الوجيز للواحدي

الواحدي

المقدمة

المقدمة لا إله إلا الله عدة للقاء الله عز وجل رب بك أستعين أخبرنا الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي الصاعدي في كتابه إلينا من نيسابور قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي رضي الله عنه قال: الحمد لله الكريم بآلائه العظيم بكبريائه القادر فلا يمانع والقاهر فلا ينازع والعزيز فلا يضام والمنيع فلا يرام والمليك الذي له الأقضية والأحكام وصلواته على المبعوث بشيرا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا محمد النبي خير الورى وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى ما انبلج الليل عن الصباح ونادى المنادي بحي على الفلاح وسلم كثيرا أما بعد فإن لكل زمان نشوا ولكل نشو علما يتعاطونه على قدر هممهم وأفهامهم ومددهم في العمر وأيامهم وفيما سلف من الأيام وخلا من الشهور والأعوام كانت الهمم إلى العلوم مصروفة والرغبات عليها موقوفة يتوفر عليها طلاب المراتب في الدنيا والراغبون في مثوبة العقبى ثم لم تزل على مر الليالي تنخفض الهمم وتتراجع حتى عاد وابلها قطرة ولم نشاهد مما كانت عليه ذرة ذلك قضاء الله مبرم ووعد من الرسول صلى الله عليه وسلم محكم بانتزاع العلم وقبضه فيما أخبرناه الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ محمش الزيادي رضي الله عنه قراءة عليه في شهور سنة تسع وأربع مائة قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ المعروف بابن الأخرم قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب قال: حدثنا جعفر بن عون عن هشام ابن عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قبضت الفحول وهلكت الوعول وانقرض زمان العلم وخمدت جمرته وهزمته كرة الجهل وعلت دولته ولم يبق إلا صبابة نتجرعها وأطمار نجتابها ونتدرعها وعليها من حال فإني كنت قد ابتدأت بابداع كتاب في التفسير لم أسبق إلى مثله وطال علي الأمر في ذلك لشرائط تقلدتها ومواجب من حق النصيحة لكتاب الله تعالى تحملتها ثم استعجلني قبل إتمامه والتقصي عما لزمني من عهدة أحكامه نفر متقاصرو الرغبات منخفضو الدرجات أولو البضائع المزجاة إلى إيجاز كتاب في التفسير يقرب على من تناوله ويسهل على من تأمله من أوجز ما عمل في بابه وأعظمه فائدة على متحفظيه وأصحابه وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا تعجيلا لمنفعتهم وتحصيلا للمثوبة في إفادتهم ما تمنوه طويلا فلم يغني عنهم أحد فتيلا وتارك ما سوى قول واحد معتمد لابن عباس رحمه الله أو من هو في مثل درجته كما يترجم عن اللفظ العويص بأسهل منه وهذا حين أفتتحه فأقول: [قوله تعالى من]

سورة الفاتحة

{بسم الله الرحمن الرحيم} أَيْ: ابدؤوا أوِ افتتحوا بتسمية الله تيمُّناً وتبرُّكاً و {الله} : اسمٌ تفرَّد الباري به سبحانه يجري فِي وصفه مجرى أسماء الأعلام لا يُعرف له اشتقاق وقيل: معناه: ذو العبادة التي بها يُقصد {الرَّحمن الرَّحيم} : صفتان لله تعالى معناهما: ذو الرَّحمة أَي: الرَّحمة لازمةٌ له وهي إرادة الخير ولا فرق بينهما مثل: ندمانٍ ونديم

2

{الحمدُ لله} هو الثَّناء لله والشُّكرُ له بإنعامه {ربِّ العالمين} : مالك المخلوقات كلها

3

قوله تعالى {الرحمن الرحيم}

4

{مالك يوم الدِّين} مأخوذٌ من المِلْك والمِلْك مأخوذٌ من المُلْك أَيْ: قاضي يوم الجزاء والحساب لأنَّه متفرِّدٌ في ذلك اليوم بالحكم

5

{إيَّاك نعبدُ} أَيْ: نخصُّك ونقصدك بالعبادة وهي الطَّاعة مع الخضوع {وإيَّاك نستعين} : ومنك نطلب المعونة

6

{اهدنا الصراط المستقيم} أَيْ: دُلَّنا عليه واسلكْ بنا فيه وثبِّتنا عليه

7

{صراط الذين أنعمتَ عليهم} بالهداية وهم قومُ موسى وعيسى عليهما السَّلام قبل أن يُغيِّروا نعمَ الله عز وجل وقيل: هم الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله تعالى {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} الآية {غير المغضوب عليهم} أَيْ: غير الذين غضبتَ عليهم وهم اليهود ومعنى الغضب من الله تعالى: إرادةُ العقوبة {ولا الضَّالين} أَيْ: ولا الذين ضلُّوا وهم النَّصارى فكأنَّ المسلمين سألوا الله تعالى أن يهديهم طريق الذين أنعم عليهم ولم يغضب عليهم كما غضب على اليهود ولم يضلُّوا عن الحقِّ كما ضلَّت النَّصارى

سورة البقرة

{الم} أنا الله أعلم

2

{ذلك الكتاب} أَيْ: هذا الكتاب يعني: القرآن {لا ريب فيه} أي: لاشك فيه أَيْ: إنَّه صدقٌ وحقٌّ وقيل لفظه لفظ خبرٍ ويُراد به النهي عن الارتياب قال: {فلا رفث ولا فسوق} ولا ريب فيه أنَّه {هدىً} : بيانٌ ودلالةٌ {للمتقين} : للمؤمنين الذين يتَّقون الشِّرْك في تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم وقد قال: {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر}

3

{الذين يؤمنون:} يُصدِّقون {بالغيب} : بما غاب عنهم من الجنَّة والنَّار والبعث {ويقيمون الصَّلاة} : يُديمونها ويحافظون عليها {وممَّا رزقناهم} : أعطيناهم ممّا ينتفعون به {ينفقون} : يُخرجونه في طاعة الله تعالى

4

{والذين يؤمنون بما أُنزل إليك} نزلت في (مؤمني) أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن {وما أنزل من قبلك} يعني: التَّوراة {وبالآخرة} يعني: وبالدَّار الآخرة {هم يوقنون} : يعلمونها علماً باستدلالٍ

5

{أولئك} يعني: الموصوفين بهذه الصِّفات {على هدىً} : بيانٍ وبصيرةٍ {من ربِّهم} أَيْ: من عند ربِّهم {وأولئك هم المفلحون} : الباقون في النَّعيم المقيم

6

{إنَّ الذين كفروا} : ستروا ما أنعم الله عزَّ وجل به عليهم من الهدى والآيات فجحدوها وتركوا توحيد الله تعالى {سواء عليهم} : معتدلٌ ومتساوٍ عندهم {أأنذرتهم} : أعلمتهم وخوَّفتهم {أم لم تنذرهم} أم تركت ذلك {لا يؤمنون} نزلت فِي أبي جهلٍ وخمسةٍ من أهل بيته ثمَّ ذكر سبب تركهم الإيمان

7

{ختم الله على قلوبهم} أَيْ: طبع الله على قلوبهم واستوثق منها حتى لا يدخلها الإيمان {وعلى سمعهم} : أَيْ: مسامعهم حتى لا ينتفعوا بما يسمعون {وعلى أبصارهم} : على أعينهم {غشاوة} غطاءٌ فلا يبصرون الحقَّ {ولهم عذابٌ عظيمٌ} مُتواصل لا تتخلَّله فُرجةٌ

8

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر} نزلت فِي المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان وأسرُّوا الكفر فنفى الله سبحانه عنهم الإِيمان بقوله: {وما هم بمؤمنين} فدلَّ أنَّ حقيقة الإيمان ليس الإِقرار فقط

9

{يخادعون الله والذين آمنوا} أَيْ: يعملون عمل المخادع بإظهار غير ما هم عليه ليدفعوا عنهم أحكام الكفر {وما يخدعون إلاَّ أنفسهم} لأنَّ وبال خداعهم عاد عليهم بإطلاع الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام والمؤمنين على أسرارهم وافتضاحهم {وما يشعرون} : وما يعلمون ذلك

10

{في قلوبهم مرض} شك ونفاقٌ {فزادهم الله مرضاً} أَيْ: بما أنزل من القرآن فشكُّوا فِيهِ كما شكُّوا في الذي قبله {ولهم عذابٌ أليم} : مؤلمٌ {بما كانوا يكذبون} بتكذيبهم آيات الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم (ومَنْ قرأ يُكذِّبون فمعناه: بكذبهم في ادّعائهم الإيمان)

11

{وإذا قيل لهم} (لهؤلاء) المنافقين: {لا تفسدوا فِي الأرض} بالكفر وتعويق النَّاس عن الإيمان {قالوا إنما نحن مصلحون} أَي: الذين نحن عليه هو صلاحٌ عند أنفسنا فردَّ الله تعالى عليهم ذلك فقال

12

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} : لا يعلمون أنَّهم مُفسدون

13

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} أَيْ: لا نفعل كما فعلوا وهذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم فأخبر الله تعالى به عنهم

14

{وإذا لقوا الذين آمنوا} إذا اجتمعوا مع المؤمنين ورأوهم {قالوا آمنَّا} {وإذا خلوا} من المؤمنين وانصرفوا {إلى شياطينهم} : كبرائِهم وقادتهم {قالوا إنَّا معكم} (أَيْ: على دينكم) {إنَّما نحن مستهزئون} : مُظهرون غير ما نضمره

15

{الله يستهزئ بهم} : يجازيهم جزاء استهزائهم {ويمدُّهم} : يُمهلهم ويطوِّل أعمارهم {في طغيانهم} : في إسرافهم ومجاوزتهم القدر في الكفر {يعمهون} يتردَّدون مُتحيِّرين

16

{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} : أخذوا الضَّلالة وتركوا الهدى {فما ربحت تجارتُهم} فما ربحوا في تجارتهم (وإضافة الرِّبح إلى التجارة على طريق الاتساع كإضافة الإيضاء إلى النار) {وما كانوا مهتدين} فيما فعلوا

17

{مثلُهم كمثل الذي استوقد ناراً} أَيْ: حالهم في نفاقهم وإبطانهم الكفر كحالِ مَنْ أَوقد ناراً فاستضاء بها وأضاءت النَّار ما حوله ممَّا يخاف ويحذر وأمن فبينما هو كذلك إذ طُفئت ناره فبقي مُظلماً خائفاً مُتحيِّراً فذلك قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} الآية كذلك المنافقون لمَّا أظهروا كلمة الإيمان اغترُّوا بها وأَمِنُوا فلمَّا ماتوا عادوا إلى الخوف والعذاب

18

{صمٌّ} لتركهم قبول ما يسمعون {بُكْمٌ} لتركهم القول بالخير {عُمْيٌ} لتركهم ما يُبصرون من الهداية {فهم لا يرجعون} عن الجهل والعمى إلى الإسلام ثمَّ ذكر تمثيلاً آخر فقال

19

{أو كصيِّبٍ} أو كأصحاب مطرٍ شديدٍ {من السَّماء} : من السَّحاب {فيه} : في ذلك السَّحاب {ظلماتٌ ورعدٌ} وهو صوت مَلَكٍ مُوكَّلٍ بالسَّحاب {وبرق} وهي النَّار التي تخرج منه {يجعلون أصابعهم في آذانهم} يعني: أهل هذا المطر {من الصواعق} من شدَّة صوت الرَّعد يسدُّون آذانهم بأصابعهم كيلا يموتوا بشدَّة ما يسمعون من الصَّوت فالمطر مَثَلٌ للقرآن لما فيه من حياة القلوب والظُّلماتُ مثل لما في القرآن من ذكر الكفر والشرك وبيان الفتن والأهوال والرعد مَثَلٌ لما خُوِّفوا به من الوعيد وذكر النَّار والبرقُ مثلٌ لحجج القرآن وما فيه من البيان وجعل الأصابع في الآذان حذر الموت مثَلٌ لجعل المنافقين أصابعهم في آذانهم كيلا يسمعوا القرآن مخافةَ ميل القلب إلى القرآن فيؤدِّي ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك عندهم كفرٌ والكفر موتٌ {واللَّهُ محيطٌ بالكافرين} مُهلكهم وجامعهم في النَّار

20

{يكاد البرقُ يخطف أبصارهم} هذا تمثيلٌ آخر يقول: يكاد ما في القرآن من الحجج يخطف قلوبهم من شدَّة إزعاجها إلى النَّظر في أمر دينهم {كلما أضاءَ لهم مشوا فيه} : كُلَّما سمعوا شيئاً ممَّا يُحبّون صدَّقوا وإذا سمعوا ما يكرهون وقفوا وذلك قوله عز وجل: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لذهب بسمعهم وأبصارهم} أَيْ: بأسماعهم الظَّاهرة وأبصارهم الظَّاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة حتى صاروا صُمَّاً عُمياً فليحذروا عاجل عقوبة الله سبحانه وآجلها ف {إنَّ الله على كل شيء قديرٌ} من ذلك

21

{يا أيها الناس} يعني: أهل مكَّة {اعبدوا ربَّكم} : اخضعوا له بالطَّاعة {الذي خلقكم} : ابتدأكم ولم تكونوا شيئاً {والذين من قبلكم} (آبائكم) (وخاق الذين من قبلكم) أي: إنَّ عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوق وهو الصَّنم {لعلَّكم تتقون} لكي تتقوا بعبادته عقوبته أن تحلَّ بكم

22

{الذي جعل لكم الأرض فراشاً} بساطاً لم يجعلها حَزْنةً غليظةً لا يمكن الاستقرار عليها {والسماء بناءً} سقفاً {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات} يعني: حمل الأشجار وجميع ما ينتفع به ممَّا يخرج من الأرض {فلا تجعلوا لله أنداداً} : أمثالاً من الأصنام التي تعبدونها {وأنتم تعلمون} أنَّهم لا يخلقون والله هو الخالق وهذا احتجاجٌ عليهم في إثبات التَّوحيد ثمَّ احتجَّ عليهم فِي إثبات نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بما قطع عذرهم به فقال:

23

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا} أي: وإن كنتم فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: لا ندري هل هو من عند الله أم لا {فأتوا بسورة} من مثل هذا القرآن فِي الإِعجاز وحسن النَّظم والإِخبار عمَّا كان وما يكون {وادعوا شهداءكم} واستعينوا بآلهتكم التي تدعونها {من دون الله إن كنتم صادقين} أنَّ محمداً تقوَّله من نفسه

24

{فإنْ لم تفعلوا} هذا فيما مضى {ولن تفعلوا} هُ أيضاً فيما يُستقبل أبداً {فاتقوا} : فاحذروا أن تصلوا {النَّار التي وقودها} ما يُوقد به {الناسُ والحجارة} يعني حجارة الكبريت وهي أشدُّ لاتِّقادها {أعدَّت} (خُلقت وهُيِّئت) جزاءً {للكافرين} بتكذيبهم ثمَّ ذكر جزاء المؤمنين فقال:

25

{وبشر الذين آمنوا} أي: أخبرهم خبراً يظهر به أثر السُّرور على بشرتهم {وعملوا الصالحات} أَي: الأعمال الصَّالحات يعني الطَّاعات فيما بينهم وبين ربِّهم {أنَّ لهم} : بأنَّ لهم {جناتٍ} : حدائق ذات الشِّجر {تجري من تحتها} من تحت أشجارها ومساكنها {الأنهار} {كلما رزقوا} : أُطعموا من تلك الجنَّات ثمرةً {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} لتشابه ما يُؤتون به وأرادوا: هذا من نوع ما رُزقنا من قبل {وأتوا به متشابهاً} في اللَّون والصُّورة مختلفاً في الطَّعم وذلك أبلغ في باب الإِعجاب {ولهم فيها أزواجٌ} : من الحور العين والآدميات {مطهرةٌ} عن كلِّ أذىً وقذرٍ ممَّا في نساء الدُّنيا ومن مساوئ الأخلاق وآفات الشَّيب والهرم {وهم فِيها خالدون} لأنَّ تمام النِّعمة بالخلود

26

{إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ} الآية لمَّا ضرب الله سبحانه المَثل للمشركين بالذُّباب والعنكبوت في كتابه ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله سبحانه فأنزل الله تعالى: {إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ} لا يترك ولا يخشى {أن يضرب مثلاً} أَنْ يُبيِّنَ شبهاً {ما بعوضةً} ما زائدة مؤكِّدة والبعوض: صغار البق الواحدة: بعوضة {فما فوقها} يعني: فما هو أكبر منها والمعنى: إنَّ الله تعالى لا يترك ضرب المثل ببعوضةٍ فما فوقها إذا علم أنَّ فِيهِ عبرةُ لمن اعتبر وحجَّةً على مَنْ جحد (واستكبر) {فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون} أنَّ المثل وقع في حقِّه {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بهذا مثلاً} أَيْ: أَيُّ شيء أرادالله بهذا من الأمثال؟ والمعنى ئئئئانهم يقولون: أَيُّ فائدةٍ في ضرب الله المثل بهذا؟ فأجابهم الله سبحانه فقال {يضلُّ به كثيراًً} أَيْ: أراد الله بهذا المثل أن يضلَّ به كثيراً من الكافرين وذلك أنَّهم يُنكرونه ويُكذِّبونه {ويهدي به كثيراً} من المؤمنين لأنَّهم يعرفونه ويصدِّقونه {وما يضلُّ به إلاَّ الفاسقين} الكافرين الخارجين عن طاعته

27

{الذين ينقضون} يهدمون ويفسدون {عهدَ الله} : وصيته وأمره في الكتب المتقدِّمة بالإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {من بعد ميثاقه} من بعد توكيده عليهم بإيجابه ذلك {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} يعني: الرَّحم وذلك أنَّ قريشاً قطعوا رحم النَّبيِّ صلي الله عليه وسلم بالمعاداة معه {ويفسدون فِي الأرض} بالمعاصي وتعويق النَّاس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {أولئك هم الخاسرون} (مغبونون) بفوت المثوبة والمصيرِ إلى العقوبة

28

{كيف تكفرون بالله} معنى كيف ها هنا استفهامٌ في معنى التَّعجُّب للخلقِ أَي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون بالله وحالُهم أنَّهم كانوا تراباً فأحياهم بأَنْ خلق فيهم الحياة فالخطاب للكفَّار والتَّعجب للمؤمنين وقوله تعالى: {ثم يميتكم} أَيْ: في الدُّنيا {ثمَّ يُحييكم} في الآخرة للبعث {ثمَّ إليه ترجعون} تردُّون فيفعل بكم ما يشاء فاستعظم المشركون أمر البعث والإعادة فاحتجَّ الله سبحانه عليهم بخلق السماوات والأرض فقال:

29

{هو الذي خلق لكم} لأجلكم {ما في الأرض جميعاً} بعضها للانتفاع وبعضها للاعتبار {ثمَّ استوى إلى السَّماء} : أقبل على خلقها وقصد إليها {فسوَّاهنَّ سبع سماوات} فجعلهن سبع سماوات مُستوياتٍ لا شقوق فيها ولا فطور ولا تفاوت {وهو بكلِّ شيءٍ عليم} إذ بالعلم يصحُّ الفعل المحكم

30

{وإذ قال ربك} واذكر لهم يا محمَّدُ إذ قَالَ رَبُّكَ {لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خليفة} يعني: آدم جعله خليفةً عن الملائكة الذين كانوا سكَّان الأرض بعد الجنِّ والمراد بذكر هذه القصَّة ذكرُ بدءِ خلق النَّاس {قالوا أتجعل فِيها مَنْ يفسد فِيها} كما فعل بنو الجانِّ قاسوا (الشَّاهد) على الغائب {ونحن نسبح بحمدك} نُبرِّئُك من كلِّ سوءٍ ونقول: سبحان الله وبحمده {ونقدِّسُ لك} ونُنزِّهك عمَّا لا يليق بك {قال إني أعلم ما لا تعلمون} من إضمار إبليس العزم على المعصية فلمَّا قال الله تعالى هذا للملائكة قالوا فيما بينهم: لن يخلق ربُّنا خلقاً هو أعلمُ منَّا ففضَّل الله تعالى عليهم آدم بالعلم وعلَّمه اسم كلِّ شيء حتى القصعة (والقصيعة) والمِغْرفة وذلك قوله تعالى:

31

{وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها} أَيْ: خلق فِي قلبه علماً بالأسماء على سبيل الابتداء {ثمَّ عرَضهم} أَيْ: عرض المسمَّيات بالأسماء من الحيوان والجماد وغير ذلك {على الملائكة فقال أنبئوني} أخبروني {بأسماء هؤلاء} وهذا أمرُ تعجيزٍ أراد الله تعالى أن يُبيِّن عجزهم عن علم مايرون ويُعاينون {إن كنتم صادقين} أنِّي لا أخلق خلقاً أعلمَ منكم فقالت الملائكة إقراراً بالعجز واعتذاراً:

32

{سبحانك} تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك فِي حكمك {لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا} اعترفوا العجز عن علم ما لم يُعلَّموه {إنَّك أنت العليم} العالم {الحكيم} الحاكم تحكم بالحق وتقضي به فلمَّا ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى لآدم:

33

{يا آدم أنبئهم بأسمائهم} أخبرهم بتسمياتهم فسمَّى كلَّ شيءٍ باسمه وألحق كلَّ شيءٍ بجنسه {فلما أنبأهم بأسمائهم} : أخبرهم بمسمَّياتهم {قال} الله تعالى للملائكة: {ألم أقل لكم} وهذا استفهامٌ يتضمَّن التَّوبيخ لهم على قولهم: {أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها} {إني أعلم غيب السماوات والأرض} أَيْ: ما غاب فيهما عنكم {وأعلم ما تبدون} : علانيتكم {وما كنتم تكتمون} : سرَّكم لا يخفى عليَّ شيءٌ من أموركم

34

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} سجود تعظيمٍ وتسليمٍ وتحيَّةٍ وكان ذلك انحناءاً يدلُّ على التَّواضع ولم يكن وضعَ الوجه على الأرض {فسجدوا إلاَّ إبليس أبى} امتنع {واستكبر وكان من الكافرين} في سابق علم الله عز وجل

35

{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} اتَّخذاها مأوىً ومنزلاً {وكلا منها رغداً} واسعاً {حيث شئتما} ما شئتما إذا شئتما (كيف شئتما) {ولا تقربا هذه الشجرة} لاتحوما حولها بالأكل منها يعني السُّنبلة {فتكونا} فتصيرا {من الظالمين} : العاصين الذين وضعوا أمر الله عز وجل غير موضعه

36

{فأزلهما الشيطان} نحاهما وعدهما {عنها فأخرجهما ممَّا كانا فيه} من الرتبة وليس العيش {وقلنا} لآدم وحواء وإبليس والحيَّة: {اهبطوا} أي: انزلوا إلى الأرض {بعضكم لبعض عدو} يعني: العداوة التي بين آدم وحواء والحيَّة وبين ذرية آدم عليه السَّلام من المؤمنين وبين إبليس لعنه الله {ولكم في الأرض مستقر} موضع قرارٍ {ومتاع إلى حين} ما تتمتَّعون به ممَّا تُنبته الأرض إلى حين االموت

37

{فتلقى آدم من ربه} أخذ وتلقَّن {كلماتٍ} وهو أنَّ الله تعالى ألهم آدم عليه السَّلام حين اعترف بذنبه وقال: {ربنا ظلمنا أنفسنا} الآية {فتاب عليه} فعاد عليه بالمغفرة حين اعترف بالذَّنب واعتذر {إنَّه هو التواب} يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه

38

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} كرَّر الأمر بالهبوط للتَّأكيد {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أَيْ: فإنْ يأتكم مني شريعةٌ ورسولٌ وبيانٌ ودعوةٌ {فَمَنْ تبع هداي} أَيْ: قَبِل أمري واتَّبع ما آمره به {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فِي الآخرة وَلا حزن والخطاب لآدم وحوَّاء وذرِّيتهما أعلمهم الله تعالى أنَّه يبتليهم بالطَّاعة ويجازيهم بالجنَّة عليها ويعاقبهم بالنَّار على تركها وهو قوله تعالى:

39

{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} أَيْ: بأدلتنا وكتبنا {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}

40

{يا بني إسرائيل} أولاد يعقوب عليه السَّلام {اذكروا} اشكروا وذكر النِّعمة هو شكرها {نعمتي} يعني: نعمي {التي أنعمت عليكم} يعني: فلق البحر والإِنجاء من فرعون وتظليل الغمام إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم والمراد بقوله تعالى: {عليكم} أَيْ: على آبائكم والنِّعمة على آبائهم نعمةٌ عليهم وشكر هذه النِّعم طاعتُه في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ صرَّح بذلك فقال {وأوفوا بعهدي} أَيْ: في محمد صلى الله عليه وسلم {أُوف بعهدكم} أدخلكم الجنَّة {وإيَّاي فارهبون} فخافوني في نقض العهد

41

{وآمنوا بما أنزلت} يعني: القرآن {مصدقاً لما معكم} موافقاً للتَّوراة فِي التَّوحيد والنُّبوَّة {وَلا تكونوا أوَّل كافر به} أَيْ: أوَّل مَنْ يكفر به من أهل الكتاب لأنَّكم إذا كفرتم كفر أتباعكم فتكونوا أئمةً في الضَّلالة والخطابُ لعلماء اليهود {ولا تشتروا} ولا تستبدلوا {بآياتي} ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته {ثمناً قليلاً} عوضاً يسيراً من الدُّنيا يعني: ما كانوا يصيبونه من سفلتهم فخافوا إنْ هم بينوا صفة محمد صَلَّى الله عليه وسلم أَنْ تفوتهم تلك المآكل والرِّياسة {وإيايَّ فاتقون} فاخشوني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا ما يفوتكم من الرِّياسة

42

{ولا تلبسوا الحق بالباطل} أَيْ: لا تخلطوا الحقَّ الذي أنزلتُ عليكم من صفة محمد عليه السلام بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وتبديل نعته {وتكتموا الحق} أَيْ: ولا تكتموا الحقَّ فهو جزمٌ عُطِفَ على النَّهي {وأنتم تعلمون} أنَّه نبيٌّ مرسلٌ قد أُنزل عليكم في كتابكم فجحدتم نبوَّته مع العلم به

43

{وأقيموا الصلاة} المفروضة {وآتوا الزكاة} الواجبة في المال {واركعوا مع الراكعين} وصلُّوا مع المصلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأصحابه في جماعةٍ

44

{أتأمرون الناس بالبرِّ} كانت اليهود تقول لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون به فأنزل الله تعالى توبيخاً لهم: {أتأمرون الناس بالبر} بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {وتنسون} وتتركون {أنفسكم} فلا تأمرونها بذلك {وأنتم تتلون الكتاب} تقرؤون التَّوراة وفيها صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ونعته {أفلا تعقلون} أنَّه حقٌّ فتتَّبعونه؟ ! ثمَّ أمرهم الله تعالى بالصَّوم والصَّلاة لأنَّهم إنَّما كان يمنعهم عن الإسلام الشَّره وخوف ذَهاب مأكلتهم وحب الرِّياسة فأُمروا بالصَّوم الذي يُذهب الشَّرَه وبالصًَّلاة التي تُورث الخشوع وتَنفي الكبر وأُريدَ بالصَّلاةِ الصَّلاةُ التي معها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال

45

{واستعينوا بالصبر} يعني بالصَّوم {والصلاة} لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر {وإنها لكبيرةٌ} لثقيلةٌ (يعني: وإنَّ الإستعانةَ بالصبر والصلاة لثقيلةٌ) {إلاَّ على الخاشعين} السَّاكنين إلى الطَّاعة وقال بعضهم: رجع بهذا القول إلى خطاب المسلمين فأمرهم أَنْ يستعينوا على ما يطلبونه من رضاءِ الله تعالى ونيل جنَّتِهِ بالصَّبر على أداء فرائضه (وهو الصَّوم) والصَّلاة

46

{الذين يظنون} يستيقنون {أنهم ملاقوا ربِّهم} أنَّهم مبعوثون وأنَّهم محاسبون وأنَّهم راجعون إلى الله تعالى أَيْ: يُصدِّقون بالبعث والحساب

47

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عليكم} مضى تفسيره {وأني فضلتكم} أعطيتكم الزِّيادة {على العالمين} : على عالمي زمانكم وهو ما ذكره فِي قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} والمراد بهذا التَّفضيل سلفهم ولكن تفضيل الآباء شرف الأبناء

48

{واتقوا يوماً} واحذروا واجتنبوا عقاب يومٍ {لا تجزي} لا تقضي ولا تُغني {نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة} أَيْ: لا يكون شفاعةٌ فيكون لها قبول وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء فآيسهم الله تعالى عن ذلك {ولا يؤخذ منها عدل} فِداءٌ {ولا هم ينصرون} يُمنعون من عذاب الله تعالى

49

{وإذ نجيناكم} واذكروا ذلك {من آل فرعون} أتباعه ومَنْ كان على دينه {يسومونكم} : يُكلِّفونكم {سوء العذاب} شديد العذاب وهو قوله تعالى: {يذبحون} : ويقتلون {أبناءكم ويستحيون نساءكم} يستبقوهن أحياءً (لقول بعض الكهنة له: إنَّ مولوداً يُولد في بني إسرائيل يكون سببا له ذهاب ملكه) {وفي ذلكم} الذي كانوا يفعلونه بكم {بلاءٌ} : ابتلاءٌ واختبارٌ وامتحانٌ {من ربكم عظيم} وقيل: وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمةٌ عظيمة والبلاء: النِّعمة والبلاء: الشِّدَّة

50

{وإذ فرقنا بكم البحر} فجعلناه اثنى عسر طريقاً حتى خاض فيه بنو إسرائيل {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} إلى انطباق البحر عليهم وإنجائكم منهم

51

{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} أَي: انقضاءَها وتمامَها للتَّكلُّم معه {ثمَّ اتخذتم العجل} معبودا وإلاها {من بعده} من بعد خروجه عنكم للميقات {وأنتم ظالمون} واضعون العبادةَ في غير موضعها وهذا تنبيه على أنَّ كفرهم بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السَّلام

52

{ثمَّ عفونا} محونا ذنوبكم {عنكم من بعد ذلك} من بعد عبادة العجل {لعلكم تشكرون} لكي تشكروا نعمتي بالعفو

53

{وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان} (عطف تفسيري) يعني: التَّوراة الفارق بين (الحق والباطل) والحلال والحرام {لعلكم تهتدون} لكي تهتدوا بذلك الكتاب (من الضلال)

54

{وإذ قال موسى لقومه} الذين عبدوا العجل {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلاها {فتوبوا إلى بارئكم} يعني: خالقكم قالوا: كيف نتوب؟ قال {فاقتلوا أنفسكم} أَيْ: ليقتلِ البريءُ منكم المجرمَ {ذلكم} أَي: التَّوبة {خيرٌ لكم عند بارئكم} من إقامتكم على عبادة العجل ثم فعلتم ما أُمرتم به {فتاب عليكم} قبل توبتكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

55

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} يعني: الذين اختارهم موسى عليه السَّلام ليعتذروا إلى الله سبحانه من عبادة العجل فلمَّا سمعوا كلام الله تعالى وفرغ موسى من مناجاة الله عز وجل قالوا له: {لن نؤمن لك} لن نصدِّقك {حتى نرى الله جهرةً} أَيْ: عِياناً لا يستره عنا شيءٌ {فأخذتكم الصاعقة} وهي نارٌ جاءت من السَّماء فأحرقتهم جميعاً {وأنتم تنظرون} إليها حين نزلت وإنَّما أخذتهم الصَّاعقة لأنَّهم امتنعوا من الإِيمان بموسى عليه السَّلام بعد ظهور معجزته حتى يُريهم ربَّهم جهرةً والإيمانُ بالأنبياء واجبٌ بعد ظهور معجزتهم ولا يجوز اقتراح المعجزات عليه فلهذا عاقبهم الله تعالى وهذه الآية توبيخٌ لهم على مخالفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مع قيام معجزته كما خالف أسلافهم موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة

56

{ثم بعثناكم} نشرناكم وأَعدْناكم أَحياءً {من بعد موتكم لعلكم تشكرون} نعمة البعث

57

{وظللنا عليكم الغمام} سترناكم عن الشَّمس في التِّيه بالسَّحاب الرَّقيق {وأنزلنا عليكم المنَّ} الطُّرَنْجبين كان يقع على أشجارهم بالأسحار {والسَّلوى} وهي طير أمثال السُّمانى وقلنا لهم: {كلوا من طيبات} من حلالات {ما رزقناكم وما ظلمونا} بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول قرية الجبَّارين ولكنَّهم ظلموا أنفسهم حين تركوا أمرنا فحبسناهم في التِّيه فلمَّا انقضت مدَّة حبسهم وخرجوا من التِّيه قال الله تعالى لهم:

58

{ادخلوا هذه القرية} وهي أريحا {وادخلوا الباب} يعني: باباً من أبوابها {سجداً} منحنين متواضعين {وقولوا حطة} وذلك أنَّهم أصابوا خطيئةً بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول القرية فأراد الله تعالى أَنْ يغفرها لهم فقال لهم: قولوا حطَّةٌ أَيْ: مسألتنا حطَّةٌ وهو أن تحط عنا ذنوبنا {وسنزيد المحسنين} الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحساناً وثواباً

59

{فبدَّل الذين ظلموا قولاً} منهم {غير الذي قيل لهم} أَيْ: غيَّروا تلك الكلمة التي أُمروا بها وقالوا: حنطةٌ {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً} : ظلمةً وطاعوناً فهلك منهم فِي ساعة واحدة سبعون ألفاً جزاءً لفسقهم بتبديل ما أُمروا به من الكلمة

60

{وإذ استسقى موسى لقومه} في التِّيه {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} وكان حجراً خفيفاً مربَّعاً مثل رأس الرَّجل {فانفجرت} أيْ: فضربَ فانفجرت يعني: فانشقَّت {منه اثنتا عشرة عيناً} فكان يأتي كلُّ سبط عينَهم التي كانوا يشربون منها فذلك قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مشربهم} وقلنا لهم: {كلوا} من المنِّ والسَّلوى {واشربوا} من الماء فهذا كلُّه {من رزق الله} {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أَيْ: لا تسعوا فيها بالفساد فَمَلُّوا ذلك العيش وذكروا عيشاً كان لهم بمصر فقالوا:

61

{يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} يعني: المنَّ الذي كانوا يأكلونه والسَّلوى فكانا طعاماً واحداً {فادع لنا ربك} سله وقل له: أَخرِجْ {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} وهو كلُّ نباتٍ لا يبقى له ساقٌ {وقثائها} وهو نوعٌ من الخضراوات {وفومها} وهو الحنطة فقال لهم موسى عليه السَّلام: {أتستبدلون الذي هو أدنى} أَيْ: أخسُّ وأوضع {بالذي هو خيرٌ} أَي: أرفع وأجلُّ؟ فدعا موسى عليه السَّلام فاستجبنا له وقلنا لهم: {اهبطوا مصراً} : أنزلوا بلدةً من البلدان {فإنَّ لكم ما سألتم} أَيْ: فإنَّ الذي سألتم لا يكون إلاَّ فِي القرى والأمصار {وضُربت عليهم} أَيْ: على اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم {الذلَّة} يعني: الجزيةَ وزيَّ اليهوديَّة ومعنى ضرب الذِّلة: إلزامهم إيَّاها إلزاماً لا يبرح {والمسكنة} زي الفقر وأثر البؤس {وباءوا} احتملوا وانصرفوا {بغضب من الله ذلك} أَيْ: ذلك الضَّرب والغضب {بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله} التي أنزلت على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {ويقتلون النَّبيين} أَيْ: يتولَّون أولئك الذين فعلوا ذلك {بغير حق} أَيْ: قتلاً بغير حقٍّ يعني: بالظُّلم {ذلك} الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي وتجاوزهم أمر الله تعالى

62

{إن الذين آمنوا} أي: بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك {والذين هادوا} دخلوا في دين اليهوديَّة {والنصارى والصابئين} الخارجين من دين إلى دين وهم قومٌ يعبدون النُّجوم {مَنْ آمن} من هؤلاء {بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً} بالإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام لأنَّ الدليل قد قام أنَّ مَنْ لم يؤمن به لا يكون عمله صَالِحًا {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنون}

63

{وإذ أخذنا ميثاقكم} بالطَّاعة لله تعالى والإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام في حال رفع الطُّور فوقكم يعني: الجبل وذلك لأنَّهم أبوا قبول شريعة التَّوراة فأمر الله سبحانه جبلاً فانقلع من اصله حتى قام على رؤوسهم فقبلوا خوفاً من أن يُرضخوا على رؤوسهم بالجبل وقلنا لكم: {خذوا ما آتيناكم} اعملوا بما أُمرتم به {بقوَّةٍ} بجدٍّ ومواظبةٍ على طاعة الله عز وجل {واذكروا ما فِيهِ} من الثَّواب والعقاب {لعلكم تتقون}

64

{ثم توليتم من بعد ذلك} أعرضتم عن أمر الله تعالى وطاعته من بعد أخذ الميثاق {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتأخير العذاب عنكم {لَكُنْتُمْ مِنَ الخاسرين} الهالكين في العذاب

65

{ولقد علمتم} عرفتم حال {الذين اعتدوا} جاوزوا ما حُدَّ لهم من ترك الصَّيد في السَّبت {فقلنا لهم كونوا} بتكويننا إيَّاكم {قردةً خاسئين} مطرودين مبعدين

66

{فجعلناها} أَيْ: تلك العقوبة والمسخة {نكالاً} عبرةً {لما بين يديها} للأمم التي ترى الفرقة الممسوخة {وما خلفها} من الأمم التي تأتي بعدها {وموعظة} عبرةً {للمتقين} للمؤمنين الذين يتقون من هذه الأمَّة

67

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تذبحوا بقرة} وذلك أنَّه وُجد قتيلٌ في بني إسرائيل ولم يدروا قاتله فسألوا موسى عليه السَّلام أن يدعو الله تعالى ليبيِّن لهم ذلك فسأل موسى ربَّه فأمرهم بذبح بقرةٍ فقال لهم موسى عليه السَّلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً {قَالُوا أتتخذنا هزوا} أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل فتأمرنا بذبح البقرة؟ ! {قال أعوذ بالله} أمتنع به أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين فلمَّا علموا أنَّ ذلك عزمٌ من الله عز وجل سألوه الوصف فقالوا:

68

{ادع لنا ربك} أَيْ: سله بدعائك إيَّأه {يبين لنا ما هي} ما تلك البقرة وكيف هي وكم سنُّها؟ وهذا تشديدٌ منهم على أنفسهم {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} مُسِنَّةٌ كبيرةٌ {ولا بكرٌ} فتيةٌ صغيرةٌ {عوانٌ} نَصَفٌ بين السِّنَّينِ {فافعلوا ما تؤمرون} (فيه تنبيهٌ على منعهم) وقوله تعالى:

69

{فاقعٌ لونها} أَيْ: شديد الصُّفرة {تسرُّ الناظرين} تعجبهم بحسنها

70

{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أَسائمةٌ أم عاملةٌ؟ {إنَّ البقر} جنس البقر {تشابه} اشتبه وأشكل {علينا وإنَّا إنْ شاء الله لمهتدون} إلى وصفها [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وايمُ اللَّهِ لو لم يستثنوا لما بُيِّنت لهم آخر الأبد]

71

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} مُذلَّلةٌ بالعمل {تثير الأرض} تُقلبها للزراعة أَيْ: ليستْ تقلِّب لأنَّها ليست ذلولاً {ولا تسقي الحرث} الأرض المهيَّأة للزِّراعة {مسلَّمة} من العيوب وآثار العمل {لا شية فيها} لا لون فيها يُفارق سائر لونها {قالوا الآن جئت بالحقّ} بالوصف التّام الذي تتميَّز به من أجناسها فطلبوها فوجدوها {فذبحوها وما كادوا يفعلون} لغلاء ثمنها

72

{وإذ قتلتم نفساً} هذا أوَّل القصَّة ولكنَّه مؤخرَّ في الكلام {فادَّارأتم} فاختلفتم وتدافعتم {والله مخرجٌ} مُظهرٌ {ما كنتم تكتمون} من أمر القتيل

73

{فقلنا اضربوه ببعضها} بلسانها فيحيى فضرب فيحيى {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} أَيْ: كما أحيا هذا القتيل {ويريكم آياته} آيات قدرته في خلق الحياة في الأموات (كما خلق في عاميل)

74

{ثم قست قلوبكم} يا معشر اليهود أَي: اشتدَّت وصلبت {من بعد ذلك} من بعد هذه الآيات التي تقدَّمت من المسخ ورفع الجبل فوقهم وانبجاس الماء من الحجرِ وإحياء الميت بضرب عضوٍ وهذه الآيات ممَّا يصدِّقون بها {فهي كالحجارة} في القسوة وعدم المنفعة بل {أشد قسوة} وإنَّما عنى بهذه القسوة تركهم الإِيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا صدقه وقدرةَ الله تعالى على عقابهم بتكذيبهم إيَّاه ثمَّ عذر الحجارة وفضَّلها على قلوبهم فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وإنَّ منها لما يهبط} ينزل من علوٍ إلى سفل {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قال مجاهدٌ: كلُّ حجرٍ تفجَّر منه الماء أو تشقَّق عن ماء أو تردَّى من رأس جبلٍ فهو من خشية الله تعالى نزل به القرآن ثمَّ أوعدهم فقال: {وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون} ثمَّ خاطب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقطع طمعهم عن إيمانهم فقال:

75

{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} وحالهم أنَّ طائفةً منهم كانوا {يسمعون كلام الله} يعني التَّوراة {ثم يحرفونه} يُغيِّرونه عن وجهه يعني: الذين غيَّروا أحكام التَّوراة وغيَّروا آية الرَّجم وصفة محمد صلى الله عليه وسلم {من بعد ما عقلوه} أَيْ: لم يفعلوا ذلك عن نسيانٍ وخطأٍ بل فعلوه عن تعمُّدٍ {وهم يعلمون} أنَّ ذلك مَكْسَبةٌ للأوزار

76

{وإذا لقوا الذين آمنوا} يعني: منافقي اليهود {قالوا آمنا} بمحمَّدٍ وهو نبيٌّ صادقٌ نجده في كتبنا {وإذا خلا بعضهم إلى بعض} يعني: إذا رجع هؤلاء المنافقون إلى رؤساهم لاموهم فقالوا: {أتحدثونهم} أتخبرون أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - {بما فتح الله عليكم} من صفة النَّبيِّ المُبشَّر به {ليحاجُّوكم} ليجادلوكم ويخاصموكم {به} بما قلتم لهم {عند ربكم} في الآخرة يقولون: كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقة {أفلا تعقلون} أفليس لكم ذهن الإنسانيَّة؟ فقال الله تعالى:

77

{أو لا يعلمون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من التَّكذيب يعني: هؤلاء المنافقين {وما يعلنون} من التَّصديق

78

{ومنهم} ومن اليهود {أميُّون} لا يكتبون ولا يقرؤون {لا يعلمون الكتاب إلاَّ أمانيّ} إلاَّ أكاذيب وأحاديثَ مُفتعلةً يسمعونها من كبرائهم {وإن هم إلاَّ يظنون} أَيْ: إلاَّ ظانِّين ظنَّاً وتوهُّماً فيجحدون نُبُوَّتَكَ بالظَّنِّ

79

{فويلٌ} فشدَّةُ عذابٍ {للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} أَيْ: من قِبَلِ أنفسهم من غير أن يكون قد أُنزل {ثم يقولون هذا من عند الله} يعني اليهود عمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبوا صفته على غير ما كانت فِي التَّوراة وأخذوا عليه الأموال فذلك قوله تعالى: {وويلٌ لهم ممَّا يكسبون} (من حُطَام الدُّنيا) فلمَّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّار عند تكذيبهم إيَّاه قالوا:

80

{لن تمسنا النار إلا أياماً معدودةً} قليلةً ويعنون الأيَّام التي عبد آباؤهم فيها العجل فكذَّبهم الله سبحانه فقال: قل لهم يا محمَّدُ: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عهداً} أخذتم بما تقولون من الله ميثاقاً؟ {فلن يخلف الله عهده} والله لا ينقض ميثاقه {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} الباطلَ جهلاً منكم ثمَّ ردَّ على اليهود قولهم: لن تمسَّنا النَّار فقال {بلى} أُعذِّب

81

{مَنْ كسب سيئة} وهي الشِّرك {وأحاطت به خطيئته} : سدَّت عليه مسالك النَّجاة وهو أّنْ يموت على الشِّرك {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} الذين يُخلَّدون في النَّار ثمَّ أخبر عن أخذ الميثاق عليهم بتبيين نعت محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فقال:

82

قوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

83

{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أَيْ: في التَّوراة {لا تعبدون} أَيْ: بأن لا تعبدوا {إلاَّ الله وبالوالدين إحساناً} أَيْ: ووصَّيناهم بالوالدين إحساناً {وذي القربى} أَي: القرابة في الرَّحم {واليتامى} يعني: الذين مات أبوهم قبل البلوغ {وقولوا للناس حسناً} أَيْ: صدقاً وحقَّاً في شأن محمَّدٍ عليه السَّلام وهو خطابٌ لليهود {ثم توليتم} أعرضتم عن العهد والميثاق يعني: أوائلهم {إلاَّ قليلاً منكم} يعني: مَنْ كان ثابتاً على دينه ثمَّ آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم {وأنتم معرضون} عمَّا عُهد إليكم كأوائلكم

84

{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} بأن لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يُخرج بعضكم بعضاً من داره ولا يغلبه عليها {ثم أقررتم} أَيْ: قبلتم ذلك {وأنتم} اليوم {تشهدون} على إقرار أوائلكم ثمَّ أخبر أنَّهم نقضوا هذا الميثاق فقال:

85

{ثم أنتم هؤلاء} أراد: يا هؤلاء {تقتلون أنفسكم} يقتل بعضكم بعضاً {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم} تتعاونون على أهل ملَّتكم {بالإثم والعدوان} : بالمعصية والظُّلم {وإن يأتوكم أسارى} مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم {وهو محرَّم عليكم إخراجهم} أَيْ: وإخراجهم عن ديارهم محَّرمٌ عليكم {أفتؤمنون ببعض الكتاب} يعني: فداء الأسير {وتكفرون ببعض} يعني: القتل والإخراج والمظاهرة على وجه الإباحة؟ قال السُّدِّيُّ: أحذ الله تعالى عليهم أربعة عهودٍ: تركَ القتل وترك الإِخراج وترك المظاهرة وفداء أُسرائهم فأعرضوا عن كلِّ ما أُمروا به إلاَّ الفداء {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خزيٌ} فضيحةٌ وهوانٌ {في الحياة الدنيا} وقوله:

86

{فلا يخفف عنهم العذاب} معناه: في الدُّنيا والآخرة وقيل: هذه الحالة مختصَّةٌ بالآخرة

87

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرسل} أَيْ: وأرسلنا رسولاً بعد رسول {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} يعني: ما أُوتي من المعجزة {وأيدناه} وقوَّيناه {بِرُوحِ القدس} بجبريل عليه السَّلام وذلك أنَّه كان قرينه يسير معه حيث سار يقول: فعلنا بكم كلَّ هذا فما استقمتم لأنَّكم {كلما جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} ثمَّ تعظَّمتم عن الإِيمان به {ففريقاً كذَّبتم} مثل عيسى ومحمَّدٍ عليهما السَّلام {وفريقاً تقتلون} مثل يحيى وزكريا عليهما السَّلام

88

{وقالوا قلوبنا غلفٌ} هو أنَّ اليهود قالوا استهزاءً وإنكاراً لما أتى به محمد عليه السَّلام: قلوبنا غلفٌ عليها غشاوةٌ فهي لا تعي ولا تفقه ما تقول وكلُّ شيءٍ في غلافٍ فهو أغلف وجمعه: غُلْف ثمَّ أكذبهم الله تعالى فقال: {بل لعنهم الله} أَيْ: أبعدهم من رحمته فطردهم {فقليلاً ما يؤمنون} أَيْ: فبقليلٍ يؤمنون بما في أيديهم وقال قتادة: فقليلاً ما يؤمنون أَيْ: ما يؤمن منهم إلاَّ قليلٌ كعبد الله بن سلام

89

{ولما جاءهم كتاب} يعني: القرآن {مصدِّق} موافقٌ {لما معهم} {وكانوا} يعني: اليهود {من قبل} نزول الكتاب {يستفتحون} يستنصرون {على الذين كفروا} بمحمد عليه السَّلام وكتابه ويقولون: اللَّهم انصرنا بالنَّبيِّ المبعوث في آخر الزَّمان {فلما جاءهم ما عرفوا} يعني: الكتاب وبعثة النبيّ {كفروا} ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال:

90

{بئسما اشتروا به أنفسهم} أَيْ: بئس ما باعوا به حظَّ أنفسهم من الثَّواب بالكفر بالقرآن {بغياً} أَيْ: حسداً {أن ينزل الله} أَيْ: إنزال اللَّهُ {مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده} وذلك أنَّ كفر اليهود لم يكن من شك ولا اشتباهٍ وإنَّما كان حسداً حيث صارت النُّبوَّة في ولد إسماعيل عليه السَّلام {فباءوا} فانصرفوا واحتملوا {بغضب} من الله عليهم لأجل تضييعهم التَّوراة {على غضب} لكفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن

91

{وإذا قيل} لليهود {آمنوا بما أنزل الله} بالقرآن {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعني: التَّوراة {ويكفرون بما وراءه} بما سواه {وهو الحقُّ} يعني: القرآن {مصدِّقاً لما معهم} موافقاً للتَّوراة ثمَّ كذَّبَهم الله تعالى في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا بقوله: {فلمَ تقتلون أنبياء الله} أَيْ: أيُّ كتابٍ جُوِّز فِيهِ قتلُ نبيٍّ؟ ! {إن كنتم مؤمنين} شرطٌ وجوابه ما قبله ثمَّ ذكر أنَّهم كفروا بالله تعالى مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه السَّلام فقال:

92

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} يعني: العصا واليد وفلق البحر {ثمَّ اتخذتم العجل من بعده} إلهاً {وأنتم ظالمون}

93

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتيناكم بقوَّة واسمعوا} مضى تفسيره ومعنى: واسمعوا أَيْ: اقبلوا ما فيه من حلاله وحرامه وأطيعوا {قالوا سمعنا} ما فِيهِ {وعصينا} ما أُمرنا به {وأُشربوا في قلوبهم العجل} وسُقوا حبَّ العجل وخُلطوا بحبِّ العجل حتى اختلط بهم والمعنى: حُبَّب إليهم العجل {بكفرهم} باعتقادهم التَّشبيه لأنَّهم طلبوا ما يُتَصَوَّرُ فِي نفوسهم {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كنتم مؤمنين} هذا تكذيبٌ لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وذلك أن آبائهم ادَّعوا الإِيمان ثمَّ عبدوا العجل فقيل لهم: بئس الإيمان إيمانٌ يأمركم بالكفر والمعنى: لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل يعني: آبائهم كذلك أنتم لو كنتم مؤمنين بما أُنزل عليكم ما كذَّبتم محمَّداً

94

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إن كنتم صادقين} كانت اليهود تقول: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا فقيل لهم: إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت فإنَّ مَنْ كان لا يشكُّ فِي أنَّه صائر إلى الجنَّةِ فالجنَّةُ آثرُ عنده

95

{ولن يتمنوه أبداً} لأنَّهم عرفوا أنَّهم كفرةٌ ولا نصيب لهم فِي الجنَّة وهو قوله تعالى: {بما قدَّمت أيديهم} أيْ: بما عملوا من كتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتغيير نعته {واللَّهُ عليم بالظالمين} فيه معنى التَّهديد

96

{ولتجدنهم} يا محمَّدُ يعني: علماءَ اليهود {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لأنَّهم علموا أنَّهم صائرون إلى النَّار إذا ماتوا لما أتوا به في أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {ومن الذين أشركوا} أَيْ: وأحرص من منكري البعث ومَنْ أنكر البعث أحبَّ طول العمر لأنَّه لا يرجو بعثاً فاليهود أحرص منهم لأنَّهم علموا ما جنوا فهم يخافون النَّار {يود أحدكم} أَيْ: أحد اليهود {لو يعمَّرُ ألف سنة} لأنَّه يعلم أنَّ آخرته قد فَسَدَتْ عليه {وما هو} أَيْ: وما أحدهم {بِمُزَحْزِحِهِ} بِمُبْعِدِهِ من {العذاب أن يعمَّر} تعميره

97

{قل من كان عدوا لجبريل} سألت اليهود نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن مَنْ يأتيه من الملائكة؟ فقال: جبريل فقالوا: هو عدوُّنا ولو أتاك ميكائيل آمنَّا بك فأنزل الله هذه الآية والمعنى: قل من كان عدوا لجبريل فليمت غيظاً {فإنه نزله} أَيْ: نزَّل القرآن {على قلبك بإذن الله} بأمر الله {مصدقاً} موافقاً لما قبله من الكتب {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ردٌّ على اليهود حين قالوا: إنَّ جبريل ينزل بالحرب والشِّدَّة فقيل إنَّه - وإنْ كان ينزل بالحرب والشدَّة على الكفرين - فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين

98

{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال فإن الله عدو للكافرين} أَيْ: مَنْ كان عدوّاً لأحد هؤلاء فإن اللَّهَ عدوٌّ له لأن عدوَّ الواحدِ عدوُّ الجميع وعدوُّ محمَّدٍ عدوُّ الله والواو ها هنا بمعنى أو كقوله: {ومَن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله} لأنَّ الكافر بالواحد كافرٌ بالكلِّ وقوله: {فإنَّ الله عدوٌ للكافرين} أَيْ: إنَّه تولَّى تلك العداوة بنفسه وكفى ملائكته ورسله أمر مَنْ عاداهم

99

{ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات} دلالاتٍ واضحاتٍ وهذا جوابٌ لابن صوريا حين قال: يا محمد ما أُنزل عليك من آيةٍ بيِّنةٍ فَنَتَّبعكَ بها {وما يكفر بها إلاَّ الفاسقون} الخارجون عن أديانهم واليهود خرجت بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم عن شريعة موسى عليه السَّلام ولمَّا ذكر محمدٌ صلى الله عليه وسلم لهم ما أخذ الله تعالى عليهم من العهد فيه قال مالك بن الصَّيف: والله ما عُهد إلينا في محمدٍ عهدٌ ولا ميثاق فأنزل الله تعالى:

100

{أو كلما عاهدوا عهداً} الآية وقوله {نبذة فريق منهم} يعني: الذين نقضوه من علمائهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} لأنهم من بين ناقضٍ للعهد وجاحدٍ لنبوَّته معاندٍ له وقوله:

101

{نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب} يعني: علماء اليهود {كتاب الله} يعني التَّوراة {وراء ظهورهم} أَيْ: تركوا العمل به حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {كأنهم لا يعلمون} أنَّه حقٌّ وأنَّ ما أتى به صدقٌ وهذا إخبارٌ عن عنادهم ثمَّ أخبر أنَّهم رفضوا كتابة واتَّبعوا السِّحر فقال: {واتبعوا} يعني: علماء اليهود

102

{ما تتلوا الشياطين} أَيْ: ما كانت الشَّياطين تُحدِّث وتقصُّ من السِّحر {على ملك سليمان} في عهده وزمان مُلْكه وذلك أنَّ سليمان عليه السلام لما نُزع ملكه دفنت الشَّياطين في خزانته سحراً ونيرنجات فلمَّأ مات سليمان دلَّت الشياطين عليها النَّاس حتى استخرجوها وقالوا للنَّاس: إنَّما مَلَكَكُم سليمان بهذا فتعلَّموه فأقبل بنو إسرائيل على تعلُّمها ورفضوا كتب أنبيائهم فبرَّأ الله سليمان عليه السَّلام فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أَيْ: لم يكن كافراً ساحراً يسحر {ولكنَّ الشياطين كفروا} بالله {يعلمون الناس السحر} يريد: ما كتب لهم الشَّياطين من كُتب السِّحر {وما أنزل على الملكين} أَيْ: ويُعلِّمونهم ما أُنزل عليهما أَيْ: ما علِّما وأُلْهِمَا وقُذِف فِي قلوبهما من علم التَّفرقة وهو رقيةٌ وليس بسحرٍ وقوله: {وما يعلِّمان} يعني: المَلَكَيْن السِّحر {من أحدٍ} أحداً {حتى يقولا إنما نحن فتنة} ابتلاءٌ واختبارٌ {فلا تكفر} وذلك أن الله عز وجل امتحن النَّاس بالملكين فِي ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابلُ تعلُّم السِّحر فيكفر بتعلُّمه ويؤمن بتركه ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء وهذا معنى قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} أَيْ: محنة من الله نحبرك أنَّ عمل السِّحر كفرٌ بالله وننهاك عنه فإنْ أطعتنا نجوت وإن عصيتنا هلكت وقوله تعالى {فيتعلمون} أَيْ: فيأتون فيتعلَّمون من الملكين {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهو أن يؤخذ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه ويُبغَّض كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر {وما هم} أَيْ: السَّحَرة الذين يتعلَّمون السِّحر {بضارين به} بالسِّحر {من أحدٍ} أحداً {إلاَّ بإذن الله} بإرادته كون ذلك أَيْ: لا يضرُّون بالسِّحر إلاَّ مَنْ أراد الله أن يلحقه ذلك الضَّرر {ويتعلمون ما يضرُّهم} في الآخرة {ولا ينفعهم} (في الدُّنيا) {ولقد علموا} يعني: اليهود {لمن اشتراه} من اختار السِّحر {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} من نصيب في الجنة ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: بئس شيءٌ باعوا به حظَّ أنفسهم حيث اختاروا السِّحر ونبذوا كتاب الله {لو كانوا يعلمون} كُنه ما يصير إليه مَنْ يخسر الآخرة من العقاب

103

{ولو أنَّهم آمنوا} بمحمَّدٍ عليه السَّلام والقرآن {واتقوا} اليهوديَّة والسِّحر لأثيبوا ما هو خيرٌ لهم من الكسب بالسِّحر وهو قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يعلمون}

104

{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: راعنا سمعك وكان هذا بلسان اليهوديَّة سبَّاً قبيحاً فلمَّا سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبتهم فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك وأنزل هذه الآية وأمرهم أن يقولوا بدل راعنا {انظرنا} أَيْ: انظر إلينا حتى نُفهمك ما نقول {واسمعوا} أيْ: أطيعوا واتركوا هذه الكلمة لأنَّ الطَّاعة تجب بالسَّمع {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ من ربكم} أَيْ: خيرٌ من عند ربكم

105

{والله يختص برحمته} يخصُّ بنبوَّته {مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم}

106

{ما نَنْسَخْ من آية أو ننسها} أي: مانرفع آيةً من جهة النَّسخ بأن نُبطل حكمها أو بالإِنساءِ لها بأنْ نمحوها عن القلوب {نأت بخير منها} أَيْ: أصلح لمن تُعبِّد بها وأنفع لهم وأسهل عليهم وأكثر لأجرهم {أو مثلها} في المنفعة والمثوبة {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من النِّسخِ والتَّبديل وغيرهما {قدير} نزلت هذه الآية حين قال المشركون: إنَّ محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ثمَّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ما هذا القرآن إلاَّ كلام محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية وقولَهُ: {وإذا بدَّلنا آية مكان آيةٍ} الآية

107

{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} يعمل فيهما ما يشاء وهو أعلم بوجه الصَّلاح فيما يتعبَّدهم به من ناسخ ومنسوخ {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} أَيْ: والٍ يلي أمركم ويقوم به {ولا نصير} ينصركم وفي هذا تحذيرٌ من عذابه إذ لا مانع منه

108

{أم تريدون} أَيْ: بل أتريدون {أن تسألوا رسولكم} محمدا صلى الله عليه وسلم {كما سئل موسى من قبل} وذلك أنَّ قريشاً قالوا: يا محمَّدُ اجعل لنا الصَّفا ذهباً ووسِّعْ لنا أرض مكَّة فَنُهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه السَّلام حين قالوا: {أرنا الله جهرة} وذلك أنَّ السُّؤال بعد قيام البراهين كفرٌ ولذلك قال: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سواء السبيل} قصده ووسطه

109

{ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب} نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة أُحدٍ: ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فذلك قوله تعالى: {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا من عند أنفسهم} أَيْ: فِي حكمهم وتديّنهم ما لم يؤمروا به {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهم الحق} فِي التَّوراة أنَّ قول محمَّدٍ صدقٌ ودينه حقٌّ {فاعفوا واصفحوا} وأعرضوا عن مساوئ أخلقهم وكلامهم وغلِّ قلوبهم {حتى يأتي الله بأمره} بالقتال

110

قال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بما تعملون بصير}

111

{وقالوا لن يدخل الجنة} أَيْ: قالت اليهود: لن يدخل الجنَّة {إلاَّ مَنْ كان هوداً} وقالت النَّصارى: لن يدخلها إلاَّ النَّصارى {تلك أمانيهم} التي تمنَّوها على الله سبحانه باطلاً {قل هاتوا برهانكم} قرِّبوا حجَّتكم على ما تقولون ثمَّ بيَّن مَنْ يدخلها فقال:

112

{بلى} يدخلها {مَنْ أسلم وجهه لله} انقاد لأمره وبذل له وجهه في السُّجود {وهو محسن} مؤمنٌ مصدقٌ بالقرآن

113

{وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} لمَّا قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود وكفَّر كلُّ واحدٍ من الفريقين الآخر وقوله تعالى: {وهم يتلون الكتاب} يعني: إنَّ الفريقين يتلون التَّوراة وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد فدلَّ بهذا على ضلالتهم {كذلك قال الذين لا يعلمون} يعني: كفَّار الأمم الماضية وكفَّار هذه الأمَّة {مثل قولهم} في تكذيب الأنبياء والاختلاف عليهم فسبيل هؤلاء الذين يتلون الكتاب كسبيل مَنْ لا يعلم الكتاب من المشركين في الإنكار لدين الله سبحانه {فالله يحكم بينهم} أَيْ يُريهم عياناً مَنْ يدخل الجنَّة ومَنْ يدخل النَّار

114

{ومن أظلم ممن منع مساجد الله} يعني: بيت المقدس ومحاربيه نزلت في أهل الرُّوم حين خرَّبوا بيت المقدس {أولئك} يعني: أهل الرُّوم {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} لم يدخل بيت المقدس بعد أن عمره المسلمون روميٌّ إلاَّ خائفاً لو عُلم به قُتل {لهم في الدنيا خزي} يعني: القتل للحربيِّ والجزية للذميِّ

115

{ولله المشرقُ والمغرب} أَيْ: إنَّه خالقهما نزلت في قوم من الصَّحابة سافروا فأصابهم الضَّباب فتحرَّوا القِبلة وصلَّوا إلى أنحاءٍ مختلفةٍ فلمَّا ذهب الضَّباب استبان أنَّهم لم يصيبوا فلمَّا قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقوله تعالى: {فأينما تولوا} أَيْ: تصرفوا وجوهكم {فثمَّ وجه الله} أَيْ: فهناك قِبلة الله وجهته التي تعبَّدكم الله بالتوجُّه إليها {إنَّ الله واسعٌ عليم} أَيْ: واسع الشَّريعة يُوسِّع على عباده في دينهم (اختلف العلماء في حكم هذه الآية فمنهم مَنْ قال: هي منسوخة الحكم بقوله: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} ومنهم مَنْ قال: حكمها ثابت غير أنها مخصوصة بالنَّوافل في السفر وقيل: إنها نزلت في شأن النجاشي حين صلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وقولهم له: كيف تُصلِّي على رجل صلَّى إلى غير قبلتنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبيَّن أنَّ النجاشي وإنْ صلَّى إلى المشرق أو المغرب فإنَّما قصد بذلك وجه الله وعبادته ومعنى {فثمَّ وجه الله} أَيْ: فَثَمَّ رضا الله وأمره كما قال: {إنَّما نُطعمكم لوجه الله} والوجهُ والجِهةُ والوِجهةُ: القِبلةُ)

116

{وقالوا اتخذ الله ولداً} يعني: اليهود في قولهم: {عزير ابنُ الله} والنصارى في قولهم: {المسيح ابنُ الله} والمشركين في قولهم: الملائكة بنات الله ثمَّ نزَّه نفسه عن الولد فقال {سبحانه بل} ليس الأمر كذلك {له ما في السماوات والأرض} عبيداً وملكاً {كلٌّ له قانتون} مطيعون: يعني: أهل طاعته دون النَّاس أجمعين

117

{بديع السماوات والأرض} خالقهما وموجدهما لا على مثالٍ سبق {وإذا قضى أمراً} قدَّره وأراد خلقه {فإنما يقول له كن فيكون} أَيْ: إنما يُكوِّنه فيكون وشرطه أن يتعلَّق به أمره (وقال الأستاذ أبو الحسن: يُكوِّنه بقدرته فيكون على ما أراد)

118

{وقال الذين لا يعلمون} يعني: مشركي العرب قالوا لمحمَّدٍ: لن نؤمن لك حتى {يكلّمنا الله} أنَّك رسوله {أو تأتينا آية} يعني: ما سألوا من الآيات الأربع في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} ومعنى {لولا يكلِّمنا الله} أَيْ: هلاَّ يُكلِّمنا الله أنَّك رسوله {كذلك قال الذين من قبلهم} يعني: كفَّار الأمم الماضية كفروا بالتَّعنُّتِ بطلب الآيات كهؤلاء {تشابهت قلوبهم} أشبه بعضها بعضاً فِي الكفر والقسوة ومسألة المحال {قد بيَّنا الآيات لقوم يوقنون} أَيْ: مَنْ أيقن وطلب الحقَّ فقد أتته الآيات لأنَّ القرآن برهانٌ شافٍ

119

{إنا أرسلناك بالحق} بالقرآن والإسلام أَيْ: مع الحقِّ {بشيراً} مُبشِّراً للمؤمنين {ونذيراً} مُخوِّفاً ومُحذِّراً للكافرين {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم} أَيْ: لست بمسؤولٍ عنهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أنَّ الله عز وجل أنزل بأسه باليهود لآمنوا فأنزل الله تعالى هذه الآية أَيْ: ليس عليك من شأنهم عُهدةٌ ولا تبعة

120

{ولن ترضى عنك اليهود} الآية نزلت في تحويل القبلة وذلك أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يرجون أنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم يرجع إلى دينهم فلمَّا صرف الله تعالى القِبلة إلى الكعبة شقَّ عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم} يعني: دينهم وتصلِّي إلى قبلتهم {قل إنَّ هدى الله هو الهدى} أَي: الصِّراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو طريق الحقِّ {ولَئِنِ اتبعت أهواءهم} يعني: ما كانوا يدعونه إليه من المهادنة والإِمهال {بعد الذي جاءك من العلم} أَي: البيان بأنَّ دين الله عز وجل هو الإسلام وأنَّهم على الضلالة {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نصير}

121

{الذين آتيناهم الكتاب} يعني: مؤمني اليهود {يتلونه حق تلاوته} يقرؤونه كما أُنزل ولا يُحرِّفونه ويتَّبعونه حقَّ اتباعه

122

قال تعالى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}

123

قال تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شفاعة ولا هم ينصرون}

124

{وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه} اختبره أَيْ: عامله معاملة المُختبِر {بكلماتٍ} هي عشر خصالٍ: خمسٌ في الرأس وهي الفرق والمضمضة والاستنشاق والسِّواك وقصُّ الشَّارب وخمسٌ في الجسد وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان والاستنجاء ونتف الرفغنين {فأتمهنَّ} أدَّاهنَّ تامَّاتٍ غير ناقصات {قال} الله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} يقتدي بك الصَّالحون فقال إبراهيم: {ومِنْ ذريتي} أَيْ: ومن أولادي أيضاً فاجعل أئمةً يُقتدى بهم فقال الله عز وجل {لا ينال عهدي الظالمين} يريد: مَنْ كان من ولدك ظالماً لا يكون إماماً ومعنى: {عهدي} أَيْ: نُبوَّتي

125

{وإذ جعلنا البيت} يعني: الكعبة {مثابةً للناس} معاداً يعودون إليه لا يقضون منه وطراً كلَّما انصرفوا اشتاقوا إليه {وأَمْناً} أَيْ ك مؤمناً وكانت العرب يرى الرَّجل منهم قاتل أبيه فِي الحرم فلا يتعرَّض له وأمَّا اليوم فلا يُهاج الجاني إذا التجأ إليه عند أهل العراق وعند الشافعيِّ: الأولى أن لا يُهاج فإنْ أُخيف بإقامة الحدِّ عليه جاز وقد قال كثيرٌ من المفسرين: مَنْ شاء آمن ومَنْ شاء لم يُؤمن كما أنَّه لمَّا جعله مثابةً مَنْ شاء ثاب ومَنْ شاء لم يثب {واتَّخذوا} أَيْ: النَّاس {من مقام إبراهيم} وهو الحجر الذي يُعرف بمقام إبراهيم وهو موضع قدميه {مصلَّى} وهو أنَّه تُسنُّ الصَّلاة خلف المقام قرئ على هذا الوجه على الخبر وقرئ بالكسر على الأمر {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أمرناهما وأوصينا إليهما {أنْ طهِّرا بيتي} من الأوثان والرِّيَب ( {للطائفين} حوله وهم النزائع إليه من آفاق الأرض {والعاكفين} أي: المقيمين فيه وهم سكان الحرم {والركع} جمع راكع و {السجود} جمع ساجد مثله: قاعد وقعود)

126

{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا} أَيْ: هذا المكان وهذا الموضع {بلداً} مسكناً {آمناً} أَيْ: ذا أمنٍ لا يُصاد طيره ولا يُقطع شجره ولا يُقتل فيه أهله {وارزق أهله من الثمرات} أنواع حمل الشَّجر {مَنْ آمن منهم بالله واليوم الآخر} خَصَّ إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين قال تعالى: {وَمَنْ كفر فأمتعه قليلا} فسأرزفه إلى منهى أجله {ثمَّ أضطره} أُلجئه فِي الآخرة {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المصير} هي

127

{وإذ يرفع إبراهيم القواعد} أصول الأساس {من البيت وإسماعيل} ويقولان: {ربنا تقبلْ منَّا} تقرُّبنا إليك ببناء هذا البيت {إنك أنت السميع} لدعائنا {العليمُ} بما في قلوبنا

128

{ربنا واجعلنا مسلمين لك} مطيعي مُنقادين لحكمك {ومن ذريتنا أمة} جماعةً {مسلمة لك} وهم المهاجرون والأنصار والتَّابعون بإحسان {وأرنا مناسكنا} عرّفنا مُتَعبَّداتنا

129

{ربنا وابعث فيهم} في الأمَّة المسلمة {رسولاً منهم} يريد: محمدا صلى الله عليه وسلم {يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} أَي: القرآن {ويزكيهم} ويُطهِّرهم من الشِّرك {إنك أنت العزيز} الغالب القويُّ الذي لا يعجزه شيءٌ ومضى تفسير الحكيم

130

{ومَنْ يرغب عن ملة إبراهيم} أَيْ: وما يرغب عنها ولا يتركها {إلاَّ مَنْ سفه نفسه} أَيْ: جهلها بأَنْ لم يعلم أنَّها مخلوقةٌ لله تعالى يجب عليها عبادة خالقها {ولقد اصطفيناه في الدُّنيا} اخترناه للرِّسالة {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أَيْ: من الأنبياء

131

{إذ قال له ربه أسلم} أخلص دينك لله سبحانه بالتَّوحيد وقيل: أسلم نفسك إلى الله {قال أسلمت} بقلبي ولساني وجوارحي {لرب العالمين}

132

{ووصَّى بها} أَيْ: أمر بالملَّة وقيل: بكلمة الإِخلاص {إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ} أراد: أَنْ يَا بَنِيَّ {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} أَي: الإِسلام دين الحَنيِفيَّة {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أي: الزموا الإِسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه

133

{أم كنتم شهداء} ترك الكلام الأوَّل وعاد إلى مُخاطبة اليهود المعنى: بل أكنتم شهداء أَيْ: حضوراً {إذ حضر يعقوب الموت} وذلك أنَّ اليهود قالت النبي صلى الله عليه وسلم: ألستَ تعلم أنَّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهوديَّة؟ فأكذبهم الله تعالى وقال: أكنتم حاضرين وصيته {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}

134

{تِلْكَ أُمَّةٌ} يعني: إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه {قد خلت} قد مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من العمل {ولكم} يا معشر اليهود {ما كسبتم} أَيْ: حسابهم عليهم وإنَّما تُسألون عن أعمالكم

135

{وقالوا كونوا هوداً أو نصارى} نزلت فِي يهود المدينة ونصارى نجران قال كلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلاَّ ذلك فقال الله تعالى: {قل بل ملَّة إبراهيم حنيفاً} يعني: بل نتبع ملَّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن الأديان كلِّها إلى دين الإسلام ثمَّ أمر المؤمنين أن يقولوا:

136

{آمنا بالله وما أنزل إلينا} يعني: القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} وهم أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء لذلك قال: وما أنزل إليهم وقوله تعالى: {لا نفرق بين أحد منهم} أَيْ: لا نكفر ببعضٍ ونؤمن ببعضٍ كما فعلت اليهود والنَّصارى

137

{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} أَيْ: إِنْ أتوا بتصديقٍ مثلِ تصديقكم وكان إيمانُهم كإيمانكم {فقد اهتدوا} فقد صاروا مسلمين {وإن تولوا} أعرضوا {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} فِي خلافٍ وعداوةٍ {فَسَيَكْفِيْكَهُمُ الله} ثمَّ فعل ذلك فكفاه أمر اليهود بالقتل والسَّبي فِي قريظة والجلاء والنَّفي فِي بني النضير والجزية والذَّلَّة فِي نصارى نجران

138

{صبغة الله} أَي: الزموا دين الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} أي: ومن أحسن من الله ديناُ؟

139

{قل} يا محمَّدُ لليهود والنَّصارى: {أتحاجوننا في الله} أَتُخاصموننا في دين الله؟ وذلك أنهم قالوا: إن ديننا هو الأقدم وكتابنا هو الأسبق ولو كنتَ نبيّاً لكنتَ منَّا {ولنا أعمالنا} نُجازى بحسنها وسيِّئها وأنتم في أعمالكم على مثل سبيلنا {ونحن له مخلصون} مُوحِّدون

140

{أم تقولون} إنَّ الأنبياء من قبل أن تنزل التَّوراة والإِنجيل {كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أم الله} أَيْ: قد أخبرنا الله سبحانه أنَّ الأنبياء كان دينهم الإِسلام ولا أحدٌ أعلم منه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله} هذا توبيخٌ لهم وهو أنَّ الله تعالى أشهدهم فِي التِّوراة والإِنجيل أنَّه باعثٌ فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم من ذريَّة إبراهيم عليه السَّلام وأخذ مواثيقهم أَنْ يُبيِّنوه ولا يكتموه ثمَّ ذكر قصَّة تحويل القبلة فقال:

141

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعملون}

142

{سيقول السفهاء من الناس} يعني: مشركي مكَّة ويهود المدينة {ما ولاَّهم} ما صرفهم؟ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {عن قبلتهم التي كانوا عليها} وهي الصَّخرة {قل لله المشرق والمغرب} يأمر بالتَّوجُّه إلى أيٍّ جهةٍ شاء {يَهْدِي من يشاء إلى صراط مستقيم} دينٍ مستقيمٍ يريد: إنِّي رضيتُ هذه القِبلة لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ثمَّ مدح أمَّته فقال:

143

{وكذلك} أي: وكما هديناكم صراطاً مستقيماً {جعلناكم أمة وسطاً} عدولاً خياراً {لتكونوا شهداء على الناس} لتشهدوا على الأمم بتبليغ الأنبياء {ويكون الرسول عليكم} على صدقكم {شهيداً} وذلك أنَّ الله تعالى يسأل الأمم يوم القيامة فيقول: هل بلَّغكم الرُّسل الرِّسالة؟ فيقولون: ما بلَّغنا أحدٌ عنك شيئاً فيسأل الرُّسل فيقولون: بلَّغناهم رسالتك فعصوا فيقول: هل لكم شهيدٌ؟ فيقولون: نعم أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم بالتِّبليغ وتكذيب قومهم إيَّاهم فتقول الأمم: يارب بمَ عرفوا ذلك وكانوا بعدنا؟ فيقولون: أخبرنا بذلك نبيُّنا في كتابه ثمَّ يزكيهم محمد صلى الله عليه وسلم {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} أَي: التي أنتَ عليها اليوم وهي الكعبةُ قِبلةً {إلاَّ لنعلم} لنرى وقيل: معناه: لنميّز {مَنْ يتبع الرسول} في تصديقه بنسخ القِبلة {ممن ينقلب على عقبيه} يرتدُّ ويرجع إلى الكفر وذلك أنَّ الله تعالى جعل نسخ القبلة عن الصَّخرة إلى الكعبة ابتلاءً لعباده المؤمنين فمَنْ عصمه صدَّق الرَّسول في ذلك ومَنْ لم يعصمه شكَّ في دينه وتردَّد عليه أمره وظنَّ أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم في حيرةٍ من أمره فارتدَّ عن الإِسلام وهذا معنى قوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أَيْ: وقد كانت التَّولية إلى الكعبة لثقيلةً إِلا {عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله} عصمهم الله بالهداية فلمَّا حوِّلت القبلة قالت اليهود: فكيف بمَنْ مات منكم وهو يصلِّي على القبلة الأولى؟ لقد مات على الضَّلالة فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانكم} أَيْ: صلاتكم التي صليتم وتصديقكم بالقِبلة الأولى {إنَّ الله بالناس} يعني: بالمؤمنين {لرؤوف رحيم} والرَّأفة أشدُّ الرَّحمة

144

{قد نرى تقلب وجهك} كانت الكعبة أحبَّ القبلتين إلى رسول الله ورأى أنَّ الصَّلاة إليها أدعى لقومه إلى الإسلام فقال لجبريل عليه السَّلام: وددتُ أنَّ الله صرفني عن قِبلة اليهود إلى غيرها فقال جبريل عليه السَّلام: إنَّما أنا عبدٌ مثلك وأنت كريم على ربِّك فسله ثمَّ ارتفع جبريل عليه السَّلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُديم النَّظر إلى السَّماء رجاء أَنْ يأتيه جبريل عليه السَّلام بالذي سأل فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} أَيْ: فِي النَّظر إلى السَّماء {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنُصَيِّرَنَّك تستقبل {قبلة ترضاها} تحبُّها وتواها {فَوَلِّ وجهك} أَيْ: أَقبل بوجهك {شطر المسجد الحرام} نحوه وتلقاءه {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} فِي برٍّ أو بحرٍ وأردتم الصَّلاة {فولوا وجوهكم شطره} فلمَّا تحوَّلت القِبلة إِلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد ما أُمرتَ بهذا وإنَّما هو شيءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} أنَّ المسجد الحرام قِبلة إبراهيم وأنَّه لحقٌّ {وما اللَّهُ بغافل عما تعملون} يا معشر المؤمنين مِنْ طلب مرضاتي

145

{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب} يعني: اليهود والنَّصارى {بكلِّ آية} (دلالةٍ ومعجزةٍ) {ما تبعوا قبلتك} لأنَّهم مُعاندون جاحدون نبوَّتك مع العلم بها {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} حسمَ بهذا أطماع اليهود في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم لأنَّهم كانوا يطمعون في ذلك {وما بعضهم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أخبر أنَّهم - وإنِ اتَّفقوا في التَّظاهر على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - مُختلفون فيما بينهم فلا اليهود تتبع قِبلة النَّصارى ولا النَّصارى تتبع قِبلة اليهود {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: صلَّيت إلى قِبلتهم {بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أنَّ قِبلة الله الكعبة {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أيْ: إِنَّك إذاً مثلهم والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فِي الظَّاهر وهو فِي المعنى لأُمَّته

146

{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق} من صفته في التَّوراة {وهم يعلمون} لأنَّ الله بيَّن ذلك في كتابهم

147

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي: هذا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشَّاكِّين في الجملة التي أخبرتك بها من أمر القِبلة وعناد اليهود وامتناعهم عن الإِيمان بك

148

{ولكلٍّ} أَيْ: ولكلِّ أهل دينٍ {وجهةٌ} قِبلةٌ ومُتوجَّةٌ إليها في الصَّلاة {هو مُوَلِّيْها} وجهَه أَيْ: مستقبلها {فاستبقوا الخيرات} فبادروا إلى القبول من الله عزَّ وجل ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم الله تعالى {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يجمعكم الله تعالى للحساب فيجزيكم بأعمالكم ثم أَكَّد استقبال القبلة أينما كان بآيتين وهما قوله تعالى:

149

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بغافل عما تعملون}

150

{ومن حيث خرجت} الآية وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لئلا يكون للناس عليكم حجَّةٌ} يعني: اليهود وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: ما درى محمَّدٌ أين قِبلته حتى هديناه ويقولون: يخالفنا محمَّدٌ فِي ديننا ويتَّبِع قِبلتنا فهذا كان حجِّتهم التي كانوا يحتجُّون بها تمويهاً على الجُهَّال فلمَّا صُرفت القِبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجَّة ثمَّ قال تعالى: {إلاَّ الذين ظلموا منهم} من النَّاس وهم المشركون فإنَّهم قالوا: توجَّه محمدٌ إلى قِبلتنا وعلم أنَّا أهدى سبيلاً منه فهؤلاء يحتجُّون بالباطلِ ثمَّ قال: {فلا تخشوهم} يعني: المشركين في تظاهرهم عليكم فِي المُحاجَّة والمحاربة {واخشوني} فِي ترك القِبلة ومخالفتها {ولأُتمَّ نعمتي عليكم} أَيْ: ولكي أَتمَّ - عطفٌ على {لئلا يكون} - نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بهدايتي إيّاكم إلى قِبلة إبراهيم فَتَتِمُّ لكم الملَّة الحنيفيَّة {ولعلكم تهتدون} ولكي تهتدوا إلى قِبلة إبراهيم

151

{كما أرسلنا فيكم} المعنى: ولأتمَّ نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولاً أَيْ: أتمُّ هذه كما أتممت تلك بإرسالي {رسولاً منكم} تعرفون صدقه ونسبه {يتلو عليكم آياتنا} يعني: القرآن وهذا احتجاجٌ عليهم لأنَّهم عرفوا أنَّه أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب فلمَّا قرأ عليهم تبيَّن لهم صدقه في النُّبوَّة {ويزكيكم} أَيْ: يُعرِّضكم لما تكونوا به أزكياء من الأمر بطاعة الله تعالى

152

{فاذكروني} بالطَّاعة {أذكركم} بالمغفرة {واشكروا لي} نعمتي {ولا تكفرون} أَيْ: لا تكفروا نعمتي

153

{يا أيها الذين آمنوا استعينوا} على طلب الآخرة {بالصبر} على الفرائض {والصلاة} وبالصَّلوات الخمس على تمحيص الذُّنوب {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أَيْ: إنِّي معكم أنصركم ولا أخذلكم

154

{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أموات} نزلت في قتلى بدر من المسلمين وذلك أنَّهم كانوا يقولون لمَنْ يُقتل فِي سبيل الله: مات فلانٌ وذهب عنه نعيم الدُّنيا فقال الله تعالى: ولا تقولوا للمقتولين في سبيلي هم أمواتٌ {بل} هم {أحياء} لأنَّ أرواح الشُّهداء فِي أجواف طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنَّة {ولكن لا تشعرون} بما هم فيه من النَّعيم والكرامة

155

{ولنبلونكم} ولنعاملنَّكم مُعاملة المبتلي {بشيء من الخوف} يعني: خوف العدوِّ {والجوع} يعني: القحط {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ} يعني: الخسران والنُّقصان فِي المال وهلاك المواشي {والأنفس} يعني: الموت والقتل في الجهاد والمرض والشَّيب {والثمرات} يعني: الجوائح وموت الأولاد فمَنْ صبر على هذه الأشياء استحقَّ الثَّواب ومَنْ لم يصبر لم يستحق يدلُّ على هذا قوله تعالى: {وبشر الصابرين}

156

{الذين إذا أصابتهم مصيبة} ممَّا ذُكر {قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} أَيْ: أموالنا لله ونحن عبيدة يصنع بنا ما يشاء ثمَّ وعدهم على هذا القول المغفرة

157

{أولئك عليهم صلوات من ربهم} أَيْ: مغفرةٌ {ورحمة} ونعمةٌ {وأولئك هم المهتدون} إلى الجنَّة والثَّواب والحقِّ والصَّواب وقيل: زيادة الهدى وقيل: هم المنتفعون بالهداية

158

{إنَّ الصفا والمروة} وهما جبلان معروفان بمكَّة {من شعائر الله} أَيْ: مُتعبَّداته {فمن حجَّ البيت} زاره معظِّماً له {أو اعتمر} قصد البيت للزِّيارة {فلا جناح عليه} فلا إثم عليه {إن يطوَّف بهما} بالجبلين وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما فكره المسلمون الطَّواف بينهما فأنزل الله تعالى هذه الآية {ومن تطوَّع خيراً} فعل غير المفترض عليه من طوافٍ وصلاةٍ وزكاةٍ وطاعةٍ {فإنَّ الله شاكر} مجازٍ له بعمله {عليم} بنيَّته

159

{إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا} يعني: علماء اليهود {من البينات} من الرَّجم والحدود والأحكام {والهدى} أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته {من بعد ما بيناه للناس} لبني إسرائيل {فِي الكتاب} فِي التَّوراة {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} كلُّ شيءٍ إلاَّ الجنَّ والإِنس

160

{إلاَّ الذين تابوا} رجعوا من بعد الكتمان {وأصلحوا} السَّريرة {وبيَّنوا} صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {فأولئك أتوب عليهم} أعود عليهم بالمغفرة

161

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} يعني: المؤمنين

162

{خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هم ينظرون} أَيْ: ولا هم يُمهلون للرَّجعة والتَّوبة والمعذرة إذ قد زال التَّكليف

163

{وإلهكم إله واحدٌ} كان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى فبيَّن الله سبحانه أنَّه إِلههم وأّنَّه واحدٌ فقال: {وإلهكم إله واحدٌ} أَيْ: ليس له في الإِلهيَّة شريكٌ ولا له في ذاته نظيرٌ {لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} كذَّبهم الله عز وجل في إشراكهم معه آلهةً فعجب المشركون من ذلك وقالوا: إنَّ محمداً يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فلأتنا بآيةٍ إن كان من الصَّادقين فأنزل الله تعالى:

164

{إن في خلق السماوات والأرض} مع عظمهما وكثرة أجزائهما {واختلاف الليل والنهار} ذهابهما ومجيئهما {والفلك} السُّفن {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} من التِّجارات {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} من مطرٍ {فأحيا به الأرض} أخصبها بعد جدوبتها {وبثَّ} وفرَّق {فيها من كلِّ دابة وتصريف الرياح} تقليبها مرَّة جنوباً ومرَّة شمالاً وباردةً وحارَّة {والسحاب المسخَّر} المُذلَّل لأمر الله {بين السماء والأرض لآياتٍ} لدلالاتٍ على وحدانية الله {لقوم يعقلون} فعلمهم الله عز وجل بهذه الآية كيفية الاستدلال على الصَّانع وعلى توحيده وردَّهم إلى التًّفكُّر فِي آياته والنَّظر فِي مصنوعاته ثمَّ أعلم أنَّ قوماً بعد هذه الآيات والبيِّنات يتَّخذون الأنداد مع علمهم أنَّهم لا يأتون بشيءٍ مما ذكر فقال:

165

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنداداً} يعني: الأصنام التي هي أندادٌ بعضها لبعضٍ أَيْ: امثال {يحبونهم كحب الله} أي: كحبِّ المؤمنين الله {والذين آمنوا أشد حباً لله} لأنَّ الكافر يُعرِضُ عن معبوده في وقت البلاء والمؤمن لا يُعرض عن الله في السِّراء والضَّراء والشِّدَّة والرَّخاء {ولو يرى الذين ظلموا} كفروا {إذ يرون العذاب} شدَّة عذاب الله تعالى وقوّته لعلموا مضرَّة اتِّخاذ الأنداد وجواب (لو) محذوفٌ وهو ما ذكرنا

166

{إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا} هذه الآية تتصل بما قبلها لأنَّ المعنى: وإنَّ الله شديد العذاب حين تبرَّأ المُتَّبَعُون في الشِّرك من أتباعهم عند رؤية العذاب يقولون: لم ندعُكم إلى الضَّلالة وإلى ما كنتم {وتقطعت بهم} عنهم {الأسباب} الوصلات التي كانت بينهم في الدُّنيا من الأرحام والموَّدة وصارت مُخالَّتهم عداوةً

167

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} وهم الأتباع {لَوْ أَنَّ لنا كرة} وجعة إلى الدُّنيا تبرَّأنا منهم {كما تبرَّؤوا منا كذلك} أي: كتبرئ بعضهم من بعضٍ {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عليهم} يعني: عبادتهم الأوثان رجاءَ أن تُقرِّبهم إلى الله تعالى فلمَّا عُذِّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسَّروا

168

{يا أيها النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا} نزلت هذه الآية فِي الذين حرَّموا على أنفسهم السَّوائب والوصائل والبحائر فأَعلمَ الله سبحانه أنَّها يَحلُّ أكْلُها وأنَّ تحريمها من عمل الشَّيطان فقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أَيْ: سُبله وطرقه ثمَّ بيَّن عداوة الشَّيطان فقال:

169

{إنما يأمركم بالسوء} بالمعاصي {والفحشاء} البخل وقيل: كلُّ ذنبٍ فيه حدٌّ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} من تحريم الأنعام والحرث

170

{وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء الذين حرَّموا من الحرث والأنعام أشياء: {اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما ألفينا} ما وجدنا {عليه آباءنا} فقال الله تعالى مُنكراً عليهم: {أو لو كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} يتَّبعونهم؟ والمعنى: أيتبعون آباءهم وإنْ كانوا جهَّالاً؟ ! ثمَّ ضرب للكفَّار مثلاً فقال:

171

{ومثل الذين كفروا} فِي وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل {كمثل} الرَّاعي {الذي ينعق} يصيح بالغنم وهي لا تعقل شيئاً ومعنى يَنْعِق: يصيح وأراد {بما لا يسمع إلاَّ دعاءً ونداءً} البهائم التي لا تعقل ولا تفهم ما يقول الرَّاعي إنَّما تسمع صوتاً لا تدري ما تحته كذلك الذين كفروا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهم كالغنم إذ كانوا لا يستعملون ما أمره به ومضى تفسير قوله: {صم بكم عمي} ثمَّ ذكر أنَّ ما حرَّمه المشركون حلال فقال:

172

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أَيْ: حلالات ما رزقناكم من الحرث والنَّعم وما حرَّمه المشركون على أنفسهم منهما {واشكروا لله إنْ كنتم إياه تعبدون} أَيْ: إنْ كانت العبادة لله واجبةً عليكم بأنَّه إلهكم فالشُّكر له واجبٌ بأنه منعمٌ عليكم ثمَّ بيَّن المُحرَّم ما هو فقال:

173

{إنما حرَّم عليكم الميتة} وهي كلُّ ما فارقه الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يذبح {والدم} يعني: الدَّم السَّائل لقوله في كوضع آخر: {أو دماً مسفوحاً} وقد دخل هذين الجنسين الخصوصُ بالسُّنَّةِ وهو [قوله صلى الله عليه وسلم: أُحلَّت لنا ميتتان ودمان] وقوله تعالى: {ولحم الخنزير} يعني: الخنزير بجميع أجزائه وخصَّ اللَّحم لأنَّه المقصود بالأكل {وما أُهِلَّ به لغير الله} يعني: ما ذُبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله تعالى {فمن اضطر} أَيْ: أُحوج وألجئ في حال الضَّرورة وقيل: مَنْ أكره على تناوله وأُجبر على تناوله كما يُجبر على التَّلفُّظ بالباطل {غير باغٍ} أَيْ: غير قاطعٍ للطَّريق مفارقٍ للأئمة مُشاقًّ للأمَّة {ولا عادٍ} ولا ظالم متعدٍّ فأكلَ {فلا إثم عليه} وهذا يدلُّ على أنَّ العاصي بسفره لا يستبيح أكل الميتة عند الضَّرورة {إنَّ الله غفور} للمعصية فلا يأخذ بما جعل فِيهِ الرُّخصة {رحيمٌ} حيث رخَّص للمضطر

174

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب} يعني: رؤساء اليهود {ويشترون به} بما أنزل الله من نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم {ثمناً قليلاً} يعني: ما يأخذون من الرُّشى على كتمان نعته {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} إلاَّ ما هو عاقبته النَّار {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} أَيْ: كلاماً يسرُّهم {ولا يزكيهم} ولا يُطهِّرهم من دنس ذنوبهم

175

{أولئك الذين اشتروا الضلالة} استبدلوها {بالهدى والعذاب بالمغفرة} حين جحدوا أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكتموا نعته {فما أصبرهم} أَيْ: فأيُّ شيءٍ صبَّرهم على النَّار ودعاهم إليها حين تركوا الحقَّ واتبعوا الباطل؟ ! وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ لهم (وقيل: ما أجرأهم على النار)

176

{ذلك} أَيْ: ذلك العذاب لهم {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الكتاب بالحق} يعني: القرآن فاختلفوا فيه {وإنَّ الذين اختلفوا في الكتاب} فقالوا: إنَّه رَجَزٌ وشِعرٌ وكهانةٌ وسحرٌ {لفي شقاق بعيد} لفي خلافٍ للحقِّ طويلٍ

177

{ليس البر} كان الرَّجل فِي ابتداء الإِسلام إذا شهد الشَّهادتين وصلَّى إلى أَيٍّ ناحيةٍ كانت ثمَّ مات على ذلك وجبت له الجنَّة فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وصُرفت القِبلة إلى الكعبة أنزل الله تعالى هذه الآية فقال: {ليس البر} كلَّه أن تُصلُّوا ولا تعملوا غير ذلك {ولكنَّ البرَّ} أَيْ: ذا الْبِرَّ {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ والكتاب والنَّبيين وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أَيْ: على حبِّ المال (وقيل: الضميرُ راجعٌ إلى الإِيتاء) {ذوي القربى} قيل: عنى به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم (وقيل: أراد به قرابة الميت) {وابن السبيل} هو المنقطع يمرُّ بك والضَّيف ينزل بك {وفي الرِّقاب} أَيْ: وفي ثمنها يعني: المكاتبين {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} اللَّهَ أو النَّاسَ {والصابرين في البأساء} الفقر {والضراء} المرض {وحين البأس} وقت القتال في سبيل الله {أولئك} أهل هذه الصفة هم {الذين صدقوا} في إيمانهم

178

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} نزلت في حَيَّينِ من العرب أحدهما أشرف من الآخر فقتل الأوضع من الأشرف قتلى فقال الأشرف: لنقتلنَّ الحرَّ بالعبد والذَّكر بالأنثى ولَنُضاعِفَنَّ الجراح فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {كُتب} : أُوجب وفُرض {عليكم القصاص} اعتبار المماثلة والتَّساوي بين القتلى حتى لا يجوز أن يقتل حرٌّ بعبدٍ أو مسلمٌ بكافرٍ فاعتبارُ المماثلةِ واجبٌ وهو قوله: {الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى} ودلَّ قوله في سورة المائدة: {أنَّ النَّفس بالنَّفس} على أنَّ الذَّكر يُقتل بالأنثى فيقتل الحرُّ بالحرَّة {فمن عفي له} أَيْ: تُرك له {من} دم {أخيه} المقتول {شيءٌ} وهو أن يعفو بعض الأولياء فيسقط القود {فاتباع بالمعروف} أَيْ: فعلى العافي الذي هو ولي الدَّم أن يتبع القاتل بالمعروف وهو أن يطالبه بالمال من غير تشدُّد وأذىً وعلى المطلوب منه المال {أداءٌ} تأدية المال إلى العافي {بإحسانٍ} وهو ترك المطل والتَّسويف {ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة} هو أنَّ الله تعالى خَيَّرَ هذه الأمَّة بين القصاص والدية والعفو ولم يكن ذلك إلاَّ لهذه الأُمَّة {فمن اعتدى} أَيْ: ظلم بقتل القاتل بعد أخذ الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

179

{ولكم في القصاص حياة} أَيْ: في إثباته حياةٌ وذلك أنَّ القاتل إذا قُتل ارتدع عن القتل كلُّ مَنْ يهمُّ بالقتل فكان القصاص سبباً لحياة الذي يُهَمُّ بقتله ولحياة الهامِّ أيضاً لأنه إنْ قَتلَ قُتل {يا أولي الألباب} يا ذوي العقول {لعلكم تتقون} إراقة الدِّماء مخافة القصاص

180

{كتب عليكم} كان أهل الجاهليَّة يُوصون بمالهم للبعداء رياءً وسُمعةً ويتركون أقاربهم فقراء فأنزل الله تعالى هذه الآية {كتب عليكم} فُرض عليكم وأُوجب {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أَيْ: أسبابه ومُقدِّماته {إنْ ترك خيراً} مالاً {الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} يعني: لا يزيد على الثلث {حقاً} أي: حقَّ ذلك حقَّاً {على المتقين} الذين يتَّقون الشِّرك وهذه الآية منسوخة بآية المواريث ولا تجب الوصية على أحدٍ (ولا تجوز الوصية للوارث)

181

{فَمَنْ بدَّله بعد ما سمعه} أَيْ: بدَّل الإِيصاء وغيَّره من وصيٍّ ووليٍّ وشاهدٍ بعد ما سمعه عن الميت {فإنما إثمه} إثم التَّبديل {عَلَى الَّذِينَ يبدلونه} وبرئ الميِّت {إن الله سميع} سمع ما قاله المُوصي {عليم} بنيَّته وما أراد فكانت الأولياء والأوصياء يمضون وصيه الميت بعد نزول هذه الآية وإن استغرقت المال فأنزل الله تعالى:

182

{فمن خاف} أَيْ: علم {من موصٍ جنفاً} خطأً في التوصية من غير عمدٍ وهو أن يُوصي لبعض ورثته أو يوصي بماله كلِّه خطأً {أو إثماً} أَيْ: قصدا للميل فخاف من الوصية وفعل ما لا يجوز مُتعمِّداً {فأصلح} بعد موته بين ورثته وبين المُوصى لهم {فلا إثم عليه} أَيْ: إِنَّه ليس بمبدلٍ يأثم بل هو متوسطٌ للإِصلاح وليس عليه إثمٌ

183

{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} يعني صيام شهر رمضان {كما كتب} يعني: كما أُوجب {على الذين من قبلكم} أَيْ: أنتم مُتَعَبِّدون بالصَّيام كما تُعبِّد مَنْ قبلكم {لعلكم تتقون} لكي تتقوا الأكل والشُّرب والجماع في وقت وجوب الصَّوم

184

{أياماً معدودات} يعني: شهر رمضان {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فأفطر {فعدَّةٌ} أَيْ: فعليه عدَّةٌ أَيْ: صوم عدَّةٍ يعني: بعدد ما أفطر {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سوى أيَّام مرضه وسفره {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} هذا كان في ابتداء الإسلام مَنْ أطاق الصوم جاز له أن يُفطر ويُطعم لكلِّ يومٍ مسكيناً مُدَّاً من طعام فَنُسِخ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} {فمن تطوع خيراً} زاد في الفدية على مُدٍّ واحدٍ {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أيْ: والصَّوم خيرٌ لكم من الإِفطار والفدية وهذا (إنَّما) كان قبل النَّسخ

185

{شهر رمضان} أَيْ: هي شهر رمضان يعني: تلك الأيام المعدودات شهر رمضان {الذي أُنزل فيه القرآن} أنزل جُملةً واحدةً من اللَّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان فوضع في بيت العزَّة في سماء الدُّنيا ثمَّ نزل به جبريل عليه السَّلام على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً عشرين سنةً {هدىً للناس} هادياً للنَّاس {وبينات من الهدى} وآياتٍ واضحاتٍ من الحلال والحرام والحدود والأحكام {والفرقان} الفرق بين الحقِّ والباطل {فمن شهد منكم الشهر} فمَنْ حضر منكم بلده في الشَّهْرَ {فَلْيَصُمْهُ} {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أخر} أعاد هاهنا تخيير المريض والمسافر لأنَّ الآية الأولى وردت في التَّخيير للمريض والمسافر والمقيم وفي هذه الآية نُسخ تخيير المقيم فأُعيد ذكر تخيير المريض والمسافر ليعلم أنَّه باقٍ على ما كان {يريد الله بكم اليسر} بالرُّخصة للمسافر والمريض {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لأنَّه لم يشدِّد ولم يُضيِّق عليكم {ولتكملوا} (عطف على محذوف) والمعنى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العسر لِيَسْهُلَ عليكم {ولتكملوا العدَّة} أَيْ: ولتكملوا عدَّة ما أفطرتم بالقضاء إذا أقمتم وبرأتم {ولتكبروا الله} يعني التَّكبير ليلة الفطر إذا رُئي هلال شوال {على ما هداكم} أرشدكم من شرائع الدِّين

186

{وإذا سألك عبادي عني} الآية سأل بعض الصَّحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أقريبٌ ربُّنا فنناجيَه أم بعيدٌ فنناديَه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله تعالى {فإني قريبٌ} يعني: قربه بالعلم {أجيب} أسمع {دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} أَيْ: فليجيبوني بالطَّاعة وتصديق الرُّسل {وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} ليكونوا على رجاءٍ من إصابة الرُّشد

187

{أحلَّ لكم ليلة الصيام} الآية كان في ابتداء الإسلام لا تحلُّ المجامعة في ليالي الصَّوم ولا الأكل ولا الشُّرب بعد العشاء الآخرة فأحلَّ الله تعالى ذلك كلَّه إلى طلوع الفجر وقوله: {الرفث إلى نسائكم} يعني: الإِفضاء إليهنَّ بالجماع {هنَّ لباسٌ لكم} أَيْ: فراشٌ {وأنتم لباس} لحافٌ {لهنَّ} عند الجماع {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} تخونون أنفسكم بالجماع ليالي رمضان وذلك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وغيره فعلوا ذلك ثمَّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه فنزلت الرُّخصة {فتاب عليكم} فعاد عليكم بالترخيص {وعفا عنكم} ما فعلتم قبل الرُّخصة {فالآن باشروهنَّ} جامعوهنَّ {وابتغوا} واطلبوا {ما كتب الله لكم} ما قضى الله سبحانه لكم من الولد {وكلوا واشربوا} اللَّيل كلَّه {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} يعني: بياض الصُّبح {من الخيط الأسود} من سواد اللَّيل {من الفجر} بيانُ أنَّ هذا الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره {ثمَّ أتموا الصيام إلى الليل} بالامتناع من هذه الأشياء {ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد} نهيٌ للمعتكف عن الجماع لأنه يُفسده {تلك} أَيْ: هذه الأحكام التي ذكرها {حدود الله} ممنوعاته {فلا تقربوها} فلا تأتوها {كذلك} أَيْ: مثل هذا البيان {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} المحارم

188

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أَيْ: لا يأكل بعضكم مال بعضٍ بما لا يحلُّ في الشَّرع من الخيانة والغضب والسَّرقة والقمار وغير ذلك {وتُدْلُوا بها إلى الحكام} ولا تصانعوا (أي: لاترشوا) بأموالكم الحكَّام لِتقتطعوا حقَّاً لغيركم {لتأكلوا فريقاً} طائفةً {من أموال الناس بالإِثم} بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم {وأنتم تعلمون} أنَّكم مُبطلون وأنَّه لا يحلُّ لكم والأصل في الإِدلاء: الإِرسال من قولهم: أدليتُ الدَّلو

189

{يسألونك عن الأهلة} سأل معاذ بن جبلٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن زيادة القمر ونقصانه فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة} وهي جمع هلال {قل هي مواقيت للناس والحج} أخبر الله عنه أنَّ الحكمة في زيادته ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات النَّاس فِي حجِّهم ومَحِلِّ دُيونِهم وعِدَدِ نسائهم وأجور أُجرائهم ومُدَد حواملهم وغير ذلك {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} كان الرَّجل في الجاهلية إذا إذا أحرم نقب من بيته نقباً من مؤخره يدخل فيه ويخرج فأمرهم الله بتر ك سنَّة الجاهليَّة وأعلمهم أنَّ ذلك ليس ببرٍّ {ولكن البرَّ} برُّ {من اتقى} مخالفةَ الله {وأتوا البيوت من أبوابها} الآية

190

{وقاتلوا في سبيل الله} الآية نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف من الحديبية إلى المدينة المنورة حين صدَّه المشركون عن البيت صالحهم على أن يرجع عامة القابل ويُخَلُّوا له مكَّة ثلاثة أيَّام فلمَّا كان العام القابل تجهزَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريشٌ وأن يصدُّوهم عن البيت ويقاتلوهم وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشَّهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} أَيْ: في دين الله وطاعته {الذين يقاتلونكم} يعني: قريشاً {ولا تعتدوا} ولا تظلموا فتبدؤوا في الحرم بالقتال

191

{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وجدتموه وأخذتموهم {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} يعني: من مكَّة {والفتنة أشدّ من القتل} يعني: وشركُهم بالله تعالى أعظمُ من قتلكم إيَّاهم في الحرم {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فيه} نُهوا عن ابتدائهم بقتلٍ أو قتالٍ حتى يبتدىء المشركون {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} أَيْ: إن ابتدؤوا بقتالكم عند المسجد الحرام فلكم القتال على سبيل المكافأة ثم بيَّن أنهم إن انتهوا أَيْ: كفُّوا عن الشِّرك والكفر والقتال وأسلموا {فإنَّ الله غفور رحيم} أَيْ: يغفر لهم كفرهم وقتالهم من قبل وهو منعمٌ عليهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم

192

قال تعالى {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

193

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ: شركٌ يعني: قاتلوهم حتى يُسلموا وليس يُقبل من المشرك الوثنيِّ جزيةٌ {ويكون الدين} أَيْ: الطَّاعة والعبادة {لله} وحده فلا يُعبد دونه شيءٌ {فإن انتهوا} عن الكفر {فلا عدوان} أَيْ: فلا قتل ولا نهب {إلاَّ على الظالمين} والكافرين

194

{الشهر الحرام بالشهر الحرام} أَيْ: إن قاتلوكم في الشَّهر الحرام فقاتلوهم في مثله {والحرمات قصاص} أَي: إن انتهكوا لكم حرمةً فانتهكوا منهم مثل ذلك أَعلمَ الله سبحانه أنَّه لا يكون للمسلمين أنْ ينتهكوها على سبيل الابتداء ولكن على سبيل القصاص وهو معنى قوله: {فمن اعتدى عليكم} الآية

195

{وأنفقوا في سبيل الله} في طاعة الله تعالى من الجهاد وغيره {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ولا تُمسكوا عن الإِنفاق في الجهاد {وأحسنوا} أَيْ: الظنَّ بالله تعالى في الثَّواب والإِخلاف عليكم

196

{وأتموا الحج والعمرة لله} بمناسكها وحدودها وسننها وتأدية كلِّ ما فيهما {فإن أحصرتم} حُبستم ومُنعتم دون تمامهما {فما استيسر} فواجبٌ عليكم ما تيسَّر {من الهدي} وهو ما يُهدى إلى بيت الله سبحانه أعلاه بدنةٌ وأوسطه بقرة وأدناه شاةٌ فعليه ما تيسَّر من هذه الأجناس {ولا تحلقوا رؤوسكم} أَيْ: لا تَحِلُّوا من إحرامكم {حتى يبلغ الهدي محلَّه} حتى يُنحر الهدي بمكَّة في بعض الأقوال وهو مذهب أهل العراق وفي قول غيرهم: مَحِلُّه حيث يَحِلُّ ذبحه ونحره وهو حيث أُحصر وهو مذهب الشَّافعي {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى من رأسه} يعني الهوام تقع في الشَّعر وتكثر فحلق {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} وهو صيام ثلاثة أيَّام {أو صدقة} وهي إطعام ستة مساكين لكلِّ مسكينٍ مُدَّان {أو نسك} ذبيحةٍ {فإذا أمنتم} أَيْ: من العدوِّ أو كان حجٌّ ليس فيه خوفٌ من عدوٍّ {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} أيْ: قدم مكَّة مُحرماً واعتمر في أشهر الحجِّ وأقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحجَّ عامَه ذلك واستمتع بمحظورات الإحرام لأنَّه حلَّ بالعمرة فمن فعل هذا {ف} عليه {ما استيسر من الهدي فمن لم يجد} ثمن الهدي {فصيام ثلاثة أيام في} أشهر {الحج وسبعة إذا رجعتم} أَيْ: بعد الفراغ من الحجِّ {تلك عشرة كاملة ذَلِكَ} أَيْ: ذلك الفرض الذي أُمرنا به من الهدي أو الصِّيام {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أَيْ: لمَنْ لم يكن من أهل مكَّة

197

{الحج أشهر} أًيْ: أشهرُ الحجِّ أشهرٌ {معلوماتٌ} مُوقَّتةٌ معيَّنةٌ وهي شوال وذو القعدة وتسعُ من ذي الحجَّة {فمن فرض} أوجب على نفسه {فيهنَّ الحجَّ} بالإحرام والتَّلبية {فلا رفث} فلا جِماعَ {ولا فسوق} ولا معاصي {ولا جدال} وهو أَنْ يُجادلَ صاحبه حتى يُغضبه والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا {فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} أَيْ: يُجازيكم به الله العالم {وتزوَّدوا} نزلت في قومٍ كانوا يحجُّون بلا زادٍ ويقولون: نحن متوكِّلون ثمَّ كانوا يسألون النَّاس وربَّما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله أَنْ يتزوَّدوا فقال {وتزوَّدوا} ما تتبلَّغون به {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} يعني: ما تكفُّون به وجوهكم عن السُّؤال وأنفسكم عن الظلم

198

{وليس عليكم جناح} كان قومٌ يزعمون أنَّه لا حَجَّ لتاجرٍ ولا جَمَّالٍ فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنه لا حرج في ابتغاء الرِّزق بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم} أَيْ: رزقاً بالتجِّارة في الحجِّ {فإذا أفضتم} أَيْ: دفعتم وانصرفتم من {من عرفات فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالدُّعاء والتَّلبية {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ واذكروه كما هداكم} أَيْ: ذكراً مثلَ هدايته إيَّاكم أَيْ: يكون جزاءً لهدايته إيَّاكم {وإن كنتم من قبله} أَيْ: وما كنتم من قبل هُدَاه إلاَّ ضالِّين

199

{ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض الناس} يعني: العرب وعامِّة النَّاس إلاَّ قريشاً وذلك أنَّهم كانوا لا يقفون بعرفات وإنَّما يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه فأمرهم الله أن يقفوا بعرفاتٍ كما يقف سائر النَّاس حتى تكون الإفاضة معهم منها {فإذا قضيتم مناسككم} أَيْ: فرغتم من عبادتكم التي أمرتم بها في الحجِّ {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كذكركم آباءَكم} كانت العرب إذا فرغوا من حجِّهم ذكروا مفاخر آبائهم فأمرهم الله عز وجل بذكره {أو أشدَّ ذكراً} يعني: وأشدَّ ذكراً {فمن الناس} وهم المشركون كانوا يسألون المال والإبل والغنم ولا يسألون حظَّاً في الآخرة لأَنهم لم يكونوا مؤمنين بها والمسلمون يسألون الحظَّ في الدُّنيا والآخرة وهو قوله:

200

قال تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}

201

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حسنة} ومعنى {في الدنيا حسنة} : العمل بما يرضي الله {وفي الآخرة حسنة} : الجنة

202

{أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا} أَيْ: ثوابُ ما عملوا {والله سريعُ الحساب} مع هؤلاء لأنَّه يغفر سيئاتهم ويضاعف حسناتهم

203

{واذكروا الله في أيام معدودات} يعني: التَّكبير أدبار الصَّلوات في أيام التَّشريق {فمن تعجَّل في يومين} من أيام التَّشريق فنفر في اليوم الثّاني من مِنىً {فلا إثم عليه} في تعجُّله {ومن تأخر} عن النَّفر إلى اليوم الثالث {فلا إثم عليه} في تأخُّره {لمن اتقى} أَيْ: طرحُ المأثم يكون لمن اتَّقى في حجِّه تضييعَ شيءٍ ممَّا حدَّه الله تعالى

204

{ومن الناس مَن يعجبك قوله} يعني: الأخنس بن شريق وكان منافقاً حلو الكلام حسن العلانية سيئ السَّريرة وقوله {في الحياة الدنيا} لأنَّ قوله إنَّما يعجب النَّاس في الحياة الدُّنيا ولا ثواب له عليه في الآخرة {ويشهد الله على ما في قلبه} لأنَّه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: واللَّهِ إنِّي بك لمؤمنٌ ولك محبٌّ {وهو ألدُّ الخصام} أَيْ: شديد الخصومة وكان جَدِلاً بالباطل

205

{وإذا تولى سعى في الأرض} الآية وذلك أنَّه رجع إلى مكَّة فمرَّ بزرعٍ وحُمُرٍ للمسلمين فأحرق الزَّرع وعقر الحُمُر فهو قوله: {ويهلك الحرث والنسل} أَيْ: نسل الدَّوابِّ

206

{وإذا قيل له اتق الله} وإذا قيل له: مهلاً مهلاً {أخذته العزَّةُ بالإِثم} حملته الأنفة وحميَّة الجاهليَّة على الفعل بالإِثم {فحسبه جهنم} كافيه الجحيم جزاءً له {ولبئس المهاد} ولبئس المقرُّ جهنَّم

207

{ومن الناس مَنْ يشري} أَيْ: يبيع {نفسه} يعني: يبذلها لأوامر الله تعالى {ابتغاء مرضاة الله} لطلب رضا الله نزلت في صهيب الرُّوميِّ

208

{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْمِ} أَيْ: في الإسلام {كافة} أيْ: جميعاً أيْ: في جميع شرائعه نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وذلك أنَّهم بعدما دخلوا في الإِسلام عظَّموا السَّبت وكرهوا لُحمان الإِبل فأُمروا بترك ذلك وإنَّه ليس من شرائع الإِسلام تحريم السَّبت وكراهة لحوم الإبل {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أيْ: آثاره ونزغاته {إنه لكم عدوٌّ مبين}

209

{فإن زللتم} تنحَّيتم عن القصد بتحريم السَّبْت ولحوم الإِبل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات} أَيْ: القرآن {فاعلموا أنَّ الله عزيز} في نقمته لاتعجزونه ولا يُعجزه شيءٌ {حكيم} فيما شرع لكم من دينه

210

{هل ينظرون} أَيْ: هل ينتظرون يعني: التَّاركين الدُّخول في الإِسلام و (هل) استفهامٌ معناه النَّفي أيْ: ما ينتظر هؤلاء في الآخرة {إلاَّ أن يأتيهم} عذاب {اللَّهُ في ظلل من الغمام} والظُّلَل جمع: ظُلَّة وهي كلُّ ما أظلَّك والمعنى: إنَّ العذاب يأتي فيها ويكون أهول {والملائكة} أَيْ: الملائكةُ الذين وُكِّلوا بتعذيبهم {وقضي الأمر} فُرغ لهم ممَّا يوعدون بأنْ قُدِّر ذلك عليهم {وإلى الله ترجع الأمور} يعني: في الجزاء من الثَّواب والعقاب

211

{سل بني إسرائيل} سؤال توبيخ وتبكيتٍ وتقريعٍ (كما يُقال: سله كم وعظته فلم يقبل) {كم آتيناهم من آية بينةً} من فلق البحر وإنجائهم من عدوِّهم وإنزال المنِّ والسًّلوى وغير ذلك {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءته} يعني: ما أنعم الله به عليهم من العلم بشأن محمِّدٍ عليه السَّلام فبدَّلوه وغيَّروه

212

{زين للذين كفروا} أَيْ: رؤساء اليهود {الحياة الدُّنيا} فهي هِمَّتهم وطِلبتهم فهم لا يريدون غيرها {ويسخرون من الذين آمنوا} أَيْ: فقراء المهاجرين {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} الشِّرك وهم هؤلاء الفقراء {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لأنَّهم في الجنَّة وهي عاليةٌ والكافرين في النَّار وهي هاويةٌ {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يشاء بغير حساب} يريد: إِنَّ أموال قريظة والنَّضير تصيرُ إليهم بلا حسابٍ ولا قتالٍ بل بأسهل شيءٍ وأيسره

