل ابن الرومي: ومن فرَحاتِ النفسِ ما فيه حتفُها أبو الطيب: فلا تنكِرنّ لها صرعةً ... فمن فرحِ النفس ما يقتلُ

بعضهم: فلو أنّا شهدْناكُم نُصِرْنا ... بذي لجَبٍ أزبٍّ من العَوالي أبو الطيب: صدمْتَهُم بخميسٍ أنت غرّته ... وسمهريّتُه في وجهِ غممُ أبو تمام: ورُحبَ صدرٍ لو انّ الأرضَ واسعةٌ ... كوُسعِه لم يضِقْ عند أهلِه بلدُ أبو الطيب: تضيقُ عن جيشِه الدُنيا ولو رحُبت ... كصدرِه لم تبِنْ فيها عساكرُهْ مسلم: والعيسُ عاطفةُ الرؤوس كأنما ... يطلُبنَ سرّ محدِّثٍ في الأحلُس أبو الطيب: ويُغيرُني جذبُ الزّمام لقلبها ... فمَها إليك كطالب تقْبيلا البحتري: ومَن لو تُرى في مُلكِه عُدْتَ نائلاً ... لأوّلِ عاف من مرجّيه مُقتِرِ

أبو الطيب: خِفتُ إن صرتُ في يمينكَ أن تأ ... خُذَني في هِباتِك الأقوامُ البحتري: تلقاهُ يقطُر سيفُه وسنانُه ... وبنانُ راحتِه ندًى ونجيعا أبو الطيب: ملكٌ سنانُ قناتِه وبنانُه ... يتباريان دماً وعُرْفاً ساكِبا ومنه: إذا الهندُ سوّتْ بين سيفيْ كريهةٍ ... فسيفُك في كفٍ تُزيلُ التساويا ابن الرومي: يا أرْمَدَ العينِ قُمْ قُبالتَه ... فداوِ باللحظِ نحوَه رمدَكْ أبو الطيب: مدحْتُ أباهُ قبلَه فشَفى يدي ... من العُدمِ من تُشفى به الأعيُن الرُمْدُ البحتري: الله أكبرُ كُفّوا إنّ خصمَكمُ ... أبو سعيد وضرب الأرؤس الجدل

أبو الطيب: وردّ بعض القنا بعضاً مقارعةً ... كأنّه من نفوس القوم في جدَلِ ابن الرومي: أعِندي تنقضّ الصواعق منكُما ... وعند ذوي الكُفرِ الحيا والثّرى الجعدُ أبو الطيب: ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقُه ... يُزيلهنّ الى من عندَه الدِّيَمُ البحتري: ملكٌ بقارعةِ العِراقِ قِبابُه ... يقْري البُدورَ بها ونحنُ ضيوفُه أبو الطيب: وملِلْتُ نحْر عِشارِها فأضاقَني ... مَن ينحر البِدَرَ العِشار لمن قرَى البحتري: تشكّكْتُ فيه من سرورٍ وخِلتُه ... خيالاً أتى في آخر الليل يسْري أبو الطيب: ما تعرِفُ العينُ فرْقَ بينِهِما ... كلُّ خيالِ وصالُه نافدْ

كل واحد منهما جعله خيالاً، وإن كان البحتري ذهب فيه الى حيرة السرور، وأراد أبو الطيب سرعة الزوال. وقد كرر أبو الطيب هذا المعنى على وجه آخر فقال: نصيبُك في حياتِك من حبيبٍ ... نصيبُك في منامك من خيالِ يزيد بن محمد المهلّبي: أشْرَكتُمونا جميعاً في سُرورِكُم ... فلهْوُنا إذا حزِنتُم غيرُ إنصاف أبو الطيب - وقد زاد وأحسن: ومن سرّ أهلَ الأرض ثم بكى أسًى ... بكى بعُيونٍ سرّها وقُلوبِ ابن الرومي: هي الأعيُن النُجلُ التي كنت تشتكي ... مواقعَها في القلب والرأسُ أسوَدُ فما لك تأسى الآن لما رأيتَها ... وقد جعلَتْ ترمي سواك وتعمِدُ فاحتذى عليه أبو الطيب وقلب معناه فقال: منًى كنّ لي أنّ البياض خِضابٌ ... فيَخفى بتبييض القُرون شبابُ فكيف أذمّ اليوم ما كنت أشتهي ... وأدعو بما أشكوه حين أُجابُ إسحاق بن خلَف: إذا ما حُدينَ بذِكرِ الأمير ... سبَقْن لحاظَ المخبِّ العجِل

أبو الطيب: شدَوْا بابن إسحاقَ الحُسينِ فصافحَتْ ... ذَفارِيَها كيرانُها والنّمارِقُ ابن هرْمة: يذم بخيلاً: نكّس لمّا أتيتُ سائلَهُ ... واعتلّ تنكيسَ ناظمِ الخرز أعرابي: وهنّ حيْرى كمُضِلاّت الخدَم أبو الطيب: وُقوفَ شحيحٍ ضاع في التُرْبِ خاتمُه وقد أتينا على ما حضرنا من هذا الكتاب، ونُبْنا عنك في جمعه واستحضاره ولقْطه، وتصفّح الدواوين، ولقاءِ العلماء فيه؛ وبيّضْنا أوراقاً لما لعلّه شذّ عنا من غريبِه؛ وما عسانا نظفرُ على مرور الأوقات به، وما نأبى أن يكون عندك، أو عند أحدٍ من أصحابك فيه زيادات لم نعثر بها، أو لطائف لم نفطِن إليها، إن كنتَ على ثقةٍ من عِلمِك، وبصيرة بما عندك، وعرفْت من طُرق السّرَق، ووجوه النقل ما يسوغ فيه حُكمُك، وتعدَّل فيه شهادتك، فلا بأس أن تُلحِق به ما أصبته، وأن تصيف

إليه ما وجدته، بعد أن تتجنّب الحيْف، وتتنكب الجور، وتعلم أن وراءك من النُقّاد من يعتبرُ عليك نقدَك، ومن لا يستسلم للعصبيّة استِسلامَك. وأنا أعدل الى ذكر ما رأيتُك تُنكرُ من معانيه وألفاظه، وتَعيبُ من مذاهبه وأغراضه، وتُحيلُ في ذلك الإنكار على حجة أو شُبهة، وتعتمِدُ فيما تعينه على بيّنة أو تهمة، إذا كان ما قدّمتَ حكايته عنك، وما عددتَه من مطاعنك، وأثبتّه من الأبيات التي استَسقَطتها، ومِلتَ على هذا الرجل لأجلها من باب ما يُمتحن بالطبع لا بالفِكر، ومن القِسم الذي لاحظ فيه للمحاجّة، ولا طريق له الى المحاكمة، وإنما أقصى ما عند عائبه. وأكثر ما يمكن مُعارضه أن يقول: فيه جهامة سلبته القَبول، وكزازةٌ نفّرتْ عنه النفوس، وهو خالٍ من بهاءِ الرّونق، وحلاوةِ المنظر، وعُذوبة المسْمَع، ودماثةِ النثر، ورشاقة المعرِض، قد حمل التّعسّف على ديباجته، واحتكم التعمل في طلاوته، وخالف التّكلّف بين أطرافه، وظهرت فجاجةُ التصنع في أعطافه، واستهلك التعقيدُ معناه، وقيّد التعويص مُرادَه.

مواقع الكلام

مواقع الكلام وهذا أمر تُستخبر به النفوس المهذّبة، وتستشهد عليه الأذهان المثقفة؛ وإنما الكلام أصوات محلها من الأسماع محلّ النواظر من الأبصار. وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحُسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفُس كل مذهب، وتقف من التّمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخِلقة، وتناصُفِ الأجزاء، وتقابل الأقسام؛ وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى الى القبول، وأعلَقُ بالنّفس، وأسرع ممازجة للقلب؛ ثم لا تعلم - وإن قاسيت واعتبرت، ونظرت وفكرت - لهذه المزية سبباً، ولما خُصّت به مُقتَضِياً. ولو قيل لك: كيف صارت هذه الصورة، وهي مقصورة عن الأولى في الإحكام والصنعة، وفي التّرتيب والصيغة، وفيما يجمع أوصاف الكمال، وينتظمُ أسباب الاختيار أحلى وأرشق وأحظى وأوقع؟ لأقمت السائل مقام المتعنّت المتجانِف، ورددته ردّ المستبهم الجاهل! ولكان أقصى ما في وسعك، وغاية ما عندك أن تقول: موقعُه في القلب ألطف، وهو بالطّبع أليق؛ ولم تعْدم مع هذه الحال معارضاً يقول لك: فما عبتَ من هذه الأخرى؟ وأي وجهٍ عدَل بك عنها؟ ألم يجتمع لها كيت وكيت!! وتتكاملُ فيها ذيه وذيه!! وهل للطاعن إليها طريق! وهل فيها لغامز مغمز يحاجُّك بظاهر تحسّه النواظر! وأنت تحيله على باطن تحصِّله الضمائر! كذلك الكلام: منثوره ومنظومه، ومجمَلُه ومفصّله؛ تجد منه المُحكَم الوثيق والجزل القوي، والمصنّع المُحكم، والمنمّق الموشّح؛ قد هُذِّب كل التّذيب، وثُقِّف غاية التّثقيف، وجهِد فيه الفِكْر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى احتمى ببراءته عن المعائِب، واحتجر بصحّته عن المطاعن، ثم تجد لفؤادِك عنه

نَبوة؛ وترى بينه وبين ضميرك فجوة؛ فإن خلُص إليهما فبأن يُسهِّل بعضُ الوسائل إذنه، ويمهد عندهما حاله؛ فأمابنفسه وجوهرِه، وبمكانه وموقعه، فلا. هذا قولي فيماصفا وخلُص، وهُذِّب ونقِّح؛ فلم يوجد في معناه خلل، ولا في لفظه دخَل؛ فأما المختل المَعيب، والفاسد المضطرب، فله وجهان: أحدُهما ظاهر يُشترك في معرفته؛ ويقل التفاضُل في علمه؛ وهو ما كان اختلاله وفسادُه من باب اللّحن والخطأ من ناحية الإعراب واللغة. وأظهر من هذا ما عرض له ذلك من قِبَل الوزن والذوق، فإن العامي قد يميّز بذوقه الأعاريض والأضرُب، ويفصِل بطبعه بين الأجناس والأبحُر، ويظهر له الانكسار البيّن، والزِّحاف السائغ. والآخر غامض يوصَل الى بعضه بالرواية، ويوقَف على بعض بالدّراية؛ ويحتاج في كثير منه الى دقّة الفطنة، وصفاء القريحة، ولُطف الفكر، وبعد الغوص. ومِلاك ذلك كله: وتمامُه الجامع له والزّمام عليه صحّة الطبع، وإدمان الرياضة؛ فإنهما أمران ما اجتَمعا في شخص فقصّرا في إيصال صاحبهما عن غايته، ورضِيا له بدون نهايته. وأقل الناس حظّاً في هذه الصناعة من اقتصَر في اختِياره ونفيهِ، وفي استِجادته واستسقاطه على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة. ثم كان همّه وبُغيته أن يجد لفظاً مروَّقاً، وكلاماً مزوّقاً؛ قد حُشِي تجْنيساً وترصيعاً، وشُحن مطابقةً وبديعاً، أو معنى غامضاً قد تعمّق فيه مستخرِجُه، وتغلغل إليه مستَنبطه، ثم لا يعبأ باختلاف الترتيب، واضطراب النَّظم، وسوء التأليف، وهلهلة النّسْج، ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يسبُر ما بينهما من نسب، ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب، ولا يرى اللفظ إلا ما أدّى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صوّر له الغرض، ولا الحُسنَ إلا ما أفاده البديع، ولا الرونق إلا ما كساه التّصنيع، وقد حملني حبّ الإفصاح عن هذا المعنى على تكرير القول فيه، وإعادة الذكر له؛ ولو احتمل مقدارَ هذه الرسالة استقصاؤه، واتسع حجمُها للاستيفاء له لاسترسَلتُ فيه، ولأشرَفتُ بك على معظمه.

وإذا كان هذا محلي من التحقيق بهذه الطريقة، ومقامي في نصرة هذا الرأي فأنا أول موافق لك على ما ادّعيته، وراضٍ منك بالمقدار الذي أوردته؛ غير أن العصبية ربما كدّرتْ صفو الطبع، وفلّت حدّ الذهن، ولبّستِ العلم بالشك، وحسّنت للمُنصف الميل؛ ومتى استحكمتْ ورسخت صوّرت لك الشيء بغير صورته، وحالتْ بينك وبين تأمله، وتخطّت بك الإحسان الظاهرَ الى العيب الغامض. وما ملكَتِ العصبية قلباً فتركت فيه للتثبت موضعاً؛ أو أبقَتْ منه للإنصاف نصيباً!

دفاع المؤلف عن أبي الطيب

دفاع المؤلف عن أبي الطيب وقد تفقدت ما أنكرَهُ أصحابُك من هذا الديوان، بعد الأبيات التي حالُها من امتناع المحاجة فيها، وتعذّر المخاصمة عليها ما وصفْت فوجدته أصنافاً، منها ألفاظ نُسبَت الى اللّحن في الإعراب، وادُّعي فيها الخروج عن اللغة، ومعان وصِفَت بالفساد والإحالة، وبالاختلال والتناقض، واستِهلاك المعنى؛ وأخرى أنكِر منها التقصير عن الغرض، والوقوفع دون القصد. وأعيَب ما فيها ما عيبُه من باب التعقيد والعويص واستهلاك المعنى وغُموض المراد؛ ومن جهة بُعدِ الاستعارة، والإفراط في الصنعة، وقد حكيْت في كل باب منها ما علِقتُه من كلام أصحابك، وما قابلهم به خصومُك، ورأيت السّلامة في أن أقتصر من هذه الوساطة على حُسن التبليغ، وحسن التأدية، وتقريب العبارة، وجمع المتفرِّق، ثم أقف منكما حجْزةً، وأخرُج عنكما صفراً؛ قد أدّيتُ عن كل فريق ما تحملتُه، وسلمتُ من الميل فيما تكلّفته. وكما لا أحكم على خصمك بالخطأ في كل ما يذكره، فكذلك لا أبعدُك من الصواب في أكثر ما تصفه. وجملة القول في هذه الأبيات وأشباهها أنه لو وُفّي فيها التهذيب حقه. ولم يُبخَس التّثقيف شرطَه لانقطعت عنها ألسُن العيب؛ وانسدّت دونها طرُق الطعن، ولدخَلتْ في جملة أخواتها، ولجرتْ مجرى أغيارها؛ ولاستغنت عن تكلّف البحث والتّنْقير؛ واستغنى خصمك عن تمحّل الحجج والمعاذير. لكنا لم نجد شاعراً أشمل للإحسان والإصابة والتنقيح والإجادة شعره أجمع، بل قلّما تجد ذلك في القصيدة الواحدة، والخطبة الفردة؛ ولا بد لكل صانع من فترة، والخاطر لا تستمر به الأوقات على حال؛ ولا يدوم في الأحوال على نهج. وقد قدمنا لك في صدر هذه الرسالة من شعر أبي نواس وأبي تمام وغيرِهما ما مهّدنا به الطريق الى هذا القول،

