الوحي المحمدي

محمد رشيد رضا

على سبيل التقديم

على سبيل التقديم بسم الله الرّحمن الرحيم صاحب هذا الكتاب (الوحى المحمدى) الشيخ الجليل/ محمد رشيد رضا؛ واحد من الرموز الشوامخ الذين دافعوا عن الإسلام وتبنّوا قضايا أمتنا المسلمة في زمن كان فيه الزحف الاستعمارى لا يكتفى باستيطان أرض المسلمين وإنما كان يعمل بقواه كلّها على استيطان الأفئدة والعقول من خلال «الغزو الثقافى» لصرف أعين الأمة عن التطلع إلى الخلاص من غزاتها والقدرة على الشفاء من علتها وأدوائها وعلى رأسها الأمية الطاغية والظلمة المطبقة على الأفكار والعقول. ومن ثم كان دور هذه الصفوة المجاهدة التى كانت تمثلها مدرسة المصلحين العظيمين جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده، ومن تتلمذ عليهما من أمثال صاحب الكتاب كان دور هذه الصفوة عظيم الأثر فى إيقاظ وعى الأمة بما تحمله دينها من أسباب الخلاص وعوامل النهوض، ثم بما ينبغى أن تكون عليه مسلكها في مواجهة مكايد الغازين من الخارج ومضار المتخلّفين والجاهلين بحقيقة التدين من فقراء الفكر ومحدودى الرؤية ممن ينسبون إلى العلم فى الداخل. وكان القيام بهذه المهام الكبار بحاجة إلى رجال أولى عزم وقوة، وذوى ثقافة جامعة وبصر مستنير يتيح لهم الرؤى النفاذ إلى حقائق الأحداث والأمور. ومن هنا كان للتكوين الثقافى الشامل والمتجدد لصاحب هذا الكتاب «الشيخ محمد رشيد رضا» عاملا مؤثرّا فى تحديد الموقع الذى قام عليه في خدمة المسلمين والإسلام. ولد الشيخ فى: «القلمون» من أعمال طرابلس الشام فى عام 1282 هـ 1865 م. وفيها وفى طرابلس أخذ يدرس ويتعلم. ثم رحل إلى مصر فى العقد الثالث من عمره (1315 هـ) حيث تتلمذ ولازم أستاذه الإمام محمد عبده وكانا قد التقيا قبل ذلك في «بيروت».

وهنا كان إصداره لمجلة «المنار» ذات المكانة والتأثير الثقافى الرفيع فى كلّ مكان عرفت فيه فى ديار الإسلام. حيث ضمّها آراءه الإصلاحية التى كانت ثمرة ناضجة لعلاقته بالأستاذ الإمام، ولاهتماماته الواسعة لقضايا المسلمين والإسلام، ولا سيما اهتماماته بالإصلاح الدينى الذى كان أستاذه الشيخ محمد عبده هو الرائد له فيها، وكان إطارها العام هو تخليص مناهج التعليم الأزهرى من الحشود من الحواشى والتقارير وغيرها مما يعطل ملكات الطلاب ويقف بهم عند مجرد الاستظهار والحفظ. وظل الرجل يتدخل بين ديار الإسلام وغيرها العربية حتى استقر به المطاف فى وطنه الثانى مصر حتى لقى ربه. أما عن هذا الكتاب فهو رسالة إلى الأمة المسلمة يشرح فيها المؤلف أسباب عجز المسلمين عن إبلاغ روعة الإسلام إلى العالم على الوجه الذى يحقق اقتناع غير المسلمين بالإسلام، ثم يؤدى إلى دخولهم فيه. والقضية فعلا كانت وستبقى محل الاهتمام والتساؤل لأنها هى القضية المحورية للدعوة والدعاة .. وسبب التساؤل هو أنه على الرغم من كثرة وتعدد المؤسسات والهيئات التى تعمل فى حقل الدعوة الإسلامية إلّا أنّ القوى المعادية للإسلام لا تزال ممتلكة للتفوق فى إحداث التأثير المعاكس فى الإساءة إلى الإسلام وفى تنفير غير المسلمين منه وهنا تكون التساؤلات: هل السبب فى ذلك وفرة الإمكانات المادية والتقنية التى تعطيهم من مساحة بث دعاواهم واتهاماتهم للإسلام ما لا تجده المؤسسات الإسلامية؟ وربما كان هذا- فعلا- أحد الأسباب لكنه ليس كلّ الأسباب ولا أهمها، لأنّ الأسباب الحقيقية هى فينا نحن المسلمين فهى أسباب داخلية أكثر منها خارجية. ففي الجانب العقيدى البحت- جانب التعريف بالإسلام عقيدة وشريعة- تطفو الخلافات الفقهية المتصلة بفروع الشريعة .. وتطفو لتتخذها بعض الهيئات والمؤسسات لتعرضها وتركز عليها وكأنها هى أصل الإسلام الأمر الذى يفقد الدعوة ركنها الأهم الذى ينبغى أن يقدم إلى الناس ويتم التعريف به.

ليس هذا فحسب بل إنه يتحرك له أثرا سلبيا بالغ الإساءة إلى الإسلام والمسلمين بالصورة التى يتركها لدى غير المسلم من أنهم عاجزون عن الاتفاق على موقف واحد وصورة موحدة لعقيدتهم وتشريعاتهم .. ومن ناحية أخرى فإن أخطر وأهم أسباب تصورنا وعدم استجابة الآخرين لمعطيات شريعتنا هو أوضاعنا الداخلية فى أنحاء العالم الإسلامى الذى عانى من التمزق والعجز والتخلف، بينما جوهر الإسلام وصريح القرآن يدعوان إلى الوحدة، وإلى القوة وإلى التقدم، وهى المبادئ التى قامت عليها الدولة فى عصر النبوة والراشدين، وعصور ازدهار الدولة المسلمة التى شرّقت وغرّبت فيما وراء ما بين المحيط والخليج وصولا إلى آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر وتحت حكم دام قرونا فى الأندلس حتى جنوب فرنسا. وهى الفترة التاريخية التى ازدهرت فيها حضارة الإسلام وأفرزت الشوامخ الكبار من علماء المسلمين فى كل فروع المعرفة والذين كان عطاؤهم هو المحرك والمؤثّر الأكبر فى النهضة الأوروبية فى العصور الوسطى. ومما هو جدير بالتسجيل أن يكون هذا هو ما قال به حكيم الشرق، وباعث النهضة السيد جمال الدين الأفغانى، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده. وما سجّله الشيخ رشيد رضا فى مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب. الأمر الذى يؤكد حقيقة بالغة الأهمية فى كيفية استعادة دور ومكانة الإسلام فى العلم، ليس اعتمادا على مجرد التبليغ بل أهم منه هو أن تكون حال المسلمين فى الداخل صورة صحيحة وصادقة عن الإسلام حتى يصدق المدعون ما ندعوهم إليه. وهنا نصل إلى الباعث الدافع للشيخ رشيد رضا على تأليف هذا الكتاب. وهو الإسهام فى تصفية وتوضيح حقيقة الإسلام التى ينبغى أن يلتقى حولها المسلمون- كل المسلمين- على اختلاف مشاربهم فى كل مكان من العالم. وبعد فإن ذلك العصر الذى ازدان بهؤلاء الشوامخ من المصلحين وكبار المفكرين كان وسيبقى رجاله وأعلامه نعم القدوة والأسوة لأبناء الأمة فى هذا الزمن الذى تزحف فيه القوى

المعادية للإسلام على أرضنا وأهلينا، وتزحف فيه قبل ذلك وبعده على العقول والقلوب بهذا القدر الهائل من الغزو الفكرىّ. الأمر الذى يوجب على الجميع رعاة ورعايا أن يكونوا على مستوى المسئولية فى مواجهة المخاطر، والله من وراء القصد وهو دائما حسبى. نائب رئيس المجلس «أ. د/ عبد الصبور مرزوق»

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى بسم الله الرّحمن الرّحيم قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) [آل عمران: 18 - 20]. ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين: إن من المعلوم اليقينى الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تثب فى هذا العصر وثوبا يشبه الطفور، وتؤتى من الثمار اليانعة بتسخير قوى الطبيعة للإنسان ما صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة، وكأنّ أقطارها بيوت لهذه المدينة، وكأنّ شعوبها عشائر وفصائل لأمة واحدة فى هذه البيوت (الأقطار) يمكنهم أن يعيشوا فيها إخوانا متعاونين، سعداء متحابين، لو اهتدوا بالدين. وإنّ من المعلوم اليقينى أيضا أن البشر يرجعون القهقرى فى الآداب والفضائل على نسبة عكسية مطّردة لارتقائهم فى العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها، فهم يزدادون إسرافا فى الرذائل، وجرأة على اقتراف الجرائم، وافتنانا فى الشهوات البهيمية، ونقض ميثاق الزوجية، وقطيعة وشائج الأرحام، وعقوق الوالدين، ونبذ هداية الأديان، حتى كادوا يفضّلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين وأدب وعرف وعقل بل رجع بعضهم إلى عيشة العرى فى أرقى ممالك أوروبا وأمريكا علما وحضارة، كما يعيش بعض بقايا الهمج السذج فى غابات إفريقية وبعض جزائر البحار النائية عن العمران. وإنّ من المعلوم اليقينى أيضا أنّ الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشدّ جناية عليهم وعلى الإنسانية من جنايتهم على أنفسهم- بإغرائها أضغان التنافس بينهم، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون فى الاستعداد للحرب العالمة التى تدمر فى أشهر أو أيام معدودة صروح العمران التى شيّدتها العصور الكثيرة، وتفنى الملايين فيها من غير المحاربين

الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج

كالنساء والأطفال والشيوخ، وبصرفها معظم ثروات شعوبها فى هذه السبل، وفى سبيل ظلمهم للشعوب الضعيفة التى ابتليت بسلطانها، وسلبها لثروتهم وحريتهم فى دينهم ودنياهم. فالعالم البشرىّ كلّه فى شقاء من سياسة هذه الدول الباغية الخبيثة الطويّة. وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء أخطارها لم يزد نارها إلا استعارا، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التى تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم فى سبيل الإصلاح الإنسانى العام لبلغ البشر بها أعلى درجات الثراء والرخاء. كل ما ذكر معلوم باليقين، فهو حق واقع ما له من دافع. وإن من المعلوم من استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها، ونمت بنمائها، فكان هذا برهانا على أنّ الفنون والعلوم البشرية المحضة غير كافية لجعل البشر سعداء فى حياتهم الدنيا، فضلا عن سعادتهم فى الحياة الآخرة، وإنما تتم السعادة لهم بهداية الدين، فالإنسان مدنّى الطبع، ومتديّن بالطبع، أو بالفطرة كما يقول الإسلام. من أجل ذلك فكّر بعض عقلاء أوروبا وغيرهم فى اللجوء إلى هداية الدين وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها، وتمنوا لو يبعث فى الغرب أو فى الشرق نبىّ جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها، لأنّ الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر وقد فسر حال جميع أهلها «1»، وكان من يسمون دينهم دين المحبة، مصداقا لقول الله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [المائدة: 14]. بيد أنّ هؤلاء المفكرين لا يعرفون حقيقة دين القرآن، وهو الدين الإلهى العام، والمانع لهم من معرفته ثلاثة حجب تحول دون النظر الصحيح فيه، وعدم فهمهم للقرآن كما يجب أن يفهم، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز. الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج: (الحجاب الأول): الكنيسة؛ أو الكنائس التى عادته منذ بلغتها دعوته، وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة، بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال الزور والبهتان ما لم يعهد مثله فى أهل ملة من البشر فى زمن من الأزمان، وألفت فى ذلك من الكتب والرسائل، والأغانى والأناشيد والقصائد، ما يعرف بطلانه كل مؤرخ مطلع على الحقائق، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته ركنا من أركان التربية والتعليم فى جميع مدارسها والمدارس

_ (1) أول من نقل لنا هذا الرأى جريدة السياسة منذ سنين ثم تكرر نقله.

التى يتولى خريجوها تعليم الناس فيها؛ فما من أحد يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح والمسيحيين كافة. فيجب عليه عداوتهم ما استطاع. والحق الواقع أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم هو الفارقليط روح الحق الذى بشر به المسيح عليه السلام «1». (الحجاب الثانى): رجال السياسة الأوروبية؛ فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من الكنيسة وتلقوا مفترياتها فى الطعن عليه بالقبول، وضاعف هذه العداوة له والضراوة بحرية طمعهم فى استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم. وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبا وافتراء على الإسلام- ومن أسس الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار- فأى شىء يكثر فعله على رجال السياسة وأساس بنائها الكذب، وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان، والقسوة والإثرة والخداع؟ وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كلّ يوم فى المستعمرات الأوروبية بل نحن نعلم أنّ سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو السياسة لا الدين نفسه، وأن قاعدتهم المشهورة (الغاية تبرّر الوسيلة) سياسية لا إنجيلية، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله وإن كانت دينية. (الحجاب الثالث): سوء حال المسلمين فى هذه القرون الأخيرة؛ فقد فسدت حكوماتهم وشعوبهم، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم، حتى صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا فى دينهم، وأمكن هؤلاء الأعداء أن يفتنوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج فى مدارسهم السياسية الإلحادية، والدينية التنصيرية، من أبناء ملتهم أو جلدتهم ومن غيرهم، حتى نابت المسلمين أنفسهم أيضا، وهم يختارون من هذه النابتة الأفراد التى تتولى أعمال الحكومة والتعاليم فى مدارسها فى كل قطر خاضع لنفوذ دولهم الفعلى بأى اسم من أسمائه. من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب أو لنفوذهم السياسى والتعليمى، كما فعلوا فى بلاد الترك وإيران، لتساعدهم على هدم كل شىء إسلامى فيها من اعتقاد وأدب وتشريع. وقد كان السيد جمال الدين الأفغانى- حكيم الإسلام وموقظ الشرق- يرى أن هذا الحجاب أكثف الحجب الحائلة بين شعوب أوروبا الحرة والإسلام، ونقل لى الثقة عنه أنه

_ (1) راجع آخر الفصل 15 وأوائل (16: 12 - 14) من إنجيل يوحنا.

الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن

قال: «إذا أردنا أن ندعو أحرار أوروبا إلى ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين، فإنهم ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا- ورفع كفيه وفرج بين أصابعهما- فيرون وراءه أقواما فشا فيهم الجهل والتخايل والتواكل ... فيقولون لو كان هذا الكتاب حقّا مصلحا لما كان أتباعه كما نرى». لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر المسلمين، فانصفوا فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة، ومن مباحث عامة فى العلم والحضارة والدين، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة؛ ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم يكن مبينا لحقيقته كلها، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم، وكان جل تأثيره فى أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا فى بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم آخرون، فهو لم يهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام. وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب- وأعنى به الفهم الذى تعرف به حقيقة إعجازه وتشريعه وأدبه وإصلاحه، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذى لا يحتاج البشر معه إلى كتاب آخر ولا إلى نبى آخر- فلعله أربعة أسباب خاصة، وراء تلك الحجب العامة وهى: الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن: (أولها): جهل بلاغة القرآن جهل بلاغة اللغة العربية التى بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز فى أسلوبه ونظمه وتأثيره فى أنفس المؤمنين والكافرين به جميعا، فأحدث بذلك ما أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية فى العرب، والانقلاب العام فى البشر- كما شرحناه فى هذا الكتاب- وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها أكثر علماء المسلمين موضوع تحدّى البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه، وجعلوا عجز العربى الخالص عن معارضته بها، ثم عجز المولدين الذين جمعوا بين ملكة العربية العملية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان، هو الحجة الكبرى على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادا متفرقين منهم، فما القول فى غيرهم؟ فعلماء المسلمين فى هذه القرون يحتجّون بعجز أولئك ولا يدّعون أنهم يدركون سرّ هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه؛ بل قال بعض علماء النظر المتقدمين منهم: إن الإعجاز واقع غير معقول السبب، فما هو إلا أن الله تعالى صرف النّاس عن معارضته بقدرته. والصواب أن منهم من حاول المعارضة فعجزوا، إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التى تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا، ومن متأخرى هؤلاء

(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها

من ادعى النبوة كمسيح الهند القاديانى الدجال، ومن ادعى الألوهية (كالبهاء) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس؛ لئلا يفتضحوا به بين الناس وأضعف منه وأسخف بيان أستاذه الباب. (ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها أنّ ترجمات القرآن التى يعتمد عليها علماء الإفرنج فى فهم القرآن كلها قاصرة على أداء معانيه التى تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر، وهى إنما تؤدى بعض ما يفهمه المترجم له منهم إن كان يريد بيان ما يفهمه، وإنه لمن الثابت عندنا أن بعضهم تعمّدوا تحريف كلمه عن مواضعه، على أنه قلما يكون فهمهم تاما صحيحا، ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنا، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما: قصور فهمه، وقصور لغته، وقد اعترف لى ولغيرى بهذا مستر (محمد) مارماديوك بكتل الذى ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ ثلاث سنوات «1» فعرض على بعض علماء العربية المتقدمين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه، وصحح بمساعدتهم ماذا كرههم فيه «2». واعترف بذلك قبله الدكتور (ماردريس) المستشرق الفرنسى الذى كلفته وزارتا الخارجية والمعارف الفرنسيتان لدولته ترجمة 62 سورة من السور الطوال والمئين والمفصل التى لا تكرار فيها ففعل، فقد قال فى مقدمة ترجمته التى صدرت سنة 1926 ما معناه بالعربية: «أمّا أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جلّ وعلا، فإنّ الأسلوب الذى ينطوى على كنه الكائن الذى صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيا، والحق الواقع أن أكثر الكتّاب ارتيابا وشكّا قد خضعوا لسلطان تأثيره (فى الأصل- لتأثير سحره- يعنى تأثيره الذى يشبه السحر فى كونه لا يعرف له سبب عادى) وأن سلطانه على ثلاث مائة مليون من المسلمين المنتشرين على سطح المعمورة لبالغ الحد الذى جعل أجانب «المبشرين» يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن «3». ذلك أن هذا الأسلوب الذى طرق فى أول عهده آذان البدو «4» كان نثرا جد طريف،

_ (1) هذا بالنسبة للطبعة الأولى. (2) ولا تزال ترجمته ناقصة وبلغنى أنه سيصححها مرة أخرى. (3) ما يسمع من تنصر بعض المسلمين، ما هو إلا إكراه لبعض العوام الجاهلين أو استمالة لبعض الفقراء منهم بالمال أو تربية لبعض الأطفال. (4) يعنى العرب الذين تغلب عليهم البداوة حتى فى حواضرهم كمكة ويثرب.

(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام

يفيض جزالة فى اتساق نسق، متجانسا مسجعا، لفعله أثرا عميقا فى نفس كلّ سامع يفقه العربيّة. لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان أداء تأثير هذا النثر البديع «الذى لم يسمع بمثله» بلغة أخرى، وخاصة اللغة الفرنسية الضيقة (التى لا سعة فيها للتعبير عن الشعور) المرثة «1» «التى لا تتنازل عن حقوقها» والقاسية. وزد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات العصرية ليست لغة دينية، وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية» أهـ. ثم تكلم عن عنايته هو مدة تسع سنوات متتالية بمحاولة نقل شىء من القرآن إلى اللغة الفرنسية على شرط المحافظة على بلاغة الأصل، وتساءل هل أمكنه التغلب على هذه الصعوبة أم لا؟ يعنى أنه يشك فى ذلك. (ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام إن أسلوب القرآن الغريب المخالف لجميع أساليب الكلام العربى وغيره، وطريقته فى مزج العقائد والمواعظ والحكم والأحكام والآداب بعضها ببعض فى الآيات المتفرقة فى الصور- وهو ما بينّا سببه وحكمته فى هذا الكتاب- وقد كان حائلا دون جمع كبار علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم لكلّ نوع من أنواع علومه ومقاصده فى باب خاص به. كما فعلوا به فى آيات الأحكام العملية من العبادات والمعاملات. دون القواعد والأصوب الاجتماعية والسياسية والمالية التى يرى القارئ نموذجها فى هذا الكتاب. إذ لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها كما نشعر فى هذا العصر. وقد عنى بعض الإفرنج «2» بوضع كتاب باللغة الفرنسية جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها فى باب أو أبواب خاصة بقدر فهمه، ولكنه أخطأ فى كثير من هذه المعانى وقصر فى بعض مما علمه، وما جهله منها عظيم، ذلك بأن أخذ القواعد والأصول العامة «3» من هذه الآيات يتوقف على العلم بسيرة النبى صلّى الله عليه وسلم وسنته فى بيان القرآن وتنفيذه لشرعه، وآثار خلفائه وعلماء أصحابه من بعده، كما يعلم من يراجع فى ذلك الكتاب الآيات الدالة على ما بيناه فى كتابنا هذا من مقاصد القرآن بالاختصار، وما فصلناه منها فى تفسير المنار.

_ (1) مؤنث المرث كتعب: الصبور على الخصام الذى لا يتنازل عن حقه. (2) هو المستشرق العلامة المسيو جول لا بوم. (3) أى لا يكفى فى فهمها العلم بمتن اللغة العربية وقواعدها وبلاغتها وفقهها.

(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات

(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات أن الإسلام ليس له دولة تقيم القرآن وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم بالحكم وتتولّى نشره بالعلم، ولا جماعات دينية تتولى بحمايتها الدعوة إليه بالحجة، وليس لأهله مجمع دينى علمى يرجع إليه فى بيان معانى القرآن وهدايته فى سياسة البشر ومصالحهم العامة التى تتجدد لهم بتجدد الحوادث ومخترعات العلوم والفنون وفيما يتعارض بين العلوم ونصوص الدين، فيرجع إليها علماء الإفرنج فى استبانة ما خفى عليهم من نصوصهما. وأعجب من هذا وأغرب أنّ المسلمين أنفسهم قد تركوا من بعد خير القرون الأولى أخذ دينهم من القرآن المنزل ومن بيان الرسول صلّى الله عليه وسلم له كما أمره الله تعالى فيه بقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]، وما زالوا يهجرون الاهتداء بهما حتى استغنوا عنهما استغناءا تامّا بأخذ عقائدهم من كتب المتكلّمين، وأخذ أحكام عباداتهم ومعاملاتهم عن كتب علماء المذاهب غير المجتهدين، وهذه الكتب لا تقوم بها حجة الله تعالى على البشر، ولا سيما أهل هذا العصر الذى ارتقت فيه جميع العلوم العقلية والتشريعية، حتى صار المسلمون منا، يأخذون عنهم العلم كما كان أجدادهم يأخذون عنّا، بل فيها من آراء المتكلمين والفقهاء، وروايات الكذابين والضعفاء ما قد يعدّ حجة على الإسلام وأهله، كما أنّ سوء حال المسلمين فى فشو الجهل فى شعوبهم، والفساد والانحلال فى حكوماتهم، قد اتخذ حجة على دينهم، فصاروا فتنة للذين كفروا به «1». وإذا كان هذا حال المسلمين فى فهم القرآن وهدايته، فكيف يكون حال الشعوب التى نشأت على أديان أخرى ألفتها، ولها رؤساء يربونهم عليها ويصدونهم عن غيرها؟ ودول حربية قد عادت الإسلام منذ بضع قرون، بما لو وجهوه إلى جبال لاندكت وزالت من الوجود، ولكنه دين الله الحىّ القيوم، فهو باق ما دام البشر فى الأرض لا يزول أو يزولون أجمعون. هذه أظهر الأسباب لخفاء حقيقة الإسلام الكاملة على علماء الحضارة العصرية من الأجانب والمسلمين أيضا وتمنيهم لو يبعث نبىّ جديد بهداية إلهية عامة كافية لإصلاحهم.

_ (1) أى صاروا منفرين للكافرين عن الإسلام وصادين عنه لئلا يكونوا مثلهم، واقرأ قوله تعالى: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5].

نتيجة هذه المقدمات

ولما كان الإسلام هو دين الإنسانية العام الدائم الجامع لكلّ ما تحتاج إليه جميع الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية، وجب على العقلاء الأحرار، والعلماء المستقلين الذين يتألمون من المفاسد المادية التى تفاقم شرها فى هذا العهد أن يعنوا بهتك تلك الحجب التى تحجبهم عن النظر فيه، وإزالة الموانع التى تعوقهم عن فهم حقيقته، وأن يدعوا جميع الشعوب إلى أخوته، وتكميل الحضارة الإنسانية بهدايته. نتيجة هذه المقدمات: بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام أما بعد فإنّنى أقدم لهم هذا الكتاب الذى صنفته فى إثبات (الوحى المحمدى) وكون القرآن كلام الله عزّ وجلّ، وكونه مشتملا على جميع ما يحتاج إليه البشر من الإصلاح الدينى والاجتماعى والسياسى والمالى والحربى، وقد أطلت فى بيان هذه المقاصد الأساسية بعض الإطالة؛ لأنها مثار جميع الفتن والمفاسد التى يشكو منها عقلاء هذا العصر، وأما توفية هذا الموضوع حقّه فلا يكون إلا فى سفر كبير أو أسفار يجمع فيها مقاصد القرآن كلها مع بيان حاجة البشر إليها فى أمور معاشهم ومعادهم، وهو ما أبينه فى تفسير المنار بإجمال قواعد كل سورة وأصولها فى آخر تفسيرها، بعد بيانها بالتفصيل فى شرح آياتها. على أننى لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض، وإنما بدأت منه بفصل استطرادى لتفسير آية: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يونس: 2] إلخ، من أول سورة يونس بينت به الدلائل القطعية على أنّ القرآن وحى من الله تعالى كان محمد صلّى الله عليه وسلم يعجز كغيره من مثله بعلمه ولغته وتأثيره، وأنه ليس وحيا نفسيا نابعا من نفسه كما يزعم بعض الباحثين من الإفرنج وغيرهم، وأنه أعمّ وأكمل وأثبت من كلّ وحى كان قبله، وأن حجّته قائمة على المؤمنين بالوحى التشريعى وعلى غيرهم. ثم بدا لى فى أثناء كتابته أن أجرّده فى كتاب خاص أدعو به شعوب الحضارة المادية من الإفرنج واليابان إلى الإسلام بتوجيهه أولا إلى علمائهم الأحرار. حتى إذا اهتدوا به تولوا دعوة شعوبهم ودولهم إليه بلغاتهم، ولهذا زدت فيه على ما كتبته فى التفسير، ووضعت له الخاتمة التى صرحت فيها بالدعوة وجعلتها هى المقصودة بالذات منه.

ولو أنّنى قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبا آخر يغنينى عن بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار بتحقيق كل مسألة فى موضعها، على أن بعض التكرار متعمد فيها، ولكننى كتبته فى أوقات متفرقة، وحالات بؤس وعسرة، لا أراجع عند موضوع منه ما قبله، ولا أعتمد إلا على ما أتذكره من القرآن نفسه على صعوبة استحضار المعانى المتفرقة فى سوره، وإلا بعض الأحاديث فى مواضعها من كتبها لتخريجها والثقة بصحتها، وإنى أحيل القارئ له فى كل إجمال على مراجعة تفسير المنار فى تفصيله، وفى كل إشكال على مراجعة محرره. محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار وحررت هذه المقدمة فى ليلة ذكرى المولد المحمدى من شهر ربيع الأول سنة 1352 هـ (وهى على الأرجح عند المحدثين التاسع من هذا الشهر- ونشر الكتاب فى اليوم 12 منه- وهو يوم المولد النبوى المشهور). ***

فاتحة الطبعة الثانية

فاتحة الطبعة الثانية دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء: 163 - 175]

دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات

ذكر (الوحى المحمدى) فى آيات متفرقة من السور المكية التى كانت تتلى على منكرى وحى النبوة من العرب الذين كانوا أقوى البشر استعدادا لهداية هذا الوحى إذا عقلوه وآمنوا به، لأنه لم يكن عندهم من التقاليد الدينية المسيطرة على القلوب والإرادات، ولا من أمشاج الفلسفة البشرية الشاغلة للعقول والأفكار، ولا من الاستبداد السياسى والاستعباد الروحانى السالبين لاستقلال الأفراد والجماعات ما يصرفهم عن فقهه وتدبره والاهتداء به، أو يأفكهم عن الدعوة إليه وحمايته، والجهاد بالأموال والأنفس فى سبيل إقامته. دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات: ثم ذكر فى هذه الآيات من هذه السورة المدنية [النساء] بما لم يذكر بمثلها فى تفصيله وعموم الخطاب وخصوصه، فخاطب فى أولها محمدا رسول الله وخاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم ثم وجه الخطاب فى بعضها إلى الناس كافة، وفى بعض آخر إلى أهل الكتاب خاصة. فبدأ خطاب النّاس كافة بأنه قد جاءهم (الرسول) الكامل الذى بشر به الأنبياء والرسل، والنبى الأعظم الذى كانت تنتظره الأقوام والأمم، ولذلك ذكر معرفا بأداة التعريف «1» وأنه جاءهم بالحق من ربهم، وهو الحق المحض الذى جهله المشركون، واختلف فيه الكتابيون، فضلوا فى هداية أنبيائهم ورسلهم، وكفّر بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا، وكتب الفريقين واحدة، وقد بين لهم ذلك فى الآيات التى قبل هذه الآيات مباشرة، وأهمها الخلاف فى رسولهم النبى الروحانى المصلح المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم أعاد ذكره ونهاهم عن الغلو فيه فى هذه الآيات، وهى مشتملة على المسائل العشر الآتية: (الأولى) أن الله تعالى أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وسلم كما أوحى إلى نوح أول رسول أرسله إلى الأمم وقص عليه خبره فى السور المكية وإلى النبيين من بعده، فوحيه إليه كوحيه إليهم، أى مثله فى جنسه وموضوعه والغرض منه، فهو ليس بدعا من الرسل ولا أولهم، ولكنه خاتم الرسل المكمل لهدايتهم، وخص بالذكر منهم أشهر أنبياء بنى إسرائيل المعروفين عند أهل الكتاب المجاورين له فى الحجاز وما حوله، وقد كانت دعوته صلّى الله عليه وسلم بلغت اليهود والنصارى جميعا فيها، والمراد بالأسباط الأنبياء من سلالة أبناء يعقوب، عمم ثم خصص.

_ (1) كان اليهود ينتظرون ثلاثة من الأنبياء والمصلحين، المسيح وإيلياء والنبى المطلق الذى بشر به موسى ومن بعده. ومن أدلة ذلك ما جاء فى الفصل الأول من إنجيل يوحنا وملخصه: أنه لما ظهر يوحنا المعمدان (وهو يحيى ابن زكريا عليهما السلام)؛ وصار يعمد الناس فى نهر الأردن، أرسلوا إليه وفدا ليعرفوا أى الثلاثة هو فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا. قالوا: أأنت إيليا؟ قال: لا. قالوا: أأنت النبى؟ قال: لا. «25 فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد الناس إذا كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبى؟ إلخ فذكروا النبى معرفا، ولو قالوا: له أأنت نبى بالتنكير؟ لما قال لا.

(الثانية) أن لله تعالى رسلا آخرين منهم من قصّ عليه خبرهم فى السور المكية إجمالا كقوله فى سورة الأنعام بعد قصة إبراهيم مع أبيه وقومه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) [الأنعام: 84 - 90]، وتفصيلا فى سور الأعراف وهود ويوسف وطه والطواسين (الشعراء والنمل والقصص) وما دونهن، ومنهم من لم يقص عليه خبرهم من أنبياء سائر الأمم لعدم العبرة لقومه ولجيرانهم بقصصهم، وعدم ظهور إقامة الحجة بها عليهم، وربما كان ذكر بعضها فتنة لبعضهم يدعون أنها أسماء مخترعة، وقد جاء فى بعض السور أنّه تعالى أرسل فى كل أمة رسولا. وترى هذا فى موضع آخر من هذا الكتاب بشواهده، وهو حجة على أهل الكتاب الذين يحصرون فضل الله على البشر بالنبوة فيهم. (الثالثة) أنّ وظيفة جميع الرسل تعليم النّاس ما به يصلح حالهم، ويستعدون لمآلهم بطريق التبشير لمن آمن وأصلح عملا بحسن الثواب، وإنذار من كفر وأفسد عملا بالعقاب وحكمة ذلك أن لا يكون للناس على الله حجة بجهلهم ما يجب عليهم من أصول الإيمان، وما تصلح به الأنفس وتتزكّى من صالح الأعمال، فتستعد لسعادة الدنيا بقدرها، وسعادة الآخرة من بعدها. وقد فصلنا فى هذا الكتاب وجه الحاجة إلى هدايتهم، وعجز البشر عن الاستقلال بمعرفتها بعقولهم. (الرابعة) شهادة الله تعالى وشهادة ملائكته بصحة هذا الوحى له صلّى الله عليه وسلّم، وأورد هذه الشهادة مفتتحة بقوله لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ وهو استدراك على إنكار معلوم من قرينة حال الكفار به صلّى الله عليه وسلّم من المشركين وأهل الكتاب ومما حكاه من قبل عن المشركين من الإنكار والمطالبة بالآية أو الآيات، كما تراه فى سورتى الأنعام ويونس وغيرهما ثم ما حكاه قريبا فى هذه السورة [النساء] عن اليهود بقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ

السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] إلخ، فهو تعالى يقول له: إن أولئك المشركين ينكرون وحى الله إليك وإلى غيرك، وإنّ هؤلاء الجاحدين يكتمون الشهادة بنبوتك وبشارة أنبيائهم بها لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ [النساء: 166] إلخ. فأما شهادته تعالى فقد بينها بيانا مستأنفا لوقوعها جوابا لسؤال مقدر، وهو قوله: (أنزله بعلمه) أى أنزل هذا القرآن الذى أوحاه إليك متلبسا بعلمه الخاص الذى لا تعلمه أنت ولا قومك من تشريع وحكم وآداب وعبر وأخبار غيب سابقة وحاضرة وآتية، بأسلوب معجز للبشر. وهو ما يفصله هذا الكتاب بالشواهد من السور العديدة، وأما شهادة الملائكة له فما أخبر به تعالى من نزول الروح الأمين جبريل عليه السلام بهذا القرآن، وما أيده به يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فى غزوة بدر، وكذا غزوتا الأحزاب وحنين، وفى أحوال أخرى. هذه الشهادة من الله بهذا القرآن الذى لا يمكن أن يكون إلّا من الله حقّ لا ريب فيه، وهى أظهر من شهادة يوحنا (يحيى) للمسيح- عليهما السلام- إذا روى يوحنا أنه قال: (5: 13 إن كنت أشهد لنفسى فليست شهادتى حقا 32 الذى يشهد لى هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التى يشهدها لى هى حق 33 أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق)، وكذلك هى أظهر وأقوى من شهادة المسيح لنفسه فيما رواه يوحنا أيضا، إذ دعا اليهود إلى اتباع النور الذى جاء به (8: 13). فقال له الفرّيسيون: أنت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقّا 14 فأجاب يسوع وقال لهم: (وإن كنت أشهد لنفسى فشهادتى حق)، وقد صدق عليه السلام فى أن شهادته لنفسه حق، ولكن لا تقوم بها الحجة على الخصم، وأما شهادة الله تعالى لنبيه فى القرآن فهى حجّة على كلّ أحد يعجز عن الإتيان بمثله، فهى إذن حجة على كل أحد. (الخامسة) الإخبار فى الآيات 167 - 169 بحال الكفار الذين يتعدى ضررهم إلى غيرهم من الناس، بصدّهم النّاس عن سبيل الله وهى الإسلام، وبظلمهم لأنفسهم وللناس، وكون جزاؤهم بحسب سنة الله فى أنفس البشر ونظام الاجتماع أن يظلوا سائرين على طريق الباطل والشر والموصلة إلى عذاب جهنّم. إذ لا يغفر الله تعالى لهم إلا بتزكية أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح الذى يهدى إليه الوحى، وقد صاروا بضلالهم فى أشد البعد عنه خلافا لما يقوله الكفار من نيل المغفرة بجاه الشفعاء الشخصى مع بقاء الأنفس على

فسادها، وظلمات ظلمها وجهلها، وهو ما سرى إلى أهل الكتاب من المشركين، إلا أن بعض النصارى خصّوه بالمسيح وبعضهم جعلوه عاما لجميع القديسين. (السادسة) مخاطبة جميع الناس (فى الآية 170) بأن هذا الرسول محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد جاءهم بالحق من ربهم حقّا محضا غير مشوب بالآراء والأهواء البشرية، ولا بالتقاليد الكهنوتية «1» التى زادها رؤساء الأديان على ما جاءهم به الرسل الأولون فلم يعد يعرف أحد ما هو من الله تعالى وما هو منهم، فإن يؤمنوا بما جاءهم به هذا الرسول يكن خيرا لهم، وإن يكفروا فالله غنى عنهم. (السابعة) نداؤه أهل الكتاب (فى الآية 171) بالنهى عن الغلو فى الدين، وعن قول غير الحق على الله تعالى، وبيانه لهم حقيقة المسيح الذى غالى اليهود منهم فى الكفر به وتكذيبه، والطعن فى صيانة أمه الطاهرة، وغالى النصارى فيه فجعلوه ربا وإلها، وأنه قد جاءهم بالحق فيه، وهو أنه بشر روحانى خلق بكلمة الله التكوينية وهى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، وبنفخ روح القدس فى أمه الطاهرة، وبتأييد هذا الروح له فى سائر أحوال نبوته، وأن روحه عليه السلام قدّيسه من الله تعالى لا حظّ للشيطان فيها، والنصارى يقررون أن الأرواح قسمان: طاهرة قديسة، ونجسة شيطانية، والتمييز بينهما مزية تحدث بها زعيمهم بولس فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثيوس. (الثامنة) أمره تعالى أهل الكتاب بعد ما ذكر من حقيقة أمر المسيح أن يؤمنوا بما جاء به خاتم النبيين من الإيمان الصحيح بالله، وتوحيده والإيمان برسله، ونهيهم عن التثليث الوثنى الهندى، وعن اتخاذ الولد لله عزّ وجلّ، وع لله بأنه المالك لكلّ ما فى السموات والأرض، أى كل العالم، ولو كان له ولد لكان ولده مثله لا ملكه، ولكان محتاجا كاحتياج الإنسان إلى ولده سبحانه هو الغنى عن كل ما سواه كما هو مبين فى الآيات الكثيرة الواردة فى هذا المعنى «2». (التاسعة) إنباؤهم فى الآية (172) بأنّ المسيح لن يستنكف، أى لن يأبى أنفة واستكبارا عن أن يكون عبدا لله، ولا الملائكة المقربون- وهم أفضل الملائكة وأعلاهم منزلة عنده تعالى- أن يكونوا عبيدا له، فإنه ما تم فى الوجود إلا رب واحد كل من عداه عبيد له،

_ (1) الكهنوتية: نسبة إلى الكهنوت، وهى كلمة دخيلة من اصطلاح النصارى واليهود والوثنيين معناها وظيفة الكاهن، وهو الذى يتولى بعض التقاليد الدينية المختلفة عند كل منهم. (2) راجع سورة يونس، الآية: 68، وآخر سورة مريم وغيرهما.

فالمؤمنون الذين يؤمنون بربوبيته ويعملون الصالحات تعبدا له يوفيهم أجورهم، ويزيدهم عليها ثوابا ونعيما، فضلا منه وإحسانا، والذين يستنكفون ويستكبرون عنها يعذبهم عذابا أليما، ولا يجدون لهم من دونه- أى غيره- وليّا يتولى أمورهم ويغفر لهم، ولا نصيرا ينصرهم بشفاعة ولا فدية ولا غيرها، فلا يغرنهم ما يدعيه الرؤساء الذين استعبدوهم من أنّ خلاصهم وسعادتهم يكونان من غير أنفسهم. (العاشرة) نداؤه للناس كافة فى الآيتين (174، 175) مبشرا لهم بأنه قد جاءهم البرهان العلمى العقلى من ربهم، وأنزل عليهم النور الساطع، وهو القرآن المبين لجميع الحقائق، فلا ينبغى لأحد منهم أن يصغى بعدها إلى تقليد الرؤساء والكهنة الذين استعبدوهم لرئاستهم وأهوائهم، وأثبت لهم أن الإيمان به، والاعتصام بحبله المتين، والدخول فى النور المبين، هو الذى يخرجهم من شقاء الدنيا ويدخلهم فى رحمة خاصة، وفضل عظيم، يمتازون بهما على غيرهم من البشر، ويهديهم بإرشاده وفيض نوره صراطا مستقيما من العلم والعمل، والحق والعدل والفضل، يكونون به سعداء الدنيا والآخرة. هذا مضمون الوحى الإلهى المنزل على محمد رسول الله وخاتم النبيين المبين فى هذه الآيات، ظهر نوره فاهتدت به العرب، وحملته إلى شعوب العجم بالتبليغ له بالعلم والعمل، فاهتدى به السواد الأعظم ممن بلغتهم دعوته من المليين الكتابيين، والمجوس والوثنيين، والهمج المعطلين، لأنه دين البشر أجمعين. وقاومته الدول الدينية من نصرانية ومجوسية ووثنية، فنصره الله عليهم كلهم كما وعدهم حتى أظهره على الدين كله، ولا يزال ينصره وينشره بعد ترك دوله لدعوته، وإعراضهم عن هدايته. وما نزل بهم من عقوبته لهم كما أوعدهم، ولو ثبتوا على إقامته لعم نوره العالم، ولاستراح البشر من هذه العداوات الجنسية والوطنية والسياسية، ولو لقى غيره من الأديان مثل ما لقى من البغى والعدوان حوار مع الأستاذ بن لأصبح فى خبر كان. ثم إن حاجة الأمم قد اشتدت فى عصرنا هذا إلى هدايته، حتى أشدها إمعانا فى عداوته، ولجاجا فى نكايته، وجهلا بحقيقته، فأخرجت هذا الكتاب من هداية القرآن، لتجديد دعوته بما يناسب ضرورة هذا الزمان، ولو أننى حين شرعت فى كتابة مباحثه فى المرة الأولى، أردت أن يكون كتابا مستقلا فى تجديد الدعوة إلى الإسلام، لافتتحته بهذه الآيات، وإن سبق لى تفسيرها المفصل فى آخر سورة النساء، ثم لنشرت بعض ما طويت من وجوه إعجازه، ولفصلت ما أجملت من مقاصد إصلاحه، ولبسطت ما قبضت من

رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات

دلائله. ولاجتنبت فيه الإحالة فى بسط ما طوى وتفصيل ما أجمل، على أجزاء تفسير المنار المطول، التى اختصرت جل المقاصد وشواهدها منها، لأنها مما يشغل القارئين للكتاب، وربما كان أكثرهم لا يقتنون تلك الأجزاء، ولذلك انتقد هذه الإحالة وبعض الاختصار فيه بعض من قرأه قولا وكتابة بحق، وكنت أسبقهم إلى ذلك. رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات: لقد راج هذا الكتاب أضعاف ما رجونا، ونال من ثناء رجال العلوم الدينية ورجال المعارف المدنية العصرية فوق ما قدرنا، حتى قال كاتب مدنى شهير إنه لم ير كتابا عربيّا نشر فى هذا العصر وكان له من حسن القبول عند جميع أصناف القراء- حتى الذين لا يعنون بأمر الدين- مثل ما كان لهذا الكتاب (الوحى)، وقد صدق قوله، فإنه لم يمر على بدء نشره ثلاثة أشهر إلا وقد كادت تنفذ نسخه، حتى قللنا من بيعه لتجار الكتب بالجملة، لئلا تنفذ قبل التمكن من إعادة طبعه منقحا، مبسوطا مفصلا. وقد استأذننى بعض المستنيرين ومحبى الإصلاح الإسلامى من الشعوب الإسلامية بترجمته باللغات الغربية والشرقية المختلفة، فأذنت لإمام جامع وكنج ومحرر مجلة الإسلام (ريفيو إسلاميك) فى لندن وداعية الإسلام فيها بترجمته باللغة الانكليزية ونشره فى أوروبا وأمريكا مترجما «1»، وأذنت أيضا بترجمته باللغات الأوردية والتركية والفارسية والصينية، وسأذكر ما يكون من أمر هذه الترجمات فى المقال الذى أجعله تصديرا لهذه الطبعة (الثانية). ولقد كنت على ما أسمع وما أقرأ من تقريظه وإطرائه أحرص على العلم بما يراه أولو العلم والرأى من انتقاده، وسألت كثيرا عن هذا ولم اسألهم عن ذاك، وبعد هذا كله شرعت فى إعداده لهذه الطبعة الثانية له. ...

_ (1) بلغنى أنه ترجم بعض الفصول والمباحث ولم يترجم الكتاب كله.

الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها

الفصل الأول فى تحقيق معنى الوحى والنبوة والرسالة وحاجة البشر إليها وأصولها وعدم إغناء العقل والعلم الكسبى عنها «1» تعريف الوحى لغة وشرعا: قال فى الأساس: أوحى إليه وأو رمى إليه بمعنى، ووحيت إليه وأوحيت إذا كلمته بما تخفيه عن غيره؛ وأوحى الله إلى أنبيائه: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68]. وقال الراغب: أصل الوحى الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل «أمر وحى». وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة. وقد حمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] إلخ، أى: أشار إليهم ولم يتكلم. والوحى بتشديد الياء السريع، ومن وحى الإيماء بالجوارح قول الشاعر: نظرت إليها نظرة فتحيرت ... دقائق فكرى فى بديع صفاتها فأوحى إليها الطرف أنى أحبها ... فأثر ذاك الوحى فى وجناتها فالقول الجامع فى معنى الوحى اللغوى: أنه الإعلام الخفى السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره. ومنه الإلهام الغريزى كالوحى إلى النحل، وإلهام الخواطر بما يلقيه الله فى روع الإنسان السليم الفطرة الطاهر الروح كالوحى إلى أم موسى، ومنه ضده وهو وسوسة الشيطان، قال تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام: 121]، وقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112]، ووحى الله تعالى إلى أنبيائه قد روعى فيه المعنيان الأصليان لهذه المادة، وهما: الخفاء والسرعة. فهذا معنى المصدر، ويطلق على متعلقه وهو ما وقع به الوحى، أى: اسم المفعول، وهو ما أنزله تعالى على أنبيائه وعرفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتابا، أى: تشريعا يكتب ومنهم من لم يعطه.

_ (1) هذا الفصل من زيادات الطبعة الثانية فى أولها.

والله تعالى يوحى إلى ملائكته ما يأمرهم بفعله كقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12]، ويوحى إلى ملك الوحى ما يوحيه الملك إلى الرسول كقوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10]، أى: أوحى إلى عبده جبريل عليه السلام ما أوحى جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال شيخنا الأستاذ الإمام فى رسالة التوحيد بعد تعريف الوحى لغة: «وقد عرفوه شرعا أنه إعلام الله تعالى لنبى من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه»، أما نحن فنعرفه على شرطنا بأنه: عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت. ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام: وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى. وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور. هذا التعريف يشمل أنواع الوحى الثلاثة الواردة فى قول الله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] فالوحى هنا: إلقاء المعنى فى القلب، وقد يعبر عنه بالنفث فى الرّوع- وهو بالضم: القلب والخلد والخاطر، والكلام من وراء حجاب: هو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه كما سمع موسى عليه السلام النداء من وراء الشجرة، وأما الثالث: فهو ما يلقيه ملك الوحى المرسل من الله إلى رسول الله فيراه متمثلا بصورة رجل، أو غير متمثل، ويسمعه منه أو يعيه بقلبه. وتعبيره يشمل- قبل التفرقة بينه وبين الإلهام- ما يسميه بعضهم بالوحى النفسى وهو الإلهام الفائض من استعداد النفس العالية، وقد أثبته بعض علماء الإفرنج لنبينا صلّى الله عليه وسلم كغيره، فقالوا: إن محمدا يستحيل أن يكون كاذبا فيما دعا إليه من الدين القويم والشرع العادل والأدب السامى، وصوره من لا يؤمنون بعالم الغيب منهم أو باتصال عالم الشهادة به بأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت له إلهاما فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية على مخيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلا له، وعلى سمعه فوعى ما حدثه الملك به. فصار الخلاف بيننا وبين هؤلاء فى كون الوحى الشرعى من خارج نفس النبى نازل عليها من السماء كما نعتقد، لا من داخلها فائضا منها كما يظنون، وفى وجود ملك روحانى مستقل نزل من عند الله عليه صلّى الله عليه وسلم كما قال عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ

بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] وفى تخيل الملك بزعمهم. وسنشرح هذا الزعم ونبسط شبهاته ونبطلها، ونثبت أنّ هذا القرآن وحى من الله تعالى ينزل من فوق السموات العلى، لا يمكن أن يكون فائضا فى هذه الأرض من نفس محمد صلّى الله عليه وسلم وهو موضوع كتابنا هذا. وأعلم أيها القارئ أن تقسيم المتكلمين كلام الله تعالى إلى نفسى قديم قائم بذاته سبحانه ليس بحرف ولا صوت ولا ترتيب ولا لغة، وكلام لفظى هو المنزل على الأنبياء عليهم السلام، ومنه الكتب الأربعة، وخلافهم فى كونه مخلوقا أو غير مخلوق هو اصطلاح كله فلسفة وآراء نظرية مبتدعة، لم يرد به كتاب ولا سنة وهو تعرض للبحث التحليلى لذات الله تعالى وصفاته، ومثار للوسواس الشيطانى فيه فاجتنبه، واستعذ بالله منه، وحسبك أن تؤمن بأن الكلام صفة كمال تتعلق بكل ما يتعلق به العلم، إلا أن تعلق العلم عبارة عن انكشاف المعلومات للعالم، وتعلّق الكلام عبارة عن كشف العالم ما شاء من علمه لمن شاء، وأن الله تعالى متصف بكمال العلم والتعليم، وكمال الكلام والتكليم، وأن هذا وغيره مما وصف به نفسه فى كتابه لا ينافى كمال تنزيهه تعالى عما لا يليق به من نقائص عباده ولا يقتضى مماثلته لهم فيما وهبهم من كمال، فإن الاشتراك فى الأسماء لا يقتضى الاشتراك فى المسميات، وأسماء الأجناس المقولة بالتشكيك فى الممكنات تختلف من وجوه كثيرة منها النقص والكمال، فكيف بها إذا كانت مشتركة بين الخالق والمخلوقات؟ فذاته تعالى أكمل من ذواتهم، ووجوده أعلى من وجودهم، وصفاته أسمى من صفاتهم، وهو أعلم، ورسوله أعلم منهم بصفاته وأفعاله، فعليك أن تؤمن بما صح عنهما من إثبات ونفى، ومن غير زيادة ولا نقص، بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وليس عليك ولا لك أن تحكم رأيك وعقلك فى كنه ذاته ولا صفاته، ولا فى كيفية مناداته وتكليمه لرسله، ولا فى كنه ما هو قائم به، وما يصدر عنه، وعلى هذا كان أصحاب الرسول وعلماء التابعين، وأئمة الحديث والفقه، قبل ظهور بدعة المتكلمين.

النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره

النبى معناه لغة وشرعا والفرق بين الرسول وغيره النبيء فى اللغة العربية: وصف من النبأ، وهو الخبر المفيد لما له شأن مهم، ويصح فيه معنى الفاعل والمفعول، لأنه منبئ عن الله ومنبأ منه، والنبى بالتشديد أكثر استعمالا، أبدلت الهمزة فيه ياء، أو هو: من النبوة وهى الرفعة والشرف. ويطلق عند أهل الكتاب على الملهم الذى يخبر بشيء من أمور الغيب المستقبلة. وقيل إن معنى أصل مادته فى العبرانية القديمة: المتكلم بصوت جهورى مطلقا، أو فى الأمور التشريعية، وهو عندنا: من أوحى الله إليه وحيا، فإن أمره بتبليغه كان رسولا، فكل رسول نبى، وما كان نبى رسولا، فقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] يدل على انقطاع النبوة والرسالة معا بعد محمد صلّى الله عليه وسلم، فكل من ادعى أو يدعى الوحى الشرعى من الله تعالى بعده فهو كاذب مضل، وقد ادعى النّبوة كثيرون فظهر كذبهم، ولم يأت أحد ادعى النبوة بعد محمد صلّى الله عليه وسلم بشيء من الإصلاح الدينى الذى يحتاج إليه البشر، بل رأينا كتبهم وأقوالهم طافحة بمدح أنفسهم واللغو فى إطرائها ودعاويها الباطلة، التى يراد بها إخضاع العوام لهم واستعبادهم إياهم، كالذى نعهد فى الدجالين من مدعى الولاية ومعرفة الغيب والتصرف الروحانى فى نفع الناس وضرهم. ويدحض هذا وأمثاله ما بينه الله فى كتابه الحق من وظائف الرسل كافة، وخاتم النبيين خاصة، كما نراه فى موضعه من هذا الكتاب، وكذا ما علم بالتواتر من شمائله وأخلاقه صلّى الله عليه وسلم من التواضع وكراهة الدعوى والإطراء والنهى عنه. ويرى قارئ هذا الكتاب فيه أن ما جاء به صلّى الله عليه وسلم من كتاب الله وما بينه به من سننه كاف شامل لكل ما يحتاج إليه البشر من هداية الدين لا يحتاجون إلى غيره.

حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية

حاجة البشر إلى الرسالة وأصول أديان الرسل الأساسية وجه حاجة البشر إلى هداية الأنبياء عليهم السلام فى الجملة أن موضوع رسالتهم المقصود بالذات أو بقصد الأول ثلاثة أمور لا تستقل معارفهم المكتسبة بحواسهم وعقولهم بها، ولا يذعنون فيها إلا لأمر ربهم وخالقهم. (أحدها) الإيمان بالغيب، ورأسه توحيد الله وصفاته وآياته الدالة على كماله وتنزهه عن النقص، وما يجب من عبادته وشكره وذكره الذى هو على ما تتزكى به النفس، وتتطهر من أدران مساويها، وتصل إلى الكمال المستعدة له بفطرتها. ويليه الإيمان بملائكته وما يناط بهم من الوحى، والنظام فى الخلق والأمر، ويجب الوقوف فى ذلك عند ما ورد به النص. ومما أخبر به الأنبياء من أمر عالم الغيب (الجن والشياطين) وأن ما يجده الناس فى أنفسهم من خواطر السوء، وتقوية دواعى الشر والباطل فهو من وسواس الشياطين، وحكمة إعلامهم بذلك إرشادهم إلى محاسبة أنفسهم على خواطرها، والتمييز بين حقها وباطلها، وخيرها وشرها، فهو أكبر معين لهم على تربيتها وتزكيتها- وقد وضحناه بالدلائل فى تفسيرنا- وضربنا له المثل بعوالم الجنّة المادية التى تسمى بالميكروبات، وكون تأثيرها فى الأجسام كتأثير الشياطين فى الأرواح، وقد مر على البشر الألوف الكثيرة من السنين وهم يجهلونها على ما لها من التأثير العظيم فى صحتهم وأمراضهم، وطعامهم وشرابهم، حتى كشفوها فى هذا العصر، ولو حاسب الناس أنفسهم على خواطرهم السوأى اتقاء لوسوسة الشياطين كما يتقون ميكروبات الأمراض لحفظ أبدانهم لكان تأثير هذه التقوى لحفظ الأنفس من الشر والفساد أعظم من تأثير تلك الوقاية فى حفظ الأجساد من الأمراض. وقد كشف بعض الماديين فى القرن الثامن عشر أن للبشر أرواحا مستقلة كما أخبرهم الأنبياء، ووجدوا وسيلة لإدراك بعض الجنة غير المادية، وهو ما يعتقدون أنه من أرواح الموتى والراجح عندنا أن أكثرها من أرواح شياطينهم، ولا يتسع هذا الفصل لبيان الحق فى هذه المسألة التى لا تزال موضع الخلاف بين الناس، وإنما المراد هنا تعريف موضوع الرسالة بالإجمال.

المشهور: أن أرقى البشر عقلا ورأيا فى شئون العالم رجال السياسة الدولية فى الغرب، وإنك لتجد غاية سياستهم أن يسخروا ثروة شعوبهم ونتائج علومها وفنونها لعداوة بعضهم لبعض، وإعدادها للتقتيل والتدمير. أليست هذه السياسة الشيطانية مصداقا لقول الله تعالى فيهم: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 63، 64]. (ثانيها) ما يجب اعتقاده من البعث بعد الموت والحساب، والجزاء على الإيمان والأعمال، وهو أكبر البواعث- بعد الإيمان بالله ومعرفته- على اتباع ما شرعه من اتباع الحق، وإقامة العدل، وأعمال البر والخير، والصدود عن أضدادها. (ثالثها) وضع حدود وأصول للأعمال التشريعية المشار إليها لا مجال للآراء والأهواء فيها، لتكون جامعة للكلمة، مانعة من التفرقة، متبعة فى السر والعلانية. وجملة القول: أن تهذيب البشر بالدين مبنى على الإيمان بالغيب والوقوف فيه عند خبر الأنبياء عليهم السلام، ولا يمكن تهذيبهم بالعلوم المادية الكسبية وحدها وهو ما نكرر بيانه فى هذا الكتاب.

عصمة الأنبياء

عصمة الأنبياء إذا كان إرسال الأنبياء إلى البشر لأجل هدايتهم إلى تزكية أنفسهم بما تصلح به أحوالهم فى دنياهم، ويستعدون به الحياة أعلى من هذه الحياة الدنيا فى نشأة أخرى، فلا يتم هذا الغرض ولا تتحقق هذه الحكمة إلا إذا كان هؤلاء الأنبياء أهلا لأن يقتدى بهم فى أعمالهم وسيرتهم، والتزام الشرائع والآداب التى يبلغونها عن ربهم، ومن ثم قال علماؤنا بوجوب عصمة الأنبياء من المعاصى والرذائل، وبالغ بعضهم فيها حتى قالوا بعصمتهم من الذنوب الصغائر كالكبائر قبل النبوة وبعدها، وخصّ بعضهم العصمة من الصغائر بما كان باعثه الخسة والدناءة. وأهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة، وكتبهم المقدسة ترمى بعض كبار الأنبياء بكبار الفواحش المنافية لحسن الأسوة، بل المجرئة على الشرور والمفاسد. والنصارى منهم يجعلون معاصى الأنبياء دليلا على عقيدتهم وهى أن المسيح هو المعصوم وحده لأنه رب وإله، ولأنه هو المخلص للناس من العقاب على الخطيئة اللازبة اللازمة لكل ذرية آدم بالوراثة له، وأنه لا شفيع ولا مخلص لهم غيره؛ لأن المخطئ لا يخلص المخطئين وهو منهم، وهذه العقيدة وثنية مخالفة لدين الأنبياء وكتبهم وللعقل، ومطابقة للأديان الوثنية الهندية وغيرها. بيد أنّ كتب العهدين القديم والجديد المقدسة عندهم المحرفة فى اعتقادنا لا تشهد لهم برمى جميع أنبيائها بالذنوب فضلا عن المعاصى التى هى أشد من الذنوب، فإن يوحنا المعمدان (هو يحيى بن زكريا عليهما السلام) لم يوصم بخطيئة قط. بل شهدت له أناجيلهم بما يدل على أنه كان أعظم من المسيح فى عصمته، ففي إنجيل لوقا (1: 65 إنه يكون عظيما أمام الرب، وخمرا ومسكرا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس) وفيه «كانت يد الرب معه»، وقال المسيح فيه: «متى 11: 11 الحق أقول لكم إنه لم يقم بين المولدين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان»، ثم قال فيه: «18 جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان 19 وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون: هو ذا إنسان أكول، وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة».

بل شهدت الأناجيل أن المسيح عليه السلام أهان أمه وإخوته ولم يسمح لهم بلقائه، وقد استأذنوا عليه ليكلموه، وعلل ذلك بأنهم مخالفون لمشيئة أبيه كما تراه فى آخر الفصل الثانى عشر من إنجيل متى وآخر الثالث من مرقس بالمعنى. وعبارة لوقا (8: 20 فأخبروه قائلين: أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك 21 فأجاب وقال لهم أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها)، نعم إن إخوته لم يكونوا يؤمنون به كما هو مصرح به فى موضع آخر، ولكن هل كانت أمه كذلك؟ وهل يجازيها هذا الجزاء؟ والله تعالى يوصى بالإحسان بالوالدين حتى المشركين ويفضل أمّ السيد المسيح على نساء العالمين. وإهانة الأم ذنب فى جميع الشرائع والآداب، كما أن المبالغة فى شرب الخمر ذنب حتى فى الشرائع التى لم تحرمها مطلقا، وجاء فى هذه الأناجيل أن الشيطان استولى عليه أربعين يوما يجربه ويدعوه إلى عبادته، كما تراه فى أول الفصل الرابع من إنجيل متى. وكذا فى غيره من الأناجيل. ونحن نبرئه من كل ذلك. وشهدت الأناجيل أيضا بأنّ يوحنا كان يعمد الناس للتوبة ومغفرة الخطايا وأنه عمد المسيح نفسه، وبأن أباه زكريا وأمه اليصابات «وكان كلاهما بارين أمام الله سالكين فى جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم» (لوقا 1: 6) وهذه شهادة بالعصمة التامة. وهنالك أنبياء آخرون شهدت لهم نبوات العهد القديم بالبر ولم ينسب إلى أحد منهم أدنى خطيئة، وآدم عند ما ارتكب الخطيئة لم يكن نبيا مرسلا إلى أحد ولا كان معه قوم يسيئون الاقتداء به. وكان قد نسى النهى عن الأكل من الشجرة، وإنما كانت مثلا لاستعداد جنس البشر للمعصية كالطاعة، نسيانا أو عمدا، ولكون المعصية تعالج بالتوبة فيغفرها الله تعالى، وقد كان ابناه قابيل وهابيل مثلا لكل من الاستعدادين، وشهد الكتاب عندهم لهابيل بأنه كان بارا لم يرتكب خطيئة، وهو لم يكن نبيا. جاء القرآن وهو المهيمن على جميع الكتب الإلهية بما لخصناه من الحق فى مسألة آدم وشهد لمن قص علينا خبرهم من أنبياء الله ورسله أنهم كانوا من الصالحين الذين يقتدى بهم فى البرّ والتقوى، كقوله فى سورتهم: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ [الأنبياء: 73]، وقال فيهم بعد ذكر أشهرهم: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]. وأما قوله لخاتمهم ومكمل هدايتهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ

مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1، 2] إلخ، وقوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19]، فالذنب فيه جاء على أصل معناه اللغوى المشتق من ذنب الدابة، وهو كل عمل له عاقبة ضارة أو منافية للمصلحة، أو لما هو أولى وأنفع، ويدخل فيه الاجتهاد فى الرأى المباح شرعا كإذن النبى صلّى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين فى التخلف عن غزوة تبوك وعاتبه الله عليه بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ «1» [التوبة: 43]، وإنما المعصية للأنبياء من معصية الله بمخالفة وحيه إليهم، إذ لو عصوه لكان أتباعهم مأمورين من الله بالمعصية لأنه أمرهم باتباعهم، وقال تعالى فى نبينا صلّى الله عليه وسلم: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21].

_ (1) تراجع المسألة فى تفسير هذه الآية من الجزء العاشر- تفسير المنار ص 464.

العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل

العقل والعلم البشرى لا يغنيان عن هداية الرسل (فإن قيل) إن الإيمان بالغيب ووجود الرب غريزى فى الفطرة البشرية كما حققتم، أو إلهام من إلهاماتها يلقى فى روع أفرادها عند نمو إدراكهم، وأن بعض الحكماء المفكرين قد ارتقوا فى معارفهم العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود واجب الوجود وعلمه وحكمته، ووجوب تعظيمه وشكره وعبادته، وقد قرر بعضهم بقاء النفس بعد الموت وخلودها فى نعيم مقيم أو عذاب أليم، ووضعوا للناس أصول الفضائل والتشريع والآداب التى تصلح بها الإنسانية وروابط الاجتماع. (قلت) نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضى، ويشهده العصر الحاضر. ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقا فى مصدر كل منهما، وفى الثقة بصحته، وفى الإذعان لحقيته، وفى تأثيره فى أنفس جميع طبقات المخاطبين. فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول، وهى عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحّتها يرجّحها على هواه وشهواته، إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد، لأن النوع البشرى يأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله فى بشريته وإن فاقه فى علمه وحكمته، وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطانا غيبيا عليه بما يملكه من القدوة على النفع والضر بذاته، دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون ونظامه. واضرب لهذا مثلا: إنه كان للفيلسوف الرئيس ابن سينا خادم متعلم معجب بعلومه وفلسفته، وكان يعجب منه كيف يدين بملة محمد صلّى الله عليه وسلم ويتبعه وهو فى رأيه أعلم منه وأرقى، وكان يكاشفه بذلك فيعرض عنه أو يوبّخه، فاتفق أن كانا فى مدينة أصفهان فى ليلة شديدة البرد كثيرة الثلج، فأيقظ الرئيس خادمه فى وقت السّحر وطلب منه ماء ليتوضأ به، فاعتذر بشدة البرد وبقاء الليل، ثم أيقظه الرئيس فى وقت أذان الصبح وطلب منه الماء فاعتذر بشدة البرد، حتى قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس لخادمه: اسمع ماذا يقول المؤذن؟ قال: إنه يقول أشهد أن محمدا رسول الله. قال الرئيس: الآن قد

آن لى أن أبين لك ضلالك القديم، إنك خادمى لا عمل لك غير خدمتى، وإنك أشدّ الناس إعجابا بى وإجلالا وتعظيما لى؟ حتى إنك تفضلنى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتنكر علىّ أن أؤمن به وأتبعه، وأنك على هذا تخالف أمرى فى أهون خدمة أطلبها منك فى داخل الدار معتذرا بشدة البرد، وإن هذا المؤذن الفارسى يخرج من بيته قبل الفجر ويصعد هذه المنارة وهى أشد مكان فى البلد بردا، حتى إذا لاح له الفجر أشاد فى أذنه بذكر محمد العربى بعد مرور أربعة قرون ونيف على بعثته، إيمانا وإذعانا وتعبدا واحتسابا. فتأمل هذا وتدبره فى نفسك يظهر لك الفرق بين سلطان النبوة على الناس وسلطان العلم والفلسفة. فمن أعظم مزايا هداية الوحى الدينية على العلمية الكسبية أن جميع طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسى التعبدى، فبذلك تكون عامة ثابتة لا مجال للخلاف والتفرق فيها ما دام الفهم لها صحيحا والإيمان بها راسخا، ولذلك نرى الشعوب التى ساء فهمها للدين، وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من دونه علوم العلماء، ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة فى هذا العصر، وعم انتشارهما بما لم يعرف مثله فى عصر آخر، وهم لا يذعنون فى أنفسهم لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأى عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مخترع خبير، بل صاروا إلى فوضى فى الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال والأعراض وكذا الدماء لم يعهد لها فى البشر نظير. صارت بها الأمم والدول عرضة لفتنة فى الأرض وفساد كبير. أكثر البشر المؤمنون بوجود الله وعلمه وحكمته، والمثقفين بالتعليم العصرى يؤمنون بوحدانيته، ولم يبق للشرك به تعالى بقية إلا فى جهال المتبعين لتقاليد الأديان المنسوبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما هى من أديانهم فى شىء. بل هى هادمة لأساسها الأعظم وهو التوحيد المطلق، فكان فشو الشرك بعبادة الأنبياء والقديسين وما ترتب عليه واقترن به من الخرافات وفساد الأخلاق من أكبر الشبهات على صحة هذه الأديان والمنفرات عن اتباعها وصار أكثر البشر إما مؤمنين بالأنبياء دائنين بالخرافات، وإمّا كافرين بهم منكرين أن الدين وحى من الله تعالى، وتعين إرجاع الفريقين إلى هداية الدين الصحيح وما هو إلا دين الإسلام. إن الدين الذى ينتمى إليه أكثر شعوب الحضارة فى هذا العصر هو النصرانية، وإنما سبب بقائه فيهم أن دولهم قد جعلته من نظام حياتهم الاجتماعية، ولكنه لم يبق له سلطان روحى إلا فى قلوب النساء والعوام الخرافيين، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذا الفصل بأن

زعماء الشعب الألمانى وهو أرقى شعوب الأرض علما وفنا وحضارة قد ثار على هذا الدين ثورة جديدة يريد بها هدم أساسه من كتب العهد القديم، وتنقيح تعاليم العهد الجديد وجعل ما يبقون منه وطنيا ألمانيا خاصا بالجنس الآرى الهندى الفارسى الأصل والبراءة من كل ما هو سام منه، وما أنبياؤهم ورسلهم ومسيحهم ومعبودهم إلا من الساميين. بل يريدون تقديس شهداء الحرب وعظماء أسلافهم الألمانيين، وإنّ هذه إلا وثنية كوثنية اليابانيين. تذكى سعير العداوة بينهم وبين سائر الأوروبيين. فلا سبيل إلى إنقاذ البشر فى هذا العصر إلا إثبات الوحى المحمدى الموحّد لإنسانيتهم، المزكى لأنفسهم، والمكمّل لفطرتهم. الذى فيه السعادة الدنيوية والأخروية لهم فى جملتهم، وقد بينا فى هذا الكتاب أنّ محمدا رسول الله وخاتم النبيين. وهو المرسل إلى كافة الناس رحمة للعالمين، وأنه هو الذى أكمل الله به الدين، وأزال العصبيات الجنسيّة والوطنيّة. لتوحيد الأخوة الإنسانية، فاتباعه هو الترياق المجرّب لهذه السموم الروحية الاجتماعية القاتلة. راجين أن يفتح الله تعالى به أبواب الهدى لكل من يعقله ويتدبره من مستقلى الفكر، وطالبى معرفة الحق، وإصلاح الخلق المعنيين بقول الله عزّ وجلّ: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) [المائدة: 15، 16]. ***

الفصل الثانى فى إقامة الحجة على مثبتى الوحى المطلق فى إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم إن من اطّلع على الكتب المقدسة عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى المعبر عنها بكتب العهدين القديم والجديد، وعلى القرآن وكتب السنة والسيرة المحمدية- من أحرار الفكر ومستقلى العقل- علم علما وجدانيّا أنه لا يستطيع أحد أن يؤمن إيمانا علميا بأن تلك الكتب وحى من الله، وأن الذين كتبوها أنبياء معصومون فيما كتبوه ثم لا يؤمن بأن القرآن وحى من الله، وأن محمدا نبىّ معصوم فيما بلغه عن الله تعالى. كما لا يستطيع فقيه أن ينكر فقه أبى حنيفة والشافعى، ولا نحوى أن يجحد نحو سيبويه وابن جنّى، ولا شاعر أن ينفى شاعرية الرضى والبحترى، وقل مثل ذلك فى الطبيب والفيلسوف والرياضى والفلكى- كل منهم مع أئمة علمه، وفى كلّ إنسان صحيح الحواس فى المدركات الحسية، فالبصير لا يستطيع أن يكابر حسه فيفضل نور القمر والكواكب على ضوء الشمس، أن نور السراج على نور النهار، ولله در البوصيرى حيث قال: الله أكبر إنّ دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيل لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفأ القنديلا قد صرح بهذا المعنى علماء الإفرنج الذين نشئوا فى النصرانية، وأحاطوا بها علما وخبرا، ثم عرفوا الإسلام معرفة صحيحة ولو غير تامة. كتب الأستاذ أدوار مونتيه المستشرق مدرس اللغات الشرقية فى مدرسة جنيف الجامعة فى مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن ما ترجمته بالعربية: «كان محمّد نبيّا صادقا كما كان أنبياء بنى إسرائيل فى القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه وكانت العقيدة الدينيّة وفكرة وجود الألوهية متمكنتين فيه كما كانتا متمكنتين فى أولئك الأنبياء أسلافه فتحدّث فيه كما كانت تحدث فيهم ذاك الإلهام النفسيّ، وهذا التضاعف فى الشخصية، اللذين يحدثان فى العقل البشرى المرائى والتجليات والوحى والأحوال الروحية التى من بابها» أهـ.

فهذا العالم الأوروبى المستقل الفكر يقول: إن كل ما كان به أنبياء بنى إسرائيل أنبياء كان ثابتا لمحمد، ونحن نقول: إنّ جميع خصائص النبوة التى كانت فيه هى أكمل شكلا وموضوعا وأصح رواية وأبعد عن الشبهات كما سنوضحه، وأما ما فسر به هذه الخصائص فهو التعليل الذى يعلل به الماديون الوحى المطلق، وسنتكلم عليه فى الفصل الثالث. ولخص هذا العالم خبير نزول الوحى على محمد صلّى الله عليه وسلم من كتب إسلامية مذعنا لصحة روايتها، وفصّلها بعده العالم المستشرق الفرنسى أميل درمنغام «1» فى كتابه (حياة محمد) مذعنا لصحة الرواية ولموضوعها. شارحا لتأثير نبوته فى إصلاح البشر متمنيا الاتفاق بين المسلمين والنصارى، آسفا للشقاق بينهم. وإننا ننقل هنا تعريف الوحى والنبوّة والآيات (العجائب) عن أحد علماء الإفرنج الجامعين بين العلوم العصرية والدينية والتواريخ، وهو الدكتور «جورج بوست» الشهير مؤلف كتاب (وقاموس الكتاب المقدس) بالعربية ليبنى عليها الباحث المستقلّ العقل حكمه فى نبوة أنبياء بنى إسرائيل ووحيهم، ونبوة محمد رسول الله وخاتم النبيين، والوحى الذى أنزل عليه.

_ (1) يكتب هذا الاسم فى مجلة السياسة (درمنجيم)، بالجيم المصرية حيث ينشر فيها كتابه (حياة محمد) مترجما بالعربية، وإنما اخترنا كتابته بالغين لكتاب جاءنا من المؤلف بالعربية، كتب فيه إمضاءه (إميل درمنغام) ونشرناه فى الجزء الأول من مجلد المنار الثلاثين.

الفصل الثانى فى إقامة الحجة على مثبتى الوحى المطلق فى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

تعريف الوحى والنبوة والأنبياء عند النصارى جاء فى تفسير كلمة «وحى» من قاموس الكتاب المقدس المطبوع فى الطبعة الأمريكانية فى بيروت سنة 1984 ما نصه مع حذف أكثر رموز الشواهد. وتستعمل هذه اللفظة للدلالة على نبوة خاصة بمدينة أو شعب، وجاء فى (جزء 12: 10) «هذا الوحى هو الرئيس» أى أنه لآية للشعب وعلى العموم يراد بالوحى الإلهام. وعلى ذلك يقال: «إن كل الكتاب هو موحى به من الله» والوحى بهذا المعنى هو حلول روح الله فى الكتّاب الملهمين وذلك على أنواع: 1 - إفادتهم بحقائق روحية أو حوادث مستقبلة لم يكن يمكنهم التوصل إليها إلا به. 2 - إرشادهم إلى تأليف حوادث معروفة أو حقائق مقررة والتفوه بها شفاها أو تدوينها كتابة بحيث يعصمون من الخطأ. فيقال: «تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس، وهنا لا يفقد المتكلم أو الكاتب شيئا من شخصيته، وإنما يؤثر فيه الروح الإلهى بحيث يستعمل ما عنده من القوى والصفات وفق إرشاده تعالى، ولهذا نرى فى كل مؤلف من الكتّاب الكرام ما امتاز به من المواهب الطبيعية ونمط التأليف وما شابه ذلك وفى شرح هذا التعليم دقة، وقد اختلف العلماء فيما أوردوه من شرحه، غير أن جميع المسيحيين يتفقون على أن الله قد أوحى لأولئك الكتّاب ليدونوا إرادته ويفيدوا الإنسان ما يجب عليه من الإيمان والعمل لكى ينال الخلاص الأبدى» أهـ. وجاء فى تفسير «نبى. أنبياء. نبوة» منه ما نصه: «النبوة لفظة تفيد الإخبار عن الله، وعن الأمور الدينية، ولا سيّما عمّا سيحدث فيما بعد، وسمى هارون نبيا لأنه كان المخبر والمتكلم عن موسى نظرا لفصاحته (خروج 7: 1) أما أنبياء العهد القديم فكانوا ينادون بالشريعة الموسوية، وينبئون بمجيء المسيح، ولما قلت رغبة الكهنة وقل اهتمامهم بالتعليم والعلم فى أيام صموئيل أقام مدرسة فى الرامة وأطلق على تلامذتها اسم بنى الأنبياء فاشتهر من ثم صموئيل بإحياء الشريعة وقرن اسمه باسم موسى وهارون فى مواضع كثيرة من الكتاب، وتأسست أيضا مدارس أخرى للأنبياء فى بيت إيل وأريحا والجلجال وأماكن أخرى، وكان رئيس المدرسة النبوية يدعى أبا أو سيدا، وكان يعلم فى هذه المدارس تفسير التوراة والموسيقى والشعر، ولذلك كان الأنبياء شعراء وأغلبهم كانوا يرنمون ويلعبون على آلات الطرب، وكانت الغاية من هذه المدارس أن يرشح الطلبة فيها لتعليم الشعب. أما معيشة الأنبياء وبنى الأنبياء فكانت ساذجة للغاية، وكثير منهم كانوا متنسكين أو طوافين يضافون عند الأتقياء.

بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها

ويظهر أن كثيرين من الذين تعلّموا فى تلك المدارس لم يعطوا قوة على الأنباء بما سيأتى. إنما اختص بهذه الخصوصية أناس منهم كان الله يقيمهم وقتا دون آخر حسب مشيئته، ويعدهم بتربية فوق العادة لواجباتهم الخطيرة على أن بعض الأنبياء الملهمين كان يختصهم الله بوحيه ولم يتعلموا من قبل ولا دخلوا تلك المدارس، كعاموس مثلا فإنه كان راعيا وجانى جميز «1». «أما النبوة فكانت على أنواع مختلفة كالأحلام والرؤى والتبليغ، وأحيانا كثيرة كان الأنبياء يرون الأمور المستقبلة بدون تمييز أزمنتها فكانت تقترن فى رؤاهم الحوادث الرقيبة العهد مع البعيدة. كاقتران نجاة اليهود من الأشوريين بخلاص العالم بواسطة المسيح، وكانتصار اسكندر ذى القرنين بإتيان المسيح، وكاقتران انسكاب الروح القدس يوم الخميسين بيوم الحشر، ومن هذا القبيل اقتران خراب أورشليم بحوادث يوم الدينونة. وقد أرسل الله الأنبياء الملهمين ليعلنوا مشيئته وليصلحوا الشئون الدينية، وعلى الأخص ليخبروا بالمسيح الآتى لتخليص العالم، وكانوا القوة العظيمة الفعالة فى تعليم الشعب وتنبيههم وإرشادهم إلى سبيل الحق، وكان لهم دخل عظيم فى الأمور السياسية» أهـ بنصه. بعض ما يرد على نبوتهم من تعريفها أما تفسير الإلهام بحلول روح الله فى روح الملهم فهو تحكم للنصارى لا يعرفه ولا يعترف به أنبياء بنى إسرائيل ولا علماؤهم، ولا يمكنهم إثباته ولا دفع ما يرد عليه من وقوع التعارض والتناقض والخلق فيما كتبه أولئك الملهمون، وما خالفوا فيه الواقع، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «إن فى شرح ذلك التعليم دقة، وأن العلماء اختلفوا فى شرحه» إلخ، ومن حلّ فيه روح الله صار إلها، إذ المسيح لم يكن إلها عند النصارى إلا بهذا الحلول، فكيف يقع فى مثل ما ذكر ويتخلف وحيه أو يخالف الواقع؟ وأما كلامهم فى النبوة والأنبياء فيؤخذ منه ما يأتى: 1 - إن أكثر أنبياء بنى إسرائيل كانوا يتخرجون فى مدارس خاصة بهم يتعلمون فيها تفسير شريعتهم التوراة، والموسيقى والشعر، وأنهم كانوا شعراء ومغنيين وعازفين على آلات الطرب، وبارعين فى كل ما يؤثر فى الأنفس ويحرك الشعور والوجدان، ويثير رواكد الخيال، فلا غرو أن يكون عزرا ونحميا من أعظم أنبيائهم ساقيين من سقاة الخمر لملك بابل (اؤرتحششتا) ومغنيين له، وأن يكونا قد استعانا بتأثير غنائمهما فى نفسه على سماحه لهما بالعودة بقومهما إلى وطنهما وإقامة دينهما فيه.

_ (1) أى كانت له حرفتان هما راعى المواشى وقطف ثمر الجميز لأصحابه.

فالنبوة على هذا كانت صناعة تعلم موادها فى المدارس، ويستعان على الإقناع بها بالتخيلات الشعرية، والإلهامات الكلامية، والمؤثرات الغنائية والموسيقية والمعلومات المكتسبة، فأين هى من نبوة محمد الأمى الذى لم يتعلم شيئا، ولم يقل شعرا، وقد جاء مفردا بأعظم مما جاءوا به كلّهم أجمعون مجتمعا؟ 2 - إن كثيرا من هؤلاء الأنبياء وأولادهم كانوا متنسّكين أو طوّافين على الناس يعيشون ضيوفا عند الأتقياء المحبّين لرجال الدين. كما هو المعهود من دراويش المتصوفة أهل الطرق فى المسلمين، ومن المعلوم أن هؤلاء المحبين يقبلون من رجال التنسك كل ما يقولون، ويسلمون لهم كل ما يدعون، ويذيعون عنهم كل ما يقبلون منهم، ومن غير هؤلاء الكثيرين من الأنبياء من نقلت عنهم كتبهم المقدسة بعض كبائر المعاصى، وإن من أخبار الصوفية والنسّاك والسيّاح عند المسلمين من تفضل سيرتهم سيرة هؤلاء الأنبياء فى كتبهم، فكيف يصح أن يرتفع أحد منهم إلى درجة محمد صلّى الله عليه وسلم فى نشأته الفطرية ومعيشته من كسبه، وكونه لم يكن عالة على الناس فى شىء قبل النبوة ولا بعدها؟ 3 - أشهر أنواع نبوتهم الأحلام والرؤى المنامية والتخيلات المبهمة، وكلها تقع لغيرهم، وقد كانت الرؤيا الصادقة مبدأ نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلم قبل وحى التشريع الذى كان له صور أعلى منها سنبينها بعد «1»؛ والرؤى صور حسية فى الخيال تذهب الآراء والأفكار فى تعبيرها مذاهب شتى، قلما يعرف تأويل الصادق منها غير الأنبياء كرؤيا ملك مصر التى عبرها يوسف عليه السلام، ورؤياه وهو فى صغره. 4 - إن نبوة الإخبار عن الأمور المستقبلة- وهى التى يستدلون بها على كونهم مخبرين عن الله تعالى- كانت أحيانا كثيرة بدون تمييز أزمنتها ولا حوادثها، فكان بعضها يختلط ببعض، فلا يكاد يظهر المراد منها إلا بعد حملها على شىء واضح بعد وقوعه، كما يعهد فى كل عصر من أخبار العرافين والمنجمين. بله الروحانيين المكاشفين، ومنها ما ظهر خلافه كما أشار إليه ولم يشرحه، ولكن التاريخ شرحه. وكان أعظم نبوات هؤلاء الأنبياء إخبارهم عن المسيح (مسيا) وملك إسرائيل ولا يزال اليهود ينتظرونها «2»، ثم إخبار المسيح نفسه عن خراب العالم ومجىء الملكوت لأجل دينونة العالم، وأنه لا ينقضى الجبل الذى خاطبه حتى يكون ذلك كله، وقد مرت أجيال كثيرة ولم يكن من ذلك شىء.

_ (1) قد بينتها فى الفصل الأول الذى زدته فى هذه الطبعة الثانية أيضا. (2) أى ينتظرون صدق هذه النبوة.

امتياز نبوة محمد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م)

امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله فى موضوعيها والموازنة بينه وبين موسى وعيسى (ع. م) أنى تضاهى تلك الأخبار (النبوات) - وهى كما علمت- أنباء القرآن الكثيرة بالمغيّبات كالذى بيناه فى خلاصة تفسير سورة براءة (التوبة) مما وقع من المنافقين، وما هو فى سورة الفتح، وقد وقع فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلم. وفى غيرهما كقوله تعالى فى أول سورة الروم: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1 - 4]، وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55]، وأين هى من إنباء النبى صلّى الله عليه وسلم أصحابه بأنهم سيفتحون بعده بلاد الشام وبلاد فارس ومصر، ويستولون على ملكى كسرى وقيصر. حتى أنه سمى كسرى عصره باسمه كما رواه البخارى عن عدى بن حاتم إلخ «1»؟. هذا ما يقال بالإجمال فى أحد موضوعى النبوة وهو الإخبار عما سيكون فى مستقبل الزمان، فما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم منها فى وحى القرآن وغيره أظهر وأوضح وأبعد عن احتمال التأويل، وأعصى على إنكار المرتابين، ويزيد عليه ما جاء به من أنباء الغيب الماضية، وسأورد ما يتأول به الجاحدون للنبوة فى بيان بطلان شبهتهم. وأما الموضوع الثانى للنبوة وهو الأهم الأعظم، أى عقائد الدين وعباداته وآدابه وأحكامه، فالنظر فيه من وجهين: (أحدهما) ما ذكروه من كونه لا يمكن أن يصل إليه عقل من جاء به وفكره ولا علومه ومعارفه الكسبية، فيتعين أن يكون بوحى من الله. (وثانيهما) أن يكون ما فيه من هداية الناس وصلاح أمورهم فى دينهم ودنياهم أعلى فى نفسه من معارف البشر فى عصره، فيتعين أن يكون وحيا. فأما الأول؛ الخاص بشخص الرسول، فإنّ العاقل المستقلّ للفكر إذا عرف تاريخ محمد صلّى الله عليه وسلم وتاريخ أنبياء بنى إسرائيل عليهم السلام فإنه يرى أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم قد نشأ أميا لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، وأنّ قومه الذين نشأ فيهم كانوا أميين وثنيين جاهلين بعقائد الملل

_ (1) سأورد طائفة من هذه الأنباء بالغيب فى ملحقات هذا الكتاب أو الجزء الثانى منه.

وتواريخ الأمم وعلوم التشريع والفلسفة والأدب، حتى إن مكة عاصمة بلادهم وقاعدة دينهم ومثوى كبرائهم ورؤسائهم، ومثابة الشعوب والقبائل للحج والتجارة فيها والمفاخرة بالفصاحة والبلاغة فى أسواقها التابعة لها لم يكن يوجد فيها مدرسة ولا كتاب مدون قط، فما جاء به من الدين التام الكامل، والشرع العام العادل، لا يمكن أن يكون مكتسبا، ولا أن يكون مستنبطا بعقله وفكره كما بيناه من قبل، وسندفع ما يرد من الشبهة عليه بعد (فى الفصل الثالث). ويرى تجاه هذا أن موسى (ع. م) أعظم أولئك الأنبياء فى علمه وعمله، وفى شريعته وهدايته قد نشأ فى أعظم بيوت الملك لأعظم شعب فى الأرض وأرقاه تشريعا وعلما وحكمة وفنا وصناعة، وهو بيت فرعون مصر، ورأى قومه فى حكم هذا الملك القوى القاهر مستعبدين مستذلين، تذبّح أبناؤهم وتستحيى نساؤهم، تمهيدا لإبادتهم ومحوهم من الأرض، ثم إنه مكث بضع سنين عند حمية فى مدين وكان نبيا- أو كاهنا كما يقولون- فمن ثم يرى منكرو الوحى أن ما جاء به موسى من الشريعة الخاصة بشعبه ليس بكثير على رجل كبير العقل عظيم الهمة، ناشئ فى بيت الملك والتشريع والحكمة إلخ. ثم ظهر فى أوائل القرن الميلادى أنّ شريعة التوراة موافقة فى أكثر أحكامها لشريعة حمورابى العربى ملك الكلدان الذى كان قبل موسى معاصرا لإبراهيم صلّى الله عليه وسلم، وقد قال الذين عثروا على هذه الشريعة من علماء الألمان فى حفائر العراق أنه قد تبين أن شريعة موسى مستمدة منها لا وحى من الله تعالى «1»، وأقل ما يقوله مستقل الفكر فى ذلك: إنه إن لم تكن التوراة مستمدة منها فلا تعد أحق منها بأن تكون وحيا من الله تعالى، ولم ينقل أن حمورابى ادعى أن شريعته وحى من الله تعالى. ثم يرى الناظر أن سائر أنبياء العهد القديم كانوا تابعين للتوراة متعبدين بها، وأنهم كانوا يتدارسون تفسيرها فى مدارس خاصة بهم وبأبنائهم مع علوم أخرى، فلا يصح أن يذكر أحد منهم مع محمّد ذكر موازنة ومفاضلة، ويرى أيضا أن يوحنا المعمدان الذى شهد المسيح بتفضيله عليهم كلهم لم يأت بشرع ولا بنبإ غيبى- بل أن عيسى عليه السلام وهو أعظمهم قدرا، وأعلاهم ذكرا، وأجلاهم أثرا، لم يأت بشريعة جديدة، بل كان تابعا لشريعة التوراة مع نسخ قليل من أحكامها، وإصلاح روحى وأدبى لجمود اليهود المادى على ظواهر ألفاظها، فأمكن لجاحدى الوحى أن يقولوا إنه لا يكثر على رجل مثله زكى الفطرة، ذكى

_ (1) قد شرحنا هذه المسألة فى المجلد الثالث من المنار، وذكرنا خلاصتها فى تفسير الآية 30 من سورة براءة (التوبة) وهى التاسعة فتراجع فى المنار سنة 1321 هجرية، أو الصفحة 348 من الجزء العاشر من التفسير.

العقل، ناشئ فى حجر الشريعة اليهودية، والمدنية الرومانية والحكمة اليونانية، غلب عليه الزهد والروحانية أن يأتى بتلك الوصايا الأدبية «1». ونحن المسلمين لا نقول هذا ولا ذاك، وإنما يقولها الماديون الملحدون والعقليون، وألوف منهم ينسبون إلى المذاهب النصرانية. وأما الوجه الثانى؛ وهو عقائد الدين وعباداته وآدابه وأحكامه، فلا يرتاب العقل المستقل الفكر غير المقلد لدين من الأديان أنّ عقائد الإسلام من توحيد الله وتنزيهه عن كل نقص، ووصفه بصفات الكمال، والاستدلال عليها بالدلائل العقلية والعلمية الكونية، ومن بيان هداية رسله، ومن عباداته وآدابه المزكية للنفس المرقية للعقل، ومن شريعة العدل، وحكمه الشورى المرقى للاجتماع البشرى. كل ذلك أرقى مما فى التوراة والأناجيل وسائر كتب العهد القديم والجديد، بل هو الإصلاح الذى بلغ به دين الله أعلى الكمال، ويشهد بهذا علماء الإفرنج، وقد شرحناه من وجهة نظرنا ووجهة نظرهم فى مواضع من المنار والتفسير «2»، وسيأتى بيانه. ومن نظر فى قصص آدم ونوح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف من سفر التكوين، وسيرة موسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء فى سائر أسفار العهد القديم، ثم قرأ هذه القصص فى القرآن يرى الفرق العظيم فى الاهتداء بسيرة هؤلاء الأنبياء العظام. ففي أسفار العهد القديم يرى وصف الله تعالى بما لا يليق به من الجهل والندم على خلق البشر والانتقام منهم، ووصف الأنبياء أيضا بما لا يليق بهم من المعاصى مما هو قدوة سوأى، من حيث يجد فى قصص القرآن من حكمة الله تعالى ورحمته وعدله وفضله وسننه فى خلقه، ومن وصف أنبيائه ورسله بالكمال، وأحاسن الأعمال، ما هو قدوة صالحة وأسوة حسنة تريد قارئها إيمانا وهدى، فأخبار الأنبياء فى كتب العهدين تشبه بستانا فيه كثير من الشجر والعشب والشوك، والثمار والأزهار والحشرات، وأخبارهم فى القرآن تشبه العطر المستخرج من تلك الأزهار، والعسل المشتار من جنى الثمار، ويرى فيه رياضا أخرى جمعت جمال الكون كلّه. وندع هنا ذكر ما كتبه علماء الإفرنج الأحرار فى نقد هذه الكتب والطعن فيها، ومن أخصرها وأغربها كتاب (أضرار تعليم التوراة والإنجيل) لأحد علماء الإنكليز «3»؛ وما فيها من مخالفة العلم والعقل والتاريخ، والقرآن خال من مثل ذلك.

_ (1) على أن منهم من يعزو جلها إلى كونفوشيوس المشرع الصينى وإلى غيره من الحكماء الذين كانوا قبل المسيح عليه السلام. (2) آخرها (ص 359 ج 10 تفسير المنار) وسنفرد له ملحقا من علاوات هذه الطبعة. (3) هو تشارلس واطس وطبع فى مطبعة (واطس وشركائه فى لندن) وترجم إلى العربية بمطبعة الموسوعات فى مصر سنة 1319 هـ- 1901 م.

صد الكنيسة عن الإسلام

صد الكنيسة عن الإسلام إن رجال الكنيسة لم يجدوا ما يصدون به أتباعها عن الإسلام بعد أن رأوه قد قضى على الوثنية والمجوسية، وكاد يقضى على النصرانية فى الشرق، ثم امتد نوره إلى الغرب. إلا تأليف الكتب ونظم الأشعار والأغانى فى ذم الإسلام ونبيه وكتابه بالإفك والبهتان، وفحش الكلام، الذى يدل على أن هؤلاء المتديّنين أكذب البشر، وأشدّهم عداوة للحقّ والفضيلة فى سبيل رياستهم التى يتبرأ منها المسيح عليه صلوات الله وسلامه. وقد كان أتباعهم يصدقون ما يقولون ويكتبون، ويتهيجون بما ينظمون وينشدون، حتى إذا ما اطلع بعضهم على كتب الإسلام، ورأوا المسلمين وعاشروهم ففضحوهم أقبح الفضائح كما ترى فى كتاب (الإسلام خواطر وسوانح) للكونت دى كاسترى، وكما ترى فى الكتاب الفرنسى الذى ظهر فى هذا العهد باسم (حياة محمد) للمسيو درمنغام وهذان الكاتبان الفرنسيان من طائفة الكاثوليك اللاتين، وقد صرحا كغيرهما بأن كنيستهما هى البادئة بالظلم والعدوان، والإفك والبهتان، واعترفا بأدب المسلمين فى الدفاع «1».

_ (1) قال مسيو درمنغام فى كتابه «حياة محمد» ما ترجمته العربية بقلم الدكتور محمد حسين بك هيكل: «لما نشبت الحرب بين الإسلام والمسيحية اتسعت هوة الخلاف وسوء الفهم بطبيعة الحال وازدادت حدة، ويجب أن يعترف الإنسان بأن الغربيين كانوا السابقين إلى أكبر الخلاف. فمن المجادلين البيزنطيين الذين أوقروا الإسلام احتقارا من غير أن يكلفوا أنفسهم- فيما خلا جان داماسين- مؤنة دراسته، ولم يحارب الكتاب والنظامون (يعنى الشعراء) مسلمى الأندلس إلّا بأسخف المثالب، فقد زعموا محمدا لص نياق (أى إبل) وزعموه متهالكا على اللهو، وزعموه ساحرا، وزعموه رئيس عصابة من قطاع الطرق، بل زعموه قسا رومانيا مغيظا إن لم ينتخب لكرسى البابوية ... وحسبه بعضهم إلها زائفا «يقرب له عباده الضحايا البشرية» وأن جبير دنوجن نفسه وهو رجل جد ليذكر أن محمدا مات فى نوبة سكر بين (كذا) وأن جسده وجد ملقى على كوم من الروث وقد أكلت منه الخنازير، وذلك ليفسر السبب الذى من أجله حرم الخمر وحرم لحم ذلك الحيوان ... وذهبت الأغنيات إلى حد أن جعلت محمدا صنما من ذهب، وجعلت المساجد الإسلامية برابى (معابد أصنام) ملأى بالتماثيل والصور. وقد تحدث واضع أغنية أنطاكية حديث من رأى صنم (ماهوم) مصنوعا من ذهب ومن فضة خالصين وقد جلس فوق فيل على مقعد من الفسيفساء، وأما أغنية رولان التى تصور فرسان شارلمان يحطمون الأوثان الإسلامية فتزعم أن مسلمى الأندلس يعبدون ثالوثا مكونا من ترفاجان وماهوم (ويعنون به محمدا عليه السلام) وأبولون. وتحسب

لما ظهرت طائفة البروتستان وغلب مذهبها فى شعوب الأنجلو سكسون والجرمان، وكان الفضل فى دعوتهم الإصلاحية لما انعكس على أوروبا من نور الإسلام، لم يتعفف قسوسهم ودعاتهم (المبشرون) عن افتراء الكذب، ولا تجمّلوا فيه بشيء من النزاهة والأدب. والذى نراه فى هذا العصر من مطاعنهم وافترائهم وسوء أدبهم أشد مما نراه من غيرهم، ولكن الذين أنصفوا الإسلام من أحرار علمائهم أصرح قولا، ولعلهم أكثر من اللاتين عددا، وكذلك الذين اهتدوا به، وسبب ذلك أن الحرية والاستقلال فى تربيتهم أقوى، وسيكونون هم الذين ينشرون الإسلام فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ثم فى سائر العالم كما جزم العلامة برناردشو الإنكليزى فى كتاب الحياة الزوجية (واشتهر عنه هذا ونقلته صحف الأقطار الإسلامية).

_ «قصة محمد» أن الإسلام يبيح للمرأة تعدد الأزواج، وقد ظلت حياة الأحقاد والخرافات قوية متشبئة بالحياة، فمنذ رودلف دلوهيم إلى وقتنا الحاضر قام نيكولا دكيز، ووفيفس، ومراتشى، وهو تنجر، وببلياتلار، ويريد وغيرهم فوصفوا محمدا بأنه دجال والإسلام بأنه مجموعة من الهرطقات (الكفر) كلها، وأنه من عمل الشيطان، والمسلمين بأنهم وحوش، والقرآن بأنه نسيج من السخافات أ. هـ. المراد منه على كثرته، وإبهام فى ترجمته، وهو قليل من إسرافهم وتراجع ترجمة كتاب (الإسلام خواطر وسوانح) العربية لأحمد فتحى زغلول.

الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم

الآيات والعجائب (أى الخوارق) وإثبات النبوة عندنا وعندهم «1» بقى الكلام فى مسألة العجائب التى بنيت على أساسها الكنائس النصرانية على اختلاف مذاهبها، وفيما يدّعونه من تجرد محمّد صلّى الله عليه وسلم من لباسها. وهى قد أصبحت فى هذا العصر حجّة على دينهم لا له، وصادة للعلماء العقلاء عنه لا مقنعة به. ولولا حكاية القرآن لآيات الله التى أيّد بها موسى وعيسى عليهما السلام لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأسرع؛ لأن أساسه قد بنى على العقل والعلم وموافقة الفطرة البشرية. وتزكية أنفس الأفراد، وترقية مصالح الاجتماع، وأما آيته التى احتج بها على كونه من عند الله تعالى فهى القرآن، وأمية محمّد صلّى الله عليه وسلم، فإنما هى آية علمية تدرك بالعقل والحس والوجدان: كفاك بالعلم فى الأمى معجزة ... فى الجاهلية والتأديب فى اليتم وأما تلك العجائب الكونية فهى مثار شبهات وتأويلات كثيرة فى روايتها وفى صحتها، وفى دلالتها، وأمثال هذه الأمور تقع من أناس كثيرين فى كل زمان، والمنقول منها عن صوفية الهنود والمسلمين أكثر من المنقول عن العهدين العتيق والجديد، وعن مناقب القديسين، وهى من منفّرات العلماء عن الدين فى هذا العصر، وسنبين ما جاء به الإسلام فيها من القول الفصل.

_ (1) سيأتى تفصيل آخر فى تحقيق مسألة الخوارق وأنواعها، والفرق بين آيات الأنبياء والرسل وغيرها كالكرامات والخصائص الروحية.

العجائب وما للمسيح منها

العجائب وما للمسيح منها جاء فى تعريف العجائب وأنواعها من قاموس الكتاب المقدس ما نصه: «وعجيبة: حادثة تحدث بقوة إلهية خارقة مجرى العادة الطبيعية لإثبات إرسالية من جرب على يده أو فيه. والعجيبة الحقيقية هى فوق الطبيعة لا ضدّها، تحدث بتوقيف نواميس الطبيعة لا بمعاكستها، وهى إظهار نظام أعلى من الطبيعة يخضع له النظام الطبيعى، ولنا فى فعل الإرادة مثال يظهر لنا حقيقة أمر العجائب إذ بها ترفع اليد، وبذلك نوقف ناموس الثقل «1»، ويتسلط الله على قوى الطبيعة ويرشدها ويمد مدارها ويحصره لأنها عوامل لمشيئته، ويناط فعل العجائب بالله وحده أو بمن سمح له بذلك. وإذا آمنا بالإله القادر على كلّ شىء لم يعسر علينا التسليم بإمكان العجائب، وكانت العجيبة الأولى خليقة الكون من العدم بإرادته تعالى، أما المسيح فأقنومة عجيبة أدبية عظيمة، وعجائبه لم تكن إلا إظهار هذا الأقنوم وأعماله، وإذا آمنا بالمسيح ابن الله العديم الخطية لم يعسر علينا تصديق عجائبه. أما الشيطان فعجائبه كذابة». «ولا بد من العجائب لتعزيز الديانة؛ فكثيرا ما يستشهد المسيح بعجائبه لإثبات لاهوته وكونه المسيح، وكان يفعلها لتمجيد الله ولمنفعة نفوس الناس وأبدانهم، وكان يفعلها ظاهرا أما جماهير أصحابه وأعدائه ولم ينكرها أعداؤه غير أنهم نسبوها ليعلزبول «2»، وسواء امتحناها بالشهادة من الخارج وبمناسبتها إلى إرساليته الإلهية التى ظهرت لكل من كان خاليا من الغرض صحيحة. فإذا لم نسلم بصحتها التزمنا أن نقول إن مقرريها كذابون، الأمر الذى لا يسوغ ظنه بالمسيح والرسل «3».

_ (1) أى سنة جاذبية الثقل التى تقتضى سقوط الأجسام إلى مركز الأرض .. (2) أى أن الشيطان والأناجيل تثبت العجائب للشيطان كما صرح به آنفا، بل يبالغون فى عجائبه وتصرفه فى العالم، ومن أسمائه عندهم: إله هذا الدهر، قال فى قاموس الكتاب المقدس: (قلنا فى شخصيته نفس البراهين التى لنا فى شخصية الروح القدس والملائكة) «راجع ص 650 ج 1» وتعجب من أهل هذا الدين. (3) هذا استدلال غير منطقى ولا تقوم به الحجة على المنكر، ولا يحتاج إليه المعترف المقلد وحاصله: إما أن نسلم بصحة هذه العجائب، وأما أن نقول إن رواتها كاذبون، لكن كذب رواتها لا يسوغ أن يظن بالمسيح والرسل فثبت أنها صحيحة، والمنكر يسوغ كذب الناقلين لها، وله أن يسلم الشرطية المنفصلة ويمنع الاستثناء ويعده مصادرة، إذ جعل كلا من ثبوت كونه مسيحا من الله وكونهم رسلا متوقفا على صدقها، وصدقها متوقفا على ثبوت ذلك وهذا دور محال.

بحث في عجائب المسيح عليه السلام

«وبقيت قوة العجائب فى عصر الرسل، ولما امتدت الديانة المسيحية زال الاضطرار إليها «1»، ولا يلزمنا الآن سوى العجائب الأدبية الحاصلة من هذه الديانة مع الشواهد الداخلية على صحتها، غير أنه يمكن لله تعالى أن يحددها في أى وقت شاء» ا. هـ. ثم وضع المؤلف جدولا أحصى فيه عجائب العهد القديم من خراب سدوم وعمورية على قوم لوط إلى خلاص يونان (يونس) بواسطة حوت، فبلغت 67 عجيبة، وقفى عليه بجدول العجائب المقرونة بحياة المسيح، من الحبل به «يفعل الروح القدس» إلى (الصعود إلى السماء) فبلغت 37، وعزز الجدولين بثالث فى (العجائب التى جرت فى عصر الرسل)، أى الذين بثوا دعوة المسيح من تلاميذه وغيرهم من (انسكاب الروح القدس يوم الخميسين) إلى (شفاء أبى بوبليوس «2» وغيره) فكانت عشرين، وقد صرح بأن يوحنا المعمدان لم يرد فى الكتاب أنه صنع عجائب. بحث في عجائب المسيح عليه السلام: أقول: إن 27 من عجائب المسيح المذكورة: شفاء مرضى، ومجانين لا بستهم الشياطين، وثلاث منها إقامة موتى عقب موتهم، وما بقى فمسألة الحبل له، وتحويله الماء إلى خمر وسحب الشبكة فى بحر الجليل، وإشباع خمسة آلاف مرة، وأربعة آلاف مرة أخرى، وضرب التينة العقيمة بما أيبسها، وقيامة المسيح، وصيد السمك والصعود. وإننا نلخص رواية الأناجيل لأهمها وهو إحياء الموتى، ونذكر ما يقوله فيها منكرو العجائب. الميت الأول: شاب من مدينة نابين كان محمولا فى جنازة وأمه تبكى، فاستوقف النعش وقال له: أيها الشاب لك أقول قم. فجلس وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه، فأخذ الجميع خوف ومجّدوا الله قائلين: قد قام فينا نبى عظيم وافتقد الله شعبه (لوقا 7: 11 - 16). الثانى: صبية ماتت فقال له أبوها وكان رئيسا: ابنتى الآن ماتت، لكن تعال فضع يدك عليها فتحيا. فجاء بيت الرئيس ووجد المزمرين يضجون، فقال لهم: «تنحوا فإن الصبية لم تمت، لكنها نائمة، فضحكوا عليه، فلما أخرج الجمع دخل وأمسك بيدها فقامت الصبية» متى (9: 18 - 24).

_ (1) هذا مذهب البروتستانت، ويلزمهم أن عجائب الشيطان بقيت بدون معارض، وأما الكاثوليك فيدعون وجودها في كل عصر. (2) هو رئيس جزيرة كان مريضا فرقاه بولص وصلى له فشفى (أعمال 28).

فمنكرو العجائب يقولون: إن كلا من الشاب والشابة لم يكونا قد ماتا بالفعل، وإن كثيرا من الناس فى كل زمان قد قاموا من نعوشهم، بل من قبورهم بعد أن ظنّ النّاس أنهم ماتوا. ولذلك تمنع الحكومات المدنية دفن الميت إلا بعد أن يكتب أحد الأطباء شهادة بثبوت موته ثبوتا عمليّا فنيّا- وللمؤمنين بالآيات أن يجزموا أيضا بأن الصبيّة لم تكن ميتة أخذا بظاهر قوله عليه السلام: «لم تمت ولكنها نائمة»، يعنى أنها أغمى عليها فظنّوا أنها ماتت وهى لم تمت. وأما الثالث: فهو ليعازر حبيبه وأخو مرثا ومريم حبيبته: مرض في قريتهم (بيت عنيا) فأرسلتا إلى المسيح قائلين: هو ذا الذي تحبه مريض، فمكث يومين وحضر فوجد أنه مات منذ أربعة أيام، فلاقته مرثا وقالت: يا سيد لو كنت هنا لم يمت أخى، ثم دعت أختها مريم، فلما رأته خرت عند رجليه قائلة كما قالت مرثا، وكانوا قد ذهبوا إلى القبر للبكاء، فلما رآها تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون (انزعج بالروح واضطرب) وقال: أين وضعتموه؟ فدلوه عليه، فبكى وانزعج فى نفسه وجاء إلى القبر، وكان مغارة وقد وضع عليه حجر، فأمر برفع الحجر فرفعوه (ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لى، وأنا علمت أنك فى كل حين تسمع لى، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتنى) ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم: «ليعازر، هلم خارجا» فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطتان بأقمطة، ووجهه ملفوف بمنديل، فقال لهم يسوع حلّوه ودعوه يذهب» ا. هـ. ملخصا من الفصل 11 من إنجيل يوحنا. أتدري أيها القارئ ما يقول منكرو العجائب والآيات فى هذه القصة على تقدير صحة الرواية؟ إننى سمعت طبيبا سوريّا بروتستنتيا يقول: إنها كانت بتواطؤ بينه وبين حبيبته وحبيبه لإقناع اليهود بنبوته- وحاشاه عليه السلام. وإنما ننقل هذا لنتبين أن النصارى لا يستطيعون إقامة البرهان فى هذا العصر على نبوة المسيح فضلا عن ألوهيته بهذه الروايات التى تدل على النبوة وتنفى الألوهية كما فهم الذين شاهدوها. لأنه ليس لها أسانيد متصلة إلى كاتبيها، ولا دليل على عصمتهم من الخطأ في روايتها، دع قول المنكرين باحتمال الاحتيال والتلبيس أو المصادفة فيها، أو عدهم إياها على تقدير ثبوتها من فلتات الطبيعة «1».

_ (1) وقد نقل مثلها عن بعض صوفية المسلمين والهندوس فإن كذبوا المقولة القديمة فمنها ما رواه من شاهده من أهل عصرنا.

وإذا كان أعظمها هو إحياء الميّت يحتمل ما ذكروا من التأويل، فما القول فى شفاء المرضى وإخراج الشياطين الذى يكثر وقوع مثله فى كل زمان، والأطباء كلهم يقولون إن ما يدعيه العوام من دخول الشياطين فى أجساد الناس ما هو إلا أمراض عصبية تشفى بالمعالجة أو بالوهم والاعتقاد، ودونها مسألة الخمر والسمك ويبس التينة «1».

_ (1) خلاصة عجينة التينة أنه جاع وهو خارج من بيت عنيا إلى أورشليم مع تلاميذه فرأى شجرة تين مورقة فجاءها لعله يجد فيها شيئا يأكله فلم يجد فيها شيئا «لأنه لم يكن وقت التين فلعنها قائلا لها: «لا يأكل أحد منك ثمرا بعد إلى الأبد»، ولما رجعوا من أورشليم رأوا التينة قد يبست فقال له بطرس: يا سيدى انظر التينة التى لعنتها قد يبست إلخ (مرقس: 11: 11 - 14) فأجابهم بما خلاصته: إن هذه آية الإيمان وأن كل مؤمن يقول لأى شىء «كن» وهو يؤمن أنه يكون فإنه يكون ولو كان أمرا للجبل أن يزول من مكانه». وفى هذه العجيبة نظر من ثلاث جهات: (الأولى): أن منكر الآيات يقول إنه يجوز أن تكون التينة يبست بسبب مادى فى أثناء وجود المسيح وتلاميذه فى أورشليم. (الثانية): أن الروحيين من فلاسفة الهندوس وغيرهم يقولون إن كل من كان روحانيا قوى الإرادة يكون له مثل هذا التأثير فهو من خواص النفس، وهذا بمعنى قول المسيح لهم فى تأثير الإيمان، وهو ينافى أن يكون بتأييد من الله خارق للعادات الكسبية الدالة على أن من جرت على يده على الحق. (الثالثة): أن الناس ينقلون مثل هذا فى كل زمان، ومن ذلك ما نقلته جريدة المقطم فى عددها الذى صدر بتاريخ 4 رمضان من عامنا هذا (1352) الموافق 21 من ديسمبر 1933 مترجما عن كتاب لطبيب اسمه الكسندر كان فى بلدية لندن له منصب معروف فى مستشفى الأمراض النفسية أنه ألف كتابا فى الشهر الماضى اسمه (العالم غير المنظور) تكلم فيه عن التنويم المغناطيسى والسحر الأسود وغيرهما من (علوم الغيب)، ذكر فيه رحلته إلى الهند والتبت وما رأى فيها من المناظر المدهشة (ومنها شجرة تين تذبل بأمر رجل، وجثة فقدت الحياة مدة سبع سنوات تعاد إليها الحياة). ثم نقل عن هذا الكتاب فى تفصيل عجيبتى إماتة التينة وإحياء الإنسان نبأ قاض إنكليزى اسمه مكردى أنذره أنه سيقتل قبل مرور سبع سنين برصاص بندقية تطلق عليه بأمره وكان الأمر كذلك، وأن المؤلف سمع هذا الخبر من «اللاما» أى كاهن التبت الأكبر ثم قال المقطم ما نصه بعد العنوان: إماتة الصوفى الهندى للتينة كالمسيح ويتكلم الطبيب فى كتابه عن صديقه (البروفسور ... ) ويقول عنه إنه يزور سريره كل ليلة وعمره مائة سنة ولكن منظره منظر رجل ابن أربعين. وقد صحبه مرة إلى شجرة تين فخاطبها صاحبها بعد قائلا: لقد أحسنت وقاومت عواصف الحياة وسليت نفسى وشفيتها. وقد آن وقت رحيلك عن عالم الغرور والعدم هذا فموتي الآن ولا تعودى إلى الحياة مرة أخرى. قال الطبيب فذبلت التينة حالا وسمح لى بفحصها أنا وغيرى لنتأكد موتها. وقص حكاية الرجل الذى أعيدت إليه حياته إليه فقال: إحياء اللاما كاهن التبت للميت «كان اللاما الكبير على عرشه فدخل عليه جوق من الرهبان يحملون المشاعل فجلسوا فى حلقه واسعة

............. ................ ........

_ وهم يتمتمون أغنية. فصلى اللاما وفى تلك الدقيقة دخل ثمانية يحملون تابوتا من حجر فأنزلوه ورفعوا غطاءه فرأينا شخصا منظره ميت فسمح لى بفحصه فلم أشعر بنبضه ولا بخفقان قلبه وكان باردا كالحجر وعيناه عينا رجل انقضى عليه يوم كامل وهو ميت ووضعت مرآة على فمه وأنفه فلم يظهر عليها أثر تنفسه. ثم لفظ اللام كلمات فرأينا الميت يفتح عيناه، ثم جلس فى تابوته فساعده راهبان على الوقوف والمشى فدنا من اللاما وانحنى وعاد إلى نعشه وهو لا يزحزح بصره عن (أعظم الحكماء) ثم لم تمض دقائق قليلة حتى عاد ولا حياة فيه. فلم أدر أكان ميتا حقيقة أم فى غيبوبة؟ فقرأ اللاما أفكارى فقال لى إن الرجل كان ميتا مدة سبع سنوات أخرى. وأن عمره مئات من السنين وقد يحيا إلى الأبد إذا صح أن نعد هذا حياة». (يقول محمد رشيد): وفى هذا الكتاب عجائب أخرى ذكر بعضها فى المقطم وذكر أن المجلس البلدى مزله عن وظيفته عقابا له عليه. وأنا قد سمعت فى صغرى حكاية مشهورة عند أهل بلدنا عن رجل معتقد اسمه الشيخ محمد العصافيرى أنه نظر إلى شجرة تين وقال مسكينة مسكينة تموت، فلم تلبث أن عراها الذبول حتى يبست. وجملة القول: أن حكايات العجائب كثيرة فى كل زمان وسيأتى تحقيق القول فيها.

آية نبوة محمد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية

آية نبوة محمّد العقلية العلمية وسائر آياته الكونية إن ما رواه المحدثون بالأسانيد المتصلة تارة، والمرسلة «1» أخرى من الآيات الكونية التى أكرم الله تعالى بها رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم وهى أكثر من كلّ ما رواه الإنجيليون وأبعد عن التأويل، ولم يجعلها برهانا على صحة الدين، ولا أمر بتلقينها للناس. ذلك بأن الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل فى ثبوتها وفى موضوعها؛ لأن البشر قد بدءوا يدخلون بها فى سن الرشد والاستقلال النوعى الذى لا يخضع عقل صاحبه فيه لا تباع من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف فى سنن الكون، بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعدادهم العقلى مع هذا الخضوع، بل هو من موانعه، فجعل حجة نبوة خاتم النبيين عين موضوع نبوته، وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظى والمعنوى، وبأنباء الغيب الماضية والحاضرة والآتية فيه «2»؛ ليربى البشر على الترقى فى هذا الاستقلال، إلى ما هم مستعدّون له من الكمال. هذا الفصل بين النبوات الخاصة الماضية، والنبوة العامة الباقية، قد عبّر عنه النبىّ صلّى الله عليه وسلم بقوله: «ما من الأنبياء من نبى إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». متفق عليه من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه. وقصّ الله تعالى علينا فى كتابه: أن المشركين اقترحوا الآيات الكونية (العجائب) على رسوله، فاحتج عليهم بالقرآن فى جملته، وبما فيه من أخبار الرسل والكتب السابقة التى لم يكن يعلمها هو ولا قومه، وبهدايته وبعلومه وبإعجازه، وعدم استطاعة أحد ولا جماعة ولا العالم كله على الإتيان بمثله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء: 88]، وسيأتى تفصيله.

_ (1) الرواية المرسلة للحديث هى التى لم يذكر فيها اسم الصحابى الذى رفعه إلى النبى صلّى الله عليه وسلم. (2) قد بينّا ذلك فى تفسير آية التحديث من سورة البقرة من بضعة وجوه. وسنزيده بيانا فى هذا الكتاب. وإنما موضوعنا هنا بيان الفرق بين نبوة نبينا صلّى الله عليه وسلم ونبوة من قبله.

تأثير العجائب فى الأفراد والأمم

وأما ما أكرمه الله تعالى به من الآيات الكونية فلم يكن لإقامة الحجة على نبوته ورسالته، بل كان من رحمة الله تعالى وعنايته به وبأصحابه فى الشدائد، كنصرهم على المعتدين من الكفار الذين يفوقونهم عددا وعتادا واستعدادا بالسلاح والطعام، وناهيك بغزوة بدر والنصر فيها، ثم بغزوة الأحزاب إذ تألب المشركون واليهود على المسلمين وأحاطوا بمدينتهم فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين شر القتال. من تلك الآيات: شفاء المرضى، وإبصار الأعمى، وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل فى غزوة الأحزاب وفى غزوة تبوك، كما وقع للمسيح عليه السلام. ومنها: تسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين؛ وتثبيت أقدامهم التى كانت تسيح فى الرمل ببدر، ولم يصب المشركين من غيثها شىء. ومثل ذلك فى غزوة تبوك إذ نفذ ماء الجيش فى الصحراء والحر شديد حتى كانوا يذبحون البعير ويخرجون الفرق من كرشه ليعتصروه ويبلّوا به ألسنتهم على قلة الرواحل معهم، وكان يقل من يجد من عصارته ما يشربه شربا، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنّ الله عودك فى الدعاء خيرا فادع لنا، فرفع يديه فدعا، فلم يرجعهما حتى كانت السّماء قد سكبت لهم ما ملئوا ما معهم من الروايا، ولم تتجاوز عسكرهم «1». تأثير العجائب فى الأفراد والأمم: لقد كانت آيات المرسلين حجة على الجاحدين المعاندين، استحقّوا بجحودها عذاب الله فى الدنيا والآخرة، ولم يؤمن بها ممن شاهدوها إلا المستعدون للإيمان بها. إن فرعون وقومه لم يؤمنوا لآيات موسى، وإن أكثر بنى إسرائيل لم يعقلوها «2»، وقد اتخذوا العجل وعبدوه بعد رؤيتها ورؤية غيرها فى برية سيناء. وقال اليهود فى المسيح: لولا أنه رئيس الشياطين لما أخرج الشيطان من الإنسان. وقالوا إن إبليس أو بعلزبول «3» يفعل أكثر من فعله، وما كان أكثرهم مؤمنين. وقال المنافقون وقد رأوا بأعينهم سحابة واحدة فى إبان القيظ قد مطرت عسكر المؤمنين وحده عند دعاء النبى صلّى الله عليه وسلم: إننا مطرنا بتأثير النوء لا بدعائه.

_ (1) رواه ابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقى فى كتابيهما «دلائل النبوة» والضياء فى الأحاديث المختارة والروايا جمع رواية وهو البعير الذى يحمل عليه الماء، وكذا غيره من الدواب. (2) قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83]. الذرية: صغار النسل، والمتبادر أن تنكيرها هاهنا للتقليل. (3) بعلزبول: من أسماء الشيطان عندهم.

ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها

وقد كان أكثر من آمن بتلك الآيات إنما خضعت أعناقهم، واستخدمت أنفسهم لما لا يعقلون له سببا، وقد انطوت الفطرة على كل ما لا يعرف له سبب، فالآتى به مظهر للخالق سبحانه، إن لم يكن هو الخالق نفسه، وكان أضعاف أضعافهم يخضع مثل هذا الخضوع نفسه للسحرة والمشعوذين والدجالين ولا يزالون كذلك. وقد نقلوا عن المسيح عليه السلام أنه سيأتى بعده مسحاء كذبة، وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضا (متى 24: 24) وقد ذكر فى قاموس الكتاب المقدس عدد كثير منهم، وأسماء بعضهم وأقول: إن منهم القاديانى الذى ظهر من مسلمى الهند، وتذكر صحف الأخبار ظهور هندى آخر يريد إظهار عجائبه فى أمريكا فى هذا العام ونقلوا عن المسيح أنه قال: «الحق أقول لكم: ليس كل نبى مقبولا فى وطنه» وجعل القاعدة لمعرفة النبى الصادق تأثير هدايته فى الناس لا الآيات والعجائب فقال: «من ثمارهم تعرفونهم» ولم يظهر بعده- ولا قبله- نبى كانت ثماره الطيبة فى هداية البشر كثمار محمّد صلّى الله عليه وسلم ولا أحد يصدق عليه قوله فى إنجيل يوحنا (16: 12 إن لى أمورا كثيرة أيضا ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك «أى البارقليط» روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق) إلخ، وما جاء بعده نبى أرشد الناس إلى جميع الحق فى الدين؛ من توحيد، وتشريع، وحكمة، وتأديب: غير محمد رسول الله وخاتم النبيين. ومن استقرأ تواريخ الأمم علم أنّ أهل الملل الوثنية أكثر اعتمادا على العجائب من أهل الأديان السماوية، ورأى الجميع ينقلون منها عمن يعتقدون قداستهم من الأولياء والقديسين، أكثر مما نقلوا عن الأنبياء المرسلين، ورأى أن أكثر المصدقين بها من الخرافين. ثبوت نبوة محمد بنفسها وإثباتها لغيرها: وجملة القول: أن نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلم قد ثبتت بنفسها، أى بالبرهان العلمى والعقلى الذى لا ريب فيه، لا بالآيات والعجائب الكونية. وإن هذا البرهان قائم ماثل للعقول والحواس فى كل زمان، وأنه لا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بثبوت نبوته صلّى الله عليه وسلم وهذا القرآن الذى جاء به، فالحجة الوحيدة عليها فى هذا الطور العلمى الاستقلالى من أطوار النوع البشرى هو شهادته لها. فإن الكتب التى نقلها لا يمكن إثبات عزوها إلى من عزيت إليهم، إذ لا يوجد نسخ منها منقولة عنهم باللغات التى كتبوها بها لا تواترا ولا آحادا، ولا يمكن إثبات عصمتهم من الخطأ فيما كتبوه على اختلافه، وتناقضه، وتعارضه، ولا إثبات صحة التراجم التى نقلت بها، كما قلنا آنفا وبيناه بالتفصيل مرارا.

درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلى الله عليه وسلم

إن الكتاب الإلهى الوحيد الذى نقل بنصه الحرفى تواترا عمن جاء به بطريقتى الحفظ والكتابة معا هو القرآن، وأن النبىّ الوحيد الذى نقل تاريخه بالروايات المتصلة الأسانيد حفظا وكتابة هو محمد صلّى الله عليه وسلم، فالدين الوحيد الذى يمكن أن يعقله العلماء المستقلون فى الفهم والرأى ويبنوا عليه حكمهم، هو الإسلام. وأما خلاصة ما يمكن الاعتراف به من الأديان السابقة لثبوت قضاياه الإجمالية بالتواتر المعنوى، فهو أنه وجد فى جميع أمم الحضارة القديمة دعاة إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى العمل الصالح، وإلى ترك الشرور والرذائل، منهم أنبياء مبلغون عن الله تعالى مبشرين ومنذرين، كما أنه وجد فيهم حكماء يبنون إرشادهم على الاحتجاج بما ينفع الناس ويرضهم بحكم العقل والتجربة، ووجد فى جميع ما نقل عن الفريقين أمور مخالفة للعقل ولما ينفع الناس، وأمور خاصة بأقوامهم وبزمانهم، وخرافات ينكرها العقل وينقضها العلم. وإذا كان الإسلام ونبيّه هو الدين الوحيد الذى عرفت حقيقته وتاريخه بالتفصيل؛ فإننا نذكر هنا شبهة علماء الإفرنج الماديين ومقلدتهم عليه، بعد مقدمة فى شهادتهم الإجمالية له، تمهيدا لدحض الشبهة، ونهوض الحجة، فنقول: درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه صلّى الله عليه وسلم درس علماء الإفرنج تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده على طريقتهم فى النقد والتحليل، ودرسوا السيرة النبوية المحمدية وفلوها فليا ونقشوها بالمناقيش، وقرءوا القرآن بلغته وقرءوا ما ترجمه به أقوامهم، وكانوا على علم محيط بكتب العهدين القديم والجديد، وتاريخ الأديان ولا سيما الديانتين اليهودية والنصرانية. وربما كتبه المتعصّبون للكنيسة من الافتراء على الإسلام والنبىّ والقرآن مما أشرنا إلى بعضه آنفا، فخرجوا من هذه الدروس كلّها بالنتيجة الآتية: «إن محمدا كان سليم الفطرة، كامل العقل، كريم الأخلاق، صادق الحديث، عفيف النفس، قنوعا بالقليل من الرزق، غير طموح بالمال، ولا جنوح إلى الملك، ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر، والمباراة فى تحبير الخطب ولا قرض الشعر، وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية، ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمية، كالخمر والميسر وأكل أموال النّاس بالباطل، وبهذا كله وبما ثبت من سيرته ويقينه بعد النبوة جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من سنّه من رؤية ملك الوحى، وإقرائه إياه هذا القرآن، وإنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه فسائر الناس».

وزادهم ثقة بصدقه أن كان أول الناس إيمانا به واهتداء بنبوته أعلمهم بدخيلة أمره وأولهم: زوجته خديجة المشهورة بالعقل والنبل والفضيلة، ومولاه زيد بن حارثة الذى اختار أن يكون عبدا له على أن يلحق بوالده وأهل بيته ويكون معهم حرا، ثم إن كان الذين آمنوا به من أعظم العرب حرية واستقلالا فى الرأى ولا سيما أبى بكر وعمر «1». فأما المؤمنون بالله وملائكته، وبأن للبشر أرواحا خالدة من هؤلاء الإفرنج فقد آمنوا بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم على علم وبرهان، وهم يزيدون عاما بعد عام، بقدر ما يتاح لهم من العلم بالإسلام، وأما الماديون فلم يكن لهم بد من تفسير لهذه الحادثة أو الظاهرة التى لا ريب فيها صحّتها وثبوتها، وتصويرها بالصورة العلمية التى يقبلها العقل، الذى لا يؤمن صاحبه بما وراء المادة أو الطبيعة من عالم الغيب. قدحوا زناد الفكر، واستوروا به نظريات الفلسفة، فلاح لهم منه سقط أبصروا فى ضوئه الضئيل الصورة الخيالية التى أجملها الأستاذ «مونتيه» فى عبارته التى نقلناها عنه آنفا، وفصلها «أميل درمنغام» وغيره بما نشرحه هاهنا (فى الفصل الثالث من هذا الكتاب). ...

_ (1) سننقل طائفة من شهادات العلماء الأحرار فى الجزء الثانى من هذا الكتاب.

الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى

الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد صلّى الله عليه وسلم بما يسمونه الوحى النفسى خلاصة رأى هؤلاء الماديين: أن الوحى إلهام كان يفيض من نفس النبى الموحى إليه لا من الخارج، ذلك أن منازع نفسه العالية وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية رديئة، يكون لها فى جملتها من التأثير ما يتجلى فى ذهنه ويحدث فى عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك يعتقد أنه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك، وإنما يرى ويسمع ما يعتقده فى اليقظة، كما يرى ويسمع مثل ذلك فى المنام الذى هو مظهر من مظاهر الوحى عند جميع الأنبياء، فكل ما يخبر به النبى كلام ألقى فى روعه، أو عن ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده. يقول هؤلاء الماديون: نحن لا نشكّ فى صدق محمد فى خبره عما رأى وسمع وإنما نقول: إنّ منبع ذلك من نفسه، وليس فيه شىء جاء من عالم الغيب الذى يقال إنه رأى عالم المادة والطبيعة، الذى يعرفه جميع النّاس؛ فإنّ هذا (الغيب) شىء لم يثبت عندنا وجوده، كما أنّه لم يثبت عندنا ما ينفيه ويلحقه بالمحال، وإنما تفسير الظواهر غير المعتادة بما عرفنا وثبت عندنا دون ما لم يثبت. ويضربون مثلا لهذا الوحى: قصة «جان دارك» الفتاة الفرنسية التى قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها بعد موتها بزمن، وهذا التصوير الذى يصوّرون به ظاهرة الوحى قد سرت شبهته إلى كثير من المسلمين المرتابين الذين يقلدون هؤلاء الماديين فى نظرياتهم المادية أو يقتنعون بها. وإننى أفتتح الكلام فى إبطال هذه الصورة الخيالية بالكلام على (جان دارك) فقد ألقى إلى سؤال عنها نشرته مع الجواب عنه فى صفحة 788 من المجلد السادس من المنار (سنة 1321) وهذا نصه:

شبهة على الوحى

شبهة على الوحى حضرة الأستاذ الرشيد: عرضت لى شبهات فى وقوع الوحى (وهو أساس الدين) فعمدت إلى رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده- حيث وقع اختيارى عليها- وقرأت فيها بابى (حاجة البشر إلى الوحى) و (إمكان الوحى) فوجدت الكلام وجيها معقولا، غير أنّ الحاجة إلى شىء لا تستلزم وقوعه، وكذا إمكانه وعدم استحالته عقلا لا يقتضى حصوله، ثم ما ذكر بعد من أن حالة النبى وسلوكه بين قومه وقيامه بجلائل الأعمال وبوقوع الخير للناس على يديه وهو دليل نبوته وتأييد بعثته، فليس شيئا؛ فإنه قد يكون (كون) النبى حميد السيرة فى عشيرته، صادقا فى دعوته- أعنى معتقدا فى نفسه- سببا فى نهوض أمته، ولا يكون كلّ ذلك مدعاة إلى الاعتقاد به، والتسليم به. وقد حدث بفرنسا فى القرن الخامس عشر الميلادى إذ كانت مقهورة للإنكليز أن بنتا تدعى (جان دارك) من أجمل النساء سيرة وأسلمهن نية، اعتقدت- وهى فى بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية- أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ودفع العدو عنه، وصارت تسمع صوت الوحى، فأخلصت فى الدعوة للقتال، وتوصّلت بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير، وغلبت به العدو فعلا، ثم ماتت عقب نصرتها ميتة الأبطال من الرجال إذ خذلتها قومها، ووقعت فى يد عدوها، فألقوها فى النّار حيّة، فذهبت تاركة فى صحائف التاريخ اسما يعبق نشره وتضوع رياه، وهى الآن موضع إجلال القوم وإعظامهم؛ فلقد تيسرت لهم النهضة بعدها، وجروا فى العلم والرقى بعيدا. فهل يجزم لذلك أن تلك البنت نبية مرسلة؟ ربما تذهبون إلى أن عملها لا يذكر مقارنا بما أتت به الرسل وما وصل للناس من الخير بسببهم، فأقول: هل هناك من ميزان نزن به الأعمال النافعة لنعلم إن كانت وصلت إلى الدرجة التى يجب معها أن نصدق دعوة صاحبها؟ وهل لو ساعدت الصدف (كذا) رجلا على أن يكون أكبر الناس فعلا، وأبقاهم أثرا، واعتقد برسالة نفسه لوهم قام (عنده) يفضى بنا ذلك إلى التيقن من رسالته؟. أظن أن هذا كله- مضافا لغيره- يدعو إلى الترجيح ولا يستلزم اليقين أبدا على أننى أنتظر أن تجدوا فى قولى هذا خطأ تقنعوننى به أو تزيدوننى إيضاحا، ينكشف به الحجاب،

جواب المنار

وتنالون به الثواب، هذا وإنى أعلم من فئة مسلمة ما أعلمه من نفسى ولكنّهم يتحفظون فى الكتمان، ويسألون الكتب خشية سؤال الإنسان، ولكننى لا أجد فى السؤال عارا، وكل عقل يخطئ ويصيب، يزل ويستقيم. (أحد قرائكم) جواب المنار لقد سرنا من السائل أنه على تمكن الشبهة من نفسه لم يذعن لها تمام الإذعان فيسترسل فى تعدى حدود الدين إلى فضاء الأهواء والشبهات التى تفسد الأرواح والأجسام، بل أطاع شعور الدين الفطرى، ولجأ إلى البحث فى الكتب، ثم السؤال ممن يظن فيهم العلم، بما يكشف الشّبهة، ويقيم الحجّة، وإن كثيرا من الناس لينصرفوا عن طلب الحق عند أول قزعة من الشبهة تلوح فى فضاء أذهانهم، لأنّهم شبّوا على حبّ التمتع والانغماس فى اللذة، ويرون الدين صادا لهم عن الانهماك والاسترسال فيها، فهم يحاولون إماتة شعوره الفطرى، كما أمات النشوء فى الجهل برهانه الكسبى. أرى السائل نظر من رسالة التوحيد فى المقدمات ووعاها، ولكنه لم يدقق النظر فى المقاصد والنتائج، لذلك نراه مسلما المقدمات دون النتيجة مع اللزوم بينهما، فإذا هو عاد إلى مبحث (حاجة البشر إلى الرسالة) وتدبره وهو مؤمن بالله، وأنه أقام الكون على أساس الحكمة البالغة والنظام الكامل، فإننى أرجو له أن يقتنع، ثم إننى آنست منه أنه لم يقرأ مبحث (وقوع الوحى والرسالة) أو لعله قرأه ولم يتدبره، فإنه لم يذكر البرهان على نفس الرسالة ويبنى الشبهة عليه، وإنما بناها على جزء من أجزاء المقدمات، وهى القول فى بعض صفات الرسل عليهم السلام، وإننى أكشف له شبهته أولا فأبين أنها لم تصب موضعها، ثم أعود إلى رأى فى الموضوع. إنّ (جان دارك) التى اشتبه عليه أمرها بوحى الأنبياء لم تقدم بدعوة إلى دين أو مذهب تدعى أن فيه سعادة البشر فى الحياة وبعد الموت كما هو شأن جميع المرسلين، ولم تأت بآية كونية ولا علمية لا يعهد مثلها من كسب البشر تتحدى بها الناس ليؤمنوا بها، وإنما كانت فتاة ذات وجدان شريف هاجه شعور الدين، وحركته مزعجات السياسة فتحرك، فنفر،

فصادف مساعدة من الحكومة، واستعدادا من الأمة للخروج من الذلّ الذى كانت فيه، وكان التحمس الذى حركته سببا للحملة الصادقة على العدو وخذلاته. وما أسهل حماسة أهل فرنسا بمثل هذه المؤثرات وبما هو أضعف منها، فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين بكلمة شعرية يقولها ككلمته المشهورة عند الأهرام. وأذكّر السائل الفطن بأنّه لم يوافق الصواب فى إبعاد الفتاة عن السياسة ومذاهبها فقد جاء فى ترجمتها من دائرة المعارف العربية (للبستانى) ما نصه: «كانت متعودة الشغل خارج البيت كرعى المواشى وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت، وكان الناس فى جوار دومرى (أى بلدها) متمسكين بالخرافات ويميلون إلى حزب أورليان فى الانقسامات التى مزقت مملكة فرنسا، وكانت «جان دارك» تشترك فى الهياج السياسى والحماسة الدينية، وكانت كثيرة التخيل والورع، تحب أن تتأمل فى قصص العذراء وعلى الأكثر فى نبوة كانت شائعة فى ذلك الوقت، وهى أن إحدى العذارى ستخلص فرنسا من أعدائها، ولما كان عمرها 13 سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة الطبيعية وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها ورؤى كانت تراها، ثم بعد ذلك ببضع سنين خيل لها أنها قد دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها، ثم وقع البرغنيور تعديا على القرية التى ولدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خيل لها». ثم ذكر بعد ذاك توسله إلى الحكام وتعيينها قائدة لجيش ملكها، وهجومها بعشرة آلاف جندى ضباطهم ملكيون على عسكر الإنكليز الذين كانوا يحاصرون أورليان، وأنها دفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار فى مدة أسبوع، وذلك سنة 1429، ثم ذكر أنها بعد ذلك زالت أخيلتها الحماسية، ولذلك هوجمت فى السنة التالية 1430 فانكسرت وجرحت وأسرت. فمن ملخص القصة، يعلم أن ما كان منها إنما هو تهيج عصبى سببه التألم من تلك الحالة السياسية التى كان يتألم منها من نشأت بينهم مع معونة التحمس الدينى والاعتقادات بالخرافات الدينية التى كانت ذائعة فى زمنها، وهذا شىء عادى معروف السبب، وهو من قبيل الذين يقومون باسم المهدى المنتظر كمحمد أحمد السودانى، والباب الإيرانى (وكذا البهاء والقاديانى)، بل الشبهة فى قصتها أبعد من الشبهة فى قصة هذين الرجلين، وإن كانت أسباب النهضة متقاربة، فإنّ هذين كانا كأمثالهما يدعوان إلى شىء (ملفق) يزعمان أنه إصلاح للبشر فى الجملة.

أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، والمعروفة السبب، التى لا دعوة فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعى، إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق التى هى مشتركة بين الإنسان والحيوان الأعجم التى لا حجّة تدعمها، ولا معجزة تؤيدها. التى اشتعلت بنفخة، وطفئت بنفخة؟. أين هى من دعوة الأنبياء التى بيّن الأستاذ الإمام إنها حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشرى، طلبها هذا النوع بلسان استعداده فوهبها له المدبر الحكيم (الذى أعطى كلّ شىء خلقه ثمّ هدى) فسار الإنسان بذلك إلى كماله، فلم يكن أدنى من سائر المخلوقات الحية النامية، بل أرقى وأعلى؟ وأين دليلها من أدلة النبوّة؟ وأين أثرها من أثر النبوة؟. إن الأمم التى ارتقت بما أرشدها إليه تعليم الوحى إنما ارتقت بطبيعة ذلك التعليم وتأثيره. وإن فرنسا لم ترتق بإرشاد (جان دارك) وتعليمها، وإنما مثلها مثل قائد انتصر فى واقعة فاصلة بشجاعته، وبأسباب أخرى ليست من صنعه، واستولت أمته بسبب ذلك على بلاد رقتها بعلوم علمائها، وحكمه حكمائها، وصنع صناعها، ولم يكن القائد يعرف من ذلك شيئا ولم يرشد إليه، فلا يقال إن ذلك القائد هو الذى أصلح تلك البلاد، وعمّرها ومدّنها، وإن عدّ سببا بعيدا فهو شبيه بالسبب الطبيعى، كهبوب ريح تهيج البحر فيغرق الأسطول وتنتصر الأمة. أين حال تلك الفتاة التى كانت كبارقة خفت (أى ظهرت وأو مضت) ثم خفيت وصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، ومن حال شمس النبوّة المحمدية التى أشرقت فأنارت الأرجاء، ولا يزال نورها متألق السناء؛ أمى يتيم قضى سن الصبا وشرخ الشباب هادئا ساكنا لا يعرف عنه علم ولا تخيل، ولا وهم دينى ولا شعر ولا خطابة، ثم صاح على رأس الأربعين بالعالم كلّه صيحة؛ إنكم على ضلال مبين، فاتبعون أهدكم الصّراط المستقيم، فأصلح وهو الأمى أديان البشر؛ عقائدها وآدابها وشرائعها، وقلب نظام الأرض فدخلت بتعليمه فى طور جديد؟. لا جرم أنّ الفرق بين الحالين عظيم، إذا أنعم النظر فيه العاقل الحكيم، ولا سعة فى جواب سؤال كهذا لتقرير الدليل على النبوة بالتفصيل، وإنما أحيل السائل على التأمل فى بقية بحث النبوة فى رسالة التوحيد، ومراجعة ما كتبناه أيضا من الأمالى الدينية فى المنار، ولا سيّما الدرس الذى عنوانه (الآيات البيّنات، على صدق النّبوات) وإن كان يصدق على

تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة

رسالة التوحيد المثل «كلّ الصّيد فى جوف الفرا «1»»، فإن بقيت عنده شبهة فالأولى أن يتفضل بزيارتنا لأجل المذاكرة الشفاهية فى الموضوع؛ فإن المشافهة أقوى بيانا، وأنصع برهانا، ونحن نعاهده على أن نكتم أمره وإن أبى فليكتب إلينا ما يظهر له من الشبهة على ما فى الرسالة والأمالى من الاستدلال على وقوع النبوة بالفعل، وعند ذلك نسهب فى الجواب بما نرجو أن يكون مقنعا، على أن المشافهة أولى كما هو معقول، وكما ثبت لنا بالتجربة مع كثير من المشتبهين والمرتابين. أ. هـ. جوابنا فى المنار «2». هذا وإن ما بينه الأستاذ الإمام فى إثبات وقوع الوحى لا يستطيع أحد فهمه حقّ الفهم، وهو يؤمن بوجود الله العلى الحكيم الفاعل المختار إلّا أن يقبله ويذعن له، فإنه بين أن الوحى والرسالة بالمعنى الذى قرره لازم عقلى لعلمه تعالى وحكمته وكونه هو (الذى أعطى كلّ شىء خلقه ثمّ هدى)، ولا يفهمه حقّ الفهم إلا من أوتى نصيبا من علم الاجتماع وحكمة الوجود وسننه وأصول العقائد، ونصيبا آخر من بلاغة اللغة العربية، وأن نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ورسالته يمكن إثباتها بما دون هذه الفلسفة والبلاغة، وهو ما قهر عقول علماء الإفرنج على تصديق دعوته، وحمل الماديين على تصويرها بما نبسطه فيما يأتى ونقفى عليه بإثبات بطلانه. تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة قد فصل (أميل درمنغام) الشبهة التى أجملها مونتيه بما لم نر مثله لغيره من كتاب الإفرنج، حتى اغتر بكلامه كثير من المسلمين، وأنه لحسن الثناء ولكنه يسرّ حسوا فى ارتغاء، فإن كان حكيمنا السيد/ جمال الدين قال لبعض مجادلى النصرانية: «إنكم فصلتم قميصا من رقاع العهد القديم وألبستموها للمسيح عليه السلام». فنحن نقول لهم: «إنكم فصلتم قميصا آخر مما استنبطتم من تاريخ الإسلام لا من نصوصه، وحاولتم خلعها على محمد صلّى الله عليه وسلم». وإننى أشرح هذه الشبهة بأوضح مما كتبه درمنغام، وما بلغنى عن كل أحد منهم، ثم أكر عليها بالنقض والدحض، وأبدأ بمقدماتها وهى عشر:

_ (1) الفراء- بفتح الفاء مقصورا- اسم لحمار الوحش وهو خير ما يصاد لكبره وكثرة لحمه وجودته، وأصل المثل أن ثلاثة رجال خرجوا للصيد فاصطاد أحدهم أرنبا والآخر ظبيا، واصطاد الثالث حمارا وحشيا، فقال لهما وقد أعجب بما أصاب (كل الصيد فى الفرا) أى كل ما يصاد يصغر دونه، كأنه يغيب فى جوفه. (2) الظاهر أن ذلك السائل قد اقتنع بجوابنا إذ لم يكتب لنا بعده شيئا، وكذلك الأستاذ فقد رضى به وأعجبه.

المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب

المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى دعوى الأخذ عن بحيرا الراهب قالوا: إن محمدا لقى بحيرا الراهب فى مدينة بصرى بالشّام، وقالوا: إنه كان نسطوريا من أتباع آريوس فى التوحيد، وينكر ألوهية المسيح وعقيدة التثليث، وأن محمد لا بد أن يكون على علم من عقيدته، وقالوا فى بحيرا أيضا: إنه كان عالما فلكيا منجما، وحاسبا ساحرا. وإنه كان يعتقد أن الله ظهر له وأنبأه بأن سيكون هاديا لآل إسماعيل إلى الدين المسيحى، بل سمعنا من بعض الرهبان أنه كان معلما لمحمد ومصاحبا له بعد رسالته، وأن محمدا ما حرم الخمر إلا لأنه قتل أستاذه بحيرا وهو سكران. وأسرفوا فى هذه الافتراء والبهتان، وكل ما عرفه المسلمون من رواة السيرة النبوية أن النبى صلّى الله عليه وسلم لما خرج مع عمه أبى طالب إلى الشام وهو ابن تسع سنين وقيل 12 سنة رآه هذا الراهب مع قريش ورأى سحابة تظلله من الشمس، وذكر لعمه أنه سيكون له شأن، وحذره من اليهود وفى المسألة روايات بمعناها ضعيفة الأسانيد، إلا رواية للترمذى ليس فيها اسم بحيرا وفيها غلط فى المتن وليس فى شىء من تلك الروايات أنه صلّى الله عليه وسلم سمع من بحيرا شيئا من عقيدته أو دينه. المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل قالوا: إن ورقة بن نوفل كان من منتصرة العرب العلماء بالنصرانية وأحد أقارب خديجة- يوهمون القارئ أنه صلّى الله عليه وسلم أخذ عنه شيئا من علم أهل الكتاب- والذى صحّ من خبر ورقة هذا، هو ما رواه الشيخان فى الصحيحين، وغيرهما من أن خديجة أخذته صلّى الله عليه وسلم عقب إخباره إياها بما رآه فى حراء إلى ورقة هذا وأخبرته خبره، وكان شيخا قد عمى، ولم يلبث بعد ذلك أن توفى، ولم ينقل أن النبى صلّى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك، (وسأذكر نص الحديث فى آخر هذا المبحث)، وقد استقصى المحدثون والمؤرخون كل ما عرف عن ورقة هذا مما صح سنده، ومما لم يصح له سند كدأبهم فى كل ما له علاقة بالنبى صلّى الله عليه وسلم والإسلام، فلم يذكر أحد منهم أنه عرف عنه دعوة إلى النصرانية أو كتابة فيها، وإنما ورد فى بعضها أنه قال حين علم من خديجة خبر محمّد: إنه هو النبىّ المنتظر الذى بشرّ به المسيح عيسى ابن مريم، وفى بعضها، أنه عاش حتى رأى بلالا يعذّبه المشركون ليرجع عن الإسلام، ولكن هذه الرواية

المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب

شاذة مخالفة لحديث عائشة الصحيح أنه كان عند بدء الوحى أعمى ولم ينشب (أى لم يلبث) أن مات، وقد كان تعذيب بلال بعد إظهار دعوة النبوة ودخول الناس فيها، وكان هذا بعد بدء الوحى بثلاث سنين. وأميل درمنغام قد غلط فيما نقله عن خبر فترة الوحى لاختلاط الروايات عليه فيها، وعدم اطلاعه على ما دوّن فى كتب الحديث منها، وإنما كان هم المحدثين فى خبر ورقة أن يعلموا أكان صحابيا أم لا؟ فإنّ الصحابىّ هو من لقى النبىّ صلّى الله عليه وسلم بعد البعثة مؤمنا به، ولو بلغهم عنه أى شىء من علمه بالتوراة أو الإنجيل غير ما ذكروه لنقلوه. المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب ذكروا ما كان من انتشار اليهودية والنصرانية فى بلاد العرب قبل الإسلام، ومن تنصر بعض فصحاء العرب وشعرائهم، كقس بن ساعدة الأيادى، وأمية بن أبى الصلت وإشادة هؤلاء بما كانوا يسمعون من علماء أهل الكتاب عن قرب ظهور النبى الذى بشر به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، وقد نشرنا بعض بشاراتهم من التوراة والأناجيل وكتب النبوات بنصوصها المعتمدة عندهم فى تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] ولكن لم يثبت أنه صلّى الله عليه وسلم سمع منها شيئا. فأما قس فقد مات قبل البعثة. وروى أن النبى صلّى الله عليه وسلم رآه قبل البعثة بزمن طويل يخطب الناس فى سوق عكاظ على جمل له احمر وقيل أورق، بكلام له مونق، قال فيه: «إن لله دينا خيرا من دينكم الذى أنتم عليه ونبيا قد أظلكم زمانه، وأدرككم آوانه، فطوبى لمن أدركه فاتبعه، وويل لمن خالفه». والروايات فى هذا ضعيفة، (بل بعضها موضوع وبعضها منقطع)، وتعددها قد يدل على أن لها أصلا، ولو حفظ من كلامه شىء بسند صحيح لبينوه قطعا. وأما أمية بن أبى الصلت الثقفى فهو شاعر مشهور، قال أبو عبيدة: اتفقت العرب على أن أمية أشعر ثقيف، وقال الزبير بن بكار: حدّثنى عمّى قال كان أمية فى الجاهلية نظر الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدا، وكان يذكر إبراهيم وإسماعيل والحنفية، وحرم الخمر،

المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى

وتجنّب الأوثان، وطمع فى النبوة؛ لأنه قرأ فى الكتب أن نبيا يبعث بالحجاز، فرجا أن يكون هو، فلما بعث النبى صلّى الله عليه وسلم حسده فلم يسلم، وهو الذى رثا قتلى بدر المشركين بالقصيدة التى أولها: ماذا ببدر والعقن ... قل من مرازبة جحاجح وفى المرآة عن ابن هشام أنه كان آمن بالنبى صلّى الله عليه وسلم، فقدم الحجاز ليأخذ ماله من الطائف ويهاجر، فعلم بغزوة بدر وقتلى صناديد قريش فيها، فجدع آنف ناقته وشقّ ثوبه وبكى لأن فيهم ابني خاله، وعاد إلى الطائف ومات فيها، وصحّ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم استنشد الشريد بن عمرو من شعره فأنشده فقال: «كاد أن يسلم» والمعروف أنه كان حنيفيا على ملّة إبراهيم ولم يتنصره، ولم يلق النبى صلّى الله عليه وسلم قبل النبوة ولا بعدها ومن شعره: كلّ دين يوم القيامة عند الل ... هـ إلّا دين الحنيفة زور المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى كان سلمان الفارسى رضى الله عنه فارسيا مجوسيا فتنصر على يد بعض الرهبان وصحب غير واحد من عبادهم، وسمع منهم أو من آخرهم بقرب ظهور النبى الذى بشر به عيسى والأنبياء من العرب، فقصد بلاد العرب وبيع لبعض يهود يثرب ظلما وعدوانا ولم ير النبىّ صلّى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة فأسلم وكاتب سيده (أى اشترى نفسه منه) وفى قصته روايات متعارضة وهذا هو المراد منها لدرمنغام وغيره. المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش ذكروا ما كان من رحلة تجار قريش فى الشتاء إلى اليمن، وفى الصيف إلى الشام واجتماعهم بالنصارى فى كل منهما كلما مروا بدير أو صومعة للرهبان، وكان هؤلاء النصارى يتحدثون بقرب ظهور نبى من العرب.

المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة

المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة زعم درمنغام أنه كان بمكة نفسها أناس من اليهود والنصارى، ولكنهم كانوا عبيدا وخدما وكان رؤساء قريش لا يسمحون لهم أن يسكنوا فى مكّة حرمهم المقدس الخاص بوثنيتهم وأصنامهم، بل كان هؤلاء يسكنون فى أطراف مكة (فى المنازل البعيدة عن الكعبة المتاخمة للصحراء)، وكانوا يتحدثون بقصص عن دينهم لا تصل إلى مسامع رؤساء قريش وعظمائهم، أو ما كانوا يحفلون بها لسماع أمثالها فى رحلاتهم الكثيرة، ولكنه ذكر أن أبا سفيان عتب على أمية بن أبى الصلت كثرة تكريره لما يذكره الرهبان من هذا الأمر. فهذه مقدمات يذكرها كتاب الإفرنج لتعليل ما ظهر به محمّد صلّى الله عليه وسلم من دعوى النبوة يعنون أنه سمع ما سمع من أخبارها فتعلّقت نفسه به، على طريقتهم فى الاستنباط، وما يسمونه النقد التحليلى، ويقرنون بها مقدمات أخرى فى وصف حالته النفسية والعقلية، وحالة قومه وما استفاده منها من تأثير وعبرة. فنلخصها مضمومة إلى ما قبلها، مع الإلمام بنقدها. المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمّد صلّى الله عليه وسلم أميا وما استفاد من رحلاته التجارية قال درمنغام فى كفالة أبى طالب لمحمد بعد وفاة جده: «إنه لم يكن غنيا فلم يتح له تعليم الصبى الذى بقى أميا طوال حياته (يوهم القارئ أن أولاد الموسرين بمكة كانوا يتعلّمون، كأن هناك مدارس يعلم فيها النشء بالأجور كمدارس بلاد الحضارة وهذا باطل لا أصل له) ثم قال: ولكنه كان يستصحبه وإياه فى التجارة فيسير والقوافل خلال الصحراء يقطع هذه الأبعاد المتنائية، وتحدق عيناه الجميلتان بمدين ووادى القرى وديار ثمود، وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب والبادية عن هذه المنازل وحديثها وماضى نبئها، ويقال إنه فى إحدى هذه الرحلات إلى الشام التقى بالراهب بحيرا فى جوار مدينة بصرى، وأن الراهب رأى فيه علامات النبوة على ما تدله عليه أنباء كتبه، وفى الشام عرف محمد أحبار الروم ونصرانيتهم وكتابهم، ومناوأة الفرس من عباد النار لهم، وانتظار الوقيعة بهم». كل ما ذكره درمنغام هنا هو من مخترعات خياله، ومبتدعات رأيه، ألبسه حلة من طراز

المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها

البيان الإفرنسى، إلا مسألة بحيرا الراهب فأصلها ما ذكرنا، وكأنه لم يحفل بإثباتها، لما يعلمه من مفتريات رجال الكنيسة فيها. فمحمد صلّى الله عليه وسلم لم يذهب مع عمّه إلى التجارة فى الشام إلا وهو طفل- كما تقدم- وقد أعاده إلى مكة قبل إتمام رحلته، ثم سافر إليها فى تجارة خديجة وهو شاب مرة واحدة، ولم يتجاوز سوق مدينة بصرى فى المرتين، والقوافل التى تذهب إلى الشام لم تكن تمر بمدين وهى فى أرض سيناء، ولم تكن هذه القوافل تضيّع شيئا من وقتها للبحث مع العرب أو الأعراب فى طريقها عن أنبائها والتاريخ القديم لبلادها، ولم يعرف عن تجارها أنهم كانوا يعنون بلقاء أحبار النصارى ومباحثتهم فى دينهم وكتبهم، فمن أين جاء لدر لدرمنغام أن محمدا هو الذى كان يشتغل فى تلك التجارة بالبحث عن الأمم والتواريخ والكتب والأديان، ويعنى بلقاء رؤسائها والبحث معهم كما يفعل رواد العلم والتاريخ، وجواسيس السياسة من الإفرنج فى هذا العصر إنما اخترع هذا لأنه لا يستطيع تعليل ما جاء فى القرآن من قصص الرسل إلا به، وكذلك الأنباء بغلب الروم للفرس كما سيأتى. وسترى ما نفند به تعليله وتحليله، على تقدير صحة ما زعمه كله. المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة وشأن محمد فيها ثم ذكر درمنغام أن العرب- ولا سيما أهل مكة- كانوا يصرفون معظم أوقاتهم بعد ما يكون من تجارة أو حرب فى الاستمتاع بالذات من السكر والتسرى وغير ذلك، وأنّ التاريخ يشهد بأن محمدا كان يراهم ولم يكن يشاركهم فى ذلك، لا لفقره وضيق ذات يده، بل لما صوره بقوله «لكن نفس محمد كانت شغوفا بأن ترى وأن تسمع وأن تعرف، وكأن حرمانه من التعليم الذى كان يعلمه أنداده جعله أشد للمعرفة شوقا، وبها تعلقا، كما أن النفس العظيمة التى تجلت فيه من بعد ذلك آثارها، وما زال يغمر العالم سلطانها، كانت فى توقها إلى الكمال ترغب عن هذا اللهو الذى يطمح إليه أهل مكة، إلى نور الحياة المتجلى من كل مظاهر الحياة لمن هداه الحق إليها لاستكناه ما تدل هذه المظاهر عليه، وما تحدث الموهوبون به، لعله يريد الملهمين. هذا الخبر من مخترعات خيال درمنغام، فمحمد لم يكن شغوفا بأن يرى ما يفعله فسّاق قومه من فسق وفجور، ولا أن يسمع ذلك، ولا كان يتحرّى أن يعرفه، وقد ثبت عنه أنه

المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه

لم يحضر سمرهم ولهوهم إلا مرتين ألقى الله عليه النوم فى كل منهما، حتى طلعت الشمس فلم ير ولم يسمع شيئا، وقد بطل بهذا ما علل به الخبر على ما فيه من المدح المتضمن لدسيستين: (إحداهما): أن أنداده من قريش كانوا متعلمين وكان هو محروما مما لقنهم آباؤهم من العلم، وكان حرمانه هذا يزيده شغفا بالبحث والاستطلاع. (والثانية): أن نفسه كانت بسبب هذا تزداد طموحا إلى نور الحياة المتجلى فى جميع مظاهرها لاستكناه ما تدل عليه المظاهر. فهذه مدحة غرضه منها تعليل ما انبثق فى نفسه صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك من الوحى، وسترى بطلان تعليله. المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد وما أثاره فى نفسه ثم ذكر درمنغام مسألة أبناء النبى صلّى الله عليه وسلم القاسم، والطيّب، والطاهر، وهو يشك فى وجودهم، ويقول إن تكنيته بأبى القاسم لا تدلّ على وجود ولد له بهذا الاسم، وإنه إن صحّ أنهم ولدوا فقد ماتوا فى المهد، هذا زعم ووهم، والحق أنه ولد له غلام سماه القاسم وكنى به وأنه مات طفلا. وقيل عاش إلى أن ركب الدابة فهذا متواتر. ثم ولد له آخر سماه عبد الله، والصحيح أنّ الطيّب والطاهر لقبان له لا اسمان لغلامين آخرين كما قيل «1»، ولكن درمنغام قد كبر مسألة موت هؤلاء الأولاد الذين يشك فى وجودهم تكبيرا، وبنى عليها حكما، وأثار وهما، قال بعد أن زعم أن محمدا تبنى زيد بن حارثة؛ لأنه لم يطق على الحرمان من البنين صبرا: «فمن حق المؤرخ أن يجعل هذا الحادث؛ بل الحوادث الثلاثة التى أصابت محمدا فى بنيه ما هى جديرة بأن تتركه فى حياته وفى تفكيره من أثر، والأمر كذلك بنوع خاص إن كان محمدا أميا، فلم تكن المضاربات الجدلية (كذا) لتصرفه عن التأثر بعبر الحوادث ودروسها، وحوادث أليمة- كوفاة أبنائه- جديرة بأن تستوقف تفكيره، وأن تصرفه كل واحد منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة، وتنحر لهبل واللات والعزّى

_ (1) وقع فى الطبعتين السابقتين أنهما كانا لقبين للقاسم وهو سهو. وحكمة موتهما ثم موت ولده إبراهيم الذى ولدته له ماريّة القبطية أنه لو ترك ولدا ذكرا لفتن بعض الناس بعبادته وعبادة ذريته بأشد مما فتنوا ببعض ذرية بنته فاطمة- رضى الله عنها-.

ومناة الثالثة الأخرى، تريد أن تفتدى نفسها من ألم الثكل، فلا تفيد القربان ولا تجدى النحور». قال: «والأمر كان كذلك، لا ريب أن كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع فى النفوس تحت ضغط النصرانية الآتية من الشام منحدرة إليها من الروم، ومن اليمن متخطية إليها من خليج العرب (البحر الأحمر) من بلاد الحبشة». غرض درمنغام من تكبير المصيبة بموت الأبناء المشكوك فى ولادتهم عنده، هو أن يجعلها مسوغة لما اختلقه من توسل خديجة إلى الأصنام بالقرابين لينقذوها من مصيبة الثكل ثم يستنبط من ذلك زعزعة إيمانها إيمان بعلها بعبادتها التى كان سببها تأثير النصرانية فى مكة وغيرها من بلاد العرب، ثم ليجعل ذلك من الأسباب التحليلية لتعليل الوحى لمحمّد صلّى الله عليه وسلم. والحق أنه ما تبنى زيدا إلا لأنه أثر أن يكون عبدا له على أن يكون حرا مع والده وعمه عند ما جاءا مكة لافتدائه بالمال فقال لهما: «ادعوه فخيّروه فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء»، ثم دعاه فسأله عن أبيه وعمه فعرفهما، فقال له: «فأنا من قد علمت وقد رأيت صحبتى لك فاخترنى أو اخترهما» فقال زيد: ما أنا بالذى أختار عليك أحدا، أنت منّى بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا. فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: «أشهدوا أن زيدا ابني يرثنى وأرثه»، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما. فدعى زيد: ابن محمّد، حتى جاء الله بالإسلام. رواه ابن سعد ونحوه فى سيرة ابن اسحاق. هذا وإنّ محمدا لم يكن جزوعا عند موت ولده ولا غيره، بل كان أصبر الصابرين، وإنّ خديجة لم تيأس بموت القاسم من الله أن يمنّ عليها بولد آخر، ولم تنحر للأصنام شيئا، وإن اللات كانت صخرة فى الطائف تعبدها ثقيف ولم تكن من أصنام قريش، والعزّى كانت شجرة ببطن نخلة تعبدها قريش وكنانة وغطفان، ومناة كان صنما فى قديد لبنى هلال وهذيل وخزاعة. وقد كان ما ذكره من ضعف الوثنية فى ذلك العهد- وزعم أن سببه انتشار النصرانية- جديرا بأن يمنع خديجة- وهى من أعقل العرب وأسلمهم فطرة وأقربهم إلى الحنيفية ملة إبراهيم- أن تهاجر إلى الأصنام لتنحر لها وتتقرب إليها لترزقها غلاما «1»،

_ (1) إن قريشا لم تكن تعتقد أن الأصنام تخلق ولا ترزق، ولا تضر ولا تنفع، إنما كانوا يقولون إنها تشفع لهم عند الله.

المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام

فإن لم يمنعها عقلها وفطرتها فأجدر ببعلها المصطفى أن يمنعها من ذلك وهو عدو الوثنية والأصنام من طفولته- كما يعترف درمنغام- ولكن اتباع الهوى ينسى صاحبه ما لم يكن لينساه لولاه. المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب، وتعبد محمد فى الغار وسببها بزعم درمنغام زعم درمنغام أن ما ذكره من تغلغل النصرانية فى بلاد العرب أوجد فيها حالة نفسية أدت إلى زيادة إمعانهم فيما كانوا يسمونه فى الجاهلية التحنث أو التحنف، وزعمه هذا له أصل ولكنه زاد فيه وكبره وفرع عليه قوله: «وكان محمّد يجد فى التحنث طمأنينة لنفسه أن كان له بالوحدة شغف، وأن كان يجد فيها الوسيلة إلى ما برح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما فى الكون من أسبابها، فكان ينقطع كل رمضان طول الشهر فى غار حراء بحبل أبى قبيس مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ليمضى أياما طويلة بالغار فى التأمل والعبادة بعيدا عن ضجة الناس وضوضاء الحياة». وأقول: إنّ روايات المحدثين تفيد أنه حبّب إليه الخلاء والوحدة والتحنّث فى غار حراء فى العام الذى جاءه فيه الوحى، وكان هو يحمل الزاد، وما كان أحد يحمله إليه، وما ذكره ابن إسحاق من تعبده فيه فى شهر رمضان كل سنة إنما كان فى زمن فترة الوحى كما سيأتى. ولم يكن فى أعوام ولا شهور قبله. وأما قوله: إنه كان يتوسّل بذلك إلى ما اشتد شوقه إليه من المعرفة وابتغاء الإلهام مما فى الكون من أسبابها، فهو مما يخطر فى بال الباحث فى حياة رجل صدر عنه عقب هذه الخلوة ما صدر من علم ومعرفة وإصلاح، وإرشاد إلى النظر والتفكير فى آيات السموات والأرض، ولكن لم يرو عنه صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقصد ذلك ويبتغيه، ولا روى عن أصحابه وأترابه الذين كانوا يعرفون سيرته الطاهرة وآمنوا به كأبى بكر وعثمان وعميه حمزة والعباس، ولا عن ربيبه وصفيه وابن عمه علىّ، ولا حبه ومولاه زيد بن حارثة- رضى الله عنهم-، والتحقيق فى ذلك كله ما تراه فى المباحث الآتية:

نتيجة تلك المقدمات العشر

نتيجة تلك المقدمات العشر هنا وصل درمنغام إلى آخر المقدمات التى تتصل بالنتيجة المطلوبة له، فأرخى لخياله العنان، ونزع من جواده اللجام، ونخسه بالمهماز، فعدا به سبحا، وجمح به جمحا، وأورت حوافره له قدحا فأثارت له نقعا وأذن لشاعريته الفرنسية فى بريق لمعها، وظلمة نقعها، أن تصف محمدا عند ذلك الغار، بما تحدثه فى نفسه مشاهد نجوم الليل وما تسفعه به شمس النهار، وما تخيل إليه أنه كان يراه فى قنة الجبل من صحارى وقفار، وخيام وآبار، وما ثم خيام ولا آبار، ومن رعاة تهشّ على غنمها حيث لا أشجار، حتى ذكر البحار على بعد البحار، وسيذكر موج البحر أيضا، ونسى أن يصف الفلك المواخر فيه، وما يعرض لها فى حالة الرهو والريح الطيبة، وحالة العواصف والأمواج المصطخبة، فكل منهما فى القرآن، ولم يكن رآه محمد من جبل حراء. قد أتقن هذا الفرنسى التخيل الشعرى، ولكنه لم يوافق به الوصف الموضعى. ثم قال مصورا لما يبتغيه محمد صلّى الله عليه وسلم من مشاهداته المزعومة: «وهذه النجوم فى ليالى صيف الصحراء كثيرة شديدة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها، وكأنه نغم نار موقدة». «حقا! إنّ السّماء لشارات للمدركين، وفى العالم غيب كلّه. ولكن ألا يكفى أن يفتح الإنسان عينيه ليرى، وأن يرهف أذنه ليسمع؟ ليرى حقا؟ وليسمع الكلم الخالد؟ لكنّ النّاس عيونا لا ترى وآذانا لا تسمع. أما هو فيحسب (!!) أنه يسمع ويرى. وهل تحتاج لكى تسمع ما وراء السماء من أصوات إلا إلى قلب خالص ونفس مخلصة وفؤاد ملئ إيمانا؟». «ومحمّد فى ريب من حكمة الناس، فهو لا يريد أن يعرف إلا الحقّ الخالص، الذى لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه باطل، وهو يستطيع العيش إلا بالحقّ، والحق ليس فيما يرى حوله، فحياة القرشيين ليست حقا، وربا المرابين، ونهب البدو، ولهو الخلعاء وكل ما إلى ذلك لا شىء من الحق فيه، والأصنام المحيطة بالكعبة ليست حقا، وهبل الإله الطويل الذقن الكثير العطور والملابس ليس إلها حقا». «إذن فأين الحقّ وما هو؟». «وظل محمّد يتردّد على حراء فى رمضان من كلّ عام سنوات متوالية، وهناك كان يزداد

به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لكان ينسى نفسه، وينسى طعامه، وينسى كلّ ما فى الحياة لأن هذا الذى يرى فى الحياة ليس حقا. وهناك كان يقلب فى صحف ذهنه كمل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة واوزارا، وهو لم يكن يطمع فى أن يجد فى قصص الأحبار وفى كتب الرهبان الحق الذى ينشد، بل فى هذا الكون المحيط به: فى السماء ونجومها وقمرها وشمسها، وفى الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء وساعات صفوها البديع، إذ تكسوها أشعّة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندى. وفى البحر وموجه! وفى كلّ ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود، وتشمله وحدة الوجود- فى هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا ابتغاء إدراكها. كان يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتصل بهذا الكون وليخترق شغاف الحجب إلى مكنون سره». (قال درمنغام): «فلما كانت سنة 610 أو نحوها كانت الحالة النفسية التى يعانيها محمد على أشدها. فقد أبهظت عاتقه العقيدة بأن أمرا جوهريا ينقصه وينقص قومه، وأن الناس نسوا هذا الأمر الجوهرى وتشبث كل بصنم قومه وقبيلته، وخشى النّاس الجنّ والأشباح والبوارح. وأهملوا الحقيقة العليا، ولعلهم لم ينكروها، ولكنهم نسوها نسيانا هو موت الروح. وقد خلصت نفس محمد من كلّ هذه الآراء التافهة، ومن كلّ القوى التى تخضع لقوة غيرها، ومن كل كائن ليس مظهرا للكائن الواحد. ولقد عرف أن المسيحيين فى الشام ومكة لهم دين أوحى به! وأن أقواما غيرهم نزلت عليهم كلمة الله، وأنهم عرفوا الحق ووعوه أن جاءهم علم من أنبياء أوحى إليهم به. كلما ضل الناس بعثت السماء إليهم نبيا يهديهم إلى الصراط المستقيم ويذكرهم بالحقيقة الخالدة، وهذا الدين الذى جاء به الأنبياء فى كل الأزمان دين واحد، وكلما أفسده النّاس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم. وقد كان الشّعب العربىّ يومئذ فى أشد تيهاء الضلال. أفما آن لرحمة الله أن تظهر فيهم مرة أخرى وأن تهديهم إلى الحقّ؟». «وتزايدت رغبة محمّد عن الاجتماع بالناس، ووجد فى وحدة غار حراء مسرة تزداد كل يوم عمقا، وجعل يقضى الأسابيع ومعه قليل من الزاد، وروحه تزداد بالصوم والسهر والإدمان على تقليب فكرته صقالا وحدّة، ونسى النهار والليل والحلم واليقظة وجعل يقضى الساعات الطوال جاثيا فى الغار، أو مستلقيا فى الشمس، أو سائرا بخطوات واسعة فى طرق الصحراء الحجرية وكأنه يسمع الأصوات تخرج من خلال أحجارها تناديه مؤمنة برسالته!».

«وقضى ستّة أشهر فى هذه الحال حتى خشى على نفسه عاقبة أمره، فأسر بمخاوفه إلى خديجة فطمأنته وجعلت تحدّثه بأنه الأمين، وأن الجن لا يمكن أن تقترب منه، وفيما هو يوما نائم بالغار جاءه ملك فقال له: أقرأ. قال: «ما أنا بقارئ» وكان هذا أول الوحى وأول النبوّة». «وهنا تبدأ حياة حدة روحية قوية غاية القوة. حياة تأخذ بالأبصار والألباب، ولكنها حياة تضحية خالصة لوجه الله والحق والإنسانية» أ. هـ. أقول: إنّ كلّ ما هنا من خبر أو جله غير صحيح، ولو صحت لكان ما استنبطه منها مما يخطر بالبال، ولكن الوحى المحمدى فوق كل استنباط وكل احتمال، فمن أين علم هذا الإفرنسى أن محمدا نسى الليل والنهار، والحلم واليقظة؟ وأنه كان يقضى الساعات الطوال جاثيا فى الغار أو مستلقيا فى الشمس ... إلخ وإنه قضى ستة أشهر فى هذا الحال؟. قد افترى فى الأخبار «1» ليستنبط منها أنه صار صلوات الله عليه مقلوبا على عقله، غائبا عن حسه، غارقا فى بحر لجى من خياله. أثمر له انبثاق ذلك الوحى العالى من نفسه، وتجليه لبصره وسمعه. وإننى أبدأ الردّ عليه وعلى أمثاله بنقل أصحّ الروايات فى خبر تحنثه فى الغار الليالى ذوات العدد- من شهر رمضان فى تلك السنة لا فيما قبلها- لتفنيد أخيلته وشعرياته، وإبطال نتيجة مقدماته، وللاستغناء بها عما نقله من الخلط فى صفة الوحى من الفصل الذى بعد هذا من كتابه. ذلك ما رواه الشيخان البخارى ومسلم فى صحيحيهما، وهذا نص رواية البخارى رضى الله عنه فى كتابه الجامع الصحيح.

_ (1) أى افترى فى أثنائها ما ليس له أصل من روايات السيرة ولم يفترها كلها، كما أنه لم يعرف الصحيح الضعيف، وفسرها بما وافق رأيه فى سبب ذلك الوحى العظيم الذى يعترف بعظمته وحكمته.

باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم افتتح الحافظ البخارى هذا الباب، بل الكتاب كله بروايته لحديث: «إنما الأعمال بالنيات» ثم قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن الحارث بن هشام رضى الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى «1»؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس «2» وهو أشده علىّ، فيفصم «3» عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا «4» فيكلمنى فأعي ما يقول، قالت عائشة رضى الله عنها:

_ (1) للوحى معنى عام يطلق على صور من الإعلام الخفى الخاص الموافق لوضع اللغة منها: الرؤيا الصادقة، والنفث فى الروع، والإلهام، وإلقاء الملك، وله معنى خاص هو أحد الأقسام الثلاثة للتكليم الإلهى الوارد فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]، وهذا الحديث فيه وصف القسم الأول وذكر الثالث، وأما الثانى وهو الكلام الإلهى من وراء حجاب بدون وساطة، فقد ثبت للنبى صلّى الله عليه وسلم فى ليلة الإسراء والمعراج ولموسى عليه الصلاة والسلام، وغير هذه الثلاثة من الوحى العام لا يعد من كلام الله تعالى التشريعى، والرؤيا الصادقة والإلهام ما وقع ويقع لغير الأنبياء. (2) المراد من التشبيه: أنه صوت كصلصلة الحديد المتصلة المتداركة التى تسمع من الجلاجل ونحوها ليس بكلام مؤلف من الحروف، والأقرب أن سببه وجود الملائكة وإن لم ير أحدا منهم فى حال سماعه. وكانت هذه الحالة أشد الحالتين عليه، لأنهما كما قال الحكيم ابن خلدون: انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالملكية الروحانية، والحالة الأخرى عكسها، لأنها انتقال الملك من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية. (3) يفصم- على وزن يضرب: ينفك وينجلى. (4) أى يظهر بصفة رجل ومثاله: وذلك أن الملك روح عاقل مريد له قوة التصرف فى المادة فهو يأخذ من مادة الكون الصورة التى يريدها، وأن علم الكيمياء فى هذا العصر يقرب إلى التصور هذا التصور بما ثبت فيه من تحول مادة من الكثافة إلى الطاقة وما بينهما بقوة الحرارة وأقواها الحرارة الكهربائية، والملك يتصرف فى الكهربائية كما يشاء. وقد شرحنا هذا المعنى فى تفسير قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف: 143]، راجع ص 162 - 167 ج 9 تفسير.

(ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا «1»). حدّثنا يحيى بن بكير، قال حدّثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم «2»، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه «3» - وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق «4» وهو فى غار حراء فجاءه الملك فقال: «أقرأ، قال: ما أنا بقارئ «5»، قال: فأخذنى فغطّنى «6» حتى بلغ منّى

_ (1) كان من هذه الشدة عليه ما قاله العلامة ابن القيم فى زاد المعاد: حتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها أ. هـ. (2) أكثر الرؤى أضغاث أحلام لها أسباب تثيرها فى خيال النائم، والرؤيا الصالحة نوع من انكشاف الحقائق للنفس المستعدة لإدراكها بما يكون وقت النوم من صفائها بعد اشتغالها بمدركات الحواس وما تثيرها من الخواطر والأفكار، ورؤيا الأنبياء قبل وحى التشريع تمهيد وتأنيس للنفس تقوى استعدادها لتلقى الكلام الإلهى. (3) أصل التحنث؛ اتقاء الحنث أى الذنب، أو مقلوب التحنف وهو اتباع الحنيفية ملة إبراهيم، وهو رواية ابن هشام. وقوله: وهو التعبد، جملة تفسيرية لراوى الحديث وهو ابن شهاب الزهرى فهو مدرج فى الحديث، والليالى ظرف متعلق بيتحنث. (4) وفى رواية «فجاءه الحق»؛ أى بغته ولم يكن ينتظره، والمراد به الوحى الصريح الذى هو كلام الله تعالى، وهذه الرواية الثابتة فى الصحيحين صريحة فى أن هذا كان فى اليقظة، وفى سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أن جبريل جاءه فى المنام، وهى من مراسيل عبيد بن عمير وهو ثقة وله صحبة، ولكن رواية الصحيحين المسندة المرفوعة هى المعتمدة وجمع بعضهم بين الروايتين بأنه رآه أولا فى المنام فاستقرأه ثم رآه فى اليقظة، ولو وقع هذا فى المنام لزال خوفه ورعبه صلّى الله عليه وسلم بعد اليقظة ولم يذهب إلى خديجة يرجف فؤاده. (5) الظاهر: أن الأمر بالقراءة أمر تكوين لا تكليف- أى كن قارئا- ولذلك قال له فى الثالثة: (اقرأ باسم ربك) أى كن قارئا باسمه ومن قبله وبأقداره إياك على القراءة، لا بحولك وقوتك، فهو يعلم أنك أمى لا يتعلق كسبك واستطاعتك بالقراءة، أما وقد شاء ربك- الذى خلق- خلق الإنسان من علق، وهو الحيوان المنوى أو أول ما تتحول إليه نطفة الزوجية بعد العلوق، فجعله بشرا سويا ويبصر ويعقل- أن يجعلك قارئا لما يوحيه إليك لتقرأه على الناس فأنت تكون قارئا. (6) فسروا الغط بالضم الشديد الضاغط فقالوا: أى ضمنى وعصرنى، وفى رواية الطبرى للحديث: «وأصل معناهما الغمس فى الماء وضيق النفس، وفسره بعضهم بالخنق وهو مبالغة لا تليق هنا. وحكمة هذا الغط تقوية روحانية النبى صلّى الله عليه وسلم حتى يقوى على الاتصال بالملك والفهم منه.

الجهد، ثم أرسلنى فقال: أقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثانية، حتى بلغ منّى الجهد، ثم أرسلنى فقال: أقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطّنى الثالثة. ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «1» [العلق: 1 - 3]»، فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال: «زمّلونى زمّلونى» فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسى «2»» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا «3» إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به- خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصر فى الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب «4»، وكان شيخا كبيرا قد عمى، فقالت له خديجة: يا ابن

_ (1) اختصره هنا وزاد فى التفسير الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. (2) اختلف العلماء فى خوفه صلّى الله عليه وسلم على نفسه فقيل: خشى الجنون، وأن يكون ما رآه من الجن. وقد أنكره ورده القاضى أبو بكر بن العربى، ووافقه الحافظ حجر ولكن الحافظ قال: إنه روى من عدة طرق (أقول) وهو الظاهر مما أجابته به خديجة. واستشكل بأن الوحى يكون مقترنا بعلم قطعى بأنه من الله وأن الملقن له من الملائكة، وأجيب بأن هذا العلم الضرورى يحصل باستعراف الملك له وإعلامه إياه بذلك عند تلقينه الأمر بالتبليغ، وإنما كان ظهور الملك له هذه المرة لأجل الإيناس والإعداد لتلقى وحى الأحكام، والأمر فيه بالقراءة للتكوين لا للتكليف، وإلا كان من تكليف ما لا يطاق. وقيل: إنه خاف على نفسه الموت أو الهلاك وهو قريب، ثم أقوال أخرى متكلفة. وهو على كل حال يدل على أنه صلّى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الرؤيا أنه صار نبيا، ولا أن الذى رآه هو ملك الوحى جبريل عليه السلام، ويؤيد ذلك مسألة ورقة. (3) الخزى: اسم معناه الذل والهوان. وأخزاه أذله وأهانه. والكل: (بفتح الكاف) المتعب، ومن هو عالة على غيره، وحمله: إعطاؤه راحلة يركبها أو حمل أثقاله، وتكسب بفتح التاء، وضمها لغة ورواية، والمعدوم المفقود (قيل) ولا يظهر معناه إلا بتكلف وقال الخطابى: الصواب المعدم وهو الفقير الفاقد لما يكفيه أ. هـ. لكن الرواية «المعدوم» وهو وصف لمحذوف، وتكسب الثلاثى من الكسب يتعدى بنفسه إلى مفعولين حذف أولهما، والمعنى: وتجعل المحتاج العاجز عن الكسب كاسبا للشيء المعدوم الذى يفقده ببذله له أو بمساعدته على كسبه، والإعانة على نوائب الحق كلمة جامعة لكل أعمال البر والنجدة والمروءة فيما عدا الباطل. وما رغب خديجة فى التزوج به صلّى الله عليه وسلم إلا هذه الفضائل التى أحاطت بها خبرا بمعاشرته الزوجية؛ ولذلك عد بعض علماء الإفرنج إيمانها به أصح شهادة له. (4) وفى رواية البخارى فى كتاب التفسير من صحيحه: يكتب من الإنجيل بالعربية، وفى معناها رواية

عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخى ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس «1» الذى نزّل الله على موسى، ليتنى فيها جذعا «2»، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أو مخرجى هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن لم يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب «3» ورقة أن توفى وفتر الوحى «4». قال ابن شهاب: وأخبرنى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصارى قال وهو يحدث عن فترة الوحى فقال فى حديثه: «بينما أنا ماش إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت زملونى فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 1 - 5]، فحمى الوحى وتتابع «5» أ. هـ.

_ مسلم: فكان يكتب الكتاب العربى. ولا تنافى بين الروايات إذ كان يعرف اللغتين. وورقة ابن عم خديجة، وأما قولها له: اسمع من ابن أخيك فهو من باب التوقير لسنه واستعطاف الرحم. وكذا قوله للنبى صلّى الله عليه وسلم يا ابن أخى، وما زال يستعمل فى خطاب أولاد الأقرباء والأصدقاء. (1) الناموس: فى اللغة صاحب السر، والمراد بن أمين الوحى جبريل، وقوله: «نزل الله على موسى» ولم يقل وعيسى؛ لأن الشبه بين الوحى إلى موسى ومحمد عليهما السلام أتم؛ لأن كلا منهما أوتى شريعة تامة مستقلة فى عباداتها ومعاملاتها وسياستها وقوتها العسكرية، وعيسى عليه السلام كان تابعا لشريعة التوراة وناسخا لبعض الأحكام التى يقتضيها الإصلاح ومبشرا بالنبى الذى يأتى من بعده بالشرع الكامل العام الدائم وهو محمد رسول الله وخاتم النبيين، وفى بعض الروايات الضعيفة: أن ورقة قال: «ناموس عيسى»، وفى رواية أخرى حسنة الإسناد فى دلائل النبوة لأبى نعى: أن خديجة جاءت ورقة وحدها أولا فذكرت له الخبر فقال لها: إن كنت صدقتنى إنه ليأتيه ناموس عيسى الذى لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم أ. هـ. والناموس واحد على كل حال. ولكن رواية الصحيحين: «فانطلقت به» تدل على التعقيب أى أنها ذهبت به عقب تحديثها بما رأى وعليها المعول، وما خالفها مرسل مروى بالمعنى الذى فهمه عبيد بن عمير ومن دونه. (2) قوله: ليتنى فيها جذعا: الجذع بفتحتين خلاف المسن من البهائم واشتهرت استعارته للشاب من الناس. والإخراج: النفى من الوطن. (3) لم ينشب- بفتح الشين المعجمة- أى: لم يلبث بعد هذا أن توفى ولم ينل ما يتمناه من إدراك زمن تبليغ الرسالة لينصر النبى صلّى الله عليه وسلم، ولكن فى سيرة ابن إسحاق وتبعه غيره أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، ومقتضاه أنه أدراك زمن البعثة واضطهاد المشركين للمؤمنين. والمعتمد ما فى الصحيح من أنه توفى عقب هذا الحديث بقليل. (4) فتر الوحى: انقطع مؤقتا ليعود- وكانت فترة الوحى ثلاث سنين- وهى ما بين بدئه بأمر جبريل له بالقراءة وبين نزول أول سورة المدثر التى أمر فيها بإنذار الناس. (5) أى اتصلت مدة التبليغ كلها وهى عشرون سنة ولكنه كان نجوما متفرقة حسب الحاجة، فتارة تنزل

وأقول: أخرج البخارى حديث جابر فى تفسير سورة المدثر من طرق فى بعضها: أن أولها هو أول ما أنزل مطلقا وفى البعض الآخر أنها من حديث النبى صلّى الله عليه وسلم عن فترة الوحى كالتى هنا، وقد عبّر صلّى الله عليه وسلم عن رعبه من رؤية الملك بقوله: (فجئثت منه رعبا) وفى رواية أخرى: (فجئثت منه حتى وهيت إلى الأرض)، أى فزعت وخفت وهو بضم الجيم وكسر الهمزة بالبناء للمفعول. هذا هو المعتمد عند المحدثين فى أول ما نزل من القرآن، والمشهور أنه نزل بعد أول المدثر سورة المزمل تامة وبعدها بقية سورة المدثر؛ وقال مجاهد: أول ما نزل سورة (ن والقلم) وهو غلط، وروى عن علىّ كرم الله وجهه أن أول ما نزل سورة الفاتحة واعتمده شيخنا فى توجيه كونها فاتحة الكتاب، ويمكن أن يراد أنها أول سورة تامة نزلت بعد بدء الوحى بالتمهيد التكوينى، ثم بالأمر بالتبليغ الإجمالى، وتلاها فرض الصلاة ونزول سورة المزمّل أو نزلتا فى وقت واحد. وسيأتى كلام آخر فى فترة الوحى وأول ما نزل بعده.

_ السورة دفعة واحدة- وتارة تنزل الآيات المتفرقة، وقد يكون بين ذلك فترات قصيرة، كالذى ورد فى سبب نزول سورة الضحى. وقد اختلط الأمر فى هذا على درمنغام فظن أنها هى التى نزلت بعد فترة الوحى، والمروى أنه نزل قبلها بضع سور. وكان سبب نزولها كما فى الصحيحين من حديث جندب بن سفيان أن النبى صلّى الله عليه وسلم اشتكى (أى وجع) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا (أى إلى تهجده وتلاوته) فقالت: امرأة: يا محمد إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 1 - 3] أ. هـ. تقرأ «ودعك» بالتشديد والتخفيف ومعناهما واحد وهو الترك، والقلى بالكسر والقصر: البغض، أى ما تركك ربك وما أبغضك، وهذه المرأة أم جميل امرأة أبى لهب وبنت أبى سفيان كما رواه الحاكم عن زيد بن أرقم، وكان هذا بعد نزول سورة (تبت يدا أبى لهب)، وروى ابن جرير من طريقين مرسلين أن جبريل أبطأ على النبى صلّى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا، فقالت خديجة: إنى أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك، فنزلت- ومعارضة رواية الصحيحة بهاته الرواية المرسلة تسقط اعتبارها، وإن جمع الحافظ بن حجر بينهما بأن خديجة قالت ما قالت توجعا، وحمالة الحطب قالته شماتة.

بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلى الله عليه وسلم

بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلّى الله عليه وسلم ها أنا ذا قد بسطت جميع المقدمات التى استنبطوها من تاريخ محمّد صلّى الله عليه وسلم وحالته النفسية والعقلية، وحالة قومه ووطنه، وما تصوروا أنه استفاده من أسفاره، ما كان من تأثير خلواته وتحنثه وتفكره فيها، وقفيت عليها بأصحّ ما رواه المحدثون فى الصحاح من صفة الوحى وكيف كان بدؤه وفترته، ثم كيف أمر نبيه صلّى الله عليه وسلم بتبليغه ودعوة الناس إلى الحق، وكيف حمى وتتابع؟. وأبين الآن كيف يستنبطون من ذلك أن هذا الوحى قد نبع من نفس محمد وأفكاره بتأثير ذلك كله فى وجدانه وعقله، بما لم أر ولم أسمع مثله فى تقريبه إلى العقل، ثم أقفى عليه بما ينقضه من أساسه بأدلة العقل والنقل والتاريخ والصحيح من وصف حالته صلّى الله عليه وسلم فأقول: يقولون (أولا): إن عقل محمد الهيولانى- أو ما يسمونه فى عصرنا بالعقل الباطن- قد أدرك بنوره الذاتى بطلان ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، كما أدرك ذلك أفراد آخرون من الأقوام. ونقول: آمنا وصدّقنا. (ثانيا): أن فطرته الزكية قد احتقرت ما كانوا يتنافسون فيه من جمع الأموال بالربا والقمار. ونقول: آمنا وصدّقنا. (ثالثا): إن فقره وفقر عمه (أبى طالب) الذى كفله صغيرا حال دون انغماسه فيما كانوا يسرفون فيه من الاستمتاع بالشهوات؛ من السكر والتسرى وعزف القيان. ونقول الصحيح: إنه ترك ذلك احتقارا له لا عجزا عنه. (رابعا): إنه طال تفكره فى إنقاذهم من ذلك الشرك القبيح، وتطهيرهم من تلك الفواحش والمنكرات. ونقول: لا مانع من ذلك.

(خامسا): أنه استفاد من أسفاره وممن لقيه فيها، وفى مكة نفسها من النصارى كثيرا من المعلومات عن النبيين والمرسلين الذين بعثهم الله فى بنى إسرائيل وغيرهم فأخرجوهم من الظلمات إلى النور. ونقول: إنّ هذا لم يصح عندنا ولا يضرنا. (سادسا): أنّ تلك المعلومات لم تكن كلّها مقبولة فى عقله لما عرض للنصرانية من الوثنية بألوهية المسيح وأمه، وغير ذلك وبما حدث فيها من البدع. ونقول: هذا مبنى على ما قبله، فهو معقول غير منقول. (سابعا): إنه كان قد سمع أنّ الله سيبعث نبيا مثل أولئك الأنبياء من العرب فى الحجاز قد بشر به عيسى المسيح وغيره من الأنبياء، وأن هذا علق بنفسه فتعلق رجاؤه بأن يكون هو ذلك النبى الذى آن أوانه. ونقول: إن هذا استنباط لهم مما قبله غير صحيح وسيأتى ما فيه. (ثامنا): وهو نتيجة ما تقدم: أنه توسل إلى ذلك بالانقطاع إلى عبادة الله تعالى والتوجه إليه فى خلوته بغار حراء فقوى هنالك إيمانه، وسما وجدانه، فاتسع محيط تفطره، وتضاعف نور بصيرته، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات فى ملكوت السموات والأرض على وحدانية مبدع الوجود، وسر النظام السارى فى كلّ موجود، بما صار به أهلا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وما زال يفكر ويتأمل، وينفعل ويتململ، ويتقلّب بين الآلام والآمال، حتى أيقن أنه هو النبىّ المنتظر، الذى يبعثه الله لهداية البشر، فتجلّى له هذا الاعتقاد فى الرؤى المنامية ثم قوى حتى صار يتمثل له الملك يلقنه الوحى فى اليقظة. وأما المعلومات التى جاءته فى الوحى فهى مستمدة الأصل من تلك الينابيع التى ذكرناها، ومما هداه إليه عقله وتفكره فى التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ولكنها كانت تتجلّى له نازلة من السماء، وأنها خطاب الخالق عزّ وجلّ بواسطة الناموس الأكبر ملك الوحى جبريل روح القدس عليه السلام، الذى كان ينزل على موسى بن عمران، وعيسى ابن مريم وغيرهما من النبيين عليهم السلام. وقال أحد ملاحدة المصريين: إن سولون الحكيم اليونانى وضع قانونا وشريعة لقومه فليس بدعا فى العقل أن يضع محمد شريعة أيضا، وسأبين فساد هذا الرأى أيضا.

تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه

تفنيد تصويرهم للوحى النفسى وإبطاله من وجوه (الوجه الأول): إن أكثر المقدمات التى أخذوا منها هذه النتيجة هى آراء متخيّلة، أو دعاوى باطلة، لا قضايا تاريخية ثابتة، كما بيناه عند ذكرها، وإذا بطلت المقدمات بطل لزوم النتيجة لها. مثال ذلك: زعمهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم سمع من نصارى الشام خبر غلب الفرس وظهورهم على الروم؛ ليوهموا النّاس أنّ ما جاء فى أول سورة الروم من الإنباء بالمسألة، وبأن الروم سيغلبون الفرس بعد ذلك؛ هو مستمد مما سمعه صلّى الله عليه وسلم من نصارى الشام، وهذا مردود بدلائل التاريخ والعقل؛ فأما التاريخ فإنه يحدثنا بأن ظهور الفرس على الروم كان فى سنة 610 م وذلك بعد رحلة محمد الأخيرة إلى الشام بأربع عشر سنة وقبل بدء الوحى بسنة. ثم إن التاريخ أنبأنا أنّ دولة الروم كانت مختلة معتلّة فى ذلك العهد بحيث لم يكن أحد يرجو أن تعود لها الكرّة والغلب على الفرس، حتى أن أهل مكة أنفسهم هربوا بالخبر، وراهن أبو بكر أحدهم على ذلك وأجازه النبى صلّى الله عليه وسلم فربح الرهان «1»، وأما العقل فإنه يحكم بأن مثل محمد فى سمو إدراكه المتفق عليه لا يمكن أن يجزم بأن الغلب سيعود للروم على الفرس فى مدة بضع سنين، لا من قبل الرأى ولا من الوحى النفسى المستمد من الأخبار غير الموثوق بها، وقد صحّ أن انتصار الروم وقع سنة 622 م، وكان وحى التبليغ للنبى صلّى الله عليه وسلم سنة 614 م، فإذا فرضنا أنّ سورة الروم نزلت فى هذه السنة يكون النصر قد حصل بعد ثمانى سنين، وإن كان فى السنة الثانية تكون المدة سبع سنين، وهو المعتمد فى التفسير، والبضع يطلق على ما بين الثلاث والتسع. والحكمة فى التعبير عن هذا النبأ بقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 2 - 4]، ولم يقل بعد سبع أو ثمان

_ (1) فى القصة روايات من طرق، فيها خلاف فيما قدروا فيه البضع وهو فى الأصل من 3 - 9 فقيل خمس وقيل ست، ولام النبى صلّى الله عليه وسلم أبا بكر على تحديده، وقد أبهمه الله تعالى، وفى بعضها أنهم أخطئوا الأجل الأول فأمر النبى صلّى الله عليه وسلم بأن يمادوهم فى الأجل ويزايدوهم فى الرهن ففعلوا ورضى المشركون. وكان الذى تولى قمارهم ابن خلف فأظهر الله الروم على الفرس عند انتهائه على رأس السبع من قمارهم الأول.

مثلا، هى إفادة أن الغلب يكون فى الحرب الممتدة فى هذه المدة، وأنباء الوحى والعبر لا تكون بأسلوب التاريخ يحدد الوقائع بالسنين، وليس فى وعود القرآن الكثيرة للمسلمين بالنصر وغيره من أنباء الغيب ذكر السنين ولا الشهور، فهذه الآية فريدة فى بابها. ومثال آخر: ما زعموا من مروره صلّى الله عليه وسلم فى رحلته إلى الشام بأرض مدين وحديثه مع أهلها، الذى أرادوا به أن يجعلوه أصلا لما جاء فى القرآن من أخبارها والخبر باطل كما أشرنا إليه عند نقلنا إياه فى المقدمات، ولو صحّ لما كان من المعقول أن يعتمد محمد على ما سمعه فى الطريق من أناس مجهولين لا يوثق بمعرفتهم ولا يصدقهم فيجعله أصلا للوحى الذى جاءه فى قصة موسى وقصة شعيب عليهما السلام. (الوجه الثانى): لو كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم تلقى عن علماء النصارى فى الشام شيئا أو عاشرهم لنقل ذلك أتباعه الذين لم يتركوا شيئا علم عنه أو قيل فيه- ولو لم يثبت- إلا ودونوه ووكلوا أمر صحته أو عدمها إلى إسناده وما علم من سيرة رواته. (الوجه الثالث): لو وقع ما ذكر لاتخذه أعداؤه من كبار المشركين شبهة يحتجون بها على أنّ ما يدعيه من الوحى قد تعلّمه فى الشام من النصارى، فإنهم كانوا يوردون عليه ما هو أضعف وأسخف من هذه الشبهة، وهو أنه كان فى مكة قين (حداد) روميّ يصنع السيوف وغيرها، فكان النبى صلّى الله عليه وسلم يقف عنده أحيانا يشاهد صنعته فاتهموه بأنه يتعلم منه، فرد الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103]. (الوجه الرابع): نصوص القرآن صريحة فى أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شيئا من أخبار الرسل وقصصهم قبل الوحى، وهم متفقون معنا على أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يكذب على أحد فضلا عن الكذب على الله عزّ وجلّ، كما اعترف بذلك أعدى أعدائه أبو جهل، كما أنهم متفقون معنا على قوة إيمانه بالله عزّ وجلّ ويقينه بكل ما أوحاه إليه. ومن الشواهد على ذلك: قوله تعالى عقب قصة موسى فى مدين وما بعدها من سورة القصص: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الآيتان: 44، 45]، وقوله بعد قصة نوح من سورة هود: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ

نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [الآية: 49]، ونحوه فى أواخر سورة يوسف بعد قصته: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [الآية: 102]. ومن الشواهد التى لم يكن يعرفها أحد من أهل الكتاب قوله تعالى بعد قصة زكريا وولادة مريم وكفالته لها، فيتوهم أنه مأخوذ عنهم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]. الأقلام: جمع قلم تطلق على الأزلام والأقداح التى كانوا يلقونها لضرب القرعة لإزالة الخلاف فيما يتنازعون فيه، وعلى أقلام الكتابة، وتكون القرعة بأوراق تخلط بها كما هو المعهود فى عصرنا، والمعنى أنهم اختصموا وتنازعوا فى كفالة مريم وتربيتها عناية بأمرها فأصابت القرعة زكريا عليه وعليها السلام، كما قال تعالى فى أول قصتها. (الوجه الخامس): أنه لم يرد فى الأخبار الصحيحة والمرفوعة «1» أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان يرجو أن يكون هو النبى المنتظر الذى يتحدث عنه بعض علماء اليهود والنصارى قبل بعثته، ولو روى عنه شىء من ذلك لدوّنه المحدثون لأنهم ما تركوا شيئا بلغهم عنه إلا ودوّنوه، كما رووا مثله عن أمية بن أبى الصلت، بل صرح القرآن المجيد بأنه لم يكن يرجو هذا ولا يؤمله، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86]، أى لكن ألقى إليك رحمة من ربك بك وبالناس كلهم لا كسب لك فيه بعلم ولا عمل، ولا رجاء، ولا أمل، فهذا تأكيد وتكميل الشاهد الأول من الوجه الرابع. (الوجه السادس): أن حديث بدء الوحى الذى أثبته الشيخان فى الصحيحين، وغيرهما من المحدثين صريح فى أنه صلّى الله عليه وسلم لما رأى الملك أول مرة ولم تجد زوجته خديجة بنت خويلد العاقلة المفكرة وسيلة يطمئن بها على نفسه، وتطمئن هى عليه إلا استفتاء أعلم العرب بهذا الشأن وهو ابن عمها ورقة بن نوفل الذى كان تنصر، وقرأ كتب اليهود والنصارى. (الوجه السابع): لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه، وكان قد تم استعداده له باختلائه وتعبده فى الغار، وما صوروا به حاله فيه من الفكر المضطرب، والوجدان الملتهب، والقلب المتقلب، حتى إذا كمل استعداده. تجلّى له رجاؤه واعتقاده، بما تم به مراده، لظهر عقب ذلك كل ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثّابة، وفكرته الوقّادة، فى سورة

_ (1) الحديث المرفوع فى اصطلاح المحدثين ما صرح الصحابى بأنه من قول النبى صلّى الله عليه وسلم.

أو سور من أبلغ سور القرآن، فى بيان أصول الإيمان، وتوحيد الديان، واجتثاث شجرة الشرك وعبادة الأوثان، وتشريع الأحبار والرهبان، واتخاذ الولد للرحمن، وإنذار رءوس الكفر والطغيان، ما سيلقون فى الدنيا من الخزى والنكال، وفى الآخرة من عذاب النار كسور المفصل ولا سيما (ق والقرآن المجيد)، والذاريات، والطور، والنجم والقمر، ثم الحاقة والنبأ، أو فى سورة أو أكثر من السور الوسطى التى تقرعهم بالحجج، وتأخذهم بالعبر، وتضرب لهم المثل، بسنن الله فى الرسل، كسور الأنبياء والحج والمؤمنون. ولكنه ظل ثلاث سنين لم يتل فيها على الناس سورة ولم يدعهم إلى شىء ولا تحدث إلى أهل بيته ولا أصدقائه بمسألة من مسائل الإصلاح الدينى الذى توجهت إليه بزعمهم نفسه، ولا من ذم خرافات الشرك الذى ضاق به ذرعه. إذ لو تحدث بذلك لنقلوه عنه، وناهيك بألصق الناس به، خديجة وعلىّ وزيد بن حارثة فى بيته وأبى بكر الصديق الذى عاشره طول عمره- فهذا السكوت وحده فى فترة الوحى برهان قاطع على بطلان ما صوروا به استعداده للوحى الذاتى الذى زعموه، واستمداده لعلومه من التلقى الذى اختلقوه والاختبار الذى توهموه. (الوجه الثامن): أن ما نقل من ترتيب نزول الوحى بعد هذه الفترة الطويلة جاء موافقا لما كان يتجدّد من الوقائع والحوادث الطارئة، دون ما زعموا من الأمور السابقة، فقد نزل ما بعد صدر سورة المدثر ردا على قول الوليد بن المغيرة المخزومى الذى قاله فى القرآن؛ فقد أراده أبو جهل أن يقول فيه قولا يبلغ قومه أنه منكر له، وأنه كاره له، بعد أن علم أنه تحرى استماعه من محمّد صلّى الله عليه وسلم وأعجب به، قال له الوليد: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر، لا برجزه ولا بقصيدة منى، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه، مشرق أسفله «1»، وإنه ليعلو وما يعلى، وأنه ليحطم ما تحته. قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال: دعنى حتى أفكر، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره من غيره، فنزلت الآيات: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً [المدثر: 11، 12 إلى 30]. رواه الحاكم عن ابن عباس بإسناد صحيح على شرط البخارى. وقد نزلت سورة اقرأ فسورة ن والقلم، فسورة المزمل قبل سورة المدثر، ونزل بعدها أكثر من ثلاثين سورة من قصار المفصل وأوساطه ليس فيها شىء مما زعموا أنه تلقاه أو شاهده

_ (1) وفى رواية: وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق.

فى الأسفار، ولا مما وصفوا من أفكاره فى الغار، فليراجع ترتيب نزول السور فى كتاب الإتقان من شاء. (الوجه التاسع): إن هذه المعلومات المحمدية التى تصورها هؤلاء المحللون لمسألة الوحى قليلة المواد ضيقة النطاق عن أن تكون مصدرا لوحى القرآن. وإن القرآن لأعلى وأوسع وأكمل من كل ما كان يعرفه مثل بحيرا، ونسطور، وكل نصارى الشام ونصارى الأرض ويهودها. دع الأعراب الذين كان يمرّ بهم النبى صلّى الله عليه وسلم بالطريق إلى الشام أو حضرهم. وأن القرآن نزل مصدقا لكتب أهل الكتاب من حيث كونها فى الأصل من وحى الله إلى موسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم، ونزل أيضا مهيمنا عليها؛ أى: رقيبا وحاكما كما نصت عليه الآية (48) من سورة المائدة ومما حكم به على أهلها من اليهود والنصارى أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب «1»، أى: لا كله ونسوا حظا آخر منه وأنهم حرفوا كلمه عن مواضعه «2»، وبين كثيرا من المسائل الكبرى مما خالفوا واختلفوا فيه من العقائد والأحكام والأخبار «3»، ومثل هذه الأحكام العليا عليهم، لا يمكن أن تكون مستمدة من أفراد من الرهبان أو غير الرهبان، أفاضوها على محمد فى رحلته التجارية إلى الشام. سواء أكان عند بعضهم بقية من التوحيد الموسوي والعيسوي الذى كان يقول به آريوس وأتباعه أم لا؟ وسواء أكان لدى بعضهم بقية من الأناجيل التى حكمت الكنيسة الرسمية بعد قانونيتها (أبو كريف) كإنجيل طفولة المسيح وإنجيل برنابا أم لا؟ فمحمد لم يعقد فى الشام ولا فى مكة مجمعا مسيحيا كمجامع الكنيسة للترجيح بين الأناجيل والمذاهب المسيحية ويحكم بصحة بعضها دون بعض. إنّ وقوع مثل هذا منه فى تلك الرحلة مما يعلم واضعو هذه الأخبار ببداهة العقل مع عدم النقل أنه محال عادة، وعلى فرض وقوعه يقال: كيف يمكن أن يحكم بين تلك الأناجيل وتلك المذاهب برأيه فى تلك الخلسة التجارية للنظر فيها ويأمن على حكمه الخطأ؟ وقد صحّ عنه أنه قال لأصحابه فى شأن أهل الكتاب: «لا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم «4»»،

_ (1) النساء: 44 - 51. (2) المائدة: 13 - 14. (3) آل عمران: 75، النساء: 46، المائدة: 13، 14. (4) رواه البخارى بهذا اللفظ، وأحمد والبزار من حديث جابر بلفظ: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شىء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعى» وسببه أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود فعلم النبى صلّى الله عليه وسلم فغضب وقاله.

يعنى فيما سكت عنه القرآن لئلا يكون ما كذبوهم فيه مما حفظوا أو يكون ما صدقوهم به مما نسوا حقيقته أو حرفوا أو بدلوا. (الوجه العاشر): أن ما فى القرآن ما هو مخالف للعهدين العتيق والجديد، وهو مما لا يعلم إلى الآن أن أحدا من اليهود والنصارى قال به، كمخالفة سفر الخروج فيمن تبنت موسى، ففيه أنها ابنة فرعون وفى القرآن أنا امرأته، وفيما فيه من عزو صنع العجل الذى عبده بنو إسرائيل إلى هارون عليه السلام بعزوه إياه إلى السامرى وإثباته لإنكار هارون عليهم فيه، وغير ذلك. بل ما جاء به محمد أكبر وأعظم من كل ما فى الكتب الإلهية ما صحّ منها وما لم يصح كما سنبينه. رويدكم أيها المفتاتون «1» الذين يقولون ما لا يعلمون، إنّ وحى القرآن أعلى مما تزعمون، وأكبر مما تتصورون وتصورون، وإنّ محمدا أقل علما كسبيا مما تدعون وأكمل استعدادا لتلقى كلام الله عن الروح القدس مما تستكبرون. وإذا كان وحى القرآن أعلى وأكمل من جميع ما حفظ عن أنبياء الله ورسله، لأنه الخاتم لهم، المكمّل لشرائعهم الخاصة الموقوتة، فأجدر به أن يكون أكمل مما وضعه (سولون) الفيلسوف اليونانى الذى شبه محمدا بأحد ملاحد عصرنا فى مصرنا، مع بعد الشبه بين أمى نشأ بين الأميين، وفيلسوف نشأ فى أمة حكمة، وتشريع ودولة وسياسة، ودخل فى كل أمور الأمة والدولة كسولون هذا «2».

_ (1) يقال افتات فلان إذا سبق بفعل شىء واستبد له ولم يؤمر فيه من هو أحق منه بالأمر فيه لأنه أعلم به وأجدر بتحقيقه، ويقال: فلان لا يفتات عليه، أى لا يتداخل أحد فى أموره بدون أمره وإذنه. وأصله الهمز. فيقال: افتات عليه أيضا. (2) سولون: أحد فلاسفة اليونان السبعة فى القرن السابع قبل المسيح ووالدته؛ من أبناء بستاروتس آخر ملوك أثينا، وكان من رجال المال ورجال الحرب، وتولى فى بلاده بعض الأعمال الإدارية والعسكرية وقيادة الجيش. وقد انتخب فى سنة 945 ق. م (أرخونا) أى رئيسا على الأمة بإجماع أحزابها كلهم؛ وقلدوه سلطة مطلقة لتغيير ما شاء من نظم البلاد وقانونها الذى وضعه (زراكوت) من قبله، فوضع لهم نظاما جديدا قررت الحكومة والأمة اتخاذه دستورا متبعا عشر سنين. فسولون كان فى قانونه منقحا ومجددا لقانون أعظم أمة من أمم الحكمة والحضارة نشأ فيها، فكان متعلما وفيلسوفا وحاكما وقائدا ورئيسا. أفيقاس عليه محمد صلّى الله عليه وسلم الأمى الذى لم يقرأ سطرا ولم ير كتابا، ولا تولى عملا إداريا ولا سياسيا؟ ثم إن ما جاء به لم يكن قانونا موضعيا منقحا لقوانين أخرى قبله، بل كان إصلاحا لجميع البشر فى عقائدهم وآدابهم وأحكامهم وسياستهم وحروبهم الخ؟ انظر أيها القارئ إلى شبهات ملاحدة المسلمين على دينهم ونبيهم الذى هو مناط شرفهم وفخرهم على الأمم!!

القول الحق فى استعداد محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة والوحى

القول الحق فى استعداد محمد صلّى الله عليه وسلم للنبوة والوحى التحقيق فى صفة حال محمد صلّى الله عليه وسلم من أول نشأته، وإعداد الله تعالى إياه لنبوته ورسالته: هو أنه خلقه كامل الفطرة؛ ليبعثه بدين الفطرة، وأنه خلقه كامل العقل الاستقلالى الهيولانى ليبعثه بدين العقل المستقل والنظر العلمى، وأنه كمل بمعالى الأخلاق، ليبعثه متمما لمكارم الأخلاق، وأنه بغّض إليه الوثنية وخرافات أهلها ورذائلهم من صغر سنه، وحبب إليه العزلة حتى لا تأنس نفسه بشيء يتنافسون فيه من الشهوات واللذات البدنية، أو منكرات القوة الوحشية، كسفك الدماء، والبغى على النّاس، أو المطامع الدنيئة كأكل أموال الناس بالباطل- ليبعثه مصلحا لما فسد من أنفس الناس، ومزكيا له بالتأسى به، وجعله المثل البشرى الأعلى، لتنفيذ ما يوحيه إليه من الشرع الأعلى. فكان من عفته أن سلخ من سنى شبابه وفراغه خمسا وعشرين سنة مع زوجته خديجة كانت فى عشر منها كهلة نصفا أم أولاد، وفى 15 منها عجوزا يائسة من النسل، فتوفيت فى الخامسة والستين وهى أحبّ الناس إليه، وظلّ يذكرها ويفضّلها على جميع من تزوّج بهن من بعدها، حتى عائشة بنت الصديق على جمالها وحداثتها وذكائها، وكمال استعدادها للتبليغ عنه، ومكانة والدها العليا فى أصحابه، وظلّ طول عمره يكره سفك الدماء ولو بالحقّ، فكان على شجاعته الكاملة، يقود أصحابه لقتال أعداء الله وأعدائه المعتدين عليه وعليهم، لأجل صدّهم عن دينه، ولكنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا منهم (هو أبىّ بن خلف) كان موطنا نفسه على قتله صلّى الله عليه وسلم فهجم عليه وهو مدجج بالحديد من مغفر ودرع، فلم يجد صلّى الله عليه وسلم بدا من قتله فطعنه فى ترقوته من خلال الدرع والمغفر فقتله، وظل طول عمره ثابتا على أخلاقه من الزهد والجود والإيثار، فكان بعد ما أفاء الله عليه من غنائم المشركين واليهود يؤثر التقشف وشظف العيش على نعمته، مع إباحة شرعه لأكل الطيّبات ونهيه عن تركها تدينا، وكان يرفع ثوبه ويخصف نعله، مع إباحة دينه للزينة وأمره بها عند كلّ مسجد وكان يساعد أهل بيته على خدمة الدار. أكمل الله استعداده الفطرى الوهبى «لا الكسبى» للبعثة بإكمال دين النبيين، والمرسلين. والتشريع الكافى الكافل لإصلاح جميع البشر إلى يوم الدين، وجعله حجّة على جميع العالمين بأن أنشأه كأكثر قومه أميا، وصرفه فى أميته عن اكتساب أى شىء من علوم البشر

من قومه العرب الأميين، ومن أهل الكتاب حتى إنه لم يجعل له أدنى عناية بما يتفاخر به قومه من فصاحة اللسان، وبلاغة البيان، من شعر وخطابة، ومفاخرة ومنافرة «1»، إذ كانوا يؤمون أسواق موسم الحج وأشهرها عكاظ «2» من جميع النواحى لإظهار بلاغتهم وبراعتهم، فكان ذلك أعظم الأسباب لارتقاء لغتهم، واتساع معارفهم، وكثرة الحكمة فى شعرهم، فكان من الغريب أن يزهد محمد صلّى الله عليه وسلم فى مشاركتهم فيه بنفسه وفى روايته لما عساه يسمعه منه، وقد سمع بعد النبوة زهاء مائة قافية من شعر أمية بن الصلت فقال: «إن كاد ليسلم» وقال: «آمن شعره وكفر قلبه»، وقال: «إنّ من البيان لسحرا وإن من الشعر حكما». رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس، وأما قوله «إن من البيان لسحرا» فقد رواه مالك وأحمد والبخارى وأبو داود والترمذى من حديث ابن عمر قلنا: إن الله تعالى جعل استعداد محمّد صلّى الله عليه وسلم للنبوة والرسالة فطريا وإلهاميا لم يكن فيه شىء من كسبه بعلم ولا عمل لسانى ولا نفسى، وأنه لم يرو عنه أنه كان يرجوها .. كما روى عن أمية ابن أبى الصلت. بل أخبر الله عنه أنه لم يكن يرجوها كما تقدّم ولكن روى عن خديجة رضى الله عنها أنها لما سمعت من غلامها ميسرة أخبار أمانته وفضائله وكراماته، وما قاله بحيرا الراهب فيه. تعلّق أملها بأن يكون هو النبى الذى يتحدّثون عنه، ولكن هذه الروايات لا يصل شىء منها إلى درجة المسند الصحيح كحديث بدء الوحى الذى أوردناه آنفا، فإن قيل: إنه يقويها حلفها بالله أنّ الله تعالى لا يخزيه أبدا. قلنا: إنها عللت ذلك بما ذكرته من فضائله ورأت أنها فى حادة إلى استفتاء ابن عمها ورقة فى شأنه. وأما اختلاؤه صلّى الله عليه وسلم وتعبده فى الغار عام الوحى فلا شك فى أنه كان عملا كسبيا مقويا لذلك الاستعداد السلبى من العزلة وعدم مشاركة المشركين فى شىء من عباداتهم ولا عاداتهم. ولكنه لم يكن يقصد به الاستعداد للنبوّة. لأنه لو كان لأجلها لاعتقد حين رأى

_ (1) النافرة: المحاكاة والمفاخرة فى الأحساب والأنساب. (2) كان للعرب فى عهد الجاهلية أسواق ومجامع فى الحجاز يقصدونها فى موسم الحج للبيع والشراء، ولإظهار مناقبهم ومجد آبائهم وقبائلهم، أولها عكاظ بالضم (بوزن غراب)، وهى من عمل الطائف على طريق اليمن. وقال أبو عبيد: هى صحراء مستوية لا علم (بفتحتين) بها ولا جبل، وهى بين نجد والطائف، وكان يقام فيها السوق نحوا من نصف شهر فى ذى القعدة، ثم يأتون سوق ذى مجنة (بكسر الميم وتشديد النون) وهى دون عكاظ إلى مكة، فيقيمون فيها إلى آخر ذى القعدة، ثم يأتون سوق ذى المجاز وهى أقرب إلى مكة فيقيمون فيها إلى يوم التروية (وهو الذى قبل عرفة الذى هو تاسع ذى الحجة)، ومنها يصدرون إلى منى فعرفات.

الملك أن عقب رؤيته حصول مأموله وتحقق رجائه، ولم يخف منه على نفسه، وإنما كان الباعث لهذا الاختلاء والتحنث اشتداد الوحشة من سوء حال النّاس والهرب منها إلى الأنس بالله تعالى والرجاء فى هدايته إلى المخرج منها، كما بسطه شيخنا الأستاذ الإمام فى تفسير قوله تعالى من سورة الضحى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 7]، وما يفسره من قوله عزّ وجلّ فى سورة الشورى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 52، 53]، وألمّ به فى رسالة التوحيد إلماما مختصرا مفيدا، فقال: «من السنن المعروفة أنّ يتيما فقيرا أميا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته، ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه لا سيما إن كان من ذوى قرابته، وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده، فلو جرى الأمر فيه على جارى السنن لنشأ على عقائدهم، وأخذ بمذاهبهم إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده «1». ولكنّ الأمر لم يجر على سنته، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء فى الكتاب من قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد، أو على غير السبيل القويم، قبل الخلق العظيم، حاشا لله إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هى الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل، إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته» أ. هـ. (أقول) وجملة القول أن استعداد محمد صلّى الله عليه وسلم للنبوة والرسالة عبارة عن جعل الله تعالى روحه الكريمة كمرآة صقيلة حيل بينها وبين كل ما فى العالم من التقاليد الدينية والأعمال الوراثية والعادات المنكرة، إلى أن تجلّى فيها الوحى الإلهى بأكمل معانيه، وأبلغ مبانيه، لتجديد دين الله المطلق الذى يرسل به رسله إلى أقوامهم خاصة بما يناسب حالهم واستعدادهم، وأراد إكمال الدين به فجعله خاتم النبيين، وجعل رسالته عامة دائمة، لا يحتاجون بعدها إلى وحى آخر.

_ (1) كأمية بن أبى الصلت وعمرو بن نفيل.

الأمثال النورانية لفطرة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه

الأمثال النورانية لفطرة محمد صلّى الله عليه وسلم وروحه، ووحيه، وكتاب الله تعالى ودينه لقد كان محمد صلّى الله عليه وسلم في فطرته السليمة، وروحه الشريفة، وما نزل عليها من المعارف العالية، وما أشرق فيها من نور الله عزّ وجلّ الذي تلوته عليك آنفا من آخر سورة الشورى هو مضرب المثل فى قوله تعالى من سورة النور: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) [النور: 35]. الله أكبر إن دين محمّد ... وكتابه أقوى وأقوى قيلا لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفأ القنديلا وكما قال فى أول همزيته: كيف ترقى رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء لم يساووك فى علاك وقد حا ... ل سنى منك دونهم وسناء إنما مثّلوا صفاتك النا ... س كما مثّل النجوم الماء أنت مصباح كلّ فضل فما تص ... در إلا عن ضوئك الأضواء أفرأيت من أنزل الله عليه تلك الآيات. التى أشرقت بنورها الأرض والسموات، وألهمه هذا الدعاء الفياض بنور الله. أيعقل أن يستمد النور ممن كانوا يعيشون فى ظلمة الوثنية الهالكة، وفى ظلمات التقاليد الكهنوتية الحالكة. الذين ضرب لهم الله المثل بعد مثل النور الذي اقتبسناه من سورة النور بقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور: 39 - 40]. فارجع أيها الناظر المنصف إلى وجدانك، وتأمل هذه الأمثال الإلهية، وما تراه فى سائر هذا الكتاب لعلّ الله يتم نور إنصافك، فتكتب كتابا آخر تثبت به الوحى الإلهى المعصوم لمحمّد خاتم النبيين ببلاغتك الفرنسية، وتدعو قومك إلى الاهتداء بكتابه القويم، ومعالجة مفاسد إلحادهم وخياناتهم لأنفسهم وظلمهم لغيرهم باتباع صراطه المستقيم.

هذا ما نراه كافيا لتفنيد مزاعم مصورى الوحى النفسى من ناحية شخص محمد واستعداده، ويتلوه ما هو أقوى دليلا، وأقوم قيلا، وهو موضوع الوحى الذى هو آية نبوته الخالدة، وحجته الناهضة، ومصدر جميع تلك الأنوار الفائضة، وهو: القرآن الكريم.

آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)

آية الله الكبرى القرآن العظيم القرآن الكريم، القرآن الحكيم، القرآن المجيد، الكتاب العزيز الذى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) هو كتاب لا كالكتب، هو آية لا كالآيات، هو معجزة لا كالمعجزات، هو نور لا كالأنوار، هو سر لا كالأسرار، هو كلام لا كالكلام، هو كلام الله الحى القيوم، الذى ليس لروح القدس جبريل الأمين عليه السلام منه إلا نقله بلفظه العربى من سماء الأفق الأعلى إلى هذه الأرض، ولا لمحمّد رسول الله وخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله منه إلا تبليغه للناس بلفظه الذى تلقاه عن الروح الأمين، ثم بيانه لهم بالقول والعمل ليهتدوا به، فهو معجز للخلق بلفظه ونظمه وأسلوبه وهدايته وتأثيره وعلومه. لم يكن فى استطاعة محمّد صلّى الله عليه وسلم أن يأتى بسورة من سوره بكسبه ولا مواهبه. من علومه ومعارفه، وفصاحته وبلاغته، وهو صلّى الله عليه وسلم لم يكن عالما ولا بليغا ممتازا إلا به. بل فيه آيات صريحة ناطقة بأنه لم يكن يعلم شيئا من علومه- تقدم بعضها، وبأنه كان يعجز كغيره عن الإتيان بمثله، وهو ما أمره تعالى أن يقوله للناس فى تحديه إياهم واستدلاله به على نبوته، وهو قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15]، أى: لو شاء الله ألّا أتلوه عليكم ما تلوته، ولما أعلمكم هو به، فإنى إنما تلوته عليكم بمشيئته وأمره، فقد أقمت فيكم عمرا طويلا لم أتل عليكم شيئا، أفلا تعقلون أنّ من عاش أربعين سنة لم يصدر عنه علم ولا عرفان ولا بلاغة لسان، لا يمكن أن يصدر عنه بعد الاكتهال، ما لم يكن له أدنى نصيب منه فى سن الشباب «1»؟. وقد بينت فى الكلام على آية التحدى بالقرآن من تفسير سورة البقرة [32] أهم وجوه الإعجاز اللفظى والمعنوى بالإجمال والإيجاز، وهى بضعة أنواع «2».

_ (1) راجع تفسير الآية ص 320 من جزء التفسير الحادى عشر، ترى ما يؤيد هذا الدليل العقلى من العلم العصرى. (2) هى: 1 - أسلوبه ونظمه.

ثم تكلمت عن التحدى ببلاغته ونظمه فى آيتى يونس [37، 38] ومنه دلالتهما على عجز النبى صلّى الله عليه وسلم عن الإتيان بسورة من مثله كغيره، ومنه وجه التحدى بعشر سور مثله مفتريات، ووجه الإعجاز فى السور القصيرة، وسأعود إلى هذا فى آخر الكتاب. وأوجّه الكلام هنا إلى هداية القرآن بأسلوبه وتأثيره وعلومه المصلحة للبشر بما يحتمله المقام من البسط والتفصيل، وهو القدر الذى يعلم منه أن هذه العلوم أهدى من كل ما حفظه التاريخ عن جميع الأنبياء والحكماء، وواضعى الشرائع والقوانين، وساسة الشعوب والأمم، وأن إعجازه من هذه الناحية أقوى البراهين على كونه وحيا من الله تعالى تقوم به الحجة على جميع البشر. فمن كان يؤمن بأن للعالم ربا عليما حكيما مريدا فاعلا مختارا فلا مندوحة له ولا مناص من الإيمان بأن هذا القرآن وحى من لدنه عزّ وجلّ أنزله على خاتم أنبيائه المرسلين رحمة بهم ليهتدوا به إلى تكميل فطرتهم، وتزكية أنفسهم، وإصلاح مجتمعهم من المفاسد التى كانت عامة لجميع أممهم، فيكون اتباع محمد فرضا إلهيا عاما كما قال تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158]. ومن كان لا يؤمن بوجود هذا الرب العليم الحكيم فهذا القرآن حجة ناهضة على وجوده الحق. بكونه ليس من المعهود فى الخلق. وبما اشتمل عليه من الآيات البينات فى الأنفس والآفاق. فمن لم يهتد إلى فهمها فلا مندوحة له عن الجزم بأن محمدا أكمل وأفضل وأعلم وأحكم من كل من عرف فى هذا العالم من الحكماء الهادين المهديين، ويكون الواجب بمقتضى العقل أن يعترف له هؤلاء بأنه أفضل البشر على الإطلاق. وأولاهم بالاتباع. ولا غرو فقد اعترف له بهذا كثير من علماء الشرق والغرب، سنورد بعض شهاداتهم بعد.

_ 2 - بلاغته. 3 - ما فيه من علم الغيب الماضى والحاضر والآتى. 4 - سلامته من الاختلاف بأنواعه. 5 - ما فيه من العلوم الدينية والتشريع. 6 - عجز الزمان عن نقض شىء منه بما تجدد فيه من العلوم. 7 - اشتماله على مسائل كثيرة لم تكن معروفة فى عصر نزوله للبشر. ويتلو هذه الأنواع وجوه دلالتها على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وتفسير الآية فى الجزء الأول من تفسير المنار (ص 228 - 291).

بل رأينا بعض المنصفين من الواقفين على السيرة المحمدية الذين يفهمون القرآن فى الجملة يعتقدون أنّ ما وجد ولن يوجد مثله فى المستقبل: ومنهم الأستاذ وليام موير الانكليزى المشهور «1»، ومنهم ذلك الفيلسوف الطبيب السورى الكاثوليكى النشأة. المادى الكهولة الذى رأى فى مجلة المنار بعض المناقب المحمدية فكتب إلينا كتابا نشرناه فى الجزء الأول من المجلد الحادى عشر سنة 1336 هذا نصه: مكتوب الدكتور شبلى شميل المادى فى تفضيل محمد صلّى الله عليه وسلم على جميع البشر إلى غزالى عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار: «أنت تنظر إلى محمد كنبى، وتجعله عظيما، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا فى الاعتقاد (الدينى أو المبدأ الدينى) على طرفى نقيض فالجامع بيننا العقل الواسع، والإخلاص فى القول، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة». الحق أولى أن يقال دع من محمّد فى سدى قرآنه ... ما قد نحاه للحمة الغايات إنى وإن أك قد كفرت بدينه ... هل أكفرنّ بمحكم الآيات أو ما حوت فى ناصع الألفاظ من ... حكم روادع للهوى وعظات وشرائع لو أنهم عقلوا بها ... ما قيدوا العمران بالعادات نعم المدبّر والحكيم وإنّه ... ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات رجل الحجا رجل السياسة والدها ... بطل حليف النصر فى الغارات ببلاغة القرآن قد غلب النهى ... وبسيفه أنحى على الهامات من دونه الأبطال فى كل الورى ... من سابق أو حاضر أو آت والمؤمنون بهذه الحقيقة من أحرار مفكّرى الشعوب كلّها كثيرون كما قلنا، ولكن الجاحدين لوجود رب مدبر للعالمين قليلون، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم لحجة عليهم فيما شهدوا له به

_ (1) قال السير وليام موير فى كتابه (حياة محمد) بعد أن ذكر طائفة من صفاته صلّى الله عليه وسلم: وبالاختصار فإنه مهما ندرس حياة النبى محمد صلّى الله عليه وسلم نجدها على الدوام عبارة عن كتلة فضائل مجسمة مع نقاء سريرة وخلق عظيم، وستبقى تلك الفضائل عديمة النظير على الإطلاق فى جميع الأزمان فى الماضى وفى الحاضر وفى المستقبل.