213

{كان الناس} على عهد إبراهيم عليه السَّلام {أمة واحدة} كفاراً كلَّهم {فبعث الله النبيين} إبراهيم وغيره {وأنزل معهم الكتاب} والكتابُ اسم الجنس {بالحق} بالعدل والصِّدق {ليحكم بين الناس} أَيْ: الكتابُ {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بغياً} أَيْ: وما اختلفَ في أمر محمَّدٍ بعد وضوح الدّلالات لهم بغياً وحسداً إلاَّ اليهودُ الذين أوتوا الكتاب لأنَّ المشركين - وإن اختلفوا في أمر محمَّد عليه السَّلام - فإنَّهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد ولم تأتهم البيِّنات في شأن محمد عليه السَّلام كما أتت اليهود فاليهود مخصوصون من هذا الوجه {فهدى الله الذين آمنوا} {ل} معرفة {ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} بعلمه وإرادته فيهم

214

{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} نزلت في فقراء المهاجرين حين اشتدَّ الضُّرُّ عليهم لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ فقال الله لهم - أَيْ لهؤلاء المهاجرين -: أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة من غير بلاءٍ ولا مكروهٍ {ولما يأتكم} أَيْ: ولم يأتكم {مثل الذين خلوا} أَيْ: مثل محنة الذين مضوا {من قبلكم} أَيْ: ولم يُصبكم مثل الذي أصابهم فتصبروا كما صبروا {مَسَّتْهُم البأساء} الشدَّة {والضرَّاء} المرض والجوع {وزلزلوا} أَيْ: حُرِّكوا بأنواع البلاء {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نصر الله} أَيْ: حين استبطؤوا النَّصر فقال الله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} أَيْ: أنا ناصر أوليائي لا محالة

215

{يسألونك ماذا ينفقون} نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً وعنده مالٌ عظيمٌ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعُها؟ فنزلت هذه الآية قال كثيرٌ من المفسرين: هذا كان قبل فرض الزكاة فلمَّا فُرضت الزَّكاة نسخت الزَّكاة هذه الآية

216

{كتب عليكم القتال} فُرض وأوجب عليكم الجهاد {وهو كرهٌ لكم} أَيْ: مشقَّةٌ عليكم لما يدخل منه على النَّفس والمال {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لأنَّ في الغزو إحدى الحسنيين إمَّا الظفر والغنيمة وإمَّا الشَّهادة والجنَّة {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئاً} أَيْ: القعود عن الغزو {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} لما فيه من الذُّل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر {والله يعلم} ما فيه مصالحكم فبادروا إلى ما يأمركم به وإنْ شقَّ عليكم

217

{يسألونك عن الشهر الحرام} نزلت في سريةٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهلَّ رجب وهم لا يعلمون ذلك فاستعظم المشركون سفك الدِّماء في رجب فأنزل الله تعالى: {يسألونك} يعني: المشركين وقيل: هم المسلمون {عن الشهر الحرام قتالٍ فيه} أَيْ: وعن قتالٍ فيه {قل قتالٌ فيه كبير} ثمَّ ابتدأ فقال: {وصد} ومنعٌ {عن سبيل الله} أَيْ: طاعته يعني: صدَّ المشركين رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية {وكفر به} بالله {والمسجد الحرام} أَيْ: وصدٌّ عن المسجد الحرام {وإخراج أهله} أَيْ: أهل المسجد يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أُخرجوا من مكَّة {منه أكبرُ} وأعظم وِزْراً {عند الله والفتنة} أَيْ: والشِّرك {أكبر من القتل} يعني: قتل السِّرية المشركين في رجب {ولا يزالون} يعني: المشركين {يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم} إلى الكفر {إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الإِسلام أَيْ: يرجع فيموت على الكفر {فأولئك حبطت أعمالهم} (بطلت أعمالهم) فقال هؤلاء السَّرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبنا القوم في رجب أنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى:

218

{إنَّ الذين آمنوا والذين هاجروا} فارقوا عشائرهم وأوطانهم {وجاهدوا} المشركين {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في نصرة دين الله {أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} غفر لهؤلاء السِّرية ما لم يعلموا ورحمهم والإِجماعُ اليوم منعقدٌ على أنَّ قتال المشركين يجوز في جميع الأشهر حلالها وحرامها

219

{يسألونك عن الخمر والميسر} نزلت في عُمَر ومعاذٍ وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنَّهما مَذْهَبةٌ للعقل مسلبة للمال فنزل قوله عز وجل {يسألونك عن الخمر} وهو كلُّ مسكرٍ مخالطٍ للعقل مُغطٍّ عليه {والميسر} : القمار {قل فيهما إثم كبير} يعني: الإِثم بسببهما لما فيهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزُّور وغير ذلك {ومنافع للناس} ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر والتِّجارة فيها واللَّذَّة عند شربها ومنفعةُ الميسر ما يُصاب من القمار ويرتفق به الفقراء ثمَّ بيَّن أنَّ ما يحصل بسببهما من الإِثم أكبر من نفعهما فقال {وإثمهما أكبر من نفعهما} وليست هذه الآيةُ المُحرِّمةَ للخمر والميسر إنَّما المُحرِّمةُ التي في سورة المائدة وهذه الآية نزلت قبل تحريمها {ويسألونك ماذا ينفقون} نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لمَّا نزل قوله: {فللوالدين والأقربين} في سؤاله أعاد السّؤال وسأل عن مقدار ما ينفق؟ فنزل قوله: {قل العفو} أَيْ: ما فضل من المال عن العيال وكان الرَّجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه وينفق باقيه إلى أن فُرضت الزَّكاة فنسخت آية الزَّكاة التي في براءة هذه الآية وكلَّ صدقةٍ أُمروا بها قبل الزَّكاة {كذلك} أَيْ: كبيانه في الخمر والميسر أو في الإِنفاق {يبين الله لكم الآيات} لتتفكَّروا في أمر الدُّنيا والآخرة فتعرفوا فضل الآخرة على الدُّنيا

220

{ويسألونك عن اليتامى} كانت العرب في الجاهليَّة يُشدِّدون في أمر اليتيم ولا يُؤاكلونه وكانوا يتشاءمون بملابسة أموالهم فلمَّا جاء الإِسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {قل إصلاح لهم خير} يعني: الإِصلاح لأموالهم من غير أجرةٍ خيرٌ وأعظم أجراً {وإن تخالطوهم} تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم {فإخوانكم} أَيْ: فهم إخوانكم والإِخوانُ يُعين بعضهم بعضاً ويُصيب بعضهم من مال بعضٍ {والله يعلم المفسد} لأموالهم {من المصلح} لها فاتقَّوا الله في مال اليتيم ولا تجعلوا مخالطتكم إيَّاهم ذريعةً إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقٍّ {ولو شاء الله لأعنتكم} لضيَّق عليكم وآثمكم في مخالطتكم ومعناه: التَّذكير بالنِّعمة في التَّوسعة {إِنَّ اللَّهَ عزيزٌ} في ملكه {حكيم} فيما أمر به

221

{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} نزلت في أبي مرثد الغنويِّ كانت له خليلةٌ مشركةٌ فلمَّا أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحلُّ له أن يتزوَّج بها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية والمشركات ها هنا عامَّة في كلِّ من كفرت بالنبي صلى الله عليه وسلم حرَّم الله تعالى بهذه الآية نكاحهنَّ ثمَّ استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة فبقي نكاح الأَمَة الكتابية على التَّحريم {ولأَمةٌ مؤمنةٌ} نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أَمَةٌ مؤمنةٌ فأعتقها وتزوَّجها فطعن عليه ناسٌ وعرضوا عليه حُرَّةً مشركةً فنزلت هذه الآية وقوله: {ولو أعجبتكم} المشركة بمالها وجمالها {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحالٍ {أولئك} أَي: المشركون {يدعون إلى النَّار} أَي: الأعمال الموجبة للنَّار {وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ والمغفرة} أَيْ: العمل الموجب للجنَّة والمغفرة {بإذنه} بأمره يعني: إنَّه بأوامره يدعوكم

222

{ويسألونك عن المحيض} (ذكر المفسرون أنَّ العرب كانت إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يَسَّاكَنُوا معها في بيت كفعل المجوس) فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف نصنع بالنِّساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية والمحيض: الحيض {قل هو أذىً} أَيْ: قذرٌ ودمٌ {فاعتزلوا النساء في المحيض} أَيْ: مجامعتهنَّ إذا حضن {ولا تقربوهنَّ} أَيْ: ولا تجامعوهنَّ {حتى يَطَّهَّرْنَ} أي: يغتسلن ومَنْ قرأ {يَطْهُرْنَ} بالتَّخفيف أَيْ: ينقطع عنهنَّ الدم أي: توجد طهارة وهي الغسل {فإذا تطهَّرن} اغتسلن {فأتوهنَّ} أَيْ: جامعوهنَّ {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} بتجنُّبه في الحيض - وهو الفرج - {إنَّ الله يحب التوابين} من الذُّنوب و {المتطهرين} بالماء من الأحداث والجنابات

223

{نساؤكم حرثٌ لكم} أَيْ: مزرع ومنب للولد {فأتوا حرثكم أنى شئتم} أَيْ: كيف شئتم ومن أين شئتم بعد أن يكون في صِمام واحدٍ فنزلت هذه الآية تكذيباً لليهود وذلك أنَّ المسلمين قالوا: إِنَّا نأتي النِّساء باركاتٍ وقائماتٍ ومستلقياتٍ ومن بين أيديهم ومن خلفهنَّ بعد أن يكون المأتي واحداً فقالت اليهود: ما أنتم إلاَّ أمثال البهائم لكنَّا نأتيهنَّ على هيئةٍ واحدةٍ وإنَّا لنجد في التَّوراة أنَّ كلَّ إِتيانٍ يؤتى النِّساء غير الاستلقاء دنسٌ عند الله فأكذب الله تعالى اليهود {وقدموا لأنفسكم} أَي: العمل لله بما يحبُّ ويرضى {واتقوا الله} فيما حدَّ لكم من الجماع وأمرِ الحائض {واعلموا أنكم ملاقوه} أَيْ: راجعون إليه {وبشر المؤمنين} الذين خافوه وحذروا معصيته

224

{ولا تجعلوا الله عرضةٌ لأيمانكم} أَيْ: لا تجعلوا اليمين بالله سبحانه علَّةً مانعةً من البرِّ والتَّقوى من حيث تتعمَّدون اليمين لتعتلُّوا بها نزلت في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يُكلِّم ختنه ولا يدخل بينه وبين خصم له وجعل يقول: قد حلفتُ أَنْ لا أفعل فلا يحلُّ لي وقوله {أن تبروا} أَي: في أَنْ لا تبرُّوا أو لدفع أن تبرُّوا ويجوز أن يكون قوله: {أن تبروا} ابتداءً وخبره محذوف على تقدير: أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين النَّاس أولى أَي: البرُّ والتُّقى أولى {والله سميع عليمٌ} يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها

225

{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} أَيْ: ما يسبق به اللِّسان من غير عقدٍ ولا قصدٍ ويكون كالصِّلة للكلام وهو مِثلُ قول القائل: لا والله وبلى واللَّهِ وقيل: لغو اليمين: اليمينُ المكفَّرة سمِّيت لغواً لأنَّ الكفَّارة تُسقط الإِثم منه {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أَيْ: عزمتم وقصدتم وعلى القول الثاني في لغو اليمين معناه: ولكن يؤاخذكم بعزمكم على ألا تبرُّوا وتعتلُّوا في ذلك بأيمانكم بأنَّكم حلفتم {والله غفورٌ حليم} يؤخِّر العقوبة عن الكفَّار والعُصاة

226

{للذين يؤلون من نسائهم} أَيْ: يحلفون أن لا يطؤوهنَّ {تربص أربعة أشهر} جعل الله تعالى الأجل في ذلك أربعة أشهر فإذا مضت هذه المدَّة فإمَّا أن يُطلِّق أو يطأ فإن أباهما جميعاً طلَّق عليه الحاكم {فإن فاؤوا} رجعوا عمَّا حلفوا عليه أَيْ: بالجماع {فإنَّ الله غفورٌ رحيم} يغفر له ما قد فعل (ولزمته كفَّارة اليمين)

227

{وإن عزموا الطلاق} أَيْ: طلَّقوا ولم يفيؤوا بالوطء {فإنَّ الله سميع} لما يقوله {عليمٌ} بما يفعله

228

{والمطلقات} أَيْ: المُخلَّيات من حبال الأزواج يعني: البالغات المدخول بهنَّ غير الحوامل لأنَّ في الآية بيان عدتهنَّ {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} أَيْ: ثلاثة أطهار يعني: ينتظرون انقضاء مدة ثلاثة أطهارٍ حتى تمرَّ عليهن ثلاثة أطهارٍ وقيل: ثلاث حيضٍ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أرحامهنَّ} يعني: الولد ليبطلن حقَّ الزوج من الرَّجعة {إن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر} وهذا تغليظٌ عليهنَّ في إِظهار ذلك {وبعولتهن} أَيْ: أزواجهنَّ {أحقُّ بردهنَّ} بمراجعتهنَّ {في ذلك} في الأجل الذي أُمرْنَ أن يتربصن فيه {إن أرادوا إصلاحاً} لا إضراراً {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ: للنِّساء على الرَّجال مثلُ الذي للرِّجال عليهنَّ من الحقِّ بالمعروف أَيْ: بما أمر الله من حقِّ الرَّجل على المرأة {وللرجال عليهن درجة} يعني: بما ساقوا من المهر وأنفقوا من المال {والله عزيز حكيم} يأمر كما أراد ويمتحن كما أحبَّ

229

{الطلاق مرتان} كان طلاقُ الجاهلية غير محصورٍ بعددٍ فحصر الله الطلاق بثلاثٍ فذكر في هذه الآية طلقتين وذكر الثَّالثة في الآية الأخرى وهي قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فلا تحلُّ له من بعد} الآية وقيل: المعنى في الآية: الطَّلاق الذي يُملك فيه الرَّجعة مرَّتان {فإمساك بمعروف} يعني: إذا راجعها بعد الطَّلقتين فعليه إمساكٌ بما أمر الله تعالى {أو تسريحٌ بإحسان} وهو أَنْ يتركها حتى تَبِينَ بانقضاء العِدَّة ولا يراجعها ضراراً {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} لا يجوز للزَّوج أن يأخذ من امرأته شيئاً ممَّا أعطاها من المهر ليطلِّقها إلاَّ في الخُلع وهو قوله {إِلا أَنْ يخافا} أي: يعلما {أن لا يُقيما حدود الله} والمعنى: إنَّ المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بُغضاً له وخاف الزَّوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها حلَّ له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك {فإنْ خفتم} أيُّها الولاة والحكَّام {أن لا يقيما حدود الله} يعني: الزَّوجين {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} المرأة لا جُناح عليها فيما أعطته ولا على الرَّجل فيما أخذ {تلك حدود الله} يعني: ما حدَّه من شرائع الدِّين

230

{فإن طلقها} يعني: الزوج المُطلِّق اثنتين {فلا تحلُّ له} المطلَّقة ثلاثاً {من بعد} أَيْ: من بعد التَّطليقة الثَّالثة {حتى تنكح زوجاً غيره} غير المُطلِّق (ويجامعها) {فإن طلقها} أَيْ: الزَّوج الثَّاني {فلا جناح عليهما أن يتراجعا} بنكاحٍ جديدٍ {إن ظنا} أَيْ: علما وأيقنا {أَنْ يقيما حدود الله} ما بيَّن الله من حقِّ أحدهما على الآخر

231

{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ} أَيْ: قاربن انقضاء عدتهنَّ {فأمسكوهنَّ بمعروف} أَيْ: راجعوهنّ بإشهادٍ على الرَّجعة وعقد لها لا بالوَطْء كما يقول أبو حنيفة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَي: اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ ويكنَّ أملك بأنفسهنَّ {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضراراً} أَيْ: لا تُراجعوهنَّ مضارَّةً وأنتم لا حاجة بكم إليهنَّ {لتعتدوا} عليهنَّ بتطويل العِدَّة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الاعتداء {فقد ظلم نفسه} ضرَّها وأثم بينه وبين الله عزَّ وجل {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} كان الرَّجل يُطلِّق في الجاهليَّة ويقول: إنَّما طلَّقت وأنا لاعبٌ فيرجع فيها فأنزل الله تعالى هذه الآية {واذكروا نعمة الله عليكم} بالإِسلام {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} يعني: القرآن {والحكمة} مواعظ القرآن

232

{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} انقضت عدتهن {فلا تعضلوهنَّ} لا تمنعوهنَّ {أن ينكحن أزواجهنَّ} بنكاحٍ جديدٍ أَي: الذين كانوا أزواجاً لهنَّ نزلت في أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها فلمَّا انقضت عدَّتها جاء يخاطبها فأبى معقلٌ أن يُزوِّجها ومنعها بحقِّ الولاية {إذا تراضوا بينهم بالمعروف} بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائزٍ {ذلك} أَيْ: أَمْرُ اللَّهِ بتَرْكِ العضل {يوعظ به مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى} أَيْ: ترك العضل خير {لكم} وأفضلُ {وأطهر} لقلوبكم من الرِّيبة وذلك أنَّهما إذا كان في قلب كلِّ واحدٍ منهما علاقةُ حبِّ لم يُؤمن عليهما {والله يعلم} ما لكم فيه من الصَّلاح

233

{والوالداتُ يرضعن أولادهن} لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر وهو أمر استحبابٍ لا أمر إيجابٍ يريد: إنهنَّ أحقُّ بالإِرضاع من غيرهنَّ إذا أردن ذلك {حولين} سنتين {كاملين} تامين وهذا تحديدٌ لقطع التَّنازع بين الزَّوجين إذا اشتجرا في مدَّة الرَّضاع يدلُّ على هذا قوله {لمن أراد} أي: هذا التقرير والبيان {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} {وَعَلَى الْمَوْلُودِ له} أَي: الأب {رزقهن وكسوتهنَّ} رزق الوالدات ولباسهنَّ قال المفسرون: وعلى الزَّوج رزق المرأة المُطلَّقة وكسوتها إذا أرضعت الولد {بالمعروف} بما يعرفون أنَّه عدلٌ على قدر الإِمكان وهو معنى قوله: {لا تكلف نفس إلاَّ وسعها} لا تلزم نفسٌ إلاَّ ما يسعها {لا تضار والدة بولدها} لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أَنْ رضيت بإرضاعه وألفها الصَّبيُّ ولا تُلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها تُضَارُّه بذلك وهو قوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك} هذا نسقٌ على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} بمعنى: على وارث الصبيِّ - الذي لو مات الصبيُّ وله مالٌ ورثه - مثل الذي كان على أبيه في حياته وأراد بالوارث مَنْ كان من عصبته كائناً من كان من الرِّجال {فإن أرادا} يعني: الأبوين {فصالاً} فطاماً للولد {عن تراضٍ منهما} قبل الحولين {وتشاور} بينهما {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أولادكم} مراضع غير الوالدة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فلا إثم عليكم {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ: إذا سلَّمتم إلى الأُمِّ أجرتها بمقدار ما أرضعت

234

{والذين يتوفون منكم} أَيْ: يموتون {ويذرون} ويتركون (ويُخَلِّفُون) {أزواجاً} نساءً {يتربصن بأنفسهنَّ} خبرٌ في معنى الأمر {أربعة أشهر وعشرا} هذه المدَّة عدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إلاَّ أن تكون حاملاً {فإذا بلغن أجلهنَّ} انقضت عدَّتهنَّ {فلا جناح عليكم} أيُّها الأولياء {فيما فعلن في أنفسهنَّ بالمعروف} أَيْ: مِنْ تزوُّج الأكفاء بإذن الأولياء هذا تفسير المعروف ها هنا لأنَّ التي تُزَوِّج نفسها سمَّاها النبي صَلَّى الله عليه وسلم زانية وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية

235

{ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به} أَيْ: تكلَّمتم به من غير تصريح وهو أن يُضمِّن الكلام دلالةً على ما يريد {من خطبة النساء} أَي: التماس نكاحهنَّ في العدَّة يعني: المتوفَّى عنها الزَّوج يجوز التعريض بخطبتها في العدَّة وهو أن يقول لها وهي في العدَّة: إنَّك لجميلةٌ وإنَّك لنافقةٌ وإنَّك لصالحةٌ وإنَّ من عزمي أَنْ أتزوَّج وما اشبه ذلك {أو أَكْنَنْتُمْ} أسررتم وأضمرتم {في أنفسكم} من خطبتهنَّ ونكاحهنَّ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} يعني: الخطبة {وَلَكِنْ لا تواعدوهن سراً} أَيْ: لا تأخذوا ميثاقهنَّ أن لا ينكحن غيركم {إلاَّ أن تقولوا قولا معروفا} أي: التعريض بالخطبة كما ذكرنا {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أيْ: لا تصححوا عقدة النِّكاح {حتى يبلغ الكتاب أجله} حتى تنقضي العدَّة المفروضة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: مُطَّلعٌ على ما في ضمائركم {فاحذروه} فخافوه

236

{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لم تمسوهنَّ} نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأة ولم يسمِّ لها مهراً ثمَّ طلَّقها قبل أن يمسَّها فأعلم الله تعالى أنَّ عقد التَّزويج بغير مهرٍ جائز ومعناه: لا سبيل للنِّساء عليكم إنْ طلقتموهنَّ من قبل المسيس والفرض بصداقٍ ولا نفقة وقوله: {أو تفرضوا لهنَّ فريضة} أَيْ: تُوجبوا لهنَّ صداقاً {ومتعوهنَّ} أَيْ: زوِّدوهنَّ وأعطوهنَّ من ما لكم ما يتمتَّعْنَ به فالمرأة إذا طُلِّقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس فإنَّها تستحق المتعة بإجماع العلماء ولا مهرَ لها و {على الموسع} أَي: الغنيِّ الذي يكون في سعةٍ من غناه {قدره} أَيْ: قدر إمكانه {وعلى المقتر} الذي في ضيق من فقره قدر إمكانه أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلُّها أقلُّ ماله ثمن قال الشافعيُّ: وحسنٌ ثلاثون درهماً {متاعاً} أَيْ: متعوهنَّ متاعاً {بالمعروف} بما تعرفون أنَّه القصد وقدر الإِمكان {حقاً} واجباً {على المحسنين}

237

{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهنَّ} هذا في المُطلَّقة بعد التَّسمية وقبل الدُّخول حكم الله تعالى بنصف المهر وهو قوله: {فنصف ما فرضتم} أَيْ: فالواجبُ نصف ما فرضتم {إلاَّ أن يعفون} أَي: النِّساء أَيْ: إلاَّ أَنْ يتركن ذلك النِّصف فلا يُطالبن الأزواج به {أو يعفو الذي بيده عقده النكاح} أَي: الزَّوج لا يرجع في شيءٍ من المهر فيدع لها المهر الذي وفَّاه عملاً {وأن تعفو} خطابٌ للرِّجال والنِّساء {أقرب للتقوى} أَيْ: أدعى إلى اتِّقاء معاصي الله لأنَّ هذا العفو ندبٌ فإذا انتدب المرء له عُلم إنَّه - لما كان فرضاً - أشدُّ استعمالاً {ولا تنسوا الفضل بينكم} لا تتركوا أن يتفضَّل بعضكم على بعض هذا أمرٌ للزَّوج والمرأة بالفضل والإِحسان

238

{حافظوا على الصلوات} بأدائها في أوقاتها {والصلاة الوسطى} أَيْ: صلاة الفجر لأنَّها بين صلاتي ليلٍ وصلاتي نهارٍ أفردها بالذِّكر تخصيصاً {وقوموا لله قانتين} مُطيعين

239

{فإن خفتم فرجالاً} أَيْ: إن لم يمكنكم أن تصلُّوا موفِّين للصَّلاة حقًَّها فصلُّوا مُشاةً على أرجلكم {أو ركباناً} على ظهور دوابِّكم وهذا في المطاردة والمسايفة {فإذا أمنتم فاذكروا الله} أَيْ: فصلُّوا الصَّلوات الخمس تامَّةً بحقوقها {كَمَا عَلَّمَكُمْ ما لم تكونوا تعلمون} كما افترض عليكم في مواقيتها

240

{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية} فعليهم وصيةٌ {لأزواجهم} لنسائهم وهذا كان في ابتداء الإِسلام لم يكن للمرأة ميراثٌ من زوجها وكان على الزَّوج أن يُوصي لها بنفقة حولٍ فكان الورثة ينفقون عليها حولاً وكان الحول عزيمةً عليها في الصَّبر عن التَّزوُّج وكانت مُخيَّرة في أن تعتدَّ إن شاءت في بيت الزَّوج وإن شاءت خرجت قبل الحول وتسقط نفقتها فذلك قوله: {متاعاً إلى الحول} أَيْ: متعوهنَّ متاعاً يعني: النَّفقة {غير إخراجٍ} أَيْ: من غير إخراج الورثة إيَّاها {فإن خرجن فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميِّت فِي قطع النَّفقة عنهنَّ وترك منعها عن التَّشوف للنَّكاح والتَّصنُّع للأزواج وذلك قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} وهذا كلُّه منسوخٌ بآية المواريث وعدَّةِ المتوفى عنها زوجها

241

{وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين} لمَّا ذكر الله تعالى متعة المُطلَّقة في قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} قال رجلٌ من المسلمين: إنْ أحسنتُ فعلتُ وإن لم أُرد ذلك لم أفعل فأوجبها الله تعالى على المتقين الذين يتَّقون الشِّرك

242

{كذلك يبين الله لكم آياته} شبّه اللَّهُ البيانَ الذي يأتي بالبيان الذي مضى في الأحكام التي ذكرها

243

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ ديارهم} ألم تعلم ألم ينته علمك إلى هؤلاء وهم قومٌ من بني إسرائيل خرجوا من بلدتهم هاربين من الطاعون حتى نزلوا واديا فأماتهم الله جميعاً فذلك قوله: {حذر الموت} أَيْ: لحذر الْمَوْتِ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبةً لهم ثمَّ بعثهم ليستوفوا بقيَّة آجالهم {إنَّ الله لذو فضل على الناس} أَيْ: تفضُّلٍ عليهم بأَنْ أحياهم بعد موتهم

244

{وقاتلوا في سبيل الله} يحرِّض المؤمنين على القتال {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لما يقوله المُتعلِّل {عليمٌ} بما يضمره فإيَّاكم والتَّعلُّلَ

245

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أَيْ: مَنْ ذا الذي يعمل عمل المُقرض بأن يقدِّم من ماله فيأخذ أضعاف ما قدَّم وهذا استدعاءٌ من الله تعالى إلى أعمال البرِّ {والله يقبض} أَيْ: يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء {ويبسط} أي: ويوسِّع على من يشاء

246

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَي: إلى الجماعة {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} سألوا نبيَّهم أشمويل عليه السَّلام ملكاً تنتظم به كلمتهم ويستقيم حالهم في جهاد عدوِّهم وهو قوله: {نقاتل في سبيل الله} {فقال} لهم ذلك النَّبيُّ: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا} أَيْ: لعلَّكم أَنْ تجبنوا عن القتال {قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله} أَيْ: وما يمنعنا عن ذلك؟ {وقد أخرجنا من ديارنا} {و} أُفردنا من {أبنائنا} بالسبي والقتل إذا بلغ الأمر منَّا هذا فلا بدَّ من الجهاد قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا منهم} وهم الذين عبروا النَّهر ويأتي ذكرهم

247

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لكم طالوت ملكاً} أَيْ: قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك {قالوا} : كيف يملك علينا؟ وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل ولم يكن من سبط المملكة فأنكروا ملكه وقالوا: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من المال} أَيْ: لم يُؤت ما يتملَّك به الملوك {قال} النبيُّ: {إنَّ الله اصطفاه عليكم} (اختاره) بالملك {وزاده بسطة في العلم والجسم} كان طالوت يومئذٍ أعلم رجلٍ في بني إسرائيل وأجمله وأتمَّه والبسطة: الزِّيادة في كلِّ شيء {والله يؤتي ملكه من يشاء} ليس بالوراثة {والله واسع} أَيْ: واسع الفضل والرِّزق والرَّحمة فسألوا نبيَّهم على تمليك طالوت آية فـ

248

{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يأتيكم التابوت} وكان تابوتاً أنزله الله تعالى على آدم عليه السَّلام فيه صور الأنبياء عليهم السَّلام كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم فغلبتهم العمالقة على التَّابوت فلمَّا سألوا نبيَّهم البيِّنة على ملك طالوت قال: إنَّ آية ملكه أن يردَّ الله تعالى التَّابوت عليكم فحملت الملائكة التَّابوت حتى وضعته في دار طالوت وقوله: {فيه سكينة من ربكم} أَيْ: طمأنينةٌ كانت قلوبهم تطمئنُّ بذلك ففي أيِّ مكانٍ كان التَّابوت سكنوا هناك وكان ذلك من أمر الله تعالى {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} أَيْ: تركاه هما وكانت البقيَّة نعلي موسى وعصاه وعمامة هارون وقفيزاً من المنِّ الذي كان ينزل عليهم {تحمله الملائكة} أَي: التَّابوت {إنَّ في ذلك لآية} أَيْ: في رجوع التَّابوت إليكم علامة أنَّ الله قد ملَّك طالوت عليكم {إِنْ كُنْتُمْ مؤمنين} أَيْ: مصدِّقين

249

{فلما فصل طالوت بالجنود} أَيْ: خرج بهم من الموضع الذي كانوا فيه إلى جهاد العدوِّ {قال} لهم طالوت: {إنَّ الله مبتليكم} أَيْ: مُختبركم ومُعاملكم مُعاملة المختبر {بنهرٍ} أَيْ: بنهر فلسطين ليتميِّز المحقِّق ومَنْ له نيَّةٌ في الجهاد من المُعذِّر {فمن شرب منه} أَيْ: من مائه {فليس مني} أَيْ: من أهل ديني {ومن لم يطعمه} لم يذقه {فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أَيْ: مرَّةً واحدةً أَيْ: أخذ منه بجرَّةٍ أو قِربةٍ وما أشبه ذلك مرَّةً واحدةً قال لهم طالوت: مَنْ شرب من النَّهر وأكثر فقد عصى الله ومن اغترف غرفة بيده أقنعته فهجموا على النَّهر بعد عطش شديد فوقع أكثرهم في النَّهر وأكثروا الشُّرب فهؤلاء جَبُنوا عن لقاء العدو وأطاع قومٌ قليلٌ عددهم فلم يزيدوا على الاغتراف فقويت قلوبهم وعبروا النَّهر فذلك قوله: {فشربوا منه إلاَّ قليلاً منه} وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً {فلما جاوزه} أَي: النَّهر {هو والذين آمنوا معه قالوا} يعني: الذين شربوا وخالفوا أمر الله تعالى: {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال} يعني: القليل الذين اغترفوا وهم {الذين يظنون} أَيْ: يعلمون {أنهم ملاقوا الله} أَيْ: راجعون إليه: {كم مِنْ فئة قليلة} أَيْ: جماعةٍ قَلِيلَةٍ {غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مع الصابرين} بالمعونة والنَّصر

250

{ولما برزوا} أَيْ: خرجوا {لجالوت وجنوده} أَيْ: لقتالهم {قالوا ربنا أفرغ} أصببْ {علينا صبراً وثبت أقدامنا} بتقوية قلوبنا

251

{فهزموهم} فردُّوهم وكسروهم {بإذن الله} بقضائه وقدره {وقتل داود} النَّبيُّ وكان في عسكر بني إسرائيل {جالوت} الكافر {وآتاه الله الملك} (أعطى الله داود ملك بني إسرائيل) {والحكمة} أَيْ: جمع له الملك والنُّبوَّة {وعلَّمه مما يشاء} صنعة الدروع ومنطق الطيور {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} لولا دفع الله بجنود المسلين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخرَّبوا البلاد والمساجد

252

{تلك آيات الله} أي: هذه الآيات التي أخبرتك بها آيات الله أَيْ: علامات توحيده {وإنك لمن المرسلين} أَيْ: أنت من هؤلاء الذين قصصتُ عليك آياتهم