وأقمناه علَماً يرجَع إليه في هذا الحكم، وأعلمناك أنه ليس بغيتنا الشهادة لأبي الطيب بالعصمة، ولا مرادُنا أن نبرّئه من مقارفة زلّة، وأن غايتنا فيما قصدنا أن نلحِقَه بأهل طبقته، ولا نقصّر به عن رتبته، وأن نجعله رجلاً من فحول الشعراء، ونمنعك عن إحباط حسناته بسيئاته، ولا نسوّغ لك التحامل على تقدّمه في الأكثر بتقصيره في الأقل، والغضّ من عامّ تبريزه، بخاص تعذيره. ومتى وجدتك تحتمل للفرزق قوله: وما مثلُه في الناس إلا مُمَلَّكاً ... أبو أمه حيٌ أبوه يقاربُه وقوله: ما بالمدينة دارٌ غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروانا وقوله: فإنّ التي ضرّتْك لو ذقت طعمَها ... عليك من الأعباء يوم التخاصم وأشباهها. وإن لم تحتمِله لم تتعمدْه بالعيب، ولم تتناول قلائدَه بالغضّ، ولا تسلك بأبي الطيب هذا المسلك، وتحمِله على هذا المنهَج علمتُ أنّك متعصّب مائل، ومتحامل جائر. وقد حدثني بعض أهل الأدب أنه حضر عند أبي الحسن بن لنْكَك البصري - وكان على فضله في العلم، وتقدُمه في الأدب - شديد التحامل على أبي الطيب، وهو يذكر شيئاً من شعره حتى انتهى الى قوله: بقائي شاء ليس همُ ارتحالا فجعل يعجِّب من هذا المصراع من حضره ويقول: هل رأيتُم أشد تعقيداً وأظهر تكلفاً، وأسوأ ترتيباً من هذا الكلام! قال: فقلت له: هب الأمر على ما ادّعيته،

وأنّا سلّمنا لك ما زعمته، أين أنت من قوله في إثر هذا البيت: كأنّ العيسَ كانت فوقَ جفني ... مُناخاتٍ فلمّا ثُرْنَ سالا قال: فاستشاط غيظاً، ثم قال: هذا المصراع يسقط دواوين عدة شعراء! فإنْ كان هذا الحكم سائغاً، وكان ما قاله مقبولاً، فإن أحد أبيات الفرزدق يُسقط شعر بني تميم جملة؛ فقد ترى ما بينَها من الفضل في النقص، وتتبين تفاوتها في سوء الترتيب واختلال النظم. ولو كان التعقيدُ وغموضُ المعنى يُسقطان شاعراً لوجب أن لا يُرى لأبي تمام بيت واحد؛ فإنا لا نعلم له قصيدة تسلم من بيتٍ أو بيتين قد وفَر من التعقيد حظهما؛ وأفسد به لفظهما، ولذلك كثُر الاختِلاف في معانيه، وصار استخراجها باباً منفرداً؛ ينتسِب إليه طائفة من أهل الأدب، وصارت تُتطارح في المجالس مطارحة أبيات المعاني، وألغاز المُعمّى. وليس في الأرض بيت من أبيات المعاني لقديم أو محدث إلا ومعناه غامض مستتر؛ ولولا ذلك لم تكن إلا كغيرها من الشعر، ولم تفرَد فيها الكتب المصنّفة، وتُشغل باستخراجها الأفكار الفارغة. ولسنا نريدُ القِسم الذي خفاء معانيه واستتارُها من جهة غرابة اللفظ وتوحش الكلام، ومن قبل بُعد العهد بالعادة وتغيّر الرسم، كاختلاف الناس في قول تميم بن مقبل: يا دار سلمى خلاء لا أكلِّفها ... إلا المرانةَ حتى تعرِفَ الدِّينا فإن الذي خالف بين أقاويلهم فيها هو أنهم لم يعرفوا المرانة، فقال قائل: هي ناقته، وقال آخر: هي موضع دار صاحبته، وقال آخر إنما أراد الدوام والمرونة.

غلو القدامى

غلوّ القدامى فأما الإفراط فمذهب عام في المُحدَثين، وموجود كثير في الأوائل، والناس فيه مختلفون، فمستحسِن قابل، ومستقبِح رادّ، وله رسوم متى وقف الشاعر عندَها، ولم يتجاوز الوزصف حدّها جمع بين القصْد والاستيفاء، وسلم من النقْص والاعتداء، فإذا تجاوزها اتسمت له الغاية، وأدته الحال الى الإحالة، وإنما الإحالة نتيجة الإفراط، وشُعبة من الإغراق، والباب واحد، ولكن له درَج ومراتب. فإذا سمع المحدَث قول الأول: إلا إنما غادرْتِ يا أمَّ مالكٍ ... صدًى أينما تذهبْ به الريح يذهب وقول آخر من المتقدمين: ولو أنّ ما أبقيتِ منّي معلَّقٌ ... بعودِ ثمامِ ما تأوّد عودُها جسَر على أن يقول: أسَرّ إذا نحِلتُ وذاب جسمي ... لعل الريح تسْفي بي إليهِ واستحسن غيره أن يقول: ذاب فلو زُجّ بجُسمانه ... في ناظر الوسْنان لم ينتبِهْ وسهّل لأبي الطيب الطريق فقال: ولو قلمٌ ألقيتُ في شقِّ رأسه ... من السُقمِ ما غيرتُ من خطّ كاتِب وقال:

كفى بجسمي نُحولً أنّني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترَني وإذا قال عنترة: وأنا المنية في المواطن كلِّها ... والطعْنُ مني سابقُ الآجال وقال النابغة الجعدي: بلَغْنا السماءَ مجدُنا وجدودُنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظْهَرا وقال الأعشى: لو أسندتْ ميتاً الى نحرِها ... عاش ولم يُنقل الى قابر وقال عروة بن زيد: بجيشٍ تُطلّ البلق في حجَراتِه ... ترى الأُكمَ منه سُجَّداً للحوافرِ وقال النابغة: تقُدّ السَّلوقيّ المضاعفَ نسجُه ... وتوقِدُ بالصّفّاح نار الحُباحِبِ

وقال النمِر بن تولب: يظل يحفز عنه إن ضربْت به ... بُعد الذراعين والساقين والهادي وقال مهلهِل: ولولا الريح أسمعَ من بحِجْرٍ ... صَليلَ البيض تقرَع بالذكور وقال امرؤ القيس: إذا ركِبوا الخيل واستلأموا ... تحرّقتِ الأرضُ واليومُ قُرّْ وقال الأعور الشّنّي: ولو حلّ بالدّهناءَ حرث بن جابر ... لأصبحَ بحْراً بالمفازةِ جاريا وقال الهذلَي: يردّ شعاع الشمس عار رماحنا ... ويصرف حد الشمس حتى تكركرا وقال قيس بن الخطيم: ملكْتُ بها كفّي فأنهرْتُ فتْقَها ... ترى قائماً من دونها ما وراءَها وقال هدبة: بإجّانة فيحاءَ لو خرّ بازلٌ ... من البُختِ فيها ظلّ للجنبِ يسبحُ وقال ابن ميّادة: ولو أن قيساً قيسَ عَيلانَ أقسمتْ ... على الشمس لم تطلعْ عليها حجابها وقال الطّرمّاح: ولو أن برغوثاً على ظهر قملةٍ ... يكر على صفّيْ تميم لولّتِ

وقال العيني في جوابه: ولو أن عصفوراً يمدّ جناحه ... على طيئ في دارها لاستقلّتِ وقال طُريح: لو قلت للسيل دع طريقك والمو ... ج عليه كالهضب يعتلِجُ لارتدّ أوساخَ أو كان له ... في سائر الأرض عنك منعرَجُ وقال العوّام بن عبد عمرو: ولو أنها عصفورة لحسبتُها ... مسوّمةً تدعو عُبيداً وأزنَما وقال تميم بن مقبل: ولو كحلت حواجب خيل قيس ... بكلب بعد تغلب ما قُذينا وأمثال هذا مما لو قصدنا جمعه لم يعوز الاستكثار منه وجد من بعدَهُم سبيلاً مسلوكاً وطريقاً موطّئاً، فقصدوا، وجاروا، واقتصدوا وأسرفوا وطلب المتأخر الزيادة، واشتقاق الى الفضل فتجاوز غاية الأول، ولم يقف عند حد المتقدم، فاجتذبَه الإفراط الى النقص، وعدَل به الإسراف نحو الذم.

عودة الى الدفاع عن أبي الطيب

عودة الى الدفاع عن أبي الطيب ولما سمع أبو الطيب قول قيس بن الخطيم في الطعنة نافسه فقال: إذا ما ضربْت القِرنَ ثم أجزْتَني ... فكِلْ ذهباً لي مرّةً منه بالكلْمِ فلم يحفِل بسوء النظم، وهلهلةِ النّسج لما حصل له الغرض في إنهار الطعنة، وتوسيع الجرح. ولما سمع قول العوام بن عبد عمرو: ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمةً تدعو عبيداً وأزْنما ووجد المحدَثين قد تبعوه، فذهبوا به مذاهب طلب الزيادة فقال: وضاقت الأرض حتى كان هاربُهم ... إذا رأى غير شيء ظنّه رجُلا فلم يكترث بالإحالة، ولم يستقبح أن جعل غيرَ شيء مرثيّاً لما استوفى عند نفسه الغاية، ولم يبق وراءها مرمًى لشاعر، وشجّعه على ذلك أيضاً أنه سمع قول عمرو بن لجأ: وقعنب يا بْن لا شيء هتفت به وقول أبي تمام: أفيّ تنظِم قولَ الزّور والفنَدِ ... وأنت أنزَرُ من لا شيءَ في العدَدِ فقال: قد أجاز هذا أن يكون لا شيء واحداً، وهذا أن يكون معدوداً فكيف

يحظر عليّ أن أجعلَه مرئياً!. ولما رأى مهلهِلاً قد أسمع أهل حِجْر صليل البيْض، وهو بالذنائب وبينهما عرْض نجد أقدم على أن قال: سلّه الرّكْبُ بعد وهْنٍ بنجدٍ ... فتصدّى للغيث أهلُ الحجاز وإذا رآهم قد احتملوا لطريح أن يجعل الوليد بن يزيد يردّ السّيل بقوله من جهة، ويصرفه عن طريقه سامهم أن يحتملوا في ابن حمدان قوله: ألقَتْ إليكَ دماءُ الرومِ طاعَتها ... فلو دعوْت بلا ضرْب أجاب دمُ ومتى سامح الرواة وحملة الشعر الفرزدق في قوله: لعمركُ ما الأرزاق حين احتفالُها ... بأكثرَ خيراً من خِوان العُذافر ولو ضافه الدّجال يلتمِسُ القِرى ... وحلّ على خَبّازِه بالعساكر

بعدّة يأجوج ومأجوج كلهم ... لأشْبَعهم يوماً غذاء العُذافِر وسامحوا سُحَيماً عبد بني الحسحاس في قوله: وما زال بُردي طيّباً من رِدائها ... الى الحوْل حتى أنهجَ البرد بالِيا وجميلاً في قوله: ولو أن جلداً غير جِلدكِ مسّني ... وباشرني دون الثياب شريتُ ولو أن واقي الموت يدو جنازتي ... بمنطقها في الناطقين حييتُ لزمهم أن يسامحوا أبا نواس في قوله يصف قِدراً: يعضّ بحَيزوم الجرادة صدرُها ... وينضج ما فيها بعودِ خِلال تغلي بذكر النار من غير قُربها ... وينزلها عفواً بغير جعال والعَكوّك في قوله يصف رِجله ومشيها: إذا اتسعت لم يلحق الذرُّ شأوَها ... وخامرها دون الذراع ابتِهارُها وأبا الطيب في قوله: له رحمةٌ تُحيي العِظام وغضبةٌ ... بها فضلةٌ للجُرمِ عن صاحبِ الجُرمِ ورقّةُ وجهٍ لو ختمْتَ بنظرة ... على وجنتَيه ما امّحى أثرُ الختْمِ لقد حال بين الجِنّ والإنسِ سيفُه ... فما الظنّ بعد الجنِّ بالعُربِ والعُجمِ وأرهبَ حتى لو تأمّل دِرْعَه ... جرَتْ جزَعاً من غير نار ولا فحم فإن قالوا: ألسنا نسامح المتقدمين بالخطأ؟ ولا نحتمِل لهم هذا الإغراق الفاحش؟ قلنا: أو لستُم قد سلّمتم لهم الإحسان في غير ذلك، ولم تسقطوهم من عداد الشعراء لأجله فأجروا هذا الرجل مجراهم، وألحقوه في الحكم بهم. وإذا احتملوا لامرئ القيس قوله:

من القاصراتِ الطّرْف لو دبّ محوِلٌ ... من الذّرِّ فوق الإتْب منها لأثّرا ولحميد قوله: منعّمة لو يُصبِح الذّرُّ سارياً ... على جِلدها صبّت مدارجُه دما فاحتملوا للمُحدث قوله: يجرحه اللّحظُ بتكرارِه ... ويشتكي الإيماء بالكفّ ولأبي الطيب قوله: تألّمُ درزَهُ والدّرْزُ ليْنٌ ... كما نتألّم العضْبَ الصّنيعا وإذا لم ينزل عندكم حُميد بن ثور عن مكانه، ولم يؤخره عن مقامه إفراطه في قوله يصف امرأة ركبت هودجها: فما دخلتْ في الخِدْرِ حتى تنقّضتْ ... تآسيرُ أعلى قِدّه وتحطّما وما ركبتْ حتى تطاول يومُها ... وكانت لها الأيدي الى الحدب سُلّما فجرجَر لمّا كان في الخِدر نصفُها ... ونصف على أياته ما تجزّما وما كاد لما أن علَته يُقلّها ... بنهضتِه حتى اكلأزّ وأعْصَما وحتى تداعت بالنقيضِ حبالُه ... وهمّت بواني زورِه أن تحطما وأثر في صُم الصّفا ثفِناتُه ... ورام بلما أمرَه ثم صمّما قال الأصمعي - وقد قرئت عليه هذه الأبيات: لو كانت هذه المرأة الماز ندر ما زاد؛

فكيف ملتم على أبي الطيب لإفراطه في قوله: ذِراعاها عدوّاً دُملُجَيها ... يظنّ ضجيعُها الزّند الضّجيعا إذا ساغ للمتقدم أن يقول: فلما جئته أعلى محلّي ... وأجلسني على السّبعِ الشِّداد فأما ما جرى مجرى قول أبي نواس: وأخفْتَ أهلَ الشِّركِ حتى إنّه ... لتخافُك النُّطَفُ التي لم تخلَق فهو من المحال الفاسد، وله باب غير هذا، وكل هذا عند أهل العلم مَعيب مردود، ومنفي مرذول، وإن كان أهل الإغراب وأصحاب البديع من المحدَثين قد لهِجوا به واستحسنوه، وتنافسوا فيه؛ وبارَى بعضُهم بعضاً به. ولسنا نذهب بما نذكره في هذا الباب مذهب الاحتجاج والتحسين، ولا نقصد به قصد العُذْر والتسويغ؛ وإنما نقول: إنه عيب مشترك، وذنب مقتَسَم، فإن احتمل فللكل، وإن رُدّ فعلى الجميع، وإنما حظ أبي الطيب فيه حظ واحد من عرض الشعراء، وموقعه منه موقع رجل من المحدثين. فأما الاستعارة فهي أحد أعمِدة الكلام، وعليها المعوَّل في التوسّع والتصرف، وبها يتوصل الى تزيين اللفظ وتحسين النظم والنثر، وقد قدمنا عند ذكرنا البديع نُبذاً منها مثلنا بها المُستَحسَن والمستقبح، وفصلنا بين المقتصِد والمفرِط.