وعزوه إلى استعداده وكسبه، وأسنده هو إلى وحى ربه مع ما علم بالضرورة من صدقه الفطرى المطبوع. ولكن شبلى شميل كان يزعم أنه نسج قرآنه من سدى الحكمة ولحمة الدين ليقبله جمهور الناس، وقد بطل هذا الزعم بما بسطناه فى هذا الكتاب وأثبتنا به نبوته صلّى الله عليه وسلم وهو يتضمن الحجة على وجود الرب تعالى بل هو مجموعة حجج عقلية وطبيعية، على الألوهية وعلى النبوة. وسترى أيها القارئ بسط هذه الحجة فى خاتم هذا الكتاب، وأمهد السبيل لها بفصلين فى إعجاز القرآن للخلق، من وجهين هما أوجه وأقوى مما ألف فيه علماؤنا المصنفات الممتعة وأحراها بإقناع أهل هذا العصر المستقلى الفكر، فأقول: ***

الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته

الفصل الرابع فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته، وتأثيره وثورته أسلوب القرآن فى تركيبه المزجى: لو أن عقائد الإسلام المنزلة فى القرآن من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من الحساب والجزاء، ودار الثواب ودار العقاب. جمعت مرتبة فى ثلاث سور أو أربع أو خمس مثلا ككتب العقائد المدونة. ولو أن عباداته من الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والدعاء والأذكار وضع كل منها فى بعض سور أيضا مبوّبة مفصّلة ككتب الفقه المصنفة. ولو أنّ آدابه وحكمه وفضائله الواجبة والمندوبة، وما يقابلها من الرذائل والأعمال المحرمة والمكروهة أفردت هى وما تقتضيه من الترغيب والترهيب من المواعظ والنذر والأمثال، الباعثة لشعورى الخوف والرجاء. فصلت فى عشر سور أو أكثر ككتب الأخلاق والآداب المؤلفة. ولو أن قواعده التشريعية، وأحكامه الشخصية والسياسية والحربية والمالية والمدنية وحدوده وعقوباته التأديبية، رتبت فى عدة سور خاصة بها كأسفار القوانين الوضعية. ثم لو أن قصص النبيين والمرسلين وما فيها من العبر والمواعظ والسنن الإلهية سردت فى سورها مرتبة كدواوين التاريخ. لو أن كل ما ذكر وما لم يذكر من مقاصد القرآن التى أراد الله بها إصلاح شئون البشر جمع كل نوع منها وحده كترتيب أسفار التوراة التاريخى التى لا يعلم أحد مرتبها، أو كتب العلم والفقه والقوانين؛ لفقد القرآن بذلك أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول من التشريع وحكمة التنزيل، وهو التعبّد به واستفادة كل حافظ للكثير أو للقليل من سوره- حتى القصيرة منها- كثيرا من مسائل الإيمان والفضائل والأحكام والحكم المثبتة فى جميع السور، لأنّ السورة الواحدة لا تحوى فى هذا الترتيب المفروض إلا مقصدا واحدا من تلك المقاصد، وقد يكون أحكام الطّلاق أو الحيض. فمن لم يحفظ إلا سورة طويلة فى موضوع واحد يتعبّد بها وحدها، فلا شكّ أنه يملّها.

وأما سورة المنزلة بهذا الأسلوب الغريب، والنظم العجيب، فقد يكون فى الآية الواحدة الطويلة والسورة الواحدة القصيرة، عدة ألوان من الهداية وإن كانت فى موضوع واحد فترى فى سورتى الفيل وقريش على قصرهما ذكر مسألتين تاريخيتين قد جعلتا حجة على مشركى قريش فيما يجب عليهم من توحيد الله وعبادته، بما منّ عليهم بعنايته بحفظ البيت الحرام وأمنه وهو مناط عزّهم وفخرهم وشرفهم، ومعقل حياتهم. ومحبى تجارتهم ورزقهم. قلت: إنّ القرآن لو أنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها لفقد أعظم مزايا هدايته المقصودة بالقصد الأول. وأقول أيضا: إنه لو أنزل هكذا لفقد بهذا الترتيب أخص مرات إعجازه المقصود بالدرجة الثانية. كلا إنّ كلّ واحدة من الميزتين مقصودة لذاتها. فأولى أن يعبر عن الميزة الأولى بالموضوع وعن الثانية بالشكل. كاصطلاح المحاكم. فيقال: لو كان القرآن مرتبا مبوبا كما ذكر لكان خاليا من أعظم مزاياه على غيره من الكتب شكلا وموضوعا. يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذى أنزله به رب العالمين. العليم الحكيم الرحيم، وهو مزج تلك المقاصد كلّها بعضها ببعض وتفريقها فى السور الكثيرة الطويلة منها والقصيرة بالمناسبات المختلفة، وتكرارها بالعبارات البليغة. المؤثّرة فى القلوب المحركة للشعور النافية للسآمة والملل. من المواظبة على ترتيلها بنغمات نظمه الخاص به وفواصله المتعددة القابلة لأنواع من التغنى والنغم الذى يحرك فى القلوب وجدان الخشوع وخشية الإجلال للرب المعبود، والعرفان بقدسه وكماله، والملاحظة لجماله وجلاله والتعرض لتجلى أسمائه وصفاته، والتفكر فى آيات مصنوعاته، والرجاء فى رضوانه ورحمته، والخوف من غضبه وعقوبته، والاعتبار بسننه فى خلقه والقابلة لأنواع أخرى من الإلقاء الخطابى فى الترغيب والترتيب. والتعجيب، والتعجيب، والتكريه والتحبيب، والزجر والتأنيب، واستفهام الإنكار والتقرير، والتهكم والتوبيخ بما لا نظير له فى كلام البشر من خطابه ولا شعر، ولا رجز ولا سجع، فبهذا الأسلوب الرفيع فى النظم البديع وبلاغة التعبير الرفيع كان القرآن كما ورد فى معنى وصفه أنه لا تبلى جدته، ولا تخلقه كثرة الترديد «1»؛ وحكمة ذلك وغايته تعلم مما وقع بالفعل، وهاك بيانه بالإجمال:

_ (1) المعنى المراد من الحديث هنا أن القرآن لا تنقضى عجائبه الدالة على أنه من الله تعالى، ولا يمل ويسأم من كثرة التلاوة، ولا يخلق بطول الزمان، وهو من خلق الثوب إذا بلى، وأخلقه أبلاه، وأصح ما ورد

_ فى هذا ما رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه، ومحمد بن نصر، وابن الأنبارى فى كتاب المصاحف، والحاكم فى المستدرك وصححه، والبيهقى من حديث ابن مسعود مرفوعا إلى النبى صلّى الله عليه وسلم. ولفظه: «إن هذا القرآن مأدبة الله فأقبلوا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه. لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله تعالى يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إنى لا أقول (الم) حرف، ألف ولام وميم. قوله: لا يزيغ فيستعتب؛ معناه لا يميل عن الحق فيطلب منه العتبى أى الرجوع إليه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح بن عمر، أى ولم يخرجه البخارى بسبب ما قيل فى صالح بن عمر فى سنده، وليس كذلك فإن صالحا قد خرج له مسلم، وإنما تركاه بسبب شيخه إبراهيم بن مسلم الهجرى (بفتحتين) الذى ضعفه الجمهور، وما ضعفوه بطعن فى صدقه أو حفظه وإنما وجدوا أنه رفع عدة أحاديث إلى النبى صلّى الله عليه وسلم هى موقوفة على عبد الله بن مسعود، وكذا على عمر رضى الله عنه. ولكن صرح سفيان بن عيينة بأنه جاء إبراهيم هذا فأعطاه كتبه فصحح له المرفوع والموقوف بقوله هذا عن النبى صلّى الله عليه وسلم، وهذا عن عبد الله بن مسعود، وهذا عن عمر، والظاهر أن هذا الحديث مما رفعه سفيان، ولذلك خرجه ابن أبى شيبة ومن ذكرنا مرفوعا. وروى نحوه من حديث علىّ كرم الله وجهه واعتمده القاضى الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن.

الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم

الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن في الأمة العربية فسائر الأمم القرآن كتاب أنزله الله تعالى على قلب رجل نشأ على الفطرة البشرية سليم العقل صقيل النفس. طاهر الأخلاق، لم تملكه تقاليد دينية، ولا أهواء دنيوية، لأجل إحداث ثورة وانقلاب كبير فى العرب فسائر الأمم، يكتسح من العالم الإنسانى ما دنس فطرته من رجس الشرك والوثنية. الذى هبط بهذا الإنسان من أفقه الأعلى فى عالم الأرض. إلى عبادة مثله وما هو دونه من هذه المخلوقات- وما أفسد عقله وذهب باستقلال فكره من البدع الكنسية، والتقاليد المذهبية، التى أحالت توحيد الأنبياء الأولين شركا، وحقّهم باطلا، وهدايتهم غواية- وما أفسد بأسه، وأذل نفسه، وسلبه إرادته، من استبداد الملوك الظالمين، والرؤساء القاهرين. ثورة تحرر العقل البشرى والإرادة الإنسانية من رقّ المنتحلين لأنفسهم صفة الربوبية، أو النيابة عن الرب الخالق تعالى في التحكم والهيمنة والسيطرة على قلوب الناس وعقولهم، والتصرف فى إرادتهم وأبدانهم وأموالهم، فيكون بهذا العتق كل امرئ اهتدى به حرّا كريما في نفسه، عبدا خالصا لربه وإلهه، يوجّه قواه العقلية والبدنية إلى تكميل نفسه وجنسه. مثل هذه الثورة الإنسانية لا يمكن أن تحدث إلا على قاعدة القرآن في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. وكيف يكون تغيير الأقوام لما بأنفسهم من العقائد والأخلاق والصفات الثابتة، التى طبعتها عليها العبادات الموروثة والعادات الراسخة؟ هل يكفى فى ذلك قيام مصلح فيهم يضع لهم كتابا تعليميّا جافّا ككتب الفنون يقول فيه: إنكم أيها الناس ضالون فاسدون، ومضلّون ومفسدون فاعملوا بهذا الكتاب تهتدوا وتصلحوا، أو قانونا مدنيّا يقول في مقدمته: نفذوا هذا القانون تحفظ حقوقكم وتعتز أمتكم وتقوى دولتكم؟ أنّى وقد عهد من الناس الفاسدين المفسدين سوء التصرف بكتب أنبيائهم المرسلين، وإهمال قوانين حكمائهم المصلحين، كما فعل أهل الملل الأولون والمسلمون المتأخرون؟ كلا. إنما توضع القوانين للحكومات المنظمة ذات السلطان والقوة التى تكفل تنفيذها. وأنّى لمحمّد صلّى الله عليه وسلم فعل هذا فى الأمة العربية العاتية عن كل سيطرة ونظام وقد بعث

بالحجة والبرهان فريدا وحيدا لا عصية له من قومه ولا سلطان؟ على أنه جاء بأعدل الأصول التى تبنى عليها أمة قوانينها عند تكوين دولتها فى الأحوال الملائمة لها. جاء لإصلاح الأخلاق والطباع بالحجة والقيمة وطرق الإقناع والخضوع لوازع الاعتقاد النفسى دون وازع الحكم القهرى. ليغير الناس ما بأنفسهم بالاختيار، لا بالقوة والإجبار فيغير الله ما بهم بمقتضى سنته فى نظام الاجتماع وقد نطق القرآن بأن الرسول إنما هو مبلغ ومذكر غير جبّار على النّاس ولا مسيطر. كلا. إنّ هذه الثورة ما كان يمكن أن تحدث إلا بما حدثت به. وهو تأثير هذا القرآن فى أنفس الأمة العربية التى كانت أشد الأمم البدوية والمدنية استعدادا فطريا لظهور الإسلام فيها، كما بيناه فى كتابنا (خلاصة السيرة المحمدية)، وسنلم به قريبا. ذلك بأن من طباع البشر فى معرفة الحق والباطل، والخير والشر، والعمل بمقتضى المعرفة وإن خالف مقتضى الأهواء والشهوات، والتقاليد والعادات، إن مجرد البيان والإعلام والأمر والنهى لا يكفى فى الحمل على التزام الحق ونصره على الباطل، ولا فى أداء الواجب ومن عمل الخير وترك الشر إذا عارض المقتضى العلمى لهما ما أشرنا إليه آنفا من الموانع النفسية والعلمية. إلا فى بعض الأفراد من الناس. دون الجماعات والأقوام. بل مضت سنّة الله فى تثبيت الحق والخير فى النفس، وصدور آثارهما عنهما بالعمل. أنه يتوقف على صيرورة الإيمان بهما إذا عانا وجدانيا حاكما على القلب. راجحا على ما يخالفه من رغب ورهب، وأمل وألم، وإنما يكون هذا فى الأحداث بالتربية العلمية العملية، والأسوة الحسنة لهم فيمن ينشئون بينهم من الوالدين والأقربين والمعاشرين. وأما كبار السن فلا سبيل إلى جعل الإيمان بالحقّ المطلق والخير العام إذعانا وجدانيا لجمهورهم إلا بالأسلوب الذى نزل به القرآن. بل بالقرآن الممتاز بهذا الأسلوب، فقلب به طباع الكهول والشبان وأخلاقهم وتقاليدهم وعاداتهم، وحوّلها إلى أضدادها علما وعملا بما لم يعهد له نظير فى البشر، فكان القرآن آية خارقة للمعهود من سنن الاجتماع البشرى فى تأثيره. بالتبع لكونه آية معجزة لبشر فى لغته وأسلوبه: كما كان آية معجزة فى إصلاحه للأمم بهديه وتعليمه.

اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل

اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل واعتبر هذا ببنى إسرائيل سلالة النبيين؛ فإن كان ما رأوه بمصر من آيات موسى عليه السلام، ثم ما رأوه فى برية سيناء ومدة التيه فيها، ومن عناية الله تعالى بهم، ومن سماعهم كلام الله تعالى بآذانهم فى لهيب النار المشتعلة على ما ترويه توراتهم- ولم يثبت عندنا التكليم إلا لنبيّهم- لم يتغير بذلك كله ما كان بأنفسهم من تأثير الوثنية المصرية وخرافاتها الراسخة فى قلوبهم، ولا من تأثير السياسة الفرعونية المستبدة فى أخلاقهم، فقد عذّبوا موسى عذابا نكرا، وعاندوه فى كل ما كان يأمرهم به، وعبدوا صنم العجل الذهبى فى أثناء مناجاته لربه. حنينا إلى ما كان من عبادة مستعبديهم الفرعونيين للعجل (أبيس) حتى وصفهم الله فى التوراة بالشعب الصلب الرقبة، وهو كناية عن البلادة والعناد، وعصل الطباع «1» المانع من الانقياد، وظل ذلك كذلك إلى أن باد ذلك الجيل الفاسد بعد أربعين سنة، ونشأ فيهم جيل جديد ممن كانوا أطفالا عند الخروج من مصر وممن ولد فى التيه، أمكن أن يعقلوا التوحيد والشريعة، وأن يعملوا بها ويجاهدوا فى سبيلها، وإنما كان ذلك بعد موت موسى عليه السلام. فأين بنو إسرائيل من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم الذين تربّوا بسماع القرآن وترتيله وتدبره، فى رسوخهم فى الإيمان وصبرهم على أذى المشركين واضطهادهم إياها ليفتنوهم عن دينهم، ثم مجاهدتهم لهم عند الإمكان بعد الهجرة، ومجاهدة أعوانهم من أهل الكتاب (اليهود) وتطهيرهم الحجاز وسائر جزيرة العرب من كفر الفريقين فى عهده صلّى الله عليه وسلم، وقد كانت مدّة البعثة المحمدية كلّها عشرين سنة أى نصف مدة التيه، وكان ذهب نصفها فى الدعوة وتبليغ الدين للأفراد بمكة والنصف الآخر هو الذى تم فيه الانقلاب العربى من تشريع وتنفيذ وجهاد وفتح وتأسيس. ثم تأمل ما كان من تدفقهم أنفسهم كالسيل الآتى «2» على الأقطار من نواحى الجزيرة كلّها، والظهور على ملكى قيصر وكسرى أعظم ملوك الأرض، وإزالة الشرك والظلم

_ (1) أى اعوجاجها مع صلابتها، من عصل الشيء «من باب فرح» إعوج فى صلابة فهو عصل «ككتف» وأعصل والجمع عصال كسهام. (2) الآتى بالتشديد كقوى والأتاوى: الغريب الذى يأتى من حيث لا يعلم.

المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن

منهما، ونشر التوحيد والحق والعدل فيهما، ودخول الأمم فى دين الله أفواجا مختارين اهتداء بهم، وعنايتهم بتعلم العربية بالتبع لعنايتهم بالدين، حتى فتحوا- هم وتلاميذهم- نصف كرة الأرض فى زهاء نصف قرن، وكانوا مضرب المثل فى الرحمة والعدل «1»، وموضع الحيرة لعلماء الاجتماع وقواد الحرب «2». وأنى يبلغ الشعب الذى وصف ربه فى كتابه بالشعب المتمرد الصلب الرقبة «3» درجة الذين وصفهم رب العالمين بقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً [الفتح: 29]. فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذى نشأ وشبّ على الشدة والقسوة فى الجاهلية حتى قيل: إنه وأد بنتا له، صار بالإسلام من أرحم الرحماء بالناس، حتى أنه يطبخ الطعام هو وزوجته ليلا لامرأة فقيرة فى المخاض وبعلها حاضر لا يساعدهما، ولم يكن يعلم أنه أمير المؤمنين. لا جرم أن سبب هذا كلّه تأثير القرآن بهذا الأسلوب الذى نراه فى المصحف، فقد كان النبى صلّى الله عليه وسلم يجاهد به الكافرين كما أمره الله بقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: 52]، ثم كان به يربى المؤمنين ويزكيهم. كما قال الله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، وبهدايته والتأسى بمبلغه صلّى الله عليه وسلم ربوا الأمم وهذّبوها، وقلّما يقرأه أحد كما كانوا يقرءون، إلا ويهتدى به كما كانوا يهتدون على تفاوت فى الاستعداد النفسى واللغوى واختلاف الزمان لا يخفى. المسلمون أرحم البشر بهداية القرآن: وكيف لا يكون المؤمنون بالقرآن ارحم النّاس وقد امتن الله عليهم فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]؟، وقد قلنا فى الكلام على الرحمة من هذه المزايا الأربع للقرآن من تفسير المنار (جز 11) ما نصه:

_ (1) قال الفيلسوف الفرنسى غوستاف لوبون فى كتابه «حضارة العرب والإسلام»: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب. (2) فى مقدمتهم نابليون بونابرت أشهر قواد الحرب فى العالم وهو الذى قال: «إن العرب فتحوا نصف العالم فى نصف قرن، وصرح بأنه يدين بالإسلام كما تراه فى علاوات كتاب «حاضر العالم الإسلامى» للأمير شكيب (ص 24 جزء أول طبعة ثانية). (3) راجع آخر الفصل 31 من سفر التثنية وغيره.

(الرابعة الرحمة للمؤمنين): وهى ما تثمره لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم من رحمة ربهم الخاصة، وهى صفة كمال من آثارها: إغاثة الملهوف، وبذل المعروف، وكف الظلم، ومنع التعدّى والبغى، وغير ذلك من أعمال الخير والبر، ومقاومة الشر، وقد وصف الله المؤمنين بقوله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، وبقوله: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. وهذه الصفات الأربع مرتّبة على سنّة الفطرة البشرية، فالموعظة هى التعاليم التى تشعر النفس بنقصها وخطر أمراضها الاعتقادية والخلقية، وتزعجها إلى مداواتها وطلب الشفاء منها، والشفاء تخلية، يتبعها طلب التحلية، بالصحة الكاملة، والعافية التامة، وهو الهدى، ومن ثمراته: هذه الرحمة التى لا توجد على كمالها إلا فى المؤمنين المهتدين، ولا يحرمها إلا الكافرون الماديون. حتى قال بعضهم: إنها ضعف فى القلب. ويجعل صاحبه كالمضطر إلى الإحسان والعطف، وما هذا القول إلا من فساد الفطرة وقسوة القلب، وفلسفة الكفر، فلقد كان أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا، أرحم الناس وأشدهم عطفا وهو سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين. الذى وصفه ربه بما وصف به نفسه من قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، وقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكذلك كان أصحابه رضى الله عنهم حتى كان من يوصف بالشدة والقسوة كعمر بن الخطاب رضى الله عنه صار من أرحم الناس وسيرته فى ذلك معروفة كما أشرنا إليه آنفا. وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقى». رواه أبو داود والترمذى، واللفظ له عن أبى هريرة رضى الله عنه، وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع وهو فى الصلاة بكاء طفل تجوز فى صلاته- أى اختصرها وخفّفها- رحمة به وبأمه، وروى ابن اسحاق أن بلالا رضى الله عنه مر بصفية وبابنة عم لها على قتلى قومهما اليهود بعد انتهاء غزوة خيبر فصكّت ابنة عمها وجهها وحثت عليه التراب وهى تصيح وتبكى، فقال صلّى الله عليه وسلم له: «أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما». وجاء أعرابى إليه صلّى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون أولادكم وما نقبلهم فقال له صلّى الله عليه وسلم: «أو أملك لك «1» أن نزع الله الرحمة من قلبك؟». رواه البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى الله عنها والمراد إنى لا أملك أن أشعرك بما لا تشعر به، لأنّ الله نزع الرحمة من قلبك، فأجعلك رحيما. بل كان صلّى الله عليه وسلم شديد الرحمة

_ (1) قوله: «أو أملك» همزته للاستفهام الإنكارى، والواو مفتوحة وما بعدها معطوف على محذوف تقديره أتكون هكذا وأملك له من الله شيئا غيره؟ وقوله: «أن نزع» بفتح همزة أن وتقدير لام التعليل أو باء السببية قبلها بأى بأن نزع الرحمة من قلبك.

بالبهائم والطير والحشرات، وطالما أوصى بها ولا سيما صغارها وأمهاتها، وجاءه مرة رجل وعليه كساء فى يده شىء قد التف عليه فقال: يا رسول الله إنّنى لما رأيتك أقبلت فمررت بغيضة شجرة فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فى كسائى، فجاءت أمّهنّ فاستدارت على رأسى، وكشفت لها عنهن فوقعت عليهن فلففتها معهن بكسائى، فهن أولاء معى. قال: «ضعهن». قال: ففعلت فأبت أمهن إلا لزومهن. فقال صلّى الله عليه وسلم: «أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها؟». قالوا: نعم. قال: «والذى بعثنى بالحق الله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن حيث أخذتهن وأمهن معا». فرجع بهن. رواه أبو داود من حديث عامر الرامى رضى الله عنه وروى مالك والبخارى ومسلم وأبو داود من حديث أبى هريرة مرفوعا حديثين خلاصتهما أن الله غفر لرجل ولامرأة بغى «أى مومس» لأن كلا منهما رأى كلبا قد اشتد العطش به فرحمه وأخرج له الماء من البئر بخفه فسقاه قالوا له: يا رسول الله إن لنا فى البهائم أجرا؟ فقال: «فى كلّ كبد رطبة أجر». ورواه أحمد عن عبد الله بن عمرو سراقة بن مالك بلفظ: «وفى كل ذات كبد حرّى أجر». وقال صلّى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء». رواه الترمذى وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضى الله عنه، ورويناه مسلسلا بالأولية من طريق أستاذنا الشيخ محمد أبى المحاسن القاوقجى، وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» - وفى رواية-: «ولو يعلم الكافر بكلّ الذى عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة؛ ولو يعلم المؤمن بكلّ ما عند الله من العذاب لم يأمن من النار». رواه البخارى ومسلم والترمذى أ. هـ. ... هذا ولو كان القرآن بأسلوب الكتب العلمية والقوانين الوضعية لما كان له ذلك التأثير الذى غير ما بأنفس العرب فغيروا به أمم العجم، فكانوا كلهم كما وصفهم الله عزّ وجلّ بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110]، ولم يكن عند العرب شىء من العلم بسياسة الأمم وإدارتها إلا هذا القرآن، والأسوة الحسنة

بمبلغه ومنقذه الأول عليه الصلاة والسلام، ولن يعود للمسلمين مجدهم وعزهم إلا إذا عادوا إلى هدايته وتجديد ثورته، ولعنة الله على من يصدونهم عنه. زاعمين استغناءهم عن العمل به وبسنة مبينه- بكتب مشايخهم الجافة الخاوية من كل ما يحيى الإيمان، ويعلى الهمم ويزكى الأنفس، ويبعث على الجهاد بالأنفس والأموال. أما وحق القرآن علينا، والله لم ينزل غيره إلينا، إنه لا يغنينا عن تدبره والاهتداء به ولا عن فهم سورة واحدة من سوره. جميع ما فى الأرض من الكتب المنزلة، ولا من الكتب المصنفة، وما فتن الشيطان هذه الأمة بشيء كما فتنهم بصدهم عن تهذيب أنفسهم وتزكيتها بالقرآن والسنة المبينة له، وعن دعوة جميع أهل الملل به إليه، وقد بينا لك الفرق بين تأثيره وتأثير التوراة، وهاك إجمال لما فعله فى الأمة العربية ثم فى العالم.

فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية

فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية وإحداثها به أكبر ثورة عالمية تهود أناس من العرب، وتنصّر منهم أناس آخرون من قبل الإسلام بقرون، وكان كل منهم يمدح دينه ويدعو إليه بالطبع. فلم يعاد الجمهور أحدا منهم أو يحتقره لدينه بل كان لزعماء اليهود المستعربين وشعراء النصارى من العرب عندهم مكانتهم اللائقة بهم كأمثالهم من المشركين، ولم يكن لليهودية ولا للنصرانية أدنى صولة فى مكة، ولا خافها رؤساء قريش على زعامتهم الدينية ولا الدنيوية، فلما قام فيهم محمد ابن عبد الله يتلو عليهم القرآن باسم الله زلزلت الأرض بهم زلزالها، وثاروا عليه ثورتهم الصغرى، ثم ثارت الأمة به ومعه ثورتها الكبرى، وهى التى بدلت الأرض، والقلوب غير القلوب، والعقول غير العقول وقلبت نظام الاجتماع العام. وقد كان فعل القرآن فى أنفس العرب وإحداثه تلك الثورة الكبرى فيهم على نوعين أولهما ما أحدثه من الزلزال فى المشركين، وثانيهما تزكيته للمؤمنين ونزعه كل ما كان بأنفسهم من غل وجهل وظلم وفساد. حتى أعقب ما أعقب من الإصلاح فى العالم كله؛ وأمهد لبيان ذلك بكلمة فى حالهم فى عصر ظهور الإسلام. بينا مرارا أن الله تعالى قد أعد الأمة العربية- ولا سيما قريش ومن حولها- لما أراده من الإصلاح العام للبشر بكونهم كانوا أقرب الأمم إلى سلامة الفطرة، وأرقاهم لغة فى التعبير والتأثير، وأقواهم استقلالا فى العقل والإرادة. لعدم وجود ملوك مستبدين فيهم يضعفون إرادتهم ويفسدون بأسهم، ويذلون أنفسهم بالقوة القاهرة، ولا رؤساء دين أولى سلطان روحى يسيطرون على عقولهم وقلوبهم، ويتحكمون فى عقائدهم وأفكارهم، ويسخرونهم لشهواتهم، وكانت جميع الأمم ذات الحضارة والملل مستعبدة مستذلة لزعماء هاتين الرئاستين، حاش العرب. فلما بعث فيهم محمد صلّى الله عليه وسلم بهذا القرآن الداعى إلى الحق وإلى صراط مستقيم، كانوا على أتم الاستعداد الفطرى لقبول دعوته، ولكن رؤساء قريش كانوا على مقربة من ملوك شعوب العجم؛ فى التمتع بالثروة الواسعة، والعظمة الكاذبة، والشهوات الفاتنة، والسرف فى الترف، وعلى حظ مما كان عليه رؤساء الأديان فيها من المكانة الدينية بسدانتهم لبيت الله الحرام. الذى أودع الله تعظيمه فى القلوب من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام،

فرأوا أن هذا الدين الحر يوشك أن يسلبهم الانفراد بهذه العظمة الموروثة، وقد يفضل عليهم بعض الفقراء والموالى، وأنه يحكم عليهم وعلى من يفاخرون بهم من آبائهم بالكفر والجهل والظلم والفسوق، ويشبههم بسائمة الأنعام، فوجهوا كل قواهم ونفوذهم إلى صد محمد عن دعوته ولو بتمليكه عليهم وجعله أغنى رجل فيهم، ولكن تعذر إقناعه بالرجوع عنها بالترغيب، حتى التمويل والتمليك. فقد أجاب عمه أبا طالب لمّا عرض عليه ما أرادوه من ذلك بتلك الكلمة العليا: «يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى شمالى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». حينئذ أجمعوا أمرهم على صده عن تبليغها بالقوة والحيلولة بينه وبين جماهير الناس فى الأسواق والمجامع والبيت الحرام، وبصد الناس عنه أن يأتوه ويستمعوا له، وباضطهاد من اتبعه بالدعوة الفردية إلا أن يكون له من يحميه منهم لقرابة أو جوار أو ذمة، فهؤلاء الرؤساء المترفون والمسرفون المتكبرون، كانوا أعلم الناس بصدق محمد وفيهم نزل قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33]، فقد كابروا الحق بغيا واستكبارا للحرص على رياستهم وشهواتهم، وكانوا أجدر العرب بقبول دعوة القرآن لأنهم أدق الناس لها فهما، وأوسعهم بإعجازها علما، ولكنهم عتوا عنها عتوا: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] كفرعون وقارون وهامان فى آيات موسى.

فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب

فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب قلنا: إن فعل القرآن فى أنفس العرب كان على نوعين: فعله فى المشركين، وفعله فى المؤمنين، فالأول تأثير روعة بلاغته، ودهشة نظمه وأسلوبه، الجاذب لفهم دعوته والإيمان به إذ لا يخفى حسنها على أحد فهمهما، وكانوا يتفاوتون فى هذا النوع تفاوتا كبيرا لاختلاف درجاتهم فى بلاغة اللغة وفهم المعانى العالية. فهذا التأثير هو الذى أنطق الوليد به المغيرة المخرومى بكلمته العالية فيه لأبى جهل التى اعترف فيها بأنه الحق الذى يعلو ولا يعلى، والذى يحكم ما تحته، وكانت كلمة فائضة من نور عقله وصميم وجدانه، وما استطاع أن يقول كلمة أخرى فى الصد عنه بعد إلحاح أبى جهل عليه باقتراحها إلا بتكليف لمكابرة عقله ووجدانه، وبعد أن فكر وقدر، ونظر وعبس وبسر، وأدبر واستكبر، كما تقدم. وهذا التأثير هو الذى كان يجذب رءوس أولئك الجاحدين المعاندين ليلا لاستماع تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بيته، على ما كان من نهيهم عنه ونأيهم عنه، وتواصيهم وتقاسمهم لا يسمعن له، ثم كانوا يتسللون فرادى مستخفين، ويتلاقون فى الطريق متلاومين «1». وهذا التأثير للقرآن هو الذى حملهم على منع أبى بكر الصديق رضى الله عنه من الصلاة والتلاوة فى المسجد الحرام، لما كان لتلاوته وبكائه فى الصلاة من التأثير الجاذب إلى الإسلام، وعللوا ذلك بأنه يفتن عليهم نساءهم وأولادهم، فاتخذ مسجدا له بفناء داره فطفق النساء والأولاد الناشئون ينسلون من كل حدب إلى بيته ليلا لاستماع القرآن.

_ (1) همّ أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريق، كان كل واحد يأتى من ناحية فيستمع إلى قراءته صلّى الله عليه وسلم من حيث لا يراه الآخران؛ فإذا تلاقوا بعد الانصراف تلاوموا وتواعدوا ألا يعودوا لئلا يعلم بهم غيرهم فيقتدوا بهم. وفى الثالثة تعاهدوا ألا يعودوا، فلما أصبحوا ذهب الأخنس فأتى أبا سفيان فى بيته فقال: أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة؛ والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها (يعنى أنه لا ينكرها) فقال الأخنس: وأنا والذى حلفت به، ثم ذهب الأخنس إلى أبى جهل فى بيته فسأله عما سأل عنه أبا سفيان فقال أبو جهل: ماذا سمعت؟ تنازعنا وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا (يعنى الحمل على الإبل والدواب) وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسى رهان، قالوا منا نبى يأتيه الوحى من السماء فمتى تدرك هذه؟ والله لا نسمع له ولا نصدقه .. رواه البيهقى فى دلائل النبوة. وهذا إقرار من أبى جهل بأن الوحى غاية لا يمكن إدراكها لأنه معجز للبشر.

فنهاه أشراف المشركين بأن العلة لا تزال، وأنهم يخشون أن يغلبهم نساؤهم وأولادهم على الإسلام، حتى ألجئوه إلى الهجرة فهاجر فلقى فى طريقه ابن الدغنة «1» سيد قومه فسأله عن سبب هجرته فأخبره الخبر، وهو يعرف فضائل أبى بكر من قبل الإسلام فأجاره وأعاده إلى مكة بجواره أى حمايته، ومنعه منهم. وخبره هذا رواه البخارى فى باب الهجرة من صحيحه وفيه ما نصه: «فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة (أى أجازته) وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه فى داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا «2»، فقال ذلك ابن الدغنة لأبى بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه فى داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ فى غير داره، ثم بدا لأبى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه «3» نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون عنه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه فى داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه فى داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك «4»، ولسنا مقرين لأبى بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبى بكر فقال: قد علمت الذى عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتى، فإنى لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت فى رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإنى أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عزّ وجلّ» أ. هـ. قلنا: إن هذا التأثير هو الذى حملهم على صد النبى صلّى الله عليه وسلم بالقوة عن تلاوة القرآن فى البيت الحرام وفى أسواق الموسم ومجامعه، حتى إنهم كانوا يقذفونه بالحجارة، وهو سبب

_ (1) هو بضم الدال المهملة المشددة عند أهل اللغة، وبكسرها عند رواة الحديث وكسر الغين المعجمة، وفى تخفيف النون وتشديدها روايتان. (2) أى يحولهم عن دينهم إلى دينه بتأثير قراءته وخشوعه وبكائه فيها. (3) من التقذف، أى يتدافعون ويزدحمون فيقذف بعضهم عليه، وفى رواية فينقذف بالنون ويروى يتقصف وينقصف عليه. (4) أخفره ونقض عهده وأبطله.

تواصيهم بما حكاه الله تعالى عنهم فى قوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26]. وقد أدرك هذا فلاسفة فرنسا «1»؛ فذكر فى كتاب له قول دعاة النصرانية إن محمدا لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى، وقال فى الرد عليهم: إن محمدا كان يقرأ القرآن خاشعا أواها متألها فتفعل قراءته فى جذب الناس إلى الإيمان ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين. (أقول): ولو كان القرآن ككتب القوانين المرتبة وكتب الفنون المبوبة، لما كان لقليله وكثيره من التأثير ما كان لسوره المنزلة. ومن الشواهد الكثيرة على صحة قول هذا الفيلسوف ما روى أن كبراء قريش اجتمعوا فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذى قد فرق جماعتنا وشئت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد فجاء النبى صلّى الله عليه وسلم فكلمه فيما قالوا عنه، وما يخافون من عاقبة أمره أن يفضى إلى قيام بعضهم على بعض بالسيوف، وعرض عليه كل ما يمكن أن يريده من المال والرئاسة والتزوج بعشر من خير نساء قريش، حتى إذا أتم كلامه تلا عليه النبى صلّى الله عليه وسلم سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13]، قام عتبة فأمسك على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه. فلما رجع إليهم وجدوه متغيرا فقالوا قد صبأ (أى مال) إلى محمد وقص عليهم خبره وما وقع من الرعب فى قلبه من قراءته. ومما قاله: وقد علمتم أن محمدا، إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. وفى رواية أنه قال: «كلمنى بكلام والله ما سمعت أذناى بمثله قط فما دريت ما أقول له» أ- هـ. مختصرا من رواية المحدثين وهو مفصل فى السير النبوية. كان كل ما يطلبه النبى صلّى الله عليه وسلم من قومه أن يمكنوه من تبليغ دعوة ربه بتلاوة القرآن على الناس وإذ قال تعالى مخاطبا له: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ

_ (1) رأيت شيخنا الأستاذ الإمام محمد عبده؛ يطالع فى كتاب قال لى إنه لأحد فلاسفة فرنسا وأسمعنى منه ما ذكرت خلاصته هنا، ولم أحفظ اسم الكتاب ولا اسم مؤلفه منه، وقال إن الكلمة التى وصف بها النبى صلّى الله عليه وسلم فى حال القراءة تدل على أنه كان متأثرا فى نفسه ومؤثرا فى غيره، وأنه لا يعرف كلمة عربية بمعنى هذه الكلمة الفرنسية.

إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19]، أى: وأنذر به كل من بلغه من غيركم من الناس. وقال فى آخر سورة النمل: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [النمل: 91 - 93]. إن رؤساء قريش عرفوا من جذب الناس إلى الإسلام بوقعه فى أنفسهم هم ما لا يعرفه غيرهم، وعرفوا أنه ليس لجمهور العرب مثل ما لهم من أسباب الجحود والمكابرة، فقال لهم عمه أبو لهب من أول الأمر: خذوا على يديه، قبل أن تجتمع العرب، ففعلوا، وكان من ثباته صلّى الله عليه وسلم على بث الدعوة واحتمال الأذى ما أفضى بهم إلى الاضطهاد وأشد الإيذاء له ولمن يؤمن به، حتى ألجئوهم إلى الهجرة بعد الهجرة، ثم إجماع الرأى على قتله، لولا أن خرج من وطنه مهاجرا، ثم صاروا يقاتلونه فى دار هجرته وما حولها، وينصره الله عليهم، إلى أن اضطروا إلى عقد الصلح معه فى الحديبية سنة ست من الهجرة، وكان أهم شروط الصلح السماح للمؤمنين بمخالطة المشركين، وهو الذى كان سبب سماعهم للقرآن، ودخولهم بتأثيره فى دين الله أفواجا. فكان انتشار الإسلام فى أربع سنين بالسلم والأمان أضعاف انتشاره فى ست عشرة سنة من أول الإسلام.

فعل القرآن فى أنفس المؤمنين

فعل القرآن فى أنفس المؤمنين كان كل من يدخل فى الإسلام قبل الهجرة يلقن ما نزل من القرآن- ليعبد الله بتلاوته- ويعلم الصلاة ولم يفرض فى مكة من أركان الإسلام غيرها. فيرتل ما يحفظه فى صلاته اقتداء بالنبى صلّى الله عليه وسلم إذ فرض الله عليه التهجد بالليل من أول الإسلام. قال تعالى فى أول سورة المزمل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 1 - 4]، ثم قال فى آخرها: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]، أى: فى صلاة الليل وغيرها، ثم ذكر الأعذار المانعة من قيام الليل كله ما كان منها فى ذلك العهد؛ كالمرض والسفر وما سيكون بعد سنين، وهو القتال فى سبيل الله. ومما ورد فى صفة الصحابة رضى الله عنهم أن الذى كان يمر ببيوتهم ليلا يسمع منها مثل دوى النحل من تلاوة القرآن، وقد غالى بعضهم فكان يقوم الليل كله حتى شكا منهم نساؤهم فنهاهم النبى صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، وكان هو يصلى فى كل ليلة إحدى عشرة ركعة يوتر بواحدة منهن، وما قبلها مثنى مثنى، وكان هو يطيل فيهن حتى تورمت قدماه من طول القيام فأنزل الله عليه مرفها ومسليا: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1، 2] إلخ. فتربية الصحابة التى غيرت كل ما كان بأنفسهم من مفاسد الجاهلية، وزكّتها تلك التزكية التى أشرنا إليها آنفا، وأحدث أعظم ثورة روحية اجتماعية فى التاريخ إنما كانت بكثرة تلاوة القرآن فى الصلاة وتدبره فى غير الصلاة، وربما كان أحدهم يقوم الليلة بآية واحدة يكررها متدبرا لها، وكانوا يقرءونه فى كل حال حتى مستلقين ومضطجعين كما وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191]، وأعظم ذكر الله تلاوة كتابه المشتمل على ذلك أسمائه الحسنى، وصفاته المقدسة، وأحكامه وحكمه وسننه فى خلقه، وأفعاله فى تدبير ملكه كما تقدم. وقد وصف الله تعالى فعل القرآن فى هؤلاء المؤمنين بقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].

ولو كان القرآن ككتب القوانين والفنون لما كان لتلاوته كل ذلك التأثير فى قلب الطباع، وتغيير الأوضاع. بل لكانت تلاوته تمل فتترك، فأسلوب القرآن الذى وصفناه آنفا من أعظم أنواع إعجازه اللغوى، وتأثيره الروحى، ومن ارتاب فى هذا فلينظر فى المسائل التى تشتمل عليها السورة منه وليحاول كتابتها نفسها أو مثلها. بأسلوب تلك السورة ونظمها وأسلوب سورة أخرى كالسور التى يتكرر فيها الموضوع الواحد بالإجمال الموجز تارة وبعض التفصيل تارة، وبالإطناب فيه أخرى. كالاعتبار بقصص الرسل مع أقوامهم فى سورة المفصل (كالذاريات والقمر والحاقة) وفيما فوقها (كالمؤمنون والشعراء والنمل) وفيما هو أطول منها (كالأعراف وهود) ثم لينظر ما يفضى إليه عجزه من السخرية والتكرار المملول. الذى يغثى منه الذوق غثيانا، وتمجه القلوب وتستفرغه استفراغا. وقد بين غوستاف لوبون فى كتابه (روح الاجتماع) أن تكرار الدعوات الدينية والسياسية والاجتماعية فى الخطب والمقالات التى تثير الجماعات وتدعّهم (تدفعهم بعنف) إلى الانهماك والتفانى فيها دعاء هو الذى يثبتها فى القلوب، ولذلك يعتمد عليه خطباء السياسة ورؤساء الأحزاب ومؤسسوها، وكذلك التجار وغيرهم فيما ينشرونه من الإعلانات فى الصحف ويعلقونه فى الشوارع. (ونقول): ما كان محمد ولا أحد من أهل عصره يعلمون هذا. لكن الله يعلم من طبائع الجماعات والأقوام. فوق ما يعلمه حكماء عصرنا وسائر الأعصار، وإنما القرآن كلامه ليس فيه من التكرار، إلا ما له أكبر الشأن فى انقلاب الأفكار، وتغيير ما فى الأنفس من العقائد والأخلاق، ولو جمعت أبلغ خطب رجال السياسة التى أحدثت التأثير فى أحزابهم وقرئت بعد ذلك مرات قليلة لسارع الملل إلى نفس كل قارئ حتى أتباع ذلك الخطيب أنفسهم وقراءة القرآن لا يملها أحد يفهم معانيها، ويذوق حلاوة أسلوبها. ألا وإن تقليب القلوب والأفكار، لأعسر من فلق الصخور وتحويل الجبال، وقد ضرب الله لهذا المثل بقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]. وهكذا كان تأثير القرآن فى العرب، فهذا مثلهم، وأما مثل بنى إسرائيل بعد رؤيتهم آيات الله لموسى فقوله لهم بعد سردها: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74].

حسبنا ما بينا به تأثير القرآن، وما أحدثه من الثورة العربية العالمية من ناحية أسلوبه ونظمه وتكراره المعجز للبشر بشكله، ونقفى عليه بإصلاحه وإعجازه بموضوعه، وهو تعاليمه الدينية والسياسية والمدنية وغيرها. فنقول: ***

الفصل الخامس فى مقاصد القرآن فى تربية نوع الإنسان وحكمة ما فيه من التكرار فى الهداية وإعجازه بالبيان إن مقاصد القرآن من إصلاح أفراد البشر وجماعاتهم وأقوامهم، وإدخالهم فى طور الرشد، وتحقيق. أخوتهم الإنسانية ووحدتهم، وترقية عقولهم، وتزكية أنفسهم؛ منها ما يكفى بيانه لهم فى الكتاب مرة أو مرتين أو مرارا قليلة، ومنها ما لا تحصل الغاية منه إلا بتكراره مرارا كثيرة لأجل أن يجتث من أعماق الأنفس كل ما كان فيها من آثار الوراثة والتقاليد والعادات القبيحة الضارة، ويغرس فى مكانها أضدادها، ويتعاهد هذا الغرس بما ينميه حتى يؤتى أكله، ويبدو صلاحه، ويينع ثمره، ومنها ما يجب أن يبدأ بها كاملة، ومنها ما لا يمكن إلا بالتدريج، ومنها ما لا يمكن وجوده إلا فى المستقبل، فيوضع له بعض القواعد العامة، ومنها ما يكفى فيه الفحوى والكناية. والقرآن كتاب تربية عملية وتعليم، لا كتاب تعليم فقط، فلا يكفى أن يذكر فيه كل مسألة مرة واحدة واضحة تامة كالمعهود فى متون الفنون وكتب القوانين وقد بين الله تعالى ذلك بقوله فى موضوع البعثة المحمدية: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 1، 2]، فآياته المتلوة هى سور القرآن، المرشدة إلى سننه فى الأكوان، والتزكية هى التربية بالعمل وحسن الأسوة، و (الكتاب) هو الكتابة التى تخرج العرب من أميتهم، و (الحكمة) هى العلوم النافعة الباعثة على الأعمال الصالحة، وما يسمى فى عرف شعوب الحضارة بالفلسفة، فجميع مقاصد القرآن وبيان السنة له تدور على هذه الأقطاب الثلاثة. وإننا نذكر هنا أصول هذه المقاصد كما وعدنا عند قولنا: إن ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم هو أعلى وأكمل مما جاء به من قبله من جميع الأنبياء والحكماء والحكام. فهو برهان علمى على أنه من عند الله تعالى، لا من فيض استعداده الشخصى.

وإننا نقسم هذه المقاصد إلى أنواع، ونبين حكمة القرآن وما امتاز به فى كل نوع منها بالإجمال، لأن التفصيل لا يتم إلا إذا يسر الله لنا إنجاز ما وعدنا به من تفسير ومقاصد القرآن كلها فى أبواب نبين فى كل باب منها وجه حاجة البشر إلى ذلك المقصد، وكون القرآن وفى بهذه الحاجة بما نأتى به من جملة آياته فيه، وإنما هذا الفصل نموذج منه.

الفصل الخامس فى مقاصد القرآن فى تربية نوع الإنسان وحكمة ما فيه من التكرار فى الهداية وإعجازه بالبيان

المقصد الأول من مقاصد القرآن فى بيان حقيقة أركان الدين الثلاثة التى دعا إليها الرسل وضل فيها أتباعهم إنّ أركان الدين الأساسية التى بعث الله تعالى بها جميع رسله، وناط بها سعادة البشر هى الثلاثة المبينة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62]، وهاك الكلام على كل واحد منها بالإيجاز، لأن المراد هنا بيان أن ما جاء به القرآن منها هو أتمّ وأكمل من المعروف فى سائر الأديان، وفيه صلاح لما أفسد أهل الملل من دين الأنبياء، مما طرأ على كتبهم من الضياع والتحريف، وما ابتدعوا فيه من الأهواء والتقاليد، وليس المراد بيانها فى ذاتها بالتفصيل الذى يتوقف عليه العمل، حتى إذا ثبت ما يقصده من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وكون هذا القرآن كلام الله عزّ وجلّ أوحاه إليه، علم منه أنه يجب على المؤمن به أن يتعلم جميع ما فرضه عليه. وهذه الأركان الثلاثة تدل عليها آثار الملل القديمة البائدة كالمصريين والكلدانيين، وبقايا كتب أممها الباقية كالهنود والمجوس والصينيين، وغرضنا فى هذا الكتاب أن نبين لجميع الشعوب المتدينة أن ما هم عليه من الدين ليس هو عين ما أوحاه الله إلى رسله الذين ظهروا فى أسلافهم، ولا هو بالمصلح لهم فى أنفسهم وأعمالهم، وإنّ الإسلام هو الدين الحقّ الثابت عقلا ونقلا، والمبين لكل ما يحتاجون إليه من الهداية، وبهذا الاعتبار جعلناها مقصدا واحدا لا ثلاثة، وجعلنا المقصد التالى له فى موضوع الرسل والرسالة. الركن الأول للدين الإيمان بالله تعالى إنّ الركن الأوّل الأعظم من هذه الأركان- وهو الإيمان بالله تعالى- قد ضلّ فيه جميع الأقوام والأمم. حتى أقربهم عهدا بهداية الرسل، فاليهود على حفظهم لأصل عقيدة التوحيد، قد غلب عليهم التشبيه، وغاب عنهم أن يجمعوا بين النصوص المتشابهة فى صفات الله وبين عقيدة التنزيه. فقد جعلوا الله كالإنسان بتعب ويندم على ما فعل، كخلقه

الإنسان؛ لأنه لم يكن يعلم أنه سيكون مثله أو مثل الآلهة «1»، وزعموا أنه كان يظهر فى شكل الإنسان حتى إنه صارع إسرائيل، ولم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه «2»، وعبدوا بعلا وغيره من الأصنام. والنصارى جدّدوا من عهد قسطنطين الوثنيات القديمة، واتخذوا المسيح ربا وإلها وعبدوا القديسين وصورهم، حتى صارت كنائس النصارى كهياكل الوثنية الأولى مملوءة بالصور والتماثيل المعبودة. على أنّ عقيدة التثليث والصّلب والفداء التى جعلوها أساس الدين- بل الدين كله- هى عقيدة الهنود فى كرشنة وثالوثة فى جملتها وتفصيلها وهى مدعومة بفلسفة خيالية غير معقولة، وبنظام يقوم بتنفيذه الملوك والقياصرة، وتبذل فى سبيله القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويربى عليه الأحداث من الصغر تربية وجدانية خيالية لا تقبل حجّة ولا برهانا، فغمر الشرك بالله هذه الأرض بطوفانه وطغت الوثنية على أهلها. هدم القرآن معاقل هذه الوثنية وحصونها المشيدة فى الأفكار والقلوب، وما كان ليتم هذا بإقامة برهان عقلى أو عدة براهين على توحيد الله عزّ وجلّ؛ بل لا بد فيه من دحض الشبهات، وتفصيل الحجج العقلية والعلمية والمواعظ الخطابية بالعبارات المختلفة وضرب الأمثال. لذلك كان أكثر المسائل تكرارا فى القرآن مسألة توحيد الله عزّ وجلّ فى ألوهيته بعبادته وحده، واعتقاد أنّ كلّ ما سواه من الموجودات سواء فى كونهم ملكا وعبيدا له، لا يملكون من دونه نفعا ولا ضرا لأحد، ولا لأنفسهم إلا فيما سخره من الأسباب المشتركة بين الخلق. وأمّا تكرار توحيد الربوبية، وهو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير والتشريع الدينى فليس لإقناع المعطلين والمشركين بربوبيته تعالى فقط. بل أكثره لإقامة الحجة به على بطلان شرك العبادة بدعاء غير الله تعالى لأجل التقرب إليه بأولئك الأولياء وابتغاء شفاعتهم عنده. فشر الشرك وأوغله فى إفساد عقائد المؤمنين بالله من ضعفاء العقول. وحملهم على التدين بالأوهام والخرافات المخالفة لما أثبتته التجارب من سنن الله فى المخلوقات «3»؛ إنما هو توجه

_ (1) فى سفر التكوين (3: 22 وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا بالخير والشر) وفيه (6: 6 فحزن الرب) وفى ترجمة أخرى (فندم أنه عمل الإنسان وتأسف فى قلبه). (2) راجع آخر الفصل 32 من سفر التكوين. (3) اشتدت وطأة البرد فى شتاء هذا العام (1352 هـ- 1933 م) وجاءت الأنباء من الشرق والغرب بكثرة الثلوج فى أقطارهما الشمالية وبعض المعتدلة، فعلل بعض المسلمين سلامة مصر منها بوجود أهل البيت فيها؛ يعنى القبور المشيدة لأسماء بعضهم؛ فبينت لمن سمعت منهم ذلك خطأهم من الناحية الشرعية ومن

العبد إلى غير الله تعالى فيما يشعر بالحاجة إليه من كشف ضرّ وجلب نفع من غير طريق الأسباب. فقد ذكر الدعاء فى القرآن أكثر من سبعين مرة. بل زهاء سبعين بعد سبعين مرة، لأنه روح العبادة ومخها. بل هو العبادة التى هى دين الفطرة كلّه، وما عداه من العبادات فوضعى تشريعى من تعليم الوحى فهو يغذيها وينقيها من شوائب الآراء، وينفى عنها تقاليد الأهواء. بعض آيات الدعاء أمر بدعائه تعالى وحده، وبعضها نهى عن دعاء غيره مطلقا، ومنها حجج على بطلان الشرك أو على إثبات التوحيد، ومنها أمثال تصور كل منهما بالصور اللائقة المؤثرة، ومنها إخبار بأن دعاء غيره لا ينفع ولا يستجاب، وأن كل من يدعى من دونه تعالى فهو عبد له، وأن أفضلهم وخيارهم كالملائكة والأنبياء يدعونه هو ويبتغون الوسيلة إليه، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشرك الذين يدعونهم من دون الله أو مع الله ويتبرءون منهم، وأمثال ذلك مما يطول شرحه، بل يضيق المقام عن تلخيصه. وثم أنواع أخرى من آيات الإيمان بالله تعالى تغذى التوحيد، وتصعد بأهله درجات متفاوتة فى السّمو بمعرفته تعالى والتأله والتوله فى حبه، من التنزيه والتقديس والتسبيح له وذكر أسمائه الحسنى ممزوجة ببيان الأحكام الشرعية المختلفة حتى أحكام الطهارة والنساء والإرث والأموال، وبحكمه فى الخلق والتدبير لأمور العالم، وسننه فى طباع البشر وفى شئونهم الاجتماعية، ووضع كل اسم منها فى الموضع المناسب له من علم وحكمة وقدرة ومشيئة وحلم وعفو ومغفرة ورحمة وحب ورضا وما يقابل ذلك، ومن الأمر بالتوكل عليه والخوف منه لإجلاله أو لعدله، والرجاء فى رحمته وفضله؛ وناهيك بما سرد منها سردا لجذب الأرواح العالية إلى كماله المطلق وفنائها فى شهوده عن شهودها بله أهواءها وشهواتها كما تراه فى فاتحة سورة الحديد: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 1 - 3] إلخ.

_ ناحية سنن الله تعالى فى أسباب الحر والبرد والمطر والثلوج، وكون وجود القبور أو أهلها لا شأن له فى ذلك. وحدث فى هذا الشتاء زلزال عظيم فى الهند هدم به بعض البلاد. ما عدا المعابد الوثنية فى بعضها فاعتقد أهلها أن سبب بقائها عناية الله بحفظها لرضاه عن عبادتهم فيها. وإنما سببه قوة بنائها فإن أكثر معابد الأمم قوية البناء تمر عليها القرون وتفنى سائر الأبنية وهى باقية.

وفى آخر سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22 - 24]. فهذه الأسماء الإلهية هى ينابيع الحياة الروحية فى القلوب، ومشرق أنوار المعارف الإلهية على العقول؛ ومنها استمدّ الأولياء العارفون والأئمة الربانيون تلك الحكم السامية، والكتب العالية فى معرفته تعالى وأسرار خلقه، والأدعية والقصائد فى حبّه ومناجاته. بعد أن تربوا بكثرة ذكره وتلاوة كتابه. وهذا هو الغرض الأوّل من أمر القرآن المؤمنين بذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ليكون الله تعالى غالبا على أمرهم، كما قال فى وصف يوسف عليه السلام: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف: 21]، فيمقتون الباطل والشر، ويكون كل حظّهم من الحياة الحق والخير، لما يثمره الذكر لهم من صلاة الله عليهم وملائكته ليخرجهم من الظلمات إلى النور كما قال عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 41 - 43]. بهذا التكرار الذى جعله أسلوب القرآن المعجز مقبولا غير مملول، طهّر الله عقول العرب وقلوبهم من رجس الشرك وخرافات الوثنية، وزكّاها بالأخلاق العالية والفضائل السامية. وكذا غير العرب ممن آمن بالله وأتقن لغة كتابه، وصار يرتله فى عبادته ويتدبر آياته، حتى إذا دب فى الشعوب الإسلامية دبيب الجهل بلغة القرآن، وقل تدبره الذى فرضه الله عليهم، واعتمد المسلمون فى فهم عقيدتهم على الكتب الكلامية المصنفة، وفى أعمال عباداتهم على كتب الفقه الجافة، وفى تزكية أنفسهم على الأوراد البشرية المؤلفة، ضعف التوحيد فى قلوب الكثيرين، وشابته شوائب الشرك الأصغر ثم الأكبر، واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع «1» اعتقادا وعملا، وتأولا وجدلا. فصار أدعياء العلم يتأولون تلك الآيات الكثيرة فى التوحيد بشبهاتهم وأهوائهم وتقاليدهم المبتدعة. وهجروا القرآن هجرا غير جميل، وعاقبهم الله بما أوعدهم كما هو مشاهد ومعلوم.

_ (1) أى مصدقا لقول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟». رواه البخارى ومسلم وغيرهما.

على أن بعض المتكلمين قد تأوّلوا صفات الله تعالى بنظرياتهم الجدلية، وبعض الصوفية قد بالغوا فى التوحيد وفهم الصفات أو حملها على الأذواق والوجدانات الروحية، حتى أنكر بعضهم تأثير الأسباب فى مسبباتها، وانتهى بهم ذلك إلى بدعة الجبر التى أفسدت على أهلها كل شىء، وقال بعضهم بوحدة الوجود، بيد أن الأولين منهم كانوا يقولون بما يهديهم إليه النظر العقلى أو رياضة النفس وما تثمره من الشعور الوجدانى مع الاعتماد فى فهم النصوص على صميم اللغة والمأثور عن السلف ثم خلف من بعدهم خلف من المقلدين لا حظ لهم من القرآن ولا من البرهان ولا من الوجدان، وإنما يتبعون أهواء العوام ويتأوّلون لهم بكلام أمثالهم من المصنفين الجاهلين، ولو فقهوا أقصر سورة فى التوحيد والتنزيه كما يجب- وهى سورة الإخلاص- لما وجد الشرك إلى أنفسهم سبيلا. إن عقيدة التوحيد القرآنى هى أعلى المعارف التى ترقى الإنسان إلى أعلى ما خلق مستعدا له من الكمال الروحى والعقلى والمدنى. وقد صرح كثير من علماء الإفرنج بأن سهولة فهم هذه العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة هما السبب الأكبر لقبول الأمم له وانهزام النصرانية من أمامه. قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذى زكى أنفسهم، وأعلى هممهم، وكملهم بعزة النفس، وشدة البأس، وإقامة الحق والعدل، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم، وإعتاقها من رق الكهنة والأحبار والرهبان والبوذات والموبذانات الروحى والعقلى، وتحريرهم من ظلم الملوك واستبدادهم وإقامة وإحياء العلوم والفنون الميتة وترقيتها فيهم، وقد تم لهم من كل ذلك ما لم يقع مثله ولا ما يقاربه لأمة من أمم الأرض. حتى قال الدكتور «غوستاف لوبون» المؤرخ الاجتماعى الشهير فى كتابه (تطور الأمم) إن ملكة الفنون لا يتم تكوينها لأمة من الأمم الناهضة إلا فى ثلاثة أجيال: أوّلها جيل التقليد، وثانيها جيل الخضرمة، وثالثها جيل الاستقلال والاختصاص، قال: إلا العرب وحدهم فقد استحكمت لهم ملكة الفنون فى الجيل الأول الذى بدءوا فيه بمزاولتها. وأقول: إنّ سبب ذلك تربية القرآن لهم على استقلال العقل والفكر واحتقار التقليد الأصم الأعمى، وتوطيد أنفسهم على إمامة البشر وقيادتها فى أمور الدين والدنيا معا، وقد خفى كل هذا على أسلافهم بعد ذهاب الخلافة الإسلامية، وزوال النهضة العربية وتحول السلطان إلى الأعاجم الذين لم يكن لهم من الإسلام إلا الظواهر التقليدية المنفصلة عن هداية القرآن.

الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء

الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء الإيمان باليوم الآخر وما يكون فيه من البعث والحساب والجزاء على الأعمال، هو الركن الثانى للدين الذى بعث الله به الرسل عليهم السلام، وبه يكمل الإيمان بالله تعالى، ويكون باعثنا على العمل الصالح وترك الفواحش والمنكرات والبغى والعدوان، وكان جل مشركى العرب ينكرونه أشدّ الإنكار، وأما أهل الكتاب وغيرهم من الملل- التى كان لها كتب وتشريع دينى ومدنى، ثم فقدت كتبهم أو حرّفت واستحوذت عليهم الوثنية- فكلهم يؤمنون بحياة بعد الموت وجزاء يختلفون فى صفتهما لا فى أصلهما ولكن إن إيمانهم هذا قد شابه الفساد ببنائه على بدع ذهبت بجل فائدته فى إصلاح الناس، وأساسها عند الهنود وغيرهم من قدماء الوثنيين، وخلائف النصارى المتبعين لدين القيصر قسطنطين، هو وجود المخلص الفادى الذى يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه، وهو الأقنوم الثانى من الثالوث الإلهى الذى هو عين الأول والثالث وكل واحد منهما عين الآخر، وكل ما تقوله النصارى فى فداء المسيح للبشر وغير ذلك من ولادته إلى رفعه فهو نسخة مطابقة لما يقوله الهنود فى كرشنة وبوذا فى اللفظ والفحوى كما، قلما يختلفان إلا فى الاسمين. كرشنة ويسوع «1». وأما اليهود فكلّ ديانتهم خاصة بشعب إسرائيل، وادعاء محاباة الله تعالى له على سائر الشعوب فى الدنيا والآخرة، ويسمونه إله إسرائيل، كأنّه ربهم وحدهم لا رب العالمين، وديانتهم أقرب إلى المادية منها إلى الروحية، فكان فساد الإيمان بهذا الركن من أركان الدين تابعا لفساد الركن الأول وهو الإيمان بالله تعالى ومعرفته، ومحتاجا إلى الإصلاح مثله. جاء القرآن للبشر بهذا الإصلاح، فقد أعاد دين النبيين فى الجزاء إلى أصله المعقول وهو ما كرّم الله تعالى به الإنسان، من جعل سعادته وشقائه منوطين بإيمانه وعمله، اللذين هما فى كسبه وسعيه، لا من إيمان غيره وعمله، وأنّ الجزاء على الكفر والظلم والفساد فى الأرض، يكون بعدل الله تعالى بين جميع خلقه بدون محاباة شعب على شعب والجزاء على الإيمان والأعمال الصالحة يكون بمقتضى الفضل، فالحسنة بعشرة أمثالها وقد يضاعفها الله تعالى أضعافا كثيرة.

_ (1) عقيدة التثليث والفداء معروفة فى وثنية قدماء المصريين والبابليين والأوروبيين أيضا، وقد فصل ذلك فى كتاب خاص بالشواهد التاريخية اسمه: (العقائد الوثنية، فى الديانة النصرانية)، تأليف الأستاذ محمد طاهر التنير البيروتى، وطبع سنة 1330.

وقد نص القرآن على ما جاء به من هذا الإصلاح هو ما أوحاه إلى إبراهيم أبى الأنبياء المعروفين الذين يدين الله بنبوتهم اليهود والنصارى، وإلى موسى والأنبياء الذين كانوا من بعده على شرعه، فقال تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم: 35 - 41]، أى: أن أصل دين الله لجميع رسله أنه لا تحمل نفس وازرة- أى خاطئة- خطيئة نفس أخرى بفداء ولا غيره، وأنه ليس للإنسان إلا سعيه وعمله فلا يجزى بعمل غيره. وقد يدخل فى عموم عمله ما يكون سببا له كالذى يعمله ولده أو تلميذه بتأثير تربيته وتعليمه، وما يسّنه من سنّة حسنة أو سيئة فله مثل جزاء من يعمل بهما من بعده. الأصل الجامع فى ذلك قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 7 - 10]، أى: إن الله الذى خلق هذه النفس وسواها بما وهبها من المشاعر والعقل، قد جعلها بإلهام الفطرة والغريزة مستعدة للفجور الذى يرديها ويدسيها «1»، والتقوى التى تنجيها وتعليها، ومتمكنة من كل منهما بإرادتها، والترجيح بين خواطرها ومطالبها، ومنحها العقل والدين يرجحان الحق والخير على الباطل والشر، فبقدر طهارة النفس وأثر تزكيتها بالإيمان ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال يكون ارتقاؤها فى الدنيا وفى الآخرة والضد بالضد فالجزاء أثر طبيعى للعمل النفسى والبدنى ولذلك قال تعالى: (6: 139 سيجزيهم وصفهم) وهذا هو الحق الذى يثبته من عرف حقيقة الإنسان، وحكمة الديان، وهو مما أصلحه القرآن من تعاليم الأديان. فإذا علمت ما كان من إنكار مشركى العرب للبعث والجزاء، ومن فساد إيمان أهل الكتاب وسائر الملل فى هذه العقيدة، وعلمت أنها مكملة للإيمان بالله تعالى، وأن تذكرها هو الذى يقوى الوازع النفسى الذى يصد الإنسان عن الباطل والشر والظلم والبغى، ويرغبه فى التزام الحق والخير وعمل البر- علمت أن إصلاحها ما فعل العجل فى شعب كبير إلا بتكرار التذكير بها فى القرآن، بالأساليب العجيبة التى فيها من حسن البيان، وتقريب البعيد

_ (1) أصل معنى «دساها»: أخفاها مبالغة من دسه فى التراب، واستعملت هنا ضد زكاها. فإذا كان معنى زكاها: طهرها فأظهرها وأعلى قدرها، فمعنى دساها: دنسها بما يدفن جميع مزاياهم كأنها ليست نفسا ناطقة. وأصل دساها دسسها قلبت السين الثانية ياء وله نظائر.

من الأذهان، تارة بالحجة والبرهان، وتارة بضرب الأمثال، وقد تكرّر فى آيات بينات، لعلها تبلغ المئات، ومن إعجازه أنها لا تمل ولا تسأم، بل لا يكاد يشعر قارئها بتكرار معانيها، وإن تقارب جنسها ونوعها وترادفت سورها. فتأمل ذلك فى سور المفصل، ترى تكرار الكلام على البعث والجزاء فيها بما لا يخطر على بال بشر من اختلاف الأسلوب والنظم والفواصل ولا سيما المتناسبة المتصلة كالمرسلات مع النبأ، والنازعات مع عبس، والتكوير مع الإفطار، والمطففين مع الانشقاق وغيرهن. قلنا: إنّ الإيمان بالبعث والجزاء، وهو الركن الثانى فى جميع الأديان، من لوازم الركن الأول وهو الإيمان بالله المتصف بجميع صفات الكمال، المنزه عن البعث فى أفعاله وأحكامه، ولهذا كان من أظهر أدلة القرآن عليه قوله بعد ذكر البعث وجزاء الكافرين فى آخر سور المؤمنون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، وقوله فى آخر سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً [القيامة: 36]، فكفر الإنسان بهذا الركن فى أركان الإيمان يستلزم كفره بحكمة ربّه وعدله فى خلقه وكفره بنعمته بخلقه فى أحسن تقويم. وبتفضيله على أهل عالمه (الأرض) حيث سخّرها وكل ما فيها لمنافعه، وعلى كثير ممن خلق فى عالم الغيب الذى وعده بمصيره إليه، ويستلزم جهله بما وهبه من المشاعر والقوى والعقل. وجهله بحكمته فى خلقه مستعدا لما ليس له حد ونهاية من العلم. الدال على أنه خلقه لحياة لا حد لها ولا نهاية فى الوجود. ومن لوازم هذا الكفر والجهل كله احتقاره لنفسه باعتقاده أنه خلق عبثا لا لحكمة بالغة. وأن وجوده فى الأرض موقوت محدود بهذا العمر القصير المنغص بالهموم والمصائب والظلم والبغى والآثام. وأنه يترك سدى لا يجزى كل ظالم من أفراد بظلمه. وكل عادل وفاضل بعدله وفضله. وإذا كان هذا الجزاء غير مطرد فى الدنيا لجميع الأفراد، تعين أن يكون جزاء الآخرة هو المظهر الأكبر للعدل العام، كما قال تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: 185]. ومن أبدع أساليبه المكررة الجامعة وأروعها: المحاجة فى النار بين الأتباع والمتبوعين والغاوين والمغوين والضالين والمضلين، من شياطين الإنس والجن. وبراءة بعضهم من بعض ومنه التنادى والتحاور بين أهل الجنة وأهل النار.

البعث الإنسانى جسمانى روحانى

البعث الإنسانى جسمانى روحانى ومما جاء فى القرآن مخالفا لما عند النصارى من عقيدة البعث والجزاء: أن الإنسان فى الحياة الآخرة يكون إنسانا كما كان فى الدنيا، إلا أن أصحاب الأنفس الزكية والأرواح العالية. يكونون أكمل أرواحا وأجسادا مما كانوا بتزكية أنفسهم فى الدنيا. وأصحاب الأنفس الخبيثة والأرواح السافلة يكونون أنقص وأخبث مما كانوا بتدسية أنفسهم فى الدنيا، ويعلم مما ثبت عن قدماء المصريين وغيرهم من الغابرين أن الأديان القديمة كانت تعلم الناس عقيدة البعث بالروح والجسد. إلا أنهم ظنوا أن أجسادهم تبقى بعد موتهم فيبعثون بها عينها، ولكن بيّن القرآن أنّ كلّ من على الأرض فان، وأنها تكون بقيام الساعة هباء منبثا، وقال علماء العقائد من أهل السّنّة إنّ بعث الأجساد يكون بعد العدم التام، وقال تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الواقعة: 60 - 62]. ولو كان البعث للأرواح وحدها لنقص من ملكوت الله تعالى هذا النوع الكريم المكرم من الخلق. المؤلف من روح وجسد، فهو يدرك اللذات الروحية واللذات الجسمانية، ويتحقق بحكم الله «جمع حكمه» وأسرار صنعه فيهما معا، من حيث حرم الحيوان والنبات من الأولى، والملائكة من الثانية، وما جنح من جنح أصحاب النظريات الفلسفية إلى البعث الروحانى المجرد إلا لاحتقارهم اللذات الجسدية وتسميتها بالحيوانية مع شغف أكثرهم بها، وإنما تكون نقصا فى الإنسان إذا سخّر عقله وقواه لها وحدها، وحتى صرفه اشتغاله بها عن اللذات العقلية والروحية بالعلم والعرفان أو أضعفها- وأصل هذا الإفراط والتفريط غلو الهنود فى احتقار الجسد، وجعلهم مدار تربية النفس على تعذيبه بالرياضات الشاقة، وتبعهم فيه نسّاك النصارى كما تبعوهم فى عقيدة الصّلب والفداء والتثليث، على أنهم نقلوا أن المسيح عليه السلام شرب الخمر مع تلاميذه لما ودعهم فى الفصح وقال لهم: إنى من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا فى ملكوت أبى (متى 6: 29)؛ وجرى اليهود على عكس ذلك، وجاء الإسلام بالاعتدال فأعطى الإنسان جميع حقوقه، وطالبه بما يكون بها كاملا فى إنسانيته مرجح لروحانيته على حيوانيته، متزودا من دنياه لآخرته. ويؤخذ مما ورد فى الآيات والأحاديث النبوية من صفة حياة الآخرة: أن القوى الروحية

تكون هى الغالبة والمتصرّفة فى الأجساد، فتكون قادرة على التشكّل بالصور اللطيفة، وقطع المسافات البعيدة فى المدة القريبة، والتخاطب بالكلام بين أهل الجنة وأهل النار- وإن ترقى البشر فى علم الكيمياء وخواص الكهرباء والصناعات والآلات فى عصرنا قد قرّب كلّ هذا من حس الإنسان، بعد أن كان الماديون والملحدون يعدون مثل قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44]، من تخيلات محمد صلوات الله وسلامه عليه- وها نحن أولاء نخاطب من مصر أهل عواصم أوروبا بالمسرة (بالكسر: آلة التليفون) ونسمع خطبهم ومعازفهم بالمذياع (آلة الراديو) وسنراهم ويروننا بآلة التليفزيون «1» مع التخاطب حينما يعم انتشارها. وأما علماء الروح من الإفرنج وغيرهم فقد أثبتوا أنّ الأرواح البشريّة تكون بعد الموت قادرة على التشكل فى أجساد تأخذها من مادة الكون كالملائكة والجن وكما يقول الصوفية فى الإنس «2»، وهذه مسألة أو مسائل قد شرحناها من قبل فى تفسير المنار، وإنما نذكرها هنا بالإجمال ردا على من زعموا أن القرآن مستمد من كتب اليهود والنصارى ومن عقل محمد صلّى الله عليه وسلّم الباطن وإلهاماته الروحية «3».

_ (1) هى آلة حديثة بها ينظر الإنسان على من يكلمه على بعد مهما يكن سحيقا. (2) قال بعض من شاهد فى فرنسا روح امرأة تجسدت: إنها ظهرت أولا بشكل بخار أو ضباب ثم تكاثفت جسدا تام الجمال فى ثوب أبيض فسألها أن تعطيه قطعة من ثوبها فسمحت له، فقصها فلم تلبث أن تكون مثلها فى موضعها ثم عرضها على معامل النسج فى باريس وسألهم هل يوجد مثل هذا النسيج المهلهل؟ قالوا لا ولكن يمكن إيجاده إذا طلب، وهذا مثل ما يحكيه صوفيتنا عن الذين يتجردون من أجسادهم تارة ويتشكلون كابن عربى ومنهم قضيب البان الذى طلب مرة فوجد مالئا للبيت الذى كان فيه حتى يتعذر خروجه بجسده ذاك، ثم صغر فخرج، ومن لم يصدق هذا من علماء الكيمياء لأنه لم يشاهد مثله لا ينكر إمكانه أ. هـ. (من حواشى الطبعة الثالثة). (3) من هذا القبيل ما رواه الشيخان عن جابر مرفوعا فى وصف أهل الجنة «ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم». قرأنا فى جريدة الجهاد أن امرأة فى رومانيا تخرق أشعة بصرها الحجب فترى ما وراءها كما يروى عن الأرواح المجردة، ثم نقلت لنا فى هذه الأيام (13 المحرم سنة 1354 هـ) عن بعض الصحف الإنكليزية أن كاتبا اسمه (جيرالد أو ركاردزا) كتب فى إحدى الصحف الإنكليزية يقول إن فى معبد شيلى فى أمريكا وثائق مكتوبة تثبت أنه ولد فى الصين، ولد عادى سمى (شى شوان)، ولكنه بعد سنوات صار جسمه يشف حتى صار كالزجاج يرى جميع ما فى باطنه، وسأعود إلى هذه المباحث فى الجزء الثانى من هذا الكتاب كما وعدت فى التصدير إن شاء الله تعالى.

ويناسب هذا ما جاء فى القرآن من نبأ خراب العالم وقيام الساعة التى هى بدء ما يجب الإيمان به من عقيدة البعث والجزاء، ولم يوجد له أصل عند أهل الكتاب ولا غيرهم، ولا هو مما يمكن أن يكون قد عرفه محمد صلّى الله عليه وسلّم بذكائه ونظرياته العقلية، وجملته أن قارعة- والظاهر أنها كوكب- تقرع الأرض قرعا، وتصخّها صخا، وترجّها رجا، فتكون هباء منبثا، أى غبارا دقيقا متفرقا فى الفضاء، وحينئذ يختل ما يسمّى فى عرف العلماء بسنة الجاذبية العامة، فتتناثر الكواكب ثم يدخل العلم فى طور جديد هو المراد بالحياة الآخرة «1»، وهذا المعنى لم يكن يخطر ببال أحد من علماء الكون ولا من الدين، فلا يمكن أن يقال أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم سمعه من أحد فى بلده أو فى سفره، ولا يعقل أن يكون قاله برأيه وفكره، فهو من أنباء القرآن الكثيرة التى تدحض زعم القائلين بالوحى النفسى. وقد صرّح غير واحد من علماء الهيئة الفلكية المعاصرين بأن خراب العالم بهذا السبب هو أقرب النظريات العلمية لخرابه. وسنفصل ذلك بالشواهد على ما جاء فى القرآن موافقا لأصول العلم الحديث فى ملحقات الكتاب، من الجزء الثانى له. ولقد كان أعظم آيات الجزاء تأثيرا فى أنفس العرب وصف نعيم الجنة وعذاب النار ببلاغته العجيبة فى المبالغة التى امتازت بها لغتهم، وفيها ما يدل على أنها غيبية مخالفة للمعهود فى الدنيا كقوله تعالى فى صفة النار: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 7]، وفى الجنة: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17]، وقوله بعد ذكر النعيم الحسى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72]، وناهيك بمناجاته تعالى ورؤيته التى أنكرها وتأول نصوصها المعتزلة ومن تبعهم وعدوها من المتشابهات ولا غرو، فكل أمور الآخرة متشابهات، قال تعالى فى ثمرها: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة: 25]، قال ابن عباس رضى الله عنه فى تفسيرها: (لا يشبه شىء مما فى الجنة ما فى الدنيا إلا فى الأسماء). (أقول): فكيف يشبه خالقها شيئا من خلقه؟.