253

````` {تلك الرسل} أَيْ: جماعة الرُّسل {فضلنا بعضهم على بعض} أَيْ: لم نجعلهم سواءً في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرِّسالة {منهم مَنْ كلَّم الله} وهو موسى عليه السَّلام {ورفع بعضهم درجات} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى النَّاس كافَّةً {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} مضى تفسيره {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بعدهم} أَيْ: من بعد الرُّسل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينات} من بعد ما وضحت لهم البراهين {وَلَكِنِ اختلفوا فمنهم مَنْ آمن} ثبت على إيمانه {ومنهم مَنْ كفر} كالنَّصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرقاً ثمَّ تحاربوا {ولو شاء الله ما اقتتلوا} كرَّر ذكر المشيئة باقتتالهم تكذيباً لمن زعم أنَّهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لم يجري به قضاءٌ من الله {ولكنَّ الله يفعل ما يريد} فيوفِّقُ مَنْ يشاء فضلاً ويخذل من يشاء عدلاً

254

{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا ممَّا رزقناكم} أَي: الزَّكاة المفروضة وقيل: أراد النَّفقة في الجهاد {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فيه} يعني: يوم القيامة يعني: لا يؤخذ في ذلك اليوم بدَلٌ ولا فداءٌ {ولا خلة} ولا صداقةٌ {ولا شفاعة} عمَّ نفي الشَّفاعة لأنَّه عنى الكافرين بأنَّ هذه الأشياء لا تنفعهم ألا ترى أنَّه قال: {والكافرون هم الظالمون} أَيْ: هم الذين وضعوا أمر الله فِي غير موضعه

255

{الله لا إله إلاَّ هو الحي} الدَّائم البقاء {القيوم} القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم {لا تأخذه سنة} وهي أوَّل النُّعاس {ولا نوم} وهو الغشية الثَّقيلة {له ما في السماوات وما في الأرض} ملكا وخلقاً {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} أَيْ: لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ بأمره إبطالاً لزعم الكفَّار أنَّ الأصنام تشفع لهم {يعلم ما بين أيديهم} من أمر الدُّنيا {وما خلفهم} من أمر الآخرة {ولا يحيطون بشيء من علمه} أَيْ: لا يعلمون شيئاً من معلوم الله تعالى: {إلاَّ بما شاء} إلاَّ بما أنبأ الله به الأنبياء وأطلعهم عليه {وسع كرسيه السماوات والأرض} أي: احتملهما وأطاقهما يعني: ملكه وسلطانه وقيل: هو الكرسيُّ بعينه وهو مشتمل بعظمته على السماوات والأرض وروي عن ابن عباس أن الكرسي علمه {ولا يَؤُوْدُهُ} أَيْ: لا يُجهده ولا يُثقله {حفظهما} أي: حفظ السماوات والأرض {وهو العليُّ} بالقدرة ونفوذ السُّلطان عن الأشباه والأمثال {العظيم} عظيم الشَّأن

256

{لا إكراه في الدِّين} بعد إسلام العرب لأنهم أُكرهوا على الإِسلام فلم يُقبل منهم الجزية لأنَّهم كانوا مشركين فلمَّا أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية {قد تبين الرشد من الغي} ظهر الإِيمان من الكفر والهدى من الضَّلالة بكثرة الحجج {فمن يكفر بالطاغوت} بالشَّيطان والأصنام {ويؤمن بالله} واليوم الآخر {فقد استمسك} أَيْ: تمسَّك {بالعروة الوثقى} عقد لنفسه عقداً وثيقاً وهو الإِيمان وكلمة الشَّهادتين {لا انفصام لها} أي: لا انقطاع لها {والله سميع} لدعائك يا محمَّدُ أيَّايَ بإسلام أهل الكتاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إسلام أهل الكتاب الذين حول المدينة ويسأل الله ذلك {عليم} بحرصك واجتهادك

257

{الله وليُّ الذين آمنوا} أَيْ: ناصرهم ومتولي أمرهم {يخرجهم من الظلمات} من الكفر والضَّلالة إلى الإِيمان والهداية {والذين كفروا} أي: اليهود {أولياؤهم الطاغوت} يعني: رؤساءهم كعب بن الأشرف وحُيي بن أخطب {يُخْرِجُونَهُمْ من النور} يعني: ممَّا كانوا عليه من الإِيمان بمحمد عليه السلام قبل بعثه {إلى الظلمات} إلى الكفر به بعد بعثه

258

{ألم تر إلى الذي حاجَّ} جادل وخاصم {إبراهيم في ربه} حين قال له: مَنْ ربُّك؟ {أن آتاه الله الملك} أي: الملك الذي آتاه الله يريد: بطرُ الملك حمله على ذلك وهو نمروذ بن كنعان {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فقال عدو الله: {أنا أحيي وأميت} فعارضه بالاشتراك في العبارة من غير فعل حياةٍ ولا موتٍ فلما لبَّس في الحجَّة بأنْ قال: أنا أفعل ذلك احتجَّ إبراهيم عليه بحجَّةٍ لا يمكنه فيها أن يقول: أنا أفعل ذلك وهو قوله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كفر} أي: انقطع وسكت

259

{أو كالذي مرَّ على قرية} عطفٌ على المعنى لا على اللفظ كأنه قال: أرأيت الذي حاجَّ أو كالذي مرَّ وهو عزيز {على قرية} وهي إيليا {وهي خاوية} ساقطةٌ مُتهدِّمةٌ {على عروشها} أي: سقوفها {قال: أنى يحيي هذه الله} أَيْ: من أين يُحيي هذه الله {بعد موتها} يعمرها بعد خرابها؟ ! استعبد أَنْ يفعل الله ذلك فأحبَّ الله أن يُريه آيةً في نفسه في إحياء القرية {فأماته الله مائة عام} وذلك أنه مرَّ بهذه القرية على حمارٍ ومعه ركوة عصيرٍ وسلةُ تينٍ فربط حماره وألقى الله عز وجل عليه النَّوم فلمَّا نام نزع الله عز وجل روحه مائة سنةٍ فلمَّا مضت مائة سنةٍ أحياه الله تعالى وذلك قوله: {ثمَّ بعثه} {قال كم لبثت} كم أقمت ومكثت ها هنا؟ {قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} أَي: التِّين {و} إلى {شرابك} أي: العصير {لم يتسنَّه} أَيْ: لم يتغيَّر ولم ينتن بعد مائة سنةٍ وأراه علامة مكثه مائة سنةٍ ببلى عظام حماره فقال: {وانظر إلى حمارك} فرأى حماره ميتاً عظامه بيضٌ تلوح {ولنجعلك آية للناس} الواو زائدة والمعنى: لبثتَ مائة عامٍ لنجعلك آيةً للنَّاس وكونه آيةً أَنْ بعثه شابّاً أسود الرَّأس واللِّحية وبنو بنيه شِيبٌ {وانظر إلى العظام} أَيْ: عظام حماره {كيف نُنْشِزُها} أَيْ: نحييها يقال: أَنشرَ اللَّهُ الموتى وقرىء: {ننشزها} أَيْ: نرفعها من الأرض ونشوز كلِّ شيءٍ: ارتفاعه {ثم نكسوها لحماً فلما تبيَّن له} شاهدَ ذلك {قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} أَيْ: أعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإِشكال وتأويله: إنِّي قد علمت مُشاهدةً ما كنت أعلمه غيباً

260

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} وذلك أنَّه رأى جيفةً بساحل البحر يتناولها سباع الطير والوحش ودوابُّ البحر ففكَّر كيف يجتمع ما قد تفرَّق منها وأحبَّ أن يرى ذلك فسأل الله تعالى أن يُريه إحياء الموتى فقال الله تعالى: {أولم تؤمن} ألست آمنت بذلك؟ {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} بالمُعاينة بعد الإِيمان بالغيب {قال: فخذ أربعة من الطير} طاوُساً ونسراً وغراباً وديكاً {فصرهنَّ إليك} أَيْ: قطِّعهنَّ كأنَّه قال: خذ إليك أربعة من الطَّير فقطعهنَّ {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} ثمَّ أُمر أن يخلط ريشها ولحومها ثمَّ يفرِّق أجزاءها بأن يجعلها على أربعة أجبلٍ ففعل ذلك إبراهيم وأمسك رؤوسهنَّ عنده ثمَّ دعاهنَّ فقال: تعالين بإذن الله فجعلت أجزاء الطُّيور يطير بعضها إلى بعض حتى تكاملت أجزاؤها ثمَّ أقبلن على رؤوسهنّ فذلك قوله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يمتنع عليه ما يريد {حكيم} فيما يدبِّر فلمَّا ذكر الدَّلالة على توحيده بما أتى الرُّسل من البيِّنات حثٍّ على الجهاد والإنفاق فيه فقال:

261

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ: مَثلُ صدقاتهم وإنفاقهم {كمثل حبَّةٍ أنبتت سبع سنابل} يريد أنَّه يضاعف الواحد بسبع مائةٍ وجعله كالحبَّة تنبت سبع مائة حبَّةٍ ولا يشترط وجود هذا على ضرب المثل

262

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يتبعون ما أنفقوا منَّاً} الآية وهو أن يقول: أحسنتُ إلى فلانٍ ونعشته وجبرت خلله يمنُّ بما فعل {ولا أذىً} وهو أن يذكر إحسانه لمن لا يحبُّ الذي أُحسن إليه وقوفه عليه

263

{قول معروفٌ} كلامٌ حسنٌ وردٌّ على السَّائل جميل {ومغفرة} أَيْ: تجاوزٌ عن السَّائل إذا استطال عليه عند ردِّه {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} أَيْ: مَنٌّ وتعييرٌ للسَّائل بالسُّؤال {والله غنيٌّ} عن صدقة العباد {حليم} إذ لم يعجِّل بالعقوبة على مَنْ يمنُّ

264

{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم} أَيْ: ثوابها {بالمنِّ} وهو أنْ يمنَّ بما أعطى {والأذى} وهو أن يوبِّخ المُعطي المُعطى له {كالذي ينفق} أَيْ: كإبطاله رياء النَّاس وهو المُنافق يعطي ليوهم أنَّه مؤمنٌ {فمثله} أَيْ: مَثلُ هذا المنافق {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصابه وابل} مطرٌ شديدٌ {فتركه صلداً} برَّاقاً أملس وهذا مَثلٌ ضربه الله تعالى للمانِّ والمنافق يعني: إنَّ النَّاس يرون في الظَّاهر أنَّ لهؤلاء أعمالاً كما يُرى التُّراب على هذا الحجر فإذا كان يوم القيامة اضمحلَّ كلُّه وبطل كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان فلا يقدر أحدٌ من الخلق على ذلك التُّراب كذلك هؤلاء إذا قدموا على ربِّهم لم يجدوا شيئاً وهو قوله جلَّ وعزَّ {: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} أَيْ: على ثواب شَيْءٍ {مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكافرين} لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم (ثمَّ ضرب مثلاً لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمنُّ ولا يؤذي فقال) :

265

{ومَثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً} أَيْ: يقيناً وتصديقاً {من أنفسهم} بالثَّواب لا كالمنافق الذي لا يؤمن بالثَّواب {كمثل جنة بربوةٍ} وهي ما ارتفع من الأرض وهي أكثر ريعاً من المستفل {أصابها وابلٌ} وهو أشدُّ المطر {فآتت} أعطت {أكلها} ما يؤكل منها {ضِعْفَيْن} أَيْ: حملت في سنة من الرَّيع ما يحمل غيرها في سنتين {فإن لم يصبها وابلٌ} وهو أشدُّ المطر وأصابها طلٌّ وهو المطر الضعيف فتلك حالها في البركة يقول: كما أنَّ هذه الجنَّة تُثمر في كلِّ حالٍ ولا يخيب صاحبها قلَّ المطر أو كَثُر كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلَّت نفقته أم كثرت ثمَّ قرَّر مَثَل المُرائي في النَّفقة والمُفرِّط في الطَّاعة إلى أَنْ يموت بقوله:

266

{أيود أحدكم} يقول: مثلُهم كمثل رجلٍ كانت له جنَّةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} فضعف عن الكسب وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه {فأصابها إعصار} وهي ريحٌ شديدةٌ {فيه نارٌ فاحترقت} ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السِّنِّ وكثرة العيال وطفولة الولد فبقي هو وأولاده عجزةً مُتحيِّرين {لا يقدرون على} حيلةٍ كذلك يُبطل الله عمل المنافق والمرائي حتى لا توبة لهما ولا إقالة من ذنوبهما {كذلك يبين الله} كمثل بيان هذه الأقاصيص {يبين الله لكم الآيات} في أمر توحيده

267

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} نزلت في قومٍ كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم والمراد بالطَّيِّبات هاهنا الجياد الخيار ممَّا كسبتم أَيْ: التِّجارة {وممَّا أخرجنا لكم من الأرض} يعني: الحبوب التي يجب فيها الزَّكاة {ولا تيمموا} أَيْ: لاتقصدوا {الخبيث منه تنفقون} أَيْ: تنفقونه {ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا} أَيْ: بآخذي ذلك الخبيث لو أُعطيتم في حقٍّ لكم إلاَّ بالإِغماض والتَّساهل وفي هذا بيانُ أنَّ الفقراء شركاء ربِّ المال والشَّريك لا يأخذ الرَّديء من الجيِّد إلاَّ بالتَّساهل

268

{الشيطانُ يعدكم الفقر} أَيْ: يُخوِّفكم به يقول: أَمسك مالك فإنَّك إنْ تصدَّقت افتقرت {ويأمركم بالفحشاء} بالبخل ومنع الزَّكاة {والله يعدكم} أَنْ يجازيكم على صدقتكم {مغفرة} لذنوبكم وأَنْ يُخلف عليكم

269

{يؤتي الحكمة} علم القرآن والفهم فيه وقيل: هي النُّبوَّة {من يشاء} {وما يذكر إلا أولو الألباب} أَيْ: وما يتَّعظ إلاَّ ذوو العقول

270

{وما أنفقتم من نفقة} أدَّيتم من زكاة {أو نذرتم من نذر} في صدقة التَّطوُّع أَيْ: نويتم أن تصَّدَّقوا بصدقة {فإن الله يعلمه} يجازي عليه {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} وعيدٌ لمَنْ أنفق في غير الوجه الذي يجوز له من رياءٍ أو معصيةٍ أو من مال مغصوبٍ

271

{إن تبدوا الصدقات} سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: صدقة السرِّ أفضلُ أم صدقة العلانيَة؟ فنزلت هذه الآية والمفسرون على أنَّ هذه الآية في التَّطوُّع لا في الفرض فإِنَّ الفرضَ إظهاره أفضل وعند بعضهم الآية عامَّةٌ في كلِّ صدقةٍ وقوله: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} أي يغفرها لكم ومن للصلة والتأكيد

272

{ليس عليك هداهم} نزلت حين سألت قُتيلة أمُّ أسماء بنت أبي بكر ابنتها أن تعطيها شيئاً وهي مشركةٌ فأبت وقالت: حتى أستأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فمزلت هذه الآية والمعنى: ليس عليك هُدى مَن خالفك فمنعهم الصَّدقة ليدخلوا في الإسلام {وما تنفقوا من خيرٍ} أَيْ: مالٍ {فلأنفسكم} ثوابه {وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله} خبرٌ والمراد به الأمر وقيل: هو خاصٌّ في المؤمنين أَي: قد علم الله ذلك منكم {وما تنفقوا من خيرٍ} من مالٍ على فقراء أصحاب الصُّفَّة {يوف إليكم} أًيْ: يوفَّر لكم جزاؤه {وأنتم لا تظلمون} أَيْ: لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً

273

{للفقراء} أَيْ: هذه الصَّدقات والإِنفاق التي تقدَّم ذكرها {للفقراء الذين أحصروا} أَيْ: حُبسوا أَيْ: هم فعلوا ذلك حبسوا أنفسهم {في سبيل الله} في الجهاد يعني: فقراء المهاجرين {لا يستطيعون ضرباً} أَيْ: سيراً {في الأرض} لا يتفرَّغُون إلى طلب المعاش لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد فمنعهم ذلك من التَّصرُّف حثَّ الله تعالى المؤمنين على الإِنفاق عليهم {يحسبهم الجاهل} يخالهم {أغنياء من التعفف} عن السُّؤال {تعرفهم بسيماهم} بعلامتهم التَّخشُّع والتَّواضع وأثر الجهد {لا يسألون الناس إلحافاً} أَيْ: إلحاحاًً إذا كان عندهم غداءٌ لم يسألوا عشاءً وإذا كان عندهم عَشاءٌ لم يسألوا غداءً

274

{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار} نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عنه كان عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فَتَصدَّق بدرهمٍ سرَّاً ودرهمٍ علانيةً ودرهمٍ ليلاً ودرهمٍ نهاراً

275

{الذين يأكلون الربا} أيْ: يُعاملون به فَنَبَّه بالأكل على غيره {لا يقومون} من قبورهم يوم القيامة {إلاَّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان} يصيبه بجنونٍ {من المس} من الجنون وذلك أنَّ آكل الرِّبا يُبعث يوم القيامة مجنوناً {ذلك} أَيْ: ذلك الذي نزل بهم {بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا} وهو أنَّ المشركين قالوا: الزِّيادة على رأس المال بعد مَحِلِّ الدَّين كالزِّيادة بالرِّبح في أوَّل البيع فكذَّبهم الله تعالى فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جاءه موعظة من ربه} أَيْ: وُعظ {فانتهى} عن أكل الرِّبا {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أَّيْ: ما أكل من الرِّبا ليس عليه ردُّ ما أخذ قبل النَّهي {وأمره إلى الله} والله وليُّ أمره {ومَنْ عاد} إلى استحلال الرِّبا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

276

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أَيْ: ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيراً كما يمحق القمر {ويربي الصدقات} يربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله {والله لا يحبُّ كل كفار} بتحريم الرِّبا مستحلٍّ له {أثيم} فاجر بأكله (مصر عليه)

277

قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}

278

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ من الربا} نزلت في العباس وعثمان رضي الله عنهما طلباً رباً لهما كانا قد أسلفنا قبل نزول التَّحريم فلمَّا نزلت هذه الآية سمعها وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما ومعنى الآية: تحريم ما بقي ديناً من الرِّبا وإيجاب أخذ رأس المال دون الزِّيادة على جهة الرِّبا وقوله: {إن كنتم مؤمنين} أَيْ: إنَّ مَنْ كان مؤمناً فهذا حكمه

279

{فإن لم تفعلوا} فإن لم تذروا ما بقي من الرِّبا {فأذنوا} فاعلموا {بحرب من الله ورسوله} أَيْ: فأيقنوا أنَّكم في امتناعكم من وضع ذلك حربٌ لله ورسوله {وإن تبتم} عن الرِّبا {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون} بطلب الزِّيادة {ولا تُظلمون} بالنُّقصان عن رأس المال

280

{وإنْ كان ذو عسرة} أَيْ: وإن وقع غريم ذو عسرة {فنظرةٌ} أَيْ: فعليكم نظرةٌ أَيْ: تأخيرٌ {إلى ميسرة} إلى غنىً ووجود المال {وأن تصدقوا} على المعسرين برأس المال {خيرٌ لكم}

281

{واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} يعني: يوم القيامة تُرَدُّون فِيهِ إِلَى اللَّهِ {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كسبت} أي: جزاء ما كسبت من الأعمال {وهم لا يظلمون} لا ينقصون شيئاً فلمَّا حرَّم الله تعالى الرِّبا أباح السِّلَم فقال:

282

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مسمى} أي: تباعيتم بدين {فاكتبوه} أمرَ الله تعالى في الحقوق المؤجَّلة بالكتابة والإِشهاد في قوله: {واشهدوا إذا تبايعتم} حفظاً منه للأموال ثمَّ نسخ ذلك بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً} الآية {وليكتب بينكم} بين المُستدين والمدين {كاتب بالعدل} بالحقِّ والإِنصاف ولا يزيد في المال والأجل ولا ينقص منهما: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} أي: لا يمتنع من ذلك إذا أُمر وكانت هذه عزيمةً من الله واجبة على الكاتب والشَّاهد فنسخها قوله: {وَلا يضار كاتب ولا شهيد} ثمَّ قال {كما علَّمه الله فليكتب} أَيْ: كما فضَّله الله بالكتابة {وليملل الذي عليه الحق} أي: الذي عليه الدِّين يملي لأنَّه المشهود عليه فيقرُّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه {ولا يَبْخَسْ منه شيئاً} أُمِرَ أَنْ يُقِرَّ بمبلغ المال من غير نقصان {فإن كان الذي عليه الحق} (أي: الدَّين) {سفيهاً} طفلاً {أو ضعيفاً} عاجزاً أحمق {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هو} لخرسٍ أو لعيٍّ {فليملل وليه} وارثه أو مَنْ يقوم مقامه {بالعدل} بالصدق والحقِّ {واستشهدوا} وأشهدوا {شهيدين من رجالكم} أَيْ: من أهل ملَّتكم من الأحرار البالغين وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} أَيْ: من أهل الفضل والدِّين {أن تضلّ أحداهما} تنسى إحداهما {فتذكر إحداهما الأخرى} الشَّهادة {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} لتحمُّل الشَّهادة وأدائها {ولا تسأموا أن تكتبوه} لا يمنعكم الضَّجر والملالة أن تكتبوا ما أشهدتم عليه من الحقِّ {صغيراً أو كبيراً إلى أجله} إلى أجل الحقِّ {ذلكم} أَيْ: الكتابة {أقسط} أعدل {عند الله} في حكمه {وأقوم} أبلغ في الاستقامة {للشهادة} لأنَّ الكتاب يُذكِّر الشُّهود فتكون شهادتهم أقوم {وأدنى أن لا تَرْتَابُوا} أيْ: أقرب إلى أن لا تشكُّوا في مبلغ الحقِّ والأجل {إلاَّ أن تكون} تقع {تجارة حاضرة} أَيْ: متجرٌ فيه حاضر من العروض وغيرها ممَّا يتقابض وهو معنى قوله: {تديرونها بينكم} وذلك أنَّ ما يُخاف في النَّساء والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيدٍ وذلك قوله: {فليس عليكم جناحٌ أن لا تكتبوها وأَشْهِدوا إذا تبايعتم} قد ذكرنا أنَّ هذا منسوخ الحكم فلا يجب ذلك {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} نهى الله تعالى الكاتب والشَّاهد عن الضِّرار وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرِّف وأن يشهد الشَّاهد بما لم يُستشهد عليه أو يمتنع من إقامة الشَّهادة {وإنْ تفعلوا} شيئاً من هذا {فإنه فسوق بكم}

283

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} الآية أمر الله تعالى عند عدم الكاتب بأخذ الرَّهن ليكون وثيقةً بالأموال وذلك قوله: {فَرِهَانٌ مقبوضة} أَيْ: فالوثيقةُ رهنٌ مقبوضةٌ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أَيْ: لم يخف خيانته وجحوده الحقَّ {فليؤدّ الذي اؤتمن} أَيْ: أُمن عليه {أمانته وليتق الله ربه} بأداء الأمانة {ولا تكتموا الشهادة} إذا دُعيتم لإِقامتها {ومن يكتمها فإنه آثمٌ} فاجرٌ {قلبه}

284

{لله ما في السماوات وما في الأرض} ملكا فهو مالك أعيانه {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يحاسبكم به الله} لمَّا نزل هذا جاء ناس من الصَّحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدِّث نفسه بما لا يحبُّ أن يثبت في قلبه فنحن نحاسب بذلك؟ فقال النبيُّ: فلعلَّكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا وقولوا: سمعنا وأطعنا فقالوا: سمعنا وأطعنا فأنزل الله تعالى الفرج بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} فنسخت هذه الآية ما قبلها وقيل: إنَّ هذا في كتمان الشَّهادة وإقامتها ومعنى قوله: {يحاسبكم به الله} يخبركم به ويُعرِّفكم إيَّاه

285

{آمن الرسول} الآية لمَّا ذكر الله تعالى في هذه السُّورة الأحكام والحدود وقصص الأنبياء وآيات قدرته ختم السورة بذكر تصديق نبيه عليه السلام والمؤمنين بجميع ذلك {لا نفرق بين أحد} أَيْ: يقولون: لا نفرق بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رسله كما فعل أهل الكتاب آمنوا ببعض الرُّسل وكفروا ببعض بل نجمع بينهم في الإِيمان بهم {وقالوا سمعنا} قوله {وأطعنا} أمره {غفرانك} أَيْ: اغفر غفرانك

286

{لا يكلف الله نفسا إلاَّ وسعها} ذكرنا أنَّ هذه الآية نسخت ما شكاه المؤمنين من المحاسبة بالوسوسة وحديث النَّفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ} (من العمل بالطاعة) {وَعَلَيْهَا ما اكتسبت} (من العمل بالإثم) أَيْ: لا يُؤَاخَذ أحدٌ بذنب غيره {ربنا لا تؤاخذنا} أَيْ: قولوا ذلك على التَّعليم للدُّعاء ومعناه: لا تعاقبنا إن نسينا كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً ممَّا شرع لهم عُجِّلت لهم العقوبة بذلك فأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك {أو أَخْطأْنا} تركنا الصَّواب: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} أَيْ: ثقلاً والمعنى: لا تحمل علينا أمراً يثقل {كما حملته على الذين من قبلنا} نحو ما أُمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا به} أَيْ: لا تعذِّبنا بالنَّار {أنت مولانا} ناصرنا والذي تلي علينا أمورنا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} في إقامة حجَّتنا وغلبتنا إيَّاهم في حربه وسائر أمورهم حتى يظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا

سورة آل عمران

{الم}

2

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

3

{نزل عليك الكتابَ} أي: القرآن {بالحق} بالصِّدق في إخباره {مصدقاً لما بين يديه} مُوافقاً لما تقدَّم الخبر به في سائر الكتب {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}

4

{من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان} ما فرق به بين الحقِّ والباطل يعني: جميع الكتب التي أنزلها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شديدٌ والله عزيز ذو انتقام} ذو عقوبة

5

قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}

6

{هو الذي يصوركم} يجعلكم على صورٍ في أرحام الأُمَّهات {كيف يشاء} ذكراً وأنثى قصيراً وطويلاً وأسود وأبيض

7

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ محكماتٌ} وهنَّ الثَّلاث الآيات في آخر سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} إلى آخر الآيات الثَّلاث {هنَّ أمُّ الكتاب} هنَّ أمُّ كلِّ كتاب أنزله الله تعالى على كلِّ نبيٍّ فيهنَّ كلُّ ما أحلَّ وحرَّم ومعناه: أنهنَّ أصل الكتاب الذي يُعمل عليه {وأخر} أَيْ: آياتٌ أُخر {متشابهات} يريد: التي تشابهت على اليهود وهي حروف التَّهجِّي في أوائل السُّور وذلك أنَّهم أوَّلوها على حساب الجُمَّل وطلبوا أن يستخرجوا منها مدَّة بقاء هذه الأُمَّة فاختلط عليهم واشتبه {فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ} وهم اليهود الذين طلبوا علمَ أجل هذه الأمَّة من الحروف المقطَّعة {فيتبعون ما تشابه منه} من الكتاب يعني: حروف التَّهجِّي {ابتغاء الفتنة} طلب اللَّبس ليضلُّوا به جُهَّالهم {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} طلب أجل أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم {وما يعلم تأويله إلاَّ الله} يريد: ما يعلم انقضاء ملك أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلاَّ الله لأنَّ انقضاء ملكهم مع قيامِ السَّاعة ولا يعلم ذلك أحد إلاَّ الله ثمَّ ابتدأ فقال: {والراسخون في العلم} أَي: الثَّابتون فيه يعني: علماء مؤمني أهل الكتاب {يقولون آمنا به} أَيْ: بالمتشابه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ ربنا} المحكم والمتشابه وما علمناه وما لم نعلمه {وما يذكر إلا أولو الألباب} ما يتعَّظ بالقرآن إلاَّ ذوو العقول

8

{ربنا} أي: ويقول الرَّاسخون في العلم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تُملها عن الهدى والقصد كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} للإِيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك

9

{ربنا إنك جامع الناس} حاشرهم {ليوم} الجزاء في يوم {لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الميعاد} للبعث والجزاء

10

{إنَّ الذين كفروا} يعني: يهود قريظة والنَّضير {لن تغني عنهم} أي: لن تنفع ولن تدفع عنهم {أموالهم} {وَلا أولادهم} يعني: التي يتفاخرون بها {من الله} من عذاب الله {شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} هم الذين تُوقد بهم النَّار

11

{كدأب آل فرعون} كصنيع آل فرعون وفعلهم في الكفر والتَّكذيب كفرت اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم

12

{قل للذين كفروا} يعني: يهود المدينة ومشركي مكَّة {ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} بئس ما مُهِّد لكم

13

{قد كان لكم آية} علامة تدلُّ على صدق محمَّدٍ عليه السَّلام {في فئتين} يعني: المسلمين والمشركين {التقتا} اجتمعتا يوم بدرٍ للقتال {فئةٌ تقاتل في سبيل الله} وهم المسلمون {وأخرى كافرة يرونهم مثليهم} وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ولكنَّ الله تعالى قلَّلهم في أعينهم وأراهم على قدر ما أعلمهم أنَّهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم وذلك أن الله عز وجل كان قد أعلم المسلمين أنَّ المائة منهم تغلب المائتين من الكفَّار {رأي العين} أَيْ: من حيث يقع عليهم البصر {والله يؤيد} يقوّي {بنصره} بالغلبة والحجَّة مَنْ يشاء {إنَّ في ذلك لعبرة} وهي الآية التي يُعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم {لأولي الأبصار} لذوي العقول

14

{زُيِّن للناس حبُّ الشهوات} جمع الشَّهوة وهي تَوَقَانُ النَّفس إلى الشَّيء {والقناطير المقنطرة} الأموال الكثيرة المجموعة {والخيل المسوَّمة} الرَّاعية وقيل: المُعلَّمة كالبلق وذوات الشِّياتِ وقيل: الحسان والخيل: الأفراس {والأنعام} الإِبل والبقر والغنم {والحرث} وهو ما يُزرع ويغرس ثمَّ بيَّن أنَّ هذه الأشياء متاع الدُّنيا وهي فانيةٌ زائلةٌ {واللَّهُ عنده حسن المآب} المرجع ثمَّ أعلم أنَّ خيراً من ذلك كلِّه ما أعده لأوليائه فقال

15

{قل أؤنبئكم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} الذي ذكرت {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} الشِّرك {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بالعباد}

16

قال تعالى {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذنوبنا وقنا عذاب النار}

17

{الصابرين} على دينهم وعلى ما أصابهم {والصادقين} في نيَّاتهم {والقانتين} المطيعين لله {والمنفقين} من الحلال في طاعة الله {والمستغفرين بالأسحار} المُصلِّين صلاة الصُّبح قيل: نزلت في المهاجرين والأنصار

18

{شهد الله} بيَّن وأظهر بما نصب من الأدلَّة على توحيده {أنَّه لا إله إلاَّ هو والملائكة} أَيْ: وشهدت الملائكة بمعنى: أقرت بتوحيد الله {وأولو العلم} هم الأنبياء والعلماء من مؤمني أهل الكتاب والمسلمين {قائماً بالقسط} أَيْ: قائماً بالعدل يُجري التَّدبير على الاستقامة في جميع الأمور

19

{إنَّ الدين عند الله الإِسلام} افتخر المشركون بأديانهم فقال كلُّ فريقٍ: لا دين إلاَّ ديننا وهو دين الله فنزلت هذه الآية وكذَّبهم الله تعالى فقال: {إنَّ الدين عند الله الإِسلام} الذي جاء به محمد عليه السلام {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أَي: اليهود لم يختلفوا في صدق نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما كانوا يجدونه في كتابهم {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم سمِّي علماً لأنَّه كان معلوماً عندهم بنعته وصفته قبل بعثه فلمَّا جاءهم اختلفوا فيه فآمن به بعضهم وكفر الآخرون {بغياً بينهم} طلباً للرِّياسة وحسداً له على النُّبوَّة {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحساب} أَي: المجازاة له على كفره

20

{فإن حاجوك} أَيْ: جادلوك {فقل أسلمتُ وجهي لله} أَيْ: أخلصت عملي لله وانقدت له {ومن اتبعني} يعني: المهاجرين والأنصار {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين} يعني: العرب {أأسلمتم} استفهامٌ معناه الأمر أَيْ: أسلموا وقوله: {عليك البلاغ} أَي: التَّبليغ وليس عليك هداهم {والله بصيرٌ بالعباد} أيْ: بمَنْ آمن بك وصدَّقك ومَنْ كفر بك وكذَّبك وكان هذا قبل أنْ أُمر بالقتال

21

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بغير حق} قد مضى تفسيره في سورة البقرة وقوله: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يأمرون بالقسط من الناس} قال [رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبياً من أوَّل النَّهار في ساعةٍ واحدةٍ فقام مائةٌ واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني إسرائيل فأمروا مَنْ قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فَقُتلوا جميعاً من آخر النَّهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية] وهؤلاء الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتولَّونهم فهم داخلون في جملتهم

22

{أولئك الذين حبطت أعمالهم} بطلت أعمالهم التي يدَّعونها من التَّمسُّك بالتَّوراة وإقامة شرع موسى عليه السَّلام {في الدنيا} لأنَّها لم تحقن دماءَهم وأموالهم {و} في {الآخرة} لأنهم لم يستحقوا بها ثواباً

23

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكتاب} يعني: اليهود {يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم} وذلك أنَّهم أنكروا آية الرَّجم من التَّوراة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حدِّ المحصنين إذا زنيا فحكم بالرَّجم فقالوا: جُرْتَ يا محمد فقال: بيني وبينكم التَّوراة ثمَّ أتوا بابن صوريا الأعور فقرأ التَّوراة فلمَّا أتى على آية الرَّجم سترها بكفِّه فقام ابن سلاَّم فرفع كفَه عنها وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود فغضب اليهود لذلك غضباً شديداً وانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية {ثمَّ يتولى فريق منهم} يعني: العلماء والرؤساء {وهم معرضون}

24

{ذلك} أَْيْ: ذلك الإِعراض عن حكمك بسبب اغترارهم حيث قَالُوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} افتراؤهم وهو قوله: {لن تمسنا النار} وقد مضى هذا في سورة البقرة

25

{فكيف إذا جمعناهم} أَيْ: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم {ل} جزاء {يومٍ لا ريبَ فيه ووفيت كلُّ نفس} جزاء {ما كسبت وهم لا يظلمون} بنقصان حسناتهم أو زيادة سيئاتهم

26

{قل اللهم مالك الملك} لمَّا فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مكَّة ووعد أُمَّته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات (الفارس والروم أعزُّ وأمنع من أن يُغْلَبَ على بلادهم) فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} محمداً وأصحابه {وَتَنْزِعُ الملك ممن تشاء} أبي جهلٍ وصناديد قريشٍ {وتعزُّ من تشاء} المهاجرين والأنصار {وتذلُّ مَنْ تشاء} أبا جهلٍ وأصحابه حتى حُزَّت رؤوسهم وأُلْقُوا في القليب {بيدك الخير} أَيْ: عزُّ الدُّنيا والآخرة وأراد: الخير والشَّرَّ فاكتفى بذكر الخير لأنَّ الرغبة إليه في فعل الخير بالعبد دون الشَّر

27

{تولج الليل في النهار} تُدخل اللَّيل في النَّهار أَيْ: تجعل ما نقص من أحدهما زيادةً في الآخر {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحيِّ} تخرج الحيوان من النُّطفة وتخرج النُّطفة من الحيوان وتخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن {وَتَرْزُقُ من تشاء بغير حساب} بغير تقتيرٍ وتضييقٍ

28

{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المؤمنين} أَيْ: أنصاراً وأعواناً من غير المؤمنين وسواهم نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يُباطنون اليهود (أي: يألفونهم) ويوالونهم {ومَنْ يفعل ذلك} الاتخِّاذ {فليس من الله في شيء} أَيْ: من دين الله أَيْ: قد برئ من الله وفارق دينه ثمَّ استثنى فقال: {إِلا أَنْ تتقوا منهم تقاة} أَيْ: تقيَّة هذا في المؤمن إذا كان في قومٍ كفَّارٍ وخافهم على ماله ونفسه فله أن يُخالفهم ويُداريهم باللِّسان وقلبُه مطمئنٌّ بالإِيمان دفعاً عن نفسه قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد مدارةً ظاهرةً {ويحذركم الله نفسه} أَيْ: يُخَوِّفكم الله على موالاة الكفار عذاب نفسه (يريد: عذابه وخصَّصه بنفسه تعظيماً له) فلمَّا نهى عن ذلك خوَّف وحذَّر عن إبطان موالاتهم فقال:

29

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تبدوه} من ضمائركم في موالاتهم وتركها {يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض} إتمامٌ للتَّحذير لأنَّه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضَّمير؟ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تحذيرٌ من عقاب مَنْ لا يعجزه شيء

30

{يوم تجد كلُّ نفسٍ} أَيْ: ويحذّركم الله عذاب نفسه يوم تجد أَيْ: ذلك اليوم وقوله: {ما عملت من خير محضراً} أَيْ: جزاء ما عملت بما ترى من الثَّواب {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً} غاية بعيدةً كما بين المشرق والمغرب

31

{قل} أي: للكفَّار {إن كنتم تحبون الله} [وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريشٍ وهم يسجدون للأصنام فقال: يا معشر قريش واللَّهِ لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم فقالت قريش: إنَّما نعبد هذه حبّاً لله ليقرِّبونا إلى الله] فأنزل الله تعالى: {قل} يا محمد {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} وتعبدون الأصنام لتقرِّبكم إليه {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فأنا رسوله إليكم وحجَّته عليكم ومعنى محبَّة العبد لله سبحانه إرادته طاعته وإيثاره أمره ومعنى محبَّة الله العبد إرادته لثوابه وعفوه عنه وإنعامه عليه

32

{قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا} عن الطَّاعة {فإنَّ الله لا يحب الكافرين} لا يغفر لهم ولا يثني عليهم

33

{إنَّ الله اصطفى آدم} بالنُّبوَّة والرِّسالة {ونوحاً وآل إبراهيم} يعني: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط {وآل عمران} موسى وهارون {على العالمين} على عالمي زمانهم

34

{ذريةً} أَي: اصطفى ذريَّةً {بعضها من بعض} أَيْ: من ولد بعض لأنَّ الجميع ذريَّة آدم ثمَّ ذريَّة نوح {والله سميع} لما تقوله الذُّريَّة المصطفاة {عليمٌ} بما تضمره فلذلك فضَّلها على غيرها

35

{إذ قالت امرأة عمران} وهي حنَّة أمُّ مريم: {إني نذرت لك ما في بطني} أيْ: أوجبتُ على نفسي أن أجعل ما في بطني {محرَّراً} عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة مفرَّغاً للعبادة ولخدمة الكنيسة وكان على أولادهم فرضاً أن يُطيعوهم في نذرهم فتصدَّقت بولدها على بيت المقدس

36

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} اعتذرت ممَّا فعلت من النَّذر لمَّا ولدت أنثى {وليس الذكر كالأنثى} في خدمة الكنيسة لما يلحقها من الحيض والنِّفاس {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} أَيْ: أمنعها وأجيرها {من الشيطان الرجيم} الملعون المطرود

37

{فتقبلها ربُّها بقبول حسن} أَيْ: رضيها مكان المحرَّر الذي نذرته {وأنبتها نباتاً حسناً} في صلاحٍ وعفَّةٍ ومعرفةٍ بالله وطاعةٍ له {وكفلها زكريا} ضمن القيام بأمرها فبنى لها محراباً في المسجد لا يرتقى إليه إلاَّ بسلَّم والمحراب: الغرفة وهو قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رزقاً} أَيْ: فاكهة الشِّتاء في الصَّيف وفاكهة الصَّيف في الشِّتاء تأتيها به الملائكة من الجنَّة فلمَّا رأى زكريا ما أُوتيت مريم من (فاكهةالصيف في الشتاء وفاكهةالشتاء في الصيف) على خلاف مجرى العادة طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف العادة وذلك قوله:

38

{هنالك} أَيْ: عند ذلك {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قال رب هب لي من لدنك} أَيْ: من عندك {ذريةً طيبةً} أَيْ: نسلاً مباركاً تقيّاً فأجاب الله دعوته وبعث إليه الملائكة مبشرين وهو قوله:

39

{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله} أَيْ: مُصدِّقاً بعيسى أنَّه روح الله وكلمته وسُمِّي عيسى كلمة الله لأنَّه حدث عند قوله: {كُنْ} فوقع عليه اسم الكلمة لأنَّه بها كان {وسيداً} وكريماً على ربِّه {وحصوراً} وهو الذي لا يأتي النِّساء ولا أرب له فيهنَّ

40

{قال} زكريا لمَّا بُشِّر بالولد: {ربِّ أنى يكون لي غلامٌ} أَيْ: على أيِّ حالٍ يكون ذلك؟ أَتردُّني إلى حال الشَّباب وامرأتي أَمْ مع حال الكبر؟ {وقد بلغني الكبر} أَيْ: بَلغْتُه لأنَّه كان ذلك اليوم ابن عشرين ومائة سنةٍ {وامرأتي عاقر} لا تلد وكانت بنتَ ثمانٍ وتسعين سنةً قيل له: {كذلك} أَيْ: مثل ذلك من الأمر وهو هبة الولد على الكبر يفعل الله ما يشاء فسبحان مَنْ لا يعجزه شيء فلمَّا بُشِّر بالولد سأل الله علامةً يعرف بها وقت حمل امرأته وذلك قوله

41

{قال رب اجعل لي آية} فقال الله تعالى: {آيَتُكَ أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام} جعل الله تعالى علامة حمل امرأته أَنْ يُمسك لسانه فلا يقدر أنْ يُكلِّم النَّاس ثلاثة أيَّامٍ {إلاَّ رمزاً} أَيْ: إيماءً بالشَّفتين والحاجبين والعينين وكان مع ذلك يقدر على التَّسبيح وذكر الله وهو قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كثيراً وسبِّح} أَيْ: وصَلِّ {بالعشي} وهو آخر النَّهار {والإِبكار} ما بين طلوع الفجر إلى الضُّحى

42

{وإذ قالت الملائكة} أَيْ: جبريل عليه السَّلام وحده: {يا مريم إن الله اصطفاك} أَيْ: بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته {وطهرك} من ملامسة الرِّجال والحيض {واصطفاك على نساء العالمين} على عالمي زمانك

43

{يا مريم اقنتي لربك} قومي للصَّلاة بين يدي ربكِّ فقامت حتى سالت قدماها قيحاً {واسجدي واركعي} أَي: ائتي بالرُّكوع والسُّجود والواو لا تقتضي الترتيب {مع الراكعين} أَي: افعلي كفعلهم وقال: {مع الراكعين} ولم يقل: مع الرَّاكعات لأنَّه أعمُّ

44

{ذلك} أَيْ: ما قصصنا عليك من حديث زكريا ومريم {من أنباء الغيب} أَيْ: من أخباره {نوحيه إليك} أَيْ: نلقيه {وما كنت لديهم} فتعرف ذلك {إذ يلقون أقلامهم} وذلك أنَّ حنَّة لمَّا ولدت مريم أتت بها سدنة بيت المقدس وقالت لهم: دونكم هذه النَّذيرة فتنافس فيها الأحبار حتى اقترعوا عليها فخرجت القرعة لزكريا فذلك قوله: {إذ يلقون أقلامهم} أَيْ: قداحهم التي كانوا يقترعون بها لينظروا أيُّهم تجب له كفالة مريم

45

{إذ قالت الملائكة} يعني: جبريل عليه السَّلام: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} يعني: عيسى عليه السَّلام لأنَّه في ابتداء أمره كان كلمة من الله وكُوِّن بكلمة منه أَيْ: من الله {اسمه المسيح} وهو معرَّب من مشيحا بالسِّريانية لقبٌ لعيسى ثمَّ فَسَّر وبيَّن من هو فقال: {عيسى ابن مريم وجيهاً} أَيْ: ذا جاهٍ وشرفٍ وقدرٍ {في الدنيا والآخرة ومن المقربين} إلى ثواب الله وكرامته

46

{ويكلم الناس في المهد} صغيراً {وكهلاً} أَيْ: يتكلَّم بالنُّبوَّة كهلاً وقيل: بعد نزوله من السَّماء {ومن الصالحين} يريد: مثل موسى ويعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السِّلام

47

{قالت} مريم مُتعجِّبةً: {أنى يكون لي ولد} من غير مسيس بَشَرٌ؟ {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} مثل ذلك من الأمر وهو خلق الولد من غير مسيس بشرٍ أَي: الأمر كما تقولين ولكنَّ الله {إذا قضى أمراً} ذُكر في سورة البقرة (إلى آخرها)

48

{ويعلمه الكتاب} أراد: الكتابة والخطَّ

49

وقوله: {ورسولاً إلى بني إسرائيل} أَيْ: ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل {أني} أَيْ: بأنِّي {قد جئتكم بآية من ربكم} وهو {أني أخلق} أَيْ: أُقدِّر وأصور {كهيئة الطير} كصورته {وأبرئ الأكمه} وهو الذي وُلد أعمى {والأبرص} أَيْ: الذي به وَضَحٌ أي: بياضٌ {وأُنبئكم بما تأكلون} في غدوكم {وما} كم {تدخرون} لباقي يومكم

50

{ومصدِّقاً} أَيْ: وجئتكم مُصدِّقاً {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} أَي: الكتاب الذي أنزل من قبلي {ولأُحلَّ لكم بعض الذي حرّم عليكم} أحلَّ لهم على لسان المسيح لحوم الإِبل والثُّروب وأشياء من الطَّير والحيتان ممَّا كان محرَّماً في شريعة موسى عليه السَّلام {وجئتكم بآية من ربكم} أَيْ: ما كان معه من المعجزات الدَّالَّة على رسالته ووحَّدَ لأنَّها كلَّها جنسٌ واحد في الدلالة

51

قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}

52

{فلما أَحسَّ عيسى} علم ورأى {منهم الكفر} وذلك أنَّهم أرادوا قتله حين دعاهم إلى الله تعالى فاستنصر عليهم و {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله} أَيْ: مع الله وفي ذات الله {قال الحواريون} وكانوا قصَّارين يحوّرون الثِّياب أَيْ: يُبيِّضونها آمَنوا بعيسى واتَّبعوه: {نحن أنصار الله} أنصار دينه {آمنا بالله واشهد} يا عيسى {بأنا مسلمون} وقوله:

53

{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} مع الذين شهدوا للأنبياء بالصِّدق والمعنى: أَثْبِتْ أسماءنا مع أسمائهم لنفوز بمثل ما فازوا

54

{ومكروا} سعوا في قتله بالمكر {ومكر اللَّهُ} جازاهم على مكرهم بإلقاء شبه عيسى على مَنْ دلَّ عليه حتى أحذ وصُلب {والله خير الماكرين} أفضل المجازين بالسيئة العقوبة لأنَّه لا أحد أقدر على ذلك منه

55

{إذ قال الله يا عيسى} والمعنى: ومكر الله إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أَيْ: قابضك من غير موتٍ وافياً تاماً أَيْ: لم ينالوا منك شيئاً {ورافعك إليَّ} أَيْ: إلى سمائي ومحل كرامتي فجعل ذلك رفعاً إليه للتَّفخيم والتَّعظيم كقوله: {إني ذاهبٌ إلى ربي} وإنَّما ذهب إلى الشَّام والمعنى: إلى أمر ربِّي {ومطهِّرك من الذين كفروا} أَيْ: مُخرجك من بينهم {وجاعل الذين اتبعوك} وهم أهل الإِسلام من هذه الأمَّة اتَّبعوا دين المسيح وصدَّقوه بأنَّه رسول الله فواللَّهِ ما اتَّبعه مَنْ دعاه ربّاً {فوق الذين كفروا} بالبرهان والحُجَّة والعز والغلبة

56

قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}

57

قال تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ والله لا يحبُّ الظالمين}

58

{ذلك} أَيْ: ما تقدَّم من النَّبأ عن عيسى ومريم عليهما السَّلام {نتلوه عليك} نخبرك به {من الآيات} أَي: العلامات الدَّالَّة على رسالتك لأنَّها أخبارٌ من أمورٍ لم يشاهدها ولم يقرأها من كتاب {والذكر الحكيم} أَي: القرآن المحكم من الباطل وقيل: الحكيم: الحاكم بمعنى المانع من الكفر والفساد

59

{إنَّ مثل عيسى} الآية نزلت في وفد نجران حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ولداً من غير ذَكَرٍ؟ فاحتجَّ الله تعالى عليهم بآدم عليه السَّلام أَيْ: إنَّ قياس خلق عيسى عليه السَّلام من غير ذَكَرٍ كقياس خلق آدم عليه السَّلام بل الشأن فيه عجب لأنَّه خُلق من غير ذكر ولا أنثى وقوله: {عند الله} أَيْ: في الإنشاء والخلق وتَمَّ الكلام عند قوله: {كمثل آدم} ثمَّ استأنف خبراً آخر من قصَّة آدم عليه السَّلام فقال: {خلقه من تراب} أَيْ: قالباً من تراب {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} بشراً {فَيَكُونُ} بمعنى فكان

60

{الحق من ربك} أي: الذي أَنْبَأْتُكَ من خبر عيسى الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: من الشاكين ز الخطاب للنبيِّ عليه السَّلام والمرادُ به نهيُ غيره عن الشَّكِّ

61

{فمن حاجَّك} خاصمك {فيه} في عيسى {من بعد ما جاءك من العلم} بأنَّ عيسى عبد الله ورسوله {فقل تعالوا} هلمُّوا {ندع أبناءَنا وأبناءَكم} لمَّا احتجَّ الله تعالى على النَّصارى من طريق القياس بقوله: {إنّ مثل عيسى عند الله} الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتجَّ عليهم من طريق الإِعجاز فلمَّا نزلت هذه الآية دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة وهي الدُّعاء على الظَّالم من الفريقين وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وعليٌّ وفاطمة عليهم السَّلام وهو يقول لهم: إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا فذلك قوله: {ندع أبناءَنا} الآية وقوله: {وأنفسنا وأنفسكم} يعني: بني العمِّ {ثمَّ نبتهل} نتضرع في الدُّعاء وقيل: ندعو بالبهلة وهي اللعنة فندعو الله باللَّعنةِ على الكاذبين فلم تُجبه النَّصارى إلى المباهلة خوفاً من اللَّعنه وقَبِلوا الجزية

62

{إن هذا} الذي أوحيناه إليك {لهو القصص الحق} الخبر الصِّدق

63

{فإن تولوا} أعرضوا عمَّا أتيت به من البيان {فإنَّ الله} يعلمُ مَنْ يفسد من خلقه فيجازيه على ذلك

64

{قل يا أهل الكتاب} يعني: يهود المدينة ونصارى نجران {تعالوا إلى كلمة سواءٍ} معنى الكلمة: كلامٌ فيه شرحُ قصَّةٍ {سواءٍ} عدلٍ {بيننا وبينكم} ثمَّ فسر الكلمة فقال: {أن لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} أَيْ: لا نعبد معه غيره {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بعضاً أرباباً من دون الله} كما اتَّخذت النَّصارى عيسى وبنو إسرائيل عزيزا وقيل: لا نطيع أحداً في معصية الله كما قال الله في صفتهم لمَّا أطاعوا في معصيته علماءهم: {اتخذوا أحبارهم} الآية {فإن تولوا} أعرضوا عن الإِجابة {فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} مُقِرِّون بالتَّوحيد

65

{يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} نزلت لمَّا تنازعت اليهود والنَّصارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبراهيم عليه السَّلام فقالت اليهود: ما كان إبراهيم إلاَّ يهوديَّاً وقالت النَّصارى: ما كان إلاَّ نصرانيَّاً وقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بعده} أَيْ: إِنَّ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة حدثتا بعد نزول الكتابين وإنَّما نزلا بعد موته بزمانٍ طويلٍ {أفلا تعقلون} فساد هذه الدَّعوى

66

{ها أنتم} أَيْ: أنتم {هؤلاء} أًيْ: يا هؤلاء {حاججتم} جادلتم وخاصمتم {فيما لكم به علم} يعني: ما وجدوه في كتبهم وأُنزل عليهم بيانه وقصَّته {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا ليس لكم به علم} من شأن إبراهيم عليه السَّلام وليس في كتابكم أنَّه كان يهوديَّاً أو نصرانيَّاً {والله يعلمُ} شأن إبراهيم {وَأَنْتُمْ لا تعلمون} ثمَّ بيَّن حاله فقال:

67

{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كان حنيفاً مسلماً} الآية ثمَّ جعل المسلمين أحقَّ النَّاس به فقال:

68

{إنَّ أولى الناس بإبراهيم} أَيْ: أقربهم إليه وأحقَّهم به {للذين اتبعوه} على دينه وملَّته {وهذا النبيُّ} محمد صلى الله عليه وسلم {والذين آمنوا} أَيْ: فهم الذين ينبغي أن يقولوا: إنَّا على دين إبراهيم عليه السَّلام

69

{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أراد اليهود أن يستزلُّوا المسلمين عن دينهم ويردُّوهم إلى الكفر فنزلت هذه الآية {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} لأنَّ المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل الإِثم عليهم بتمنِّيهم إِضلال المؤمنين {وما يشعرون} أَنَّ هذا يضرُّهم ولا يضرُّ المؤمنين

70

{يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} أَيْ: القرآن {وأنتم تشهدون} بما يدلُّ على صحَّته من كتابكم لأنَّ فيه نعتَ محمَّدٍ عليه السَّلام وذكره

71

{يا أهل الكتاب لم تلبسون} ذُكر في سورة البقرة

72

{وقالت طائفة من أهل الكتاب} أي: وذلك أنَّ جماعةً من اليهود قال بعضهم لعبض: أظهروا الإِيمان بمحمَّدٍ والقرآنِ في أوَّل النَّهار وارجعوا عنه في آخر النهار فإنَّه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينه ويشكُّوا إذا قلتم: نظرنا في كتابكم فوجدنا محمَّداً ليس بذاك فأطلع الله نبيَّه عليه السَّلام على سرِّ اليهود ومكرهم بهذه الآية

73

{ولا تؤمنوا} هذا حكايةٌ من كلام اليهود بعضهم لبعض قالوا: لا تُصدِّقوا ولا تُقِرّوا ب {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} من العلم والحكمة والكتاب والحجَّة والمنِّ والسَّلوى والفضائل والكرامات {إلاَّ لمن تبع دينكم} اليهوديَّة وقام بشرائعه وقوله: {قل إنَّ الهدى هدى الله} اعتراضٌ بين المفعول وفعله وهو من كلام الله تعالى وليس من كلام اليهود ومعناه: إنَّ الدِّين دين الله وقوله: {أو يحاجُّوكم} عطف على قوله: {أَنْ يُؤْتَى} والمعنى: ولا تؤمنوا بأن يحاجُّوكم عند ربكم لأنَّكم أصحُّ ديناً منهم فلا يكون لهم الحجَّة عليكم فقال الله تعالى: {قل إنَّ الفضل بيد الله} أَيْ: ما تفضَّل الله به عليك وعلى أُمتِّك

74

{يختصُّ برحمته} بدينه الإِسلام {من يشاء والله ذو الفضل} على أوليائه {العظيم} لأنَّه لا شيءَ أعظمُ عند الله من الإِسلام ثمَّ أخبر عن اختلاف أحوالهم في الأمانة والخيانة بقوله:

75

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بقنطارٍ يؤدِّه إليك} يعني: عبد الله بن سلام أُودع ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدَّى الأمانة فيه إلى مَنْ ائتمنه {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إليك} يعني: فنحاص بن عازوراء أودع ديناراً فخانه {إلاَّ ما دمت عليه قائماً} على رأسه بالاجتماع معه فإن أنظرته وأخَّرته أنكر {ذلك} أَيْ: الاستحلال والخيانة {بأنَّهم} يقولون: {ليس علينا} فيما أصبنا من أموال العرب شيءٌ لأنَّهم مشركون فالأميُّون في هذه الآية العرب كلُّهم ثم كذبهم الله تعالى في هذا فقال {ويقولون على الله الكذب} لأنَّهم ادَّعوا أنَّ ذلك في كتابهم وكذبوا فإنَّ الأمانة مؤدَّاة في كلِّ شريعة {وهم يعلمون} أَنَّهم يكذبون ثمَّ ردَّ عليهم قولهم: {ليس علينا في الأُمييِّن سبيل} بقوله:

76

{بلى} أَيْ: بلى عليهم سبيل (في ذلك) ثمَّ ابتدأ فقال: {مَنْ أوفى بعهده} أَيْ: بعهد الله الذي عهد إليه في التَّوراة من الإِيمان بمحمدٍ عليه السَّلام والقرآن وأَدَّى الأمانة واتَّقى الكفر والخيانة ونَقْضَ العهد {فَإِنَّ الله يحب المتقين} أََيْ: مَنْ كان بهذه الصفة

77

{إنَّ الذين يشترون بعهد الله} نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم في ضَيعةٍ فهمَّ المدَّعَى عليه أن يحلف فنزلت هذه الآية فنكل (المُدَّعى عليه) عن اليمين وأقرَّ بالحقِّ ومعنى {يشترون} يستبدلون {بعهد الله} بوصيته للمؤمنين أن لا يحلفوا كاذبين باسمه {وأيمانهم} جميع اليمين وهو الحلف {ثمناً قليلأً} من الدُّنيا {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} أَيْ: لا نصيب لهم فيها {ولا يكلِّمهم الله} بكلامٍ يسرُّهم {ولا ينظر إليهم} بالرَّحمة وأكثر المفسرين على أنَّ الآية نزلت في اليهود وكتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانهم الذي بدَّلوه من صفة محمد عليه السلام هو الحقُّ في التَّوراة والدَّليل على صحَّة هذا قوله:

78

{وإنَّ منهم} أَيْ: من اليهود {لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب} يحرِّفونه بالتَّغيير والتَّبديل والمعنى: يلوون ألسنتهم عن سنن الصَّواب بما يأتونه به من عند أنفسهم {لتحسبوه} أَيْ: لتحسبوا ما لووا ألسنتهم به {من الكتاب}

79

{ما كان لبشرٍ} الآية لمَّا ادَّعت اليهود أنَّهم على دين إبراهيم عليه السَّلام وكذَّبهم الله تعالى غضبوا وقالوا: ما يرضيك منَّا يا محمد إلاَّ أَنْ نتَّخذك ربّاً [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أَنْ نأمر بعبادة غير الله] ونزلت هذه الآية {ما كان لبشر} أن يجمع بين هذين: بين النبوَّة وبين دُعاء الخلق إلى عبادة غير الله {ولكن} يقول: {كونوا ربانيين} الآية أَيْ: يقول: كونوا معلِّمي الناس بعلمكم ودرسكم علِّموا النَّاس وبيِّنوا لهم وكذا كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود لأنَّهم كانوا أهل كتاب يعلمون ما لا تعلمه العرب

80

{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنِّبِيِّينَ أَرْبَابًا} كما فعلت النَّصارى والصَّابئون {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ} استفهامٌ معناه الإِنكار أَيْ: لا يفعل ذلك {بعد إذ أنتم مسلمون} بعد إسلامكم

81

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ من كتاب} ما ها هنا للشرط والمعنى: لئن آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة ومهما آتيتكم {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ به} ويريد بميثاق النَّبييِّن عهدهم ليشهدوا لمحمد عليه السَّلام أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {ثمَّ جاءكم رسول مصدق لما معكم} يريد محمداً {لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه} أَيْ: إن أدركتموه ولم يبعث الله بينا إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد عليه السلام وأمره بأنْ يأخذ العهد على قومه لَيُؤمننَّ به ولئنْ بُعث وهم أحياءٌ لينصرنَّه وهذا احتجاجٌ على اليهود قوله: {أأقررتم} أَيْ: قال الله للنَّبييِّن: أقررتم بالإِيمان به والنُّصرة له {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أَيْ: قبلتم عهدي؟ {قالوا أقررنا قال فاشهدوا} أَي: على أنفسكم وعلى أتباعكم {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشاهدين} عليكم وعليهم

82

{فَمَن تولى} أعرض من {بعد ذلك} بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبيِّ صَلَّى الله عليه وسلم {فأولئك هم الفاسقون} الخارجون عن الإيمان

83

{أفغير دين الله يبغون} بعد أخذ الميثاق عليهم بالتَّصديق بمحمَّد عليه السَّلام {وله أسلم مَنْ في السماوات والأرض طوعا} الملائكة والمسلون {وكرهاً} الكفَّار في وقت البأس {وإليه يُرجعون} وعيدٌ لهم أَيْ: أيبغون غير دين الله مع أنَّ مرجعهم إليه؟

84

{قل آمنا بالله} أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: آمنَّا بالله وبجميع الرُّسل من غير تفريقٍ بينهم في الإِيمان كما فعلت اليهود والنَّصارى ونظير هذه الآية قد مضى في سورة البقرة

85

قال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين}

86

{كيف يهدي الله} هذا استفهام معنا الإِنكار أَيْ: لا يهدي الله {قوماً كفروا بعد إيمانهم} أَي: اليهود كانوا مؤمنين بمحمَّدٍ عليه السَّلام قبل مبعثه فلمَّا بُعث كفروا به وقوله: {وشهدوا} أَيْ: وبعد أنْ شهدوا {أنَّ الرسول حقٌّ وجاءهم البينات} ما بيِّن في التَّوراة {والله لا يهدي القوم الظالمين} أَيْ: لا يرشد مَنْ نقض عهود الله بظلم نفسه

87

{أولئك جزاؤهم أنَّ عليهم لعنة الله} مثل هذه الآية ذُكر في سورة البقرة

88

قال تعالى {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هم ينظرون}

89

{إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك} أَيْ: راجعوا الإِيمان بالله وتصديق نبيِّه {وأصلحوا} أعمالهم

90

{إنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم} وهم اليهود {ثم ازدادوا كفراً} بالإِقامة على كفرهم {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنهم لا يتوبون إلاَّ عند حضور الموت وتلك التَّوبة لا تُقبل

91

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} وهو القدر الذي يملؤها يقول: لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم يُقبل منه

92

{لن تنالوا البر} التقوى وقيل: أَي: الجنَّة {حتى تنفقوا مما تحبون} أَيْ: تُخرجوا زكاة أموالكم

93

{كلُّ الطعام كان حلاً لبني إسرائيل} أَيْ: حلالاً {إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قبل أن تنزل التوراة} وذلك أنَّ يعقوب عليه السَّلام مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله تعالى لَيُحرِّمنَّ أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه وكان أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه لحمانُ الإِبل وألبانها فلمَّا ادَّّعى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه علم دين إبراهيم عليه السَّلام قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل وألبانها؟ فقال النَّبيُّ عليه السَّلام: كان ذلك حلالاً لإِبراهيم عليه السَّلام فادَّعت اليهود أنَّ ذلك كان حراماً عليه فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم وبيَّن أنَّ ابتداء هذا التَّحريم لم يكن في التَّوراة إنَّما كان قبل نزولها وهو قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فأتوا بالتَّوراة} الآية

94

{فمن افترى على الله الكذب} أَيْ: بإضافة هذا التَّحريم إلى الله عزَّ وجل على إبراهيم في التَّوراة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد ظهور الحجَّة بأنَّ التَّحريم إنَّما كان من جهة يعقوب عليه السَّلام {فأولئك هم الظالمون} أنفسهم

95

{قل صدق الله} في هذا وفي جميع ما أخبر به

96

{إنَّ أوَّل بيتٍ وُضع للناس} يُحَجُّ إليه {للذي ببكة} مكَّة {مباركاً} كثير الخير بأن جُعل فيه وعنده البركة {وهدىً} وذا هدىً {للعالمين} لأنَّه قِبلة صلاتهم ودلالةٌ على الله بما جعل عنده من الآيات

97

{فيه آياتٌ بيناتٌ} أَيْ: المشاعر والمناسك كلُّها ثمَّ ذكر بعضها فقال: {مقام إبراهيم} أَيْ: منها مقام إبراهيم {ومَنْ دخله كان آمناً} أَيْ: مَنْ حجَّه فدخله كان آمناً من الذُّنوب التي اكتسبها قبل ذلك وقيل: من النَّار {ولله على الناس حج البيت} عمَّم الإِيجاب ثمَّ خصَّ وأبدل من النَّاس فقال {من استطاع إليه سبيلاً} يعني: مَنْ قوي في نفسه فلا تلحقه المشقَّة في الكون على الراحة فمَنْ كان بهذه الصِّفة وملك الزَّاد والرَّاحلة وجب عليه الحج {ومَنْ كفر} جحد فرض الحجِّ {فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين}

98

قال تعالى {قل يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ على ما تعملون}

99

{قل يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمن} كان صدُّهم عن سبيل الله بالتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنَّ صفته ليست في كتابهم {تبغونها عوجاً} تطلبون لها عوجاً بالشُّبَه التي تلبسونها على سفلتكم {وأنتم شهداء} بما في التَّوراة أنَّ دين الله الإِسلام

100

{يا أيها الذين آمنوا إنْ تطيعوا فريقاً} الآية نزلت في الأوس والخزرج حين أغرى قومٌ من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم ثمَّ خاطبهم فقال:

101

{وكيف تكفرون} أَيْ: على أيِّ حالٍ يقع منكم الكفر وآياتُ الله التي تدلُّ على توحيده تُتلى عليكم {وفيكم رسوله ومَنْ يعتصم بالله} يؤمن بالله

102

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} وهو أَنْ يُطاع فلا يُعصى ويُذكر فلا يُنسى ويشكر فلا بكفر فلما نزل هذا قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ومَنْ يقوى على هذا؟ وشقَّ عليهم فأنزل الله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أَيْ: كونوا على الإِسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم عليه وهو في الحقيقةِ نهيٌ عن ترك الإِسلام

103

{واعتصموا بحبل الله جميعاً} أَيْ: تمسَّكوا بدين الله والخطاب للأوس والخزرج {ولا تفرقوا} كما كنتم في الجاهليَّة مُقتتلين على غير دين الله {واذكروا نعمة الله عليكم} بالإِسلام {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} يعني: ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم بالإِسلام فزالت تلك الأحقاد وصاروا إخواناً مُتوادِّين فذلك قوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ على شفا حفرة من النار} أَيْ: طرف حفرةٍ من النَّار لو متم على ما كنتم عليه {فأنقذكم} فنجَّاكم {منها} بالإِسلام وبمحمد عليه السَّلام {كذلك} أَيْ: مثل هذا البيان الذي تُلي عليكم {يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}

104

{ولتكن منكم أمة} الآية أَيْ: وليكن كلُّكم كذلك ودخلت مِنْ لتخصيص المخاطبين من غيرهم

105

{ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا} أَي: اليهود والنَّصارى {واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} أَيْ: إنَّ اليهود اختلفوا بعد موسى فصاروا فرقاً وكذلك النَّصارى

106

{يومَ تبيض وجوه} أَيْ: وجوه المهاجرين والأنصار ومَنْ آمنَ بمحمدٍ عليه السَّلام {وتسودّ وجوه} اليهود والنَّصارى ومَنْ كفر به {فأمَّا الذين اسودَّت وجوههم} فيقال لهم: {أكفرتم بعد إيمانكم} لأنَّهم شهدوا لمحمدٍ عليه السَّلام بالنُّبوَّة فلمَّا قدم عليهم كذَّبوه وكفروا به

107

{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} أَيْ: جنَّته

108

{تلك آيات الله} أي: القرآن {نتلوها عليك} نُبيِّنها {بالحقِّ} بالصِّدق {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} فيعاقبهم بلا جرم

109

قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}

110

{كنتم خير أمة} عند الله في اللَّوح المحفوظ يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم {أُخرجت للناس} أُظهرت لهم وما أَخرج الله تعالى للنَّاس أُمَّة خيراً من أمة محمد عليه السلام ثمَّ مدحهم بما فيهم من الخصال فقال: {تأمرون بالمعروف} الآية

111

{لن يضرُّوكم} أَي: اليهود {إلاَّ أذىً} إلاَّ ضرراً يسيراً باللِّسان مثل الوعيد والبهت {وَإِنْ يقاتلوكم يولوكم الأدبار} منهزمين وعد الله نبيَّه والمؤمنين النُّصرة على اليهود فصدق وعده فلم يقاتل يهود المدينة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلاًّ انهزموا

112

{ضربت عليهم الذلة} ذكرناه {أينما ثقفوا} وُجدوا وصُودفوا {إلاَّ بحبل من الله} أَيْ: لكن قد يعتصمون بالعهد (إذا أعطوه والمعنى: أنَّهم إذلاء في كلِّ مكان إلاَّ أنَّهم يعتصمون بالعهد) والمراد {بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس} العهد والذِّمَّة والأمان الذي يأخذونه من المؤمنين بإذن الله وباقي الآية ذُكر في سورة البقرة ثمَّ أخبر أنَّهم غير متساوين في دينهم فقال:

113

{ليسوا سواء} وأخبر أنَّ منهم المؤمنين فقال: {من أهل الكتاب أمة قائمة} أَيْ: على الحقِّ {يتلون} يقرؤون {آيات الله} كتاب الله {آناء الليل} ساعاته يعني: عبد الله بن سلام ومَنْ آمن معه من أهل الكتاب {وهم يسجدون} أي: يصلون

114

قال تعالى {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصالحين}

115

{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} لن تُجحدوا جزاءه

116

{إنَّ الذين كفروا} الآية سبقت في أوَّل هذه السورة

117

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني: نفقة سفلة اليهود على علمائهم {كمثل ريح فيها صرٌّ} بردٌ شديدٌ {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية أعلم الله تعالى أنَّ ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الرِّيح على هذا الزَّرع {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} لأنَّ كلَّ ما فعله بخلقه فهو عدلٌ منه {ولكن أنفسهم يظلمون} بالكفر والعصيان ثمَّ نهى المؤمنين عن مباطنتهم فقال:

118

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} أَيْ: دخلاً وخواصَّ {من دونكم} من غير أهل ملَّتكم {لا يألونكم خبالاً} أَيْ: لا يدعون جهدهم في مضرَّتكم وفسادكم {ودُّوا ما عنتم} تمنَّوا ضلالكم عن دينكم {قد بدت البغضاء} أَيْ: ظهرت العداوة {من أفواههم} بالشَّتيمة والوقيعة في المسلمين {وما تخفي صدورهم} من العداوة والخيانة {أكبر قد بينا لكم الآيات} أَيْ: علامات اليهود في عداوتهم {إن كنتم تعقلون} موقع نفع البيان

119

{ها أنتم} ها تنبيهٌ دخل على أنتم {أولاء} بمعنى: الذين كأنَّه قيل: الذين {تحبُّونهم ولا يحبُّونكم} أَيْ: تريدون لهم الإِسلام وهم يريدونكم على الكفر {وتؤمنون بالكتاب كلِّه} أَيْ: بالكتب وهو اسم جنس {وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل} أَيْ: أطراف الأصابع {من الغيظ} التَّقدير: عضُّوا الأنامل من الغيظ عليكم وذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم {قل موتوا بغيظكم} أمر الله تعالى نبيَّه أن يدعو عليهم بدوام غيظهم إلى أن يموتوا {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما فيها من خيرٍ وشرٍّ

120

{إن تمسسكم حسنةٌ} نصرٌ وغنيمةٌ {تسؤهم} تحزنهم {وإنْ تصبكم سيئة} ضد ذلك وهو كسرٌ وهزيمةٌ {يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا} على ما تسمعون من آذاهم {وتتقوا} مقاربتهم ومخالطتهم {لا يضرُّكم كيدهم} عداوتهم {شيئاً إنَّ الله بما يعملون محيط} عالمٌ به فلن تعدموا جزاءه

121

{وإذ غدوت} يعني: يوم أُحدٍ {من أهلك} من منزل عائشة رضي الله عنها {تبوء} تهيئ للمؤمنين {مقاعد} مراكز ومثابت {للقتال والله سميع} لقولكم {عليم} بما في قلوبكم

122

{إذ همَّت طائفتان منكم} بنو سَلِمة وبنو حارثة {أن تفشلا} أَنْ تجبنا وذلك أنَّ هؤلاء همُّوا بالانصراف عن الحرب فعصمهم الله {والله وليُّهما} ناصرهما وموالٍ لهما {وعلى الله فليتوكل} فليعتمد في الكفاية {المؤمنون}

123

{ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلَّةٌ} بقلَّة العدد وقلَّة السِّلاح {فاتقوا الله لعلكم تشكرون} أَيْ: فاتقونِ فإنه شكر نعمتي

124

{إذ تقول للمؤمنين} يوم بدرٍ: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ من الملائكة منزلين}

125

{بلى} تصديقٌ لوعد الله {إن تصبروا} على لقاء العدوِّ {وتتقوا} معصية الله ومخالفة النبيِّ عليه السَّلام ( {ويأتوكم من فورهم} قيل: من وجههم وقيل: من غيظهم) {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} مُعلَّمين وكانت الملائكة قد سوِّمت يوم بدر بالصُّوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها ثمَّ صبر المؤمنون يوم بدر فأُمدّوا بخمسة آلاف من الملائكة

126

{وما جعله الله} أَيْ: ذلك الإِمداد {إلاَّ بشرى} أَيْ: بشارةً لكم {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} فلا تجزع من كثرة العدو {وما النصر إلاَّ مِنْ عند الله} لأنَّ مَن لم ينصره الله فهو مخذولٌ وإنْ كثرت أنصاره

127

{ليقطع طرفاً} أَيْ: نصركم ببدرٍ (ليقطع طرفاً أي:) ليهدم ركناً من أركان الشِّرك بالقتل والأسر {أو يكبتهم} أَيْ: يخزيهم ويُذلَّهم يعني: الذين انهزموا قوله:

128

{ليس لك من الأمر شيء} الآية لمَّا كان يوم أُحدٍ من المشركين ما كان من كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشجِّه فقال: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيِّهم وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية يُعلمه أنَّ كثيراً منهم سيؤمنون والمعنى: ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيءٌ حتى يقع إنابتهم أو تعذيبهم وهو قوله: {أو يتوب عليهم أو يعذبهم} فلمَّا نفى الأمر عن نبيِّه عليه السَّلام ذكر أنَّ جميع الأمر له فمَنْ شاء عذَّبه ومن شاء غفر له وهو قوله:

129

{ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء} أَي: الذَّنب العظيم للموحِّدين {ويعذّب من يشاء} يريد: المشركين على الذَّنب الصَّغير {والله غفورٌ} لأوليائه {رحيمٌ} بهم

130

{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا} الآية هو أنَّهم كانوا يزيدون على المال ويؤخِّرون الأجل كلَّما أُخرِّ أجلٌ إلى غيره زِيد في المال زيادةٌ {لعلكم تفلحون} لكي تسعدوا وتبقوا في الجنة

131

{واتقوا النَّار} بتحريم الرِّبا وترك الاستحلال له {التي أعدَّت للكافرين} دون المؤمنين

132

قال تعالى {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}

133

{وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم} أَي: الإِسلامِ الذي يوجب المغفرة وقيل: إلى التَّوبة وقيل: إلى أداء الفرائض {وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت} لكلِّ واحدٍ من أولياء الله

134

{الذين ينفقون في السراء والضرَّاء} في اليسر والعسر وكثرة المال وقلَّته {والكاظمين الغيظ} الكافيِّن غضبهم عن إمضائه {والعافين عن الناس} أيْ: المماليك وعمَّنْ ظلمهم وأساء إليهم {والله يحبُّ المحسنين} الموحِّدين الذين فيهم هذه الخصال

135

{والذين إذا فعلوا فاحشة} أَي: الزِّنا نزلت في نبهان التَّمَّار أتته امراةٌ حسناء تبتاع منه التمر فضمَّها إلى نفسه وقبَّلها ثمَّ ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية وقوله: {أو ظلموا أنفسهم} يعني: ما دون الزِّنا من قُبلةٍ أو لمسةٍ أو نظرٍ {ذكروا الله} أيْ: ذكروا عقاب الله {ولم يُصرُّوا} أَيْ: لم يقيموا ولم يدوموا {على ما فعلوا} بل أقرُّوا واستغفروا {وهم يعلمون} أن الذي أتوه حرام ومعصية

136

قال تعالى {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين}

137

{قد خلت من قبلكم سننٌ} قد مضت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الكافرة سننٌ بإمهالي إيَّاهم حتى يبلغوا الأجل الذي أجَّلته في إهلاكهم وبقيت لهم آثارٌ في الدنيا فيها أعظم الاعتبار {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} آخرُ أمرِ {المُكذِّبين} منهم نزلت في قصَّة يوم أُحدٍ يقول الله: فأنا أُمهلهم حتَّى يبلغ أجلي الذي أجَّلْتُ في نصرة النبيِّ عليه السَّلام وأوليائه وإهلاك أعدائه

138

{هذا بيانٌ للناس} أي: القرآن بيانٌ للنَّاس عامَّة {وهدىً وموعظة للمتقين} خاصَّة وهم الذين هداهم الله بفضله

139

{ولا تهنوا} ولا تضعفوا عن جهاد عدوِّكم بما نالكم من الهزيمة {ولا تحزنوا} أَيْ: على ما فاتكم من الغنيمة {وأنتم الأعلون} أَيْ: لكم تكون العاقبة بالنَّصر والظَّفر {إن كنتم مؤمنين} أي: إن الإِيمان يُوجب ما ذكر من ترك الوهن والحزن

140

{إن يمسسكم} يصبكم {قرحٌ} جراحٌ وألمها يوم أُحدٍ {فقد مسَّ القوم} المشركين {قرحٌ مثله} يوم بدرٍ {وتلك الأيام} أَيْ: أيَّام الدُّنيا {نداولها} نُصرِّفها {بين الناس} مرَّةً لفرقةٍ ومرَّةً عليها {وليعلم الله الذين آمنوا} مُميَّزين بالإٍيمان عن غيرهم أَيْ: إِنَّما نجعل الدَّولة للكفَّار على المؤمنين ليميَّز المؤمن المخلص ممَّن يرتدُّ عن الدِّين إذا أصابته نكبة والمعنى: ليعلمهم مشاهدةً كما علمهم غيباً {ويتخذ منكم شهداء} أَيْ: ليكرم قوماً بالشَّهادة {والله لا يحبُّ الظالمين} أَي: المشركين أَيْ: إنَّه إنما يُديل المشركين على المؤمنين لما ذُكر لا لأنَّه يحبُّهم

141

{وليمحص الله الذين آمنوا} أَيْ: ليخلِّصهم من ذنوبهم بما يقع عليهم من قتلٍِ وجرحٍ وذهاب مال {ويمحق الكافرين} يستأصلهم إذا أدال عليهم يعني: أنه يُديل على المؤمنين لما ذُكر ويُديل على الكافرين لإِهلاكهم بذنوبهم

142

{أم حسبتم} بل أحسبتم أَي: لا تحسبوا {أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله} الآية أَيْ: ولمَّا يقع العلم بالجهاد مع العلم بصبر الصَّابرين والآية خطابٌ للذين انهزموا يوم أُحدٍ قيل لهم: أحسبتم أن تدخلوا الجنَّة كما دخل الذين قُتلوا وثبتوا على ألم الجرح والضَّرب من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟ !

143

{ولقد كنتم تمنون الموت} كانوا يتمنَّون يوماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: لنفعلنَّ ولنفعلنَّ ثمَّ انهزموا يوم أُحدٍ فاستحقُّوا العقاب وقوله: {من قبل أن تلقوه} أَيْ: من قبل يوم أحدٍ {فقد رأيتموه} رأيتم ما كنتم تتمنُّون من الموت أَيْ: رأيتم أسبابه ولم تثبتوا مع نبيّكم نزلت في معاتبة الرسول إياهم فقالوا: بلغنا أنَّك قد قُتلْتَ لذلك انهزمنا {وأنتم تنظرون} وأنتم بُصراءُ تتأمَّلون الحال في ذلك كيف هي فَلِمَ انهزمتم؟

144

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قبله الرسل} أَيْ: يموت كما ماتت الرُّسل قبله {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعقابكم} ارتددتم كفَّاراً بعد إيمانكم وذلك لمَّا نعي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يوم أُحدٍ وأُشيع أنَّه قد قُتل قال ناس من أهل النِّفاق للمؤمنين: إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأوَّل فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئاً} أَيْ: فإنما يضرُّ نفسه باستحقاق العذاب {وسيجزي الله} بما يستحقون من الثَّواب {الشاكرين} الطَّائعين لله من المهاجرين والأنصار ثمَّ عاتب المنهزمين بقوله:

145

{وما كان لنفس أن تموت} أَيْ: ما كانت نفسٌ لتموت {إلاَّ بإذن الله} بقضائه وقدره كتب الله ذلك {كتاباً مؤجلاً} إلى أجله الذي قدِّر له فلمَ انهزمتم؟ والهزيمة لا تزيد في الحياة {ومَنْ يرد} بعمله وطاعته {ثواب الدنيا} زينتها وزخرفها {نؤته منها} نُعْطه منها ما قدَّرناه له أَيْ: لهؤلاء المنهزمين طلباً للغنيمة {ومن يرد ثواب الآخرة} يعني: الذين ثبتوا حتى قُتلوا {نؤته منها} ثمَّ احتجَّ على المنهزمين بقوله:

146

{وكأين} أَيْ: وكم {من نبي قاتل} في معركةٍ {معه ربيون كثير} جماعاتٌ كثيرةٌ {فما وهنوا لما أصابهم} أَيْ: ما ضعفوا بعد قتل نبيِّهم الآية

147

{وما كان قولهم} أَيْ: قول أصحاب ذلك النبيِّ المقتول عند الحرب بعد قتل نبيِّهم {إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسرافنا} تجاوزنا ما حُدَّ لنا {في أمرنا وثَبِّتْ أقدامَنا} بالقوَّة من عندك والنُّصرة

148

{فآتاهم الله ثواب الدنيا} النَّصر والظَّفر {وحسن ثواب الآخرة} الأجر والمغفرة

149

{يا أيها الذين آمنوا إِنْ تطيعوا الذين كفروا} أَيْ: اليهود والمشركين حيث قالوا لكم يوم أُحدٍ: ارجعوا إلى دين آبائكم وهو قوله: {يردوكم على أعقابكم} يرجعونكم إلى أوَّل أمركم من الشِّرك بالله

150

{بل الله مولاكم} أَيْ: فاستغنوا عن موالاة الكفَّار فأنا ناصركم فلا تستنصروهم ولمَّا انصرف المشركون من أحدٍ همُّوا بالرُّجوع لاستئصال المسلمين وخاف المسلمون ذلك فوعدهم الله تعالى خذلان أعدائهم بقوله:

151

{سنلقي في قلوب الذين كفروا الرُّعب} الخوف حتى لا يرجعوا إليكم {بما أشركوا} أيْ: بإشراكهم بالله {ما لم ينزل به سلطاناً} حجَّةً وبرهاناً أيْ: الأصنام التي يَعبدونها مع الله بغير حجَّة {ومأواهم النار} أَيْ: مرجعهم النَّار {وبئس مثوى الظالمين} مقامهم

152

{ولقد صدقكم الله وعده} بالنَّصر والظَّفر {إذْ تحسُّونهم} تقتلون المشركين يوم أُحدٍ في أوَّل الأمر {بإذنه} بعلم الله وإرادته {حتى إذا فشلتم} جَبنْتُم عن عدوِّكم {وتنازعتم} اختلفتم في الأمر يعني: قول بعضهم: ما مقامنا وقد انهزم القوم الكافرون وقول بعضهم: لا نجاوز أمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهذا الاختلاف كان بين الرُّماة الذين كانوا عند المركز {وعصيتم} الرَّسول بترك المركز {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تحبُّون} من الظَّفر والنَّصر على أعدائكم {منكم مَنْ يريد الدنيا} وهم الذين تركوا المركز وأقبلوا إلى الذَّهب {ومنكم مَن يريد الآخرة} أَيْ: الذين ثبتوا في المركز {ثمَّ صرفكم} ردَّكم بالهزيمة {عنهم} عن الكفَّار {ليبتليكم} ليختبركم بما جعل عليكم من الدَّبرة فيتبيَّن الصَّابر من الجازع والمخلص من المنافق {وَلَقَدْ عفا عنكم} ذنبكم بعصيان النبي صلى الله عليه وسلم والهزيمة {والله ذو فضلٍ على المؤمنين} بالمغفرة

153

{إذْ تصعدون} تَبعدون في الهزيمة {ولا تلوون} لا تقيمون {على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم} من خلفكم يقول: إليَّ عبادَ الله (إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله) وأنتم لا تلتفتون إليه {فأثابكم} أَيْ: جعل مكان ما ترجعون من الثَّواب {غمَّاً} وهو غمُّ الهزيمة وظفر المشركين {بغمٍّ} أَيْ: بغمِّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ عصيتموه {لكيلا تحزنوا} أَيْ: عفا عنكم لكيلا تحزنوا {على ما فاتكم} من الغنيمة {ولا ما أصابكم} من القتل والجراح

154

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نعاساً} وذلك أنَّهم خافوا كرَّة المشركين عليهم وكانوا تحت الحَجَف مُتأهِّبين للقتال فأمَّنهم الله تعالى أمناً ينامون معه وكان ذلك خاصا بالمؤمنين وهو قوله {يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمَّتهم} وهم المنافقون كان همَّهم خلاص أنفسهم {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أَيْ: يظنون أن أمر محمد عليه السلام مضمحل وأنه لا ينصر {ظنّ الجاهلية} أَيْ: كظنِّ أهل الجاهليَّة وهم الكفَّار {يَقُولُونَ: هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} ليس لنا من النصر والظَّفَر شيء كما وُعدنا يقولون ذلك على جهة التكذيب فقال الله تعالى: {إنَّ الأمر كلّه لله} أَيْ: النصر والشهادة والقدر والقضاء {يخفون في أنفسهم} من الشك والنفاق {مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لنا من الأمر شيء} أَيْ: لو كان الاختيار إلينا {ما قتلنا هاهنا} يعنون: أنَّهم أخرجوا كُرهاً ولو كان الأمر بيدهم ما خرجوا وهذا تكذيبٌ منهم بالقدر فردَّ الله عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} مصارعهم ولم يكن لِيُنجيهم قعودُهم {وليبتلي الله ما في صدوركم} أيُّها المنافقون فعلَ الله ما فعلَ يوم أُحدٍ {وليمحِّص} ليظهر ويكشف {ما في قلوبكم} أيُّها المؤمنون من الرِّضا بقضاء الله {والله عليمٌ بذات الصدور} بضمائرها

155

{إنَّ الذين توَّلوا منكم} أيُّها المؤمنون {يوم التقى الجمعان} أَيْ: الذين انهزموا يوم أحد {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} حملهم على الزَّلَّة {ببعض ما كسبوا} يعني: معصيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بترك المركز {ولقد عفا الله عنهم} تلك الخطيئة

156

{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} أَيْ: المنافقين {وقالوا لإِخوانهم} أَيْ: في شأن إخوانهم في النَّسب {إذا ضربوا في الأرض} أَيْ: سافروا فماتوا وهلكوا {أو كانوا غُزَّىً} جمع غازٍ فقتلوا {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا} تكذيباً منهم بالقضاء والقدر {ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} أَيْ: ليجعل ظنَّهم أنَّهم لو لم يحضروا الحرب لاندفع عنهم القتل {حسرة في قلوبهم} ينهى المؤمنين أن يكونوا كهؤلاءِ الكفَّار في هذا القول منهم ليجعل اللَّهُ ذلك حسرةً في قلوبهم دون قلوب المؤمنين {واللَّهُ يحيي ويميت} فليس يمنع الإِنسان تحرُّزه من إتيان أجله

157

{ولئن قتلتم} أي: والله لئن قتلتم {في سبيل الله} في الجهاد أيُّها المؤمنون {أو متم} في سبيل الله ليغفرنَّ لكم وهو {خيرٌ مما يَجمعون} من أعراض الدُّنيا

158

{ولئن متم} مُقيمين على الجهاد {أو قتلْتُم} مجاهدين {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} في الحالين

159

{فبما رحمة من الله} أَيْ: فَبِرَحْمةٍ أَيْ: فبنعمةٍ من الله وإحسانٍ منه إليك {لِنت لهم} يا محمد أَيْ: سهلت أخلاقك لهم وكثر احتمالك {ولو كنت فظاً} غليظاً في القول {غليظ القلب} في الفعل {لانْفَضُّوا} لتفرَّقوا {من حولك فاعف عنهم} فيما فعلوا يومَ أُحدٍ {واستغفر لهم} حتى أشفعك فيهم {وشاورهم في الأمر} تطييباً لنفوسهم ورفعاً من أقدارهم ولتصير سنَّةً {فإذا عزمت} على ما تريد إمضاءه {فتوكل على الله} لا على المشاورة

160

{إنْ ينصركم الله فلا غالب لكم} من النَّاس {وإن يخذلكم} (يوم أُحد) لا ينصركم أحدٌ من بعده والمعنى: لا تتركوا أمري للنَّاس وارفضوا النَّاس لأمري

161

{وما كان لنبيٍّ أن يغلَّ} أَيْ: يخون بكتمان شيءٍ من الغنيمة عن أصحابه نزلت في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدرٍ فقال النَّاس: لعلَّ النَّبيَّ أخذها فنفى الله تعالى عنه الغلول وبيَّن أنَّه ما غلَّ نبيٌّ والمعنى: ما كان لنبيٍّ غلولٌ {ومن يَغْلُلْ يأت بما غلَّ} حاملاً له على ظهره {يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كسبت} أَيْ: تُجازى ثواب عملها {وهم لا يظلمون} لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً

162

{أفمن اتبع رضوان الله} بالإيمان به والعمل بطاعته يعني: المؤمنين {كمَنْ باء بسخطٍ من الله} احتمله بالكفر به والعمل بمعصيته يعني: المنافقين

163

{هم درجاتٌ عند الله} أَيْ: أهل درجات عند الله يريد أنَّهم مختلفو المنازل فَلِمَن اتِّبع رضوان الله الكرامة والثَّواب ولِمَنْ باء بسخطٍ من الله المهانةُ والعذاب {والله بصيرٌ بما يعملون} فيه حثٌّ على الطَّاعة وتحذيرٌ عن المعصية

164

{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فيهم رسولاً من أنفسهم} أَيْ: واحداً منهم عُرِف أمره وخبرُ صدقه وأمانته ليس بمَلَك ولا أحدٍ من غير بني آدم وباقي الآية ذُكر في سورة البقرة {وإن كانوا من قَبْلُ} وقد كانوا من قبل بعثه {لفي ضلالٍ مبين}

165

{أَوَ لَمّا أصابتكم} أَوَ حين أصابتكم مصيبة يعني: ما أصابهم يوم أُحدٍ {قد أصبتم} أنتم {مثليها} يوم بدر وذلك أنَّهم قتلوا سبعين وأسروا سبعين وقُتل منهم يوم أحد سبعون {قلتم أنَّى هذا} من أين أصابنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فينا؟ ! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: إنَّكم تركتم المركز وطلبتم الغنيمة فَمِنْ قِبَلِكُمْ جاءكم الشَّرُّ {إن الله على كل شيء قدير} من النَّصر مع طاعتكم نبيَّكم وترك النَّصر مع مخالفتكم إيَّاه

166

{وما أصابكم يوم التقى الجمعان} يوم أُحدٍ {فبإذن الله} بقضائه وقدره يُسلِّيهم بذلك {وليعلم المؤمنين} ثابتين صابرين وليعلم المنافقين جازعين ممَّا نزل بهم

167

{وقيل لهم} لعبد الله بن أُبيِّ وأصحابه لمَّا انصرفوا ذلك اليوم عن المؤمنين {تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} عنَّا القوم بتكثيركم سوادنا إنْ لم تقاتلوا {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ} أَيْ: لو نعلم أنَّكم تقاتلون اليوم لاتَّبعناكم ولكن لا يكون اليوم قتال ونافقوا بهذا لأنَّهم لو علموا ذلك ما اتَّبعوهم قال الله تعالى: {هم للكفر يومئذٍ} بما أظهروا من خذلان المؤمنين {أقربُ منهم للإِيمان} لأنهم كانوا قبل ذلك أقربَ إلى الإِيمان بظاهر حالهم فلمَّا خذلوا المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر من حيث الظَّاهر

168

{الذين قالوا} يعني: المنافقين {لإِِخوانهم} لأمثالهم من أهل النِّفاق {وقعدوا} عن الجهاد الواو للحال {لو أطاعونا} يعنون: شهداء أُحدٍ في الإنصراف عن النبي صلى الله عليه وسلم والقعود {ما قُتلوا} فردَّ الله تعالى عليهم وقال: {قل} لهم يا محمد {فادْرَؤُوا} فادفعوا {عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} إنْ صدقتم أنَّ الحذر ينفع من القدر

169

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني: شهداء أُحدٍ {أمواتاً بل أحياء} بل هم أحياءٌ {عند ربهم} في دار كرامته لأنَّ أرواحهم في أجواف طيرٍ خضرٍ {يرزقون} يأكلون

170

{فرحين} مسرورين {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لم يلحقوا بهم من خلفهم} ويفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم يرجون لهم الشَّهادة فينالون مثلَ ما نالوا {ألاَّ خوفٌ عليهم} أَيْ: بأن لا خوفٌ عليهم يعني: على إخوانهم المؤمنين إذا لحقوا بهم

171

قال تعالى {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}

172

{الذين استجابوا لله والرسول} أجابوهما {من بعد ما أصابهم القرح} أَيْ: الجراحات {للذين أحسنوا منهم} بطاعة الرَّسول واتَّقوا مخالفته {أجر عظيم} نزلت في الذين أطاعوا الرَّسول حين ندبهم للخروج في طلب أبي سفيان يوم أُحدٍ لمَّا همَّ أبو سفيان بالانصراف إلى محمَّدٍ عليه السَّلام وأصحابه ليستأصلوهم

173

{الذين قال لهم الناس} الآية كان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يوافيه العام المقبل من يوم أُحدٍ بِبَدْرٍ الصُّغرى فلمَّا كان العام المقبل بعث نعيم بن مسعود الأشجعيِّ ليجبِّن المؤمنين عن لقائه وهو قوله: {الذين} يعني: المؤمنين {قال لهم الناس} يعني: نعيم بن مسعود {إنَّ الناس} يعني: أبا سفيان وأصحابه {قد جمعوا} باللطيمة سوق مكة {لكم فاخشوهم} ولا تأتوهم {فزادهم} ذلك القول {إيماناً} أَيْ: ثبوتاً في دينهم وإقامةً على نصرة نبيِّهم {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أَيْ: الذي يكفينا أمرهم هو الله {ونِعْمَ الوكيل} أَيْ: الموكول إليه الأمر

174

{فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل} ربحٍ وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لذلك الموعد فلم يلق أحداً من المشركين ووافقوا السُّوق وذلك أنَّه كان موضع سوقٍ لهم فاتَّجروا وربحوا وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين وهو قوله: {لم يمسسهم سوءٌ} أَيْ: قتل ولا جراح {واتبعوا رضوان الله} إلى بدر الصغرى في طاعته وفي طاعة رسوله قوله:

175

{إنما ذلكم الشيطان يُخوِّف أولياءَه} أَيْ: يُخوِّفكم بأوليائه يعني: الكفَّار {فلا تخافوهم وخافون} في ترك أمري {إن كنتم مؤمنين} مصدقين لوعدي

176

{ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} أَيْ: في نصرته وهم المنافقون واليهود والمشركون {إنَّهم لن يضرُّوا الله} أََيْ: أولياءَه ودينه {شيئاً} وإنَّما يعود وبال ذلك عليهم {يريد الله أن لا يجعل لهم حظَّاً} نصيباً {في الآخرة} في الجنَّة

177

{إنَّ الذين اشتروا الكفر بالإِيمان} أَيْ: استبدلوا كرَّر {لن يضروا الله شيئاً} لأنه ذكرن في الأول على طريق العلة لما يجب من التَّسلية عن المسارعة إلى الضَّلالة وذكره في الثاني على طريق العلة لاختصاص المضرة بالعاصي دون المعصي

178

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} أي: أنَّ إملاءنا - وهو الإِمهال والتأخير - {خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم} أَيْ: نُطوِّل أعمارهم ليزدادوا إثماً لمعاندتهم الحق وخلافهم الرَّسول نزلت الآية في قومٍ من الكفَّار علم الله تعالى أنَّهم لا يؤمنون أبداً وأنَّ بقاءهم يزيدهم كفراً

179

{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنتم عليه} أَيُّها المؤمنون من التباس المنافق بالمؤمن {حتى يميز الخبيث من الطيب} أََيْ: المنافق من المؤمن ففعل ذلك يوم أُحدٍ لأنَّ المنافقين أظهروا النِّفاق بتخلُّفهم {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} فتعرفوا المنافق من المؤمن قبل التَّمييز {ولكنَّ الله} يختار لمعرفة ذلك مَن يشاء من الرُّسل وكان محمَّد ممَّن اصطفاه الله بهذا العلم

180

{ولا يحسبنَّ الذين يبخلون} أَيْ: بخل الَّذِينَ يَبْخَلُونَ {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} بما يجب فيه من الزَّكاة نزلت في مانعي الزَّكاة {هو خيراً لهم} أَيْ: البخلَ خيراً لهم {بل هو شرٌّ لهم} لأَنَّهم يستحقُّون بذلك عذاب الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القيامة} وهو أنَّه يُجعل ما بَخِل به من المال حيَّةً يُطوَّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه {ولله ميراث السماوات والأرض} أَيْ: إنَّه يُغني أهلهما وتبقى الأملاك والأموال لله ولا مالك لها إلاَّ الله تعالى

181

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فقير ونحن أغنياء} نزلت في اليهود حين قالوا - لمَّا نزل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يقرض الله قرضا} -: إنَّ الله فقيرٌ يستقرضنا ونحن أغنياء ولو كان غنيَّاً ما استقرضنا أموالنا {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أَيْ: نأمر الحفظة بإثبات ذلك في صحائف أعمالهم الآية

182

{ذلك} أَيْ: ذلك العذاب {بما قدَّمت أيديكم} بما سلفت من إجرامكم {وأنَّ الله} وبأن الله {ليس بظلام للعبيد} فيعاقبهم بغير جرمٍ

183

{الذين قالوا إنَّ الله عهد إلينا} أَيْ: اليهود وذلك أن أمر بني إسرائيل في التَّوراة ألا يُصدقوا رسولاً جاءهم حتى يأتيهم بقربانٍ تأكله النَّار إلاَّ المسيحَ ومحمداً عليهما السَّلام فكانوا يقولون لمحمَّد عليه السَّلام: لا نُصدِّقك حتى تأتينا بقربان تأكله النَّار لأنَّ الله عهد إلينا ذلك فقال الله تعالى لمحمد عليه السَّلام إقامةً للحجَّة عليهم: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ من قبلي} ثم عزى النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم بقوله:

184

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بالبينات والزبر} أَيْ: الكتب {والكتاب المنير} أَيْ: الهادي إلى الحقِّ

185

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أَيْ: ظفر بالخير ونجا من الشَّرِّ {وما الحياة الدنيا} أَيْ: العيش في هذه الدَّار الفانية {إلاَّ متاع الغرور} لأنَّه يغرُّ الإِنسان بما يُمنِّيه من طول البقاء وهو ينقطع عن قريب

186

{لتبلونَّ} لتختبرُنَّ أيُّها المؤمنون {في أموالكم} بالفرائض فيها {وأنفسكم} بالصَّلاة والصَّوم والحجِّ والجهاد {ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب} وهم اليهود {ومنَ الذين أشركوا} وهم المشركون {أذىً كثيراً} بالشَّتم والتَّعيير {وإن تصبروا} على ذلك الأذى بترك المعارضة {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} من حقيقة الإِيمان

187

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أخذ الله ميثاق اليهود في التَّوراة ليبيننَّ شأن محمَّد ونعته ومبعثه ولا يخفونه فنبذوا الميثاق ولم يعملوا به وذلك قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قليلاً} أَيْ: ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برئاستهم في العلم {فبئس ما يشترون} قُبِّح شراؤهم وخسروا

188

{لا تحسبنَّ الذين يفرحون} هم اليهود فرحوا بإضلال النَّاس وبنسبة النَّاس إيَّاهم إلى العلم وليسوا كذلك وأَحبُّوا أن يحمدوا بالتَّمسُّك بالحقِّ وقالوا: نحن أصحاب التَّوراة وأولو العلم القديم {فلا تحسبنَّهم بمفازة} بمنجاةٍ {من العذاب}

189

{ولله ملك السماوات والأرض} أَيْ: يملك تدبيرهما وتصريفهما على ما يشاء الآية والتي بعدها ذُكرت في سورة البقرة

190

قول تعالى {إنَّ في خلق السماوات وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}

191

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} أَيْ: يصلُّون على هذه الأحوال على قدر إمكانهم {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} فيكون ذلك أزيد في بصيرتهم {ربنا} أَيْ: ويقولون: {ربنا ما خلقت هذا} أَيْ: هذا الذي نراه من خلق السماوات والأرض {باطلاً} أَيْ: خلقاً باطلاً يعني: خلقته دليلاً على حكمتك وكمال قدرتك

192

{ربَّنا إنَّك مَنْ تدخل النار} للخلود فيها {فقد أخزيته} : أهلكته وأهنته {وما للظالمين} أَيْ: الكفَّار {من أنصار} يمنعونهم من عذاب الله

193

{ربنا إننا سمعنا منادياً} أَيْ: محمَّداً عليه السَّلام والقرآن {ينادي للإِيمان} أَيْ: إلى الإِيمان {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذنوبنا وكَفِّرْ عنّا سيئاتنا} أَيْ: غطِّ واستر عنا ذنوبنا بقبول الطَّاعات حتى تكون كفَّارةً لها {وتوفنا مع الأبرار} يعني: الأنبياء أَيْ: في جملتهم حتى نصير معهم

194

{ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} أَيْ: على ألسنتهم من النَّصر لنا والخذلان لعدِّونا {ولا تُخْزِنَا يوم القيامة} أَيْ: لا تهلكنا بالعذاب قولة

195

{بعضكم من بعض} أَيْ: حكمُ جميعكم حكمُ واحدٍ منكم فيما أفعل بكم من مجازاتكم على أعمالكم وترك تضييعها لكم

196

{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} تصرُّفهم للتِّجارات في البلاد وذلك أنَّهم كانوا يتَّجرون ويتنعَّمون في البلاد فقال بعض المؤمنين: إنَّ أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت هذه الآية قواة

197

{متاعٌ قليل} أَيْ: ذلك الكسب والرِّبح متاعٌ قليل لأنَّه فانٍ منقطعٌ وقوله:

198

{نزلاً} النُّزُل: ما يُهيَّأ للضَّيف ومعناه هاهنا الجزاء والثَّواب {وما عند الله خيرٌ للأبرار} ممَّا يتقلَّب فيه الكفَّار ثمَّ ذكر مؤمني أهل الكتاب فقال:

199

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية

200

{يا أيها الذين آمنوا اصبروا} أَيْ: اصبروا على دينكم فلا تَدعوه لشدِّةٍ نزلت بكم وقيل: على الجهاد {وصابروا} عدوَّكم فلا يكوننَّ أصبر منكم {ورابطوا} أَيْ: اقيموا على جهاد عدوِّكم بالحرب والحجَّة

سورة النساء

{يا أيها الناس} يا أهل مكة {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم {وخلق منها زوجها} حوَّاء خُلقت من ضلع من أضلاعه {وبث} أَيْ: فرَّق ونشر {منهما} {واتقوا الله} أَيْ: خافوه وأطيعوه {الذي تساءلون به} أَيْ: تتساءلون فيما بينكم حوائجكم وحقوقكم به وتقولون: أسألك بالله وأنشدك الله وقوله: {والأرحام} أيْ: واتَّقوا الأرحام أن تقطعوها {إنَّ الله كان عليكم رقيباً} أَيْ: حافظاً يرقب عليكم أعمالكم فاتَّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه

2

{وآتوا اليتامى أموالهم} الخطاب للأولياء والأوصياء أَيْ: أعطوهم أموالهم إذا بلغوا {وَلا تَتَبَدَّلُوا الخبيث} من أموالهم الحرام (عليكم) {بالطيب} الحلال من مالكم وهو أنَّه كان وليُّ اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الرَّديء {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} لا تضيفوها في الأكل إلى أموالكم إذا احتجتم إليها {إنَّه} أَيْ: إنَّ أكل أموالهم {كان حوباً كبيراً} أيْ: إثماً كبيراً

3

{وإن خفتم أن لا تُقسطوا} : ألا تعدلوا {في اليتامى} (أي: في نكاح اليتامى) وهمَّكم ذلك {فانكحوا ما طاب} أَي: الطَّيِّب {لكم من النساء} يعني: من اللاتي تحلُّ دون المحرَّمات والمعنى: أنَّ الله سبحانه قال لنا: فكما تخافون ألا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم فخافوا أيضاً ألا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن قانكحوا من النِّساء {مثنى} أَي: اثنتين اثنتين {وثلاث} ثلاثاً ثلاثاً {ورباع} أربعاً أربعاً {فإن خفتم أن لا تعدلوا} أَيْ: في الأربع {فواحدة} أَيْ: فلينكح كلُّ واحدٍ منكم واحدةً و {ذلك} أنَّ نكاح هؤلاء النِّسوة على قلَّة عددهنَّ {أدنى} أَيْ: أقربُ إلى العدل وهو قوله: {أن لا تعدلوا} أَيْ: تميلوا وتجوروا

4

{وآتوا النساء} أَيُّها الأزواج {صدقاتهنَّ} مهورهنَّ {نحلة} فريضةً وتديُّناً {فإنْ طبن لكم} أَيْ: إنْ طابت لكم أنفسهنَّ {عن شيء} من الصَّداق {فكلوه هنيئاً} في الدُّنيا لا يقضي به عليكم سلطانٌ {مريئاً} في الآخرة لا يؤاخذكم الله به

5

{ولا تؤتوا السفهاء} أَي: النِّساء والصِّبيان {أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} لمعايشتكم وصلاح دنياكم يقول: لا تعمدْ إلى مالك الذي خوَّلك الله وجعله لك معيشةً فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثمَّ تنظر إلى ما في أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم وهو قوله: {وارزقوهم فيها} (أي: اجعلوا لهم فيها رزقاً) {واكسوهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} أَيْ: عِدَةً جميلةً من البرِّ والصِّلة

6

{وابتلوا اليتامى} أَيْ: اختبروهم في عقولهم وأديانهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} أَيْ: حال النِّكاح من الاحتلام {فإن آنستم} أبصرتم {منهم رشداً} صلاحاً للعقل وحفظاً للمال {ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا} أَيْ: لا تبادروا بأكل مالهم كبرَهم ورشدهم حذر أن يبلغوا فيلزمكم تسليم المال إليهم {وَمَنْ كان غنيّاً} من الأوصياء {فليستعف} عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئاً {ومَنْ كان فقيراً فليأكل بالمعروف} يقدِّر أجرة عمله {فإذا دفعتم} أَيُّها الأولياء {إليهم} إلى اليتامى {أموالهم فأشهدوا عليهم} لكي إنْ وقع اختلافٌ أمكن الوليِّ أن يقيم البيِّنة على ردِّ المال إليه {وكفى بالله حسيباً} محاسباً ومجازياً للمحسن والمسيء

7

{للرجال نصيب} الآية كانت العرب في الجاهليَّة لا تورث النِّساء ولا الصِّغار شيئاً فأبطل الله ذلك وأعلم أنَّ حقَّ الميراث على ما ذكر في هذه الآية من الفرض

8

{وإذا حضر القسمة} أَيْ: قسمة المال بين الورثة {أولو القربى} أَي: الذين يُحجبون ولا يرثون {واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} وهذا على النَّدب والاستحباب يستحبُّ للوارث أن يرضخ لهؤلاء إذا حضروا القسمة من الذَّهب والفضَّة وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً إذا كان الميراث ممَّا لا يمكن أن يرضخ منه كالأرضين والرَّقيق

9

{وليخش الذين لو تركوا} الآية أَيْ: وليخش مَنْ كان له وُلدٌ صغارٌ خاف عليهم من بعده الضَّيعة أن يأمر الموصي بالإِسراف فيما يعطيه اليتامى والمساكين وأقاربه الذين لا يرثون فيكون قد أمره بما لم يكن يفعله لو كان هو الميِّت وهذا قبل أن تكون الوصية في الثُّلث وقوله: {ذرية ضعافاً} أَيْ: صغاراً {خافوا عليهم} أي: الفقر {فليتقوا الله} فيما يقولون لمن حضره الموت {وليقولوا قولاً سديداً} عدلاً وهو أن يأمره أن يخلِّف ماله لولده ويتصدَّق بما دون الثُّلث أو الثُّلث ثمَّ ذكر الوعيد على أكل مال اليتيم ظلماً فقال:

10

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يأكلون في بطونهم ناراً} الآية تؤول عاقبته إلى النَّار {وسيصلون سعيراً} ناراً ذات تلهُّب أَيْ: يُقاسون حرَّها وشدَّتها

11

{يوصيكم الله} أَيْ: يفرض عليكم لأنَّ الوصية من اللَّه فرضٌ {في أولادكم} الذُّكور والإِناث {للذكر مثل حظ الأنثيين فإنْ كُنَّ} أَي: الأولاد {نساءً فوق اثنتين} فوق ها هنا صلة لأ الثِّنتين يرثان الثُّلثين بإجماعٍ اليوم وهو قوله: {فلهن ثلثا ما ترك} ويجوز تسمية الاثنين بالجمع {وإن كانت} المتروكة المُخلًّفة {واحدة فلها النصف} وتمَّ بيان ميراث الأولاد ثمَّ قال {ولأبويه} أَيْ: ولأبوي الميِّت {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ له} أي: الميت {إخوة} يعني أخوين لأنَّ الأُمَّة أجمعت أنَّ الأخوين يحجبان الأمَّ من الثُّلث إلى السُّدس وقوله: {من بعد وصية} أَيْ: هذه الأنصباء إِنَّمَا تُقسم بعد قضاء الدَّين وإنفاذ وصية الميت {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نفعاً} فِي الدُّنْيَا فتعطونه من الميراث ما يستحقُّ ولكنَّ الله قَدْ فرض الفرائض عَلَى ما هو عِنْده حكمة ولو وكل ذَلِكَ إليكم لَمْ تعلموا أيُّهم أنفع لكم فأفسدتم وضيَّعتم {إنَّ الله كان عليماً} بالأشياء قبل خلقها {حكيماً} فيما دبرَّ من الفرائض وقوله:

12

{وإن كان رجل يورث كلالة} الكلالة: مَنْ لا ولد له ولا والد وكلُّ وارثٍ ليس بوالدٍ ولا ولد للميِّت فهو كلالة أيضاً والكلالة في هذه الآية الميِّت أَيْ: وإن مات رجلٌ ولا ولد له ولا والد {وله أخٌ أو أخت} يريد: من الأمِّ بإجماع من الأُمَّة {فلكلِّ واحدٍ منهما السدس} وهو فرضُ الواحد من ولد الأمِّ {فَإِن كانوا أكثر من} واحدٍ اشتركوا فِي الثُّلث الذَّكر والأنثى فيه سواءٌ وقوله: {غير مضارٍّ} أَيْ: مُدخلٍ الضَّرر عَلَى الورثة وَهُوَ أَنْ يُوصي بدين لَيْسَ عَلَيْه يريد بِذَلِك ضرر الورثة {والله عليمٌ} فيما دبَّر من هَذِهِ الفرائض {حليمٌ} عمَّن عصاه بتأخير عقوبته

13

قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم}

14

قال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارا خالدا فيها وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}

15

{واللاتي يأتين الفاحشة} يفعلن الزِّنا {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أَيّ: من المسلمين {فإن شهدوا} عليهنَّ بالزِّنا {فأمسكوهنَّ} فاحبسوهنَّ {في البيوت} في السجون وهذا كلام في أوَّل الإِسلام إذا كان الزَّانيان ثَيِّبين حُبسا ومُنعا من مخالطة النَّاس ثمَّ نُسخ ذلك بالرَّجم وهو قوله: {أو يجعل الله لهنَّ سبيلاً} وهو سبيلهنَّ الذي جعله الله لهنَّ

16

{واللذان يأتيانها} أَي: البكرين يزنيان ويأتيان الفاحشة {فآذوهما} بالتَّعنيف والتَّوبيخ وهو أنْ يقال لهما: انتهكتما حرمات الله وعصيتماه واستوجبتما عقابه {فَإِن تابا} من الفاحشة {وأصلحا} العمل فيما بعد فاتركوا أذاهما وهذا كان في ابتداء الإِسلام ثمَّ نسخه قوله: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ} الآية

17

{إنما التوبةُ على الله} أَي: إنما التوبة التي أوجبت الله على نفسه بفضله قَبولَها {للذين يعملون السوء بجهالة} أي: إنّ ذنبَ المؤمن جهلٌ منه والمعاصي كلُّها جهالة ومَنْ عصى ربَّه فهو جاهل {ثم يتوبون من قريب} أَيْ: من قبل الموت ولو بِفُواق ناقة {فأولئك يتوب الله عليهم} يعود عليهم بالرحمة {وكان اللَّهُ عليماً حكيماً} علم ما في قلوب المؤمنين من التصديق فحكم لهم بالتوبة قبل الموت بقدر فُواق ناقة

18

{وليست التوبة للذين يعملون السيئات} أَي: المشركين والمنافقين {ولا الذين يموتون وهم كفار} يعني: ولا توبة لهؤلاء إذا ماتوا على كفرهم لأنَّ التَّوبة لَا تُقبل فِي الآخرة {أُولَئِكَ أعتدنا} أَيْ: هيَّأنا وأعددنا

19

{يا أيها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم} الآية كان الرَّجل إذا ماتَ ورث قريبُه من عصبته امرأتَه وصار أحقَّ بها من غيره فأبطل الله ذلك وأعلم أنَّ الرَّجل لايرث المرأة من الميت وقوله {أن ترثوا النساء كرهاً} يريد: عين النِّساء كرهاً أَيْ: نكاح النساء وهنَّ كارهاتٌ {ولا تعضلوهنَّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} كان الرجل يمسك المرأة ةليس له فيها حاجةٌ إضراراً بها حتى تفتدي بمهرها فَنُهوا عن ذلك ثمَّ استثنى فقال: {إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينة} أيْ: الزِّنا فإذا رأى الرَّجل من امرأته فاحشةً فلا بأس أن يضارَّها حتى تختلع منه {وعاشروهنَّ بالمعروف} أَيْ: بما يجب لهنَّ من الحقوق وهذا قبل أن يأتين الفاحشة {فإن كرهتموهن} الآية أَيْ: فيما كرهتم ممَّا هو لله رضى خيرٌ كثيرٌ وثوابٌ عظيمٌ والخير الكثير في المرأة المكروهة أن يرزقه الله منها ولداً صالحاً

20

{وإن أردتم} الآية أي: إذا أراد الرَّجل طلاق امرأته وتزوَّج غيرها لم يكن له أن يرجع فيما آتاها من المهر وهو قوله: {وآتيتم إحداهنَّ قنطاراً} أَيْ: مالاً كثيراً {فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً} ظلماً {وإثماً مبيناً} وفي هذا نَهْيٌّ عن الضِّرار في غير حال الفاحشة وهو أنْ يضارَّها لتفتدي منه من غير أَنْ أتت بفاحشة

21

{وكيف تأخذونه} أَي: المهر أو شيئاً منه {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أَيّ: وصل إليه بالمجامعة ولا يجوز الرُّجوع في شيءٍ من المهر بعد الجماع {وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً} وهو ما أخذه الله على الرِّجال للنِّساء من إمساكٍ بمعروفٍ أَوْ تسريحٍ بإحسانٍ

22

{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} الآية كان الرَّجل من العرب يتزوَّج امرأة أبيه من بعده وكان ذلك نكاحاً جائزاً في العرب فحرَّمه الله تعالى ونهى عنه وقوله: {إلاَّ ما قد سلف} يعني: لكن ما قَدْ سلف فَإِن اللَّه تجاوز عَنْهُ {إنَّه} أَي: إنَّ ذَلِكَ النِّكاح {كان فاحشة} زنا عند الله {ومقتاً} بغضاً شديداً {وساء سبيلاً} وقَبُحَ ذلك الفعل طريقاً ثمَّ ذكر المحرَّمات من النِّساء فقال:

23

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم} جمع الرَّبيبة وهِيَ بِنْت امرأة الرَّجُل من غيره {اللاتي في حجوركم} أيْ: في ضمانكم وتربيتكم {وحلائل} وأزواج {أبنائكم الذين من أصلابكم} لا مَنْ تبنَّيتموه {وأن تجمعوا} أَيْ: الجمع {بين الأختين إلاَّ ما قد سلف} مضى منكم في الجاهلية فلا تُؤاخذون به بعد الإِسلام

24

{والمحصنات} وذوات الأزواج {من النساء} وهنَّ مُحرَّمات على كلِّ أحدٍ غير أزواجهنَّ إِلَّا ما ملكتموهنَّ بالسَّبي من دار الحرب فإنَّها تحلُّ لمالكها بعد الاستبراء بحيضة {كتاب الله عليكم} كتب تحريم ما ذِكْرُ مَنْ النِّساء عليكم {وأحلَّ لكم ما وراء ذلك} أَيْ: ما سوى ذلكم من النِّساء {أن تبتغوا} أَيّ: تطلبوا بأموالكم إمَّا بنكاحٍ وصداقٍ أو بملكِ يمينٍ {محصنين} ناكحين {غير مسافحين} زانين {فما استمتعتم} فما انتفعتم وتلذَّذتم {به منهنَّ} أي: من النساء بالنِّكاح الصَّحيح {فآتوهنَّ أجورهنَّ} أَيْ: مهورهنَّ {فريضة} فَإِن استمتع بالدُّخول بها آتى المهر تامّاً وإن استمتع بعقد النِّكاح آتى نصف المهر {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بعد الفريضة} من حطِّ المهر أو إبراءٍ من بعض الصَّداق أو كلِّه {إنَّ الله كان عليماً} بما يصلح أمر العباد {حكيماً} فيما بيَّن لهم من عقد النِّكاح

25

{ومَنْ لم يستطع منكم طولاً} أَيْ: قدرةً وغنىً {أن ينكح المحصنات} الحرائر {المؤمنات فمن مّا ملكت أيمانكم} أَيْ: فليتزوَّج ممَّا ملكت أيمانكم يعني: جارية غيره {من فتياتكم} أَيْ: مملوكاتكم {المؤمنات والله أعلم بإيمانكم} أَي: اعملوا على الظَّاهر في الإِيمان فإنَّكم مُتعبَّدون بما ظهر والله يتولَّى السَّرائر {بعضكم من بعض} أَيْ: دينكم واحدٌ فأنتم متساوون من هذه الجهة فمتى وقع لأحدكم الضَّرورة جاز له تزوُّج الأَمَة {فانكحوهنَّ بإذن أهلهن} أَي: اخطبوهنَّ إلى ساداتهنَّ {وآتوهنَّ أجورهنَّ} مهورهنَّ {بالمعروف} من غير مطلٍ وضرارٍ {محصنات} عفائفَ {غير مسافحات} غير زوانٍ علانيةً {ولا متخذات أخدان} زوانٍ سرَّاً {فإذا أُحصن} تزوَّجن {فإن أتين بفاحشة} بزنا {فعليهنَّ نصف ما على المحصنات} الأبكار الحرائر {من العذاب} أَي: الحدِّ {ذلك} أَيْ: ذلك النِّكاح نكاح الأَمَة {لمن خشي العنت منكم} أَيْ: خاف أن تحمله شدَّة الغِلمة على الزنا قيلقى العنت أَي: الحدَّ في الدُّنيا والعذاب في الآخرة أَباحَ الله نكاح الأمَة بشرطين: أحدهما: عدم الطَّول الثاني: خوف العَنَت ثُمّ قَالَ: {وأن تصبروا} أَيّ: عن نكاح الإِماء {خيرٌ لَكُمْ} لئلا يصير الولد عبداً

26

{يريدُ الله ليبيِّن لكم} شرائع دينكم ومصالح أمركم {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام وهو دين الحنيفيَّة {ويتوب عليكم} يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته

27

{واللَّهُ يريد أن يتوب عليكم} أَيْ: يُخرجكم من كُلّ ما يكره إلى ما يحبُّ ويرضى {ويريد الذين يتبعون الشهوات} وهم الزُّناة وأهل الباطل في دينهم {أن تميلوا} عن الحقِّ وقصد السِّبيل بالمعصية {ميلاً عظيماً} فتكونوا مثلَهم

28

{يريد الله أن يخفف عنكم} في كلِّ أحكام الشَّرع {وخلق الإِنسان ضعيفاً} يضعف من الصَّبر عن النِّساء

29

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وهو كلُّ ما لا يحلُّ في الشَّرع كالرِّبا والغصب والقمار والسَّرقة والخيانة {إلاَّ أن تكون تجارةً} لكن إن كانت تجارة {عن تراضٍ منكم} برضى البَيِّعْين فهو حلال {ولا تقتلوا أنفسكم} لا يقتل بعضكم بعضاً

30

{ومَنْ يفعل ذلك} أَيْ: أكل المال بالباطل وقتل النَّفس {عدواناً} وهو أن يعدوَ ما أُمر به {وظُلماً فسوف نصليه} أَيْ: نُدخله ناراً {وكان ذلك على الله يسيراً} أَيْ: هو قادر على ذلك ولا يتعذَّر عليه

31

{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} وهي كُلّ ذنبٍ ختمه اللَّه بنارٍ أَوْ غضبٍ أو لعنةٍ أو عذابٍ أو وعيدٍ في القرآن {نكفر عنكم سيئاتكم} التي هي دون الكبائر بالصَّلوات الخمس {وندخلكم مدخلاً كريماً} أَيْ: الجنَّة

32

{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ على بعض} الآية قالت أمُّ سلمة: يا رسول الله ليتنا كُنَّا رجالاً فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرِّجال فنزلت هذه الآية {للرجال نصيب} ثواب {مما اكتسبوا} من الجهاد {وللنساء نصيبٌ} (ثوابٌ) {ممَّا اكتسبن} من حفظ فروجهنَّ وطاعة أزواجهنَّ {واسألوا الله من فضله} إن احتجتم إلى مَا لِغَيركم فيعطيكم من فضله

33

{ولكلٍّ} أَيْ: ولكلِّ شخصٍ من الرِّجال والنِّساء {جعلنا موالي} عصبة وورثة {ممَّا ترك الوالدان والأقربون} أَيْ: ممَّن تركهم والداه وأقربوه أَيْ: تشعَّبت العصبة والورثة عن الوالدين والأقربين ثمَّ ابتدأ فقال: {والذين عقدت أيمانكم} وهو الحلفاء أَيْ: عاقدت حلفَهم أيمانُكم وهي جمع يمين من القَسَم وكان الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة يعاقد الرَّجُل وَيَقُولُ له: دمي دمُّك وحربي حربُك وسلمي سلمُك فَلَمَّا قام الْإِسْلَام جعل للحليف السُّدس وَهُوَ قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} ثُمّ نسخ ذَلِكَ بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهَ} {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أَيْ: لم يغب عنه علم ما خلق

34

{الرجال قوَّامون على النساء} على تأديبهنَّ والأخذ فوق أيديهنَّ {بما فضَّل الله} الرِّجال على النِّساء بالعلم والعقل والقوَّة في التَّصرف والجهاد والشَّهادة والميراث {وبما أنفقوا} عليهنَّ {من أموالهم} أَي: المهر والإِنفاق عليهنَّ {فالصالحات} من النِّساء اللواتي هنَّ مطيعاتٌ لأزواجهنَّ وهو قوله: {قانتات حافظاتٌ للغيب} يحفظن فروجهنَّ فِي غيبة أزواجهنَّ {بِمَا حَفِظَ الله} بما حفظهنَّ اللَّه فِي إيجاب المهر والنَّفقة لهنَّ وإيصاء الزَّوج بهنَّ {واللاتي تخافون} تعلمون {نشوزهنَّ} عصيانهنَّ {فعظوهنَّ} بكتاب اللَّه وذكِّروهنَّ اللَّه وما أمرهنَّ به {واهجروهن في المضاجع} فرِّقوا بينكم وبينهم في المضاجع (في الفرش) {واضربوهنَّ} ضرباً غير مبرِّح شديد وللزَّوج أن يتلافى نشوز امرأنه بما أذن الله تعالى فيه يعظها بلسانه فإنْ لم تنتهِ هجر مضجعها فإنْ أبت ضربها فإن أبت أن تتَّعظ بالضرب بُعثَ الحكمان {فإن أطعنكم} فيما يُلتمس منهنَّ {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} لا تتجنَّوا عليهنَّ من العلل

35

{وإنْ خفتم} (علمتم) {شقاق بينهما} علمتم خلافاً بين الزَّوجين {فابعثوا حكماً} أَيْ: حاكماً وهو المانع من الظُّلم من أقاربه {وحَكَماً من أهلها} حتى يجتهدا وينظرا الظَّالم منهما فيأمراه بالرجوع إلى أمر الله أو يُفرِّقا إنْ رأيا ذلك {إن يريدا} أَي: الحكمان {إصلاحاً يوفق الله بينهما} مِن الزوج والمرأة بالصَّلاح {إنَّ الله كان عليماً خبيراً} بما في قلوب الزوجين والحكمين قوله:

36

{وبالوالدين أحساناً} أَيْ: أحسنوا بهما إحساناً وهو البرُّ مع لين الجانب {وبذي القربى} وهو ذو القرابة يصله ويتعطَّف عليه {واليتامى} يرفق بهم ويُدنيهم {والمساكين} ببذلٍ يسيرٍ أو ردٍّ جميلٍ {وَالْجَارِ ذي القربى} وهو الذي له مع حقِّ الجوار حقُّ القرابة {والجار الجنب} البعيد عنك في النَّسب {والصاحب بالجنب} وهو الرَّفيق في السَّفر {وابن السبيل} عابر الطَّريق (وقيل الضيف) يؤويه ويطعمه حتى يرحل {وما ملكت أيمانهم} أَيْ: المماليك {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا} عظيماً في نفسه لا يقوم بحقوق الله {فخوراً} على عباده بما خوَّله الله من نعمته

37

{الذين يبخلون} أي: اليهود بخلوا بأموالهم أن ينفقوها في طاعة الله تعالى {ويأمرون الناس بالبخل} أمروا الأنصار ألا ينفقوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنَّا نخشى عليكم الفقر {ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} أَيْ: ما في التَّوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته

38

{والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} أَيْ: المنافقين {ومَنْ يكن الشيطانُ له قريناً} يسوِّل له ويعمل بأمره {فساء قريناً} بئس الصَّاحب الشَّيطان

39

{وماذا عليهم} أَيْ: على اليهود والمنافقين أَيْ: ما كان يضرُّهم {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رزقهم الله وكان الله بهم عليماً} لا يُثيبهم بما ينفقون رئاء الناس

40

{إنَّ الله لا يظلم} لا ينقص أحداً {مثقال} مقدار {ذرة} إن كان مؤمناً أثابه عليها الرِّزق في الدُّنيا والأجر في الآخرة وإنْ كان كافراً أطعمه بها في الدُّنيا {وإن تك حسنة} من مؤمن {يضاعفها} لعشرة أضعافها {ويؤتِ مِنْ لدنه} من عنده {أجراً عظيماً} وهو الجنَّة

41

{فكيف} أَيْ: فكيف يكون حال هؤلاء اليهود والمنافقين يوم القيامة؟ وهذا استفهامٌ ومعناه التَّوبيخ {إذا جئنا من كلِّ أُمَّة بشهيدٍ} أَيْ: بِنبيِّ كلِّ أُمَّةٍ يشهد عليها ولها {وجئنا بك} يا محمَّد {على هؤلاء شهيداً} على هؤلاء المنافقين والمشركين شهيداً تشهد عليهم بما فعلوا

42

{يومئذٍ} أَيْ: في ذلك اليوم {يودُّ الذين كفروا وعصوا الرسول} وقد عصوه في الدُّنيا {لو تسوَّى بهم الأرض} أَيْ: يكونون تراباً فيستوون مع الأرض حتى يصيروا وهي شيئاً واحداً {ولا يكتمون الله حديثاً} لأنَّ ما عملوه ظاهرٌ عند الله لا يقدرون على كتمانه

43

{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة} أَيْ: مواضع الصَّلاة أيْ: المساجد {وأنتم سكارى} نُهوا عن الصَّلاة وعن دخول المسجد في حال السُّكْر وكان هذا قبل نزول تحريم الخمر وكان المسلمون بعد نزول هذه الآية يجتنبون السُّكْر والمُسكر أوقات الصَّلاة والسَّكران: المُختلط العقل الذي يهذي ولا يستمرُّ كلامه ألا ترى أنَّ الله تعالى قال: {حتى تعلموا ما تقولون} فإذا علم ما يقول لم يكن سكران ويجوز له الصَّلاة ودخول المسجد {ولا جُنباً} أَيْ: ولا تقربوها وأنتم جنبٌ {إلاَّ عابري سبيل} إلاَّ إذا عبرتم المسجد فدخلتموه من غير إقامةٍ فيه {حتى تغتسلوا} من الجنابة {وإنْ كنتم مرضى} أَيْ: مرضاً يضرُّه الماء كالقروح والجُدّري والجراحات {أو على سفر} أَيْ: مسافرين {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أَوْ الحدث {أو لامستم النساء} أَيْ: لمستموهنَّ بأيديكم {فلم تجدوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صعيداً طيباً} تمسَّحوا بترابٍ طيِّبٍ مُنبتٍ

44

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكتاب} وهم اليهود {يشترون الضلالة} أَيْ: يختارونها على الهدى بتكذيب محمد عليه السلام {ويريدون أن تضلوا السبيل} أن تضلُّوا أيُّها المؤمنون طريق الهدى

45

{والله أعلم بأعدائكم} فهو يُعْلِمكم ما هم عليه {وَكَفَى بِاللَّهِ ولياً وكفى بالله نصيراً} أَيْ: إنَّ ولايته ونصرته إيَّاكم تُغنيكم عن غيره من اليهود ومن جرى مجراهم

46

{من الذين هادوا} أَيْ: قومٌ {يحرِّفون الكلم عن مواضعه} أَيْ: يُغيِّرون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وزمانه ونبوَّته في كتابهم {ويقولون سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: اسمع ويقولون في أنفسهم: لا سمعت {وراعنا ليَّاً بألسنتهم} أَيْ: ويقولون راعنا ويوجِّهونها إلى شتم محمَّد عليه السَّلام بالرُّعونة وذكرنا أنَّ هذا كان سبَّاً بلُغتهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} مكان قولهم: سمعنا وعصينا وقالوا {واسمع وانظرنا} أَيْ: انظر إلينا بدل قولهم: راعنا {لكان خيراً لهم} عند الله {ولكن لَعَنَهُمُ الله بكفرهم} فلذلك لا يقولون ما هو خيرٌ لهم {فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً} أَيْ: إيماناً قليلاً وهو قولهم: اللَّهُ ربُّنا والجنَّةُ حقٌّ والنَّارُ حقٌّ وهذا القليل ليس بشيءٍ مع كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وليس بمدحٍ لهم

47

{يا أيها الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} أَيْ: نمحو ما فيها من عينٍ وفم وأنفٍ ومارن وحاجب فنجعلها كخفِّ البعير أو كحافز الدَّابة {فنردها على أدبارها} نُحوِّلها قبل ظهورهم {أو نلعنهم} أو نجعلهم قردة وخنازير كما فعلنا بأوائلهم {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} لا رادَّ لحكمه ولا ناقض لأمره

48

{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية وعد الله تعالى في هذه الآية مغفرة ما دون الشِّرك فيعفو عن مَنْ يشاء ويغفر لمِنْ يشاء إلاَّ الشِّرك تكذيباً للقدريَّة وهو قوله: {ويغفر ما دون ذلك} أَيْ: الشِّرك {لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أَيْ: اختلق ذنباً غير مغفور

49

{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} أَيْ: اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه وما عملناه باللَّيل كُفِّر عنَّا بالنَّهار وما عملناه بالنَّهار كُفِّر عنَّا باللَّيل {بل الله يزكِّي من يشاء} أَيْ: يجعل مَنْ يشاء زاكياً طاهراً نامياً في الصَّلاح يعني: أهل التَّوحيد {ولا يُظلمون فتيلاً} لا ينقصون من الثواب قدر الفتيل وهو القشرة الرَّقيقة التي حول النَّواة ثمَّ عجَّب نبيَّه عليه السَّلام من كذبهم فقال:

50

{انظر كيف يفترون على الله الكذب} يعني: قولهم: يكفِّر عنَّا ذنوبنا {وكفى به} بافترائهم {إثماً مبيناً} أَيْ: كفى ذلك في التَّعظيم

51

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكتاب} يعني: علماء اليهود {يؤمنون بالجبت} أَيْ: الأصنام {والطاغوت} سدنتها وتراجمتها وذلك أنَّهم حالفوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجدوا لأصنام قريش وقالوا لهم: أنتم أهدى من محمَّدٍ عليه السَّلام وأقوم طريقةً وديناً وهو قوله: {ويقولون للذين كفروا} يعني: قريشاً {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} وقوله:

52

قال تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}

53

{أم لهم نصيبٌ} أَيْ: بل أَلهم نصيب من الملك؟ يعني: ليس لليهود ملك ولو كان إذاً لهم لم يُؤتوا أحداً شيئاً وهو قوله: {فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً} أَيْ: لضنُّوا بالقليل وصفهم الله بالبخل في هذه الآية والنَّقير يُضرب مثلاً للشَّيء القليل وهو نقرةٌ في ظهر النَّواة (منها) تبنت النَّخلة

54

{أم يحسدون الناس} يعني: محمَّداً عليه السَّلام {على ما آتاهم الله من فضله} حسدت اليهود محمَّداً عليه السَّلام على ما آتاه من النُّبوَّة وما أباح له من النِّساء وقالوا: لو كان نبيَّاً لشغله أمر بالنُّبوَّة عن النِّساء فقال الله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يعني: النُّبوَّة {وآتيناهم ملكاً عظيماً} يعني: ملك داود وسليمان عليهما السَّلام وما أُوتوا من النِّساء فكان لداود تسعٌ وتسعون ولسليمان ألفٌ من بين حُرَّةٍ ومملوكةٍ والمعنى: أيحسدون النَّبيَّ عليه السَّلام على النُّبوَّة وكثرة النِّساء وقد كان ذلك في آله لأنَّه من آل إبراهيم عليه السَّلام

55

{فمنهم} من أهل الكتاب {من آمن به} بمحمَّدٍ عليه السَّلام {ومنهم مَن صدَّ عنه} أعرض عنه فلم يؤمن {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} عذاباً لمَنْ لا يؤمن وقوله:

56

{كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} يعني: أنَّ جلودهم إذا نضجت واحترقت جُدِّدت بأن تُردَّ إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة {ليذوقوا العذاب} ليقاسوه وينالوه {إنَّ الله كان عزيزاً} قوياً لا يغلبه شيء {حكيماً} فيما دبَّر وقوله:

57

{وندخلهم ظلاً ظليلاً} يعني: ظلَّ هواء الجنَّة وهو ظليلٌ أَيْ: دائمٌ لا تنسخه الشَّمس

58

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها} نزلت في ردِّ مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة الحجبيِّ حين أُخذ منه قسراً يوم فتح مكة فأمره الله تعالى بردِّه عليه ثمَّ هذه الآية عامَّةٌ في ردِّ الأمانات إلى أصحابها كيف ما كانوا {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيْ: نِعمَ شيئاً يعظكم به وهو القرآن {إنَّ الله كان سميعاً} لمقالتكم في الأمانة والحكم {بصيراً} بما تعملون فيها قال أبو مرزوق: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: أعطني المفتاح فقال: هاكَ بأمانة الله ودفعه إليه فأراد عليه السَّلام أن يدفعه إلى العباس فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان: هاك بأمانة الله خالدةً تالدةً لا ينزعها عنكم إلاَّ ظالم ثمَّ إنَّ عثمان هاجر ودفع إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم

59

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر منكم} وهم العلماء والفقهاء وقيل: الأمراء والسَّلاطين وتجب طاعتهم فيما وافق الحقَّ {فإن تنازعتم} اختلفتم وتجادلتم وقال كلُّ فريق: القولُ قولي فَرُدُّوا الأمر في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة رسوله {ذلك خيرٌ} أََيْ: ردُّكُمُ ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة وردُّك التجادل {وأحسن تأويلاً} وأحمدُ عاقبةً

60

{ألم تر إلى الذين يزعمون} الآية وقع نزاعٌ بين يهوديِّ ومنافق فقال اليهوديُّ: بيننا أبو القاسم وقال المنافق: لا بل نُحكِّم بيننا كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية وهو قوله: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} ومعناه: ذو الطُّغيان {وقد أمروا أن يكفروا به} أَيْ: أُمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم {ويريد الشيطان أن يضلَّهم ضلالاً بعيداً} لا يرجعون عنه إلى دين الله أبداً وهذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم مِن جهل مَن يعدل عن حكم الله إلى حكم الطَّاغوت مع زعمه بأنَّه يؤمن بالله ورسوله

61

{وإذا قيل لهم} أي: للمنافقين {تعالوا إلى ما أنزل الله} أَيْ: في القرآن من الحكم {وإلى الرسول} وإلى حكم الرَّسول {رأيت المنافقين يَصُدُّون عنك صدوداً} يُعرضون عنك إعراضاً إلى غيرك عداوةً للدِّين

62

{فكيف} أَيْ: فكيف يصنعون ويحتالون {إذا أصابتهم مصيبة} مجازاةً لهم على ما صنعوا وهو قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أيديهم} وتمَّ الكلام ههنا ثمَّ عطف على معنى ما سبق فقال: {ثم جاؤوك يحلفون بالله} أَيْ: تحاكموا إلى الطَّاغوت وصدُّوا عنك ثمَّ جاؤوك يحلفون وذلك أنَّ المنافقين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وحلفوا أنَّهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة إلاَّ توفيقاً بين الخصوم أَيْ: جمعاً وتأليفاً وإحساناً بالتَّقريب في الحكم دون الحمل على مُرِّ الحقِّ وكلُّ ذلك كذبٌ منهم لأنَّ الله تعالى قال:

63

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ: من الشِّرك والنِّفاق {فأعرض عنهم} أيْ: اصفح عنهم {وعظهم} بلسانك {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بليغاً} أَيْ: خوِّفهم بالله وازجرهم عمَّا هم عليه بأبلغ الزَّجر كيلا يستسِرُّوا الكفر

64

{وما أرسلنا من رسول إلاَّ ليطاع} فيما يأمرُ به ويحكم لا ليُعصى ويُطلب الحكم من غيره وقوله: {بإذن الله} أَيْ: لأنَّ الله أذن في ذلك وأمر بطاعته {ولو أنهم} أَيْ: المنافقين {إذ ظلموا أنفسهم} بالتَّحاكم إلى الكفَّار {جاؤوك فاستغفروا الله} فزعوا وتابوا إلى الله وقوله:

65

{فلا} أَيْ: ليس الأمر كما يزعمون أنَّهم آمنوا وهم يخالفون حكمك {وربك لا يؤمنون} حقيقة الإِيمان {حتَّى يحكموك فيما شجر} اختلف واختلط {بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} ضيقاً وشكَّاً {ممَّا قضيت} أَيْ: أوجبتَ {ويسلموا} الأمر إلى الله وإلى رسوله من غير معارضةٍ بشيءٍ

66

{ولو أنَّا كتبنا عليهم} أَيْ: على هؤلاء المنافقين من اليهود {أن اقتلوا أنفسكم} كما كتبنا ذلك على بني إسرائيل {أو اخرجوا من دياركم} كما كتبنا على المهاجرين {ما فعلوه إلاَّ قليلٌ منهم} للمشقَّة فيه مع أنَّه كان ينبغي أن يفعلوه {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون} ما يُؤمرون به من أحكام القرآن {لكان خيراً لهم} في معاشرتهم وفي ثوابهم {وأشدَّ تثبيتاً} منهم لأنفسهم في الدِّين وتصديقاً بأمر الله

67

{وإذاً لآتيناهم من لدنَّا} أَيْ: ممَّا لا يقدر عليه غيرنا {أجراً عظيماً} أَيْ: الجنَّة

68

{ولهديناهم} أرشدناهم {صراطاً مستقيماً} إلى دينٍ مستقيمٍ وهو دين الحنيفيَّة لا دين اليهوديَّة

69

{ومَن يطع الله} الآية قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا منك إلاَّ الدُّنيا فإذا كانت الآخرة رُفِعَت في الأعلى فحزن وحزنوا فنزلت {ومَنْ يطع الله} في الفرائض {والرسول} في السُّنن {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبيين} أَيْ: إنَّه يستمتع برؤيتهم وزيارتهم فلا يتوهمنَّ أنَّه لا يراهم {والصديقين} أفاضل أصحاب الأنبياء {والشهداء} القتلى في سبيل الله {والصالحين} أَيْ: أهل الجنَّة من سائر المسلمين {وحسن أولئك} الأنبياء وهؤلاء {رفيقاً} أَيْ: أصحاباً ورفقاء

70

{ذلك} أَيْ: ذلك الثَّواب وهو الكون مع النَّبييِّن {الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} تفضَّل به على مَنْ أطاعه {وكفى بالله عليماً} بخلقه أي: إنه عالم لا يخفى عليه شيء ولا يضيع عنده عمل ثمَّ حثَّ عباده المؤمنين على الجهاد فقال:

71

{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} سلاحكم عند لقاء العدوِّ {فانفروا} أَيْ: فانهضوا إلى لقاء العدوِّ {ثباتٍ} جماعاتٍ مُتفرِّقين إذا لم يكن معكم الرَّسول {أو انفروا جميعاً} إذا خرج الرَّسول إلى الجهاد

72

{وإنَّ منكم لَمَنْ ليُبطئنَّ} أَيْ: ليتخلفنَّ ويتثاقلنَّ عن الجهاد وهم المنافقون وجعلهم من المؤمنين من حيث إنَّهم أظهروا كلمة الإِسلام فدخلوا تحت حكمهم في الظَّاهر {فإن أصابتكم مصيبةٌ} من العدوِّ وجهدٌ من العيش {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عليَّ} بالقعود حيث لم أحضر فيصيبني ما أصابكم

73

{ولئن أصابكم فضلٌ من الله} فتحٌ وغنيمة {ليقولنَّ} هذا المنافق قولَ نادمٍ حاسدٍ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي: لأسعد بمثل ما سعدوا به من الغنيمة وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} متصلٌ في المعنى بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ} {كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة} أَيْ: كأنْ لم يعاقدكم على الإِسلام ويعاضدكم على قتال عدوٍّكم ولم يكن بينكم وبينه مودة في الظَّاهر ثمَّ أمر المؤمنين بالقتال فقال:

74

{فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون} أَيْ: يبيعون {الحياة الدُّنيا بالآخرة} أَيْ: بالجنَّة أَيْ: يختارون الجنَّة على البقاء في الدُّنيا {ومَنْ يُقاتل في سبيل الله فيقتل} فيستشهد {أو يغلب} فيظفر فكلاهما سواءٌ وهو معنى قوله: {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} ثواباً لا صفة له ثمَّ حضَّ المؤمنين على الجهاد في سبيله لاستنقاذ ضعفة المؤمنين من أيدي المشركين فقال:

75

{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان} وهم قومٌ بمكَّة استُضعفوا فَحُبسوا وعُذِّبوا {الذين يقولون ربنا أخرجنا} إلى دار الهجرة {من هذه القرية} مكَّة {الظالم أهلها} أَيْ: جعلوا لله شركاء {واجعل لنا من لَدُنْكَ ولياً} أَيْ: ولِّ علينا رجلاً من المؤمنين يوالينا {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} ينصرنا على عدوِّك فاستجاب الله دعاءَهم وولَّى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عتَّابَ بن أسيد وأعانهم (الله) به فكانوا أعزَّ بها من الظَّلمة قبل ذلك

76

{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعة اللَّهِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} أَيْ: في طاعة الشَّيطان {فقاتلوا أولياء الشيطان} عبدة الأصنام {إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً} يعني: خذلانه إيَّاهم يوم قُتلوا ببدرٍ

77

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيديكم} عن قتال المشركين وأَدُّوا ما فُرض عليكم من الصَّلاة والزَّكاة نزلت في قوم من المؤمنين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم بمكَّة في قتال المشركين فلم يأذن لهم {فلما كتب عليهم القتال} بالمدينة {إذا فريقٌ منهم يخشون الناس} أَيْ: عذاب النَّاس بالقتل {كخشية الله} كما يخشى عذاب الله {أو أشدَّ} أكبرَ {خشية} وهذه الخشية إنَّما كانت لهم من حيث طبع البشريَّة لا على كراهية أمر الله بالقتال {وقالوا} جزعاً من الموت وحرصاً على الحياة: {ربنا لمَ كتبت} فرضتَ {علينا القتال لولا} هلاًّ {أخرتنا إلى أجل قريب} وهو الموت أَيْ: هلاَّ تركتنا حتى نموت بآجالنا وعافيتنا من القتل {قل} لهم يا محمَّدُ: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قليل} أجل الدُّنيا قريبٌ وعيشها قليلٌ {والآخرة} الجنَّةُ {خيرٌ لمن اتقى} ولم يُشرك به شيئاً {ولا تظلمون فتيلاً} أَيْ: لا تُنقصون من ثواب أعمالكم مثل فتيل النَّواة ثمَّ أعلمهم أنَّ آجالهم لا تخطئهم ولو تمنَّعوا بأمنع الحصون فقال:

78

{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بروج} حصونٍ وقصور {مشيدة} مطوَّلة مرفوعة وقيل: بروج السَّماء {وإن تصبهم} يعني: المنافقين واليهود {حسنة} خصب ورخص سعر {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سيئة} جدبٌ وغلاءٌ {يقولوا هذه من عندك} من شؤم محمد وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم المدينة وكفرت اليهود أمسك الله عنهم ما كان قد بسط عليهم فقالوا: ما رأينا أعظم شؤماً من هذا نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم علينا فقال الله تعالى: {قل كلٌّ} أًي: الخصب والجدب {من عند الله} من قِبَل اللَّهِ {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حديثاً} لا يفهمون القرآن

79

{ما أصابك} يا ابن آدم {من حسنة} فتح وغنيمةٍ وخصبٍ فمن تفضُّل الله {وما أصابك من سيئة} من جدبٍ وهزيمةٍ وأمرٍ تكرهه {فمن نفسك} فبذنبك يا ابن آدم {وأرسلناك} يا محمدُ {للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً} على رسالتك

80

{من يطع الرسول فقد أطاع الله} يعني: إنَّ طاعتكم لمحمد طاعةٌ لله {ومَنْ تولى} أعرض عن طاعته {فما أرسلناك عليهم حفيظاً} أَيْ: حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع أَيْ: ليس عليك بأسٌ لتولِّيه لأنَّك لم ترسل عليهم حفيظاً من المعاصي

81

{ويقولون} أَي: المنافقون {طاعةٌ} أَيْ: طاعةٌ لأمرك {فإذا برزوا} خرجوا {من عندك بيَّت} قدَّر وأضمر {طائفة منهم غير الذي تقول} لك من الطَّاعة أَيْ: أضمروا خلاف ما أظهروا وقدَّروا ليلاً خلاف ما أعطوك نهاراً {واللَّهُ يكتب ما يبيِّتون} أَيْ: يحفظ عليهم ليُجَازَوا به {فأعرض عنهم} أَيْ: فاصفح عنهم وذلك أنه نُهي عن قتل المنافقين في ابتداء الإِسلام ثمَّ نُسخ ذلك بقوله: {جاهِد الكفَّار والمنافقين}

82

{أفلا يتدبرون القرآن} أَي: المنافقون (أفلا) يتأمَّلون ويتفكرون فيه {ولو كان} القرآن {مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كثيراً} بالتَّناقض والكذب والباطل وتفاوت الألفاظ

83

{وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن} نزلت في أصحاب الأراجيف وهم قومٌ من المنافقين كانوا يُرجفون بسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُخبرون بما وقع بها قبل أن يُخبرَ به النبي صلى الله عليه وسلم فَيُضعفون قلوب المؤمنين بذلك ويُؤذون النبيَّ عليه السَّلام بسبقهم إيَّاه بالإِخبار وقوله: {أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ} حديثٌ فيه أمنٌ {أو الخوف} يعني: الهزيمة {أذاعوا به} أَيْ: أفشوه {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ منهم} ولو سكتوا عنه حتى يكون الرَّسول هو الذي يفشيه وأولو الأمر مثل أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وقيل: أمراء السَّرايا {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} يتبعونه ويطلبون علمَ ذلك {منهم} من الرسول وأولي الأمر {ولولا فضلُ الله} أي: الإِسلام {ورحمته} القرآن {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} ممَّن عصم الله كالذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان بغير رسولٍ ولا كتابٍ نحو زيد بن عمرو وورقة بن نوفل وطُلاَّب الدِّين وهذا تذكيرٌ للمؤمنين بنعمة الله عليهم حتى سلموا من النِّفاق وما ذُمَّ به المنافقون

84

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نفسك} أَيْ: إلاَّ فعلَ نفسك على معنى: أنَّه لا ضرر عليك في فعل غيرك فلا تهتمَّ بتخلُّف مَنْ يتخلَّف عن الجهاد {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} حُضَّهم على القتال {عَسَى اللَّهُ} واجبٌ من الله {أن يكفَّ} يصرف ويمنع {بأس الذين كفروا} شدَّتهم وشوكتهم {واللَّهُ أشدُّ بأساً} عذاباً {وأشدُّ تنكيلاً} عقوبة

85

{مَنْ يشفع شفاعة حسنةً} هي كلُّ شفاعة تجوز في الدِّين {يكن له نصيبٌ منها} كان له فيها أجر {ومَنْ يشفع شفاعة سيئة} أَيْ: ما لا يجوز في الدين أن يشفع فيه {يكن له كفلٌ منها} أيْ: نصيبٌ من الوِزر والإِثم {وكان الله على كلِّ شيءٍ مقيتاً} مقتدراً

86

{وإذا حييتم بتحيَّةٍ} أَيْ: إذا سُلِّم عليكم بسلامٍ {فحيوا بأحسن منها} أَيْ: أجيبوا بزيادةٍ على التحيَّة إذا كان المُسَلِّم من أهل الإِسلام {أو ردُّوها} إذا كان من أهل الكتاب (فقولوا: عليكم ولا تزيدوا على ذلك) {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (حفيظاً) مجازياً

87

{الله لا إله إلاَّ هو ليجمعنَّكم} أَيْ: واللَّهِ ليجمعنَّكم في القبور {إلى يوم القيامة لا ريبَ فيه} لا شكَّ فيه {ومَنْ أصدقُ من الله حديثاً} أَيْ: قولاً وخبراً يريد: أنَّه لا خُلفَ لوعده

88

{فما لكم في المنافقين فئتين} نزلت في قومٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم المدينة فأقاموا ما شاء الله ثمَّ قالوا: إنَّا اجتوينا المدينة فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أَنْ يخرجوا فلمَّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلةً مرحلةً حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المؤمنون فيهم فقال بعضهم: إنَّهم كفار مرتدُّون وقال آخرون: هم مسلمون حتى تعلم أنَّهم بدَّلوا فبيَّن الله كفرهم في هذه الآية والمعنى: ما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين على فئتين على فرقتين {والله أركسهم} ردَّهم إلى حكم الكفَّار من الذُّلِّ والصَّغار والسَّبي والقتل {بما كسبوا} بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النِّفاق {أتريدون} أيُّها المؤمنون {أن تهدوا} أَيْ: ترشدوا {مَنْ أضلَّ الله} لم يرشده الله أَيْ: يقولون: هؤلاء مهتدون والله قد أضلَّهم {وَمَنْ يُضْلِلِ الله فلن تجد له سبيلاً} أَيْ: ديناً وطريقاً إلى الحجَّة

89

{ودُّوا} أَيْ: هؤلاء {لو تكفرون كما كفروا فتكونون} أنتم وهم {سواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} أَيْ: لا تُوالوهم ولا تُباطنوهم {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} حتى يرجعوا إلى رسول الله {فإن تولوا} عن الهجرة وأقاموا على ما هم عليه {فخذوهم} بالأسر {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نصيراً} أيْ: لا تتولوهم ولا تستنصروا بهم على عدوِّكم

90

{إلاَّ الذين يصلون} أَيْ: فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلاَّ الذين يتصلون ويلتجئون {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} فيدخلون فيهم بالحلف والجوار {أو جاؤوكم حصرت صدورهم} يعني: أو يتصلون بقوم جاؤوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وهم بنو مدلجٍ كانوا صلحا للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا بيان أنَّ مَن انضمَّ إلى قومٍ ذوي عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فله مثلُ حكمهم في حقن الدم والمال ثمَّ نُسخ هذا كلُّه بآية السَّيف ثمَّ ذكر الله تعالى مِنَّته بكفِّ بأس المعاهدين فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} يعني: إن ضيق صدوركم عن قتالهم إنَّما هو لقذف الله تعالى الرُّعب في قلوبهم ولو قوَّى الله تعالى قلوبهم على قتالكم لقاتلوكم {فإن اعتزلوكم} أَيْ: في الحرب {وألقوا إليكم السلم} أَي: الصُّلح {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} في قتالهم وسفك دمائهم ثمَّ أمره بقتال مَنْ لم يكن على مثل سبيل هؤلاء فقال:

91

{ستجدون آخرين} الآية هؤلاء قومٌ كانوا يظهرون الموافقة لقومهم من الكفَّار ويظهرون الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يريدون بذلك الأمن في الفريقين فأطلع الله نبيَّه عليه السَّلام على نفاقهم وهو قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} وقوله: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} كلَّما دُعوا إلى الشِّرك رجعوا فيه {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} أَيْ: حجَّة بيِّنةً في قتالهم لأنَّهم غَدَرةٌ لا يُوفون لكم بعهدٍ

92

{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً} ألْبَتَّةَ {إلاَّ خطأ} إلاَّ أنَّه قد يخطئ المؤمن بالقتل {ومَنْ قتل مؤمناً خطأ} مثل أن يقصد بالرَّمي غيره فأصابه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} إلى جميع ورثته {إلاَّ أن يصدقوا} أَيْ: يعفوا ويتركوا الدية {فإن كان} المقتول {من قوم} حربٍ لكم وكان مؤمناً {فتحرير رقبة مؤمنة} كفارةً للقتل ولا دية لأنَّ عصبته وأهله كفَّار فلا يرثون ديته {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} كأهل الذِّمة فتجب فيه الدِّية والكفَّارة {فمن لم يجد} الرَّقبة {فصيام شهرين متتابعين توبة من الله} أَيْ: ليقبل الله توبة القاتل حيث لم يبحث عن المقتول وحاله وحيث لم يجتهد حتى لا يخطئ

93

{ومَنْ يقتل مؤمناً متعمداً} الآية غلَّظ الله وعيد قاتل المؤمن عمداً للمبالغة في الرَّدع والزَّجر

94

{يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم} أَيْ: سرتم في الأرض {فتبيَّنوا} أَيْ: تأنَّوا وتثَّبتوا نزلت في رجلٍ كان قد انحاز بغنمٍ له إلى جبلٍ فلقي سريةً من المسلمين عليهم أسامة ين زيد فأتاهم وقال: السَّلام عليكم لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله وكان قد أسلم فقتله أسامة واستاقوا غنمه فنزلت نهياً عن سفك دم مَنْ هو على مثل هذه الحالة وذلك أنَّ أسامة قال: إنَّما قالها مُتعوِّذاً فقال الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} أَيْ: حيَّاكم بهذه التَّحيَّة {لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا} أَيْ: متاعها من الغنائم {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يعني: ثواباً كبيراً لمَنْ ترك قتل مَنْ ألقى إليه السَّلام {كذلك كنتم من قبل} كُفَّاراً ضُلالاً كما كان هذا المقتول قبل إسلامِهِ ثمَّ منَّ الله عليكم بالإِسلام كما منَّ على المقتول أَيْ: إنَّ كلَّ مَنْ أسلم ممَّن كان كافراً فبمنزلة هذا الذي تعوَّذ بالإِسلام قُبِلَ منه ظاهرُ الإِسلام ثمَّ أعاد الأمر بالتبيُّن فقال: {فَتَبَيَّنُوا إِنَّ الله كان بما تعملون خبيراً} أَي: علم أنَّكم قتلتموه على ماله ثمَّ حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله وردَّ عليهم غنمه واستغفر لأسامة وأمره بعتق رقبةٍ

95

{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضرر} أي: الأصحَّاء الذين لا علَّة بهم تضرُّهم وتقطعهم عن الجهاد لا يستوي هؤلاء {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين} من أهل العذر {درجةً} لأنَّ المجاهدين باشروا الطَّاعة والقاعدين من أهل العذر قصدوها وإن كانوا في الهمَّة والنيَّة على قصد الجهاد فمباشرة الطَّاعة فوق قصدها بالنِّيّة {وكلاً} من المجاهدين والقاعدين المعذورين {وعد الله الحسنى} الجنَّة {وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين} من غير عذرٍ {أجراً عظيماً}

96

{درجاتٍ منه} أَيْ: منازلَ بعضُها فوقَ بعضٍ من منازل الكرامة

97

{إنَّ الذين توفاهم الملائكة} أَيْ: قبضت أرواحهم نزلت في قومٍ كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا حتى خرج المشركون إلى بدر فخرجوا معهم فقتلوا يوم بدرٍ فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وقوله: {ظالمي أنفسهم} بالمقام في دار الشِّرك والخروج مع المشركين لقتال المسلمين {قالوا فيم كنتم} أَيْ: قالت الملائكة لهؤلاء سؤال توبيخٍ وتقريع: أكنتم في المشركين أم كنتم في المسلمين؟ فاعتذروا بالضَّعف عن مقاومة أهل الشِّرك في دارهم فـ {قالوا كنا مستضعفين في الأرض} أَيْ: في مكة فحاجَّتهم الملائكة بالهجرة إلى غير دارهم و {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً} أخبر الله تعالى أنَّ هؤلاء من أهل النَّار ثمَّ استثنى من صدق في أنَّه مستضعفٌ فقال:

98

{إلاَّ المستضعفين} أي: الذين يوجدون ضعفاء {لا يستطيعون حيلة} لا يقدرون على حيلةٍ ولا نفقةٍ ولا قوَّةٍ للخروج {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} لا يعرفون طريقاً إلى المدينة

99

قال تعالى {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}

100

{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مراغماً} أَيْ: مهاجراً ومتحوَّلاً {كثيراً وسعة} في الرِّزق {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ} الآية نزلت في حبيب بن ضمرة اللَّيثي وكان شيخاً كبيراً خرج متوجِّهاً إلى المدينة فمات في الطَّريق فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو وافى المدينة لكان أتمَّ أجراً فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخبر أنَّ مَنْ قصد طاعةً ثمَّ أعجزه العذر عن تمامها كتب الله ثواب تمام تلك الطَّاعة ومعنى {وقع أجره على الله} وجب ذلك بإيجابه

101

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تقصروا} الآية نزلت في إباحة قصر الصَّلاة في السَّفر وظاهر القرآن يدل على أنَّ القصر يستباح بالسَّفر والخوف لقوله: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} أَيْ: يقتلكم والإِجماع منعقدٌ على أنَّ القصر يجوز في السَّفر من غير خوف وثبتت السنَّة بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ذكر الخوف في الآية على حال غالب أسفارهم في ذلك الوقت ثمَّ ذكر صلاة الخوف فقال:

102

{وإذا كنت فيهم} أَيْ: إذا كنت أيُّها النبيُّ مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم {فأقمت لهم الصلاة} أَي: ابتدأت بها إماماً لهم {فلتقم طائفة منهم معك} نصفهم يصلُّون معك {وليأخذوا} أَيْ: وليأخذ الباقون أسلحتهم {فإذا سجدوا} فإذا سجدت الطَّائفة التي قامت معك {فَلْيَكُونُوا من ورائكم} أَي: الذين أمروا بأخذ السِّلاح {ولتأت طائفة أخرى} أَي: الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم {لم يصلوا} (معك الركعة الأولى) {فليصلوا معك} (الركعة الثانية) {وليأخذوا حذرهم} (من عدوهم) {وأسلحتهم} (سلاحهم معهم) يعني: الذين صلوا أول مرة {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأمتعتكم} في صلاتكم {فيميلون عليكم ميلة واحدة} بالقتال {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تضعوا أسلحتكم} ترخيصٌ لهم في ترك حمل السِّلاح في الصَّلاة وحملُه فرضٌ عند بعضهم وسنة مؤكدة عند بعضهم فرخص الله لهم في تركه لعذر المطر والمرض لأنَّ السِّلاح يثقل على المريض ويفسد في المطر {وخذوا حذركم} أَيْ: كونوا على حذرٍ في الصَّلاة كيلا يتغفَّلكم العدوُّ

103

{فإذا قضيتُمُ الصلاة} فرغتم من صلاة الخوف {فاذكروا الله} بتوحيده وشكره في جميع أحوالكم {فإذا اطمأننتم} رجعتم إلى أهلكم وأقمتم {فأقيموا الصلاة} أتموها {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} مفروضاً موقَّتاً فرضه

104

{ولا تهنوا} أَيْ: لا تضعفوا {في ابتغاء القوم} يعني: أبا سفيان ومَنْ معه حين انصرفوا من أُحدٍ أمر الله تعالى نبيه أن يسير في آثارهم بعد الوقعة بأيَّام فاشتكى أصحابه ما بهم من الجراحات فقال الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} أَيْ: إنْ ألمتم من جراحكم فهم أيضاً في مثل حالتكم من ألم الجراح {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} من نصر الله إيَّاكم وإظهار دينكم (في الدنيا) وثوابه في العقبى {مَا لا يَرْجُونَ} هم {وكان الله عليماً} بخلقه {حكيماً} فيما حكم

105

{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة طعمة بن أُبيرق سرق درعاً ثمَّ رمى بها يهودياً فلما طُلبت منه الدِّرع أحال على اليهوديِّ ورماه بالسَّرقة فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهوديِّ وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل قوم طعمة النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل عن صاحبهم وأن يُبرِّيَه وقالوا: إنك إنْ لم تفعل افتضح صاحبنا وبرئ اليهودي فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزل فوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} في الحكم لا بالتَّعدي فيه {لتحكم بين الناس بما أراك الله} أَيْ: فيما علَّمك الله {ولا تكن للخائنين} طعمة وقومه {خصيماً} مخاصماً عنهم

106

{واستغفر الله} من جدالك عن طعمة وهمِّك بقطع اليهوديِّ

107

{ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} يخونونها بالمعصية لأنَّ وبال خيانتهم راجعٌ عليهم يعني: طعمة وقومه {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أثيماً} أَيْ: طعمة لأنَّه خان في الدِّرع وأَثِم في رميه اليهوديَّ

108

{يستخفون} يستترون بخيانتهم {مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ معهم} علم بما يخفون {إذ يبيِّتون} يُهيِّئون ويُقدِّرون ليلاً {ما لا يرضى من القول} وهو أنَّ طعمة قال: أرمي اليهوديَّ بأنَّه سارق الدِّرع وأحلف أنِّي لم أسرق فيقبل يميني لأنِّي على دينهم {وكان الله بما يعملون محيطا} علاما ثمَّ خاطب قوم طعمة فقال:

109

{ها أنتم هؤلاء جادلتم} خاصمتم {عنهم} عن طعمة وذويه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: لا أحد يفعل ذلك ولا يكون في ذلك اليوم عليهم وكيلٌ يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم ثمَّ عرض التَّوبة على طعمة وقومه بقوله:

110

{ومَنْ يعمل سوءاً} معصيةً كما عمل قوم طعمة {أو يظلم نفسه} بذنبٍ كفعل طعمة {ثم يستغفر الله} الآية ثمَّ ذكر أنَّ ضرر المعصية إنَّما يلحق العاصي ولا يلحق الله من معصيته ضررٌ فقال:

111

{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بالسَّارق {حكيماً} حكم بالقطع على طعمة

112

{ومَنْ يكسب خطيئةً} ذنباً بينه وبين الله تعالى يعني: يمينه الكاذبة أنَّه ما سرق {أو إثماً} ذنباً بينه وبين النَّاس يعني: سرقته {ثمَّ يرمِ به} أَيْ: بإثمه {بريئاً} كما فعل طعمة حين رمى اليهوديَّ بالسَّرقة {فقد احتمل بهتانا} برمي البرئ {وإثماً مبيناً} باليمين الكاذبة والسَّرقة

113

{ولولا فضلُ الله عليك ورحمته} بالنبوَّة والعصمة {لهمَّت} لقد همَّت {طائفة منهم} من قوم طعمة {أن يضلوك} أَيْ: يُخطِّئوك في الحكم وذلك أنَّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنهم ويقطع اليهوديَّ {وما يضلون إلاَّ أنفسهم} بتعاونهم على الإِثم والعدوان وشهادتهم الزُّور والبهتان {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} لأنَّ الضَّرر على مَنْ شهد بغير حقٍّ ثمَّ منَّ الله عليه فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أَي: القضاء بالوحي وبيَّن لك ما فيه الحكمة فلمَّا بان أنَّ السَّارق طعمة تناجى قومه في شأنه فأنزل الله تعالى:

114

{لا خير في كثير من نجواهم} أَيْ: مسارَّتهم {إلاَّ مَنْ أمر} أَيْ: إلاَّ في نجوى من أمر {بصدقةٍ} وقال مجاهد: هذه الآية عامَّةٌ للناس يريد أنَّه لا خير فيما يتناجى فيه النَّاس ويخوضون فيه من الحديث إلاَّ ما كان من أعمال البرِّ ثمَّ بيَّن أن ذلك إنما ينفع مَن ابتغى به ما عند الله فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الآية ثمَّ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على طعمة بالقطع فخاف على نفسه الفضيحة فهرب إلى مكة ولحق بالمشركين فمزل قوله:

115

{ومَنْ يشاقق الرسول} أَيْ: يخالفه {من بعد ما تبيَّن له الهدى} الإِيمان بالله ورسوله وذلك أنَّه ظهر له من الآية ما فيه بلاغ بما أطلع الله سبحانه على أمره فعادى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحجَّة وقيام الدليل {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} غير دين الموحِّدين {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ندعه وما اختار لنفسه {ونصله جهنم} ندخله إيَّاها ونلزمه النَّار ثمَّ أشرك بالله طعمة فكان يعبد صنماً إلى أن مات فأنزل الله فيه:

116

{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية ثمَّ نزل في أهل مكة:

117

{إن يدعون من دونه} أَيْ: ما يعبدون من دون الله {إلاَّ إناثاً} أَيْ: أصنامهم اللاَّت والعزَّى ومناة {وإن يدعون إلاَّ شيطاناً مريداً} ما يعبدون بعبادتهم لها إلاَّ شيطاناً خارجاً عن طاعة الله تعالى يعني: إبليس لأنَّهم أطاعوه فيما سوَّل لهم من عبادتها

118

{لعنه الله} دحره وأخرجه من الجنَّة {وقال} يعني إبليس: {لأَتَّخِذَنَّ من عبادك} بإغوائي وإضلالي {نصيباً مفروضاً} معلوماً أَيْ: مَن اتَّبعه وأطاعه

119

{ولأُضلنَّهم} عن الحقِّ {ولأمنينَّهم} أن لا جنَّة ولا نار وقيل: ركوب الأهواء {ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام} أي: فليقطعنَّها يعني: البحائر وسيأتي بيان ذلك فيما بعد في سورة المائدة {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} أَيْ: دينه يكفرون ويحرِّمون الحلال ويحلون الحرام {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أيْ: (مَنْ) يُطعه فيما يدعو إليه من الضَّلال {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} خسر الجنَّة ونعيمها

120

{يعدهم} طول العمر في الدُّنيا {ويمنيهم} نيل المراد منها {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أَيْ: إلاَّ ما يغرُّهم من إيهام النفع فيما فيه ضرر

121

{أولئك} أَي: الذين اتَّخذوا الشَّيطان وليَّاً {مأواهم} مرجعهم ومصيرهم {جهنم ولا يجدون عنها محيصاً} معدلاً

122

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي من تحتها الأنهار} الآية

123

{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} نزلت في كفَّار قريش واليهود قالت قريش: لا نُبعث ولا نُحاسب وقالت اليهود: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودةً} فنزلت هذه الآية أَيْ: ليس الأمر بأمانيِّ اليهود والكفَّار {مَنْ يعمل سوءاً} كفراً وشركاً {يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله ولياً} يمنعه {ولا نصيراً} ينصره ثمَّ بيَّن فضيلة المؤمنين على غيرهم بقوله:

124

{ومن يعمل من الصالحات} الآية وبقوله:

125

{ومَنْ أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه} أَيْ: توجَّه بعبادته إلى الله خاضعاً له {وهو محسنٌ} مُوَحِّدٌ {واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفاً} ملَّةُ إبراهيم داخلةٌ في ملَّة محمد عليهما السَّلام فمَنْ أقرَّ بملَّة محمَّدٍ فقد اتَّبع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} صفيَّاً بالرِّسالة والنُّبوَّة مُحبَّاً له خالص الحب

126

قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ محيطا}

127

{ويستفتونك} يطلبون منك الفتوى {في النساء} في توريثهنَّ كانت العرب لا تورث النِّساء والصِّبيان شيئاً من الميراث {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَي: القرآن يُفتيكم أيضاً يعني: آية المواريث في أوَّل هذه السورة {في} ميراث {يتامى النساء} لأنَّها في قصَّة أم كجَّة وكانت لها بنات {اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهنَّ} أَيْ: فُرض لهن من الميراث {وترغبون} عن {أن تنكحوهنَّ} لدمامتهنَّ قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في اليتيمة يرغب وليها عن نكاحها ولا ينكحها فيعضلها طعما في ميراثها فنُهي عن ذلك {والمستضعفين من الولدان} أَيْ: يُفتيكم في الصِّغار من الغلمان والجواري أن تعطوهنَّ حقهنَّ {وأن تقوموا} أَيْ: وفي أن تقوموا {لليتامى بالقسط} أَي: بالعدل في مهورهنَّ ومواريثهنَّ {وما تفعلوا من خير} من حسنٍ فيما أمرتكم به {فَإِنَّ اللَّهَ كان به عليماً} يجازيكم عليه

128

{وإن امرأة خافت} علمت {من بعلها} زوجها {نشوزاً} ترفُّعاً عليها لبغضها وهو أن يترك مجامعتها {أو إعراضاً} بوجهه عنها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} في القسمة والنَّفقة وهي أن ترضى هي بدون حقِّها أو تترك من مهرها شيئاً ليسوِّي الزَّوج بينها وبين ضرَّتها في القسمة وهذا إذا رضيت بذلك لكراهة فراق زوجها ولا تجبر على هذا لأنَّها إنْ لم ترض بدون حقِّها كان الواجب على الزَّوج أن يوفيها حقَّها من النَّفقة والمبيت {والصلحُ خيرٌ} من النُّشوز والإِعراض أَيْ: إنْ يتصالحا على شيءٍ خيرٌ من أن يُقيما على النُّشوز والكراهة بينهما {وأحضرت الأنفس الشح} أَيْ: شحَّت المرأة بنصيبها من زوجها وشحَّ الرَّجل على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحبَّ إليه منها {وإن تحسنوا} العشرة والصُّحبة {وتتقوا} الجور والميل {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تعملون خبيراً} لا يضيع عنده شيء

129

{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حرصتم} لن تقدروا على التَّسوية بينهنَّ في المحبَّة ولو اجتهدتم {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} إلى التي تحبُّون في النَّفقة والقسمة {فتذروها كالمعلقة} فتدعوا الأخرى كأنَّها معلَّقةٌ لا أيِّماً ولا ذات بعل {وإن تصلحوا} بالعدل في القسم {وتتقوا} الجور {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} لما ملت إلى التي تحبُّها بقلبك ولمَّا ذكر جواز الصُّلح بينهما إنْ أحبَّا أن يجتمعا ذكر بعده الافتراق فقال:

130

{وإن يتفرقا} أَيْ: إنْ أبت المرأة الكبيرة الصُّلْح وأبت إلاَّ التَّسوية بينها وبين الشَّابَّة فتفرَّقا بالطَّلاق فقد وعد الله لهما أن يُغني كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بعد الطَّلاق من فضله الواسع بقوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسعاً} لجميع خلقه في الرِّزق والفضل {حكيماً} فيما حكم ووعظ

131

قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وإن تكفروا فإنَّ لله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}

132

قال تعالى {ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا}

133

{إنْ يشأ يذهبكم أيها الناس} يعني: المشركين والمنافقين {ويأت بآخرين} أمثل وأطوع لله منكم

134

{مَنْ كان يريد ثواب الدنيا} أَيْ: متاعها {فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} أَيْ: خير الدُّنيا والآخرة عنده فليطلب ذلك منه وهذا تعريضٌ بالكفَّار الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث وكانوا يقولون: ربنا آتنا في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق

135

{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} قائمين بالعدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ والأقربين} أَي: اشهدوا لله بالحقِّ وإن كان الحقُّ على نفس الشَّاهد أو على والديه أو أقربيه {إن يكن} المشهود عليه {غنياً أو فقيراً} فلا تحابوا غنياً لغناه ولا تحيفوا على الفقير لفقره {فالله أولى بهما} أَيْ: أعلمُ بهما منكم لأنَّه يتولَّى علم أحوالهما {فلا تتبعوا الهوى} في الشَّهادة واتقوا {إن تعدلوا} أَيْ: تميلوا وتجوروا {وإنْ تلووا} أَيْ: تدّافعوا الشَّهادة {أو تعرضوا} تجحدوها وتكتموها {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته

136

{يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله} أَي: اثبتوا على الإِيمان {والكتاب الذي نزَّل على رسوله} القرآن {والكتاب الذي أنزل من قبل} أَيْ: كلِّ كتاب أنزل على نبيٍّ قبل القرآن

137

{إن الذين آمنوا} أي: اليهود آمنوا بالتَّوراة {ثمَّ كفروا} بمخالفتها {ثم آمنوا} بالإِنجيل {ثمَّ كفروا} بمخالفته {ثم ازدادوا كفراً} بمحمدٍ {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ما أقاموا على ما هم عليه {ولا ليهديهم سبيلاً} سبيل هدى ثمَّ ألحق المنافقين بهم لأنهم كانوا يتولونهم فقال:

138

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}

139

{الَّذِينَ يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} هذه الآية من صفة المنافقين وكانوا يُوالون اليهود مخالفةً للمسلمين يتوهَّمون أنَّ لهم القوَّة والمنعة وهو معنى قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أَي: القوَّة بالظهور على محمد صلى الله عليه وسلم {فإنَّ العزة} أَي: الغلبة والقوَّة {لله جميعاً}

140

{وقد نزل عليكم} أيها المؤمنون {في الكتاب} في القرآن {أنْ إذا سمعتم} الكفر بآيات الله والاستهزاء بها {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ} غير الكفر والاستهزاء يعني: قوله في سورة الأنعام {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} هذه كانت مما نزل عليهم في الكتاب وقوله: {إنكم إذاً مثلهم} يعني: إنْ قعدتم معهم راضين بما يأتون من الكفر بالقرآن والاستهزاء به وذلك أنَّ المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله سبحانه المسلمين عن مجالستهم {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جميعاً} يريد: أنَّهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات يجتمعون في جهنَّم على العذاب

141

{الذين يتربصون بكم} يعني: المنافقين ينتظرون بكم الدَّوائر {فإن كان لكم فتحٌ من الله} ظهورٌ على اليهود {قالوا ألم نكن معكم} فأعطونا من الغنيمة {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} من الظَّفر على المسلمين {قالوا} لهم {ألم نستحوذ} نغلب {عليكم} نمنعكم عن الدُّخول في جملة المؤمنين {ونمنعكم من المؤمنين} بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إيَّاكم بأخبارهم {فالله يحكم بينكم} يعني: بين المؤمنين والمنافقين {يوم القيامة} يعني: أنَّه أخَّر عقابهم إلى ذلك اليوم ورفع عنهم السَّيف (في الدُّنيا) {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} أَيْ: حجَّةً يوم القيامة لأنَّه يفردهم بالنَّعيم وما يشاركونهم فيه من الكرامات بخلاف الدُّنيا

142

{إنَّ المنافقين يخادعون الله} أَيْ: يعملون عمل المخادع بما يظهرونه ويبطنون خلافه {وهو خادعهم} مجازيهم جزاءَ خداعهم وذلك أنَّهم يُعطون نوراً كما يُعطى المؤمنون فإذا مضوا قليلاً أطفىء نورهم وبقوا في الظُّلمة {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصلاة} مع النَّاس {قاموا كسالى} متثاقلين {يراؤون الناس} ليرى ذلك النَّاس لا لاتِّباع أمر الله يعني: ليراهم النَّاس مُصلِّين لا يريدون وجه الله {ولا يذكرون الله إلاَّ قليلاً} لأنَّهم يعملونه رياءً وسمعةً ولو أرادوا به وجه الله لكان كثيراً

143

{مذبذبين بين ذلك} مُردَّدين بين الكفر والإِيمان ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرِّحين بالشِّرك {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} لا من الأنصار ولا من اليهود {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} من أضلَّه الله فلن تجد له ديناً

144

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دون المؤمنين} يعني: الأنصار يقول: لا توالوا اليهود من قريظة والنَّضير {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} حجَّة بيِّنة في عقابكم بموالاتكم اليهود أيْ: إنَّكم إذا فعلتم ذلك صارت الحجُّة عليكم في العقاب

145

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أَيْ: في أسفل درج النَّار {ولن تجد لهم نصيراً} مانعاً يمنعهم من عذاب الله

146

{إلاَّ الذين تابوا} من النِّفاق {وأصلحوا} العمل {واعتصموا بالله} التجأوا إليه {وأخلصوا دينهم لله} من شائب الرِّياء {فأولئك مع المؤمنين} أَيْ: هم أدنى منهم بعد هذا كلِّه ثمَّ أوقع أجر المؤمنين في التَّسويف لانضمامهم إليهم فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عظيماً}

147

{ما يفعل الله بعذابكم} بعذاب خلقه {إن شكرتم} اعترفتم بإحسانه {وآمنتم} بنبيِّه {وكان الله شاكراً} للقليل من أعمالكم {عليماً} بنيَّاتكم

148

{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} نزلت ترخيصاً للمظلوم أنْ يجهر بشكوى الظَّالم وذلك أنَّ ضيفاً نزل بقوم فأساؤوا قِراه فاشتكاهم فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكوا وقوله: {إلاَّ من ظلم} لكن من ظلم فإنَّه يجهر بالسُّوء من القول وله ذلك {وكان الله سميعاً} لقول المظلوم {عليماً} بما يضمره أَيْ: فليقل الحقِّ ولا يتعدَّ ما اُذن له فيه

149

{إن تبدوا خيراً} من أعمال البرِّ {أو تخفوه أو تعفوا عن سوء} يأتيك من أخيك المسلم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عفواً} لمَنْ عفا {قديراً} على ثوابه

150

{إنَّ الذين يكفرون بالله ورسله} هم اليهود كفروا بعيسى عليه السَّلام والإِنجيل ومحمدٍ عليه السَّلام والقرآن {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} بأن يؤمنوا بالله ويكفروا بالرُّسل {ويقولون نؤمن ببعض} الرّسل {ونكفر} ببعضهم {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} بيْن الإِيمان بالبعض والكفر بالبعض ديناً يدينون به

151

{أولئك هم الكافرون حقاً} أَيْ: إنَّ إيمانهم ببعض الرُّسل لا يُزيل عنهم اسم الكفر ثمَّ نزل في المؤمنين

152

{والذين آمنوا بالله ورسله} الآية

153

{يسألك أهل الكتاب} سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنْ يأتيهم بكتابٍ جُمْلَةً من السَّماء كما أتى به موسى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ من ذلك} يعني: السَّبعين الذين ذكروا في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} يعني: الذين خلَّفهم موسى مع هارون {من بعد ما جاءتهم البينات} العصا واليد وفلق البحر {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} لم نستأصل عبدة العجل {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} حجَّةً بيِّنةً قوي بها على مَنْ ناوأه

154

{ورفعنا فوقهم الطور} حين امتنعوا من قبول شريعة التَّوراة {بميثاقهم} أَيْ: بأخذ ميثاقهم {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت} لا تعتدوا باقتناص السَّمك فيه {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} عهداً مؤكَّداً في النبيِّ صلى الله عليه وسلم

155

{فبما نقضهم ميثاقهم} أَيْ: فبنقضهم و (ما) زائدةٌ للتَّوكيد وقوله {بل طبع اللَّهُ عليها بكفرهم} أَيْ: ختم الله على قلوبهم فلا تعي وَعْظاً مجازاةً لهم على كفرهم {فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً} يعني: الذين آمنوا

156

{وبكفرهم} بالمسيح {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} حين رموها بالزِّنا

157

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شبه لهم} أَيْ: ألقي لهم شبه عيسى على غيره حتى ظنُّوه لمَّا رأوه أنَّه المسيح {وإنَّ الذين اختلفوا فيه} أَيْ: في قتله وذلك أنَّهم لمَّا قتلوا الشَّخص المشَبَّه به كان الشَّبَه أُلقي على وجهه ولم يُلق على جسده شبهُ جسدِ عيسى فلمَّا قتلوه ونظروا إليه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فاختلفوا فقال بعضهم: هذا عيسى وقال بعضهم: ليس بعيسى وهذا معنى قوله: {لفي شك منه} أَيْ: مِنْ قتله {ما لهم به} بعيسى {من علم} قُتِل أو لم يقتل {إلاَّ اتباع الظن} لكنَّهم يتَّبعون الظَّنَّ {وما قتلوه يقيناً} وما قتلوا المسيح على يقين من أنَّه المسيح

158

{بل رفعه الله إليه} أَيْ: إلى الموضع الذي لا يجري لأحدٍ سوى الله فيه حكمٌ وكان رفعُه إلى ذلك الموضع رفعاً إليه لأنَّه رُفع عن أن يجري عليه حكم أحدٍ من العباد {وكان الله عزيزاً} في اقتداره على نجاة مَنْ يشاء من عباده {حكيماً} في تدبيره في النَّجاة

159

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أَيْ: ما مِن أهل الكتاب أحدٌ إلاَّ ليؤمننَّ بعيسى {قبل موته} إذا عاين المَلَك ولا ينفعه حينئذٍ إيمانه ولا يموت يهوديٌّ حتى يؤمن بعيسى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} على أنْ قد بلَّغ الرِّسالة وأقرَّ بالعبوديَّة على نفسه

160

{فبظلم من الذين هادوا} عاقب الله اليهود إلى ظلمهم وبغيهم بتحريم اشياء عليهم وهي ما ذُكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذي ظفر} ثمَّ استثنى مؤمنيهم فقال:

161

قال تعالى {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}

162

{لكن الراسخون} يعني: المبالغين في علم الكتاب منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه {والمؤمنون} من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً} ظاهر إلى قوله:

163

قال تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وسليمان وآتينا داود زبورا}

164

قال تعالى {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}

165

{رسلاً مبشرين} أَيْ: بالثَّواب على الطَّاعة {ومنذرين} بالعقاب على المعصية {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسولاً يعلّمنا دينك فبعثنا الرُّسل قطعاً لعذرهم

166

{لكن الله يشهد} نزلت حين قالت اليهود - لما سئلوا عن نبؤة محمَّدٍ - ما نشهد له بذلك فقال الله تعالى: {لكن الله يشهد} أَيْ: يبيِّن نبوَّتك {بما أنزل إليك} من القرآن ودلائله {أنزله بعلمه} أَيْ: وهو يعلم أنَّك أهلٌ لإِنزاله عليك لقيامك به {والملائكة يشهدون} لك بالنُّبوَّة إنْ جحدت اليهود وشهادة الملائكة إنَّما تُعرف بقيام المعجزة فمَنْ ظهرت معجزته شهدت الملائكة بصدقه {وكفى بالله شهيداً} أَيْ: كفى الله شهيدا

167

قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا}

168

{إنَّ الذين كفروا} يعني اليهود {وظلموا} محمداً عليه السَّلام بكتمان نعته {لم يكن الله ليغفر لهم} هذا فيمن علم أنَّه يموت على الكفر {ولا ليهديهم طريقاً} ولا ليرشدهم إلى دين الإِسلام

169

{إلاَّ طريق جهنم} يعني: طريق اليهوديَّة وهو الطَّريق الذي يقودهم إلى جهنَّم {خالدين فيها أبداً وكان ذلك} أَيْ: خلودهم {على الله يسيراً} لأنَّه لا يتعذَّر عليه شيءٌ

170

{يا أيها الناس} يعني: المشركين {قد جاءكم الرسول بالحق} بالهدى والصِّدق {من ربكم فآمنوا خيراً لكم} أَيْ: ايتوا خيراً لكم من الكفر بالإِيمان به {وإن تكفروا} تكذبوا محمد وتكفروا نعمة الله عليكم به {فإنَّ لله ما في السماوات والأرض} أَيْ: لا تضرُّون إلاَّ أنفسكم لأنَّ الله غنيٌّ عنكم {وكان الله عليماً} بما تصيرون إليه من إيمان أو كفر {حكيماً} في تكليفه مع علمه بما يكون منكم

171

{يا أهل الكتاب} يريد: النَّصارى {لا تغلوا} لا تتجاوزوا الحدَّ ولا تتشدَّدوا {فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الحق} فليس له ولدٌ ولا زوجة ولا شريك وقوله: {وكلمته ألقاها} يعني: أنَّه قال له: كن فيكون {وروحٌ منه} أَيْ: روحٌ مخلوقٌ من عنده {ولا تقولوا ثلاثة} أَيْ: لا تقولوا: آلهتنا ثلاثة يعني قولهم: اللَّهُ وصاحبته وابنه تعالى الله عن ذلك {انتهوا خيراً لكم} أَي: ائتوا بالانتهاء عن هذا خيراً لكم مما أنتم عليه

172

{لن يستنكف المسيح} لن يأنف الذي تزعمون أنَّه إِلهٌ {أن يكون عبداً لله وَلا الملائكة المقربون} من كرامة الله تعالى وهم أكثرُ من البشر

173

قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ولا نصيرا}

174

{يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم} يعني: النبيَّ عليه السَّلام {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} وهو القرآن

175

{فأمَّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به} أَي: امتنعوا بطاعته من زيغ الشَّيطان {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} يعني: الجنَّة {وفضل} يتفضَّل عليهم بما لم يخطر على قلوبهم {ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} ديناً مستقيماً

176

{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} فيمن مات ولا ولد له ولا والد {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أراد: ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما لأنَّه الكلالة {وله أختٌ} يعني: من أبٍ وأمٍّ أو أبٍٍ لأنَّ ذكر ولد الأم قد مضى في أوَّل السُّورة {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وهو يرثها} الأخ يرث الأخت جميع المال {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا} أَيْ: الأختان ( {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رجالاً ونساءً} من أب وأمّ أو من أبٍ {فللذكر مثل حظ الأنثيين} ) وقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا ( {والله بكل شيء عليم} من قسمة المواريث)

سورة المائدة

{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} يعني: بالعهود المؤكَّدة التي عاهدتموها مع الله والنَّاس ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بهيمة الأنعام} قيل: هي الأنعام نفسها وهي الإِبلُ والبقر والغنم وقيل: بهيمة الأنعام: وحشِيُّها كالظِّباء وبقر الوحش وحمر الوحش {إلاَّ ما يتلى عليكم} (أي: ما يقرأ عليكم في القرآن) يعني: قوله {حرمت عليكم الميتة} الآية {غير محلي الصيد} يعني: إلاَّ أن تحلُّوا الصَّيد في حال الإِحرام فإنَّه لا يحلُّ لكم {إنَّ الله يحكم ما يريد} يحلُّ ما يشاء ويحرِّم ما يشاء

2

{يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله} يعني: الهدايا المُعلَمة للذَّبح بمكة نزلت هذه الآية في الحُطَم بن ضبيعة أغار على سرح المدينة فذهب به إلى اليمامة فلمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجَّاج اليمامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا الحطم فدونكم وكان قد قلَّد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة فلمَّا توجَّهوا في طلبه أنزل الله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} يريد: ما أُشعر لله أَيْ: أُعْلِمَ {ولا الشهر الحرام} بالقتال فيه {ولا الهدي} وهي كلُّ ما أُهدي إلى بيت الله من ناقةٍ وبقرةٍ وشاةٍ {ولا القلائد} يعني: الهدايا المقلَّدة من لحاء شجر الحرم {ولا آمِّين البيت الحرام} قاصديه من المشركين قال المفسرون: كانت الحروب في الجاهليَّة قائمة بين العرب إلاَّ في الأشهر الحرم فمَن وُجد في غيرها أُصيب منه إلاَّ أنْ يكونَ مُشعراً بدنه أو سائقاً هدايا أو مُقلِّداً نفسه أو بعيره من لحاء شجر الحرم أو مُحرماً فلا يُتعرَّض لهؤلاء فأمر الله سبحانه وتعالى المُسْلمين بإقرار هذه الأَمنة على ما كانت لضربِ من المصلحة إلى أنْ نسخها بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله: {يبتغون فضلاً من ربهم} أَيْ: ربحاً بالتِّجارة {ورضواناً} بالحجِّ على زعمهم {وإذا حللتم} من الإحرام {فاصطادوا} أمرُ إباحةٍ {ولا يجرمنَّكم} ولا يحملنَّكم {شنآن قومٍ} بُغض قومٍ يعني: أهل مكَّة {أن صدوكم عن المسجد الحرام} يعني: عام الحديبية {أَنْ تَعْتَدُوا} على حُجَّاج اليمامة فتستحلُّوا منهم مُحرَّماً {وتعاونوا} لِيُعِنْ بعضكم بعضاً {على البر} وهو ما أمرتُ به {والتقوى} ترك ما نهيتُ عنه {ولا تعاونوا على الإثم} يعني: معاصي الله {والعدوان} التَّعدي في حدوده ثمَّ حذَّرهم فقال: {واتقوا الله} فلا تستحلوا محرَّماً {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} إذا عاقب

3

{حرِّمت عليكم الميتة} سبق تفسير هذه الاية في سورة البقرة إلى قوله: {والمنخنقة} وهي التي تختنق فتموت بأس وجهٍ كان {والموقوذة} المقتولة ضرباً {والمتردية} التي تقع من أعلى إلى أسفل فتموت {والنطيحة} التي قُتلت نطحا {وما أكل} منه {السبع} فالباقي منه حرامٌ ثمَّ استثنى ما يُدرك ذكاته من جميع هذه المحرَّمات فقال: {إلا ما ذكيتم} أَيْ: إلاَّ ما ذبحتم {وما ذبح على النصب} أَيْ: على اسم الأصنام فهو حرام {وأن تستقسموا بالأزلام} تطلبوا على ما قُسم لكم من الخير والشَّرِّ من الأزلام: القداح التي كان أهل الجاهليَّة يُجيلونها إذا أرادوا أمراً {ذلكم} أَيْ: الاستقسامُ من الأزلام {فسق} خروجٌ عن الحلال إلى الحرام {اليوم} يعني: يوم عرفة عام حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح {يئس الذين كفروا} أن ترتدُّوا راجعين إلى دينهم {فلا تخشوهم} في مظاهرة محمد واتِّباع دينه {واخشون} في عبادة الأوثان {اليوم} يعني: يوم عرفة {أكملتُ لكم دينكم} أحكام دينكم فلم ينزل بعد هذه الآية حلالٌ ولا حرامٌ {وأتممت عليكم نعمتي} يعني: بدخول مكَّة آمنين كما وعدتكم {فمن اضطر} إلى ما حُرِّم ممَّا ذُكر في هذه الآية {في مخمصة} مجاعةٍ {غير متجانفٍ لإِثم} غير متعرِّضٍ لمعصيةٍ وهو أن يأكل فوق الشيع أو يكون عاصياً بسفره {فإنَّ الله غفورٌ} له ما أكل ممَّا حرَّم عليه {رحيم} بأوليائه حيث رخَّص لهم

4

{يسألونك ماذا أحلَّ لهم} سأل عديُّ بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّا نصيد بالكلاب والبُزاة وقد حرَّم الله الميتة فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية {قل أحلَّ لكم الطيبات} يعني: ما تستطيبه العرب وهذا هو الأصل في التَّحليل فكل حيوان استطابه العرب كالضِّباب واليرابيع والأرانب فهو حلال وما استخبثه العرب فهو حرام {وما علَّمتم} يعني: وصيد ما علَّمتم {من الجوارح} وهي الكواسب من الطَّير والكلاب والسِّباع {مكلِّبين} مُعلِّمين إيَّاها الصَّيد {تعلمونهن مما علمكم الله} تؤدبوهنَّ لطلب الصَّيد {فكلوا ممَّا أمسكن عليكم} هذه الجوارح وإنْ قتلن إذا لم يأكلن منه فإذا أكلن فالظَّاهر أنَّه حرام {واذكروا اسم الله عليه} عند إرسال الجوارح

5

{اليوم أحلَّ لكم الطيبات} التي سألتم عنها {وطعام الذين أوتوا الكتاب} وهو اسمٌ لجميع ما يؤكل {حلٌّ لكم وطعامكم حل لهم} أَيْ: حلٌّ لكم أن تطعموهم {والمحصنات} العفائف {من المؤمنات والمحصنات} الحرائر {من الذين أوتوا الكتاب} من أهل الكتاب {إذا آتيتموهنَّ أجورهنَّ} يعني: مهورهنَّ {محصنين} مُتزوِّجين {غير مسافحين} معالنين بالزِّنا {ولا متخذي أخدان} مُسرّين بالزِّنا بهنَّ {ومَنْ يكفر بالإِيمان} بالله الذي يجب الإِيمان به {فقد حبط عمله} إذا مات على ذلك {وهو في الآخرة من الخاسرين} ممَّنْ خسر الثَّواب

6

{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أَيْ: إذا أردتم القيام إليها {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} يعني: مع المرفقين {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} وهما النَّاشزان من جانبي القدم {وإن كنتم جنباً فاطَّهَروا} فاغتسلوا {وإن كنتم مرضى} مفسَّرٌ في سورة النساء إلى قوله: {مَا يُرِيدُ الله ليجعل عليكم من حرج} من ضيقٍ في الدِّين ولكنْ جعله واسعاً بالرُّخصة في التَّيمُّم {ولكن يريد ليطهركم} من الأحداث والجنابات والذُّنوب لأنَّ الوضوء يكفِّر الذُّنوب {وليتم نعمته عليكم} ببيان الشَّرائع و {لعلكم تشكرون} نعمتي فتطيعوا أمري

7

{واذكروا نعمة الله عليكم} بلإسلام {وميثاقه الذي واثقكم به} يعني: حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في كلِّ ما أمر ونهى وهو قوله: {إذ قلتم} حين قُلْتُمْ {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عليم بذات الصدور} بخفيَّات القلوب

8

{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله} تقومون لله بكلِّ حقٍّ يلزمكم القيام به {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} تشهدون بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قوم} لا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل {اعدلوا} في الوليِّ والعدوِّ {هو} أَيْ: العدل {أقرب للتقوى} أَيْ: لاتِّقاء النار

9

قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مغفرة وأجر عظيم}

10

قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}

11

{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم} الآية يعني: ما أنعم الله على نبيِّه حين أتى اليهودَ هو وجماعة من أصحابه يستعينون بهم في دية فتآمروا بينهم أن يطرحوا عليهم رحىً فأعلمهم الله بذلك على لسان جبرائيل حتى خرجوا ثمَّ أخبر عن نقض بني إسرائيل عهد الله كما نقضت هذه الطَّبقة العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله حين هموا بالاغتيال به فقال:

12

{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} على أن يعلموا بما في التَّوراة {وبعثنا} وأقمنا بذلك {منهم اثني عشر نقيباً} كفيلاً وضميناً ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد {وقال الله} لهم: {إني معكم} بالعون والنُّصرة {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وعزرتموهم} أَيْ: وقَّرتموهم {وأقرضتم الله قرضاً حسناً} يريد: الصَّدقات للفقراء والمساكين {فمن كفر بعد ذلك} أَيْ: بعد هذا العهد والميثاق {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أخطأ قصد الطَّريق

13

{فبما نقضهم} فبنقضهم {ميثاقهم} وهو أنَّهم كذَّبوا الرُّسل بعد موسى فقتلوا الأنبياء وضيَّعوا كتاب الله {لعنَّاهم} أخرجناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} يابسة عن الإِيمان {يُحَرِّفُونَ الكلم} يغيِّرون كلام الله {عن مواضعه} من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وآية الرَّجم {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} وتركوا نصيباً ممَّا أمروا به في كتابهم من اتِّبَاع محمَّدٍ {ولا تزال} يا محمد {تطلع على خائنة} خيانة {منهم} مثل ما خانوك حين همُّوا بقتلك {إلاَّ قليلاً منهم} يعني: مَنْ أسلم {فاعفُ عنهم واصفح} منسوخٌ بآية السَّيف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} المتجاوزين

14

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} كما أخذنا ميثاق اليهود {فنسوا حظا مما ذكروا به} فتركوا ما أُمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {فأغرينا بينهم} فألقينا بين اليهود والنصارى {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بما كانوا يصنعون} وعيدٌ لهم ثمَّ دعاهم إلى الإِيمان بمحمَّدٍ عليه السلام فقال:

15

{يا أهل الكتاب} يعني: اليهود والنَّصارى {قد جاءكم رسولنا} محمَّد {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} تكتمون ممَّا في التَّوراة والإِنجيل كآية الرَّجم وصفة محمَّد عليه السَّلام {ويعفو عن كثير} يتجاوز عن كثير فلا يخبركم بكتمانه {قد جاءكم من الله نور} يعني: النبيَّ {وكتاب مبين} القرآن فيه بيانٌ لكلِّ ما تختلفون فيه

16

{يهدي به الله} يعني: بالكتاب المبين {مَنِ اتبع رضوانه} اتَّبع ما رضيه الله من تصديق محمَّد عليه السَّلام {سُبُل السلام} طرق السَّلامة التي مَنْ سلكها سلم في دينه {ويخرجهم من الظُّلمات} الكفر {إلى النور} الإِيمان {بإذنه} بتوفسقه وإرادته {ويهديهم إلى صراط مستقيم} وهو الإِسلام

17

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المسيح ابن مريم} يعني: الذين اتَّخذوه إِلهاً {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} فمَنْ يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئاً {إن أراد أن يهلك المسيح} أَيْ: يُعذِّبه ولو كان إلهاً لقدر على دفع ذلك

18

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أَمَّا اليهود فإنّهم قالوا: إنَّ الله من حِنَّتِهِ وعطفه علينا كالأب الشفيق وأمَّا النصارى فإنهم تأولو قول عيسى: إذا صلَّيتم فقولا: يا أبانا الذي في السَّماء تقدَّس اسمه وأراد أنَّه في برِّه ورحمته بعباده الصالحين كالأب الرحيم وقيل: أرادوا نحن أبناء رسل الله وإنما قالوا هذا حين حذَّرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عقوبة الله فقال الله: {قل فلمَ يعذِّبكم بذنوبكم} أَيْ: فلمَ عذَّب مَنْ قبلكم بذنوبهم كأصحاب السَّبت وغيرهم {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر بني آدم {يغفر لمن يشاء} لَمنْ تاب من اليهودية {ويعذب من يشاء} مَنْ مات عليها وقوله:

19

{على فترة من الرسل} على انقطاع من الأنبياء {أن تقولوا} لئلا تقولوا {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نذير} وقوله:

20

{وجعلكم ملوكاً} أَيْ: جعل لكم الخدم والحشم وهم أوَّل مَن ملك الخدم والحشم من بني آدم {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} من فلق البحر لكم وإغراق عدوِّكم والمنِّ والسَّلوى وغير ذلك

21

{يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة} المطهَّرة يعني: الشَّام وذلك أنَّها طُهِّرت من الشِّرك وجُعلت مسكناً للأنبياء {التي كتب الله لكم} أمركم الله بدخولها {ولا ترتدوا على أدباركم} لا ترجعوا إلى دينكم الشِّركِ بالله

22

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} طوالاً ذوي قوَّة وكانوا من بقايا عادٍ يقال لهم العمالقة

23

{قال رجلان} وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا {من الذين يخافون} اللَّهَ في مخالفة أمره {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالفضل واليقين: {ادخلوا عليهم الباب} الآية وإنَّما قالا ذلك تيقُّناً بنصر الله وإنجاز وعده لنبيِّه فخالفوا نبيَّهم وعصوا أمر الله وأتوا من القول بما فسقوا به وهو قوله:

24

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنا هاهنا قاعدون} فقال موسى عند ذلك:

25

{لا أملك إلاَّ نفسي وأخي} يقول: لم يُطعني منهم إلاَّ نفسي وأخي {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} فاقض بيننا وبين القوم العاصين فحرَّم الله على الذين عصوا دخول القرية وحبسهم في التِّيه أربعين سنةً حتى ماتوا ولم يدخلها أحدٌ من هؤلاء وإنَّما دخلها أولادهم وهو قوله:

26

{فإنها محرَّمة عليهم} الآية وقوله: {يتيهون في الأرض} يتحيَّرون فلا يهتدون للخروج منها {فلا تأس على القوم الفاسقين} لا تحزن على عذابهم

27

{واتل عليهم} يعني: على قومك {نبأ} خبر {ابني آدم} هابيل وقابيل {إذ قرَّبا قرباناً} تقرَّب إلى الله هابيل بخيرِ كبشٍ في غنمه فنزلت من السَّماء نارٌ فاحتملته فهو الكبش الذي فُدي به إسماعيل وتقرَّب إلى الله قابيل بأردأ ما كان عنده من القمح وكان صاحب زرع فلم تحمل النَّار قربانه والقربان: اسمٌ لكلِّ ما يُتقرَّب به إلى الله فقال الذي لم يُتقبَّلْْ منه: {لأقتلنك} حسداً له فقال هابيل: {إنما يتقبل الله من المتقين} للمعاصي (لا من العاصين)

28

{لئن بَسَطتَ إليَّ يدك} لئن بدأتني بالقتل فما أنا بالذي أبدؤك بالقتل {إني أخاف الله} في قتلك

29

{إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} أن تحمل إثم قتلي وإثم الذي كان منك قبل قتلي

30

{فَطَوَّعَتْ له نفسه قتل أخيه} سهَّلته وزيَّنت له ذلك {فقتله فأصبح من الخاسرين} خسر دنياه بإسخاط والديه وآخرته بسخط الله عليه فلمَّا قتله لم يدرِ ما يصنع به لأنَّه كان أوَّل ميِّت على وجه الأرض من بني آدم فحمله في جرابٍ على ظهره

31

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} يثير التُّراب من الأرض على غرابٍ ميِّتٍ {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي} يستر {سوآة} جيفة {أخيه} فلمَّا رأى ذلك قال: {يا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سوآة أخي فأصبح من النادمين} على حمله والتَّطوف به

32

{من أجل ذلك} من سبب ذلك الذي فعل قابيل {كتبنا} فرضنا {على بني إسرائيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نفساً بغير نفسٍ} بغير قَوَدٍ {أو فسادٍ} شركٍ {في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً} يُقتل كما لو قتلهم جميعاً ويصلى النَّار كما يصلاها لو قتلهم {ومَن أحياها} حرَّمها وتورَّع عن قتلها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} لسلامتهم منه لأنَّه لا يستحلُّ دماءهم {ولقد جاءتهم} يعني: بني إسرائيل {رسلنا بالبينات} بأنَّ لهم صدق ما جاؤوهم به {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرض لمسرفون} أَيْ: مجاوزون حدَّ الحقِّ

33

{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} أَيْ: يعصونهما ولا يطيعونهما يعني: الخارجين على الإِمام وعلى الأمَّة بالسَّيف نزلت هذه الآية في قصة العُرَنيين وهي معروفةٌ تعليماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة مَن فعل مثل فعلهم وقوله: {ويسعون في الأرض فساداً} بالقتل وأخذ الأموال {أن يقتلوا أو يصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} معنى أو ها هنا الإباحة فللإمام أن يفعل ما أراد من هذه الأشياء ومعنى النَّفي من الأرض الحبسُ في السجن لأن المجون بمنزلة المخرج من الدني {ذلك لهم خزي} هوانٌ وفضيحةٌ {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا للكفَّار الذين نزلت فيهم الآية لأنَّ العُرنيين ارتدُّوا عن الدِّين والمسلم إذا عوقب في الدُّنيا بجنايته صارت مكفَّرةً عنه

34

{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم} آمنوا من قبل أن تعاقبوهم فالله غفورٌ رحيمٌ لهم هذا في المشرك المحارب إذا آمن قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود فأمَّا المسلم المحارب إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه سقط عنه حدود الله ولا تسقط حقوق بني آدم

35

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا} عقاب {الله} بالطَّاعة {وابتغوا إليه الوسيلة} تقرَّبوا إليه بطاعته {وجاهدوا} العدوَّ {فِي سَبِيلِهِ} في طاعته {لعلكم تفلحون} كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة

36

{إنَّ الذين كفروا} الآية ظاهرة

37

{يريدون} يتمنَّون بقلوبهم {أن يخرجوا من النار}

38

{والسارق والسارقةُ فاقطعوا أيديهما} يمينَ هذا ويمين هذه فجمع {جَزَاءً بما كسبا} أَيْ: بجزاء فعلهما {نكالاً} عقوبةً {من الله والله عزيز} في انتقامه {حكيم} فيما أوجب من القطع

39

{فمن تاب من بعد ظلمه} النَّاس {وأصلح} العمل بعد السَّرقة {فإنَّ الله يتوب عليه} يعود عليه بالرَّحمة

40

{ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب مَنْ يشاء} على الذَّنب الصَّغير {ويغفر لمن يشاء} الذَّنب العظيم

41

{يا أيها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إذ كنت موعودَ النَّصر عليهم وهم المنافقون وبان لهم ذلك بقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون} أَيْ: فريقٌ سمَّاعون {للكذب} يسمعون منك ليكذبوا عليك فيقولون: سمعنا منه كذا وكذا لما لمْ يسمعوا {سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} أَيْ: هم عيونٌ لأولئك الغُيَّبِ ينقلون إليهم أخبارك {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} من بعد أن وضعه الله مواضعه يعني: آية الرَّجم {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يعني: يهود خيبر بالجلد وهم الذين ذكروا في قوله: {لقوم آخرين لم يأتوك} وذلك أنَّهم بعثوا إلى قريظة ليستفتوا محمداً صلى الله عليه وسلم في الزانيين المحصنيين وقالوا لهم: إنْ أفتى بالجلد فاقبلوا وإن أفتى بالرَّجم فلا تقبلوا فذلك قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} يعني: الجلد {فخذوه} فاقبلوه {وإن لم تؤتوه فاحذروا} أن تعملوا به {ومن يرد الله فتنته} ضلالته وكفره {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لن تدفع عنه عذاب الله {أولئك الذين} أَيْ: مَنْ أراد الله فتنته فهم الَّذِينَ {لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أن يُخلِّص نيَّاتهم {لهم في الدنيا خزيٌ} بهتك ستورهم {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وهو النَّار

42

{سماعون للكذب أكالون للسحت} وهو الرِّشوة في الحكم يعني: حكَّام اليهود يسمعون الكذب ممَّنْ يأتيهم مُبطلاً ويأخذون الرِّشوة منه فيأكلونها {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} خيَّر الله نبيَّه في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ثمَّ نسخ ذلك بقوله: {وأن احكم بينهم} الآية

43

{وكيف يحكمونك} عجَّب الله نبيه عليه السلام من تحكيم اليهود إيَّاه بعد علمهم بما في التَّوراة من حكم الزَّاني وحدِّه وقوله: {فيها حكم الله} يعني: الرَّجم {ثمَّ يتولون من بعد ذلك} التَّحكيم فلا يقبلون حكمك بالرَّجم {وما أولئك} الذين يُعرِضون عن الرَّجم {بالمؤمنين}

44

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى} بيان الحكم الذي جاؤوك يستفتوك فيه {ونور} بيانٌ إنَّ أمرك حَقٌّ {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} من لدن موسى إلى عيسى وهم {الذين أسلموا} أَي: انقادوا لحكم التَّوراة {للذين هادوا} تابوا من الكفر وهم بنو إسرائيل إلى زمن عيسى {والربانيون} العلماء {والأحبار} الفقهاء {بما استحفظوا} استرعوا أَيْ: بما كُلِّفُوا حفظه من كتاب الله وقيل: العمل بما فيه وذلك حفظه {من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أنَّه من عند الله ثمَّ خاطب اليهود فقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والرَّجم {واخشون} في كتمان ذلك {ولا تشتروا بآياتي} بأحكامي وفرائضي {ثمناً قليلاً} يريد: متاع الدُّنيا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هم الكافرون} نزلت في مَنْ غيرَّ حكم الله من اليهود وليس في أهل الإسلام منها ومن اللتين بعدها شيءٌ

45

{وكتبنا عليهم فيها} وفرضنا عليهم في التَّوراة {أنَّ النفس} تُقتل {بالنفس والعين بالعين} الآية كلُّ شخصين جرى القصاص بينهما في النَّفس جرى القصاص بينهما في جميع الأعضاء والأطراف إذا تماثلا في السَّلامة وقوله: {والجروح قصاص} في كلِّ ما يمكن أن يُقتصَّ فيه مثل الشَّفتين والذَّكَر والأُنثيين والأليتين والقدمين واليدين وهذا تعميمٌ بعد التفصيل بقوله: {والعين بالعين والأنف بالأنف} {فمن تصدَّق به فهو كفارة له} مَنْ عفا وترك القصاص فهو مغفرةٌ له عند الله وثواب عظيم

46

{وقفينا على آثارهم بعيسى} أَيْ: جعلناه يقفو آثار النَّبيِّين يعني: بعثناه بعدهم على آثارهم {مصدقاً لما بين يديه من التوراة} يُصدِّق أحكامها ويدعو إليها {وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة} معناه: وهادياً وواعظاً

47

{وليحكم أهل الإِنجيل} أَيْ: وقلنا لهم: ليحكموا بهذا الكتاب في ذلك الوقت

48

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} أَيْ: شاهداً وأميناً وحفيظاً ورقيباً على الكتب التي قبله فما أخبر أهل الكتاب بأمرٍ فإنْ كان في القرآن فصقوا وإلأَّ فكذِّبوا {فاحكم بينهم} بين اليهود {بما أنزل الله} بالقرآن والرَّجم {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} يقول: لا تتَّبعهم عمَّا عندك من الحق قتتركه وتتَّبعهم {لكلٍّ جعلنا منكم} من أُمَّة موسى وعيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهم أجمعين {شرعة ومنهاجاً} سبيلاً وسنَّة فللتَّوراة شريعة وللإِنجيل شريعة وللقرآن شريعة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على أمرٍ واحدٍ ملَّة الإِسلام {ولكن ليبلوكم} ليختبركم {فِي مَا آتَاكُمْ} أعطاكم من الكتاب والسُّنن {فاستبقوا الخيرات} سارعوا إلى الأعمال الصَّالحة (الزَّاكية) {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} أنتم وأهل الكتاب {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} من الدِّين والفرائض والسُّنن يعني: إنَّ الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الشُّكوك بما يحصل من اليقين

49

{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ الله إليك} أَيْ: يَسْتَزِلُّوكَ عن الحقِّ إلى أهوائهم نزلت حين قال رؤساء اليهود بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى محمد لعلَّنا نفتنه فنرده عمَّا هو عليه فأتوه وقالوا له: قد علمت أنَّا إن اتَّبعناك اتَّبعك النَّاس ولنا خصومةٌ فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك ونحن نؤمن بك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله هذه الآية: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يصيبهم ببعض ذنوبهم} (أي: فإن أعرضوا عن الإِيمان والحكم بالقرآن فاعلم أنَّ ذلك من أجل أنَّ الله يريد أن يعجِّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم) ويجازيهم في الآخرة بجميعها ثمَّ كان تعذيبهم في الدُّنيا الجلاء والنَّفي {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} يعني: اليهود

50

{أفحكم الجاهلية يبغون} أَيْ: أيطلب اليهود في الزَّانيين حكماً لم يأمر الله به وهم أهل كتاب كما فعل أهل الجاهليَّة؟ ! {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أَي: مَنْ أيقن تبيَّن عدل الله في حكمه ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود وأوعد عليها بقوله:

51

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآية

52

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه {يسارعون فيهم} في مودَّة أهل الكتاب ومعاونتهم على المسلمين بإلقاء أخبارهم إليهم {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} أَيْ: يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها يعنون: الجدب فتنقطع عنا الميرة والقرض {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} يعني: لمحمدٍ على جميع مَنْ خالفه {أو أمرٍ من عنده} بقتل المنافقين وهتك سترهم {فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم} يعني: أهل النِّفاق على ما أضمروا من ولاية اليهود ودسِّ الأخبار إليهم {نادمين}

53

{ويقول الذين آمنوا} المؤمنون إذا هتك الله ستر المنافقين: {أهؤلاء} يعنون: المنافقين {الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} حلفوا بأغلظ الأيمان {إنهم لمعكم} إنَّهم مؤمنون وأعوانكم على مَنْ خالفكم {حبطت أعمالهم} بطل كلُّ خيرٍ عملوه بكفرهم {فأصبحوا خاسرين} صاروا إلى النَّار وورث المؤمنون منازلهم من الجنَّة

54

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} علم الله تعالى أنَّ قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيِّهم صلى الله عليه وسلم فأخبرهم تعالى أنَّه س {يأتي اللَّهُ بقوم يحبهم ويحبونه} وهم أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرِّدة {أذلة على المؤمنين} كالولد لوالده والعبد لسيِّده {أعزة على الكافرين} غلاظٍ عليهم كالسَّبع على فريسته {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} كالمنافقين الذين كانوا يرقبون الكافرين ويخافون لومهم في نصرة الدِّين {ذلك فضل الله} أَيْ: محبَّتهم لله عز وجل ولين جانبهم للمسلمين وشدَّتهم على الكفَّار بفضلٍ من الله عليهم

55

{إنما وليكم الله ورسوله} نزلت لمَّا هجر اليهود مَنْ أسلم منهم فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله إنَّ قومنا قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا فنزلت هذه الآية فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء وقوله: {وهم راكعون} يعني: صلاة التَّطوع

56

{ومن يَتَوَلَّ الله ورسوله} يتولَّى القيام بطاعته ونصرة رسوله والمؤمنين {فإنَّ حزب الله} جند الله وأنصار دينه {هم الغالبون} غلبوا اليهود فأجلوهم من ديارهم وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولَّوا اللَّهَ ورسوله

57

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا} الآية نزلت في رجالٍ كانوا يوادُّون منافقي اليهود ومعنى قوله: {اتَّخذوا دينكم هزواً ولعباً} إظهارهم ذلك باللِّسان واستبطانهم الكفر تلاعباً واستهزاءً {والكفار} يعني: مشركي العرب وكفَّار مكَّة {واتقوا الله} فلا تتَّخذوا منهم أولياء {إن كنتم مؤمنين} بوعده ووعيده

58

{وإذا ناديتم إلى الصلاة} دعوتم الناس بالأذان {اتخذوها هزواً ولعباً} تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السُّخف والمجون تجهيلاً لأهلها {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} مالهم في إجابتها لو أجابوا إليها وما عليهم في استهزائهم بها

59

{قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا} الآية (أي: هل تنكرون وتكرهون) [أتي نفرٌ من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمَّن يُؤمن به من الرُّسل؟ فقال: أؤمنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ منهم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] فلمَّا ذكر عيسى جحدوا نبوَّته وقالوا: ما نعلم ديناً شرَّاً من دينكم فأنزل الله تعالى: {هل تنقمون} أَي: هل تكرهون وتنكرون منا إلا إيمانا وفسقكم أَيْ: إنَّما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حقٍّ لأنَّكم قد فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبَّتكم الرِّئاسة وكسبكم بها الأموال وتقدير قوله: {وأنًّ أكثركم فاسقون} ولأنَّ أكثركم والواو زائدةٌ والمعنى: لفسقكم نقمتم علينا الإِيمان وقوله:

60

{قل هل أنبئكم} أخبركم جوابٌ لقول اليهود: ما نعرف أهل دين شراً منكم فقال الله: {هل أنبئكم} أخبركم {بشرٍّ من} ذلكم المسلمون الذين طعنتم عليهم {مثوبة} جزاءً وثواباً {عند الله مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أَيْ: هو مَنْ لعنه الله: أبعده عن رحمته {وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} يعني: أصحاب السَّبت {وعبد الطاغوت} نسقٌ على {لعنه الله} وعبد الطاغوت أطاع الشَّيطان فيما سوَّله له {أولئك شر مكاناً} لأنَّ مكانهم سَقَر {وأضل عن سواء السبيل} قصد الطَّريق وهو دين الحنيفيَّة فلمَّا نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير فسكتوا وافتضحوا

61

{وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} يعني: منافقي اليهود {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أَيْ: دخلوا وخرجوا كافرين والكفر معهم في كِلْتي حالهم

62

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يجترئون على الخطأ والظُّلم ويبادرون إليه {وأكلهم السُّحت} ما كانوا يأخذونه من الرَّشا على كتمان الحقِّ ثمَّ ذمَّ فعلهم بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يعملون}

63

{لولا} هلاَّ {ينهاهم} عن قبح فعلهم {الربانيون والأحبار} علماؤهم وفقهاؤهم {لبئس ما كانوا يصنعون} حين تركوا النَّكير عليهم

64

{وقالت اليهود يد الله مغلولة} مقبوضةٌ عن العطاء وإسباغ النِّعم علينا قالوا هذا حين كفَّ الله تعالى عنهم بكفرهم بمحمَّد عليه السَّلام ما كان يسلِّط عليهم من الخِصب والنِّعمة فقالوا - لعنهم الله على جهة الوصف بالبخل -: {يد الله مغلولة} وقوله: {غلت أيديهم} أَيْ: جعلوا بخلاء وأُلزموا البخل فهم أبخل قوم {ولعنوا بما قالوا} عُذِّبوا في الدُّنيا بالجِزية (والذلَّة والصَّغار والقحط والجلاء) وفي الآخرة بالنَّار {بل يداه مبسوطتان} قيل: معناه: الوصف بالمبالغة في الجود والإِنعام وقيل معناه: نعمه مبسوظة ودلَّت التَّثنية على الكثرة كقولهم: (لبيك وسعديك) وقيل: معمتاه: أَيْ: نعمة الدُّنيا ونعمة الآخرة {مبسوطتان ينفق كيف يشاء} يرزق كما يريد إن شاء قتَّر وإنْ شاء وسَّع {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربك طغياناً وكفراً} كلَّما أنزل عليك شيءٌ من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} بين طوائف اليهود وجعلهم الله مختلفين متباغضين كما قال {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى} {كلما أَوْقَدُوا ناراً للحرب أطفأها الله} كلَّما أرادوا محاربتك ردَّهم الله وألزمهم الخوف {ويسعون في الأرض فساداً} يعني: يجتهدون في دفع الإِسلام ومحو ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كتبهم

65

{ولو أنَّ أهل الكتاب آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {واتقوا} اليهوديَّة والنصرانيَّة {لكفَّرنا عنهم سيئاتهم} كلَّ ما صنعوا قبل أن تأتيهم

66

{ولو أنهم أقاموا التوراة والإِنجيل} عملوا بما فيهما من التَّصديق بك {وما أنزل إليهم} من كتب أنبيائهم {لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} لأنزلتُ عليهم القطر وأخرجتُ لهم من نبات الأرض كلَّما أرادوا {منهم أمة مقتصدة} مؤمنةٌ

67

{يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: لا تراقبنَّ أحداً ولا تتركنَّ شيئاً ممَّا أُنزل إليك تخوُّفاً مِنْ أَنْ ينالك مكروهٌ بلِّغ الجميع مجاهراً به {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} إنْ كتمت آية ممَّا أنزلتُ إليك لم تبلِّغ رسالتي يعني: إنَّه إنْ ترك بلاغ البعض كان كمَنْ لم يُبلِّغ {والله يعصمك من الناس} أن ينالوك بسوء قال المفسرون: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفَّار وكان لا يُجاهرهم بعيب دينهم وسبِّ آلهتهم فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فقال: يارب كيف أصنع وأنا واحدٌ أخاف أن يجتمعوا عليَّ؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القوم الكافرين} لا يرشد مَنْ كذَّبك

68

{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} من الدِّين {حتى تُقيموا} حتى تُعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته وباقي الآية مضى تفسيره إلى قوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يقول: لا تحزن على أهل الكتاب إنْ كذَّبوك

69

{إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا} سبق تفسيره في سورة البقرة

70

قال تعالى {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون}

71

{وحسبوا أن لا تكون فتنة} ظنُّوا وقدَّروا إلا تقع بهم عقوبة وعذابٌ في الإِصرار على الكفر بقتل الأنبياء وتكذيب الرُّسل {فعموا وصموا} عن الهدى فلم يعقلوه {ثمَّ تاب الله عليهم} بإرسال محمدا صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الصِّراط المستقيم {ثمَّ عموا وصموا كثيرٌ منهم} بعد تبيُّن الحقِّ لهم بمحمَّد عليه السَّلام {والله بصيرٌ بما يعملون} من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل

72

قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}

73

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثة} أَيْ: ثالث ثلاثةٍ من الآلهة والمعنى: أنَّهم قالوا: اللَّهُ واحدُ ثلاثةِ آلهة: هو والمسيح ومريم فزعموا أنَّ الإِلهيَّة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة فكفروا بذلك

74

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خلت من قبله الرسل} أَيْ: إنه رسول ليس بآلهة كما أنَّ مَنْ قبله كانوا رسلاً {وأمه صديقة} صدَّقت بكلمات ربِّها وكتبه {كانا يأكلان الطعام} يريد: هما لحمٌ ودمٌ يأكلان ويشربان ويبولان ويتغوَّطان وهذه ليست من أوصاف الإِلهيَّة {انظر كيف نبيِّن لهم الآيات} نفسِّر لهم أمر ربوبيتي {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يؤفكون} يُصرفون عن الحقِّ الذي يؤدِّي إليه تدبُّر الآيات

75

قال تعالى {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثم انظر أنى يؤفكون}

76

{قل} للنَّصارى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً} يعني: المسيح لأنَّه لا يملك ذلك إلاَّ الله عز وجل {والله هو السميع} لكفركم {العليم} بضميركم

77

{قل يا أهل الكتاب} يعني: اليهود والنَّصارى {لا تغلوا في دينكم} لا تخرجوا عن الحدِّ في عيسى وغُلوُّ اليهود فيه بتكذيبهم إيَّاه ونسبته إلى أنه لغير رشدة وغلوا النصارى فيه ادِّعاؤهم الإِلهيَّة له وقوله: {غير الحق} أَيْ: مخالفين للحق {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قبل} يعني: رؤساهم الذين مضوا من الفريقين أَيْ: لا تتبعوا أسلافكم فيما ابتدعوه بأهوائهم {وضلوا عن سواء السبيل} عن قصد الطَّريق بإضلالهم الكثير

78

{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل} يعني: أصحاب السَّبت وأصحاب المائدة {على لسان داود} لأنَّهم لمَّا اعتدوا قال داود عليه السَّلام: اللَّهم العنهم واجعلهم آيةً لخلقك فمسخوا قردة على لسان داود {وعيسى ابن مريم} عليه السَّلام لأنَّه لعن مَنْ لم يؤمن من أصحاب المائدة فقال: اللهم العنهم كما لعنتَ السَّبت فمسخوا خنازير

79

{كانوا لا يتناهون} لا ينتهون {عن منكر فعلوه}

80

{ترى كثيراً منهم} من اليهود {يتولون الذين كفروا} كفَّار مكة {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ الله عليهم} بئسما قدَّموا من العمل لمعادهم في الآخرة سُخطَ الله عليهم

81

قال تعالى {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فاسقون}

82

{لتجدنَّ} يا محمد {أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود} وذلك أنَّهم ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيِّ عليه السَّلام {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنا نصارى} يعني: النَّجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يرد جميع النَّصارى {ذلك} يعني: قرب المودَّة {بأنَّ منهم قسيسين ورهباناً} أَيْ: علماء بوصاة عيسى بالإِيمان بمحمَّد عليه السَّلام {وأنهم لا يستكبرون} عن اتِّباع الحقِّ كما يستكبر اليهود وعبدة الأوثان

83

{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} يعني: النجاشيَّ وأصحابه قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة (كهعيص) فما زالوا يبكون وهو قوله: {ترى أعينهم تَفيضُ من الدمع ممَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} يريد: الذي نزل على محمَّد وهو الحقُّ {يقولون ربنا آمنا} وصدَّقنا {فاكتبنا مع الشاهدين} مع أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق

84

{وما لنا لا نؤمن بالله} أَيْ: أيُّ شيءٍ لنا إذا تركنا الإِيمان بالله {وما جاءنا من الحق} أَيْ: القرآن {و} نحن {نطمع أن يدخلنا ربنا} الحنة مع أمَّة محمَّد عليه السَّلام يعنون: أنَّهم لا شيء لهم إذا لم يؤمنوا بالقرآن ولا يتحقق طمعهم في دخول الجنَّة

85

{فأثابهم الله بما قالوا} يعني: بما سألوا الله من قولهم: {فاكتبنا مع الشاهدين} وقولهم: {ونطمع أن يدخلنا ربنا} الآية {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وذلك} أي: الثَّواب {جزاء المحسنين} الموحِّدين ثمَّ ذكر الوعيد لمَنْ كفر من أهل الكتاب وغيرهم فقال:

86

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}

87

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لكم} هَمَّ قومٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم تعاهدوا أن يحرِّموا على أنفسهم المطاعم الطَّيِّبة وأن يصوموا النَّهار ويقوموا اللَّيل ويُخْصُوا أنفسهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وسمَّى الخِصاء اعتداءً فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله إنَّا كنَّا قد حلفنا على ذلك فنزلت:

88

قال تعالى {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا الله الذي أنتم به مؤمنون}

89

{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} وفسَّرْنا هذا في سورة البقرة {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} وهو أن يقصد الأمر فيحلف بالله ويعقد عليه اليمين بالقلب متعمِّداً {فكفارته} إذا حنثتم {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} لكلِّ مسكين مدٌّ وهو رطلٌ وثلث وهو قوله: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} لأنَّ هذا القدر وسط في الشِّبع وقيل: من خير ما تطعمون أهليكم كالحنطة والتمر {أو كسوتهم} وهو أقلُّ ما يقع عليه اسم الكسوة من إزارٍ ورداءٍ وقميصٍ {أو تحرير رقبة} يعني: مؤمنة والمُكفِّر في اليمين مُخيَّر بين هذه الثَّلاث {فمن لم يجد} يعني: لم يفضل من قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم عشرة مساكين {ف} عليه {صيام ثلاثة أيام} {واحفظوا أيمانكم} فلا تحلفوا واحفظوها عن الحنث

90

{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر} يعني: الأشربة التي تخمَّر حتى تشتدَّ وتُسْكِر {والميسر} القمار بجميع أنواعه {والأنصاب} الأوثان {والأزلام} قداح الاستقسام التي ذُكرت في أوَّل السُّورة {رجسٌ} قذرٌ قبيحٌ {من عمل الشيطان} ممَّا يسِّوله الشِّيطان لبني آدم {فاجتنبوه} كونوا جانباً منه

91

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والبغضاء في الخمر والميسر} وذلك لما يحصل بين أهلها من العداوة والمقابح والإِقدام على ما يمنع منه العقل {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} لأنَّ مَن اشتغل بهما منعاه عن ذكر الله والصَّلاة {فهل أنتم منتهون} (استفهامٌ بمعنى الأمر) قالوا: انتهينا ثم أمر بالطاعة فقال:

92

{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا} المحارم والمناهي {فإن توليتم} عن الطَّاعة {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} فليس عليه إلاَّ البلاغ فإن أطعتم وإلاَّ استحققتم العقاب فلمَّا نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربونها ويأكلون الميسر؟ فنزل:

93

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فيما طعموا} من الخمر والميسر قبل التحريم {إذا ما اتقوا} المعاصي والشِّرك {ثمَّ اتقوا} داموا على تقواهم {ثم اتقوا} ظلم العباد مع ضمِّ الإِحسان إليه

94

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} كان هذا عام الحديبية كانت الوحش والطيَّر تغشاهم في رحالهم كثيرة وهم مُحْرِمون ابتلاءً من الله تعالى {تناله أيديكم} يعني: الفراخ والصِّغار {ورماحكم} يعني: الكبار {ليعلم الله} ليرى الله {مَنْ يخافه بالغيب} أَيْ: مَنْ يخاف الله ولم يره {فمن اعتدى} ظلم بأخذ الصَّيد {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد النَّهي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

95

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} حرم الله الصَّيد على المُحْرِم فليس له أن يتعرَّض للصَّيد بوجهٍ من الوجوه ما دام مُحرماً {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أَيْ: فعليه جزاءٌ مماثل للمقتول من النَّعم في الخِلقة ففي النَّعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفي الضَّبع كبش على هذا التَّقدير {يحكم به ذوا عدل} يحكم في الصيد رجلان صالحان {منكم} من أهل ملَّتكم فينظران إلى أشبه الأشياء به من النَّعم فيحكمان به {هدياً بالغ الكعبة} أَيْ: مثل ذلك {صياماً} والمُحرِم إذا قتل صيداً كان مخيَّراً إن شاء جزاه بمثله من النَّعم وإن شاء قوَّم المثل دراهم ثمَّ الدراهم طعاماً ثمَّ يتصَّدق به وإن شاء صام عن كلِّ مدٍّ يوماً {ليذوق وبال أمره} جزاء ما صنع {عفا الله عما سلف} قبل التَّحريم {ومن عاد فينتقم الله منه} مَنْ عاد إلى قتل الصَّيد مُحرماً حُكم عليه ثانياً وهو بصدد الوعيد {والله عزيز} منيع {ذو انتقام} من أهل معصيته

96

{أحلَّ لكم صيد البحر} ما أُصيب من داخله وهذا الإِحلالُ عامٌّ لكلِّ أحد مُحرِماً كان أو مُحِلاًّ {وطعامه} وهو ما نضب عنه الماء ولم يُصَد {متاعاً لكم وللسيارة} منفعة للمقيم والمسافر يبيعون ويزودون منه ثمَّ أعاد تحريم الصَّيد في حال الإِحرام فقال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا واتقوا الله الذي إليه تحشرون} خافوا الله الذي إليه تبعثون

97

{جعل الله الكعبة البيت الحرام} يعني: البيت الذي حرَّم أن يصاد عنده ويختلى للحجِّ وقضاء النُّسك {والشهر الحرام} يعني: الأشهر الحرم فذكر بلفظ الجنس {والهدي والقلائد} ذكرناه في أولَّ السورة وهذه الجملة ذُكرت بعد ذكر البيت لأنَّها من أسباب الحج فذكرت معه {ذلك} أَيْ: ذلك الذي أنبأتكم به في هذه السُّورة من أخبار الأنبياء وأحوال المنافقين واليهود وغير ذَلِكَ {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات} الآية أَيْ: يدلُّكم ذلك على أن لا يخفى عليه شيء

98

قال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غفور رحيم}

99

قال تعالى {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تبدون وما تكتمون}

100

{قل لا يستوي الخبيث والطيب} أَيْ: الحرام والحلال {ولو أعجبك كثرة الخبيث} وذلك عن أهل الدُّنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدُّنيا

101

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبدَ لكم تسؤكم} نزلت حين سُئل النبيُّ حتى أحفوه بالمسألة فقام مُغضباً خطيباً وقال: لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلاَّ أخبرتكموه فقام رجلٌ من بني سهم يطعن في نسيه فقال: مَنْ أبي؟ فقال: أبوك حذافة وقام آخر فقال: أين أنا؟ فقال: في النَّار فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهاهم أن يسألوه عمَّا يُحزنهم جوابه وإبداؤه كسؤالِ مَنْ سأل عن موضعه فقال: في النَّار {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} أيْ عن أشياء {حِينَ ينزل القرآن} فيها {تُبدَ لكم} يعني: ما ينزل فيه القرآن من فرضٍ أو نهيٍ أو حكمٍ ومسَّت الحاجة إلى بيانه فإذا سالتم عنها حينئذٍ تبدى لكم {عفا الله عنها} أَيْ: عن مسألتكم ممَّا كرهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا حاجة بكم إلى بيانه نهاهم أن يعودوا إلى مثل ذلك وأخبر أنَّه عفا عمَّا فعلوا {والله غفورٌ حليم} لا يعجل بالعقوبة ثمَّ أخبرهم عن حال مَنْ تكلَّف سؤال ما لم يُكلَّفوا فقال:

102

{قد سألها} أَي: الآيات {قومٌ من قبلكم} الآية يعني: قوم عيسى سألوا المائدة ثمَّ كفروا بها وقوم صالح سألوا النَّاقة ثمَّ عقروها

103

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} أَيْ: ما أوجبها ولا أمر بها والبحيرة: النَّاقة إذا نُتجت خمسة أبطن شقُّوا أُذنها وامتنعوا من ركوبها وذبحها {ولا سائبة} هو ما كانوا يُسيبِّونه لآلهتهم في نذرٍ يلزمهم إنْ شفي مريض أو قضيت لهم حاجة {ولا وصيلة} كانت الشَّاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذَّكر لآلهتهم {ولا حامٍ} إذا نُتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلم يُركب ولم يُنتفع وسيِّب لأصنامهم فلا يُحمل عليه {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} يتقوَّلون على الله الأباطيل في تحريم هذه الأنعام وهم جعلوها مُحرَّمة لا الله {وأكثرهم} يعني: أتباع رؤسائهم الذين سنُّوا لهم تحريم هذه الأنعام {لا يعقلون} أنَّ ذلك كذبٌ وافتراءٌ على الله من الرُّؤساء

104

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في القرآن من تحليل ما حرَّمتم {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} من الدين {أو لو كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} مفسَّرة في سورة البقرة

105

{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} احفظوها من ملابسة المعاصي والإِصرار على الذّنوب {لا يضرُّكم مَنْ ضلَّ} من أهل الكتاب {إذا اهتديتم} أنتم {إلى الله مرجعكم جميعاً} مصيركم ومصير مَنْ خالفكم {فينبئكم بما كنتم تعملون} يُجازيكم بأعمالكم

106

{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} نزلت هذه الآية في قصّة تميمٍ وعديٍّ وبُديلٍ خرجوا تجاراً إلى الشَّام فمرض بُديل ودفع إليهما متاعه وأَوصى إليهما أن يدفعاه إلى أهله إذا رجعا فأخذا من متاعه إناءً من فِضَّة وردَّا الباقي إلى أهله فعلموا بخيانتهما ورفعوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآيات ومعنى الآية: ليشهدكم {إذا حضر أحدكم الموت} وأردتم الوصية {اثنان ذوا عدل منكم} من أهل ملَّتكم تشهدونهما على الوصية {أو آخران من غيركم} من غير دينكم إذا {ضربتم} سافرتم {في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} علم الله أنَّ من النَّاس مَنْ يسافر فيصحبُهُ في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ويحضره الموت فلا يجد مَنْ يُشهده على وصيته من المسلمين فقال: {أو آخران من غيركم} فالذِّميان في السَّفر (خاصَّة) إذا لم يوجد غيرهما (تُقبل شهادتهما في ذلك) وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارتبتُمْ لا نشتري به ثمنا} أي: ارتبتم في شهادتهما وشككتم وخشيتم أن يكونا قد خانا حبستموهما على اليمين بعد صلاة العصر فيحلفان بالله ويقولان في يمينهما: لا نبيع الله بعرضٍ من الدُّنيا ولا نُحابي أحداً في شهادتنا {ولو كان ذا قربى} ولو كان المشهود له ذا قربى {ولا نكتم شهادة الله} أَيْ: الشَّهادة التي أمر الله بإقامتها {إنا إذاً لمن الآثمين} إنْ كتمناها ولمًّا رفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما وذلك أنَّهما كانا نصرانيين وبُديل كان مسلماً فحلفا أنَّهما ما قبضا غير ما دفعا إلى الورثة ولا كتما شيئاً وخلَّى سبيلهما ثمَّ اطُّلِع على الإِناء في أيديهما فقالا: اشتريناه منه فارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل قوله:

107

{فإن عثر} أَيْ: ظهر واطلع {على أنهما استحقا إثماً} أَيْ: استوجباه بالخيانة والحنث في اليمين {فآخران يقومان مقامهما} من الورثة وهم الذين {استحق عليهم} أَيْ: استحق عليهم الوصية أو الإِيصاء وذلك أنَّ الوصية تستحق على الورثة {الأوليان} بالميت أَيْ: الأقربان إليه والمعنى: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذِّميِّيْن وكذبهما وتبديلهما وهو قوله: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحقٌّ من شهادتهما} أَيْ: يميننا أحقُّ من يمينهما {وما اعتدينا} فيما قلنا فلمَّا نزلت هذه الآية قام اثنان من ورثة الميِّت فحلفا بالله أنَّهما خانا وكذبا فدفع الإناء إلى أولياء الميت

108

{ذلك} أَيْ: ما حَكم به في هذه القصَّة وبيَّنه من ردِّ اليمين {أدنى} إلى الإِتيان بالشَّهادة على ما كانت {أو يخافوا} أَيْ: أقرب إلى أن يخافوا {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} على أولياء الميِّت بعد أيمان الأوصياء فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا {واتقوا الله} أن تحلفوا أيماناً كاذبةً أو تخونوا أمانةً {واسمعوا} الموعظة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي القوم الفاسقين} لايرشد مَنْ كان على معصيته

109

{يوم يجمع الله الرسل} أَيْ: اذكروا ذلك اليوم {فيقول} لهم: {ماذا أُجِبْتُمْ} ما أجابكم قومكم في التَّوحيد؟ {قالوا لا علم لنا} من هول ذلك اليوم يذهلون عن الجواب ثمَّ يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم فيشهدون لمن صدَّقهم وعلى مَنْ كذَّبهم

110

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} مضى تفسير الآية إلى قوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ} أَيْ: عن قتلك

111

{وإذ أوحيت إلى الحواريين} أَيْ: ألهمتهم

112

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هل يستطيع ربك} لم يشكُّوا في قدرته ولكنْ معناه: هل يقبل ربُّك دعاءَك وهل يسهل لك إنزال مائدة علينا من السَّماء عَلَماً لك ودلالةً على صدقك؟ فقال عيسى: {اتقوا الله} أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم

113

{قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أَيْ: نريد السُّؤال من أجل هذا {وتطمئن قلوبنا} نزداد يقيناً بصدقك {ونكون عليها من الشاهدين} لله بالتَّوحيد ولك بالنُّبوة وقوله

114

{تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} أَيْ: نتّخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً نُعظِّمه نحن ومَنْ يأتي بعدنا {وآيةً منك} دلالةً على توحيدك وصدق نبيِّك {وارزقنا} عليها طعاماً نأكله وقوله:

115

{فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} أَيْ: بعد إنزال المائدة {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا من العالمين} أراد: جنساً من العذاب لا يُعذَّب به غيرهم من علمي زمانهم

116

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} واذكر يا مُحمَّدُ حين يقول الله تعالى يوم القيامة: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دون الله} هذا استفهامٌ معناه التُّوبيخ لمن ادَّعى ذلك على المسيح ليكِّذبهم المسيح فتقوم عليهم الحجَّة {قال سبحانك} أَيْ: براءتك من السُّوء {تعلم ما في نفسي} أَيْ: ما في سرِّي وما أضمره {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أَيْ: ما تخفيه أنت وما عندك علمه ولم تُطلعنا عليه وقوله:

117

{وكنتُ عليهم شهيداً} أَيْ: كنت أشهد على ما يفعلون ما كنتُ مقيماً فيهم {فلما توفيتني} يعني: رفعتني إلى السَّماء {كنت أنت الرقيب} الحفيظ {عليهم وأنت على كلِّ شيء شهيد} أَيْ: شهدت مقالتي فيهم وبعد ما رفعتني شهدتَ ما يقولون من بعدي

118

{إن تعذبهم} أَيْ: من كفر بك {فإنهم عبادك} وأنت العادل فيهم {وإن تغفر لهم} أَيْ: مَنْ تاب منهم وآمن فأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد حكيم في ذلك

119

{قال الله هذا يوم} يعني: يوم القيامة {ينفع الصادقين} في الدُّنيا {صدقهم} لأنَّه يوم الإِثابة والجزاء {رضي الله عنهم} بطاعته {ورضوا عنه} بثوابه {ذلك الفوز العظيم} لأنهم فازوا بالجنَّة

120

{لله ملك السماوات والأرض} عظَّم نفسه عمَّا قالت النصارى: إنَّ معه إلهاً

سورة الأنعام

{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} وخلق اللَّيل والنَّهار {ثمًّ الذين كفروا} بعد قيام الدَّليل على وحدانيَّته بما ذكر من خلقه {بربهم يعدلون} الحجارةَ والأصنام فيعبدونها معه 0

2

{هو الذي خلقكم من طين} يعني: آدم أبا البشر {ثُمَّ قَضَى أَجَلا} يعني: أجل الحياة إلى الموت {وأجل مسمى عنده} من الممات إلى البعث {ثم أنتم} أيُّها المشركون بعد هذا {تمترون} تشكُّون وتكذِّبون بالبعث يريد إنَّ الذي ابتدأ الخلق قادرٌ على إعادته

3

{وهو الله} أَي: المعبود المعظَّم المتفرِّد بالتَّدبير {في السماوات وفي الأرض}

4

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} الدَّالَّة على وحدانيَّته كما ذكر من خلق آدم وخلق اللَّيل والنَّهار {إلاَّ كانوا عنها معرضين} تاركين التًّفكُّر فيها

5

{فقد كذبوا} يعني: مشركي أهل مكة {بالحق لما جاءهم} يعني: القرآن {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: أخبار استهزائهم وجزاؤه

6

{ألم يروا} يعني: هؤلاء الكفَّار {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} من جيلٍ وأمَّةٍ {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} أعطيناهم من المال والعبيد والأنعام ما لم نُعطكم {وأرسلنا السماء} المطر {عليهم مدراراً} كثير الدَّرِّ وهو إقباله ونزوله بكثرة {فأهلكناهم بذنوبهم} بكفرهم {وأنشأنا} أوجدنا {من بعدهم قرناً آخرين} وهذا احتجاجٌ على منكري البعث

7

{ولو نزلنا عليك} قال مشركو مكَّة: لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من السَّماء جملةً واحدة معاينة فقال الله: {ولو نزلنا عليك كتاباً} أَيْ: مكتوباً {في قرطاس} يعني: الصَّحيفة {فلمسوه بأيديهم} فعاينوا ذلك مُعاينةً ومسُّوه بأيديهم {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أخبر الله تعالى أنَّهم يدفعون الدَّليل حتى لو رأوا الكتاب ينزل من السَّماء لقالوا: سحر

8

{وقالوا: لولا أنزل عليه ملك} طلبوا ملكاً يرونه يشهد له بالرِّسالة فقال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} لأُهلكوا بعذاب الاستئصال كسُنَّة مَنْ قبلهم ممَّن طلبوا الآيات فلم يؤمنوا {ثم لا ينظرون} لا يُمهلون لتوبةٍ ولا لغير ذلك

9

{ولو جعلناه ملكاً} أيْ: ولو جعلنا الرَّسول الذي ينزل عليهم ليشهدوا له بالرِّسالة مَلَكاً كما يطلبون {لجعلناه رجلاً} لأنَّهم لا يستطيعون أن يروا المَلَك في صورته لأنَّ أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة ولذلك كان جبريل عليه السَّلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبيِّ {وللبسنا عليهم ما يلبسون} ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكُّوا فلا يدروا أمَلَكٌ هو أم آدميٌّ أَيْ: فإنَّما طلبوا حال لبسٍ لا حال بيانٍ ثمَّ عزَّى الله نبيَّه عليه السَّلام بقوله:

10

{ولقد استهزئ برسل من قبلك} وكُذِّبوا ونُسبوا إلى السّحر {فحاق} فحلَّ ونزل {بالذين سخروا} من الرُّسل {ما كانوا به يستهزئون} من العذاب وينكرون وقوعه

11

{قل} لهم يا محمد: {سيروا في الأرض} سافروا في الأرض {ثم انظروا} فاعتبروا {كيف كان عاقبة} مُكذِّبي الرُّسل يعني: إذا سافروا رأوا آثار الأمم الخالية المهلكة يحذِّرهم مثلَ ما وقع بهم

12

{قل لمن ما في السماوات والأرض} فإن أجابوك وإلاَّ {قل لله كتب على نفسه الرحمة} أوجب على نفسه الرَّحمة وهذا تلطُّفٌ في الاستدعاء إلى الإنابة {ليجمعنكم} أي: والله ليجمعنكم {إلى يوم القيامة} أَيْ: ليضمنَّكم إلى هذا اليوم الذي أنكرتموه وليجمعنَّ بينكم وبينه ثمَّ ابتدأ فقال: {الذين خسروا أنفسهم} أهلكوها بالشِّرك {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}

13

{وله ما سكن في الليل والنهار} أَيْ: ما حلَّ فيهما واشتملا عليه يعني: جميع المخلوقات

14

{قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض} خالقهما ابتداءً {وهو يطعم ولا يطعم} يَرزق ولا يرزق

15

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يوم عظيم}

16

{من يصرف عنه} أَي: العذاب {يومئذ} يوم القيامة {فقد رحمه} فقد أوجب الله له الرَّحمة لا محالة

17

{وإن يمسسك الله بضر} أيْ: إنْ جعل الضُّرَّ وهو المرض والفقر يمسُّك

18

{وهو القاهر} القادر الذي لا يعجزه شيء {فوق عباده} أَيْ: إنَّ قهره قد استعلى عليهم فهم تحت التَّسخير

19

{قل أي شيء أكبر شهادة} قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بمَنْ يشهد لك بالنُّبوَّة فإنَّ أهل الكتاب ينكرونك فنزلت هذه الآية أمر الله تعالى محمداً عليه السَّلام أن يسألهم ثمَّ أمر أن يخبرهم فيقول: {اللَّهُ شَهِيدٌ بيني وبينكم} أَي: الله الذي اعترفتم بأنه خالق السماوات والأرض والظُّلمات والنُّور يشهد لي بالنُّبوَّة بإقامة البراهين وإنزال القرآن عليَّ {وأوحي إلي هذا القرآن} المُعجز بلفظه ونظمه وأخباره عمَّا كان ويكون {لأنذركم} لأخوِّفكم {به} عقاب الله على الكفر {ومَنْ بلغ} يعني: ومَنْ بلغه القرآن من بعدكم فكلُّ مَنْ بلغه القرآن فكأنما رأى محمد عليه السَّلام قل {أإنكم لتشهدون أنَّ مع الله آلهة أخرى} استفهام معناه الجحد والإِنكار {قل لا أشهد} الآية

20

{الذين آتيناهم الكتاب} مفسَّرة في سورة البقرة

21

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: لا أحد أظلم ممَّن اختلق على الله كذباً يعني: الذين ذكرهم في قوله: {وإذا فعلوا فاحشة} الآية {أو كذَّب بآياته} بالقرآن وبمحمد عليه السَّلام {إنه لا يفلح الظالمون} لا يسعد مَنْ جحد ربوبيَّة ربِّه وكذَّب رسله وهم الذين ظلموا أنفسهم بإهلاكها بالعذاب

22

{ويوم} واذكر يوم {نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شركاؤكم} أصنامكم وآلهتكم {الذين كنتم تزعمون} أنَّها تشفع لكم وهذا سؤال توبيخ

23

{ثم لم تكن فتنتهم} أَيْ: لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان وحبِّهم لها {إلاَّ أن} تبرَّؤوا منها فـ {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}

24

{انظر} يا محمد {كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بجحد شركهم في الآخرة {وضلَّ} وكيف ضلَّ ذلك: زال وبطل {عنهم ما كانوا يفترون} بعبادته من الأصنام

25

{ومنهم} ومن الكفَّار {من يستمع إليك} إذا قرأت القرآن {وجعلنا على قلوبهم أكنَّة} أغطيةً {أن يفقهوهُ} لئلا يفهموه ولا يعلموا الحقَّ {وفي آذانهم وقراً} ثِقلاً وصمماً فلا يعون منه شيئاً ولا ينتفعون به {وإن يروا كلَّ آية} علامة تدل على صدقك {لا يؤمنوا بها} هذا حالهم في البعد عن الإِيمان {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} مخاصمين معك في الدِّين {يقول الذين كفروا} مَنْ كفر منهم: {إن هذا} ما هذا {إلاَّ أساطير الأوَّلين} أحاديث الأمم المتقدمة التي كانوا يسطرونها في كتبهم

26

{وهم ينهون} النَّاس عن اتَّباع محمد {وينأون} ويتباعدون {عنه} فلا يؤمنون به {وإنْ} وما {يهلكون إلاَّ أنفسهم} بتماديهم في معصية الله تعالى {وما يشعرون} وما يعلمون ذلك

27

{ولو ترى} يا محمد {إذ وقفوا على النار} أَيْ: حُبسوا على الصِّراط فوق النَّار {فقالوا يا ليتنا نرد} تمنَّوا أن يردُّوا إلى الدُّنيا فيؤمنوا وهو قوله: {ولا نكذب} أَيْ: ونحن لا نكذِّب {بآيات ربنا} بعد المعاينة {ونكون من المؤمنين} ضمنوا أنْ لا يُكذِّبوا ويؤمنوا فقال الله تعالى:

28

{بل} ليس الأمر على ما تمنَّوا في الردِّ {بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} وهو أنَّهم أنكروا شركهم فأنطق الله سبحانه جوارحهم حتى شهدت عليهم بالكفر والمعنى: ظهرت فضيحتهم في الآخرة وتهتكت أستارهم {ولو ردوا لعادوا لما نهوا} إلى ما نُهوا {عنه} من الشِّرك للقضاء السَّابق فيهم بذلك وأنَّهم خلقوا للشَّقاوة {وإنهم لكاذبون} في قولهم: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ ربنا}

29

{وقالوا} يعني: الكفار {إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا} أنكروا البعث

30

{ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} عرفوا ربَّهم ضرورة وقيل: وقفوا على مسألة ربِّهم وتوبيخه إيَّاهم ويؤكِّد هذا قوله: {أليس هذا بالحق} أَيْ: هذا البعث فيقرُّون حين لا ينفعهم ذلك ويقولون: {بلى وربنا} فيقول الله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كنتم تكفرون} بكفركم

31

{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} بالبعث والمصير إلى الله {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} فجأة {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} قصَّرنا وضيَّعنا عمل الآخرة في الدُّنيا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} أثقالهم وآثامهم {على ظهورهم} وذلك أنَّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله عمله أقبح شيءٍ صورةً وأخبثه ريحاً فيقول: أنا عملك السَّيِّىء طال ما ركبتني في الدُّنيا فأنا أركبك اليوم {ألا ساء ما يزرون} بئس الحمل ما حملوا

32

{وما الحياة الدنيا إلاَّ لعبٌ ولهو} لأنَّها تفنى وتنقضي كاللَّهو واللَّعب تكون لذَّةً فانيةً عن قريبٍ {وللدار الآخرة} الجنَّة {خير للذين يتقون} الشِّرك {أفلا تعقلون} أنَّها كذلك فلا تَفْتُروا في العمل لها ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم على تكذيب قريش إيَّاه فقال:

33

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} في العلانيَة: إنَّك كذَّابٌ ومُفترٍ {فإنهم لا يكذبونك} في السرِّ قد علموا صدقك {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} بالقرآن بعد المعرفة نزلت في المعاندين الذين تركوا الانقياد للحقِّ كما قال عز وجل: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} افلآيه

34

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} رجاء ثوابي {وأوذوا} حتى نشروا بالمناشير وحرِّقوا بالنَّار {حتى أتاهم نصرنا} معونتنا إيَّاهم بإهلاكِ مَنْ كذَّبهم {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لا ناقِضَ لحكمه وقد حكم بنصر الأنبياء في قوله: {كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي} {وَلَقدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} أَيْ: خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودَمَّرنا قومهم

35

{وإن كان كبر} عَظُمَ وثَقُل {عليك إعراضهم} عن الإيمان بك وبالقرآن وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان قومه فكانوا إذا سألوه آيةً أحبًّ أن يريهم ذلك طمعاً في إيمانهم فقال الله عز وجل: {فإن استطعت أن تبتغي} تطلب {نفقاً} سرباً {في الأرض أو سلماً} مصعداً {في السماء فتأتيهم بآية} فافعل ذلك والمعنى: أنَّك بشرٌ لا تقدر على الإِتيان بالآيات فلا سبيل لك إلاَّ الصَّبر حتى يحكم الله {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أَيْ: إنَّما تركوا الإِيمان لسابق قضائي فيهم لو شئت لاجتمعوا على الإِيمان {فلا تكوننَّ من الجاهلين} بأنّه يؤمن بك بعضهم دون بعض وأنَّهم لا يجتمعون على الهدى وغلَّظ الجواب زجراً لهم عن هذه الحال

36

{إنما يستجيب} أَيْ: يُجيبك إلى الإيمان {الذين يسمعون} وهم المؤمنون الذين يستمعون الذِّكر فيقبلونه وينتفعون به والكافر الذي ختم الله على سمعه كيف يصغى إلى الحقِّ؟ {والموتى} يعني: كفَّار مكة {يبعثهم الله ثمَّ إليه يرجعون} يردُّون فيجازيهم بأعمالهم

37

{وقالوا} يعني: رؤساء قريش {لولا} هلاَّ {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يعنون: نزول ملك يشهد له بالنُّبوَّة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} ما عليهم في ذلك من البلاء وهو ما ذكرنا في قوله: {ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر}

38

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يطير بجناحيه} يعني: جميع الحيوانات لأنها لا تخلوا من هاتين الحالتين {إلاَّ أمم أمثالكم} أصناف مصنَّفة تُعرف بأسمائها فكلُّ جنس من البهائم أُمَّةٌ كالطَّير والظِّباء والذُّباب والأُسود وكلُّ صنفٍ من الحيوان أُمَّةٌ مثل بني آدم يعرفون بالإِنس {ما فرَّطنا في الكتاب من شيء} ما تركنا في الكتاب من شيءٍ بالعباد إليه حاجةٌ إلاَّ وقد بيَّناه إمَّا نصّاً وإمَّا دلالة وإمَّا مجملاً وإمَّا مفصَّلاً كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أَيْ: لكلِّ شيء يحتاج إليه من أمر الدِّين {ثم إلى ربهم} أَيْ: هذه الأمم {يحشرون} للحساب والجزاء

39

{والذين كذَّبوا بآياتنا} بما جاء به محمد عليه السَّلام {صمٌّ} عن القرآن لا يسمعونه سماع انتفاع {وبكم} عن القرآن لا ينطقون به ثمَّ أخبر أنَّهم بمشيئته صاروا كذلك فقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراطٍ مستقيم}

40

{قل} يا محمد لهؤلاء المشركين بالله {أرأيتكم} معناه: أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} يريد: الموت {أَوْ أتتكم الساعة} القيامة {أغير الله تدعون} أَيْ: أتدعون هذه الأصنام والأحجار التي عبدتموها من دون الله {إن كنتم صادقين} جوابٌ لقوله: {أرأيتكم} لأنَّه بمعنى أخبروني كأنَّه قيل: إنْ كنتم صادقين أخبروا مَنْ تدعون عند نزول البلاء بكم

41

{بل} أَيْ: لا تدعون غيره {إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه} أَيْ: يكشف الضُّرَّ الذي من أجله دعوتموه {إِنْ شَاءَ وتنسون} وتتركون {ما تشركون} به من الأصنام فلا تدعونه

42

{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} رسلاً فكفروا بهم {فأخذناهم بالبأساء} وهو شدَّة الفقر {والضرَّاء} الأوجاع والأمراض {لعلهم يتضرعون} لكي يتذللَّوا ويتخشعوا

43

{فلولا} فهلاَّ {إذ جاءهم بأسنا} عذابنا {تضرعوا} تذلَّلوا والمعنى: لم يتضرعوا {ولكن قست قلوبهم} فأقاموا على كفرهم {وزيَّن لهم الشيطان} الضَّلالة التي هم عليها فأصروا

44

{فلما نسوا ما ذكروا به} تركوا ما وُعظوا به {فتحنا عليهم أبواب كلِّ شيء} من النِّعمة والسُّرور بعد الضُّرِّ الذي كانوا فيه {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم} في حال فرحهم ليكون أشدَّ لتحسُّرهم {بغتةً فإذا هم مبلسون} آيسون من كلِّ خير

45

{فقطع دابر القوم الذين ظلموا} أنفسهم أَيْ: غابرهم الذي يتخلَّف في آخر القوم والمعنى: استؤصلوا بالهلاك فلم يبق منهم باقية {والحمد لله رب العالمين} على نصر الرُّسل وإهلاك الظَّالمين

46

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} أَيْ: أصمكم وأعمالكم {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} حتى لا تعرفوا شيئاً يعني: أذهب هذه الأعضاء عنكم أصلاً {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أَيْ: بما أخذ عنكم {انظر كيف نصرف} نبين لهم في القرآن {الآيات ثم هم يصدفون} يعرضون عمَّا ظهر لهم

47

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أو جهرة} ليلاً أو نهاراً {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظالمون} الذين جعلوا لله شركاء

48

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يحزنون}

49

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يفسقون}

50

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} التي منها يرزق ويعطي {ولا أعلم الغيب} فأخبركم بعاقبة ما تصيرون إليه {ولا أقول لكم إني ملك} أشاهد من أمر الله ما لا يشاهده البشر {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ: ما أخبركم إلاَّ بما أنزل الله عليَّ {قل هل يستوي الأعمى والبصير} الكافر والمؤمن {أفلا تتفكرون} أَنَّهما لا يستويان

51

{وأنذر به} خوِّف بالقرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} يريد: المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من أهوال {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} يعني: إنَّ الشفاعة إنَّما تكون بإذنه ولا شفيعٌ ولا ناصرٌ لأحدٍ في القيامة إلاَّ بإذن الله {لعلهم يتقون} كي يخافوا في الآخرة وينتهوا عمَّا نهيتهم

52

{ولا تطرد الذين يدعون ربهم} نزلت في فقراء المؤمنين لمَّا قال رؤساء الكفَّار للنبي صلى الله عليه وسلم: نَحِّ هؤلاء عنك لنجالسك ونؤمن بك ومعنى: {يدعون ربهم بالغداة والعشي} يعبدون الله بالصَّلوات المكتوبة {يريدون وجهه} يطلبون ثواب الله {ما عليك من حسابهم} من رزقهم {من شيء} فَتَمَلُّهم وتطردهم {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أَيْ: ليس رزقك عليهم ولا رزقهم عليك وإنَّما يرزقك وإياهم الله الرزاق فدعهم يدنوا منك ولا تطردهم {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} لهم بطردهم

53

{وكذلك فتنا بعضهم ببعض} ابتلينا الغنيّ بالفقير والشَّريف بالوضيع {ليقولوا} يعني: الرُّؤساء {أهؤلاء} الفقراء والضُّعفاء {منَّ الله عليهم من بيننا} أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلةٍ أو خصُّوا بنعمةٍ فقال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} أيْ: إنَّما يهدي إلى دينه مَنْ يعلم أنَّه يشكر

54

{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} يعني: الصَّحابة وهؤلاء الفقراء {فقل سلام عليكم} سلّم عليهم بتحيَّة المسلمين {كتب ربكم على نفسه الرحمة} أوجب الله لكم الرَّحمة إيجاباً مُؤكَّداً {أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة} يريد: إن ذنوبكم حهل ليس بكفرٍ ولا جحود لأنَّ العاصي جاهلٌ بمقدار العذاب في معصيته {ثم تاب من بعده} رجع عن ذنبه {وأصلح} عمله {فأنَّه غفور رحيم}

55

{وكذلك} وكما بينَّا لك في هذه السُّورة دلائلنا على المشركين {نفصل} نبيِّن لك حجَّتنا وأدلتنا ليظهر الحقُّ ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين في شركهم بالله في الدُّنيا وما يصيرون إليه من الخزي يوم القيامة بإخباري إيَّاك

56

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله} الأصنام التي يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} أَيْ: إنَّما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البرهان فلا أتَّبعكم على هواكم {قد ضللت إذاً} إنْ أنا فعلت ذلك {وما أنا من المهتدين} الذين سلكوا سبيل الهدى

57

{قل إني على بينة} يقينٍ وأمرٍ بيِّنٍ {من ربي} لا مُتَّبع لهوىً {وكذبتم به} أَيْ: بربِّي {ما عندي ما تستعجلون به} يعني: العذاب أو الآيات التي اقترحتموها ثمَّ أعلم أنَّ ذلك عنده فقال: {إن الحكم إلاَّ لله يقص الحق} أَيْ: يقول القصص الحقّ ومَنْ قرأ: {يقص الحق} فمعناه: يقضي القضاء الحق {وهو خير الفاصلين} الذين يفصلون بين الحقِّ والباطل

58

{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب لعجلت لكم ولانفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة وهو معنى قوله: {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} هو أعلم بوقت عقوبتهم فهو يؤخِّرهم إلى وقته وأنا لا أعلم ذلك قوله:

59

{وعنده مفاتح الغيب} خزاءن ما غاب عن بني آدم من الرزق ولامطر ونزول العذاب والثَّواب والعقاب {لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر} القفار {والبحر} كلُّ قرية فيها ماءٌ لا يحدث فيهما شيء إلاَّ بعلم الله {وما تسقط من ورقة إلاَّ يعلمها} ساقطة وقبل أنْ سقطت {ولا حبة في ظلمات الأرض} في الثرى تحت الأرض {ولا رطب} وهو ما ينبت {ولا يابس} وهو ما لا ينبت {إلاَّ في كتاب مبين} أثبت الله ذلك كلَّه في كتابٍ قبل أن يخلق الخلق