الإفراط في الاستعارة

الإفراط في الاستعارة وقد كانت الشعراء تجري على نهْج منها قريب من الاقتصاد، حتى استرسل فيه أبو تمام ومال الى الرّخصة، فأخرجه الى التعدي، وتبعه أكثر المدَثين بعده، فوقفوا عند مراتبهم من الإحسان والإساءة، والتقصير والإصابة. وأكثرُ هذا الصنف من الباب الذي قدمت لك القول فيه، وأقمت لك الشواهد عليه، وأعلمتك أنه يميَّز بقبول النفس ونفورها، وينتقد بسكون القلب ونبوّه. وربما تمكنت الحجج من إظهار بعضه، واهتدتْ الى الكشْف عن صوابه أو غلطه، وقد كان بعض أصحابنا يجاريني أبياتاً أبعد أبو الطيب فيها الاستعارة، وخرج عن حد الاستعمال والعادة؛ فكان مما عدد منها قوله: مسرّةٌ في قُلوب الطّيبِ مفرِقُها ... وحسرةٌ في قلوبِ البَيض واليلَبِ وقوله: تجمعتْ في فؤادِه همَمٌ ... ملء فؤاد الزمان إحداها فقال: جعل للطيب والبيض واليلَب قلوباً وللزمان فؤاداً. وهذه استعارة لم تجر على شبه قريب ولا بعيد؛ وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من المناسبة، وطرف من الشبه والمقاربة. فقلت له هذا ابن أحمر يقول: ولهت عليه كل مُعصفة ... هوجاء ليس للبّها زبْر فما الفصل بين من جعل للريح لُبّاً، ومن جعل للطيب والبيض قلباً! وهذا أبو رميلة يقول: هم ساعدُ الدهر الذي يتقي به ... وما خير كف لا تنوء بساعدِ

وهذا الكميت يقول: ولما رأيت الدهرَ يقلِبُ ظهره ... على بطنه فعل الممعّك بالرّمل وشاتم الدهر العبقي يقول: ولما رأيتُ الدهر وعْراً سبيلُه ... وأبدى لنا ظهراً أجبّ مسمّعا ومعرفة حصاء غير مفاضة ... عليه ولوناً ذا عثانين أجْدَعا وجبهة قرد كالشِّراك ضئيلة ... وصعّر خديه وأنفاً مجدَّعا فهؤلاء قد جعلوا الدهرَ شخصاً متكاملَ الأعضاء، تامّ الجوارح؛ فكيف أنكرت على أبي الطيب أن جعلَ له فؤاداً! فلم يحِرْ جواباً غير أن قال: أنا استَبَرْت ووجدت بين استعارة ابن أحْمر للريح لُبّاً، واستعارة أبي الطيب للطيب قلباً بوْناً بعيداً، وأصبت بين استعمال ساعد للدهر في بيت ابن رميلة، واستعمال فؤاد للزمان في بيتِ أبي الطيب فصلاً جليّاً، وربما قصر اللسان عن مُجاراة الخاطر، ولم يبلغ الكلام مبلغ الهاجس. حدّثني جماعةٌ من أهل العلم عن أبي طاهر الحازمي وغيره من شيوخ المصريين عن يونس بن عبد الأعلى قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن مسألة فقال: إني لأجد بيانَها في قلبي، ولكن ليس ينطلقُ به لساني. وما أقربَ ما قالَه من الصواب وأخلقه بالسداد! وقد أجِد لهذا الفصل الذي تخيّل له بعضَ البيان؛ وذلك أنّ الريحَ لما خرجت بعُصوفها من الاستقامة، وزالت عن الترتيب شُبِّهت بالأهوج لا مُسكَة في عَقله، ولا زَبر للُبّه؛ ولما كان مدار الأهوج على التباس العقل حسُن من هذا الوجه أن يجعل للريح عقلاً، فأما الدهرُ فإنما يرادُ بذكره أهلُه؛ فإذا جعل للدهر ساعداً وعضُداً ومنكِباً فقد أقيم أهلُه مقام

هذه الجوارح من الإنسان؛ وليس للطيب والبَيضِ واليلَب ما يُشبه القلب، ولا ما يجري مع هذه الاستعارة في طريق. وقوله: ملء فؤاد الزمان إحداها إن عدل به الى أهله وأزيل عن مقتضى لفظه اختلّ المعنى وانقطع عن قولِه بعده: فإنْ أتى حظُّها بأزمنةٍ ... أوسعَ من ذا الزّمانِ أبْداها فهذا فصلٌ واضح وفرقٌ ظاهر. وأما أبيات شاتم الدهر فإنما صدرت مصدرَ الهزْل، وجرَتْ على عادةٍ في الاستعمال مُتداولةٍ؛ وذلك أنهم لما ابتذلوا اسمَ الدهر واعتمدوا على صرْفِه في الشكاية والشُكر، وأحالوا عليه باللّوم والعتْب، وألِفوا ذلك واعتادوه حتى صار أغلبَ على كلامهم، وأكثر في شعرهم وخطابهم من ذِكر أهله وأبنائه، ومن تقعُ هذه المحامد والملاوم عنه، ويحدُثُ أسبابُها عن جهته صار كالشخص المحمود المذموم، والإنسان المحسنِ المسيء، فوُصِف بأوصافه، وحلي بحلاه، وجعل له أعضاء تعدّ وتُنعت، وتستكرم وتستُهجَن، ومثل هذه الألفاظ قول امرئ القيس؛ يريد الليل: فقلتُ له لما تمطّى بصُلبِه ... وأردَف أعْجازاً وناء بكلْكَلِ

فجعل له صُلباً وعجُزاً وكلْكَلاً لما كان ذا أوْلٍ وآخر، وأوسط مما يوصف بثقل الحركة إذا استطيل وبخفّة السير إذا استقصر؛ وكلّ هذه الألفاظ مقبولة غيرُ مستكرهة، وقريبة المشاكلة ظاهرةُ المشابهة، وإنما يُحمَل ما جاء من ألفاظ المحدَثين وكلام المولَّدين زائِلاً عن هذا الموضع وغير مستمرّ على هذا السّنَن على وجوه تقرِّبهم من الإصابة، وتقيمُ لهم بعضَ العُذر، وتلك الوجوه تختلفُ بحسب اختلاف مواضعه، وتتباين على قدْر تبايُن المعاني المتضمنة له، فإذا قال أبو الطيب: مسرّةٌ في قلوبِ الطّيب مفرِقُها فإنما يريد أن مباشرةَ مفرِقها شرف، ومجاورتَه زيْنٌ ومفخرة، وأن التحاسدَ يقع فيه، والحسرةَ تقع عليه، فلو كان الطّيبُ ذا قلْب كما لو كانت البَيض ذوات قلوب لأسِفت؛ وإذا جعل للزمان فؤاداً أملأته هذه الهمّة فإنما أورده على مقابلة اللفظ باللفظ، فلما افتتح البيتَ بقوله: تجمّعتْ في فؤادِه همَم ثم أراد أن يقول إن إحداها تشغل الزمان وأهله ولا يتسع لأكثرَ منها ترخَّص بأن جعل له فؤاداً وأعانَه على ذلك أنّ الهمةَ لا تحل إلا الفؤاد، وسهّله في استعارة الأوصاف. وإذا قال أبو تمام: يا دهرُ قوِّمْ من أخدَعَيْك فإنما يريد: اعدل ولا تجُر، وأُنصِف ولا تحِفْ. لكنه لما رآهم قد استجازوا أن ينسُبوا إليه الجَوْر والميل، وأن يقذفوه بالعَسْف والظلم، والخُرْق والعنف، وقالوا: قد أعرض عنا، وأقبل على فلان، وقد جفانا وواصل غيرنا، وكان الليل

والإعْراض إنما وقع بانحراف الأخْدَع وازْورار المنْكِب، استحسن أن يجعلَ له أخدعا، وأن يأمُر بتقويمه. وهذه أمور متى حُمِلت على التحقيق، وطلب فيها محض التقويم أُخرِجت عن طريقة الشعر، ومتى اتّبع فيها الرخص، وأُجرِيت على المسامحة، أدّت الى فساد اللغة، واختلاط الكلام. وإنما القصد فيها التوسط والاجتزاء بما قرب وعُرِف. والاقتصار على ما ظهر ووضح.

من مآخذ العلماء على أبي الطيب

من مآخذ العلماء على أبي الطيب ودفاع المؤلف عنه قد قلت في هذه الأبواب بقدر ما احتملت الرسالة قولاً مجملاً يسهّل لك السبيل، ويوقفك على جهة الاحتجاج. ولم أجد لإثبات كلّ لفظة، واستعراض كل بيت موقعاً من التدبر مرضياً إذا كان أكثرها مذكوراً في الأبيات المتقدمة، وكان ما لم يذكر منها دالاً على نفسه، ومتميزاً عن غيره، لا سيما وقد كشفت لك هذه الجملة عن وجه التمييز، ودلّتك على مطْلَب العيب، كما مهّدت لك طريق العذر، فأما ما وقع الطعن عليه من جهة الإعراب، واللُكنَة في ناحية الزّلل في اللغة، وما ألحق بذلك من النّقْص الظاهر والإحالة البيّنة، والتقصير الفاحش، فلا بدّ من تعديده، والحكم على كل واحد بعينه؛ لاختلاف مأخَذِ حججه، وتشعّب مذاهب القول في قبوله وردّه؛ وإنما أذكُر ما انتهى إليّ منه سماعاً وبلاغاً، وما وقفتُ عليه كشفاً واستقراء؛ غير أني لا أتجاوز ما يقعُ الاعتراض عليه من أهل العلم، وما يجري التنازعُ فيه بين أهل التحصيل والفهم؛ فإني لو شرعتُ في تبيين كل ما يشكل منه على الشّادي والمتوسط، وعلى الطبقة الأولى من أهل الأدب لاحتجتُ الى تفسير الديوان بأسْره، فإن اقتصرتُ فعلى مُعظَمه وأكثره فإن المعتَرضين عليه أحد رجلين: إما نحويّ لُغوي لا بصَر له بصناعةِ الشعر؛ فهو يتعرّض من انتقاد المعاني لما يدلّ على نقْصه، ويكشِف عن استحكام جهْله؛ كما بلغني عن بعضهم أنه أنكر قوله: تخطّ فيها العوالي ليس تنفُذُها ... كأنّ كلّ سنانٍ فوقها قلَمُ فزعم أنه أخطأ في وصْفِ دِرْعِ عدوِّه بالحصانة، وأسِنة أصحابه بالكَلال. ومن كان هذا قدرُ معرفته، ونهاية علمه فمناظرتُه في تصحيح المعاني وإقامة الأغراض

عَناء لا يُجدي، وتعبٌ لا ينفَع؛ كأنه لم يسمع ما شحَنَت به العربُ أشعارَها من وصف ركْضِ المنهزم، وإسراع الهارب، وتقصير الطّالب، وقولهم: إنّ الذي نجّى فلاناً كرمُ فرسه، والذي ثبطني عنه سرعةُ طِرْفه، ولم يعلم أنّ مذاهبَ العرب المحمودة عندهم، الممدوحَ بها شجعانهم التفضلُ عند اللقاء، وترك التحصن في الحرب، وأنهم يرون الاستظهار بالجنَن ضرباً من الجبن، وكثرة الاحتفال والتأهّب دليلاً على الوهن، ولم يسمع قول الأعشى: وإذا تكون كتيبة ملموسة ... خرساء يخشى الدارعون نِزالَها كنت المقدَّمَ غير لابس جُنّة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها ولما أنشد كثيّر عبدَ الملك بن مروان: على ابن أبي العاصي دِلاصٌ حصينةٌ ... أجاد المسدّي سرْدَها وأذالَها قال له عبد الملك: وصفتني بالجُبن! هلاّ قلت كما قال الأعشى، وذكر البيتين المتقدمين: فقال: وصفْتُك بالحزْم ووصَفه بالخُرْق. وأنشد الأصمعي قول مزَرِّد بن ضِرار: ومسفوحةٌ فضْفاضةٌ تُبّعيّةٌ ... وآها القَتيرُ تجتَويها المعابِلُ دِلاصٌ كظهْر النّونِ لا يستطيعُها ... سِنانٌ ولا تلك الحِظاءُ الدّواخلُ موشّحٌ بيضاءُ دانٍ حبيكُها ... لها حلَقٌ بعد الأنامِلِ فاضِلُ

قال الأصمعي: لئِنْ كان أجاد في وصْف الدِّرْع لقد عاب لابسها؛ لأن فرسان العرب المذكورين لا يحفلون بسبوغ الدروع وحصانتها؛ وأنشد: الدِّرعُ لا أبغي لها ثروة ... كل امرئ مستودع ماله ويروي غيره: لا أبغي لها نثرة هكذا الأصمعي ينشده ويقول في معناه: كل من قدر عليه شيء أصابه. وأنشد أيضاً بيتي الأعشى اللذين ذكرناهما. فهذا مذهبُ العرب: وقد قال الكلْحَبة العُرَني - لما فاته حَزيمة بن طارق التّغلبي: فأدرَك إبقاءَ العَرادَة ظلْعُها ... وقد تركَتْني من حزيمة إصْبَعا فاعتذر إذ فاته حَزيمة بظَلْع فرسه، وإنما يد تقصيرها لا امتلاءها الماء؛ ألا تراه يقول: ونادى مُنادي القوم أن قد أتيتُم ... وقد شربَتْ ماءَ المَزادَةِ أجْمَعا وقال سلَمة بن الخُرْشُب يذكر هرَب عامر بن الطفيل وأنه نجا بسرعة فرسَه: نجَوْتَ بنصْلِ السيفِ لا غِمدَ فوقَه ... وسرْجٍ على ظهْرِ الرحالة قاتر فأثْنِ عليها بالذي هي أهلُه ... ولا تكْفُرَنْها، لا فلاحَ لكافر فلو أنّها تجري على الأرض أدرِكتْ ... ولكنها تهْفو بتمثالِ طائِر وقال أوس بن حجر يذكر هرَب طفيل بن مالك يوم السوبان: تقبل من خيفانة جرشعية ... سليلة معروق الأباجل جرشع

ولو أدركته الخيل شال برجله ... كما شال يوم الخال كعب بن أصمع في شعر كثير يكاد يفوتُ الجمع، ولا يأتي عليه العدَّ؛ كل يحيل الأعداءَ بالسّبْق والنجاء، وينسُب خيلَه الى التقصير ولا يرى ذلك عيباً، ولا يعده نقصاً، ولم ينقم ناقِم، ولم يعِبه به عائب. وقد قالت العرب في معنى أبي الطيب بعينه. قال شريخ بن قرواش العبسي: عشيةَ نازلت الفوارس عنده ... وزلّ سناني عن شريح بن مسهر وأقسمُ لولا درعه لتركته ... عليه عواف من ضباع وأنْسر وقال ورْقاء بن زهير في هذا المعنى لما ضرب خالد بن جعفر وهو بارك على زهير بن جَذيمة: فشلّت يَميني يومَ أضرِبُ خالداً ... ويمنعُه منّي الحديدُ المُظاهَرُ فهو إنما دعا على يمينه بالشلل تأسّفاً، ولم يذمَّ سيفه ولم يذكر نُبوّه، ولا نعاه عليه ناعٍ من أعدائه، كما نُعِي على الفرزدق نُبوّ سيفه على عنق العلْج الخراساني، ولو كانت فيه وصْمَة أو لحق سيف ورْقاء منه مَعابة لما جعله الفرزدق عُذْراً يحسِّنُ به فعلَه، وحجّةً يناضِلُ بها خصْمَه فيقول: فسيف بني عبس وقد ضرَبوا به ... نَبا بيَديْ ورْقاء عن رأسِ خالدِ ولو كان مراده بهذا تقريع بني عبْس لا الاحتجاج لنفسه لما قال: كذاك سيوفُ الهِنْد تنْبو ظباتها ... ويقطَعْنَ أحياناً مَناطَ القلائِد وقال طريف بن تميم لما طعن شيطان بن عمرو الشيباني: ألا ليت شعري والخطوبُ كثيرة ... بما آب شيطان بن عمرو بن مرثد ولم أدر ما أثْوابُه غير أنني ... غبأت له بالرمح مُستَمْكِناً يدي