_ (1) اقرأ سور: الواقعة، والقارعة، والتكوير، والانفطار.

الركن الثالث للدين: العمل الصالح

الركن الثالث للدين: العمل الصالح الركن الثالث من مقاصد بعثة الرسل- وهو العمل الصالح- أثر لازم للإيمان بالله وبالحساب والجزاء فى الآخرة وثمرة له، وهو يمدّه ويستمدّ منه فكل من الإيمان والعمل يغذّى الآخر ويقويه، ويتوقف كمال كل منهما على الآخر؛ فمن فسد إيمانه فسد عمله، وكان رياء ونفاقا أو تقليدا صوريا. فلا يكون العمل صالحا مصلحا لعامله إلا بجعله على الوجه الذى شرعه الله لأجله. وهذا مكرر فى القرآن فى سور كثيرة لإصلاح ما أفسده البشر فيه يجعله تقليديا غير مزكّ للنفس ولا مصلح لشئون الاجتماع، ولكن دون تكرار توحيد الله وتقديسه الذى هو الأصل الذى يتبعه غيره، على أنه يقرنه به. ولولا الحاجة إلى هذا التكرار فى التذكير والتأثير لكانت سورة العصر وحدها كافية فى الإصلاح العلمى العملى على قصرها، كسورة الإخلاص فى الركن الأول الاعتقادى، وكل منهما تكتب فى سطر واحد، فهما من معجزات إيجاز القرآن وهدايته، وكسورة الزلزلة فى الركن الثانى وهى تكتب فى ثلاثة أسطر؛ وقد روى الإمام أحمد، والطبرانى فى الكبير أن صعصعة بن معاوية أتى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]، فقال حسبى لا أبالى أن لا أسمع غيرها. وروى أنّ بعض الأعراب سمع النبى صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها فقال: يا رسول الله: أمثقال ذرة؟ قال: «نعم». فقال الأعرابى: وا سوأتاه ثم قام وهو يقولها، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لقد دخل قلب الأعرابى الإيمان». وروى عن زيد بن أسلم رضى الله عنه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم دفع رجلا إلى رجل يعلمه فعلمه حتى بلغ هذه الآية فقال: حسبى- فذكر الرجل المعلم ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «دعه فقد فقه». نقل هذه الروايات وغيرها السيوطى فى الدر المنثور عن مخرجيها، ومنها أن بعض كبار الصحابة كان ربما يعطى المسكين حبة عنب ويقول إن فيها ذات كثيرة، اهتداء بهذه الآية، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم فى حديث مسلم: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا». فتدبر هذا تعلم منه قدر استعداد عقول العرب لهداية القرآن، وكيف صلحت به أنفسهم، وصاروا أئمة الناس فى الإصلاح، آمن بعضهم بأنه يرى فى الآخرة جزاء عمله خيره وشره وإن قلّ فكان كالذرة، فوطّن نفسه على عمل كل ما استطاع من الخير، وترك كل عمل من الشر، وهذا فقه الدين كله كما شهد له مبلغ الدين صلّى الله عليه وسلّم.

إنما كان العمل الصالح من لوازم الإيمان بالله فى الدرجة الأولى لأن من عرف الله تعالى عرف استحقاقه للحمد والشكر والعبادة والحب والتعظيم، وهو من لوازم الإيمان بالجزاء على الأعمال فى الدرجة الثانية خوفا من العقاب ورجاء فى الثواب. فالأركان الثلاثة يمر بعضها بعضا بمقتضى هداية الأنبياء الموافقة للفطرة الإنسانية دون تقاليد الوثنية التى لا شأن فيها لعلم الإنسان ولا عمله فى سعادته، لأنّ مدارها على إيمانه بوجود الفادى الشفيع أو على إقراره به. وإن كان لا يعقله، بل ينكره عقله، وتأباه فطرته، وقد أبطل القرآن عقيدة الفداء والشفاعة الوثنية فى آيات عديدة. ويدخل فى الأعمال الصالحة العبادات المفروضة التى يتقرب بها إلى الله تعالى، سائر أعمال البر التى ترضيه بمالها من التأثير فى صلاح البشر كبر الوالدين وصلة الرحم وإكرام اليتامى والمساكين. ومن أصوله الوصايا الجامعة فى آيات سورة الإسراء وهى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما «1» وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً «2» مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «3» إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ

_ (1) كلمة (أف) على أقل التضجر، والانتهار الإغلاظ فى الإنكار، والقول الكريم هو ألطف ما يقال وأدلة على الأدب والاحترام. (2) أى ملوما من الناس وفى حسرة من نفسك. (3) السلطان هو القصاص، والإسراف فيه قتل من لم يثبت عليه القتل.

وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [الإسراء: 23 - 39]. هذه الآيات أجمع وأعظم من الوصايا العشر التى فى التوراة. وتأمل آيات الوصايا فى سورة الأنعام (151 - 153)، وآية البر فى سورة البقرة (177)، وغير ذلك من آيات الحث على الفضائل، والزجر عن الرذائل والمعاصى الضارة بالأبدان والأموال، والأموال، والأعراض والعقول والأديان، ومثارها الأكبر إتباع الهوى وطاعة وسوسة الشيطان، ويضادهما ملكة التقوى، فهى اسم جامع لما يقى النفس من كلّ ما يدنّسها وتسوء به عاقبتها فى الدنيا والآخرة، ولهذا تذكر فى المسائل الدينية والروحية والحربية وغيرها، وهاك كلمة وجيزة فى الموضوع.

سنة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب

سنّة القرآن فى تهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال والفرق بينها وبين كتب الفلسفة والآداب القرآن كتاب هداية فعلية، لا كتاب فنّ وعلم نظرى، فهو يرشد متدبّره والمتفقه فيه إلى داعيتى الحق والخير، والباطل والشر من نفسه، وإلى طريق تزكيتها بمحاسبتها على أعمالها، لتغليب الحق والخير على ضدهما، وتجد هذا التهذيب والتثقيف فيه يدور على أمرين فطريين لا يتوقف فهمهما على فلسفة أرسطو ولا ابن سينا. وهو مجاهدة النفس بالتخلى عن اتباع الهوى، والتحلى بفضيلة التقوى، وقد تكرر فيه ذم اتباع الهوى والنهى عنه، وتعليله بأنه يصد متبعه عن الحق والعدل فى زهاء ثلاثين آية، وتكرر ذكر التقوى والمتقين فى زهاء مائتى آية أو أكثر، واكتفى هنا بذكر آية واحدة فى كل منهما. قال الله تعالى فى عبادة الهوى بعد أن ذكر لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه أتى بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، وفضّلهم على عالمى زمانهم، وآتاهم بينات من الأمر- أمر التشريع- فاختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ثم ذكر له أنه جعله على شريعة من الأمر، وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وهم المشركون الذين لا شريعة لهم، وأعلمه أن الظالمين من الذين تفرّقوا بعد العلم فكان ضارا بهم ومن الذين لا يعلمون بعضهم أولياء بعض، والله ولى المتقين دون كل منهم، وأن هذا القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون، وأنه تعالى لم يجعل الذين اجترحوا السيئات، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا فى المحيا ولا فى الممات، وأنه خلق السماوات والأرض بالحقّ ولتجزى كل نفس بما كسبت، لا كما يزعم المشركون من تركهم سدى، ولا كما يدّعى أهل الكتاب من كونه تعالى يحابى بعض الشعوب وبعض الناس بأنسابهم؛ أو لأجل من يفديهم ويشفع لهم. قال الله تعالى بعض آيات فى هذه المعانى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23]، وفى معناها من سورة الفرقان: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 43، 44].

وقال تعالى فى ثمرة التقوى للمؤمنين بعد عدة وصايا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29]، وقد قلت فى تفسير هذه الآية من جزء التفسير التاسع ما مختصره. هذه الآية آخر وصايا المؤمنين فى هذا السياق وهى أعمّها، والأصل الجامع لها ولغيرها وكلمة «الفرقان» فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى فى مجيئها هنا مطلقة، فالتقوى هى الشجرة، والفرقان هو الثمرة، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق، ومعناها فى أصل اللغة: الفصل بين الشيئين أو الأشياء، والمراد بالفرقان هنا: العلم الصحيح والحكم الحقّ فيها، ولذلك فسروه بالنور، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور فى العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، وإنما العلم الصحيح هو العلم التفصيلى الذى يميز الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات، والبسائط والمركبات، والنسب بين أجزاء المركبات، من الحسيات والمعنويات، ويبين كل شىء من ذلك، ويعطيه حقه الذى يكون به ممتازا من غيره، وإيراد الأمثلة على ذلك يطول (وقد ذكرنا نموذجا منها فى التفسير). فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29] معناه إن تتقوا الله فى كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه، وبمقتضى سننه فى نظام خلقه يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرّقون بها بين الحق والباطل، وتفصّلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة، وتميزون بين الحجة والشبهة. وقد روى عن بعض مفسرى السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذى يفرق بين الحق والباطل وهو عين ما فصّلناه من الفرقان العلمى الحكمى، وعن بعضهم تفسيره بالبصر يفرق بين المحق والمبطل بما يعز المؤمن ويذل الكافر، وبالنجاة من الشدائد فى الدنيا ومن العذاب فى الآخرة، وهذا من الفرقان العملى الذى هو ثمرة الفرقان العلمى. ذكر كل منهم ما رآه مناسبا لحال وقته أو حال من لقنه ذلك، ولم يقصد تحليل المدلول اللغوى، ولا المعنى الكلى الذى هو ثمرة التقوى بأنواعها. وهذا النور فى العلم الذى لا يصل إليه إلا بالتقوى هو الحكمة. أمر الله تعالى فى مواضع كثيرة من كتابه باتقائه، وباتقاء النار، وباتقاء الشرك والمعاصى، وباتقاء الفتن العامة فى الدول والأمم، وتقدم فى وصايا هذا السياق. وباتقاء الفشل والخذلان فى الحرب، وباتقاء ظلم النساء، وبيّن أن العاقبة فى إرث الأرض للمتقين

كما أن الجنة فى الآخرة للمتقين؛ قال تعالى فى سورة الطلاق: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 5]، وأمثال ذلك فى التقوى العامة والخاصة وأجرها وعاقبتها كثير. فمعنى التقوى العام: اتقاء كل ما يضر الإنسان فى نفسه وفى جنسه الإنسانى القريب والبعيد، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن. ولذلك قال العلماء: إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصى وفعل ما يستطاع من الطاعات، وزدنا على ذلك: اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى فى الكون، كالنصر على الأعداء وجعل كلمة الله هى العليا فى الأرض، كما هى فى الواقع ونفس الأمر، وكلمة الذين كفروا السفل كذلك، وكمال ذلك يتوقف على العلم الواسع بالكتاب والسّنّة، وكمال هذا يتوقف على معرفة سنن الله تعالى فى الإنسان مجتمعا ومنفردا كما أرشد إليه فى آيات من كتابه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التى يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التى تعرض له من علم وحكم وعمل، فيفصل فيها بين ما يجب قبوله وما يجب رفضه، وبين ما ينبغى فعله وما يجب تركه. وتنكير الفرقان للتنويع التابع لأنواع التقوى، كالفتن فى السياسة والرئاسة والحلال والحرام والعدل والظلم، فكل متق لله فى شىء يؤتيه فرقانا فيه. وبذلك كان الخلفاء والحكام من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن تبعهم من خلفاء العرب أعدل حكام الأمم فى الأرض حتى فى عهد الفتح، قال بعض حكماء الإفرنج «1»: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، ولكنهم لم يتقوا فتن السياسة والرئاسة لقلة خبرتهم. فعوقبوا عليها بتفرقهم وضعفهم وزوال ملكهم، وكان من بعدهم من أعاجم المسلمين دونهم لجهلهم بكل نوع من أنواع التقوى الواجبة، وحرمانهم من فرقانها، فهم يزعمون أنهم يجددون مجدهم، مع جهل هذا الفرقان المبين، وعدم الاعتصام بالتقوى المزكية للنفس، المؤهلة لها للإصلاح فى الأرض، بل مع انغماسهم فى السكر والفواحش، لظنهم أن الإفرنج قد ترقوا فى دنياهم بفسّاقهم وفجّارهم، وإنما ترقوا بحكمائهم وأبرارهم، الذين وقفوا حياتهم على العلم والعمل النافع. وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ هذا عطف على يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً، أى: ويمحو بسبب هذا الفرقان وتأثيره ما كان من تدنيس سيئاتكم لأنفسكم فتزول منها داعية

_ (1) هو الدكتور «غوستاف لوبون»؛ صاحب كتاب حضارة العرب والإسلام وغيره من المصنفات.

سنة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات

العود إليها المؤدى إلى الإسرار المهلك، ويغفرها لكم بسترها وترك العقاب عليها وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، ومن أعظم فضله أن جعل هذا الجزاء العظيم (وهو الفرقان) بقسميه السلبى والإيجابى جزاء للتقوى وأثرا لها». انتهى تفسير الآية مختصرا. سنّة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات وأما سنّة القرآن فى الإرشاد إلى الأعمال الصالحة فهى بيان أصولها ومجامعها وتكرار التذكير بها بالإجمال، وأكثر ما يحث عليه من العبادات الصلاة التى هى العبادة الروحية العليا، والاجتماعية المثلى، والزكاة التى هى العبادة المالية الاجتماعية الكبرى. كرر الأمر بهما فى آيات كثيرة، وبين أهم منافعهما بقوله تعالى: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45]، وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 19 - 25]. ولم يكرر فيه ما يحفظ بالعمل والاقتداء بالرسول من أحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج، بل لم يذكر منها إلا ما لذكره فائدة خاصة. وذكرت فيه أحكام الصيام فى موضع واحد من السورة الثانية، ولم يذكر فيه عدد الركعات فى كلّ صلاة، ولا عدد الركوع والسجود ولا نصاب الزكاة فى كل نوع مما تجب فيه؛ لأنّ كلّ هذا يؤخذ من بيان الرسول ويحفظ بالعمل، وليس فى ذكره تزكية للنفس ولا تغذية للإيمان، وسيأتى بعض فوائد الزكاة فى الكلام على إصلاح القرآن المالى من المقصد السابع. وسنعقد فى ملحقات الكتاب من الجزء الثانى منه فصلا فى أسرار العبادات الإسلامية من روحية واجتماعية وصحية نبين بها فضلها وامتيازها على جميع عبادات الملل الأخرى؛ فيعلم به أنه لو لم يجئ محمد صلّى الله عليه وسلّم بغيرها لنهضت برهانا على نبوته. وإكمال الله الدين به.

ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل

ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل نحن (المسلمين) نؤمن بأن إنجيل المسيح عليه السلام هدى ونور بشهادة القرآن له، وإن كنا لا نعرفه، وإنما نؤمن أنه هداية خاصة مؤقتة .. لا عامة دائمة. وإن الله تعالى إنما أكمل دينه ووحيه بالقرآن. ففضائله أتمّ وأكمل. وأعمّ وأشمل. وأبقى وأدوم. وأذكر فضيلتين من فضائل الإنجيل يزعم النصارى أن ما هو مأثور عندهم فيهما أكمل وأفضل مما جاء به الإسلام؛ (الأولى): قول المسيح عليه السلام: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من يبغضكم، ومن ضربك على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر» «1»، ومن المعلوم بالبداهة أن امتثال هذه الأوامر يتعذر على غير الأدلة المستعبدين من الناس، وأنه قد يكون من أكبر المفاسد بإغراء الأقوياء بالضعفاء الخاضعين، وإنك لتجد أعصى الناس لها من يسمون أنفسهم بالمسيحيين. أمثال هذه الأوامر لا تأتى فى دين الفطرة العام لأن امتثالها من غير المستطاع، والله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286]، وإنما قرر القرآن فى موضوعها الجمع بين العدل والفضل والمصلحة. قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40 - 43]. ولا يخفى أن العفو والمغفرة للمسيء إنما تكون من القادر على الانتصار لنفسه، وبذلك يظهر فضله على من عفا عنه، فيكون سببا لاستبدال المودة بالعداوة، فى مكان الإغراء التعدى ودوام الظلم، ولذلك قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34، 35]. فانظر كيف بين مراتب الكمال ودرجاته من العدل والفضل، وكيف استدل عليه بما فيه من المصلحة وحكم العقل، أفليس هذا الإصلاح الأعلى على لسان أفضل النبيين والمرشدين دليلا على أنه وحى من الله تعالى قد أكمل به الدين؟ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، لا يجحده إلا من سفه نفسه فكان من الجاهلين.

_ (1) راجع هذه الأوامر فى أواخر الفصل الخامس من إنجيل متى.

(الثانية): مبالغة المسيح عليه السلام فى التزهيد فى الدنيا والأمر بتركها وذم الغنى، حتى جعل دخول الجمل فى ثقب الإبرة أيسر من دخول الغنى ملكوت السماوات. ونقول: إن هذه المسألة وسابقتها إنما كانتا إصلاحا مؤقتا لإسراف اليهود وغلوهم فى عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم، وآثروا دنياهم على دينهم، والغلو يقاوم مؤقتا بضده. وكذلك كانت دولة الرومان السالبة لاستقلال اليهود وغيرهم دولة مسرفة فى الظلم والعدوان، والفسق والطغيان. وأما الإسلام فهو دين البشر العام الدائم، فلا يقرر فيه إلا ما هو لمصلحة الناس كلّهم فى دينهم ودنياهم، وهو فى هذه المسألة ذم استعمال المال فيما يضر من الإسراف والطغيان، وذم أكله بالباطل ومنع الحقوق المفروضة فيه والبخل به عن الفقراء والضعفاء. ومدح أخذه بحقه وبذله فى حقه، وإنفاقه فى سبيل الله بما ينفع الناس ويعزّ الملة ويقوى الأمة، ويكون عونا لها على حفظ حقيقتها واستقلالها. وسترى فى المقصد ما هو أعظم من هذا فى إصلاحه العالى. فهذه المسألة وما قبلها مما أكمل الله تعالى به الدين، فيما أوحاه من كتابه إلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخاتم النبيين، وما كان لرجل أمى ولا متعلم أن يصل بعقله إلى أمثال هذا الإصلاح لتعاليم الكتب السماوية التى يتعبّد بها الملايين من البشر، ولكتب الحكماء والفلاسفة أيضا، فهل الأقرب إلى العقل أن يكون بوحى من الله عزّ وجلّ، أم من نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم؟. ومهما أنسى من شىء فلن أنسى أول كلمة فى المفاضلة بين فضائل الإسلام والمسيحية طرقت سمعى ووعاها قلبى، أتحسبون أننى سمعتها من أحد شيوخنا الأعلام كالعلامة الشيخ حسين الجسر أو الأستاذ الإمام؟ لا لا، إنما سمعتها من أكبر وجهاء النصارى فى طرابلس الشام (إسكندر كاستفليس) الذى كان قنصل دولتى روسيا وألمانيا معا، جئته من قبل والدى فى مسألة مالية وأنا تلميذ، وكان يسمع أننى عصرى حر الفكر، فلما انتهى الحديث الذى جئته من أجله فتح لى باب الحديث فى الأمور القوميّة والوطنيّة والترقى العصرى، فسمع منى انتقادا لتقصير مسلمى بلادنا وتأخرهم عن غيرهم خلافا لما يرشدهم إليه دينهم، ولم يكن يتوقع هذا منى، فعاملنى بمثل حريتى، وعلى ما كان يصفه به وجهاء بلادنا من التعصب الدينى السياسى لا الاعتقادى، وكان مما قاله هذه الكلمة: إن فى الإسلام فضائل كالجبال وأشمخ وأرسخ، ولكنكم دفنتموها حتى لا تكاد تعرف أو ترى، ونحن عندنا شىء قليل ضئيل ككلمة «حب الله والقريب» فما زلنا نمطه ونمده ونقول الفضائل المسيحية حتى ملأ الدنيا كلها.

شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى

شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى على ذكر الفلسفة أذكر شبهة لمقلدتهم على الفضائل وعمل الخير بهداية الدين يلوكونها بألسنتهم ولا يعقلون فسادها، وهى أنّ الكمال البشرى؛ أن يعمل الإنسان الخير لذاته أو لأنه خير لا لعلة، ويعدون من أكبر العلل أن يعمله لمرضاة الله أو رجاء فى ثواب الآخرة أو خوفا من عقابها. حتى أننى قرأت لكاتب اشتهر بأنه يمدح الإسلام ويدافع عنه مقالا يهذى فيه بهذه الفلسفة. ومعنى هذا- إن كانوا يفقهون أن من النقص فى الإنسان أن يقصد بعمل الخير والبر ما أرشد إليه الدين من تزكية نفسه وترقية روحه، بحيث تكون راضية مرضية عند ربّ العالمين ذى الكمال المطلق الأعلى، وأهلا لجواره فى دار كرامته. وإنما يكون كاملا إذا خرج عن طبعه، وقصد بعمله النفع لغيره دون تزكية نفسه ودون إرضاء ربه، وأعمل العمل لذاته أى لا لمصلحة ولا لمنفعة فيه، وهذا سفه وعبث ينزه عنه العقلاء. (فإن قيل): بل نقصد به المصلحة العامة أو المنفعة الخاصة بغير العامل. (قلنا): إن هذا مما شرعه الدين وجعله مما يرضى الله تعالى، وينال به ثوابه، فهل تشترطون فى كونه خيرا أن يكون فاعله كافرا بالله لا يبتغى رضوانه ولا ثوابه، وأن يحب نفع الناس بشرط أن لا ينتفع هو بعمله فيما لا يضرهم؟ ألا إن هذا لمن الحماقة والسفه، لا من الحكمة والفلسفة. مثال ذلك: أنّ جميع الصدقات الواجبة والمستحبة من الخير الذى يفضل بها المؤمن غيره على نفسه وأهله، وقد مدح الله فيها الإيثار على النفس، حتى مع الحاجة والفقر، فقال فى أنصار نبيه صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9]، وذم الرياء فيها وفى كل عمل وهو منفعة دنيوية. وقلّما يفعل غير المؤمن خيرا إلا لأجل الرياء والسمعة. أفتقولون: إنه مع هذا من الخير، وإنما يخرجه من محيط الخير، أن يرتفع به إلى القرية عند الله عزّ وجلّ؟ وأى خير وفضل وكمال أعلى من القرب إلى ذى العزة والجلال؟. وجملة القول: إن أركان الدين الثلاثة مأثورة عن جميع الملل القديمة وذلك دليل على أنّ أصلها واحد وهو الوحى وهداية الرسل، وأنه كان قد دبّ إليها الفساد بتعاليم الوثنية وبدعها، فجاء محمّد النبى الأمى بهذا القرآن من عند الله تعالى فأصلح ما كان من

فسادها، الذى جعلها غير كافية لسعادة البشر الآخذين بها، من شوب الإيمان بالله بالشرك، وتشبيه الخالق بالخلق وجعل الجزاء بالمحاباة والفداء لا بالحق والعدل، وجعل العبادات تقاليد كاللعب واللهو، غير مثمرة لتزكية النفس، ولا راجحة فى ميزان العقل، فجاءت عبادات الإسلام وآدابه كلها معقولة مكملة لفطرة الإنسان.

المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل

المقصد الثانى من مقاصد القرآن: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل كانت العرب تنكر الوحى والرسالة إلا أفرادا من بقايا الحنفاء فى الحجاز وغيره، ومن دخل فى اليهودية والنصرانية لمجاورته لأهلهما، وكانت شبهة مشركى العرب وغيرهم على الوحى استبعاد اختصاص الله تعالى بعض البشر بهذا التفضيل على سائرهم، وهم متساوون فى الصفات البشرية بزعمهم، ويقرب منهم اليهود الذين أنكروا أن يختص الله تعالى بهذه الرحمة والمنة من يشاء من عباده، وأوجبوا عليه أن يحصر النبوة فى شعب إسرائيل وحده، كأن بقيّة البشر ليسوا من عباده الذين يستحقون من رحمته وفضله ما أعطاه لليهود من هداية النبوة. على أنهم وصفوا الأنبياء بالكذب والخداع والاحتيال على الله ومصارعته، وارتكاب كبائر المعاصى- كما تقدم فى المقصد الأول- ووافقهم النصارى على حصر النبوة فيهم؛ وأثبتوا قداسة غير الأنبياء من رسل المسيح وغيرهم من الباباوات والعباد، وعبدوهم أيضا، على أنهم نقلوا عن بعض خواص تلاميذه إنكارهم إياه فى وقت الشدة، وعن بعضهم أنه أسلمه لأعدائه، وأنه لعن أكبرهم وسماه شيطانا، وأنه قال لهم: «كلكم تشكون فىّ هذه الليلة»، واتخذ كل من الفريقين أحبارهم ورهبانهم وقساوسهم أربابا من دون الله تعالى بأن نحلوهم حق التشريع الدينى من وضع العبادات والتحليل والتحريم «1»، وكل ذلك من الكفر بالله وإنكار عدله، وعموم رحمته وفضله، ومن مفسدات نوع الإنسان، وجعل السواد الأعظم منه مستعبدا لأفراد من أبناء جنسه، فأبطل الله تعالى كل ذلك بما أنزله من كتابه على خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم. 1 - بعثة الرسل فى جميع الأمم ووظائفهم: قال الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36]، وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24]، وكرّم الله الإنسان وجعل التشريع الدينى من حقوقه وحده، وإنما النبيون والرسل مبلغون عنه وليسوا بمسيطرين على الأقوام، وطاعتهم تابعة لطاعته، فقد أبطل ما نحلهم الناس من ربوبية التشريع، كما أبطل عبادتهم

_ (1) راجع تفصيل هذا فى (ص 263) من الجزء العاشر، تفسير المنار.

2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين

وعبادة من دونهم من القديسين، وبذلك تحرر الإنسان من الرق الروحى والعقلى الذى منيت به الأمم المتدينة ولا سيما البوذيين والنصارى. ولضلال جميع أهل الملل والنحل فى ذلك كرر هذا الإصلاح فى كثير من السور بالتصريح بأن الرسل بشر مثل سائر البشر يوحى إليهم، وبأنهم ليسوا إلا مبلّغين لدين الله تعالى الموحى إليهم. قال الله تعالى لخاتمهم المكمل لدينهم فى خاتمة سورة [الكهف، الآية 110]: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً .. الآية. وقال فى جملتهم: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [الكهف: 56]، ومثلهما فى سورة [الأنعام، الآية: 48)، وفى معناهما آيات أخرى بعثهم مبشرين ومنذرين بالقول والعمل، لا متصرفين فى الكون بالنفع والضر بأنفسهم، ولا بتأثيرهم فى إرادته تعالى. وقد شرحنا ذلك فى تفسير قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]، وقد بين ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم بأقواله وأعماله وأخلاقه فى العبودية والتواضع بما لا يدع لتأويل الآيات سبيلا. حتى فطن لذلك بعض العلماء الإفرنج الأحرار فقال: إن محمدا لما رأى خزى النصارى بتأليه نبيهم وعبادته لم يكتف بتلقيب نفسه برسول الله حتى أمرهم بأن يقولوا: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله». 2 - أطوار النصارى وما انتهوا إليه فى الدين: ومن عجيب أمر النصارى أن وثنيى أوروبا غلبوهم على دينهم لضعفهم وتفرقهم بعدم وجود نظام يجمع أمرهم بقوة حاكمة فتصدّى لجمعهم الملك قسطنطين فانتزعهم من دين التوحيد الذى كان عليه إبراهيم وموسى وعيسى وسائر النبيين، وأسس لهم كنائس كهياكل قومه الوثنيين، ورئاسة دينية رومانية تناوئ اليهود أو الساميين، إلا فلسفة بولس عدو المسيح والمسيحيين، ثم وضع لهم الأحبار والأساقفة من اليونان والروم عقائد وعبادات وشرائع وشعائر كثيرة، لم يبن شىء منها على أساس التوراة التى هى ناموس موسى (ع. م)، ونقلوا عن المسيح أنه قال- قوله الحق- أنه ما جاء لينقض الناموس وإنما جاء ليتممه، ولكن هؤلاء الأوروبيين نقضوه ووضعوا لأنفسهم نواميس أخرى مخالفة له ولما تممه به المسيح من الزهد وترك عبادة المال والشهوات والرياء وحب الرئاسة والبغى والعدوان، وعادوا أتباعه اليهود فى كل شىء.

3 - مسألة الشفاعة

ولما بعث خاتم النبيين الذى بشر به موسى وعيسى والنبيون عليه وعليهم الصلاة والسلام، وبين الفريقين- اليهود والنصارى- ما اختلفوا فيه من أمر الدين، ورأوا اليهود والنصارى يتبعونه لعلمهم بأنه جدد لهم دين أنبيائهم عادوه وحاربوه كما تقدم، ولكنهم استفادوا من نوره صلّى الله عليه وسلّم ما حملهم على إصلاح كبير فى دينهم قاتل عليه بعضهم بعضا حتى صارت أوروبا فريقين متكافئين فى القوة، وكل ذلك معروف بالتفصيل فى العالم كله. ثم حدث بعد ذلك أن حرب دين الإصلاح (البروتستنت) ما زال يتدرج فيما خالف فيه دين الكاثوليك والأرثوذكس وهو حرية البحث فى الدين حتى صار الملايين من أتباعه لا يؤمنون بعصمة كتب العهد القديم ولا العهد الجديد، ثم عقدوا مجامع ومناظرات قرروا فيها بطلان القول بألوهية المسيح. ثم حدث فى هذا العام أن جاهر الجمهور الأعظم فى الممالك الجرمانية بوجوب بناء دين الأمة على قواعد جنسها الآرى، وهدم قواعد الجنس السامى الدينية وأنبيائه من بنى إسرائيل، فبرز البابا يناهضهم ويصرح بأنهم يعودون إلى الوثنية القديمة فعلم من هذا الحدث الجديد أنّ الديانة النصرانية التى هدمها الشيوعيون فى شرق أوروبا وآسيا (الروسية) وطفقوا يبثّون الدعوة بهدمها هى وسائر الأديان، والتى أعقبهم الفاشيون من الجرمان بهدمها فى قلب أوروبا- ليست بالديانة التى تثبت فى عواصف هذه الفتن الجديدة، وإنما الذى يقوى على ذلك دين الإسلام وحده. فلا سبيل إلى إنقاذ أوروبا وسائر العالم من فوضى كفر التعطيل والإباحة إلا به. 3 - مسألة الشفاعة: وأما مسألة الشفاعة التى كان مشركو العرب يثبتونها لمعبوداتهم فى الدنيا، وأهل الكتاب يثبتونها لأنبيائهم وقديسيهم فى الدنيا والآخرة، فقد نفاها القرآن وأبطلها وأثبت أن الشفاعة لله جميعا، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 28، 29]، وقد فصلنا ذلك فى تفسير سورة البقرة وغيرها مرارا (ومنه أن الشفاعة الثابتة فى الأحاديث غير الشفاعة والوثنية والنصرانية المنفية فى القرآن)، وقد قرر هذه المسألة فى بضع وعشرين آية من السور المكية والمدنية. فأنت ترى أن القرآن قد بين حقيقة هذه المسألة التى ضل فيها الملايين من البشر فأشركوا

4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم

بالله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، فهل كان هذا مما استمده محمد صلّى الله عليه وسلّم من علماء أهل الكتاب، فجادوا به عليه وبخلوا به على أقوامهم؟ أم هو نابع من نفسه وزهو يقتضى أن ما ينبع منها أعلى من وحى الله لغيره على حسب دعوى أتباع هؤلاء الرسل؟ كلا إنما هى من وحى الله تعالى له. 4 - الإيمان بجميع الرسل وعدم التفرقة بينهم: ومما بيّنه القرآن فى مسألة الأنبياء والرسل أنه يجب الإيمان بجميع رسل الله تعالى وعدم التفرقة بينهم فى الإيمان، وأنّ الإيمان ببعضهم والكفر ببعض كالكفر بهم كلّهم؛ لأن إضافتهم إلى الله تعالى واحدة، ووظيفتهم فى إرشاد المكلفين رسالته وشرعه واحدة، قال الله تعالى فى خواتيم سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285]، وبين فى سورة [النساء، الآيات: 150 - 152] أن التفرقة بينهم فى الإيمان هى الكفر حق الكفر، وأن الإيمان بالجميع بغير تفرقة هو الإيمان حق الإيمان. وهذا مبنىّ على الإيمان بأن دين الله تعالى الذى أرسل به جميع رسله واحد فى أصوله ومقاصده من هداية البشر وإصلاحهم، وإعدادهم لسعادة الدنيا والآخرة، وإنما كانت تختلف صور العبادات والشرائع باختلاف استعداد الأقوام، ومقتضيات الزمان والمكان، حتى بعث الرسول بالأصول الموافقة لكلّ زمان ومكان، مع الإذن بالاجتهاد فى المصالح التى تختلف باختلاف الأطوال والأحوال، فالإيمان ببعضهم دون بعض فى رسالتهم الإلهية اتباع للهوى فى الإيمان وجهل بحقيقة الدين، فلا يعتد به، لأنه عين الكفر. وقد انفرد بهذه الحقيقة العادلة المسلمون دون أهل الملل الوثنية من المجوس والهندوس، ودون أهل الكتاب الذين لا يؤمنون إلا بأنبياء بنى إسرائيل وأبيهم وجدهم، على ما يذكرون فى كتبهم من عيوب ومنكرات وفواحش يرمونهم بها. وأما المسلمون فيؤمنون بأن رب العالمين أرسل فى كل الأمم رسلا هادين مهديين فهم يؤمنون بهم إجمالا، وبما قصه القرآن عن بعضهم تفصيلا، فقد كرّم الإسلام بهذا نوع الإنسان، ومهّد به السبيل للألفة والأخوة الإنسانية العامة التى نبينها بعد، فالمسلم صديق ومحبّ وحبيب لجميع الأنبياء والمرسلين فى الدنيا والآخرة، وتجاه هذا يصح أن يقال: إن غير المسلم عدو لله ولهم كلهم، لأن تكذيبه لبعضهم تكذيب لرسالتهم ولمرسلهم سبحانه.

وهذه المزية لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم من المزايا التى كان بها حجة على سائر الأمم، وأهلا لمنصب الإمامة فيها، قال الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143]، فهى الوسط العدل فى الإيمان بجميع الرسل وما جاءوا به من أركان الدين الثلاثة (كما بيناه فى المقصد الأول) وفى غير ذلك من الفضائل والأعمال. وأما شهادتها على الناس فهى تابعة لما كلفته من دعوة جميع الأمم إلى حقيقة دين الرسل التى تلقتها من خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم وحلّت محلّه فى الدعوة إلى ما جاء به من بعده، فهو صلّى الله عليه وسلّم يشهد عليها يوم القيامة كما يشهد كل رسول على قومه الذين كانوا فى زمانه كما قال الله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41]. ومن المعلوم بنص القرآن أنّ بعض الأنبياء والرسل أفضل من بعض بتخصيص الله تعالى، وبما كان لكلّ نبى من عمل فى نفع العباد وهدايتهم، وهى متفاوتة جدا، قال الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 253]، ومن المعلوم بالدلائل العقلية والنقلية أن محمدا خاتم النبيين، الذى أكمل الله به الدين وأرسله رحمة للعالمين، هو الذى رفعه الله عليهم كلهم درجات كما بيناه فى تفسير تلك الآية بالإجمال «1»، وفصلناه فى هذا الكتاب أقصد التفصيل. وأنك لتجد مع هذا أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأتباعه: «لا تفضلوا بين أنبياء الله» قاله إنكارا على رجل من المسلمين لطم يهوديا لأنه قال: لا والذى اصطفى موسى على البشر فشكاه إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فغضب غضبا شديدا على صاحبه المسلم، وقاله وبين مزية لموسى عليه الصلاة والسلام فى الآخرة ثم قال: «ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى»، والحديث رواه الشيخان فى الصحيحين، وفى روايات أخرى للبخارى: «لا تخيروا بين الأنبياء»، وفى بعضها: «لا تخيرونى على موسى». والغرض من ذلك كله منع المسلمين من تنقيص أحد من الأنبياء عليهم السلام، ومن التعادى بين الناس لأجلهم، ومن الغلو فيه صلّى الله عليه وسلّم، وإلا فهو قد قال فى تعليل نهيه عن سؤال أهل الكتاب عن شىء: «والله لو كان حيا بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعنى». أبو يعلى من حديث جابر.

_ (1) راجع أول ج 3 تفسير المنار.

ذلك بأن مثل الأنبياء كمثل ولاة الأقطار فى مملكة واحدة، أو مثل قواد الجيش فى المعسكرات المتفرقة لدولة محدودة، ومثل خاتمهم صاحب الرسالة العامة كمثل القائد والوالى العام عند إرادة توحيد السياسة والقيادة، وهذا معنى تبشير الأنبياء بمحمد صلّى الله عليه وسلّم «1»، وأخذ الميثاق عليهم بوجوب الإيمان به ونصره وأتباعه إذا جاءهم فرضا كما نراه فى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 81] «2».

_ (1) راجع تفصيل ذلك فى ص 251 ج 9، تفسير المنار. (2) راجع تفسيرها فى ص 349 ج 3، تفسير المنار.

بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها

بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله وما يشبه بعضها من الكرامات، وما يشتبه بها من خوارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها تكلمنا فى الفصل الثانى فى آيات الأنبياء التى تسميها النصارى بالعجائب، ويسميها علماء الكلام منا بالمعجزات، ويعدّونها قسما من خوارق العادات، وكان الكلام فيها هنالك للمقابلة والموازنة بين آيات الأنبياء الكونية وآيات خاتمهم الكبرى العلمية العقلية الدائمة وهى القرآن، وتأثير كل فى الاهتداء إلى الإيمان. ونأتى هنا ببحث آخر فى تلك الآيات، وما يشبهها أو يشتبه بها من الكرامات، وسائر خوارق العادات، وما كان من إصلاح الإسلام لضلال البشر فيها، والصعود بهم إلى أعلى مراقى الإيمان، واللائق بطور الرشد العقلى لنوع الإنسان، والعلم الواسع بسنن الأكوان، الذى منحوه برسالة محمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، فنقول: آيات الله تعالى فى خلقه نوعان: (النوع الأول): الآيات الجارية على سننه تعالى العامة المطردة فى نظام الخلق والتكوين وهى أكثرها وأظهرها وأدلّها على كمال قدرته وإرادته، وإحاطة علمه وحكمته، وسعة فضله ورحمته. (النوع الثانى): الآيات الجارية على خلاف السنن المعروفة للبشر وهى أقلّها وربما كانت أدلها عند أكثر الناس على اختياره عزّ وجلّ فى جميع ما خلق وما يخلق، وكون قدرته ومشيئته غير مقيدتين بسنن الخلق التى قام بها نظام هذا العالم، فالسّنن مقتضى حكمته وإتقانه لكل شىء خلقه، وقد يأتى بما يخالفها لحكمة أخرى من حكمه البالغة، ولولا هذا الاختيار لكان العالم كالآلات التى تتحرك بنظام دقيق لا علم لها ولا إرادة ولا اختيار فيه، كآلة الساعة الصغيرة التى تعرف بها أوقات الليل والنهار. وآلات البواخر والمعامل الكبيرة. والماديون المنكرون لوجود الخالق، والفلاسفة الذين يسمونه العلة الفاعلة للوجود يعبرون عن هذا النظام (بنظرية الميكانيكية)، وهم يتكلفون اختراع العلل والأسباب لكل ما يرونه مخالفا لسننه المعروفة، ويسمّون ما لا يهتدون إلى تعليله من الأمور المخالفة لها بفلتات

سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب

الطبيعة، ويقيسون ما لم يظهر لهم تعليله على ما اقتنعوا بتعليل له وإن لم يقم عليه دليل يثبته، ويقولون إن ما لم يظهر لنا اليوم فلا بد أن يظهر لنا أو لمن بعدنا غدا. وهذا دأبهم فى جميع نظرياتهم العلمية إذ ليس عندهم علم قطعى بشيء منها، وهذا مرادهم من تسميتها بالنظريات، فمعناها المسائل الموضوعة للنظر والبحث والاستدلال «1». سنن الله فى عالم الشهادة وعالم الغيب: ونحن معشر المؤمنين بعالم الغيب وما فيه من الملائكة- وهم جند الله الأكبر- وما لهم من التأثير والتدبير فى عالم الشهادة المادى بإذن الله تعالى وتسخيره، نعتقد أن لله تعالى سننا فى نظام ذلك العالم غير سننه الخاصة بعالم المادة، وأن الإنسان هو حلقة الاتصال بين العالمين، فجسده ووظائفه الحيوية من عالم الشهادة، وروحه من عالم الغيب، وهو ما دام فى عالم الجسد المادى فإن جميع مداركه تكون مشغولة بعالم المادة وسننها، وحاجاته الشخصية والنوعية منها، فيحجبه ذلك عن عالم الروح الغيبى حتى روحه وهى الفصل المقوم لحقيقته، وإنما يكون الظهور والسلطان للروح على الجسد فى الحياة الآخرة، إلا من اصطفى الله تعالى من رسله وأنبيائه فأعدّهم بفضله ورحمته للاتصال بملائكته والتلقى عنهم، وأظهرهم على ما شاء من غيبه ليبلغوا عباده عنه ما أمرهم به، وقد يشرف غيرهم من الأصفياء وأصحاب الرياضات النفسية على بعض الخواص الروحية دون ما يطلع عليه الله أنبياءه ورسله عليهم السلام. الغيب قسمان حقيقى وإضافى: الغيب: ما غاب علمه عن الناس، وهو قسمان: غيب حقيقىّ لا يعلمه إلا الله، وغيب إضافىّ يعلمه بعض الخلق دون بعض لأسباب تختلف باختلاف الاستعداد الفطرى والعمل الكسبى، ومن أظهره الله على بعض الغيب الحقيقى من رسله فليس لهم فى ذلك كسب لأنه من خصائص النبوة غير المكتسبة «2».

_ (1) لا يزال يظهر للباحثين ما ينقص ما كانوا يعدونه من أثبت القواعد، ونقل إلينا أخيرا أن الأستاذ شينلجو ألف كتابا فى سر فلسفة القدر، نقض فيه جميع قواعد العلوم والفنون، وأسند كل شىء من أطوار الكون إلى القضاء والقدر. (2) يراجع تحقيق هذا الموضوع بالتفصيل فى الصفحات 421 - 456 - 469 من الجزء السابع، وملخصه (ص 513) من الجزء التاسع- تفسير المنار.

ومن دونهم أفراد من خواصّ أتباعهم وأوتوا نصيبا من الإشراف على ذلك العالم بانكشاف ما للحجاب، وإدراك ما لشىء من تلك الأنوار، كان بها إيمانهم برسلهم فوق إيمان أهل البرهان. وقد روى عن أمير المؤمنين علىّ كرّم الله وجهه أنه قال: «لو كشف الحجاب ما ازددت يقينا». يعنى والله أعلم أن الله قد شرح صدره للإسلام، فكان على نور من ربّه بلغ به مقام الاطمئنان، وقد صحّ عن بعض من دونه من الصحابة فى العلم والعرفان، أنهم رأوا النور الغيبى بالعيان، ورأوا الملائكة عليهم السلام، فى غير ما كانوا يرون جبريل متمثلا بصورة إنسان. ومن دون هؤلاء أفراد آخرون قد يكون لهم من سلامة الفطرة، أن معالجة النّفس بأنواع من الرياضة، أو من طروء مرض يصرف قوى النفس عن الاهتمام بشهوات الجسد، أو من سلطان إرادة قوية على إرادة ضعيفة تصرفها عن حسها، وتوجه قواها النفسية إلى ما شاءت أن تدركه لقوتها الخاصة بها- قد يكون لهؤلاء الأفراد فى بعض الأحوال من قوة الروح ما يلمحون به بعض الأشياء أو الأشخاص البعيدة عنهم، وتتمثل لهم بعض الأمور قبل وقوعها مرتسمة فى خيالهم فيخبرون بها فتقع كما أخبروا، وثبت هذا وذاك عند بعض الماديين فى هذا الزمان «1».

_ (1) منه ما يسمونه بقراءة الأفكار وبمراسلة الأفكار ولا يزالون يصدقون العرافين والعرافات كما نرى فى الصحف عن جرائد أوروبا وآخرها ما قرأته عند تصحيح هذه الكراسة فى المقطم الذى صدر فى غرة صفر سنة 1354 هـ مايو سنة 1935 م، عن العرافة (مدام ترفران ليلى) أنباء قالتها للوزراء والملوك والرؤساء فى أوربا ثم وقعت كما أنبأت، منها قتل دومر رئيس جمهورية فرنسا، ومنها عودة كاروك ملك رومانيا المنفى إلى بلاده، ومنها أن أحمد زوغو سيصير ملكا لألبانيا، ومنها الانقلاب فى ألمانيا الخ.

الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم

الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم إنّ الأمور التى تأتى فى الظاهر على غير السنن المعروفة. أو الخارقة للعادات المألوفة، منقولة عن جميع الأمم فى جميع العصور نقلا متواترا فى جنسه دون جميع أنواع أو أفراد وقائعه، وليست كلّها خوارق حقيقية، فإن منها ما له من أسباب مجهولة للجمهور، وإن منها لما هو صناعى يستفاد بتعليم خاص، وإن منها لما هو من خصائص قوى النفس فى توجيهها إلى مطالبها، وفى تأثير أقوياء الإرادة فى ضعفائها، ويدخل فى هذين المكاشفة فى بعض الأمور والتنويم المغناطيسى، وشفاء بعض المرضى ولا سيما المصابين بالأمراض العصبية التى يؤثر فيها الاعتقاد والوهم، ومنها بعض أنواع العمى والفالج، فإن من الناس من يفقد بصره بمرض يطرأ على أعصاب عينيه وهما صحيحان تلمعان فى وجهه، أو يغشاهما بياض عارض مع بقاء طبقاتهما صحيحة، وليس منه الكمه والعمى الذى يقع بطمس العينين وغئورهما كالذى أبرأه المسيح عليه السلام بإذن الله تعالى. ومنه انخداع البصر بالتخييل الذى يحذقه المشعوذون، ومنه ما فعله سحرة فرعون المبين بقوله تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66]. ومنه انخداع السمع كالذى يفعله الذين يدّعون استخدام الجن إذ يتكلمون ليلا بأصوات غريبة غير أصواتهم المعتادة فيظن مصدّقهم أنّ ذلك صوت الجنى، وقد يتكلمون نهارا من بطونهم من غير أن يحركوا شفاههم «1»، فلا ينبغى أن يوثق بشيء من أخبارهم ولا من نقلهم، ومن الدلائل على كذب المنتحلين لهذه الغرائب إنهم جعلوها وسيلة لمعايشهم الدنيئة، وأنهم لو كانوا صادقين فيها لتنافس الملوك وكبار علماء الكون فى صحبتهم والانتفاع بهم. وقد بينّا هذه الأنواع من الخوارق الصورية فى بحث السحر من تفسير سورة الأعراف «2»، وفى المقالات التى عقدناها للكرامات وأنواعها وتعليلها فى المجلد الثانى من المنار، وأتممناها فى المجلد السادس منه.

_ (1) قد حدث فى هذه السنة افتضاح دجالة اتخذت دعوى استخدام الجن صناعة لها فرفعت عليها قضايا وقد قرأنا فى بعض الجرائد عند تقديم هذه الكراسة لجمعها للطبعة الثانية أن حيلتها الصناعية بالكلام الذى يسمع صوته من جوفها وتوهم به المخدوعين أنه كلام الجنى قد عرفت فى أثناء التحقيق. (2) راجع ص 45 - 60 ج 9 من تفسير المنار.

إنّ عوام الشعوب الذين يجهلون تواريخ الأمم، وما وجد عند كل منها من هذه الغرائب، ومما كشفه العلماء من حيل فيها وعلل، يغترون بما عندهم منها، ويخضعون للدجالين والمحتالين الذين ينتحلونها، ويمكنونهم من أموالهم فيسلبونها، ويأتمنونهم على أعراضهم فينتهكونها، ولا سيما إذا كانوا يأتون ما يأتون منها، على أنه من كرامات الأولياء وعجائب القديسين، ويقل تصديق هذا أو الانقياد لأهله حيث ينتشر تعليم التواريخ وما عند جميع الأمم من ذلك، على أنه لا يزال كثيرا فى جميع بلاد أوروبا وأمريكا، ولعله دون ما فى بلاد الشرق ولا سيما القرى وهمج الزنوج وغيرهم. بيد أن آيات الله الحقيقية التى نسميها المعجزات هى فوق هذه الأعمال الصناعية الغريبة لا كسب لأحد من البشر ولا صنع لهم فيها، وأن ما أيد به رسله منها لم يكن يكسبهم ولا عملهم ولا تأثيرهم، حتى ما يكون بدؤه بحركة إرادية يأمرهم الله تعالى بها، ألم يهد لك كيف خاف موسى عليه السلام حين تحولت عصاه حية تسعى، فولّى مدبرا ولم يعقب «1» لشدة خوفه منها، حتى هدأ الله روعه وأمن خوفه؟ أو لم تقرأ قوله لمحمد صلّى الله عليه وسلم: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17]؟، أو لم تفهم ما أمره الله تعالى أن يجيب به مقترحى الآيات عليه من قومه بقوله: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93]؟، وقوله: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الأنعام: 109] وما فى معناهما؟!.

_ (1) يعقب: بتشديد القاف أى لم يلتفت ولم يرجع.

الفرق بين المعجزة والكرامة

الفرق بين المعجزة والكرامة إن الله تعالى لم يؤيد رسله بما أيّدهم به من المعجزات إلا لتكون حجة لهم على أقوامهم يهدى بها المستعد للهداية، وتحق بها الكلمة على الجاحدين المعاندين فتقع عليهم العقوبة، وذلك لا يكون إلا بإظهارها، فهو واجب لإتمام تبليغ الدعوة التى أرسلوا لتبليغها. وما كان الأنبياء يدعون الله تعالى بشيء من خوارق العادات غير ما يؤيدهم به من الآيات الدالة على صدقهم فى دعوى الرسالة إلا لضرورة كالاستسقاء. وكان خاتمهم وأكرمهم على الله تعالى يصبر هو وأهل بيته وأصحابه على المرض والجوع والعطش، ولا يدعو لهم صلّى الله عليه وسلّم بما يزيل ذلك إلا نادرا. وقد سألته المرأة التى كانت تصرع أن يدعو الله لها بالشفاء فأرشدها إلى أن الصبر على مصيبتها خير لها، فشكت إليه أنها تتكشف عند النوبة وسألته أن يدعو لها ألا تتكشف فدعا لها واستجاب الله دعاءه. وكان المشركون يقترحون عليه الآيات كآيات موسى وعيسى (ع. م)، فيجيبهم بأمر الله تعالى بما هو صريح فى أن الآيات عند الله وهو القادر عليها دون الرسول، ومنه التعجب من طلبهم بقوله تعالى له: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93]، وقوله وما فى معناها ما حكاه من جواب الرسل الأولين لأقوامهم الذين كانوا يطالبونهم بمثل ذلك بقوله تعالى: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [إبراهيم: 11]. والأصل فى الكرامة الإخفاء والكتمان وكثيرا ما يكون ظهورها فتنة للناس. وما كان أهلها يظهرون ما لهم كسب فيه منها كالمكاشفة إلا لضرورة وقد صرح بهذا محققو العلماء والصوفية، فهو متفق عليه بينهم خلافا للمشهور بين العامة. قال التاج السبكى فى سياق حجج منكرى جواز وقوع الكرامات من طبقات الشافعية: «(الحجة الثانية): قالوا لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة، فلا تدلّ المعجزة على ثبوت النبوة. والجواب منع الاشتباه بقرن المعجزة بدعوى النبوة دون الكرامة، فهى إنما تقترن بكمال اتباع النبى من الولى. وأيضا فالمعجزة يجب على صاحبها الاشتهار، والكرامة مبناها على الإخفاء، ولا تظهر إلا على الندرة والخصوص لا على الكثرة والعموم. وأيضا فالمعجزة يجوز أن تقع بجميع خوارق العادات، والكرامة تختص ببعضها كما بيناه من كلام القشيرى وهو الصحيح» أ. هـ. ثم قال:

«(الحجة الرابعة): قالوا لو جاز ظهور خوارق العادات على أيدى الصالحين لما أمكن أن يستدل على نبوة الأنبياء بظهورها على أيديهم لجواز أن تظهر على يد الولى سرا فإن من أصول معظم جماعتكم أنّ الأولياء لا يظهرون الكرامات ولا يدعون بها وإنما تظهر سرا وراء ستور ويتخصص بالاطلاع عليها آحاد الناس ويكون ظهورها سرا مستمرا بحيث لا يلتحق بحكم المعتاد، فإذا ظهر نبى وتحدّى بمعجزة جاز أن تكون مما اعتاده أولياء عصره من الكرامات فلا يتحقّق فى حقه خرق العادة، فكيف السبيل إلى تصديقه مع عدم تحقق خرق العوائد فى حقه؟ وأيضا تكرر الكرامة يلحقها بالمعتاد فى حق الأولياء وذلك بصدهم عن تصحيح النظر فى المعجزة إذا ظهر نبى فى زمنهم». وقال فى الجواب: «لأئمتنا وجهان؛ الأول: منع توالى الكرامات واستمرارها حتى تصير فى حكم العوائد، وإنما يجوز ظهورها على وجه لا تصير عادة فلا يلزم ما ذكروه، والثانى: وهو لمعظم أئمتنا قالوا: إنه يجوز توالى الكرامات على وجه الاختفاء بحيث لا يظهر ولا يشيع ولا يعتاد لئلا تخرج الكرامات عن كونها كرامات» أ. هـ. وأقول: إن المحققين من الصوفية يوافقون علماء الكلام والأصول على منع توالى الكرامات وتكرارها، ومنع إظهارها. قال الشيخ محيى الدين بن عربى: إن ما يتكرر لا يكون كرامة لأنه يكون عادة وإنما الكرامة من خوارق العادات. وقال الشيخ أحمد رفاعى: إنّ الأولياء يستترون من الكرامة كما تستتر المرأة من دم المحيض، وصرحوا بأنها ليست بشرط للولاية ولا دليل عليها. جهل هذا الأصل المحكم من عقائد الإسلام أدعياء العلم من سدنة القبور والمعبودة وغيرهم، فظنوا أنّ المعجزات والكرامات أمور كسبية كالصناعات العادية، وأن الأنبياء والصالحين يفعلونها باختيارهم فى حياتهم وبعد مماتهم متى شاءوا، ويغرون «1» الناس بإتيان قبورهم ولو بشد الرحال إليها، لدعائهم والاستغاثة بهم عندها ليدفعوا أو يرفعوا عنهم نزول البلاء والشدائد التى يعجزون عن دفعها بكسبهم وكسب أمثالهم من البشر بالأسباب العادية- كالأطباء مثلا- ويتقرّبون إليهم بالنذور والقرابين كما كان المشركون يتقربون إلى

_ (1) من الإغراء، أى: يحضونهم على ذلك ويرغبونهم فيه.

آلهتهم من الأصنام وغيرها، وهم يأكلونها سحتا حراما، ويخبرونهم بأن دين الله تعالى يأمرهم أن يعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم، حتى قال بعضهم إنهم يخرجون من قبورهم بأجسادهم ويتولون قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ولو كانت كذلك لما كانت من خوارق العادات، وقال بعضهم فى كتاب مطبوع: إن فلانا من الأقطاب يميت ويحيى، ويسعد ويشقى، ويفقر ويغنى. بل قالوا وكتبوا ما هو أبعد من ذلك عن نصوص الكتاب والسنة القطعية المحكمة، والعقائد المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة فى الأصل، وما كان عليه مسلمو القرون الأولى، فصارت بانتشار الخرافات والجهل من الكرامات. التى تؤوّل وتحرف لأجلها الآيات المحكمات. وقد فصّلنا هذا فى تفسير المنار مرارا ونجمله فيما يأتى:

الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما

الكافرون بالآيات صنفان: مكذبون ومشركون، وعلاج كل منهما الكافرون بآيات الله تعالى صنفان؛ صنف: يكذبها كلها ولا يؤمنون بشيء منها، وصنف: يشرك بالله غيره فيها فينحله ما هو خاص به عزّ وجلّ لا يقدر عليه سواه بدعوى أن الله تعالى هو الذى أعطاهم القدرة الغيبية على ذلك وصرفهم فى العالم كرامة لهم. أى: هو الذى أشركهم معه، كما كان المشركون يقولون فى حجهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما تملك)، وإنما يتحامون ألفاظ العبادة والشرك والخلق دون معانيها. فيكذبون على الله تعالى وعليهم بما يكذبهم به كتابه المنزل، ونبيه المرسل، ولكنهم يؤولون ما هو حجة عليهم، ويحرفون ما هو شبهة لهم، فيحتجون به على جهلهم، كآية: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الزمر: 34]، وهى كأمثالها فى جزاء جميع المؤمنين المتقين فى الآخرة، ويذكرون أن الله كان يرزق مريم عليها السلام بغير حساب، وما كان رزقها من فعلها، ولا يدرى أحد كيف سخره الله لها ويذكرون وحيه إلى أم موسى بإرضاعه وإلقائه فى اليم، وما هو من فعلها أيضا، وقد قيل بنبوتها، ويذكرون عرش ملكة سبأ وهو من آياته تعالى لنبيه سليمان، وليس فى الآية تصريح برؤيته مستقرا عنده كيف كانت، فقيل إن الذى جاء به جبريل، وقيل ملك آخر، وقيل ولى وهو وزير سليمان، وهذا من الإسرائيليات غير المعقولة. إنّ إفساد هؤلاء الخرافيين للبشر فى دينهم ودنياهم لأشدّ من إفساد المنكرين للآيات المكذبين بها، ذلك بأنهم هم أكبر أسباب هذا الإنكار والتكذيب، وبزعمهم أن الأنبياء ومن دونهم من الصالحين يتصرّفون فى الخلق بما يخالف سنن الله تعالى فيه أو يبدلها بغيرها ويحولها عما وضعت له، وزعمهم أن الله هو الذى دعا الناس إلى هذا الاعتقاد وجعله أساس دينه، فكذّبوا بالدين من أساسه، فدعوى تصرف الأنبياء والصالحين فى الكون قول على الله بغير علم، وافتراء على الله بكونه شرعا لم يأذن به الله، وهو أشد أنواع الكفر بالله لأن ضرره متعد بما فيه من إضلال الناس باعتقاد باطل يتبعه عبادة باطلة غير مشروعة.

علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون

علاج خرافات تصرف الأولياء فى الكون: أما الذين يشركون بالله فى عبادته بجهلهم لآياته وتقليد أمثالهم من الجاهلين فى خرافاتهم، فلا علاج لهم إلا تعليمهم توحيد الله الخالص فى ربوبيته وألوهيته بآيات القرآن، دون نظريات كتب الكلام، وتعليمهم وظائف الرسل، وكونهم بشرا اختصهم الله تعالى بوحيه لتبليغ عباده ما ارتضاه لهم من الدين بالقول والعمل، وحصر اختصاصهم بالتعليم والإرشاد تبشيرا وإنذارا، وتنفيذ أحكام شرعه فيهم بالعدل والمساواة، ولم يؤتهم من التصرف الفعلى فى خلقه ما يقدرون به على هداية أقرب الناس وأحبهم إليهم بالطبع كالوالد والولد والزوجة ومن دونهم من أولى القربى، فوالد إبراهيم الخليل عاش كافرا ومات كافرا عدوا لله ورسوله وخليله، وولد نوح أول الرسل إلى الأمم مات كافرا ولم يأذن الله تعالى لنوح بحمله فى السفينة فكان من الكافرين المغرقين، وكان أبو لهب عمّ محمّد- حبيب الله ورسوله- أشدّ أعدائه الصادين عنه المؤذين له، وأنزل الله فى ذمه ووعيده سورة من القرآن يتعبد بها المؤمنون إلى يوم القيامة لم ينزل مثلها فى أحد من أعدائه وأعداء رسوله صلّى الله عليه وسلّم. بل كان من كمال حكمة الله تعالى أن عمه الذى كفله ورباه وكف عنه أذى المشركين ما استطاع لم يؤمن به وقد عرض عليه أن ينطق بكلمة «لا إله إلا الله» ليشهد له بها يوم القيامة فامتنع فأنزل الله تعالى فيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] رواه مسلم فى صحيحه. وقد شرحنا هذا الموضوع فى تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام: 74] .. الآيات «1»، ثم بينا فى خلاصة هذه السورة (الأنعام) وظائف الرسل عليهم السلام بما يحسن أن يراجعه من يحب استيفاء هذا الموضوع «2»، وإذا كان الأنبياء والمرسلون لم يؤتوا القدرة على التصرف فى الكون فكيف يؤتاه الأولياء وغيرهم؟!.

_ (1) ص 534 - 565 - ج 7 تفسير المنار. (2) ص 275 - 578 ج 8 تفسير المنار.

المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها

المنكرون للمعجزات وشبهة الخوارق الكسبية عليها وأما المنكرون للآيات فلا يمكن أن تقوم عليهم الحجّة إلا بالقرآن كما تقدّم فهم لا يصدّقون ما ينقله اليهود والنصارى من آيات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين (ع. م)، ولا يسلمون صحة تواترها، إذ يقيسون نقلهم لها على ما ينقله العوام فى كل عصر عن بعض المعتقدين فى بلادهم من الخوارق الخادعة التى مثارها الوهم والتخيّل، ويحتجون على ذلك بأن يوسيفوس المؤرخ اليهودى المعاصر للمسيح (ع. م) لم ينقل للناس أخبار عجائبه التى تقصها الأناجيل التى ألّفت بعده. ويعلّلونها على تقدير صحة النقل بما يعللون به الخوارق الصورية التى يشاهدونها فى كل عصر، فإن لم يستطيعوا تعليلها قالوا إنه لا بد لها من سبب كسبى يظهر لنا أو يعترف به فاعلوها كما وقع فى أمثالها من صوفية الهندوس (الفقراء) كالارتفاع فى الهواء وغير ذلك مما هو أغرب منه (كما بيناه فى الكلام على عجائب المسيح من الفصل الثانى). أعجوبة من خوارق الهنود روت إحدى الجرائد المصرية فى هذه الأيام «1» من أخبار سائحى الإفرنج فى الهند حادثة لفقير من هؤلاء الفقراء اسمه سارجو هاردياس وقعت فى سنة 1837، خلاصتها أن هذا الفقير جاء قصر المهراجا رانجيت سنجا أمير بنجاب وعرض عليه أن يريه بعض كراماته وكان المهراجا لا يصدّق ما ينقل من خوارق هؤلاء الفقراء، فسأله عما يريد إظهاره فقال إنه يدفن أربعين يوما ثم يعود إليهم حيا، فأحضر المهراجا نفرا من أطباء الانكليز والفرنسيس وأمراء بنجاب فجلس الفقير القرفصاء أمامهم فكفّنوه بعد أن وضعوا القطن والشمع على أذنيه وأنفه- كما أوصاهم- وخاطوا عليه الكفن ووضعوه فى صندوق من الخشب السميك وسمّروا غطاءه ووضع المهراجا عليه ختمه، ودفنوه فى قبو داخل حجرة صغيرة فى حديقة القصر وأقفلوا بابها ووضع المهراجا ختمه بالشمع على قفلها، وأمر اثنين من رجال حرسه الأمناء بحراستها وطائفة من جنده بمعاونتهما، وكان ذلك كله بمشهد من حضر من الأوربيين والبنجابيين وحاشية المهراجا.

_ (1) هى جريدة الاتحاد وكان هذا فى أثناء الطبعة الأولى للكتاب فى أوائل عام (1352 هـ).

ولما تمت الأربعون حضر هؤلاء كلّهم قصر المهراجا وشاهدوا ختم الحجرة كما كان، والعشب أمامها فى الحديقة لم تطأه قدم أحد، ثم فتحوا باب الحجرة وامتحنوا أختام القبو ثم أخرجوا الصندوق وامتحنوا أختامه فوجدوها كلّها على حالها، ففتحوه وأخرجوا الفقير منه فإذا هو كما وصفه أحد أولئك من الانكليز قال: لما فتحوا الصندوق وأخرجوا الفقير منه وجدت الذراعين والساقين صلبة والرأس مائلا على إحدى الكنفين فخلتنى أمام جثّة هامدة فارقتها الحياة منذ أمد بعيد، فطلبت من طبيبى أن يفحصها فانحنى عليها وجسّ القلب والصدغين والذراعين وقال: إنه لم يجد أثرا للنبض البتة ولكنه شعر حرارة فى منطقة الدماغ إلخ. ثم نفذ ما أوصى الفقير أن يعمل بعد إخراجه فغسّل بالماء الحار فرد على الأوصال لينها السابق بالتدريج، وأزيل القطن والشمع عن الأذنين والأنف ووضعت أكياس دافئة على الرأس فدبّت الحياة فى الجسد المسجى، وتقلصت الأعصاب والأطراف ثم اضطربت فسال منها عرق غزير وعادت الأعضاء إلى حالتها الأولى، وبعد دقائق اتسعت حدقتا العينين وعاد إليهما لونهما الطبيعىّ، فلمّا رأى الفقير المهراجا شاخصا إليه دهشا متحيرا قال له: أرأيت يا مولاى صدق قولى وفعلى؟ وبعد نصف ساعة خرج من التابوت وأنشأ يحدث الحاضرين أحسن حديث ويطرفهم بما يحير العقول أ. هـ. إن هذه الحادثة من آيات الله التى أظهرتها الرياضة المكتسبة، وهى أعجب من رواية الإنجيل لموت ليعازر ثم حياته بدعاء المسيح بعد أربعة أيام- كما تقدم فى بحث عجائبه (ع. م) - وأغرب من حادثة أصحاب الكهف أيضا من بعض الوجوه فإن الفقير الهندى قد سد أنفه، ولفّ فى كفن، ووضع فى تابوت دفن تحت الأرض، فحيل بينه وبين الهواء الذى لا يعيش أحد بدونه عادة، وأهل الكهف ناموا فى فجوة واسعة من كهف بابه إلى الشمال مهب الهواء اللطيف، وكانت الشمس تصيب مدخله من جانبيه عند شروقها وعند غروبها مائلة متزاورة عنهم، فتلطف هواءه من حيث لا تصيبهم، وإنما كان أكبر الغرابة فى نومهم طول مدة لبثهم فيه، وكانت طويلة جدا حتى على نقل البيضاوى وغيره من المفسرين أن قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [الكهف: 25] الآية- حكاية عن بعض المختلفين فى أمرهم، فإن كان خلافا ظاهر السياق فقد يقويه قوله تعالى فى الآية بعدها: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا [الكهف: 26]، والله أعلم بكل حال على كل حال، وإن خفى سر آياته على خلقه، ولا شىء من الأمرين بمحال، وقد نام بعض أهل العصر بمرض النوم عدة أشهر.

المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية

ولكن ما جرى للفقير الهندى مخالف لسنّة الحياة العامة فى الناس، فإذا ثبت أنه وقع بطريقة كسبية من طريق رياضة هؤلاء الصوفية لأبدانهم وأنفسهم بما تبقى به الحياة كامنة فى أجسادهم مثل هذه المدة الطويلة مع انتفاء أسبابها العامة فى أحوال الناس الاعتيادية من دورة الدم والنفس وغير ذلك، فلا وجه لاتخاذ أحد من العقلاء إنكار كل ما يخالف السّنن العامة قاعدة عامة، ولا سيما فعل الخالق عزّ وجلّ لها وهو خالق كلّ شىء بقدرته، وواضع نظام السّنن والأسباب بمشيئته، وأكثر منكرى الخوارق يؤمنون به، وإنما ينكرون وقوع شىء مخالف لسننه بأنه مناف لحكمته، ومن ذا الذى أحاط بحكمه أو بسننه علما؟ وإنما الذى يقضى به العقل أن لا نصدق بوقوع شىء على خلاف السّنن الثابتة المطردة فى نظام الأسباب العامة إلا إذا ثبت ثبوتا قطعيا لا يحتمل التأويل، وهذا هو المعتمد عند المحقّقين من المسلمين وعلماء المادة وعلماء النفس وغيرهم، وقد ثبت فى هذا العصر من خواص الكهرباء وغيرها ما لو قيل لعقلاء الناس وحكمائهم قبل ثبوته بالفعل إنه من الممكنات، لحكموا على مدعى مكانه بالجنون لا بتصديق الخرافات كما قلنا من قبل «1». المعجزات قسمان: تكوينية، وروحانية تشبه الكسبية المعجزات كلّها من الله تعالى لا من كسب الأنبياء كما نطق به القرآن الكريم، ولكنها بحسب مظهرها قسمان: قسم لا يعرف له سنة إلهية يجرى عليها فهو يشبه الأحكام الاستثنائية فى قوانين الحكومات، وأما ما يكون بإرادة سنية من الملوك لمصلحة خاصة- ولله المثل الأعلى- وقسم يقع بسنة إلهية وروحانية لا مادية. أما المأثور من آيات الله التى أيد بها موسى (ع. م) وأثبتها القرآن له كالآيات التسع بمصر فهى من القسم الأول، ولم يكن شىء منها بكسب له حقيقى ولا صورى، وكذلك الآيات الأخرى التى ظهرت فى أثناء خروجه ببنى إسرائيل ومدة التيه، بل كل ذلك كان بفعل الله بدون سبب كسبى لموسى (ع. م) إلا ما يأمره الله تعالى به من ضرب البحر أو الحجر بعصاه التى هى آيته الكبرى. ولم ينقل عن أحد من الأنبياء آية كهذه الآيات فضلا عمّن دونهم، ولا هى مما يحتمل أن يكون بسبب من الأسباب الروحية التى تكون لأحد من الناس بالرياضة وتوجيه الإرادة أو خواص المادة وقواها. وأما المسيح (ع. م) فالآيات التى أيده الله تعالى بها- على كونها خارقة للعادات

_ (1) إن الصحف قد نقلت إلينا فى هذا العام من عجائب صوفية الهند أيضا ما هو أعجب مما تقدم.

الكسبية وعلى خلاف السنن المعروفة للناس- قد يظهر فيها أنها كلها أو جلها حدث على سنة الله فى عالم الأرواح كما كان خلقه كذلك، فقد حملت أمه به بنفخة من روح الله عزّ وجلّ فيها (وهو الملك جبريل عليه السلام) كانت سبب علوقها به بفعلها فى الرحم ما يفعل مسيح الرجل بقدرة الله عزّ وجلّ، فلا غرو إن كانت مظاهر آياته أعظم من مظاهر سائر الروحانيين من الأنبياء والأولياء كالكشف وشفاء بعض المرضى وغير ذلك من التأثير فى المادة الذى اشتهر عن كثير منهم، والفرق بينه وبين الروحانيين من صوفية الهنود والمسلمين أن روحانيته عليه السلام أقوى وأكمل، وأقدس وأفضل، وإنها لم تكن بعمل كسبى منه. بل من أصل خلق الله عزّ وجلّ إياه بآية منه كما قال الله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 91]، وقال: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50]، فآيتهما هى الحمل به وخلقه بنفخ الروح الإلهى. لا بسبب التلقيح البشرى، ولا بما قيل من احتمال وجود مادتى الذكورة والأنوثة فى رحمها كوجودها فى بعض الأحياء الدنيا. وأعظم آياته الروحانية التى أثبتها له التنزيل ولم ينقلها مؤلفو الأناجيل الأربعة وروى أنها منصوصة فى إنجيل الطفولة الذى نبذته المجامع الكنسية قبل البعثة المحمدية ففقد من العالم) هى أنه كان يأخذ قطعة من الطين فيجعلها بهيئة طير فينفخ فيه (أى من روحه) فيكون طيرا بإذن الله تعالى ومشيئته، والمروى أنه كان يطير قليلا ويقع ميتا، ودون هذا إحياء الميت الصحيح الجسم القريب العهد بالحياة فإن توجيه سيال روحه القوى إلى جثة الميت مع توجيه قلبه إلى الله عزّ وجلّ ودعائه كاد يكون سببا روحانيا لإعادة روحه إليه بإذن الله ومشيئته، كما يمس النور ذبال السراج المنطفئ فتشتعل، أو كما يتصل السلك الحامل للكهربائية الإيجابية بالسلك الحامل للكهربائية السلبية بعد انقطاعها فيتألق النور منهما، وما ينقل عن صوفية الهنود إعادة الحياة إلى ميت مؤقتا فهو إن صحّ مكسوب بالرياضة، وقد ثبت عن بعض أطباء هذا العصر إعادة الحياة الحيوانية إلى فاقدها عقب فقدها بعملية جراحية أو بمعالجة للقلب. ومن دون هذا وذاك شفاء بعض الأمراض ولا سيما العصبية سواء أكان سببها مس الشيطان وتلبسه بالمجنون كما فى الأناجيل أم غيره، فإن الشيطان روح خبيث لا يستطيع البقاء مع توجيه الروح الطاهر الذى هو شعلة من روح القدس جبريل عليه السلام واتصاله بمن تلبس به، وقد وقع مثل هذا لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الروحانيين حتى أن

تلميذه العلامة المحقق ابن القيم ذكر أنه أرسله أو رجلا آخر إلى مصروع وخاطب الجنى الذى فيه بقوله: الشيخ يأمرك أن تخرج، فخرج وشفى الرجل فى الحال، وما من مرض عصى أو غيره إلا وهو ضعف فى الحياة حقيق بأن يزول باتصال هذا الروح بالمصاب به وبما دونه من تأثير النفس. ومن دون هذا وذاك المكاشفات المعبر عنها فيما حكاه تعالى عنه «1» بقوله: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: 49]، وقد أنبأ غيره من أنبياء بنى إسرائيل وغيرهم، وكذا غيرهم من الروحانيين ولا سيما صالحى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بما هو أعظم من هذا من الأمور المستقبلة ولكنها درجات متفاوتة فى القوة والضعف، وطول المدة وقصرها، والثقة بالمرئى وعدمها، وإدراك الحاضر الموجود، والغائب المفقود، وما كان فى الأزمنة الماضية، وما يأتى فى الأزمنة المستقبلة، فأعلاها خاص بالأنبياء إذا لم يوجد ولن يوجد بشر يعلم بالكشف ما وقع منذ القرون الأولى كأخبار القرآن من الرسل الأولين مع أقوامهم، أو ما يقع بعد سنين فى المستقبل كإخباره عن عودة الكرة للروم على الفرس، وإخباره صلّى الله عليه وسلّم بفتح الأمصار واتباع الأمم لأمته، ثم بتداعيهم عليها كما يتداعى الآكلون إلى قصعة الطعام، وقد أخبر بعض أصحابه بأعيانهم بما يقع من ذلك فى زمنهم كسقوط ملك كسرى، وسنعقد فصلا خاصا بأخبار الغيب فى القرآن والحديث فى الجزء التالى كما وعدنا فى فاتحة هذه الطبعة، ومن المكاشفات الثابتة فى هذا العصر ما يسمّونه قراءة الأفكار، وقد شاهدنا من فعله، ومنها مراسلة الأفكار كما تقدّم. فتبين بهذا وذاك أن آيات الله تعالى المشهور لموسى (ع. م) بمحض قدرته تعالى دون سننه الظاهرة فى قواه الروحية، وأنّ آياته لعيسى (ع. م) بخلاف ذلك، والنوع الأول أدل على قدرة الله تعالى ومشيئته واختياره فى أفعاله فى نظر البشر لبعدها عن نظام الأسباب والمسببات التى تجرى عليها أفعالهم

_ (1) وقد سبقه إلى مثل هذا يوسف (ع. م) بما يحكى الله من قوله لصاحبه فى السجن: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [يوسف: 37].

عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى

عبادة بعض الناس للمسيح وللأولياء دون موسى وإنما عبد بعض البشر عيسى واتخذوه إلها ولم يعبدوا موسى كذلك وآياته أعظم لأنهم جهلوا أنّ آيات عيسى جارية على سنن روحية عامة قد يشاركه فيها غيره فظنوا أنه يفعلها بمحض قدرته التى هى عين قدرة الخالق سبحانه لحلوله فيه واتحاده به بزعمهم، وآيات موسى بمحض قدرة الله وحده، ولم يفطنوا لاتباع عيسى لموسى فى شرعه (التوراة) إلا قليلا مما نسخه الله على لسانه؛ من إحلال بعض ما حرم عليهم بظلمهم عقوبة لهم، ومن تحريم ما كانوا عليه من الغلو فى عبادة المال والشهوات. ومثل النصارى فى هذا من يفتنون من المسلمين بعبادة الصالحين بدعائهم فى الشدائد لاعتقادهم أنهم يدفعون عنهم الضرّ، ويجلبون لهم النفع بالتصرف الغيبى الخارج عن سنن الله فى الأسباب والمسببات الداخل عندهم فى باب الكرامات، وهو خاص بالرب تعالى، ولكنهم لا يطلقون على أحد منهم اسم الربّ ولا الإله ولا الخالق. إذ الأسماء اصطلاحية، وإنما الفرقان بين الخالق والمخلوق والرب والمربوب أن الربّ الخالق هو القادر على النفع والضر لمن يشاء وصرفهما عمن يشاء بما يسخره من الأسباب وبدونها إن شاء، وأن المخلوق المربوب هو المقيد فى أفعاله الكسبية الاختيارية فى النفع والضر بسنن الله تعالى فى الأسباب والمسببات التى سخرها تعالى لجميع خلقه، ولكنهم يتفاوتون فى العلم والعمل بها كما يتفاوتون فى الاستعداد لها بقوى العقل والحواس والأعضاء، وفى وسائلها، وقد بلغ البشر بالعلم والعمل الكسبيين من المنافع ودفع المضار ما لم يعهد مثله لأحد من خلق الله قبلهم لا الأنبياء ولا غيرهم لأن الأنبياء المرسلين لم يبعثوا لهذا، وإنما بعثوا لهداية الناس إلى معرفة الله وعبادته وتهذيب أخلاقهم بها، فمنافع الدّنيا لا تطلب منهم أحياء ولا أمواتا، وإنما تطلب من أسبابها، وما وراء الأسباب لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ وقد قتل الظالمون بعض الأنبياء والأولياء، وآذوا بعضهم بضروب من الإيذاء، ولم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم، ولذلك تكرر فى القرآن الحكيم نفى هذا النفع والضرر عن كل ما عبدوا من دون الله بالذات أو بالشفاعة عند الله تعالى كما قال: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18]، ومثلها آيات. وأمر خاتم رسله أن يعلم الناس ذلك كما فعل من قبله من الرسل فقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ

يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]، وقال تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً [الجن: 21]، وقد فصلنا هذه المسألة مرارا. ونلخص الموضوع هنا فى المسائل الآتية: (1) أن الله تعالى قد أتقن كل شىء خلقه فجعله بإحكام ونظام لا تفاوت فيه، ولا اختلال، وسنن مطردة ربط فيها الأسباب بالمسببات، فمخلوقاته العليا والسفلى. هى مظهر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولهذا قال حجة الإسلام الغزالى: ليس فى الإمكان أبدع مما كان، وهذا النظام المطرد فى الأكوان، والثابت بالحس والعقل ونصوص القرآن- هو البرهان الأعظم على وحدانية خالق السموات والأرض: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]. (2) إن سنن الله تعالى فى إبداع خلقه ونظام الحركة والسكون والتحليل والتركيب فيه لا يحيط بها علما غيره عزّ وجلّ، وكلما ازداد البشر فيها نظرا وتفكرا واختيارا وتدبرا وتجربة وتصرفا، ظهر لهم من أسرارها وعجائبها ما لم يكونوا يعلمون ولا يظنون، ومن منافعها ما لم يكونوا يتخيلون ولا يتوهمون. وها نحن أولاء نرى مراكبهم الهوائية من تجارية وحربية تحلّق فى الجو، حتى تكاد تبلغ محيط الهواء، وبعض مراكبهم البحرية تغوص فى لجج البحار، ونراهم يتخاطبون من مختلف الأقطار، كما نطق الوحى بتخاطب أهل الجنة مع أهل النار، فيسمع أهل المشرق أصوات أهل المغرب، وأهل الجنوب حديث أهل الشمال وخطبهم وأغانيهم، قبل أن يسمعها بعض أهل البلد أو المكان الذى يصدر عنه الكلام «1»، وقد يغمز أحدهم زرا كهربائيا فى قارة أوروبا فتتحرك بغمزته آلات عظيمة فى قارة أخرى فى طرفة عين، وبينهما المهامة الفيح، والجبال الشاهقة، ومن دونهما البحار الواسعة، والجاهلون بهذه السنن الإلهية، والفنون العملية، لا يزالون يلجئون فى طلب المنافع ودفع المضار من غير طريق الأسباب- التى ضيّق الجهل عليهم سبلها- إلى قبور الموتى من الصالحين المعروفين والمجهولين، ليقضوا لهم حاجاتهم، ويشفوا مرضاهم، ويعينوهم على أعدائهم، بل ينتقموا لهم من أصدقائهم الذين عادوهم بغيا وفسادا. من زوج وقريب وجار ووطنى، وأعداؤهم فى دينهم ووطنهم من الأجانب قد سادوا حكومتهم، واستذلّوا أمّتهم، واستأثروا بجل ثروتهم، ولا يتصرف فيهم هؤلاء الأولياء بما يدفع عن المسلمين ضررهم وإذلالهم!!.

_ (1) روى لنا أن آلة المذياع (الراديو) الناقلة للأصوات من أوروبا يصل الكلام الذى تحمله إلى مصر وغيرها فتعكسه الآلات التى فيها ويسمعه أهلها قبل أن يسمعه من فى الصفوف الخلفية من المكان الذى ألقى فيه.

ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات

(3) إنّ الأصل فى كلّ ما يحدث فى العالم أن يكون جاريا على نظام الأسباب والمسببات، وسنن الله التى دلّ عليها العلم، وأخبرنا الوحى بأنه لا تغيير فيها ولا تبديل لها ولا تحويل، فكلّ خبر عن حادث يقع مخالفا لهذا النظام والسنن فالأصل فيه أن يكون كذبا اختلقه المخبر الذى ادعى شهوده، أو خدع به ولبس عليه فيه، فإن كان قد وقع فلا بد أن يكون له سبب من الأسباب الخفية التى يجهلها المخبر، كما حقّقه علماء الأصول فى بحث الخبر وما يقطع بكذبه منه. (4) إن آيات الله التى تجرى على غير سننه الحكيمة فى خلقه لا يثبت العلم بها إلا بدليل قطعى. وقد كان من حكمته أن أيّد بعض النبيين المرسلين بشيء منها لإقامة حجتهم وتخويف المعاندين لهم، وقد انقطعت هذه الآيات ببعثة خاتمهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم وسبب ذلك أو حكمته ختم النبوّة برسالته .. وجعل ما أوحاه إليه آية دائمة، وهداية عامة لجميع البشر مدة بقائهم فى هذه الدنيا، وأنزل عليه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107]، لعلمه تعالى بأنهم لا يحتاجون بعد الوحى إلى وحى آخر، ولا إلى آية على أنه من عند الله تعالى إلا هذا القرآن نفسه، وهذا الكتاب فى جملته وتفصيله مشتمل على كثير من الدلائل العقلية العلمية على كونه من عنده، كما فصلنا من قبل، ونزيده بيانا فيما بعد. وقد ادّعى الباب والبهاء والقاديانى الوحى فى القرنين الأخيرين فجاءوا بأسخف ما عزا إلى مسيلمة الكذاب، وسأورد نماذج من وحيهم الشيطانى فى الجزء الثانى من هذا الكتاب مما فيه عبرة لأولى الألباب. ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها ومعنى الكرامات (5) لو كان للبشر حاجة بعد القرآن ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى الآيات كما يدّعى المفتونون بالكرامات ومخترعو الأديان والنّحل الجديدة لما كان ختم النبوّة، وقد بلغ من غلو مارقة الصوفية الروحانية أن امتروا فى ختم النبوّة «1»، فانكروه أو تألوه لا دعائهم نوعا منها، ومنهم من ابتدع اسما أو وصفا للنبوّة التى ادعوها وهو النبوّة الظلية وفتن بفتنتهم البابية والبهائية، حتى عبدوا الباب والبهاء إذا ادعيا الألوهية، وفتن بها (غلام أحمد القاديانى) فادعى النبوّة والمسيحية له ولخلفائه بلا انقطاع، حتى سامها المرتزقة منهم والرعاع.

_ (1) حكى عن ابن سبعين- لعنه الله- قال: قد تحجر ابن آمنة واسعا بقوله: «لا نبى بعدى».

لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن

وقد بين شيخنا الأستاذ الإمام فى رسالة التوحيد كيف ارتقى التشريع الدينىّ فى الأمم بارتقاء نوع الإنسان فى الإدراك والعقل كارتقاء الأفراد من طفولة إلى شباب إلى كهولة حتى بلغ فيها رشده واستوى، وصار يدرك بعقله هذه الهداية العقلية العليا (هداية القرآن) بعد أن كان لا سبيل إلى إذعانه لتعليم الوحى، إلا ما يدهش حسه ويعى عقله من آيات الكون (يعنى أنه بلغ هذا الرشد فى جملته واستعداد كثير من أفراده لا كلهم ولا أكثرهم). بين فى الكلام على وجه الحاجة إلى الرسالة أن سموّ عقل الإنسان وسلطانه على قوى الكون الأعظم بما هى مسخرة له تنافى خضوعه واستكانته لشىء منها. إلا ما عجز عن إدراك سببه وعلته، واعتقد أنه من قبل السلطان الغيبى الأعلى لمدبر الكون ومسخر الأسباب فيه. فكان من رحمة الله تعالى به «أنه أتاه من أضعف الجهات فيه وهى جهة الخضوع والاستكانة فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص فى أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك زيادة فى الإقناع بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذى الطامح، ويذل الجامع، ويصدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه». ثم قال فى رسالة محمّد صلّى الله عليه وسلّم: نبى صدق الأنبياء ولكنه لم يأت فى الإقناع برسالته بما يلهى الأبصار، أو يحير الحواس، أو يدهش المشاعر، ولكن طالب كل قوة بالعمل فيما أعدت له واختص العقل بالخطاب، وحاكم إليه الخطأ والصواب وجعل فى قوة الكلام، وسلطان البلاغة، وصحة الدليل. مبلغ الحجة وآية الحق الذى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]. لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن (6) إنه لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء فى هذا العصر بحجّة لا يمكن لمن عقلها ردها إلا هذا القرآن العظيم، وما ثبت فيه بالنص الصريح منها، أقول هذا اتجاه إنكار العلماء الواقفين على كتب الأديان التى قبل الإسلام- حتى كتب اليهود والنصارى- وعلى تواريخها لتواتر ما ذكر فيها من الآيات واشتباههم فى كونها خوارق حقيقية، وفى كون الخوارق تدل على نبوتهم، وحجتهم على الأول: أنّ التواتر الذى يفيد العلم القطعى غير متحقق فى نقل شىء منها، وهو نقل الجمع الكثير الذى يؤمن تواطؤهم على الكذب لخبر أدركوه بالحس وحمله عنهم مثلهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل بدون انقطاع، وإنما يكون

استحالة تواطؤهم على الكذب بأمور أهمها عدم التحيز والتشيع لمضمون الخبر وعدم تقليد بعضهم لبعض فيه، وآية صحة هذا التواتر حصول العلم القطعى به وإذعان النفس له، وعدم إمكان رده اعتقادا ووجدانا، وهذا غير حاصل فى رواية آيات الأنبياء الأولين عندهم، بل زعم بعض علماء الإفرنج أن قصة المسيح وضعية خيالية لا واقعة حقيقية، ولها أمثال فى التاريخ. وتقدم الكلام فى آياته والمراد فيها. وشبهتهم على الثانى: أنّ وقوع الخوارق المذكورة لا يدلّ على النبوّة والرسالة كما بيناه فى الكلام على الآيات والخوارق وإثبات النبوّة من أواخر الفصل الثانى. وأما آية القرآن فهى باقية ببقائه إلى يوم القيامة، وكلّ واقف على تاريخ الإسلام يعلم علما قطعيا أنه متواتر تواترا متصلا فى كل عصر من عصر الرسول الذى جاء به إلى الآن، وأما الذى يخفى على كثير منهم فهو وجوه إعجازه الدالة على أنه وحى إلهى، وقد شرحنا شبهتهم عليه وبينا بطلانها فى هذا الكتاب، وإذ قد ثبت بذلك كونه وحيا من الله تعالى فقد وجب الإيمان بكل ما أتته من آياته فى خلقه سواء أكانت لتأييد رسله وإقامة حجّتهم أم لا، كما يجب على كلّ مؤمن به أن يؤمن بها، ويجب أن يؤمن بانقطاع معجزات الرسل بعد ختم النبوة بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وإذ كان لا يجب على مسلم أن يؤمن بوقوع كرامة كونية خارقة للعادة بعد محمد خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم فلا يضرّ مسلما فى دينه أن يعتقد كما يعتقد أكثر عقلاء العلماء والحكماء من أن ما يدعيه الناس من الخوارق فى جميع الأمم أكثره كذب، وبعضه صناعة علم، أو تأثير نفس، أو شعوذة سحر- وأقله من خواص الأرواح البشرية العالية، وعلامته أن يكون علما صحيحا موافقا للمنقول الشرعى، والمعقول القطعى، أو عملا نافعا مشروعا، وأن يكون من صدر عنه مؤمنا عاقلا صالحا، فكل ما ينقله المتصوّفة مخالفا لذلك من التصرف الضار بالناس فى دينهم أو صحتهم فهو إن صح من تأثير الأنفس الخبيثة كالإصابة بالعين والتنويم المغناطيسى الضار لا كله. (7) إنّ الثابت بنصوص القرآن من آيات الأنبياء المرسلين المعنية قليل جدا. فما كانت دلالته من هذه النصوص قطعية فصرفه عنها بالحكم فى التأويل الذى تأباه مدلولات اللغة العربية، وينقض شيئا من قواعد الشرع القطعية، يعد ارتدادا عن الإسلام، وما كانت دلالته ظاهرة غير قطعية وجب حمله على ظاهره إن لم يعارضه نصّ أو دليل مثله أو أقوى منه، فإن عارضه فحينئذ ينظر فى الترجيح بين المتعارضين بالأدلة المعروفة، والخروج عن ذلك ابتداع.

الإيمان بالقدر والسنن العامة وآيات الله الخاصة

الإيمان بالقدر والسّنن العامة وآيات الله الخاصة إننا نؤمن بأن الله تعالى هو خالق كلّ شىء بقدرته وإرادته، واختياره وحكمته، وأنه الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ كما قال فى سورة الم [السجدة، الآية: 7]، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ كما قال فى سورة [النمل، الآية: 88]، وأنه ليس فى خلقه تفاوت ولا فطور كما قال فى سورة [الملك، الآية: 3]، وأنه خلق كل شىء بنظام وتقدير لا جزافا ولا أنفا «1»، كما قال فى سورة [القمر، الآية: 49] إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، وقال فى [سورة الفرقان، الآية: 2] وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً، وقال فى سورة [الحجر، الآية: 19 - 21] وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «2». وأن له تعالى فى نظام التكوين والإبداع، وفيما هدى إليه البشر من نظام الاجتماع، سننا مطردة تتصل فيها الأسباب بالمسبّبات، لا تتبدل ولا تتحول محاباة لأحد من الناس، وأن سننه تعالى عامة فى عالم الأجسام وعالم الأرواح، وقد ورد ذكر السنن الاجتماعية باللفظ فى سورة: المائدة، والأنفال، والحجر، والإسراء، والكهف، والأحزاب، وفاطر، والمؤمن (غافر)، والفتح. فهذه الآيات البيّنات ناطقة بأنّ القدر والتقدير عبارة عن النظام العام فى الخلق الذى تكون فيه الأشياء بقدر أسبابها بحسب السنن والنواميس العامة التى وضعها الخالق لها، لا ما اشتهر عند الجماهير من الناس من أن المقدر ما ليس له سبب، أو ما يفعله الله على خلاف النظام والسنن، وقد يصح إطلاقه على ما لا يعرفون سببه، ولا يحيط بأسباب الحوادث علما إلا خالقها، ومقدر سببها وسنتها. نؤمن بأنّ له تعالى فى خلقه آيات بينات، وأن له فى آياته حكما جلية أو خفية، وأن ما منحنا إياه من العقل والشرع يأبيان علينا أن نثبت وقوع شىء فى الخلق على خلاف ما تقدم بيانه من نظام التقدير، وسنن التدبير، إلا ببرهان قطعى يشترك العقل والحس فى إثباته

_ (1) الأنف بضمتين هو: الذى يفعل ابتداء من غير سبق تقدير؛ ولا نظام، فهو ضد القدر. (2) وصف النبات بالموزون من عجائب تعبير القرآن التى أظهرتها العلوم الحديثة، فكل نوع منه مؤلف من عناصر بمقادير معينة يمكن ضبطها بالوزن الدقيق فى النسبة المئوية.

وتمحيصه، وأنه لا بد أن يكون وقوعه لحكمة بالغة لا عن خلل ولا عبث، وأن ما خفى علينا من حكمه تعالى فهو كسائر ما يخفى علينا من أمور خلقه، نبحث عنهما لنزداد علما بكماله، ونكمل به أنفسنا بقدر استطاعتنا، ولا نتخذها حجّة ولا عذرا على الكفر به لجهلنا، وقد ثبت لأعلم علماء البشر فى كل عصر أنّ ما نجهل من هذا الكون أكثر مما نعلم، ويستحيل أن يحيط البشر به علما. أجمع على هذا علماء هذا العصر الماديين على سعة علمهم بالمادة وسننها، وكثرة ما أحدثوا من الصناعات والمنافع بتسخيرها، فما قولك بعالم الرّوح والغيب؟ إنه ليظهر فيهم قبلهم صدق قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]. ونؤمن بأن الله تعالى قد أرسل إلى البشر رسلا هدوهم بآياته إلى الخروج من مضيق مدارك الحس، وما يستنبطه الفكر منها بادئ الرأى، إلى ما وراءها من سعة عالم الغيب، ولولا هدايتهم لظلّ البشر ألوف الألوف من السنين ينكرون وجود ما لم يكونوا يدركونه بحواسهم من الأجسام وأعراضها، وبقياسهم ما جهلوا على ما علموا منها. وما ينكره الإنسان ويعتقد استحالة وجوده لا يبحث عنه. وقد علمنا من التاريخ أنّ الإيمان بالله وبآياته لرسله، وباليوم الآخر، وبما يكون فيه من الحساب والجزاء على الأعمال، هو الذى وجه عقول البشر إلى البحث فى أسرار الوجود، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الارتقاء فى العلوم والفنون والصناعات فى الأجيال المختلفة، ولم يكن لغير المؤمنين بالغيب منهم نصيب فى ذلك- فهذا الإيمان بالأركان الثلاثة من الغيب هو الذى أوصل البشر إلى علوم وأعمال كان يعدها غير المؤمنين بالغيب من مجالات العقول كالغيب الذى أنكروه، حتى لم يعد شىء من أخبار الغيب بعيدا عن العقل بعد ثبوتها. فتبين لنا بهذا وبما قبله أنه كان للبشر بآيات الأنبياء ثلاث فوائد هى من حكم نصبه تعالى لتلك الآيات. (الأولى): جعلها دليلا حسيا على اختياره تعالى فى جميع أفعاله، وكون سنن النظام فى الخلق خاضعة له، لا حاكمة عليه ولا مقيدة لإرادته وقدرته. (الثانية): جعلها دليلا على صدق رسله فيما يخبرون عنه بوحيه، ونذرا للمعاندين لهم

من الكفار، ولو كانت مما يقدر عليه البشر بكسبهم، أو تقع منهم باستعداد روحى فيهم، لما كانت آية على صدقهم. (الثالثة): هداية عقول البشر برؤيتها إلى سعة دائرة الممكنات، وضيق نطاق المحال فى المعقولات، وإلى أن كون الشيء بعيدا عن الأسباب المعتادة والأمور المعهودة والسنن المعروفة، لا يقتضى أن يكون محالا يجزم العقل بعدم وقوعه، وبكذب المخبر به ولو مع قيام الدليل على صدقه، وإنما غايته أن يكون الأصل فيه عدم الثبوت فيتوقف ثبوته على الدليل الصحيح، وهذه قاعدة كبار علماء الكون فى هذا العصر، فلا ينقصهم لتكميل علمهم إلا ثبوت آية الله تعالى لا يمكن أن يكون لها علة من سنن الكون وسبب من أسبابه المطردة، والماديون المنكرون لآيات الرسل لن يجدوا هذه الآية فى عالم المادة وإنما يجدونها فى القرآن. ذلك بأنّ كلّ ما فى عالم المادة فهو خاضع لما يسمى فى عرفهم بالأسباب والنواميس والعلل، وفى لغة القرآن بالسنن والقدر (كما قرأنا عليك آنفا)، ولذلك تجدهم يبحثون بالتحليلات المادية عن الموجود الأول فى الأزل، وما كان يبحث عنه الفلاسفة المتقدمون بالدلائل العقلية ويسمّونه علّة العلل، وإنما الموجود الأول هو الله تعالى واجب الوجود الذى صدر عنه كلّ ما عداه من الموجودات، وهم لما يعرفوا أول ما صدر عنه بمحض قدرته ومشيئته المعبر عنها عندنا بكلمة التكوين، وهى قوله تعالى للشيء (كن فيكون) وهذا غيب الغيوب، ومنهم من يرى أن العلم به متعذر ومنهم من يطلبه ويرجوه. ولكن الأمر قد انقلب عندهم إلى ضده فإن كثيرا من الذين وصلوا إلى هذه العلوم والأعمال المقربة لآيات الرسل، وما دعوا إليه من الإيمان بالغيب من العقول، قد صارت هذه العلوم نفسها سببا لإنكارها ما كان سببا لها وموصلا إليها (وهو الآيات والإيمان بالغيب) لا إنكار إمكانه فى العقل. بل إنكار ثبوته بالفعل، فهم ينكرون أن يكون الخالق قد فعل ما صاروا يفعلون نظيرا له فى الغرابة، وكان ينبغى لهم أن يجعلوه دليلا عليه مبينا لحقيته كما قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53]، ولكنهم كلما أراهم آية من آياته الروحية فى أنفسهم أو من آياته الكونية فى الآفاق التمسوا لها سنة أو فرضوها فرضا بقياس ما لم يعرفوا على ما عرفوا، فأخرجوها عن كونها بمحض قدرته وإبداعه، وظلوا على لبسهم كالذين طلبوا من محمّد صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم ملكا رسولا فقال الله فيهم: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ

الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين

[الأنعام: 9]، أى: لما كانوا لا يمكن لهم أن يدركوا الملك ويتلقوا عنه إلا إذا كان بصورة رجل مثلهم، وهو ما استنكروه من كون الرسل بشرا مثلهم، فلو جعل الله ملكا رسولا إليهم لجعله مثلهم، ولالتبس عليهم أمره بما يلبسونه على أنفسهم من استنكار كون الرسل بشرا مثلهم. وهكذا يفعلون الآن؛ ظهرت لهم فى عصرنا عدّة آيات روحية من المكاشفات والتأثير فى المادة فيشبهوها بما عرفوا من الأمور المادية، فأطلقوا على تلك المكاشفات اسمى قراءة الأفكار ومراسلة الأفكار، وقالوا إنها من قبيل نقل الكلام بالسيال الكهربائى من مكان إلى مكان، حتى لا يعترفوا بآية إبداعية أو غيبية من الخالق لا تخضع لعلمهم، وهم ما زالوا يرتقون فى الأسباب إلى أن وصلوا من ظواهر تكوين الكهرباء الإيجابية والسلبية (بما يسمونه: الكترون والبروتون) إلى مستوى قريب من عالم الغيب، وظنوا أنهما أصل لكلّ ما فى عالم الشهادة من شىء. على أن الكهرباء ليست بمادة محض، ولا بقوة محض، ولكنها شىء موجود دخل فى حكم علمهم بوجه ما، وهم عتاة لا يؤمنون إيمانا تعبديا إلا بآية تعلو على مدارك علمهم وعقولهم. الخطر على البشر من ارتقاء العلم بدون الدين: إنّ حرمان هؤلاء العلماء من الإيمان بآية كونية لله تعالى من هذا النوع قد جعل حظّ البشر من هذا الارتقاء العجيب فى العلم أنهم ازدادوا به شقاء حتى صارت حضارتهم مهدّدة بالتدمير العلمى الصناعى فى كل يوم، وجميع علمائهم المصلحين، وساستهم الدهاقين. فى حيرة من تلافى هذا الخطر، ولن يتلافى إلا بالجمع بين العلم والدين، وهذا ما جاءهم به محمّد خاتم النبيين، ولأجله أثبتت الآيات بكتابه وفى كتابه المبين. إذ لا يمكن أن يخضع البشر إلا لما هو فوق استطاعتهم. بقيام الدليل على أنه من السلطان الغيبى الإلهى الذى هو فوق استعدادهم، ولا يظهر هذا السلطان والبرهان فى علوم الكون. لما ذكرنا من شنشنتهم فيها، وإنما يظهر أكمل الظّهور فى هذا القرآن، وسنتحدّاهم به أتمّ التحدى فى خاتمة هذا الكتاب ...

المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام

المقصد الثالث من مقاصد القرآن إكمال نفس الإنسان من الأفراد والجماعات والأقوام (بجعل الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة، والبرهان والحجّة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال). قد أتى على البشر حين من الدهر لا يعرفون من الدين إلا أنه تعاليم خارجة عن محيط العقل كلف البشر «1» مقاومة فطرتهم بها، وتعذيب أنفسهم ومكابرة عقولهم وبصائرهم خضوعا للرؤساء الذين يلقنونهم إياها، فإن انقادوا لسيطرتهم عليهم بها كانوا من الفائزين، وإن خالفوهم سرا أو جهرا كانوا من الهالكين، والحقّ الواقع أنهم كانوا بهذا الخضوع والخنوع من الخاسرين، ولكن عجز عقلاؤهم وحكماؤهم عن انتياشهم (وانتشالهم) من مهاوى التهلكة، وإخراجهم من ظلمات الشرك والظلم والاستبداد. إلى نور التوحيد والحرية والعدل والاستقلال. حتى إذا بعث الله رسوله محمدا خاتم النبيين- يتلو عليهم آياته ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم مما كانوا فيه من الضلال المبين- كان هو الذى أخرجهم من الظّلمات إلى النور، وبيّن لهم أنّ دين الله الإسلام هو دين الفطرة، والعقل، والفكر، والعلم، والحكمة، والبرهان والحجة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال، وأن لا سيطرة على روح الإنسان وعقله وضميره لأحد من خلق الله، وإنما رسل الله هداة مرشدون، مبشّرون ومنذرون كما تقدّم بيانه فى المقصد الذى قبل هذا، ونبين هذه المزايا بالشواهد المختصرة من القرآن فنقول: 1 - الإسلام دين الفطرة: قال الله عزّ وجلّ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: 30]. الحنيف صفة من الحنف (بالتحريك) وهو الميل عن العوج إلى الاستقامة، وعن الضلالة

_ (1) كلف بالتشديد من التكليف، وهو هنا مبنى للمجهول لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعولين، وعلماء الأصول والفقه يعدونه إلى الثانى بالباء.

إلى الهدى، وعن الباطل إلى الحق، ويقابله الزّيغ وهو الميل عن الحق إلى الباطل إلخ، وفطرة الله التى فطر النّاس عليها هى الجبلة الإنسانية «1» الجامعة بين الحياتين: الجسمانية الحيوانية، والروحانية الملكية، والاستعداد لمعرفة عالم الشهادة وعالم الغيب فيهما، وما أودع فيها (أى الجبلة) من غريزة الدين المطلق الذى هو الشعور الوجدانى بسلطان غيبى فوق قوى الكون والسّنن والأسباب التى قام بهما نظام كل شىء فى العالم، فرب هذا السلطان هو فاطر السموات والأرض وما فيهما، والمصدر الذاتى للنفع والضر المحركين لشعور التعبد الفطرى وطلب العرفان الغيبى المودعين فى الغريزة. فالعبادة الفطريّة هى التوجه الوجدانى إلى هذا الربّ الغيبى فى كل ما يعجز الإنسان عنه من نفع يحتاج إليه ويعجز عنه بكسبه، ودفع ضر يمسه أو يخافه ويرى أنه يعجز عن دفعه بحوله وقوته، وفى كل ما تشعر فطرته باستعدادها لمعرفته، والوصول إليه مما لا نهاية له، وأعنى بالإنسان جنسه فما يعجز عنه المرء بنفسه دون أبناء جنسه فإنه يعده من مقدوره، ويعد مساعدة غيره له عليه من جنس كسبه، فطلبه للمساعدة من أمثاله ليس فيها معنى التعبد عند أحد من البشر؛ فتعظيم الفقير للغنى بوسائل استجدائه وخضوع الضعيف للقوى لاستنجاده واستعدائه على أعدائه وخنوع السوقة «2» للملك أو الأمير لخوف منه أو رجائه- لا يسمى شيئا من ذلك عبادة فى عرف أمة من الأمم ولا ملة من الملل، وإنما روح العبادة الفطرية ومخّها هو دعاء ذى السلطان العلوى والقدرة الغيبية التى هى فوق ما يعرفه الإنسان ويعقله فى عالم الأسباب، ولا سيما الدعاء عند العجز وفى الشدائد، قال صلّى الله عليه وسلّم: «الدّعاء هو العبادة «3»»، هكذا بصيغة الحصر، أى هو الركن المعنوى الأعظم فيها لأنه روحها المفسر برواية: «الدّعاء مخّ العبادة «4»»، وكلّ تعظيم وتقرب قولى أو عملى لصاحب هذه القدرة والسلطان الغيبى فهو عبادة له «5».

_ (1) قال فى الصباح: الجبلة- بكسرتين وتثقيل اللام- الطبيعة والخليقة والعزيزة بمعنى واحد، وجبله الله على كذا، وشىء جبلى منسوب إلى الجبلة، كما يقول: طبيعى أى ذاتى منفعل عن تدبير الجبلة فى البدن بصنع بارئها وذلك تقدير العزيز العليم. (2) السوقة بالضم «كغرفة» غير الملك، يطلق على الواحد والمثنى والجمع. (3) رواه أحمد، وابن أبى شيبة، والبخارى فى الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة، وغيرهم عن النعمان ابن بشير. (4) رواه الترمذى عن أنس. (5) هذا تحقيق لمعنى العبادة أوحد لها كل ما قيل غيره فى تعريفها فهو رسم.

هذا أصل دين الفطرة الغريزى فى البشر، لا ما زعمه بعض الكتاب المعاصرين من أن دين الفطرة فى الآية الكريمة أن يعمل الإنسان متبعا شعوره وأفكاره ووجدانه بمقتضى طبيعته دون تلقى شىء من غيره، فهذا جهل، لا يقره دين ولا عقل، وفوضى لا يستقيم معها أمر، فإنّ الإنسان يجنى على فطرته وغرائزها وقواها بجهله وسوء اجتهاده، فشعوره الفطرى الذى بيّناه هو الذى ولد له العقائد الوثنية بعبادته كل ذى تأثير لا يعرف له سببا، لحسبانه أنه هو صاحب السلطان الغيبى القادر على نفعه وضره، ومن ثمّ كان محتاجا إلى تكميل فطرته بالوحى الإلهى. وعلى هذا الأصل بنى الدين التعليمى التشريعى الذى هو وضع إلهى يوحيه الله إلى رسله لئلا يضل عباده بضعف اجتهادهم واختلافهم فى العمل بمقتضى غريزة الدين كما وقع بالفعل، ولا يقبل البشر هذا الدين التعليمى بالإذعان والوازع النفسى إلا إذا كان الملقن لهم إياه مؤيدا فى تبليغه وتعليمه من صاحب ذلك السلطان الغيبى الأعلى، والتصرف المطلق فى جميع العالم، الذى تخضع له الأسباب والسنن فيه وهو لا يخضع لها، سواء كان له هذا التصرف لذاته وهو رب العالمين، أو كانت له بولايته له تعالى ونيابته عنه. وقد شرحنا هذه الحقيقة آنفا مختصرا مما بيناه فى مواضع مع التفسير والمنار فى معنى كون الإسلام دين الفطرة، وأنه شرع لتكميل استعداد البشر للرقى فى العلم والحكمة، ومعرفة الله عزّ وجلّ المعدة إياهم لسعادة الآخرة، فليس فيه شىء يصادمها. فهذا الدين التعليمى حاجة من حاجات الفطرة البشرية لا يتم كمالها النوعى بدونه، فهو لنوع الإنسان كالعقل لأفراده كما حققه شيخنا الأستاذ الإمام. قد كان دين الله الذى بعث به جميع رسله لجميع الأمم مصلحا لما أفسدته الوثنية من فطرتهم بجهلهم ثم بتقليد بعضهم لبعض، على أنهم كانوا إذا طال الأمد على بعثة الرسل يضلون عن هدايتهم إلى أن أتم الله الدين وأكمله للبشر كما تقدم بيانه فى المقصدين، الأول والثانى من مقاصد القرآن. وفى حديث الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». يعنى أنهما يفسدان فطرته الاستعدادية بتلقينه دينا محرفا منسوخا بدلا من إكمالها. وكان من فضل الله على عباده بعد إكماله دينه أن ضمن لهم حفظ كتابه هذا من التحريف والتبديل والنسيان والزيادة والنقصان، فقال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9]، وعصم أمة خاتم النبيين أن تضلّ كلّها عنه، كما ضلت الأمم

2 - الإسلام دين العقل والفكر

قبلهم، فإن كان صلّى الله عليه وسلّم قد أخبر بما أطلعه الله عليه من مستقبلها أنهم سيتبعون سنن من قبلهم من اليهود والنصارى، فقد أخبر أيضا بأنه لا بد أن يبقى بعضهم على الحق ليكونوا حجة الله على خلقه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون». رواه أحمد والبخارى عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه، وفى رواية لهم عن معاوية: «لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون للناس». رواه مسلم والترمذى وابن ماجة عن ثوبان بلفظ: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتى أمر الله وهم كذلك إلى قيام الساعة» «1». رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا: «لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة». وروى آخرون من طرق ضعيفة يقوى بعضها بعضا أن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة. ولله الحمد. 2 - الإسلام دين العقل والفكر: تقرأ قاموس الكتاب المقدس فلا تجد فيه كلمة (العقل) ولا فى معناها من أسماء هذه الغريزة البشرية التى فضل الإنسان بها جميع أنواع هذا الجنس الحى كاللب والنهى، لا لأن هذه المادة لم تذكر فى كتب العهدين مطلقا بل لأنها لم ترد فيها أساسا لفهم الدين ودلائله والاعتبار به، ولا أن الخطاب بالدين موجه إليه، وقائم به وعليه، وكذلك أسماء التفكر والتدبر والنظر فى العالم التى هى أعظم وظائف العقل. أما ذكر العقل باسمه وأفعاله فى القرآن الحكيم فيبلغ زهاء خمسين مرة، وأما ذكر أولى الألباب أى العقول ففي بضع عشرة مرة، وأما كلمة أولى النهى (جمع نهية بالضم كغرفة) أى العقول، فقد جاءت مرة واحدة من آخر سورة طه. أكثر ما ذكر فعل العقل فى القرآن قد جاء فى الكلام على آيات الله وكونه المخاطبين بها والذين يفهمونها ويهتدون بها هم العقلاء ويراد بهذه الآيات فى الغالب آيات الكون الدالة على علم الله ومشيئته وحكمته ورحمته كقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ

_ (1) زدنا فى هذه الطبعة رواية معاوية، وحديث ثوبان لأنهما أصح وأبسط من حديث عمر وأبى هريرة فى الموضوع.

وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164]، ويلى ذلك فى الكثرة آيات كتابه التشريعية، ووصاياه كقوله فى تفصيل الوصايا الجامعة من أواخر [سورة الأنعام: 151]: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وكرر قوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ أكثر من عشرات كأمره لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحتج على قومه بكون القرآن من عند الله لا من عنده بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16]، وجعل إهمال استعمال العقل سبب عذاب الآخرة بقوله فى أهل النار فى سورة [سورة الملك الآية: 10]: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ، وفى معناها قوله تعالى من [سورة الأعراف: 179]: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ، وقوله فى [سورة الحج: 46]: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها. كذلك آيات النظر العقليّ والتفكر كثيرة فى الكتاب العزيز، فمن تأملها علم أن أهل هذا الدين هم أهل النظر والتفكر والعقل والتدبر، وأنّ الغافلين الذين يعيشون كالأنعام لا خطّ لهم منه إلا الظواهر التقليدية التى لا تزكى الأنفس ولا يثقف العقول، ولا تصعد بها فى معارج الكمال، بعرفان ذى الجلال والجمال، ومنها قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: 8]، وقوله فى صفات العقلاء أولى الألباب: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 191]، وقوله بعد نفى علم الغيب والتصرف فى خزائن الأرض عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحصر وظيفته فى اتباع الوحى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50]. وقد صرّح بعض حكماء الغرب بما لا يختلف فيه عاقلان فى الأرض من أنّ التفكّر هو مبدأ ارتقاء البشر، وبقدر جودته يكون تفاضلهم فيه. كانت التقاليد الدينية قد حجرت حريّة التفكر واستقلال العقل على البشر. حتى جاء الإسلام فأبطل بكتابه هذا الحجر، وأعتقهم من هذا الرقّ، وقد تعلم هذه الحرية أمم الغرب من المسلمين، ثم نكس هؤلاء المسلمون على رءوسهم فحرموها على أنفسهم إلا قليلا منهم حتى عاد بعضهم يقلدون فيها من أخذوها عن أجدادهم، وقد اعترف علماء الغرب لعلماء سلفنا بسبقهم وإمامتهم لهم فيها وفى ثمراتها، ونقل شيخنا الأستاذ الإمام طائفة من أقوالهم فى كتاب (الإسلام والنصرانية).

3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه

3 - الإسلام دين العلم والحكمة والفقه: ذكر اسم العلم معرفة ونكرة فى عشرات من آيات القرآن الحكيم تناهز المائة، وذكرت مشتقات أضعاف ذلك، وهو يطلق على علوم الدين والدنيا بأنواعها، فمن العلم المطلق قوله تعالى فى وصايا سورة [الإسراء، الآية: 36]: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا أى: لا تتبع ما ليس لك به علم يثبت عندك بالرؤية البصرية، أو بالروايات السمعية، أو بالبراهين القطعية، فإن الله يسألك عما أعطاك من آلات هذا العلم الثلاث. قال الراغب فى تفسير لا تَقْفُ، أى: تحكم بالقيافة والظن. وقال البيضاوى ما ملخصه: ولا تتبع ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب. أ. هـ. ومنه قوله تعالى فى العلم المأثور فى التاريخ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأحقاف: 4]، ومنه قوله تعالى فى علوم البشر المادية: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 6، 7] إلخ، وقوله فى العلم الروحى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85]. وهاتان الآيتان فى بيان ضعف علم البشر وقلته حتى الدنيوى منه لا يزال يعترف العلماء أيهم أوسع علما بمضمونهما، وبأن علمهم لا يتجاوز الظواهر، وقد صرح بعض فحول علماء الغرب بأنهم كلما ازدادوا علما عملوا من حاجتهم إلى تحقيق ما سبق والزيادة عليه ما لم يكونوا يعلمون، كما قال الإمام الشافعى: كلما أدّبنى الده ... ر أرانى نقص عقلى وإذا ما ازددت علما ... زادنى علما بجهلى وقوله تعالى فى العلم العقلى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ [الحج: 8]، الظاهر أنّ المراد بالعلم فيه: العلم النظرى بدليل مقابلته بالهدى والكتاب المنير، وهو هدى الدين والوحى. وقوله فى العلم الطبيعى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ [الروم: 22]، بكسر اللام أى: علماء الكون، ومثله قوله بعد ذكر إخراج الثمرات المختلف ألوانها من ماء المطر، واختلاف ألوان الطرائق فى الجبال وألوان الناس والدواب: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ

الْعُلَماءُ [فاطر: 28]، فالمراد بالعلماء هنا الذين يعلمون أسرار الكون وأطواره وأسباب اختلاف أجناسه وأنواعه وألوانها وآيات الله وحكمه فيها، وهو يشمل أكثر العلوم والفنون أو جميعها، وفى معناها آيات فى سور أخرى. عظّم القرآن شأن العلم تعظيما لا تعلوه عظمة أخرى بقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18]، فبدأ عزّ وجلّ بنفسه وثنى بملائكته، وجعل أولى العلم فى المرتبة الثالثة، ويدخل فيها الأنبياء والحكماء ومن دونهم من أهل الدرجات فى قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11]، وأمر أكرم رسله وأعلمهم بأن يدعوه بقوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114]. ويؤيد الآيات المنزلة فى مدح العلم والحث عليه ما ورد فى ذم اتباع الظن كقوله تعالى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: 36]، ومثله: وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: 28]، وقوله فى قول النصارى بصلب المسيح: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: 157]. وبلغ من تعظيمه لشأن العلم البرهانى أن قيد به الحكم بمنع الشرك بالله تعالى والنهى عنه وهو أكبر الكبائر وأقصى الكفر فقال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]. وقال الله تعالى فى برّ الوالدين الكافرين: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت: 8]، ومعلوم من الدين بالضرورة أن الشرك بالله لا يكون بعلم ولا ببرهان، لأنه ضرورى البطلان، وترى تفصيل هذا فيما بعده من تعظيم أمر الحجة والدليل، وما يليه من ذم التقليد.

الحكمة والفقه

الحكمة والفقه وأما الحكمة فقد قال الله تعالى فى تعظيم شأنها المطلق: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [البقرة: 269]، وقال الله تعالى فى بيان مراده من بعثة محمد خاتم النبيين: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]، وفى معناها آيتان فى سورتى البقرة وآل عمران، وقال لرسوله ممتنا عليه: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113]، وقال له: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125]، وقال له فى خاتمة الوصايا بأمهات الفضائل والنهى عن كبار الرذائل، مع بيان عللها وما لها من العواقب: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء: 39]، وقال لنسائه رضى الله عنهن: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34]. وقد أتى الله جميع أنبيائه ورسله الحكمة ولكن أضاعها أقوامهم من بعدهم بالتقاليد والرئاسة الدينية، ونسخها بولس من النصرانية بنص صريح. قال الله تعالى فى اليهود: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: 54]، فالكتاب أعلى ما يؤتيه تعالى لعباده من نعمة ويليه الحكمة، ويليه الملك، وقال الله تعالى فى نبيه داود عليه السلام: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ [البقرة: 251]، وقال الله تعالى لنبيه عيسى عليه السلام: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: 110]، وقال: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12]، وذكر من حكمته وصاياه لابنه بالفضائل ومنافعها ونهيه عن الرذائل معللة بمضارها. فالحكمة أخصّ من العلم، هى العلم بالشىء على حقيقته وبما فيه من الفائدة والمنفعة الباعثة على العمل، فهى بمعنى الفلسفة العملية كعلم النفس والأخلاق وأسرار الخلق، وسنن الاجتماع، ويدل عليه قوله تعالى بعد وصايا سورة الإسراء التى نقلناه آنفا: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ [الإسراء: 39].

4 - الإسلام دين الحجة والبرهان

ويكثر فى القرآن ذكر الفقه وهو الفهم الدقيق للحقائق الذى يكون به العالم حكيما عاملا مثقفا، فراجع منها فى سورة الأنعام 25، 65، 68، وفى سورة الأعراف: 178، وفى سورة الأنفال: 65، وفى سورة التوبة: 82، 88، 321. وحسبك ما فى هذه السور الأربع تعريفا بالفقه وأنه هو الحكمة لا علم ظواهر الأحكام من الطهارة والبيع والإجازة إلخ، فإن تسمية هذا بالفقه اصطلاحية لا قرآنية، ومنه ما هو ضد فقه القرآن كالحيل التى تعلم الناس التقصى من حكمة القرآن. 4 - الإسلام دين الحجة والبرهان: قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء: 174]، وقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117]، قيد الوعيد على الشرك بكونه لا برهان لصاحبه يحتج به، مع العلم بأنه لا يكون إلا كذلك تعظيما لشأن البرهان، وذلك أنه تعالى يبعث الأمم مع رسلهم وورثتهم الذين يشهدون عليهم، ويطالبهم بحضرتهم بالبرهان على ما خالفوهم فيه كما قال: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 75]. وأقام البرهان العقلى على بطلان الشرك بقوله بعد ذكر السموات والأرض من سورة [الأنبياء، الآية: 22]: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا، ثم قفى عليه بمطالبة المشركين بالبرهان على ما اتخذوه من الآلهة من دونه مطالبة تعجيز فقال فى [الآية: 24]: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ، ومثله فى سورة [النمل، الآية: 64]: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وقال فى سياق محاجة إبراهيم لقومه وإقامة البراهين العلمية لهم على بطلان شركهم: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 81]، ثم قال فى آخره: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 83]، فالدرجات هنا درجات الحجة والبرهان العقلىّ فى العلم، ولذلك قدم فيه ذكر الحكمة على العلم، وتقدم فى الكلام على العلم آية رفع الدرجات فيه.

5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير

ومما جاء فيه البرهان بلفظ السلطان قوله تعالى: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 35]، وفى معناها من هذه [السورة، الآية: 56]: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ، وفى عدة سور أخرى أنه تعالى أرسل موسى إلى فرعون بآياته (وسلطان مبين). 5 - الإسلام دين القلب والوجدان والضمير: قال الفيومى فى المصباح: ضمير الإنسان قلبه وباطنه والجمع ضمائر، وقال: والقلب من الفؤاد معروف- يعنى أنه ضميره ووجدانه الباطل (قال): ويطلق على العقل أ. هـ وقد شرحنا معناه هذا وطرق استعماله فى تفسير آية الأعراف «1»، وقد ذكر القلب فى القرآن الكريم فى مائة آية وبضع عشرة آية. منها قوله تعالى فى سورة [ق، الآية: 37]: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وقوله فى سورة ا [لشعراء، الآية: 88، 89]: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، ومنها مدحه لخليله إبراهيم عليه السلام بقوله: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، قوله حكاية عنه: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260]، وقوله فى صفة المؤمنين: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]، وقوله فى صفات الذين اتبعوا عيسى عليه السلام: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها «2» إلخ. ووصف قلوب المؤمنين بالخشوع والإخبات لله وتمحيصها من الشوائب، وقلوب الكفار والمنافقين بالرجس والمرض والقسوة والزّيغ، وعبر عن فقدها للاستعداد للحق والخير بالطبع والختم والرين عليها، أى أنها كالمختوم المطبوع عليه فلا يدخله شىء جديد، أو كالمعدن أحاط به وغلب عليه الرين وهو الصدأ أو الدنس فلا تقبل الصقل والجلاء. وإذا كان الإسلام دين العقل والبرهان وحرية الضمير والوجدان، فقد أبطل ما كان عليه النصارى وغيرهم من الإكراه فى الدين والإجبار عليه، والفتنة والاضطهاد لمخالفيهم فيه، والآيات فى ذلك كثيرة بيناها فى محلها، ومن دلائلها ذم القرآن للتقليد وتضليل أهله.

_ (1) راجع ص 419 من الجزء التاسع- تفسير المنار. (2) الاطمئنان ما يعبر عنه براحة الضمير فى الاعتقاد، والثابت بالأدلة النظرية بحيث يكون وجدانا كالوجدان فى انشراح الصدر له وعدم احتمال غيره.

6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود

6 - منع التقليد والجمود على اتباع الآباء والجدود: كل ما نزل من الآيات فى مدح العلم وفضله واليقين فيه واستقلال العقل والفكر وحرية الوجدان، والمطالبة بالبرهان، وذم اتباع الظن والحرص فيما يطلب فيه الإيمان والعلم- يدل على ذم التقليد، وقد ورد فى ذمه النعى على أهله آيات كثيرة كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170]، وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة: 104]، ذمهم من ناحيتين؛ (إحداهما): الجمود على ما كان عليه آباؤهم والاكتفاء به عن الترقى فى العلم والعمل، وليس هذا من شأن الإنسان الحى العاقل فإن الحياة تقتضى النمو والتوليد، والعقل يطلب المزيد والتجديد. (والثانية): أنهم باتباعهم لآبائهم قد فقدوا مزية البشر فى التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والحسن والقبيح، بطريق العقل والعلم وطريق الاهتداء فى العمل، ويؤيده قوله تعالى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28]، وقال الله تعالى فى عبادة العرب للملائكة: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 20 - 23]، وتراجع الشواهد على هذا فى قصة إبراهيم مع قومه فى سورة الأنبياء والشعراء والصافات. فالقرآن قد جاء يهدى جميع متّبعى الملل والأديان السابقة إلى استعمال عقولهم مع ضمائرهم للوصول إلى العلم والهدى والاطمئنان فى الدين، وألا يكتفوا بما كان عليه آباؤهم وأجدادهم من ذلك، فإن هذا جناية على الفطرة البشرية والعقل والفكر والقلب التى امتاز بها البشر، وبهذا العلم والهدى امتاز الإسلام ودخل فيه العقلاء من جميع الأمم أفواجا، ثم نكث المسلمون على رءوسهم إلا قليلا منهم، واتبعوا سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم فى التقليد لآبائهم ومشايخهم المنسوبين إلى بعض أئمة علمائهم الذين نهوهم عن التقليد ولم يأمروهم به، فأبطلوا بذلك حجّة الله تعالى على الأمم التى وكل الله

دحض شبهة، وإقامة حجة

دعوتها إليهم، وصاروا حجة على دينهم، فكيف يدعون إليه وحجته القرآن وهم يحرمون الاهتداء به؟ حتى إن أدعياء العلم الرسمى «1» فيهم ينكرون أشد الإنكار على من يدعونهم إلى اتباع كتاب الله وهدى رسوله وسيرة السلف الصالح من أهله ونحن معهم فى بلاء وعناء نقاسى منهم ما شاء الجهل والجمود من استهزاء، وطعن وبذاء، وتهكم بلقب (المجتهد) الذى احتكره الجهل لبعض المتقدمين من العلماء. ولو كان فينا علماء كثيرون يظهرون الإسلام فى صورته الحقيقية العلمية العقلية لدخل الناس المستقلون فى العقل والعلم فيه أفواجا حتى يعم الدنيا؛ لأن التعليم العصرى فى جميع مدارس الأرض يجرى على طريقة الاستقلال فى الفهم واتباع الدليل فى جميع بلاد الإفرنج والبلاد المقلد لهم، ولكن أكثر هؤلاء يرون جميع الأديان تقليدية، ويعتدونها نظما أدبية واجتماعية للأمم، فلهذا يرون الأولى بحفظ نظامهم اتباعهم دينهم التقليدى، وبهذا يعسر علينا أن نقنعهم بامتياز الإسلام على دينهم، لأنه يقل فينا من يقدر على إظهار الإسلام فى صورته التى خصه بها القرآن. وما بيّنه من سنة خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم وسيرة خلفائه الراشدين والسلف الصالحين، رضوان الله عليهم أجمعين. بيد أنّ محافظة الإفرنج على نظام النصرانية بدون إيمان إذعان سيزول، فقد كثرت الجمعيات الدينيّة والعلمية التى تصرح بإنكار ألوهية المسيح وأكثر تقاليد الكنائس «2». دحض شبهة، وإقامة حجة يتوهّم بعض المقلدين أنّ دعوة المسلمين إلى الاهتداء بالكتاب والسّنة والاستقلال فى فهمهما التى اشتهر المنار بها فى عصرنا، هى التى جرّأت بعض الجاهلين على دعوى الاجتهاد فى الشريعة والاستغناء عن تقليد الأئمة والانتقاد عليهم وعلى أتباعهم بما هو ابتداع جديد، واستبدال للفوضى بالتقليد، وهو وهم سببه الجهل بالدين وبالتاريخ، فمذاهب الابتداع والإلحاد قديمة، قد نجمت قرونها فى خير القرون وعهد أكبر الأئمة، وكان أشدها إفسادا للدين الدعوة إلى اتباع الأئمة المعصومين، الذين لا يسألون عن الدليل،

_ (1) المراد بالعلم الرسمى الذى يعتمد منتحله فى انتحاله على الشهادة الرسمية من المدرسة التى تعلم فيها دينية كالأزهر أو مدنية، وكم حامل شهادة بالعلم وهو جاهل. (2) لا تزال تشتد دعوة الشعب الألمانى بتأييد حكومته النازية إلى ترك النصرانية وتفضل الوثنية الآرية عليها.

7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة

على خلاف ما كان عليه أئمة السنة من تحريم اتباع أحد لذاته فى الدين بعد محمد المعصوم الذى لا معصوم بعده صلّى الله عليه وسلّم، ولكن المقلّدين لهؤلاء المجرمين للتقليد قد اتبعوا القائلين بعصمة أئمتهم، حتى ملاحدة الباطنية منهم، فهم يردون نصوص الكتاب والسنة بأقوال أئمتهم، بل بأقوال كل من ينتمى إليهم من أدعياء العلم على اعتقادهم وإقرارهم بأنهم غير معصومين. وإنما تروج البدع فى سوق التقليد الذى يتبع أهله كل ناعق، لا فى سوق الاستقلال والأخذ بالدلائل، ومن باب التقليد دخل أكثر الخرافات على المسلمين لانتساب جميع الدجالين من أهل الطرائق وغيرهم إلى أئمة المذاهب المجتهدين، وهم فى دعوى اتباعهم من الكاذبين، ونحن دعاة العلم الصحيح والاهتداء بالكتاب والسنة أحق منهم باتباع الأئمة، ولا نعنى بالاهتداء بالكتاب والسّنة أن كل واحد منهم إمام مجتهد مطلق كمالك والشافعى رضى الله عنهم فهذه أعلى درجة فى العلم، والعلم درجات كما قال الله عزّ وجلّ، وقد كان يوجد فى السلف قبل تدوين المذاهب عوام وخواص كلهم يهتدون بهما. وصاحب المنار قد وقف نفسه على الردّ على جميع الملاحدة والبهائية والقاديانية والقبوريين وسائر مبتدعة عصرنا وهو لم يدع مذهبا له يدعو إليه، ولم يخالف إجماع الأمة، ولا فرق عنده بين الأئمة، ولله الحمد والمنة. 7 - الحرية الشخصية فى الدين بمنع الإكراه والاضطهاد ورئاسة السيطرة: هذه المزية من مزايا الإسلام، وهى نتيجة المزايات التى بينّا بها كونه دين الفطرة، فأما منع الإكراه فيه وعليه فالأصل فيه قوله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بمكة: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 99 - 101]، علم الله تعالى رسوله بهذه الآيات أن من سننه فى البشر أن تختلف عقولهم وأفكارهم فى فهم الدين وتتفاوت أنظارهم فى الآيات الدالة عليه فيؤمن بعض ويكفر بعض، فما كان يتمناه صلّى الله عليه وسلّم من إيمان جميع الناس مخالف لمقتضى مشيئته تعالى فى اختلاف استعداد الناس للإيمان، وهو منوط باستعمال عقولهم وأنظارهم فى آيات الله فى خلقه، والتمييز بين هداية الدين وضلالة الكفر «1».

_ (1) راجع تفسير هذه الآيات من آخر سورة يونس فى آخر (ج 11) من تفسير المنار.

ثم قوله تعالى عند ما أراد أصحابه أخذ من كان بنى النضير من أولادهم عند إجلائهم عن الحجاز وكان قد تهود بعضهم: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256]، فأمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يخيروهم فمن اختار اليهود أجلى مع اليهود ولا يكره على الإسلام، ومن اختار الإسلام بقى مع المسلمين، كما بيناه فى تفسير الآية من جزء التفسير الثالث. وأما منع الفتنة وهى اضطهاد الناس لأجل دينهم حتى يتركوه فهو السبب الأول لشرعية القتال فى الإسلام وسيأتى فى المقصد الثامن من هذا الكتاب. وأما منع رئاسة السيطرة الدينية كالمعهودة عند النصارى ففيها آيات مبينة فى القرآن، وأحاديث صريحة فى السّنة، وهى معلومة بالضرورة من سيرة النبى صلّى الله عليه وسلّم، وخلفائه الراشدين، وقد بيناها فى الكلام على وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام، وحسبك منها قوله عزّ وجلّ لرسوله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22].

المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى

المقصد الرابع من مقاصد القرآن الإصلاح الإنسانى الاجتماعى السياسى الوطنى بالوحدات الثمانى (وحدة الأمة- وحدة الجنس البشرى- وحدة الدين- وحدة التشريع بالمساواة فى العدل- وحدة الأخوة الروحية والمساواة فى التعبد- وحدة الجنسية السياسية الدولية- وحدة القضاء- وحدة اللغة). جاء الإسلام والبشر أجناس متفرقون. يتعادون فى الأنساب والألوان، واللغات والأوطان والأديان، والمذاهب والمشارب، والشعوب والقبائل، والحكومات والسياسات، يقاتل كل فريق منهم مخالفة فى شىء من هذه الروابط البشرية وإن وافقه فى البعض الآخر، فصاح الإسلام بهم صيحة واحدة دعاهم بها إلى الوحدة الإنسانية العامة، الجامعة، وفرضها عليهم، ونهاهم عن التفرق والتعادى وحرمه عليهم، وبيان هذا التفرق ومضاره بالشواهد التاريخية وبيان أصول الكتاب الإلهى وسنة خاتم النبيين فى الجامعة الإنسانية. لا يمكن بسطهما إلا بمصنّف كبير، فنكتفى فى هذا المقصد من إثبات الوحى المحمدى بسرد الأصول الجامعة فى هذا الإصلاح الإنسانى الداعى إلى جعل الناس على ملة واحدة، ودين واحد، وشرع واحد، وحكم واحد، ولسان واحد، كما أن جنسهم واحد، وربهم واحد، ونبدأ بالأصل الجامع فى هذا، ونقفى عليه بالأصول والشواهد المفصلة له. الأصل الأول للجامعة الإسلامية الإنسانية: وحدة الأمة قال الله تعالى فى سورة الأنبياء مخاطبا أمة الإسلام بعد ذكر خلاصة من قصصهم: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] «1». ثم بين لهم فى سورة «المؤمنون» أنه خاطب جميع النبيين بهذه الوحدة للأمة فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 51، 52]. ولكن لكلّ نبى أمة من الناس هم قومه، وأما خاتم النبيين فأمّته جميع الناس، وقد فرض الله عليهم الإيمان بجميع رسله وعدم التفرقة بينهم، فالإيمان بخاتمهم كالإيمان

_ (1) قرأ الجمهور «أمتكم» بالرفع على أنها خبر، «وأمة» بالنصب على أنها حال لأمة (واحدة) صفة لأمة.

الأصل الثانى

بأولهم وبمن بينهما، فمثلهم كمثل الملوك أو الولاة فى الدولة الواحدة، ومثل اختلاف شرائعهم بنسخ المتأخر منها لما قبله كمثل تعديل القوانين فى الدولة الواحدة أيضا إلى أن كمل الدين. الأصل الثانى: الوحدة الإنسانية بالمساواة بين أجناس البشر وشعوبهم وقبائلهم، وشاهده العام قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وقد بلغ النبى صلّى الله عليه وسلّم ذلك فى حجة الوداع، فتلا الآية وقال ما خلاصته: إنه ليس لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود «ولا العكس» إلا بالتقوى (من حديث العداء بن خالد فى المعجم الكبير للطبرانى). وهذه الوحدة الإنسانية تتضمن الدعوة إلى التآلف بالتعارف وإلى ترك التعادى بالتخالف «1». الأصل الثالث: وحدة الدين باتباع رسول واحد جاء بأصول الدين الفطرى الذى جاء به غيره من الرسل، وأكمل تشريعه بما يوافق جميع البشر، وشاهده الأعم قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ولما كان الإسلام دين الفطرة وحرية الاعتقاد والوجدان جعل الدين اختياريا بقوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256]. الأصل الرابع: وحدة التشريع بالمساواة بين الخاضعين لأحكام الإسلام فى الحقوق المدنية والتأديبية بالعدل المطلق بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والملك والسوقة، والغنى والفقير، والقوى والضعيف، وسنذكر بعض شواهده فى إصلاح التشريع من المقصد السادس. الأصل الخامس: الوحدة الدينية بالمساواة بين المؤمنين بهذا الدين فى أخوته الروحية وعباداته، وفى

_ (1) من شواهد القرآن فى الوعيد على التفرقة بين الناس باختلاف أنسابهم قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.

الأصل السادس

الاجتماع للاجتماع منها، كالصلاة ومناسك الحج «1»، فملوك المسلمين وأمراؤهم وكبار علمائهم يختلطون بالفقراء فى صفوف الصلاة والطواف بالكعبة المشرفة والوقوف بعرفات وسائر مواطن الحج، ولا تجد شعوب الإفرنج المنتسبين إلى النصرانية ولا رجال الدين من غيرهم يرضون بمثل هذه المساواة المعلومة من دين الإسلام بالضرورة للعمل بها من أول الإسلام إلى اليوم، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وقال الله تعالى فى أحكام المشركين المحاربين: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11]. الأصل السادس: وحدة الجنسية السياسية الدولية بأن تكون جميع البلاد الخاضعة للحكم الإسلامى متساوية فى الحقوق العامة، كحماية أهلها والدفاع عنهم إلا حقّ الإقامة فى جزيرة العرب ولا سيما الحجاز، فإنه خاص بالمسلمين لأن للحرمين وسياجهما من الجزيرة حكم المعابد والمساجد، وحكم الإسلام فى معابد الملل الداخلة فى ذمته أنها خاصة بأهلها ولها حرمتها، لا يجوز لغير أهلها دخولها بغير إذن منها، المسلمون وغيرهم فى هذا سواء. الأصل السابع: وحدة القضاء واستقلاله ومساواة الناس فيما أمام الشريعة العادلة، إلا أنه يستثنى منه الأحكام الشخصيّة الدينية، فإنّ الإسلام يراعى فيها حرية العقيدة والوجدان بناء على أساسه فى ذلك، فهو يسمح لغير المسلمين فى أمور الزوجية ونحوها أن يتحاكموا إلى رؤساء ملتهم، وهذا ضرب من المساواة ليس له فى غير الإسلام ضريب، لأنه اشتراك فى الحكم والتشريع، وأما إذا تحاكموا إلينا فإننا نحكم بينهم بعدل شريعتنا الناسخة لشرائعهم، والأصل فيه قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42] وقوله تعالى فى الآية [48]: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.

_ (1) وكذا الصيام والمساواة فيه أظهر، وإن كان هو تركا للشهوات لا فعلا يرى بالإبصار، ولكنه فعل نفسى يرى أثره ولا يخفى على أحد أمره.

الأصل الثامن

الأصل الثامن: وحدة اللغة، ووجهها: أنه لا يمكن أن يتم الاتحاد والإخاء بين الناس وصيرورة الشعوب الكثيرة أمة واحدة إلا بوحدة اللغة «1» وما زال الحكماء الباحثون فى مصالح البشر العامة يتمنّون لو يكون لهم لغة واحدة مشتركة، يتعاونون بها على التعارف والتآلف، ومناهج التعليم والآداب، والاشتراك فى العلوم والفنون والمعاملات الدنيوية، وهذه الأمنية قد حققها الإسلام بجعل لغة الدين والتشريع والحكم لغة جميع المؤمنين به والخاضعين لشريعته. إذ يكون المؤمنون مسوقين باعتقادهم ووجدانهم إلى معرفة لغة كتاب الله وسنة رسوله لفهمهما والتعبد بهما، والاتحاد بأخوتهم فيهما، وهما مناط سيادتهم، وسعادتهم فى الدنيا والآخرة، ولذلك كرّر فى القرآن بيان كونه كتابا عربيا، وحكما عربيا، وكرر الأمر بتدبره والتفقه فيه، والاتعاظ والتأديب به، وأما غير المؤمنين فيتعلمون لغة الشرع الذى يخضعون لحكمه، والحكومة التى يتبعونها لمصالحهم الدنيوية كما هى عادة البشر فى ذلك، وكذلك كان الأمر فى الفتوحات الإسلامية العربية كلها. وقد فصّلت فى المنار والتفسير مسألة وجوب تعلم اللغة العربية فى دين الإسلام وكونه مجمعا عليه بين المسلمين كما قرره الإمام الشافعى رضى الله عنه فى رسالته، وهو الذى جرى عليه العمل فى عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين، ثم خلفاء الأمويين والعباسيين إلى أن كثر الأعاجم، وقلّ العلم، وغلب الجهل، فصاروا يكتفون من لغة الدين بما فرضه الله فى العبادات من القرآن والأذكار «2». الشواهد من السنّة على وحدة الجنس واللغة: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم ينكر على المسلمين كل نوع من أنواع التفرقة الذى ينافى وحدتهم وجعلهم أمة واحدة كالجسد الواحد كما شبههم بقوله: «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى». رواه الإمام أحمد من حديث النعمان بن بشير رضى الله عنه، وكان يخص بمقته وإنكاره التفرق فى الجنس النسبى أو اللغة. أما الأول فمشهور ومنه أن أبا ذر رضى الله عنه وهو من السابقين الأولين المتقين تغاضب مع بلال الحبشى مولى أبى بكر رضى الله عنه وتسابا فقال

_ (1) المراد أنه لا يمكن هذا مع حرية الدين التى قررها الإسلام إلا باللغة. (2) راجع ذلك فى ص 310 من الجزء التاسع تفسير المنار.

أبو ذر: يا ابن السوداء، فشكاه بلال إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال لأبى ذر: «أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية». رواه البخارى فى مواضع، ومسلم بدون ذكر اسم بلال، ولفظ البخارى فى كتاب الأدب عن أبى ذر: كان بينى وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها فذكرنى إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال لى: «أساببت فلانا؟». قلت: نعم. قال: «أفنلت من أمه؟». قلت: نعم. قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية». قلت: على ساعتى هذه من كبر السن؟ قال: «نعم هم إخوانكم». إلخ الحديث .. وسيأتى فى الوصية بالرقيق، وروى أن أبا ذر تاب توبة نصوحا حتى أمر بلالا أن يطأ على وجهه. وأما الثانى فيجمعه مع الأول ما رواه الحافظ بن عساكر بسنده إلى مالك عن الزهيرى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسى وصهيب الرومى وبلال الحبشى فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا؟ (يعنى- هذا المنافق- بالرجل النبى صلّى الله عليه وسلّم وأن الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنهم من قومه، فما بال الذى يدعو الفارسى والرومى إلى نصره؟)، فقام إليه معاذ بن جبل رضى الله عنه فأخذ بتلبيبته «1»؛ ثم أتى النبى صلّى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام النبى صلّى الله عليه وسلّم مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد ثم نودى: إن الصلاة جامعة «2»، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيها النّاس إنّ الربّ واحد، والأبّ واحد، وإنّ الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنّما هى اللّسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربىّ». فقام معاذ فقال: فما تأمرنى بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: «دعه إلى النّار»، فكان قيس ممن ارتد فى الردة فقتل. أرأيت لو ظل المسلمون على هذه التربية المحمدية أكان وقع بينهم من الشقاق والحروب باختلاف الجنس واللغة كل ما وقع وأدى بهم إلى هذا الضعف العام؟ أرأيت لو حافظوا على هذه الأخوة الإسلامية أكانت حدثت فيهم تلك الشعوبية المجوسية الأولى، وهذه العصبية التركية الأخرى؟ كلا إنهم لو حافظوا عليهما لعمموا أخواتها، ولأصلحوا بها شعوب الأرض كلّها. يعترض بعض أولى النظر القصير، والبصر الكليل على توحيد اللغة فى الشعوب المختلفة بأنه خلاف طبيعة البشر، ويرد عليهم بأنّ توحيد الدين أبعد من توحيد الله عن

_ (1) اللبب بفتحتين موضع النحر، وتلبيه ما على لببه ونحره من الثياب أى قبض عليه وجذبه بها. (2) هذه الجملة يدعى بها إلى صلاة العيدين وكل اجتماع عام فى المسجد بلفظ «الصلاة جامعة» ولفظ الصلاة فيها منصوب بتقدير احضروا الصلاة، أو الزموها.

طبيعة البشر إن أريد بالبشر جميع أفرادهم، وأن الحكماء ما زالوا يسعون لجمع البشر على لغة واحدة مشتركة، مع علمهم أن ترقى بعض اللغات بترقى أهلها فى العلوم والفنون والسياسة والقوة والعصبية يستحيل معه أن يرغبوا عنها إلى غيرها، ولم يسع أحد منهم لجمعهم على دين واحد، وأنّ القرآن الذى شرع توحيد الدين مع شرعه ولغته لجميع البشر. قد علمنا أن حكمة الله تعالى فى خلق الإنسان تأبى أن يكون الناس كلهم أمة واحدة تدين بدين واحد قال الله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] وإنما دعاهم إلى هذه الرحمة ليقل الشقاء الذى يثيره الخلاف فيهم: هذا الخلاف الذى جعل أعظم شعوب الأرض وأرقاهم فى العمران يبذلون فى هذا العهد أكثر ما تستغله شعوبهم من ثروة العالم فى سبيل الحروب التى تنذر عمرانهم الخراب والدمار. فإذا كان مقتضى طبع البشر أن لا يتفقوا كلهم على شىء واحد من لغة ولا دين ولا غيرهما من الأمور التى تختلف فيها الآراء، فهذا لا يمنع دعوتهم كلهم إلى الحق والخير، ولا بد أن يستجيب خيارهم على قاعدة غلب الحق على الباطل. وقد استشكل هذا بعض العلماء من حيث المخاطب بتنفيذه، فقلت لهم: إن المخاطب بتعميم لغة الإسلام، هم أولو الأمر المخاطبون بتعميم دعوة الإسلام وإقامة شرع الإسلام، وقد جرى على ذلك الصحابة والخلفاء من بعدهم كما تقدم. دعا الإسلام البشر كلهم إلى دين واحد يتضمن توحيد اللغة وغيرهما من مقومات الأمم فكانوا يدخلون فيه أفواجا، حتى امتدّ فى قرن واحد ما بين المحيط الغربى إلى أقصى الهند أو الصين، ولولا ما طرأ عليه من الابتداع، وعلى حكوماته من الظلم والاستبداد، وعلى شعوبه من الجهل والفساد، والتفرق بالاختلاف. لدخل فيه أكثر البشر، ولصارت لغته لغة لكل من دخل فى حظيرته من الأمم فمن غرائزهم اختيار الأفضل إذا عرفوه، بل علمنا القرآن أن هذه سنة عامة. فى الاجتماع البشرى، بل فى كل تنازع بين الحق والباطل، والنافع والضار، والصالح والفاسد، إنما يكون الغلب للأفضل والثبات والبقاء للأمثل، فراجع الآيات فى دمغ الحق للباطل، ثم اعتبر فيه بهذا المثل الماثل: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرعد: 17].

قال أحد كبار العلماء الألمان فى الآستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة: إنه ينبغى لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبى سفيان فى ميدان كذا من عاصمتنا (برلين). قيل له لماذا؟ قال: لأنه هو الذى حوّل نظام الحكم الإسلامى عن قاعدته الديمقراطية على عصبية الغلب، ولولا ذلك لعم الإسلام العالم كلّه، وإذن لكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوروبا عربا مسلمين. قد أعجبت هذا الألمانى عصبيته القومية، وخيلاؤه الأوروبيّة، التى عتلت قومه وجيرانهم إلى جحيم الحرب الأخيرة عتلا «1» فأخسرت أوروبا عشرين مليونا من الرجال، وألوف الملايين من الأموال، وباء فيها قومه بالخزى والنكال، وسيطرة الاستذلال، وإنما كان كره أن يكونوا قد اهتدوا بالإسلام، بما صرفت بصره وعصبيّته الألمانية، عن رؤية المصلحة الإنسانية الجامعة، ولو نظر فيها فأبصرها لعلم أنّ الأفضل والأمثل والأكمل للبشر توحيد شعوبهم بحيث يتفاضلون بعلوم أفرادهم وأعمالهم، لا بأنسابهم وأوطانهم ولغاتهم المفرقة بينهم، وهو قد علم من قبل أن هذه الجامعة الإنسانية لا سبيل إليها إلا بهداية الإسلام فلا تنال إلا به، ولو اهتدت به أوروبا اليوم لزالت أضغانها، ووجهت علومها وفنونها إلى إسعاد البشر وعمارة الأرض كلها، فإنّ إصرار الإفرنج على الكبرياء بجلدتهم البيضاء واحتقارهم للسود والحمر والسمر والصفر وهضمهم لحقوقهم، واستباحتهم لظلمهم. لمن أكبر العار على حضارتهم، وإن استثناءهم للأصفر اليابانى أخيرا من هذا الاحتقار، لما يلطخهم بعار فوق عار، وإن حضارة الإسلام الإنسانية الجامعة لتعلو عليها ألوف من الأميال لا الأمتار. فهل يعقل أن يكون تقرير هذه الأصول التى توحّد الأمم والشعوب وتؤلف بينها بما يجمع كلمتهم عليها بالوازع النفسى لا بالقهر العسكرى من رأى أو إلهام نبع من نفس محمد الأمى فى سن الكهولة ففاق بها جميع الأنبياء والحكماء؟ أم الأقرب إلى العقل أن تكون بوحى من الله تعالى أفاضه عليه صلّى الله عليه وسلّم؟ «2».

_ (1) عتله إلى الشيء أو المكان جره بقهر ودفعه إليه بعنف. (2) قولنا إن هذا أقرب إلى العقل مفهومه أن مقابله وهو أنه من رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ممكن أيضا وإن فاق به جميع الأنبياء والحكماء وهو من باب التساهل وإرخاء العنان ولا يمكن أن يقال مثله فى كل مقصد من هذه المقاصد العشرة، فما بالك بها كلها، وهل يعقل أن تكون آراء حدثت لأمى فى سن الكهولة فقررها ونفذها؟ كلا.