60

{وهو الذي يتوفاكم بالليل} يقبض أرواحكم في منامكم {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} ما كسبتم من العمل {بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فيه} يردُّ إليكم أرواحكم في النَّهار {ليقضى أجل مسمى} يعني: أجل الحياة إلى الموت أَيْ: لتستوفوا أعماركم المكتوبة

61

{وهو القاهر فوق عباده} مضى هذا {ويرسل عليكم حفظة} من الملائكة يحصون أعمالكم {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أعوان ملك الموت {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} لا يعجزون ولا يُضيِّعون

62

{ثم ردوا} يعني: العباد يُردُّون بالموت {إلى الله مولاهم الحق أَلا لَهُ الْحُكْمُ} أَي: القضاء فيهم {وَهُوَ أسرع الحاسبين} أقدر المجازين

63

{قل من ينجيكم} سؤال توبيخٍ وتقريرٍ أَيْ: إنَّ الله يفعل ذلك {من ظلمات البر والبحر} أهوالهما وشدائدهما {تدعونه تضرعاً وخفية} علانيَةً وسرَّاً {لئن أنجانا من هذه} أَيْ: من هذه الشَّدائد {لنكوننَّ من الشاكرين} من المؤمنين الطَّائعين وكانت قريش تسافر في البر والبحر فإذا ضلُّوا الطَّريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم وهو قوله:

64

{قل الله ينجيكم منها} الآية أعلم الله سبحانه أنَّ الله الذي دعوه هو ينجِّيهم ثمَّ هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنَّها من صَنعتهم وأنَّها لا تضرُّ ولا تنفع والكرب أشدُّ الغمِّ ثمَّ أخبر أنَّه قادر على تعذيبهم فقال:

65

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عذاباً من فوقكم} كالصَّيحة والحجارة والماء {أو من تحت أرجلكم} كالخسف والزَّلزلة {أو يلبسكم شيعاً} يخلطكم فرقاً بأن يبثَّ فيكم الأهواء المختلفة فتخالفون وتقاتلون وهو معنى قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كيف نصرِّف} نُبيِّن لهم {الآيات} في القرآن {لعلهم يفقهون} لكي يعلموا

66

{وكذَّب به} بالقرآن {قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بمسلَّط أَيْ: إنَّما أدعوكم إلى الله ولم أُومر بحربكم ولا أَخْذكم بالإِيمان وهذا منسوخٌ بآية القتال

67

{لكلِّ نبأ مستقر} لكلِّ خبرٍ يخبره الله وقتٌ ومكانٌ يقع فيه من غير خلف {وسوف تعلمون} ما كان منه في الدنيا فتستعرفونه وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لكم يعني: العذاب الذي كان يعدهم في الدُّنيا والآخرة

68

{وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} بالتَّكذيب والاستهزاء {فأعرض عنهم} أمر الله تعالى رسوله عليه السَّلام فقال: إذا رأيت المشركين يُكذِّبون بالقرآن وبك ويستهزئون فاترك مجالستهم {حتى يخوضوا في حديث غيره} حتى يكون خوضهم في غير القرآن {وَإِمَّا ينسينَّك الشيطان} إنْ نسيت فقعدت {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} فقم إذا ذكرت فقال المسلمون: لئن كنَّا كلَّما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فرخَّص للمؤمنين في القعود معهن يُذكِّرونهم فقال:

69

{وما على الذين يتقون} الشِّرك والكبائر {من حسابهم} آثامهم {من شيء ولكن ذكرى} يقول: ذكِّروهم بالقرآن وبمحمَّد فرخَّص لهم بالقعود بشرط التَّذكير والموعظة {لعلَّهم يتقون} لِيُرجى منهم التَّقوى

70

{وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً} يعني: الكفَّار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها {وذكِّر به} وعِظْ بالقرآن {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بما كسبت} تُسلم للهلكة وتحبس في جهَّنم فلا تقدر على التَّخلص ومعنى الآية: وذكرِّهم بالقرآن إسلام الجانين بجناياتهم لعلَّهم يخافون فيتَّقون {وإن تعدل كل عدل} يعني: النَّفس المُبسلة تفدِ كلَّ فداء يعني: تفدِ بالدُّنيا وما فيها {لا يؤخذ منها أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} أُسْلِموا للهلاك {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} وهو الماء الحار

71

{قل أندعوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يضرنا} أنعبد ما لا يملك لنا نفعاً ولا ضرَّاً لأنَّه جماد؟ {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} نردُّ وراءنا إلى الشِّرك بالله فيكون حالنا كحال {كالذي استهوته الشياطين في الأرض} استغوته واستفزَّته الغِيلان في المهانة {حيران} متردِّداً لا يهتدي إلى المحجَّة {له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا} هذا مثَلُ مَنْ ضلَّ بعد الهدى يجيب الشَّيطان الذي يستهويه في المفازة فيصبح في مضلَّة من الأرض يهلك فيها ويعصي مَنْ يدعوه إلى المحجَّة كذلك مَنْ ضلَّ بعد الهدى {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} ردٌّ على مَنْ دعا إلى عبادة الأصنام أَيْ: لا نفعل ذلك لأنَّ هدى الله هو الهدى لا هدى غيره

72

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون}

73

{وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق} أَيْ: بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه وكلُّ ذلك حقٌّ {ويوم يقول} واذكر يا محمَّد يوم يقول للشَّيء {كن فيكون} يعني: يوم القيامة يقول للخلق انتشروا فينتشرون

74

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

75

{وكذلك نري إبراهيم} أَيْ: وكما أرينا إبراهيم استقباح ما كان عليه أبوه من عبادة الأصنام نريه {ملكوت السماوات والأرض} يعني: ملكهما كالشَّمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والبحار أراه الله تعالى هذه الأشياء حتى نظر إليها مُعتبراً مُستدلاًّ بها على خالقها وقوله: {وليكون من الموقنين} عطفٌ على المعنى تقديره: ليستدلَّ بها وليكون من الموقنين

76

{فلما جنَّ} أَيْ: ستر وأظلم {عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} أَيْ: في زعمكم أيُّها القائلون بحكم النَّجم وذلك أنَّهم كانوا أصحاب نجومٍ يرون التدبيرفي الخليقة لها {فلما أفل} أَيْ: غاب {قال لا أحبُّ الآفلين} عرَّفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النُّجوم ودلَّ على أنَّ مَنْ غاب بعد الظُّهور كان حادثاً مُسخَّراً وليس بربٍّ

77

{فلما رأى القمر بازغاً} طالعاً فاحتجَّ عليهم في القمر والشَّمس بمثل ما احتجَّ به عليهم في الكوكب وقوله: {لئن لم يهدني ربي} أَيْ: لئن لم يُثبِّتني على الهدى وقوله للشَّمس:

78

{هذا ربي} ولم يقل هذه لأنَّ لفظ الشَّمس مذكَّرٌ ولأنَّ الشَّمس بمعنى الضياء والنُّور فحمل الكلام على المعنى {هذا أكبر} أَي: من الكوكب والقمر فلمَّا توجَّهت الحجَّة على قومه قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}

79

{إني وجهت وجهي} أَيْ: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل وباقي الآية مفسَّر فيما مضى

80

{وحاجَّة قومه} جادلوه وخاصموه في تركه آلهتهم وعبادة الله وخوَّفوه أن تصيبه آلهتهم بسوء فقال: {أتحاجوني في الله} أَيْ: في عبادته وتوحيده {وقد هدان} بيَّن لي ما به اهتديت {ولا أخاف ما تشركون به} من الأصنام أن تصيبني بسوء {إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً} إني لا أخاف إلاَّ مشيئة الله أن يعذِّبني {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} علمه علماً تاماً {أفلا تتذكرون} تتعظون وتتركون عبادة الأصنام

81

{وكيف أخاف ما أشركتم} يعني: الأصنام أنكر أن يخافها {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ ينزل به عليكم سلطاناً} ما ليس لكم في إشراكه بالله حجَّةٌ وبرهانٌ {فإيُّ الفريقين أحق بالأمن} بأن يأمن العذاب الموحِّدُ أم المشرك؟

82

{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} لم يخلطوا إيمانهم بشركٍ {أولئك لهم الأمن} من العذاب {وهم مهتدون} إلى دين الله

83

{وتلك حجتنا} يعني: ما احتجَّ به عليهم {آتيناها إبراهيم} ألهمنا إبراهيم فأرشدناه إليها {نرفع درجات مَنْ نشاء} مراتبهم بالعلم والفهم ثمَّ ذكر نوحاً ومَنْ هدى من الأنبياء من أولاده إلى قوله:

84

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلَّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}

85

{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}

86

{وكلاً} أَيْ: من المذكورين هاهنا {فضلنا على العالمين} علمي زمانهم

87

{ومن آبائهم} أَيْ: وهدينا بعض آبائهم {وذرياتهم وإخوانهم} فـ من هاهنا للتبغيض

88

{ذلك هدى الله} دين الله الذي هم عليه {يَهْدِي بِهِ مَنْ يشاء} يريد: يرشد إليه مَنْ يشاء {من عباده ولو أشركوا} عبدوا غيري {لحبط} بطل عملهم

89

{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني: الكتب التي أنزلها عليهم {والحكم} العلم والفقه {فإن يكفر بها} أي: بآياتنا {هؤلاء} أهل مكَّة {فقد وكلنا بها} أَيْ: أرصدنا لها {قوماً} وفَّقناهم لها وهم المهاجرون والأنصار

90

{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} يعني: النَّبيِّين الذين تقدَّم ذكرهم {فبهداهم اقتده} أَي: اصبر كما صبروا فإنَّ قومهم كذَّبوهم فصبروا {قل لا أسألكم عليه} على القرآن وتبليغ الرِّسالة {أجراً} مالاً تعطونيه {إن هو} يعني: القرآن {إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} موعظة للخلق أجمعين

91

{وما قدروا الله حق قدره} ما عظَّموا الله حقَّ عظمته وما وصفوه حقَّ صفته {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ من شيء} وذلك أن ليهود أنكروا إنزال الله عزَّ وجل من السَّماء كتاباً إنكاراً للقرآن {قل} لهم يا محمد: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} يعني: التَّوراة {تجعلونه قراطيس} مكتوبة وتودعونه إيَّاها {تبدونها} يعني: القراطيس يبدون ما يحبُّون ويكتمون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} في التَّوراة فضيَّعتموه ولم تنتفعوا به {قل الله} أي: الله أنزله {ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوضهم} إفكهم وحديثهم الباطل {يلعبون} يعملون ما لا يُجدي عليهم

92

{وهذا كتاب} يعني: القرآن {أنزلناه مبارك} كثيرٌ خيره دائمٌ نفعه يبشِّر بالثواب ويزجر عن القبيح إلى ما لا يحصى من بركاته {مصدق الذي بين يديه} موافقٌ لما قبله من الكتب {ولتنذر أم القرى} أهل مكة {ومن حولها} يعني: أهل سائر الآفاق {والذين يؤمنون بالآخرة} إيماناً حقيقياً {يؤمنون به} بالقرآن

93

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} نزلت في مسيلمة والأسود العنسي ادَّعيا النُّبوَّة وأنَّ الله قد أوحى إليهما وهذا معنى قوله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله} يعني: المستهزئون الذين قالوا: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} {ولو ترى} يا محمد {إذ الظالمون} يعني: الذين ذكرهم {في غمرات الموت} شدائده وأهواله {والملائكة باسطوا أيديهم} إليهم بالضَّرب والتَّعذيب {أخرجوا أنفسكم} أَيْ: يقولون ذلك ونفس الكافر تخرج بمشقةٍ وكُرهٍ لأنَّها تصير إلى أشدِّ العذاب والملائكة يكرهونهم على نزع الرُّوح ويقولون: {أخرجوا أنفسكم} كرهاً {اليوم تجزون عذاب الهون} أَي: العذاب الذي يقع به الهوان الشَّديد {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} من أنَّه أوحي إليكم ولم يوح {وكنتم عن آياته تستكبرون} عن الإِيمان بها تتعظَّمون

94

{ولقد جئتمونا فرادى} يقال للكفَّار في الآخرة: جئتمونا فرادى بلا أهل ولا مالٍ ولا شيءٍ قدَّمتموه {كما خلقناكم أول مرة} كما خرجتم من بطون أُمَّهاتكم {وَتَرَكْتُمْ مَا خوَّلناكم} ملَّكناكم وأعطيناكم من المال والعبيد والمواشي {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زعمتم أنَّهم فيكم شركاء} وذلك أنَّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام على أنَّهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده {لقد تقطع بينكم} وصلكم ومودتكم {وضلَّ عنكم} ذهب عنكم {ما كنتم تزعمون} تُكذِّبون في الدُّنيا

95

{إنَّ الله فالق الحبّ} شاقُّة بالنَّبات {والنوى} بالنَّخلة {يخرج الحي من الميت} يخرج النُّطفة بشراً حيّاً {ومُخرج الميت} النُّطفة {من الحيّ} وقيل: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن {ذلكم الله} الذي فعل هذه الأشياء التي تشاهدونها ربكم {فأنى تؤفكون} فمن أين تُصرفون عن الحقِّ بعد البيان!

96

{فالق الإِصباح} شاقُّ عمود الصُّبح عن ظلمة اللَّيل وسواده على معنى أنَّه خالقه ومبديه {وجعل الليل سكناً} للخلق يسكنون فيه سكون الرَّاحة {والشمس والقمر حسباناً} وجعل الشَّمس والقمر بحسبانٍ لا يجاوزانه فيما يدوران في حسابٍ {ذلك تقدير العزيز} في ملكه يصنع ما أراد {العليم} بما قدَّر من خلقهما

97

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لقوم يعلمون}

98

{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} يعني: آدم {فمستقر} أَيْ: فلكم مستقرٌّ في الأرحام {ومستودع} في الأصلاب

99

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} يعني: المطر {فأخرجنا به نبات كلٍّ شيء} يَنبت {فأخرجنا} من ذلك النَّبات {خضراً} أخضر كالقمح والشَّعير والذُّرة وما كان رطباً أخضر مما ينبت من الحبوب {نخرج منه} من الخضر {حباً متراكباً} بعضه على بعض في سنبلةٍ واحدةٍ {ومن النخل من طلعها} أوَّل ما يطلع منها {قنوان} يعني: العراجين التي قد تدلَّت من الطَّلع {دانية} ممَّن يجتنيها يعني: قصار النَّخل اللاَّحقة عذوقها بالأرض {وجنات} أَيْ: وأخرجنا بالماء جنَّات {من أعناب والزيتون} وشجر الزَّيتون {والرمان} وشجر الرُّمان {مشتبهاً} في اللون يعني: الرُّماني {وغير متشابه} في الطَّعم أي: مختلفة في الطَّعم وقيل: مُشتبهاً ورقها مُختلفاً ثمرها {انظروا إلى ثمره} نظر الاستدلال والعبرة أوَّل ما يعقد {وينعه} نضجه {إنَّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} يصدِّقون أنَّ الذي أخرج هذا النَّبات قادرٌ على أن يحيي الموتى

100

{وجعلوا لله شركاء الجن} أطاعوا الشَّياطين في عبادة الأوثان فجعلوهم شركاء لله {وخرقوا له بنين وبنات} افتعلوا ذلك كذباً وكفراً يعني: الذين قالوا: الملائكة بنات الله واليهود والنَّصارى حين دعوا لله ولداً {بغير علم} لم يذكروه عن علمٍ إنَّما ذكروه تكذُّباً وقوله:

101

{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحبة} أَيْ: مِنْ أين يكون له ولدٌ؟ ولا يكون الولد إلاَّ من صاحبةٍ ولا صاحبة له {وخلق كلَّ شيء} أَيْ: وهو خالق كل شيء

102

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء وكيل}

103

{لا تدركه الأبصار} في الدُّنيا لأنَّه وعد في القيامة الرُّؤية بقوله: {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} الآية والمُطلق يحمل على المقيد وقيل: لا يحيط بكنهه وحقيقته الأبصار وهي تراه فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به {وهو يدرك الأبصار} يراها ويحيط بها علماً لا كالمخلوقين الذين لا يدركون حقيقة البصر وما الشَّيء الذي صار به الإِنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما {وهو اللطيف} الرَّفيق بأوليائه {الخبير} بهم

104

{قد جاءكم بصائر من ربكم} يعني: بيِّنات القرآن {فمن أبصر} اهتدى {فلنفسه} عمل {ومن عمي فعليها} فعلى نفسه جنى العذاب {وما أنا عليكم بحفيظ} برقيب على أعمالكم حتى أجازيكم بها

105

{وكذلك} وكما بيَّنا في هذه السُّورة {نصرِّف} نبيِّن {الآيات} في القرآن ندعوهم بها ونخوِّفهم {وليقولوا درست} عطف على المضمر في المعنى والتقدير: نصرِّف الآيات لتلزمهم الحجَّة وليقولوا درست أَيْ: تعلَّمت مِن يسار وجبر واليهود ومعنى درس: قرأ على غيره ومعنى هذه اللام في قوله: {وليقولوا} معنى لم العاقبة أَيْ: نصرِّف الآيات ليكون عاقبة أمرهم تكذيباً للشَّقاوة التي لحقتهم {ولنبينه لقوم يعلمون} يعني: أولياءه الذين هداهم والذين سعدوا بتبيين الحق

106

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين}

107

{ولو شاء الله ما أشركوا} أَيْ: ولو شاء الله لجعلهم مؤمنين {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حفيظاً} لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب إنَّما بُعثت مُبَلِّغاً فلا تهتمَّ لشركهم فإنَّ ذلك لمشيئة الله

108

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: أصنامهم ومعبوديهم وذلك أنَّ المسلمين كانوا يسبُّون أصنام الكفَّار فنهاهم الله عزَّ وجل عن ذلك لئلا يسبُّوا {الله عدواً بغير علم} أَيْ: ظُلماً بالجهل {كذلك} أَيْ: كما زيَّنا لهؤلاء عبادة الآوثان وطاعة الشَّيطان بالحرمان والخذلان {زينا لكلِّ أمة عملهم} من الخير والشَّرِّ

109

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} اجتهدوا في المبالغة في اليمين {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آية ليؤمنن بها} وذلك أنَّه لمَّا نزل: {إن نشأ ننزل عليهم} الآية أقسم المشركون بالله لئن جاءنهم آية ليؤمننَّ بها وسأل المسلمون ذلك وعلم الله سبحانه أنَّهم لا يؤمنون فأنزل الله هذه الآية {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} هو القادر على الإتيان بها {وما يشعركم} وما يدريكم إيمانهم أَيْ: هم لا يؤمنون مع مجيء الآيات إيَّاهم ثمَّ ابتدأ فقال: {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} ومَنْ قرأ أنَّها بفتح الألف كانت بمعنى لعلَّها ويجوز أن تجعل لا زائدة مع فتح أنَّ

110

{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية بتقليب قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن تكونَ عليه فلا يؤمنون {كما لم يؤمنوا به} بالقرآن أو بمحمَّدٍ عليه السَّلام {أوَّل مرَّة} أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون

111

{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} فرأوهم عياناً {وكلمهم الموتى} فشهدوا لك بالصِّدق والنُّبوَّة {وحشرنا عليهم} وجمعنا عليهم {كلَّ شيء} في الدُّنيا {قُبلاً} و {قِبَلاً} أَيْ: مُعاينةً ومُواجهةً {ما كانوا ليؤمنوا} لما سبق لهم من الشَّقاء {إلا أن يشاء الله} أن يهديهم {ولكنَّ أكثرهم يجهلون} أنَّهم لو أُوتوا بكلِّ آيةٍ ما آمنوا

112

{وكذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوّاً} كما ابتليناك بهؤلاء القوم كذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ قبلك أعداءً ليعظم ثوابه والعدو هاهنا يُراد به الجمع ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال: {شياطين الإِنس} يعني: مردة الإِنس والشَّيطان: كلُّ متمرِّدٍ عاتٍ من الجنَّ والإِنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} يعني: إنَّ شياطين الجنِّ الذين هم من جند إبليس يوحون إلى كفار الإِنس ومردتهم فيغرونهم بالمؤمنين وزخرف القول: باطله الذي زُيِّن ووُشِّي بالكذب والمعنى أنَّهم يُزيِّنون لهم الأعمال القبيحة غروراً {ولو شاء ربك ما فعلوه} لَمَنع الشَّياطين من الوسوسة للإِنس

113

{ولتصغى إليه} ولتميل إلى ذلك الزُّخرف والغرور {أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} قلوب الذين لا يصدِّقون بالبعث {وليرضوه} ليحبُّوه {وليقترفوا} ليعملوا ما هم عاملون

114

{أفغير الله} أَيْ: قل لأهل مكَّة: أفغير الله {أبتغي حكماً} قاضياً بيني وبينكم {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} القرآن {مفصلاً} مُبَيِّناً فيه أمره ونهيه {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} من اليهود والنَّصارى {يعلمون} أنَّ القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تكونن من الممترين} من الشَّاكين أنَّهم يعلمون ذلك

115

{وتمت كلمة ربك} أقضيته وعِداته لأوليائه في أعدائه {صدقاً} فيما وعد {وعدلاً} فيما حكم والمعنى: صادقةً عادلةً {لا مبدل لكلماته} لا مغير لحكمه ولا خلف لوعده {وهو السميع} لتضرُّع أوليائه ولقول أعدائه {العليم} بما في قلوب الفريقين

116

{وإن تطع أكثر من في الأرض} يعني: المشركين {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} دين الله الذي رضيه لك وذلك أنَّهم جادلوه في أكل الميتة وقالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟ {إن يتبعون إلا الظن} في تحليل الميتة {وإن هم إلاَّ يخرصون} يكذبون في تحليل ما حرَّمه الله

117

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}

118

{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} أَيْ: ممَّا ذكِّي على اسم الله {إن كنتم بآياته مؤمنين} تأكيدٌ لاستحلال ما أباحه الشَّرع ثمَّ أبلغَ في إباحة ما ذبح على اسم الله بقوله:

119

{وما لكم أنْ لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} عند الذَّبح {وقد فصَّل} بيَّن {لكم ما حرَّم عليكم} في قوله: {حرمت عليكم الميتة} الآية {إلاَّ ما اضطررتم إليه} دعتكم الضَّرورة إلى أكله ممَّا لا يحلُّ عند الاختيار {وإنَّ كثيراً ليضلون بأهوائهم} أَيْ: الذين يُحلُّون الميتة ويناظرونكم في إحلالها ضلُّوا باتِّباع أهوائهم {بغير علمٍ} إنَّما يتَّبعون فيه الهوى ولا بصيرة عندهم ولا علم {إنَّ ربك هو أعلم بالمعتدين} المتجاوزين الحلال إلى الحرام

120

{وذروا ظاهر الإِثم وباطنه} سرَّه وعلانيته ثمَّ أوعد بالجزاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}

121

{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عليه} ممَّا لم يُذَكَّ ومات {وإنه} وإنَّ أكله {لفسقٌ} خروجٌ عن الحقِّ {وإنَّ الشياطين} يعني: إبليس وجنوده وسوسوا {إلى أوليائهم} من المشركين ليخاصموا محمداً وأصحابه في أكل الميتة {وإن أطعتموهم} في استحلال الميتة {إنكم لمشركون} لأنَّ مَنْ أحلَّ شيئاً ممَّا حرَّمه الله فهو مشركٌ

122

{أَوْ مَنْ كان ميتاً فأحييناه} ضالاًّ كافراً فهديناه {وجعلنا له نوراً} ديناً وإيماناً {يمشي به في الناس} مع المسلمين مُستضيئاً بما قذف الله في قلبه من نور الحكمة والإِيمان {كمَنْ مثله} كمَن هو {في الظلمات} في ظلمات الكفر والضَّلالة {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} ليس بمؤمن أبداً نزلت في أبي جهلٍ وحمزة بن عبد المطلب {كذلك} كما زُيِّن للمؤمنين الإِيمان {زين للكافرين ما كانوا يعملون} من عبادة الأصنام

123

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} يعني: كما أنَّ فسَّاق مكَّة أكابرها كذلك جعلنا فسَّاق كلِّ قرية أكابرها يعني: رؤساءَها ومترفيها {ليمكروا فيها} بصدِّ النَّاس عن الإِيمان {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ} لأنَّ وبال مكرهم يعود عليهم {وما يشعرون} أنَّهم يمكرون بها

124

{وإذا جاءتهم آية} ممَّا أطلع الله عليه نبيَّه عليه السَّلام ممَّا يخبرهم به {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أوتي رسل الله} حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فنصدِّق به وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من القوم سأل أن يُخصَّ بالوحي كما قال الله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صحفا مُنشَّرة} فقال الله سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} يعني: أنَّهم ليسوا بأهل لها هو أعلم بمَنْ يختصُّ بالرِّسالة {سيصيب الذين أجرموا صغار} مذلَّةٌ وهوانٌ {عند الله} أَيْ: ثابت لهم عند الله ذلك

125

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسلام} يوسِّعْ قلبه ويفتحه ليقبل الإِسلام {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حرجاً} شديد الضِّيق {كأنما يصَّعد في السماء} إذا كُلَّف الإِيمان لشدَّته وثقله عليه {كذلك} مثل ما قصصنا عليك {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ} العذاب {على الذين لا يؤمنون}

126

{وهذا صراط ربك} هذا الذي أنت عليه يا محمد دين رَبِّكَ {مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} وهم المؤمنون

127

{لهم دار السلام} الجنة {عند ربهم} مضمونةً لهم حتَّى يُدخلهموها {وهو وليهم} يتولَّى إيصال الكرامات إليهم {بما كانوا يعملون} من الطَّاعات

128

{ويوم يحشرهم جميعاً} الجنّ والإِنس فيقال لهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ من الإِنس} أَيْ: من إغوائهم وإضلالهم {وقال أولياؤهم} الذين أضلَّهم الجنُّ {مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بعضنا ببعض} يعني: طاعة الإِنس للجنِّ وقبولهم منهم ما كانوا يغرونهم به من الضَّلالة وتزيين الجنِّ للإِنس ما كانوا يهوونه حتى يسهل عليهم فعله {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} يعني: الموت والظَّاهر أنَّه البعث والحشر {قال النار مثواكم} فيها مقامكم {خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ الله} مَنْ شاء الله وهم مَنْ سبق في علم الله أنَّهم يُسلمون {إنَّ ربك حكيم} حكم للذين استثنى بالتَّوبة والتَّصديق {عليم} علم ما في قلوبهم من البرِّ

129

{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً} كما خذلنا عُصاة الجنِّ والإنس نَكِلُ بعض الظَّالمين إلى بعض حتى يضلَّ بعضهم بعضاً

130

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ منكم} الرُّسل كانت من الإنس والذين بلَّغوا الجنَّ منهم عن الرُّسل كانوا من الجنِّ وهم النُّذر كالذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم من الجنِّ فأبلغوه قومهم

131

{ذلك} الذي قصصنا عليك من أمر الرُّسل لأنَّه {لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} أَيْ: بذنوبهم ومعاصيهم من قبل أن يأتيهم الرَّسول فينهاهم وهو معنى قوله: {وأهلها غافلون} أَيْ: لكلِّ عاملٍ بطاعة الله درجات في الثَّواب ثمَّ أوعد المشركين فقال: {وما ربك بغافل عما يعملون}

132

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عما يعملون}

133

{وربك الغني} عن عبادة خلقه {ذو الرحمة} بخلقه فلا يعجل عليهم بالعقوبة {إن يشأ يذهبكم} يعني: أهل مكَّة {ويستخلف من بعدكم} وينشئ من بعدكم خلقاَ آخر {كما أنشأكم} خلقكم ابتداءً {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} يعني: آباءهم الماضين

134

{إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين}

135

{قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} على حالاتكم التي أنتم عليها {إني عامل} على مكانتي وهذا أمرُ تهديدٍ يقول: اعملوا ما أنتم عاملون إنِّي عاملٌ ما أنا عَامِلٌ {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} أيُّنا تكون له الجنَّة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} لا يسعد مَنْ كفر بالله وأشرك بالله

136

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ} كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم {نصيباً} وللأوثان نصيباً فما كان للصَّنم أُنْفِقَ عليه وما كان لله أُطعم الضِّيفان والمساكين فما سقط ممَّا جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إنَّ الله غنيٌّ عن هذا وإن سقط ممَّا جعلوه للأوثان من نصيب الله التقطوه وردُّوه إلى نصيب الصَّنم وقالوا: إنَّه فقير فذلك قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شركائهم} ثمَّ ذمَّ فعلهم فقال: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ: ساء الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوه لله على جهة التَّبرُّز إلى الأوثان

137

{وكذلك} ومثل ذلك الفعل القبيح {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} يعني: الشَّياطين أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العَيْلَة {ليردوهم} ليهلكوهم في النَّار {وليلبسوا عليهم دينهم} ليخلطوا ويُدخلوا عليهم الشَّكَّ في دينهم ثمَّ أخبر أنَّ جميع ما فعلوه كان بمشيئته فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فعلوه فذرهم وما يفترون} من أنَّ لله شريكاً

138

{وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} حرَّموا أنعاماً وحرثاً وجعلوها لأصنامهم فقالوا: {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بزعمهم} أعلم الله سبحانه أنَّ هذا التَّحريم كذبٌ من جهتهم {وأنعام حرّمت ظهورها} كالسَّائبة والبحيرة والحامي {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} يقتلونها لآلتهم خنقاً أو وقذاً {افتراءً عليه} أَيْ: يفعلون ذلك للافتراء على الله وهو أنَّهم زعموا أنَّ الله أمرهم بذلك

139

{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام} يعني: أجِنَّة ما حرَّموها من البحائر والسَّوائب {خالصةٌ لذكورنا} حلالٌ للرِّجال خاصَّة دون النِّساء هذا إذا خرجت الأجنَّة أحياء وإن كان ميتةً اشترك فيها الرِّجال والنِّساء {سيجزيهم وصفهم} سيجزيهم الله جزاء وصفهم الذي هو كذبٌ أَيْ: سيعذِّبهم الله بما وصفوه من التَّحليل والتَّحريم الذي كلُّه كذبٌ {إنه حكيم عليم} أَيْ: هو أعلم وأحكم من أن يفعل ما يقولون

140

{قد خسر الذين قتلوا أولادهم} بالوأد {سفهاً} للسَّفه {وحرَّموا ما رزقهم الله} من الأنعام يعني: البحيرة وما ذُكر معها

141

{وهو الذي أنشأ} أبدع وخلق {جنات معروشات} يعني: الكرم {وغير معروشات} ما قام على ساق ولم يُعرش له كالنَّخل والشَّجر {والنخل والزرع مختلفاً أكله} أُكُلُ كلِّ واحدٍ منهما وكلِّ نوعٍ من الثَّمر له طعمٌ غير طعم النَّوع الآخر وكلُّ حبٍّ من حبوب الزَِّرع له طعمٌ غير طعم الآخر {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أمر إباحة {وآتوا حقه يوم حصاده} يعني: العشر ونصف العشر {ولا تسرفوا} فتعطوا كلَّه حتى لا يبقى لعيالكم شيء {إنه لا يحب المسرفين} يعني: المجاوزين أمر الله

142

{ومن الأنعام} وأنشأ من الأنعام {حمولة} وهي كلُّ ما حمل عليها ممَّا أطاق العمل والحمل {وفرشاً} وهو الصِّغار التي لا يحمل عليها كالغنم والبقر والإِبل الصِّغار {كلوا مما رزقكم الله} أَيْ: أحلَّ لكم ذبحه {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} في تحريم شيءٍ ممَّا أحله الله {إنه لكم عدو مبين} بيِّنُ العداوة أخرج أباكم من الجنَّة وقال: لأحتنكنَّ ذريته ثمَّ فسر الحمولة والفرش فقال:

143

{ثمانية أزواج} الذَّكر زوجٌ والأنثى زوجٌ وهي الضَّأن والمعز وقد ذُكرا في هذه الآية والإِبل والبقر ذُكرا فيما بعد وجعلها ثمانيةً لأنَّه أراد الذَّكر والأُنثى من كلِّ صنفٍ وهو قوله: {من الضَّأن اثنين ومن المعز اثنين} والضَّأن: ذوات الصُّوف من المعز والغنم: ذوات الشَّعر {قل} يا محمد للمشركين الذين يُحرِّمون على أنفسهم ما حرَّموا من النَّعم: {آلذكرين} من الضَّأن والمعز {حرَّم} الله عليكم {أم الأُنثيين} فإن كان حرَّم من الغنم ذكورها فكلُّ ذكورها حرام وإن كان حرَّم الأنثيين فكلُّ الإِناث حرام {أمَّا اشتملت عليه أرحام الأُنثيين} وإن كان حرَّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضَّأْنِ والمعز فقد حرَّم الأولاد كلَّها وكلُّها أولادٌ فكلُّها حرام {نبئُوني بعلم} أَيْ: فسِّروا ما حرَّمتم بعلمٍ إن كان لكم علمٌ في تحريمه وهو قوله: {إن كنتم صادقين}

144

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا إذْ كنتم لا تؤمنون برسول الله؟ ! فلمَّا لزمتهم الحجَّة بيَّن الله تعالى أنَّهم فعلوا ذلك كذباً على الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ليضلَّ الناس بغير علم} الآية يعني: عمرو بن لحي وهو الذي غيَّر دين إسماعيل وسنَّ هذا التَّحريم ثمَّ ذكر المحرَّمات بوحي الله فقال:

145

{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ ميتة أو دماً مسفوحاً} يعني: سائلاً {أو فسقاً أهلَّ لغير الله به} يعني: ما ذًبح على النُّصب

146

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} يعني: الإِبل والنَّعامة {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلاَّ ما حملت ظهورهما أو الحوايا} وهي المباعر {أو ما اختلط بعظم} فإنِّي لم أحرّمه يعني: ما تعلَّق من الشَّحم بهذه الأشياء {ذلك} التَّحريم {جزيناهم ببغيهم} عاقبناهم بذنوبهم {وإنا لصادقون} في الإِخبار عن التَّحريم وعن بغيهم فلمَّا ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حُرِّم على المسلمين وما حرِّم على اليهود قالوا له: ما أصبت وكذَّبوه فأنزل الله تعالى:

147

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} ولذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ} عذابه إذا جاء الوقت {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} يعني: الذين كذَّبوك بما تقول

148

{سيقول الذين أشركوا} إذا لزمتهم الحجة وتيقَّنوا باطل ما هم عليه: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا ولا حرَّمنا من شيء كذلك كذَّب} جعلوا قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} حجَّةً لهم على إقامتهم على الشِّرك وقالوا إنَّ الله رضي منَّا ما نحن عليه وأراده منَّا وأمرنا به ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه ولا حجة لهم في هذا لأنَّهم تركوا أمر الله وتعلَّقوا بمشيئته وأمرُ الله بمعزلٍ عن إرادته لأنَّه مريدٌ لجميع الكائنات غير آمرٍ بجميع ما يريد فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتَّبعه وليس له أن يتعلَّق بالمشيئة بعد ورود الأمر فقال الله تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم} أَيْ: كما كذَّبك هؤلاء كذَّب كفَّار الأمم الخالية أنبياءهم ولم يتعرَّض لقولهم: {لو شاء الله} بشيءٍ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} من كتابٍ نزل في تحريم ما حرَّمتم {إن تتبعون إلاَّ الظن} ما تتَّبعون فيما أنتم عليه إلاَّ الظَّنَّ لا العلم واليقين {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} وما أنتم إلاَّ كاذبين

149

{قل فللَّه الحجة البالغة} بالكتاب والرَّسول والبيان {فَلَوْ شَاءَ لهداكم أجمعين} إخبار عن تعلُّق مشيئة الله تعالى بكفرهم وأنَّ ذلك حصل بمشيئته إذ لو شاء الله لهداهم

150

{قل هلم شهداءكم} أَيْ: هاتوا شهداءكم وقرِّبوهم وباقي الآية ظاهر

151

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أَقرأ عليكم الذي حرَّمه الله ثم ذكر فقال: {أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} وأوصيكم بالوالدين إحساناً {ولا تقتلوا أولادكم} من أولادكم من مخافة الفقر {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بطن} يعني: سر الزِّنا وعلانيته {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بالحق} يريد القصاص

152

{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} وهو أن يصلح ماله ويقوم فيه بما يثمره ثمَّ يأكل بالمعروف إن احتاج إليه {حتى يبلغ أشده} أَي: احفظوه عليه حتى يحتلم {وأوفوا الكيل} أتِمُّوه من غير نقصٍ {والميزان} أَيْ: وزن الميزان {بالقسط} بالعدل لا بخسٍ ولا شططٍ {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} إلاَّ ما يسعها ولا تضيق عنه وهو أنَّه لو كلَّف المعطي الزِّيادة لضاقت نفسه عنه وكذلك لو كلَّف الآخذ أن يأخذ بالنُّقصان {وإذا قلتم فاعدلوا} إذا شهدتم أو تكلَّمتم فقولوا الحقَّ {وَلَوْ} كان المشهود له أو عليه {ذا قربى}

153

{وأنًّ هذا} ولأنَّ هذا {صراطي مستقيماً} يريد: ديني دين الحنفية أقومُ الأديان {فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} اليهوديَّة والنصرانيَّة والمجوسية وعبادة الأوثان {فتفرَّق بكم عن سبيله} فتضلَّ بكم عن دينه {ذلكم} الذي ذكر {وصَّاكم} أمركم به في الكتاب {لعلكم تتقون} كي تتقوا السُّبل

154

{ثم آتينا} أَيْ: ثمَّ أُخبركم أنَّا آتَيْنَا {مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أَيْ: على الذي أحسنه موسى من العلم والحكمة وكتب الله المتقدِّمة أَيْ: علمه ومعنى: {تماماً} على ذلك أَيْ: زيادة عليه حتى تمَّ له العلم بما آتيناه {وتفصيلاً} أَيْ: آتيناه للتَّمام والتفصيل وهو البيان {لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون} لكي يُؤمنوا بالبعث ويُصدِّقوا بالثَّواب والعقاب

155

{وهذا كتاب} يعني: القرآن {أنزلناه مبارك} مضى تفسيره في هذه السُّورة

156

{أن تقولوا} لئلا تَقُولُوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} يعني: اليهود والنَّصارى {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دراستهم لغافلين} وما كنَّا إلاَّ غافلين عن تلاوة كتبهم والخطابُ لأهل مكَّة والمرادُ: إثبات الحجَّة عليهم بإنزال القرآن على محمَّد عليه السَّلام كيلا يقولوا يوم القيامة: إنَّ التَّوراة والإِنجيل أُنزلا على طائفتين من قبلنا وكنَّا غافلين عمَّا فيهما وقوله:

157

{وصدف عنها} أَيْ: أعرض

158

{هل ينظرون} إذا كذَّبوك {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} عند الموت لقبض أرواحهم وذكرنا معنى {ينظرون} في سورة البقرة {أو يأتي ربك} أَيْ: أمره فيهم بالقتل {أو يأتي بعض آيات ربك} يعني: طلوع الشَّمس من مغربها والمعنى: إن هؤلاء الذي كذَّبوك إمَّا أن يموتوا فيقعوا في العذاب أو يؤمر فيهم بالسَّيف أو يمهلون قدر مدَّة الدُّنيا فيتوالدون ويتنعَّمون فيها فإذا ظهرت أمارات القيامة {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} قدَّمت طاعةً وهي مؤمنةٌ {قل انتظروا} أحد هذه الأشياء {إنا منتظرون} بكم أحدها

159

{إن الذين فرقوا دينهم} يعني: اليهود والنَّصارى أخذوا ببعض ما أُمروا وتركوا بعضه كقوله إخباراً عنهم: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} {وكانوا شيعاً} أحزاباً مختلفة بعضهم يُكفِّر بعضاً {لست منهم في شيء} يقول: لم تؤمر بقتالهم فلمَّا أُمر بقتالهم نُسخ هذا

160

{من جاء بالحسنة} من عمل من المؤمنين حسنةً {فله عشر أمثالها} كتبت له عشر حسناتٍ {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} الخطيئة {فلا يجزى إلاَّ مثلها} أَيْ: جزاءً مثلها لا يكون أكثر منها {وهم لا يظلمون} لا ينقص ثواب أعمالهم

161

{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ديناً} أَيْ: عرَّفني ديناً {قيماً} مستقيماً

162

{قل إنَّ صلاتي ونسكي} عبادتي من حجِّي وقرباني {ومحياي ومماتي لله رب العالمين} أَيْ: هو يحييني وهو يميتني وأنا أتوجَّه بصلاتي وسائر المناسك إلى الله لا إلى غيره وقوله:

163

{وبذلك أمرت} بذلك أوحي إليَّ {وأنا أول المسلمين} من هذه الأمة

164

{قل أغير الله أبغي رباً} سيِّداً وإلهاً {وهو ربُّ كلِّ شيء} مالكه وسيِّده {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} لا تجني نفسٌ ذنباً إلاَّ أُخذت به {ولا تزر وازرة وزر أخرى} يعني: الوليد بن المغيرة كان يقول: اتَّبعوا سبيلي أحمل أوزاركم فأنزل الله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} لا يحمل أحدٌ جناية غيره حتى لا يُؤَاخذ بها الجاني

165

{وهو الذي جعلكم} يا أُمَّةَ محمَّدٍ {خلائف} الأمم الماضية في {الأرض} بأنْ أهلكهم وأورثكم الأرض بعدهم {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} بالغنى والرِّزق {ليبلوكم في ما آتاكم} ليختبركم فيما رزقكم {إنَّ ربك سريع العقاب} لأعدائه {وإنه لغفور} لأوليائه {رحيم} بهم

سورة الأعراف

{المص} أنا الله أعلم وأفضل

2

{كتاب} أَيْ: هذا كتابٌ {أنزل إليك} من ربك {فلا يكن في صدرك حرج منه} فلا يضيقنَّ صدرك بإبلاغ ما أرسلت به {لتنذر به} أَيْ: أُنزل لتنذر به النَّاس {وذكرى للمؤمنين} مواعظ للمصدِّقين

3

{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} يعني: القرآن {ولا تتبعوا من دونه أولياء} لا تتخذوا غير الله أولياء {قليلاً ما تذكرون} قليلاً يا معشر المشركين اتَّعاظكم

4

{وكم من قرية أهلكناها} يعني: أهلها {فجاءها بأسنا} عذابنا {بياتاً} ليلاً {أو هم قائلون} نائمون نهاراً بعنب: جاءهم بأسنا وهم غير متوقِّعين له

5

{فما كان دعواهم} دعاؤهم وتضرُّعهم {إذ جاءهم بأسنا إلاَّ أن} أقرُّوا على أنفسهم بالشِّرك و {قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}

6

{فلنسألن الذين أرسل إليهم} نسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرُّسل ونسأل الرُّسل هل بلَّغوا ما أُرسلوا به

7

{فلنقصنَّ عليهم بعلم} لنخبرنَّهم بما عملوا بعلمٍ منَّا {وما كنا غائبين} عن الرُّسل والأمم ما بلَّغت وما ردَّ عليهم قومهم

8

{والوزن يومئذ} يعني: وزن الأعمال يوم السُّؤال الذي ذُكر في قوله: {فلنسألنَّ} {الحق} العدل وذلك أنَّ أعمال المؤمنين تتصوَّر في صورةٍ حسنةٍ وأعمال الكافرين في صورةٍ قبيحة فتوزن تلك الصُّورة فذلك قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} النَّاجون الفائزون وهم المؤمنون

9

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} صاروا إلى العذاب {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} يجحدون بما جاء به محمد عليه السَّلام

10

{ولقد مكنَّاكم في الأرض} ملَّكناكم فيما بين مكَّة إلى اليمن وإلى الشَّام يعني: مشركي مكَّة {وجعلنا لكم فيها معايش} ما تعيشون به من الرِّزق والمال والتجارة {قليلاً ما تشكرون} أَيْ: إنَّكم غير شاكرين لما أنعمت عليكم

11

{ولقد خلقناكم} يعني: آدم {ثم صوَّرناكم} في ظهره

12

{قال ما منعك أن لا تسجد} لا زائدة معناها: ما منعك أن تسجد؟ وهو سؤالُ التَّوبيخ والتَّعنيف {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} معناه: منعني من السُّجود له أنِّي خيرٌ منه إذ كنتُ ناريَّاً وكان طينيَّاً فترك الأمر وقاس فعصى

13

{قال فاهبط منها} فانزل من الجنَّة وقيل: من السَّماء {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فيها} عن أمري وتعصيني {فأخرج إنك من الصاغرين} الأذلاء بترك الطَّاعة

14

{قال انظرني} أمهلني {إلى يوم يبعثون} يريد: النَّفخة الثَّانية

15

{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}

16

{قال: فبما أغويتني} يريد: فبما أضللتني أيْ: بإغوائك إيَّاي {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} على الطَريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنَّة بأن أُزيِّن لهم الباطل

17

{ثم لآتينَّهم من بين أيديهم} يعني: آخرتهم التي يردون عليها فَأُشكِّكهم فيها {ومن خلفهم} دنياهم التي يُخَلِّفونها فأُرغِّبهم فيها {وعن أيمانهم} أُشبِّه عليهم أمر دينهم {وعن شمائلهم} أُشهِّي لهم المعاصي

18

{قال اخرج منها} من الجنَّة {مذؤوماً} مذموماً بأبلغ الذَّمِّ {مدحوراً} مطروداً ملعوناً {لمن تبعك منهم} من أولاد آدم {لأَمْلأَنَّ جهنم منكم} يعني: من الكافرين وقرنائهم من الشَّياطين

19

{ويا آدم اسكن} سبق تفسيره في سورة البقرة

20

{فوسوس لهما الشيطان} أَيْ: حدَّث لهما في أنفسهما {ليبدي لهما} هذه اللام لام العاقبة وذلك أنَّ عاقبة تلك الوسوسة أدَّت إلى أن بدت لهما سوآتهما يعني: فروجهما بتهافت اللَّباس عنهما وهو قوله {ما وري} أَيْ: سُتر {عنهما من سوآتهما} {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} أَيْ: عن أكلها {إلاَّ أن تكونا} لا هاهنا مضمرة أَيْ: إلاَّ أن لا تكونا {ملكين} يبقيان ولا يموتان كما لا تموت الملائكة يدلُّ على هذا المعنى قوله: {أو تكونا من الخالدين}

21

{وقاسمهما} حلف لهما {إني لكما لمن الناصحين}

22

{فدلاهما بغرور} غرَّهما باليمين ومعنى دلاَّهما: جَرَّأَهُما على أكل الشَّجرة بما غرَّهما به من يمينه {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} تهافت لباسهما عنهما فأبصر كلُّ واحدٍ منهما عورة صاحبه فاستحييا {وطفقا يخصفان} أقبلا وجعلا يُرقِّعان الورق كهيئة الثواب ليستترا به {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}

23

{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

24

{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مستقر} موضع قرار ثم فسر ذلك بقوله:

25

{فيها تحيون} ولمَّا ذكر عُريَّ آدم وحواء منَّ علينا بما خلق لنا من اللِّباس فقال:

26

{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم} أَيْ: خلقنا لكم {لباساً يواري سوآتكم} يستر عوراتكم {وريشاً} أَيْ: مالاً وما تتجمَّلون به من الثِّياب الحسنة {ولباس التقوى} أَيْ: ستر العورة لمَنْ يتَّقي الله فيواري عورته {ذلك خيرٌ} لصاحبه إ ذا أخذ به أو خيرٌ من التَّعري وذلك أنَّ جماعةً من المشركين كانوا يتعبَّدون بالتَّعريِّ وخلع الثَّياب في الطواف بالبيت {ذلك من آيات الله} أَيْ: من فرائضه التي أوجبها بآياته يعني: ستر العورة {لعلهم يذكرون} لكي يتَّعظوا

27

{يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان} لا يخدعنَّكم ولا يُضلنَّكم {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لباسهما} أضاف النَّزع إليه وإن لم يتولَّ ذلك لأنَّه كان بسببٍ منه {إنَّه يراكم هو وقبيله} يعني: ومَنْ كان من نسله {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} سلَّطناهم عليهم ليزيدوا في غيِّهم كما قال: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ على الكافرين}

28

{وإذا فعلوا فاحشة} يعني: طوافهم بالبيت عارين

29

{قل أمر ربي بالقسط} ردٌّ لقولهم: (والله أمرنا به) والقسط: العدل {وأقيموا وجوهكم عند كلِّ مسجد} وجِّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصَّلاة إلى الكعبة {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وحِّدوه ولا تشركوا به شيئاًَ {كما بدأكم} في الخلق شقيا وسعيداً فكذلك {تعودون} سعداء وأشقياء يدلُّ على صحَّة هذا المعنى قوله:

30

{فريقاً هدى} أرشد إلى دينه وهم أولياؤه {وَفَرِيقًا حَقَّ عليهم الضلالة} أَضَلَّهُمْ وهم أولياء الشيطان {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ويحسبون أنهم مهتدون} ثمَّ أمرهم أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا فقال:

31

{يا بني آدم خذوا زينتكم} يعني: ما وارى العورة {عند كلِّ مسجد} لصلاةٍ أو طواف {وكلوا واشربوا} كان أهل الجاهليَّة لا يأكلون أيَّام حجِّهم إلاَّ قوتاً ولا يأكلون دسماً يُعظِّمون بذلك حجِّهم فقال المسلمون: نحن أحقُّ أن نفعل فأنزل الله تعالى: {وكلوا} يعني: اللَّحم والدَّسم {واشربوا} اللَّبن والماء وما أحلَّ لكم {ولا تسرفوا} بحظركم على أنفسكم ما قد أحللته لكم من اللَّحم والدَّسم {إِنَّهُ لا يُحِبُّ} مَنْ فعل ذلك أي: لايثيبه ولا يدخله الجنَّة

32

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لعباده} مَنْ حرَّم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم {والطيبات من الرزق} يعني: ما حرَّموه على أنفسهم أيَّام حجِّهم {قل هي} أَي: الطَّيِّبات من الرِّزق {للذين آمنوا في الحياة الدنيا} مباحةٌ لهم مع اشتراك الكافرين معهم فيها في الدُّنيا ثمَّ هي تخلص للمؤمنين يوم القيامة وليس للكافرين فيها شيء وهو معنى قوله: {خالصة يوم القيامة} {كذلك نفصل الآيات} نُفسِّر ما أحللت وما حرَّمت {لقومٍ يعلمون} أنِّي أنا الله لا شريك لي

33

{قل إنما حرَّم ربي الفواحش} الكبائر والقبائح {ما ظهر منها وما بطن} سرَّها وعلانيتها {والإِثم} يعني: المعصية التي توجب الإِثم {والبغي} ظلم النَّاس وهو أن يطلب ما ليس له {وأن تشركوا بالله} تعدلوا به في العبادة {ما لم ينزل به سلطاناً} لم ينزل كتاباً فيه حجَّةٌ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} من أنَّه حرَّم الحرث والأنعام وأنَّ الملائكة بنات الله

34

{ولكلِّ أمة أجل} وقتٌ مضروبٌ لعذابهم وهلاكهم {فإذا جاء أجلهم} بالعذاب {لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} لا يتأخَّرون ولا يتقدَّمون حتى يُعذَّبوا

35

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يقصون عليكم آياتي} فرائضي وأحكامي {فمن اتقى} اتَّقاني وخافني {وأصلح} ما بيني وبينه {فَلا خوف عليهم} إذا خاف الخلق في القيامة {ولا هم يحزنون} إذا حزنوا

36

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

37

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فجعل له ولداًَ أو شريكاً {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} ما كُتب لهم من العذاب وهو سواد الوجه وزرقة العيون {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} يريد: الملائكة يقبضون أرواحهم {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تدعون من دون الله} ؟ سؤال توبيخ وتبكيت وتقريع {قالوا ضلوا عنا} بطلوا وذهبوا {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كافرين} اعترفوا عند مُعاينة الموت وأقروا على أنفسهم بالكفر

38

{قال ادخلوا} أَيْ: قال الله تعالى لهم: ادخلوا النَّار {في أمم} أَيْ: مع {أمم قد خلت من قبلكم} {كلما دخلت أمة} النَّار {لعنت أختها} يعني: الأمم التي سبقتها إلى النَّار لأنَّهم ضلوا باتِّباعهم {حتى إذا ادَّاركوا فيها} أَيْ: تداركوا وتلاحقوا جميعاً في النَّار {قالت أخراهم} أَيْ: أُخراهم دخولاً إلى النَّار {لأولاهم} دخولاً يعني: قالت الأتباع للقادة: {ربنا هؤلاء أضلونا} لأَنَّهم شرعوا لنا أن نتَّخذ من دونك إلهاً {فآتهم عذاباً ضعفاً} أَضْعِفْ عليهم العذاب بأشدَّ ممَّا تعذِّبنا به {قال} الله تعالى: {لكلٍّ ضعف} للتَّابع والمتبوع عذابٌ مضاعفٌ {ولكن لا تعلمون} يا أهل الكتاب في الدًّنيا مقدار ذلك وقوله:

39

{فما كان لكم علينا من فضل} لأنَّكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواءٌ

40

{إنَّ الذين كذبوا بآياتنا} بحججنا التي تدلُّ على توحيد الله ونبوَّة الأنبياء {واستكبروا عنها} ترفَّعوا عن الإِيمان بها والانقياد لأحكامها {لا تفتح لهم أبواب السماء} لا تصعد أرواحهم ولا أعمالهم ولا شيء ممَّا يريدون الله به إلى السَّماء {ولا يدخلون الجنة حتى يلج} يدخل {الجمل في سم الخياط} ثقب الإِبرة يعني: أبدأً {وكذلك} وكما وصفنا {نجزي المجرمين} أَي: المكذِّبين بآيات الله ثمَّ أخبر عن إحاطة النَّار بهم من كلِّ جانبٍ فقال:

41

{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} يعني: لهم منها غطاءٌ ووطاءٌ وفراشٌ ولحافٌ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} يعني: الذين أشركوا بالله

42

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وسعها} أَيْ: إلاَّ ما تطيقه ولا تعجز عنه والمعنى: لا نكلِّف نفساً منهم إلاَّ وسعها ثمَّ أخبر بباقي الآية عن مآلهم

43

{ونزعنا ما في صدورهم من غل} أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدُّنيا {تجري من تحتهم الأنهار} من تحت منازلهم وقصورهم فإذا استقرُّوا في منازلهم {قالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لهذا} أَيْ: هدانا لما صيرَّنا إلى هذا الثَّواب من العمل الذي أدَّى إليه وأقرُّوا أنَّ المهتدي مَنْ هدى الله بقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} فحين رأوا ما وعدهم الرُّسل عياناً قالوا: {لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكُم الْجَنَّةُ} قيل لهم: هذه تلكمُ الجنَّة التي وُعدتم {أورثتموها} أُورثتم منازل أهل النَّار فيها لو عملوا بطاعة الله {بما كنتم تعملون} توحِّدون الله وتطيعونه

44

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وجدنا ما وعدنا ربنا} في الدُّنيا من الثَّواب {حقاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} من العذاب {حقاً} وهذا سؤال تعييرٍ وتقريرٍ فأجاب أهل النَّار و {قالوا نعم فأذَّن مؤذنٍ بينهم} نادى منادٍ وسطهم نداءً يُسمع الفريقين وهو صاحب الصُّور {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}

45

{الذين يصدون} يمنعون {عن سبيل الله} دين الله وطاعته {ويبغونها عوجاً} ويطلبونها بالصَّلاة لغير الله وتعظيم ما لم يعظِّمه الله

46

{وبينهما} بين أهل الجنَّة وبين أهل النَّار {حجاب} حاجزٌ وهو سور الأعراف {وعلى الأعراف} يريد: سور الجنَّة {رجال} وهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم {يعرفون كلاً بسيماهم} يعرفون أهل الجنَّة ببياض الوجوه وأهل النَّار بسوادها وذلك لأنَّ موضعهم عالٍ مرتفع فهم يرون الفريقين {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أن سلام عليكم} إذا نظروا إلى الجنَّة سلَّموا على أهلها {لم يدخلوها} يعني: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنَّة {وهم يطمعون} في دخولها

47

{وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار} أَيْ: جهة لقائهم

48

{ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} من أهل النَّار {يعرفونهم بسيماهم} من رؤساء المشركين فيقولون لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جمعكم} المال واستكثارهم منه {وما كنتم تستكبرون} عن عبادة الله ثمَّ يقسم أصحاب النَّار أنَّ أصحاب الأعراف داخلون معهم النَّار فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف:

49

{أهؤلاء الذين أقسمتم} يا أصحاب النَّار {لا ينالهم الله برحمة} يقولون لأصحاب الأعراف: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ ولا أنتم تحزنون}

50

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يعني: الطَّعام وهذا يدلُّ على جوعهم وعطشهم {قالوا إنَّ الله حرمهما على الكافرين} تحريم منع لا تحريم تعبُّدٍ

51

{الذين اتخذوا دينهم} الذي شُرع لهم {لهواً ولعباً} يعني: المستهزئين المُقتسمين {فاليوم ننساهم} نتركهم في جهنَّم {كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هذا} كما تركوا العمل لهذا اليوم {وما كانوا بآياتنا يجحدون} أَيْ: وكما جحدوا بآياتنا ولم يُصدِّقوها

52

{ولقد جئناهم} يعني: المشركين {بكتاب} هو القرآن {فصلناه} بيّناه {على علم} فيه يعني: ما أُودع من العلوم وبيان الأحكام {هدى} هادياً {ورحمة} وذا رحمةٍ {لقوم يؤمنون} لقومٍ أريد به هدايتهم وإيمانهم

53

{هل ينظرون} ينتظرون أَيْ: كأنَّهم ينتظرون ذلك لأنَّه يأتيهم لا محالة {إلاَّ تأويله} عاقبة ما وعد الله في الكتاب من البعث والنُّشور {يوم يأتي تأويله} وهو يوم القيامة {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} تركوا الإِيمان به والعمل له من قبل إتيانه: {قد جاءت رسل ربنا بالحق} بالصِّدق والبيان {فهل لنا من شفعاء} هل يشفع لنا شافعٌ؟ {أو} هل {نردُّ} إلى الدُّنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كنا نعمل} نوحِّد الله ونترك الشِّرك يقول الله: {قد خسروا أنفسهم} حين صاروا إلى الهلاك {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} سقط عنهم ما كانوا يقولونه مِنْ أنَّ مع الله إلهاً آخر

54

{إنَّ ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} أَيْ: في مقدار ستة أيَّامٍ من الأحد إلى السَّبت واجتمع الخلق في الجمعة {ثم استوى على العرش} أقبل على خلقه وقصد إلى ذلك بعد خلق السماوات والأرض {يغشي الليل النهار} يُلبسه ويُدخله عليه {يطلبه حثيثاً} يطلب اللَّيل دائباً لا غفلة له {والشمس} وخلق الشَّمس {والقمر والنجوم مسخرات} مُذلَّلاتٍ لما يُراد منها من طلوعٍ وأُفولٍ وسيرٍ ورجوعٍ {بأمره} بإذنه {ألا له الخلق} يعني: إنَّ جميع ما في العالم مخلوق له {و} له {الأمر} فيهم يأمر بما أراد {تبارك الله} تمجد وارتفع وتعالى

55

{ادعوا ربكم تضرُّعاً} أَيْ: تملُّقاً {وخفية} سرَّاً {إنه لا يحب المعتدين} المجاوزين ما أُمروا به

56

{ولا تفسدوا في الأرض} بالشِّرك والمعاصي وسفك الدِّماء {بعد} إصلاح الله إياها ببعث الرَّسول {وادعوه خوفاً} من عقابه {وطمعا} في ثوابه {إِنَّ رحمة الله} ثوابَ الله {قريب من المحسنين} وهم الذين يطيعون الله فيما أمر

57

{وهو الذي يرسل الرياح بشرا} طيِّبة ليِّنة من النَّشر وهو الرَّائحة الطَّيِّبة وقيل: مُتفرِّقةً في كلِّ جانبٍ بمعنى المنتشرة {بين يدي رحمته} قدَّام مطره {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} أَيْ: حملت هذه الرِّياح {سحاباً ثقالاً} بما فيها من الماء سُقنا السَّحاب {لبلد ميت} إلى مكان ليس فيه نباتٌ {فأنزلنا به} بذلك البلد {الماء فأخرجنا} بذلك الماء {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الموتى} أَيْ: نحيي الموتى مثل ذلك الإِحياء الذي وصفناه في البلد الميت {لعلكم تذكرون} لعلَّكم بما بيَّنا تتَّعظون فتستدلُّون على توحيد الله وقدرته على البعث ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال:

58

{والبلد الطيب} يعني: العذبُ التُّراب {يخرج نباته بإذن ربه} وهذا مثل المؤمن يسمع القرآن فينتفع به ويحسن أثره غليه {والذي خبث} ترابه وأصله {لا يخرج} نباته {إلاَّ نكداً} عسراً مُبطئاً وهو مثل الكافر يسمع القرآن ولا يُؤثِّر فيه أثراً محموداً كالبلد الخبيث لا يُؤثِّر فيه المطر {كذلك نصرِّف الآيات} نبيِّنها {لقوم يشكرون} نِعَمَ الله ويطيعونه

59

{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} ظاهرٌ إلى قوله:

60

{قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مبين}

61

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رسول من رب العالمين}

62

{وأنصح لكم} أَيْ: أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه {وأعلم من الله ما لا تعلمون} من أنَّه غفورٌ لمَنْ رجع عن معاصيه وأنَّ عذابه أليمٌ لمن أصرَّ عليها

63

{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم} موعظةٌ من الله {على رجل} على لسان رجل {منكم} تعرفون نسبه وقوله:

64

{إنهم كانوا قوماً عمين} عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى وقدرته

65

{وإلى عاد أخاهم} وأرسلنا إلى عادٍ أخاهم ابن أبيهم {هوداً قال يا قوم اعبدوا الله} وحِّدوا اللَّهَ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تتقون} أفلا تخافون نقمته

66

{قال الملأ} الرُّؤساء والجماعة {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سفاهة} حمقٍ وجهلٍ {وإنا لنظنك من الكاذبين} فيما جئت به من ادِّعاء النُّبوَّة وقوله:

67

{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رسول من رب العالمين}

68

{ناصح أمين} أَيْ: على الرِّسالة لا أكذب فيها

69

{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نوحٍ} أَيْ: استخلفكم في الأرض بعد هلاكهم {وزادكم في الخلق بسطة} فضيلةً في الطُّول {فاذكروا آلاء الله} نِعَمَ الله عليكم {لعلكم تفلحون} كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة وقوله:

70

{فأتنا بما تعدنا} أَيْ: من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنَّ العذاب نازلٌ بنا

71

{قال: قد وقع} وجب {عليكم من ربكم رجس وغضب} عذابٌ وسخطٌ {أتجادلونني في أسماء سَمَّيْتُموها} كانت لهم أصنام سمَّوها أسماءً مختلفةً فلمَّا دعاهم الرَّسول إلى التَّوحيد استنكروا عبادة الله وحده {ما نَزَّلَ الله بها من سلطان} من حجةٍ وبرهانٍ لكم في عبادتها {فَانْتَظِرُوا} العذاب {إني معكم من المنتظرين} ذلك في تكذيبهم إياي وقوله:

72

{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}

73

{فذروها تأكل في أرض الله} أَيْ: سهَّل الله عليكم أمرها فليس عليكم رزقها ولا مؤونتها وقوله:

74

{وبوَّأكم في الأرض} أَيْ: أسكنكم وجعل لكم فيها مساكن {تتخذون من سهولها قصوراً} تبنون القصور بكلِّ موضعٍ {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} يريد: بيوتاً في الجبال تُشققونها وكانوا يسكنونها شتاءً ويسكنون القصور بالصَّيف

75

{قال الملأ} وهم الأشراف {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} عن عبادة الله {للذين استضعفوا} يريد المساكين {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدلٌ من قوله: {للذين استضعفوا} لأنَّهم المؤمنون

76

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافرون}

77

{فعقروا الناقة} نحروها {وعتوا عن أمر ربهم} عصوا الله وتركوا أمره في النَّاقة {وقالوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب

78

{فأخذتهم الرجفة} وهي الزَّلزلة الشَّديدة {فأصبحوا في دارهم} بلدهم {جاثمين} خامدين مَيِّتين

79

{فتولى عنهم} أعرض عنهم صالحٌ بعد نزول العذاب بهم {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي ونصحت لكم} خوَّفتكم عقاب الله وهذا كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى بدر

80

{ولوطاً} وأرسلنا لوطاً أَيْ: واذكر لوطاً {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني: إتيان الذُّكور {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} قالوا: ما نزا ذَكَرٌ على ذَكَرٍ حتى كان قوم لوطٍ

81

{إنكم لتأتون الرجال} الآية

82

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أخرجوهم من قريتكم} يعني: لوطاً وأتباعه {إنهم أناس يتطهرون} عن إتيان الرِّجال في أدبارهم

83

{فأنجيناه وأهله} ابنتيه {إلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الباقين في عذاب الله

84

{وأمطرنا عليهم مطراً} يعني: حجارةً

85

{وإلى مدين} وهم قبيلةٌ من ولد إبراهيم عليه السَّلام {قد جاءتكم بينة من ربكم} موعظةٌ {فأوفوا الكيل والميزان} أَتِمُّوهُمَا وكانوا أهلَ كفرٍ وبخسٍ للمكيال والميزان {ولا تفسدوا في الأرض} لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثه شعيبٍ والأمر بالعدل

86

{ولا تقعدوا بكلِّ صراط توعدون} لا تقعدوا على طريق النَّاس فتخوِّفون أهل الإِيمان بشعيبٍ بالقتل ونحو ذلك وتأخذون ثياب من مرَّ بكم من الغرباء {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} وتصرفون عن الإسلام مَنْ آمن بشعيب {وتبغونها عوجاً} تلتمسون لها الزَّيغ {واذكروا إذْ كنتم قليلاً فكثَّركم} بعد القلَّة وأعزَّكم بعد الذِّلة وذلك أنَّه كان مدين بن إبراهيم وزوجه ريثا بنت لوط فولدت حتى كثر عدد أولادها

87

{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}

88

{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا او لتعودنَّ في ملتنا} معناه أنَّهم قالوا لشعيب وأصحابه: ليكوننَّ أحد الأمرين إمَّا الإِخراج من القرية أو عودكم في ملَّتنا ولا نفارقكم على مخالفتنا فقال شعيب: {أَوَ لَوْ كُنَّا كارهين} أَيْ: تجبروننا على العود في ملَّتكم وإنْ كرهنا ذلك؟ وقوله:

89

{وما يكون لنا أن نعود فيها إلاَّ أن يشاء الله ربنا} أَيْ: إلاَّ أن يكون قد سبق في علم الله وفي مشيئته أن نعود فيها {وَسِعَ ربنا كلَّ شيء علماً} علم ما يكون قبل أن يكون {ربنا افتح} احكم واقضِ {بيننا وبين قومنا بالحق} وقوله:

90

{وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}

91

{فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين}

92

{كأن لم يغنوا فيها} أَيْ: لم يقيموا فيها ولم ينزلوا وقوله:

93

{فكيف آسى على قوم كافرين} أَيْ: كيف يشتدُّ حزني عليهم ومعناه: الإِنكار أَيْ: لا آسى

94

{وما أرسلنا في قرية} في مدينةٍ {من نبي} فكذَّبه أهلها {إلاَّ أخذنا} هم {بالبأساء والضراء} بالفقر والجوع {لعلهم يضَّرَّعون} كي يستكينوا ويرجعوا

95

{ثمَّ بدلنا مكان السيئة الحسنة} بدل البؤسِ والمرضِ الغنى والصحَّة {حتى عفوا} كثروا وسمنوا وسمنت أموالهم {وقالوا} من غِرَّتهم وجهلهم: {قد مسَّ آباءنا الضراء والسراء} قد أصاب آباءنا في الدَّهر مثل ما أصابنا وتلك عادة الدَّهر ولم يكن ما مسَّنا عقوبة من الله فكونوا على ما أنتم عليه فلمَّا فسدوا على الأمرين جميعاً أخذهم الله بغتة {وهم لا يشعرون} بنزول العذاب وهذا تخويفٌ لمشركي قريش

96

{ولو أنَّ أهل القرى آمنوا} وحَّدوا الله {واتقوا} الشِّرك {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ من السماء} بالمطر {و} من {الأرض} بالنَّبات والثِّمار {ولكن كذبوا} الرسلَ {فأخذناهم} بالجدوبة والقحط {بِمَا كانوا يكسبون} من الكفر والمعصية

97

{أفأمن أهل القرى} يعني: أهل مكَّة وما حولها ومعنى هذه الآية وما بعدها: أنَّه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلاً ولا نهاراً بعد تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وقوله:

98

{وهم يلعبون} أَيْ: وهم في غير ما يُجدي عليهم

99

{أفأمنوا مكر الله} عذاب الله أن يأتيهم بغتةً

100

{أَوَلَمْ يهد} يتبيَّن {للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} كفار مكَّة ومَنْ حولهم {أن لو نشاء أصبناهم} عذَّبناهم {بذنوبهم} ثمَّ {ونطبع على قلوبهم} حتى يموتوا على الكفر فيدخلوا النَّار والمعنى: ألم يعلموا أنَّا لو نشاء فعلنا ذلك

101

{تلك القرى} التي أهلكتُ أهلها {نقص عليك من أنبائها} نتلو عليك من أخبارها كيف أُهلكت {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات} يعني: الذين أُرسلوا إليهم {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عندإرسال الرُّسل بما كذَّبوا يوم أخذ ميثاقهم فأقرُّوا بلسانهم وأضمروا التَّكذيب {كذلك} أَيْ: مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفَّار الأمم {يطبع الله على قلوب الكافرين} الذين كتب عليهم ألاَّ يؤمنوا أبداً

102

{وما وجدنا لأكثرهم من عهد} يعني: الوفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق

103

{ثم بعثنا من بعدهم} الأنبياء الذين جرى ذكرهم {مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} فجحدوا بها وكذَّبوا {فانظر} بعين قلبك {كيف كان} عاقبتهم وكيف فعلنا بهم وقوله:

104

{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رب العالمين}

105

{حقيق على أن لا أقول} أَيْ: أنا حقيق بأن لا أقول {على الله إلاَّ} ما هو {الحق} وهو أنَّه واحدٌ لا شريك له {قد جئتكم ببينة من ربكم} أي: بأمرٍ من ربِّكم وهو العصا {فأرسل معي بني إسرائيل} أي: أطلق عليهم وخلِّهم وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة وقوله:

106

{قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إن كنت من الصادقين}

107

{فإذا هي} أَيْ: العصا {ثعبان} وهو أعظم ما يكون من الحيَّات {مبين} بيِّنٌ أنَّه حيَّة لا لبس فيه

108

{ونزع يده} أخرجها من جيبه

109

{قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}

110

{يريد أن يخرجكم من أرضكم} هذا قول الأشراف من قوم فرعون قالوا: يريد موسى أن يخرجكم معشرَ القبط من أرضكم ويزيل ملككم بتقوية عدوِّكم بني إسرائيل فقال فرعون لهم: {فماذا تأمرون} أَيش تُشيرون به عليَّ؟

111

{قالوا أرجه وأخاه} أَخِّرْ أمره وأمر أخيه ولا تعجل {وأرسل في المدائن} في مدائن صعيد مصر {حاشرين} رجالاً يحشرون إليك مَنْ في الصَعيد من السَّحرة فأرسل {وجاء السحرة فرعون} وطالبوه بالمال والجوائز إنْ غلبوه فأجابهم فرعون إلى ذلك وهو قوله:

112

{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}

113

{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}

114

{قال نعم وإنكم لمن المقربين} أَيْ: ولكم من الأجر المنزلة الرَّفيعة عندي

115

{قالوا يا موسى إمَّا إن تلقي} عصاك {وإمَّا أن نكون نحن الملقين} ما معنا من الحبال والعصي

116

{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ واسترهبوهم} قلبوها عن صحَّة إدراكها حيث رأوها حيَّات {وجاؤوا بسحر عظيم} وذلك أنَّهم ألقوا حبالاً غلاظاً فإذا هي حيَّاتٌ قد ملأت الوادي

117

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هي تلقف} تبتلع {ما يأفكون} يكذبون فيه وذلك أنَّهم زعموا أنَّ عصيَّهم وحبالهم حَيّاتٍ وَكذبوا في ذلك

118

{فوقع الحق} ظهر وغلب

119

{فغلبوا هنالك وانقلبوا} وانصرفوا {صاغرين} ذليلين

120

{وألقي السحرة ساجدين} خرُّوا لله عابدين سامعين مطيعين

121

{قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ}

122

{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}

123

{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أصدَّقتم موسى من قبل أمري إيَّاكم؟ ! {إنَّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة} لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع {لتخرجوا منها أهلها} لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها وتتغلبوا عليها بسحركم {فسوف تعلمون} ما يظهر لكم

124

{لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} على مخالفة وهو أن يقطع من كلِّ شقٍّ طرف

125

{قالوا إنا إلى ربنا منقلبون} راجعون بالتَّوحيد والإِخلاص

126

{وما تنقم منا} وما تطعن علينا ولا تكره منَّا {إلاَّ أن آمنا بآيات ربنا} ما أتى به موسى من العصا واليد {ربنا أفرغ علينا صبراً} اصبب علينا الصَّبر عند الصَّلب والقطع حتى لا نرجع كفَّاراً {وتوفنا مسلمين} على دين موسى ثمَّ أغرى الملأ من قوم فرعون بموسى فقالوا:

127

{أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض} ليدعوا النَّاس إلى مخالفتك وعبادة غيرك {ويذرك وآلهتك} وذلك أنَّ فرعون كان قد صنع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها وقال: أنا ربُّكم ورب هذه الأصنام فلذلك قوله: {أنا ربُّكم الأعلى} فقال فرعون: {سنقتل أَبْناءَهم} وكان قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل فلمَّا كان من أمر موسى ما كان أعاد عليهم القتل فذلك قوله: {سنقتل أبناءهم ونَسْتَحْيِيَ نساءهم} للمهنة والخدمة {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} وإنَّا على ذلك قادرون فشكا بنو إسرائيل إلى موسى إعادة القتل على أبنائهم فقال لهم موسى:

128

{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} على ما يُفعل بكم {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده} أطمعهم موسى أن يعطيهم الله ملكهم ومالهم {والعاقبة للمتقين} أَيْ: الجنَّة لمن اتَّقى وقيل النَّصر والظَّفر

129

{قالوا أوذينا} بالقتل الأوَّل {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} بالرِّسالة {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإعادة القتل علينا والإِتعاب في العمل {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون وقومه {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} يُملِّككم ما كان يملك فرعون {فينظر كيف تعملون} فيرى ذلك لوقوع ذلك منكم

130

{ولقد آخذنا آل فرعون بالسنين} بالجدوب لأهل البوادي {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} لأهل القرى وصرَّفنا الآيات: بيَّناها لهم من كلِّ نوعٍ {لعلهم يذكرون} كي يتَّعظوا

131

{فإذا جاءتهم الحسنة} الخصب وسعة الرِّزق {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أَيْ: إنَّا مستحقُّوه على العادة التي جرت لنا من النِّعمة ولم يعلموا أنَّه من الله فيشكروا عليه {وإن تصبهم سيئة} قحط وجدب {يطيروا} يتشاءموا {بموسى} وقومه وقالوا: إنَّما أصابنا هذا الشرُّ بشؤمهم {ألا إنَّما طائرهم عند الله} شؤمهم جاءهم بكفرهم بالله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنَّ الذي أصابهم من الله

132

{وقالوا} بموسى: {مهما تأتنا به} أَيْ: متى ما تَأْتِنَا بِهِ {مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نحن لك بمؤمنين} فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم السَّماء بالماء حتى امتلأت بيوت القِبْطِ ماءً ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة فذلك قوله:

133

{فأرسلنا عليهم الطوفان} ودام ذلك سبعة أيَّام فقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} يكشف عنا فنؤمن لك فدعا ربَّه فكشف فلم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامَّة زروعهم وثمارهم فوعدوه أن يؤمنوا إن كشف عنهم فكشف فلم يؤمنوا فبعث الله عليهم القمَّل وهو الدّباء الصِّغار البق التي لا أجنحة لها فتتبَّعَ ما بقي من حروثهم وأشجارهم فصرخوا فكشف عنهم فلم يؤمنوا فعادوا بكفرهم فأرسل الله عليهم الضَّفادع تدخل في طعامهم وشرابهم فعاهدوا موسى أن يؤمنوا فكشف عنهم فعادوا لكفرهم فأرسل الله عليهم الدَّم فسال النِّيل عليهم دماً وصارت مياههم كلُّها دماً فذلك قوله: {آيات مفصلات} مبيَّنات {فاستكبروا} عن عبادة الله

134

{ولما وقع عليهم الرجز} أَيْ: العذاب وهو ما كانوا فيه من الجراد وما ذكر بعده {قَالُوا يَا مُوسَى ادع لنا ربك بما عهد عندك} بما أوصاك به وتقدَّم إليك أن تدعوه به {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنؤمننَّ لك ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل} وقوله:

135

{إلى أجل هم بالغوه} يعني: إلى الأجل الذي غَرَّقهم فيه {إذا هم ينكثون} ينقضون العهد ولا يوفون

136

{فانتقمنا منهم} سلبنا نعمتهم بالعذاب {فأغرقناهم في اليم} في البحر {بأنهم كذبوا بآياتنا} جزاء تكذيبهم {وكانوا عنها غافلين} غير معتبرين بها

137

{وأورثنا القوم} ملَّكناهم {الذين كانوا يستضعفون} بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم {مشارق الأرض ومغاربها} جهات شرق أرض الشَّام وجهات غربها {التي باركنا فيها} بإخراج الزُّروع والثِّمار والأنهار والعيون {وتمت كلمة ربك الحسنى} مواعيده التي لا خلف فيها بما كانوا يحبُّون وذلك جزاء صبرهم على صنيع فرعون {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه} أهلكنا ما عمل فرعون وقومه في أرض مصر {وما كانوا يعرشون} وما بنوا المنازل والبيوت

138

{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} عبرنا بهم الْبَحْرَ {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لهم} يعبدونها مقيمين عليها {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً} من دون الله {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} نعمة الله عليكم وما صنع بكم حيث توهَّمتم أنَّه يجوز عبادة غيره

139

{إنَّ هؤلاء} يعني: الذين عكفوا على أصنامهم {متبَّرٌ ما هم فيه} مهلَكٌ ومدَمَّرٌ {وباطل ما كانوا يعملون} يعني: إنَّ عملهم للشَّيطان ليس لله فيه نصيبٌ

140

{قال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ} أطلب لكم {إِلَهًا} معبوداً {وهو فضلكم على العالمين} على عالمي زمانكم بما أعطاكم من الكرامات

141

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ ربكم عظيم}

142

{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} يترقَّب انقضاءها للمناجاة وهي ذو القعدة أمره الله تعالى أن يصوم فيها فلمَّا انسلخ الشَّهر استاك لمناجاة ربِّه يريد إزالة الخلوف فأُمر بصيام عشرةٍ من ذي الحجَّة ليكلِّمه بخُلوفِ فيه فذلك قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} أَيْ: الوقت الذي قدَّره الله لصوم موسى {أربعين ليلة} فلمَّا أراد الانطلاق إلى الجبل استخلف أخاه هارون على قومه وهو معنى قوله: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأصلح} أَيْ: وارفق بهم {ولا تتبع سبيل المفسدين} لا تطع مَنْ عصى الله ولا توافقه على أمره

143

{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} أَيْ: في الوقت الذي وقَّتنا له {وكلمه ربُّه} فلمَّا سمع كلام الله {قال ربِّ أرني} نفسك {أنظر إليك} والمعنى: إنَّي قد سمعتُ كلامك فأنا أحبُّ أن أراك {قال لن تراني} في الدُّنيا {ولكن} اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك وهو الجبل {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} أَيْ: سكن وثبت {فسوف تراني} وإن لم يستقرَّ مكانه فإنَّك لا تطيق رؤيتي كما أنَّ الجبل لا يطيق رؤيتي {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} أَيْ: ظهر وبان {جعله دكاً} أَيْ: مدقوقاً مع الأرض كِسَراً تراباً {وخرَّ} وسقط {موسى صعقاً} مغشياً عليه {فلما أفاق قال سبحانك} تنزيهاً لك من السُّوء {تبتُ إليك} من مسألتي الرُّؤية في الدُّنيا {وأنا أول المؤمنين} أوَّل قومي إيماناً

144

{قال يا موسى إني اصطفيتك} اتَّخذتك صفوةً {على الناس برسالاتي} أَيْ: بوحيي إليك {وبكلامي} كلَّمتك من غير واسطة {فخذ ما آتيتك} من الشَّرف والفضيلة {وكن من الشاكرين} لأنعمي في الدنيا والآخرة

145

{وكتبنا له في الألواح} يعني: ألواح التَّوراة {من كل شيء} يحتاج إليه في أمر دينه {موعظة} نهياً عن الجهل {وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ} من الحلال والحرام {فخذها} أَيْ: وقلنا له: فخذها {بقوة} بجدٍّ وصحِّةٍ وعزيمةٍ {وأمر قومك} أن {يأخذوا بأحسنها} أَيْ: بحسنها وكلُّها حسن {سأريكم دار الفاسقين} يعني: جهنَّم أَيْ: ولتكن على ذكرٍ منكم لتحذروا أن تكونوا منهم

146

{سأصرف عن آياتي} يعني: السماوات والأرض أصرفهم عن الاعتبار بما فيها {الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} يعني: المشركين يقول: أعاقبهم بحرمان الهداية {وإن يروا سبيل الرشد} الهدى والبيان الذي حاء من الله {لا يتخذوه سبيلاً} ديناً {وإن يروا سبيل الغي} طاعة الشَّيطان {يتخذوه سبيلاً} ديناً {ذلك} فعل الله بهم {بأنهم كذبوا بآياتنا} جحدوا الإِيمان بها {وكانوا عنها غافلين} غير ناظرين فيها ولا معتبرين بها

147

{والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} يريد: الثَّواب والعقاب {حبطت أعمالهم} ضلَّ سعيهم {هل يجزون إلاَّ ما} أَيْ: جزاء ما {كانوا يعملون}

148

{واتخذ قوم موسى مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ: من بعد انطلاقه إلى الجبل {من حليِّهم} التي بقيت في أيديهم ممَّا استعاروه من القبط {عجلاً جسداً} لحماً ودما {له خوار} صوت {الم يروا} يعني: قوم موسى {أنه} أنَّ العجل {لا يكلَِّمهم ولا يهديهم سبيلاً} لا يرشدهم إلى دينٍ {اتخذوه} أَيْ: إلهاً ومعبوداً {وكانوا ظالمين} مشركين

149

{ولما سُقط في أيديهم} أَيْ: ندموا على عبادتهم العجل {ورأوا أنهم قد ضلوا} قد ابتلوا بمعصية الله وهذا كان بعد رجوع موسى إليهم

150

{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان} عليهم {أسفاً} حزيناً لأنَّ الله تعالى فتنهم {قال بئسما خلفتموني من بعدي} بئسما عملتم من بعدي حين اتَّخذتم العجل إلهاً وكفرتم بالله {أعجلتم أمر ربكم} أسبقتم باتخاذ العجل ميعاد ربِّكم؟ يعني: الأربعين ليلة وذلك أنَّه كان قد وعدهم أن يأتيهم بعد ثلاثين ليلةَ فلمَّا لم يأتيهم على رأس الثَّلاثين قالوا: إنَّه قد مات {وألقى الألواح} التي فيها التَّوراة {وأخذ برأس أخيه} بذؤابته وشعره {يجرُّه إليه} إنكاراً عليه إذ لم يلحقه فَيُعرِّفه ما فعل بنو إسرائيل كما قال في سورة طه: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أن لا تتبعنِ} الآية فأعلمه هارون أنَّه أَنَّما أقام بين أظهرهم خوفاً على نفسه من القتل وهو قوله: {قال ابن أمَّ} وكان أخاه لأبيه وأُمِّه ولكنَّه قال: يا ابنَ أمَّ ليرقِّقه عليه {إنَّ القوم استضعفوني} استذلُّوني وقهروني {وكادوا} وهمُّوا أن {يقتلونني فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} يعني: أصحاب العجل بضربي وإهانتي {ولا تجعلني} في موجدتك وعقوبتك لي {مع القوم الظالمين} الذين عبدوا العجل فلمَّا عرف براءة هارون ممَّا يوجب العتب عليه إذ بلغ من إنكاره على عبدة العجل ما خاف على نفسه القتل

151

{قال ربِّ اغفر لي} ما صنعتُ إلى أخي {ولأخي} إن قصَّر في الإِنكار {وأدخلنا في رحمتك} جنَّتك

152

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} يعني: اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهم أبناء الذين اتَّخذوا العجل إلهاً فأضيف إليهم تعييراً لهم بفعل آبائهم {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} عذابٌ في الآخرة {وذلة في الحياة الدنيا} وهي الجزية {وكذلك نجزي المفترين} كذلك أعاقب مَن اتَّخذ إلهاً دوني

153

{والذين عملوا السيئات} الشِّرك {ثم تابوا} رجعوا عنها {وآمنوا} صدَّقوا أنَّه لا إله غيري {إنَّ ربك من بعدها} من بعد التَّوبة {لغفور رحيم}

154

{ولما سكت} سكن {عن موسى الغضب أخذ الألواح} التي كان ألقاها {وفي نسختها} وفيما كُتب فيها: {هدىً} من الضَّلالة {ورحمة} من العذاب {لِلَّذِينَ هم لربهم يرهبون} للخائفين من ربِّهم

155

{واختار موسى قومه} من قومه {سبعين رجلاً لميقاتنا} أمره الله تعالى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعده لذلك موعداً فاختار موسى سبعين رجلاً ليعتذروا فلمَّا سمعوا كلام الله قالوا لموسى: أرنا الله جهرةٌ فأخذتهم {الرَّجفة} وهي الحركة الشَّديدة فماتوا جميعاً فقال موسى: {رب لو شئت أهلكتهم} وإيَّاي قبل خروجنا للميقات وكان بنو إسرائيل يُعاينون ذلك ولا يتهمونني وظن أنَّهم أهلكوا باتِّخاذ أصحابهم العجل فقال: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} وإنَّما أُهلكوا لمسألتهم الرُّؤية {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أَيْ: تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لو تكن إلاَّ فتنتك أي: اختبارك وابتلاؤك أضللتَ بها قوماً فافتتنوا وعصمتَ آخرين وهذا معنى قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تشاء}

156

{واكتب لنا} أوجب لَنَا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} أَي: اقبل وفادتنا ورُدَّنا بالمغفرة والرَّحمة {إنا هُدْنا إليك} تبنا ورجعنا إليك بالتَّوبة {قال عذابي أصيب به من أشاء} يعني: إنَّ رحمته في الدُّنيا وسعت البرَّ والفاجر وهي في الآخرة للمؤمنين خاصَّةً وهذا معنى قوله: {فسأكتبها} فسأوجبها في الآخرة {للذين يتقون} يريد: أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم {ويؤتون الزكاة} صدقات الأموال عند محلها {والذين هم بآياتنا يؤمنون} يصدِّقون بما أنزل على محمد والنَّبييِّن

157

{الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ} وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ وكانت هذه الخلَّة مؤكِّدة لمعجزته في القرآن {الذي يجدونه} بنعته وصفته {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} بالتَّوحيد وشرائع الإِسلام {وينهاهم عن المنكر} عبادة الأوثان وما لا يُعرف في شريعة {ويحلُّ لهم الطيبات} يعني: ما حرَّم عليهم في التَّوراة من لحوم الإِبل وشحوم الضَّأن {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الميتة والدَّم وما ذُكر في سورة المائدة {ويضع عنهم إصرهم} ويُسقط عنهم ثقل العهد الذي أُخذ عليهم {والأغلال التي كانت عليهم} الشَّدائد التي كانت عليهم كقطع أثر البول وقتل النَّفس في التَّوبة وقطع الأعضاء الخاطئة {فالذين آمنوا به} من اليهود {وعزَّروه} ووقَّروه {ونصروه} على عدوه {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} يعني: القرآن الآيتين

158

{قل يا أيها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي له ملك السماوات وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}

159

{ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق} يدعون إلى الحقِّ {وبه يعدلون} وبالحقِّ يحكمون وهم قوم وراء الصين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يصل إلينا منهم أحد ولا منَّا إليهم وقوله:

160

{فانبجست} أَي: انفجرت وهذه الآية مفسرة في سورة اليقرة إلى قوله:

161

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}

162

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بما كانوا يظلمون}

163

{واسألهم} يعني: سؤال توبيخٍ وتقريرٍ {عن القرية} وهي أيلة {التي كانت حاضرة البحر} مُجاورته {إذ يعدون في السبت} يظلمون فيه بصيد السَّمك {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} ظاهرة على الماء {ويوم لا يسبتون} لا يفعلون ما يفعل في السَّبت يعني: سائر الأيام {لا تأتيهم} الحيتان {كذلك} مثل هذا الاختبار الشَّديد {نبلوهم} نختبرهم {بما كانوا يفسقون} بعصيانهم الله أَيْ: شدَّدتُ عليهم المحنة لفسقهم ولمَّا فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاث فلاق: فرقةٌ صادت وأكلت وفرقةٌ نهت وزجرت وفرقةٌ أمسكت عن الصَّيد وهم الذين قال الله تعالى:

164

{وإذ قالت أمة منهم} قالوا للفرقة النَّاهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنَّهم غير مُقلعين فقالت الفرقة النَّاهية للذين لاموهم: {معذرة إلى ربكم} أَي: الأمر بالمعروف واجبٌ علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله {ولعلهم يتقون} فيتركون الصَّيد في السَّبت

165

{فلما نسوا ما ذكروا به} تركوا ما وُعظوا به {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عن السوء وأخذنا الذين ظلموا} اعتدوا في السَّبت {بعذاب بئيس} شديدٍ وهو المسخ جزاءً لفسقهم وخروجهم عن أمر الله

166

{فلما عتوا} أَيْ: طغوا واستكبروا {عن ما نهوا عنه} أَيْ: عن ترك ما نُهوا عنه من صيد الحيتان يوم السَّبت {قلنا لهم} الآية مفسرة في سورة البقرة

167

{وإذ تأذَّن ربك} قالَ وأعلم ربُّك {ليبعثنَّ} ليرسلنَّ {عليهم} على اليهود {مَنْ يسومهم} أَيْ: يذيقهم {سوء العذاب} إلى يوم القيامة يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم وأُمَّته يقاتلونهم أو يعطون الجزية {إنَّ ربك لسريع العقاب} لمن استحقَّ تعجيله

168

{وقطعناهم في الأرض أمماً} فرَّقناهم في البلاد فلم يجتمع لهم كلمة {منهم الصالحون} وهم الذين آمنوا {ومنهم دون ذلك} الذين كفروا {وبلوناهم} عاملناهم معاملة المختبر {بالحسنات} بالخِصب والعافية {والسيئات} الجدب والشَّدائد {لعلهم يرجعون} كي يتوبوا

169

{فَخَلَفَ من بعدهم خلف} من بعد هؤلاء الذين قطَّعناهم خلفٌ من اليهود يعني: أولادهم {ورثوا الكتاب} أخذوه عن آبائهم {يأخذون عرض هذا الأدنى} يأخذون ما أشرف لهم من الدُّنيا حلالاً أو حراماً {ويقولون سيغفر لنا} ويتمنَّون على الله المغفرة {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} وإن أصابوا عرضاً أيْ: متاعاً من الدُّنيا مثل رشوتهم تلك التي أصابوا بالأمس قبلوه وهذا إخبارٌ عن حرصهم على الدُّنيا {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يقولوا على الله إلاَّ الحق} وأكَّد الله عليهم في التوراة ألا يقولوا على الله إلاَّ الحق فقالوا الباطل وهو قولهم: {سيغفر لنا} وليس في التَّوراة ميعاد المغفرة مع الإِصرار {ودرسوا ما فيه} أَيْ: فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من الميثاق لأنهم قد قرؤوه

170

{والذين يمسكون بالكتاب} يؤمنون به ويحكمون بما فيه يعني: مؤمني أهل الكتاب {وأقاموا الصلاة} التي شرعها محمد صلى الله عليه وسلم {إنا لا نضيع أجر المصلحين} منهم

171

{وإذ نتقنا الجبل فوقهم} رفعناه باقتلاع له من أصله يعني: ما ذكرنا عند قوله: {ورفعنا فوقكم الطور} الآية {وظنوا} وأيقنوا {أنَّه واقع بهم} إن خالفوا وباقي الآية فيما سبق

172

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظهورهم ذريتهم} أخرج الله تعالى ذريَّة آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء وجميعُ ذلك أخرجه من صلب آدم مثل الذَّرِّ وأخذ عليهم الميثاق أنَّه خالقهم وأنَّهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا ذلك بعد أن ركَّب فيهم عقولاً وذلك قوله: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} أي: قال: ألستُ بربكم {قالوا بلى} فأقرُّوا له بالربوبيَّة فقالت الملائكة عند ذلك {شهدنا} أَيْ: على إقراركم {أن} لا {تقولوا} لئلا تقولوا أي: لئلا يقول الكفار {يوم القيامة إنا كنا عن هذا} الميثاق {غافلين} لم نحفظه ولم نذكره ويذكرون الميثاق ذلك اليوم فلا يمكنهم الإنكار مع شهادة الملائكة وهذه الآية تذكيرٌ لجميع المكلَّفين ذلك الميثاق لأنَّها وردت على لسان صاحب المعجزة فقامت في النُّفوس مقام ما هو على ذكرٍ منها

173

{أو تقولوا} أَيُّها الذُّريَّة محتجِّين يوم القيامة: {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أَيْ: قبلنا ونقضوا العهد {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} صغاراً فاقتدينا بهم {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أَفَتُعَذَّبنا بما فعل المشركون المكذِّبون بالتَّوحيد وإَّنما اقتدينا بهم وكنا في غفلةٍ عن الميثاق وهذه الآية قطعٌ لمعذرتهم فلا يمكنهم الاحتجاج بكون الآباء على الشِّرك بعد تذكير الله بأخذ الميثاق بالتَّوحيد على كلِّ واحدٍ من الذُّريَّة

174

{وكذلك} وكما بيَّنا في أمر الميثاق {نفصل الآيات} نبينها ليتدبها العباد {ولعلهم يرجعون} ولكي يرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر

175

{واتل عليهم} واقرأ واقصص يا محمَّد على قومك {نبأ} حبر {الذي آتيناه آياتنا} علَّمناه حجج التَّوحيد {فانسلخ} خرج {منها فأتبعه الشيطان} أدركه {فكأن من الغاوين} الضَّالين يعني: بلعم بن باعوراء أعان أعداء الله على أوليائه بدعائه فَنُزِعَ عنه الإِيمان

176

{ولو شئنا لرفعناه بها} بالعمل بها يعني: وفَّقناه للعمل بالآيات وكنَّا نرفع بذلك منزلته {ولكنه أخلد إلى الأرض} مال إلى الدُّنيا وسكن إليها وذلك أنَّ قومه أهدوا له رشوة ليدعوَ على قوم موسى فأخذها {واتبع هواه} انقاد لما دعاه إليه الهوى {فمثله كمثل الكلب} أراد أنَّ هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر وإن تركته لم يهتدِ فالحالتان عنده سواءٌ كحالتي الكلب اللاهث فإنَّه إنْ حُمل عليه بالطَّرد كان لاهثاً وإن تُرك وربض كان أيضاً لاهثاً كهذا الكافر في الحالتين ضالٌّ وذلك أنَّه زُجر في المنام عن الدُّعاء على موسى فلم ينزجر وتُرك عن الزَّجر فلم يهتد فضرب الله له أخسَّ شيءٍ في أخسّ أحواله وهو حال اللَّهث مثلاً وهو إدلاع اللِّسان من الإِعياء والعطش والطلب يفعل ذلك في حال الكلال وحال الرَّاحة ثمَّ عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذِّبين بآيات الله فقال: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كذبوا بآياتنا} يعني: أهل مكَّة كانوا يتمنَّون هادياً يهديهم فلما جاءهم مَنْ لا يشكُّون في صدقه كذَّبوه فلم يهتدوا لمَّا تُركوا ولم يهتدوا أيضاً لمَّا دُعوا بالرَّسول فكانوا ضالِّين عن الرُّشد في الحالتين {فاقصص القصص} يعني: قصص الذين كذَّبوا بآياتنا {لعلهم يتفكرون} فيتَّعظون ثمَّ ذمَّ مَثلَهم فقال:

177

{ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي: بئس مثلُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} بذلك التَّكذيب يعني: إنما يخسرون حظهم

178

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فأولئك هم الخاسرون}

179

{ولقد ذَرَأْنا} خلقنا {لجهنم كثيراً من الجن والإِنس} وهم الذين حقَّت عليهم الشَّقاوة {لهم قلوب لا يفقهون بها} لا يعقلون بها الحير والهدى {ولهم أعين لا يبصرون بها} سبل الهدى {ولهم آذان لا يسمعون بها} مواعظ القرآن {أولئك كالأنعام} يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة {بل هم أضلُّ} لأنَّ الأنعام مطيعةٌ لله والكافر غير مطيع {أولئك هم الغافلون} عمَّا في الآخرة من العذاب

180

{ولله الأسماء الحسنى} يعني: التِّسعة والتِّسعين {فادعوه بها} كقولك: يا اللَّهُ يا قديرُ يا عليمُ {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} يميلون عن القصد وهم المشركون عدلوا بأسماء الله عمّا هي عليه فسمُّوا بها أوثانهم وزادوا فيها ونفصوا واشتقوا اللاَّت من الله والعُزَّى من العزيز ومناة من المنَّان {سيجزون ما كانوا يعملون} جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة

181

{وممن خلقنا أمة} الآية يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال في قوم موسى عليه السلام: {ومن قوم موسى أمةٌ} الآية

182

{والذين كذبوا بآياتنا} محمدٍ والقرآن يعني: أهل مكَّة {سنستدرجهم} سنمكر بهم {من حيث لا يعلمون} كلما جدَّدوا لنا معصية جدَّّدنا لهم نعمةً

183

{وأملي لهم} أُطيل لهم مدَّة عمرهم ليتمادوا في المعاصي {إِنَّ كيدي متين} مكري شديد نزلت في المستهزئين من قريش قتلهم الله في ليلةٍ واحدةٍ بعد أن أمهلهم طويلاً

184

{أَوَلَم يتفكروا} فيعلموا {ما بصاحبهم} محمَّدٍ {من جنة} من جنون

185

{أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} ليستدلُّوا بها على توحيد الله وفسَّرنا ملكوت السماوات والأرضِ في سورة الأنعام {وما خلق الله من شيء} وفيما خلق الله من الأشياء كلها {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} وفي أنْ لعلَّ آجالهم قريبة فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النَّار {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يؤمنون} فبأيِّ قرآنٍ غير ما جاء به محمَّد يُصدِّقون؟ يعني: إنَّه خاتم الرُّسل ولا وحي بعده ثمَّ ذكر علَّة إعراضهم عن الإيمان فقال:

186

{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ في طغيانهم يعمهون}

187

{يسألونك عن الساعة} أَي: السَّاعة التي يموت فيها الخلق يعني: القيامة نزلت في قريش قالت لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: أسرَّ إلينا متى السَّاعة {أيَّان مرساها} متى وقوعها وثبوتها؟ {قل إنما علمها} العلم بوقتها ووقوعها {عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لوقتها إلاَّ هو} لا يظهرها في وقتها إلاَّ هو {ثقلت في السماوات والأرض} ثقل وقوعها وكَبًُر على أهل السماوات والأرض لما فيها من الأهوال {لا تأتيكم إلاَّ بغتة} فجأة {يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها} عالمٌ بها مسؤول عَنْهَا {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يعلمون} أنَّ علمها عند الله حين سألوا محمداً عن ذلك

188

{قل لا أملك لنفسي} الآية إنَّ أهل مكة قالوا: يا محمَّد ألا يخبرك ربُّك بالسِّعر الرَّخيص قبل أن يغلو فنستري من الرَّخيص لنربح عليه؟ وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل عنها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى قوله: {لا أملك لنفسي نفعاً} أي: اجتلاب نفع بأن أربح {ولا ضرَّاً} دفع ضرٍّ بأن أرتحل من الأرض التي تريد أن تجدب {إلاَّ ما شاء الله} أن أملكه بتمليكه {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} ما يكون قبل أن يكون {لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} لادَّخرت في زمانِ الخِصْبِ لزمن الجدب {وما مسني السوء} وما أصابني الضرُّ والفقر {إن أنا إلاَّ نذير} لمَنْ يصدِّق ما جئت به {وَبَشِيرٌ} لمن اتَّبعني وآمن بي

189

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني: آدم {وجعل منها زوجها} حوَّاء خلقها من ضلعه {ليسكن إليها} ليأنس بها فيأوي إليها {فلما تغشاها} جامعها {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} يعني: النُّطفة والمنيِّ {فمرَّت به} استمرَّت بذلك الحمل الخفيف وقامت وقعدت ولم يُثْقِلها {فلما أثقلت} صار إلى حال الثِّقل ودنت ولادتها {دَعَوَا اللَّهَ ربهما} آدم وحواء {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} بشراً سويَّاً مثلنا {لَنَكُونَنَّ من الشاكرين} وذلك أنَّ إبليس أتاها في غير صورته التي عرفته وقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري قال: إنِّي أخاف أن يكون بهيمةً أو كلباً أو خنزيراً وذكرت ذلك لآدم فلم يزالا في همٍّ من ذلك ثمَّ أتاها وقال: إن سألتُ الله أن يجعله خلقاً سويَّاً مثلك أَتُسمِّينه عبد الحارث؟ وكان إبليس في الملائكة الحارث ولم يزل بها حتى غرَّها فلمَّا ولدت ولداً سويَّ الخلق سمَّته عبد الحارث فرضي آدم فذلك قوله:

190

{فلما آتاهما صالحاً} ولداً سويّاً {جعلا له} لله {شركاء} يعني: إبليس فأوقع الواحد موقع الجميع {فيما آتاهما} من الولد إذ سمَّياه عبد الحارث ولا ينبغي أن يكون عبداً إلاَّ لله ولم تعرف حوَّاء أنَّه إبليس ولم يكن هذا شركاً بالله لأنَّهما لم يذهبا إلى أنَّ الحارث ربَّهما لكنهما قصدا إلى أنَّه كان سبب نجاته وتم الكلام عند قوله: فيما {آتاهما} ثمَّ ذكر كفَّار مكة فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}

191

{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يريد: أيعبدون ما لا يقدر أن يخلق شيئاً وهم مخلوقون! على الأصنام

192

{ولا يستطيعون لهم نصراً} لا تنصر مَنْ أطاعها {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} ولا يدفعون عن أنفسهم مكروه مَنْ أرادهم بكسرٍ أو نحوه ثمَّ خاطب المؤمنين فقال:

193

{وإن تدعوهم} يعني: المشركين {إلى الهدى لا يتبعوكم} الآية

194

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: الأصنام {عباد} مملوكون مخلوقون {أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم} فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم! ؟ {إِنْ كُنْتُمْ صادقين} أن لكم عند الأصنام منفعةً أو ثواباً أو شفاعةً ثمَّ بيَّن فضل الآدميِّ عليهم فقال:

195

{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} مشيَ بني آدم {أَمْ لهم أيدٍ يبطشون بها} يتناولون بها مثل بطش بني آدم {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم} الذين تعبدون من دون الله {ثمَّ كيدون} أنتم وشركاؤكم {فلا تنظرون} لا تُمهلون واعجلوا في كيدي

196

{إنَّ وليي الله} الذي يتولَّى حفظي ونصري {الذي نزل الكتاب} القرآن {وهو يتولى الصالحين} الذين لا يعدلون بالله شيئا وقوله:

197

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هم الغافلون}

198

{وتراهم ينظرون إليك} تحسبهم يرونك {وهم لا يبصرون} وذلك لأنَّ لها أعيناً مصنوعةً مركَّبةً بالجواهر حتى يحسب الإِنسان أنَّها تنظر إليه

199

{خذ العفو} اقبل الميسور من أخلاق النَّاس ولا تستقصِ عليهم وقيل: هو أن يعفو عمَّنْ ظلمه ويصل مَنْ قطعه {وأمر بالعرف} المعروف الذي يعرف حسنه كلُّ أحدٍ {وأعرض عن الجاهلين} لا تقابل السَّفيه بسفهه فلمَّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا ربِّ والغضب؟ فنزل:

200

{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} يعرض لك من الشيطان عارضٌ ونالك منه أدنى وسوسة {فاستعذ بالله} اطلب النَّجاة من تلك البليَّة بالله {إنَّه سميع} لدعائك {عليم} عالمٌ بما عرض لك

201

{إنَّ الذين اتقوا} يعني: المؤمنين {إذا مسَّهم} أصابهم {طائف من الشيطان} عارضٌ من وسوسته {تذكَّروا} استعاذوا بالله {فإذا هم مبصرون} مواقع خَطَئِهِمْ فينزعون من مخالفة الله

202

{وإخوانهم} يعني: الكفَّار وهم إخوان الشَّياطين {يمدونهم} أَي: الشَّياطين يطوِّلون لهم الإِغواء والضَّلالة {ثم لا يقصرون} عن الضلالة ولا يبصرونها كما أقصر المُتَّقي عنها حين أبصرها

203

{وإذا لم تأتهم} يعني: أهل مكَّة {بآية} سألوكها {قالوا لولا اجتبيتها} اختلقتها وأنشأتها من قبل نفسك {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ ربي} أَيْ: لستُ آتي بالآيات من قبل نفسي {هذا} أَيْ: هذا القرآن الذي أتيتُ به {بصائر من ربكم} حججٌ ودلائلُ تعود إلى الحق

204

{وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} الآيةُ نزلت في تحريم الكلام في الصَّلاة وكانوا يتكلَّمون في الصَّلاة في بدء الأمر وقيل: نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإِمام وقيل: نزلت في السُّكوت للخطبة وقوله: {وأنصتوا} أَيْ: عمَّا يحرم من الكلام في الصَّلاة أو عن رفع الصَّوت خلف الإِمام أو اسكتوا لاستماع الخطبة

205

{واذكر ربك في نفسك} يعني: القراءة في الصَّلاة {تضرُّعاً وخيفة} استكانةًَ لي وخوفاً من عذابي {ودون الجهر} دون الرَّفع {من القول بالغدو والآصال} بالبُكُر والعشيَّات أُمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإِسرار ودون الجهر فيما يرفع به الصَّوت {ولا تكن من الغافلين} الذين لا يقرؤون في صلاتهم

206

{إنَّ الذين عند ربك} يعني: الملائكة وهم بالقرب من رحمة الله {لا يستكبرون عن عبادته} أَيْ: هم مع منزلتهم ودرجتهم يعبدون الله كأنَّه قيل: مَنْ هو أكبر منك أيُّها الإِنسان لا يستكبر عن عبادة الله {ويسبحونه} يُنزِّهونه عن السُّوء {وله يسجدون}

سورة الأنفال

{يسألونك عن الأنفال} الغنائم لمن هي؟ نزلت حسن اختلفوا في غنائم بدر فقال الشُّبان: هي لنا لأنَّا باشرنا الحرب وقالت الأشياخ: كنا رداءا لكم لأنَّا وقفنا في المصافِّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا فأنزل الله تعالى: {قل الأنفال لله والرسول} يضعها حيث يشاء من غير مشاركة فيها فقسمها بينهم على السَّواء {فاتقوا الله} بطاعته واجتناب معاصية {وأصلحوا ذات بينكم} حقيقة وصلكم أَيْ: لا تَخَالفوا {وأطيعوا الله ورسوله} سلِّموا لهما في الأنفال فإنَّهما يحكمان فيها ما أرادا {إن كنتم مؤمنين} ثمَّ وصف المؤمنين فقال:

2

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قلوبهم} أَيْ: المؤمن الذي إذا خُوِّف بالله فرق قلبه وانقاد لأمره {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} تصديقاً ويقيناً {وعلى ربهم يتوكلون} بالله يثقون لا يرجون غيره

3

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

4

{أُولَئِكَ هم المؤمنون حقاً} صدقاً من غير شكٍّ لا كإيمان المنافقين {لهم درجات عند ربهم} يعني: درجات الجنَّة {ومغفرة ورزق كريم} وهو رزق الجنَّة

5

{كما أخرجك} أيْ: امض لأمر الله في الغنائم وإن كره بعضهم ذلك لأنَّ الشُّبان أرادوا أن يستبدُّوا به فقال الله تعالى: أعط مَنْ شئت وإن كرهوا كما مضيت لأمر الله في الخروج وهم له كارهون ومعنى {كما أخرجك ربُّك من بيتك} أمرك بالخروج من المدينة لعير قريش {بالحقِّ} بالوحي الذي أتاك به جبريل {وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون} الخروج معك كراهة الطَّبع لاحتمال المشقَّة لأنَّهم علموا أنَّهم لا يظفرون بالعير دون القتال

6

{يجادلونك في الحق بعد ما تبيَّن} في القتال بعد ما أُمرت به وذلك أنَّهم خرجوا للعير ولم يأخذوا أُهبة الحرب فلمَّا أُمروا بحرب النَّفير شقَّ عليهم ذلك فطلبوا الرُّخصة في ترك ذلك فهو جدالهم {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أَيْ: لشدَّة كراهيتهم للقاء القوم كأنَّهم يُساقون إلى الموت عياناً

7

{وإذْ يعدكم الله إحدى الطائفتين} العير أو النَّفير {أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تكون لكم} أَيْ: العير التي لا سلاح فيها تَكُونُ لَكُمْ {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} يُظهره ويُعليَه {بكلماته} بِعِدَاتِه التي سبقت بظهور الإِسلام {ويقطع دابر الكافرين} آخر مَنْ بقي منهم يعني: إنَّه إنَّما أمركم بحرب قريشٍ لهذا

8

{ليحقَّ الحق} أَيْ: ويقطع دابر الكافرين ليُظهر الحقَّ ويُعليَه {ويبطل الباطل} ويُهلك الكفر ويُفنيه {ولو كره المجرمون} ذلك

9

{إذ تستغيثون ربكم} تطلبون منه المغفرة بالنَّصر على العدوِّ لقلَّتكم {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مردفين} متتابعين جاؤوا بعد المسلمين ومَنْ فتح الدَّال أراد: بألفٍ أردف الله المسلمين بهم

10

{وما جعله الله} أَيْ: الإِرداف {إلاَّ بشرى} الآية ماضية في سورة آل عمران

11

{إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} وذلك أنَّ الله تعالى أمَّنهم أمناً غشيهم النُّعاس معه وهذا كما كان يوم أُحدٍ وقد ذكرنا ذلك في سورة آل عمران {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وذلك أنَّهم لمَّا بايتوا المشركين ببدرٍ أصابت جماعة منهم جنابات وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء فوسوس إليهم الشَّيطان وقال لهم: كيف ترجون الظَّفر وقد غلبوكم على الماء؟ وأنتم تُصلُّون مُجنِبين ومُحدِثين وتزعمون أنَّكم أولياء الله وفيكم نبيُّه؟ فأنزل الله تعالى مطراً سال منه الوادي حتى اغتسلوا وزالت الوسوسة فذلك قوله: {ليطهركم به} أَيْ: من الأحداث والجنابات {ويذهب عنكم رجز الشيطان} وسوسته التي تكسب عذاب الله {وليربط} به {على قلوبكم} باليقين والنَّصر {ويثبت به الأقدام} وذلك أنَّهم كانوا قد نزلوا على كثيبٍ تغوص فيه أرجلهم فلبَّده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام

12

{إذ يوحي ربك إلى الملائكة} الذين أمدَّ بهم المسلمين {إني معكم} بالعون والنُّصرة {فثبتوا الذين آمنوا} بالتَّبشير بالنَّصر وكان المَلَك أمام الصَّف على صورة رجلٍ ويقول: أبشروا فإنَّ الله ناصركم {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} الخوف من أوليائي {فاضربوا فوق الأعناق} أَيْ: الرُّؤوس {واضربوا منهم كلَّ بنان} أَيْ: الأطراف من اليدين والرِّجلين

13

{ذلك} الضَّرب {بأنهم شاقوا الله ورسوله} باينوهما وخالفوهما

14

{ذلكم} القتل والضَّرب ببدرٍ {فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النار} بعدما نزل بهم من ضرب الأعناق

15

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} مُجتمعين مُتدانين إليكم للقتال {فلا تولوهم الأدبار} لا تجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم

16

{ومن يُوَلَّهِمْ يومئذٍ} أَيْ: يوم لقاء الكفَّار {دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} مُنعطفاً مُستَطرداً يطلب العودة {أو متحيزاً} مُنضمَّاً {إلى فئة} لجماعةٍ يريدون العود إلى القتال {فقد باء بغضب من الله} الآية وأكثر المفسرين على أنَّ هذا الوعيد إنَّما كان لمَنْ فرَّ يوم بدرٍ وكان هذا خاصَّاً للمنهزم يوم بدرٍ

17

{فلم تقتلوهم} يعني: يوم بدرٍ {ولكنَّ الله قتلهم} بتسبيبه ذلك من المعونة عليهم وتشجيع القلب {وما رميت إذ رميت} وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام قال للنبيِّ عليه السَّلام يوم بدرٍ: خذ قبضةً من تراب فارمهم بها فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من حصى الوادي فرمى بها في وجوه القوم فلم يبقَ مشركٌ إلاَّ دخل عينيه منها شيء وكان ذلك شبب هزيمتهم فقال الله تعالى {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أَيْ: إنَّ كفَّاً من حصى لا يملأ عيون ذلك الجيش الكثير برمية بَشرٍ ولكنَّ الله تعالى تولَّى إيصال ذلك إلى أبصارهم {وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً} وينعم عليهم نعمةً عظيمةً بالنَّصر والغنيمة فعل ذلك {إنَّ الله سميع} لدعائهم {عليم} بنيَّاتهم

18

{ذلكم وأنَّ الله موهن كيد الكافرين} يُهنِّىء رسوله بإيهانه كيد عدوِّه حتى قُتلت جبابرتهم وأُسِر أشرافهم

19

{إن تستفتحوا} هذا خطابٌ للمشركين وذلك أنَّ أبا جهلٍ قال يوم بدرٍ: اللَّهم انصر أفضل الدِّينَيْن وأهدى الفئتين فقال الله تعالى: {إن تستفتحوا} تستنصروا لأَهْدى الفئتين {فقد جاءكم الفتح} النَّصر {وإن تنتهوا} عن الشِّرك بالله {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تعودوا} لقتال محمَّدٍ {نعد} عليكم بالقتل والأسر {ولن تغني عنكم} تدفع عَنْكُمْ {فِئَتُكُمْ} جماعتكم {شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} في العدد {وأنَّ الله مع المؤمنين} فالنَّصر لهم

20

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عنه} لا تُعرضوا عنه بمخالفة أمره {وأنتم تسمعون} ما نزل من القرآن

21

{ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} سماع قابلٍ وليسوا كذلك يعني: المنافقين وقيل: أراد المشركين لأنَّهم سمعوا ولم يتفكَّروا فيما سمعوا فكانوا بمنزلة مَنْ لم يسمع

22

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الذين لا يعقلون} يريد نفراً من المشركين كانوا صمَّاً عن الحقِّ فلا يسمعونه بُكماً عن التَّكلُّم به بيَّن الله تعالى أنَّ هؤلاء شرُّ ما دبَّ على الأرض من الحيوان

23

{ولو علم الله فيهم خيراً} لو علم أنَّهم يصلحون بما يُورده عليهم من حججه وآياته {لأسمعهم} إيَّاها سماع تفهمٍ {ولو أسمعهم} بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك و {لَتَوَلَّوْا وهم معرضون}

24

{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} أجيبوا لهما بالطَّاعة {إذا دعاكم لما يحييكم} يعني: لأنَّ به يحيا أمرهم ويقوى ولأنَّه سبب الشَّهادة والشُّهداء أحياءٌ عند ربهم ولأنَّه سببٌ للحياة الدَّائمة في الجنَّة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} يحول بين الإِنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلاَّ بإذنه ولا أن يكفر فالقلوب بيد الله تعالى يُقلِّبها كيف يشاء {وأنَّه إليه تحشرون} للجزاء على الأعمال

25

{واتقوا فتنة} الآية أمر الله تعالى المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمَّهم الله بالعذاب والفتنة ها هنا: إقرار المنكر وترك التَّغيير له وقوله: {لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة} أَيْ: تصيب الظَّالم والمظلوم ولا تكون للظَّلمة وحدهم خاصَّة ولكنَّها عامَّة والتَّقدير: واتَّقوا فتنةً إن لا تتقوها لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصَّة أَيْ: لا تقع بالظَّالمين دون غيرهم ولكنها تقع بالصَّالحين والطَّالحين {واعلموا إن الله شديد العقاب} حثٌّ على لزوم الاستقامة خوفاً من الفتنة ومن عقاب الله بالمعصية فيها

26

{واذكروا} يعني: المهاجرين {إذ أنتم قليل} يعني: حين كانوا بمكَّة في عنفوان الإسلام قبل أن يكلموا أربعين {مستضعفون في الأرض} يعني: أرض مكَّة {تخافون أن يتخطفكم الناس} المشركون من العرب لو خرجتم منها {فآواكم} جعل لكم مأوىً ترجعون إليه وضمَّكم إلى الأنصار {وأيَّدكم بنصره} يوم بدرٍ بالملائكة {ورزقكم من الطيبات} يعني: الغنائم أحلَّها لكم {لعلكم تشكرون} كي تطيعوا

27

{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله} بترك فرائضه {والرسول} بترك سنَّته {وتخونوا} أَيْ: ولا تخونوا {أماناتكم} وهي كلُّ ما ائتمن الله عليها العباد وكلُّ أحدٍ مؤتمنٌ على ما افترض الله عليه {وأنتم تعلمون} أنَّها أمانةٌ من غير شبهةٍ وقيل: نزلت هذه الآية في أبي لُبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُريظة لمَّا حاصرهم وكان أهله وولده فيهم فقالوا له: ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعدٍ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أنَّه الذَّبح فلا تفعلوا وكانت منه خيانةً لله ورسوله

28

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ: محنةٌ يظهر بها ما في النَّفس من اتِّباع الهوى أو تجنُّبه ولذلك مال أبو لبابة إلى قُريظة في إطلاعهم على حكم سعد لأنَّ ماله وولده كانت فيهم {وإنَّ الله عنده أجر عظيم} لمن أدى الأمانة ولم يخن

29

{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله} باجتناب الخيانة فيما ذُكر {يجعل لكم فرقاناً} يفرق بينكم وبين ما تخافون فتنجون {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم {والله ذو الفضل العظيم} لا يمنعكم ما وعدكم على طاعته

30

{وإذ يمكر بك الذين كفروا} وذلك أنَّ مشركي قريش تآمروا في دارة النَّدوة في شأن محمَّد عليه السًّلام فقال بعضهم: قيدوه نترص به ريب المنون وقال بعضهم: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه وقال أبو جهل - لعنه الله -: ما هذا برأي ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كلِّ بطنٍ رجلٌ فيضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ فإذا قتلوه تفرَّق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلِّها فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه بذلك وأمره بالهجرة فذلك قوله: {ليثبتوك} أَيْ: ليوثقوك ويشدُّوك {أو يقتلوك} بأجمعهم قتلةَ رجلٍ واحدٍ كما قال اللَّعين أبو جهل {أو يخرجوك} من مكَّة إلى طرفٍ من أطراف الأرض {ويمكرون ويمكر الله} أَيْ: يجازيهم جزاء مكرهم بنصر المؤمنين عليهم {والله خير الماكرين} أفضل المجازين بالسيئة العقوبة وذلك أنَّه أهلك هؤلاء الذين دبَّروا لنبيِّه الكيد وخلَّصه منهم

31

{وإذا تتلى عليهم آياتنا} الآية كان النَّضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجراً واشترى أحاديث كليلة ودمنة فكان يقعد به مع المستهزئين فيقرأ عليهم فلمَّا قصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال النَّضرُ بن الحارث: لو شئتُ لقلتُ مثل هذا إنْ هذا إلاَّ ما سطَّر الأوَّلون في كتبهم وقال النَّضر أيضاً:

32

{اللهم إن كان هذا} الذي يقوله محمَّدٌ حقَّاً {من عندك فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السماء} كما أمطرتا على قوم لوط {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: ببعض ما عذَّبت به الأمم حمله شدَّة عداوة النبي صلى الله عليه وسلم على إظهار مثل هذا القول ليوهم أنَّه على بصيرةٍ من أمره وغاية الثِّقة في أمر محمَّد أنَّه ليس على حقٍّ

33

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} وَمَا كان الله ليعذِّب المشركين وأنت مقيمٌ بين أظهرهم لأنَّه لم يعذِّب الله قريةً حتى يخرج النبيُّ منها والذين آمنوا معه {وما كان الله} معذِّبَ هؤلاء الكفَّار وفيهم المؤمنون {يستغفرون} يعني: المسلمين ثمَّ قال:

34

{وما لهم أن لا يعذبهم الله} أي: ولمَ لا يعذِّبهم الله بالشيف بعد خروج مَنْ عنى بقوله: {وهم يستغفرون} من بينِهم {وهم يصدون} يمنعون النبيِّ والمؤمنين {عن المسجد الحرام} أن يطوفوا به {وما كانوا أولياءه} وذلك أنَّهم قالوا: نحن أولياء المسجد فردَّ الله عليهم بقوله: {إن أولياؤه إلاَّ المتقون} يعني: المهاجرين والأنصار {ولكن أكثرهم لا يعلمون} غيبَ علمي وما سبق في قضائي

35

{وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وتصديةً} أي: صفيرا وتصفيفا وكانت قريش يطوفون بالبيت عُراةً يُصفِّرون ويُصفِّقون جعلوا ذلك صلاةً لهم فكان تقربهم إلى الله بالتصفير والصَّفيق {فذوقوا العذاب} ببدرٍ {بما كنتم تكفرون} تجحدون توحيد الله تعالى

36

{إنَّ الذين كفروا} نزلت في المُنفقين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيَّام بدرٍ وكانوا اثني عشر رجلاً قال تعالى: {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة} بذهاب الأموال وفوات المراد

37

{ليميز الله الخبيث من الطيب} أي: إنما تحشرون إلى جهنَّم ليميِّز بين أهل الشَّقاوة وأهل السَّعادة {ويجعل الخبيث} أي: الكافر وهو اسم الجنس {بعضه على بعض} يلحق بعضهم ببعض {فيركمه جميعاً} أَيْ: يجمعه حتى يصير كالسَّحاب المركوم ثمَّ {فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} لأنَّهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة

38

{قل للذين كفروا} أبي سفيان وأصحابه: {إن ينتهوا} عن الشِّرك وقتال المؤمنين {يغفر لهم ما قد سلف} تقدَّم من الزِّنا والشِّرك لأنَّ الحربيَّ إذا أسلم عاد كَمِثْلِهِ يوم ولدته أمه {وإن يعودوا} للقتال {فقد مضت سنَّة الأولين} بنصر اللَّهِ رسلَه ومَنْ آمن على مَنْ كفر

39

{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} كفرٌ {ويكون الدين كله لله} لا يكون مع دينكم كفرٌ في جزيرة العرب {فإن انتهوا} عن الشِّرك {فإنَّ الله بما يعملون بصير} يُجازيهم مُجازاة البصير بهم وبأعمالهم

40

{وإن تولوا} أَبَوا أن يدعوا الشِّرك وقتال محمد {فاعلموا أنَّ الله مولاكم} ناصركم يا معشر المؤمنين

41

{واعلموا أنما غنمتم من شيء} أخذتموه قسراً من الكفَّار {فَأَنَّ لله خمسه} هذا تزيينٌ لافتتاح الكلام ومصرف الخمس إلى حيث شكر وهو قوله: {وللرسول} كان له خمس الخمس يصنع فيه ما يشاء واليوم يُصرف إلى مصالح المسلمين {ولذي القربى} وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين حُرِّمت عليهم الصَّدقات المفروضة لهم خمس الخمس من الغنيمة {واليتامى} وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم يُنفق عليهم من خُمس الخمس {والمساكين} وهم أهل الحاجة والفاقة من المسلمين لهم أيضاً خمس الخمس {وابن السبيل} المنقطع به في سفره فخمس الغنيمة يقسم على خمسة أخماس كما ذكره الله تعالى وأربعة أخماسها تكون للغانمين وقوله: {إن كنتم آمنتم بالله} أَيْ: فافعلوا ما أُمرتم به في الغنيمة إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عبدنا} يعني: هذه السُّورة {يوم الفرقان} اليوم الذي فرَّقت به بين الحقِّ والباطل {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} حزب الله وحزب الشَّيطان {والله على كل شيء قدير} إذ نصركم الله وأنتم قلة أذلَّةٌ

42

{إذ أنتم بالعدوة الدنيا} نزولٌ بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة وعدوكم نزولٌ بشفير الوادي الأقصى إلى مكَّة {والركب} أبو سفيان وأصحابه وهم أصحاب الإِبل يعني: العير {أسفل منكم} إلى ساحل البحر {ولو تواعدتم} للقتال {لاختلفتم في الميعاد} لتأخَّرتم فنقضتم الْمِيعَادِ لكثرتهم وقلَّتكم {ولكن} جمعكم الله من غير ميعاد {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} في علمه وحكمه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة} أي: فعل ذلك ليضلَّ ويكفر مَنْ كفر من بعد حجَّةٍ قامت عليه وقطعت عذره ويؤمن من آمن على مثل ذلك وأراد بالبيِّنة نصرة المؤمنين مع قلَّتهم على ذلك الجمع الكثير مع كثرتهم وشوكتهم {وإنَّ الله لسميع} لدعائكم {عليمٌ} بنيَّاتكم

43

{إذ يريكهم الله في منامك} عينك وهو موضع النَّوم {قليلاً} لتحتقروهم وتجترؤوا عليهم {ولو أراكهم كثيراً لفشلتم} لجّبُنْتُم ولَتأخَّرتم عن حربهم {ولتنازعتم في الأمر} واختلفت كلمتكم {ولكنَّ الله سلَّم} عصمكم وسلَّمكم من المخالفة فيما بينكم {إنه عليم بذات الصدور} علم ما في صدوركم من اليقين ثمَّ خاطب المؤمنين جميعأً بهذا المعنى فقال:

44

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا} قال ابن مسعودٍ: لقد قُلَّلوا في أعيننا يوم بدرٍ حتى قلت لرجلٍ إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة وأسرنا رجلاً فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً {ويقللكم في أعينهم} ليجترئوا عليكم ولا يرجعوا عن قتالكم {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} في علمه بنصر الإسلام وأهله وذلِّ الشِّرك وأهله {وإلى الله ترجع الأمور} وبعد هذا إليَّ مصيركم فأكرم أوليائي وأعاقب أَعدائي

45

{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة} جماعةً كافرةً {فاثبتوا} لقتالهم ولا تنهزموا {واذكروا الله كثيراً} ادعوه بالنَّصر عليهم {لعلكم تفلحون} كي تسعدوا وتبقوا في الجنة فإنَّهما خصلتان إمَّا الغنيمة وإمَّا الشَّهادة

46

{وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا} ولا تختلفوا {فتفشلوا} تجبنوا {وتذهب ريحكم} جَلَدكم وجرأتكم ودولتكم

47

{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم} يعني: النَّفير {بطراً} طُغياناً في النِّعمة للجميل مع إبطان القبيح {ويصدون عن سبيل الله} لمعاداة المؤمنين وقتالهم {والله بما يعملون محيط} عالم فيجازيهم به

48

{وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} الآية وذلك أنَّ قريشا لما اجتمعت المسير خافت كنانة وبني مدلج لطوائلَ كانت بينهم فتبدَّى لهم إبليس في جنده على صورة سُراقة بن مالك بن جشعم الكنانيِّ ثمَّ المدلجيِّ فقالوا له: نحنُ نريد قتال هذا الرَّجل ونخاف من قومك فقال لهم: أنا جارٌ لكم أَيْ: حافظٌ من قومي فلا غالب لكم اليوم من النَّاس {فلما تراءت الفئتان} التقى الجمعان {نكص على عقبيه} رجع مولياً فقيل له: يا سراقة أفراراً من غير قتال؟ ! فقال: {إني أرى ما لا ترون} وذلك أنَّه رأى جبريل مع الملائكة جاؤوا لنصر المؤمنين {إني أخاف الله} أن يهلكني فيمن يهلك {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

49

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وهم قومٌ أسلموا بمكة ولم يهاجروا فلمَّا خرجت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجوا معهم وقالوا: نكون مع أكثر الفئتين فلمَّا رأوا قلَّة المسلمين قالوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} إذ خرجوا مع قلَّتهم يقاتلون الجمع الكثير ثمَّ قُتلوا جميعاً مع المشركين قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} يُسلم أمره إلى الله {فإنَّ الله عزيز} قويٌّ منيع {حكيم} في خلقه

50

{ولو ترى} يا محمد {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كفروا الملائكة} يأخذون أرواحهم يعني: مَنْ قُتلوا ببدرٍ {يضربون وجوههم وأدبارهم} مقاديمهم إذا أقبلوا إلى المسلمين ومآخيرهم إذا ولًّوا {وذوقوا} أَيْ: ويقولون لهم بعد الموت: ذوقوا بعد الموت {عذاب الحريق}

51

{ذلك} أَيْ: هذا العذاب {بما قدَّمت أيديكم} بما كسبتم وجنيتم {وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد} لأنَّه حكم فيما يقضي

52

{كدأب آل فرعون} الآية يريد: عادة هؤلاء في التَّكذيب كعادة آل فرعون فأنزل الله تعالى بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} قادرٌ لا يغلبه شيء {شديد العقاب} لمَنْ كفر به وكذَّب رسله

53