فهذا يذكر أنه قد طعن مستمكناً متثبِّتاً؛ وأنه قد استفرغ ما عنده، وبلغَ جُهده، ولم يعلم ما أثوابُه وكيف كانت بزّتُه؟ وهل منعَتْ سِنان الرمح من الخُلوص الى المقْتل، والوصلِ الى المقْصد، ومن زعم أنه أراد بقوله: لم أدْر من أثوابه؛ أي لم أسلبه، فلم يصنع شيئاً؛ لأنه لا يتمكن من سَلبه إلا وهو صَريع طَريح، ولو كان ذلك لم يمكنه الإياب ولم يشكُ، وقد قتله بما آب به. وللعرب في وصف السلاحِ والخيل مذهبان؛ فإذا وصف شاعرُهم خيلَ قومِه، وأداةَ رهْطه، وسلاحَ عشيرته، وما ادّخَره هو من عَتاد، واقتَناه من رباط، فإنما يريد أننا أهلُ حروب ومغارات، ولنا النجدة والمَنَعة، وأنا فينا العزّ والقهر، ولنا الغلبةُ والفضل، وإذا وصف بذلك عدوّه ومحارِبَه فإنما يطلب الغضّ منه والنعي عليه، وليس يفعل ذلك إلا وقد حاد ذلك العدوّ عنه في مُلتَقى، أو حاجزه في مُعتَرك، أو دعاه الى البِراز فلم يُجبه، أو أجابه فلم يثبت له؛ فهو إذا وصف سلاحه فإنما يقول له: إنك هربت وأنت مؤْد شاك السلاح، تامّ الآلة، حديد السيف، ماضي السنان؛ فهو أثْلم لعِرصِك، وأدلّ على عجزك، وأبلغُ في ذمّك. وإذا وصف فرسه فإنما يعتذر من بقائه بعْد لقائه، ومن خلاصه بعد تورطه. ويريد أن الفرس نجّته وأطلقته؛ وإنما منّتْ عليه وأنقذته، فهو طليقُها، وأسيرمنِّها ورَقيقها، كما قال: ولا تكفُرَنْها، لا فَلاحَ لكافِر فهذا هذا. أو معنوي مدقِّق لا عِلم له بالإعْراب، ولا اتّساع له في اللغة؛ فهو ينكر

الشيءَ الظاهر، وينقِم الأمر البيّن، كفعل بعضهم في قوله: لأنْت أسودُ في عيني من الظُلَمِ فإنه أنكر أسود من الظُلم، ولم يعلم أنه قد يحتمل هذا الكلام وجوهاً يصح عليها، وأن الرجل لم يرد أفعل التي للمبالغة. كإنكار آخر قوله: فالغيث أبخل مَنْ سعى فزعم أن من لا تكون إلا لما يعقل، وأفعل لا يجري إلا على البعض من تلك الجملة، تقول: زيد أفضل من الناس؛ فلا بد أن يكون زيدٌ من الناس، ولو قلت: أفضل الحمير لم يصحّ. وكذلك لو قلت: أفضل ما يقضم الشّعير ويرْعى الكلأ لم يجُزْ. قال فمَنْ سَعى لا يقع إلا على عاقل، والغيث ليس من هذه الجملة، وهذا الاعتراض يدلّ على تقصير شديد في العلم بكلام العرب؛ لأن العرب إذا وصفت الشيءَ بصفة غيره استعارت له ألفاظه، وأجرته في العبارة مجراه، وإن كان لو انفرد انفرد عنه بصفته، وتميّز دونه بعبارته؛ فمن ذلك قول الله تعالى: (والشمسَ والقمرَ رأيتُهم لي ساجِدين) لمّا وصفهما بالسجود جمعهما بالياء والنون، ولا يُجمع بهما إلا جنس مَن يعقل، أما خرَج على بابه لعللٍ مذكورة في مواضعها، لكنه لما أجرى على الكواكب صفة من يعقل ألحقها في العبارة بهم. وكذلك قوله حاكياً عن السموات والأرض: (قالَتا أتيْنا طائِعين) لما حكى عنهما النطق والقول والطاعة والائتمار أجرى الكلام على ذلك فقال: فقضاهنّ، وعلى هذا قوله عز وجل (وكلٌ في فلَكٍ يسبحون) وهو كثير. وفي الشعر؛ فإذا جعل الغيث بخيلاً أو جواداً، ووجد العرب قد أجازت وتكلمت به جاز له إلحاقه بالبخلاء والأجواد في استعمال العبارة،

فكأنّه قال: الغيث أبخل السُعاة، ولو قال ذلك لم ينكره منكر، وإن كان هذا السعي ابتناء المعالي لا السعي على الأقدام، وقدأنشدني بعض من أثِق به لبعض العرب: متى نوّهْت في الهيجاء باسمي ... أتاك السيفُ أوّلَ منْ يُجيب لمّا جعل السيفَ مُجيباً له ألحقه بمن تصحّ منه الإجابة من العقلاء. وكإنكارهم قوله: أثابَ بها مُعميي المِطيّ ورازِمُهْ فزعموا أن كلام العرب: ثاب جسم فلان: رجع لقوته بعض المرض؛ وهذا أبو زيد يروي عن العرب: أثاب الرّجلُ إذا ثابَ إليه جسمُه، وقد حكاه عنه أبو عبيد في الغريب المصنف، وحكى غيره ثابَ وأثابَ بمعنى واحد. ولو عرّجنا على كل معترِض وأصغينا لكل قائل لامتدّ بنا القول ولأعجزَنا كثرةُ الخصْم عن امتحان الشهادات، وشغلنا باتّصال الدعوى عن التوسّط، وإنما يقصد بالكشف ما يشتبه، ويتوسط في الأمر الذي يشكل ويلتبس. ونصون كتابنا عن سخيف الاعتراض، كما نصونه عن ضعيف الانفصال.

ما عاب العلماء على أبي الطيب

ما عاب العلماء على أبي الطيب فما أنكره عليه أهلُ العلم واستضعفوه قوله: جلَلاً كما بي فليَكُ التّبريحُ ... أغِذاء ذا الرَّشإ الأغنّ الشّيحُ فقال أهل الإعراب: حذف النون من تكن إذا استقبلتها اللام خطأ؛ لأنها تتحرك الى الكسر، وإنما تحذف استخفافاً إذا سكنت، فقال لهم المحتجّ عن أبي الطيب: لعمري إن وجهَ الكلام ما ذكرتُم، لكنّ ضرورة الشعر تُجيز حذف النون مع الألف واللام، وقد حكاه أبو زيد عن العرب في كتابه المعروف بكتاب النوادر، وأنشد لحسيل بن عُرفُطة: لم يكُ الحقُّ سوى أن هاجَه ... رسمُ دارٍ قد تعفّى بالسُرَر غيّر الجدّة عن عِرْفانِها ... خُرْق الريحِ وطوفانُ المطر وأبو زيد ثِقة والرواية عن العرب حجّة، وقد جاء مثله: فلستُ بآتيه ولا أستطيعُه ... ولاكِ اسقِني إنْ كان ماؤُكَ ذا فضْل كأنه حذف ثم جاء بالساكن منبعد فتركه على الحذف. وأنكر أصحاب المعاني قطعَ المصراع الثاني عن الأول في اللفظ والمعنى، فقال المحتجّ عنه إنما يسوغُ الإنكار لو قطع قبل الإتمام، وابتدأ بالثاني وقد غادر من الأول بقية، فأما أن يستوفي مراده، ثم ينتقل الى غيره فليس بعيب، وإنما المصراعان كالبيتين، وه قد استوفى بقوله: جلَلاً كما بي فليَكُ التّبريحُ

هذا المعنى، ثم ابتدأ بالمصراع الثاني مستفهماً فما في هذا من العيب! وقال بعضهم: قد يفعلُ الشاعر مثل هذا في النسيب خاصة ليدلّ به على تمكّن الشوق منه، وغلبة الحب عليه، وليرى أن آثار الاختلاط ظاهرة في كلامه، وأنه مشغول عن تقويم خطابه، قالوا: ولذلك قال: أغِذاء ذا الرّشإ الأغنّ الشيحُ وجعلوا من هذا الباب قول زهير: قِف بالدّيار التي لم يعفُها القدَمُ ... بلى وغيّرَها الأرواحُ والدّيمُ فنقض بالمصراع الثاني الأول ولم يحفل بتكذيب نفسه، وأنكر هؤلاء قول من ذهب الى أن معنى البيت أن القدم لم يعفُها، وإنما غيّرها الأرواح والدّيَم. ومن النّقض الظاهر قول بشار: لم يطُل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألم فقال: لم أنم، ثم زعم أن الطيف ألمّ به، وهو لا يُلمّ إلا بنائم. وقال غيره إن بين المصراعين اتصالاً لطيفاً، وهو أنه لما أخبر عن عظم تبريحه، وشدّة أسفه بيّن أن الذي أورثه التبريح والأسف وهدَى إليه الشوق والقلق هو الأغنّ الذي شكّكه غلبة شِبْه الغِزلان عليه في غذائه، وهذا الاعتذار قريب. وعابوا له: أمطِ عنك تشبيهي بما وكأنّه ... فلا أحدٌ فوقي ولا أحدٌ مثلي فقالوا: إنما يشبه من الأسماء بمِثل وشِبه ونحوهما، ومن الأدوات بالكاف، ثم تدخل على أنّ فيقال: كأنه الأسد، وقد تقرّب العرب التشبيه بأن تجعل أحد الشيئين

هو الآخر، فتقول زيد الأسد عادياً، والسيفُ مسلولاً، فأما ما فلها مواقعُ معروفة وليس للتشبيه في أبوابه مدخل. وهذا مما سُئِل أبو الطيب عنه فذكر أنّ ما تأتي لتحقيقِ التشبيه؛ تقول: عبد الله الأسد وما عبد الله إلا الأسد وإلا كالأسد، تنفي أن يشبَّه بغيره، وقال: وما هندُ إلا مُهرة عربية ... سَليلةُ أفراس تجلَّلها بغْل وقد تجيء مع الكاف قال لبيد: وما المرءُ إلا كالشِهاب وضوئِه ... يحور رماداً بعد إذْ هو ساطِعُ فكأن قائلاً قال: ما هو إلا كذا، وآخُ قال: كأنه كذا، فقال: أمط عنك تشبيهي بما وكأنه. وأقول: إن التشبيه بما محال وإنما يقع التشبيه في هذه المواضع التي ذكرها بحرْفه، فإذا قال: ما المرء إلا كالشهاب فإنما المفيد للتشبيه الكاف ودخلت ما للنفي فنفَت أن يكون المرء إلا كالشهاب، فهي لم تتعد موضعها من النفي، لكنها نفَت الاشتباه سوى المستثنى منها، وإذا قال: ما هند إلا مهرة فإن ما دخلت على المبتدأ والخبر، وكأن الأصل هند مهرة، وهو في تحقيق المعنى عائد الى تقريب الشّبَه، وإن كان اللفظ مُبانياً، ثم نفى أن يكون كذلك فأدخل حرفي النفي والاستثناء، فليس بمُنكَر أن يُنسَب التشبيهُ الى ما إذا كان له هذا الأثر، وباب الشعر أوسع من أن يضيق عن مثله. وأنكروا قوله: إذا كان بعض الناس سيفاً لدولةٍ ... ففي الناس بوقاتٌ لها وطبول فقالوا: إنّ جمع بوق على بوقات خطأ، وإنما يجمع باب فُعْل على أفعال في أدنى العدد، مثاله: قُفْل وأقفال. وعود وأعْواد، وقد يخرج عنه الى أفعل؛ مثل بُرْد وأبرد،

فأما في أكثر العدد فالباب فُعول؛ نحو جند وجنود، وبُرْد وبرود، فإن كان من المضاعف ففِعال، نحو خُف وخفاف، وحُب وحِباب، وقد جاء على فِعَلة نحو تُرْس وتِرَسَة، وجُحْر وجِحَرة، وعلى فِعْلان، نحو كوز وكيزان، وعلى فِعالة، نحو مُهر ومِهارة، وإنما يجمع على فعلات ما كان على فُعلة؛ نحو ركبة وركبات، فيكون فيها ثلاثة أوجه: فتح الكاف وضمها وتسكينها، فأما فُعْل وفعلات فمما لا يُعرَف في شيء من الكلام في صحيح ولا معتلّ. وسئل أبو الطيب عن ذلك فقال: هذا الاسمُ مولّد لم يُسمَع واحده إلا هكذا ولا جمعه بغير التاء، وإنما هو مثل حمّام وحمّامات وساباط وساباطات؛ وسائر ما جمَعوه من المذكر بالتاء. وقال المحتجّ عنه: إن أصل الجمع التأنيث، ولذلك جاء ما جاء منه بالتاء، وإن كان في الأصل مذكراً. قال: فمن جمع اسماً لم يجِدْ عن العرب جمعَه فأجراه على الأصل لم يسُغ الردّ عليه، ولم يجُز أن ينسب الى الخطأ لأجله، وهذا اسمٌ أعجمي تكلّمت به العربُ، ولم يحفظ عنهم جمعه، فلما احتاج المولدون إليه أجرَوه على أصل الجموع، وتبعوا فيه عادة العرب في الأسماء المنقولة عن الأسماء الأعجمية، نحو سُرادق وسُرادِقات، وساباط وساباطات، وخان وخانات، وهارون وهارونات، وإيوان وإوانات، فعدلوا بجميع هذه الأبنية عن أصول قياسه، وألحقوها بأصل الجمع وغلبوا فيها التأنيث، ولولا ذلك لما جاز في خان وهو مثل مالٍ أن يُجمَع على خانات، كما لا يقال: مال ومالات، ولا في إوان وهو مثل جِراب، وقد ترخّصوا في الأسماء العربية بمثل ذلك تغليباً للتأنيث في هذا الباب، فأخرجوها عن أبوابه، وخالفوا فيها أخواتها؛ قالوا: بُوان وبُوانات، وخَيال وخيالات، وجمل سِجِلّ وجمل سجِلاّت، ولميلهم لهذا الاختيار قالوا في جمع ذي القعدة: ذوات القعدة، وفي جمع ابن آوى بنات آوى، وكذلك بنات عرس، وقالوا مثل

ذلك في الشهور، فجمعوا رمضان وشوال رمضانات وشوّالات؛ كل هذا تقديماً للتأنيث في باب الجمع، وميلاً به عن التذكير، ولكلّ اسم من هذه الأسماء قياسٌ مطّرد وبابٌ متّسق، عدلوا به عنه وهو معرض. وتركوه وهو سهلٌ ممكن. فلهذا وأشباهِه اختار أبو الطيب بوقات على أبْواق، والوزن يتم بهما، والضرورة لا تدفع أحدهما. قال الخصْم: هذه اللفظة وإن كانت قليلة عن العرب فقد تكلّمت بها، وعرفت قديماً في لغتها: وأنشدوا: رحى طحّانةٍ صاح بوقُها وقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استشار أصحابه في أمر ينصِبه علَماً للصلاة؛ يجمع الناس عليها؛ قال بعضهم: ناقوسٌ كناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود، ولسنا نبعد أن تكون الكلمةُ عربية صحيحة، وأن تكون اللغتان اتفقتا فيها، فإنا نجد لها اشتقاقاً وأصلاً في العربية مشهوراً، وهو قولهم: أصابتنا بوقة من المطر؛ أي دَفعة. قال رؤبة: من باكِر الوسْمِيّ نضّاحِ البُوَقْ ويقولون للشيء إذا انفجر دَفعة: انْباق، وهذا البوق المصوِّت يندفع فيه الصوت فكأنّه ينفجرُ منه، وينفلِت انفلاتَ البوقَة من المطر، فإن كانت عربية فبابُ جمعِها معروف، وإن كانت أعجمية فالعرب إذا عرّبت أعجمياً ألحقتهُ بكلامها، وأجرَته على أبنيتها؛ ألا تراهم قالوا: مُهرَق ومهارِق، وبَلاس وبُلُس، وبُستان وبساتين، ويلمَق ويَلامق، ورَزْدَق ورزادِق، وأمثال ذلك كثير موجود؛ وإنما يعدلون

ببعضه عنبابه الى التاء كما يعدلون بالعربي في نحو قولهم: بُوان وبُوانات، وإنما هذه الأحرف التي عددْتُموها ألفاظٌ خرجت عن القياس، وشذّت عن العبرة، وإنما يتبع فيها السماع، ويوقَف عند الرّواية، لا يتعدّى الى غيرها، ولا يتجاوز تلك الحروف بأعينها. ولا تكاد تجد باباً من العربية يخلو من نوادر وشواذّ؛ ولو جعلت أصولاً وأُجرِيت على حكم القياس لبطلت الأصول واختلط الكلام، ولجاز أن يقال في جمل أجمل كما قالوا: جبَل وأجْبل، وجاز كلب وأكْلاب كما قالوا: فرْخ وأفراخ. قال المحتج: ليس هذا من الباب الذي ذكرته، وليس بجار مجرى الشاذّ والنادر، بل قياس مستمر في جميع ما لا يوجد له مثال القلّة من المذكّر، وقد جاء أيضاً فيما له مثال القلّة وإن لم يكن مستمراً، وأنشد قول أوس بن حَجَر: تكنّفَنا الأعداءُ من كل جانبٍ ... لينتزعوا علقاتنا ثم تربعوا فجمع علقاً على علقات وأنشد لغيره: يرى عيساً يسودهن ماء ... من النّجَداتِ يحلبها الذميل يريد جمع النّجَد، وهو العرَق؛ في أبيات كثيرة تشهد لما قاله. قد قال الفريقان ما حكيناه؛ وقد كان لأبي الطيب في الصحيح مندوحة، وفي المجتَمع عليه متّسع. وعابوا عليه قوله: وإني لمِنْ قومٍ كأنّ نفوسَنا ... بها أنَفٌ أن تسكُن اللّحَمَ والعظْما فقالوا؛ قطع الكلام الأول قبل استيفاء الكلام وإتمام الخبر، وإنما كان يجب أن يقول: كأنّ نفوسهم ليرجعَ الضمير الى القوم، فيتم به الكلام. وهذا من شنيع ما وُجِد في شعره، وقد اعتذر له بأمور سنذكرها على ما فيها بمشيئة الله تعالى.