المقصد الخامس من مقاصد القرآن"وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات" ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد

المقصد الخامس من مقاصد القرآن «وتقرير مزايا الإسلام العامة فى التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات» ونلخص أهمها بالإجمال فى عشر جمل أو قواعد الأولى كونه وسطا جامعا لحقوق الروح والجسد، ومصالح الدنيا والآخرة، وهو نص قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وقد تقدم ذكره وبيان معنى الشهادة على الناس فيها، وبينا فى تفسيرها فى أول الجزء الثانى من تفسير المنار أنّ المسلمين وسط بين الذين تغلب عليهم الحظوظ الجسدية والمنافع المادية كاليهود، والذين تغلب عليهم التعاليم الروحيّة وتعذيب الجسد وإذلال النفس والزهد ... كالهندوس والنصارى، وإن خالف هذه التعاليم أكثرهم. الثانية كون غايته الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة بتزكية النفس بالإيمان الصحيح ومعرفة الله والعمل الصالح ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، لا بمجرد الاعتقاد والاتكال، ولا بالشفاعات وخوارق العادات، وتقدم بيانه أيضا. الثالثة كون الغرض منه التعارف والتأليف بين البشر لا زيادة التفريق والاختلاف كما يزعم أعداء الأديان، وتقدم شواهده فى كونه عاما مكملا ومتمما لدين الله على ألسنة رسله فى الكلام على آية القرآن وعموم بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وفى الكلام على الرسل من المقصد الثانى وإنما تفصيل أصوله فى تلك الوحدات الثمانى التى بيناها آنفا فى المقصد الرابع. الرابع كونه يسرا لا حرج فيه ولا عسر ولا إرهاق ولا إعنات، قال الله عزّ وجلّ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] وقال بلغت حكمته: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ [سورة البقرة: الآية 220]، وقال عظمت رأفته: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]، وقال جلت منته: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ

الخامسة

مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، وقال عمت رحمته: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6]. ومن فروع هذا الأصل أن الواجب الذى يشق على المكلف أداؤه ويحرجه ويسقط عنه إلى بدل أو مطلقا كالمريض الذى يرجى برؤه، والذى لا يرجى برؤه ومثله الشيخ الهرم- الأول يسقط عنه الصيام ويقضيه كالمسافر، والثانى لا يقضى بل يكفّر عن فطره بإطعام مسكين فدية عن كل يوم إذا قدر- وأما المحرم فيباح للضرورة بنص القرآن وإن كان تحريمه أو النهى عنه لسد ذريعة الفساد فيباح للحاجة كما بيناه فى تفسير آيات الربا وآيات الصيام، وآية محرمات الطعام «1». الخامسة منع الغلو فى الدين وإبطال جعله تعذيبا للنفس بإباحة الطيبات والزينة بدون إسراف ولا كبرياء وقد فصلنا ذلك فى تفسير الآيات الواردة فى الأمر بالأكل من الطيبات فى سورة البقرة، وسورة المائدة، وتفسير قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 31، 32]. وقال الله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء: 171]، وفى هذا النهى اعتبار للمسلمين لأنهم أولى بالانتهاء عن الغلو بأن دينهم دين الرحمة واليسر، والأحاديث الصحيحة فى نهى المسلمين عن الغلو فى العبادة وعن ترك الطيبات، وعن الرهبانية والخصاء، مبينة لهذه الآيات وهى مصداق تسمية النبى صلّى الله عليه وسلّم لملته بالحنيفية السمحة. السادسة قلّة تكاليفه وسهولة فهمها، وقد كان الأعرابىّ يجيء النبى صلّى الله عليه وسلّم من البادية فيسلم فيعلّمه ما أوجب الله وما حرّم عليه فى مجلس واحد فيعاهده على العمل به فيقول صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح الأعرابىّ إن صدق»، وكان هذا أعظم أسباب قبول الناس له، ولكنّ الفقهاء أكثروا بآرائهم الاجتهادية حتى صار العلم بها متعسرا، والعمل بها كلّها متعذرا، ولا يعترض على هذه

_ (1) قد بينا يسر الإسلام وسهولته فى مواضع من المنار وتفسيره. أوسعها فى تفسير «5: 104» وقد جمع فى رسالة مستقلة.

السابعة

المزية بالصلوات الخمس فى كلّ يوم وليلة؛ فإن أقلّ ما تجزئ به كلّ صلاة منها يمكن أن يؤدّى فى خمس دقائق، ومنها صلاة وقتها عقب القيام من النوم فى الصباح، وصلاة قبل النوم فى الليل، فهل يشق على المرء أن يؤدى فى سائر يومه ثلاث صلوات متفرقة فى ربع ساعة منه؟ فإن قيل: إنه يشترط فيه الطّهارة. قلنا: إنّ طهارة البدن والثياب مطلوبة شرعا وطبا فى كلّ وقت، فهى تكون قبل الصّلاة فلا تضيّع على المسلم وقتا ولا عملا فى أثناء النهار إلا نادرا، وكذلك الغسل الواجب قلّما يجب إلا فى الليل أو الصباح، وأما الوضوء فلا يشق منه فى أثناء العمل إلا غسل الرجلين على الذين يلبسون الجوارب والأحذية العصرية، ومن لبسها على طهارة يجوز له المسح عليها بدلا من الغسل، وأما فوائد هذه الصلاة وهذه الطهارة فى النفس والبدن، فهى لا تقدّر بثمن، فالصلاة تطهير للنفس وتزكية لها بمناجاة المؤمن لربّه فتصدّه عن الفحشاء والمنكر «1». السابعة انقسام التكليف إلى عزائم ورخص، وكان ابن عباس يرجّح جانب الرخص، وابن عمر يرجّح العزائم، والناس درجات فى التقصير والتشمير والاعتدال، فهو يوافق البدوى الساذج والفيلسوف الحكيم وما بينهما من الطبقات. قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32]. الثامنة نصوص الكتاب والسنة وهدى السنة مراعى فيهما درجات تفاوت البشرية فى العقل والفهم وعلو الهمة وضعفها، فالقطعى منها هو العام، وغير القطعى تتفاوت فيه الأفهام، فيأخذ كل أحد منه بما أداه إليه اجتهاده، ولذلك كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يقر كل أحد من أصحابه فيه على اجتهاد كما فعل عند ما نزلت آية البقرة فى الخمر والميسر والدالة على تحريمهما دلالة ظنية فتركهما بعضهم دون بعض، وأقر كلا على اجتهاده إلى أن نزلت آيتا المائدة بالتحريم القطعى. قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ

_ (1) أى كما يطهر الوضوء والغسل والبدن وبهما تكمل تربية الإنسان. وسنبين ذلك بالتفصيل فى الجزء الثانى.

التاسعة

[العنكبوت: 43] وبيان ذلك أن الفرائض الدينية العامة فيه، والمحرمات الدينية العامة لا يثبتان إلا بنص قطعى يفهمه كل أحد، والأول مذهب الحنفية. وأما الثانى وهو التحريم فهو مذهب جمهور السلف أيضا، وأما الآيات الظنية الدلالة وأحاديث الآحاد الظنية الرواية أو الدلالة، هى موكولة إلى اجتهاد من ثبت عنده فى العبادات والأعمال الشخصية، وإلى اجتهاد أولى الأمر فى الأحكام القضائية والأمور السياسية، وقد بينّا هذا فى مواضع من التفسير والمنار. التاسعة معاملة الناس بظواهرهم، وجعل البواطن موكولة إلى الله تعالى، فليس لأحد من الحكام ولا الرؤساء الرسميين ولا لخليفة المسلمين أن يعاقب أحدا، ولا أن يحاسبه على ما يعتقد أو يضمر فى قلبه، وإنما العقوبات على المخالفات العملية للأحكام العامة المتعلقة بحقوق الناس ومصالحهم، وقد فصلنا هذا فى أحكام المنافقين من خلاصة تفسير سورة براءة (التوبة). العاشرة مدار العبادات كلّها على اتباع ما جاء به النبى صلّى الله عليه وسلّم فى الظاهر، فليس لأحد فيها رأى شخصى ولا رئاسة، ومدارها فى الباطن على الإخلاص لله تعالى وصحة النية، والآيات والأحاديث فى الأمرين كثيرة. ... كل واحدة من هذه العشر: جديرة بأن تجعل مقصدا خاصا من مقاصد الوحى، ويستدل بها على أنه من عند الله عزّ وجلّ: لا من الآراء والإلهامات النفسية لمحمد صلّى الله عليه وسلّم الأمى فى عهد الكهولة، وقد جاءت مصلحة لما أفسده رؤساء الأديان كلها من السيطرة على عقائد الناس وأعمالهم، والتّحكّم فى وجدانهم، وهو لم يكن يعلم من تفصيل هذه المفاسد شيئا، وإنما غرضنا الاختصار، لأن أهل هذا العصر مترفون كثيرو الشواغل فيملون التطويل.

المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة

المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسى الدولى: نوعه، وأساسه، وأصوله العامة الإسلام دين هداية وسيادة وسياسة وحكم، لأنّ ما جاء به من إصلاح البشر فى جميع شئونهم الدينية، ومصالحهم الاجتماعية والقضائية، يتوقف على السيادة والقول والحكم بالعدل وإقامة الحق، والاستعداد لحماية الدين والدولة، وفيه أصول وقواعد. القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامى الحكم فى الإسلام للأمة، وشكله الشورى، ورئيسه الإمام أو (الخليفة) منفّذ لشرعه، والأمة هى التى تملك نصبه وعزله، قال الله تعالى فى صفات المؤمنين: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38]، وقال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، وكان صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه فى المصالح العامة من سياسية وحربية ومالية مما لا نص فيه فى كتاب الله تعالى، وقد بينت فى تفسيرها حكمة ترك الشورى لاجتهاد الأمة لأنها مصلحة تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة، ولو قيدت بنظام لجعل تعبديا «1». وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] فأولو الأمر أهل الحلّ والعقد والرأى الحصيف فى مصالحها الذين تثق بهم الأمة وتتبعهم فيما يقررونه بدليل قوله تعالى بعد تلك الآية من السورة نفسها: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ [النساء: 83] فأولو الأمر الذين كانوا مع الرسول وكان الأمر يرد إليه وإليهم فى الشئون العامة للأمن من الأمن والخوف وغيرهما: هم الذين كان صلّى الله عليه وسلّم يستشيرهم فى الأمور الدقيقة والسرية المهمة. وكان يستشير جمهور المسلمين فيما لهم به علاقة عامة ويعمل برأى الأكثر وإن خالف رأيه، كاستشارتهم فى غزوة أحد فى أحد الأمرين: الحصار فى المدينة أو الخروج إلى أحد للقاء المشركين فيه. وكان رأيه ورأى بعض كبار الأمة الأول، ورأى الجمهور الثانى، فنفذ رأى الأكثر، ولكنه استشار فى مسألة أسرى بدر خواص أولى

_ (1) راجع ص 99 ج 4 تفسير المنار.

الأمر، وعمل برأى أبى بكر كما فصّلناه فى تفسير سورة الأنفال، ولم تكن آية الأمر له بالمشاورة قد نزلت فهى إنما نزلت فى غزوة أحد (وكانت غزوة بدر فى السنة الثانية للهجرة وغزوة أحد فى الرابعة). وقد بينت فى تفسير الآية الأولى [وهى الآية: 58 من سورة المائدة] ما تدل عليه من قواعد الحكم الإسلامى وكونه أفضل من الحكم النيابى الذى عليه دول هذا العصر «1». ومن الدلائل الكثيرة على أن التشريع القضائى والسياسى هو حق الأمة المعبر عنها فى الحديث بالجماعة: أن القرآن يخاطب بها جماعة المؤمنين فى هاتين الآيتين الخاصتين بالحكم العام والدولة وفى سائر الأحكام العامة كقوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 1] وما يليها من الآيات المتعلقة بالمعاهدات والحرب والصلح، وما فى معناها من سور الأنفال، والبقرة، وآل عمران، ومثل قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9]. وكذلك خطابه لهم فى أحكم الأموال كالغنائم وتخميسها وقسمتها، وأحكام النساء وغيرها (وقد بينا هذا كله فى مواضعه من التفسير). وقد صرّح كبار النظار من علماء الأصول بأنّ السلطة فى الإسلام للأمة يتولاها أهل الحلّ والعقد الذين ينصبون عليها الخلفاء والأئمة ويعزلونهم إذا اقتضت المصلحة عزلهم. قال الإمام الرازى فى تعريف الخلافة: هى رئاسة عامة فى الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص. وقال فى القيد الأخير (الذى زاده على من قبله): هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه. وقال العلامة السعد التفتازانى فى شرح المقاصد عند ذكر هذا التعريف وما علل به القيد الأخير: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد واعتبر رياستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة. أ. هـ. وقد فصلنا مسألة سلطة الأمة فى كتابنا «الخلافة أو الإمامة العظمى». فهذه القاعدة الأساسية لدولة الإسلام أعظم إصلاح سياسى للبشر قررها القرآن فى

_ (1) راجع ص 180 - 222 ج 5 تفسير المنار وكتاب الخلافة.

عصر كانت فيه جميع الأمم مرهقة بحكومات استبدادية استعبدتها فى أمور دينها ودنياها، وكان أول منفذ لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يكن يقطع أمرا من أمور السياسة والإدارة العامة للأمة إلا باستشارة أهل الرأى والمكانة فى الأمة، ليكون قدوة لمن بعده. ثم جرى على ذلك الخلفاء الراشدون. فقال الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى أول خطبة خطبها على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عقب مبايعته: «أما بعد فقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينونى، وإذا زغت فقومونى». وقال الخليفة الثانى عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «من رأى منكم فىّ عوجا فليقوّمه» فقال أعرابى: لو رأينا فيك عوجا لقوّمناه بسيوفنا، فقال: «الحمد لله الذى جعل فى المسلمين من يقوّم عوج عمر بسيفه»، وكان يجمع أهل العلم والرأى من الصحابة ويستشيرهم فى كل مسألة ليس فيها نص من كتاب الله، ولا سنة أو قضاء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنه: «أمرى لأمركم تبع». وكذلك كان عمل الخليفة الرابع على المرتضى رضى الله عنه وكرّم وجهه، ولا أذكر له كلمة مختصرة مثل هذه الكلمات على المنبر. وإذا أوجب الله المشاورة على رسوله فغيره أولى، ولا يصح أن يكون حكم الإسلام أدنى من حكم ملكة سبأ العربية، فقد كانت مقيّدة بالشورى، ووجد ذلك فى أمم أخرى وامتاز الإسلام بجعله دينا ثابتا بقول الله وسنة رسوله العلمية وسيرة الخلفاء الراشدين وإجماع الأمة، وإن جهل ذلك من جهله من الفقهاء، فجعلوها فضيلة مندوبة لا واجبة لإرضاء الملوك والأمراء. ذلك بأنّ ملوك المسلمين زاغوا بعد ذلك عن الصراط المستقيم إلا قليلا منهم، وشايعهم علماء الرسوم المنافقون، وخطباء الفتنة الجاهلون، حتى صار المسلمون يجهلون هذه القاعدة الأساسية لحكومة دينهم، وكان من حسن حظ الإفرنج فى حربهم الصليبية أن كان سلطان المسلمين الذى نصره الله عليهم يقتفى فى حكمه أثر الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز بقدر علمه- وهو صلاح الدين الأيوبى (ر. ح) الذى قال لأحد رجاله المتميزين عنده وقد استجداه على رجل غشّه: «ما عسى أن أصنع لك وللمسلمين؟ قاض يحكم بينهم، والحق الشرعى مبسوط للخاصّة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته، فالحق يقضى لك أو عليك» ومعنى عبارة السلطان أنه ليس منفذا لحكم الشرع- كالشحنة وهو صاحب الشرطة- وأنّ القضاة مستقلون بالحكم لأنهم يحكمون بالشرع العادل المساوى

بين الناس. وقد اقتبس الصليبيون منه طريقة حكمه، ثم درسوا تاريخ الإسلام فعرفوا منه ما جهله أكثر المسلمين المتأخرين حتى أسّسوا حكم دولهم على قاعدة سلطة الأمة التى جاء به الإسلام، وصاروا يدعونها لأنفسهم، ويعيبون الحكومات الإسلامية باستبدادها، ثم يجعل الإسلام نفسه سبب هذا الاستبداد والحكم الشخصى، وصار المسلمون الجاهلون بدينهم وبتاريخهم يصدقونهم، ويرى المشتغلون بالسياسة وعلم الحقوق منهم أنه لا صلاح لحكوماتهم إلا بتقليدهم، فكان هذا من أسباب ضياع أعظم مزايا الإسلام السياسية التشريعية وذهاب أكثر ملكه، وصدق عليه أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى أعدائهم، وهم يعدون مئات الملايين، فتدبر قوله تعالى فى أعدائهم الأولين يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2].

أصول التشريع فى الإسلام

أصول التشريع فى الإسلام المعروف عند جمهور أهل السنة أن أصول التشريع الأساسية أربعة: (1) القرآن المجيد، والمشهور عند علماء الأصول: أن آيات الأحكام العملية فيه، من دينية وقضائية وسياسية لا تبلغ عشر آياته، وعدّها بعضهم خمسمائة آية للعبادات والمعاملات، والظاهر أنهم يعنون الصريح منها، وأكثرها فى الأمور الدينية، لأنّ أكثر أمور الدنيا موكول إلى عرف الناس واجتهادهم. (2) ما سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعمل والقضاء به من بيان وتنفيذ لكتاب الله تعالى، وقالوا أيضا: إن أحاديث الأحكام الأصول خمسمائة حديث تمدها أربعة آلاف فيما أذكر. (3) إجماع الأمة؛ واتّفق أهل السنة على الاحتجاج بإجماع الصحابة فى الدينيات، والشيعة على إجماع أهل البيت فى عرفهم، وفى إجماع المجتهدين من غيرهما تفصيل. (4) اجتهاد الأئمة والأمراء والقضاة والقواد فى الأمور القضائية والسياسية والإدارية والحربية، فخصّه بعض الفقهاء بالقياس. وأنكر بعضهم القياس وأقره آخرون كما فصّلنا ذلك فى مواضع، أبسطها ما فى تفسير آية 101 من سورة المائدة. ورد فى هذا الترتيب أحاديث وآثار تدل على العمل به فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم، والخلفاء الراشدين (منها) حديث معاذ أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما أرسله إلى اليمن قال له: «كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟». قال أقضى بما فى كتاب الله، قال: «فإن لم يكن فى كتاب الله؟». قال: فبسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإن لم يكن فى سنة رسول الله؟». قال: أجتهد رأيى لا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، صدرى ثم قال: «الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم». رواه أبو داود والترمذى من طريق الحارث بن عمرو، وفيه مقال وله شواهد، وأما العمل بهذا الترتيب فهو معروف عن الخلفاء الراشدين، قد بيناه فى محله وبه أمر عمر رضى الله عنه قاضيه شريح فى كتابه المشهور فى القضاء ولكن الفقهاء يقدمون الإجماع حتى العرفى عند علماء الأصول- وهو مختلف فيه- على النص المختلف فى حكمه. والأصل فى شرعية اجتهاد الرأى للحكّام حديث: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد». رواه الجماعة كلهم عن أبى هريرة إلا الترمذى فعن عمرو بن العاص.

قواعد الاجتهاد من النصوص

بل كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يعطى أمراء الجيوش والسرايا حقّ الحكم بما يرون فيه المصلحة بقوله للواحد منهم: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله أم لا». رواه أحمد، ومسلم، والترمذى، وابن ماجة من حديث بريدة. وقال مثل ذلك فى إنزالهم على ذمة الأمير دون ذمة الله ورسوله لئلا يخفرها، وهذا من أوسع النصوص الصحيحة فى تفويض الأحكام السياسية والعسكرية إلى الخلفاء والأمراء وقواد الجيوش، لأنها من المصالح العامة التى تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، وهو مذهب الإمام مالك (ر ح). قواعد الاجتهاد من النصوص أحكام الكتاب والسّنّة: منها أحكام خاصة بالأعمال والوقائع، ومنها قواعد عامة للتشريع، والأحكام الخاصّة، منها: ما هو قطعى الرواية والدلالة لا مجال للاجتهاد فيه ولا معدل عن الحكم به إلا لمانع شرعى، من فوات شرط، كدرء حدّ بشبهة أو عذر ضرورة. وقد أمر عمر رضى الله عنه فى المجاعة ألا يحدّ سارق. ومنها ما هو غير قطعى يعمل فيه باجتهاد من يناط به الحكم والتنفيذ من أمير أو قاض أو قائد جيش، كما تقدم قريبا فى العبادات والمحرمات. وأما القواعد العامة فهى ما تجب مراعاته فى الأحكام المختلفة، وأهمّها فى الإسلام تحرى الحقّ والعدل المطلق العام، والمساواة فى الحقوق والشهادات والأحكام، وحفظ المصالح ودرء المفاسد، ومراعاة العرف بشرطه، ودرء الحدود بالشبهات، وكون الضرورات تبيح المحظورات، وتقدير الضرورة بقدرها، ودوران المعاملات على اكتساب الفضائل، واجتناب الرذائل، وحسبك بالشواهد من القرآن على قاعدة إيجابى العدل المطلق والشهادة وتحريم الظلم. العدل والمساواة فى الإسلام نصوص القرآن فى إيجاب العدل المطلق والمساواة فيه وحظر الظلم لما كان العدل أساس الأحكام وميزان التشريع وقسطاسه المستقيم، أكد الله تعالى الأمر به والمساواة فيه بين الناس فى السورة المكية والمدنية. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90]، وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا

حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا «1» وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء: 135]. أمر الله تعالى المؤمنين بالمبالغة فى القيام بالقسط وهو العدل فإن القوام (بتشديد الواو) صيغة مبالغة للفاعل بالقيام بالأمر وعدم التهاون والتقصير فيه، وبأن تكون شهادتهم فى المحاكمات وغيرها لله عزّ وجلّ لا لهوى ولا مصلحة أحد، ولو كانت على أنفسهم أو والديهم والأقربين منهم، وأن لا يحابوا فيها غنيا لغناه تقربا إليه أو تكريما له، ولا فقيرا لفقره رحمة به وشفقة عليه، ونهاهم عن اتباع الهوى فى الحكم أو الشهادة لأجل كراهة العدل فيهما لمراعاة من ذكر من الناس، وأنذرهم عقابه إن لووا- أى مالوا عن الحق أو أعرضوا عنه-. وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المائدة: 8]، فهذه الآية متممة لما قبلها، فهناك يأمر بالمساواة فى العدل والشهادة بين النفس وغيرها، وبين القريب والبعيد، وبين الغنى والفقير، وهاهنا يأمر بالمساواة فيهما بين الإنسان وأعدائه مهما يكن سبب عداوتهم، لا فرق فيها بين دينى ودنيوى، فالشنآن البغض والعداوة وقيل مع الاحتقار، فمعنى قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا لا يحملنّكم بغضهم وعداوتهم لكم أو بغضكم وعداوتكم لهم على ترك العدل فيهم، فالعدل بالمساواة أقرب إلى تقوى الله. وأنذر تارك العدل لأجل الشنآن بمثل ما أنذر به تارة للمحاباة، أنذر كلا منهما بأن الله خبير بما يعمله لا يخفى عليه منه شىء، فهو يحاسبه على عمله وعلى نيته وقصده منه، فيثيبه أو يعاقبه على ما يعلم من أمره. فالعدل هو الميزان فى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ [الشورى: 17]، وقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد: 25] الآية. فخير الناس

_ (1) أن تعدلوا بفتح أن لتقدير لام التعليل وهو قياس والتقدير فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا- أو لئلا تعدلوا، اختلف النحاة فى تقدير الإعراب واتفقوا على أن المراد لا يكون الهوى سببا لترك العدل ويؤكده الآية الثانية.

من يصدهم عن الظلم والعدوان هداية الكتاب وهو القرآن، يليهم من يصدهم العدل الذى يقيمه السلطان، وشرهم من لا علاج له إلا حديد السيف والسنان، والمراد به العقاب. فقوام صلاح العالم بالإيمان بالكتاب الذى يحرم الظلم وسائر المفاسد، فيجتنبها المؤمن خوفا من عذاب الله فى الدنيا والآخرة ورجاء فى ثوابه فيهما، وبالعدل فى الأحكام الذى يردع الناس عن الظلم بعقاب السلطان، وبالحديد، والمراد به القوة التى تصد الثورات والفتن وتحفظ الأمن.

حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه

حظر الظلم فى الإسلام الشواهد على حظر الظلم ومفاسده وعقابه: ويؤيد قاعدة إقامة العدل ما ورد فى تحريم الظلم والوعيد الشديد عليه؛ فقد ذكر الظلم فى مئات من آيات القرآن أسوأ الذكر، وقرن فى بعضها بأسوإ العواقب فى الدنيا والآخرة، وبأن الجزاء عليه فيهما أثر لازم له لزوم المعلوم للعلة، والمسبّب للسبب، وأن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49]، ومن أثره وعاقبته فى الدنيا أنه مهلك الأمم، ومخرب العمران، قال الله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود: 117]، أى ما كان من شأنه ولا من سننه فى نظام الاجتماع أن يهلك الأمم بظلم منه لهم، أو بشرك به يقع منهم «1» وهم مصلحون فى سيرتهم وأعمالهم، وإنما يهلكهم بظلمهم وإفسادهم، كما قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف: 59]، وقال الله تعالى فى الأحكام: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45]، ورد هذا فى حكم القصاص. وحسبنا هذه الشواهد القليلة من الآيات الكثيرة المكررة فى نوعى الظلم، ظلم الأفراد وظلم الأمم، ومن الأول ظلم الإنسان لنفسه وظلمه لغيره، ومنه الظلم فى الحكم والظلم فى القول والعمل من إيذاء بدنى أو مالى أو غيرهما، وفاقا لحكمة التكرار التى بيناها من قبل «2».

_ (1) إشارة إلى قولين للمفسرين. (2) من أراد التفصيل فيه فليراجع خاتمة سورة هود عليه السلام.

قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات

قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات من استقرأ الأحكام الشرعية فى الكتاب والسّنّة بأنواعها من شخصية ومدنية وسياسية وحربية يرى أن الغرض منها كلها قاعدة مراعاة الفضائل فيها من الحق والعدل والصدق والأمان والوفاء بالعهود، والعقود والرحمة والمحبة والمواساة والبر والإحسان، واجتناب الرذائل من الظلم والغدر ونقض العهود والكذب والخيانة والقسوة والغش والخداع، وأكل أموال الناس بالباطل كالربا والرشوة والسحت، وشره وأضره التجارة بالدين والرياء فيه وهو أساس النفاق الدينى الذى هو شر الكفر وأحقره. وأما العقوبات فى الإسلام فهى قسمان؛ (أحدهما): الحدود؛ وهى أقلّها وهى ما فرض من عقاب معين على جرم مبين بالنص كالقتل لحفظ الأنفس، والزنا لحفظ العرض والنسل، والسرقة لحفظ المال، والفساد فى الأرض بقطع الطرق لحفظ الأمن، والسكر لحفظ العقل، وبعض العلماء لا يجعل عقابه حدا لعدم النص فى القرآن ولا فى السنة فى تحديده، والحكمة فى هذه الحدود المعينة إرهاب الأشقياء والفساق، واشترط فى إثبات الزنا شروطا قلّما تتحقق إلا بإقرار الفاعل، وورد فى السنة أمر الزانى بالستر على نفسه وترغيبه عن الإقرار، مع الأمر بدرء الحدود بالشبهات، فقد روى فى الأحاديث المشتهرة مرفوعا من طرق فيها مقال بلفظ: «ادرءوا الحدود بالشبهات» وبلفظ: «ادرءوا الحدود عن عباد الله» وبلفظ: «عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلّوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة». وروى الأخير عن عمر رضى الله عنه وهو مشهور وعليه عامة الفقهاء. وقالوا: إن إقامة الحدود من حق الإمام الأعظم (الخليفة) دون غيره من الحكام. (وثانيهما): التعزير، وهو مفوض إلى اجتهاد الحكام مع وجوب العدل وحفظ المصالح العامة والخاصة وهو الأعم الأشمل. والعبرة فى كل هذه القواعد التى فضل بها الإسلام جميع شرائع الأنبياء وقوانين الحكماء والعلماء، أنها قد جاءت على لسان نبى أمى نشأ بين أميين ليس عندهم شرع منزّل، ولا قانون مدوّن، فهل يعقل أن يكون إلهاما فجأة فى سن الكهولة منبجسا من نفسه، ولم يؤثر عنه قبله شىء من مثله؟

كيف يكون هذا هو مخالف لاستعداد البشر من قبله ومن بعده؟ أم المعقول أنه وحى من ربه؟ ألا إنه لهو وحى ربه كما قال الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 1 - 4].

المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى

المقصد السابع من مقاصد القرآن: الإرشاد إلى الإصلاح المالى تمهيد: بينّا مقاصد القرآن أو أصول فقهه فى إصلاح البشر من طريق التدين والإيمان والعمل والإذعان، ومن طريق العقل والبرهان والفكر والوجدان، ومن طريق الحكم العادل والسلطان، ومن طريق إكمال نوع الإنسان، وما يتعلّق منه بالأفراد، وما يتعلّق منه بوحدة الجماعات والأجناس، وبقى ما يتعلق بفقهه فى إصلاح المفاسد الاجتماعية الكبرى الذى يتوقف كماله على ما تقدّم كله وهى: (1) طغيان الثروة ودولتها. (2) عدوان الحرب وقسوتها. (3) ظلم المرأة واستباحتها. (4) ظلم الضعفة والأسرى وسلب حريتهما، وهو الرقّ المطلق. ذلك بأن جميع حظوظ الدنيا منوطة بها، ولا يتم الإصلاح فيها إلا بتعاون الدين والعقل، والعلم والحكمة والحكم، وإننا نتكلم عليها بالإجمال، مبتدئين بإرشاده فى مسألة المال، والآيات فيها تدور على سبعة أقطاب، وهاك البيان: القطب الأول: القاعدة العامة فى المال؛ كونه فتنة واختبارا فى الخير والشر القاعدة الأساسيّة للقرآن فى المال أنه فتنة، أى اختبار وامتحان للبشر فى حياتهم الدنيوية من معايش ومصالح، إذ هو الوسيلة إلى الإصلاح والإفساد، والخير والشر، والبر والفجور، وهو مثار التنافس فى كسبه وإنفاقه، وكنزه واحتكاره، وجعله دولة بين الأغنياء وتداوله فى المصالح والمنافع بين الناس. وقد كان وما زال مثيرا للعداوات بين الأفراد والجماعات من الأقوام والدول وحلال المشكلات وشفاء المعضلات فيها، حتى ذهب بعض علماء الاجتماع إلى جعله هو السبب

لجميع الانقلابات السياسية والاجتماعية، وكذا الدينية حتى الإسلامية، كما بينت هذا فى التفسير ونقضته بما يعلم برهانه مما هنا، وناهيك من المبالغة فى إكبار أمر المال قول الحريرى فى قصيدة الدينار من المقامة الدينارية: * لولا التقى لقلت جلت قدرته* وقد قصّر علماء الفقه والأدب والتربية من أمتنا فى إعطاء المال حقّه من المباحث المناحى والمقاصد التى دونت فى هذا العصر فى عدة علوم ولكن هذه العلوم ما زادت البشر إلا فسادا، ولا يجدون علاجا لهذا الفساد إلا فى القرآن. قال الله عزّ وجلّ: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 186]، وقال تعالى حكاية عن نبيه سليمان عليه السلام حين رأى عرش ملكة سبأ مستقرا عنده: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل: 40]، وقال الله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37]، وقال الله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم: 39]، وقال الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14]، وقال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]، ومثلها فى سورة [التغابن، الآية: 15]، ويليها الترغيب فى الإنفاق وقصر الفلاح على الوقاية من شح النفس، وقال الله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46]. انظر هذا مع قوله تعالى فى أول هذه السورة وهى الكهف: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7]، والمراد من العمل ما يتعلق بما على الأرض من العمران، وأحسنه أنفعه للناس وأرضاه لله بشكره، ثم ما ضربه فيها من المثل بصاحبى الجنتين، والمثل للحياة الدنيا بنبات الأرض «1». وقال الله تعالى فى تعليل قسمة الفيء بين مستحقيه: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7]، والدولة- بضم الدال- المال المتداول، أى: لئلا يكون المال محصورا فى الأغنياء متداولا بينهم وحدهم (وهذا يسمونه اليوم بالرأسمالية).

_ (1) راجع الآيات: 38 - 46، سورة الكهف.

والشواهد فى فتنة المال فى القرآن كثيرة تجد الكلام عليها فى مواضع من تفسير المنار ولا سيما فى الجزء العاشر منه «1». فمن الآيات فى ارتباط السعادة والفلاح بإنفاق المال، والشقاء بمنعه ما هو للترهيب وما هو للترغيب، وجمع بين الترغيب والترهيب فى قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] «2»، أى إن منع إنفاق المال فى سبيل الله من أسباب التهلكة. ثم قال فى الترغيب: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وكذا قوله تعالى من سورة الليل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [الليل: 5 - 11]. هذا كله تفصيل لقوله تعالى قبله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل: 4]، ومعناه بالإجمال والإيجاز: إنّ سعيكم فى الكسب والإنفاق مختلف مبدأ وصفة وغاية وثمرة، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى، ما عليه من الحقوق الشخصية والقومية والمصالح الواجبة والمندوبة، وَاتَّقى، سوء عاقبة منعها وضرره فى الأفراد وفى الأمة، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، وهى ما وعد الله من الجزاء على الإحسان بما هو أحسن منه من مضاعفة الثواب بمثل قوله: [النجم: 31] وهو شامل لجزاء الدنيا والآخرة فَسَنُيَسِّرُهُ بمقتضى سنتنا فى تأثير صفات النفس من الأعمال، وتأثير الأعمال فى الأحوال الخاصة والعامة لِلْيُسْرى أى الخطة أو الطريقة الفضلى فى اليسر والسهولة والمنفعة له وللناس فيحبه الناس ويحبه الله وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بما عليه من هذه الحقوق وَاسْتَغْنى بماله عن حبّ الناس وحمدهم، وعن حب الله ومثوبته وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى التى بيناها آنفا بعدم طلبها وتحريها بالإعطاء والإنفاق، وإن اعترف بها باللسان فَسَنُيَسِّرُهُ بمقتضى سنتنا المبينة آنفا لِلْعُسْرى من الخطتين، وسوأى الطريقتين فيكون سببا لعسر البشر وعدوا لهم ولربهم، ويكون له شر الجزاء منهم ومنه عزّ وجلّ فى الدارين. ويؤيد ذلك شواهد القطب الثانى من آيات المال وهى:

_ (1) راجع فى الفهرس كلمة المال: فتنته. (2) ص 209 ج 2 تفسير المنار.

القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير

القطب الثانى: ذم طغيان المال وغروره وصده عن الحق والخير قال الله تعالى فى سورة العلق: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7]، أى حقّا إن الإنسان ليتجاوز حدود الحق والعدل والفضيلة برؤية نفسه غنيا بالمال، مستغنيا بعينه وكنزه أو قصره على شهواته عما فى إنفاقه من نفع الناس ومرضاة الله تعالى وثوابه فى الآخرة، وقد نزلت هذه وما بعدها فى أبى جهل أشد أعداء النبى صلّى الله عليه وسلّم والإسلام من أول ظهوره وهى ما أول ما نزل فى ذلك. ومثلها فى سورة المسد: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ [المسد: 1، 2] إلخ «1». ومثلها فى [سورة الهمزة، الآيات: 1 - 3] وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ، نزلت فى الوليد وأمية بن خلف، وكذا قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر: 11 - 17]، وقد نزلت فى الوليد بن المغيرة، وكذا آيات سورة القلم من قوله: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إلى قوله: أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الآيات: 10 - 15]، وكان هؤلاء أغنى زعماء قريش الذين عادوا النبى صلّى الله عليه وسلّم واستكبروا عن أتباعه بغناهم من أول عهده بتبليغ الدعوة، ثم قال الله تعالى فيهم إذ كان يجمع المال منهم أبو سفيان لقتال يوم بدر: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36] وكذلك كان، وفيهم وفى أمثالهم من مترفى أقوام الأنبياء نزل قوله تعالى: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35].

_ (1) تَبَّ: خبر أو دعاء بالتباب وهو خسران يفضى إلى الهلاك، ومعنى تبت يداه: خسر ما جمعه بهما من المال، ومعنى وَتَبَّ وخسر نفسه بعد أن خسر ماله. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ أى: ما منع التبات عنه ماله. وَما كَسَبَ من النتائج والأرباح والجاه والولد الذى ظن أنه ينفقه وكان أمر ابنه بفراق بنت النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد النبوة عداوة له. وما كان أسوأ ما أصابه من التبات: افترس ابنه عتبة أسد فى طريق الشام وقد أحدقت به العير تحمل التجارة. ومات هو بعده بالعدسة بعد غزوة بدر التى ساعد فيها المشركين عليها بماله، وترك ميتا حتى أنتن، ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه. أ. هـ. ملخصا من البيضاوى. وقال: هو إخبار عن الغيب طابق وقوعه.

القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه

ومن الآيات العامة فى غريزة البشر قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النساء: 128]، وقوله من سورة المعارج: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 19 - 21]، الخير المال الكثير، وأكثر الأغنياء منّاعون للمال إلا من استثنى الله بعد هذه الآيات بقوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 22] إلخ. بمثل هذه الآيات ينفر الوعاظ النّاس ويزهّدونهم فى المال والدنيا فيبالغون، وإنما المذموم الغرور والطغيان والبطر والاستكبار عن الحق افتتانا بالمال، ولذلك قرنه فى بعض الآيات بالأولاد، وكذا البخل به والشح، وأكل أموال الناس بالباطل كالربا والرشوة والسحت، وشواهده فى آيات القطب الثالث وهى: القطب الثالث: ذم البخل بالمال والكبرياء به والرياء فى إنفاقه قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: 180]، وقال فى سياق الترغيب فى الإنفاق فى سبيل الله من طيبات الكسب والإخلاص والنهى عن الرياء والمن والأذى فيه: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة: 268]. فسروا الفحشاء بالبخل، أى الشيطان يصدكم عن الإنفاق فى سبيل الله بتخويفكم من الفقر ويأمركم بالبخل الذى فحش شره وضرره، وقال الله تعالى بعد الأمر بالإحسان بالوالدين وبذى القربى واليتامى والمساكين والجيران: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء: 36، 37]، وقال الله تعالى فيمن عاهد الله لئن آتاه من فضله مالا وخيرا ليصدقن منه: فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 76، 77] وقال الله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] أى: وإن تتولوا عن الإنفاق فى سبيل الله يهلككم بزوال دولتكم ويستبدل بكم قوما آخرين ينفقون أموالهم فى المصلحة العامة من الدفاع عن الملة، وإقامة الحق والعدل فى الأمة. وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً

القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح

عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ «1» [النساء: 29]، وقال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، وقال الله تعالى فى اليهود: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ [النساء: 161]، وقال الله تعالى فيهم: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42] مبالغون فى أكل أموال الناس بالباطل وهو يشمل كل ما ليس له مقابل صحيح مشروع ويدخل فيه الغش والحيل والخداع الدنيوى والدينى والرشوة، والسحت- بالضم الحقير الذى يلزم صاحبه العار ويوصف بالخسة فهو يسحت مروءته أى يذهب بها وقد قلت فى وطن الحكام الظالمين من المقصورة الرشيدية: وكيف لا يسحته الله وهم ... للسحت أكالون فيه والرّشا وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35] الوعيد على كنز المال بمنع تداوله والانتفاع العام به وبمنع الحقوق منه «2». القطب الرابع: مدح المال والغنى بكونه من نعم الله وجزائه على الإيمان والعمل الصالح قال الله تعالى فى سورة نوح عليه السلام حكاية عنه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً [نوح: 10 - 12]، وفى معناه ما حكاه عن هود عليه السلام فى سورة [هود، الآية: 52]، بل قال الله تعالى فى بيان نعمته على آدم وحواء وذريتهما بهداية الدين فى آخر قصته من سورة طه: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [123، 124] .. الآيات. فجزاء اتباع هداية الدين الحفظ من شقاء الدنيا والفوز بنعمة المعيشة الراضية فيها، وجزاء من أعرض عنها الشقاء ومعيشة الضنك فيها، وفى معناه قوله تعالى من سورة

_ (1) الباطل ما ليس له مقابل، ومن التجارة مالا ربح فيه، ويحل بالتراضى. (2) راجع تفسيرها فى ص (395 - 410) من الجزء العاشر- تفسير المنار.

[الجن، الآية: 13]: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً، أى لا يهضم حقه، ولا يظلم بذل يرهقه؛ لأن عزة الإيمان تمنعه وتحفظه، وهذا يشمل الدنيا والآخرة، ثم قال فى أمر الدنيا: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً «1» [الجن: 16، 17]. ومن الشواهد على هذه الحقيقة التى غفل عنها المفسرون وغيرهم قوله تعالى: عطفا على الأمر بمنع المشركين من دخول المسجد الحرام: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: 28]، أى وإن خفتم فقرا يعرض لكم بحرمان مكة مما كان ينفقه فيها المشركون فى موسم الحج وغيره فسوف يغنيكم الله تعالى بالإسلام وفتوحه وغنائمه «2». وكذا قوله تعالى للذين أعطوا الفداء من أسرى بدر: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال: 70]، وكذلك كان، فقد أغنى الله العرب الفقراء بالإسلام فجعلهم أغنى الأمم والأقوام «3». وقد امتن الله تعالى على نبيه بالغنى بعد الفقر بقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ [الضحى: 8]، وامتن على قومه بتوفيقهم للتجارة الواسعة برحلة الشتاء والصيف فى سورة خاصة بذلك هى سورة قريش، وسمى المال الكثير خيرا بقوله تعالى فى صفات الإنسان: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8]، وقوله تعالى فيمن يحضره الموت: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ [البقرة: 180]. وإنما كان المؤمنون المتقون لله الشاكرون لنعمه أحقّ بنعم الدنيا من الكافرين لنعمه والفاسقين الظالمين، لأنهم أحقّ وأجدر بالشكر عليها، والشكر استعمال النعمة فى الحكمة التى منحت لأجلها من الحق والعدل والإحسان والبر والعمران، وهو الذى يرضى الله تعالى فيها، ومن سننه تعالى فيها أنّ الشكر لها بهذا المعنى سبب للمزيد منها، وأن الكفر لها بسوء استعمالها سبب لسلبها أو لسلب فوائدها كما قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ

_ (1) هذا معطوف على ما قبله من أول السورة (قل أوحى إلى) أى أوحى إلى أنهم لو استقاموا على الطريقة المثلى التى جاءهم بها الإسلام لوسعنا عليهم الرزق، وأصله الماء الغدق أى الكثير الذى ينبت به الزرع ويدر الضرع- (لنفتنهم) أى نمتحنهم فيه أيشكرون النعم أم يكفرونها، ومن يعرض منهم عن هداية ربه بالقرآن يدخله فى عذاب صعد (بفتحتين) أى شديد المشقة فتكون النعم سببا لتعبه وشقائه. (2) راجع تفسير الآية فى ص 277، ج 10، تفسير المنار. (3) راجع فى ص 100 ج 10 تفسير المنار.

شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] وقال الله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 53]. فالمؤمنون والكافرون يشتركون فى أسباب سعة الرزق وكسب المال من زراعة وصناعة وتجارة؛ لأن هذه الأسباب دنيوية لا تختلف باختلاف الأديان كما قال الله تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء: 20]، أى: ما كان ممنوعا عمن يريد به لذات العاجلة، ولا عمن يريد به سعادة الآخرة، وإنما يفضل بعضهم بعضا فى استعمال المال، فاستعماله فى الفسق والشر والظلم والسرف والخيلاء كفر للنعمة وسبب لمحقها نفسها أو محق بركتها، بكثرة الضرر والفساد المترتب عليها، فمن المشاهد أن أكثر الأغنياء المسرفين الفاسقين يفتقرون أو يصابون بالأدواء أو المصائب المنغصة، وأما الأمم المترفة المسرفة الظالمة فتضعف وقد تفقد استقلالها، واستعماله فى البر والخير سبب للمزيد فيها. وقد حققنا هذا الموضوع فى مواضع أخرى، ومنه قوله تعالى فى الزينة والطيبات من الرزق: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [الأعراف: 32]، أى: هى لهم فى الدنيا بالاستحقاق ويشاركهم فيها غيرهم بمقتضى الأسباب، ولكنها تكون فى الآخرة خالصة لهم «1»؛ لأنهم يتوسلون بالشكر لله عليها إلى سعادتها الكاملة الدائمة. ولولا ذلك لجعل زينة الدنيا خاصة بالكافرين كما قال الله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 33 - 35]. أى ولولا كراهة أن يكون الناس كلهم كفارا بجعل نعيم الدنيا وزينتها للكافرين وحدهم لجعلنا لبيوتهم سقفا وأبوابا من فضة وسلالم من فضة يصعدون عليها إلى غرفات قصورهم، وجعلنا لهم فيها سررا كذلك وزخرفا أى ذهبا، وما كل ذلك إلا متاع الدنيا وهو قليل زائد. بالنسبة إلى نعيم الآخرة العظيم الدائم. ولكن الإنسان يفتتن بالحاضر المشاهد، لذلك جعل الله سعه الدنيا وزينتها بالأسباب الكسبية المشتركة، وجعل المؤمنين أحق بها وأكثر انتفاعا لشكره تعالى عليها بالاعتدال والقصد فى أنفسهم، والتوسعة على غيرهم، كما قررناه آنفا، ويؤيده ما فى القطب الخامس من إرشاد القرآن إلى حفظ المال والاقتصاد فيه.

_ (1) راجع تفسيرها فى ص 298، ج 8، تفسير المنار.

القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه

وهذا التشريع والتثقيف والأدب العالى فى الحضارة الإسلامية يعلو بها على حضارات جميع الأمم المسرفة الفاسقة، فهل كان هذا وما قبله وما يذكر بعده مما نبع من نفس محمد الأمى فى العقد الخامس من عمره، خلافا لطبائع البشر، إذ لم يعهد قط أن يفيض من عقولهم فى هذه السن، ما لم يكونوا فكروا فيه وزاولوه فى سن الصبا والشباب، أم الأقرب إلى عقل المؤمن أن يكون وحيا من الله تعالى؟ كلا الأمرين من الخوارق والعجائب فمن يؤمن بالله يجب عليه أن يقول إنه وحى منه إذ لا يقدر عليه غيره. ومن لا يؤمن به لا يجد أمامه إلا أن يقول إن محمدا أفضل من جميع البشر بنفسه، إذ صدر عنه ما لم يصدر مثله عن غيره، ولا هو من شأن طبيعتهم وغريزتهم فى هذه السن. القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال من الضياع بالإسراف والاقتصاد فيه قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5] قيام الشيء وقوامه- بالكسر والفتح- ما يستقيم به ويحفظ ويثبت، أى جعلها قوام معايشكم ومصالحكم، والسفهاء هم المسرفون المبذرون لها؛ لصغر سنهم دون الرشد أو لفساد أخلاقهم وضعف عقولهم: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: 5 - 6]. الابتلاء التجربة والاختبار، أمر باختبارهم وألا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد ظهور الرشد فى أعمالهم، وهو الصلاح والاستقامة فى معاملاتهم، لئلا يضيعوا الأموال فيما يضر أو فيما لا ينفع. وقال الله تعالى فى صفات المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان: 67]، الإسراف: التبذير والإفراط، والقتر والقتور والإقتار: الإقلال والتضييق فى النفقة، يقال: قتر على عياله، ومثله قدر له بالدال مكان التاء ومنه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [العنكبوت: 62]، وهو مكرر فى عدة سور. وقال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطلاق: 7]، وهذا نزل في النفقة على المرأة المطلقة فى العدة، وهو إرشاد عام، والقاعدة

فى الأصول أن العبرة بدلالة العموم. لا يقيد بخصوص سبب النزول. وقال فى النفقات العامة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3]، و (من) للتبعيض، فكل من الغنى ذى السعة، والفقير ذى العسرة، مأمور بأن ينفق مما آتاه الله لا كل ما آتاه الله، وهذا أعظم الأصول الاقتصاد، فمن أنفق بعض ما يكتسب قلما يفتقر. وتقدم فى وصايا سورة الإسراء الحكيمة ذكر آيات النهى عن التبذير والمبالغة فى بسط اليد والمبالغة فى قبضها، وما لكل منهما من سوء العاقبة، قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء: 26]. ولولا اقتران تلك الوصايا بحكمها وعللها ومنافعها لما سمّيت حكمة، ألا ترى أنه قال عقب النهى عن التبذير: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء: 27]، لأنهم يفسدون نظام المعيشة بإسرافهم، ويكفرون النعمة بعدم حفظها ووضعها فى مواضعها بالاعتدال، ولذلك قال عقبه: وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء: 27]، ثم قال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء: 29] فعلل الإسراف فى الإنفاق بأن عاقبة فاعله أن يكون ملوما من الناس ومحسورا فى نفسه، والمحسور من حسر عنه ستره فانكشف منه المغطى، ويطلق على من انحسرت قوته وانكشفت عن عجزه، والمحسور المغموم أيضا، وكل هذه المعانى تصح فى وصف المسرف فى النفقة، يوقعه إسرافه فى العدم والفقر إلخ، وحسير البصر كليله وقصيره. ويكنى به عمن لا يفكر فى عواقب الأمور. ولو أنّ المسلمين تدبروا هذه الآيات الحكيمة فى الاقتصاد واهتدوا بها لاستغنوا بإرشادها عن جميع الكتب والوصايا فى حفظ ثرواتهم، ولندر أن يوجد فيهم فقير. ولو كان هذا القرآن نابعا من غريزة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورأيه وشعوره لما وجدتها فيه، فقد كان حب البذل والإحسان هو الغالب على طبعه، وصاحب هذه الخليقة قلما يفكر فى الاقتصاد. وإنما هى وصايا رب العباد.

القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان

القطب السادس: (إنفاق المال فى سبيل الله) آية الإيمان والوسيلة لحياة الأمة وعزة الدولة وسعادة الإنسان هذا هو القطب التهذيبى الأعظم من أقطاب الآيات المنزلة فى المال وأكثرها فيه، وما ذكر قبله فهو وسائل له، وما يذكر بعده فهو بيان للعمل به، وأظهر الشواهد فيه أن الله تعالى جعله هو الفصل بين الإسلام الصحيح المقترن بالإذعان، المبنى على أساس الإيمان، وجعل دعوى الإيمان بدون شهادته باطلة، وإن كانت دعوى الإسلام تقبل مطلقا؛ لأن أحكامه العملية تبنى على الظواهر، والله تعالى هو الذى يحاسب على السرائر، وعليها مدار الجزاء فى اليوم الآخر، فالإسلام عمل قد يكون صوريا غير صادر عن إخلاص وإذعان، والإيمان يقين قلبى يستلزم أعمال الإسلام، ولكن الإسلام الصورى الصادر عن استحسان لا عن نفاق، يكون أقرب الوسائل إلى يقين الإيمان، والأصل فى هذه المسألة قول الله عزّ وجلّ: قالَتِ الْأَعْرابُ «1» آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 14، 15]، فقدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس فى تحقيق صحة الإيمان وصدق مدعيه، وقوله: لا يَلِتْكُمْ معناه لا ينقصكم. ويلى هذا الشاهد آية البر الناطقة بأن بذل المال على حبه بالاختيار، أول آيات الإيمان ويليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة التى يجيبها إمام المسلمين وسلطانهم بالإلزام، ويليهما سائر أمهات الفضائل ومعالى الأخلاق، وهى قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] وفى قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ قولان:

_ (1) الأعراب: اسم لسكان البوادى دون سكان المدائن والقرى. والآيات نزلت فى قبيلة بنى أسد. أسلموا عن قحط ومجاعة ليتصدق عليهم المسلمون ثم حسن إسلامهم.

(أحدهما): أعطى المال وبذله على حبه إياه كقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92]. (والثانى): أن الضمير فى حبه لله تعالى كقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8]، أى حب الله تعالى. وتجد بيان الذروة العليا من تفضيل حب الله ورسوله على المال وغيره من متاع الدنيا فى قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [التوبة: 24]. ومن الآيات فى تفضيل المؤمنين المنفقين على غيرهم وتفاوتهم فى ذلك قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: 95]. وقال الله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الحديد: 10]. وقد ذكر إنفاق المال فى وجوه البر والخير من أمر ونهى ووصف فى عشرات من آيات الذكر الحكيم. وكذلك الصدقة وما تصرف منها من فعل ووصف، وكذلك الزكاة وأبلغ من ذلك التعبير عن التصدق والإنفاق بإقراض الله تعالى ووعد مقرضه بالمضاعفة له فى مثل قوله تعالى فى سورة البقرة الآية (2)، وسورة الحديد الآية (11)، وسورة التغابن الآية (17). ومن الآيات البليغة فى الترغيب فيه ومضاعفة ثوابه. وبيان آدابه: عشرون آية من أواخر سورة البقرة. هى من أواخر ما نزل من القرآن يتخللها الوعيد الشديد على أكل الربا، فرجعها من الآيات 261 إلى 281] مع تفسيرها من الجزء الثالث- تفسير المنار «1». ومن البلاء المبين أن نرى الشعوب الإسلامية فى هذه القرون الأخيرة قد قصرت عن جميع الشعوب القوية فى بذل المال للجهاد فى سبيل الله الذى يحفظ استقلالهم ويعتز به ملكهم، وتعلو به كلمة الله تعالى فيهم، ثم فى غيرهم، وفى طرق البر التى ترتقى بها

_ (1) وراجع كلمة المال فى الجزءين 10 و 11 وغيرهما من نفس المرجع.

القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام

أمتهم، وتكون حجّة على سائر الأمم فى تفضيل دينهم على سائر الأديان، وحاجة الأمم إليه لإنقاذ الحضارة من جشع عباد المال، واستذلالهم للملايين من البشر به، وما أفضى إليه من فوضى الشيوعية الدينية والأدبية المشار إليهما فيما يلى: القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال والإصلاح المالى فى الإسلام قد عقدت لتفسير قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] فصلا فى فوائد الزكاة المفروضة والصدقات والإصلاح المالى للبشر وامتياز الإسلام بذلك على جميع الأديان. بينت فيه مكانة المال من حياة الناس، وما له من التأثير فى الثورات والحروب والسياسة والعمران، وغلو بعض الجماعات فى جمعه وادخاره وأنظمته واستغلاله، واستعباد الألوف وألوف الألوف من البشر به، ويدعون فى عرف هذا العصر بالرأسماليين، وقيام جماعات أخرى بالدعوى إلى إبطال النظام الدولى العام فى المال، ووضع نظام آخر لاشتراك جميع الناس فيه ويلقبون بالبلشفيين والشيوعيين، وما بين هذين الفريقين من الجماعات ومن التعادى والخصام. ثم بيّنت أنّ هذه الفتن وما تنذر العالم به من الخراب والدمار لا علاج لها إلا اتباع هداية الإسلام فى الإصلاح المالى، ولخصت أصول هذا الإصلاح فى أربعة عشر أصلا هى: 1 - إقرار الملكية الشخصية وتحريم أكل أموال الناس بالباطل. 2 - تحريم الربا والقمار. 3 - منع جعل المال دولة بين الأغنياء. 4 - الحجر على السفهاء فى أموالهم حتى لا يضيعوها فيما يضرّهم ويضرّ أمتهم. 5 - فرض الزكاة فى أول الإسلام وجعلها اشتراكية مطلقة باعثها الوجدان لا إكراه الحكام، وإنما تكون كذلك حيث لا حكومة ولا دولة للإسلام. 6 - نسخها بعد وجود الدولة والحكومة بالزكاة المحدودة بربع العشر فى النقدين والتجارة فى كل عام ما دام النصاب تاما، وبالعشر ونصف العشر فى غلات الزراعة التى عليها مدار الأقوات أو مطلقا، وزكاة الأنعام المعروفة، وفاتنى هنالك ذكر الخمس فى الركاز، وهو ما ينبش من المال المكنوز القديم والمعدن. 7 - فرض نفقة الزوجية والقرابة.

8 - إيجاب كفاية المضطر من كل جنس ودين وضيافة الغرباء. 9 - بذل المال فى كفارات بعض الذنوب. 10 - ندب صدقات التطوع للمحتاجين. 11 - ذم الإسراف والتبذير، والبخل والتقتير. 12 - إباحة الزينة والطيبات من الرزق بشرطهما، لتوقف ترقى الصناعة والحضارة عليها. 13 - مدح القصد والاعتدال بل إيجابه. 14 - تفضيل الغنى الشاكر على الفقير الصابر اهـ. باختصار. وكنت قد شرحت قبله مصارف الزكاة فى تفسير آيتها: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [التوبة: 60]. ثم عقدت فصلا آخر فى خلاصة السورة «وهى سورة التوبة» المشتملة على هذه الآيات فى أحكام الأموال فى الإسلام يدخل فى ثلاثة أقسام: 1 - المسائل الدينية والاجتماعية فى الأموال. 2 - أنواع الأموال ومصارفها. 3 - فوائد إصلاح الإسلام المالى للبشر. فالرجوع إلى هذه المباحث فى ذلك من التفسير يغنينا عن إعادتها هنا. وخلاصة القول فى هذه القواعد العلمية فى إصلاح ثروة البشر وجعلها خيرا عاما كما سمّاها الله تعالى فى كتابه، واتقاء شرور التنازع عليها- بالوازع الدينى، والتشريع الدولى- إنها هى التى يصلح بها أمر البشر على اختلاف أحوالهم واستعدادهم، فيكونون سعداء فى دنياهم وفى دينهم، ولن تجد مثلها فى دين من الأديان، ولا شىء من كتب القوانين والحكمة البشرية، وإن البشر لعلى خطر عظيم مما سقطوا فيه من التعادى على المال حتى أعيتهم الحيل، وسبيل النجاة ممهدة معبدة أمامهم وهم لا يبصرونها، وهى الإسلام وهداية القرآن: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 251]. وموضوع بحثنا فى هذا المقصد وهو دلائل الوحى المحمدى، أنه لا يعقل أن يكون

محمد النبى الأمى الذى عرفنا خلاصة تاريخه قد اهتدى بوحى من نفسه لنفسه فى العقد السادس من عمره- أى بعد هجرته إلى هذه الحقائق التى قامت وعلت جميع الكتب الإلهية والبشرية والنظم الدولية فى أرقى عصور العلم والحكمة والقوانين، وإنما المعقول عند من يؤمن بأن للعالم ربا حكيما رحيما مدبرا أن يكون هذا بوحى منه عزّ وجلّ أفاضه على خاتم النبيين عند استعداد البشر له. لا يحتاجون بعده إلى وحى آخر.

المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات

المقصد الثامن من مقاصد القرآن إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر نظرة عامة فى فلسفة الحرب والسلم والمعاهدات التنازع بين الأحياء فى مرافق المعيشة ووسائل المال والجاه غريزة من غرائز الحياة، وإفضاء التنازع إلى التعادى بين الجماعات والأقوام سنّة من سنن الاجتماع، أو ضرورة من ضروراته قد تكون وسيلة من وسائل العمران، فإن كان التنازع بين الحق والباطل كان الفلج للحق، وإن كان بين العلم والجهل كان الظفر للعلم، وإن كان بين النظام والاختلال كان النصر للنظام، وإن كان بين الصلاح والفساد كان الغلب للصلاح، كما قال الله تعالى فى الحق والباطل: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء: 18] وقال الله تعالى فى بيان نتيجة المثل الذى ضربه لهما: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «1» [الرعد: 17] وسبق ذكر هذه الآية كلها. وأما التنازع والتعادى والتقاتل على الشهوات الباطلة، والسلطة الظالمة، واستعباد القوى للضعيف، والاستكبار والعلو فى الأرض، فإن ضرره كبير، وشره مستطير، يزيد ضراوة البشر بسفك الدماء، حتى خيف أن تقضى على هذا العمران العظيم فى وقت قصير، بما استحدثه العلم الواسع من وسائل التخريب والتدمير، كالغازات السامة ومواد الهدم والتحريق تقذفها الطيارات المحلقة فى جو السماء، على المدائن المكتظة بالألوف من الرجال والنساء والأطفال، فتقتلهم فى ساعة واحدة أو ساعات معدودة. وقد حارت الدول الحربيّة فى تلافى هذا الخطر حتى إنّ أشدّهنّ استعدادا للحرب بالأساطيل الهوائية والبحرية وآلات التدمير وكثرة الأموال لأشدهن خوفا على حياة أمتها المستعدة بجميع أنواع القتال، وعمران بلادها المحصنة بأحدث وسائل الوقاية، وترى دهاقين السياسة فى كل منها يتفاوضون مع أقرانهم لوضع نظام لتقرير السلام، ودرء مفاسد الخصام، بمعاهدات يعقدونها، وأيمان يتقاسمونها، ثم ينكثون خائبين، أو ينقضون ما ابرموا متأولين، ويعودون إلى مثله مخادعين.

_ (1) الزَّبَدُ بالتحريك ما يكون فى أعلى السيل أو القدر التى تفور من الغثاء والرغوة، و (الجفاء) بالضم ما يقذفه الوادى أو القدر من جوانبهما عند امتلائهما من ذلك وهو ما لا نفع فيه، وأما إبليز السيل الذى يرسب، ومنه إبريز الصائغ من الذهب الذى توقد النار عليه لتصفيته وهو النافع للناس فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ويبقى فى بوط الصائغ (بوتقته).

أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان

أعجوبة القرآن فى فساد معاهدات الزمان: وقد بين الله تعالى فى كتابه سبب هذه الخيبة بما وجدنا مصداقه فى هذه الدول الأوروبية بأظهر مما كان فى عرب الجاهلية الذى نزل هذا البيان فى عهدهم، كأنه نزل فى هؤلاء الإفرنج دون غيرهم، وهو من عجائب القرآن لى لفظه ومعناه، وذلك قوله تعالى بعد الأمر بالإيفاء بعهده، والنهى عن نقضه: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: 92] والمعنى: لا تكونوا فى نقض عهودكم والعود إلى تجديدها كالمرأة الحمقاء التى تنقض غزلها من بعد قوة إبرامه نقض أنكاث «وهو جمع نكث بالكسر ما نقض ليغزل مرة أخرى» حال كونكم تتخذون عهودكم دخلا بينكم «والدخل التحريك بالفساد والغش الخفى الذى يدخل فى الشيء وما هو منه» لأجل أن تكون أمة أربى وأزيد رجالا، وأكثر ربحا ومالا، وأقوى أسنة ونصالا، من أمة أخرى. والمراد أن معاهدات الصلح والاتفاق بين الأمم يجب أن يقصد بها الإصلاح والعدل والمساواة، فتبنى على الإخلاص دون الدخل والدغل الذى يقصد به أن تكون أمة هى أربى نفعا وأكثر عددا وجمعا من الأمة الأخرى، وهو ما عليه هذه الدول فى جميع معاهداتها ولا سيما المعاهدة الأخيرة بعد الحرب للعامة (معاهدة فرسايل). ولو طلبوا المخرج والسلامة من هذا الحظر لوجدوهما فى دين الإسلام، فهو هو دين الحق والعدل والسلام، وهاك بعض القواعد الحرب والسلم فى القرآن.

أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن

أهم قواعد الحرب والسلام فى دين الإسلام، وشواهدها من القرآن قد استنبطنا من آيات سورة ا [الأنفال: 28] قاعدة من القواعد الحربية والعسكرية والسياسية فى القتال والصلح والمعاهدات أجملناها فى الباب السابع من خلاصة تفسير السورة، وأحلنا فى تفصيلها على تفسير الآيات المستنبطة منها، ثم استنبطنا من آيات سورة [التوبة: 13] قاعدة حربية أكثرها فى المعاهدات ووجوب الوفاء بها وشرط نبذها، وفى الهدنة وتأمين الحربى للدخول فى دار الإسلام، و 20 حكما من أحكام الحرب والجزية سردناها فى خلاصة تفسير هذه السورة «1» نكتفى هنا ببضع قواعد منهما ومن غيرهما من السور، لأن المقام مقام إيراد الشواهد المجملة على أنواع الإصلاح الإسلامى من القرآن للاستدلال به على أن جملة هذه العلوم لا يعقل أن تكون كلها من آراء محمد النبى الأمى الذى عاش قبل النبوة عيشة العزلة والانفراد، إلا قليلا من رعى الغنم فى الصبا والتجارة فى الشباب، وقد قصرت عن كل نوع منها كتب الأديان الإلهية، وكتب الحكمة والقوانين البشرية، فنقول: القاعدة الأولى: فى الحرب المفروضة على الأعيان ورد الأمر بقتال المعتدين لكف عدوانهم ولما سيأتى من درء المفاسد وتوطيد المصالح مقترنا بالنهى عن قتال الاعتداء والبغى والظلم، والشاهد عليه قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]، وتعليل النّهى عن قتال الاعتداء بأن الله تعالى لا يحب المعتدين مطلقا دليل على أن هذا النهى محكم غير قابل للنسخ. ومن ثم بينّا فى تفسير هذه الآية من جزء التفسير الثانى أن حروب النبى صلّى الله عليه وسلّم للكفار كانت كلها دفاعا ليس فيها شىء من العدوان، ثم فصلت فى تفسير آية السيف من سورة التوبة: أن قتال مشركى العرب ونبذ عهودهم بعد فتح مكة كان جاريا على هذه القاعدة. مع كون سياسة الإسلام فى العرب غير سياسته فى سائر الأقوام، من حيث إرادة إسلامهم باختيارهم، وإبطال ما كانوا عليه من الشرك غير المقيد بشرع متّبع، وإرادة جعل

_ (1) تراجع فى ص 123 و 139، 144 ج 10 من تفسير المنار.

القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها

جزيرتهم معقلا للإسلام وحده على اتساع سياسته مع غيرهم بإقرارهم على أوطانهم وأديانهم. وبينت فيه أن بعض الصحابة كان قد ثقل عليهم نبذ عهود المشركين المقتضى لقتالهم مع سبقهم لنقض العهد مع النبى صلّى الله عليه وسلّم حتى بيّن الله لهم ذلك بأنهم إنما نقضوا عهده ونكثوا أيمانهم؛ لأنهم لا عهود لهم يلتزمونها بعقيدة وجدانية، ولا نظام متبع، وقال الله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التوبة: 13] أى بالقتال ثم بنقض العهد فهم المعتدون «1». وإنما اشتبه على الغافلين الأمر بما كان فى بعض الغزوات والسرايا من بدء المسلمين بها ذاهلين عن حالة الحرب بينهم وبين المشركين باعتداء المشركين الأول واستمراره، فالدفاع لا يشترط أن يكون فى كل معركة وكل حركة. وهذا الذى كان فى آخر أحكام القتال معهم يؤيد ما نزل فى أول الإذن للمسلمين بالقتال وهو قوله تعالى فى [سورة الحج، الآيتان: 39، 40]: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وتتمة الآيات فى القاعدة الثانية. ولما نقضوا العقد الذى عقده النبى صلّى الله عليه وسلّم معهم فى الحديبية فى أواخر سنة ست للهجرة وعزم على فتح مكة سنة ثمان نزلت سورة الممتحنة (60) فى النهى عن ولاية المشركين، وفيها التصريح بأن النهى خاص بالذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من وطنهم لأجل دينهم، فهو نهى عن موالاتهم ومودتهم دون البر والعدل إلى كل مشرك. فتأمل الآيات 7، 8، 9 منها. القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب ونتيجتها هى أن تكون الغاية الإيجابية من القتال- بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن- حماية الأديان كلها من الاضطهاد فيها أو الإكراه عليها، وعبادة المسلمين لله وحده وإعلائهم كلمته، وتأمين دعوته، وتنفيذ شريعته، وهى فى مصلحة البشر كلهم وإسداء الخير إليهم، لا الاستعلاء عليهم والظلم لهم.

_ (1) راجع تفسير هذه الآيات، من أوائل سورة التوبة فى الجزء العاشر- تفسير المنار.

والشاهد الأول قوله تعالى بعد ذلك الإذن لهم بالقتال الذى تلوناه آنفا: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40، 41]. ذكر فى تعليل إذنه لهم بالقتال المذكور ثلاثة أمور: (أولها): كونهم مظلومين معتدى عليهم فى أنفسهم، ومخرجين نفيا من أوطانهم وأموالهم لأجل دينهم وإيمانهم، وهذا سبب خاص بهم بقسميه الشخصى والوطنى، أو الدينى والدنيوى. وقد جعلنا هذه الغاية للقتال قاعدة مستقلة من قواعد سورة الأنفال معبرين عنها «بحرية الدين ومنع فتون أحد واضطهاده لإرجاعه عن دينه»، واستدللنا عليها بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: 39] وقد كان المشركون يضطهدون المسلمين بكل ما قدروا عليه من الإيذاء والتعذيب لأجل ردهم عن دينهم، وأما المسلمون فلم يفعلوا ذلك فى الصدر الأول، ومن عساه شذ عن ذلك قليلا بعده فقد خالف حكم الإسلام الذى حرم الفتنة والاضطهاد والإكراه فى الدين وشرع فيه الاختيار، بل جعله شرطا لصحته. (ثانيها): أنه لولا إذن الله للناس بمثل هذا الدفاع لهدمت جميع المعابد التى يذكر فيها اسم الله تعالى اتباع الأنبياء كصوامع العباد، وبيع النصارى، وصلوات اليهود «كنائسهم» ومساجد المسلمين. بظلم عباد الأصنام. ومنكرى البعث والجزاء، وهذا سبب دينى عام صريح فى حرية الأديان فى الإسلام، وحماية المسلمين لها ولمعابد أهلها. وكذلك كان. (فإن قيل): ولماذا لم يقر الإسلام المشركين على دينهم كما أقر اليهود والنصارى والمجوس؟ (قلت): إن الشرك الذى كان عليه العرب لم يكن دينا مبنيا على عبادة الله ومصلحة عباده كسائر الأديان حتى التى خالطها الشرك. فإنهم لم يكونوا يؤمنون بالبعث والجزاء على الأعمال عند الله تعالى على قاعدة «إن خيرا فخير. وإن شرا فشر»، ولا كانوا يدينون الله تعالى بعمل الصالحات وتحريم المنكرات فأصول الدين العامة قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62].

القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب

(ثالثها): أن يكون غرضهم من التمكن فى الأرض والحكم فيها إقامة الصلاة المزكية للأنفس بنهيها عن الفحشاء والمنكر كما وصفها الله تعالى، والمربية للأنفس فى مراقبة الله وخشيته ومحبته، وإيتاء الزكاة المصلحة للأمور الاجتماعية والاقتصادية، والأمر بالمعروف الشامل لكل خير ونفع للناس، والنهى عن المنكر الشامل لكل شر وضر يلحق صاحبه أو غيره من الناس. إنّ جميع الدول الحربية تدعى بعض هذه المقاصد العالية فى حروبها رياء وابتغاء لحسن السمعة، ولكنّ أفعالها تكذب دعاويها كلها، ولا سيما النهى عن المنكر فهى تبيح للناس- الذين تمكنها القوة الحربية فى بلادهم- جميع المنكرات والفواحش التى تفسد الأخلاق والآداب وروابط الاجتماع بل تحول بينهم وبين العلم والتهذيب والصلاح بقدر الطاقة، إلا تعليم لغاتها وتاريخ عظمتها وديانة شعبها، لأجل هدم مقوماتهم المالية والقومية حتى لا يرجى لهم النّجاة من رق الاستعمار وذلّه. ولا ليكونوا مساوين للفاتح المستعمر فى العلم والثروة والعزة والقوة، كما هو معروف فى جميع الممتلكات والمستعمرات الأوروبية خلافا لما كان عليه المسلمون الأولون فى فتوحهم من العدل المطلق. القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب هذه القاعدة مبنية على القاعدتين اللتين قبلها إذ علم بهما أنّ الحرب ضرورة يقتضيها ما ذكر فيهما من المصالح ودرء المفاسد، وأن السلم هى الأصل التى يجب أن يكون عليها الناس، فلهذا أمرنا الله بإيثارها على الحرب وإذا جنح العدو لها ورضى بها، والشاهد عليه قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) [الأنفال: 61] فراجع تفسيرها في ص 69، 140 من جزء التفسير العاشر. القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب لأجل الإرهاب المانع منها إن الذي يجب أن تكون عليه الدولة قبل الحرب هو إعداد الأمة كل ما تستطيع من أنواع القوة الحربية ومن رباط الخيل فى كل زمان بحسبه على أن يكون القصد الأول من ذلك إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدى على بلادها أو مصالحها أو على أفراد منها أو متاع أو مصلحة لها حتى فى غير بلادها، لأجل أن تكون آمنة فى عقر دارها على دماء أهلها ومصالحها وأموالها، مطمئنة فى حريتها بدينها، وهذا ما يسمى فى عرف هذا العصر

القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب

بالسلم المسلحة أو التسليح السلمى، وتدعيه الدول العسكرية فيه زورا وخداعا فتكذبها أعمالها، ولكن الإسلام امتاز على الشرائع كلها بأن جعله دينا مفروضا، فقيد به الأمر بإعداد القوى والمرابطة للقتال، وذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]، فراجع تفسيرها فى ص 61 ج 10 تفسير المنار أيضا. القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب إذا كان الغلب والرجحان فى القتال للمسلمين المعبر عنه بالإثخان فى الأعداء، وأمنوا على أنفسهم ظهور العدو عليهم، فالله تعالى يأمرهم أن يكفوا عن القتل، ويكتفوا بالأسر، ثم يخيرهم فى الأسارى إما بالمن عليهم بإطلاقهم بغير مقابل، وإما بأخذ الفداء عنهم، وذلك نص قوله تعالى فى [سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم، الآية: 4]: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ «1»، وقد أوردناها وبينا معناها فى تفسير [الآية: 67، من سورة الأنفال] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ص 73 ج 10 تفسير المنار. القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة فيها وجوب الوفاء بالعهود فى الحرب والسلم وتحريم الخيانة فيهما سرا أو جهرا، كتحريم الخيانة فى كل أمانة مادية أو معنوية من أحكام الإسلام القطعية، والآيات فى ذلك متعددة محكمة لا تدع مجالا لإباحة نقض العهد بالخيانة فيه وقت القوة، وعده قصاصة ورق عند إمكان نقضه بالحيلة «منها» قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ

_ (1) أذاع أعداء الإسلام فيما تجنوا به عليه أن معنى هذه الآية أن القرآن يأمر أتباعه أن يقتلوا الكفار حيثما لقوهم، حتى إن لورد كرومر الشهير الذى كان عميد الدولة البريطانية بمصر ذكر هذا فى خطبة له. وإنما الآية فى لقاء الأعداء الحربيين فى القتال، والكفار فى شرع الإسلام ثلاثة أصناف، حربيون: وتعرف أحكامهم من هذه القاعدة وما قبلها- ومعاهدون: ويعرف بعض أحكامها مما بعدها، ومنهم المستأمنون، وذميون: وهم الذين يدخلون فى حكم المسلمين، وقد تقدم أن الإسلام يسوى بينهم وبين المسلمين فى جميع أحكامه القضائية والسياسية، ويوجب حمايتهم والدفاع عنهم حتى بالقتال لمن يعتدى على دينهم أو أنفسهم أو أموالهم.

القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة

تَوْكِيدِها [النحل: 91]، جمع بين الأمر بالإيفاء بها والنهى عن نقضها، ثم أكد ذلك بالمثل البليغ فى قوله تعالى فى الآية التى تليها: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها [النحل: 92]، وقد بيناه آنفا فى مقدمة هذا المقصد، «ومنها» أنه وصف المؤمنين الأبرار بقوله فى آية البر: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [البقرة: 177]، «ومنها» أنه عاب اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وجعلهم من شر الدواب [الأنفال: 55، 56]، «ومنها»: أنه لما أمر بنبذ عهود المشركين الذين نقضوا عهد النبى والمؤمنين استثنى منهم المعاهدين على كونهم أهل دار واحدة فقال الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4]، ثم قال الله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 7]، وبلغ من تأكيد الوفاء بالعهود أن الله تعالى لم يبح لنا أن ننصر إخواننا المسلمين غير الخاضعين لحكمنا على المعاهدين لنا من الكفار كما قال الله تعالى فى غير المهاجرين منهم: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ «1» [الأنفال: 72]، فهل يوجد وفاء بالعهود أعظم من هذا فى حكومة دينية بأمر الله تعالى؟ القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة قلت فى تفسير قوله تعالى فى قتال أهل الكتاب فى آية الجزية: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] ما نصه: «هذا غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهى بها إذا كان الغلب لنا، أى: قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضى وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم وحرية دعوتكم، كما فعل الروم فكان سببا لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية فى الحالين اللتين قيدت بهما، فالقيد الأول لهم: وهو أن تكون صادرة عن يد، أى قدرة وسعة فلا يظلمون ولا يرهقون. والثانى لكم: وهو الصغار المراد به حصد أو كسر شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم، وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم التى يرونكم بها أقرب إلى هداية أنبيائهم منهم، فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل

_ (1) راجع تفسيرها فى صفحة 108 ج 10 تفسير المنار.