{ذلك بأنَّ الله} الآية إنَّ الله تعالى أطعم أهل مكَّة من جوعٍ وآمنهم من خوف وبعث إليهم محمداً رسولاً وكان هذا كلُّه ممَّا أنعم عليهم ولم يكن يُغيِّر عليهم لو لم يُغيِّروا هم وتغييرهم كفرهم بها وتركهم شكرها فلمَّا غيَّروا ذلك غيَّر اللهُ ما بهم فسلبهم النِّعمة وأخذهم ثمَّ نزل في يهود قريظة:

54

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وكل كانوا ظالمين}

55

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فهم لا يؤمنون}

56

{الذين عاهدت منهم} الآية وذلك أنَّهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه مشركي مكَّة بالسِّلاح ثمَّ اعتذروا وقالوا: أخطأنا فعاهدهم ثانيةً فنقضوا العهد يوم الخندق وذلك قوله: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يتقون} عقاب الله في ذلك

57

{فإمَّا تثقفنَّهم في الحرب} فإن أدركتهم في القتال وأسرتهم {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خلفهم} فافعل بهم فعلاً من التَّنكيل والعقوبة يفرق به جمعُ كلِّ ناقضِ عهدٍ فيعتبروا بما فعلت بهؤلاء فلا ينقضوا العهد فذلك قوله تعالى: {لعلهم يذكرون}

58

{وإمَّا تخافنَّ من قوم} تعلمنَّ من قومٍ {خيانة} نقضاً للعهد بدليلٍ يظهر لك {فانبذ إليهم على سواء} أَي: انبذ عهدهم الذي عاهدتهم عليه لتكون أنت وهم سواءً في العداوة فلا يتوهموا أنَّك نقضت العهد بنصب الحرب أَيْ: أعلمهم أنَّك نقضت عهدهم لئلا يتوهَّموا بك الغدر {إنَّ الله لا يحبُّ الخائنين} الذين يخونون في العهود وغيرها

59

{ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا} وذلك أنَّ مَنْ أفلت من حرب بدرٍ من الكفَّار خافوا أن ينزل بهم هلكة في الوقت فلمَّا لم ينزل طغوا وبغوا فقال الله: لا تحسبنَّهم سبقونا بسلامتهم الآن فـ {إنهم لا يعجزون} نا ولا يفوتوننا فيما يستقبلون من الأوقات

60

{وأعدوا لهم} أَيْ: خذوا العُدَّة لعدوِّكم {ما استطعتم من قوة} ممَّا تتقوون به على حربهم من السِّلاح والقسي وغيرهما {ومن رباط الخيل} ممَّا يرتبط من الفرس في سبيل الله {ترهبون به} تخوِّفون به بما استطعتم {عدو الله وعدوكم} مشركي مكَّة وكفَّار العرب {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} وهم المنافقون {لا تعلمونهم الله يعلمهم} لأنَّهم معكم يقولون: لا إله إلاَّ الله ويغزون معكم والمنافق يريبه عدد المسلمين {وما تنفقوا من شيء} من آلةٍ وسلاحٍ وصفراء وبيضاء {في سبيل الله} طاعة الله {يوف إليكم} يخلف لكم في العاجل ويوفَّر لكم أجره في الآخرة {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} لا تنقصون من الثَّواب

61

{وإن جنحوا للسلم} مالوا إلى الصُّلح {فاجنح لها} فملْ إليها يعني: المشركين واليهود ثمَّ نسخ هذا بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} {وتوكَّل على الله} ثق به {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولكم {الْعَلِيمُ} بما في قلوبكم

62

{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} بالصُّلح لتكفَّ عنهم {فإنَّ حسبك الله} أَيْ: فالذي يتولَّى كفايتك الله {هو الذي أيدك} قوَّاك {بِنَصْرِهِ} يوم بدرٍ {وبالمؤمنين} يعني: الأنصار

63

{وألف بين قلوبهم} بين قلوب الأوس والحزرج وهم الأنصار {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم} للعداوة التي كانت بينهم {ولكنَّ الله ألف بينهم} لأنَّ قلوبهم بيده يُؤلِّفها كيف يشاء {إنَّه عزيز} لا يمتنع عليه شيء {حكيم} عليمٌ بما يفعله

64

{يا أيها النبيُّ حسبك الله} الآية أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثمَّ أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت هذه الآية والمعنى: يكفيك الله ويكفي من اتَّبعك من المؤمنين

65

{يا أيها النبيُّ حرِّض المؤمنين على القتال} حُضَّهم على نصر دين الله {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} يريد: الرَّجل منكم بعشرة منهم في الحرب {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الذين كفروا بأنَّهم قومٌ لا يفقهون} أَيْ: هم على جهالةٍ فلا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خلاف مَنْ يقاتل على بصيرةٍ يرجو ثواب الله وكان الحكم على هذا زماناً يُصابر الواحد من المسلمين العشرة من الكفَّار فتضرَّعوا وشكوا إلى الله عز وجل ضعفهم فنزل:

66

{الآن خفف الله عنكم} هوَّن عليكم {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألف يغلبوا ألفين} فصار الرَّجل من المسلمين برجلين من الكفَّار وقوله: {بإذن الله} أَيْ: بإرادته ذلك

67

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} الآية نزلت في فداء أسارى بدر فادوهم بأربعة ألاف ألف فأنكر الله عزَّ وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: لم يكن لنبيِّ أن يحبس كافراً قَدَر عليه للفداء فلا يكون له أيضاً حتى يُثخن في الأرض: يُبالغ في قتل أعدائه {تريدون عرض الدنيا} أي: الفِداء {والله يريد الآخرة} يريد لكم الجنة بقتلهم وهذه الآية بيان عمَّا يجب أن يجتنب من اتِّخاذ الأسرى للمنِّ أو الفِداء قبل الإِثخان في الأرض بقتل الأعداء وكان هذا في يوم بدر ولم يكونوا قد أثخنوا فلذلك أنكر الله عليهم ثمَّ نزل بعده: {فإمَّا منَّاً بعدُ وإمَّا فداءً}

68

{لولا كتاب من الله سبق} يا محمَّد أنَّ الغنائم وفداء الأسرى لك ولأمَّتك حلال {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفِداء {عذاب عظيم} فلمَّا نزل هذا أمسكوا أيديهم عمَّا أخذوا من الغنائم فنزل:

69

{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ} بطاعته {إنَّ الله غفور} غفر لكم ما أخذتم من الفِداء {رحيم} رحمكم لأنَّكم أولياؤه

70

{يأ أيها النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} إرادةً للإِسلام {يؤتكم خيراً مما أخذ منكم} من الفِداء يعني: إِنْ أسلمتم وعلم الله إسلام قلوبكم أخلف عليكم خيراً ممَّا أُخذ منكم {ويغفر لكم} ما كان من كفركم وقتالكم رسول الله صلى الله عليه وسلم

71

{وإن يريدوا خيانتك} وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنَّا بك ونشهد أنَّك رسول الله فقال الله تعالى: إن خانوك وكان قولهم هذا خيانة {فقد خانوا الله من قبل} كفروا به {فأمكن منهم} المؤمنين ببدرٍ وهذا تهديدٌ لهم إن عادوا إلى القتال {والله عليم} بخيانةٍ إن خانوها {حكيم} في تدبيره ومجازاته إيَّاهم

72

{إنَّ الذين آمنوا وهاجروا} الآية نزلت في الميراث كانوا في ابتداء الإسلام يتوارثون بالهجرة والنُّصرة فكان الرَّجل يُسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فذلك قوله: {الذين آمنوا وهاجروا} هجروا قومهم وديارهم وأموالهم {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} يعني: الأنصار أسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم {أولئك بعضهم أولياء بعض} أيْ: هؤلاء الذين يتوارثون بعضهم من بَعْضٍ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ من ولايتهم من شيء} أَيْ: ليسوا بأولياء ولا يثبت التَّوارث بينكم وبينهم {حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين} يعني: هؤلاء الذين لم يهاجروا فلا تخذلوهم وانصروهم {إلاَّ} أن يستنصروكم {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} عهدٌ فلا تغدروا ولا تعاونوهم

73

{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} أَيْ: لا توارث بينكم وبينهم ولا ولاية والكافر وليُّ الكافر دون المسلم {إلاَّ تفعلوه} إلاَّ تعاونوا وتناصروا وتأخذوا في الميراث بما أمرتكم به {تكن فتنة في الأرض} شركٌ {وفساد كبير} وذلك أنَّ المسلم إذا هجر قريبه الكافر كان ذلك أدعى إلى الإسلام فإن لم يهجره وتوارثه بقي الكافر على كفره وقوله:

74

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} أَيْ: هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنُّصرة خلاف من أقام بدار الشِّرك

75

{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأولئك منكم} يعني: الذين هاجروا بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} نسخ الله الميراث بالهجرة والحِلْفِ بعد فتح مكَّة ردَّ الله المواريث إلى ذوي الأرحام: ابن الأخ والعمِّ وغيرهما {في كتاب الله} في حكم الله {إن الله بكل شيء عليم}

سورة التوبة

{براءة من الله ورسوله} الآية أخذت المشركون ينقضون عهوداً بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره الله تعالى أن ينقض عهودهم وينبذها إليهم وأنزل هذه الآية والمعنى: قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا ثمَّ خاطب المشركين فقال:

2

{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} سيروا فيها آمنين حيث شئتم يعني: شوالاً إلى صفر وهذا تأجيلٌ من الله سبحانه للمشركين فإذا انقضت هذه المدَّة قُتلوا حيثما أُدركوا {واعلموا أنكم غير معجزي الله} لا تفوتونه وإنْ أُجِّلتم هذه المدَّة {وأنَّ الله مُخْزي الكافرين} مذلُّهم في الدُّنيا بالقتل والعذاب في الآخرة

3

{وأذان من الله} إعلامٌ منه {ورسوله إلى الناس} يعني: العرب {يوم الحج الأكبر} يوم عرفة وقيل: يوم النَّحر والحجُّ الأكبر الحجُّ بجميع أعماله والأصغر العمرة {أنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ} أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُعلم مشركي العرب في يوم الحجِّ الأكبر ببراءته من عهودهم فبعث عليا رضي الله عنه حيث قرأ صدر براءة عليهم يوم النَّحر ثمَّ خاطب المشركين فقال: {فإن تبتم} رجعتم عن الشِّرك {فهو خيرٌ لكم} من الإِقامة عليه {وإن توليتم} عن الإِيمان {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ معجزي الله} لا تفوتونه بأنفسكم عن العذاب ثمَّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كفروا بعذاب أليم} ثمَّ استثنى قوماً من براءة العهود فقال:

4

{إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ ينقصوكم} من شروط العهد {شيئاً} وهم بني ضمرة وبنو كنانة {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} لم يعاونوا عليكم عدوَّاً {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم} إلى انقضاء مدَّتهم وكان قد بقي لهم من مدَّتهم تسعة أشهر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامها لهم {إنَّ الله يحب المتقين} مَنِ اتَّقاه بطاعته

5

{فإذا انسلخ الأشهر الحرم} يعني: مدَّة التَّأجيل {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} في حلٍّ أو حرمٍ {وخذوهم} بالأسر {واحصروهم} إنْ تحصَّنوا {واقعدوا لهم كلَّ مرصد} على كلِّ طريقٍ تأخذون فيه {فإنْ تابوا} رجعوا عن الشرك {وأقاموا الصلاة} المفروضة {وآتوا الزكاة} من العين والثِّمار والمواشي {فخلوا سبيلهم} فدعوهم وما شاؤوا {إن الله غفور رحيم} لمَنْ تاب وآمن

6

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمرتك بقتلهم {استجارك} طلب منك الأمان من القتل {فأجره} فاجعله في أمنٍ {حتى يسمع كلام الله} القرآن فتقيم عليه حجَّةَ الله وتبيِّن له دين الله {ثمَّ أبلغه مأمنه} إذا لم يرجع عن الشِّرك لينظر في أمره {ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون} يفعلونَ كلَّ هذا لأنَّهم قومٌ جهلةٌ لا يعلمون دين الله وتوحيده

7

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رسوله} مع إضمارهم الغدر ونكثهم العهد {إلاَّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} يعني: الذين استثناهم من البراءة {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فأقيموا أنتم

8

{كيف} أَيْ: كيف يكون لهم عهدهم {و} حالُهم أنهم {إن يظهروا عليكم} يظفروا بكم ويقدروا عليكم {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ} لا يحفظوا فيكم {إلاًّ ولا ذمَّةً} قرابةً ولا عهداً {يرضونكم بأفواههم} يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً {وتأبى قلوبهم} الوفاء به {وأكثرهم فاسقون} غادرون ناقضون للعهد

9

{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} استبدلوا بالقرآن متاع الدُّنيا {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} فأعرضوا عن طاعته {إنهم ساء} بئس {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من اشترائهم الكفر بالإِيمان

10

{لا يرقبون} يعني: هؤلاء النَّاقضين للعهد {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد

11

{فإن تابوا} عن الشِّرك {وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم} أَيْ: فهم إخوانكم {في الدين ونفصِّل الآيات} نبيِّن آيات القرآن {لقوم يعلمون} أنَّها من عند الله

12

{وإن نكثوا أيمانهم} نقضوا عهودهم {وطعنوا في دينكم} اغتابوكم وعابوا دينكم {فقاتلوا أئمة الكفر} رؤساء الضَّلالة يعني: صناديد قريش {إنهم لا أيمان لهم} لا عهود لهم {لعلهم ينتهون} كي ينتهوا عن الشِّرك بالله ثمَّ حرَّض المؤمنين عليهم فقال:

13

{ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} يعني: كفَّار مكَّة نقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة {وهموا بإخراج الرسول} من مكَّة {وهم بدؤوكم} بالقتال {أول مرة} حين قاتلوا حلفاءكم خزاعة فبدؤوا بنقض العهد {أتخشونهم} أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم {فالله أحق أن تخشوه} فمكروهُ عذابِ الله أحقُّ أن يُخشى في ترك قتالهم {إن كنتم مؤمنين} مصدِّقين بعقاب الله وثوابه

14

{قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} يقتلهم بسيوفكم ورماحكم {ويخزهم} يُذلُّهم بالقهر والأسر {ويشف صدور قوم مؤمنين} يعني: بني خزاعة أعانت قريشٌ بني بكر عليهم حتى نكثوا فيهم فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ والمؤمنين

15

{ويذهب غيظ قلوبهم} كَرْبَها ووَجْدَها بمعونة قريش بكراً عليهم {وَيَتُوبُ الله على من يشاء} من المشركين كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو هداهم الله للإسلام

16

{أم حسبتم} أيُّها المنافقون {أن تتركوا} على ما أنتم عليه من التَّلبيس وكتمان النفاق {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} بنيَّةٍ صادقةٍ يعني: العلم الذي يتعلَّق بهم بعد الجهاد وذلك أنَّه لما فُرض القتال تبيَّن المنافق من غيره ومَنْ يوالي المؤمنين ممَّن يوالي أعداءهم {ولم يتخذوا} أَيْ: ولمَّا يعلم الله الذين لم يَتَّخِذُوا {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا المؤمنين وليجة} أولياء ودُخُلاً

17

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} نزلت في العباس بن عبد المطلب حين عير بالكفر لمَّا أُسر فقال: إنَّا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاجَّ فردَّ الله ذلك عليه بقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} بدخوله والتعوُّذ فيه لأنَّهم ممنوعون عن ذلك {شاهدين على أنفسهم بالكفر} بسجودهم للأصنام واتِّخاذها آلهة {أولئك حبطت أعمالهم} لأنَّ كفرهم أذهب ثوابها

18

{إنما يعمر مساجد الله} بزيارتها والقعود فيها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتى الزكاة} والمعنى: إنَّ مَنْ كان بهذه الصفة فهو من أهل عمارة المسجد {ولم يخش} في باب الدِّين {إلاَّ الله فعسى أولئك} أَيْ: فأولئك هم المهتدون والمتمسكون بطاعة الله التي تؤدِّي إلى الجنَّة

19

{أجعلتم سقاية الحاج} قال المشركون: عمارة بيت الله وقيامٌ على السِّقاية خيرٌ من الإِيمان والجهاد فأنزل الله تعالى هذه الآية وسقاية الحاج: سقيهم الشَّراب في الموسم وقوله: {وعمارة المسجد الحرام} يريد: تجميره وتخليقه {كمَنْ آمن} أَيْ: كإيمان من آمن {بالله} ؟ {لا يستون عند الله} في الفضل {والله لا يهدي القوم الظالمين} يعني: الذين زعموا أنَّهم أهل العمارة سمَّاهم ظالمين بشركهم

20

{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} من الذين افتخروا بعمارة البيت وسقي الحاجِّ {وأولئك هم الفائزون} الذين ظفروا بأمنيتهم

21

{يبشرهم ربهم برحمة منه} الآية أَيْ: يعلمهم في الدُّنيا ما لهم في الآخرة

22

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عظيم}

23

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم} الآية لمَّا أُمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالهجرة إلى المدينة كان من النَّاس مَنْ يتعلَّق به زوجته وولده وأقاربه ويقولون: ننشدك بالله أن تضيِّعنا فيرقُّ لهم ويدع الهجرة فأنزل الله تعالى: {لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء} أصدقاء تُؤثرون المقام بين أظهرهم على الشجرة {إن استحبوا} اختاروا {الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هم الظالمون} أَيْ: مشركون مثلهم فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا: يا نبيَّ الله إن نحن اعتزلنا مَنْ خالفنا في الدِّين نقطع آباءنا وعشائرنا وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا فأنزل الله تعالى:

24

{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وعشيرتكم وأموال اقترفتموها} أَيْ: اكتسبتموها {فتربصوا} مقيمين بمكَّة {حتى يأتي الله بأمره} فتح مكَّة فيسقط فرض الهجرة وهذا أمر تهديد {والله لا يهدي القوم الفاسقين} تهديدٌ لهؤلاء بحرمان الهداية

25

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حنين} وهو وادٍ بين مكَّة والطَّائف قاتل عليه نبيُّ الله عليه السَّلام هوازن وثقيفاً {إذ أعجبتكم كثرتكم} وذلك أنَّهم قالوا: لن نُغلب اليوم من قلَّةٍ وكانوا اثني عشر ألفاً {فلم تغن} لم تدفع عنكم شيئاً {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رحبت} لشدَّة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لقراركم {ثم وليتم مدبرين} انهزمتم أعلمهم الله تعالى أنَّهم ليسوا يغلبون بكثرتهم إنَّما يَغلبون بنصر الله

26

{ثم أنزل الله سكينته} وهو ما يسكن إليه القلب من لطف الله ورحمته {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تروها} يريد: الملائكة {وعذب الذين كفروا} بأسيافكم ورماحكم {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}

27

{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى من يشاء} فيهديهم إلى الإِسلام من الكفَّار {والله غفور رحيم} بمَنْ آمن

28

{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} لا يغتسلون من جنابةٍ ولا يتوضؤون من حدثٍ {فلا يقربوا المسجد الحرام} أَيْ: لا يدخلوا الحرم مُنعوا من دخول الحرم فالحرمُ حرامٌ على المشركين {بعد عامهم هذا} يعني: عام الفتح فلمَّا مُنعوا من دخول الحرم قال المسلمون: إنَّهم كانوا يأتون بالميرة فالآن تنقطع عنا المتاجر فأنزل الله تعالى: {وإن خفتم عيلة} فقراً {فسوف يغنيكم الله من فضله} فأسلم أهل جدَّة وصنعاء وجرش وحملوا الطَّعام إلى مكَّة وكفاهم الله ما كانوا يتخوَّفون {إنَّ الله عليم} بما يصلحكم {حكيم} فيما حكم في المشركين ثمَّ نزل في جهاد أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى قوله:

29

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر} يعني: كإيمان الموحِّدين وإيمانُهم غيرُ إيمانٍ إذا لم يؤمنوا بمحمد {ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله} يعني: الخمر والميسر {ولا يدينون دين الحق} لا يتدينون بدين الإِسلام {حتى يعطوا الجزية} وهي ما يعطي المعاهِد على عهده {عن يد} يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركباناً ولا يرسلون بها {وهم صاغرون} ذليلون مقهورون يُجَرُّون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف حتى يؤدُّوها من يدهم

30

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم} ليس فيه برهانٌ ولا بيانٌ إنَّما هو قولٌ بالفم فقط {يُضاهئون} يتشبَّهون بقول المشركين حين قالوا: الملائكة بنات الله وقد أخبر الله عنهم بقوله: {وخرقوا له بنين وبناتٍ} {قاتلهم الله} لعنهم الله {أنى يؤفكون} كيف يُصرفون عن الحقِّ بعد وضوح الدَّليل حتى يجعلوا لله الولد وهذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين

31

{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم} علماءهم وعُبَّادهم {أرباباً} آلهةً {من دون الله} حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله وتحريم ما أحلَّ الله {والمسيح ابن مريم} اتخذوه ربَّاً {وما أمروا} في التَّوراة والإِنجيل {إلاَّ ليعبدوا إلهاً واحداً} وهو الذي لا إله غيره {سبحانه عمَّا يشركون} تنزيهاً له عن شركهم

32

{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} يخمدوا دين الإِسلام بتكذيبهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} إلاَّ أَنْ يُظهر دينه

33

{هو الذي أرسل رسوله} محمداً {بالهدى} بالقرآن {ودين الحق} الحنيفيَّة {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ليعليَه على جميع الأديان

34

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} من فقهاء أهل الكتاب وعلمائهم {ليأكلون أموال الناس بالباطل} يعني: ما يأخذونه من الرُّشا في الحكم {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ويصرفون النَّاس عن الإِيمان بمحمد عليه السلام ثم أنزل في مانعي الزَّكاة من أهل القبلة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله} لا يُؤَدُّون زكاتها {فبشرهم بعذاب أليم} أخبرهم أنَّ لهم عذاباً أليماً

35

{يوم يحمى عليها} يوم تدخل كنوزهم النَّار حتى تحمى وتشتدَّ حرارتها {فتكوى بها} أي: فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم ويقال لهم: هذا الذي تكوون به ما جمعتم لأنفسكم وبخلتم به عن حقِّ الله {فذوقوا} العذاب بـ {ما كنتم تكنزون}

36

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهراً} عدد شهور المسلمين التي تُعبِّدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهراً على منازل القمر واستهلال الأهلَّة لا كما يعدُّه أهل الرُّوم وفارس {في كتاب الله} في الإِمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السماوات والأرض {منها أربعة حرم} رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم يعظم انتهاك المحارم فيها بأشدَّ ممَّا يعظم في غيرها {ذلك الدين القيم} الحساب المستقيم {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} تحفَّظوا من أنفسكم في الحرم فإنَّ الحسنات فيهن تضعف وكذلك السيئات {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} قاتلوهم كلَّهم ولا تحابوا بترك القتال كما إنَّهم يستحلُّون قتال جميعكم {واعلموا أنَّ الله مع المتقين} مع أوليائه الذين يخافونه

37

{إنما النسيء} تأخير حرمةِ شهرٍ حرَّمه الله إلى شهرٍ آخر لم يحرِّمه وذلك أنَّ العرب في الجاهليَّة ربما كانت تستحلُّ المحرم وتحرِّم بدله صفر فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك كلَّه {زيادة في الكفر} حيث أحلُّوا ما حرَّم الله وحرَّموا ما أحلَّ الله {يضل به} بذلك التَّأخير {الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} إذا قاتلوا فيه أحلُّوه وحرَّموا مكانه صفر وإذا لم يقاتلوا فيه حرَّموه {ليواطئوا} ليوافقوا {عدَّة ما حرم الله} وهو أنَّهم لم يُحلُّوا شهراً من الحرم إلاَّ حرَّموا مكانه شهراً من الحلال ولم يحرِّموا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرم لئلا يكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرَّم الله فيكون موافقة للعدد {زين لهم سوء أعمالهم} زيَّن لهم الشَّيطان ذلك

38

{يا أيها الذين آمنوا ما لكم} نزلت في حثِّ المؤمنين على غزوة تبوك وذلك أنَّهم دُعوا إليها في زمان عسرةٍ من النَّاس وجدبٍ من البلاد وشدةٍ من الحرِّ فشقَّ عليهم الخروج فأنزل الله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سبيل الله} أخرجوا في الجهاد لحرب العدوِّ {اثاقلتم إلى الأرض} أَحْبَبْتُمْ المقام {أرضيتم بالحياة الدنيا} بدلاً {من الآخرة} يعني: الجنَّة {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة} يريد: الدُّنيا كلَّها {إلاَّ قليل} عند شئ من الجنَّة

39

{إلاَّ تنفروا} تخرجوا مع نبيِّكم إلى الجهاد {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أليماً} بالقحط وحبس المطر {ويستبدل قوماً غيركم} يأت بقومٍ آخرين ينصرُ بهم رسوله {ولا تضرّوه شيئاً} لأنَّ الله عصمه عن النَّاس ولا يخذله أَنْ تثاقلتم كما لم يضرَّه قلَّة ناصريه حين كان بمكَّة وهم به الكفَّار فتولَّى الله نصره وهو قوله:

40

{إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كفروا} أَيْ: اضطروه إلى الخروج لمَّا همُّوا بقتله فكانوا سبباً لخروجه من مكَّة هارباً منهم {ثاني اثنين} أَيْ: واحد اثنين هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه والمعنى: مصره الله منفرداً إلاَّ من أبي بكر: {إذْ هما في الغار} هو غارٌ في جبل مكة يقال له: ثور {إذْ يقول لصاحبه} أبي بكر: {لا تحزن} وذلك أنَّه خاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطَّلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إنَّ الله معنا} يمنعهم منَّا وينصرنا {فأنزل الله سكينته} ألقى في قلب أبي بكر ما سكن به {وأيده} أَيْ: رسوله {بجنود لم تروها} قوَّاه وأعانه بالملائكة يوم بدر أخبر أنَّه صرف عنه كيد أعدائه ثمَّ أظهره: نصره بالملائكة يوم بدر {وجعل كلمة الذين كفروا} وهي كلمة الشِّرك {السفلى وكلمة الله هي العليا} يعني: كلمة التَّوحيد لأنَّها علت وظهرت وكان هذا يوم بدر

41

{انفروا خفافاً وثقالاً} شباباً وشيوخاً {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خير لكم} من التَّثاقل إلى الأرض {إن كنتم تعلمون} ما لكم من الثَّواب والجزاء ثمَّ نزل في المنافقين الذين تخلَّفوا عن هذه الغزوة:

42

{لو كان عرضاً قريباً} أَيْ: لو كان ما دُعوا إليه غنيمةً قريبةً {وَسَفَرًا قَاصِدًا} قريباً هيِّناً {لاتَّبَعُوكَ} طمعاً في الغنيمة {ولكن بعدت عليهم الشقة} المسافة {وسيحلفون بالله} عندك إذا رجعت إليهم {لو استطعنا لخرجنا معكم} لو قدرنا وكان لنا سعةٌ من المال {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بالكذب والنِّفاق {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنهم لكاذبون} لأنَّهم كانوا يستطيعون الخروج

43

{عفا الله عنك لم أذنت لهم} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لطائفةٍ في التَّخلُّف عنه من غير مؤامرةٍ ولم يكن له أن يمضي شيئاً إلاَّ بوحي فعاتبه الله سبحانه وقال: لم أَذنت لهم في التَّخلُّف {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} حتى تعرف مَنْ له العذر منهم ومَنْ لا عذر له فيكون إذنك لمَنْ له العذر

44

{لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} في القعود والتَّخلُّف عن الجهاد كراهة {أن يجاهدوا} في سبيل الله {بأموالهم وأنفسهم} الآية

45

{إنما يستأذنك} في التَّخلُّف {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قلوبهم} شكُّوا في دينهم {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} في شكِّهم يتمادون

46

{ولو أرادوا الخروج لأعدُّوا له عدَّة} من الزَّاد والركوب لأنَّهم كانوا مياسير {ولكن كره الله انبعاثهم} لم يرد خروجهم معك {فثبطهم} فخذلهم وكسَّلهم {وقيل اقعدوا} وحياً إلى قلوبهم يعني: إنَّ الله ألهمهم أسباب الخذلان {مع القاعدين} الزَّمنى وأولي الضَّرر ثمَّ بّيَّنَ لِمَ كره خروجهم فقال:

47

{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} يقول: لو خرجوا لأفسدوا عليكم أمركم {ولأوضعوا خلالكم} لأسرعوا بالنَّميمة في إفساد ذاتِ بينكم {يبغونكم الفتنة} يُثبِّطونكم ويفرِّقون كلمتكم حتى تنازعوا فتفتتنوا {وفيكم سماعون لهم} مَنْ يسمع كلامهم ويطيعهم ولو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم {والله عليم بالظالمين} المنافقين

48

{لقد ابتغوا الفتنة من قبل} طلبوا لك الشَّرَّ والعنتَ قبل تبوك وهو أنَّ جماعةً منهم أرادوا الفتك به ليلة العقبة {وقلَّبوا لك الأمور} اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك {حتى جاء الحق} الآية أَيْ: حتى أخزاهم الله بإظهار الحقِّ وإعزاز الدِّين على كُرهٍ منهم

49

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} نزلت في جدِّ بن قيس المنافق قال لرسول الله رسول صلى الله عليه وسلم: هل لك في جلاد بني الأصفر تتحذ منهم سراري وُصفاءَ فقال: ائذن لي يا رسول الله في القعود عنك وأُعينك بمالي {ولا تفتني} ببنات بني الأصفر فإني مُسْتَهترٌ بالنِّساء إني أخشى إن رأيتهنَّ ألا أصبر عنهنَّ فقال الله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أَيْ: في الشِّرك وقعوا بنفاقهم وخلفهم أمرك {وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين} لمحدقةٌ بمَنْ كفر جامعةٌ لهم

50

{إن تصبك حسنة} نصرٌ وغنيمةٌ {تسؤهم وإن تصبك مصيبة} من قتلٍ وهزيمةٍ {يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} قد أخذنا حذرنا وعملنا بالحزم حين تخلَّفنا {ويتولوا} وينصرفوا {وهم فرحون} معجبون بذلك وبما نالك من السُّوء

51

{قُلْ لن يصيبنا} خيرٌ ولا شرٌّ {إلاَّ} وهو مقدَّرٌ مكتوبٌ علينا {هو مولانا} ناصرنا {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وإليه فليفوِّض المؤمنون أمورهم على الرِّضا بتدبيره

52

{قل هل تربصون بنا} هل تنتظرون أن يقع بنا {إِلا إِحْدَى الحسنيين} الغنيمة أو الشَّهادة {ونحن نتربص} ننتظر {بكم أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عنده} بقارعةٍ من السَّماء {أو بأيدينا} يأذن لنا في قتلكم فنقتلكم {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} فانتظروا مواعيد الشَّيطان إنَّا منتظرون مواعيد الله من إظهار دينه وهلاك مَنْ خالفه ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية والثَّالثة أنَّه لا يقبل منهم ما أنفقوا في الجهاد لأنَّ منهم مَنْ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد وأُعينك بمالي فأخبر الله تعالى أنه لا يقبل ذلك فعلوه طائعين أو مكرهين وبيَّن أنَّ المانع لقبول ذلك كفرهم بالله ورسوله وكسلهم في الصَّلاة لأنَّهم لا يرجون لها ثواباً وكراهتهم الإِنفاق في سبيل الله لأنَّهم يعدونه مغرما

53

{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}

54

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كارهون}

55

{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال الكثيرة والأولاد {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدنيا} يعني: بالمصائب فيها فهي لهم عذابٌ وللمؤمن أجر {وتزهق أنفسهم} وتخرج أرواحهم {وهم} على الكفر

56

{ويحلفون بالله إنهم لمنكم} أَيْ: إنَّهم مؤمنون وليسوا مؤمنين {ولكنهم قوم يفرقون} يخافون فيحلفون تقيَّةً لكم

57

{لو يجدون ملجأً} مهرباً {أو مغارات} سراديب {أو مدخلاً} وجهاً يدخلونه {لوَلَّوا إليه} لرجعوا إليه {وهم يجمحون} يُسرعون إسراعاً لا يردُّ وجوهَهم شيءٌ أَيْ: لو أمكنهم الفرار من بين المسلمين بأيِّ وجهٍ كان لفروا لوم يُقيموا بينهم

58

{ومنهم} ومن المنافقون {من يلمزك} يعيبك وطعن عليك {في} أمر {الصدقات} يقول: إنَّما يعطيها محمَّد مَنْ أحبَّ فإنْ أكثرت لهم من ذلك فرحوا وإنْ أعطيتهم قليلاً سخطوا ثمَّ ذكر في الآية الثَّانية أنَّهم لو رضوا بذلك وتوكَّلوا على الله لكان خيراً لهم وهو قوله:

59

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ورسوله إنا إلى الله راغبون} ثمَّ بيَّن لمن الصَّدقات فقال:

60

{إنما الصدقات للفقراء} وهم المُتعفِّفون عن السُّؤال {والمساكين} الذين يسألون ويطوفون على النَّاس {والعاملين عليها} السُّعاة لجباية الصَّدَقة {والمؤلفة قلوبهم} كانوا قوماً من أشراف العرب استألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليردُّوا عنه قومهم ويُعينوه على عدوِّه {وفي الرقاب} المكاتبين {والغارمين} أهل الدِّيْن {وفي سبيل الله} الغزاة والمرابطون {وابن السبيل} المنقطع في سفره {فريضة من الله} افترضها الله على الأغنياء في أموالهم

61

{ومنهم الذين يؤذون النبيَّ} بنقل حديثه وعيبه {ويقولون هو أذنٌ} أنَّهم قالوا فيما بينهم: نقول ما شئنا ثمَّ نأتيه فَنَحْلِفُ له فيصدِّقنا لأنَّه أُذنٌ والأُذن: الذي يسمع كلَّ ما يُقال له فقال الله تعالى {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أَيْ: مستمعُ خيرٍ وصلاح لا مستمع شرٍّ وفسادٍ ثمَّ أَكَّد هذا وبيَّنه فقال: {يؤمن بالله} أَيْ: يسمع ما ينزله الله عليه فيصدِّق به {ويؤمن للمؤمنين} ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه لا الكافرين {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} أَيْ: وهو رحمةٌ لأنَّه كان سبب إيمانهم

62

{يحلفون بالله لكم ليرضوكم} يحلف هؤلاء المنافقون فيما بلغكم عنهم من أذى الرَّسول والطَّعن عليه أنَّهم ما أتوا ذلك ليرضوكم بيمينهم {والله ورسوله أحقُّ أن يرضوه} فيؤمنوا بهما ويصدِّقوهما إن كانوا على ما يظهرون

63

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الخزي العظيم}

64

{يحذر المنافقون أن تنزل عليهم} على المؤمنين {سورة} تخبرهم {بما في قلوبهم} من الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك أنَّهم كانوا يفرقون من هتكهم وفضيحتهم {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} أمرُ وعيدٍ {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} مظهرٌ {ما تحذرون} ظهوره

65

{ولئن سَأَلْتَهُمْ} عمَّا كانوا فيه من الاستهزاء {ليقولنَّ إنما كنا نخوض ونلعب} وذلك أنَّ رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك: ما رأيتُ مثل هؤلاء أرغبَ بطوناً ولا أكذبَ أَلْسُناً ولا أجبنَ عند اللِّقاء يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فأُخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك فجاء هذا القائل ليعتذر فوجد القرآن قد سبقه فقال: يا رسول الله إنما كنَّا نخوض ونلعب ونتحدَّث بحديث الرَّكب نقطع به عنا الطريق وهو معنى قوله: {إنَّما كنا نخوض} أَيْ: في الباطل من الكلام كما يخوض الرَّكب فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}

66

{لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} أَيْ: ظهر كفركم بعد إظهاركم الإِيمان {إِنْ نَعْفُ عن طائفة منكم نعذب طائفة} وذلك أنَّهم كانوا ثلاثة نفر فهزئ اثنان وضحك واحد وهو المعفو عنه فلمَّا نزلت هذه الآية برئ من النِّفاق

67

{المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} على دين بعض {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم {وينهون عن المعروف} عن اتِّباعه {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} عن النَّفقة في سبيل الله {نسوا الله فنسيهم} تركوا أمر الله فتركهم من كلِّ خيرٍ وخذلهم {إنَّ المنافقين هم الفاسقون} الخارجون عمَّا أمر الله

68

{وعد الله المنافقين} الآية ظاهرة ثم خاطبهم فقال:

69

{كالذين من قبلكم} أَيْ: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم {فاستمتعوا بخلاقهم} رضوا بنصيبهم من الدُّنيا ففعلتم أنتم أيضاً مثل ما فعلوا {وخضتم} في الطَّعن على النبي صلى الله عليه وسلم كما خاضوا في الطَّعن على أنبيائهم {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدنيا والآخرة} لأنَّها لا تُقبل منهم ولا يُثابون عليها

70

{ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} ألم يأتهم خبر الذين أُهلكوا في الدُّنيا بذنوبهم فيتَّعظوا ثم ذكرهم {قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم} يعني: نمروذ {وأصحاب مدين} قوم شعيب {والمؤتَفِكاتِ} وأصحاب المؤتفكات وهي قرى قوم لوط {فما كان الله ليظلمهم} ليعذِّبهم قبل بعث الرَّسول {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بتكذيب الرُّسل

71

{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} في الرَّحمة والمحبَّة {يأمرون بالمعروف} يدعون إلى الإِسلام {وينهون عن المنكر} الشِّرك بالله الآية

72

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة} يريد قصور الزَّبرجد والدُّرِّ والياقوت {في جنات عدن} هي قصبة الجنَّة وسقفُها عرش الرَّحمن {ورضوان من الله أكبر} ممَّا يوصف

73

{يا أيها النبيُّ جاهد الكفار} بالسَّيف {والمنافقين} باللِّسان والحُجَّة {واغلظ عليهم} يريد شدَّة الانتهار والنَّظر بالبغضة والمقت

74

{يحلفون بالله ما قالوا} نزلت حين أساء المنافقون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعنوا في الدِّين وقالوا: إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله ابن أُبيّ تاجاً يباهي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَسُعِي بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم فحلفوا ما قالوا {ولقد قالوا كلمة الكفر} سبَّهم الرَّسول وطعنهم في الدِّين {وهموا بما لم ينالوا} من عقدهم التَّاج على رأس ابن أُبيّ وقيل: من الاغتيال بالرَّسول {وما نقموا} كرهوا {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} بالغنيمة حتى صارت لهم الأموال أَيْ: إنَّهم عملوا بضدِّ الواجب فجعلوا موضع شكر الغنى أن نقموه ثمَّ عرض عليهم التَّوبة فقال: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} يعرضوا عن الإِيمان {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالقتل {و} في {الآخِرَةِ} بالنار {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} لا يتولاَّهم أحدٌ من المسلمين

75

{ومنهم مَنْ عاهد الله} يعني: ثعلبة بن حاطب عاهد ربَّه لئن وسَّعَ عليه أن يؤتى كلَّ ذي حقٍ حقَّه ففعل الله ذلك فلم يفِ بما عاهد ومنع الزَّكاة فهذا معنى قوله: {لئن آتانا من فضله لنصدقنَّ} لنعطينَّ الصَّدقة {ولنكوننَّ من الصالحين} ولنعملنَّ ما يعمل أهل الصَّلاح في أموالهم

76

{فلما آتاهم من فضله بخلوا به} الآية

77

{فأعقبهم نفاقاً} صيَّر عاقبة أمرهم إلى ذلك بحرمان التَّوبة حتى ماتوا على النِّفاق جزاءً لإخلافهم الوعد وكذبهم في العهد وهو قوله: {إلى يوم يلقونه} الآية

78

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وأن الله علام الغيوب}

79

{الذين يلمزون} يعيبون ويغتابون {المطوعين} المتطوعين المُتنفلِّين {من المؤمنين في الصدقات} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثَّ على الصَّدقة فجاء بعض الصحابة بالمال الكثير وبعضهم - وهم الفقراء - بالقليل فاغتابهم المنافقون وقالوا: مَنْ أكثر رياءً ومَنْ أقلَّ أراد أن يذكر نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية: {والذين لا يجدون إلاَّ جهدهم} وهو القليل الذي يتعيَّش به {فيسخرون منهم سخر الله منهم} جازاهم سخريتهم حيث صاروا إلى النَّار ثمَّ آيس الله رسول من إيمانهم ومغفرتهم فقال:

80

{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وهذا تخييرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ قال: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} أَيْ: إن اسكتثرت من الدُّعاء بالاستغفار للمنافقين لن يغفر الله لهم

81

{فرح المخلفون} يعني: الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين {بمقعدهم} بقعودهم {خلاف رسول الله} مخالفةً له {وقالوا لا تنفروا} مع محمدٍ إلى تبوك {فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لو كانوا يفقهون} يعلمون أنَّ مصيرهم إليها

82

{فليضحكوا قليلاً} في الدُّنيا لأنَّها تنقطع عنهم {وليبكوا كثيراً} في النار بكاءً لا ينقطع {جزاءً بما كانوا يكسبون} في الدُّنيا من النِّفاق

83

{فإن رجعك الله} ردَّك {إلى طائفة منهم} يعني: الذين تخلَّفوا بالمدينة {فاستأذنوك للخروج} إلى الغزو معك {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} إلى غزاةٍ {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} من أهل الكتاب {إنكم رضيتم بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} حين لم تخرجوا إلى تبوك {فاقعدوا مع الخالفين} يعني: النِّساء والصِّبيان والزَّمنى الذين يخلفون الذَّاهبين إلى السَّفر ثمَّ نُهِيّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة عليهم إذا ماتوا والدُّعاء لهم عند الوقوف على القبر فقال:

84

{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ولا تقم على قبره} الآية

85

{ولا تعجبك أموالهم} مضى تفسيره

86

{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم} يعني: أصحاب الغنى والقدرة يستأذنونك في التَّخلُّف

87

{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} النِّساء اللاتي يخلفن في البيت {وطبع على قلوبهم} بالنِّفاق {فهم لا يفقهون} لا يفهمون الإِيمان وشرائعه وأمر الله

88

{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

89

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فيها ذلك الفوز العظيم}

90

{وجاء المعذِّرون} المعتذرون وهم قوم {من الأعراب} اعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في التَّخلُّف فعذرهم وهو قوله {ليؤذن لهم} أَيْ: في القعود {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} لم يُصدِّقوا نبيَّه واتَّخذوا إسلامهم جُنَّة ثمًّ ذكر أهل العذر فقال:

91

{ليس على الضعفاء} يعني: الزَّمنى والمشايخ والعجزى {وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ ورسوله} أخلصوا أعمالهم من الغِشِّ لهما {ما على المحسنين من سبيل} من طريق بالعقابِ لأنَّه قد سُدَّ طريقه بإحسانه {والله غفور رحيم} لمن كان على هذه الخصال

92

{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في سبعة نفرٍ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على الدَّوابِّ فقال: {لا أجد ما أحملكم عليه} فانصرفوا باكين شوقاً إلى الجهاد وحزناً لضيق ذات اليد

93

{إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}

94

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} بالأباطيل {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} من هذه الغزوة {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدِّقكم {قد نبأنا الله من أخباركم} قد أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم {وَسَيَرَى الله عملكم ورسوله} فيما تستأنفون تبتم من النِّفاق أم أقمتم عليه {ثمَّ تردون إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} إلى مَنْ يعلم ما غاب عنّا من ضمائركم {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كنتم تعملون} فيخبركم بما كنتم تكتمون وتسرون

95

{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم} إذا رجعتم {إليهم} من تبوك أنَّهم ما قدروا على الخروج {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} إعراض الصَّفح {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} اتركوا كلامهم وسلامهم {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} إنَّ عملهم قبيح من عمل الشيطان ثمَّ نزل في أعاريب أسد وغطفان:

96

{يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}

97

{الأعراب أشدُّ كفراً ونفاقاً} من أهل المدر لأنَّهم أجفى وأقسى {وأجدر} وأولى وأحق {أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله} من الحلال والحرام

98

{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} لأنَّه لا يرجو له ثواباً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} وينتظر أن ينقلب الأمر عليكم بموت الرَّسول عليه السَّلام {عليهم دائرة السوء} عليهم يدور البلاء والخزي فلا يرون في محمد ودينه إلاَّ ما يسوءهم ثمَّ نزل في مَنْ أسلم منهم:

99

{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} يتقرَّب بذلك إلى الله عز وجل {وصلوات الرسول} يعني: دعاءه بالخير والبركة والمعنى: أنَّه يتقرَّب بصدقته ودعاء الرَّسول إلى الله {ألاَ إنّها قربة لهم} أَيْ: نورٌ ومكرمةٌ عند الله

100

{والسابقون الأولون} يعني: الذين شهدوا بدراً {من المهاجرين والأنصار} يعني: الذين آمنوا منهم قبل قدوم الرَّسول عليهم فهؤلاء السُّبَّاق من الفريقين وقيل: أراد كلَّ مَنْ أدركه من أصحابه فإنَّهم كلَّهم سبقوا هذه الأمة بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته {والذين اتبعوهم بإحسان} يعني: ومن اتبعهم على مناهجهم إلى يوم القيامة ممَّن يُحسن القول فيهم

101

{وممن حولكم من الأعراب منافقون} يعني: مزينة وجهينة وغفاراً {ومن أهل المدينة} الأوس والخزرج {مردوا على النفاق} لجُّوا فيه وأبوا غيره {سنعذبهم مرتين} بالأمراض والمصائب في الدُّنيا وعذاب القبر {ثم يردون إلى عذاب عظيم} وهو الخلود في النَّار

102

{وآخرون اعترفوا بذنوبهم} في التخلف عن الغزو {خلطوا عملاً صالحاً} وهو جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا {وآخر سيئاً} تقاعدهم عن هذه الغزوة {عَسَى الله} واجبٌ من الله {أَنْ يَتُوبَ عليهم إن الله غفور رحيم} ثمَّ تاب على هؤلاء وعذرهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفَتْنا عنك فخذها منَّا صدقةً وطهِّرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فأنزل الله سبحانه:

103

{خذ من أموالهم صدقة} فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم وكانت كفَّارةً للذُّنوب التي أصابوها وهو قوله: {تطهرهم} يعني: هذه الصَّدقة تطهِّرهم من الذُّنوب {وتزكيهم بها} أَيْ: ترفعهم أنت يا محمَّدُ بهذه الصَّدقة من منازل المنافقين {وصل عليهم} ادع لهم {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} إنَّ دعواتك ممَّا تسكن نفوسهم إليه بأن قد تاب الله عليهم {والله سميع} لقولهم {عليم} بندامتهم فلمَّا نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يُكلَّمون ولا يُجالسون فما لهم؟ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم فأنزل الله تعالى سبحانه:

104

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} يقبلها {وَأَنَّ اللَّهَ هو التواب الرحيم} يرجع على مَنْ يرجع إليه بالرَّحمة والمغفرة

105

{وقل اعملوا} يا معشر عبادي المحسن والمسيء {فَسَيَرَى اللَّهُ عملكم ورسوله والمؤمنون} أَيْ: إنَّ الله يُطلعهم على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشَّرِّ فيحبون المحسن ويبغضون المسيء بإيقاع الله ذلك في قلوبهم وباقي الآية سبق تفسيره

106

{وآخرون مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} مُؤخَّرون ليقضي الله فيهم ما هو قاضٍ وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع كانوا تخلَّفوا من غير عذر ثمَّ لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أولئك الذين تصدَّقوا بأموالهم فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمرهم وهم مهجورون حتَّى نزل قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآيات {إمَّا يعذبهم} بعقابه جزاءً لهم {وإمَّا يتوب عليهم} بفضله {والله عليم} بما يؤول إليه حالهم {حَكِيمٌ} فيما يفعله بهم

107

{والذين اتخذوا} ومنهم الذين اتَّخذوا مسجداً وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارُّون به مسجد قباء وهو قوله: {ضرارا وكفرا} بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به {وتفريقاً بين المؤمنين} يفرِّقون به جماعتهم لنهم كانوا يصلُّون جميعاً في مسجد قباء فبنوا مسجد الضِّرار ليصلِّي فيه بعضهم فيختلفوا بسبب ذلك {وإرصاداً} وانتظاراً {لمن حارب الله ورسوله من قبل} يعني: أبا عامرٍ الرَّاهب كان قد خرج إلى الشَّام ليأتي بجندٍ يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجداً {وليحلفنَّ إن أردنا} ببنائه {إلاَّ} الفعلة {الحسنى} وهي الرِّفق بالمسلمين والتَّوسعة عليهم فلمَّا بنوا ذلك المسجد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلِّي بهم في ذلك المسجد فنهاه الله عز وجل وقال:

108

{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى} بُنيت جُدُره ورُفعت قواعده على طاعة الله تعالى {من أول يوم} بُني وحَدث بناؤه وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: هو مسجد قباء {أحقُّ أن تقوم فيه} للصَّلاة {فيه رجال} يعني: الأنصار {يحبون أن يتطهروا} يعني: غسل الأدبار بالماء وكان من عادتهم في الاستنجاء استعمال الماء بعد الحجر {والله يحب المطهرين} من الشِّرك والنِّفاق

109

{أفمن أسس بنيانه} أَيْ: بناءه الذي بناه {على تقوى من الله} مخافة الله ورجاء ثوابه وطلب مرضاته {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جرف هار} على حرف مهواةٍ {فانهار به} أُوقع بنيانه {في نار جهنم} وهذا مَثَل والمعنى: إنَّ بناء هذا المسجد كبناءٍ على حرفِ جهنَّم يتهوَّر بأهله فيها لأنَّه معصيةٌ وفعلٌ لما كرهه الله من الضِّرار

110

{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قلوبهم} شكَّاً في قلوبهم {إلاَّ أن تقطَّع قلوبهم} بالموت والمعنى: لا يزالون في شكٍّ منه إلى الموت يحسبون أنَّهم كانوا في بنائه محسنين {والله عليم} بخلقه {حكيم} فيما جعل لكلِّ أحدٍ

111

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية نزلت في بيعة العقبة لمَّا بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وأن يمنعوه ممَّا يمنعون أنفسهم قالوا: فإذا فعلنا ذلك يا رسول الله فماذا لنا؟ قال: الجنَّة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية ومعنى: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} أنَّ المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يُقتل وأنفق ماله في سبيل الله أخذ من الجنَّة في الآخرة جزاءً لما فعل وقوله: {وعداً} أَيْ: وعدهم اللَّهُ الجنَّة وعداً {عليه حقاً} لا خلف فيه {في التوراة والإِنجيل والقرآن} أَيْ: إنَّ الله بيَّن في الكتابين أنَّه اشترى من أمة محمَّدٍ أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة كما بيَّن في القرآن {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: لا أحدٌ أوفى بما وعد من الله ثمًّ مدحهم فقال:

112

{التائبون} أَيْ: هم التَّائبون من الشِّرك {العابدون} يرون عبادة الله واجبةً عليهم {الْحَامِدُونَ} الله على كلِّ حال {السائحون} الصًّائمون {الراكعون الساجدون} في الفرائض {الآمرون بالمعروف} بالإِيمان بالله وفرائضه وحدوده {والناهون عن المنكر} الشِّرك وترك فرائض الله {والحافظون لحدود الله} العاملون بما افترض الله عليهم

113

{ما كان للنبيِّ} الآية نزلت في استغفار النبيِّ عليه السَّلام لعمِّه أبي طالب وأبيه وأُمِّه واستغفار المسلمين لآبائهم المشركين نُهوا عن ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: لأستغفرنَّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فبيَّن الله سبحانه كيف كان ذلك فقال:

114

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ موعدة وعدها إياه} وذلك أنَّه كان قد وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه وأن ينقله الله باستغفاره إيَّاه من الكفر إلى الإِسلام وهذا ظاهر في قوله: {سأستغفر لك ربي} وقوله: {لأستغفرنَّ لك} فلمَّا مات أبوه مشركاً تبرَّأ منه وقطع الاستغفار {إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ} دَعَّاءٌ كثير البكاء {حليم} لم يعاقب أحداً إلاََ في الله ولم ينتصر من أحدٍ إلاَّ لله فلمَّا حرَّم الاستغفار للمشركين بين أنهم لم يأخذهم بما فعلوا لأنَّه لم يكن قد بيَّن لهم أنَّه لا يجوز ذلك فقال:

115

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هداهم} ليوقع الضَّلالة في قلوبهم بعد الهدى {حتى يبيِّن لهم ما يتقون} فلا يتَّقوه فعند ذلك يستحقُّون الإضلال

116

{أنَّ الله له ملك السماوات وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ولا نصير}

117

{لقد تاب الله على النبيِّ} مِنْ إذنه للمنافقين في التَّخلُّف عنه وهو ما ذُكر في قوله: {عفا الله عنك} الآية {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} في زمان عسرة الظَّهر وعسرة الماء وعسرة الزَّاد {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منهم} من بعد ما همَّ بعضهم بالتَّخلُّف عنه والعصيان ثمَّ لحقوا به {ثم تاب عليهم} ازداد عنهم رضا

118

{وعلى الثلاثة الذين خلفوا} أَي: عن التَّوبة عليهم يعني: مَنْ ذكرناهم في قوله: {وأخرون مرجون لأمر الله} {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض} لأَنَّهم كانوا مهجورين لا يُعاملون ولا يُكلَّمون {وضاقت عليهم أنفسهم} بالهمِّ الذي حصل فيها {ظنوا} أيقنوا {أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ} أن لا مُعتَصَم من عذاب الله إلاَّ به {ثمَّ تاب عليهم ليتوبوا} أَيْ: لطف بهم في التَّوبة ووفَّقهم لها

119

{يا أيها الذين آمنوا} يعني: أهل الكتاب {اتقوا الله} بطاعته {وكونوا مع الصادقين} محمدٍ وأصحابه يأمرهم أن يكونوا معهم في الجهاد والشدة والرخاء وقوله:

120

{ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدَّعَة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحرِّ والمشقَّة {ذَلِكَ} أَيْ: ذلك النَّهي عن التَّخلُّف {بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} وهو شدَّة العطش {وَلا نصب} إعياء من التَّعب {ولا مخمصة} مجاعةٌ {ولا يطؤون موطئاً} ولا يقفون موقفاً {يغيظ الكفار} يُغضبهم {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا} أسراً وقتلاً إلاَّ كان ذلك قُربةً لهم عند الله

121

{ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة} تمرةً فما فوقها {ولا يقطعون واديا} يُجاوزونه في سيرهم {إِلا كُتِبَ لَهُمْ} آثارهم وخُطاهم {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحسن} بأحسن {ما كانوا يعملون} فلمَّا عِيبَ مَنْ تخلَّف عن غزوة تبوك قال المسلمون: والله لا نتخلف من غزوةٍ بعد هذا ولا عن سرية أبداً فلمَّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسَّرايا إلى العدُّو نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة فأنزل الله عز وجل:

122

{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} ليخرجوا جميعاً إلى الغزو {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} فهلاَّ خرج إلى الغزو من كل قبيلةٍ جماعةٌ {ليتفقهوا في الدين} ليتعلَّموا القرآن والسُّنن والحدود يعني: الفرقة القاعدين {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} وليعلِّموهم ما نزل من القرآن ويخوفوهم يه {لعلهم يحذرون} فلا يعملون بخلاف القرآن

123

{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم} يقربون منكم أُمروا بقتال الأدنى فالأدنى من عدوِّهم من المدينة {وليجدوا فيكم غلظة} شدَّةً وعُنفاً

124

{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم} من المنافقين {مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيماناً} يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزؤاً فقال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} تصديقاً لأنَّهم صدَّقوا بالأولى والثَّانية {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون بنزول السُّورة

125

{وأما الذين في قلوبهم مرض} شكٌّ ونفاقٌ {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} كفراً إلى كفرهم لأنَّهم كلَّما كفروا بسورةٍ ازداد كفرهم

126

{أو لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أو مرتين} يُمتحنون بالأمراض والأوجاع وهنَّ روائد الموت {ثمَّ لا يتوبون} من النِّفاق ولا يتَّعظون كما يتَّعظ المؤمن بالمرض

127

{وإذا ما أنزلت سورة} كان إذا نزلت سورةٌ فيها عيبُ المنافقين وتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّ ذلك عليهم و {نظر بعضهم إلى بعض} يريدون الهرب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم لبعض: {هل يراكم من أحد} إنْ قمتم فإن لم يرهم أحدٌ خرجوا من المسجد وإنْ علموا أنَّ أحداً يراهم ثبتوا مكانهم حتى يفرغ من خطبته {ثم انصرفوا} على عزم الكفر والتَّكذيب {صرف الله قلوبهم} عن كلِّ رشدٍ وهدى {بأنهم قوم لا يفقهون} جزاءً على فعلهم وهو أنَّهم لا يفقهون عن الله دينه وما دعاهم الله إليه

128

{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} من العرب من بني إسماعيل ليفهموا منه {عزيز عليه ما عنتم} شديدٌ عليه مشقَّتكم وكلُّ مضرَّة تُصيبكم {حريص عليكم} أن تؤمنوا وهذا خطابٌ للكفَّار ومَنْ لم يؤمن به ثمَّ ذكر أنَّه {بالمؤمنين رؤوف رحيم}

129

{فإن تولوا} أعرضوا عن الإِيمان يعني: المشركين والمنافقين {فقل حسبي الله} أَيْ: الذي يكفيني اللَّهُ {لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وبه وثقت {وهو رب العرش العظيم} خصَّ بالذِّكر لأنه أعظم ما خلق الله عز وجل

سورة يونس

{الر} أنا الله أرى {تلك آيات الكتاب} هذه الآيات التي أنزلتها عليك آيات القرآن {الحكيم} الحاكم بين النَّاس

2

{أكان للناس} أَهلِ مكَّةَ {عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} وذلك أنَّهم قالوا: ما وجدَ الله مَنْ يُرسله إلينا إلاَّ يتيم أبي طالب؟ ! {أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا} أَيْ: بعثناه بشيراً ونذيراً {أنَّ لهم قدم صدق عند ربهم} يعني: الأعمال الصَّالحة {قال الكافرون إنَّ هذا} القرآن {لسحرٌ مبين}

3

{إنَّ ربكم الله} مفسَّرةٌ في سورة الأعراف وقوله: {يدبِّر الأمر} يقضيه {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} ردٌّ لقولهم: الأصنام شفعاؤنا عند الله

4

{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}

5

{هو الذي جعل الشمس ضياءً} ذات ضياءٍ {والقمر نوراً} ذا نورٍ {وقدَّره} وقدَّر له {منازل} على عدد أيام الشَّهر {ما خلق الله ذلك} يعني: ما تقدَّم ذكره {إلاَّ بالحق} بالعدل أَيْ: هو عادلٌ في خلقه لم يخلقه ظلما ولا باطلاً {يفصِّل الآيات} يُبيِّنها {لقوم يعلمون} يستدلُّون بها على قدرة الله

6

{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}

7

{إنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بدلاً من الآخرة {وَاطْمَأَنُّوا بها} وركنوا إليها {والذين هم عن آياتنا} ما أنزلتُ من الحلال والحرام والشرائع {غافلون} وقوله:

8

{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}

9

{يهديهم ربُّهم بإيمانهم} أَيْ: إلى الجنان ثواباً لهم بإيمانهم

10

{دعواهم} دعاؤهم {فيها سبحانك اللهم} وهو أنَّهم كلَّما اشتهوا شيئاً قالوا: سبحانك اللَّهم فجاءهم ما يشتهون فإذا طعموا ممَّا يشتهون قالوا: الحمد لله ربَّ العالمين

11

{ولو يعجل الله للناس الشرَّ} الآية نزلت في دعاء الرَّجل على نفسه وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له والمعنى: لو استجبتُ لهم في الشَّرِّ كما يحبُّون أن يستجاب لهم في الخير {لقضي إليهم أجلهم} لماتوا وفُرغ من هلاكهم نزلت في النَّضر بن الحارث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عندك} الآية يدلُّ على هذا قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يعني: الكفَّار الذين لا يخافون البعث

12

{وإذا مس الإنسان} يعني: الكافر {الضرُّ} المرض والبلاء {دعانا لجنبه} أَيْ: مضطجعاً {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضرَّه مرَّ} طاغياً على ترك الشُّكر {كأن لم يدعنا إلى ضرٍّ مسَّه} لنسيانه ما دعا الله فيه وما صنع الله به {كذلك زين} كما زُيِّن لهذا الكافر الدُّعاء عند البلاء والإِعراض عند الرَّخاء {زين للمسرفين} عملهم وهم الذين أسرفوا على أنفسهم إذ عبدوا الوثن

13

{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم} يخوِّف كفار مكَّة بمثل عذاب الأمم الخالية {وما كانوا ليؤمنوا} لأنَّ الله طبع على قلوبهم جزاءً لهم على كفرهم {كذلك نجزي القوم المجرمين} نفعل بمَنْ كذَّب بمحمَّدٍ كما فعلنا بمَنْ قبلهم جزاءً لكفرهم

14

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: أهل مكَّة {لننظر كيف تعملون} لنختبر أعمالكم

15

{وإذا تتلى عليهم} على هؤلاء المشركين {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث: {ائت بقرآن غير هذا} ليس فيه عيب آلهتنا {أو بدَّله} تكلَّمْ به من ذات نفسك فبدِّل منه ما نكرهه {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تلقاء نفسي} ما ينبغي لي أَنْ أغيِّره من قبل نَفْسِي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ما أُخبركم إلاَّ ما أخبرني الله به أَي: الذي أتيتُ به من عند الله لا من عندي نفسي فأبدِّله

16

{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} ما قرأتُ عليكم القرآن {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولا أعلمكم الله بِهِ {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} أقمتُ فيكم أربعين سنةً لا أُحدِّثكم شيئاً {أفلا تعقلون} أنَّه ليس من قبلي

17

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لا أحد أظلم ممَّن يظلم ظلم الكفر أَيْ: إني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أنَّ معه شريكاً {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} لا يسعد مَنْ كذَّب أنبياء الله

18

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ} إنْ لم يعبدوه {وَلا يَنْفَعُهُمْ} إن عبدوه {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} في إصلاح معاشهم في الدُّنيا لأنَّهم لا يقرُّون بالبعث {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يعلم في السماوات ولا في الأرض} أتخبرون الله أنَّ له شريكاً ولا يعلم الله سبحانه لنفسه شريكا في السماوات ولا في الأرض ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا افتروه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

19

{وما كان الناس إلاَّ أمة واحدة} يعني: من لدن عهد إبراهيم عليه السَّلام إلى أن غيَّر الدِّين عمرو بن لُحي {فاختلفوا} واتَّخذوا الأصنام {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير عذاب هذه الأُمَّة إلى القيامة {لقضي بينهم} بنزول العذاب

20

{ويقولون} يعني: أهل مكَّة: {لولا} هلاَّ {أنزل عليه آية من ربه} مثلُ العصا وما جاءت به الأنبياء {فقل إنما الغيب لله} أَيْ: إنَّ قولكم: هلا أنزل عليه آية غيبٌ وإنَّما الغيب لله لا يعلم أحدٌ لمَ لمْ يفعل ذلك {فَانْتَظِرُوا} نزول الآية {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}

21

{وإذا أذقنا الناس} كفار مكَّة {رحمة} مطراً وخَصْباً {من بعد ضرَّاء مستهم} فقرٍ وبؤسٍ {إذا لهم مكر في آياتنا} قولٌ بالتَّكذيب أَيْ: إذا أخصبوا بطروا فاحتالوا لدفع آيات الله {قل الله أسرع مكراً} أسرع نقمةً يعني: إنَّ ما يأتيهم من العقاب أسرعُ في أهلاكهم ممَّا أتوه من المكر في إبطال آيات الله {إنَّ رسلنا} يعني: الحفظة {يكتبون ما تمكرون} للمجازاة به في الآخرة

22

{هو الذي يسيِّركم في البر} على المراكب والظُّهور {والبحر} على السُّفن {حتى إذا كنتم في الفلك} السُّفن {وجرين بهم} يعني: وجرت السُّفن بمَنْ ركبها في البحر {بريح طيبة} رُخاءٍ ليِّنةٍ {وفرحوا} بتلك الرِّيح للينها واستوائها {جاءتها ريحٌ عاصف} شديدةٌ {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ} وهو ما ارتفع من الماء {من كلِّ مكان} من البحر {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} دنوا من الهلاك {دَعَوُا الله مخلصين له الدين} تركوا الشِّرك وأخلصوا لله الرُّبوبيَّة وقالوا {لَئِنْ أنجيتنا من هذه} الرِّيح العاصفة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الموحِّدين الطَّائعين

23

{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بغير الحق} يعملون بالفساد والمعاصي والجرأة على الله {يا أيها النَّاسُ} يعني: أهل مكَّة {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أنفسكم} أَيْ: بغي بعضكم على بعضٍ {متاع الحياة الدنيا} أَيْ: ما ينالونه بهذا الفساد والبغي إنَّما يتمتَّعون به في الحياة الدُّنيا {ثم إلينا مرجعكم}

24

{إنما مثل الحياة الدنيا} يعني: الحياة الفانية في هذه الدَّار {كماءٍ} كمطرٍ {أنزلناه من السماء فاختلط به} بذلك المطر وبسببه {نبات الأرض ممَّا يأكل الناس} من البقول والحبوب والثِّمار {والأنعام} من المراعي والكلأ {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} زينتها وحسنتها {وازَّينت} بنباتها {وظنَّ} أهل تلك الأرض {أنهم قادرون} على حصادها والانتفاع بها {أتاها أمرنا} عذابنا {فجعلناها حصيداً} لا شيء فيها {كأن لم تغن} لم تكن بالأمس {كذلك} الحياةُ في الدُّنيا سببٌ لاجتماع المال وزهرة الدُّنيا حتى إذا كثر ذلك عند صاحبه وظنَّ أنَّه ممتَّعٌ به سُلِب ذلك عنه بموته أو بحادثةٍ تهلكه {كذلك نفصل الآيات} كما بيَّنا هذا المثل للحياة الدُّنيا كذلك يُبيِّن الله آيات القرآن {لقوم يتفكرون} في المعاد

25

{والله يدعو إلى دار السلام} وهي الجنَّة ببعث الرَّسول ونصب الأدلة {ويهدي من يشاء} عمَّ بالدَّعوة وخصَّ بالهداية مَنْ يشاء

26

{للذين أحسنوا} قالوا: لا إله إلاَّ الله {الحسنى} الجنَّة {وزيادة} النَّظر إلى وجه الله الكريم عزَّ وجل {ولا يرهق} يغشى {وجوههم قترٌ} سوادٌ من الكآبة {ولا ذلة} كما يصيب أهل جهنَّم وهذا بعد نظرهم إلى ربِّهم تبارك وتعالى

27

{والذين كسبوا السيئات} عملوا الشِّرك {جزاء سيئة} أَيْ: فلهم جزاء سيئةٍ {بمثلها وترهقهم ذلة} يُصيبهم ذلٌّ وخزيٌ وهوانٌ {ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {من عاصم} من مانعٍ يمنعهم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} أُلبست {وُجُوهُهُمْ قطعاً} طائفةً {من الليل} وهو مظلم

28

{ويوم نحشرهم جميعاً} نجمعهم جميعاً: الكفَّارَ وآلهتَهم {ثمَّ نقول للذين أشركوا مكانكم} قفوا والزموا مكانكم {أنتم وشركاؤكم فزيلنا} فرَّقنا وميَّزنا {بينهم} بين المشركين وبين شركائهم وانقطع ما كان بينهم من التَّواصل في الدُّنيا {وقال شركاؤهم} وهي الأوثان: {ما كنتم إيانا تعبدون} أنكروا عبادتهم وقالوا: ما كنَّا نشعر بأنَّكم إيَّانا تعبدون والله يُنطقها بهذا

29

{فكفى بالله شهيداً} الآية هذا من كلام الشُّركاء قالوا: شهد الله على علمه فينا ما {كنا عن عبادتكم} إلاَّ غافلين لأنَّا كنَّا جماداً لم يكن فينا روحٌ

30

{هنالك} في ذلك الوقت {تَبْلُو} تختبر {كُلُّ نَفْسٍ ما أسلفت} جزاء ما قدَّمَتْ من خيرٍ أو شرٍّ {ورُدُّوا إلى الله مولاهم الحق} أَي: الذي يملك تولِّي أمرهم ويجازيهم بالحقِّ {وضلَّ عنهم} زال وبطل {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} في الدُّنيا من التَّكذيب

31

{قل من يرزقكم من السماء والأرض} مَنْ يُنزِّل من السماء المكر ويُخرج النَّبات من الأرض؟ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار} مَنْ جعلها وخلقها لكم؟ على معنى: مَنْ يملك خلقها {ومن يخرج الحيَّ من الميت} المؤمن من الكافر والنَّبات من الأرض والإِنسان من النُّطفة وعلى الضدِّ من ذلك {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحيِّ ومَنْ يدبر} أمر الدُّنيا والآخرة {فَسَيَقُولُونَ الله} أَي: الله الذي يفعل هذه الأشياء فإذا أقرُّوا بعد الاحتجاج عليهم {فقل أفلا تتقون} أفلا تخافون الله فلا تشركوا به شيئاً

32

{فذلكم الله ربكم الحق} أَي: الذي هذا كلُّه فِعْلُه هو الحقُّ ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء {فماذا بعد الحق} بعد عبادة الله {إلاَّ الضلال} يعني: عبادة الشَّيطان {فأنى تصرفون} يريد: كيف تُصرف عقولكم إلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت

33

{كذلك} هكذا {حقت} صدَّقت {كلمة ربك} بالشَّقاوة والخذلان {على الذين فسقوا} تمرَّدوا في الكفر {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}

34

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}

35

{قل هل من شركائكم} يعني: آلهتكم {من يهدي} يرشد {إلى الحق} إلى دين الإسلام {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} أَيْ: إلى الحقِّ {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحق أن يتبع أمن لا يهدي} أَي: الله الذي يهدي ويرشد إلى الحقِّ أهلَ الحقِّ أحقُّ أن يتَّبع أمره أم الأصنام التي لا تهدي أحداً {إلاَّ أن يُهدى} يُرشد وهي - وإنْ هُديت - لم تهتد ولكنَّ الكلام نزل على أنَّها إِن هُديت اهتدت لأنَّهم لمَّا اتخذوها آلهة عبر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم {فما لكم} أيُّ شيءٍ لكم في عبادة الأوثان وهذا كلامٌ تامٌّ {كيف تحكمون} يعني: كيف تقضون حين زعمتم أنَّ مع الله شريكاً

36

{وما يتبع أكثرهم} يعني: الرُّؤساء لأنَّ السَّفلة يتَّبعون قولهم {إلاَّ ظناً} يظنون أنَّها آلهةٌ {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ليس الظنُّ كاليقين يعني: إنَّ الظَّنَّ لا يقوم مقام العلم {إنَّ الله عليم بما يفعلون} من كفرهم

37

{وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} هذا جوابٌ لقولهم: {ائت بقرآن غير هذا} يقول: ما كان هذا القرآن افراء من دون الله {ولكن تصديق} ولكن كان تصديق {الذي بين يديه} من الكتب {وتفصيل الكتاب} يعني: تفصيل المكتوب من الوعد لمَنْ آمن والوعيد لمَنْ عصى {لا ريب فيه} لا شكَّ في نزوله من عند ربِّ العالمين

38

{أم يقولون افتراه} بل أتقولون: افتراه محمد {قل فأتوا بسورة مثله} إن كان مفترىً {وادعوا} إلى معاونتكم على المعارضة كلَّ مَنْ تقدرون عليه {إِنْ كُنْتُمْ صادقين} في أنَّ محمَّداً اختلقه من عند نفسه ونظيرُ هذه الآية في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية

39

{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} أَيْ: بما في القرآن من الحنة والنَّار والبعث والقيامة {ولما يأتهم تأويله} ولم يأتهم بعدُ حقيقة ما وُعدوا في الكتاب {كذلك كذَّب الذين من قبلهم} بالبعث والقيامة

40

{ومنهم} ومن كفَّار مكَّة {مَنْ يؤمن به} يعني: قوماً علم أنَّهم يؤمنون {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} يريد: المكذِّبين وهذا تهديدٌ لهم

41

{وإن كذبوك فقل لي عملي} الآية نسختها آية الجهاد

42

{ومنهم مَنْ يستمعون إليك} نزلت في المستهزئين كانوا يستمعون الاستهزاء والتَّكذيب فقال الله تعالى: {أفأنت تُسمع الصمَّ} يريد أنَّهم بمنزلة الصُّمِّ لشدَّة عداوتهم {ولو كانوا لا يعقلون} أَيْ: ولو كانوا مع كونهم صمَّاً جهَّالاً! أخبر الله سبحانه أنَّهم بمنزلة الصُّمِّ الجُهَّال إذْ لم ينتفعوا بما سمعوا

43

{ومنهم مَنْ ينظر إليك} مُتعجِّباً منك غير منتفعٍ بنظره {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} يريد: إنَّ الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون شيئاً من الهدى

44

{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} لمَّا ذكر أهل الشَّقاوة ذكر أنَّه لم يظلمهم بتقدير الشَّقاوة عليهم لأنَّه يتصرَّف في ملكه {ولكنَّ الناس أنفسهم يظلمون} بكسبهم المعاصي

45

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً من النهار} كأن لم يلبثوا في قبورهم إلاَّ قدر ساعة من النَّهار استقصروا تلك المدَّة من هول ما استُقبلوا من أمر البعث والقيامة {يَتَعَارَفُونَ بينهم} يعرف بعضهم بعضا تعارف تعارف توبيخٍ لأنَّ كلَّ فريق يقول للآخر: أنت أضللتني وما يشبه هذا {قد خسر} ثواب الجنَّة {الذين كذَّبوا} بالبعث

46

{وإما نرينك بعض الذي نعدهم} يريد: ما ابتُلوا به يوم بدرٍ {أو نتوفينك} قبل ذلك {فإلينا مرجعهم} أَيْ: فنعذِّبهم في الآخرة {ثمَّ الله شهيد على ما يفعلون} من محاربتك وتكذيبك فيجزيهم بها ومعنى الآية: إنْ لم ينتقم منهم في العاجل ينتقم منهم في الآجل

47

{ولكلِّ أمة رسول} يُرسل إليهم {فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط} وهو هلاك مَنْ كذَّبه ونجاة من تبعه {وهم لا يظلمون} لا ينقص ثواب المُصدِّق ويُجازى المكذِّب بتكذيبه

48

{ويقولون متى هذا الوعد} قالوا ذلك حين قيل لهم: {وإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم} الآية فقالوا: متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمَّد؟ {إن كنتم} أنت يا محمَّد وأتباعك صادقين

49

{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إلاَّ ما شاء الله} الآية مفسَّرةٌ في آيتين من سورة الأعراف فلمَّا استعجلوا العذاب قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:

50

{قل أرأيتم} أعلمتم {إن أتاكم عذابُهُ بياتاً} ليلاً {أو نهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} أَيٌّ شيءٍ يستعجل المجرمون من العذاب؟ وهذا استفهام معناه التَّهويل والتًّفظيع أَيْ: ما أعظم ما يلتمسون ويستعجلون! كما تقول: أعلمت ماذا تجني على نفسك؟ ! فلمَّا قال لهم النبيُّ عليه السَّلام هذا قالوا: نكذِّب بالعذاب ونستعجله فإذا وقع آمنَّا به فقال الله تعالى:

51

{أثمَّ إذا ما وقع} وحلَّ بكم {آمنتم به} بعد نزوله فلا يقبل منكم الإِيمان ويقال لكم: {الآنَ} تؤمنون به {وقد كنتم به تستعجلون} في الدنيا مستهزئين

52

{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون}

53

{ويستنبئونك} يستخبرونك {أحقٌّ} ما أخبرتنا به من العذاب والبعث؟ {قل إي} نعم {وربي إنه لحق} يعني: العذاب نازلٌ بكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بعد الموت أَيْ: فتجازون بكفركم

54

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أشركت {مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} لبذلته لدفعِ العذاب عنها {وأسروا} أخفوا وكتموا {الندامة} يعني: الرُّؤساء من السَّفلة الذين أضلُّوهم {وقضي بينهم} بين السَّفلة والرُّؤساء {بالقسط} بالعدل فيجازي كلٌّ على صنيعه

55

{ألاَ إنَّ وعد الله حقٌّ} ما وعد لأوليائه وأعدائه {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} يعني: المشركين

56

{هو يحيي ويميت وإليه ترجعون}

57

{يا أيها الناس} يعني: قريشاً {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} القرآن {وشفاءٌ لما في الصدور} ودواءٌ لداء الجهل {وهدىً} وبيانٌ من الضَّلالة {ورحمةٌ للمؤمنين} ونعمةٌ من الله سبحانه لأصحاب محمَّدٍ

58

{قل بفضل الله} الإِسلام {وبرحمته} القرآن {فبذلك} الفضل والرَّحمة {فليفرحوا هو خيرٌ} أَيْ: ما آتاهم الله من الإِسلام والقرآن خيرٌ ممَّا يجمع غيرهم من الدُّنيا

59

{قل} لكفَّار مكَّة: {أرأيتم ما أنزل الله} خلقه وأنشأه لَكُمْ {مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} يعني: ما حرَّموه ممَّا هو حلالٌ لهم من البحيرة وأمثالها وأحلُّوه ممَّا هو حرامٌ من الميتة وأمثالها {قل الله أذن لكم} في ذلك التَّحريم والتَّحليل {أم} بل {عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}

60

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يوم القيامة} أَيْ: ما ظنُّهم ذلك اليوم بالله وقد افتروا عليه؟ {إنَّ الله لذو فضل على الناس} أهل مكَّة حين جعلهم في أمنٍ وحرمٍ إلى سائر ما أنعم به عليهم {ولكنَّ أكثرهم لا يشكرون} لا يُوحدِّون ولا يُطيعون

61

{وما تكون} يا محمَّد {في شأن} أمرٍ من أمورك {وما تتلوا منه} من الله {من قرآنٍ} أنزله عليك {ولا تعملون من عمل} خاطبه وأمَّته {إلاَّ كُنَّا عليكم شهوداً} نشاهد ما تعلمون {إذ تفيضون} تأخذون {فيه وما يعزب} يغيب ويبعد {عن ربك من مثقال ذرة} وزن ذرَّة {إلاَّ في كتاب مبين} يريد: اللَّوح المحفوظ الذي أثبت الله سبحانه فيه الكائنات

62

{ألا إنَّ أولياء الله} هم الذين تولَّى الله سبحانه هداهم

63

{الذين آمنوا} صدَّقوا النبيَّ {وكانوا يتقون} خافوا مقامهم بين يدي الله سبحانه

64

{لهم البشرى في الحياة الدنيا} عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشرى من الله {وفي الآخرة} يُبشَّرون بثواب الله وجنَّته {لا تبديل لكلمات الله} لا خلف لمواعيده

65

{ولا يحزنك قولهم} تكذيبهم إيَّاك {إنَّ العزة لله} القوَّة لله والقدرة لله {جميعاً} وهو ناصرك {وهو السميع} يسمع قولهم {العليم} بما في ضميركم فيجازيهم بما يقتضيه حالهم

66

{ألاَّ إن لله مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض} يعني: يفعل بهم وفيهم ما يشاء {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} أيْ: ليسوا يتَّبعون شركاء على الحقيقة لأنَّهم يعدُّونها شركاء شفعاء لهم وليست على ما يظنُّون {إِنْ يتبعون إلا الظن} ما يتَّبعون إلاَّ ظنَّهم أنَّها تشفع لهم {وإن هم إلا يخرصون} يقولون ما لا يكون

67

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} مُضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم {إِنَّ في ذلك لآيات لقومٍ يسمعون} سَمعَ اعتبار

68

{قالوا اتخذ الله ولدا} يعني: قولهم: الملائكة بنات الله {سبحانه} تنزيهاً له عمل قالوه {هو الغنيُّ} أن يكون له زوجةٌ أو ولدٌ {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} ما عندكم من حجة بهذا وقوله:

69

{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يفلحون}

70

{متاع في الدنيا} أيْ: لهم متاعٌ في الدُّنيا يتمتَّعون به أيَّاماً يسيراً وقوله:

71

{إن كان كَبُرَ عليكم مقامي} أَيْ: عَظُم وشقَّ عليكم مكثي ولبثي فيكم {وتذكيري بآيات الله} وعظي وتخويفي إيَّاكم عقوبة الله {فَعَلَى اللَّهِ توكلت} فافعلوا ما شئتم وهو قوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءَكم} أَيْ: اعزموا على أمرٍ مُحكمٍ تجتمعون عليه {وشركاءكم} مع شركاءكم وقيل: معناه: وادعوا شركاءكم يعني: آلهتكم {ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أَيْ: ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً تتمكنون فيه ممَّا شئتم لا كمَنْ يكتم أمراً ويخفيه فلا يقدر أن يفعل ما يريد {ثمَّ اقضوا إليَّ} افعلوا ما تريدون وامضوا إليَّ بمكروهكم {ولا تنظرون} ولا تُؤخِّروا أمري والمعنى: ولا تألوا في الجمع والقوَّة فإنَّكم لا تقدرون على مساءتي لأنَّ لي إلهاً يمنعني وفي هذا تقويةٌ لقلب محمد صلى الله عليه وسلم لأنَّ سبيله مع قومه كسبيل الأنبياء من قبله

72

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإِيمان {فَمَا سَأَلْتُكُمْ من أجر} مالٍ تعطونيه وهذا من قول نوح عليه السلام لقومه وقوله:

73

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كان عاقبة المنذرين}

74

{فما كانوا ليؤمنوا} يعني: أمم الأنبياء والرُّسل {بما} كذَّب به قوم نوح أَيْ: هؤلاء الآخرون لم يؤمنوا بما كذَّب به أوَّلُوهم وقد علموا أنَّ الله سبحانه أغرقهم بتكذيبهم ثم قال: {كذلك} كما طبعنا على قلوبهم {نطبع على قلوب المعتدين} المُجاوزين الحق إلى الباطل وقوله:

75

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}

76

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ}

77

{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا ولا يفلح الساحرون}

78

{قالوا أجئتنا لتلفتنا} لتردَّنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ} الملك والعزُّ {في الأرض} في أرض مصر وقوله:

79

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}

80

{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أنتم ملقون}

81

{إنَّ الله سيبطله} سيهلكه {إنَّ الله لا يصلح عمل المفسدين} لا يجعله ينفعهم

82

{ويحق الله الحق} ويظهره بالدَّلائل الواضحة {بكلماته} بوعده

83

{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} يعني: من آمن به من بني إسرائيل وكانوا ذرية أولاد يعقوب {على خوفٍ من فرعون ومَلَئِهِمْ} ورؤسائهم {أن يفتنهم} يصرفهم عن دينهم بمحنةٍ وبليَّةٍ يوقعهم فيها {وإنَّ فرعون لعالٍ} متطاولٌ {في الأرض} في أرض مصر {وإنه لمن المسرفين} حيث كان عبداً فادَّعى الربوبية وقوله:

84

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}

85

{لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} أَيْ: لا تُظهرهم علينا فيروا أنَّهم خيرٌ منا فيزدادوا طغياناً ويقولوا: لو كانوا على حقٍّ ما سُلِّطنا عليهم فَيُفتنوا

86

{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

87

{وأوحينا إلى موسى وأخيه} الآية لمَّا أُرسل موسى صلوات الله عليه إلى فرعون أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فَخُرِّبت كلُّها ومُنعوا من الصَّلاة فأُمروا أن يتَّخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّوا فيها خوفاً من فرعون فذلك قوله: {تبوءا لقومكما} أي: اتخذ لهم {بمصر بيوتاً} في دورهم {واجعلوا بيوتكم قبلة} أَيْ: صلُّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف وقوله:

88

{ربنا ليضلوا عن سبيلك} أَيْ: جعلت هذه الأموال سبباً لضلالهم لأنَّهم بطروا فاستكبروا عن الإِيمان {ربنا اطمس على أموالهم} امسخها وأذهبها عن صورتها فصارت دراهمهم ودنانيرهم حجارةً منقوشةً صحاحاً وأنصافاً وكذلك سائر أموالهم {واشدُدْ على قلوبهم} اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإِيمان {فلا يؤمنوا} دعاءٌ عليهم {حتى يروا العذاب الأليم} يعني: الغرق فاستجيب في ذلك فلم يؤمن فرعون حتى أدركه الغرق

89

{قال قد أجيبت دعوتكما} وذلك أنَّ موسى دعا وأمَّن هارون {فاستقيما} على الرِّسالة والدًّعوة {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} لا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلا قضائي وقوله:

90

{فأتبعهم فرعون وجنوده} طلبوا أن يلحقوا بهم {بغياً} طلباً للاستعلاء بغير حقٍّ {وعدواً} ظلماً {حتى إذا أدركه الغرق} تلفظ لما أخبر الله عنه حين لم ينفعه ذلك لأنَّه رأى اليأس وعاينه فقيل له: {آلآن وقد عصيت قبل} أَيْ: آلآن تؤمن أو تتوب؟ فلمَّا أغرقه الله جحد بعض بني إسرائيل غَرَقَةُ وقالوا: هو أعظم شأناً من أن يغرق فأخرجه الله سبحانه من الماء حتى رأوه فذلك قوله:

91

{آلآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}

92

{فاليوم ننجيك} نخرجك من البحر بعد الغرق {ببدنك} بجسدك الذي لا روح فيه {لتكون لمَنْ خلفك آية} نكالاً وعبرةً {وإنَّ كثيراً من الناس} يريد: أهل مكَّة {عن آياتنا} عمَّا يراد بهم {لغافلون}

93

{ولقد بوَّأنا بني إسرائيل مبوَّأ صدق} أنزلنا قريظة والنضير منزل صدقٍ أَيْ: محموداً مختاراً يريد: من أرض يثرب ما بين المدينة والشّام {ورزقناهم من الطيبات} من النَّخل والثِّمار ووسَّعنا عليهم الرِّزق {فَمَا اخْتَلَفُوا} في تصديق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنَّه رسولٌ مبعوثٌ {حتى جاءهم العلم} حقيقةُ ما كانوا يعلمونه وهو محمَّد عليه السَّلام بنعته وصفته والقرآن وذلك أنَّهم كانوا يُخبرون عن زمانه ونبوَّته ويؤمنون به فلمَّّا أتاهم اختلفوا فكفر به أكثرهم

94

{فإن كنت في شك} هذا في الظَّاهر خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشَّاكِّين في الدِّين وقوله: {فَاسْأَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} يعني: مَنْ آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه فيشهدون على صدق محمد ويخبرون بنبوَّته وباقي الآية والتي تليها خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره

95

{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فتكون من الخاسرين}

96

{إنَّ الذين حقت عليهم كلمة ربك} وجبت عليهم كلمة العذاب

97

{لا يؤمنون * ولو جاءتهم كلُّ آية} وذلك أنَّهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا فقال الله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آية حتى يروا العذاب الأليم} فلا ينفعهم حينئذٍ الإِيمان كما لم ينفع فرعون

98

{فلولا كانت قرية} أَيْ: فما كانت قريةٌ {آمنت فنفعها إيمانها} عند نزول العذاب {إلاَّ قوم يونس لما آمنوا} عند نزول العذاب {كشفنا عنهم عذاب الخزي} يعني: سخط الله سبحانه {ومتعناهم إلى حين} يريد: حين آجالهم وذلك أنَّهم لمَّا رأوا الآيات التي تدلُّ على قرب العذاب أخلصوا التَّوبة وترادُّوا المظالم وتضرَّعوا إلى الله تعالى فكشف عنهم العذاب

99

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كلهم جميعاً} الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حريصاً على أن يؤمن جميع الناي فأخبره الله سبحانه أنَّه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السَّعادة وهو قوله:

100

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ الله} أَيْ: إلاَّ بما سبق لها في قضاء الله وقدره {ويجعل الرجس} العذاب {على الذين لا يعقلون} عن الله تعالى أمره ونهيه وما يدعوهم إليه

101

{قل} للمشركين الذين يسألونك الآيات: {انظروا ماذا} أي: الذي أعظم منها {في السماوات والأرض} من الآيات والعبر التي تدلُّ على وحدانيَّة الله سبحانه فيعلموا أنَّ ذلك كلَّه يقتضي صانعاً لا يشبه الأشياء ولا تشبهه ثمَّ بيَّن أنَّ الآيات لا تُغني عمَّن سبق في علم الله سبحانه أنَّه لا يؤمن فقال: {وما تغني الآيات والنذر} جمع نذير {عن قومٍ لا يؤمنون} يقول: الإنذار غير نافعٍ لهؤلاء

102

{فهل ينتظرون} أَيْ: يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك {إلاَّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} إلاَّ مثل وقائع الله سبحانه فيمَنْ سلف قبلهم من الكفَّار

103

{ثمَّ ننجي رسلنا والذين آمنوا} هذا إخبارٌ عن ما كان الله سبحانه يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرُّسل والمُصدِّقين لهم عما يعذِّب به مَنْ كفر {كذلك} أَيْ: مثل هذا الإِنجاء {ننج المؤمنين} بمحمد صلى الله عليه وسلم من عذابي

104

{قل يا أيها الناس} يريد: أهل مكَّة {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ من ديني} الذي جئت به {فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله} أي: بشكِّكم في ديني لا أعبد غير الله {ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} يأخذ أرواحكم وفي هذا تهديدٌ لهم لأنَّ وفاة المشركين ميعاد عذابهم وقوله:

105

{وأن أقم وجهك للدين حنيفاً} استقم بإقبالك على ما أُمرت به بوجهك

106

{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا ينفعك ولا يضرُّك} أَيْ: شيئاً ما لأنَّه لا يتحقق النَّفع والضَّرُّ إلاَّ من الله فكأنَّه قال: ولا تدع من دون الله شيئا

107

{وإن يمسسك الله بضر} بمرضٍ وفقرٍ {فلا كاشف له} لا مزيل له {إلاَّ هو} {وإن يردك بخيرٍ} يرد بك الخير {فلا رادَّ لفضله} لا مانع لما تفضَّل به عليك من رخاءٍ ونعمةٍ {يُصِيبُ بِهِ} بكلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر {من يشاء من عباده}

108

{قل يا أيها النَّاسُ} يعني: أهل مكَّة {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ} القرآن {من ربكم} وفيه البيان والشِّفاء {فمن اهتدى} من الضَّلالة {فإنما يهتدي لنفسه} يريد: مَنْ صدَّق محمَّداً عليه السَّلام فإنَّما يحتاط لنفسه {ومَنْ ضلَّ} بتكذيبه {فإنما يضلُّ عليها} إنَّما يكون وبال ضلاله على نفسه {وَمَا أنا عليكم بوكيلٍ} بحفيظٍ من الهلاك حتى لا تهلكوا

109

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله} نسخته آية السَّيف لأنَّ الله سبحانه حكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب

سورة هود

{الر} أنا الله الرَّحمن {كتاب} هذا كتابٌ {أُحْكمتْ آياته} بعجيب النَّظم وبديع المعاني ورصين اللَّفظ {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بُيِّنت بالأحكام من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه من {لدن حكيم} في خلقه {خبير} بمَنْ يُصدِّق نبيَّه وبمَنْ يكذبه

2

{أن لا تعبدوا} أَيْ: بأن والتَّقدير: هذا كتابٌ بأن لا تعبدوا {إلاَّ الله}

3

{و} بـ {أن استغفروا ربكم} أَيْ: من ذنوبكم السَّالفة {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من المستأنفة متى وقعت {يمتعكم متاعاً حسناً} يتفضَّل عليكم بالرِّزق والسِّعة {إلى أجل مسمى} أجل الموت {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} يؤت كلَّ مَنْ فَضُلَت حسناته على سيئاته فضله يعني: الجنَّة وهي فضل الله سبحانه {وإن تولوا} تتولَّوا عن الإِيمان {فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} وهو يوم القيامة

4

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}

5

{ألا إنهم يثنون صدورهم} نزلت في طائفةٍ من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم ربُّنا؟ فأنزل الله تعالى {ألا إنهم يثنون صدورهم} أَيْ: يعطفونها ويطوونها على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم {ليستخفوا منه} ليتواروا عنه ويكتموا عداوته {ألا حين يستغشون ثيابهم} يتدثَّرون بها {يعلم ما يسرون وما يعلنون} أعلم الله سبحانه أنَّ سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهرهم {إنه عليم بذات الصدور} بما في النُّفوس من الخير والشَّرِّ

6

{وما من دابة} حيوانٍ يدبُّ {في الأرض إلاَّ على الله رزقها} فضلاً لا وجوباً {ويعلم مستقرها} حيث تأوي إليه {ومستودعها} حيث تموت {كلٌّ في كتاب مبين} يريد: اللَّوح المحفوظ والمعنى: أنَّ ذلك ثابتٌ في علم الله

7

{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} ذكرنا تفسيره في سورة الأعراف {وكان عرشه على الماء} يعني: قبل خلق السماوات والأرض {ليبلوكم} أَيْ: خلقها لكم لكي يختبركم بالمصنوعات فيها من آياته ليعلم إحسان المحسن وإساءة المسيء وهو قوله تعالى {أيكم أحسن عملاً} أَيْ أَعملُ بطاعة الله تعالى {ولئن قلت} للكفَّار بعد خلق الله السماوات والأرض وبيان قدرته {إنكم مبعوثون من بعد الموت} كذَّبوا بذلك وقالوا: {إن هذا إلاَّ سحر مبين} أَيْ: باطلٌ وخداعٌ

8

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} إلى أجلٍ وحينٍ معلومٍ {ليقولَّن ما يحبسه} ما يحبس العذاب عنا؟ تكذيباً واستهزاء فقال الله تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عنهم} إذا أخذتهم سيوف المسلمين لم تغمد عنهم حتى يُباد الكفر وتعلوَ كلمة الإِخلاص {وحاق} نزل وأحاط {بهم} جزاء {ما كانوا به يستهزئون} وهو العذاب والقتل

9

{ولئن أذقنا الإِنسان} يعني: الوليد بن مغيرة {منَّا رحمة} رزقاً {ثمَّ نزعناها منه إنه ليؤوس} مُؤْيَسٌ قانطٌ {كَفُور} كافرٌ بالنِّعمة يريد: إنَّه لجهله بسعة رحمة الله يستشعر القنوط واليأس عند نزول الشِّدَّة

10

{ولئن أذقناه نعماء} الآية معناه: إنَّه يبطر فينسى حال الشِّدَّة ويترك حمد الله ما صرف عنه وهو قوله: {ليقولنَّ ذهب السيئات عني} فارقني الضُّرُّ والفقر {إنه لفرحٌ فخورٌ} يُفاخر المؤمنين بما وسَّعَ الله عليه ثمَّ ذكر المؤمنين فقال:

11

{إلاَّ الذين صبروا} والمعنى: لكن الذبن صبروا على الشِّدَّة والمكاره {وعملوا الصالحات} في السَّراء والضراء

12

{فلعلك تاركٌ} الآية قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتابٍ ليس فيه سبُّ آلهتنا حتى نتَّبعك وقال بعضهم: هلاَّ اُنزل عليك مَلَكٌ يشهد لك بالنُّبوَّة والصِّدق أو تُعطى كنزاً تستغني به أنت وأتباعك فهمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدع سبَّ آلهتهم فأنزل الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أَيْ: لعظيم ما يرد على قابك من تخليطهم تتوهَّم أنَّهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربِّك {وَضَائِقٌ به صدرك أن يقولوا} أَيْ: ضائق صدرك بأن يقولوا {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} عليك أن تنذرهم وليس أن تأتيهم بما يقترحون {والله على كل شيء وكيل} حافظٌ لكلِّ شيءٍ

13

{أم يقولون} بل أيقولون {افتراه} افترى القرآن وأتى به من قبل نفسه {قل فأتوا بعشر سورٍ مثله} مثل القرآن في البلاغة {مُفترياتٍ} بزعمكم {وادعوا من استطعتم من دون الله} إلى المعاونة على المعارضة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنه افتراء

14

{فإلم يستجيبوا لكم} فإن لم يستجب لكم مَنْ تدعونهم إلى المعاونة ولم يتهيَّأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجَّة {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بعلم الله} أَيْ: أُنزل والله عالمٌ بإنزاله وعالمٌ أنَّه من عنده {فهل أنتم مسلمون} استفهامٌ معناه الأمر كقوله: {فهل أنتم منتهون}

15

{من كان يريد الحياة الدنيا} أَيْ: مَنْ كان يريدها من الكفَّار ولا يؤمن بالبعث ولا بالثَّواب والعقاب {نوف إليهم أعمالهم} جزاء أعمالهم في الدُّنيا يعني: إنَّ مَنْ أتى من الكافرين فِعلاً حسناً من إطعام جائعٍ وكسوة عارٍ ونصرة مظلومٍ من المسلمين عُجِّل له ثواب ذلك في دنياه بالزِّيادة في ماله {وهم فيها} في الدُّنيا {لا يُبخسون} لا يُنقصون ثواب ما يستحقُّون فإذا وردوا الآخرة وردوا على عاجل الحسرة إذ لا حسنة لهم هناك وهو قوله تعالى:

16

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النار} الآية

17

{أفمن كان} يعني: النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم {على بينة من ربه} بيانٍ من ربِّه وهو القرآن {ويتلوه شاهد} وهو جبريل عليه السَّلام {منه} من الله عز وجل يريد أنَّه يتَّبعه ويؤيِّده ويشهده {ومن قبله} ومن قبل القرآن {كتاب موسى} التَّوراة يتلوه أيضاً في التَّصديق لأنّ موسى عليه السلام بشر في التوراة فالتوراة تتلو النبي صلى الله عليه وسلم في التصديق وقوله: {إماماً ورحمة} يعني أنَّ كتاب موسى كان إماماً لقومه ورحمة وتقدير الآية: أفمَنْ كان بهذه الصِّفة كمَنْ ليس يشهد بهذه الصِّفة؟ فترك ذكر المضادِّ له {أولئك يؤمنون به} يعني: من آمن به من أهل الكتاب {ومن يكفر به من الأحزاب} أصنافِ الكفَّار {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} من هذا الوعد {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يؤمنون} يعني: أهل مكَّة

18

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعم أنَّ له ولداً وشريكاً {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ على ربهم} يوم القيامة {ويقول الأشهاد} وهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون {هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم ألا لعنةُ اللَّهِ} إبعاده من رحمته {على الظالمين} المشركين

19

{الذين يصدون عن سبيل الله} تقدَّم تفسير هذه الآية

20

{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أَيْ: سابقين فائتين لم يعجزونا أن نعذِّبهم في الدُّنيا ولكن أخَّرْنا عقوبتهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أولياء} يمنعونهم من عذاب الله {يضاعف لهم العذاب} لإِضلالهم الأتباع {ما كانوا يستطيعون السمع} لأني حُلْتُ بينهم وبين الإِيمان فكانوا صُمَّاً عن الحقِّ فلا يسمعونه وعمياً عنه فلا يبصرونه ولا يهتدون

21

{أولئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بأن صاروا إلى النَّار {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} بطل افتراؤهم في الدنيا فلم يبفعهم شيئاً

22

{لا جرم} حقَّاً {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ}

23

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى ربهم} اطمأنُّوا وسكنوا وقيل: تابوا

24

{مثل الفريقين} فريق الكافرين وفريق المسلمين {كالأعمى والأصم} وهو الكافر {والبصيرِ والسميع} وهو المؤمن {هل يستويان مثلاً} أَيْ: في المَثل أَيْ: هل يتشابهان؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أفلا تتعظون يا أهل مكَّة

25

{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} فقال لهم: يا قومي {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}

26

{أن لا تعبدوا إلاَّ الله} أَيْ: أُنذركم لِتُوحِّدوا الله وتتركوا عبادة غيره {إني أخاف عليكم} بكفركم {عذاب يومٍ أليم} مؤلمٍ

27

{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} وهم الأشراف والرُّؤساء: {ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا} إنساناً مثلنا لا فضل لك علينا {وَمَا نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا} أخسَّاؤنا يعنون: مَنْ لا شرفَ لهم ولا مال {بادي الرأي} اتَّبعوك في ظاهر الرَّأي وباطنهم على خلاف ذلك {وما نرى لكم} يعنون لنوحٍ وقومه {علينا من فضل} وهذا تكذيبٌ منهم لأنَّ الفضل كلَّه في النُّبوَّة {بل نظنُّكم كاذبين} ليس ما أتيتنا به من الله

28

{قال يا قوم أرأيتم} أَيْ: أعلمتم {إنْ كنت على بينة من ربي} يقينٍ وبرهانٍ {وآتاني رحمة من عنده} نُبوَّةً {فعميت عليكم} فخفيت عليكم لأنَّ الله تعالى سلبكم علمها ومنعكم معرفتها لعنادكم الحقَّ {أنلزمكموها} أَنُلزمكم قبولها ونضطركم إلى معرفتها إذا كرهتم؟

29

{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على تبليغ الرِّسالة {مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وما أنا بطارد الذين آمنوا} سألوه طرد المؤمنين عنه ليؤمنوا به أنفةً من أن يكونوا معهم على سواء فقال: لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم ويأخذ لهم ممَّن ظلمهم وصغَّر شؤونهم وهو قوله: {إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون} أنَّ هؤلاء خيرٌ منكم لإِيمانهم وكفركم

30

{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} مَنْ يمنعني من عذاب الله {إن طردتهم} ؟

31

{ولا أقول لكم عندي خزائن الله} يعني: مفاتيح الغيب وهذا جوابٌ لقولهم: اتَّبعوك في ظاهرِ ما نرى منهم وهم في الباطن على خلافك فقال مجيباً لهم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله} غيوب الله {ولا أعلم الغيب} ما يغيب عني ممَّا يسترونه في نفوسهم فسبيلي قبول ما ظهر منهم {ولا أقول إني مَلَك} جوابٌ لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} {ولا أقول للذين تزدري} تستصغر وتستحقر {أعينكم} يعني: المؤمنين: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا في أنفسهم} أَيْ: بضمائرهم وليس عليَّ أن أطَّلع على ما في نفوسهم {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إن طردتهم تكذيباً لهم بعد ما ظهر لي منهم الإيمان وقوله:

32

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

33

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وما أنتم بمعجزين}

34

{إن كان الله يريد أن يغويكم} أَيْ: يُضِلَّكم ويوقع الغيَّ في قلوبكم لما سبق لكم من الشَّقاء {هو ربكم} خالقكم وسيِّدكم وله أن يتصرَّف فيكم كما يشاء

35

{أم يقولون} بل يقولون {افتراه} اختلف ما أتى به من الوحي {قل إن افتريته فعليَّ إجرامي} عقوبة جرمي {وأنا بريء مما تجرمون} من الكفر والتكذيب وقوله:

36

{فلا تبتئس} أَيْ: لا تحزن ولا تغتم

37

{واصنع الفلك بأعيننا} بمرأى منا وتأويله: بحفظنا إيَّاك حفظ مَنْ يراك ويملك دفع السُّوء عنك {ووحينا} وذلك أنَّه لم يعلم صنعة الفلك حتى أوحى الله إليه كيف يصنعها {ولا تخاطبني} لا تراجعني ولا تحاورني {في الذين ظلموا} في إمهالهم وتأخير العذاب عنهم وقوله:

38

{إن تسخروا منا} أَيْ: لما يرون من صنعه الفلك {فإنا نسخر منكم} ونعجب من غفلتكم عمَّا قد أظلَّكم من العذاب

39

{فسوف تعلمون مَنْ يأتيه عذابٌ يخزيه} أَيْ: فسوف تعلمون مَنْ أخسر عاقبةً

40

{حتى إذا جاء أمرنا} بعذابهم وهلاكهم {وفار التنور} بالماء يعني: تنُّور الخابز وكان ذلك علامةً لنوح عليه السَّلام فركب السَّفينة {قلنا احمل فيها} في الفلك {من كلّ زوجين} من كلِّ شيءٍ له زوج {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} واحمل أهلك يعني: ولده وعياله {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القول} يعني: مَنْ كان في علم الله أنَّه يغرق بكفره وهو امرأته واغلة وابنه كنعان {وَمَنْ آمَنَ} واحمل مَنْ صدَّقك {وما آمن معه إلاَّ قليل} ثمانون إنساناً

41

{وَقَالَ} نوحٌ لقومه الذين أُمر بحملهم: {ارْكَبُوا} يعني: الماء {فيها} في الفلك {بسم الله مجريها ومرساها} يريد: تجري باسم الله وترسي باسم الله فكان إذا أراد أن تجري السفينة قال: بسم الله فجرت وإذا أراد أن ترسي قال: بسم الله فَرَسَتْ أَيْ: ثبتت {إن ربي لغفور} لأصحاب السَّفينة {رحيم} بهم

42

{وهي تجري بهم في موج} جمع موجةٍ وهي ما يرتفع من الماء {كالجبال} في العِظَم {ونادى نوح ابنه} كنعان وكان كافراً {وكان في معزل} من السَّفينة أَيْ: في ناحيةٍ بعيدة عنها

43

{قال سآوي إلى جبل} أنضمُّ إلى جبلٍ {يعصمني} يمنعني {من الماء} فلا أغرق {قال} نوح: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لا مانع اليوم من عذاب الله {إِلا من رحم} لكن من رحم الله فإنَّه معصوم {وحال بينهما} بين ابن نوحٍ وبين الجبل {الموج} ما ارتفع من الماء

44

{وقيل يا أرض ابلعي ماءك} اشربي ماءك {ويا سماء أقلعي} أمسكي عن إنزال الماء {وغيض الماء} نقص {وَقُضِيَ الأَمْرُ} أُهلك قوم نوحٍ وفُرِغ من ذلك {واستوت} السَّفينة {على الجودي} وهو جبل بالجزيرة {وقيل بعداً} من رحمة الله {للقوم الظالمين} المتَّخذين من دون الله آلهاً

45

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي} كنعان {من أهلي وإنَّ وعدك الحق} وعدتني أن تنجيني وأهلي أَيْ: فأنجه من الغرق {وأنت أحكم الحاكمين} أعدل العادلين

46

{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين وعدتك أن أُنجيهم {إنه عمل غير صالح} أيْ: سؤالك إيَّاي أن أنجي كافراً عملٌ غير صالح وقيل: معناه: إنَّ ابنك ذو عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لك به علم} وذلك أنَّ نوحاً لم يعلم أنَّ سؤاله ربَّه نجاةَ ولدِه محظورٌ عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله سبحانه ذلك والمعنى: فلا تسألني ما ليس لك به علمٌ بجواز مسألته {إِنِّي أَعِظُكَ} أنهاك {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} من الآثمين فاعتذر نوحٌ عليه السَّلام لمَّا أعلمه الله سبحانه أنَّه لا يجوز له أن يسأل ذلك وقال:

47

{رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي} جهلي {وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

48

{قيل يا نوح اهبط} من السَّفينة إلى الأرض {بسلامٍ} بسلامةٍ وقيل: بتحيَّةٍ {منا وبركات عليك} وذلك أنَّه صار أبا البشر لأنَّ جميع مَن بقي كانوا من نسله {وعلى أمم ممن معك} أَيْ: من أولادهم وذرايتهم وهم المؤمنون وأهل السَّعادة إلى يوم القيامة {وأمم سنمتعهم} في الدُّنيا يعني: الأمم الكافرة من ذريَّته إلى يوم القيامة

49

{تلك} القصَّة التي أخبرتك بها {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} أخبار ما غاب عنك وعن قومك {فاصبر} كما صبر نوح على أذى قومه {إِنَّ العاقبة للمتقين} آخر الأمر بالظَّفر لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوحٍ وقوله:

50

{إن أنتم إلاَّ مفترون} ما أنتم إلاَّ كاذبون في إشراككم الأوثان وقوله:

51

{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الذي فطرني أفلا تعقلون}

52

{يرسل السماء عليكم مدراراً} كثير الدَّرِّ يعني: المطر {ويزدكم قوة إلى قوتكم} يعني: المال والولد وكان الله سبحانه قد حبس عنهم المطر ثلاث سنين وأعقم أرحام نسائهم فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله سبحانه بلادكم ورزقكم المال والولد

53

{قالوا} مُنكرين لنبوَّته: {يا هود ما جئتنا ببينة} بحجَّةٍ واضحةٍ وقوله:

54

{اعتراك} أصابك ومسَّك {بعض آلهتنا بسوء} بجنونٍ فأفسد عقلك فالذي يظهر مِنْ عيبها لما لحق عقلك من التَّغيير {قال} نبيُّ الله عليه السَّلام عند ذلك: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تشركون} أَيْ: إن كانت عندكم الأصنام أنَّها عاقبتني لطعني عليها فإني أزيد الآن في الطَّعن عليها وقوله:

55

{فكيدوني جميعاً} احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي {ثم لا تنظرون} لا تؤجلون وقوله:

56

{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أَيْ: هي في قبضته وتنالها بما شاء قدرته {إنَّ ربي على صراط مستقيم} أَيْ: إنَّ الذي بعثني الله به دينٌ مستقيمٌ

57

{فإن تولوا} تتولَّوا بمعنى: تُعرضوا عمَّا دعوتكم إليه من الإِيمان {فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} فقد ثبتت الحُجَّة عليكم بإبلاغي {ويستخلف ربي قوماً غيركم} أَيْ: ويخلف بعدكم مَنْ هو أطوعُ له منكم {ولا تضرونه} بإعراضكم {شيئاً} إنَّما تضرُّون أنفسكم {إنَّ ربي على كل شيء} من أعمال العباد {حَفِيظٌ} حتى يجازيهم عليها

58

{ولما جاء أمرنا} بهلاك عادٍ {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ برحمةٍ منا} حيث هديناهم إلى الإِيمان وعصمناهم من الكفر {ونجيناهم من عذاب غليظ} يعني: ما عُذِّب به الذين كفروا

59

{وَتِلْكَ عَادٌ} يعني: القبيلة {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} كذَّبوها فلم يُقِرّوا بها {وعصوا رسله} يعني: هوداً عليه السَّلام لأنَّ مَنْ كذَّب رسولاً واحداً فقد كفر بجميع الرُّسل {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} واتَّبع السَّفلةُ الرُّؤساءَ والعنيد: المعارضُ لك بالخلاف

60

{وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً} أُردفوا لعنةً تلحقهم وتنصرف معهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: وفي يوم القيامة كما قال: {لعنوا في الدنيا والآخرة} {ألاَ إنَّ عاداً كفروا ربهم} قيل: بربِّهم وقيل: كفروا نعمة ربِّهم {ألا بعداً لعاد} يريد: بعدوا من رحمة الله تعالى وقوله:

61

{هو أنشأكم} أَيْ: خلقكم {من الأرض} من آدم وآدم خُلق من تراب الأرض {واستعمركم فيها} جعلكم عمَّاراً لها

62

{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قبل هذا} وذلك أنَّ صالحاً عليه السَّلام كان يعدل عن دينه ويشنأ أصنامهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دين غشيرته فلمَّا أظهر دعاءهم إلى الله تعالى زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه وقوله {مريب} موقعٍ في الرِّيبة

63

{قال يا قوم أرأيتم} الآية يقول: أعلمتم مَنْ ينصرني من الله أَيْ: مَنْ يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ بعد بيِّنةٍ من ربِّي ونعمةٍ {فما تزيدونني غير تخسير} أَيْ: ما تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم الأصنام وقلكم: {أتنهانا أن نعبدَ ما يعبدُ آباؤُنا} إلاَّ بنسبتي إيَّاكم إلى الخسارة أَيْ: كلَّما اعتذرتم بشيءٍ زادكم تخسيراً وقيل معنى الآية: ما تزيدونني غير تخسيرٍ لي إن كنتم أنصاري وعنى التَّخسير: التَّضليل والإِبعاد من الخير وقوله:

64

{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عذاب قريب}

65

{تمتعوا في داركم} أَيْ: عيشوا في بلادكم {ثلاثة أيام ذلك وعدٌ} للعذاب {غير مكذوب} غير كذبٍ وقوله:

66

{ومن خزي يومئذٍ} أَيْ: نجَّيناهم من العذاب الذي أهلك قومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العارُ فيهم مأثوراً عنهم فالواوُ في {ومِنْ} نسقٌ على محذوف وهو العذاب

67

{وأخذ الذين ظلموا الصيحة} لمَّا أصبحوا اليوم الرَّابع أتتهم صيحةٌ من السَّماء فيها صوت كلِّ صاعقةٍ وصوت كلِّ شيء في الأرض فتقطَّعت قلوبهم في صدورهم

68

{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كفروا ربهم ألا بعدا لثمود}

69

{ولقد جاءت رسلنا} يعني: الملائكة الذين أتوا {إبراهيم} عليه السَّلام على صورة من الأضياف {بالبشرى} بالبشارة بالولد {قَالُوا سَلامًا} أَيْ: سلِّموا سلاماً {قَالَ سَلامٌ} أَيْ: عليكم السلام {فما لبث أن جاء بعجل حنيذٍ} مشويٍّ

70

{فلما رأى أيديهم لا تصل إليه} إلى العجل {نكرهم} أنكرهم {وأوجس منهم خيفة} أضمر منهم خوفاً ولم يأمن أن يكونوا جاؤوا لبلاءٍ لمَّا لم يتحرَّموا بطعامه فلمَّا رأوا علامة الخوف في وجهه {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لوط} بالعذاب

71

{وامرأته} سارة {قائمة} وراء السِّتر تتسمَّع إلى الرُّسل {فضحكت} سرورا بالأمن قالوا: {إنا أرسلنا إلى قوم لوط} وذلك أنَّها خافت كما خاف إبراهيم عليه السَّلام فقيل لها: يا أيتها الضَّاحكة ستلدين غلاماً فذلك قوله: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق} أَيْ: بعده {يعقوب} عليهما السَّلام وذلك أنَّهم بشَّروها بأنَّها تعيش إلى أن ترى ولد ولدها

72

{قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز} وكانت بنت تسع وتسعين سنةً {وهذا بعلي شيخاً} وكان ابن مائة سنة واثنتي عشرة سنة {إنَّ هذا} الذي تذكرون من ولادتي على كبر سنِّي وسنِّ بعلي {لشيء عجيب} معجب

73

{قالوا أتعجبين من أمر الله} قضاء الله وقدره {رحمة الله وبركاته عليكم أَهْلَ الْبَيْتِ} يعني: بيت إبراهيم عليه السَّلام فكان من تلك البركات أنَّ الأسباط وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة وكان هذا دعاءً من الملائكة لهم وقوله: {إنّه حميدٌ} أي: محمود {مجيد} كريمٌ

74

{فلما ذهب عن إبراهيم الروع} الفزع {وجاءته البشرى} بالولد {يجادلنا} أَيْ: أقبل وأخذ يجادل رسلنا {في قوم لوط} وذلك أنَّهم لما قالوا لإِبراهيم عليه السلام: {إنا مهلكوا أهلِ هذه القرية} قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟ قالوا: لا فما زال ينقص حتى قال: فواحدٌ؟ قالوا: لا فاحتجَّ عليهم بلوط و {قَالَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ} الآية فهذا معنى جداله وعند ذلك قالت الملائكة:

75

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}

76

{يا إبراهيم أعرض عن هذا} الجدال وخرجوا من عنده فأتوا قرية قوم لوطٍ وذلك قوله:

77

{ولما جاءت رسلنا لوطاً سِيءَ بهم} حزن بمجيئهم لأنَّه رآهم في أحسن صورةٍ فخاف عليهم قومه وعلم أنَّه يحتاج إلى المدافعة عنهم وكانوا قد أتوه في صورة الأضياف {وضاق بهم ذرعاً} أَيْ: صدراً {وقال هذا يوم عصيب} شديدٌ ولمَّا علم قومه بمجيء قومٍ حسانِ الوجوه أضيافاً للوط قصدوا داره وذلك قوله:

78

{وجاءه قومه يهرعون إليه} أَيْ: يُسرعون إليه {وَمِنْ قَبْلُ} أَيْ: ومِنْ قبل مجيئهم إلى لوطٍ {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يعني: فعلهم المنكر {قال يا قومِ هؤلاء بناتي} أُزوِّجكموهنَّ فـ {هنَّ أَطْهَرُ لكم} من نكاح الرِّجال أراد أن يقي أضيافه ببناته {فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي} لا تفضحوني فيهم لأنَّهم إذا هجموا إلى أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رشيد} يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر

79

{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ من حق} لَسْنَ لنا بأزواجٍ فنستحقهنَّ {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نريد} أَيْ: إنَّا نريد الرِّجال لا النِّساء

80

{قال لو أنَّ لي بكم قوَّة} لو أنَّ معي جماعةً أقوى بها عليكم {أو آوي} أنضمُّ {إلى ركن شديد} عشيرةٍ تمنعني وتنصرني لَحُلْتُ بينكم وبين المعصية فلمَّا رأت الملائكة ذلك

81

{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يصلوا إليك} بسوءٍ فإنَّا نحولُ بينهم وبين ذلك {فأسرِ بأهلك بقطع من الليل} في ظلمة اللَّيل {ولا يلتفت منكم أحد} لا ينظر أحدٌ إلى ورائه إذا خرج من قريته {إلاَّ امرأتك} فلا تسرِ بها وخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم و {إنَّه مصيبها ما أصابهم} من العذاب {إنَّ موعدهم الصبح} للعذاب فقال لوط: أريد أعجلَ من ذلك بل السَّاعةَ يا جبريل فقالوا له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ

82

{فلما جاء أمرنا} عذابنا {جعلنا عاليها سافلها} وذلك أنَّ جبريل عليه السَّلام أدخل جناحه تحتها حتى قلعها وصعد بها إلى السَّماء ثمَّ قلبها إلى الأرض {وأمطرنا عليها حجارة} قبل قلبهاإلى الأرض {من سجيل} من طينٍ مطبوخٍ طُبخ حتى صار كالآجر فهو سنك كل بالفارسية فَعُرِّب {منضود} يتلو بعضه بعضاً

83

{مسومة} معلمة بعلامة بها أنَّها ليست من حجارة أهل الدُّنيا {عند ربك} في خزائنه التي لا يُتصرَّف في شيءٍ منها إلاَّ بإرادته {وما هي من الظالمين ببعيد} يعني: كفَّار قريش يُرهبهم بها

84

{وإلى مدين} ذكرنا تفسير هذه الاية في سورة الأعراف وقوله: {إني أراكم بخير} يعني: النِّعمة والخصب يقول: أيُّ حاجةٍ بكم إلى التَّطفيف مع ما أنعم الله سبحانه به عليكم من المال ورخص السِّعر {وإني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيط} يُوعدهم بعذابٍ يُحيط بهم فلا يفلت منهم أحدٌ

85

{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} أَتِمّوهما بالعدل

86

{بقية الله} أَيْ: ما أبقى الله لكم بعد إيفاء الكيل والوزن {خير لكم} من البخس يعني: من تعجيل النَّفع به {إن كنتم مؤمنين} مصدقين في نعمه شَرَطَ الإِيمانَ لأنَّهم إنَّما يعرفون صحَّة ما يقول إذا كانوا مؤمنين {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ: لم أُؤمر بقتالكم وإكراهكم على الإِيمان

87

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يعبد آباؤنا} يريدون: دينُك يأمرك أَيْ: أفي دينك الأمر بذا؟ {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من البخس والظُّلم ونقص المكيال والميزان {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أيْ: السَّفيه الجاهل وقالوا: الحليم الرَّشيد على طريق الاستهزاء

88

{قال يا قوم أرأيتم} أعلمتم {إن كنت على بينة من ربي} بيانٍ وحجَّةٍ من ربي {ورزقني منه رزقاً حسناً} حلالاً وذلك أنَّه كان كثير المال وجواب إنْ محذوف على معنى: إنْ كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال أتَّبع الضَّلال فأبخس وأُطفف؟ يريد: إنَّ الله تعالى قد أغناه بالمال الحلال {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أَيْ: لست أنهاكم عن شيءٍ وأدخل فيه وإنَّما أختار لكم ما أختار لنفسي {إن أريد} ما أريد {إلاَّ الإصلاح} فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده وأَنْ تفعلوا ما يفعل مَنْ يخاف الله {ما استطعت} أَيْ: بقدر طاقتي وطاقة الإِبلاغ والإِنذار ثمَّ أخبر أنَّه لا يقدر هو ولا غيره على الطَّاعة إلاَّ بتوفيق الله سبحانه فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإليه أنيب} أرجع في الميعاد

89

{ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي} لا يكسبنَّكم خلافي وعداوتي {أَنْ يُصِيبَكُمْ} عذاب العاجلة {مِثْلُ مَا أَصَابَ قوم نوحٍ} من الغرق {أو قوم هود} من الرِّيح العقيم {أو قوم صالح} من الرَّجفة والصِّيحة {وما قوم لوط منكم ببعيد} في الزَّمان الذي بينكم وبينهم وكان إهلاكهم أقربَ الإِهلاكات التي عرفوها

90

{واستغفروا ربكم} اطلبوا منه المغفرة {ثمَّ توبوا إليه} توصَّلوا إليه بالتَّوبة {إنَّ ربي رحيم} بأوليائه {ودودٌ} محبٌّ لهم

91

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} ما نفهم {كثيراً مما تقول} أَيْ: صحَّته يعنون: ما يذكر من التَّوحيد والبعث والنُّشور {وإنا لنراك فينا ضعيفاً} لأنَّه كان أعمى {ولولا رهطك} عشيرتك {لرجمناك} قتلناك {وما أنت علينا بعزيز} بمنيعٍ

92

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الله} يريد: أمنع عليكم من الله كأنَّه يقول: حفظكم إيَّاي في الله أولى منه في رهطي {واتَّخذتموه وراءكم ظهرياً} ألقيتموه خلف ظهوركم وامتنعتم من قتلي مخافة قومي والله أعزُّ وأكبر من جميع خلقه {إنَّ ربي بما تعملون محيط} خبيرٌ بأعمال العباد حتى يجازيهم بها ثمَّ هدَّدهم فقال:

93

{ويا قوم اعملوا} الآية يقول: اعملوا على ما أنتم عليه {إني عاملٌ} على ما أنا عليه من طاعة الله وسترون منزلتكم من منزلتي وهو قوله: {سوف تعلمون مَنْ يأتيه عذاب يخزيه} يفضحه ويذله {ومَنْ هو كاذب} منَّا {وارتقبوا إني معكم رقيب} ارتقبوا العذاب من الله سبحانه إنِّي مرتقب من الله سبحانه الرَّحمة وقوله:

94

{أخذت الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} صاح بهم جبريل صيحةً فماتوا في أمكنتهم

95

{ألا بعداً لمدين} أَيْ: قد بعدوا من رحمة الله سبحانه

96

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} يريد: التَّوراة وما أنزل الله فيها من الأحكام {وسلطان مبين} وحجَّةٍ بيِّنةٍ وهي العصا

97

{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} بمرشدٍ إلى خيرٍ

98

{يقدم قومه} يتقدَّمهم إلى النَّار وهو قوله: {فأوردهم النار} أدخلهم النار {وبئس الورد المورود} المدخل المدخول

99

{وأتبعوا في هذه} الدنيا {لعنة} يعني: الغرق {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: ولعنة يوم القيامة وهو عذاب جهنَّم {بئس الرفد المرفود} يعني: اللَّعنة بعد اللَّعنة وقوله:

100

{منها قائمٌ وحصيد} أَيْ: من القرى التي أُهلكت قائمٌ بقيت حيطانه وحصيدٌ مخسوفٌ به قد مُحي أثره

101

{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالعذاب والإِهلاك {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية {فما أغنت عنهم} ما نفعتهم وما دفعت عنهم {آلهتهم التي يدعون} يعبدون {من دون الله} سوى الله {وما زادوهم} وما زادتهم عبادتها {غير تتبيب} بلاءٍ وهلاكٍ وخسارةٍ

102

{وكذلك} وكما ذكرنا من أهلاك الأمم {أخذ ربك} بالعقوبة {إذا أخذ القرى وهي ظالمة} يعني: أهلها

103

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني: ما ذكر من عذاب الأمم الخالية {لآية} لعبرةً {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ له الناس} لأنَّ الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم {وذلك يوم مشهود} يشهد البرُّ والفاجر

104

{وما نؤخره} وما نؤخِّر ذلك اليوم فلا نُقيمه عليكم {إلاَّ لأجلٍ معدود} لوقتٍ معلومٍ ولا يعلمه أحدٌ غير الله سبحانه

105

{يوم يأتِ} ذلك اليوم {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسعيد} فمن الأنفس في ذلك اليوم شقيٌّ وسعيدٌ

106

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زفير وشهيق} وهما من أصوات المكروبين والمحزونين والزَّفير مثل أوَّل نهيق الحمار والشَّهيق آخره إذا ردَّده في الجوف

107

{خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أبداً وهذا من ألفاظ التأبيد {إلاَّ ما شاء ربك} أن يحرجهم ولكنَّه لا يشاء ذلك والمعنى: لو شاء أن لا يخلِّدهم لقدر وقيل: إلاَّ ما شاء ربك يعني: إلاَّ مقدار مكثهم في الدُّنيا والبرزخ والوقوف للحساب ثمَّ يصيرون إلى النَّار أبداً وقوله:

108

{عطاء غير مجذوذ} أَيْ: مقطوعٍ

109

{فلا تك} يا محمَّدُ {في مرية} شكٍّ {ممَّا يعبد هؤلاء} أيْ: مِن حال ما يعبدون في أنَّها لا تضرُّ ولا تنفع {مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: كعبادة آبائهم يريد: إنَّهم على طريق التَّقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من العذاب {غير منقوص}

110

{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} هذه الآية تعزية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وتسليةٌ له باختلاف قوم موسى في كتابه {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير العذاب عن قومك {لَقُضي بينهم} لَعُجِّل عقابهم وفُرِغَ من ذلك {وإنهم لفي شك منه} من القرآن {مريب} موقعٍ للرِّيبة

111

{وإنَّ كلاًّ} من البرِّ والفاجر والمؤمن والكافر {لما} يعني: لمَنْ في قول الفرَّاء وفي قول البصريين ما زائدة والمعنى: وإنَّ كلاً {ليوفينهم ربك أعمالهم} أَيْ: ليتمنَّ لهم جزاء أعمالهم

112

{فاستقم} على العمل بأمر ربك والدُّعاء إليه {كما أمرت} في القرآن {ومن تاب معك} يعني: أصحابه أَيْ: وليستقيموا هم أيضاً على ما أُمروا به {ولا تَطْغَوا} تواضعوا لله ولا تتجبَّروا على أحدٍ {إنه بما تعملون بصير} لا تخفى عليه أعمال بني آدم

113

{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} لا تُداهنوهم ولا ترضوا بأعمالهم يعني: الكفَّار {فتمسكم النار} فيصيبكم لفحها {وَمَا لَكُمْ مِنْ دون الله من أولياء} من مانع يمنعكم من عذاب الله {ثُمَّ لا تنصرون} استئنافٌ

114

{وأقم الصلاة طرفي النهار} بالصبح والمغرب {وزلفاً من الليل} صلاة العشاء قرب أوَّل الليل والزُّلف: أوَّل ساعات اللَّيل وقيل: صلاة طرفي النَّهار: الفجر والظُّهر والعصر وأمَّا المغرب والعشاء فإنَّهما من صلاة زلف اللَّيل {إن الحسنات يذهبن السيئات} إنَّ الصَّلوات الخمس تكفر ما بينهما من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر {ذلك ذكرى} أَيْ: هذه موعظةٌ {للذاكرين}