زعم بعض المحتجين عنه أنّ العرب تحمل الكلام على المعنى فتصرفُ الضمير عن وجهه، وتترك ردّه مع الحاجة إليه؛ لأن المراد بالضمير الثاني هو الأول في الحقيقة، وإن اختلفت العلامتان. قالوا: وقد جاء ذلك عن العرب في الأسماء الناقصة التي تتم صلاتُها وهي أحوجُ الى الضمير الراجع إليها؛ لأنها كالحرْف المفرد لا يتمّ إلا بالحروف التي تنْضافُ إليه؛ فصلَتُه بما فيه من الضمير كبقية حروف الاسم، فهو أمسّ حاجةً، وأشدّ افتقاراً الى ردّ الضمير إليه، وتكميل ذلك النّقص به، فمما جاء في ذلك قول المهلهل: وأنا الذي قتلتُ بكراً بالقَنا ... وتركتُ تغلِبَ غير ذاتِ سِنام وإنما وجه الكلام: وأنا الذي قتَل؛ ويكون في قتل ضميرٌ تقديرُه وأنا الذي قتل هو. وقول أبي النجم: يأيّها الذي قد سُؤتَني ... وفضحتني وطردتَ أمّ عِياليا ولو ردّ الضميرَ على حقيقة الكلام لقال: الذي قد ساءني. وكل هذا حُمل على المعنى، قالوا: وقد جاء في القرآن العزيز: (إن الذين آمَنوا وعمِلوا الصالحات إنّا لا نُضيعُ أجْرَ من أحسَن عمَلاً) . وليس في الخبر ما يرجعُ الى الأول، ولو ردّ الضميرُ الى الأول لقيل: إنّا لا نضيعُ أجرَهم؛ لكنه لما كان من أحسن عملاً هم المُضمرون بهم، الذي في أجرهم جاز أن ينوبَ أحدُهما عن الآخر، لأنّ من أحسن عملاً هو من آمن. ومثلُ هذا قوله تعالى: (والذين يمسِّكون بالكِتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيعُ أجرَ المُصلحين) لما كان معنى المصلحين معنى الذين يمسكون بالكتاب جاز أن يُقام مقامَه فيعود الذكر إليه في المعنى، فكأنّه قال: إنا لا نُضيع أجرَهم. وعلى هذا أجاز النحويون: المؤمنُ أكرمُ من اتّقى الله، لأن معنى من اتّقى الله معنى المؤمن؛ قالوا: فكذلك هذان الضميران في اتفاق المعنيين.

قالوا: وقد جاء في شعر العرب ما يُشبِه هذا مما أُقيم فيه أحد الكتابين مقام الأخرى اعتماداً على المعنى؛ مثل قول لبيد: فبنى لنا بيتاً رفيعاً سَمْكهُ ... فسَما إليهِ كهلُها وغُلامُها يريد كهلُنا وغُلامنا. قالوا: وشبيهٌ بهذا قول الله تعالى: (حتى إذا كنتُم في الفُلكِ وجرَيْن بهم بريحٍ طيّبة) عدل عن ضمير المخاطب الى ضمير الغائب اعتماداً على ظهور المعنى. قالوا: ويجوز أن يكون اكتفى بقوله: وإني لمن قومٍ كرام وأشرافٍ. فحذف الصفة استغناء بما تقدم، وما تعقب من الكلام، ثم ابتدأ خبراً ثانياً، وصرف الخطاب عن الأول، وهذا سائغٌ لا يُردّ. ألا تراه لو قال: وإني لمن قوم كرام، ثم أمسك لكان قد استكمل الفائدة، واستوفى الغرض، ولم يُحظَر عليه العدول الى غيره، ولم يُطالَب بردّ الضمير الى ما تقدّمه. ومن طلب أبواب الحذْف والاختصار، والانتقال من كلام الى كلام، والانصراف عن الخطاب قبل استتمامه اجتزأ بظهور الغاية واستِبانة المراد. وتتبّع ذلك في معادنِه. والكتب المصنفة فيه تصوّر صحةَ ما قلناه؛ فأما استقصاء ذلك وذِكْرُ جميعه فمما يُعظِم حجم الكتاب، ويُطيل حواشي الكلام، ولا يحصلُ منه على كبير فائدة. وأنشدوا لعبد الله بن قيس الرُقيّات: فتاتان أما منهما فشبيهة ... هلالاً وأخرى منهما تشبه الشمسا فتاتان بالنجم السعيد وُلِدتُما ... ولم تلقيا يوماً هواناً ولا نحْسا فلم يقل فتاتان ولدَتا، وهو حق الكلام؛ لكنه عدل إليهما مخاطباً، ولم يحفِل بتغيير الكنايات والضمائر. قوله: فتاتان كالمنقطع من الكلام قبل استقلاله بفائدة، والكلام الثاني كالمبتور قبل تمامه إلا أن يُحمَل على ما حملنا عليه بيتَ أبي الطيب،

ونحو بيت ابن الرقيات قول أبي الطيب: قومٌ تفرّست المنايا فيكم ... قرأتْ لكم في الحرب صبْرَ كِرامِ كأنه قال: أنتم قوم هذه حالكم، وقوله: كريمٌ متى استوهِبَتْ ما أنتَ راكبٌ ... وقد لقِحَتْ حربٌ فإنّك باذِلُ وأقول: إنّ هذه القضية إذا استمرت على ظاهرها، واقتصر على القدْر المذكور منها، اختلطت الكنايات وتداخلت الضمائر، ولم ينفصِل غائب عن حاضر، ولم يتميّز مخاطب. وله مواضع تختصّ بالجواز، وأخرى تبعُد عنه، وبينهما فصول تدِقّ وتغمُض، ولذكرِها موضعٌ هو أملَك بهما، وأبياتُ أبي الطيب عندي غير مُستكرَهة في قسم الجواز، وقد بلغ هذا المحتجّ منه مبلغاً، غير أنّ أبا الطيب عندي غيرُ معذور بتركِه الأمرَ القويّ الصحيح الى المُشكِل الضعيف الواهي لغير ضرورة داعية، ولا حاجة ماسّة؛ إذ موقعُ اللفظتين من الوزنِ واحد؛ ولو قال: نفوسهم لأزال الشُبهة، ودفع القالة، وأسقط عنه الشغب، وعناء التعب. وقوله: مضى بعد ما التفّ الرِّماحان ساعةً ... كما يتلقّى الهُدْبُ في الرّقْدةِ الهُدْبا فأنكروا تثنية الرماح، وهو جمع رمح فحاجّهم أبو الطيب ببيت أبي النّجم: تنقلتُ من أول التنقل ... بين رِماحَيْ مالكِ ونهشَل والتثنية عند النحويين جائزة في مثل هذا إذا اختلفت الضروب والأجناس،

وأكثر ما على أبي الطيب أن يتبع أبا النّجم وأضرابه من شعراء العرب، فهم القدوة وبهم الائتمام، وفيهم الأُسوة. وقوله: فأرْحامُ شِعرٍ يتّصلْن لدُنّهُ ... وأرحامُ مالٍ ما تَني تتقطّعُ فأنكروا تشديد النون من لدنّ، وإنما هو لدُنْ ولدْن؛ فأما تشديد النون فغير معروف في لغة العرب، وقد كان أبو الطيب خوطِب في ذلك فجعل مكان لدنّه ببابه، ثم احتجّ بما أذكره جملة. قال: قد يجوز للشاعر من الكلام ما لا يجوز لغيره لا للاضطرار إليه، ولكن للاتّساع فيه، واتفاق أهله عليه، فيحذفون ويزيدون، وروى أبياتاً منها: إذا غاب غدواً عنك بلْعمّ لم تكن ... جليداً ولم تعطِف عليك العواطف إنما هو ابن العم؛ ومنها قول قطري: غَداة طغت عَلْماءِ بكر بن وائل ... وعُجْنا صدورَ الخيل نحو تميم وقول لبيد: درسَ المَنا بمُتالِعٍ فأبان يريد المنازل. وقول الآخر: ثم تنادوا بعد ذاك الضّوْضا ... منهم بهاتِ وهلاّ وبابا نادى منادٍ منهم ألاتا ... قالوا جميعاً كلهم ألاتا آخر: قد وعدَتْني أمّ عمرٍ وأن تا ... تدهن رأسي وتفلّيني وا

وتمسحُ القَنْفاء حتى تنْتا ومما زاد فيه قول شبيب بن ثعلبة: ولسْبةُ الحُرقوصِ بالقَفَنّ ... ودُمَّل في الاست مستقرّن أحِبُّ منك موضع الوُشْحُنّ ... فذاك من ذاك الى السنن قطنة من أجود القطن فزاد هذه النونات. وقول الآخر: تعرضت لم تأل عن قتلٍ لي ... تعرض المهرة في الطولْ فزاد لاماً. وقال الآخر: يا ليتها قد خرجَتْ من فمه وقول الآخر: وليس المال فاعلمْه بمال ... وإن أعياك إلا الديني والتشديد في لدنّ أحسن من هذا كله؛ لأن النون ساكنة مع هاء، والنون تتبين عند حروف الحلق لتباعدها منها؛ فزاد في تبينها فاجتلب التشديد، وهذه زيادة نون. وقد قال بعض العرب: مُذْ لَدُ شَوْلاً فاليَ إتْلائِها فحذف النون من لدُن. وقال آخر: منا إن ذرّ قرن الشمس حتى ... أغاثَ شريدَهم غلسُ الظلامِ

فزاد ألفاً في مَنْ. وقال آخر: إن شكلي وإنّ شكلَكِ شتى ... فالزمي الخُص واحفظي تبْيَضِضّي أراد: تبيضّي، فزاد ضاداً أخرى، والعرب تقول: أنْظور بمعنى أنْظُر؛ وأنشدوا: وإنني حيث ما يثني الهوى بصري ... من حيث ما سلَكوا أدْنو فأنْظورُ قال: وللفصحاء المدلّين في أشعارهم مالم يُسمَع من غيرهم؛ كقول امرئ القيس: ديمةٌ هطْلاء. وذي الرُمة: أُدْمانة - يعني أدْماء. وفي شعر ابن أحمر وأمية: الهَينمان، والبلقوس، والقَساوِسَة؛ في جمع قَسٌ. ومثل هذا أكثر من أن يُحصى. فقال الخصم: قد خلط هذا الرجل في احتجاجه، وجمع بين أمور مختلفة، ودلّتا على بُعْدِه عن تحصيل المعاني، وذهابه عن مقاييس النحو، وأجرى كلامَه الى غاية

توجبُ قلب اللغة، ونقْضَ مباني العربية؛ لأنه جعل الشعراءَ بزعمه أمراءَ الكلام، وأباح لهم التصرّفَ على غير ضرورة؛ وهذه القضية إن سبقت على اطّراد قياسِها زال نظام الإعراب، وجاز للشاعر أن يقول ما شاء، وأن يناول ما أراد عن قرب، فيثقّلُ كل مخفّف، ويخفف كل مثقّل، ويحذف ويزيد، ويغيّر الجموع، ويتحكّم في التصريف، ويتعدّى ذلك الى حركات الإعراب، ويتجاوزُه الى ترتيب الحروف؛ فإذا كان هذا ممتنعاً محظوراً، ومتعذَّرا محجوراً، فلا بدّ من حد يقف عنده الشاعر، وينتهي إليه الفرق بين النظم والنثر، فيزول هذا الأساس الذي مهّده، والأصل الذي قرّره، ويرجع الى ما قالت العلماء فيه، وما أجيزَ للمضطر من التسهيل، وفُضِّل به النظمُ من التسامح، وهي أبواب معروفة، ووجوه محصور أكثرُها، ومعظَمُ ما يوجد فيها رد الكلمة الى أصلها، والى ما أوجب القياس الأعم له؛ مثلصرف ما لا ينصرف؛ لأن ترْك الصرف لعلة، فأزيلت وألحق الاسم بأصل الأسماء. ومثل قصر ما يُعدّ، لأن المَدّة زيادة عارضة فحذفت. ومثل إظهار التضعيف كقوله: إني أجود لأقوامٍ وإن ضَنِنوا لأنه الأصل، ونحو هذا وشبهه. وقد يجيء عن العرب شواذ لا تجعل أصولاً، ولا يلزَم لها قياس؛ لأنّ ذلك لو ساغ واستمر لانْقلبت اللغة، وانتقضت الحقائق، وهُم الى الحذف فيه أميل، وبالتخفيف أولع، وعلى ذلك قالوا: درس المنا؛ يريد المنازل. وقالوا: قواطن مكة من وُرْق الحما يريد الحَمام. وهذا باب يتسع فيه القول، وتتشعّب فيه الوجوه، وقدصنفت فيه كتب معروفة. ولأهْل الكوفة فيه رُخَص لاتكاد توجد لغيرهم من النحويين؛ كإجازتهم مد المقصور، وترك صرف الاسم المنصرف، ونحو ذلك؛ غير أنهم لا يبلغون به مرتبة الإهمال، ولا يرّضونه لتحكم الشعراء، ويجعلون هذا الباب من الضرورة، ويقتصرون به على الحاجة.