حكمة الجزية وسببها وما تسقط به

والاتحاد، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة فى العدل، ولم يكونوا حائلا دونهما فى دار الإسلام. والقتال لما دون هذه الأسباب التى يكون بها وجوبه عينيا أولى بأن ينتهى بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وحريتهم فى دينهم بالشروط التى تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمون أهل الذمة لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأما الذين يعقد الصلح بيننا وبينهم عهد وميثاق يعترف به كل منا ومنهم باستقلال الآخر فيسمون بأهل العهد والمعاهدين «1». حكمة الجزية وسببها وما تسقط به: هذا- وإن الجزية فى الإسلام لم تكن كالضرائب التى يضعها الفاتحون على من يتغلبون عليهم فضلا من المغارم التى يرهقونهم بها، وإنما هى جزاء قليل على ما تلتزمه الحكومة الإسلامية من الدفاع عن أهل الذمة وإعانة للجند الذى يمنعهم أى يحميهم- ممن يعتدى عليهم، كما يعلم من سيرة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة وأعدلهم فى تنفيذها، والشواهد على ذلك كثيرة أوردنا طائفة منها فى تفسير الآية بعد ما تقدم آنفا. «منها» ما كتبه خالد بن الوليد رضى الله عنه «الصلوبا بن نسطونا» حينما دخل الفرات وهو: «هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إنى عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا، وكتب سنة اثنتى عشرة فى صفر» أ. هـ، وهو صريح فى أن الجزية جزاء على المنعة والحماية تدوم بدوامها، وتمتنع بزوالها. ويؤيده بالعمل ما ذكره البلاذرى فى فتوح البلدان، والأزدى فى فتوح الشام من ردّ الصحابة رضى الله عنهم لما كانوا أخذوه من أهل حمص من الجزية حين اضطروا إلى تركهم لحضور وقعة اليرموك بأمر أبى عبيدة رضى الله عنه وقد صرّحوا لهم أنهم قد أخذوها جزاء منعتهم فوجب ردها للعجز عن هذه المنعة. فعجب أهل حمص- نصاراهم ويهودهم- أشد العجب من رد الفاتحين أموالهم إليهم ودعوا لهم بالنصر على الروم.

_ (1) راجع القواعد فى 6 - 9 ص 140 و 141 ج 10 تفسير المنار، وما تحيل عليه من الآيات.

فظهر بما ذكرنا أنّ الإسلام حرّم حرب الاعتداء والظلم، وقصر حرب الدفاع على دفع المفاسد وتقرير المصالح العامة للبشر فجعلها ضرورة تقدر بقدرها، وأن السلام الصحيح الشريف لا يمكن تمتع العالم به إلا بهداية الإسلام، ووضع قوانين الحرب على قواعده. ومن تأمل هذه القواعد رأى أنه لم يسبق الإسلام إلى مثلها دين من الأديان ولا قانون دولى، ولا إرشاد فلسفى أو أدبى، ولا تبعته بها أمة بتشريع ولا عمل عرفى. أفليس هذا وحده دليلا واضحا لدى من يؤمن بوجوب رب للبشر عليم حكيم، بأن محمدا العربى الأمى قد تلقاها بوحى منه عزّ وجلّ، وأنّ عقله وذكاءه لم يكن ليبلغ هذه الدرجة من العلم والحكمة فى هذه المعضلات الاجتماعية بدون هذا الوحى؟ فكيف إذا أضفنا إليها ما تقدم، وما يأتى من المعارف الإلهية والأدبية والاجتماعية والأنباء الغيبية وغير ذلك من دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم؟.

المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية

المقصد التاسع من مقاصد القرآن إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية كانت النّساء قبل الإسلام مظلومات ممتهنات مستعبدات عند جميع الأمم وفى جميع شرائعها وقوانينها حتى عند أهل الكتاب، إلى أن جاء الإسلام، وأكمل الله دينه ببعثه خاتم النبيين محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فأعطى الله النّساء بكتابه الذى أنزله عليه، وبسنته التى بين بها كتاب الله تعالى بالقول والعمل، جميع الحقوق التى أعطاها للرجال إلا ما يقتضيه اختلاف طبيعة المرأة ووظائفها النسوية من الأحكام، ومع مراعاة تكريمها والرحمة بها والعطف عليها، حتى كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم». رواه ابن عساكر من حديث علىّ كرّم الله وجهه. كان كبار العقول من الصحابة رضى الله عنهم يرون ما أصلحه الإسلام من فساد وظلم ورذيلة فى الأمة العربية فيكبرونه إكبارا ويعدونه من دلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ لم يكن يمتاز عليهم قبل النبوة بشيء من العلم لا البلاغة، بل بالأخلاق وسلامة الفطرة فقط، ولذلك كان عمر بن الخطاب المصلح الكبير، والمنفذ الأعظم لسياسة الإسلام وهدى محمد صلّى الله عليه وسلّم من بعده فى الفتوح والعدل وإدارة شئون الشعوب يقول: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ فى الإسلام من لم يعرف الجاهلية»، ولو كان رضى الله عنه واقفا على تواريخ الأمم والشعوب لعلم أن ما جاء به الإسلام إنما هو إصلاح لشئون البشر كافة، وثنيهم وكتابيهم، همجيهم وحضريهم، لا فى شىء واحد بل فى كل شىء، وإننى أشير هنا إلى أهم أصول الإصلاح النسوى التى بسطتها فى كتاب وسيط فى حقوق النساء فى الإسلام سميته (نداء للجنس اللطيف)؛ بينت فى مقدمته حالهن قبل البعثة المحمدية عند أمم الأرض إجمالا بقولى: «كانت المرأة تشترى وتباع، كالبهيمة والمتاع، وكانت تكره على الزواج وعلى البغاء وكانت تورث، ولا ترث، وكانت تملك ولا تملك، وكان أكثر الذين يملكونها يحجرون عليها التصرف فيما تملكه بدون إذن الرجل، وكانوا يرون للزوج الحق فى التصرف بمالها من دونها، وقد اختلف الرجال فى بعض البلاد فى كونها إنسانا ذا نفس وروح خالدة كالرجل أم لا؟ وفى كونها تلقن الدين وتصح منها العبادة أم لا؟ وفى كونها تدخل الجنة أو الملكوت فى الآخرة أم لا؟ فقرر أحد المجامع فى رومية أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود،

ولكن يجب عليها العبادة والخدمة، وأن يكون فمها كالبعير والكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام لأنها أحبولة الشيطان، وكانت أعظم الشرائع تبيح للوالد بيع ابنته، وكانت بعض العرب يرون أن للأب الحق فى قتل بنته بل فى وأدها «دفنها حية» أيضا. وكان منهم من يرى أنه لا قصاص على الرجل فى قتل المرأة ولا دية». وكتبت فى مقدمة الكلام على حقوق النساء المالية فى الإسلام ما نصه: «وقد أبطل الإسلام كل ما كان عليه العرب والعجم من حرمان النساء من التملك أو التضييق عليهن فى التصرف بما يملكن، واستبداد أزواج المتزوجات منهن بأموالهن. فأثبت لهن حق التملك بأنواعه، والتصرف بأنواعه المشروعة، فشرع الوصيّة والإرث لهن كالرجال، وزادهن ما فرض لهن على الرجال من مهر الزوجية والنفقة على المرأة وأولادها وإن كانت غنية، وأعطاهن حق البيع والشراء والإجازة والهبة والصدقة وغير ذلك. ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها كالدفاع عن نفسها بالتقاضى وغيره من الأعمال المشروعة، وأن المرأة الفرنسية لا تزال إلى اليوم مقيدة بإرادة زوجها فى جميع التصرفات المالية، والعقود القضائية. وإننى ألخص من ذلك الكتاب المسائل الآتية بالإيجاز، ولمن شاء مراجعتها فيه بطولها. 1 - كان بعض البشر من الإفرنج وغيرهم يعدون المرأة من الحيوان الأعجم أو من الشياطين لا من نوع الإنسان، وبعضهم يشك فى ذلك فجاء محمد صلّى الله عليه وسلّم يتلو عليهم أمثال قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء: 1]. 2 - كان بعض البشر فى أوروبا وغيرها يرون أن المرأة لا يصح أن يكون لها دين، حتى كانوا يحرمون عليها قراءة الكتب المقدسة رسميا، فجاء الإسلام يخاطب بالتكاليف الدينية الرجال والنساء معا بلقب المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والآيات فى ذلك معروفة. كان أول من آمن بمحمد خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم امرأته، وهى زوجته خديجة بنت خويلد رضى الله عنها، وقد ذكر الله تعالى مبايعته صلّى الله عليه وسلّم للنساء فى نص القرآن ثم بايع الرجال بما جاء فيها ولما جمع القرآن فى مصحف واحد جمعا رسميا وضع عند امرأة هى حفصة أم المؤمنين، وظل عندها من عهد الخليفة الأول أبى بكر الصديق إلى عهد الخليفة الثالث

عثمان رضى الله عنهم فأخذ من عندها واعتمدوا عليه فى نسخ المصاحف الرسمية التى كتبت وأرسلت إلى الأمصار لأجل النسخ عنها والاعتماد عليها. 3 - كان بعض البشر يزعمون أن المرأة ليس لها روح خالدة فتكون مع الرجال المؤمنين فى جنة النعيم فى الآخرة- وهذا الزعم أصل لعدم تدينها- فنزل القرآن يقول: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء: 123، 124]، ويقول الله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران: 195]، وفيها الوعد الصريح بدخولهن جنات تجرى من تحتها الأنهار .. 4 - كان بعض البشر يحتقرون المرأة فلا يعدونها أهلا للاشتراك مع الرجال فى المعابد الدينية، والمحافل الأدبية، ولا فى غيرهما من الأمور الاجتماعية والسياسية، والإرشادات الإصلاحية، فنزل القرآن يصالحهم بقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]. فأثبت للمؤمنات الولاية المطلقة مع المؤمنين، وتدخل فيها ولاية النصرة فى الحرب، ولكن الشرع أسقط عنهن فريضة القتال فكان حظهن من النصرة تهيئة الطعام والشراب للمقاتلين ومداواة جرحاهم، وكن يصلين الجماعة مع الرجال ويحججن معهم، ويأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر، حتى أن بعضهنّ كن ينكرون على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قوله جهرا، فيرجع عنه إذا كان خطأ، وهو الذى كان يهابه الرجال كالنساء. وقد قفى الله تعالى على هذه الآية بأعظم آية فى جزاء الفريقين جمعت بين بيان النعيم الجسمانى والنعيم الروحانى وهى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72]. 5 - كان بعض البشر يحرمون النساء من حق الميراث وغيره، وبعضهم يضيّق عليهن حق التصرف فيما يملكن، فأبطل الإسلام هذا الظلم، وأثبت لهن حق التملك والتصرف

بأنفسهن فى دائرة الشرع، قال الله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 7]. ونحن نرى أن دولة الولايات المتحدة الأمريكية لم تمنح النساء حق التملك والتصرف إلا من عهد قريب فى عصرنا هذا «1»، وأنّ المرأة الفرنسية لا تزال مقيدة بإرادة زوجها فى التصرفات المالية والعقود القضائية، وقد منحت المرأة المسلمة هذه الحقوق منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف قرن. 6 - كان الزواج فى قبائل البدو وشعوب الحضارة ضربا من استرقاق الرجال للنساء فجعله الإسلام عقدا دينيا مدنيا لقضاء حقّ الفطرة بسكون النفس من اضطرابها الجنسى بالحب بين الزوجين وتوسيع دائرة المودة والألفة بين العشيرتين، واكتمال عاطفة الرحمة الإنسانية وانتشارها من الوالدين إلى الأولاد، على ما أرشد إليه قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]. 7 - القرآن ساوى بين المرأة والرجل باقتسام الواجبات والحقوق بالمعروف مع جعل حق رئاسة الشركة الزوجية للرجل؛ لأنه أقدر على النفقة والحماية بقول الله عزّ وجلّ فى الزوجات: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228]، وقد بين هذه الدرجة بقوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: 34] فجعل من واجبات هذه القيامة على الزوج نفقة الزوجة والأولاد، لا تكلف الزوجة منه شيئا ولو كانت أغنى منه، وزادها المهر، فالمسلم يدفع لامرأته مهرا عاجلا مفروضا عليه بمقتضى العقد حتى إذا لم يذكر فيه لزمه مهر مثلها فى الهيئة الاجتماعية، ولهما أن يؤجلا بعضه بالتراضى، على حين ترى بقية الأمم حتى اليوم تكلف المرأة دفع المهر للرجل. وكان أولياء المرأة يجبرونها على التزوج بمن تكره أو يعضلونها بالمنع منه مطلقا وإن كان زوجها وطلقها، فحرم الإسلام ذلك، والنصوص فى هذا معروفة فى كلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم وسنته. 8 - كان الرجال من العرب وبنى إسرائيل وغيرهم من الأمم يتخذون من الأزواج ما شاءوا غير مقيدين بعدد، ولا مشترط عليهم فيه العدل، فقيدهم الإسلام بأن لا يزيدوا على

_ (1) طبع هذا الكتاب أول مرة فى أوائل القرن العشرين عام 1935 م.

أربع، وأن من خاف على نفسه أن لا يعدل بين اثنتين وجب عليه الاقتصار على واحدة، وإنما أباح الزيادة لمحتاجها القادر على النفقة والإحصان لأنها قد تكون ضرورة من ضرورات الاجتماع فى أحوال. منها: أن تكون الأولى عقيما أو تدخل فى سن اليأس من الحمل. أو تكون ذات مرض مانع منه، أو من إحصان الرجل، وقد يكون التعدد من مصالح النساء خاصة إذا كثرن فى أمة أو قبيلة كما يكون فى أعقاب الحروب، أو هجرة كثير من الرجال لأجل الكسب. وناهيك بأمة تحرم شريعتها الزنا وتعاقب عليه، فهل من مصلحة النساء أو الإنسانية أن تبقى النساء الزائدات على عدد الرجال محرومات من الحياة الزوجية وحصانتها، وكفالة الأزواج، ومن نعمة الأمومة؟ وهل من المصلحة أو المنفعة العامة أو الخاصة أن يباح لهن الزنا وما يترتب عليه من المصائب البدنية والاجتماعية التى نراهن مرهقات برجسها فى بلاد الإفرنج والبلاد التى ابتليت بسيطرتهم عليها أو تقليدها لهم؟. وقد فصلنا ذلك فى تفسير آية التعدد من سورة النساء، ثم زدنا عليه فى كتاب «حقوق النساء فى الإسلام» ما هو مقنع لكل عاقل منصف بأن ما شرعه الإسلام فى التعدد هو عين الحق والعدل ومصلحة البشر كافة والنساء خاصة، فهو قد أباح ذلك بشرطه الشديد ولم يوجبه، وهن فى شريعته مخيرات فى قبول العقد على رجل متزوج وعدمه، بل تجيز الشريعة للمرأة أن تشترط فى عقد نكاحها جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت بناء على ما ذهب إليه بعض أئمة الفقه فى صحة كل شرط يتعاقد عليه الناس غير مخالف لنص قطعى فى الكتاب والسنة ولا سيما شروط الزوجية عملا بحديث: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج». رواه البخارى فى مواضع من صحيحه وأصحاب السنن. 9 - الطلاق قد يكون ضرورة من ضروريات الحياة الزوجية إذا تعدل على الزوجين القيام بحقوق الزوجية من إقامة حدود الله، وحقوق الإحصان والنفقة والمعاشرة بالمعروف، وكان مشروعا عند أهل الكتاب والوثنيين من العرب وغيرهم، وكان يقع النساء منه وفيه ظلم كثير وغبن يشق احتماله فجاء الإسلام فيه بالإصلاح الذى لم يسبقه إليه شرع ولم يلحقه بمثله قانون، وكان الإفرنج يحرمونه ويعيبون الإسلام به، ثم اضطروا إلى إباحته، فأسرفوا فيه إسرافا منذرا بفوضى الحياة الزوجية وانحلال روابط الأسرة والعشيرة، ومما نقلته الصحف من أسباب حكم القضاة بالطلاق عندهم مسائل شعر رأس المرأة ووجه الرجل فى إرساله أو قصه وحلقه وشكوى المرأة من اشتغال الرجل عنها بمطالعته الكتاب أو الصحف فى الدار،

وشكواها من نتن رائحته لعدم استحمامه، وشكوى الرجل من كثرة كلام المرأة حتى بالمسرة (التليفون) ومثله كثير «1». جعل الإسلام عقدة النكاح بيد الرجال ويتبعه حق الطلاق لأنهم أحرص على بقاء الزوجية بما تكلفهم من النفقات فى عقدها وحلها وكونها أثبت من النساء جأشا وأشد صبرا على ما يكرهون، وقد أوصاهم الله تعالى فوق هذا بما يزيدهم قوة على ضبط النفس وحبسها على ما يكرهون من نسائهم فقال الله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء: 19]، وأعطت الشريعة المرأة حق طلب فسخ عقد الزواج من القاضى إذا وجد سببه من العيوب الخلقية أو المرضية كالرجل، وكذا إذا عجز الزوج عن النفقة. وجعلت للمطلقة عليه حق النفقة مدة العدة التى لا يحل لها فيها الزواج، وذم النبى صلّى الله عليه وسلّم الطلاق بأن الله يبغضه للتنفير عنه .. إلى غير ذلك من الأحكام التى بيناها فى تفسير الآيات المنزلة فيها وفى كتابنا الجديد فى حقوق النساء فى الإسلام (نداء للجنس اللطيف). 10 - بالغ الإسلام فى الوصية ببر الوالدين فقرنه بعبادة الله تعالى، وأكد النبى صلّى الله عليه وسلّم فيه حق الأم فجعل برها مقدما على بر الأب، ثم بالغ فى الوصية بتربية البنات وكفالة الأخوات. بأخص مما وصى به من صلة الأرحام، بل وجعل لكل امرأة قيّما شرعيا يتولى كفايتها والعناية بها، ومن ليس لها ولى من أقاربها وجب على أولى الأمر من حكام المسلمين أن يتولوا أمرها، وقد أثبتنا فى ذلك الكتاب طائفة من تلك الوصايا. وجملة القول: أنه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون فى أمة من الأمم أعطى النساء ما أعطاهن الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة، أفليس هذا كله من دلائل كونه من وحى الله العليم الحكيم الرحيم إلى محمد النبى الأمى المبعوث فى الأميين؟ بلى وإنا على ذلك من الشاهدين المبرهنين، والحمد لله رب العالمين.

_ (1) نشرت جريدة الأهرام فى هذا الشهر (المحرم سنة 1354 هـ- 1935 م) اعتقادا للقاضى «لندسى» أشهر قضاة الطلاق فى (لوس أنجلوس) من ولاية (كاليفورنيا)؛ خلاصته أن الحياة الزوجية ستزول من بلادهم (أمريكا الشمالية) وتحل محلها الإباحة والفوضى فى العلاقة بين النساء والرجال فى زمن قريب وهى الآن كشركة تجارية ينقضها الشريكان لأوهى الأسباب خلافا لهداية جميع الأديان إذ لا دين ولا حب يربطهما، بل الشهوات والتنقل فى وسائل المسرات- الطبعة الثالثة.

المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة

المقصد العاشر من مقاصد القرآن تحرير الرقبة إن استرقاق الأقوياء للضعفاء قديم فى شعوب البشر، بل هو معهود فى الحشرات التى تعيش عيشة الاجتماع والتعاون أيضا كالنمل، فإذا حاربت قرية منه أخرى فظفرت بها وانتصرت عليها فإنها تأسر ما سلم من القتال وتستعبده فى خدمة الظافر من البناء وجمع المئونة وخزنها فى مخزنها وغير ذلك. كانت شعوب الحضارة القديمة من المصريين والبابليين والفرس والهنود واليونان والروم والعرب وغيرها تتخذ الرقيق وتستخدمه فى أشق الأعمال، وتعامله بمنتهى القسوة والظلم، وقد أقرته الديانتان اليهودية والنصرانية، وظل الرق مشروعا عند الإفرنج إلى أن حررت الولايات المتحدة الأمريكية رقيقها فى أواخر القرن الثامن عشر الميلادى، وتلتها إنجلترا باتخاذ الوسائل لمنعه من العالم كله فى أواخر القرن التاسع عشر، ولم يكن عمل كل منهما خالصا لمصلحة البشر العامة، فإن لهم فيها مصالح خاصة، ولا جنوحا للمساواة بينهم، فإن الأولى لا تزال تفضل الجنس الأبيض الأوروبى المتغلب على الجنس الأحمر الوطنى الأصلى بما يقرب من الاستعباد السياسى المباح عند جميع الإفرنج للشعوب، بل يستبيح الشعب الأبيض تعذيب المخالف له فى لونه فى الولايات المتحدة على كل ذنب بما لا يبيحه القانون، فيتخطفه دعارهم من أيدى الحكام والشرطة وينكلون به أشد تنكيل، ويمثلون به أفظع تمثيل، كما أن إنجلترا تحتقر الهنود وتستذلهم، ولكن النهضة الهندية فى هذا العهد قد خفضت من غلوائهم، وطأمنت من إشناق كبريائهم «1»، وغيرهما من الإفرنج المستعمرين شر منهما ظلما وقسوة وكل منهم يأبون أن يصلوا فى كنائس مستعمراتهم مع أبناء البلاد فيتناوبون الصلاة فيها. فلما ظهر الإسلام، وأشرق نوره الماحى لكل ظلام، كان مما أصلحه من فساد الأمم إبطال ظلم الرقيق وإرهاقه، ووضع الأحكام الممهدة لزوال الرق بالتدريج الممكن بغير ضرر ولا ضرار ولا بغى ولا استكبار، إذ كان إبطاله دفعة واحدة متعذرا فى نظام الاجتماع البشرى من الناحيتين: ناحية مصالح السادة المسترقين، وناحية معيشة الأرقاء المستعبدين.

_ (1) آخر ما نشرته الجرائد فى هذه الأيام من هذه السنة الميلادية (1934) عنهم أن طلبة جامعة أكسفورد انتخبوا رئيسا لبعض جماعاتهم فنال أكثر الأصوات طالب هندى فاضطرب الشعب الإنجليزى لهذه النازلة، وارتفعت فى إنكارها الأصوات من كل مكان: أهندى اسمر يكون فوق الإنجليز البيض فى شىء ما؟.

فإنّ الولايات المتحدة لما حررت رقيقها كان بعضهم يضرب فى الأرض يلتمس وسيلة للرزق فلا يجد ما يحسنه أو يقدر عليه فيحور إلى سادته يرجو منهم العود إلى خدمتهم كما كان. وكذلك جرى فى السودان المصرى، فقد جرب الحكام من الإنكليز أن يجدوا لهم رزقا بعمل يعملونه مستقلين فيهم مكتفين به فلم يمكن، فاضطروا إلى الإذن لهم بالرجوع إلى خدمة الرق السابقة بشرط أن لا تسمح للمخدومين ببيعهم والاتجار بهم. فهذا برهان حسى مشاهد على أن إبطال الرق- الذى كان عاما فى البشر- بتشريع دينى يتعبد الله تعالى به من أول يوم لم يكن من الحكمة ولا من مصلحة البشر الممكن تنفيذها، والإسلام تشريع عملى لا هوادة فيه، فما شرعه فى الرقيق كان أعلى مراتب الحكمة، الجامع بين المصلحة العامة والرحمة، كما تراه مفصلا فيما يلى فنجزم بأنه هداية ربانية، لا فلسفة محمدية، وإنما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم أحكم وأرحم مبلّغ ومنفّذ لوحى الله بها، وقد أعتق كثيرا من الرجال والنساء قبل البعثة وبعدها من ماله ومال زوجته خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها، وكان بعض من يملكهم يفضلون الرق عنده على العتق على الحرية عند أهلهم، وكذلك فعل صاحبه الأول وصديقه الأكبر أبو بكر الصديق رضى الله عنه الذى أنفق أكثر ماله فى تحرير الرقاب.

هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه

هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه قد شرع الله تعالى لإبطال الرق طريقتين: تحديد تجديد الاسترقاق فى المستقبل أو تقييده، وتحرير الرقيق القديم بالتدريج، الذى لا ضرر ولا ضرار فيه. الطريقة الأولى منع الإسلام جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء بكلّ وسيلة من وسائل البغى والعدوان، وقيده باسترقاق الأسرى والسبايا فى الحرب التى اشترط فيها ما تقدم بيانه من دفع المفاسد وتقرير المصالح، ومنع الاعتداء ومراعاة العدل والرحمة وهى شروط لم تكن قبله مشروعة عند المليين، ولا عند أهل الحضارة فضلا عن المشركين الذين لا شرع لهم ولا قانون، ولست أعنى بالاستثناء أنّ الله شرع لنا من هذا النوع من الاسترقاق كل ما كانت الأمم تفعله معاملة لهم بالمثل، بل شرع لأولى الأمر من المسلمين مراعاة المصلحة للبشر فى إمضائه أو إبطاله بأن خيّرهم فى أسرى الحرب الشرعية بين أمرين: (أولهما) المن عليهم بالحرية فضلا وإحسانا ورحمة. (ثانيهما) الفداء بهم وهو نوعان: فداء المال، وفداء الأنفس إذا كان لنا أسارى أو سبى عند قومهم بنص الآية «1» من سورة محمد التى أوردناها فى القاعدة الخامسة من قواعد الحرب، ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل والفداء بهم جاز أن يعد هذا أصلا شرعيا لإبطال استئناف الاسترقاق فى الإسلام، فإن ظاهر التخيير بين هذين الأمرين أن الأمر الثالث الذى هو الاسترقاق غير جائز لو لم يعارضه أنه هو الأصل المتبع عند جميع الأمم وأقره الإسلام لأنه أمر عالمى دولى يقع به التعامل بين الأعداء فى الحرب، فمن أكبر المفاسد والضرر أن يسترقوا أسرانا ونطلق أسراهم ونحن أرحم بهم وأعدل كما يعلم مما يأتى، ولكن الآية ليست نصا فى الحصر، ولا صريحة فى النهى عن الأصل، فكانت دلالتها على تحريم الاسترقاق مطلقا غير قطعية. فبقى حكمه محل اجتهاد أولى الأمر إذا وجدوا المصلحة فى إبقائه أبقوه، وإذا وجدوا المصلحة فى ترجيح المن عليهم بالحرية- وهو إبطال اختيارى له- أو الفداء بهم عملوا به.

_ (1) راجع المقصد الثامن من مقاصد القرآن الكريم.

ورأيت بعض المشتغلين بالفقه يقولون: إن الاسترقاق والسبى من حقوق المحاربين الخاصة لا من حقوق أولى الأمر العامة، فليس للإمام الأعظم ولا للقائد العام فى الحرب المفوض من قبله مع أركان حربه أن يجبروا المقاتلين على المن عليهم، ولا على الفداء بهم لاقتضاء المصلحة العامة لأحد الأمرين، بدليل أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يجبر المسلمين على التخلى عن سبى هوازن إجبارا، بل جعله بتطييب أنفسهم له، ووعد من لا تطيب نفسه بترك حصته بالتعويض عليه. وفى هذا الفهم غلط من وجوه كثيرة «منها» أن مثل هذه المسألة إذا لم تكن من المصالح العامة التى تناط أولى الأمر فليس فى الأمم مصالح عامة قط. «ومنها» أنه يعارض نصا فى القرآن بواقعة حال عملية، «ومنها» أن النبى صلّى الله عليه وسلّم جمع فى تلك الحال بين حكمة الدين ورحمته العامة، وبين تربية المسلمين التى اقتضاها الزمان والمكان، والقوة والضعف فى الإيمان، وحال طلقاء مكة والمؤلفة قلوبهم فى إظهار الإسلام، فوعد وفد هوازن بإحدى الطائفتين- الغنائم أو السبى- مع علمه بأنهم يختارون السبى. ثم إنه أعطى المؤلفة قلوبهم من الغنائم أكثر من غيرهم، ولم يعط الأنصار شيئا وقد فصّلنا ذلك فى تفسير الآيتين (25، 26) من سورة التوبة «1». وإنما تكون مصلحة الاسترقاق أرجح من هاتين المصلحتين- أى المن على الأسرى والفداء بهم فى حالات قليلة لا تدوم كأن يكون المحاربون للمسلمين قوما قليلى العدد كبعض قبائل البدو يقتل رجالهم كلهم أو جلهم. فإذا ترك النساء والأطفال والضعفاء من الرجال لأنفسهم لا يكون لهم قدرة على الاستقلال فى حياتهم فيكون الخير لهم أن يكفلهم الغالبون ويقوموا بشئونهم المعاشية، ثم تجرى عليهم أحكام الطريقة الثانية فى تحريرهم وقد يتسترون بالنساء فيكن أمهات أولاد وربات بيوت فحرائر، أو محصنات من الفواحش مكفيات أمر المعيشة على الأقل، وكذلك الأطفال يكفلهم المسلمون ويربونهم على عقائد الإسلام وفضائله، ثم ينالهم العتق فى الغالب لما سيأتى فى وجوهه، فيكونون كسائر أحرار المسلمين علماء وأغنياء وحكاما وأمراء. وقد أفضى هذا إلى تغلب العتقى (الموالى) من الأعاجم على السيادة والسلطان فى الأمة، بعد إهمال هداية الدين فى دولها. وقد سنّ النبى صلّى الله عليه وسلّم لأمته ترجيح المن على الأسارى والسبايا بالعتق قولا وعملا فى غزوة بنى المصطلق، وغزوة فتح مكة، وغزوة حنين كما هو مفصل فى كتب السيرة النبوية

_ (1) راجع صفحة 257 ج 10 تفسير المنار.

وغيرها، لأنّ المسلمين قد أثخنوهم وظهروا عليهم، ولم يكونوا أسروا من المسلمين أحدا فعلم من ذلك أن روح الشريعة الإسلامية ترجيح الفضل والإحسان عند القدرة، ومنه عتق الأسرى والسبايا والمن عليهم بالحرية بلا مقابل حاضر، ولا خوف مستقبل، بل لمحض الإحسان. ولا تنس أن أكثر المشركين الذين كانوا يقاتلون النبى صلّى الله عليه وسلّم من الإعراب (البدو) وكانت حالة الحرب معهم مستمرة- كما تقدم- فلم يكن من المصلحة إرجاع سبيهم إليهم يشقى بشقائهم وشركهم وظلمهم وقساوتهم، من قتل للأولاد ووأد للبنات، وتأمل فعله صلّى الله عليه وسلّم مع بنى النضير من اليهود إذا استأذنه أصحابه بأخذ أولادهم الذين تهودوا معهم فأمرهم بتخييرهم.

الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا

الطريقة الثانية: ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا وهو 4 أنواع النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازبة وفيه عشر مسائل 1 - الحرية فى الإسلام هى الأصل فى الإنسان كما كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى عامله على مصر عمرو بن العاص- وقد اشتكى عليه قبطى-: «يا عمرو منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»، وقد أخذ الفقهاء من هذا الأصل أن الرقّ لا يثبت بإقرار المرء على نفسه، وجعلوا قول منكره راجحا على قول مدعيه فيكلف إثباته. 2 - إن الإسلام حرّم استرقاق الأحرار من غير أسرى الحرب الشرعية العادلة بشروطها- كما تقدم- وجعل ذلك من أعظم الآثام. روى البخارى وغيره نم حديث أبى هريرة عن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى: ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»، وفى حديث الثلاثة الذين لا يقبل الله منهم صلاة: «ورجل اعتبد محررا»، أى جعله كالعبد فى استخدامه كرها أو أنكر عتقه أو كتمه، وهو فى سنن أبى داود وابن ماجة. 3 - شرّع الله تعالى للمملوك أن يشترى نفسه من مالكه بمال يدفعه ولو أقساطا، ويسمى هذا فى الشرع «الكتاب والمكاتبة» وأصله قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [النور: 33]، أمر بمكاتبتهم إن علم المالك أنهم يقدرون على الكسب والوفاء بما التزموه وأنه خير لهم، وأمر بإعانة المالك لمكاتبه على أداء ما باعه نفسه به. ويدخل فيه الهبة وحط بعض الأقساط عنه، وجعل فى مال الزكاة المفروضة سهما تدخل فيه هذه الإعانة، وندب غير المالك لذلك أيضا. ذهب بعض العلماء إلى أن الأمرين فى الآية للوجوب: الأمر بالمكاتبة، والأمر بالإعانة عليها، والأكثرون على أن الأول للندب والثانى للوجوب، وفى صحيح البخارى بعد ذكر الآية. قال روح عن ابن جريج: قلت لعطاء «أواجب علىّ إذا علمت أن له (أى لمملوكه) مالا أن أكاتبه؟ قال: «ما أراد إلا واجبا» وقاله عمرو بن دينار، قلت لعطاء: «أتؤثره عن

أحد؟ قال: لا، ثم أخبرنى أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين «1» سأل أنسا المكاتبة وكان كثير المال فأبى فانطلق سيرين إلى عمر فدعاه عمر، فقال: كاتبه، فأبى فضربه بالدرة وتلا: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور: 33] فكاتبه» أ. هـ. 4 - إذا خرج الأرقاء من دار الكفر ودخلوا دار الإسلام يصيرون أحرارا، وعلى الحكومة الإسلامية تنفيذ ذلك ومستنده فى السنة معروف، وقد انعكس الأمر فى هذا العصر فصار الأرقاء الذين يخرجون من دار الإسلام إلى دار الكفر أو ما فى حكمها هم الذين يعتقون، والمراد بالكفر هنا غير الإسلام. 5 - إن من أعتق حصة له من عبد عتق كله عليه من ماله إن كان له مال، وإن كان لغيره حصة فيه فله أحكام، وفى ذلك أحاديث فى الصحيحين وغيرهما، منها حديث أبى هريرة أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعتق نصيبا أو شقيصا فى مملوك فخلاصة عليه فى ماله إن كان له مال وإلا قوم عليه فاستسعى «2» به غير مشفوق عليه»، وحديث ابن عمر مرفوعا أيضا: «من أعتق نصيبا له فى مملوك أو شركا له فى عبد فكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق»، والشقيص كالنصيب وزنا ومعنى. 6 - من عذّب مملوكه أو مثّل به أو أخصاه عتق عليه، فقد روى الإمام أحمد أن زنباعا أبا روح وجد غلاما له مع جارية له فجدع أنفه وجبه، فشكاه إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فسأله فاعترف وذكر ذنبه فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم للغلام: «اذهب فأنت حر»، ويؤخذ منه: أن الجب والخصاء حرام وموجب لعتق العبد، وينفذه الحاكم عليه، فكل ما كان يخصى من المماليك ففيه مخالفة للشرع الإسلامى بخصائصهم وبعدم عتقهم. وفى رواية له (الإمام أحمد) أخرجها أبو داود وابن ماجة: وجاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم صارخا فقال له: «ما لك؟»، قال: سيدى رآنى أقبل جارية له فجب مذاكيرى، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم «وعلىّ بالرجل»، فطلب فلم يقدر عليه فقال صلّى الله عليه وسلّم للغلام: «اذهب فأنت حر»، وفى جامع الأصول من حديث سمرة ابن جندب وأبى هريرة أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «ومن مثل بعبده عتق عليه». 7 - إيذاء المملوك بما دون التمثيل والتعذيب الشديد حرام ولا كفارة لذنبه إلا عتقه، فقد

_ (1) هو والد محمد بن سيرين العالم التابعى المشهور وأخوته. (2) أى كلف المملوك أن يسعى فى جمع المال الباقى من ثمنه بما لا مشقة عليه فيه، فيا لله ما أعجب هذه الرحمة فى الإسلام.

روى أحمد، ومسلم، وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه»، وللشيخين والترمذى عن سويد بن مقرن قال: «كنا بنى مقرن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أعتقوها». وقيل له إنه ليس لبنى مقرن خادم غيرها فرخص لهم باستخدامها ما دامت الحاجة وإطلاقها إذا زالت». وروى مسلم وغيره عن أبى مسعود البدرى قال: «كنت أضرب غلاما بالسوط فسمعت صوتا من خلفى: «اعلم أبا مسعود» فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا منى إذا هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود» فألقيت السوط من يدى، وفى رواية فسقط من يدى السوط من هيبته فقال: «اعلم أبا مسعود أنّ الله أقدر منك على هذا الغلام» - وفى رواية عليه- فقلت: يا رسول الله هو حر لوجه الله فقال: «أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار». فهذا وما قبله بعض هدى الرسول فى الرحمة ومعاملة الرقيق الذى لا يزال يصفه رجال الكنيسة ورجال السياسة من الإفرنج وتلاميذهم بما علم القاصى والدانى من الكذب والإفك والبهتان، كيف لا وهو الرحمة العامة للعالمين. 8 - التدبير عتق لازم، وينعقد بقول السيد لعبده: أنت مدبر، وأنت حرّ عن دبر منى، أى بعد أن أدبر عن هذه الدنيا، وكذا أنت حرّ بعد موتى، إذا قصد به التدبير، فإن أطلق ولا قرينة، فبعض العلماء يرجح أنه تدبير تقوية لجانب العتق الذى هو من مقاصد الشرع الأساسية ومنهم من يرجح جانب الوصية. ومن أحكام التدبير أنه لازم فى الحال لا يجوز الرجوع عنه كالوصية، وأنه لا يجوز للمدبر (بالكسر) بيع المدبر (بالفتح) عند مالك وأبى حنيفة وأن من دبر بعض مملوكه وهو مالك له كله سرى العتق إلى باقيه، وقال جمهور العلماء: إن أولاد الجارية المدبرة تابعون لها فى العتق والرق فإذا عتقت عتقوا معها. 9 - عتق أمهات الأولاد- وهو أنّ الجارية التى تلد لسيدها ولدا تصير حرّة من رأس ماله بعد موته فلا تدخل فى ملك الورثة ولا يجوز له بيعها فى حياته عند جمهور السلف والخلف وأولهم عمر وعثمان رضى الله عنهما. ففي حديث عمر عن الإمام مالك: «أيّما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها

النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات

ولا يورثها وهو يستمتع منها فإذا مات فهى حرّة» ولو أن أم الولد تورث لورثها أولادها فكانت ملكا لهم، وهذا مناف لمقاصد الشرع وأصوله وآدابه. 10 - إن ملك أحد أحدا من أولى القربى عتق عليه، وأعم ما ورد فيه حديث ضمرة بن جندب مرفوعا: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» رواه أحمد، وأصحاب السنن إلا النسائى والحاكم وصحّحوه وهذا بمعنى ما قبله من عتق أمهات الأولاد. النوع الثانى من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات والمراد بها القربات التى تمحو الذنوب وأعظمها عتق الرقاب وهى ثلاثة أقسام: (أحدها) واجب حتم على القادر على العتق بملك الرقبة أو ثمنها ككفارة قتل النفس خطأ، وكفارة الظّهار- وهو تشبيه الرجل زوجته بأمّه- وكان طلاقا فى الجاهلية وكفارة إفساد الصيام عمدا بشرطه وقيده المعروفين فى الفقه. (ثانيها) واجب مخير فيه، وهو كفارة اليمين فمن حلف يمينا وحنث فيها فكفارته إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، كما قال الله تعالى وحكمة التخيير ظاهرة. (ثالثها) مندوب، وهو العتق لتكفير الذنوب غير المعينة، وهو من أعظم مكفراتها. النوع الثالث من وسائل إلغاء الرق الموجود جعل الله أحد السّهام الثمانية من مصارف الزكاة الشرعية المفروضة (فى الرقاب) بنص القرآن هو يشمل العتق والإعانة على شراء المملوك نفسه (الكتابة) ومن المعلوم أن زكاة الأمة الإسلامية قد تبلغ مئات الألوف وألوف الألوف من الدراهم والدنانير فلو نفذت أحكام الإسلام فيها وحدها لأمكن تحرير جميع الرقيق فى دار الإسلام. النوع الرابع منها العتق الاختيارى لوجه الله تعالى (أى ابتغاء مرضاته ومثوبته) قد ورد فى الكتاب والسنة وآثار السلف من الترغيب فى العتق ما يدخل تدوينه فى سفر

علاوة فى عتق غير المسلم

كبير، ومما يدلّ على أنه فى أعظم العبادات وأصول القربات آية البر من سورة البقرة (177). ومن أشهر أحاديث الترغيب فى العتق؛ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما رجل أعتق امرأ مسلما «1» استنقذ الله بكل عضو منه عضوا من النار»، متفق عليه من حديث أبى هريرة، وفى رواية: «عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه»، وحديث أبى ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أى العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد فى سبيله»، قلت: فأى الرقاب أفضل؟ قال: «أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» إلخ متفق عليه. ومن اشهرها أيضا حديث أبى موسى الأشعرى: «أيّما رجل كانت له جارية أدّبها فأحسن تأديبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، وأعتقها وتزوجها فله أجران»، رواه البخارى ومسلم وغيرهما. وفى الصحيحين أيضا أن أبا هريرة لما روى قوله: «للمملوك الصالح أجران»، قال: والذى نفسى بيده لولا الجهاد والحج وبر أمى لأحببت أن أموت وأنا مملوك. علاوة فى عتق غير المسلم من الدلائل على أنّ تحرير الرقيق فى الإسلام قربة مقصودة لذاتها لأنها من حقوق البشر العامة، أنه يشمل المؤمن والكافر ومن البديهى أن حق المؤمن على المؤمن أعظم ومقدّم على غيره، ولما كان استرقاق الإنسان قتلا لحريته التى لا تتم إنسانيته بدونها جعل الله العتق كفارة للقتل فى حال عدم القصاص، وقد اشترط فى كفارة القتل عتق رقبة مؤمنة، لأن المؤمن فى الشرع الدينى أكمل، ومثله كفارة الظهار لأنه من الأحكام الزوجية الدينية. وقال الله تعالى فى كفارة اليمين أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ولم يقل مؤمنة، فقال بعض العلماء: هو على إطلاقه، فيكفى فيه رقبة غير مؤمنة. وقال بعضهم: يحمل المطلق على المقيد واشتراط كونها مؤمنة والأول أظهر. ومن دلائل السنّة ما رواه البخارى فى (باب عتق المشرك) عن هشام أخبرنى أبى (أى عروة بن الزبير) أنّ حكيم بن حزام رضى الله عنه أعتق فى الجاهلية مائة رقبة وحمل على مائة بغير فلما أسلم حمل على مائة بعير وأعتق مائة رقبة قال: فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أصنعها فى الجاهلية كنت أتحنث بها- يعنى أتبرر بها؟ قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلمت على ما سلف لك من خير»، وفى صحيح مسلم: «أسلمت على ما أسلفت من خير».

_ (1) اتفق العلماء على شرعية عتق الكافر، وأنه قربة. وإنما اختلفوا فى عتقه فى الكفارة.

الوصية بالمماليك

فقول البخارى: «عتق المشرك» يحتمل أن يكون من الإضافة إلى الفاعل لأن حكيما سأله عما أعتقه وهو مشرك، وأن يكون من الإضافة إلى المفعول لأن الذين أعتقهم كانوا مشركين، وجواب النبى صلّى الله عليه وسلّم له أنه أسلم على ما كان يفعله من الخير معناه أنه كمل له الخبر والبر بالإسلام، وإذا كان الإسلام يجب ما قبله من الشرك وأعماله، ويطهر النفس منها فأجدر به أن يزيد فاعل الخير السابق خيرا وتزكية لنفسه إذا كان مستعدا لهما، ولو لم يسلم لما كان هذا ينجيه فى الآخرة ولكنه كان يكون أمثل ممن لم يفعل مثله. الوصية بالمماليك أضف إلى ما تقدم كله وصايا الله ورسوله بالمماليك، ومنها تخفيف الواجبات عليهم، وجعل حدّ المملوك فى العقوبات نصف حد الحر، وقد قرن الله تعالى الوصية بهم بالوصية بالوالدين والأقربين، ونهى النبى صلّى الله عليه وسلّم عن قول السيد: «عبدى وأمتى»، وأمره أن يقول: «فتاى وفتاتى وغلامى»، وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون ويلبسوهم مما يلبسون، ويعينوهم على خدمتهم إن كلفوهم ما يغلبهم كما فى حديث أبى ذر فى الصحيحين وغيرهما الذى تقدم والمناسب منها هنا: أن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر بالربذة وعليه حلّة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك»، وذكر ما تقدم من الحديث وتتمته هى قوله صلّى الله عليه وسلّم فى المماليك: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم» أى: عاملوهم معاملة الأمثال، وفى الصحاح أيضا أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يوصى النساء وما ملكت الأيمان حتى فى مرض موته إلى أن التحق بالرفيق الأعلى صلّى الله عليه وسلّم. وسأله ابن عمر: كم أعفو عن الخادم؟ قال: «اعف عنه كل يوم سبعين مرة»، وهذه مبالغة معناها اعف عنه كلما أذنب. وقد تفلسف بعض المتنطعين فيما يسمونه النقد التحليلى فقال: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان يوصى بالرقيق لأنه ربى فى حجر أمه- قيل يعنى به إرضاع ثويبة مولاة عمه أبى لهب- وأن هذا التعليل لجهل عميق بالتاريخ وعلم النفس والفلسفة جميعا، والأولى أن يعنى أم أيمن حاضنته وكانت جارية لأمه فورثها وأعتقها، ولكنّ هذا التشريع العظيم الذى جاء فى كهولة الأمية فوق جميع شرائع البشر وفلسفتهم وآدابهم شىء آخر لا ينبغى لعاقل أن يعلله بما علله به هذا المتنطع المتحذلق، وما كان هذا التشريع وحده هو الذى يعلو هذا التعليل ويحكمه بل كل نوع من شريعته مثله، ثم ماذا يقال فى مجموعها وجملتها؟.

ولهذا كان المسلمون فى الصّدر الأول يبالغون فى تكريم الرقيق ومعاملتهم بالحلم حتى صاروا يقصرون فى الخدمة، ولعمر الحق إنّ العبد المملوك فى حكم الإسلام الأول كان أعزّ نفسا وأطيب عيشا من جميع الأحرار الذين ابتلوا فى هذه العصور بحكم دول الإفرنج من غيرهم أو نفوذهم.

خلاصة البحث فى تحرير الدلالة على إثبات الوحى وحجة الله به على جميع الخلق راجع ما تقدم من الكلام على الوحى والنبوة وآيات الأنبياء عندنا وعند النصارى، ومن الكلام فى تفنيد شبهة الوحى النفسى، والكلام فى إعجاز القرآن اللغوى والعلمى وما أحدثه من الثورة العالمية والانقلاب الإنسانى من كل وجه، ثم أضف إليها تلك العشرة أنواع من مقاصد القرآن، وفى إصلاح البشر وتكميل نوع الإنسان، من جميع نواحى التشريع الروحى والأدبى والاجتماعى والمالى والسياسى، وهى التى اشتدت حاجة الشعوب والدول إليها فى هذا العصر، موضحة بما بينّاه من أصول وقواعد فى الإسلام، هى أصحّ وأكمل وأكفل للمصالح العامة، ودفع المفاسد القديمة والطارئة من كل ما سبقها من تعاليم الأنبياء، وفلسفة الحكماء وقوانين الملوك والحكام، على اختلاف العصور، مع العلم القطعى من تاريخ محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه كان أميا يؤثر بطبعه عيشة العزلة، فلم يتفق له الاطلاع على كتب الأنبياء ولا غيرها من الكتب والقوانين، وأنه لم يعرف عنه أنه كان يبحث فى شىء من العلوم، ولا أنه نطق بشيء من مسائلها، ولا أنه عرف بالبلاغة والفصاحة، أو عنى بالشعر أو الرجز أو الخطابة، والعلم القطعى بأنه إنما جاء بها فى هذا القرآن بعد استكمال سن الأربعين وهى سن لم يعرف فى استعداد أنفس البشر ومدركات عقولهم ولا فى تاريخهم أن صاحبها يأتنف مثلها ائتنافا لم يسبق له البدء بشيء منه فى أنف عمره، وآنفه شبابه وشرخه. راجع هذا كله وتأمّل جملة واحدة تجد عقلك مضطرا إلى الجزم بأن هذا فى جملته وتفصيله فوق استعداد بشر أمى أو متعلم، وأنه لا يعقل إلا أن يكون وحيا من الله تعالى اختصه به. فإذا فرضنا أنه يحتمل أن يكون شىء منها من تأثير الوراثة والبيئة والتربية، وأن يكون قد تسرب إلى ذهنه بعض مسائلها من أفواه عقلاء قومه أو غيرهم ممن لقى فى أسفاره القليلة، أو أنه فكر فى حاجة البشر إلى مثلها بما أدركه بذكائه الفطرى من سوء حالهم، فهل يعقل أن تكون تلك الفلتات الشاردة، وهذه الخطرات الواردة، تبلغ هذا الحد من التحقيق والوفاء بحاجة الأمم كلها، وأن تظل كلها مكتومة من سن الصبا وعهد حب

الظهور إلى أن تظهر فى سن الكهولة بهذه الروعة من البيان، وسلطان البلاغة على القلوب، وقوة البرهان فى العقول، فتحدث هذه الثورة العربية المغيرة لطباعها، والمبدلة لأوضاعها، بحيث تسود بها شعوب المدنية كلها، ويتلو ذلك ما قصه التاريخ من الانقلاب فى العالم كله بها؟ وأعجب من هذا كله أن يظهر فى هذا العصر أنّ أمم العلم والفنون الواسعة والحضارة العجيبة أشد حاجة إليها ممن قبلهم؟ كلا. إن هذا لم يعرف مثله فى البشر، فلم يبق إلا أنه علم موحى به من الله عزّ وجلّ مفروض على كل عاقل بلغته دعوته أن يتبعه ويهتدى به لتكميل إنسانيته، وهداية أمته، وإعدادها لسعادة الدنيا والآخرة. فإن اعترضته شبهة عليه فليبحث عنها أو لينبذها، فما كان لعاقل ثبت عنده نفع علم الطب أن يترك مراعاته فى حفظ صحته، أو مداواة مرضه، لشبهة فى بعض مسائله، أو خيبة الأطباء فى بعض معالجاتهم للمرضى. فهو أعظم أطباء الأرواح والاجتماع فيهم. قال الله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 149]. ***

الخاتمة فى تجديد التحدى بتعاليم الوحى المحمدى، ودعوة شعوب الحضارة إلى الدين الإسلامى تلك عقائد دين محمد وقواعد تشريعه، وأصول إصلاحه الدينى والاجتماعى والمالى والسياسى، مسرودة بالإجمال، مؤيدة بشواهدها من آيات القرآن، مجرّدة من حلل المبالغات الخطابية، وعاطلة من حلى الخلابة الشعرية، ونحن المسلمين نتحدّى الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم، ولا سيما أحرار الإفرنج، بأن يأتونا بمثلها أو بما يقرب منها من تاريخ الأنبياء، وأشهر الحكماء، وأبلغ الأدباء، وأنبغ ساسة الأولين والآخرين مع صرف النظر عن كونه صلّى الله عليه وسلم كان- كما بينا أولا وآخرا- أميا، وجاء بذلك كله بعد استكمال السن التى صرح علماؤهم بأن الإنسان يستحيل أن يبتدئ فيها علما أو فنا، أو يسن فيها شرعا أو يضع قانونا، أو أن ينهض فى العالم بانقلاب عظيم أو عمل خطير، مما لم يكن قد ظهر استعداده له وأخذ بمقدماته فى ريعان الصبا، وشرخ الشباب، وقد بينا الفرق العظيم بينه وبين موسى وعيسى أعظم أنبياء بنى إسرائيل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. نتحداهم بهذا القرآن تحديا علميا إصلاحيا سياسيا فى أرقى عهد للبشر فى العلم الكسبى، مع صرف النظر عما كان من تحدى سلفنا بإعجاز عبارته وأسلوبها وبلاغتها العربية فى أرقى عصورها، ونتحداهم به تحديا عمليا من حيث إن تنفيذ محمد صلّى الله عليه وسلم لإصلاحه فى تأثيره وسرعته وعمومه من أكبر المعجزات التى تفوق استعداد البشر، فكيف وقد اجتمع العلم والعمل. وبيانه أن العلم مما يصلح به حال البشر فى أفرادهم وجماعاتهم وشعوبهم علم واسع يقل فى الأذكياء من يتقن المدون منه فى الكتب الذى يلقن فى المدارس، ثم يقل من يستطيع تنفيذ ما يتعلمه منه فى أمة يتولى أمر سياستها وإدارة الأحكام فيها، فهل فى الإمكان أن يوجد إنسان يضع هذا العلم ذا الشّعب الكثيرة، بل العلوم العالية، ثم يكون هو الذى يتولى تنفيذها وإصلاح أمة كبيرة بها، ويتم له النجاح فى ذلك بنفسه فى عصره؟. إن هذا ليس فى استطاعة أحد من البشر، ولم يقع من أحد منهم فيما غير، وأصول هذا الإصلاح وفروعه محفوظة إلى اليوم وقد فسد أكثر البشر لتركهم الاهتداء بها!!

وأما تنفيذ محمد صلّى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم فى عشر سنين من تاريخ الهجرة الذى كان بدء حياة الحرية له ولمن آمن به، وقد ظل قبلها يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين أولا بالسر، ثم بالجهر مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل والنفى الذى اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة، وبعد الهجرة بالتبع له صلّى الله عليه وسلم صار لهم قوة فكان المشركون يعتدون عليهم ويقاتلون فى دار هجرتهم فكانوا فى حالة الحرب وقتال مع المشركين كافة، وكذا أهل الكتاب المجاورين له، وكان صلّى الله عليه وسلم عقد لليهود معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا يظاهروا المشركين عليه، فنقضوا عهده المرة بعد المرة، وظاهروهم بل أغروهم بقتاله، فاضطر إلى قتالهم وإجلائهم من جواره فى الحجاز، وظل المسلمون فى نضال مع المشركين مدة ست سنين، مدافعين عن أنفسهم فى كل قتال دفاع الضعيف- المؤيد من الله- للأقوياء المخذولين، وفى أواخر السنة السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين، ثم غدر المشركون ونقضوا العهد، فعادت حالة الحرب، وفتح المسلمون مكة عاصمة قريش الدينية والدنيوية، ومثابة جميع الأمة العربية، فى سنة ثمان من الهجرة، وحج النبى صلّى الله عليه وسلم حجة الوداع فى آخر سنة عشر، وأنزل الله تعالى عليه فى يوم عرفة منها: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3]. ففي عشر سنين تم توحيد الأمة العربية التى كانت أعرق أمم الأرض فى الشقاق والتفرق والعداء، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عزّ وجلّ لرسوله كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62، 63]، وبما أعدّه الله تعالى له من إتمام مكارم الأخلاق، وما وفقه وأرشده إليه من حسن السياسة المبنية فى قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159]، وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع والطاعة والانقياد، لعراقتهم فى الحرية وشدّة بأسهم وعدم ابتلائهم بالملوك المستبدين القاهرين، والرؤساء الروحيين المسيطرين الذين يذللون الأمم ويخضعونها لكل ذى سلطان قوى. فليدلنا علماء التاريخ العام على نبى من الأنبياء أو حكيم من الحكماء، أو ملك من

الملوك الفاتحين والمشرعين، ربّى أمة من الأمم فى عشر سنين أو عشرين، فجعلها أهلا لفتح الأمصار، والسيادة على الأمم الحضرية، وسياستها بالعدل والرحمة، وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا نشترط أن تكون هذه الأمة التى علمها وهذبها ووحدها رجل واحد كالأمة العربية فى عتوها ولا أن يكون هذا الرجل أميّا كمحمد صلّى الله عليه وسلم. فأين الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية فى عصر العلوم والفنون والفلسفة والحضارة والقوانين ونظم الاجتماع والحرب، من الوحدة العربية المحمدية فى عهد الأمية والجاهلية؟ بل أين الوحدة الإسرائيلية، فى عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة، ثم الوحدة الإسلامية العامة فى عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية؟. ثم نفّذ ذلك التشريع الأعلى، والهداية المثلى، خلفاء محمد الراشدون، وكثير من ملوك المسلمين الصالحين، بما شهد لهم به تاريخهم، واعترف لهم به المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم، بالجمع بهما بين العدل والرحمة، وبأنهم جدّدوا بهما الحضارة الإنسانية ورقوها، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذّبوها واستثمروها، وكانوا أساتذة العالم فيها. ثم كان من قوة هذا الدين فى الحق والفضائل أن عادته جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع قواتها الصليبية- الهمجية منها والمدنية- ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة، ولا تزال تحاربه وتبذل الملايين من الدنانير لتحويل أهله عنه، بعد زوال قوة دوله، وغلبة الجهل على شعوبه، بجميع أساليب الدعوة المسماة بالتبشير، وبجميع وسائل القوة والنظام، وبمساعدة الملحدين فيه كالقاديانية، وتقترف دولهم وجمعياتهم الدينية فى ذلك من رذائل الظلم والبغى والكذب ما يتبرأ من مثله شرار المجرمين، ولم يستطيعوا له هدما، ولا أن ينصروا مسلما واحدا عرف الإسلام «1». قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33].

_ (1) هذا ما نقله الدكتور مارديس المستشرق الفرنسى فى مقدمة تفسيره عن إجماع المبشرين كما تقدم فى مقدمة الطبعة الأولى.

خلاصة البحث فى تحرير الدلالة على إثبات الوحى وحجة الله به على جميع الخلق

نتيجة التحدى بالوحى المحمدى: دعوة شعوب المدنية: أوروبا وأمريكا واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام لإصلاح فساد البشر المادى وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنسانى العام إذا عجز حكماء هذا العصر والحياة والاجتماع والأخلاق والمؤرخون من أحرار الإفرنج وغيرهم عن إخبارنا بوجود رجل مثل محمد صلّى الله عليه وسلم فيما علم من تاريخه المعروف والمشهور بمثل هذا القرآن فى خصائصه، ولا سيما التعاليم التى لخصنا كلياتها فى هذا الكتاب، وقدر أن ينفذها ويربى بها أمة كالأمة العربية حتى كان لها بها من الأثر الدينى والمدنى فى العالم مثل أثرها- وأنهم لعاجزون عن ذلك قطعا- أفلا يكون عجزهم هذا برهانا على أن دين محمد، وكتاب محمد، وهدى محمد، وتربية محمد للأمة العربية، بما قلب به نظام العالم الإنسانى كلها، وحولها إلى ما هو خير منها- كل أولئك من خوارق العادات، وما لا يقبل المرء الظاهر من المعجزات؟ بلى. وإذا كان حقا واقعا ما له من دافع، فما المانع من عدّ هذه التعاليم وحيا من رب العالمين، العليم الحكيم؟ وما معنى كونها وحيا إلا أنها علم أفاضه الله تعالى على روح محمد وقلبه، بطريقة خفية غير طرق العلم الكسبية المعروفة للبشر عامة، وفوق الإلهامات النفسية القليلة التى تؤثر عن بعض الخاصة؟ وما معنى كونها معجزة إلا أنها جاءت على غير المعهود فى علم البشر الكسبى والنفسى، وخلاف المقرر فى علم النفس والفلسفة العقلية وسنن الاجتماع، وتواريخ الأمم، وسير الحكماء والعلماء والملوك، وفوق المعروف عن الأنبياء أيضا، وإن كانت من جنسها، فالأنبياء قد أنبئوا ببعض الغيوب الحاضرة فى عصرهم والعصور التى أتت بعدهم- وأنبأ محمد صلّى الله عليه وسلم بما هو أصرح منها وأظهر وأكثر، وبغيوب سابقة كانت قبل نبوته بقرون، ولكن لم يجئ أحد منهم بمثل ما تقدم إجماله فى المقاصد العشرة العالية من العلم والحكمة والتشريع. قد بينّا لكم أيّها العلماء الأحرار، بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم من العلل والآراء، لجعل ما جاء به من العلم الإلهى الأعلى، والتشريع المدنى الأسمى، والحكمة الأدبية المثلى، نابعا من استعداده الشخصى، وما اقتبسه فى بيئته وأسفاره من أقوال بعض الأعراب، وهى شوارد ما كان يعنى مثله بحفظها، وآراء أهل الكتاب، وهى أوابد ما كان يثق بها فيحفل بقيدها، ولا كان هذا من شأنه، وعلمتم أن بعض ما قالوه افتراء على

التاريخ، وأن ما قد يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه، وعلمتم أنه فى جملته مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ. ونحن نتحداكم الآن بالإتيان بعلل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحى الله تعالى وكتابه لمحمد صلّى الله عليه وسلم مع القطعى من تاريخه- علل يقبلها ميزان العقل المسمى بعلم المنطق، وسنن الإنسان، وعلم الاجتماع. فإن لم تستطيعوا- ولن تستطيعوا- أن تأتونا بعلل تقبلها العقول، وتؤيدها النقول فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوّة محمد صلّى الله عليه وسلم ورسالته، وبكتابه المنزل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر، وأن تتولوا الدعوة إلى هذا الإيمان، ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به، بعد أن عجزت علومكم الواسعة، وفلسفتكم الدقيقة أن توقف عدوى فساد الإباحة وعبادة الشهوات وفوضى الأفكار فى الأمم، وعجزت عن منع دول حضارتكم أن تنفق معظم أموالها المنتزعة من شعوبها ومستعمراتها فى الاستعداد لحرب البغى والعدوان المدمرة، وتأريث العدوات بين شعوب الأرض كافة، بل زادوا شعوبهم عداوة وشنآنا وبغيا وعدوانا، بما هو شر مما عليه قبائل الهمج وسباع الوحش والطير والسمك؛ فقد كان غاية شوط هذه العلوم الواسعة عند هذه الدول أعظم نكبة على البشر، فإن أبيتم وتوليتم أيها العلماء عن دعوة الإسلام إلى السلام، فعليكم إثم شعوبكم ودولكم وسائر الناس. لقد كتب النبى صلّى الله عليه وسلم لكل ملك وزعيم دعاة إلى الإسلام: «فإن تولّيت فعليك إثم من ولّيت أمرهم». ونقول لكم اليوم: فإن توليتم فعليكم إثم البشر كلهم، لأنكم إذا أظهرتم الإيمان وتواطأتم على نشر الدعوة إليه، لا تلبث جميع الشعوب أن تستجيب لكم، وترغم حكوماتها على الأخوة الإنسانية والسلام، بهداية الإسلام.

علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم

علوم البشر لا تستقل بهدايتهم لأنهم لا يدينون إلا لوحى ربهم ألا إنه قد ثبت بالحس والعيان، أن العلم البشرى وحده لا يصلح أنفس الناس؛ لأنهم لا يخالفون أهواءهم وشهواتهم الشخصية والقومية إلى اتباع آراء أفراد منهم، وإنما يدينون بوازع الفطرة لما هو فوق معارفهم البشرية، وهو ما يأتيهم من ربهم، ولا يوجد فى الأرض دين عام كامل صحيح ثابت إلا دين الإسلام، وقد بينا لكم أصول تشريعه الروحى والسياسى والاجتماعى الصالح لكل زمان ومكان، وأنه دين السلام والحق والعدل والمساواة التى تعطى كل شعب وكل فرد حقه، فبه وحده يمكن البرء من الأدواء المالية والسياسية والحربية والاجتماعية كلها، فاليهوديّة دين مؤقت خاص غير عام وانتهى زمانها، والمسيحية إصلاح روحى لليهودية ليس فيها تشريع، ولا تصلح وصاياها الزهدية التواضعية لحضارة هذا العصر، وإنما كانت موقوتة لإصلاح غلو اليهود والروم فى الطمع الدنيوى والشهوات كما تقدم. والبرهمية والبوذية والمجوسية على ما تعلمون فيهن من وثنية وخصوصية، وخرافات وعداوات، وتفاوت طبقات يدينون الله بجعل بعض من كرمهم من البشر أخساء بالفطرة كالحشرات، أو رجسا من عمل الشيطان، فلا يصلح شىء منها لتثقيفهم بالتوحيد والعرفان، والإخاء الإنسانى العام، فإذن لا ملجأ ولا وزر، والمتحد للبشر، إلا دين الإسلام قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران: 19]، فلئن اهتدت به أمة قوية منظمة لتصلحن به سائر الأمم، ولتكون لها السيادة العليا فى جميع الأرض، وليدخلن العالم الإنسانى فى طور جديد من الترقى الجامع بين منافع القوى المادية، والمعارف الروحية، وهما منتهى السعادة الإنسانية. الرجاء فى العلماء المستقلين دون السياسيين: بلغنا أنه دعا بعض العلماء منكم إلى عقد مؤتمر من كبار علماء الشعوب كلها للبحث فى الوسائل التى يمكن أن تقى حضارة العصر من غوائل الشحناء القومية والدولية، ولئن

عقد هذا المؤتمر فلن يكون أمثل ولا أرجى من هذه المؤتمرات التى تعقدها الدول فى جامعة الأمم وعواصم السياسة، وهى لم تزد الأدواء القومية إلا إعضالا، والأخطار الدولية إلا تفاقما، والشعوب التى تتصرف بثروة العالم إلا فقرا، وإنما الدواء الواقى المضمون بين أيديهم وهم لا يبصرون، وحجته البينة تناديهم ولكنهم لا يسمعون، قال الله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23]. وأما أنتم أيّها العلماء المستقلو العقول والأفكار، فالمرجو منكم أن تسمعوا وتبصروا، وأن تعلموا فتعلموا، فإن كانت دعوة القرآن لم تبلغكم حقيقتها الكافلة لإصلاح البشر، على الوجه الصحيح الذى يحركك النظر، بما ضرب دونه من الحجب أو لأنكم لم تبحثوا عنها بالإخلاص مع التجرد من التقاليد المسلمة عندكم والأهواء، ولأنّ الإسلام ليس له زعامة ولا جماعات تثبت دعوته، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ حضارته، بل صار المسلمون فى جملتهم حجة على الإسلام وحجابا دون نوره، إلى غير ذلك من الحجب والأسباب، التى بينتها فى مقدمة هذا الكتاب فأرجو أن يكون هذا الكتاب كافيا فى بلوغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا العصر، فإن ظهر لكم بها الحقّ فذلك ما نبغى ونرجو لخير الإنسانية كلها، وإن عرضت لكم شبهة فيها، فالمرجو من حبّكم للعلم، وحرصكم على استبانة الحق، أن تشرحوها لنا لنعرض عليكم جوابنا عنها، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون. ولا أراكم تعدون من الشبهات الصادرة عن الإسلام (بعد أن ثبتت أصوله بما ذكرنا) أن فيه أخبارا عن عالم الغيب الذى وراء المادة لا دليل عليها عندكم، فإنما مصدر الدين عالم الغيب، ولو كان مما يعلمه البشر بكسبهم، ويدينون به لما كانوا فى حاجة إلى تلقيه من الوحى، وقد بينّا أنّ تعاليم القرآن قد أثبتت أنه وحى من عالم الغيب، وقامت برهانا على وجود الله علمه وحكمته، فوجب أن تؤخذ أخباره بالتسليم، وحسبكم أنه ليس فيه منها ما يقوم البرهان على استحالته، وإنّ منها ما كان يعدّ من وراء إدراك العقل، ثم كان من ثمرات العلم أن أثبت وجود مثله بالفعل، كتخاطب أهل الجنة وأهل النار وترائيهم وهم فيهما على ما بينهما من البعد، ولا تكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 66].

معجزات القرآن الطبيعية والفلكية

معجزات القرآن الطبيعية والفلكية: وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب المادى من تكوين وتاريخ، فمن معجزاته الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التى كشف العلم والتاريخ فى القرون الأخيرة من معانيها ما لم يخطر فى بال أحد من أهل العصر الذى نزل فيه. ومن معجزاته السلبية: أنه لم يثبت على توالى القرون بعد نزوله شىء قطعى شيئا من أخباره القطعية، على أن تكون أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب، ويكفى فى مثل هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح الحقائق الفنية والوقائع التاريخية لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه، ومنها ما لا يمكن الوقوف عليه إلا بالتعمق فى العلم أو الاستعانة بالآلات التى لم تكن معروفة عند المخاطبين الأولين بالوحى، بل لا يصح أن يأتى فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم العلمية لئلا يكون فتنة لهم، وقد قال نبى الإنسانية العام: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، رواه مسلم فى صحيحه. ومن دقائق تعبير القرآن فى النوع الأول (التكوين) التى اختلف فى فهمها الناس أن مادة الخلق «دخان» وهو عين ما يسمى السديم، وأنّ السّماوات والأرض كانتا رتقا (أى مادة واحدة متصلة) ففتقهما الله وجعل كلا منهما خلقا مستقلا، وبث فيهما أنواع الدواب، ولم يكن أحد يعتقد أو يتصور أن فى شىء من هذه الأجرام السماوية حيوانا، وأنه جعل من الماء كل شىء حى، وأنه خلق جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجا، فجعل فى كل منهما ذكرا وأنثى، وأنه جعل كل نبات موزونا، يعنى أن عناصره متوازنة على نسب مقدرة، وأنه أرسل الرياح لواقح، وأنه يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ والتكوير هو اللف على الجسم المستدير، وهو صريح فى كروية الأرض ودورانها اللذين كانا موضوع الجدال والنضال بين العلماء إلى عهد قريب بعد الإسلام، وأمثال هذا فيه كثير حتى إن بعض آياته فى الشمس والقمر والنجوم وسبحها فى أفلاكها وجريانها إلى أجل مسمى، وفى تناثر الكواكب عند خراب العالم لا تفهم فهما صحيحا إلا فى ضوء علم الفلك الحديث. وأعجب منه إثباته أنّ للخلق سننا لا تتبدل وبيانه لكثير منها، ومن سنن الاجتماع التى لم يهتد البشر إليها بالبحث العلمى إلا بعد بيان القرآن لها بقرون، ولم أوردها فى هذا البحث، لأنها قد يقال إنها مما يعرف بالعقل، وليس من موضوع الوحى. وسأفصلها فى الجزء الثانى المتمم لهذا الكتاب.

واختم دعوتى هذه بتلاوة قول الله عزّ وجلّ فى آخر سورة فصلت: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54). اللهم إنى قد بلغت، اللهم إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، اللهم أشهد فأنت خير الشاهدين، والحمد لله رب العالمين. *****

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة على سبيل التقديم 3 مقدمة الطبعة الأولى 7 فاتحة الطبعة الثانية 17 الفصل الأول: تعريف الوحى لغة وشرعا 25 النبى 28 حاجة البشر إلى الرسالة 29 عصمة الأنبياء 31 العقل والعلم البشرى 34 الفصل الثانى: فى إقامة الحجّة على مثبتى الوحى المطلق 37 تعريف الوحى والنبوّة والأنبياء عند النصارى 39 بعض ما يرد على نبوتهم 40 امتياز نبوة محمّد على نبوة من قبله 43 صد الكنيسة عن الإسلام 45 الآيات والعجائب 47 العجائب وما للمسيح منها 49 آية نبوة محمّد العقلية العلمية 53 تأثير العجائب فى الأفراد والأمم 54 ثبوت نبوة محمّد بنفسها وإثباتها لغيرها 55 درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية 57 الفصل الثالث: فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى 59 شبهة على الوحى 60 جواب المنار 61

تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة 64 المقدمة الأولى: لشبهة الوحى النفسى 65 المقدمة الثانية: دعوى الأخذ عن ورقة بن نوفل 65 المقدمة الثالثة: دعوى انتشار اليهودية والنصرانية 66 المقدمة الرابعة: حديث إسلام سلمان الفارسى 67 المقدمة الخامسة: رحلتا الشتاء والصيف لتجار قريش 67 المقدمة السادسة: ما قيل من وجود يهود ونصارى بمكة 68 المقدمة السابعة: ما زعمه من سبب نشوء محمد صلّى الله عليه وسلّم أميا 68 المقدمة الثامنة: تصوير مجامع قريش بمكة 69 المقدمة التاسعة: موت أبناء محمد 70 المقدمة العاشرة: ضعف الوثنية فى العرب 72 نتيجة تلك المقدمات العشر 73 باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 77 بسط ما يصورون به الوحى النفسى لمحمد صلّى الله عليه وسلّم 81 تفنيد تصورهم للوحى النفسى 83 القول الحق فى استعداد محمد صلّى الله عليه وسلّم للنبوة والوحى 89 الأمثال النورانية لفطرة محمد صلّى الله عليه وسلّم وروحه 92 آية الله الكبرى القرآن العظيم 94 الفصل الرابع: فى إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته 99 الثورة والانقلاب الذى أحدثه القرآن 102 اعتبار الموازنة بين تأثير القرآن فى العرب والتوراة فى بنى إسرائيل 104 فعل القرآن فى أنفس الأمة العربية 109 فعل القرآن فى أنفس مشركى العرب 111 فعل القرآن فى أنفس المؤمنين 115 الفصل الخامس: فى مقاصد القرآن فى تربية نوع الإنسان 119 المقصد الأول من مقاصد القرآن 121 الركن الأول للدين: الإيمان بالله تعالى 121 الركن الثانى للدين: عقيدة البعث والجزاء 126

البعث الإنسانى جسمانى روحانى 129 الركن الثالث للدين: العمل الصالح 132 سنة القرآن فى تهذيب الأخلاق 135 سنة القرآن فى الإرشاد إلى العبادات 138 ترجيح فضائل القرآن على الإنجيل 139 شبهة فلسفية على عمل الخير لمرضاة الله تعالى 141 المقصد الثانى من مقاصد القرآن 143 بحث فى الآيات الكونية التى أيد الله بها رسله 149 الخوارق الحقيقية والصورية عن الأمم 152 الفرق بين المعجزة والكرامة 154 الكافرون بالآيات 157 علاج خرافة تصرف الأولياء فى الكون 158 المنكرون للمعجزات 159 عبادة بعض الناس للمسيح 164 ختم النبوة وانقطاع الخوارق بها 166 لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء إلا بالقرآن 167 الإيمان بالقدر والسنن العامة 169 المقصد الثالث من مقاصد القرآن: إكمال نفس الإنسان 173 الحكمة والفقه 180 دحض شبهة وإقامة حجة 184 المقصد الرابع من مقاصد القرآن: الإصلاح الإنسانى 187 المقصد الخامس من مقاصد القرآن 194 المقصد السادس من مقاصد القرآن 199 أصول التشريع فى الإسلام 202 قواعد الاجتهاد من النصوص 203 العدل والمساواة فى الإسلام 203 حظر الظلم فى الإسلام 206 قواعد مراعاة الفضائل فى الأحكام والمعاملات 207

المقصد السابع من مقاصد القرآن 209 القطب الأول: القاعدة العامة فى المال 209 القطب الثانى: ذم طغيان المال 212 القطب الثالث: ذم البخل بالمال 213 القطب الرابع: مدح المال والغنى 214 القطب الخامس: ما أوجب الله من حفظ المال 217 القطب السادس: إنفاق المال فى سبيل الله 219 القطب السابع: فى الحقوق المفروضة والمندوبة فى المال 221 المقصد الثامن: من مقاصد القرآن 224 أهم قواعد الحرب والسلام: القاعدة الأولى 226 القاعدة الثانية: فى الغرض من الحروب 227 القاعدة الثالثة: إيثار السلم على الحرب 229 القاعدة الرابعة: الاستعداد التام للحرب 229 القاعدة الخامسة: الرحمة فى الحرب 230 القاعدة السادسة: الوفاء بالمعاهدات 230 القاعدة السابعة: الجزية 231 المقصد التاسع من مقاصد القرآن 234 المقصد العاشر من مقاصد القرآن 240 هداية الإسلام فى تحرير الرقيق وأحكامه (الطريقة الأولى) 242 (الطريقة الثانية) ما شرعه لتحرير الرقيق 245 علاوة فى عتق غير المسلم 249 الوصية بالمماليك 250 خلاصة البحث: فى تحرير الدلالة على إثبات الوحى 252 الخاتمة: فى التجديد التحدى بتعاليم الوحى المحمدى 255 نتيجة التحدى بالوحى المحمدى 258 علوم البشر لا تستقل بهدايتهم 260 الفهرست 265

§1/1