115

{واصبر} على الصَّلاة {فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين} يعني: المُصلِّين

116

{فلولا كان من القرون من قبلكم} أَيْ: ما كان منهم {أولو بقية} دينٍ وتميزٍ وفضلٍ {ينهون عن الفساد في الأرض} عن الشِّرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية {إلاَّ قليلاً} لكن قليلاً {ممن أنجينا منهم} وهم أتباع الأنبياء وأهل الحقِّ نهوا عن الفساد {واتَّبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} آثروا الَّلذات على أمر الآخرة وركنوا إلى الدُّنيا والأموال وما أُعطوا من نعيمها

117

{وما كان ربك ليهلك القرى} أَيْ: أهلها {بظلمٍ} بشركٍ {وأهلها مصلحون} فيما بينهم أَيْ: ليس من سبيل الكفَّار إذا قصدوا الحقَّ في المعاملة أن يُنزِّل اللَّهُ بهم عذاب الاستئصال كقوم لوطٍ عُذِّبوا باللِّواط وقوم شعيب عُذِّبوا ببخس المكيال

118

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} مسلمين كلَّهم {ولا يزالون مختلفين} في الأديان

119

{إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعني: أهل الحقِّ {ولذلك خلقهم} أَيْ: خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرَّحمة للرَّحمة

120

{وكلاًّ نقصُّ عليك} أَيْ: كلَّ الذي تحتاج إليه {من أنباء الرسل} نقصُّ عليك {ما نثبت به فؤادك} ليزيدك يقيناً {وجاءك في هذه} أَيْ: في هذه السُّورة {الحق} يعني: ما ذُكر من أقاصيص الأنبياء ومواعظهم وذكر السَّعادة والشَّقاوة وهذا تشريفٌ لهذه السُّورة لأنَّ غيرها من السُّور قد جاء فيها الحقُّ {وموعظة وذكرى للمؤمنين} يتَّعظون إذا سمعوا هذه السُّورة وما نزل بالأمم لمَّا كذَّبوا أنبياءهم

121

{وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أمر تهديد أَيْ: اعملوا ما أنتم عاملون

122

{وَانْتَظِرُوا} ما يعدكم الشَّيطان {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} ما يعدنا ربُّنا من النَّصر

123

{ولله غيب السماوات وَالأَرْضِ} أَيْ: علم ما غاب عن العباد فيهما {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} في المعاد حتى لا يكون لأحدٍ سواه أمرٌ {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَيْ: إنَّه يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءَته

سورة يوسف

{الر} أنا الله الرَّحمن {تلك} هذه {آيات الكتاب المبين} للحلال والحرام والأحكام يعني: القرآن

2

{إنا أنزلناه} يعني: الكتاب {قرآنا عربيا} بلغة العرب {لعلكم تعقلون} كي تفهموا

3

{نحن نقصُّ عليك أحسن القصص} نبيِّن لك أحسن البيان {بما أوحينا} بإيماننا {إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} وما كنتَ من قبل أن يُوحى إليك إلاَّ من الغافلين

4

{إذ قال} اذكر إِذْ قَالَ {يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} الآية رأى يوسف عليه السَّلام هذه الرُّؤيا فلمَّا قصَّها على أبيه أشفق عليه من حسد إخوته له فقال:

5

{يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فيكيدوا لك كيداً} يحتالوا في هلاكك لأنهم لا يعلمون تأويلها

6

{وكذلك} ومثل ما رأيت {يجتبيك ربك} يصطفيك ويختارك {ويعلمك من تأويل الأحاديث} تعبير الأحلام {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بالنبُّوَّة {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} يعني: المُختَصِّين منهم بالنُّبوَّة {عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} حيث يضع النبوَّة {حَكِيمٌ} في خلقه

7

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أَيْ: في خبرهم وقصصهم {آيات} عبرٌ وعجائبُ {للسائلين} الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأخبرهم بها وهو غافلٌ عنها لم يقرأ كتاباً فكان في ذلك أوضح دلالةٍ على صدقه

8

{إذ قالوا} يعني: إخوة يوسف: {ليوسفُ وأخوه} لأبيه وأُمِّه {أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة} جماعةٌ {إنَّ أبانا لفي ضلالٍ مبين} ضلَّ بإيثاره يوسف وأخاه علينا ضلالٍ: خطأ

9

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} في أرضٍ يبعد فيها عن أبيه {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أبيكم} يُقبل بكليته عليكم {وتكونوا من بعده قوماً صالحين} تُحدثوا توبةً بعد ذلك يقبلها الله سبحانه منكم

10

{قال قائل منهم} وهو يهوذا أكبر إخوته: {لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب} في موضعٍ مظلمٍ من البئر لا يلحقه نظر النَّاظرين {يلتقطه بعض السيارة} مارَّة الطَّريق {إن كنتم فاعلين} ما قصدتم من التًّفريق بينه وبين أبيه فلمَّا تآمروا بينهم ذلك وعزموا على طرحه في البئر

11

{قَالُوا} لأبيهم {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يوسف} لِمَ تخافنا عليه؟ {وإنا له لناصحون} في الرَّحمة والبرِّ والشَّفقة

12

{أرسله معنا غداً} إلى الصحراء {يرتع ويلعب} نسعى وننشط {وإنا له لحافظون} من كلِّ ما تخافه عليه

13

{قال إني ليحزنني أن تذهبوا به} ذهابكم به يحززني لأنَّه يفارقني فلا أراه {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب} وذلك أنَّ أرضهم كانت مذأبة {وأنتم عنه غافلون} مشتغلون برعيتكم

14

{قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة} جماعةٌ بحضرته {إنا إذاً لخاسرون} لعاجزون

15

{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غيابة الجب} وعزموا على ذلك أوحينا إلى يوسف في البئر تقويةً لقلبه: لتصدقنَّ رؤياك ولَتُخبِرِنَّ إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بأنَّك يوسف في وقت إخبارك إياهم

16

{وجاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}

17

{قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق} نشتدُّ ونعدو ليتبيَّن أيُّنا أسرع عَدْواً {وَتَرَكْنَا يوسف عند متاعنا} ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} بمصدِّق لنا {ولو كنَّا صادقين} في كلِّ الأشياء لأنَّك اتَّهمتنا في هذه القصَّة

18

{وجاؤوا على قميصه بدم كذب} لأنَّه لم يكن دمه إنَّما كان دم سخلةٍ {قال} يعقوب عليه السَّلام: {بل} أَيْ: ليس كما تقولون {سوَّلت لكم} زيَّنت لكم {أنفسكم} في شأنه {أمْراً} غير ما تصفون {فصبر} أَيْ: فشأني صبرٌ {جميل} وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى ما تصفون} أَيْ: به أستعين في مكابدة هذا الأمر

19

{وجاءت سيارة} رفقةٌ تسير للسَّفر {فأرسلوا واردهم} وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم {فَأَدْلَى دلوه} أرسلها في البئر فتشبت يوسف عليه السَّلام بالرِّشاء فأخبره الوارد فلمَّا رآه {قال يا بشرى} أَيْ: يا فرحتا {هذا غلام وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أسرَّه الوارد ومَنْ كان معه من التُّجار من غيرهم وقالوا: هذه بضاعةٌ استبضعها بعض أهل الماء {والله عليم بما يعملون} بيوسف فلمَّا علم إخوته ذلك أتوهم وقالوا: هذا عبدٌ آبقٌ منَّا فقالوا لهم: فبيعوناه فباعوه منهم وذلك قوله: {وشروه بثمن بخسٍ} حرامٍ لأنَّ ثمن الحُرِّ حرامٌ {دراهم معدودة} باثنين وعشرين درهماً {وكانوا} يعني: إخوته {فيه} في يوسف {من الزاهدين} لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه

20

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ من الزاهدين}

21

{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} وهو العزيز صاحب ملك مصر: {أكرمي مثواه} أحسني إليه طول مقامه عندنا {عسى أن ينفعنا} أَيْ: يكفينا - إذا بلغ وفهم الأمور - بعض شؤوننا {أو نتخذه ولداً} وكان حصوراً لا يولد له {وكذلك} وكما نجَّيناه من القتل والبئر {مكَّنا ليوسف في الأرض} يعني: أرض مصر حتى بلغ ما بلغ {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} فعلنا ذلك تصديقاً لقوله {ويُعلِّمك مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} على ما أراد من قضائه لا يغلب غالبٌ على أمره ولا يُبطل إرادته منازعٌ {ولكنَّ أكثر الناس} هم المشركون ومَنْ لا يؤمن بالقدر {لا يعلمون} أَنَّ قدرة الله غالبةٌ ومشيئته نافذةٌ

22

{ولما بلغ أشده} ثلاثين سنةً {آتيناه حكماً وعلماً} عقلاً وفهماً {وَكَذَلِكَ} ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف {نجزي المحسنين} الصَّابرين على النوائب كما يوسف عليه السَّلام

23

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} يعني: امرأة العزيز طلبت منه أن يُواقعها {وغلقت الأبواب} أَيْ: أغلقتها {وقالت هيت لك} أَيْ: هلمَّ وتعال {قال مَعَاذَ الله} أعوذ بالله أن أفعل هذا {إِنَّهُ رَبِّي} إنَّ الذي اشتراني هو سيِّدي {أحسن مثواي} أنعم عليَّ بإكرامي فلا أخونه في حرمته {إنه لا يفلح الظالمون} لا يسعد الزُّناة

24

{ولقد همت به وهمَّ بها} طمعت فيه وطمع فيها {لولا أن رأى برهان ربِّه} وهو أنَّه مُثِّل له يعقوب عليه السَّلام عاضَّاً على أصابعه يقول: أتعمل عمل الفجَّار وأنت مكتوبٌ في الأنبياء فاستحيا منه وجواب لولا محذوف على معنى: لولا أن لاأى برهان ربِّه لأمضى ما همَّ به {كذلك} أَيْ: أريناه البرهان {لنصرف عنه السوء} وهو حيانة صاحبه {والفحشاء} ركوب الفاحشة {إنَّه من عبادنا المخلصين} الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه

25

{واستبقا الباب} وذلك أنَّ يوسف عليه السَّلام لمَّا رأى البرهان قام مُبادراً إلى الباب واتَّبعته المرأة تبغي التَّشبُّث به فلم تصل إلاَّ إلى دُبر قميصه فقدَّته ووجدا زوج المرأة عند الباب فحضرها في الوقت كيدٌ فأوهمت زوجها أنَّ الذي تسمع من العدو والمبادرة إلى الباب كان منها لا من يوسف فـ {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} تريد الزِّنا {إلاَّ أن يسجن} يحبس في الحبس {أو عذاب أليم} بالضَّرب فلمَّا قالت ذلك غضب يوسف و {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ} وحكم حاكمٌ وبيَّن مبيِّنٌ {من أهلها} وهو ابنُ عمِّ المرأة فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو من الكاذبين}

26

{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}

27

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}

28

{فلما رأى قميصه قُدَّ من دبرٍ} من حكم الشَّاهد وبيانِه ما يُوجب الاستدلال على تمييز الكاذب من الصَّادق فلمَّا رأى زوج المرأة قميص يوسف قُدَّ مِنْ دُبُرٍ {قال إنَّه من كيدكنَّ} أَيْ: قولِك: {ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءاً} الآية

29

{يوسف} يا يوسف {أعرض عن هذا} اترك هذا الأمر فلا تذكره {واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} الآثمين ثمَّ شاع ما جرى بينهما في مدينة مصر حتى تحدَّثت بذلك النِّساء وخضن فيه وهو قوله:

30

{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} غلامها {عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} قد دخل حبُّه في شغاف قلبها وهو موضع الدَّم الذي يكون داخل القلب {إنا لنراها في ضلالٍ} عن طريق الرُّشد بحبِّها إيَّاه

31

{فلما سمعت} امرأة العزيز {بمكرهن} مقالتهن وشميت مكراً لأنهنَّ قصدْنَ بهذه الماقلة أن تُريهنَّ يوسف ليقوم لها العذر في حبِّه إذا رأين جماله وكنَّ مشتهين ذلك لأنَّ يوسف وُصف لهنَّ بالجمال {أرسلت إليهن} تدعوهنَّ {وأعتدت} وأعدَّت {لهن متكئا} طعاماً يقطع بالسِّكين قيل: هو الأترج {وآتت} وناولت {كلَّ واحدةٍ منهن سكيناً وقالت} ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه وهَالَهُنَّ أمره وبُهتن {وقطعن أيديهنَّ} حَززْنَها بالسَّكاكين ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف {وَقُلْنَ حاشَ لِلَّه} بَعُدَ يوسف عن أن يكون بشراً {إنْ هذا} ما هذا {إلاَّ ملك كريم} فلمَّا رأت امرأة العزيز ذلك قالت:

32

{فذلكنَّ الذي لُمْتُنَّنِي فيه} في حبِّه والشَّغف فيه ثم أقرَّّت عندهنَّ بما فعلت فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} فامتنع وأبى وتوعَّدته بالسِّجن فقالت: {ولئن لم يفعل} الآية فأمرنه بطاعتها وقلن له: إنَّك الظَّالم وهي المظلومة فقال يوسف:

33

{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من معصيتك {وإلاَّ تصرف عني كيدهنَّ} كيد جميع النِّساء {أصبُ إليهنَّ} أمل إليهنَّ {وأكن من الجاهلين} المذنبين

34

{فاستجاب له ربُّه فصرف عنه كيدهنَّ} حتى لم يقع في شيءٍ ممَّا يطالبنه به {إنَّه هو السميع} لدعائه {العليم} بما يخاف من الإثم

35

{ثم بدا لهم} للعزيز وأصحابه {من بعد ما رأوا الآيات} آيات براءة يوسف {ليسجننه حتى حين} وذلك أنَّ المرأة قالت: إنَّ هذا العبد فضحني في النَّاس يُخبرهم أنِّي راودته عن نفسه فاحبسه حتى تنقطع هذه المقالة فذلك قوله: {حتى حين} أَيْ: إلى انقطاع اللائمة

36

{ودخل معه السجن فتيان} غلامان للملك الأكبر رُفع إليه أنَّ صاحب طعامه يريد أن يَسُمَّه وصاحب شرابه مَالأَهُ على ذلك فأدخلهما السِّجن ورأيا يوسف يُعبِّر الرُّؤيا فقالا: لنجرِّب هذا العبد العبرانيّ فتحالما من غير أن يكونا رأيا شيئاً وهو قوله {قال أحدهما} وهو السَّاقي: {إني أراني أعصر خمراً} أَيْ: عنباً وقال صاحب الطَّعام: {إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً} رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي خبزاً {تأكل الطير منه} فإذا سباعُ الطير يَنْهَشْنَ منه {نبئنا بتأويله} أَيْ: خبرنا بتفسير الرُّؤيا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} تُؤثر الإِحسان وتأتي جميل الأفعال فعدلَ يوسف عليه السَّلام عن جواب مسألتهما ودَلَّهما أولاً على أنَّه عالمٌ بتفسير الرُّؤيا فقال:

37

{لا يأتيكما طعام ترزقانه} تأكلان منه في منامكما {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة {قبل أن يأتيكما} التَّأويل {ذلكما مما علمني ربّي} أَيْ: لست أخبركما على جهة التَّكهُّن والتَّنجُّم إنَّما ذلك بوحي من الله عز وجل وعلمٍ ثمَّ أخبر عن إيمانه واجتنابه الكفر بباقي الآية وقوله:

38

{مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شيء} يريد: إن الله سبحانه عصمنا من أن نشرك به {ذَلِكَ مِنْ فضل الله علينا} أَيْ: اتِّباعنا للإيمان يتوفيق الله تعالى وتفضُّله علينا {وعلى الناس} وعلى مَنْ عصمه الله من الشِّرك حتى اتَّبع دينه {ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون} نعمة الله بتوحيده والإِيمان برسله ثمَّ دعاهما إلى الإِيمان فقال:

39

{يا صاحبي السجن} يعني: يا ساكنيه: {أأرباب متفرِّقون} يعني: الأصنام {خَيْرٌ} أعظم في صفة المدح {أَمِ اللَّهُ الواحد القهار} الذي يقهر كلَّ شيءٍ

40

{ما تعبدون من دونه} أنتما ومَنْ على مثل حالكما من دون الله {إلاَّ أسماءً} لا معانيَ وراءها {سميتموها أنتم} {إن الحكم إلاَّ لله} ما الفضل بالأمر والنَّهي إلاَّ لله {ذَلِكَ الدِّينُ القيم} المستقيم {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} مل للمطيعين من الثَّواب وللعاصين من العقاب ثمَّ ذكر تأويل رؤياهما بقوله:

41

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رأسه} فقالا: ما رأينا شيئاً فقال: {قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان} يعني: سيقع بكما ما عبَّرت لكما صدقْتُما أم كذبتما

42

{وقال} يوسف {للذي ظنَّ} علم {إنَّه ناج منهما} وهو السَّاقي: {اذكرني عند ربك} عند الملك صاحبك وقل له: إنَّ في السِّجن غلاماً محبوساً ظلماً {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ ربه} أنسى الشَّيطان يوسف الاستغاثة بربِّه وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك فعوقب بأن {لبث في السجن بضع سنين} سبع سنين فلمَّا دنا فرجه وأراد الله خلاصه رأى الملك رؤيا وهو قوله:

43

{وقال الملك إني أرى} الآية فلمَّا استفتاهم فيها

44

{قالوا أضغاث أحلام} أحلامٌ مختلطةٌ لا تأويل لها عندنا {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمي} أقرُّوا بالعجز عن تأويلها

45

{وقال الذي نجا منهما} وهو السَّاقي {وادَّكر بعد أمةٍ} وتذكَّر أمر يوسف بعد حين من الدَّهر: {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} فأُرسل فأتى يوسف فقال:

46

{يوسفُ} أَيْ: يا يوسف {أيها الصديق} الكثير الصِّدق وقوله {لعلي أرجع إلى الناس} يعني: أصحاب الملك {لعلهم يعلمون} تأويل رؤيا الملك من جهتك

47

{قال تزرعون} أَيْ: ازرعوا {سبع سنين دأباً} متتابعةً وهذه السَّبع تأويل البقرات السِّمان {فَمَا حَصَدْتُمْ} ممَّا زرعتم {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} لأنَّه أبقى له وأبعد من الفساد {إلا قليلاً ممًّا تأكلون} فإنَّكم تدوسونه

48

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} مُجدباتٌ صعابٌ وهذه تأويل البقرات العجاف {يأكلن} يُفنين ويُذهبن {مَا قدَّمتم لهن} من الحَبِّ {إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون} تحرزون وتدَّخرون

49

{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يغاث الناس وفيه يعصرون} يمطرون ويخصبون حتى يعصروا من السِّمسم الدُّهن ومن العنب الخمر ومن الزَّيتون الزَّيت فرجع الرَّسول بتأويل الرُّؤيا إلى الملك فعرف الملك أنَّ ذلك تأويلٌ صحيحٌ فقال:

50

{ائتوني} بالذي عبَّر رؤياي فجاء الرَّسول يوسف وقال: أجب الملك فقال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني: الملك {فاسأله} أن يسأل {ما بال النسوة} ما حالهنَّ وشأنهنَّ ليعلم صحَّة براءتي ممَّا قُذفت به وذلك أنَّ النِّسوة كنَّ قد عرفن براءته بإقرار امرأة العزيز عندهنَّ وهو قولها: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} فأحبَّ يوسف عليه السَّلام أن يُعلم الملك أنَّه حبس ظلما وأنه برئ ممَّا قُذِف به فسأله أن يستعلم النِّسوة عن ذلك {إن ربي بكيدهنَّ} ما فعلن في شأني حين رأينني وما قلن لي {عليم} فدعا الملك النسوة فقال:

51

{ما خطبكنَّ} ما قصتكنَّ وما شأنكنَّ {إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه} جمعهنَّ في المراودة لأنه يعلم مَنْ كانت المُراوِدة {قلن حاشَ لله} بَعُدَ يوسف عمَّا يُتَّهم به {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} من زنا فلمَّا برَّأْنَهُ أقرَّت امرأة العزيز فقالت: {الآن حصحص الحق} أَيْ: بان ووضح وذلك أنَّها خافت إنْ كذَّبت شهدت عليها النِّسوة فقالت: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله: {هي راودتني عن نفسي}

52

{ذلك} أَيْ: ما فعله يوسف من ردِّ الرَّسول إلى الملك {ليعلم} وزير الملك ـ وهو الذي اشتراه ـ {إني لم أخنه} في زوجته {بالغيب وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} لا يرشد مَنْ خان أمانته أَيْ: إنَّه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية من الله عز وجل فلمَّا قال يوسف عليه السَّلام: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال جبريل عليه السَّلام: ولا حين هممت بها يوسف فقال:

53

{وما أبرئ نفسي} وما أُزكِّي نفسي {إنَّ النفس لأمَّارة بالسوء} بالقبيح وما لا يحبُّ الله {إلاَّ ما} مَنْ {رحم ربي} فعصمه

54

{وقال الملك ائتوني به} بيوسف {أستخلصه لنفسي} أجعله خالصاً لي لا يشركني فيه أحدٌ {فلمَّا كلَّمه} يوسف {قال إنك اليوم لدينا مكين} وجيهٌ ذو مكانةٍ {أمين} قد عرفنا أمانتك وبراءتك ثمَّ سأله الملك أن يُعبِّر رؤياه شفاهاً فأجابه يوسف بذلك فقال له: ما ترى أن تصنع؟ قال: تجمع الطَّعام في السِّنين المخصبة ليأتيك الخلق فيمتارون منك بحكمك فقال: مَنْ لي بهذا ومَنْ يجمعه؟ فقال يوسف:

55

{قال اجعلني على خزائن الأرض} على حفظها وأراد بالأرض أرض مصر {إني حفيظٌ عليمٌ} كاتبٌ حاسبٌ

56

{وكذلك} وكما أنعمنا عليه بالخلاص من السِّجن {مكنَّا ليوسف} أقدرناه على ما يريد {في الأرض} أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} هذا تفسير التَّمكين في الأرض {نصيب برحمتنا مَنْ نشاء} أتفضَّل على مَنْ أشاء برحمتي {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ثواب المُوحِّدين

57

{ولأجر الآخرة خير} الآية أَيْ: ما يعطي الله من ثواب الآخرة خيرٌ للمؤمنين والمعنى: إنَّ ما يعطي الله تعالى يوسف في الآخرة خيرٌ ممَّا أعطاه في الدُّنيا ثمَّ دخل أعوام القحط على النَّاس فأصاب إخوة يوسف المجاعة فأتوه مُمتارين فذلك قوله:

58

{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ له منكرون} لأنهم رأوه على زيِّ الملوك وكان قد تقرَّر في أنفسهم هلاك يوسف وقيل: لأنَّهم رأوه من وراء سترٍ

59

{ولما جهزهم بجهازهم} يعني: حمل لكلِّ رجلٍ منهم بعيراً {قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم} يعني: بنيامين وذلك أنَّه سألهم عن عددهم فأخبروه وقالوا: خلَّفنا أحدنا عند أبينا فقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي مِنْ أَبِيكُمْ {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أُتمُّه من غير بخسٍ {وأنا خير المنزلين} وذلك لأن حين أنزلهم أحسن ضيافتهم ثمَّ أوعدهم على ترك الإِتيان بالأخ بقوله:

60

{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}

61

{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا {وإنا لفاعلون} ما وعدناك من المراودة

62

{وقال} يوسف {لفتيانه} لغلمانه: {اجعلوا بضاعتهم} التي أتوا بها لثمن الميرة وكانت دراهم {في رحالهم} أو عيتهم {لعلَّهم يعرفونها} عساهم يعرفون أنَّها بضاعتهم بعينها {إذا انقلبوا إلى أهلهم} وفتحوا أوعيتهم {لعلهم يرجعون} عساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك لأنَّّهم لا يستحلُّون إمساكها

63

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا منع منّا الكيل} حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا إن لم نذهب بأخينا يعنون قوله: {فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} {فأرسل معنا أخانا نكتل} نأخذ كيلنا

64

{قال هل آمنكم عليه} الآية يقول: لا آمنكم على بنيامين إلاَّ كأمني على يوسف يريد: إنَّه لم ينفعه ذلك الأمن فإنَّهم خانوه فهو - وإن أَمِنَهم في هذا - خاف خيانتهم أيضاً ثمَّ قال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا}

65

{ولما فتحوا متاعهم} ما حملوه من مصر {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا ما نبغي} منك شيئاً تردُّنا به وتصرفنا إلى مصر {هذه بضاعتنا ردت إلينا} فنتصرَّف بها {ونميرُ أهلنا} نجلب إليهم الطَّعام {ونزداد كيل بعير} نزيد حِمْل بعيرٍ من الطَّعام لأنَّه كان يُكال لكلِّ رجلٍ وِقْر بعير {ذلك كيلٌ يسير} متيسر على من يكبل لنا لسخائه

66

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا من الله} حتى تحلفوا بالله {لَتَأْتُنَّني به إلاَّ أن يحاط بكم} إلا أن تموتوا كلُّكم {فلما آتَوْهُ موثقهم} عهدهم ويمينهم {قال} يعقوب عليه السَّلام: {الله على ما نقول وكيل} شهيد فلمَّا أرادوا الخروج من عنده قال:

67

{يا بني لا تدخلوا} مصر {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ متفرقة} خاف عليهم العين فأمرهم بالتَّفرقة {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} يعني: إنَّ الحذر لا يُغني ولا ينفع من القدر

68

{ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} وذلك أنَّهم دخلوا مصر متفرِّقين من أربعة أبواب {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شيء} ما كان ذلك ليردَّ قضاءً قضاه الله سبحانه {إلاَّ حاجةً} لكن حاجةً يعني: إنَّ ذلك الدّخول قضى حاجةً في نفس يعقوب عليه السَّلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبوابٍ متفرِّقةٍ شفقةً عليهم {وإنه لذو علم لما علمناه} لذو يقينٍ ومعرفةٍ بالله سبحانه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنَّ يعقوب عليه السَّلام بهذه الصِّفة

69

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} ضمَّه إليه وأنزله عند نفسه {قال إني أنا أخوك} اعترف له بالنِّسب وقال: لا تخبرهم بما ألقيت إليك {فلا تبتئس} فلا تحزن ولا تغتم {بما كانوا يعملون} من الحسد لنا وصرف وجه أبينا عنا

70

{فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية} وهو إناءٌ من ذهبٍ مرصَّعٌ بالجواهر {في رحل أخيه} بنيامين {ثمَّ أذَّنَ مؤذنٌ} نادى منادٍ {أيتها العير} الرُّفقة {إنكم لسارقون}

71

{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} ؟

72

{قالوا نفقد صواع الملك} يعني: السِّقاية {ولمن جاء به حمل بعير} أَيْ: من الطَّعام {وأنا به زعيم} كفيل

73

{قالوا تالله لقد علمتم} حلفوا على أنَّهم يعلمون صلاحهم وتجنُّبهم الفساد وذلك أنَّهم كانوا معروفين بأنَّهم لا يظلمون أحداً ولا يرزأون شيئاً لأحد

74

{قالوا فما جزاؤه} أَيْ: ما جزاء السَّارق {إن كنتم كاذبين} في قولكم: ما كنا سارقين

75

{قالوا جزاؤه مَنْ وجد في رحله} وكانوا يستعبدون كلَّ سارقٍ بسرقته فلذلك قَالُوا: جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أَيْ: جزاء السَّرق مَنْ وجد في رحله المسروق {فهو جزاؤه} أَيْ: فالسَّرق جزاء السَّارق {كذلك نجزي الظالمين} أَيْ: إذا سرق سارقٌ اسْتُرِقَّ فلمَّا أقرُّوا بهذا الحكم صُرف بهم إلى يوسف عليه السَّلام ليفتِّش أمتعتهم

76

{فبدأ} يوسف {بأوعيتهم} وهي كلُّ ما استودع شيئاً من جرابٍ وجوالق ومِخْلاةٍ {قبل وعاء أخيه} نفياً للتُّهمة {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا} يعني: السِّقاية {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كذلك كدنا} ألهمنا {ليوسف} أي: ألهمناه مثل ذلك الكيد حتى ضممنا أخاه إليه {ما كان ليأخذ أخاه} ويستوجب ضمَّه إليه {في دين الملك} في حكمه وسيرته وعادته {إلاَّ} بمشيئة الله تعالى وذلك أنَّ حكم الملك في السَّارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق فلم يكن يوسف يتمكَّن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطُّفاً حتى وجد السَّبيل إلى ذلك وهو ما أجري على ألسنة إخوته أنَّ جزاء السَّارق الاسترقاق {نرفع درجات مَنْ نشاء} بضروب الكرامات وأبواب العلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كلِّ شيء {وفوق كلِّ ذي علم عليم} يكون هذا أعلم من هذا وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه فلمَّا خرج الصُّواع من رحل بنيامين

77

{قالوا} ليوسف {إن يسرق} الصُّواع {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون: يوسف عليه السَّلام وذلك أنَّه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرَّاً منهم فيتصدَّق به في المجاعة حتى فطن به إخوته {فأسرَّها يوسف في نفسه} أَيْ: أسرَّ الكلمة التي كانت جواب قولهم هذا {ولم يُبدها لهم} وهو أنَّه قال في نفسه: {أنتم شرٌّ مكاناً} عند الله بما صنعتم من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم {والله أعلم بما تصفون} أَيْ: قد علم أنَّ الذي تذكرونه كذبٌ

78

{قالوا يا أيها العزيز إنَّ له أباً شيخاً كبيراً} في السِّنِّ {فخذ أحدنا مكانه} واحداً منَّا تستعبده بدله {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا

79

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون}

80

{فلما استيأسوا} يئسوا {منه خلصوا نجياً} انفردوا متناجين في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم {قال كبيرهم} وهو روبيل وكان أكبرهم سنَّاً: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ موثقاً من الله} في خفظ الأخ وردِّه إليه {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يوسف} ما زائدة أَيْ: قصَّرتم في أمر يوسف وخنتموه فيه {فلن أبرح الأرض} لن أخرج من أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لي أبي} يبعث إليَّ أنَْ آتيه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} يقضي في أمري شيئاً {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أعدلهم وقال لإخوته:

81

{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابنك سرق} يعنون في ظاهر الأمر {وما شهدنا إلاَّ بما علمنا} لأنَّه وُجدت السَّرقة في رحله ونحن ننظر {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين} ما كنا نحفظه إذا غاب عنا

82

{واسأل القرية التي كنَّا فيها} أَيْ: أهل مصر {والعير التي أقبلنا فيها} يريد: أهل الرُّفقة فلمَّا رجعوا إلى أبيهم يعقوب عليه السَّلام قالوا له هذا فقال:

83

{بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً} زيَّنته لكم حتى أخرجتم بنيامين من عندي رجاء منفعة فعاد من ذلك شرٌّ وضررٌ

84

{وتولى عنهم} أعرض عن بنيه وتجدَّد وَجْدُه بيوسف {وقال يا أسفى على يوسف} يا طول حزني عليه {وابيضت عيناه} انقلبت إلى حال البياض فلم يبصر بهما {من الحزن} من البكاء {فهو كظيم} مغمومٌ مكروبٌ لا يُظهر حزنه بجزعٍ أو شكوى

85

{قالوا تالله تفتأ} لا تزال {تذكر يوسف} لا تَفْتُر من ذكره {حتى تكون حرضاً} فاسداً دنفاً {أو تكون من الهالكين} الميِّتين والمعنى: لا تزال تذكره بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت بغمِّه فلمَّا أغلظوا له في القول

86

{قال إنما أشكو بثِّي} ما بي من البثِّ وهو الهمُّ الذي تفضي به إلى صاحبك {وحزني إلى الله} لا إليكم {وأعلم من الله ما لا تعلمون} وهو أنَّه علم أنَّ يوسف حيٌّ أخبره بذلك مَلَكُ الموت وقال له: اطلبه من هاهنا وأشار له إلى ناحية مصر ولذلك قال:

87

{يا بنيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف} تَبَحَّثوا عنه {ولا تَيْأَسُوا من روح الله} من الفرج الذي يأتي به {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا القوم الكافرون} يريد: إنَّ المؤمن يرجو الله تعالى في الشدائد والكافر ليس كذلك فخرجوا إلى مصر

88

{فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر} أصابنا ومَنْ يختصُّ بنا الجوع {وجئنا ببضاعة مزجاة} ندافع بها الأيام ونتفوت وليس ممَّا يتشبَّع به وكانت دراهم زيوفاً {فأوف لنا الكيل} سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطي بغيرها من الجياد {وتصدَّق علينا} بما بين القيمتين {إن الله يجزي} يتولَّى جزاء {المتصدقين} فلمَّا قالوا هذا أدركته الرِّقَّة ودمعت عيناه وقال توبيخاً لهم وتعظيما لما فعلوا:

89

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} بإدخال الغمِّ عليه بإفراده من يوسف {إذ أنتم جاهلون} آثمون بيعقوب أبيكم وقطع رحم أخيكم منكم ولمَّا قال لهم هذه المقالة رفع الحجاب فقالوا:

90

{أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف} الذي فعلتم به ما فعلتم {وهذا} المظلوم من جهتكم {قد منَّ الله علينا} بالجمع بيننا بعد ما فرَّقتم {إنه مَن يتق} الله {ويصبر} على المصائب {فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين} أجر مَنْ كان هذا حاله

91

{قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} فضَّلك الله علينا بالعقل والعلم والفضل الحسن {وإنْ كنا لخاطئين} آثمين في أمرك

92

{قال لا تثريب عليكم اليوم} لا تأنيب ولا تعيير عليكم بعد هذا اليوم ثمَّ جعلهم في حلِّ وسأل لهم المغفرة فقال: {يغفر الله لكم} الآية ثمَّ سألهم عن أبيه فقالوا: ذهبت عيناه فقال:

93

{اذهبوا بقميصي هذا} وكان قد نزل به جبريل عليه السَّلام على إبراهيم عليه السَّلام لمَّا أُلقي في النَّار وكان فيه ريح الجنَّة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلاَّ صحَّ فذلك قوله: {فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} يرجعْ ويَعُدْ بصيراً

94

{ولما فصلت العير} خرجت من مصر مُتوجِّهةً إلى كنعان {قَالَ أَبُوهُمْ} لمن حضره: {إني لأجد ريح يوسف} وذلك أنَّه هاجت الرِّيح فحملت ريح القميص واتَّصلت بيعقوب فوجد ريح الجنَّة فعلم أنَّه ليس في الدُّنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص {ولا أن تفندون} تُسفِّهوني وتُجهِّلوني

95

{قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} شقائك القديم ممَّا تكابد من الأحزان على يوسف وخطئك في النزاع إليه على عهده منك وكان عندهم أنَّه قد مات وقوله:

96

{فارتدَّ بصيراً} أَيْ: عاد ورجع بصيرا وقوله:

97

{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كنا خاطئين}

98

{سوف أستغفر لكم ربي} أخَّر ذلك إلى السَّحَر ليكون أقرب إلى الإجابة وكان قد بعث يوسف عليه السًّلام مع البشير إلى يعقوب عليه السَّلام عُدَّة المسير إليه فتهيَّأ يعقوب وخرج مع أهله إليه فذلك قوله:

99

{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه} أَيْ: ضمَّ إليه {أبويه} أباه وخالته وكانت أمُّه قد ماتت {وقال ادخلوا مصر} وذلك أنَّه كان قد استقبلهم فقال لهم قبل دخول مصر: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وكانوا قبل ذلك يخافون دخول مصر إلاَّ بجوازٍ من ملوكهم

100

{ورفع أبويه على العرش} أجلسهما على السَّرير {وخرُّوا له سجداً} سجدوا ليوسف سجدة التَّحيَّة وهو الانحناء {وقد أحسن بي} إليَّ {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البدو} وهو البسيط من الأرض وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواشٍ وبريَّة {من بعد أن نزغ الشيطان} أفسد {بيني وبين إخوتي} بالحسد {إنَّ ربي لطيف لما يشاء} عالم بدقائق الأمور {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه {الحكيم} فيهم بما شاء ثمَّ دعا ربَّه وشكره فقال:

101

{رب قد آتيتني من الملك} ملك مصر {وعلمتني من تأويل الأحاديث} يريد: تفسير الأحلام {فاطر السماوات والأرض} خالقهما ابتداءً {توفني مسلماً} اقبضني على الإِسلام {وألحقني بالصالحين} من آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السَّلام يريد: ارفعني إلى درجاتهم

102

{ذلك} الذي قصصنا عليك من أمر يوسف من الأخبار التي كانت غائبة عنك وهو قوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لديهم} لدى إخوة يوسف {إذ أجمعوا أمرهم} عزموا على أَمْرَهُمْ {وَهُمْ يَمْكُرُونَ}

103

{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو أن تؤمن به قريش واليهود لمَّا سألوه عن قصَّة يوسف فشرحها لهم فخالفوا ظنَّه فقال الله: {وما أكثر الناس ولو حرصت} على إيمانهم {بمؤمنين} لأنَّك لا تهدي مَنْ أحببت لكنَّ الله يهدي مَنْ يشاء

104

{وما تسألهم عليه} على القرآن {من أجرٍ} مالٍ يعطونك {إِنْ هُوَ} ما هو {إِلا ذكر للعالمين} تذكرةٌ لهم بما هو صلاحهم يريد: إنَّا أزحنا العلَّة في التَّكذيب حيث بعثناك مُبلِّغاً بلا أجرٍ غير أنَّه لا يؤمن إلا من شاء الله سبحانه وإنْ حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك

105

{وكأين} وكم {من آية} دلالةٍ تدلُّ على التَّوحيد {في السماوات والأرض} من الشَّمس والقمر والنُّجوم والجبال وغيرها {يمرُّون عليها} يتجاوزونها غير مُتفكِّرين ولا معتبرين فقال المشركون: فإنَّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء فقال: {وما يؤمن أكثرهم بالله} في إقراره بأنَّ الله خلقه وخلق السماوات والأرض إلاَّ وهو مشركٌ بعبادة الوثن

106

{أَفَأَمِنُوا} يعني: المشركين {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عذاب الله} عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم

107

{قل} لهم {هذه} الطَّريقة التي أنا عليها {سبيلي} سنتي ومنهاجي {أدعو إلى الله} وتمَّ الكلام ثمَّ قال: {على بصيرة أنا} أَيْ: على دينٍ ويقينٍ {ومن اتبعني} يعني: أصحابه وكانوا على أحسن طريقة {وسبحان الله} أَيْ: وقل: سبحان الله تنزيهاً لله تعالى عمَّا أشركوا {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين اتَّخذوا مع الله ندا

108

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}

109

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إليهم من أهل القرى} يريد: لم نبعث قبلك نبيَّاً إلاَّ رجالاً غير امرأةٍ وكانوا من أهل الأمصار ولم نبعث من باديةٍ وهذا ردٌّ لإِنكارهم نبوَّته يريد: إنَّ الرُّسل من قبلك كانوا على مثل حالك ومَنْ قبلهم من الأمم كانوا على مثل حالهم فأهلكناهم فذلك قوله: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا} إلى مصارع الأمم المُكذِّبة فيعتبروا بهم {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} يعني: الجنَّة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} الشِّرك في الدُّنيا {أفلا تعقلون} هذا حتى تُؤمنوا؟ !

110

{حتى إذا استيأس الرسل} يئسوا من قومهم أن يؤمنوا {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كذبوا} أيقنوا أنَّ قومهم قد كذَّبوهم {جاءهم نصرنا فنجِّي مَنْ نشاء} وهم المؤمنون أتباع الأنبياء {ولا يردُّ بأسنا} عذابنا

111

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} يعني: إخوة يوسف {عبرة} فكرةٌ وتدبُّرٌ {لأولي الألباب} وذلك أنَّ مَنْ قدر على إعزاز يوسف وتمليكه مصر بعد ما كان عبداً لبعض أهلها قادرٌ على أن يعز محمد عليه السَّلام وينصره {ما كان} القرآن {حديثاً يفترى} يتقولَّه بشر {ولكن تصديق الذي بين يديه} ولكن كان تصديق ما قبله من الكتب {وتفصيل كل شيء} يحتاج إليه من أمور الدِّين {وهدىً} وبياناً {ورحمةً لقوم يؤمنون} يصدِّقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

سورة الرعد

{المر} أنا الله أعلم وأرى {تلك} يعني: ما ذُكر من الأحكام والأخبار قبل هذه الآية {آيات الكتاب} القرآن {والذي أُنزل إليك من ربك الحق} ليس كما يقوله المشركون أنك تأتي به من قبل نفسك باطلاً {ولكنَّ أكثر الناس} يعني: أهل مكة {لا يؤمنون}

2

{الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ} جمع عماد وهي الأساطين {ترونها} أنتم كذلك مرفوعة بغير عمادٍ {ثم استوى على العرش} بالاستيلاء والاقتدار وأصله: استواء التَّدبير كما أنَّ أصل القيام الانتصاب ثمَّ يقال: قام بالتدبير ثُمَّ يدلُّ على حدوث العرش المستولى عليه (لا على حدوث الاستيلاء بعد خلق العرش المستولى عليه) {وسخر الشمس والقمر} ذلَّلهما لما يراد منهم {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} إلى وقتٍ معلومٍ وهو فناء الدُّنيا {يُدبِّر الأمر} يُصرِّفه بحكمته {يُفصِّل الآيات} يبيِّن الدلائل التي تدلُّ على التَّوحيد والبعث {لعلَّكم بلقاء ربِّكم توقنون} لكي تُوقنوا يا أهل مكَّة بالبعث

3

{وهو الذي مدَّ الأرض} بسطها ووسًّعها {وجعل فيها رواسي} أوتدها بالجبال {وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} حلواً وحامضاً وباقي الآية مضى تفسيره

4

{وفي الأرض قطعٌ متجاورات} قُرىً بعضُها قريبٌ من بعضٍ {وجنات} بساتين {من أعناب} وقوله: {صنوان} وهو أن يكون الأصل واحداً ثمَّ يتفرَّع فيصير نخيلاً يحملن وأصلهنَّ واحد {وغير صنوان} وهي المتفرِّقة واحدةً واحدةً {تسقى} هذه القطع والجنَّات والنَّخيل {بماء واحدٍ ونُفضِّل بعضها على بعض} يعني: اختلاف الطُّعوم {في الأكل} وهو الثَّمر فمن حلوٍ وحامضٍ وجيِّدٍ ورديءٍ {إن في ذلك لآيات} لدلالاتٍ {لقوم يعقلون} أهل الإِيمان الذين عقلوا عن الله تعالى

5

{وإن تعجب} يا محمد من عبادتهم ما لا يضرُّ ولا ينفع وتكذيبك بعد البيان فتعجَّبْ أيضاً من إنكارهم البعث وهو معنى قوله: {فعجب قولهم أإذا كنا تراباً} الآية {وأولئك الأغلال} جمع غُلٍّ وهو طوقٌ تقيَّد به اليد إلى العنق

6

{ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} يعني: مشركي مكَّة حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاءً يقول: ويستعجلونك بالعذاب الذي لم أُعاجلهم به وهو قوله: {قبل الحسنة} يعني: إحسانه إليهم في تأخير العقوبة عنهم إلى يوم القيامة {وقد خلت من قبلهم المَثُلاتُ} وقد مضت من قبلهم العقوبات في الأمم المُكذِّبة فلم يعتبروا بها {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} بالتَّوبة يعني: يتجاوز عن المشركين إذا آمنوا {وإنَّ ربك لشديد العقاب} يعني: لمَنْ أصرَّ على الكفر

7

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من ربِّه} هلاَّ أتانا بآيةٍ كما أتى به موسى من العصا واليد {إنما أنت منذر} بالنَّار لمَنْ عصى وليس إليك من الآيات شيءٌ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هاد} نبيٌّ وَدَاعٍ إلى الله عز وجل يدعوهم لما يُعطَى من الآيات لا بما يريدون ويتحكَّمون

8

{الله يعلم ما تحملُ كلُّ أنثى} من علقةٍ ومضغةٍ وزائدٍ وناقصٍ وذَكَرٍ وأنثى {وما تَغِيضُ الأرحام} تنقصه من مدَّة الحمل التي هي تسعة أشهر {وما تزداد} على ذلك {وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار} علم كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً

9

{عالم الغيب} ما غاب عن جميع خلقه {والشهادة} وما شهده الخلق {الكبير} العظيم القدر {المتعال} عمّا يقوله المشركون

10

{سواء منكم} الآية يقول: الجاهر بنطقه والمُضمر في نفسه والظَّاهر في الطُُّرقات والمستخفي في الظُّلمات علمُ الله سبحانه فيهم جميعاً سواءٌ والمستخفي معناه: المختفي والسَّارب: الظَّاهر المارُّ على وجهه

11

{له} لله سبحانه {معقبات} مَلائِكَةٌ حَفَظَةٌ تَتَعَاقَبُ فِي النُّزُولِ إِلَى الأَرْضِ بعضهم باللَّيل وبعضهم بالنَّهار {من بين يديه} يدي الإِنسان {ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} أَيْ: بأمره سبحانه ممَّا لم يُقدَّر فإذا جاء القدر خلَّوا بينه وبينه {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغيروا ما بأنفسهم} لا يسلب قوماً نعمةً حتى يعملوا بمعاصيه {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} عذاباً {فَلا مردَّ له} فلا ردَّ لَهُ {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم

12

{هو الذي يريكم البرق خوفاً} للمسافر {وطمعاً} للحاضر في المطر {وينشئ} ويخلق {السحاب الثقال} بالماء

13

{ويسبح الرعد} وهو الملك المُوكَّل بالسَّحاب {بحمده} وهو ما يسمع من صوته وذلك تسبيحٌ لله تعالى {والملائكة من خيفته} أَيْ: وتُسبِّح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته {ويرسل الصواعق} وهي التي تَحْرِق من برق السَّحاب وينتشر على الأرض ضوؤُه {فيصيب بها من يشاء} كما أصاب أربد حين جادل النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {وهم يجادلون في الله} والواو للحال وكان أربد جادل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ربِّنا أمن نحاسٍ أم حديد؟ فأحرقته الصَّاعقة {وهو شديد المحال} العقوبة أَي: القوَّة

14

{له دعوة الحق} لله من خلقه الدعوة الحقُّ وهي كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله {والذين يدعون} يعني: المشركون يدعون {من دونه} الأصنام {لا يستجيبون لهم بشيء إلاَّ كباسط} إلاَّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه يشير إلى الماء ويدعوه إلى فيه {إلاَّ في ضلال} هلاكٍ وبطلانٍ

15

{ولله يسجد مَنْ في السماوات والأرض طوعاً} يعني: الملائكة والمؤمنين {وكرهاً} وهم مَنْ أُكرهوا على السُّجود فسجدوا لله سبحانه من خوف السَّيف واللَّفظ عامٌّ والمراد به الخصوص {وظلالهم بالغدو والآصال} كلُّ شخصٍ مؤمنٍ أو كافرٍ فإنَّ ظلَّه يسجد لله ونحن لا نقف على كيفية ذلك

16

{قل} يا محمد للمشركين: {من رب السماوات والأرض} ؟ ثمَّ أخبرهم فقل: {الله} لأنَّهم لا ينكرون ذلك ثمَّ ألزمْهم الحجَّة فقلْ: {أفاتخذتم من دونه أولياء} تولَّيتم غير ربِّ السَّماء والأرض أصناماً {لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرَّاً} ثمَّ ضرب مثلاً للذين يعبدها والذي يعبد الله سبحانه فقال: {قل هل يستوي الأعمى} المشرك {والبصير} المؤمن {أم هل تستوي الظلمات} الشِّرك {والنور} الإِيمان {أم جعلوا لله شركاء} الآية يعني: أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشُّركاء بخلق الله عندهم؟ وهذه استفهامُ إنكارٍ أَيْ: ليس الأمرُ على هذا حتى يشتبه الأمر بل الله سبحانه هو المتفرِّد بالخلق وهو قوله: {قل الله خالق كلِّ شيء}

17

{أنزل من السماء ماء} يعني: المطر {فسالت أودية} جمع وادٍ {بقدرها} بقدر ما يملأها أراد بالماء القرآن وبالأودية القلوب والمعنى: أنزل قرآناً فقبلته القلوب بأقدارها منها ما رُزق الكثير ومنها ما رُزق القليل ومنها ما لم يُرزق شيئاً {فاحتمل السيل زبداً} وهو ما يعلو الماء {رابياً} عالياً فوقه والزَّبَد مَثلُ الكفر يريد: إنَّ الباطل ـ وإنْ ظهر الحقِّ في بعض الأحوال ـ فإنَّ الله سيمحقه ويُبطله ويجعل العاقبة للحقِّ وأهله وهو معنى قوله: {فأمَّا الزبد فيذهب جفاء} وهو ما رمى به الوادي {وأمَّا ما ينفع الناس} ممَّا ينبت المرعى {فيمكث} يبقى {في الأرض} ثمَّ ضرب مثلاً آخر وهو قوله: {وممَّا يوقدون عليه في النَّار} يعني: جواهر الأرض من الذَّهب والفضَّة والنُّحاس وغيرها ممَّا يدخل النَّار فتوقد عليها وتتخذ منها الحُلِيُّ وهو الذَّهب والفضَّة والأمتعة وهي للأواني يعني: النُّحاس والرَّصاص وغيرهما وهذا معنى قوله: {ابتغاء حلية أو متاعٍ زبدٌ مثله} أَيْ: مثل زبد الماء يريد: إنَّ من هذه الجواهر بعضها خبث ينفيه الكير {كَذَلِكَ} كما ذُكر من هذه الأشياء {يضرب الله} مثل الحقِّ والباطل وهذه الآية فيها تقديمٌ وتأخير في اللَّفظ والمعنى ما أخبرتك به

18

{للذين استجابوا لربهم} أجابوه إلى ما دعاهم إليه {الحسنى} الجنَّة {والذين لم يستجيبوا له} وهم الكفَّار {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ومثله معه لافتدوا به} جعلوه فداء أنفسهم من العذاب {أولئك لهم سوء الحساب} وهو أن لا تُقبل منهم حسنة ولا يتجاوز عن سيئة

19

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحق كمن هو أعمى} نزلت في أبي جهل لعنه الله وحمزة رضي الله عنه {إنما يتذكر} يتَّعظ ويرتدع عن المعاصي {أولو الألباب} يعني: المهاجرين والأنصار

20

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} يعني: العهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم

21

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يوصل} وهو الإِيمان بجميع الرُّسل

22

{والذين صبروا} على دينهم وما أُمروا به {ابتغاء وجه ربِّهم} طلب تعظيم الله تعالى {ويدرؤون} يدفعون {بالحسنة} بالتَّوبة {السيئة} المعصية وهو أنَّهم كلَّما أذنبوا تابوا {أولئك لهم عقبى الدار} يريد: عقابهم الجنَّة

23

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} ومَنْ صدَّق بما صدَّقوا به ـ وإن لم يعملْ مثل أعمالهم ـ يلحق بهم كرامةً لهم {والملائكة يدخلون عليهم من كلِّ باب} بالتَّحيَّة من الله سبحانه والهدايا

24

{سلامٌ عليكم} يقولون: سلامٌ عليكم والمعنى: سلَّمكم الله من العذاب {بما صبرتم} بصبركم في دار الدُّنيا عمَّا لا يحلُّ {فنعم عقبى الدار} فنعم العقبى عقبى داركم التي عملتم فيها ما أعقبكم الذي أنتم فيه

25

{والذين ينقضون} الآية مُفسَّرة في سورة البقرة

26

{الله يبسط الرزق} يُوسِّعه {لمن يشاء ويقدر} ويضيِّق {وفرحوا} يعني: مشركي مكة بما نالوا من الدُّنيا وبطروا {وما الحياة الدنيا في الآخرة} في حياة الآخرة أَيْ: بالقياس إليها {إلاَّ متاع} قليلٌ ذاهبٌ يُتمتَّع به ثمَّ يفنى

27

{ويقول الذين كفروا لولا} هلا {أنزل عليه آية من ربه} نزلت في مشركي مكَّة حين طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} عن دينه كما أضلَّكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها {ويهدي إليه} يرشد إلى دينه {مَنْ أناب} رجع إلى الحقِّ

28

{الذين آمنوا} بدلٌ من قوله: {مَنْ أناب} {وتطمئن قلوبهم بذكر الله} إذا سمعوا ذكر الله سبحانه وتعالى أحبُّوه واستأنسوا به {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يريد: قلوب المؤمنين

29

{الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم} وهي شجرةٌ غرسها الله سبحانه بيده وقيل: فرحٌ لهم وقُرَّة أعينٍ

30

{كذلك} كما أرسلنا الأنبياء قبلك {أرسلناك في أمة} في قرنٍ {قد خلت} قد مضت {من قبلها أمم} قرونٌ {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني: القرآن {وهم يكفرون بالرحمن} وذلك أنَّهم قالوا: ما نعرف الرحمان إلاَّ صاحب اليمامة {قل هو ربي} أَي: الرَّحمن الذي أنكرتم معرفته هو إلهي وسيِّدي {لا إله إلاَّ هو}

31

{ولو أنَّ قرآناً} الآية نزلت حين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنْ كنت نبيَّاً كما تقول فسيِّر عنا جبال مكة فإنَّها ضيِّقةٌ واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نزرع ونغرس وابعث لنا آباءنا من الموتى يكلِّمونا أنَّك نبيٌّ فقال الله سبحانه: {ولو أنَّ قرآناً سيرت به الجبال} يريد: لو قضيت على أن لا يقرأ القرآن على الجبال إلاَّ سارت ولا على الأرض إلاَّ تخرَّقت بالعيون والأنهار وعلى الموتى أن لا يُكلَّموا ما آمنوا لما سبق عليهم في علمي وهذا جواب لو وهو محذوف {بل} دع ذلك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره فالأمر لله جميعاً لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ لم ينفع ما اقترحوا من الآيات وكان المسلمون قد أرادوا أن يُظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم آيةً ليجتمعوا على الإِيمان فقال الله: {أفلم ييأس الذين آمنوا} يعلم الذين آمنوا {أن لو يشاء الله} لهداهم من غير ظهور الآيات {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا} من كفرهم وأعمالهم الخبيثة {قارعة} داهيةٌ تقرعهم من القتل والأسر والحرب والجدب {أو تحلُّ} يا محمد أنت {قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله} يعني: القيامة وقيل: فتح مكة

32

{ولقد استهزئ برسل من قبلك} أُوذي وكُذِّب {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أطلتُ لهم المدَّة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية {ثمَّ أخذتهم} بالعقوبة {فكيف كان عقاب} كيف رأيت ما صنعتُ بمن استهزأ برسلي كذلك أصنع بمشركي قومك

33

{أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أَيْ: بجرائه يعني: متولٍّ لذلك كما يقال: قام فلان بأمر كذا: إذا كفاه وتولاَّه والقائم على كلِّ نفس هو الله تعالى والمعنى: أفمن هو بهذه الصِّفة كمَنْ ليس بهذه الصِّفة من الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع؟ وجواب هذا الاستفهام في قوله: {وجعلوا لله شركاء قل سموهم} بإضافة أفعالهم إليهم إن كانوا شركاء لله تعالى كما يضاف إلى الله أفعاله بأسمائه الحسنى نحو: الخالق والرَّازق فإن سمَّوهم قل أتنبئونه {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} أَيْ: أتخبرون الله بشريكٍ له في الأرض وهو لا يعلمه بمعنى: أنَّه ليس له شريك {أم بظاهرٍ من القول} يعني: أم تقولون مجازاً من القول وباطلاً لا حقيقة له وهو كلامٌ في الظَّاهر ولا حقيقة له في الباطن ثمَّ قال: {بل} أَيْ: دع ذكر ما كنَّا فيه {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كفروا مكرهم} زيَّن الشَّيطان لهم الكفر {وصدوا عن السبيل} وصدَّهم الله سبحانه عن سبيل الهدى {لهم عذاب في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} أشدُّ وأغلظ {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} من عذاب الله {من واق} حاجز ومانع

34

{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}

35

{مثل الجنة} صفة الجنَّة {التي وعد المتقون} وقوله: {أكلها دائم} يريد: إنَّ ثمارها لا تنقطع كثمار الدُّنيا {وظلها} لا يزول ولا تنسخه الشَّمس

36

{والذين آتيناهم الكتاب} يعني: مؤمني أهل الكتاب {يفرحون بما أنزل إليك} وذلك أنَّهم ساءهم قلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التَّوراة فلما أنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرحمن} فرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب وكفر المشركون بالرَّحمن وقالوا: ما نعرف الرَّحمن إلاَّ رحمان اليمامة وذلك قوله: {ومن الأحزاب} يعني: الكفَّار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَنْ ينكر بعضه} يعني: ذكر الرَّحمن

37

{وكذلك} وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلسانهم {أنزلناه حُكْماً عربياً} يعني: القرآن لأنَّه به يحكم ويفصل بين الحقِّ والباطل وهو بلغة العرب {ولئن اتبعت أهواءهم} وذلك أنَّ المشركين دعوه إلى ملَّة آبائه فتوعَّده الله سبحانه على ذلك بقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واق}

38

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أزواجاً} ينكحونهنَّ {وذرية} وأولاداً أنسلوهم وذلك أنَّ اليهود عيَّرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة النِّساء وقالوا: ما له همَّةٌ إلاَّ النِّساء والنِّكاح {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بإذن الله} أَيْ: بإطلاقه له الآية وهذا جوابٌ للذين سألوه أن يوسِّع لهم مكَّة {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لكلِّ أجلٍ قدَّره الله ولكلِّ أمرٍ قضاه كتابٌ أثبت فيه فلا تكون آيةٌ إلاَّ بأجلٍ قد قضاه الله تعالى في كتابٍ

39

{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكتاب} اللَّوح المحفوظ يمحو منه ما يشاء ويثبت ما يشاء وظاهر هذه الآية على العموم وقال قوم: إلاَّ السَّعادة والشَّقاوة والموت والرزق والخلق والخلق

40

{وإنما نرينك بعض الذي نعدهم} من العذاب {أو نتوفينك} قبل ذلك {فإنما عليك البلاغ} يريد: قد بلَّغت {وعلينا الحساب} إليَّ مصيرهم فأجازيهم أَيْ: ليس عليك إلاَّ البلاغ كيف ما صارت حالهم

41

{أَوَلَمْ يروا} يعني: مشركي مكَّة {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} نقصد أرض مكَّة {ننقصها من أطرافها} بالفتوح على المسلمين يقول: أولم ير أهل مكَّة أنَّا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ما حولها من القرى أفلا يخافون أن تنالهم يا محمد {والله يحكم} بما يشاء {لا معقب لحكمه} لا أحدٌ يتتبع ما حكم به فيغيِّره والمعنى: لا ناقص لحكمه ولا رادَّ له {وهو سريع الحساب} أَي: المجازاة

42

{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: كفَّار الأمم الخالية مكروا بأنبيائهم {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} يعني: إنَّ مكر الماكرين له أَيْ: هو من خلقه فالمكر جميعاً مخلوق له ليس يضرُّ منه شيءٌ إلاَّ بإذنه {يعلم ما تكسب كلُّ نفس} جميع الأكساب معلوم له {وسيعلم الكفار} وهو اسم الجنس {لمن} العاقبة بالحنة وقوله تعالى:

43

{ومن عنده علم الكتاب} هم مؤمنو أهل الكتابين وكانت شهادتهم قاطعةً لقول أهل الخصوم

سورة إبراهيم

{الر} أنا الله أرى هذا {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور} من الشِّرك إلى الإِيمان {بإذن ربهم} بقضاء ربِّهم لأنَّه لا يهتدي مهتدٍ إلاَّ بإذن الله سبحانه ثمَّ بيَّن ما ذلك النُّور فقال: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}

2

{الله الذي له ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شديد}

3

{الذين يستحبون} يُؤثرون ويختارون {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله} ويمنعون النَّاس عن دين الله {ويبغونها عوجاً} مضى تفسيره {أولئك في ضلال} في خطأ {بعيد} عن الحقِّ

4

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} بلغة قومه ليفهموا عنه وهو معنى قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} بعد التَّبيين بإيثاره الباطل {ويهدي مَنْ يشاء} باتباع الحقِّ

5

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} بالبراهين التي دلَّت على صحَّة نبوَّته {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من الشِّرك إلى الإِيمان {وذكرهم} وَعِظهم {بأيام الله} بنعمه أَي: بالتَّرغيب والتَّرهيب والوعد والوعيد {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التَّذكير بأيَّام الله {لآيات} لدلالاتٍ {لكلِّ صبَّار} على طاعة الله {شكور} لأنعمه والآية الثانية مفسرة في سورة البقرة وقوله:

6

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}

7

{وإذ تأذَّن} معطوفٌ على قوله: {إذ أنجاكم} والمعنى: وإذ أعلم ربُّكم {لئن شكرتم} وحَّدْتم وأطعتم {لأزيدنَّكم} ممَّا يجب الشُّكر عليه وهو النِّعمة {ولئن كفرتم} جحدتم حقِّي وحقَّ نعمتي {إِنَّ عذابي لشديد} تهديدٌ بالعذاب على كفران النِّعمة

8

{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد}

9

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم} يعني: من بعد هؤلاء الذين أهلكم الله {لا يعلمهم إلاَّ الله} لكثرتهم ولا يعلم عدد تلك الأمم وتعيينها إلاَّ الله {جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم} أيدي أنفسهم {في أفواههم} أَيْ: ثقل عليهم مكانهم فعضُّوا على أصابعهم من شدَّة الغيظ

10

{قالت رسلهم أفي الله شكٌّ} أفي توحيد الله سبحانه شكٌّ؟ وهذا استفهامٌ معناه الإنكار أي: لا شكَّ في ذلك ثمَّ وصف نفسه بما يدلُّ على وحدانيته وهو قوله: {فاطر السماوات والأرض يدعوكم} إلى طاعته بالرُّسل والكتب {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مسمَّى} لا يعاجلكم بالعقوبة والمعنى: إن لم تجيبوا عوجلتم وباقي الآية وما بعدها إلى قوله:

11

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}

12

{وما لنا أن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}

13

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لنهلكن الظالمين}

14

{ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ظاهر ومعنى: {خاف مقامي} معناه: خاف مقامه بين يدي {وخاف وعيدِ} : ما أوعدت من العذاب

15

{واستفتحوا} واستنصروا الله سبحانه على قومهم ففازوا بالنَّصر {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} متكبِّرٍ عن طاعة الله سبحانه {عنيدٍ} مجانب للحقَّ

16

{من ورائه جهنم} أَيْ: أمامه جهنَّم فهو يردها {ويُسقى من ماء صديد} وهو ما يسيل من الجرح مُختلطاً بالدَّم والقيح

17

{يتجرَّعه} يتحسَّاه بالجرع لا بمرَّةٍ لمرارته {ولا يكاد يسيغه} لا يجيزه في الحلق إلاَّ بعد إبطاءٍ {ويأتيه الموت} أَيْ: أسباب الموت من البلايا التي تصيب الكافر في النَّار {من كلِّ مكان} من كلِّ شعرةٍ في جسده {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} موتاً تنقطع معه الحياة {ومن ورائه} ومن بعد ذلك العذاب {عذاب غليظ} متَّصل الآلام ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكافر فقال:

18

{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ به الريح في يوم عاصف} أَيْ: شديد هبوب الرِّيح ومعنى الآية: إنَّ كلَّ ما تقرَّب به الكافر إلى الله تعالى فَمُحْبَطٌ غيرُ منتفعٍ به لأنَّهم أشركوا فيها غير الله سبحانه وتعالى كالرَّماد الذي ذّرَّتْهُ الرِّيح وصار هباءً لا يُنتفع به فذلك قوله: {لا يقدرون مما كسبوا على شيء} أَيْ: لا يجدون ثواب ما عملوا {ذَلِكَ هُوَ الضلال البعيد} يعني: ضلال أعمالهم وذهابها والمعنى: ذلك الخسران الكبير

19

{ألم تر} يا محمد {أن الله خلق السماوات والأرض بالحق} أَيْ: بقدرته وصنعه وعلمه وإرادته وكلُّ ذلك حقٌّ {إن يشأ يذهبكم} يُمتكم أيُّها الكفَّار {ويأت بخلق جديد} خيرٍ منكم وأطوع

20

{وما ذلك على الله بعزيز} بممتنعٍ شديدٍ

21

{وبرزوا لله جميعاً} خرجوا من قبورهم إلى المحشر {فقال الضعفاء} وهم الأتباع لأكابرهم الذين {استكبروا} عن عبادة الله: {إنَّا كنَّا} في الدُّنيا {لكم تبعاً فهل أنتم مغنون} دافعون {عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لو هدانا الله لهديناكم} أَيْ: إنَّما دعوناكم إلى الضَّلال لأنَّا كنَّا عليه ولو أرشدنا الله لأرشدناكم

22

{وقال الشيطان} يعني: إبليس {لما قضي الأمر} فصار أهل الجنَّة في الجنَّة وأهل النَّار في النَّار وذلك أنَّ أهل النَّار حينئذٍ يجتمعون باللائمة على إبليس فيقوم خطيباً ويقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} يعني: كون هذا اليوم فصدقكم وعده {ووعدتكم} أنَّه غير كائنٍ {فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ: ما أظهرت لكم حجَّةً على ما وعدتكم {إلاَّ أن دعوتكم} لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} فصدَّقتموني {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} حيث أجبتموني من غير برهانٍ {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} بمغيثكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ من قبل} بإشراككم إيَّاي مع الله سبحانه في الطَّاعة إنَّي جحدت أن أكون شريكاً لله فيما أشركتموني {إنَّ الظالمين} يريد: المشركين وقوله:

23

{تحيتهم فيها سلام} يحييهم الله سبحانه بالسَّلام ويحيي بعضهم بعضاً بالسَّلام

24

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا} بيَّن شبهاً ثمَّ فسَّره فقال: {كلمة طيبة} يريد: لا إله إلاَّ الله {كشجرة طيبة} يعني: النَّخلة {أصلها} أصل هذه الشَّجرة الطَّيِّبة {ثابت} في الأرض {وفرعها} أعلاها عالٍ {في السماء}

25

{تؤتي} هذه الشَّجرة {أكلها} ثمرها {كلَّ حين} كلَّ وقتٍ في جميع السَّنة ستة أشهرٍ طلعٌ رخص وستة أشهرٍ رطبٌ طيِّبٌ فالانتفاع بالنَّخلة دائمٌ في جميع السَّنة كذلك الإِيمان ثابتٌ في قلب المؤمن وعمله وقوله وتسبيحه عالٍ مرتفع إلى السَّماء ارتفاع فروع النَّخلة وما يكتسبه من بركة الإِيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النَّخلة في أوقات السَّنة كُلِّها من الرُّطَب والبسر والتَّمر {ويضرب الله الأمثال للناس} يريد: أهل مكَّة {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكي يتَّعظوا

26

{ومثل كلمة خبيثة} يعني: الشِّرك بالله سبحانه {ك} مثل {شجرة خبيثة} وهي الكشوت {اجتثت} انتزعت واستؤصلت والكشوت كذلك {من فوق الأرض} لم يرسخ فيها ولم يضرب فيها بعرق {ما لها من قرار} مستقرٌّ في الأرض يريد: إنَّ الشكر لا ينتفع به صاحبه وليس له حجَّةٌ ولا ثباتٌ كهذه الشَّجرة

27

{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} وهو قول لا إله إلا الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} على الحقَّ {وَفِي الآخِرَةِ} يعني: في القبر يُلقِّنهم كلمة الحقِّ عند سؤال الملكين {ويضل الله الظالمين} لا يُلقِّن المشركين ذلك حتى إذا سُئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري {ويفعل الله ما يشاء} من تلقين المؤمنين الصَّواب وإضلال الكافرين

28

{ألم تر إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً} بدَّلوا ما أنعم الله سبحانه عليهم به من الإيمان ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً حيث كفروا به {وأحلوا قومهم} الذين اتَّبعوهم {دار البوار} الهلاك ثمَّ فسَّرها فقال:

29

{جهنم يصلونها وبئس القرار} أَي: المقرُّ

30

{وجعلوا لله أنداداً} يعني: الأصنام {ليضلوا عن سبيله} النَّاس عن دين الله {قل تمتعوا} بدنياكم {فإنَّ مصيركم إلى النار} وقوله:

31

{لا بيع فيه} لا فداء فيه {ولا خلال} مخالة يعني: يوم القيامة وهو يوم لا بيعٌ فيه ولا شراءٌ ولا مُخالَّةٌ ولا قرابةٌ إنَّما هي أعمالٌ يُثاب بها قومٌ ويعاقب عليها آخرون

32

{الله الذي خلق السماوات وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ}

33

{وسخر لكم الشمس والقمر} ذلَّلهما لما يُراد منهما {دائبين} مقيمين على طاعة الله سبحانه وتعالى في الجري {وسخر لكم الليل} لتسكنوا فيه {والنهار} لتبتغوا من فضله ومعنى لكم في هذه الآية لأجلكم ليس أنَّها مسخَّرة لنا هي مسخَّرةٌ لله سبحانه لأجلنا ويجوز أنَّها مسخَّرة لنا لانتفاعنا بها على الوجه الذي نريد وقوله:

34

{وإن تعدوا نعمة الله} إنعام الله عليكم {لا تحصوها} لا تطيقوا عدَّها {إن الإنسان} يعني: الكافر {لظلوم} لنفسه {كفَّار} نعمة ربِّه وقوله:

35

{واجنبني} أَيْ: بعِّدني واجعلني من على جانبٍ بعيدٍ

36

{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أَيْ: ضلُّوا بسببها {فمن تبعني} على ديني {فإنه مني} من المتدينين بديني {ومن عصاني} فيما دون الشِّرك {فإنك غفور رحيم}

37

{ربنا إني أسكنت من ذريتي} يعني: إسماعيل عليه السَّلام {بوادٍ غير ذي زرعٍ} مكَّة حرسها الله {عند بيتك المحرَّم} الذي مضى في علمك أنَّه يحدث في هذا الوادي {ربنا ليقيموا الصلاة} ليعبدوك {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} تريدهم وتحنُّ إليهم لزيارة بيتك {وارزقهم من الثمرات} ذُكر تفسيره في سورة البقرة {لعلَّهم يشكرون} كي يوحدونك ويعظموك

38

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}

39

{الحمد لله الذي وهب لي} أعطاني {على الكبر إسماعيل} لأنَّه وُلد له وهو ابن تسع وتسعين {وإسحاق} وُلد له وهو ابن مائة سنة واثنتي عشرة سنة وقوله:

40

{ومن ذريتي} أَيْ: واجعل منهم مَنْ يقيم الصَّلاة وقوله:

41

{ولوالدي} استغفر لهما بشرط الإِيمان

42

{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} يريد: المشركين من أهل مكَّة {إنما يؤخرهم} فلا يعاقبهم في الدُّنيا {ليوم تشخص} تذهب فيه أبصار الخلائق إلى الهواء حيرةً ودهشةً

43

{مهطعين} مسرعين منطلقين إلى الداعي {مقنعي} رافعي {رؤوسهم} إلى السماء لا ينظر أحدٌ إلى أحدٍ {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لا ترجع إليهم أبصارهم من شدَّة النَّظر فهي شاخصةٌ {وأفئدتهم هواء} وقلوبهم خاليةٌ عن العقول بما ذهلوا من الفزع وقوله:

44

{فيقول الذين ظلموا} أَيْ: أشركوا {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} استمهلوا مدَّةً يسيرةً كي يجيبوا الدَّعوة فيقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لكم من زوال} حلفتم في الدُّنيا أنَّكم لا تُبعثون ولا تنتقلون إلى الآخرة وهو قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ الله من يموت} الآية

45

{وسكنتم} في الدُّنيا {في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} يعني: الأمم الكافرة {وتبيَّن لكم كيف فعلنا بهم} فلم تنزجروا {وضربنا لكم الأمثال} في القرآن فلم تعتبروا

46

{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} يعني: مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وما همُّوا به من قتله أو نفيه {وعند الله مكرهم} هو عالمٌ به لا يخفى عليه ما فعلوا فهو يجازيهم عليه {وإن كان} وما كان {مكرهم لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} يعني: أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: ما كان مكرهم ليبطل أمراً هو في ثبوته وقوَّته كالجبال

47

{فلا تحسبن الله} يا محمد {مخلف وعده رسله} ما وعدهم من الفتح والنَّصر {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} منيع {ذُو انْتِقَامٍ} من الكفَّار يجازيهم بما كان من سيئاتهم

48

{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} تُبدَّل الأرض بأرضٍ كالفضَّة بيضاء نقيَّة يُحشر النَّاس عليها والسَّماء من ذهبٍ {وبرزوا} وخرجوا من القبور كقوله تعالى: {وبرزوا لله جميعاً}

49

{وترى المجرمين} الذين زعموا أنَّ لله شريكاً وولداً يوم القيامة {مقرنين} موصولين بشياطينهم كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ في غلٍّ والأصفاد: سلاسل الحديد والأغلال

50

{سرابيلهم} قُمصهم {من قطران} وهو الهِناء الذي يُطلى به الإِبل وذلك أبلغ لا شتعال النَّار فيهم {وتغشى وجوههم} وتعلو وجوههم {النار}

51

{ليجزي الله كلَّ نفس} من الكفَّار {ما كسبت} أَيْ: ليقع لهم الجزاء من الله سبحانه بما كسبوا

52

{هذا} القرآن {بلاغ للناس} أَيْ: أنزلناه إليك لتبلِّغهم {ولينذروا به} ولتنذرهم أنت يا محمد {وليعلموا} بما ذُكر فيه من الحجج {أنما هو إله واحدٌ وليذكر} وليتعظ {أولو الألباب} أهل اللُّبِّ والعقل والبصائر

سورة الحجر

{الر} أنا الله أرى {تلك آيات} هذه آيات {الكتاب} الذي هو قرآن مبين للأحكام

2

{ربما يودُّ} الآية نزلت في تمنِّي الكفَّار الإِسلام عند خرةج مَنْ يخرج من النَّار

3

{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} يقول: دع الكفَّار يأخذوا حظوظهم من دنياهم {ويلههم الأمل} يشغلهم عن الأخذ بحظِّهم من الإِيمان والطَّاعة {فسوف يعلمون} إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا

4

{وما أهلكنا من قرية} يعني: أهلها {إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أجلٌ ينتهون إليه يعني: إنَّ لأهل كلِّ قرية أجلاً مؤقَّتاً لا يُهلكهم حتى يبلغوه

5

{ما تسبق من أمة أجلها} أيْ: ما تتقدَّم الوقت الذي وُقَّت لها {وما يستأخرون} لا يتأخَّرون عنه

6

{وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذكر} أَي: القرآن قالوا هذا استهزاءً

7

{لو ما} هلا {تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} أنَّك نبيٌّ فقال الله عز وجل:

8

{ما ننزل الملائكة إلاَّ بالحق} أَيْ: بالعذاب {وما كانوا إذاً منظرين} أَيْ: لو نزلت الملائكة لم يُنظروا ولم يُمهلوا

9

{إنا نحن نزلنا الذِّكر} القرآن {وإنا له لحافظون} من أن يُزاد فيه أو يُنقص

10

{ولقد أرسلنا من قبلك} أَيْ: رسلاً {في شيع الأوَّلين} أَيْ: فِرَقِهم

11

{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يستهزئون} تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم

12

{كذلك} أَيْ: كما فعلوا {نسلكه} ندخل الاستهزاء والشِّرك والضَّلال {في قلوب المجرمين} ثمَّ بيَّن أَيَّ شيء الذي أدخل في قلوبهم فقال:

13

{لا يؤمنون به} أَيْ: بالرَّسول {وقد خلت} مضت {سنَّة الأولين} بتكذيب الرُّسل فهؤلاء المشركون يقتفون آثارهم في الكفر

14

{ولو فتحنا عليهم} على هؤلاء المشركين {باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} فطفقوا فيه يصعدون لجحدوا ذلك وقالوا:

15

{إنما سكِّرت أبصارنا} أَيْ: سُدَّت بالسِّحر فتتخايل لأبصارنا غير ما نرى {بل نحن قوم مسحورون} سحرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا نبصر

16

{ولقد جعلنا في السماء بروجاً} يعني: منازل الشَّمس والقمر {وزيناها} بالنُّجوم للمعتبرين والمستدلِّين على توحيد صانعها

17

{وحفظناها من كلّ شيطان رجيم} مرميٍّ بالنُّجوم

18

{إلاَّ من استرق السمع} يعني: الخطفة اليسيرة {فأتبعه} لحقه {شهاب} نارٌ {مبين} ظاهرٌ لأهل الأرض

19

{والأرض مددناها} بسطناها على وجه الماء {وَأَلْقَيْنَا فيها رواسي} جبالاً ثوابت لئلا تتحرَّك بأهلها {وأنبتنا فيها} في الجبال {من كلِّ شيء موزون} كالذَّهب والفضَّة والجواهر

20

{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} من الثِّمار والحبوب {ومَنْ لستم له برازقين} العبيد والدَّوابَّ والأنعام تقديره: وجعلنا لكم فيها معايش وعبيداً وإماءً ودوابَّ نرزقهم ولا ترزقوهم

21

{وإن من شيء} يعني: من المطر {إلاَّ عندنا خزائنه} أَيْ: في حكمنا وأمرنا {وما ننزله إلاَّ بقدر معلوم} لا ننقصه ولا نزيده غير أنَّه يصرفه إلى مَنْ يشاء حيث شاء كما شاء

22

{وأرسلنا الرياح لواقح} السَّحاب تَمُجُّ الماء فيه فهي لواقح بمعنى: ملقحاتٌ وقيل: لواقح: حوامل لأنَّها تحملُ الماء والتُّراب والسَّحاب {فأسقيناكموه} جعلناه سقياً لكم {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ} لذلك الماء المنزل من السَّماء {بخازنين} بحافظين أَيْ: ليست خزائنه بأيديكم

23

{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} إذا مات جميع الخلائق

24

{ولقد علمنا المستقدمين} الآية خص رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ فِي الصَّلاةِ فَازْدَحَمَ النَّاسُ عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية يقول: قد علمنا جميعهم وإنَّما نجزيهم على نياتهم

25

{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}

26

{ولقد خلقنا الإنسان} آدم {من صلصال} طينٍ منتنٍ {من حمأ} طينٍ أسود {مسنون} متغيِّر الرَّائحة

27

{والجانَّ} أبا الجنِّ {خلقناه من قبل} خَلْقِ آدم {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} وهي نارٌ لا دخان لها

28

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}

29

{فإذا سويته} عدَّلت صورته {ونفخت فيه} وأجريت فيه {من روحي} المخلوقة لي {فقعوا} فخرُّوا {له ساجدين} سجود تحية وقوله:

30

{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}

31

{إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}

32

{قال يا إبليس ما لك أن لا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}

33

{قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}

34

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}

35

{وإنَّ عليك اللعنة} الآية يقول: يلعنك أهل السَّماء وأهل الأرض إلى يوم الجزاء فتحصل حينئذٍ من عذاب النار وقوله:

36

{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}

37

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}

38

{إلى يوم الوقت المعلوم} يعني: النَّفخة الأولى حين يموت الخلائق

39

{قَالَ رَبِّ بِمَا أغويتني} أَيْ: بسبب إغوائك إيَّاي {لأُزَيِّنَنَّ لهم} لأولاد آدم الباطل حتى يقعوا فيه

40

{إلاَّ عبادك منهم المخلصين} أَيْ: المُوحِّدين المؤمنين الذي أخلصوا دينهم عن الشِّرك

41

{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عليّ} هذا طريق عليَّ {مستقيم} مرجعه إليَّ فأجازي كلاً بأعمالهم يعني: طريق العبوديَّة

42

{إنَّ عبادي} يعني: الذين هداهم واجتباهم {ليس لك عليهم سلطانٌ} قوَّةٌ وحجَّةٌ في إغوائهم ودعائهم إلى الشِّرك والضَّلال

43

{وإنًّ جهنم لموعدهم أجمعين} يريد: إبليس ومَنْ تبعه من الغاوين

44

{لها} لجهنم {سبعة أبواب} سبعة أطباقٍ طبقٌ فوق طبقٍ {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ} من أتباع إبليس {جزء مقسوم}

45

{إنَّ المتقين} للفواحش والكبائر {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يعني: عيون الماء والخمر يقال لهم:

46

{ادخلوها بسلامٍ} بسلامةٍ {آمنين} من سخط الله سبحانه وعذابه

47

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} ذكرناه في سورة الأعراف {إخواناً} متآخين {على سرر} جمع سرير {متقابلين} لا يرى بعضهم قفا بعض

48

{لا يمسهم} لا يصيبهم {فيها نصب} إعياء

49

{نبئ عبادي} أخبر أوليائي {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ} لأوليائي {الرحيم} بهم

50

{وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم} لأعدائي

51

{ونبئهم عن ضيف إبراهيم} يعني: الملائكة الذين أتوه في صورة الأضياف

52

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فقالوا سلاماً} سلَّموا سلاماً فـ {قال} إبراهيم: {إنَّا منكم وجلون} فَزِعُون

53

{قالوا لا توجل} : لاتفزع وقوله:

54

{عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} أَيْ: على حالة الكبر {فبم تبشرون} استفهامُ تعجُّبٍ كأنَّه عجب من الولد على كبره

55

{قالوا بشرناك بالحق} بما قضاه الله أن يكون {فلا تكن من القانطين} الآيسين

56

{قال ومَنْ يقنط} ييئس {من رحمة ربِّه إلاَّ الضالون} المكذِّبون

57

{قال فما خطبكم} ما شأنكم وما الذي جئتم له؟

58

{قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} يعني: قوم لوط

59

{إلاَّ آل لوط} أتباعه الذين كانوا على دينه وقوله:

60

{قدَّرنا} قضينا ودبَّرنا أنَّها تتخلَّف وتبقى مع مَنْ بقي حتى تهلك وقوله:

61

{فلما جاء آل لوط المرسلون}

62

{منكرون} أَيْ: غير معروفين

63

{قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} بالعذاب الذي كانوا يشكُّون في نزوله

64

{وأتيناك بالحق} بالأمر الثَّابت الذي لا شكَّ فيه من عذاب قومك

65

{فأسر بأهلك} مُفسَّرٌ في سورة هود {واتبع أدبارهم} امش على آثارهم ببناتك وأهلك لئلا يتخلَّف منهم أحدٌ {ولا يلتفت منكم أحد} لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من العذاب {وامضوا حيث تؤمرون} حيث يقول لكم جبريل عليه السَّلام

66

{وقضينا إليه} أوحينا إليه وأخبرناه {ذلك الأمر} الذي أخبرته الملائكة إبراهيم من عذاب قومه وهو {أنَّ دابر هؤلاء} أَيْ: أواخر مَنْ تبقَّى منهم {مقطوع} مُهلَكٌ {مصبحين} داخلين في وقت الصُّبح يريد: إنَّهم مهلكون هلاك الاستئصال في ذلك الوقت

67

{وجاء أهل المدينة} مدينة قوم لوط وهي سذوم {يستبشرون} يفرحون طمعاً منهم في ركوب المعاصي والفاحشة حيث أُخبروا أنَّ في بيت لوطٍ مُرداً حساناً فقال لهم لوط:

68

{إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} عندهم بقصدكم إيَّاهم فيعلموا أنَّه ليس لي عندكم قدرٌ

69

{واتقوا الله ولا تخزون} مذكورٌ في سورة هود

70

{قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عن العالمين} عن ضيافتهم لأنَّا نريد منهم الفاحشة وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء

71

{قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} هذا الشَّأن يعني: اللَّذة وقضاء الوطر يقول: عليكم بتزويجهن أراد أن يقي أضيافه ببناته

72

{لعمرك} بحياتك يا محمد {إنهم} إنَّ قومك {لفي سكرتهم يعمهون} في ضلالتهم يتمادون وقيل: يعني: قوم لوط

73

{فأخذتهم الصيحة} صاح بهم جبريل عليه السَّلام صيحةً أهلكتهم {مشرقين} داخلين في وقت شروق الشَّمس وذلك أنَّ تمام الهلاك كان مع الإشراق وقوله:

74

{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سجيل}

75

{للمتوسمين} أَي: المُتفرِّسين المُتثبِّتين في النَّظر حتى يعرفوا حقيقة سمة الشَّيء

76

{وإنها} يعني: مدينة قوم لوط {لبسبيل مقيم} على طريق قومك إلى الشَّام وهو طريقٌ لا يندرس ولا يخفى

77

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} لعبرةً للمصدِّقين يعني: إنَّ المؤمنين اعتبروا بها

78

{وإن كان أصحاب الأيكة} قوم شعيب وكانوا أصحاب غياضٍ وأشجار

79

{فانتقمنا منهم} بالعذاب أخذهم الحرُّ أيَّاماً ثمَّ اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا {وإنَّهما} يعني: الأيكة ومدينة قوم لوطٍ {لبإمامٍ مبين} لبطريقٍ واضحٍ

80

{ولقد كذَّب أصحاب الحجر} يعني: قوم ثمود والحِجر اسم واديهم {المرسلين} يعني: صالحاً وذلك أنَّ مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب جميع الرُّسل

81

{وآتيناهم آياتنا} يعني: ما أظهر لهم من الآيات في النَّاقة

82

{وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً} لطول عمرهم كان لا يبقى معهم السُّقوف فاتَّخذوا كهوفاً من الجبال بيوتاً {آمنين} من أن يقع عليهم

83

{فأخذتهم الصيحة} صيحة العذاب {مصبحين} حين دخلوا في وقت الصُّبح

84

{فما أغنى عنهم} ما دفع العذاب {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الأموال والأنعام

85

{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق} أي: للثَّواب والعقاب أُثيب مَنْ آمن بي وصدَّق رسلي وأعاقب مَنْ كفر بي والموعد لذلك السَّاعة وهو قوله تعالى: {وإنَّ الساعة لآتية} أَيْ: إنَّ القيامة تأتي فيجازى المشركون بقبيح أعمالهم {فاصفح} عنهم {الصفح الجميل} أَيْ: أعرض إعراضاً بغير فحشٍ ولا جزعٍ

86

{إن ربك هو الخلاق العليم} بما خلق

87

{ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} يعني: الفاتحة وهي سبع آيات وتثنى في كلِّ صلاةٍ امتنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه السُّورة كما امتنَّ عليه بجميع القرآن حين قال: {والقرآن العظيم} أي: العظيم القدر

88

{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرَّغبة في الدُّنيا فخظر عليه أن يمدَّ عينيه إليها رغبةً فيها وقوله: {أزواجاً منهم} أَيْ: أصنافاً من الكفَّار كالمشركين واليهود وغيرهم يقول: لا تنظر إلى ما متَّعناهم به في الدُّنيا {ولا تحزن عليهم} إن لم يؤمنوا {واخفض جَناحَكَ للمؤمنين} ليِّن جانبك وارفق بهم

89

{وقل إني أنا النذير المبين} أنذركم عذاب الله سبحانه وأُبيِّن لكم ما يقرِّبكم إليه

90

{كما أنزلنا} أَيْ: عذابنا {على المقتسمين} وهم الذين اقتسموا طرق مكة يصدُّون الناس عَنْ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى بهم خزياً فماتوا شرَّ ميتةٍ

91

{الذين جعلوا القرآن عضين} جزَّؤوه أجزاءً فقالوا: سحرٌ وقالوا: أساطير الأولين وقالوا: مفترى

92

{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}

93

{عما كانوا يعملون} أَيْ: يفترون من القول في القرآن يريد: لنسألنَّهم سؤال توبيخٍ وتقريعٍ

94

{فاصدع بما تؤمر} يقول: أَظهرْ ما تؤمر واجهر بأمرك {وأعرض عن المشركين} لا تُبالِ بهم ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية

95

{إنا كفيناك المستهزئين} وكانوا خمسة نفرٍ: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث سلَّط الله سبحانه عليهم جبريل عليه السَّلام حتى قتل كلَّ واحدٍ منهم بآفةٍ وكفى نبيه عليه السَّلام شرَّهم

96

{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يعلمون}

97

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}

98

{فسبح بحمد ربك} قل: سبحان الله وبحمده {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} المصلِّين

99

{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} أَي: الموت

سورة النحل

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} أَيْ: عذابه لمَنْ أقام على الشرك أي: قد فرب ذلك {فلا تستعجلوه} فإنَّه نازلٌ بكم لا محالة {سبحانه} براءةٌ له من السُّوء {وتعالى} ارتفع بصفاته {عما يشركون} عن إشراكهم

2

{ينزل الملائكة} يعني: جبريل عليه السَّلام وحده {بالروح} بالوحي {من أمره} والوَحْيُ من أمر الله سبحانه {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يريد: النَّبيِّين الذين يختصُّهم بالرِّسالة {أن أنذروا} بدلٌ من الرُّوح أَيْ: أعلموا أهل الكفر {أنه لا إله إلاَّ أنا} مع تخويفهم إنْ لم يقرُّوا {فاتقون} بالتَّوحيد والطَّاعة ثمَّ ذكر ما يدلُّ على توحيده فقال:

3

{خلق السماوات} الآية

4

{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: أُبيَّ بن خلف {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} مخاصمٌ {مبين} ظاهرُ الخصومة وذلك أنَّه خاصم النبيَّ صلى الله علي وسلم في إنكاره البعث وقوله:

5

{لكم فيها دفء} يعني: ما تستدفئون به من الأكسية والأبنية من أشعارها وأصوافها وأوبارها {ومنافع} من النَّسل والدَّرِّ والرُّكوب

6

{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} زينةٌ {حِينَ تُرِيحُونَ} تردُّونها إلى مَراحها بالعشايا {وحين تسرحون} تخرجونها إلى المرعى بالغداة

7

{وتحمل أثقالكم} أمتعتكم {إلى بلد} لو تكلَّفتم بلوغه على غير الإِبل لشقَّ عليكم والشِّقِّ: المشقَّة {إنَّ ربكم لرؤوف رحيم} حيث منَّ عليكم بهذه المرافق وقوله:

8

{ويخلق ما لا تعلمون} لم يُسمِّه فالله أعلم به

9

{وعلى الله قصد السبيل} أَي: الإِسلام والطَّريق المستقيم يُؤدِّي إلى رضا الله تعالى كقوله: {هذا صراط مستقيم} {ومنها} ومن السَّبيل {جائر} عادلٌ مائل كاليهوديَّة والنَّصرانية {ولو شاء لهداكم} أرشدكم {أجمعين} حتى لا تختلفوا في الدِّين وقوله:

10

{ومنه شجر} يعني: ما ينبت بالمطر وكلُّ ما ينبت على الأرض فهو شجر {فيه تسيمون} ترعون مواشيكم وقوله:

11

{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لقوم يتفكرون}

12

{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يعقلون}

13

{وما ذرأ لكم} أَيْ: وسخَّر لكم ما خلق في الأرض {مختلفاً ألوانه} أَيْ: هيئته ومناظره يعني: الدَّوابَّ والأشجار وغيرهما

14

{وهو الذي سخر البحر} ذلَّله للرُّكوب والغوص {لتأكلوا منه لحماً طرياً} السَّمك والحيتان {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} الدُّرَّ والجواهرَ {وترى الفلك} السُّفن {مواخر فيه} شواقّ للماء تدفعه بِجُؤْجُئِها بصدرها {ولتبتغوا من فضله} لتركبوه للتِّجارة فتطلبوا الرِّبح من فضل الله

15

{وألقى في الأرض رواسي} جبالاً ثابتةً {أن تميد} لئلا تميد أَيْ: لا تتحرَّك {بكم وأنهاراً} وجعل فيها أنهاراً كالنِّيل والفرات ودجلة {وسبلاً} وطرقاً إلى كلِّ بلدةٍ {لعلكم تهتدون} إلى مقاصدكم من البلاد فلا تضلُّوا

16

{وعلامات} يعني: الجبال وهي علاماتُ الطُّرق بالنَّهار {وبالنجم} يعني: جميع النُّجوم {هم يهتدون} إلى الطُّرق والقِبلة في البرِّ والبحر

17

{أفمن يخلق} يعني: ما ذُكر في هذه السُّورة وهو الله تعالى {كمَنْ لا يخلق} يعني: الأوثان يقول: أَهما سواءٌ حتى يسوَّى بينهما في العبادة؟ {أفلا تذكرون} أفلا تتعظون كما اتَّعظ المؤمنون

18

{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} مرَّ تفسيره {إنَّ الله لغفور} لتقصيركم في شكر نعمه {رحيم} بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم وقوله:

19

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}

20

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يخلقون}

21

{أموات} أَيْ: هي أمواتٌ لا روح فيها يعني: الأصنام {غير أحياء} تأكيد {وما يشعرون أيان يبعثون} وذلك أنَّ الله سبحانه يبعث الأصنام لها أرواحٌ فيتبرَّؤون من عابديهم وهي في الدُّنيا جماد لا تعلم متى تُبعث وقوله:

22

{إلهكم} ذكر الله سبحانه دلائل وحدانيته ثمَّ أخبر أنَّه واحد ثمَّ أتبع هذا إنكار الكفَّار وحدانيَّته بقوله: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} جاحدةٌ غير عارفة {وهم مستكبرون} ممتنعون عن قبول الحقِّ

23

{لا جرم} حقا {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} الآية أَيْ: يُجازيهم بذلك {إنه لا يحب المستكبرين} لا يمدحهم ولا يُثيبهم

24

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أساطير الأولين} الآية نزلت في النَّضر بن الحارث وذكرنا قصَّته

25

{ليحملوا أوزارهم} هذه لام العاقبة لأنَّ قولهم للقرآن: أساطير الأولين أدَّاهم إلى أن حملوا أوزارهم كاملة لم يُكفَّر منها شيء بنكبةٍ أصابتهم في الدُّنيا لكفرهم {ومن أوزار الذين يضلونهم} لأنَّهم كانوا دعاةَ الضَّلالة فعليهم مثل أوزار من اتَّبعهم وقوله: {بغير علم} أَيْ: يضلُّونهم جهلاً منهم بما كانوا يكسبون من الإثم ثم صنيعهم فقال: {ألا ساء ما يزرون} أَيْ: يحملون

26

{قد مكر الذين من قبلهم} وهو نمروذ بنى صرحاً طويلاً ليصعد منه إلى السَّماء فيقاتل أهلها {فأتى الله} فأتى أمر الله وهو الرِّيح وخَلْقُ الزَّلزلة {بنيانهم} بناءهم {من القواعد} من أساطين البناء التي يعمده وذلك أنَّ الزَّلزلة خُلقت فيها حتى تحرَّكت بالبناء فهدمته وهو قوله: {فخرَّ عليهم السقف من فوقهم} يعني: وهم تحته {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} من حيث ظنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه

27

{ثم يوم القيامة يخزيهم} يُذلُّهم {ويقول أين شركائي} أَي: الذين في دعواكم أنَّهم شركائي أين هم ليدفعوا العذاب عنكم {الذين كنتم تشاقون} تخالفون المؤمنين {فيهم قال الذين أوتوا العلم} وهم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفَّار في القيامة: {إنَّ الخزي اليوم والسوء} عليهم لا علينا

28

{الذين تتوفاهم الملائكة} مرَّ تفسيره في سورة النِّساء وقوله: {فألقوا السلم} أَي: انقادوا واستسلموا عند الموت وقالوا: {ما كنا نعمل من سوء} شرك {بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من الشرك والتكذيب ثم قيل لهم:

29

{فادخلوا أبواب جهنم} الآية وقوله: {فلبئس مثوى} مقام {المتكبرين} عن التَّوحيد وعبادة الله سبحانه

30

{وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم} هذا كان في أيَّام الموسم يأتي الرَّجل مكَّة فيسأل المشركين عمَّا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أساطير الأولين ويسأل المؤمنين عن ذلك فيقولون: {خيراً} أَيْ: ثواباً لمَنْ آمن بالله ثمَّ فسَّر ذلك الخير فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في هذه الدنيا حسنة} قالوا: لا إله إلاَّ الله ثوابٌ مضاعف {ولدار الآخرة} وهي الجنَّة {خير} من الدُّنيا وما فيها

31

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لهم فيها ما يشاؤون كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}

32

{الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} طاهرين من الشِّرك

33

{هل ينظرون إلاَّ أن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم {أو يأتي أمر ربك} بالقتل والمعنى: هل يكون مدَّة إقامتهم على الكفر إلاَّ مقدار حياتهم إلى أن يموتوا أو يُقتلوا {كذلك فعل الذين من قبلهم} وهو التَّكذيب يعني: كفَّار الأمم الخالية {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بتعذيبهم {وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظلمون} بإقامتهم على الشِّرك

34

{فأصابهم} هذا مؤخَّر في اللَّفظ ومعناه التَّقديم لأنَّ التَّقدير: كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الآية ثمَّ يقول: {وما ظلمهم الله} الآية ومعنى: أصابهم {سيئات ما عملوا} أَيْ: جزاؤها {وحاق} أحاط {بهم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} من العذاب

35

{وقال الذين أشركوا} يعني: أهل مكَّة: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عبدنا من دونه من شيء} أَيْ: ما أشركنا ولكنَّه شاءه لنا {وَلا حَرَّمْنَا من دونه من شيء} أَيْ: من السَّائبة والبحيرة وإنَّما قالوا هذا استهزاءً قال الله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} أي: من تكذيب الرُّسل وتحريم ما أحلَّ الله {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أَيْ: ليس عليهم إلاَّ التَّبليغ وقد بلَّغتَ يا محمَّدُ وبلَّغوا فأمَّا الهداية فهي إلى الله سبحانه وتعالى وقد حقَّق هذا فيما بعد وهو قوله:

36

{ولقد بعثنا في كلِّ أمة رسولاً} كما بعثناك في هؤلاء {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} بأن اعبدوا الله {واجتنبوا الطاغوت} الشيطان وكلَّ من يدعو إلى الضلاَّلة {فمنهم مَنْ هدى الله} أرشده {ومنهم مَنْ حقَّت} وجبت {عليه الضلالة} الكفر بالقضاء السابق {فسيروا في الأرض} معتبرين بآثار الأمم المكذِّبة ثمَّ أكَّد أنَّ مَنْ حقَّت عليه الضَّلالة لا يهتدي وهوقوله:

37

{إن تحرص على هداهم} أَيْ: تطلبها بجهدك {فإنَّ الله لا يهدي مَنْ يضل} كقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ}

38

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} أغلظوا في الأيمان تكذيباً منهم بقدرة الله على البعث فقال الله تعالى: {بلى} ليبعثنَّهم {وعداً عليه حقاً}

39

{ليبيِّن لهم} بالبعث ما اختلفوا فيه من أمره وهو أنَّهم ذهبوا إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون {وَلِيَعْلَمَ الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} ثمَّ أعلمهم سهولة خلق الأشياء عليه بقوله:

40

{إنما قولنا لشيء} الآية

41

{والذين هاجروا} نزلت في قومٍ عذَّبهم المشركون بمكَّة إلى أن هاجروا وقوله: {في الله} في رضا الله {لنبوئنهم في الدنيا حسنة} داراً وبلدةً حسنةً وهي المدينة {ولأجر الآخرة} يعني: الجنَّة

42

{الذين صبروا} على أذى المشركين وهم في ذلك واثقون بالله تعالى مُتوكِّلون عليه

43

{وما أرسلنا من قبلك} ذكرنا تفسيره في آخر سورة يوسف وقوله: {فاسألوا أهل الذكر} يعني: أهل التَّوراة فيخبرونكم أنَّ الأنبياء كلَّهم كانوا بشراً

44

{بالبينات} أَيْ: أرسلناهم بالبيِّنات بالحجج الواضحة {والزبر} الكتب {وأنزلنا إليك الذكر} القرآن {لتبين للناس ما نزل إليهم} في هذا الكتاب من الحلال والحرام والوعد والوعيد {ولعلهم يتفكرون} في ذلك فيعتبرون

45

{أفأمن الذين مكروا السيئات} عملوا بالفساد يعني: عبادة الأوثان وهم مشركو مكَّة {أن يخسف الله بهم الأرض} كما خسف بقارون {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أَيْ: من حيث يأمنون فكان كذلك لأنَّهم أُهلكوا يوم بدر وما كانوا يُقدِّرون ذلك

46

{أو يأخذهم في تقلبهم} للسَّفر والتِّجارة {فما هم بمعجزين} بممتنعين على الله

47

{أو يأخذهم على تخوّف} على تنقض وهو أن يأخذ الأوَّل حتى يأتي الأخذ على الجميع {فإنَّ ربكم لرؤوف رحيم} إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة

48

{أو لم يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} له ظلٌّ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ {يتفيَّأ} يتميَّل {ظلاله عن اليمين والشمائل} في أوَّل النَّهار عن اليمين وفي آخره عن الشِّمال إذا كنت مُتوجِّهاً إلى القبلة {سجداً لله} قال المُفسِّرون: ميلانها سجودها وهذا كقوله: {وظلالهم بالغدو والآصال} وقد مرَّ {وهم داخرون} صاغرون يفعلون ما يُراد منهم يعني: هذه الأشياء التي ذكرها أنَّها تسجد لله

49

{ولله يسجد} أَيْ: يخضع وينقاد بالتَّسخير {ما في السماوات وما في الأرض من دابة} يريد: كلَّ ما دبَّ على الأرض {والملائكة} خصَّهم بالذِّكر تفضيلاً {وهم لا يستكبرون} عن عبادة الله تعالى يعني: الملائكة

50

{يخافون ربهم من فوقهم} يعني: الملائكة هم فوق ما في الأرض من دابَّة ومع ذلك يخافون الله فلأَنْ يخافَ مَنْ دونهم أولى {ويفعلون ما يؤمرون} يعني: الملائكة وقوله:

51

{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هو إله واحدٌ فإياي فارهبون}

52

{وله الدين واصباً} دائماً أَيْ: طاعته واجبةٌ أبداً {أفغير الله} الذي خلق كلَّ شيء وأمر أن لا تتَّخذوا معه إلهاً {تتقون}

53

{وما بكم من نعمة} من صحَّة جسمٍ أو سعة رزق أو متاع بمالٍ وولدٍ فكلُّ ذلك من الله {ثمَّ إذا مسكم الضرُّ} الأسقام والحاجة {فإليه تجأرون} ترتفعون أصواتكم بالاستغاثة

54

{ثمَّ إذا كشف الضر عنكم} يعني: مَنْ كفر بالله وأئرك بعد كشف الضُّرَّ عنه

55

{ليكفروا بما آتيناهم} ليجحدوا نعمة الله فيما فعل بهم {فتمتعوا} أمر تهديد {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم

56

{ويجعلون} يعني: المشركين {لما لا يعلمون} أَي: الأوثان التي لا علم لها {نصيباً مما رزقناهم} يعني: ما ذُكر في قوله: {وهذا لشركائنا} {تالله لتسألنَّ} سؤال توبيخٍ {عمَّا كنتم تفترون} على الله من أنَّه أمركم بذلك

57

{ويجعلون لله البنات} يعني: خزاعة وكنانة زعموا أنَّ الملائكة بنات الله ثم نزه نفشه فقال تعالى: {سبحانه} تنزيهاً له عمَّا زعموا {وَلَهُمْ مَا يشتهون} يعني: البنين وهذا كقولهم: {أم له البنات} الآية

58

{وإذا بشر أحدهم بالأنثى} أُخبر بولادة ابنةٍ {ظلَّ} صار {وجهه مسودّاً} متغيِّراً تغيُّرَ مغتمٍّ {وهو كظيم} ممتلئ غمّاً

59

{يتوارى} يختفي ويتغيب مقدّراً مع نفسه {أيمسكه على هون} أيستحييها على هوانٍ منه لها {أم يدسُّه} يخفيه {في التراب} فعل الجاهليَّة من الوأد {ألا ساء} بئس {ما يحكمون} أَيْ: يجعلون لمن يعترفون بأنَّه خالقهم البناتِ اللاتي محلهنَّ منهم هذا المحل ونسبوه إلى اتِّخاذ الأولاد وجعلوا لأنفسهم البنين

60

{للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} العذاب والنَّار {ولله المثل الأعلى} الإِخلاص والتَّوحيد وهو شهادة أن لا إله إلا الله

61

{ولو يؤاخذ الله الناس} المشركين {بظلمهم} بافترائهم على الله تعالى {ما ترك عليها من دابة} يعني: أحداً من المشركين {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} وهو انقضاء عمرهم

62

{ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم وذلك هو البنات أَيْ: يحكمون له به {وتصف ألسنتهم الكذب} ثمَّ فسَّر ذلك الكذب بقوله: {أنَّ لهم الحسنى} أَي: الجنَّة والمعنى: يصفون أنَّ لهم مع قبح قولهم الجنَّة إن كان البعث حقّاً فقال الله تعالى: {لا} أَيْ: ليس الأمر كما وصفوه {جرم} كسب قولهم هذا {أنَّ لهم النار وأنَّهم مُفرْطون} متروكون فيها وقيل: مُقدَّمون إليها وقوله:

63

{فهو وليُّهم اليوم} يعني: يوم القيامة وأُطلق اسم اليوم عليه لشهرته وقوله:

64

{لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} أَيْ: تُبيِّن للمشركين ما ذهبوا فيه إلى خلاف ما يذهب إليه المسلمون فتقوم الحجَّة عليهم ببيانك وقوله: {وهدى} أَيْ: والهداية والرَّحمة للمؤمنين وقوله:

65

{والله أنزل} ظاهرٌ إلى قوله: {يسمعون} أَيْ: سماع اعتبار يريد: إنَّ في ذلك دلالة على البعث

66

{وإنَّ لكم في الأنعام لعبرة} لدلالةً على قدرة الله تعالى ووحدانيَّته {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} وهو سرجين الكرش {ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} جائزاً في حلوقهم

67

{ومن ثمرات} أَيْ: ولكم منها ما {تتخذون منه سكراً} وهو الخمر نزل هذا قبل تحريم الخمر {ورزقاً حسناً} وهو الخلُّ والزَّبيب والتَّمرُ {إنَّ في ذلك لآية لقومٍ يعقلون} يريد: عقلوا عن الله تعالى ما فيه قدرته

68

{وأوحى ربك إلى النحل} ألهمها وقذف في أنفسها {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} هي تتَّخذ لأنفسها بيوتاً إذا كانت لا أصحاب لها فإذا كانت لها أرباب اتِّخذت بيوتها ممَّا تبني لها أربابها وهو قوله: {ومما يعرشون} أَيْ: يبنون ويسقفون لها من الخلايا

69

{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ ربك} طرق ربِّك تطلب فيها الرَّعي {ذللاً} منقادة مُسخَّرة مطيعة {يخرج من بطونها شراب} وهو العسل {مختلف ألوانه} منه أحمر وأبيض وأصفر {فيه} في ذلك الشَّراب {شفاء للناس} من الأوجاع التي شفاؤها فيه

70

{والله خلقكم} ولم تكونوا شيئاً {ثمَّ يتوفاكم} عند انقضاء آجالكم {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر} وهو أردؤه يعني: الهرم {لكي لا يعلم بعد علم شيئاً} يصير كالصبيِّ الذي لا عقل له قالوا: وهذا لا يكون للمؤمنين لأنَّ المؤمن لا ينزع عنه علمه وإن كبر {إنّ الله عليم} بما يصنع {قدير} على ما يريد

71

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} حيث جعل بعضكم يملك العبيد وبعضكم مملوكاً {فما الذين فضلوا} وهم المالكون {برادي رزقهم} بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى يكونوا عبيدهم معهم {فيه سواء} وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمشركين في تصييرهم عباد الله شركاء له فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ {أفبنعمة الله يجحدون} حيث يتَّخذون معه شركاء

72

{والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} يعني: النِّساء {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} يعني: ولد الولد {ورزقكم من الطيبات} من أنواع الثِّمار والحبوب والحيوان {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} يعني: الأصنام {وبنعمة الله هم يكفرون} يعني: التَّوحيد

73

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لهم رزقا من السماوات} يعني: الغيث الذي يأتي من جهتها {والأرض} يعني: النَّبات والثِّمار {شيئاً} أَيْ: قليلاً ولا كثيراً {ولا يستطيعون} لا يقدرون على شيء

74

{فلا تضربوا لله الأمثال} لا تشبِّهوه بخلقه وذلك أنَّ ضرب المثل إنَّما هو تشبيه ذاتٍ بذاتٍ أو وصفٍ بوصفٍ والله تعالى منزَّه عن ذلك {أن الله يعلم} ما يكون قبل أن يكون {وأنتم لا تعلمون} قدر عظمته حيث أشركتم به

75

{ضرب الله مثلاً} بيَّن شبهاً فيه بيانٌ للمقصود ثمَّ ذكر ذلك فقال: {عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} لأنه عاجز مملوكٌ لا يملك شيئاً وهذا مثل ضربه الله لنفسه ولمَنْ عُبِدَ دونه يقول: العاجز الذي لا يقدر أن ينفق والمالك المقتدر على الإِنفاق لا يستويان فكيف يُسوَّى بين الحجارة التي لا تتحرَّك وبين الله الذي هو على كل شيء قدير وهو رازقُ جميع خلقه ثمَّ بيَّن أنَّه المستحقُّ للحمد دون ما يعبدون من دونه فقال: {الحمد لله} لأنَّه المنعم {بل أكثرهم لا يعلمون} يقول: هؤلاء المشركون لا يعلمون أنَّ الحمد لي لأنَّ جميع النِّعم مني والمراد بالأكثر ها هنا الجميع ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال:

76

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} من الكلام لأنَّه لا يَفْهم ولا يُفهم عنه {وهو كَلٌّ} ثِقْلٌ ووبالٌ {على مولاه} صاحبه وقريبه {أينما يوجهه} يرسله {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأنَّه عاجزٌ لا يَفهم ما يقال له ولا يُفهم عنه {هَلْ يستوي هو} أَيْ: هذا الأبكم {ومَنْ يأمر بالعدل} وهو المؤمن يأمر بتوجيد الله سبحانه {وهو على صراط مستقيم} دينٍ مستقيمٍ يعني: بالأبكم أُبيَّ بن خلف وكان كلاًّ على قومه لأنَّه كان يؤذيهم ومَن يأمر بالعدل حمزة بن عبد المطلب

77

{ولله غيب السماوات} أَيْ: علم ما غاب فيهما عن العباد {وما أمر الساعة} يعني: القيامة {إلاَّ كلمح البصر} كالنَّظر بسرعةٍ {أو هو أقرب} من ذلك إذا أردناه يريد: إنه يأتي بها في أسرع من لمح البصر إذا أراده

78

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئاً} أَيْ: غير عالمين {وجعل لكم السَّمْعَ والأبصار} أَيْ: خلق لكم الحواسَّ التي بها يعلمون ويقفون على ما يجهلون

79

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} مذلَّلاتٍ {فِي جوِّ السماء} يعني: الهواء وذلك يدلُّ على مُسخِّرٍ سخَّرها ومدبِّرٍ مكَّنها من التَّصرُّف {ما يُمسكهنَّ إلاَّ الله} في حال القبض والبسط والاصطفاف

80

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} موضعاً تسكنون فيه ويستر عوراتكم وحرمكم وذلك أنَّه خلق الخشب والمدر والآلة التي يمكن بها تسقيف البيوت {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ} يعني: الأنطاع والأدم {بيوتاً} وهي القباب والخيام {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} يخفُّ عليكم حملها في أسفاركم {ويوم إقامتكم} لا يثقل عليكم في الحالتي {ومن أصوافها} يعني: الضَّأن {وأوبارها} يعني: الإِبل {وأشعارها} وهي المعز {أثاثاً} طنافس وأكسية وبُسطاً {ومتاعاً} تتمتَّعون به {إلى حين} البلى

81

{والله جعل لكم مما خلق} من البيوت والشَّجر والغمام {ظلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} يعني: الغِيران والأسراب {وجعل لكم سرابيل} قمصاً {تقيكم الحر} تمنعكم الحرَّ والبرد فترك ذكر البرد لأنَّ ما وقى الحرَّ وقى البرد فهو معلوم {وسرابيل} يعني: دروع الحديد {تقيكم} تمنعكم {بأسكم} شدَّة الطَّعْن والضَّرب والرَّمي {كَذَلِكَ} مثل ما خلق هذه الأشياء لكم {يتمُّ نعمته عليكم} يريد: نعمة الدُّنيا والخطاب لأهل مكَّة {لعلَّكم تسلمون} تنقادون لربوبيته فتوحِّدونه

82

{فإن تولوا} أعرضوا عن الإِيمان بعد البيان {فإنما عليك البلاغ المبين} وليس عليك من كفرهم وجحودهم شيء

83

{يعرفون نعمة الله ثمَّ ينكرونها} يعني: الكفَّار يُقرُّون بأنَّها كلَّها من الله تعالى ثمَّ يقولون بشفاعة آلهتنا فذلك إنكارهم {وأكثرهم} جميعهم {الكافرون}

84

{ويوم} أَيْ: وأنذرهم يوم {نبعث} وهو يوم القيامة {من كلِّ أمة شهيداً} يعني: الأنبياء عليهم السَّلام يشهدون على الأمم بما فعلوا {ثم لا يؤذن للذين كفروا} في الكلام والاعتذار {ولا هم يستعتبون} ولا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله تعالى

85

{وإذا رأى الذين ظلموا} أشركوا {العذاب} النَّار {فلا يخفف عنهم} العذاب {ولا هم ينظرون} يمهلون

86

{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} أوثانهم التي عبدوها من دون الله {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا} وذلك أنَّ الله يبعثها حتى تُوردهم النَّار فإذا رأوها عرفوها فقالوا: {ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول} أَيْ: أجابوهم فقالوا لهم: {إنكم لكاذبون} وذلك أنَّها كانت جماداً ما تعرف عبادة عابديها فيظهر عند ذلك فضيحتهم حيث عبدوا مَن لم يشعر بالعبادة وهذا كقوله تعالى: {سيكفرون بعبادتهم}

87

{وألقوا إلى الله يومئذ السلم} استسلموا لحكم الله تعالى {وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون} بطل ما كانوا يأملون من أنَّ آلهتهم تشفع لهم

88

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}

89

{ويوم نبعث في كلِّ أمَّة شهيداً} وهو يوم القيامة يبعث الله فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا {عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهو نبيُّهم لأنَّ كلَّ نبيٍّ بُعث من قومه {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} على قومك وتمَّ الكلام ها هنا ثمَّ قال: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً} بياناً {لكلِّ شيء} ممَّا أُمر به ونهي عنه

90

{إنَّ الله يأمر بالعدل} شهادة أن لا إله إلاَّ الله {والإِحسان} وأداء الفرائض وقيل: بالعدل في الأفعال والإِحسان في الأقوال {وإيتاء ذي القربى} صلة الرَّحم فتؤتي ذا قرابتك من فضل ما رزقك الله {وينهى عن الفحشاء} الزِّنا {والمنكر} الشِّرك {والبغي} الاستطالة على النَّاس بالظُّلم {يعظكم} ينهاكم عن هذا كلِّه ويأمركم بما أمركم به في هذه الآية {لعلكم تذكرون} لكي تتَّعظوا

91

{وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} يعني: كلَّ عهدٍ يحسن في الشريعة الوفاء به {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} لا تحنثوا فيها بعد ما وكَّدتموه بالعزم {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} بالوفاء حيث حلفتم والواو للحال

92

{ولا تكونوا كالتي نقضت} أفسدت {غزلها} وهي امرأة حمقاء كانت تغزل طول يومها ثمَّ تنقضه وتفسده {من بعد قوة} الغزل بإمراره وفتله {أنكاثاً} قطعاً وتم الكلام هاهنا ثمَّ قال: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} أَيْ: غشَّاً وخديعةً {أن تكون} بأن تكون أو لأن تَكُونَ {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أَيْ: قوم أغنى وأعلى من قوم وذلك أنهم كانوا يحالفون قوماً فيجدون أكثر منهم وأعزَّّ فينقضون حلف أولئك ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزُّ فنُهوا عن ذلك {إنما يبلوكم الله به} أَيْ: بما أمر ونهى {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تختلفون} في الدنيا عن أيمان الخديعة فقال:

93

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عما كنتم تعملون}

94

{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها} تزلّ عن الإِيمان بعد المعرفة بالله تعالى وهذا إنَّما يستحقُّ في نقض معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرة الدِّين {وتذوقوا السوء} العذاب {بما صَدَدتُم عن سبيل الله} وذلك أنَّهم إذا نقضوا العهد لم يدخل غيرهم في الإِسلام فيصير كأنهم صدُّوا عن سبيل الله وعن دين الله

95

{ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً} لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً من الدنيا {إنما عند الله} أَيْ: ما عند الله من الثَّواب على الوفاء {هو خير لكم إن كنتم تعلمون} ذلك

96

{ما عندكم ينفد} يفنى وينقطع يعني: في الدُّنيا {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثَّواب والكرامة {باق} دائمٌ لا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} على دينهم وعمَّا نهاهم الله تعالى {أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} يعني: الطَّاعات وقوله:

97

{فلنحيينه حياة طيبة} قيل هي القناعة وقيل: هي حياة الجنَّة

98

{فإذا قرأت القرآن} أَيْ: إذا أردت أن تقرأ القرآن {فاستعذ بالله} فاسأل الله أن يعيذك ويمنعك {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}

99

{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: حجَّةٌ في إغوائهم ودعائهم إلى الضَّلالة والمعنى: ليس له عليهم سلطان الإِغواء

100

{إنما سلطانه على الذين يتولونه} يُطيعونه {والذين هم به} بسببه وطاعته فيما يدعوهم إليه {مشركون} بالله

101

{وإذا بدلنا آية} أَيْ: رفعناها وأنزلنا غيرها لنوعٍ من المصلحة {والله أعلم} بمصالح العباد في {بما ينزَّل} من النَّاسخ والمنسوخ {قالوا} يعني: الكفَّار {إنما أنت مفترٍ} كذَّابٌ تقوله من عندك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} حقيقةَ القرآن وفائدةَ النَّسخ والتَّبديل

102

{قل نزله روح القدس} جبريل عليه السَّلام {من ربك} من كلام ربِّك {بالحق} بالأمر الحقِّ {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} بما فيه من الحجج والآيات {وهدىً} وهو هدىً

103

{ولقد نعلم أنَّهم يقولون إنما يُعلِّمه} القرآنَ {بشرٌ} يعنون عبداً لبني الحضرمي كان يقرأ الكتب {لسان الذي يلحدون إليه} لغةُ الذي يميلون القول إليه ويزعمون أنَّه يُعلِّمك {أعجميّ} لا يُفصح ولا يتكلَّم بالعربية {وهذا} يعني القرآن {لسان} لغى {عربيّ مبين} أفصح ما يكون من العربيَّة وأبينه ثم أخير أن الكاذبين هم فقال:

104

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

105

{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} لأنَّهم يقولون لما لا يقدر عليه إلاَّ الله هذا من قول البشر ثمَّ سمَّاهم كاذبين بقوله: {وأولئك هم الكاذبون}

106

{مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه} هذا ابتداء كلام وخبره في قوله: {فعليهم غضب من الله} ثمَّ استثنى المُكره على الكفر فقال: {إلاَّ مَنْ أكره} أَيْ: على التَّلفظ بكلمة الكفر {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صدراً} أَيْ: فتحه ووسَّعه لقبوله

107

{ذلك} الكفر {بأنهم استحبوا الحياة الدنيا} اختاروها {على الآخرة وأنَّ الله} لا يهديهم ولا يريد هدايتهم ثمَّ وصفهم بأنَّهم مطبوعٌ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأنَّهم غافلون عمَّا يُراد بهم ثمَّ حكم عليهم بالخسار وأكد ذلك بقوله:

108

{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم وأولئك هم الغافلون}

109

{لا جرم} أَيْ: حقَّاً {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} المغبونون

110

{ثم إن ربك للذين هاجروا} يعني: المُستضعفين الذين كانوا بمكَّة {من بعد ما فتنوا} أَيْ: عُذِّبوا وأُوذوا حتى يلفظوا بما يرضيهم {ثمَّ جاهدوا} مع النبي صلى الله عليه وسلم {وصبروا} على الدِّين والجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بعدها} أَيْ: من بعد تلك الفتنة التي أصابتهم {لغفور رحيم} يغفر لهم ما تلفَّظوا به من الكفر تقيَّة

111

{يوم تأتي} أَيْ: اذكر لهم ذلك اليوم وذكِّرهم وهو يوم القيامة {كلُّ نفس} كلُّ أحدٍ لا تهمُّه إلاَّ نفسه فهو مخاصمٌ ومحتجٌ عن نفسه حتى إنَّ إبراهيم عليه السَّلام ليدلي بالخلَّة {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أَيْ: جَزَاءُ مَا عَمِلَتْ {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} لا يُنْقَصُونَ ثمَّ أنزل الله تعالى في أهل مكَّة وما امتُحنوا به من القحط والجوع قوله تعالى:

112

{وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة} ذات أمنٍ لا يُغار على أهلها {مطمئنة} قارَّةً بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوفٍ أو ضيقٍ {يأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان} يُجلب إليها من كلِّ بلدٍ كما قال: {يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيء} {فكفرت بأنعم الله} حين كذَّبوا رسوله {فأذاقها الله لباس الجوع} عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين {والخوف} من سرايا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي كان يبعثهم إليهم فيطوفون بهم {بما كانوا يصنعون} من تكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكَّة

113

{ولقد جاءهم} يعني: أهل مكَّة {رسول منهم} من نسبهم يعرفونه بأصله ونسبه {فكذبوه فأخذهم العذاب} يعني: الجوع

114

{فكلوا} يا معشر المؤمنين {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} من الغنائم وهذه الآية والتي بعدها سبق تفسيرهما في سورة البقرة

115

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحيم}

116

{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} أَيْ: لوصف ألسنتكم الكذب والمعنى: لا تقولوا لأجل الكذب وسببه لا لغيره: {هذا حلال وهذا حرام} يعني: ما كانوا يحلونه ويحرمونه إليه ثمَّ أوعد المفترين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يفلحون}

117

{متاع قليل} أَيْ: لهم في الدُّنيا متاعٌ قليلٌ ثم يردون إلى عذاب أليمٍ

118

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ من قبل} يعني: في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية {وما ظلمناهم} بتحريم ما حرَّمنا عليهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بأنواع المعاصي

119

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} أَيْ: الشِّرك {ثم تابوا من بعد ذلك} آمنوا وصدَّقوا {وأصلحوا} قاموا بفرائض الله وانتهوا عن معاصيه {إن ربك من بعدها} من بعد تلك الجهالة {لغفور رحيم}

120

{إنَّ إبراهيم كان أمة} مؤمناً وحده والنَّاس كلُّهم كفَّارٌ {قانتاً} مُطيعاً {لله حنيفاً} لأنَّه اختتن وقام بمناسك الحج وقوله:

121

{شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

122

{وآتيناه في الدنيا حسنة} يعني: الذِّكر والثَّناء الحسن في النَّاس كلِّهم {وإنَّه في الآخرة لمن الصالحين} هذا ترغيبٌ في الصَّلاح ليصير صاحبه من جملة مَنْ منهم إبراهيم عليه السَّلام مع شرفه

123

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حنيفاً} أمر باتِّباعه فِي مناسك الحجِّ كما علَّم جبريل عليه السَّلام إبراهيم عليه السَّلام

124

{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} وهم اليهود أمروا أن يتفرَّغوا للعبادة في يوم الجمعة فقالوا لا نريده ونريد اليوم الذي فرغ الله سبحانه فيه من الخلق واختاروا السَّبْتَ ومعنى اختلفوا فيه أَيْ: على نبيِّهم حيث لم يطيعوه في أخذ الجمعة فجعل السَّبْتَ عليهم أَيْ: غَلَّظَ وضيَّق الأمر فيه عليهم

125

{ادع إلى سبيل ربك} دين ربِّك {بالحكمة} بالنُّبوَّة {والموعظة الحسنة} يعني: مواعظ القرآن {وجادلهم} افتلهم عمَّا هم عليه {بالتي هي أحسن} بالكلمة اللَّيِّنة وكان هذا قبل الأمر بالقتال {إن ربك هو أعلم} الآية يقول: هو أعلم بالفريقين فهو يأمرك فيهما بما هو الصَّلاح

126

{وإن عاقبتم} الآية نزلت حين نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمزة وقد مُثِّل به فقال: واللَّهِ لأُمَثِلنَّ بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل عليه السَّلام بهذه الآيات فصبر النبي صلى الله عليه وسلم وكفَّر عن يمينه وأمسك عمَّا أراد وقوله سبحانه: {ولئن صبرتم} أَيْ: عن المجازاة بالمثلة {لهو} أَيْ: الصَّبر {خير للصابرين} ثمَّ أمره بالصَّبر عزماً فقال:

127

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} أَيْ: بتوفيقه ومعونته {ولا تحزن عليهم} على المشركين بإعراضهم عنك {وَلا تَكُ فِي ضيق مما يمكرون} لا يضيق صدرك من مكرهم

128

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الفواحش والكبائر {والذين هم محسنون} في العمل بالنَّصرة والمعونة

سورة الإسراء

{سبحان الذي} براءة من السُّوء {أسرى بعبده} سيَّر محمَّداً عليه السَّلام {من المسجد الحرام} يعني: مكَّة ومكَّةُ كلُّها مسجد {إلى المسجد الأقصى} وهو بيت المقدس وقيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بالثِّمار والأنهار {لنريه من آياتنا} وهو ما أُري في تلك اللَّيلة من الآيات التي تدلُّ على قدرة الله سبحانه ثمَّ ذكر أنَّه سبحانه أكرم موسى عليه السَّلام أيضاً قبله بالكتاب فقال:

2

{وآتينا موسى الكتاب} التَّوراة {وجعلناه هدىً لبني إسرائيل} دللناهم به على الهدى {أن لا تتخذوا} فقلنا: لا تتخذوا وأن زائدة والمعنى: لا تتوكَّلوا على غيري ولا تتَّخذوا من دوني ربَّاً

3

{ذرية} يا ذريَّةَ {مَنْ حملنا مع نوح} يعني: بني إسرائيل وكانوا ذرية ن كان في سفينة نوح عليه السَّلام وفي هذا تذكيرٌ بالنِّعمة إذْ أنجى آباءهم من الغرق ثمَّ أثنى على نوحٍ فقال: {إِنَّهُ كَانَ عبداً شكوراً} كان إذا أكل حمد الله وإذا لبس ثوباً حمد الله

4

{وقضينا إلى بني إسرائيل} أوحينا إليهم وأعلمناهم في كتابهم {لتفسدنَّ في الأرض مرتين} بالمعاصي وخلاف أحكام التَّوراة {ولتعلن علواً كبيراً} لتتعظمنَّ ولتبغُنَّ

5

{فإذا جاء وعد أولاهما} يعني: أوَّل مرَّة في الفساد {بعثنا عليكم} أرسلنا عليكم وسلَّطنا {عباداً لنا} يعني: جالوت وقومه {أولي بأسٍ شديد} ذوي قوَّةٍ شديدةٍ {فجاسوا خلال الديار} تردَّدوا وطافوا وسط منازلهم ليطلبوا مَنْ يقتلونهم {وكان وعداً مفعولاً} قضاءً قضاه الله تعالى عليهم

6

{ثمَّ رددنا لكم الكرَّة عليهم} نصرناكم ورددنا الدَّولة لكم عليهم بقتل جالوت {وأمددناكم بأموالٍ وبنين} حتى عاد أمركم كما كان {وجعلناكم أكثر نفيراً} أكثر عدداً من عدوِّكم

7

{إن أحسنتم} أَيْ: وقلنا: إن أحسنتم {أحسنتم لأنفسكم} إن أطعتم الله فيما بقي عفا عنكم المساوئ {وإنْ أسأتم} بالفساد وعصيان الأنبياء وقتلهم {فلها} فعليها يقع الوبال {فإذا جاء وعد الآخرة} المرَّة الأخيرة من إفسادكم وجواب (إذا) محذوف على تقدير: بعثناهم {لِيَسُوْءُوْا وجوهكم} وهو أنَّه عليهم بختنصر فسبى وقتل وخرب ومعنى لِيَسُوْءُوْا وجوهكم: ليخزوكم خزياً يظهر أثره في وجوهكم كبسي ذراريكم وإخراب مساجدكم {وليتبروا ما علوا} وليدمِّروا ويُخرِّبوا ما غلبوا عليه

8

{عسى ربكم} وهذا أيضاً ممَّا أُخبروا به فِي كتابهم والمعنى: لعلَّ ربكم {أن يرحمكم} ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل {وإن عدتم} بالمعصية {عدنا} بالعقوبة هذا في الدنيا وأما في الآخرة فقد {جعلنا جهنم للكافرين حصيراً} أَيْ: سجناً ومحبساً

9

{إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} يرشد إلى الحالة التي هي أعدل وأصوب وهي توحيد الله تعالى والإِيمان برسله {ويبشر المؤمنين} بأنَّ {لهم أجراً كبيراً} وأنَّ أعداءهم معذَّبون في الآخرة

10

{وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عذابا أليما}

11

{ويدع الإِنسان} الآية ربَّما يدعو الإنسان على نفسه عند الغضب والضَّجر وعلى ولده وأهله بما لا يحبُّ أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا} يعجل في الدُّعاء بالشَّرِّ كعجلته في الدُّعاء بالخير

12

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} علامتين تدلاَّن على قدرة خالقهما {فمحونا} طمسنا {آية الليل} نورها بما جعلنا فيها من السَّواد {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} مُضيئةً يُبصر فِيها {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} بمحو آية اللَّيل ولولا ذلك ما كان يُعرف اللَّيل من النَّهار وكان لا يتبيَّن العدد {وكل شيء} ممَّا يُحتاج إليه {فصلناه تفصيلاً} بينَّاه تبييناً لا يلتبس معه بغيره

13

{وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه} كتبنا عليه ما يعمل من خيرٍ وشرٍّ {ونخرج له} ونُظهر له {يوم القيامة} صحيفة عمله منشورةً

14

{اقرأ كتابك} أَيْ: يُقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} مُحاسباً يقول: كفيتَ أنت في محاسبة نفسك

15

{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} ثواب اهتدائه لنفسه {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} على نفسه عقوبة ضلاله {وَلا تَزِرُ وازرة وزر أخرى} وذلك أنَّ الوليد بن المغيرة قال: اتَّبعوني وأنا أحمل أوزاركم فقال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازرة وزر أخرى} أي: لا تحمل نفس ذنب غيرها {وما كنا معذبين} أحداً {حتى نبعث رسولاً} يُبيِّن له ما يجب عليه إقامةً للحجَّة

16

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أمرناهم على لسان رسولٍ بالطَّاعة وعنى بالمترفين: الجبَّارين والمُسلَّطين والملوك وخصَّهم بالأمر لأنَّ غيرهم تبعٌ لهم {ففسقوا فيها} أَيْ: تمرَّدوا في كفرهم والفسق فِي الكفر: الخروج إلى أفحشه {فحقَّ عليها القول} وجب عليها العذاب {فدمرناها تدميراً} أهلكناها إهلاك استئصال

17

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}

18

{من كان يريد العاجلة} بعلمه وطاعته وإسلامه الدُّنيا {عجلنا له فيها ما نشاء} القدر الذي نشاء {لمن نريد} أن نعجِّل له شيئاً ثمَّ يدخل النَّار في الآخرة {مذموماً} ملوماً {مدحوراً} مطروداً لأنَّه لم يرد الله سبحانه بعمله

19