فأما ذكر أبي الطيب في هذا الكلام بَلْعمّ وعَلماء، ونحو ذلك فبمعزل عن هذا الشأن؛ لأنه سائغ في غير الشعر، وجائز في كل الكلام، وأكثر ما تقول العرب: عَلْماءِ بني فلان، وله باب ولا حاجة بنا الى ذكره، بعد أن عرفناك أنه غير متصل بما تنازعه من ضرورات الشعر، وكذلك الأبيات التي عددها في الحذف، فقد قدمنا لك ميْل العرب الى الاختصار، وإيثارَها الى الإيجاز، وغلبة الحذف على كلامها، وكثرته في خطابها. وقد حكى الأصمعي أن أخوَين من العرب مكثا متهاجرين زماناً، وهما يحُلان ويرتحلان معاً فإذا أراد أحدُهما الرحيل، قال: ألا تا، فجيبه الآخر ألا فا، وعلى هذا الطريق جروا في استعمال الترخيم، وترك الخبر في كثير من الابتداءات في مواضع من الشروط، وهذا لا يوجب التعدي الى ما ترخص به أبو الطيب، وسوّغه لنفسه واحتج به لشعره. فأما قوله: تبيضضي، فجار على ما خبّرناك باحتمال الشعر له من إظهار التضعيف، فأما التشديد الزائد فيه، وفي مستقرنّ والطول ونحو ذلك، فلأنها حروف الرويّ وخواتم القوافي، ومنقطع الكلام، فاحتملت ما لا يحتمله غيرها. ولو ساغ أن يُنصب ذلك علَماً، ويجعل عبرة، ويستمرّ على شريطة القياس لوجب أن لا ينكر على الشاعر إذا قال: رأيت حسناً؛ فشدد النون، أو ضربت محمداً فثقل الدال؛ كما جاز لك في الطولّ ومستقرنّ، ويجري ذلك في سائر الأسماء وجميع الحروف والأفعال، وهذا أمر لا ينتهي إليه عاقل. وقد جاء عن العرب التشديد في أواخر الأسماء إذا وقفوا عليها، وهذا ما يؤكد ما قلناه في تمييز القوافي عن غيرها؛ من حيث كانت العرب تقف عليها، وإن كانت مطلقة. فأما الألفاظ التي زعم أن الشعراء تفرّدوا بها فإنها موجودة عن أئمة اللغة، وعمن ينتهي السّندُ إليهم، ويُعتَمد في اللسان عليهم؛ وإنما نتكلم بما تكلّموا به، وواحد كالجميع، والنّفَر كالقبيلة، والقبيلة كالأمة، فإذا سمعنا من العربي الفصيح

الذي يعتد حجة كلمةً اتّبعناه فيها. ثم إن لم تبلغْنا عن غيره، ولم نسمع بها إلا في كلامه لم نزعم أنه اخترعها، ولم نحكم أنه أبو عُذرِها. وعلى هذا أكثر اللغة؛ لا سيما الألفاظ النادرة، والحروف الفردة. وكم نقل الناس عن أبي مهدية، وأبي الدقيش، وأبي الجراح، وأبي الصقر، والقناني، وأم الهيثم؛ وفلان وفلانة من لفظة لم تسمع قبلَهم، ولم تؤخذ إلا عنهم، ثم ليس لنا أن نجعلهم منفردين بتلك الكلمات، ومختصين بتلك الحروف. وهذا سبيل ما وجد في شعر هؤلاء من الشواذ الغريبة، والألفاظ النادرة. وقد أيّد بعض من يحتج لأبي الطيب ما قدمناه من كلامه بأن قال: قد بيّن الرجل العلة في حسْن هذه الزيادة، وذكر أن النون كما كانت خفيفة وكانت ساكنة، ومن حقها أن تتبيّن عند حروف الحلْقِ حسُن تشديدُها لتظهر ظهوراً شافياً، فهذه علة قريبة قد يحتمل للشاعر تغيير الكلام لأجلها. ويؤكد ذلك أن النون أقرب الحروف الى حروف العلة: الياء والواو، وأكثرها شبهاً بهما؛ ومناسبة لهما؛ لأنها تُدغَم فيهما، وتزاد حيث يزادان؛ فتنصب علماً للصرف، كما يجعلان علامة للإعراب، وتبدل الألف منها في قولك: اضْرِبْن؛ إذا أردْت النون الخفيفة؛ كما تبدل منها في مواضع البدل، وتحُلّ محلّ الواو في قولك: نهْرانيّ وصنعاني؛ وإنما هو نهراويّ وصنعاوي، وتحذف إذا كانت خفيفة كما يحذفان لالتقاء الساكنين فلما جرى معهما هذا المجرى، وحل من مناسبتهما هذا المحل، احتمل ما يحتملانه من حذف وزيادة، وحروف العلة أكثر الحروف احتمالاً، وأوسعها متصَرَّفاً؛ ولذلك يحمل عليها في الحذف، ويتجوز فيها بالزيادة، وعلى هذا استجازوا زيادةَ الياء في صياريف؛ وإنما هو صيارِف؛ إشباعاً للمدة للزوم الكسرة في هذا الموضع. قال الشاعر: تنفي يداها الحصَى في كل هاجرَة ... نفْيَ الدراهِم تنْقادُ الصّياريف وقد قال الفرزدق - فزادياء لغير علة إلا لإقامة الوزن: تبكي عليه الشمس والقمر الذي ... به يبهج السّارون ليلَ التمائم

أراد التّمام فزاد الياء. وقال الهذلي: به الروم أو تَنوخ أو الآ ... طام من صوّران أو زيد فشدد الواو من صوران، وإنما هو صوران، ولإجرائهم النون هذا المجرى قالوا: قطنّة من أجود القين فشدد النون من قُطنّة وليس هو في موضع قافية، ولا هو حرف روي. وقد احتمل للشعراء لأجل الشعر ما هو أبلغ من تغيير الألفاظ وإزالة الكلام عن موضعه. قال الفرزدق: وما فارقتُها شِبَعاً ولكنْ ... رأيتُ الدهرَ يأخذ ما يُعار أراد يُعير، فغير البناء كما تراه. وقال زهير: ماءٌ بشرقيّ سلْمى فَيْدُ أوْرَكَكُ وإنما اسم الماء ركّ، وليس هذا موضع إظهار التضعيف عند أكثر النحويين. وقال دُريد: فإن تُعقِب الأيام والدهر تعلَموا ... بني قارب أنا غضاب بمعبد يريد بعبد الله؛ فغير اسمه كما ترى. وقال حسان بن ثابت: من معشرٍ لا يغدِرون بذمّة ال ... حارث بن حبيّب بن سحام إنما هو حبيب. والكلام في هذا الباب يكثر من الفريقين. وقوله: ليس إلاك يا علي همام ... سيفه دون عِرضِه مسلولُ وقوله:

لم تر من نادمتْ إلاّكا فأنكروا اتصال الضمير بإلا، وحق الضمير أن ينفصل عنها، وبذلك جاء القرآن. قال الله تعالى: (ضلّ من تدْعون إلا إيّاهُ) وهو الظاهر في قياس النحو، والمشهور عن العرب. وقد روى الفرّاء بيتاً عن العرب احتج به أبو الطيب واحتذى عليه: فما نُبالي إذا ما كنتِ جارتَنا ... ألاّ يجاورَنا إلاّكِ ديّارُ وأنا أرى أن لا يطالب الشاعر بأكثر من إسناد قوله الى شعر عربي منقول عن ثقة وناهيك بالفرّاء! وقوله: أحادٌ أم سُداسٌ في أحادِ وقد مضى في صدر هذه الرسالة المواضع التي أنكرت في هذا البيت: وقد كان أبو الطيب سئل عنه فأجاب عن قولهم: إن سداساً غير محكي عن العرب، وأن أهل اللغة يزعمون أنهم لم يزيدوا على رُباع، وإنما هي ألفاظ معدولة يوقف به على السماع بأن قال: إنه قد جاء من العرب خُماس وسُداس الى عُشار؛ حكاه أبو عمرو الشيباني وابن السّكيت، وذكره أبو حاتم في كتاب الإبل، وزعم أبو عبيدة في المجاز أنه لا يعلمهم قالوا فوق رُباع؛ وهؤلاء ثقات لم يحكُموا إلا ما علموا، وقد جاء ذلك في الشعر. قال الكميت: فلمْ يستريثونك حتى رميْ ... تَ فوق الرّجال خِصالاً عُشارا آخر: ضربت خُماس ضربة عبْشَمي ... أدار سُداس أن لا يستقيما

وقد نسبت العرب الى كل ذلك فقالوا: خُماسي وسُداسي وعُشاري. قال أبو النجم: فوق الخماسيّ قليلاً تفضّله فأما قولهم: إن هذه الألفاظ إنما عدلت في المعنى، فأجريت مُجرى واحد واحد، اثنين اثنين، فقد قال المحتج له: إن أصل عدْلها وإن كان على ذلك فقد تكلم بها في معنى الأعداد المفردة، وعلى ذلك وقع النسب إليها في الخُماسي والعُشاري، والنسب لا يصح إلا على هذا المعنى. وقد استدلوا بقوله: ضربت خماس ... البيت. وهذا غير العنى الذي ذهبوا إليه، وإنما هو اسم معدول عن خمسة، ولا مدخل للتكرير فيه. وقالوا في إنكارهم تخصيص سُداس من بين الأعداد: إن الأعداد إذا استولت في المعنى لم يحظر على ذكر أحدهما، ولو قال خُماس أو رُباع لكان الأمر واحداً، ولو بلغ العُشار لم يزده غيرَ فضْل الاستطالة، وليس على الشاعر إذا بالغ في وصف أن ينتهي الى الغاية، ولا يترك في الإفراط مذهباً؛ على أنه قد يجوز أن يكون قصد استيفاء الأسبوع فقال: أهي ليلة أم ستّ؛ مضافة إليها، ولم يرد به الحساب، فيحمل على ما يوجبه حكم الضّرْب، فيكون الواحد في الستة ستة، وإنما قال أواحدة هي أم ست في واحدة، فإذا جعلت الست في الواحدة على جهة الظرْف والوعاء صارت سبعاً. فهذا وجه قريب. قال الخصم: قد صغّر الليلة ثم استطالها فقال: لُييْلَتنا المَنوطة بالتناد. قال أبو الطيب: هذا تصغير التعظيم، والعرب تفعله كثيراً. قال لبيد: وكلّ أناسٍ سوف تدخُل بينهم ... دوَيْهِيَةٌ تصفرّ منها الأنامل أراد لطف مدخلها فصغّرها. وقال الأنصاري: أنا عُذيْقها المرجِّب،

وجُذَيلُها المُحكّك؛ فصغر وهو يريد التعظيم. وقال آخر: يا سَلمُ أسقاك البُريقُ الوامِضُ ... والدِيَم الغادية الفضافِض أما تصغير اللفظ على تكثير المعنى فغير منكر؛ وهو كثير في كلام العرب؛ لكن في احتجاج أبي الطيب خلل؛ من قبل أن دُويْهية في هذا الموضع تصغير في المعنى واللفظ، وكذلك جذيلها المحكك لأن هذا الجذل لا يكون إلا لطيف الجرم؛ وإنما هو جذم من النخلة تحتكّ به الإبل، وكما زاد تحكّك الإبل به زاد لطفاً وصِغَراً وضئولة. وإنما وجه القول في هذا أن من التصغير ما يكون جارياً على طريق الاستهانة والتحقير، ومنه ما يراد به الصِّغر واللطافة؛ فأنت إذ قلت: جاءَني رُجيل لم تُبالِ بصغَر جسمه، وتفاوت خلْقه، وقِصَر قامته، إذا أردت تحقيرَ شأنه والإهوان به، ومتى أردت الإخبار عن ضئولته. ودمامة خلْقه لم تعرّج على حاله، ولم تفكر في محله. وقد تقول ذلك للملك على هذا الوجه، وتقول للرجل العادي على الوجه الأول، وقد تفعل ذلك وأنت تريد ذمّه؛ وإن كان قويّ الخُلُق، عظيم الشأن. وذكرُ لَبيد الدويْهية على لفظ التصغير من باب اللطافة دون النِّكاية؛ وقول أبي الطيب لُييلتنا خارج مخرج الذم والهجو، ثم قد أزال الالتباس وأفصح عن المراد بقوله: المنوطة بالتناد، إذ قد بين أنه لم يرد قِصَر مدتها. ولا قرب انقضائها. فأما قول أبي الطيب: إني لم أرد بالتّناد القيامة، وإنما أردت مصدر تَنادَى القوم، وعنيت أنها منوطة بما أهم منه فهو أعْلم بقصده، وأعرب بنيته؛ غير أن نسْق الكلام يشهد عليه. ومن تأمله عرف أنه بأن يراد به القيامة أشبه، ولا عيب فيه لو أراده؛ إنما هو ضرب من الإفراط قد استعمله الشعراء. قال بشار: أضلَّ النهارُ المستنيرُ طريقَه ... أم الدهر ليلٌ كله ليس يبرَحُ ومثله كثير موجود.

وقوله: ولم تردّ حياةً بعد توليةٍ ... ولم تغِثْ داعياً بالويلِ والحرَبِ قالوا: العرب لا تقول دَعا بالويل والحرب، وإنما يقال: دعا ويلَه؛ كما يقول دعا فلاناً. قال الله تعالى (لا تدْعو اليومَ ثُبوراً واحداً وادعوا ثُبوراً كثيراً) . فإنما يقال: دعا بكذا إذا طلب أن يؤتى بذلك الشيء؛ كقول الفرزدق: دعوتُ بقُضبانِ الأراك التي جَنى ... لها الرّكْبُ من نُعمان أيام عرّفوا وتداعوا بشعارهم، ودعا لكذا، أي من أجله، فقال أبو الطيب: يقال دعا للقتال وللخير وللشعر ولما به، أي إليه. ومن أجله قال طرفة: وإن أُدْع للجُلّى أنْ من حُماتِها ... وإن يأتك الأعداءُ بالجهْدِ أجهَدِ ويقال: دعا باللَّهَف وبالويل والحرَب بيا، وأيا؛ لأنه لفظ الداعي. وقال ذو الرمة: تداعيْن باسم الشِّيب من متثلِّمٍ ... جوانبهُ من بصرةٍ وسِلام وقال الراعي: إذا ما دعت شيباً بجنَبِ عُنيزَة ... مشافرُها في ماء مُزنٍ وباقِلِ وقال: دعا الداعي بحيّ على الفلاح وقال عنترة: دعاني دعوةً والخيلُ تردي ... فما أدري أبِسْمي أم كَناني وإنما يقال: دعا بكذا إذا أمر أن يؤتى به، لأنه ذكر اسمه. والذي ناله أبو الطيب محكيّ عن العرب، معروف عند أهل العلم، فإذا أراد ذكر المدعوّ قال: دعوته، وإذا أراد ما يلفظ به قال: دعا بكذا وكذا، وعلى هذا بيتُ عنترة، وقول الآخر:

دعا الدّاعي بحيّ على الفلاح وقوله: بياضُ وجهٍ يريكَ الشمسَ حالكةً ... ودُرُّ لفظٍ يريكَ الدُرَّ مخشَلَبا قالوا: مخشلبا ليس من كلام العرب. فقال أبو الطيب: هي كلمة عربية فصيحة، وقد ذكرها العجّاج. ولست أعرفها في شعر العجاج ولا أحفظها محكي عن العرب؛ غير أني أرى استعمالها وأمثالها غير محفوظ، لأني أجد العرب تستعمل كثيراً من ألفاظ العجَم إذا احتاجت إليه لإقامة الوزن، وإتمام القافية، وقد تتجاوز ذلك الى استعماله مع الاستغناء عنه؛ كما سموا الحمَل برَقاً مع كثرة أسماء الغنم عندهم، وكما قال التغلبي: وكنا إذا القيسيّ نبّ عَتوده ... ضرَبْناه دون الأنثَييْن على الكرْدِ أراد الكَرْدَن، وهو العُنق، فأقام به القافية. وقال الآخر: قد علمت فارس حِميَر والأع ... رابُ بالدّشْت أيُّهم نزَلا أراد الدّشت وهو فارسي، وأسماؤه عند العرب كثيرة، فلم يمنعهم ذلك من الارتفاق به. وكذا قال الآخر: تضمنها وهم ركوب كأنه ... إذا ضم جنبيها المخارِق رَزْدَقُ يريد رَستَه، وهو الصف من النخل وغيره، إلا أنهم زعموا أنه أراد النخل هنا. وقد استعمل العجّاج في قوافي جميميته ألفاظاً منه. قال:

كما رأيت في المَلاء البَرْدَجا يريد الرقيق؛ وهو بالفارسية برْده. وقال: كالحبشيّ التفّ أو تسبّجا يريد لبس قميصاً، وإنما هو بالفارسية شَبِي فعربه بسَبيجة ثم صرّف منه فِعلاً، في أبيات غيرها. فليس بمحظور على الشاعر الاقتداء بهم في أمثال ذلك إذا احتاج إليه؛ فأما المحدَثون فقد اتّسعوا فيه حتى جاوزوا الحدّ لما احتاجوا الى الإفهام، وكانت تلك الألفاظ أغلبَ على أهل زمانهم، وأقربَ من أفهام منْ يقصدون إفهامه. وقد أفرط أبو نواس حتى استعمل زنمرده، وبازبنده، وباريكنده، وغير ذلك، فإن كانت اللفظة مسموعةً عن العرب على ما حكاه أبو الطيب، فقد زالت الكلْفة، وإن لم تكن محفوظة فما رويناه من أمثالها عن العرب والمحدثين يعتذر عنه، ويقوم بحجته. وقوله: ليس التعلل بالآمال من أرَبي ... ولا القُنوعِ بضنْكِ العيش من شيَمي قالوا: القُنوع خطأ وإنما هي القناعة، فأما القُنوع فالمسألة، يقال: قَنَع يقنَع قناعة؛ إذا رضي، وقنع يقنَع قُنوعاً؛ إذ سأل والفاعل فيهما قانِع. قال المحتج: الرواية المسموعة هي: ولا القناعة بالإقلال من شيَمي

وقد سمعت رواة الشاميين يذكرون أنه أنشدهم قديماً القُنوع ثم غيّر الإنشاد، ورجع الى القناعة، ثم إن القنوع بمعنى القناعة محكيّة عن العرب، وإن لم تكن مشهورة، وقد ذكرها أهل اللغة، وحكَوا عن أوس بن الحارث الطائي أنه أوصى ابنَه، فقال في بعض وصيته: خير الغنى القنوع وشر الفقر الخُضوع. ولا يحتمل معنى القُنوع هنا في هذا الكلام إلا الرضا والقناعة. وقوله: واحرّ قلباه ممّن قلبُه شَبم فألحق الهاء في قلباه. قالوا: وإنما تلحَقُ في الوق لخفاء الألف فتبين بها، فإذا وصلت حذفت. قال المحتج: هذا هو الأكثر عند العرب، والاختيار عند النحويين، غير أنه ليس على الشاعر عيب في اتباع اللفظة النادرة إذا رَواها الثقاة، ومتى وُجدت الرواية عن ثقة لم يُحظَر على الشاعر قبولها، والعمل بها لأجل اختلاف النحويين، وقد أجاز الفراء وغيره إلحاقَ هذه الهاء في الوصل، وروي فيه: يا ربِّ يا ربّاه إياك أسل ... عفواً أيا ربّاه من قبل الأجَل وأنشدوا: يا مرحباه بحمار ناجية وأنشدوا للمجنون: فقلت أيا ربّاه أوّل سؤلتي ... لنفسيَ ليلى ثم أنت حسيبها وقد قال أبو زيد في بيت امرئ القيس: وقد رابني قولُها يا هَناه ... ويْحك ألْحَقت شراً بشر إن هذه الهاء هاء الوقف، وخالفه جُلّ النحويين؛ ففي هذه الأبيات عذر واضح

للمتنبي. وأضعف من إلحاق هذه الهاء إسقاط الياء في قلباه؛ وإنما الوجه واحر قلبِياه، وكذلك: وانقطاع ظهرياه، لأن الياء إنما تسقط حيث يحذف التنوين من المنادى، فلما كنت تقول: يا زيد فتحذف التنوين قلت واغلاماه، فأسقطت الياء، ولو قلت واغلام غلامياه أثبت الياء؛ لأنك تقول في النداء يا غلامَ زيدٍ فتنون المضاف الى المنادى، ولك في المفرد إثبات الياء تقول: واغلامياه، وإذا جاء موضع تثبت فيه النون فليس غير إثبات الياء؛ هذا الذي عليه جِلّة النحويين وحُذّاقهم، وقد أجاز بعضم إسقاط الياء في هذا الموضع، وهو في الشعر أقوى منه في الكلام. وقوله: حملْتُ إليهِ من ثَنائي حديقَةً ... سَقاها الحِجَى سقْيَ الرياضِ السّحائِبِ قالوا: فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول؛ وإنما يفصل بينهما بالظروف والحروف وما أشبههما؛ لقول الشاعر: لما رأت ساتيدَما استعْبَرتْ ... لله درّ اليوم منْ لامَها ساتيدما: جبل؛ يقال: ما طلعت عليه الشمس إلا أريق فيه دم، معناه لله درّ من لامها اليوم. وقول الآخر: كتَحْبير الكتاب بكفِّ يوماً ... يهوديّ يقارب أو يزيل وقول الآخر: كأن أصواتَ من إيغالهن بنا ... أواخر الميْس أصوات الفراريج

يريد: كأن أصواتَ أواخر الميْس، فأما في هذا فلا يجوز الفصل بينهما؛ لأنهما كالاسم الواحد. قال المحتج: لقد أجاز الفرّاء هذا وأنشد فيه: ترى النّور فيها مدخل الظل رأسَه ... وسائره باد الى الشمس أجمع والرواية المشهورة رأسَه - بالنصب - وأنشد أبو عبيدة: تفرق آلاف الحجيج على منى ... وصدعهم مشي النوى عنك أربع أراد: وصدعهم النوى عنك مشي أربع ليال. وأنشد أيضاً: وحلَق الماذيّ والقلانِس ... فداسهم دوْس الحصاء الدائس وقال آخر: يفرُك حَبّ السُنْبل الكُنافِج ... بالقاع فرْك القطن المحالج ومما يقارب هذه الأبيات، مما يحتاج في بعضها الى تبيين وكشف، ويتجه في بعضها الطعنُ عليه، ويضعف في بعضها الاحتجاج عنه قوله: هَذي برزْتِ لنا فهِجْتِ رَسيسا قالوا: حذف علامة النداء من هذي؛ وحذفُها خطأ؛ لأن هذي تصلحُ أن تكون نعتاً لأي، وكل معرفة تصلح جاز أن تكون نعتاً لأي، فحذفُ علامة النداء منه غير جائز. قال المحتج: هذا لعمري أصل القياس في النحو؛ غير أن ضرورة الشعر تجيز

القياس في النحو، وقد أجازوا ذلك في النكرات، وهو أبعد في الجواز من هذه المعارف؛ قال الشاعر: صاحِ هلْ أبصرْتَ بالخبْ ... تَينِ من أسماءَ نارا وقال العجاج: جاري لا تستنكري عذيري فإذا جاز هذا في النكرات فهو في المعارف أجوز؛ مع أنّ النحويين قد ذكروا ذلك وأدخلوه في أبواب ضرورة الشعر. وقوله: بيضاءُ يمنعُها التكلّم دَلُّها ... تيهاً ويمنعُها الحياءُ تَميسا فنصب تميس مع حذف أن، وهو عند النحويين ضعيف، لا يجيزون النصب على إضمار أن، إلا أن يكون منها عوض، وقد أجازه الكوفيون. وأنشدوا قول طرفة: ألا أيّهذا اللائِمي أحضُرَ الوغَى بإضمار أن، والبصريون يروونه على الرفع. وقوله: عوابِسَ حلّ يابسُ الماءِ حُزمَها ... فهنّ على أوساطِها كالمناطِقِ قالوا: الماء لا يوصف باليَبَس، وإنما يقال: جَمد الماء وجَمَس السّمن، ويبس العود والنبت، ونحو ذلك.

قال المحتج: قد جاء عن العرب وصفُ الماء باليَبَس. قال بشر يصف خيلاً: تراها من يَبيس الماء شُهْباً ... مُخالِطُ درّةٍ فيها غِرار قالوا: وقد استعار الجموس في الماء ذو الرمة فقال: ونقْري سَديفَ اللّحم والماء جامس قال الخصم: أما يبيس الماء فإن العلماء رووا عن العرب أنها تُسمى العرب يَبيس الماء، فليس هو من هذا الباب بسبيل، وأما بيت ذو الرمة فقد ردّه الأصمعي، وعاب ذا الرمة به. قال المحتج: أما تسميةُ العرَق يبيسَ الماء فلسْنا ندفعه؛ غير أنّ هذا البيت يشهد بخلاف ما قلتم؛ لأنه جعلها شُهباً، والعرق لا يغير ألوانه، وإنما أراد ما جمَد من الماء عليها، وبيت ذي الرمّة صحيح عنه، وهو حجة تلزُم الأصمعي وغيرَه. وهل ينكر الأصمعي ذلك إلا برواية عن العرب؟ ومتى ثبتت الرواية عن موثوق بفصاحته فقد وجب التسليم له. وقوله: تفكُّرُه علمٌ ومنطقُه حُكمٌ ... وباطنُه دينٌ وظاهرُه ظرْفُ قالوا: خرج عن الوزن لأنه لم يجئ عن العرب مفاعلن في عروض الطويل غير مصرّع. قال المحتج: إنما جاءالبحر على مفاعيلن، وليس يُحظَر على الشاعر إجراؤه على الأصل، وقد جاء عن العرب مفاعيلن في المصرّع، وما خرج عن الوزن لم يحتمله

المصرّع ولا غيره. قال امرؤ القيس: ألا انعَمْ صباحاً أيها الطلَلُ البالي ... وهل ينْعمنْ من كان في العُصُرِ الخالي فجاء بالعروض على مفاعيلن لمّا صرع. قالوا: وقد جاء في شعر المحدَثين ما أجروا فيه غير المصرّع مُجرى المصرّع، فقال شاعرهم: فالوجه مثل الصبح مُبيضّ ... والشعرُ مثل الليل مسودُّ وأبو الطيب أعذر من هذا، لأنه جرى على أصل البحر في الدائرة. وقد حرى أبو تمام الى ما هو أقبح من الأمرين، فصرّع المِصراع في قوله: يقول فيُسمِع، ويمشي فيسرعُ ... ويضرب في ذات الإله فيوجِع وعلى مثل هذا الطريق يعاب أبو الطيب بقوله: إنما بدْرُ بنُ عمارٍ سحابٌ ... هطِلٌ فيه ثَوابٌ وعِقابُ فإنه أخرج الرّمَل على فاعلاتن في العروض، فأجْرى على ذلك جميع القصيدة في الأبيات الغير مُصرّعة، وإنما جاء الشعر منه على فاعِلن؛ لكن أصله في الدائرة فاعلاتن، وإن كان غير محفوظ عن العرب. وقوله: ولعلّي مؤمِّلٌ بعضَ ما أبْ ... لُغُ باللُطْفِ من عزيزٍ حميدِ قالوا: تمنى أن يؤمّل بعض ما يبلغ، وهذا لا يليق بالكلام، وإنما وجهه أن يقول: ولعلي بالغ بعض ما أؤمّل. قال المحتج: قد يجوز أن يكون أراد: لعلي أبلغ آمالي، وأيد عليها بلطف الله تعالى حتى يكون ما أؤمله بعضَ ما أصل إليه، وهذا غير مُستنكر.

وقوله: وعذلْتُ أهلَ العِشقِ حتّى ذُقتُه ... فعجِبْت كيف يموت من لا يعشقُ قالوا: صعوبة العشق وشدته على أهله لا توجب ألا يموتَ من لا يعشق فيعجب منه، وإنما يقتضي أن كلّ من يعشق يموت؛ وكأنه أراد: كيف لا يعرف من يعشق! فذهب عن مُراده. قال بعض من يحتج عن أبي الطيب: إنه خرج مخرج القلْب، وهو كثير في شعر العرب، ومنه قول الأعشى: وكل كميت كأنّ السّلي ... ط في حيثُ وارى الأديمُ الشِّعارا يريد: حيث وارى الشّعار الأديمَ، فقلب الكلام. وكقول الأخطل: مثلُ القنافِذِ هدّاجون قد بلغَتْ ... نَجرانَ إن بلغت سوءَاتهم هجَرُ يريد بلغت سوءاتهم هجَر. وقال الشماخ: منه ولدت ولم يؤْشَب به حسبي ... ليّا كما عُصِبَ العِلْباء بالعودِ أراد كما عصب العود بالعلباء. وقال آخر: أسلمته في دمشق كما ... أسلمت وحشية وهَقا أراد كما أسلم وهَقٌ وحشية. وقال آخر: كان الزّناء فريضة الرجم أراد كأن الرجم فريضة الزناء، ومثل هذا كثير.

وقال غيره: إن الكلام جار على طريقته، غير محتاج الحمل على القلْب، وإنما المراد كيف تكون المنية غيرَ العشق؛ أي أن الأمر المتقرِّر في النفوس أنه على مراتب الشدة هو الموت، وإني لما ذقت العشق فعرفت شدّته عجبت كيف يكون هذا الأمر الصعب المتّفق على شدّته غير العشق، وكيف يجوز ألا تعم علته فتستولي على الناس، حتى تكون مناياهم منه، وهلاك جميعهم منه. وقوله: شَديدُ البُعدِ من شُربِ الشّمولِ ... تُرُنْجُ الهند أو طلْعُ النخيل قالوا: المعروف من العرب الأترُج والترُنْج مما يغلط به العامة، فقال أبو الطيب: يقال أترجة وأترج وترنج، حكاها أبو زيد، وذكرهما ابن السّكيت في أدب الكاتب. وقوله: فِدًى من على الغَبراءِ أوّلهم أنا ... لهذا الأبيّ المائد الجائد القرْمِ قالوا: لم يُحْك عن العرب: الجائد، وإنما المحكي عنهم رجل جواد، وفرس جواد، ومطر جواد. قال المحتج: هذا الباب يستغنى فيه بالقياس عن السماع لاطّراده، واتّساق أمره على الاعتدال، فكل فعل في الكلام يقتضي التصريف الى فاعل ومفعول، وكل فعل فله مُفعِل ومفعَل، ولسنا نحتاج في مثل هذا الى التوقف واتباع المسموع، وهذا أشبه بمذاهب القياس، والأصل الذي عليه أهل اللغة. وقوله: خلائقٌ لو حَواها الزَّنجُ لانقلَبوا ... ظُمْيَ الشِّفاهِ جِعادَ الشّعْرِ غُرّانا

قالوا: الزَّنْجيّ لا يوجد إلا جعْدَ الشعر، وإنما تُفرِط الجعودةُ فيهم حتى تخرج عن حدّ الاعتدال، فكيف ينقلِبون من الجُعودة الى الجعودة! قال المحتجّ: إن للأوصاف حدوداً إذا فارقتها الى نقْص أو زيادة زالت الصفاتُ الى ما يخالفُ حقيقة اللغة، أو عادة الاستعمال، وللوصْف بالَعْد نهايةٌ، فإذا زاد فإنما هو المُقلَعِطّ والمُقلَعِدّ، وإن كان على هيئة شعْر الزنج فهو المُفَلْفَل، ونحو ذلك من الأوصاف؛ ولذلك صاروا يمدحون بجُعودة الشعر ويذمّون بشعور الزّنج، فلا شكّ أن ما حمدوه غير ما ذموه، وإنما مُراد الشاعر بقوله انقلبوا جعاد الشعر أنهم صاروا الى حدّ الاعتدال الذي يُحمَد ويُستَحسن ويوصَف به ويختار. وقوله: بَليتُ بِلى الأطلالِ إنْ لم أقِفْ بها ... وقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُرْبِ خاتَمُهْ قالوا: أراد التناهي في إطالة الوقوف فبالغ في تقصيره؛ وكم عسى هذا الشحيح بالغاً ما بلغ من الشُحّ، وواقعاً حيثُ وقعَ من البُخل أن يقف على طلب خاتمه، والخاتَم أيضاً ليس مما يَخْفى في التُرْب إذا طُلِب، ولا يعسُر وجوده إذا فتش. وقد ذهب المحتجّون عنه في الاعتذار له مذاهبَ لا أرضى أكثرها، وأقرَبُ ما يقال في الإنصاف ما أقوله إن شاء الله تعالى. أقول إن التشبيه والتمثيل قد يقع تارةً بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة؛ فإذا قال الشاعر - وهو يريدُ إطالة وقوفه: إني أقف وقوفَ شحيحٍ ضاع خاتَمه، لم يُرِد التسوية بين الوقوفين في القَدْر والزمان والصورة، وإنما يريد لأقفَنّ وقوفاً زائداً على القدْر المعتاد خارجاً عن حدّ الاعتدال، كما أنّ وقوفَ الشحيحِ يزيدُ على ما يُعرَف في أمثاله، وعلى ما جرت به العادةُ في أضرابه، وإنما هو كقول الشعر: رُبّ ليلٍ أمدّ من نفَسِ العا ... شِقِ طولاً قطعْتُه بانتِحابِ

ونحن نعلم أنّ العاشق بالغاً ما بلغَ لا يمتد نفسُه امتِداد أقصر أجزاءِ الليل، وأن السعة الواحدة من ساعاته لا تنقضي إلا عن أنفاسٍ لا تُحصى؛ كائنةً ما كانت في امتدادها وطوله، وإنما مرادُ الشاعر أن الليل زائدٌ في الطول على مقادير الليالي كزيادة نفَسِ العاشق على الأنفاس؛ فهذا وجهٌ لا أرى به بأساً في تصحيح المعنى، وإن كنتُ لا أرى أن يؤخَذ الشاعر بهذه الدقائق الفلسفية ما لم يأخذْ نفسَه بها، ويتكلّف التعملَ لها، فيؤخذ حينئذ بحكمه، ويُطالب بما جنى على نفسه. وقوله: كأنّه من عِلمِه بالمَقتَلِ ... علّم بُقْراط فِصادَ الأكْحَلِ قالوا: لم يكن بقراط فصّاداً ولا كان الفصْد غالباً عليه في زمانه، وإنما كثُر بعده. قال المحتجّ: أما هذه الدعوى فلا يُعلَم كيف وجهها؟ وهل أنتم صادقون فيها؟ وقد كان الفصْد قديماً، ولكنهم كانوا يحتذبون العِرْق بآلة شبيهة بالقِنّارة ثم يبضَعونه، فهذا أحوجُ الى الحِذْقِ واللُطف، ولسنا نأبى أن يكون بُقراط لا يفصد، وليس مقصِد الشاعر إلا علمه بالفصْد، وقد عُلِم موقعُ المعرفة بالتشريح من هذا العلم، وكيف يفتقر الى الوقوف على تشعّب العروق، واتّصال ما اتصل منها، وانفصال ما انفصل، وليس بمثل بُقْراط - على عِلمِه ومعرفته بالطبّ، واجتماع الألسُن على تقديمه جهْل ذلك، وقد يعلمُ الشيء منْ لا يعالجه بيده، ولا يتولاّه بنفسه، وليس ترْكُه مباشرة ذلك بدالّ على جهلِه به. ولو كان بُقراط أجهلَ الناس بذلك لم يلْحق أبا الطيب من هذا القول نقيصةٌ على طريقته؛ لأنهم لا يؤخَذون بمعرفة الأطباء ومواقعهم من الصناعة، ومهارتهم في العلم والعمل، ولما رأى الأطباء

لا يخْلون من معرفة العروق ومواقِع الفصْد، ورأى بقراط هو المقدَّم في الطب ضرب به المثل في ذلك، وهو ليس بأكبر من غلط العربي في اسم داود عليه السلام الى اسم ابنه سليمان عليه السلام، ثم غلَطه في اسمه حتى يجعلَه مرة سلاّماً، ومرة يسميه سُليماً. وقال الآخر منهم: مثل النّصارَى قتلوا المَسيحا لما سمع القصة ولم يدر كيف حقيقةُ القول فيها أجراها على ما خطر بباله. وقوله: الفاعلُ الفِعلَ لم يُفعَل لشدّتِه ... والقائلُ القولَ لم يُترَك ولم يُقَلِ قالوا: كيف يكون القول غيرَ متروك ولا مَقول؟ وهل هذه إلا مناقضَة ظاهرة! قال المحتج: إنّ من عادة الناس إذا استقصَروا فعلَ الفعل قالوا: فعلتَ وما فعلتَ؛ أي لم تفعله على وجْه التمام، ولم تبلُغ به شريطة الكمال؛ فقد تكلّفْت الفعلَ، وكأنّك لم تفعل. فكذا هو القول لم يُترَك ولم يُقَل؛ لأنه قد تعرّض له فلم يوفِّه حقّه، ولم يبلُغ المرادَ فيه؛ فكأنه لم يُقَل. وقد يجوز أن يكون المُراد به أنه لم يُترَك، لأنه لم يخطُر بالبال فيُترَك، وإنما ابتدعتَه أنت وسبقتَ إليه؛ والشيء إذا لم يخطُر بالبال، ولم تتعلّقْ به الهمّة لم يُسَمّ متروكاً في المُتعارَف من الكلام؛ وليس يجبُ أن يكون الحكمُ بالمناقضة مقصوراً على ظاهر اللفظ، وإنما المعوَّل على المعاني والمقاصد؛ ولو ادّعى ذلك في قول القائل كان أسوَغ: في كفه معطية منوع

وقوله: حتى نجا من خوفه وما نجا فقيل: كيف تكون معطية منوعاً وكيف ينجو ولا ينجو لكان دالاً على جهْل المدّعي وقصورِ علمه عن الأغراض. وقوله: يفضَحُ الشسَ كلّما زرّتِ الشمْ ... سُ بشمسٍ منيرةٍ سوْداءِ قالوا: الشمسُ لا تكونُ سوداءَ، والإنارة تضادّ السوادَ، فقد تصرّف في المناقضة كيف شاء. قال المحتجّ: إنه لم يجعلُه شمساً في لونِه فيستحيلُ عليه السوادُ. وللشعراء في التشبيه أغراض، فإذا شبّهوا بالشمس في موضع الوصفِ بالحُسنِ أرادوا به البهاء والرّوْنَق والضياءَ، ونُصوعَ اللونِ والتمام، وإذا ذكروه في الوصف بالنّباهة والشُهرة أرادوا به عمومَ مطْلعها وانتشار شُعاعها، واشتراك الخاصّ والعام في معرفتِها وتعظيمها. وإذا قرنوه بالجَلال والرِّفعة أرادوا به أنوارها وارتفاع محلها. وإذا ذكروه في باب النفع والإرْفاق قصدوا به تأثيرَها في النّشوء والنّماء، والتحليل والتصفية. ولكل واحدٍ من هذه الوجوه بابٌ مُفرد، وطريقٌ متميّز؛ فقد يكون المشبَّه بالشمس في العلوّ والنَباهة، والنّفْعِ والجَلالة أسود، وقد يكون منيرَ الفعال كمِدَ اللوْن، واضحَ الأخلاق كاسِفَ المنظَر؛ فهذا غرضُ الرجل؛ غير أن في اللفظ بشاعةً لا تُدفَع، وبُعْداً عن القبول ظاهر. وقوله: لا يأتَلي في ترْكِ أنْ لا يأتَلي

قالوا: أفسد المعنى، لأن لا يأتَلي لا يُقصّر؛ فكأنه قال: لا يقصِّر في ترْك أن لا يُقصِّر فوصفه بالتقصير. وبيان ذلك أنه لم يأتَل؛ فقد جدّ في ترْكِ الجِدّ، وهو نهايةُ التقصير. قال المحتج: لا أرى لا إلا زائدة؛ فتقديرُ الكلام: لا يأتلي في تركِ أن يأتلي؛ فكأنه لا يقصِّر في تركِ التقصير، وهذا هو الجِدّ؛ وزيادة لا غيرُ مستَنْكَر، وقد جاء في القرآن والشعر، قال الله تعالى: (لئلا يعْلَم) فمعناه ليعلم. وقال أبو النجم: وما ألو البيض ألا تسحرا فزاد لا، فأما زيادةُ ما فكثيرٌ مشهور. وقال العجّاج في زيادة لا: في بئرِ لا حُورٍ سرَى وما شعَرْ أي في بئر حورٍ. وقوله: كأنّك أبصَرْت الذي بي وخِفتَه ... إذا عِشْتَ فاخترْتَ الحِمام على الثُّكْلِ قالوا: هذا الكلام الذي لا طريقَ للفهم إليه لتخالُفِ أطرافِه وتنافُرِ معانيه وألفاظه؛ يقول: كأنك أبصرتَ ما بي من الحُزنِ عليك، وخِفتَه إذا عشتَ، فاخترتَ أن تكوت على أن تثكل، ولو عاش ما أبصر شيئاً مما لحقَه ولا خافَه، لأنّ الذي جرّ ذلك الحزنَ والضّنَى هو موته، فكيف يكونُ - لو عاش - مُبصِراً له وخائفاً! وما معنى هذا الثُكْل ها هنا؟ أهو ثُكْل هذا الميّت له أم ثكله للميّت؟ فإن كان ثكله للميّت فهو الحِمام الذي قد حصل، وإن كان ثكل الميّت له فكأنه قال:

قد اخترتَ موتَك على موتي، ووجدَ الحِمام أهون من ثكلك لي! فكيف يقول ذلك وهو لو عاشَ لم يكن لثكله له سبب! ولو كان له ما يؤدّيه الى هذا الضّنى الذي ذكره في حياة هذا الميت لكان مثْكولاً وهو حيّ، مُصيباً منه الضّنى ما أصاب المتنبي! قالوا: وما نعرف بيتاً يُقارب هذا الخطأ إلا بيت أبي تمام: لو لم يمُتْ أطراف بين الرّماح إذاً ... لماتَ إذا لم يمتْ من شدّة الحَزَنِ قال المحتج: إنكم ذهبتُم عن غرض الرجل، وظننتُم أنه أراد: أنك خفت نزولَ هذا الضّنى بي لأجلِك، وأنت حيّ، ولم يرِدْ ما خطر لكم؛ وإنما مذهبُه فيه أنك خِفتَ أن يصيبني هذا العارضُ من الضّنى وأنت حيّ، فيبلغ منك الغمّ به مبلغ الثّكل، فاخترتَ الحِمام عليه. فقال الخصم: هبِ الأمرَ على ما قلتُم، ما وجْهُ هذه المخافة؟ وكيف يصيبه ذلك الحزنُ وهو يثكل حبيباً ولم يفقد عزيزاً؟ وما وجْه شفقةِ ابنِ سيفِ الدولة على المتنبي حتى يفدي حزنَه بنفسه، ويختار الحِمام على ثُكلِه؛ على أنه له في ذلك عادات، منها قوله يرثي والدة هذا الممدوح: بعيشِك هل سلوتِ؟ فإنّ قلبي ... وإن جانَبتُ أرضَكِ غيرُ سالي وقوله يرثي أخته: وهل سمعتِ سَلاماً لي ألمّ بها ... فقد أطلَعْتَ وما سلّمْتُ من كثَبِ وما باله يسلم على الحرم، ويتشوّق الى الأمهات! ومن سبقه الى هذا! وإنما يفعل ذلك من يرثي بعض أهلِه، وأما استعماله إياه في هذا الموضع فدالٌ على ضعف البصر بمواقع الكلام. وما تحقق ذلك فيه قوله:

وغرَّ الدُمُسْتُقَ قولُ الوُشا ... ةِ إنّ عليّاً ثقيلٌ وَصِبْ فجعل الأمراء يوشَى بهم، وإنما الوشاية السعاية ونحوها، ومن شأن الممدوح أن يفضل على عدوّه، ويجري العدوّ مجرى بعض أصحابه؛ لا سيما إذا كان الممدوح مثل ابن حمدان والعدوّ الدُمستُق، وليس بسائغ في اللغة أن يقال: وشي فلان بالسلطان الى رعيته، ولو قيل ذلك في أميرين لكان قصّر بالموشى به لا محالة؛ وإنما المعروف الصحيح أن يوشَى بالأصغر الى الأكبر، فإن توسع في ذلك فبالنظير. قال المحتج: أصل الوشاية استخراج الحديث بالمسئلة والتلطّف، كما يستوشي الرجل جرْي الفرس بتحريكه وغمزِه بعَقبيه؛ فقد يجوز أن يجري هذه الكلمة على أصلها، ويجعل هؤلاء وشاة لما أتوه بهذا الخبر: والكلامُ هو الأول عندي والعذرُ فيه يضعف، وإنما أراد بالوُشاة الذين بعثوه على قصْد الثغور، فإنما وشوْا بأهلها لما دلّوه على ضعفِهم واشتغال ناصرهم. ومن هذا الضّرب قوله: ما ينقُص الموت نفْساً من نفوسِهمُ ... إلا وفي يدِه من نتنِها عودُ قالوا: والعودُ لا يشتمّ، ولو اشتمّ لم يحظ من ريحه بطائل، وإنما يظهر عرْفه إذا حللت النار أجزاءه ولطفتها، فانبثّت في الهواء ودخلت في الخياشيم. قال القاضي: وليس في المعنى عندي ما ذكره، ولا ذهب الرجل حيث ظنّوا، وإنما أراد أنه لا يباشرها إذا قبضها، ولكن يقبِضها وفي يده عودٌ يتناولها بطرفه، كما يريد الإنسان أخذَ الشيء يستقذره، فيصون عنه يده، ويتناوله بحاجز، ولم يرِدْ عود الطيب. وإنما أراد عوداً من العيدان أيها كانت. وأمثال هذه الاعتراضات كثيرة واستقصاء جميعها بابٌ من التطويل، وإنما

يصلُح استيفاءُ ذلك إذا قصدنا شرْح المعاني المستغلة من شعره، فإنّ القولَ في ذلك يتّصل بالكشف عن هذه الأمور، ويتناول الغامض الخفيّ، والمتوسط المحتمل، والظاهر الذي فيه بعضُ اللبس؛ فينفي ما يجب أن ينفي؛ ويعتذر لما يحتمل العذر، ويذكر مثل قوله: إذا ضوؤها لاقى من الطير فرْجةً ... تدوَّرَ فوق البَيضِ مثلَ الدّراهمِ ويبَين كيف صار ما يقع من الشمس على البيْض إذا وجدَتْ من الطير فرْجةً مستديراً ولم يكن مستطيلاً، وإن كانت المشاهدة صحّحَت قول الشاعر، وإنما بقي علينا تعرُّف العلة. ومثل قوله: لو لم تكنْ من ذا الورَى اللّذْ مِنكَ هو ... عقِمَتْ بمولِدِ نسلِها حوّاءُ كيف يكون من الورى، والورَى منه: ونحو هذه المعاني وما يشاكلها. وقد قدّمنا عند ذكرنا الاستعارات ووجوه الإغراق والإفراط ما يبين لك القولَ في مثل قوله: وضاقت الأرضُ حتى كاد هاربُهم ... إذا رأى غيرَ شيء ظنّه رجُلا وقله: فلوْ سرْنا وفي تشرينَ خمسٌ ... رأوْني قبلَ أن يرَوا السِّماكا وإنما يطلع السماك في تلك الليلة. وفي مثل قوله: فصار سُقْمي به في جسمِ كتْماني

فجعل للكِتمان جِسماً. وما لحق بهذين البابين من استعارة بعيدة، وإفراط فاحش. فأما كتابُنا هذا فقد وفّيناه حقه، وبلغنا به نهايتَه، وآتينا على ما وصلت الطاقةُ إليه، وما أسعفَنا الإمكانُ به؛ فإذا زادنا النظرُ والفكرُ والمطالعةُ والبحث بعضَ ما يليق به أضفناه إليه؛ وإن أفادنا غيرُنا منه ما قصّر علمنا عنه استفدناه وأعظمنا النعمةَ فيه، وعرفنا لصاحبه فضلَ التقديم، ولرجعنا له بحق التعليم. وبالله نستعين على كل خير، وإياه نسأل التوفيق، ونستوهب العِصْمة والتسديد، وهو حسبُنا ونِعْمَ الوكيل.

§1/1