{ومن أراد الآخرة} الجنَّة {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} عمل بفرائض الله {وهو مؤمن} لأنَّ الله سبحانه لا يقبل حسنةً إلاَّ من مؤمنٍِ {فأولئك كان سعيهم مشكوراً} تُضاعف لهم الحسنات

20

{كلاً} من الفريقين {نمدُّ} نزيد ثمَّ ذكرهما فقال: {هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} يعني: الدُّنيا وهي مقسومةٌ بين البرِّ والفاجر {وما كان عطاء ربك محظوراً} ممنوعاً في الدُّنيا من المؤمنين والكافرين ثمَّ يختصُّ المؤمنين في الآخرة

21

{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} في الرِّزق فمن مُقلٍّ ومُكثرٍ {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} من الدُّنيا لأنَّ درجات الجنَّة يقتسمونها على قدر أعمالهم

22

{ولا تجعل} أَيُّها الإِنسان المخاطب {مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً} ملوماً {مخذولاً} لا ناصر لك

23

{وقضى} وأمر {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلاَّ إيَّاه وبالوالدين إحساناً} وأمرَ إحساناً بالوالدين {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} يقول: إن عاش أحد والديك حتى يشيب ويكبر أو هما جميعاً {فلا تقل لهما أف} (لا تقل لهما رديئاً) من الكلام ولا تستثقلنَّ شيئاً من أمرهما {ولا تنهرهما} لا تواجههما بكلامٍ تزجرهما به {وقل لهما قولاً كريماً} ليِّناً لطيفاً

24

{واخفض لهما جناح الذل} ألن لهما جانبك واخضع لهما {من الرحمة} أَيْ: من رقَّتك عليهما وشفقتك {وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني} مثل رحمتهما إيَّاي فِي صغري حتى ربَّياني {صغيراً}

25

{ربكم أعلم بما في نفوسكم} بما تُضمرون من البِرِّ والعقوق {إن تكونوا صالحين} طائعين لله {فإنَّه كان للأوابين} الرَّاجعين عن معاصي الله تعالى {غفوراً} يغفر لهم ما بدر منهم وهذا فيمن بدرت منه بادرةٌ وهو لا يُضمر عقوقاً فإذا رجع عن ذلك غفر الله له ثمَّ أنزل في برِّ الأقارب وصلة ارحامهم بالإِحسان إليهم قوله:

26

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} ممَّا جعل الله لهما من الحقِّ في المال {ولا تبذر تبذيراً} يقول: لا تنفق في غير الحقِّ

27

{إنَّ المبذرين} المنفقين فِي غير طاعة الله {كَانُوا إِخْوَانَ الشياطين} لأنهم يوافقهم فيما يأمرهم به ثمَّ ذمَّ الشَّيطان بقوله: {وكان الشيطان لربه كفوراً} جاحداً لنعم الله وهذا يتضمنَّ أنَّ المُنفق فِي السَّرف كفور

28

{وإمَّا تعرضنَّ عنهم} الآية كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأله فقراء الصَّحابة ولم يكن عنده ما يعطيهم أعرض عنهم حياءً منهم وسكت وهو قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} انتظار الرِّزق من الله تعالى يأتيك {فقل لهم قولاَ ميسوراً} ليِّناً سهلاً وكان إذا سُئل ولم يكن عنده ما يُعطي قال: يرزقنا الله وإيَّاكم من فضله

29

{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} لا تُمسكها عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنَّها مقبوضة إلى عنقك لا تنبسط بخيرٍ {ولا تبسطها كلَّ البسط} في النفقة والعطيَّة {فتقعد ملوماً} تلوم نفسك وتُلام {محسوراً} ليس عندك شيء من قولهم: حسرتُ الرَّجل بالمسألة: إذا أفنيتَ جميع ما عنده نزلت هذه الآية حين وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يجد ما يلبسه للخروج فبقي في البيت

30

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} يوسع على مَنْ يشاء ويُضيِّق على مَنْ يشاء {إنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً} حيث أجرى رزقهم على ما علم فِيهِ صلاحهم

31

{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ} سبق تفسيره في سورة الأنعام وقوله: {خطأ} أي: إثما

32

{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سبيلا}

33

{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بالحق} بكفرٍ بعد إسلام أو زنا بعد إحصانٍ أو قتل نفسٍ بتعمُّدٍ {ومَنْ قتل مظلوماً} أَيْ: بغير إحدى هذه الخصال {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} وارثه {سلطاناً} حجَّةً في قتل القاتل إن شاء أو أخذ الدِّية أو العفو {فلا يسرف في القتل} فلا يتجاوز ما حدَّ له وهو أن يقتل بالواحد اثنين أو غير القاتل ممَّنْ هو من قبيلة القاتل كفعل العرب في الجاهليَّة {إنَّه} إنَّ الوليَّ {كَانَ مَنْصُورًا} بقتل قاتل وليِّه والاقتصاص منه وقيل: {إنَّه} إنَّ المقتول ظلماً {كان منصوراً} في الدُّنيا بقتل قاتله وفي الآخرة بالثَّواب

34

{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} يعني: الأكل بالمعروف وذكرنا هذا في سورة الأنعام {وأوفوا بالعهد} وهو كلُّ ما أمر ونهى عنه {إنَّ العهد كان مسؤولاً} عنه

35

{وأوفوا الكيل} أتمُّوه {إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم} بأقوم الموازين {ذلك خيرٌ} أقرب إلى الله تعالى {وأحسن تأويلاً} عاقبةً

36

{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لا تقولنَّ في شيءٍ بما لا تعلم {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً} أَيْ: يسأل الله العباد فيم استعملوا هذه الحواس

37

{ولا تمش في الأرض مرحاً} أَيْ: بالكبر والفخر {إنَّك لن تخرق الأرض} لن تثقبها حتى تبلغ آخرها ولا تطاول الجبال والمعنى: إنَّ قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك صلة إلى الاختيال يريد: إنَّه ليس ينبغي للعاجز أن يذبخ ويستكبر

38

{كُلُّ ذَلِكَ} إشارةٌ إلى جميع ما تقدَّم ذكره مما به ونهى عنه {كان سَيِّئُهُ} وهو ما حرَّم الله سبحانه ونهى عنه

39

{ذلك} يعني: ما تقدَّم ذكره {ممَّا أوحى إليك ربك من الحكمة} من القرآن ومواعظه وباقي الآية مفسَّر في هذه السُّورة ثمَّ نزل فيمن قال من المشركين: الملائكة بنات الله:

40

{أفأصفاكم ربكم بالبنين} أَيْ: آثركم وأخلص لكم البنين دونه وجعل لنفسه البنات {إنكم لتقولون قولاً عظيماً}

41

{ولقد صرَّفنا} بيَّنَّا {في هذا القرآن من كلِّ مثل} يوجب الاعتبار به والتَّفكُّر فيه {ليذكروا} ليتَّعظوا ويتدبَّروا {وما يزيدهم} ذلك البيان والتَّصريف {إلاَّ نفوراً} من الحقِّ وذلك أنَّهم اعتقدوا أنَّها شُبَهٌ وحيلٌ فنفروا منها أشدَّ النُّفور

42

{قل} للمشركين: {لو كان معه} مع الله {آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العرش سبيلاً} إذا لا بتغت الآلهة أن تزيل ملك صاحب العرش

43

{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا}

44

{تُسَبِّحُ له السماوات} الآية المراد بالتَّسبيح في هذه الآية الدلالة عل أنَّ الله سبحانه خالقٌ حكيمٌ مبرَّأٌ من الأسواء والمخلوقون والمخلوقاتُ كلُّها تدلُّ على هذا وقوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} مخاطبة للكفَّار لأنَّهم لا يستدلُّون ولا يعتبرون

45

{وإذا قرأت القرآن} الاية نزلت في قومٍ كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه إذا قرأ القرآن فحجبه الله تعالى عن أعينهم عند قراءة القرآن حتى كانوا يمرُّون به ولا يرونه وقوله: {مستوراً} معناه: ساتراً

46

{وجعلنا على قلوبهم أكنة} سبق تفسيره في سورة الأنعام {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن {ولوا على أدبارهم نفور} أعرضوا عنك نافرين

47

{نحن أعلم بما يستمعون به} نزلت حين دعا علي رضي الله عنه أشراف قريش إلى طعام اتَّخذه لهم ودخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله سبحانه وهم يقولون فيما بينهم متناجين: هو ساحرٌ وهو مسحورٌ فأنزل الله تعالى: {نحن أعلم بما يستمعون به} أَيْ: يستمعونه أخبر الله سبحانه أنَّه عالمٌ بتلك الحال وبذلك الذين كان يستمعونه {إذ يستمعون} إلى الرَّسول {وَإِذْ هُمْ نجوى} يتناجون بينهم بالتَّكذيب والاستهزاء {إذ يقول الظالمون} المشركون: {إن تتبعون} ما تتبعون {إِلا رَجُلا مسحوراً} مخدوعاً أن اتَّبعتموه

48

{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} بَيَّنوا لك الأشباه حين شبَّهوك بالسَّاحر والكاهن والشَّاعر {فضلوا} بذلك عن طريق الحق {فلا يستطيعون سبيلاً} مخرجاً

49

{وقالوا أإذا كنا عظاماً} بعد الموت {ورفاتاً} وتراباً أَنُبعث ونخلق خلقاً جديداً؟

50

{قل كونوا حجارة أو حديداً} الآية معناها يقول: قدِّروا أنَّكم لو خُلقتم من حجارةٍ أو حديدٍ أو كنتم الموت الذي هو أكبر الأشياء في صدورهم لأماتكم الله ثمَّ أحياكم لأنَّ القدرة التي بها أنشأكم بها يُعيدكم وهذا معنى قوله: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فطركم} خلقكم {أول مرَّة فسينغضون إليك رؤوسهم} يُحرِّكونها تكذيباً لهذا القول {ويقولون متى هو} ؟ أَي: الإِعادة والبعث {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} يعني: هو قريب

51

{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فسينغضون إليك رؤوسهم وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قريبا}

52

{يوم يدعوكم} بالنداء الذي يسمعكم هو النَّفخة الأخيرة {فتستجيبون} تجيبون {بحمده} وهو أنَّهم يخرجون من القبور يقولون: سبحانك وبحمدك حمدوا حين لا ينفعهم الحمد {وَتَظُنُّونَ إِنْ لبثتم إلاَّ قليلاً} استقصروا مدَّة لبثهم في الدُّنيا أو في البرزخ مع ما يعلمون من طول لبثهم فِي الآخرة

53

{وقل لعبادي} المؤمنين: {يقولوا التي هي أحسن} نزلت حين شكا أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليه أذى المشركين واستأذنوه في قتالهم فقيل له: قل لهم: يقولوا للكفَّار الكلمة التي هي أحسن وهو أن يقولوا: يهديكم الله {إن الشيطان} هو الذي يفسد بينهم

54

{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم} يوقفكم فتؤمنوا {أو إن يشأ يعذبكم} بأن يميتكم على الكفر {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} ما وكل إليك إيمانهم فليس عليك إلاَّ التَّبليغ

55

{وربك أعلم بمَنْ في السماوات والأرض} لأنَّه هو خالقهم {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} عن علمٍ بشأنهم ومعنى تفضيل بعضهم على بعض: تخصيص كلِّ واحد منهم بفضيلة دون الآخر {وآتينا داود زبوراً} أَيْ: فلا تنكروا تفضيل محمد عليه السَّلام وإعطاءه القرآن فقد جرت بهذا في النَّبيين

56

{قل ادعوا الذين زعمتم} الآية ابتلى الله سبحانه قريشاً بالقحط سنين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم} ادَّعيتم أنَّهم آلهةٌ {من دونه} ثمَّ أخبر عن الآلهة فقال: {فَلا يَمْلِكُونَ كشف الضر} يعني: البؤس والشِّدة {عنكم ولا تحويلاً} من السَّقم والفقر إلى الصَّحة والغنى ثمَّ ذكر أولياءَه فقال:

57

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} يتضرَّعون إلى الله تعالى في طلب الجنَّة {أيُّهم} هو {أقرب} إلى رحمة الله سبحانه يبتغي الوسيلة إليه بصالح الأعمال

58

{وإن من قرية} الآية أَيْ: وما من أهل قريةٍ إلاَّ ستهلك إمَّا بموت وإمَّا بعذاب يستأصلهم أمَّا الصَّالحة فبالموت وأمَّا الطَّالحة فبالعذاب {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} مكتوباً في اللَّوح المحفوظ

59

{وما منعنا أن نرسل بالآيات} لمَّا سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم أن يوسع لهم مكة ويجعل الصَّفا ذهباً أتاه جبريل عليه السَّلام فقال: إن شئت كان ما سألوا ولكنَّهم إن لم يؤمنوا لم يُنظروا وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعناها: أنَّا لم نرسل بالآيات لئلا يُكذِّب بها هؤلاء كما كذب الذين من قبلهم فيستحقُّوا المعاجلة بالعقوبة {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} آيةً مُضيئةً بيِّنةً {فظلموا بها} جحدوا أنَّها من الله سبحانه {وما نرسل بالآيات} أَي: العبر والدِّلالات {إلاَّ تخويفاً} للعباد لعلَّهم يخافون القادر على ما يشاء

60

{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أَيْ: فهم في قبضته وقدرته يمنعك منهم حتى تبلِّغ الرِّسالة ويحول بينك وبينهم أن يقتلوك {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} يعني: ما أُري ليلة أُسري به وكانت رؤيا يقظة {والشجرة الملعونة في القرآن} وهي شجرة الزَّقوم {إلاَّ فتنةً للناس} فكانت الفتنة في الرُّؤيا أنَّ بعضهم ارتدَّ حين أعلمهم بقصَّة الإسراء وازداد الكفَّار تكذيباً وكانت الفتنة في الزَّقوم أنَّهم قالوا: إنَّ محمداً يزعم أنَّ فِي النار شجراً والنَّار تأكل الشَّجر وقالوا: لا نعلم الزَّقوم إلاَّ التَّمر والزُّبد فأنزل الله تعالى في ذلك: {إنا جعلناها فتنة للظالمين} الآيات {ونخوفهم} بالزَّقوم فما يزدادون إلاَّ كبراً وعتوَّاً

61

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}

62

{قال} يعني: إبليس {أرأيتك} أَيْ: أرأيت والكاف توكيدٌ للمخاطبة {هذا الذي كرَّمت عليّ} فضَّلته يعني: آدم عليه السَّلام {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} لأستأصلنَّهم بالإغواء ولأستولينَّ عليهم {إلاًّ قليلاً} يعني: ممَّن عصمه الله تعالى

63

{قال} الله: {اذهب} إنِّي أنظرتك إلى يوم القيامة {فمن تبعك} أطاعك {منهم} من ذُرِّيَّتِهِ {فإنَّ جهنم جزاؤكم جزاءً موفوراً} وافراً

64

{واستفزز من استطعت منهم} أَيْ: أزعجه واستخفَّه إلى إجابتك {بصوتك} وهو الغناء والمزامير {وأجلب عليهم} وصحْ {بخيلك ورجلك} واحثثهم عليهم بالإِغواء وخيلُه: كلُّ راكبٍ في معصية الله سبحانه وتعالى وَرَجِلُه: كلُّ ماشٍ على رجليه في معصية الله تعالى {وشاركهم في الأموال} وهو كلُّ ما أُخذ بغير حقٍّ {والأولاد} وهو كلُّ ولد زنا {وعدهم} أن لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب وهذه الأنواع من الأمر كلُّها أمر تهديد قال الله تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا}

65

{إنَّ عبادي} يعني: المؤمنين {ليس لك عليهم سلطانٌ} حجَّةٌ في الشِّرك {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} لأوليائه يعصمهم من القبول مِن إبليس

66

{ربكم الذي يزجي} يسيِّر {لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} في طلب التِّجَارة {إنه كان بكم} بالمؤمنين {رحيماً}

67

{وإذا مسَّكم الضرُّ} خوف الغرق {في البحر ضلَّ} زال وبطل {من تدعون} من الآلهة {إلاَّ إياه} إلاَّ الله {فلما نجاكم} من الغرق وأخرجكم {إلى البر أعرضتم} عن الإيمان والتَّوحيد {وكان الإِنسان} الكافر لربِّه {كفوراً} لنعمة ربِّه جاحداً ثمًّ بيَّن أنَّه قادر أن يهلكهم فِي البرِّ فقال:

68

{أفأمنتم} يريد: حيث أعرضتم حين سلمتم من هول البحر {أن يخسف بكم} يُغيِّبكم ويذهبكم فِي {جانب البَرِّ} وهو الأرض {أو يرسل عليكم حاصباً} عذاباً يحصبهم أَيْ: يرميهم بحجارةٍ {ثمَّ لا تجدوا لكم وكيلاً} مانعاً ولا ناصراً

69

{أم أمنتم أن يعيدكم} فِي البحر {تارةً} مرةً {أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصفاً} ريحاً شديدةً تقصف الفلك وتكسره {فيغرقكم بما كفرتم} بكفركم حيث سلمتم المرة الأولى {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} ثائراً ولا ناصرا والمعنى: لا تجدوا مَنْ يتًّبعنا بإنكار ما نزل بكم

70

{ولقد كرَّمنا} فضَّلنا {بني آدم} بالعقل والنُّطق والتَّمييز {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} على الإِبل والخيل والبغال والحمير {و} في {البحر} على السُّفن {ورزقناهم من الطيبات} الثِّمار والحبوب والمواشي والسَّمن والزُّبد والحلاوى {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كثير ممن خلقنا} يعني: البهائم والدَّوابَّ والوحوش

71

{يوم ندعو} يعني: يوم القيامة {كلَّ أناسٍ بأمامهم} بنبيِّهم وهو أن يقال: هاتوا مُتَّبعي إبراهيم عليه السَّلام هاتوا مُتبَّعي موسى عليه السلام هاتوا متبعي محمد عليه السلام فيقول أهل الحقِّ فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثمَّ يقال: هاتوا مُتَّبِعي الشَّيطان هاتوا مُتَّبعي رؤساء الضَّلالة وهذا معنى قول ابن عباس: إمام هدى وإمام ضلالة {ولا يظلمون} ولا ينقصون {فتيلاً} من الثَّواب وهي القشرة التي في شقِّ النَّواة

72

{من كان في هذه أعمى} في الدُّنيا أعمى القلب عمَّا يرى من قدرتي في خلق السَّماء والأرض والشَّمس والقمر وغيرهما {فهو في الآخرة} في أمر الآخرة ممَّا يغيب عنه {أعمى} أشدُّ عمىً {وأضلُّ سبيلاً} وأبعد حجَّةً

73

{وإن كادوا} الآية نزلت فِي وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وقالوا: متِّعنا باللاَّت سنةً وحرِّمْ وادينا كما حرَّمت مكَّة فإنَّا نحبُّ أن تعرف العربُ فضلنا عليهم فإنْ خشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك وأقبلوا يلحُّون على النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقد همَّ أنْ يعطيهم ذلك فأنزل الله: {وإن كادوا} همُّوا وقاربوا {ليفتنونك} ليستزلُّونك {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني: القرآن والمعنى: عن حكمه وذلك أنَّ فِي إعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن {لتفتري علينا غيره} أَيْ: لتختلق علينا أشياء غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك {وإذاً} لو فعلت ما أرادوا {لاتخذوك خليلاً}

74

{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} على الحقِّ بعصمتنا إيَّاك {لقد كدت تركن} تميل {إليهم شيئاً} ركوناً {قليلاً} ثمَّ توعَّد على ذلك لو فعله فقال:

75

{إذاً لأذقناك ضعف الحياة} ضِعْفَ عذاب الدُّنيا {وضعف الممات} وضعف عذاب الآخرة يعني: ضعف ما يعذِّب به غيره

76

{وإن كادوا لَيَسْتَفزٌّونَكَ} يعني: اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الأنبياء بُعثوا بالشَّام فإنْ كنت نبيَّاً فالحق بها فإنَّك إنْ خرجتَ إليها آمنَّا بك فوقع ذلك في قلبه لحبِّ إيمانهم فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ومعنى ليستفزونك: ليزعجونك {من الأرض} يعني: المدينة {وإذا لا يلبثون خلافك إلاَّ قليلاً} أعلم الله سبحانه أنَّهم لو فعلوا ذلك لم يلبثوا حتى يستأصلوا كسنَّتنا فيمن قبلهم وهو قوله:

77

{سنة من قد أرسلنا قبلك} الآية يقول: لم نرسل قبلك رسولاً فأخرجه قومه إلاَّ أهلكوا {ولا تجد لسنتنا تحويلاً} لا خُلف لسنَّتي ولا يقدر أحدٌ أن يقلبها

78

{أقم الصلاة} أَيْ: أدمها {لدلوك الشمس} من وقت زوالها {إلى غسق الليل} إقباله بظلامه فيدخل في هذا صلاة الظُّهر والعصر والعشاءين {وقرآن الفجر} يعني: صلاة الفجر سمَّاها قرآناً لأنَّ الصَّلاة لا تصحُّ إلاَّ بقراءة القرآن {إنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً} تشهده ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار

79

{ومن الليل فتهجد} فصلِّ {به} بالقرآن {نافلة لك} زيادةً لك في الدَّرجات لأنه غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فما عمل من عملٍ سوى المكتوبة فهو نافلة له من أجل أنَّه لا يعمل ذلك في كفَّارة الذُّنوب {عسى أن يبعثك ربك} عسى من الله واجبٌ ومعنى يبعثك ربُّك: يقيمك ربُّك في مقامٍ محمودٍ وهو مقام الشَّفاعة يحمده فيه الخلق

80

{وقل ربِّ أدخلني} لمَّا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة أُنزلت عليه هذه الآية ومعناها: أدخلني المدينة إدخال صدق أَيْ: إدخالاً حسناً لا أرى فيه ما أكره {وأخرجني} من مكة إخراج صدق لا ألتفت إليها بقلبي {واجعل لي من لَدُنْكَ سلطاناً نصيراً} قوَّة القدرة والحجَّة حتى أُقيم بهما دينك

81

{وقل جاء الحق} الإِسلام {وزهق الباطل} واضمحلَّ الشِّرك {إن الباطل} الشِّرك {كان زهوقاً} مضمحلاً زائلاً أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا عند دخول مكَّة يوم الفتح

82

{وننزل من القرآن} أَيْ: من الجنس الذي هو قرآن {ما هو شفاء} من كلِّ داءٍ لأنَّ الله تعالى يدفع به كثيراً من المكاره {ورحمةٌ للمؤمنين} ثوابٌ لا انقطاع له في تلاوته {ولا يزيد} القرآن {الظالمين} المشركين {إلاَّ خساراً} لأنَّهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه

83

{وإذا أنعمنا على الإنسان} يريد: الوليد بن المغيرة {أعرض} عن الدُّعاء والابتهال فلا يبتهل كابتهاله في البلاء والمحنة {ونأى بجانبه} بعد نفسه عن القيام بحقوق نعم الله تعالى {وإذا مسه الشر} أصابه المرض والفقر {كان يؤوسا} يائساً عن الخير ومن رحمة الله سبحانه لأنَّه لا يثق بفضل الله تعالى على عباده

84

{قل كلٌّ يعمل على شاكلته} على مذهبه وطريقته فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند الإِنعام واليأس عند الشدَّة والمؤمن يفعل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرَّخاء والصَّبر والاحتساب عند البلاء ألا ترى أنَّه قال: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً} أَيْ: بالمؤمن الذي لا يُعرض عند النِّعمة ولا ييئس عند المحنة

85

{ويسألونك} يعني: اليهود {عن الروح} والرُّوح: ما يحيا به البدن سألوه عن ذلك وحقيقته وكيفيَّته وموضعه من البدن وذلك ما لم يُخبر الله سبحانه به أحداً ولم يُعط علمه أحداً من عبادِه فقال {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَيْ: من علم ربِّي أَيْ: إنَّكم لا تعلمونه وقيل: من خلق ربِّي أيْ: إنَّه مخلوقٌ له {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} وكانت اليهود تدَّعي علم كل شيء بما في كتابهم فقيل لهم: وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً بالإِضافة إلى علم الله تعالى

86

{ولئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا إليك} لنمحونَّه من القلوب ومنت الكتب حتى لا يوجد له أثر {ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا} لا تجد مَنْ نتوكل عليه فِي ردِّ شيءٍ منه

87

{إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} لكنَّ الله رحمك فأثبت ذلك فِي قلبك وقلوب المؤمنين {إِنَّ فضله كان عليك كبيراً} حيث جعلك سيِّد وَلدِ آدم وأعطاك المقام المحمود

88

{قل لئن اجتمعت الإنس والجن} الآية لمَّا تحدَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وعجزوا عن معارضته أنزل الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يأتوا بمثل هذا القرآن} في نظمه وبلاغته {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيراً} مُعيناً مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعرٍ فيقيمونه

89

{ولقد صرَّفنا} بَيَّنّا {للناس في هذا القرآن} لأهل مكَّة {من كلِّ مثل} من الأمثال التي يجب بها الاعتبار {فَأَبَى أكثر الناس} أكثر أهل مكَّة {إلاَّ كفوراً} جحوداً للحقِّ واقترحوا من الآيات ما ليس لهم وهو قوله تعالى:

90

{وقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} لن نصدِّقك {حَتَّى تَفْجُرَ} تشقق {لنا من الأرض ينبوعاً} عيناً من الماء وذلك أنَّهم سألوه أَن يجريَ لهم نهراً كأنهار الشَّام والعراق

91

{أو تكون لك جنَّة} الآية هذا أيضاً كان فيما اقترحوا عليه

92

{أو تسقط السماء كما زعمت} أنَّ ربَّك إن شاء فعل ذلك {كسفاً} أَيْ: قطعاً {أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} تأتي بهم حتى نراهم مقابلةً وعياناً

93

{أو يكون لك بيتٌ من زخرف} من ذهبٍ فكان فيما اقترحوا عليه أن يكون له جنَّاتٌ وكنوزٌ وقصورٌ من ذهبٍ {أو ترقى في السماء} وذلك أن عبد الله بن أبي أُميَّة قال: لا أؤمن بك يا محمَّد أبداً حتى تتَّخذ سلماً إلى السماء ثمَّ ترقى فِيهِ وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخةٍ منشورةٍ معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنَّك كما تقول فقال الله سبحانه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رسولاً} أَيْ: إنَّ هذه الأشياء ليس في قوى البشر

94

{وما منع الناس} يعني: أهل مكَّة {أن يؤمنوا} أَيْ: الإِيمان {إذ جاءهم الهدى} البيان وهو القرآن {إلاَّ أن قالوا} إلاَّ قولهم فِي التَّعجب والإِنكار: {أَبَعَثَ اللَّهُ بشراً رسولاً} أَيْ: هلاَّ بعث مَلَكاً فقال الله تعالى:

95

{قل لو كان في الأرض} بدل الآدميين {ملائكة يمشون مطمئنين} مستوطنين الأرض {لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} يريد: إنَّ الأبلغ في الأداء إليهم بشر مثلهم وقوله تعالى:

96

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كان بعباده خبيراً بصيرا}

97

{ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً} يمشيهم الله سبحانه على وجوههم عُمياً لا يرون شيئاً يسرُّهم {وَبُكْمًا} لا ينطقون بحجَّةٍ {وصماً} لا يسمعون شيئاً يسرُّهم {كلما خبت} أَيْ: سكن لهبها {زدناهم سعيراً} نادرا تتسعر

98

{ذلك جزاؤهم} هذه الآية مفسَّرة في هذه السُّورة

99

{أَوَلَمْ يروا} أَوَلَمْ يعلموا {أنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على أن يخلق مثلهم} أَيْ: يخلقهم ثانياً وأراد ب {مثلهم} إيَّاهم وتمَّ الكلام ثمَّ قال: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا ريب فيه} يعني: أجل الموت وأجل القيامة {فأبى الظالمون} المشركون {إلاَّ كفوراً} جحوداً بذلك الأجل وهو البعث والقيامة

100

{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} خزائن الرِّزق {إذاً لأمسكتم} لبخلتم {خشية الإنفاق} أن تتفقوا فتفقروا {وكان الإِنسان قتوراً} بخيلاً ثمَّ ذكر قصَّة موسى عليه السَّلام وما آتاه من الآيات وإنكار فرعون ذلك فقال:

101

{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} وهي العصا واليد وفلق البحر والطمسة وهي قوله: {ربَّنا اطمسْ على أموالِهم} والطُّوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدَّم {فاسأل} يا محمد {بني إسرائيل} المؤمنين من قريظة والنَّضير {إذا جاءهم} يعني: جاء آباءَهم وهذا سؤال استشهاد ليعرف اليهود صحَّة ما يقول محمَّد عليه السَّلام بقول علمائهم {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مسحوراً} ساحراً فقال موسى عليه السَّلام:

102

{لقد علمت ما أنزل هؤلاء} الآيات {إلاَّ رب السماوات والأرض بصائر} عبراً ودلائل {وإني لأظنك} لأعلمك {يا فرعون مثبوراً} ملعوناً مطروداً

103

{فأراد} فرعون {أن يستفزهم} يخرجهم يعني: موسى وقومه {من الأرض} أرض مصر وقوله:

104

{فإذا جاء وعد الآخرة} يريد: يوم القيامة {جئنا بكم لفيفاً} مُجتمعين مُختلطين

105

{وبالحق أنزلناه} أَيْ: أنزلنا القرآن بالدِّين القائم والأمر الثَّابت {وبالحق نزل} وبمحمَّد نزل القرآن أَيْ: عليه نزل كما تقول: نزلتُ بزيدٍ

106

{وقرآناً فرقناه} قطعناه آيةً وسورةً سورةً في عشرين سنة {لتقرأه على الناس على مكث} تودة وَتَرسُّلٍ ليفهموه {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} نجوماً بعد نجومٍ وشيئاً بعد شيءٍ

107

{قل} لأهل مكَّة: {آمَنُوا} بالقرآن {أَوْ لا تؤمنوا} به وهذا تهديد أَيْ: فقد أنذر الله وبلَّغ رسوله {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} من قبل القرآن يعني: ناساً من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم خرُّوا سُجَّداً وقوله:

108

{إن كان وعد ربنا لمفعولاً} أَيْ: وعده بإنزال القرآن وبعث محمِّد عليه السَّلام لمفعولاً

109

{ويخرون للأذقان يبكون} كرَّر القول لتكرُّر الفعل منهم {ويزيدهم} القرآن {خشوعاً}

110

{قل ادعوا الله} الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: يا الله يا رحمان فسمع ذلك أبو جهل فقال: إنَّ محمداً ينهاناً أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله يقال له الرَّحمن فأنزل الله سبحانه: {قل} يا محمد {ادعوا الله} يا معشر المؤمنين {أو ادعوا الرحمن} إن شئتم قولوا: يا الله وإن شئتم قولوا: يا رحمان {أياً ما تدعوا} أَيَّ أسماءِ اللَّهِ تَدْعُوا {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} بقراءتك فيسمعها المشركون فيسبُّوا القرآن {ولا تخافت بها} ولا تُخفها عن أصحابك فلا تسمعهم {وابتغِ بين ذلك سبيلاً} اسلك طريقاً بين الجهر والمخافتة وقوله:

111

{ولم يكن له وليٌّ من الذل} لم يكن وليٌّ ينصره ممَّن استّذلَّه من البشر {وكبره تكبيراً} عظمه عظمةً تامَّةً

سورة الكهف

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ولم يجعل له عوجاً} اختلافاً والتباساً

2

{قيماً} مستقيماً يريد: أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً {لينذر} الكافرين {بأساً} عذاباً {شديداً من لدنه} من قِبَلِه وقوله: {أجراً حسناً} يعني: الجنة

3

{لينذر} بعذابِ الله {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وهو اليهود والنَّصارى

4

{ما لهم به} بذلك القول {من علمٍ} لأنَّهم قالوه جهلاً وافتراءً على الله {ولا لآبائهم} الذين قالوا ذلك {كبرت كلمة} مقالتهم تلك كلمة

5

{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلا كذبا}

6

{فلعلك باخع نفسك} قاتلها {على آثارهم} على أثر تولِّيهم وإعراضهم عنك لشدَّة حرصك على إيمانهم {إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} يعني: القرآن {أسفاً} غيظاً وحزناً

7

{إنا جعلنا ما على الأرض} يعني: ما خلق في الدُّنيا من الأشجار والنبات والماء ولك ذي روح على الأرض {زينة لها} زيَّناها بما خلقنا فيها {لنبلوهم أيهم أحسن عملاَ} أزهد فيها وأترك لها ثمَّ أعلم أنَّه يُفني ذلك كلَّه فقال:

8

{وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} بلاقع ليس فيها نبات

9

{أم حسبت} بل أحسبت {أنَّ أصحاب الكهف} وهو المغارة في الجبل {والرقيم} وهو اللَّوح الذي كُتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم {كانوا من آياتنا عجباً} أَيْ: لم يكونوا بأعجب آياتنا ولم يكونوا العجب من آياتنا فقط فإنَّ آياتنا كلَّها عجب وكانت قريش سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن خبر فتيةٍ فُقدوا في الزمان الأوَّل بتلقين اليهود قريشاً ذلك فأنزل الله سبحانه على نبيِّه عليه السَّلام خبرهم فقال:

10

{إذ أوى} اذكر {الفتية إلى الكهف} هربوا إليه ممَّن يطلبهم فاشتغلوا بالدُّعاء والتَّضرُّع {فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة} أعطنا من عندك مغفرةً ورزقا {وهيئ} أصلح {لنا من أمرنا رشداً} أَيْ: أرشدنا إلى ما يُقرِّب منك

11

{فضربنا على آذانهم} سددنا آذانهم بالنَّوم {في الكهف سنين عدداً} معدودةً

12

{ثم بعثناهم} ايقظناهم من نومهم {لنعلم} لنرى {أيّ الحزبين} من المؤمنين والكافرين {أحصى} أعدُّ {لما لبثوا} للبثهم في الكهف نائمين {أمداً} غايةً وكان وقع اختلافٌ بين فريقين من المؤمنين والكافرين في قدر مدَّة فقدهم ومنذ كم فقدوهم فبعثهم الله سبحانه من نومهم ليتبيَّن ذلك

13

{نحن نقصُّ عليك نبأهم} خبرهم {بالحق} بالصِّدق {إنهم فتية} شُبَّانٌ وأحداثٌ {آمنوا بربهم وزدناهم هدى} ثبَّتناهم على ذلك

14

{وربطنا على قلوبهم} ثبتناها بالصَّبر واليقين {إذ قاموا} بين يديّ ملكهم الذي كان يفتن أهل الأديان عن دينهم {فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} كذباً وجوراً إنْ دعونا غيره

15

{هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة} يعنون: الذين عبدوا الأصنام في زمانهم {لولا} هلاَّ {يأتون عليهم} على عبادتهم {بسلطانٍ بيِّن} بحجَّةٍ بيِّنةٍ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فزعم أنَّ معه إلهاً فقال لهم تمليخا - وهو رئيسهم -:

16

{وإذ اعتزلتموهم} فارقتموهم {وما يعبدون} من الأصنام {إلاَّ الله} فإنكم لن تتركوا عبادته {فأووا إلى الكهف} صيروا إليه {ينشر لكم ربكم من رحمته} يبسطها عليكم {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} يُسهَّل لكم غذاءً تأكلونه

17

{وترى الشمس إذا طلعت تزاور} تميل عن كهفهم {ذات اليمين} في ناحية اليمين {وإذا غربت تقرضهم} تتركهم وتتجاوز عنهم {ذات الشمال} في ناحية الشِّمال فلا تصيبهم الشَّمس ألبتةَ لأنَّها تميل عنهم طالعةَ غرابة فتكون صورهم محفوظة {وهم في فجوة منه} مُتَّسعٍ من الكهف ينالهم برد الرِّيح ونسيم الهواء {ذلك} التزاور والقرض {من آيات الله} دلائل قدرته ولطفه بأصحاب الكهف {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المهتد} أشار إلى أنَّه هو الذي تولَّى هدايتهم ولولا ذلك لم يهتدوا

18

{وتحسبهم أيقاظاً} لأنَّ أعينهم مُفتَّحة {وهم رقود} نيامٌ {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} لئلا تأكل الأرض لحومهم {وكلبهم باسط ذراعيه} يديه {بالوصيد} بفناء الكهف {لو اطلعت} أشرفت {عليهم لوليت} أعرضت {منهم فراراً ولملئت منهم رعباً} خوفاً وذلك أن الله تعالى منعهم بالرُّعب لئلا يراهم أحد

19

{وكذلك} وكما فعلنا بهم هذه الأشياء {بعثناهم} أيقظناهم من تلك النَّومة التي تشبه الموت {ليتساءلوا بينهم} ليكون بينهم تساؤلٌ عن مدَّة لبثهم {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} كم مرَّ علينا منذ دخلنا الكهف؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وذلك أنَّهم دخلوا الكهف غدوةً وبعثهم الله في آخر النَّهار لذلك قالوا: يوماً فلمَّا رأوا الشمس قالوا: أَوْ بعض يوم وكان قد بقيت من النَّهار بقيةٌ فقال تمليخا: {ربكم أعلم بما لبثتم} ردَّ علم ذلك إلى الله سبحانه {فابعثوا أحدكم بورقكم} بدراهمكم {هذه إلى المدينة فلينظر أيها} أَيُّ أهلها {أزكى طعاماً} أحلّ من جهةِ أنَّه ذبيحةُ مؤمن أو من جهة أنَّه غير مغصوب وقوله: {وليتلطف} في دخوله المدينة وشراء الطَّعام حتى لا يَطَّلِع عليه أحدٌ {ولا يشعرنَّ بكم} ولا يخبرنَّ بكم ولا بمكانكم {أحداً}

20

{أنهم إن يظهروا عليكم} يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم {يرجموكم} يقتلوكم {أو يعيدوكم في ملتهم} يردُّوكم إلى دينهم {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} لن تسعدوا في الدُّنيا ولا في الآخرة إن رجعتم إلى دينهم

21

{وكذلك} وكما بعثناهم وأنمناهم {أَعْثرنا} أطلعنا {عليهم ليعلموا} ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت {أنَّ وعد الله} بالثَّواب والعقاب {حقٌّ وأنَّ الساعة} القيامة {لا ريب فيها} لا شكَّ فيها وذلك أنَّهم يستدلُّون بقصَّتهم على صحَّة أمر البعث {إذ يتنازعون} أي: اذكر يا محمد إذ يتنازع أهلُ ذلك الزَّمان أمرَ أصحاب الكهف {بينهم} وذلك أنَّهم كانوا يختلفون في مدَّة مكثهم وفي عددهم وقيل: تنازعوا فقال المؤمنون: نبني عندهم مسجداً وقال الكافرون: نُحوِّط عليهم حائطاً يدلُّ على هذاقوله: {ابنوا عليهم بنياناً} استروهم عن النَّاس ببناءٍ حولهم وقوله: {ربُّهم أعلم بهم} يدلُّ على أنَّه وقع تنازعٌ في عدَّتهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} وهم المؤمنون وكانوا غالبين في ذلك الوقت {لنتخذنَّ عليهم مسجداً} فذكر في القصَّة أنّه جعل على باب الكهف مسجد يصلَّى فيه

22

{سيقولون ثلاثة} الآية أخبر الله تعالى عن تنازعٍ يجري في عدَّة أصحاب الكهف فجرى ذلك بالمدينة حين قدم وفد نصارى نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبيَّة منهم: كانوا ثلاثةً رابعُهم كلبهم وقالت النِّسطورية: كانوا خمسةً سادسهم كلبهم وقال المسلمون: كانوا سبعةً وثامنهم كلبهم فقال الله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قليل} من النَّاس قال ابن عباس: أنا في ذلك القليل ثمَّ ذكرهم بأسمائهم فذكر سبعة {فلا تمار} فلا تجادل في أصحاب الكهف {إلاَّ مراءً ظاهراً} بما أنزل عليك أي: أَيْ أَفتِ في قصَّتهم بالظَّاهر الذي أنزل إليك وقل: لا يعلمهم إلاَّ قليل كما أنزل الله {ما يعلمهم إلاَّ قليل} {ولا تستفت فيهم} في أصحاب الكهف {منهم} من أهل الكتاب {أحداً}

23

{ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غداً}

24

{إلا أن يشاء الله} هذا تأديبٌ من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وأمرٌ له بالاستثناء بمشيئة الله سبحانه فيما يعزم يقول: إذا قلت لشيءٍ: إني فاعله غداً فقل: إن شاء الله {واذكر ربك إذا نسيت} أراد: إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله سبحانه فاذكره وقله إذا تذكَّرت {وقل عسى أن يهدين ربي} أَيْ: يعطيني ربِّي من الآيات والدّلالات على النُّبوَّة ما يكون أقرب في الرُّشد وأدلَّ من صحَّة قصَّة أصحاب الكهف ثمَّ فعل الله به ذلك حيث أتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم ثمَّ أخبر عن قدر مدَّة لبثهم في الكهف بقوله:

25

{ولبثوا في كهفهم} منذ دخلوه إلى أن بعثهم الله {ثلاث مائة سنين وازدادوا} بعدها تسع سنين

26

{قل} يا محمد: {الله أعلم بما لبثوا} ممَّن يختلف في ذلك {له غيب السماوات والأرض} علم ما غاب فيهما عن العباد {أَبْصِرْ به وأسمع} ما أبصرَ الله تعالى بكلِّ موجودٍ وأسمعَه تعالى لكلِّ مسموعٍ {ما لهم} لأهل السماوات والأرض {من} دون الله {من ولي} ناصرٍ {ولا يشرك} الله {فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} فليس لأحدٍ أن يحكم بحكمٍ لم يحكمْ به الله

27

{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} اتَّبع القرآن {لا مبدِّل لكلماته} لا مغيِّر للقرآن {ولن تجد من دونه ملتحداً} أَيْ: ملجأ

28

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} مفسر فِي سورة الأنعام إلى قوله: {وَلا تَعْدُ عيناك عنهم} أَيْ: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والرُّتبة {تريد زينة الحياة الدنيا} تريد مجالسة الأشراف {ولا تطع} في تنحية الفقراء عنك {من إغفلنا قلبه عن ذكرنا} جعلناه غافلاً {وكان أمره فرطاً} أَيْ: ضَياعاً هلاكاً لأنَّه ترك الإِيمان والاستدلال بآيات الله تعالى واتَّبع هواه

29

{وقل} يا محمَّد لمن جاءك من النَّاس: {الحق من ربكم} يعني: ما آتيتكم به من الإِسلام والقرآن {فمن شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر} تخييرٌ معناه التَّهديد {إنا أعتدنا} هيَّأنا {للظالمين} الذين عبدوا غير الله تعالى {ناراً أحاط بهم سرادقها} وهو دخان يحيط بالكفَّار يوم القيامة {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا} مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ والعطش {يُغاثوا بماءٍ كالمهل} كمذاب الحديد والرَّصاص في الحرارة {يشوي الوجوه} حتى يسقط لحمها ثمَّ ذمَّه فقال: {بئس الشراب} هو {وساءت} النَّار {مرتفقاً} منزلاً ثمَّ ذكر ما وعد المؤمنين فقال:

30

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نضيع أجر مَنْ أحسن عملاً} وقوله:

31

{يحلون فيها من أساور من ذهب} يحلى كلك مؤمنٍ واحدٍ بسوارين من ذهبٍ وكانت الأساورة من زينة الملوك في الدُّنيا وقوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} وهما نوعان من الحرير والسُّندس: ما رقَّ والاستبرق: ما غلط {متكئين فيها على الأرائك} وهي السُّرر في الحجال {نعم الثواب} طاب ثوابهم {وحسنت} الأرائك {مرتفقاً} موضع ارتفاق أَيْ: اتِّكاءً على المرفق فيه

32

{واضرب لهم مثلاً رجلين} يعني: ابني ملكٍ كان فِي بني إسرائيل تُوفِّي وتركهما فاتخذ أحدهما القصور والأجنَّة والآخر كان زاهداً فِي الدُّنيا راغباً فِي الآخرة فكان إذاعمل أحوه شيئاً من زينة الدُّنيا أخذ الزَّاهد مثل ذلك فقدَّمه لآخرته واتَّخذ به عند الله الأجنة والقصور حتى نقد ماله فضربهما الله مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النِّعمة وهو قوله: {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بنخل} وجعلنا النَّخل مُطبقاً بهما {وجعلنا بينهما} بين الجنتين {زرعاً}

33

{كلتا الجنتين آتت أكلها} أدَّت ريعها تامَّاً {ولم تظلم منه شيئاً} لم تنقص {وفجرنا خلالهما} أخرجنا وسط الجنتين {نهراً}

34

{وكان له ثمر} وكان للأخ الكافر أموال كثيرة {فقال لصاحبه} لأخيه {وهو يحاوره} يراجعه في الكلام ويُجاذبه وذلك أنَّه سأله عن ماله فيما أنفقه؟ فقال: قدَّمته بين يدي لأقدم عليه فقال: {أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً} رهطاً وعشيرةً

35

{ودخل جنته} وذلك أنَّه أخذ بيد أخيه المسلم فأخله جنَّته يطوف به فيها وقوله: {وهو ظالم لنفسه} أَيْ: بالكفر بالله تعالى {قال: ما أظنُّ أن تبيد} تهلك {هذه أبداً} أنكر أنَّ الله سبحانه يفني الدُّنيا وأنَّ القيامة تقوم فقال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى ربي} يريد: إن كان البعث حقَّاً {لأَجِدَنَّ خَيْرًا منها منقلباً} كما أعطاني هذا فِي الدُّنيا سيعطيني فِي الآخرة أفضل منه فقال له أخوه المسلم:

36

{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى ربي لأجدنَّ خيراً منها منقلباً}

37

{أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نطفة} في رحم أُمِّك {ثم سوَّاك رجلاً} جعلك معتدل الخلق والقامة

38

{لكنا} لكن أنا {هو الله ربي} الآية

39

{ولولا} وهلاَّ {إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي: الأمر ما شاء الله أَيْ: بمشيئة الله تعالى: {لا قوة إلاَّ بالله} لا يقوى أحدٌ على ما فِي يديه من ملكٍ ونعمةٍ إلا بالله وهذه توبيخٌ من المسلم للكافر على مقالته وتعليمٌ له ما يجب أن يقول ثم رجع إلى نفسه فقال: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا}

40

{فعسى ربي أن يؤتين} في الآخرة أو في الدُّنيا {خيراً من جنتك ويرسل عليها} على جنَّتك {حسباناً من السماء} عذاباً يرميها به من بَرَدٍ أو صاعقةٍ {فتصبح صعيداً زلقاً} أرضاً لا نبات فيها

41

{أو يصبح ماؤها} يعني: النهر خلالهما {غوراً} غائراً ذاهباً فِي الأرض {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ} لا تقوى {له طلباً} لا يبقى له أثرٌ تطلبه

42

{وأحيط بثمره} وأهلكت أشجاره المثمرة {فأصبح يقلب كفيه} يضرب يديه واحدةً على الأخرى ندامةً {على ما أنفق فيها وهي خاوية} ساقطةٌ {على عروشها} سقوفها وما عرش للكروم {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} تنمى أنَّه كان مُوحِّداً غير مشركٍ حين لم ينفعه التَّمني

43

{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} لم ينصره النَّفر الذين افتخر بهم حين قال: {وأعزُّ نفراً} {وما كان منتصراً} بأن يستردَّ بدل ما ذهب منه ثمَّ عاد الكلام إلى ما قبل القصة فقال:

44

{هنالك} عند ذلك يعني: يوم القيامة {الولاية لله الحق} يتولَّون الله ويؤمنون يه ويتبرَّؤون ممَّا كانوا يعبدون {هو خير ثواباً} أفضل ثواباً ممَّن يُرجى ثوابه {وخير عقباً} أَيْ: عاقبةُ طاعته خيرٌ من عاقبة طاعة غيره

45

{واضرب لهم} لقومك {مثل الحياة الدنيا كماء} أَيْ: هو كَمَاءٍ {أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض} أَيْ: شرب منه فبدا فيه الرِّيّ {فأصبح} أي: النَّبات {هشيماً} كسيراً مُتفتِّتاً {تذروه الرياح} تحمله وتفرِّقه وهذه الآية مختصرةٌ من قوله تعالى {إنما مثل الحياة الدنيا} الآية {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من الإنشاء والإِفناء {مقتدراً} قادراً أنشأ النَّبات ولم يكن ثمَّ أفناه

46

{المال والبنون زينة الحياة الدنيا} هذا ردٌّ على الرؤساء الذي كانوا يفتخرون بالمال والأبناء أخبر الله سبحانه أنَّ ذلك ممَّا يُتزيَّن به فِي الحياة الدُّنيا ولا ينفع في الآخرة {والباقيات الصالحات} ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الصَّلوات والأذكار والأعمال الصالحة {خير عند ربك ثواباً} أفضل ثواباً وأفضل أملاً من المال والبنين

47

{ويوم} واذكر يوم {نسيّر الجبال} عن وجه الأرض كما نُسيِّر السَّحاب {وترى الأرض بارزة} ظاهرةً ليس عليها شيءٌ {وحشرناهم} المؤمنين والكافرين {فلم نغادر} ونترك {منهم أحداً}

48

{وعرضوا على ربك} يعني: المحشورين {صفاً} مصفوفين كلُّ زمرةٍ وأمَّةٍ صفٌّ ويقال لهم: {لقد جئتمونا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} حُفاةً عُراةً فرادى {بل زعمتم} خطاب لنكري البعث {ألن نجعل لكم موعداً} للبعث والجزاء

49

{وضع الكتاب} وُضع كتاب كلِّ امرئ فِي يمينه أو شماله {فترى المجرمين} المشركين {مشفقين ممَّا فيه} خائفين ممَّا فيه من الأعمال السيئة {وَيَقُولُونَ} لوقوعهم في الهلكة: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ} لا يترك {صغيرة} من أعمالنا {ولا كبيرة إلاَّ أحصاها} أثبتها وكتبها {ووجدوا ما عملوا حاضراً} في الكتاب مكتوباً {ولا يظلم ربك أحداً} لا يعاقب أحداً بغير جرمٍ ثمَّ أمر نبيَّه عليه السَّلام أن يذكر لهؤلاء المُتكبِّرين عن مجالسة الفقراء قصَّة إبليس وما أورثه الكبر فقال:

50

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إبليس كان من الجن} أَيْ: من قبيلٍ من الملائكة يُقال لهم: الجنُّ {ففسق} خرج {عن أمر ربه} إلى معصيته في ترك السُّجود {أفتتخذونه وذريته} أولاده وهو الشَّياطين {أولياء من دوني} تطيعونهم في معصيتي {وهم لكم عدوٌّ} كما كان لأبيكم عدواً {بئس للظالمين بدلاً} بئس ما استبدلوا بعبادة الرَّحمن طاعة الشَّيطان

51

{ما أشهدتهم} ما أحضرتهم يعني: إبليس وذريَّته {خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} أخبر عن كمال قدرته واستغنائه عن الأنصار والأعوان فيما خلق {وما كنت متخذ المضلين عضداً} أنصاراً وأعواناً لاستغنائي بقدرتي عن الأنصار

52

{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} الآية يقول الله تعالى يوم القيامة: ادعوا الذين أشركتم بي ليمنعوكم من عذابي {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم} بين المشركين وأهل لا إله إلا الله {موبقاً} حاجزاً

53

{ورأى المجرمون} المشركون {النار فظنوا} أيقنوا {أنهم مواقعوها} واردوها وداخلوها {ولم يجدوا عنها مصرفاً} مهرباً لإحاطتها بهم من كلِّ جانبٍ وقوله:

54

{وكان الإِنسان} الكافر {أكثر شيء جدلاً} قيل: هو أبي بن خل وقيل: النَّضر بن الحارث

55

{وما منع الناس} أهل مكَّة {أن يؤمنوا} الإِيمان {إذ جاءهم الهدى} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن {إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين} العذاب يعني: إنَّ الله تعالى قدَّر عليهم العذاب فذلك الذي منعهم من الإِيمان {أو يأتيهم العذاب قبلاً} عياناً يعني: القتل يوم غدر وقوله:

56

{ويجادل الذين كفروا بالباطل} يريد المُستهزئين والمقتسمين جادلوا في القرآن {ليدحضوا} ليبطلوا {به} بجدالهم {الحق} القرآن {واتخذوا آياتي} القرآن {وما أنذروا} به من النَّار {هزواً}

57

{ومن أظلم ممن ذكّر} وُعظ {بآيات ربه فأعرض عنها} فتهاون بها {ونسي ما قدَّمت يداه} ما سلف من ذنوبه وباقي الآية سبق تفسيره وقوله:

58

{بل لهم موعد} يعني: البعث والحساب {لن يجدوا من دونه مَوْئِلاً} ملجأ

59

{وتلك القرى} يريد: القرى التي أهلكها بالعذاب {أهلكناهم} أهلكنا أهلها {لما ظلموا} أشركوا وكذَّبوا الرُّسل {وجعلنا لمهلكهم} لإِهلاكهم {موعداً}

60

{وإذ قال موسى} واذكر إذ قال موسى لما في قصَّته من العبرة {لفتاه} يوشع بن نون: {لا أبرح} لا أزال أسير {حتى أبلغ مجمع البحرين} حيث يلتقي بحر الروم وبحر فارس {أو أمضي} إلى أن أمضي {حقباً} دهراً طويلاَ وذلك أنَّ رجلاً أتى إلى موسى عليه السَّلام فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال: لا فأوحى الله تعالى إليه: بلى عبدنا خضر فسأل موسى عليه السَّلام السبيل إلى لُقيِّه فجعل الله تعالى له الحوت آيةً وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنَّك ستلقاه فانطلق هو وفتاه حتى أتيا الصَّخرة التي عند مجمع البحرين فقال لفتاه: امكث حتى آتيك وانطلق موسى لحاجته فجرى الحوت حتى وقع فِي البحر فقال فتاه: إذا جاء نبيُّ الله حدَّثته فأنساه الشَّيطان فذلك قوله:

61

{فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوْتَهُما} أراد: نسي أحدهما: وهو يوشع ابن نون {فاتخذ سبيله} اتَّخذ الحوت سبيله {في البحر سرباً} ذهاباً والمعنى: سرب سريا والآية على التّقديم والتَّأخير لأنَّ ذهاب الحوت كان قد تقدَّم على النِّسيان

62

{فلما جاوزا} ذلك المكان الذي ذهب الحوت عنه {قال لفتاه آتنا غداءنا} ما نأكله بالغداة {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} عناءً وتعباً ولم يجد النَّصب في جميع سفره حتى جاوز الموضع الذي يريده فقال الفتى:

63

{أرأيت إذْ أوينا إلى الصخرة} يعني: حيث نزلا {فإني نسيت الحوت} نسيت قصَّة الحوت أن أُحدِّثكها ثمَّ اعتذر بإنساء الشَّيطان إيَّاه لأنَّه لو ذكر ذلك لموسى عليه السَّلام ما جاوز ذلك الموضع وما ناله النَّصب ثمَّ ذكر قصَّته فقال: {واتخذ سبيله في البحر عجباً} أَي: أعجب عجباً أخبر عن تعجُّبه من ذلك فقال موسى عليه السَّلام:

64

{ذلك ما كنا نبغ} نطلب ونريد من العلامة {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} رجعا من حيث جاءا {قصصاً} يقصَّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصَّخرة التي فعل الحوت عندها ما فعل

65

{فوجدا عبداً من عبادنا} يعني: الخضر عليه السَّلام {آتيناه رحمة من عندنا} نبوَّة {وعلمناه من لدنا علماً} أعطيناه علماً من علم الغيب وقوله:

66

{رشداً} أَيْ: علماً ذا رشدٍ والتَّقدير: على أن تعلِّمني علماً ذا رشدٍ مما علمته

67

{إنك لن تستطيع معي صبراً} لن تصبر على صنيعي لأنِّي عُلِّمت غيب ربِّي ثمَّ أعلمه العلَّة فِي ترك الصَّبر فقال:

68

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خبراً} أَيْ: على ما لم تعلمه من أمرٍ ظاهره منكرٌ

69

{قال} له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صابراً} لا أسألك عن شيءٍ حتى تكون أنت تحدِّثني به {ولا أعصي لك أمراً} ولا أخالفك في شيء

70

{قال} له الخضر عليه السَّلام: {فإن اتبعتني} صحبتني {فلا تسألني عن شيء} ممَّا أفعله {حتى أحدث لك منه ذكراً} حتى أكون أنا الذي أُفسِّره لك

71

{فانطلقا} ذهبا يمشيان {حتى إذا ركبا} البحر {في السفينة خرقها} شقَّها الخضر وقلع لوحين ممَّا يلي الماء فـ {قال} موسى منكراً عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شيئاً إمراً} أَيْ: عظيماً منكراً

72

فـ {قال} الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صبراً} فقال موسى:

73

{لا تؤاخذني بما نسيت} أَيْ: تركت من وصيتك {ولا ترهقني من أمري عسرا} لا تضيق عليَّ الأمر في صحبتي إيَّاك

74

{فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله} أَيْ: ضربه فقضى عليه وقوله: {نفساً زكية} أَيْ: طاهرةً لم تبلغ حدَّ التَّكليف {بغير نفس} بغير قود وقوله:

75

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صبرا}

76

{إن سألتك} سؤال توبيخٍ وإنكارٍ {عن شيء بعدها} بعد النَّفس المقتولة {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بلغت من لدني عذراً} أعذرت فيما بيني وبينك حيث أخبرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً

77

{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية} وهي أنطاكية {استطعما أهلها} سألاهم الطَّعام {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} فلم يطعموهما {فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض} قَرُبَ أَن يسقط لميلانه {فأقامه} فسوَّاه فقال موسى: {لو شئت لاتخذت} على إقامته {أجراً} جُعلاً حيث أبوا أن يطعمونا

78

{قال} الخضر: {هذا} وقت {فراق بيني وبينك} إنِّي لا أصحبك بهد هذا وأخبرك بتفسير ما لم تصبر عليه وأنكرته عليَّ

79

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فأردت أن أعيبها} أجعلها ذات عيب {وكان وراءهم} أمامهم {ملك يأخذ كلَّ سفينة} صالحة {غضبا}

80

{وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا} فكرهنا {أن يرهقهما} يُكلِّفهما {طغياناً وكفراً} ويحملهما حبُّه على أن يتَّبعاه ويدينا بدينه وكان الغلام كافراً

81

{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} صلاحاً {وأقرب رحماً} وأبرَّ بوالديه وأوصل للرَّحم

82

{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} يعني: في تلك القرية {وكان تحته كنز لهما} من ذهبٍ وفضَّةٍ ولو سقط الجدار أُخذ الكنز {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} أراد الله سبحانه أن يبقى ذلك الكنز إلى بلوغ الغلامين حتى يستخرجاه {وما فعلته عن أمري} أي: انكشف لي من الله سبحانه علمٌ فعملت به ولم أعلم من عند نفسي

83

{ويسألونك} يعني: اليهود وذلك أنَّهم سألوه عن رجلٍ طوَّافٍ بلغ شرق الأرض وغربها

84

{إنا مكنا له في الأرض} سهلنا على السَّير فيها وذلَّلنا له طرقها {وآتيناه من كلِّ شيء} يحتاج إليه {سبباً} علماً يتسبَّب به إلى ما يريد

85

{فأتبع سبباً} طريقاً يوصله إلى مغيب الشَّمس

86

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ في عين حمئة} ذات حمأةٍ وهو الطِّين الأسود {ووجد عندها} عند العين {قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تعذب} إمَّا أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه {وإمَّا أن تتخذ فيهم حسناً} تأسرهم فتعلِّمهم الهدى خيَّره الله تعالى بين القتل والأسر فقال:

87

{أما من ظلم} أشرك {فسوف نعذبه} نقتله إذا لم يرجع عن الشِّرك {ثُمَّ يرد إلى ربه} بعد القتل {فيعذبه عذاباً نكراً} يعني: فِي النَّار

88

{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الحسنى} الجنَّة {وسنقول له من أمرنا يسراً} نقول له قولاً جميلاً

89

{ثم أتبع سبباً} سلك طريقاً آخر يوصله إلى المشرق

90

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قوم} عُراةٍ {لم نجعل لهم من} دون الشمس {ستراً} سقفاً ولا لباساً

91

{كذلك} القبيل الذين كانوا عند مغرب الشَّمس في الكفر {وقد أحطنا بما لديه} من الجنود والعدَّة {خبراً} علماً لأنَّا أعطيناه ذلك

92

{ثم أتبع سبباً} ثالثاً يُبلِّغه قطراً من أقطار الأرض

93

{حتى إذا بلغ بين السدين} وهما جبلان سدَّ بينهما ذو القرنين {وجد من دونهما} عندهما {قوماً لا يكادون يفقهون قولاً} لا يفهمون كلاماً فاشتكوا إليه فساد يأجوج ومأجوج وأذارهم إياهم وهو قوله:

94

{إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض} بالنَّهب والبغي {فهل نجعل لك خرجاً} جعلاً {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}

95

{قال: ما مكني فيه ربي خير} أي: كالذي أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم {فأعينوني بقوة} بعملٍ تعملون معي {أجعل بينكم وبينهم ردماً} سدَّاً حاجزاً

96

{آتوني} أعطوني {زبر} قطع {الحديد} فأتوه بها فبناه {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصدفين} جانبي الجبلين {قال انفخوا} على زُبر الحديد قطع الحديد بالكير والنَّار {حتى إذا جعله ناراً} جعل الحديد ناراً أَيْ: كنارٍ {قال آتوني} قطراً: وهو النُّحاس الذَّائب {أفرغ عليه} أصبُّ عليه فأفرغ النُّحاس المذاب على الحديد المحمى حتى التصق بعضه ببعض

97

{فما اسطاعوا أن يظهروه} ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وملاسته {وما استطاعوا} أن ينقبوه من أسفله لصلابته

98

{قال} ذو القرنين لمَّا فرغ منه: {هذا رحمة من ربي} يعني: التَّمكين من ذلك البناء والتَّقوية عليه {فإذا جاء وعد ربي} أجل ربي بخروج يأجوج مأجوج {جعله دكاً} كِسَراً {وكان وعد ربي} بخروجهم {حقاً} كائناً

99

{وتركنا بعضهم} يعني: الخلق من الإِنس والجنِّ {يومئذ} يوم القيامة {يموج في بعض} يدخل ويختلط {ونفخ في الصور} وهو القرن الذي يُنفخ فيه للبعث {فجمعناهم} في صعيدٍ واحدٍ

100

{وعرضنا} أظهرنا {جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا}

101

{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غطاء} في غشاوةٍ {عن ذكري} أَيْ: كانوا لا يعتبرون بآياتي فيذكرونني بالتَّوحيد {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} لعدواتهم النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلوا عليهم

102

{أفحسب} أفظنّ {الذين كفروا أن يتخذوا عبادي} الشَّياطين {من دوني أولياء} نفعهم ذلك ودفعوا عنهم كلا {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً} منزلاً

103

{قل هل ننبئكم} نخبركم {بالأخسرين أعمالاً} بالذين هم أشدُّ الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا

104

{الذين ضل سعيهم} حبط عملهم {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنعاً} يظنُّون أنَّهم بعملهم مُطيعون ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال:

105

{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} بدلائل توحيده من القرآن وغيره {ولقائه} يعني: البعث {فحبطت أعمالهم} بطل اجتهادهم {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وزناً} أَيْ: نهينهم النَّار ولا نعبأ بهم شيئا وقوله:

106

{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي ورسلي هزوا}

107

{جنات الفردوس} وهو وسط الجنَّة وأعلاها درجةً وقوله:

108

{لا يبغون عنها حولاً} لا يريدون أن يتحوَّلوا عنها

109

{قل لو كان البحر مداداً} وهو ما يكتب به {لكلمات ربي} أَيْ: لكتابتها وهي حِكَمُه وعجائبه والكلمات: هي العبارات عنها {لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله} بمثل البحر {مداد} زيادة على البحر

110

{قل إنما أنا بشر مثلكم} آدميٌّ مِثْلُكُمْ {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فمن كان يرجو لقاء ربه} ثواب ربه {فليعمل عملاً صالحاً} خالصاً {ولا يشرك} ولا يراءِ {بعبادة ربه أحداً} نزلت هذه الآية في النَّهي عن الرِّياء بالأعمال

سورة مريم

{كهيعص} معناه: الله كَافٌّ لِخَلْقِهِ هَادٍ لِعِبَادِهِ يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ عالمٌ ببريَّته صادقٌ في وعده

2

{ذكر} هذا ذكر {رحمة ربك عبده زكريا} أَيْ: هذا القول الذي أنزلت عليك ذكر رحمة الله سبحانه عبده بإجابة دعائه لمَّا دعاه وهو قوله:

3

{إذ نادى ربه} دعا ربه {نداء خفياً} سرَّاً لم يطَّلعْ عليه غير الله

4

{قال رب إني وهن} ضعف {العظم مني} أَيْ: عظمي {واشتعل الرأس شيباً} وكثر شيب رأسي جداً {ولم أكن بدعائك} بدعائي إيَّاك {ربي شقياً} أَيْ: كنت مستجاب الدَّعوة قد عوَّدتني الإِجابة

5

{وإني خفت الموالي} الأقارب وبني العمِّ والعصبة {من ورائي} من بعدي ألاَّ يحسنوا الخلافة لي في دينك {وكانت امرأتي} فيما مضى من الزَّمان {عاقراً} لم تلد {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} ابناً صالحاً

6

{يرثني ويرث من آل يعقوب} العلم والنُّبوَّة {واجعله ربِّ رَضِيّاً} مرضياً فاستجاب الله تعالى دعاءه وقال:

7

{يا زكريا إنا نبشرك بغلام} ولدٍ ذكرٍ {اسمه يحيى} لأنَّه يحيا بالعلم والطَّاعة {لم نجعل له من قبل سمياً} لم يُسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم فأحبَّ زكريا أن يعلم من أيِّ جهةٍ يكون له الولد ومثلُ امرأته لا تلد ومثله لا يولد له فقال: {رب أنى يكون لي غلام} ولدٌ

8

{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عتياً} أَيْ: يُبوساً وانتهاءً في السِّنِّ

9

{قال} جبريل عليه السَّلام: {كذلك} أَيْ: الأمر كما قيل لك {قال ربك هو عليَّ هيَّنٌ} أردُّ عليك قوَّتك حتى تقوى على الجماع وأفتق رحم امرأتك بالولد {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قبل} يعني: من قبل يحيى {ولم تك شيئاً}

10

{قال رب اجعل لي آية} على حمل امرأتي {قال آيَتُكَ أن لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً} أَيْ: تمنع الكلام وأنت سويٌّ صحيحٌ سليمٌ فتعلم بذلك أنَّ الله قد وهب لك الولد

11

{فخرج على قومه} وذلك أنَّهم كانوا ينتظرونه فخرج عليهم ولم يقدر أن يتكلَّم {فأوحى إليهم} أشار إليهم {أن سبحوا} صلُّوا لله تعالى {بكرة وعشياً} فوهبنا له يحيى وقلنا:

12

{يا يحيى خذ الكتاب} التوارة {بقوة} أعطيتكها وقوَّيتك على حفظها والعمل بما فيها {وآتيناه الحكم صبياً} النُّبوَّة في صباه

13

{وحناناً} وآتيناه حناناً: رحمةً {من لدنا وزكاةً} تطهيراً وقوله:

14

{جباراً} أيْ قتَّالاً مُتكبِّراً {عصياً} عاصياً لربِّه

15

{وسلامٌ عليه} سلامةٌ له منَّا في الأحوال التي ذكرها يريد أنَّ الله سبحانه سلَّمه في هذه الأحوال

16

{واذكر} يا محمَّد {في الكتاب مريم إِذِ انتبذت} تنحَّت من أهلها {مكاناً شرقياً} من جانب الشَّرق وذلك أنَّها أرادت الغسل من الحيض فاعتزلت في ناحيةٍ شرقيةٍ من الدَّار

17

{فاتخذت من دونهم حجاباً} تتستَّر به عنهم {فأرسلنا إليها روحنا} جبريل عليه السَّلام {فتمثَّل} فتصوَّر {لها بشراً} آدمياً {سويَّاً} تامَّ الخلق

18

{قالت إني أعوذ بالرحمن منك} أيُّها البشر {إن كنت تقيّاً} مُؤمناً مُطيعاً فستنتهي عني بتعوُّذي بالله سبحانه منك

19

{قال} جبريل عليه السَّلام: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زكياً} ولداً صالحاً نبيَّاً

20

{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بشر} ليس لي زوجٌ {ولم أك بغيا} وليس بزانيةٍ

21

{قال كذلك} أَيْ: الأمر كما وصفت لك {قال ربك هو علي هين} أن أهب لكِ غلاماً من غير أبٍ {ولنجعله آية} علامةً للنَّاس على قدرة الله تعالى {ورحمةً منا} لمّنْ تبعه على دينه {وكان} ذلك {أمراً مقضيّاً} قضيت به في سابق علمي فرفع جبريل عليه السَّلام جانب درعها فنفخ في جيبها فحملت بعيسى عليه السَّلام وذلك قوله سبحانه:

22

{فحملته فانتبذت به} تباعدت بالحمل {مكاناً قصياً} بعيداً من أهلها في أقصى وادي بيت لحم وذلك أنَّها لمَّا أحسَّت بالحمل هربت من قومها مخالفة اللائمة

23

{فَأَجاءَها المخاض} وجع الولادة {إلى جذع النخلة} وذلك أنَّها حين أخذها الطَّلق صعدت أكمة فإذا عليها جذع نخلةٍ وهو ساقها ولم يكن لها سعفٌ فسارت إليها وقالت جزعاً ممَّا أصابها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} اليوم وهذا الأمر {وكنت نسياً منسياً} شيئاً متروكاً لا يُعرف ولا يُذكر فلمَّأ رأى جبريل عليه السَّلام وسمع جزعها وناداها من تحت الأكمة وهو قوله:

24

{فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} نهر ماءٍ جارٍ وكان تحت الأكمة نهرٌ قد انقطع الماء منه فأرسل الله سبحانه الماء فيه لمريم

25

{وهزي} وحرِّكي {إليك} إلى نفسك {بجذع النخلة تُسَاقط} النَّخلة {عليك رطباً جنياً} غضَّاً ساعةَ جُني وذلك أنَّ الله تعالى أحيا لها تلك النَّخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت

26

{فكلي} من الرُّطب {واشربي} من الماء السَّري {وقري عيناً} بولدك {فإمَّا ترينَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} فسألك عن ولدك ولامَك عليه {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً} صمتاً أَيْ: قولي له: إني أوجبت على نفسي لله سبحانه أن لا أتكلَّم وذلك أنَّ الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى عليه السَّلام يتكلَّم ببراءة أمِّه وهو في المهد فذلك قوله: {فلن أكلم اليوم إنسياً}

27

{فأتت به} بعيسى بعد ما طهرت من نفاسها {قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شيئاً فرياً} عظيماً منكراً ولداً من غير أبٍ!

28

{يا أخت هارون} كان لها أخٌ صالحٌ من جهة أبيها يسمَّى هارون وقيل: هارون رجلٌ صالحٌ كان من أمثل بني إسرائيل فقيل لمريم: يا شبيهته في العفاف {ما كان أبوك} عمران {امْرَأَ سوء} زانٍ {وما كانت أمك} حنَّة {بغياً} زانيةً فمن أين لك هذا الولد من غير زوجٍ؟

29

{فأشارت} إلى عيس بأن يجعلوا الكلام معه فتعجَّبوا من ذلك وقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} يعني: رضيعاً في الحِجْر

30

{قال} عيسى عند ذلك: {إني عبد الله} أقرَّ عل نفسه بالعبوديَّة لله سبحانه وتعالى {آتاني الكتاب} علَّمني التَّوراة وقيل: الخطَّ

31

{وجعلني نبياً * وجعلني مباركاً} معلِّماً للخير أدعو إلى الله تعالى {أين ما كنت وأوصاني بالصلاة} أمرني بالصلاة {والزَّكاة} الطَّهارة {ما دمت حيَّاً}

32

{وبرَّاً} لطيفاً {بوالدتي}

33

{والسلام عليَّ يوم ولدت} الآية أَيْ: السَّلامة عليَّ من الله تعالى في هذه الأحوال

34

{ذلك عيسى ابنُ مريم} أَيْ: الذي قَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} الآية هو عيسى ابن مريم لا ما يقول النَّصارى مِنْ أنَّه إله وإنَّه ابن الله {قول الحق} أيْ: هذا الكلام قول الحقِّ والحقُّ: هو الله سبحانه وقيل: معنى قوله الحقِّ: أنَّه كلمةُ الله {الذي فيه يمترون} يشكُّون يعني: اليهود يقولون: إنَّه لِزَنيةٍ وإنَّه كذَّاب ساحر ويقول النَّصارى: إنَّه ابن الله

35

{وما كان لله} ما ينبغي له سبحانه {أن يتخذ من ولد} أَيْ: ولداً {سبحانه} تنزيهاً له عن ذلك {فإذا قضى أمراً} أراد كونه {فإنما يقول له كن فيكون} كما قال لعيسى: كن فكان من غير أبٍ

36

{وإنَّ الله ربي وربكم} هذا راجعٌ إلى قوله تعالى: {وأوصاني بالصَّلاة} وأوصاني بأنَّ الله ربِّي وربُّكم {فاعبدوه} {هذا} الذي ذكرت {صراط مستقيم}

37

{فاختلف الأحزاب} يعني: فرق النَّصارى {من بينهم} فيما بينهم وهم النّسطورية واليعقوبيَّة والملكانية {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يريد: مشهدهم يوم القيامة

38

{أسمع بهم وأبصر} ما أبصرهم بالهدى يوم القيامة وأطوعهم أنَّ عيسى ليس الله ولا ابن الله سبحانه ولا ثالث ثلاثة ولكن لا ينفعهم ذلك مع ضلالتهم في الدُّنيا وهو قوله: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} من أمر عيسى والقول فيه

39

{وأنذرهم} خوِّفهم يا محمَّد {يوم الحسرة} يوم القيامة حين يُذبح الموت بين الفريقين {إذْ قضي الأمر} أُحكم وفرغ منه {وهم في غفلة} في الدُّنيا من ذلك اليوم {وهم لا يؤمنون} لا يُصدِّقون به

40

{إنا نحن نرث الأرض} لأنَّا نُميت سُكَّانها {و} نرث {مَنْ عليها} لأنَّا نميتهم {وإلينا يرجعون} للثَّواب والعقاب

41

{واذكر} لقومك {في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً} مؤمناً مُؤقناً {نبياً} رسولاً رفيعا

42

{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يسمع} الدُّعاء {ولا يبصر} العبادة {ولا يغني} ولا يدفع {عنك} من عذاب الله {شيئاً}

43

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}

44

{يا أبت لا تعبد الشيطان} لا تُعطه {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} عاصياً

45

{يا أبت إني أخاف} إن متَّ على ما أنت عليه أن يصيبك {عذابٌ من الرحمن فتكون للشيطان ولياً} قريناً في النار

46

{قال} أبوه محببا له: {أراغب أنت عن آلهتي} أَزاهدٌ فيها وتارك لعبادتها؟ ! {لئن لم تنته} لئن لم يرجع عن مقالتك في عيبها {لأرجمنك} لأشتمنَّك {واهجرني ملياً} زماناً طويلاً من الدَّهر

47

{قال} إبراهيم: {سلام عليك} أَيْ: سلمتَ مني لا أصيبك بمكروه وهذا جواب الجاهل كقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} {سأستغفر لك ربي} كان هذا قبل أن نُهي عن استغفاره وعده ذلك رجاء أن يُجاب فيه {إنه كان بي حفياً} بارَّاً لطيفاً

48

{وأعتزلكم وما تدعون} أُفارقكم وأُفارق ما تعبدون من أصنامكم {وأدعو ربي} أعبده {عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا} بعبادته {شقياً} كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام يريد: إنَّه يتقبَّل عبادتي ويُثيبني عليها

49

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وذهب مهاجراً إلى الشَّام {وهبنا له} بعد الهجرة {إسحاق ويعقوب وكلاً} منهما {جعلنا} هُ {نبياً}

50

{ووهبنا لهم من رحمتنا} يعني: النُّبوَّة والكتاب {وجعلنا لهم لسان صدق علياً} ثناءً حسناً رفيعاً في كلِّ أهل الأديان

51

{واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً} مُوحِّداً قد أخلص دينه لله

52

{وناديناه من جانب الطور الأيمن} حيث أقبل من مدين يريد مصر فنودي من الشَّجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى {وقرَّبناه نجيَّاً} قرَّبة الله تعالى من السماوات للمناجاة حتى سمع صرير القلم يكتب له في الألواح

53

{ووهبنا له من رحمتنا} من نعمتنا عليه {أخاه هارون نبيَّاً} حين سأل ربَّه فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي}

54

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} إذا وعد وفَّى وانتظر إنساناً في مكانٍ وعده عنده حتى حال الحول عليه {وكان رسولاً نبيَّاً} قد بعث إلى جرحهم

55

{وكان يأمر أهله} يعني: قومه {بالصلاة والزكاة} المفروضة عليهم {وكان عند ربِّه مرضياً} لأنَّه قام بطاعته

56

{واذكر في الكتاب} القرآن {إدريس} وقصَّته {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}

57

{ورفعناه مكاناً علياً} رُفع إلى السَّماء الرَّابعة وقيل: إلى الجنَّة

58

{أولئك الذين} يعني: الذين ذكرهم من الأنبياء كانوا {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ومن ذرية من حملنا مع نوح في سفينته {ومن ذرية إبراهيم} يعني: إسحاق وإسماعيل ويعقوب {وإسرائيل} يعني: موسى وهارون {وممَّن هدينا} أرشدنا {واجتبينا} اصطفينا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبكياً} جمع باكيا أخبر الله سبحانه أنَّ هؤلاء الأنبياء كانوا إذا سمعوا بآيات الله سبحانه ويكوا من خشية الله تعالى

59

{فَخَلفَ من بعدهم} قفا بعد هؤلاء {خلف} قوم سوء يعني: اليهود والنَّصارى والمجوس {أضاعوا الصلاة} تركوا الصَّلاة المفروضة {واتبعوا الشهوات} اللَّذات من شرب الخمر والزِّنا {فسوف يلقون غياً} وهو وادٍ في جهنم

60

{إلاَّ من تاب} من الشِّرك {وآمن} وصدَّق النَّبيِّين {وعمل صالحاً} أدَّى الفرائض {فأولئك يدخلون الجنَّة ولا يظلمون شيئاً} لا يُنقصون من ثواب أعمالهم شيئاً

61

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} بالمغيب عنهم ولم يروها {إنَّه كان وعده مأتياً} يؤتي ما وعده لا محالة تأتيه أنت كما يأتيك هو

62

{لا يسمعون فيها لغواً} قبيحاً من القول {إلاَّ} لكن {سلاماً} قولاً حسناً يسلمون منه والسَّلام: اسمٌ جامعٌ للخير {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} على قدر ما يعرفون في الدُّنيا من الغداء والعشاء

63

{تلك الجنة التي نورث} نعطي وننزل {من عبادنا مَنْ كان تقياً} يتَّقي الله بطاعته واجتناب معاصيه

64

{وما نتنزل} كان جبريل عليه السَّلام قد احتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم أيَّاماً فلمَّا نزل قال له: ألاَّ زرتنا فأنزل الله سبحانه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بين أيدينا} من أمر الآخرة {وما خلقنا} ما مضى من أمر الدُّنيا {وما بين ذلك} ما يكون من هذا الوقت إلى قيام السَّاعة وقيل: {له ما بين أيدينا} : يعني: الدُّنيا {وما خلفنا} يعني: السماوات {وما بين ذلك} : الهواء {وما كان ربك نسياً} تاركاً لك منذ أبطأ عنك الوحي وقوله:

65

{هل تعلم له سمياً} ت هل تعلم أحداً يُسمَّى الله غيره؟

66

{ويقول الإِنسان} يعني: أُبيَّ بن خلف {أإذا ما متُّ لسوف أخرج حياً} يقول: هذا استهزاءً وتكذيباً بالبعث يقول: لسوف أخرج حيَّاً من قبري بعد ما مت! ؟

67

{أو لا يذكر} يتذكَّر ويتفكَّر هذا {الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئاً} فيعلم أنَّ مَنْ قدر على الابتداء قدر على الإِعادة ثمَّ أقسم بنفسه أنَّه يبعثهم فقال:

68

{فوربك لنحشرنَّهم} يعني: منكري البعث {والشياطين} قرناءهم الذين أضلوا {ثمَّ لنحضرنَّهم حول جهنم جثياً} جماعات جمع: جُثوة

69

{ثمَّ لننزعنَّ} لنخرجنَّ {من كلِّ شيعة} أُمَّةٍ وفرقةٍ {أيُّهم أشدُّ على الرحمن عتياً} الأعتى فالأعتى منهم وذلك أنَّه يبدأ في التعذيب بأشدهم عتيَّا ثمَّ الذي يليه

70

{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صلياً} أحقُّ بدخول النَّار

71

{وإنْ منكم} وما منكم من أحدٍ {إلاَّ واردُها} إلاَّ وهو يرد النَّار {كان على ربك} كان الورود على ربِّك {حتماً مقضياً} حتم بذلك وقضى

72

{ثمَّ نُنَجِّي} من النَّار {الذين اتقوا} الشِّرك {ونذر الظالمين} المشركين {فيها جثياً} أَيْ: جميعاً

73

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن وما بيَّن الله فيه {قال الذين كفروا} يعني: مشركي قريش {للذين آمنوا أَيُّ الفريقين} منَّا ومنكم {خيرٌ مقاماً} منزلاً ومسكناً {وأحسن ندياً} مجلساً وذلك أنَّهم كانوا أصحاب مالٍ وزينةٍ من الدُّنيا وكان المؤمنون أصحاب فقر ورثاثة فقال لهم: نحن أعظم شأناً وأعزُّ مجلساً وأكرم منزلاً أم أنتم؟ فقال الله تعالى:

74

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أثاثاً} متاعاً {ورئياً} منظراً من هؤلاء الكفَّار فلم يُغن ذلك عنهم شيئاً

75

{قل مَنْ كان في الضلالة} الشِّرك والجهالة {فليمدد له الرحمن مدَّاً} فإنَّ الله تعالى يمدُّ له فيها ويمهله في كفره وهذا لفظ أمرٍ معناه الخبر {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ} في الدُّنيا {وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وأضعف جنداً} أَهم أم المؤمنون؟ وذلك أنَّهم إن قُتلوا ونُصر المؤمنون عليهم علموا أنَّهم أضعف جنداً وإن ماتوا فدخلوا النَّار علموا أنَّهم شرٌّ مكاناً

76

{ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً} يزيدهم في يقينهم ورشدهم {والباقيات الصالحات} الأعمال الصالحة {خير عند ربك ثواباً} ممَّا يملك الكفَّار من المال {وخيرٌ مردَّاً} أَيْ: في المرَدِّ وهو الآخرة

77

{أفرأيت الذي كفر بآياتنا} يعني: العاص بن وائل {وقال لأوتين مالاً وولداً} وذلك أن خبايا اقتضى ديناً له عليه فقال: ألستم تزعمون أنَّ في الجنة ذهبا وفضة؟ ولئن كان ما تقولون حقَّاً فإنِّي لأفضلُ نصيباً منك فأَخِّرني حتى أقضيك في الجنَّة استهزاءً فذلك قوله: {لأوتين مالاً وولداً} يعني: في الجنَّة فقال الله تعالى:

78

{أطلع الغيب} أعلمَ علم الغيب حتى عرف أنَّه في الجنَّة {أم اتخذ عند الرحمن عهداً} أم قال: لا إله إلاَّ الله حتى يستحقَّ دخول الجنَّة؟

79

{كلا} ليس الأمر كما يقول: {سنكتب ما يقول} سيحفظ عليه ما يقول من الكفر والاستهزاء لنجاريه به {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} نزيده عذاباً فوق العذاب

80

{ونرثه ما يقول} من أنَّ في الجنَّة ذهباً وفضةً فنجعله لغيره من المسلمين {ويأتينا فرداً} خالياً من ماله وولده وخدمه

81

{واتخذوا من دون الله} يعني: أهل مكَّة {آلهة} وهي الأصنام {ليكونوا لهم عزَّاً} أعواناً يمنعونهم مني

82

{كلا} ليس الأمر على ما ظنُّوا {سيكفرون بعبادتهم} لأنَّهم كانوا جماداً لم يعرفوا أنَّهم يُعبدون {ويكونون عليهم ضداً} أعواناً وذلك أنَّ الله تعالى يحشر آلهتهم فينطقهم ويركِّب فيهم العقول فتقول: يا ربِّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك

83

{ألم تر} يا محمد {إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين} سلَّطناهم عليهم بالإِغواء {تؤزهم أزَّاً} تُزعجهم من الطَّاعة إلى المعصية

84

{فلا تعجل عليهم} بالعذاب {إنما نعدُّ لهم} الأيَّام واللَّيالي والأنفاس {عدَّاً} إلى انتهاء أجل العذاب

85

{يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً} ركباناً مُكرمين

86

{ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} عطاشاً

87

{لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتَّخذ} لكم {عند الرحمن عهداً} اعتقد التَّوحيد وقال: لا إله إلاَّ الله فإنه يملك الشَّفاعة والمعنى: لا يشفع إلاَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

88

{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} يعني: اليهود والنَّصارى ومَنْ زعم أنَّ الملائكة بنات الله

89

{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدَّاً} عظيما فظيعا

90

{تكاد السماوات} تقرب من أن {يتفطرن} يتشقَّقْن {منه} من هذا القول {وتخرُّ} وتسقط {الجبال هدَّاً} سقوطاً

91

{أن دعوا} لأنْ دعوا {للرحمن ولداً}

92

{وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً} لأنَّه لا يليق به الولد ولا مجانسة بينه وبين أحد

93

{إن كل} ما كل {من في السماوات والأرض إلاَّ} وهو يأتي الله سبحانه يوم القيامة مُقرَّاً له بالعبوديَّة

94

{لقد أحصاهم وعدَّهم عدَّاً} أَيْ: علمهم كلَّهم فلا يخفى عليه أحدٌ ولا يفوته

95

{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فرداً} من ماله وولده وليس معه أحدٌ

96

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وداً} محبَّةً في قلوب المؤمنين قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب وقيل: في عبد الرَّحمن بن عوف

97

{فإنما يسرناه} سهَّلنا القرآن {بلسانك} بلغتك {لتبشر به المتقين} الذين صدَّقوا وتركوا الشرك {وتنذر به قوماً لداً} شداد الخصومة

98

{وكم أهلكنا قبلهم} قبل قومك {من قرن} جماعةٍ {هل تحس} تجد {مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} صوتاً

سورة طه

{طه} يا رجل

2

{ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} لتتعب بكثرة الجهد وذلك أنَّه كان يُصلِّي اللَّيل كلَّه بمكَّة حتى تورَّمت قدماه وقال له الكفَّار: إنَّك لتشقى بترك ديننا فأنزل الله تعالى هذه الآية

3

{إلاَّ تذكرة} أي: ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً موعظةً {لمن يخشى} يخاف الله عز وجل

4

{تنزيلاَ ممَّن خلق الأرض والسماوات العلى} جمع العليا

5

{الرحمن على العرش} من أنَّه أعظم المخلوقات {استوى} أي: أقبل على خلقه كقوله: {ثم استوى إلى السماء} مع أنه أعظم المخلوقات أي: استولى وقوله:

6

{وما تحت الثرى} ما تحت الأرض والثَّرى: التُّراب النَّدي

7

{وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر} وهو ما أسررت في نفسك {وأخفى} وهو ما ستحدِّث به نفسك ممَّا لم يكن بعد والمعنى: إنَّه يعلم هذا فكيف ما جهر به؟

8

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحسنى}

9

{وهل أتاك} يا محمَّد {حديث موسى} خبره وقصَّته

10

{إذ رأى ناراً} في طريقه إلى مصر لمَّا أخذ امرأته الطَّلْقُ {فقال لأهله} لامرأته {امكثوا} أقيموا مكانكم {إني آنست} أبصرت {ناراً لعلي آتيكم منها بقبس} شعلة نارٍ {أو أجد على النار هدى} مَنْ يهديني ويدلُّني على الطَّريق وكان قد ضلَّ عن الطَّريق

11

{فلما أتاها} أي: النَّار

12

{نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نعليك} وكانت من جلد حمارٍ ميِّتٍ غيرِ مدبوغٍ لذلك أُمر بخلعها {إنك بالواد المقدس} المُطهَّر {طوى} اسم ذلك الوادي

13

{وأنا اخترتك} اصطفيتك للنُّبوَّة {فاستمع لما يوحى} إليك مني

14

{وأقم الصلاة لذكري} لتذكرني فيها

15

{إنَّ الساعة} القيامة {آتية أكاد أخفيها} أسترها للتَّهويل والتعظيم وأكاد صلةٌ {لتجزى} في ذلك اليوم {كل نفس بما تسعى} تعمل

16

{فلا يصدنك} يمنعك {عنها} عن الإِيمان بالسَّاعة {مَنْ لا يؤمن بها واتبع هواه} مراده {فتردى} فتهلك

17

{وما تلك} وما التي {بيمينك} في يدك اليمنى؟

18

{قال هي عصاي أتوكأ عليها} أتحامل عليها عند المشي والإِعياء {وأهش} أخبط الورق عن الشَّجر {بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} حاجاتٌ أخرى سوى التوكؤ والهش وقوله:

19

{قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى}

20

{فألقاها فإذا هي حية تسعى}

21

{سنعيدها سيرتها الأولى} أَيْ: نردُّها عصاً كما كانت

22

{واضمم يدك إلى جناحك} جناح الإنسان: عضه إلى أصل إبطه يريد: أدخلها تحت جناحك {تخرج بيضاء من غير سوء} برصٍ أو داءٍ {آية أخرى} لك سوى العصا

23

{لنريك من آياتنا الكبرى} وكانت يده أكبر آياته

24

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إنه طغى} كفر بأنعمي وتكبَّر عن عبادتي فعند ذلك

25

{قال} موسى: {رب اشرح لي صدري} وسِّعْ ولَيِّنْ لي قلبي بالإِيمان والنُّبوَّة

26

{ويسِّر لي أمري} وسهِّلْ عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرِّسالة

27

{واحلل} افتح {عقدة من لساني} وكانت في لسانه رُتَّة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه

28

{يفقهوا قولي} كي يفهموا كلامي

29

{واجعل لي وزيراً} معيناً {من أهلي} وهو

30

{هارون}

31

{اشدد به أزري} قوِّ به ظهري

32

{وأشركه في أمري} اجعل ما أمرتني به من النُّبوَّة بيني وبينه

33

{كي نسبحك} نصلِّي لك {كثيراً}

34

{ونذكرك كثيراً} باللسان على كلِّ حالٍ

35

{إنك كنت بنا بصيراً} عالماً فاستجاب الله له وقال تعالى:

36

{قد أوتيت سؤلك يا موسى} أُعطيت مرادك ثمَّ ذكر منَّته السالفة عليه بقوله تعالى:

37

{ولقد مننا عليك مرَّة أخرى} قبل هذه وهي:

38

{إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى} أَيْ: ألهمناها ما يلهم الإِنسان من الصَّواب وهو إلهام الله تعالى إيَّاها:

39

{أن اقذفيه} اجعليه {في التابوت فاقذفيه} فاطرحيه {في اليم} يعني: نهر النِّيل {فليلقه اليمُّ بالساحل} فيردُّه الماء إلى الشَّطِّ {يأخذه عدوٌّ لي وعدوٌّ له} وهو فرعون {وألقيت عليك محبة مني} حتى لم يقتلك عدوُّك الذي أخذك من الماء وهو أنَّه حبَّبه إلى الخلق كلِّهم فلا يراه مؤمنٌ ولا كافرٌ إلاَّ أحبَّه {ولتصنع} ولتربى وتغذَّى {على عيني} على محبَّتي ومرادي يعني: إذ ردَّه إلى أُمِّه حتى غدته وهو قوله:

40

{إذ تمشي أختك} مُتعرِّفةً خبرك وما يكون من أمرك بعد الطَّرح في الماء {فتقول} لكم: {هل أدلُّكم على مَنْ يكفله} يرضعه ويضمُّه إليه وذلك حين أبى موسى عليه السَّلام أن يقبل ثدي امرأة فلما قال لهم ذلك قولوا: نعم فجاءت بالأُمِّ فَدُفع إليها فذلك قوله: {فرجعناك إلى أمك كي تقرَّ عينها} بلقائك وبقائك {ولا تحزن} على فقدك {وقتلت نفساً} يعني: القبطي الذي قتله {فنجيناك من الغم} من غمِّ أن تُقتل به {وفتناك فتوناً} اختبرناك اختباراً بأشياء قبل النَّبوَّة {فلبثت} مكثت {سنين في أهل مدين} عشر سنين في منزل شعيب {ثم جئت على قدر} على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السَّلام

41

{واصطنعتك لنفسي} اخترتك بالرِّسالة لكي تحبَّني وتقوم بأمري

42

{اذهب أنت وأخوك بآياتي} يعني: بما أعطاهما من المعجزة {ولا تنيا} لا تَفتُرا

43

{اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى} علا وتكبَّر

44

{فقولا له قولاً ليّناً} كنِّياه وعِداه على الإِيمان نعيماً وعمراً طويلاً في صحَّة ومصيراً إلى الجنَّة {لعله يتذكر} يتَّعظ {أو يخشى} يخاف الله تعالى ومعنى (لعلَّ) ها هنا يعود إلى حال موسى وهارون أَي: اذهبا أنتما على رجائكما وطعمكما وقد علم الله تعالى ما يكون منه

45

{قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} يجعل علينا بالقتل والعقوبة {أو أن يطغى} يتكبَّر ويستعصي

46

{قال لا تخافا إنني معكما} بالعون والنُّصرة {أسمع} ما يقول {وأرى} ما يفعل وقوله:

47

{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ: خلِّ عنهم ولا تستخرهم {ولا تعذبهم} ولا تتعبهم في العمل {قد جئناك بآية من ربك} يعني: اليد البيضاء والعصا {والسلام على من اتبع الهدى} سَلِمَ مَنْ أسلم

48

{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كذَّب} أنبياء الله {وتولى} أعرض عن الإيمان وقوله:

49

{قال فمن ربكما يا موسى}

50

{ربنا الذي أعطى كلَّ شيء خلقه} أَيْ: أتقن كلَّ شيءٍ ممَّا خلق وخلقه على الهيئة التي بها يُنتفع والتي هي أصلح وأحكم لما يُراد منه {ثم هدى} أي: هداه لمعيشته ثمَّ سأله فرعون عن أعمال الأمم الماضية وهو قوله:

51

{فما بال القرون الأولى} الماضية؟ فأجابه موسى عليه السَّلام بأنَّ أعمالهم محفوظةٌ عند الله يُجازون بها وهو قوله:

52

{علمها عند ربي في كتاب} وهو اللَّوح المحفوظ {لا يضل ربي} لا يخطئ ومعناه: لا يترك مَنْ كفر به حتى ينتقم منه {ولا ينسى} مَنْ وحَّده حتى يجازيه

53

{الذي جعل لكم الأرض مهدا} فراشاً {وسلك لكم فيها سبلاً} وسهَّل لكم فيها طُرُقاً {وأنزل من السماء ماء} يريد: المطر وتمَّ ها هنا جواب موسى ثمَّ تلوَّن الخطاب وقال الله تعالى: {فأخرجنا به أزواجاً} أصنافاً {من نبات شتى} مختلفة الألوان والطُّعوم

54

{كلوا} منها {وارعوا أنعامكم} فيها أَيْ: أسيموها واسرحوها في نبات الأرض {إنَّ في ذلك} الذي ذكرت {لآيات} لعبرة {لأولي النهي} لذوي العقول

55

{منها خلقناكم} يعني: آدم عليه السَّلام {وفيها نعيدكم} عند الموت {ومنها نخرجكم} عند البعث {تارة} مرَّةً {أخرى}

56

{ولقد أريناه} يعني: فرعون {آياتنا كلَّها} الآيات التِّسع {فكذَّب} بها وزعم أنَّها سحرٌ {وأبى} أن يُسلم

57

{قال} لموسى: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا} من أرض مصر

58

{بسحرك يا موسى * فلنأتينَّك بسحر مثله} فلنعارضنَّ سحرك بسحرٍ مثله {فاجعل بيننا وبينك موعداً} لمعارضتنا إيَّاك لا نُخلف ذلك الموعد {نحن ولا أنت} وأراد بالموعدت ها هنا موضعاً يتواعدون للاجتماع هناك وهو قوله: {مكاناً سوى} أَيْ: يكون النَّصف فيما بيننا وبينك

59

{قال موعدكم يوم الزينة} أَيْ: وقتُ موعدكم يوم الزِّينة وهو يوم عيدٍ كان لهم {وأن يحشر الناس ضحى} يريد: يجمع أهل مصر في ذلك اليوم نهاراً أراد موسى صلوات الله عليه أن يكون أبلغ في الحجَّة وأشهر ذكراً في الجمع

60

{فتولى} فأدبر {فرعون فجمع كيده} حِيَله وسحرته {ثم أتى} الميعاد

61

{قال لهم موسى} للسَّحرة: {لا تفتروا على الله كذباً} لا تشركوا مع الله أحداً {فيسحتكم} فيستأصلكم {بعذاب وقد خاب من افترى} خسر مَن ادَّعى مع الله تعالى إلهاً آخر

62

{فتنازعوا أمرهم بينهم} فتشاوروا بينهم يعني: السَّحرة {وأسروا النجوى} تكلَّموا فيما بينهم سرَّاً من فرعون فقالوا: إنْ غلَبَنا موسى اتَّبعناه

63

{قالوا إن هذان لساحران} يعنون: موسى وهارون عليهما السَّلام {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم} من مصر ويغلبا عليها {بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} بجماعتكم الأشراف أَيْ: يصرفا وجوههم إليهما

64

{فأجمعوا كيدكم} أي: اعزموا على الكيد من غير اختلافٍ بينكم فيه {ثم ائتوا صفاً} مُجتمعين مصطفِّين ليكون أشدَّ لهيبتكم {وقد أفلح اليوم من استعلى} أَيْ: قد سعد اليوم مَنْ غلب

65

{قالوا يا موسى إمَّا أن تلقي} عصاك من يدك إلى الأرض {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}

66

{قال بل ألقوا} أنتم فألقوا {فإذا حبالهم وعصيهم} جمع العصا {يخيل إليه} يُشبَّه لموسى {أنها تسعى} وذلك أنَّها تحرَّكت بنوع حيلةٍ وتمويهٍ وظن موسى أنَّها تسعى نحوه

67

{فأوجس} فأضمر {في نفسه خيفة} خوفاً خاف أن لا يفوز ولا يغلب فلا يُصدَّق حتى قال الله تعالى له:

68

{لا تخف إنك أنت الأعلى} الغالب

69

{وألق ما في يمينك تلقف} تبتلع {ما صنعوا إنما صنعوا} أي: الذين صنعوه {كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ولا يسعد الساحر ما كان فألقى موسى عصاه فتلقَّفت كلَّ الذي صنعوه وعند ذلك أُلقي

70

{السحرة سجداً} خرُّوا ساجدين لله تعالى {قالوا آمنا برب هارون وموسى}

71

{قال آمنتم له} صدّقتموه {قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم} معلّمكم {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خلاف} اليد اليمنى والرِّجل اليسرى {ولأصلبنكم في جذوع النخل} عل رؤوس النَّخل {ولتعلمن أينا أشد عذاباً} أنا أو ربُّ موسى {وأبقى} وأدوم

72

{قالوا لن نؤثرك} لن نختار دينك {على ما جاءنا من البينات} اليقين والهدى {والذي فطرنا} ولا نختارك على الذي خلقنا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} فاصنع ما أنت صانعٌ منت القطع والصَّلب {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} إنَّما سلطانك وملكك في هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا

73

{إنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} الشرك الذي كنَّا فِيهِ {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ من السحر} وإكراهك إيانا على تعلُّم السِّحر {والله خير} لنا منك {وأبقى} لأنَّك فانٍ هالكٌ

74

{إنَّه مَنْ يأت ربَّه مجرماً} مات على الشِّرك {فإنَّ له جهنم لا يموت فيها} فيستريح بالموت {ولا يحيا} حياةً تنفعه

75

{ومن يأته مؤمنا} ما على الإيمان {قد عمل الصالحات} قد أدَّى الفرائض {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} في الجنَّة وقوله:

76

{جزاء من تزكى} تطهَّر من الشِّرك بقول: لا إله إلاَّ الله

77

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر {فَاضْرِبْ لهم} بعصاك {طريقاً في البحر يبساً} يابساً {لا تخاف دركاً} من فرعون خلقك {ولا تخشى} غرقاً في البحر

78

{فأتبعهم} فلحقهم {فرعون بجنوده فغشيهم من اليم} فعلاهم من البحر {ما غشيهم} ما غرَّقَهم

79

{وأضل فرعون قومه وما هدى} ردَّ عليه حيث قال: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ثمَّ ذكر مِننه على بني إسرائيل فقال:

80

{قد أنجيناكم من عدوكم} فرعون {وواعدناكم} لإِيتاء الكتاب {جانب الطور الأيمن} وذلك أنَّ الله سبحانه وعد موسى أن يأتي هذا المكان فيؤتيه كتاباً فيه الحلال والحرام والأحكام ووعدهم موسى أن يأتي هذا المكان عند ذهابه عنهم {ونزلنا عليكم المنَّ والسلوى} يعني: في التِّيه

81

{كلوا} أيْ: وقلنا لهم: كلوا {مِنْ طَيِّبَاتِ} حلالات {ما رزقناكم ولا تطغوا} ولا تكفروا النِّعمة {فيه فيحلَّ} فيجب {عليكم غضبي ومن يحلل} يجب {عليه غضبي فقد هوى} هلك وصار إلى الهاوية

82

{وإني لغفار لمن تاب} من الشِّرك {وآمن} وصدَّق بالله {وعمل صالحاً} بطاعة الله {ثمَّ اهتدى} أقام على ذلك حتى مات عليه

83

{وما أعجلك عن قومك} يعني: السَّبعين الذين اختارهم وذلك أنَّه سبقهم شوقاً إلى ميعاد الله وأمرهم أن يتَّبعوه فذلك قوله:

84

{قال: هم أولاء على أثري} يجيئون بعدي {وعجلت إليك} بسبقي إيَّاهم {لترضى} لتزداد عن رضى

85

{قال فإنا قد فتنا قومك} أَيْ: ألقيناهم في الفتنة واختبرناهم {من بعدك} من بعد خروجك من بينهم {وأضلهم السامريُّ} بدعائهم إلى عبادة العجل

86

{فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً} شديد الحزن {قَالَ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حسناً} أنَّه يعطيكم التَّوراة صدقاً لذلك الموعد {أفطال عليكم العهد} مدَّة مفارقتي إيَّاكم {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ} أن يجب {عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي} باتِّخاذ العجل ولم تنظروا رجوعي إليكم

87

{قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا} باختيارنا ونحن نملك من أمرنا شيئاً ولكنَّ السامري استغلونا وهو معنى قوله: {ولكنا حملنا أوزاراً} أثقالاَ {من زينة القوم} من خلي آل فرعون {فقذفناها} ألقيناها في النَّار بأمر السَّامِرِيَّ وذلك أنَّه قال: اجمعوها وألقوها في النَّار ليرجع موسى فيرى فيها رأيه {فكذلك ألقى السامري} ما معه من الحُلِّي في النَّار وهو قوله: {فكذلك ألقى السامري} ثمَّ صاغ لهم عجلا وهو قوله:

88

{فأخرج لهم عجلاً جسداً} لحماً ودماً {له خوار} صوت فسجدوا له وافتتنوا به وقالوا: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} فتركه ها هنا وخرج يطلبه قال الله تعالى احتجاجاً عليهم

89

{أفلا يرون ألا يرجع} أنَّه لا يرجع {إليهم قولاً} لا يُكلِّمهم العجل ولا يجيبهم {ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً}

90

{ولقد قال لهم هارون من قبل} من قبل رجوع موسى: {يا قوم إنما فتنتم به} ابتليتم بالعجل {وإنَّ ربكم الرحمن} لا العجل {فاتبعوني} على ديني {وأطيعوا أمري}

91

{قالوا لن نبرح عليه عاكفين} على عبادته مقيمين {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فلمَّا رجع موسى

92

{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا} ت أخطأوا الطَّريق بعبادة العجل {أن لا تتبعن} أن تتبعني وتلحق بي وتخبرني؟ {أفعصيت أمري} حيث أقمتَ فيما بينهم وهم يعبدون غير الله! ؟ ثمَّ أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه فقال:

93

{أن لا تتبعن أفعصيت أمري}

94

{يا ابن أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} خشيت إن فارقتهم واتبتعك أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً فتقول: أوقعتَ الفرقة فيما بينهم {ولم ترقب قولي} لم تحفظ وصيتي في حسن الخلافة عليهم ثمَّ أقبل موسى على السَّامري فقال:

95

{فما خطبك} فما قصَّتك وما الذي تخاطب به فيما صنعت؟

96

{قال: بصرت بما لم يبصروا به} علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل قال موسى: وما ذلك؟ قال: رأيت جبريل عليه السَّلام على فرس الحياة فأُلقي فِي نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيءٍ إلاَّ صار له روحٌ ولحمٌ ودمٌ فحين رأيتُ قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً زيَّنت لي نفسي ذلك فذلك قوله: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} طرحتها في العجل {وكذلك سولت لي نفسي} حدثني نفسي

97

{قال} له موسى صلوات الله عليه: {فاذهب فإنَّ لك في الحياة} يعني: ما دمت حيَّاً {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} لا تخالط أحداً ولا يخالطك وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه وصار السَّامريُّ بحيث لو مسَّه أحدٌ أو مسَّ هو أحداً حُمَّ كلاهما {وإن لك موعداً} لعذابك {لن تخلفه} لن يُخلفكه الله {وانظر إلى إلهك} معبودك {الذي ظلت عليه عاكفاً} دمتَ عليه مقيماً تعبده {لنحرقنَّه} بالنَّار {ثمَّ لننسفنَّه} لنذرينَّه في البحر

98

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هو} لا العجل {وسع كلَّ شيء علماً} علم كلَّ شيء علماً

99

{كذلك} كما قصصنا عليك هذه القصَّة {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} من الأمور {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} يعني: القرآن

100

{من أعرض عنه} فلم يؤمن به {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} حملاً ثقيلاً من الكفر

101

{خالدين فيه} لا يغفر ربك لهم ذلك ولا يكفِّر عنهم شيء {وساء لهم يوم القيامة حملاً} بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفراً بالقرآن

102

{يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين} الذين اتَّخذوا مع الله إلهاً آخر {يومئذ زرقاً} زرق العيون سود الوجوه

103

{يتخافتون} يتساررون {بينهم إن لبثتم} في قبوركم إلاَّ عشر ليالٍ يريدون ما بين النَّفختين وهو أربعون سنة يُرفع العذاب في تلك المدَّة عن الكفَّار فيستقصرون تلك المدَّة إذا عاينوا هول القيامة قال الله تعالى:

104

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طريقة} أعدلهم قولاً {إن لبثتم إلاَّ يوماً}

105

{ويسألونك عن الجبا} سألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ {فقل ينسفها ربي نسفاً} يصيِّرها كالهباء المنثور حتى تستوي مع الأرض وهو قوله:

106

{فيذرها قاعاً صفصفاً} مكاناً مستوياً

107

{لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا} انخفاضا وارتفاعا

108

{يومئذ يتبعون الداعي} الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ولا يقدرون ألا يتَّبعوا {وخشعت} سكنت {الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً} وطء الأقدام نقلها إلى المحشر

109

{يومئذ} يوم القيامة {لا تنفع الشفاعة} أحداً {إلاَّ من أذن له الرحمن} في أن يُشفَع له وهم المسلمون الذين رضي الله قولهم لأنَّهم قالوا: لا إله إلا الله وهذا معنى قوله: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا}

110

{يعلم ما بين أيديهم} من أمر الآخرة {وما خلفهم} من أمر الدُّنيا وقيل ما قدَّموا وما خلَّفوا من خيرٍ وشرٍّ {ولا يحيطون به علماً} وهم لا يعلمون ذلك

111

{وعنت الوجوه} خضعت وذلَّت {لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} خسر مَنْ أشرك بالله

112

{ومن يعمل من الصالحات} الطَّاعات لله {وهو مؤمن} مصدِّق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} لا يخاف أن يزاد في سيئاته ولا ينقص من حسناته

113

{وكذلك} وهكذا {أنزلناه قرآناً عربياً وصرَّفنا} بيَّنا {فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لهم} القرآن {ذكراً} وموعظة

114

{ولا تعجل بالقرآن} كان إذا نزل جبريل عليه السَّلام بالوحي يقرؤه مع جبريل عليه السَّلام مخافة النِّسيان فأنزل الله سبحانه: {ولا تعجل بالقرآن} أَيْ: بقراءته {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وحيه} من قبل أن يفرغ جبريل ممَّا يريد من التَّلاوة {وقل رب زدني علماً} بالقرآن وكان كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علماً

115

{ولقد عهدنا إلى آدم} أمرناه وأوصينا إليه {من قبل} هؤلاء الذين تركوا أمري ونفضوا عهدي في تكذيبك {فنسي} فترك ما أمر به {ولم نجد له عزماً} حفظاً لما أُمر به وقوله:

116

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إبليس أبى}

117

{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}

118

{إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى}

119

{ولا تضحى} أَيْ: لا يؤذيك حرُّ الشَّمس وقوله:

120

{شجرة الخلد} يعني: مَنْ أكل منها لم يمت وقوله:

121

{فغوى} فأخطأ ولم ينل مراده ممَّا أكل ويقال: لم يرشد

122

{ثم اجتباه} اختاره {ربه فتاب عليه} عاد عليه بالرَّحمة والمغفرة {وهدى} أي: هداه إلى التوبة وقوله:

123

{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنْي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فلا يضل ولا يشقى}

124

{من أعرض عن ذكري} موعظتي وهي القرآن {فإنَّ له معيشة ضنكاً} ضيقى يعني: في جهنَّم وقيل: يعني عذاب القبر {ونحشره يوم القيامة أعمى} البصر

125

{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بصيراً}

126

{قال كذلك أتتك آياتنا} يقول: كما أتتك آياتي {فَنَسِيتَهَا} فتركتها ولم تؤمن بها {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تنسى} تُترك في جهنَّم

127

{وكذلك} وكما تجزي مَنْ أعرض عن القرآن {نجزي مَنْ أسرف} أشرك {ولعذاب الآخرة أشدُّ} ممَّا يُعذِّبهم به في الدُّنيا والقبر {وأبقى} وأدوم

128

{أفلم يهد لهم} أفلم يتبيَّن لهم بياناً يهتدون به {كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون} هؤلاء إذا سافروا في مساكن أولئك الذين أهلكناهم بتكذيب الأنبياء {إن في ذلك لآيات} لعبراً {لأولي النهى} لذوي العقول

129

{ولولا كلمة سبقت من ربك} في تأخير العذاب عنهم {لكان لزاماً} لكان العذاب لازماً لهم في الدُّنيا {وأجل مسمى} وهو القيامة وقوله:

130

{وسبح بحمد ربك} صل لربِّك {قبل طلوع الشمس} صلاة الفجر {وقبل غروبها} صلاة العصر {ومن آناء الليل فسبح} فصلِّ المغرب والعشاء الآخرة {وأطراف النهار} صلِّ صلاة الظُّهر في طرف النِّصف الثاني وسمَّى الواحد باسم الجمع {لعلك ترضى} لكي ترضى من الثَّواب في المعاد

131

{ولا تمدنَّ عينيك} مُفسَّر في سورة الحجر وقوله: {زهرة الحياة الدنيا} أَي: زينتها وبهجتها {لنفتنهم فيه} لنجعل ذلك فتنةً لهم {ورزق ربك} لك في المعاد {خير وأبقى} أكثر وأدوم

132

{وأمر أهلك بالصلاة} يعني: قريشاً وقيل: أهل بيته {لا نسألك رزقاً} لخلقنا ولا لنفسك {نحن نرزقك والعاقبة} الجنَّة {للتقوى} لأهل التَّقوى يعني: لك ولمن صدَّقك ونزلت هذه الآيات لمَّا استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهوديٍّ وأبى أن يعطيه إلاَّ برهنٍ وحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم

133

{وقالوا} يعني: المشركين {لولا} هلاَّ {يأتينا} محمَّد عليه السَّلام {بآية من ربه} ممَّا كانوا يقترحون من الآيات قال الله: {أَوَلَمْ تأتهم بيِّنة} بيان {ما في الصحف الأولى} يعني: في القرآن بيان ما في التَّوراة والإِنجيل والزَّبور

134

{ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله} من قبل نزول القرآن وقوله: {من قبل أن نذل} بالعذاب {ونخزى} في جهنَّم

135

{قل} يا محمد لهم: {كلٌّ متربص} منتظرٌ دوائر الزَّمان ولمَنْ يكون النَّصر {فتربصوا فستعلمون} في القيامة {من أصحاب الصراط السويّ} المستقيم {ومن اهتدى} من الضَّلالة نحن أم أنتم

سورة الأنبياء

{اقترب للناس} يعني: أهل مكَّة {حسابهم} وقت محاسبة الله إيَّاهم على أعمالهم يعني: القيامة {وهم في غفلة} عن التَّأهُّب لذلك {معرضون} عن الإِيمان

2

{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} يعني: ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيءٍ من القرآن يذكرهم ويعظمهم به {إلاَّ استمعوه وهم يلعبون} يستهزئون به

3

{لاهية} غافلةً {قلوبهم وأسروا النجوى} قالوا سرّاً فيما بينهم {الذين ظلموا} أشركوا وهو أنَّهم قالوا: {هل هذا} يعنون محمَّداً {إلاَّ بشرٌ مثلكم} لحمٌ ودمٌ {أفتأتون السحر} يريدون: إنَّ القرآن سحرٌ {وأنتم تبصرون} أنَّه سحر فلمَّا أطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على هذا السِّرِّ الذي قالوه أخبر أنَّه يعلم القول في السَّماء والأرض بقوله:

4

{قال ربي يعلم القول} أَيْ: ما يقال {في السماء والأرض وهو السميع} للأقوال {العليم} بالأفعال ثمَّ أخبر انَّ المشركين اقتسموا القول في القرآن وأخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض فيقولون مرَّةً:

5

{أضغاث أحلام} أَيْ: أباطيلها يعنون أنَّه يرى ما يأتي به في النَّوم رؤيا باطلة ومرَّةً هو مفترىً ومرَّةً هو شعرٌ ومحمَّد شاعرٌ {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} بالآيات مثل: النَّاقة والعصا واليد فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهالٌ إذا كُذِّب بها فقال الله تعالى:

6

{ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها} بالآيات التي اقترحوها {أفهم يؤمنون} يريد: إنَّ اقتراح الآيات كان سبباً للعذاب والاستئصال للقرون الماضية وكذلك يكون لهؤلاء

7

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ} ردّاً لقولهم {هل هذا إلاَّ بشر مثلكم} {فاسألوا} يا أهل مكَّة {أهل الذكر} مَنْ آمن من أهل الكتاب {إن كنتم لا تعلمون} أنَّ الرُّسل بشر

8

{وما جعلناهم} أي: الرُّسل {جسداً} أَيْ: أجساداً {لا يأكلون الطعام} وهذا ردٌّ لقولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام} فأعملوا أنَّ الرُّسل جميعاً كانوا يأكلون الطَّعام وأنَّهم يموتون وهو قوله: {وما كانوا خالدين}

9

{ثم صدقناهم الوعد} ما وعدناهم من عذاب مَنْ كفر بهم وإنجائهم مع مَنْ تابعهم وهو قوله: {فأنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين} المشركين

10

{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} يا معشر قريش {كِتَابًا فيه ذكركم} شرفكم {أفلا تعقلون} ما فضلتكم به على غيركم؟

11

{وكم قصمنا} أهلكنا {من قرية كانت ظالمة} يعني: إنَّ أهلها كانوا كفَّاراً {وأنشأنا} أحدثنا {بعدها} بعد إهلاك أهلها {قوماً آخرين} نزلت في أهل قرىً باليمن كذَّبوا نبيَّهم وقتلوه فسلَّط الله سبحانه عليهم بختنصَّر حتى أهلكهم بالسَّيف فذلك قوله:

12

{فلما أحسوا بأسنا} رأوا عذابنا {إذا هم منها} من قريتهم {يركضون} يسرعون هاربين وتقول لهم الملائكة:

13

{لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه} نَعِمْتُم فيه {لعلكم تسألون} من دنياكم شيئاً قالت الملائكة لهم هذا على سبيل الاستهزاء بهم كأنَّهم قيل لهم: ارجعوا إلى ما كنتم فيه من المال والنِّعمة لعلكم تُسألون فإنَّكم أغنياء تملكون المال فلمَّا رأَوا ذلك أقرُّوا على أنفسهم حيث لم ينفعهم فقالوا:

14

{يا ويلنا إنا كنا ظالمين} لأنفسنا بتكذيب الرُّسل

15

{فما زالت} هذه المقالة {دعواهم} يدعون بها ويقولون: يا ويلنا {حتى جعلناهم حصيداً} بالسُّيوف كما يحصد الزَّرع {خامدين} ميِّتين

16

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} عبئا وباطلاً أَيْ: ما خلقتهما إلاَّ لأُجازي أوليائي وأُعذِّب أعدائي

17

{لو أردنا أن نتخذ لهواً} امرأةً وقيل: ولداً {لاتخذناه من لدنا} بحيث لا يظهر لكم ولا تطَّلعون عليه {إن كنا فاعلين} ما كنَّا فاعلين ولسنا من يفعله

18

{بل نقذف بالحق على الباطل} نُلقي القرآن على باطلهم {فيدمغه} فيذهبه ويكسره {فإذا هو زاهقٌ} ذاهبٌ {ولكم الويل} ما معشر الكفَّار {مما تصفون} الله تعالى بما لا يليق به

19

{وله من في السماوات وَالأَرْضِ} عبيداً وملكاً {ومَنْ عنده} يعني: الملائكة {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} لا يملُّون ولا يعيون

20

{يسبحون الليل والنهار لا يفترون} لا يضعفون

21

{أم اتخذوا آلهةً من الأرض} يعني: الأصنام {هم ينشرون} يحيون الأموات والمعنى: أنتشر آلهتهم التي اتَّخذوها؟

22

{لو كان فيهما} في السَّماء والأرض {آلهةٌ إلاَّ اللَّهُ} غير الله {لفسدتا} لخربتا وهلك مَنْ فيهما بوقوع التَّنازع بين الآلهة

23

{لا يُسأل عما يفعل} عن حكمه في عباده {وهم يُسألون} عمَّا عملوا سؤال توبيخ

24

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا برهانكم} حجَّتكم على أن مع الله تعالى معبوداً غيره {هذا ذكر مَنْ معي} يعني: القرآن {وذكر مَنْ قبلي} يعني: التَّوراة والإِنجيل فهل في واحدٍ من هذه الكتب إلاَّ توحيد سبحانه وتعالى؟ {بل أكثرهم لا يعلمون الحق} فلا يتأمَّلون حجَّة التَّوحيد وهو قوله: {فهم معرضون}

25

{وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ} الآية يريد: لم يُبعثْ رسولٌ إلاَّ بتوحيد الله سبحانه ولم يأتِ رسولٌ أُمّته بأنَّ لهم إلهاً غير الله

26

{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} يعني: الذين قالوا: الملائكة بنات الله والمعنى: وقالوا: اتَّخذ الرحمن ولداً من الملائكة {سبحانه} ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا يقولون {بل} هم {عباد مكرمون} يعني: الملائكة مكرمون بإكرام الله إيَّاهم

27

{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} لا يتكلَّمون إلاَّ بما يأمرهم به {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}

28

{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} ما علموا وما هم عاملون {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارتضى} لمن قال: لا إله إلاَّ الله {وهم من خشيته مشفقون} خائفون لأنَّهم لا يأمنون مكر الله

29

{ومَنْ يقل منهم} من الملائكة {إني إلهٌ من دونه} من دون الله تعالى {فذلك نجزيه جهنم} يعني: إبليس حيث ادَّعى الشِّركة في العبادة ودعا إلى عبادة نفسه {كذلك نجزي الظالمين} المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى

30

{أَوَلَمْ يَر} أولم يعلم {الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً} مسدودةً {ففتقناهما} بالماء والنَّبات كانت السَّماء لا تُمطر والأرض لا تُنبت ففتحهما الله سبحانه بالمطر والنَّبات {وجعلنا من الماء} وخلقنا من الماء {كلَّ شيء حي} يعني: إنَّ جميع الحيوانات مخلوقةٌ من الماء كقوله تعالى: {والله خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ} ثمَّ بكَّتهم على ترك الإيمان فقال: {أفلا يؤمنون} وقوله:

31

{وجعلنا فيها} في الرَّواسي {فجاجاً سبلاً} طرقاً مسلوكةً يهتدوا

32

{وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} بالنُّجوم من الشَّياطين {وهم عن آياتها} شمسها وقمرها ونجومها {معرضون} لا يتفكَّرون فيها وقوله:

33

{كلٌّ في فلك يسبحون} يجرون ويسيرون والفَلَكُ: مدار النُّجوم

34

{وما جَعَلْنا لبشر من قبلك الخلد} دوام البقاء {أفإن مت فهم الخالدون} نزل حين قالوا: {نتربَّصُ به ريَب المنون} وقوله:

35

{ونبلوكم} نختبركم {بالشر} بالبلايا والفقر {والخير} المال والصِّحة {فتنة} ابتلاءً لننظر كيف شكركم وصبركم

36

{وإذا رآك الذين كفروا} يعني: المستهزئين {إن يتخذونك} ما يتَّخذونك {إلاَّ هزواً} مهزوءاً به قالوا: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} يعيب أصنامكم {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} جاحدون إلهيَّته يريد أنَّهم يعيبون مَنْ جحد إليهة أصنامهم وهم جاحدون إليهة الرَّحمن وهذا غاية الجهل

37

{خلق الإنسانُ من عجل} يريد: إنَّ خلقته على العجلة وعليها طُبع {سَأُرِيكم آياتي} يعني: ما توعدون به من العذاب {فلا تستعجلون}

38

{ويقولون متى هذا الوعد} وعد القيامة

39

{لو يعلم الذين كفروا} الآية وجواب لو محذوف على تقدير: لآمنوا ولما أقاموا على الكفر

40

{بل تأتيهم} القيامة {بغتة} فجأة {فتبهتهم} تحيرهم

41

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}

42

{قل مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} يحفظكم {بالليل والنهار من الرحمن} إن أنزل بكم عذابه {بل هم عن ذكر ربهم} كتاب ربِّهم {معرضون}

43

{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يستطيعون نصر أنفسهم} فكيف تنصرهم وتمنعهم؟ ! {ولا هم منا يصحبون} لا يُجارون من عذابنا

44

{بل متَّعنا هؤلاء} الكفَّار {وآباءهم حتى طال عليهم العمر} أَيْ: متَّعناهم بما أعطيناهم من الدُّنيا زماناً طويلاً فقست قلوبهم {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أطرافها} بالفتح على محمد صلى الله عليه وسلم {أفهم الغالبون} أم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟

45

{قل إنما أنذركم} أُخوِّفكم {بالوحي} بالقرآن الذي أوحي إليَّ وأُمرت فيه بإنذاركم {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} كذلك أنتم يا معشر المشركين

46

{ولئن مستهم} أصابتهم {نفحة من عذاب ربك} قليلٌ وأدنى شيءٍ لأقرّوا على أنفسهم بسوء صنيعهم وهو قوله: {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}

47

{ونضع الموازين القسط} ذوات القسط أي: العدل {فلا تظلم نفسٌ شيئاً} لا يزاد على سيئاته ولا ينقص من ثواب حسناته {وإن كان} ذلك الشَّيء {مثقال حبة} وزن حبَّةٍ {من خردل أتينا بها} جئنا بها {وكفى بنا حاسبين} مُجازين وفي هذا تهديد

48

{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} البرهان الذي فرَّق به بين حقّه وباطل فرعون {وضياء} يعني: التَّوراة الذي كان ضياءً يُضيء هدى ونوراً {وذكراً} وعِظَةً {للمتقين} من قومه

49

{الذين يخشون ربهم بالغيب} يخافونه ولم يروه

50

{وهذا ذكر مبارك} يعني: القرآن {أفأنتم له منكرون} جاحدون

51

{ولقد آتينا إبراهيم رشده} هُداه وتوفيقه {من قبل} من قبل موسى وهارون {وكنا به عالمين} أنَّه أهلٌ لما آتيناه

52

{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} الأصنام {التي أنتم لها عاكفون} على عبادتها مقيمون!

53

{قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فاقتدينا بهم

54

{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مبين}

55

{قالوا أجئتنا بالحق} يعنون: أَجادٌّ أنت فيما تقول أم لاعبٌ؟

56

{قال بل ربكم رب السماوات وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشاهدين} أي: أشهد على أنَّه خالقها

57

{وتالله لأكيدن أصنامكم} لأمركن بها {بعد أن تولوا مدبرين} قال ذلك في يوم عيدٍ لهم وهم يذهبون إلى الموضع الذي يجتمعون فيه

58

{فجعلهم جذاذاً} حطاماً ودقاقاً {إلاَّ كبيراً لهم} عظيم الآلهة فإنَّه لم يكسره {لعلهم إليه} إلى إبراهيم ودينه {يرجعون} إذا قامت الحُجَّة عليهم فلمَّا انصرفوا

59

{قالوا من فعل هذا بآلهتنا} ت الآية قال الذين سمعوا قوله: {لأكيدن أصنامكم}

60

{سمعنا فتى يذكرهم} يعيبهم {قال له إبراهيم}

61

{قالوا فأتوا به على أعين الناس} على رؤوس النَّاس بمرأىً منهم {لعلَّهم يشهدون} عليه أنَّه الذي فعل ذلك وكرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنةٍ فلمَّا أتوا به

62

{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}

63

{قال بل فعله كبيرهم هذا} غضب من أن يعبدوا معه الصِّغار وأراد إقامه الحجَّة عليهم {فاسألوهم} مَنْ فعل بهم هذا {إن كانوا ينطقون} ت إن قدروا على النُّطق

64

{فرجعوا إلى أنفسهم} تفكَّروا ورجعوا إلى عقولهم {فقالوا إنكم أنتم الظالمون} هذا الرجل بسؤالكم إيَّاه وهذه آلهتكم حاضرةٌ فاسألوها

65

{ثم نكسوا على رؤوسهم} أطرقوا لما لحقهم من الخجل وأقرُّوا بالحجَّة عليهم فقالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فلمَّا اتَّجهت الحجَّة عليهم قال إبراهيم:

66

{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شيئاً ولا يضركم}

67

{أفٍ لكم} أَيْ: نتناً لكم فلما عجوا عن الجواب

68

{قالوا حرّقوه} بالنَّار {وانصروا آلهتكم} بإهلاك مَنْ يعيبها {إن كنتم فاعلين} أمراً في أهلاكه فلمَّا ألقوه في النَّار

69

{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبراهيم} ذات بردٍ وسلامةٍ لا يكون فيها بردٌ مضرٌّ ولا حرٌّ مُؤذٍ

70

{وأرادوا به} بإبراهيم {كيداً} مكراً في إهلاكه {فجعلناهم الأخسرين} حين لم يرتفع مرادهم في الدُّنيا ووقعوا في العذاب في الآخرة

71

{ونجيناه} من نمروذ وقومِه {ولوطاً} ابن أخيه {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} وهي الشَّام وذلك أنَّه خرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشَّام

72

{ووهبنا له إسحاقَ} ولداً لصلبه {ويعقوب نافلة} ولد الولد {وكلاً جعلنا صالحين} يعني: هؤلاء الثَّلاثة

73

{وجعلناهم أئمة} يُقتدى بهم في الخير {يهدون} يدعون النَّاس إلى ديننا {بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات} أن يفعلوا الطَّاعات ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة

74

{ولوطاً آتيناه حكماً} فصلاً بين الخصوم بالحقِّ {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} يعني: أهلها كانوا يأتون الذُّكران في أدبارهم

75

{وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين}

76

{ونوحاً إذ نادى من قبل} من قبل إبراهيم {فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} الغمِّ الذي كان فيه من أذى قومه

77

{ونصرناه} منعناه من أن يصلوا إليه بسوء وقوله:

78

{إذ يحكمان في الحرث} قيل: كان ذلك زرعاً وقيل: كان كرماً {إذ نفشت} رعت ليلاً {فيه غنم القوم} بلا راعٍ {وكنا لحكمهم شاهدين} لم يغبْ عن علمنا

79

{ففهمناها سليمان} ففهمنا القضيَّة سليمان دون داود عليهما السَّلام وذلك أنَّ داود حكم لأهل الحرث برقاب الغنم وحكم سليمان بمنافعهم إلى أن يعود الحرث كما كان {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} يجاوبنه بالتَّسبيح {و} كذلك {الطير وكنا فاعلين} ذلك

80

{وعلمناه صنعة لبوس لكم} علم ما يلبسونه من الذروع {لتحصنكم} لتحرزكم {من بأسكم} من حربكم {فهل أنتم شاكرون} نعمتنا عليكم؟

81

{ولسليمان الريح} وسخرنا له الرِّيح {عاصفة} شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني: الشَّام وكان منزل سليمان عليه السَّلام بها

82

{ومن الشياطين} وسخَّرنا له من الشَّياطين {من يغوصون له} يدخلون تحت الماء لاستخراج جواهر البحر {ويعملون عملاً دون ذلك} سوى الغوص {وكنا لهم حافظين} من أن يُفسدوا ما عملوا وليبصروا تحت أمره

83

{وأيوب إذ نادى ربه} دعا ربَّه {أني مسني الضرُّ} أصابني الجهد وقوله:

84

{وآتيناه أهله ومثلهم معهم} وهو أنَّ الله تعالى أحيا مَنْ أمات من بنيه وبناته ورزقه مثلهم من الولد {رحمة} نعمةً {من عندنا وذكرى للعابدين} عظةً لهم ليعلموا بذلك كما قدرتنا وقوله:

85

{وذا الكفل} هو رجلٌ من بني إسررئيل تكفَّل بخلافه نبيٍّ في أمته فقام بذلك

86

قال تعالى {وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}

87

{وذا النون} وذاكر صاحب الحوت وهو يونس عليه السَّلام {إذ ذهب} من بين قومه {مغاضباً} لهم قبل أمرنا له بذلك {فظن أن لن نقدر عليه} أن لن نقضي عليه ما قضينا من حبسه في بطن الحوت {فنادى في الظلمات} ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة اللَّيل {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظالمين} حيث غاضبت قومي وخرجت من بينهم قبل الإذن

88

{وكذلك} وكما نجيناه {ننجي المؤمنين} من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا وقوله:

89

{لا تذرني فرداً} أَيْ: وحيداً لا ولد لي ولا عقب {وأنت خير الوارثين} خير من يبقى بعد من يموت وقوله:

90

{وأصلحنا له زوجه} بأن جعلناها ولوداً بعد أن صارت عقيماً {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} يُبادرون في عمل الطَّاعات {ويدعوننا رغباً} في رحمتنا {ورهباً} من عذابنا {وكانوا لنا خاشعين} عابدين في تواضع

91

{والتي أحصنت} واذكر التي منعت {فرجها} من الحرام {فنفخنا فيها من روحنا} أمرنا جبريل عليه السَّلام حتى نفخ في جيب درعها والمعنى: أجرينا فيها روح المسيح المخلوقة لنا {وجعلناها وابنها آية للعالمين} دلالةً لهم على كمال قدرتنا وكانت الآيةُ فيهما جميعاً واحدةً لذلك وُحِّدت

92

{إنَّ هذه أمتكم} دينكم وملَّتكم {أمة واحدة} ملَّة واحة وهي الإِسلام

93

{وتقطعوا أمرهم بينهم} اختلفوا في الدّين فصاروا فرقاً {كلٌّ إلينا راجعون} فنجزيهم بأعمالهم

94

{فمن يعمل من الصالحات} الطَّاعات {وهو مؤمنٌ} مصدِّق بمحمَّدٍ عليه السَّلام {فلا كفران لسعيه} لا نُبطل عمله بل نُثيبه {وإنا له كاتبون} ما عمل حتى نجازيه

95

{وحرام على قرية} يعني: قريةً كافرةً {أهلكناها} أهلكناها بعذاب الاستئصال أن يرجعوا إلى الدُّنيا ولا زائدةٌ في الآية ومعنى حرامٌ عليهم أنَّهم ممنوعون من ذلك لأنَّ الله تعالى قضى على مَنْ أُهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة

96

{حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} من سدِّها {وهم من كل حدب} نشر وتلٍّ {ينسلون} ينزلون مسرعين

97

{واقترب الوعد الحق} يعني: القيامة والواو زائدة لأنَّ اقترب جواب حتى {فإذا هي شاخصة} ذاهبةٌ لا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم يقولون {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا} في الدُّنيا عن هذا اليوم {بل كنا ظالمين} بالشِّرك وتكذيب الرُّسل

98

{إنكم} أيُّها المشركون {وما تعبدون من دون الله} يعني: الأصنام {حصب جهنم} وقودها {أنتم لها واردون} فيها داخلون

99

{لو كان هؤلاء} الأصنام {آلهة} على الحقيقة ما دخلوا النَّار {وكلٌّ} من العابدين والمعبودين في النَّار {خالدون}

100

{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} السَّعادة والرَّحمة {أولئك عنها} عن النَّار {مبعدون}

101

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مبعدون}

102

{لا يسمعون حسيسها} صوتها

103

{لا يحزنهم الفزع الأكبر} يعني: الإِطباق على النَّار وقيل: ذبح الموت بمرأىً من الفريقين {وتتلقاهم الملائكة} تستقبلهم فيقولون لهم {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} للثواب ودخلوا الجنَّة

104

{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} وهو مَلَكٌ يطوي بني آدم وقيل: السِّجلُّ: الصَّحيفة والمعنى: كطيِّ السِّجل على ما فيه من المكتوب {كما بدأنا أوَّل خلق نعيده} كما خلقناكم ابتداءً حُفاةً عُراةً غُرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة {وعداً علينا} أَيْ: وعدناه وعداً {إنا كنَّا فاعلين} يعني: الإِعادة والبعث

105

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} قيل: في الكتب المنزلة بعد التَّوراة وقيل: أراد بالذِّكر اللَّوح المحفوظ {أنَّ الأرض} يعني: أرض الجنَّة {يرثها عبادي الصالحون} وقيل: أرض الدُّنيا تصير للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم

106

{إنَّ في هذا} القرآن {لبلاغاً} لوصولاً إلى البغية {لقوم عابدين} مُطيعين لله تعالى

107

{وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين} للبَرِّ والفاجر فمن أطاعه عُجِّلت له الرَّحمة ومَنْ عصاه وكذَّبه لم يحلقه العذاب في الدُّنيا كما لحق الأمم المكذبة

108

{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

109

{فإن تولوا} عن الإسلام {فقل آذنتكم على سواءٍ} أعلمتكم بما يوحى إليَّ على سواءٍ لتستووا في ذلك يريد: لم أُظهر لبعضكم شيئاً كتمته عن غيره {وإن أدري} ما أعلم {أقريب أم بعيد ما توعدون} يعني: القيامة

110

{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تكتمون}

111

{وإن أدري لعله} ت لعلَّ تأخير العذاب عنكم {فتنة} اختبارٌ لكم {ومتاعٌ إلى حين} إلى حين الموت

112

{قال رب احكم بالحق} اقض بيني وبين أهل مكَّة بالحقِّ أُمر أن يقول كما قالت الرُّسل قبله من قولهم: {ربَّنا افتحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحقِّ} {وربنا} أَيْ: وقل ربُّنا {الرحمن المستعان على ما تصفون} من كذبكم وباطلكم

سورة الحج

{يا أيها الناس} يا أهل مكة {اتقوا ربكم} أطيعوه {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وهي زلزلةٌ يكون بعدها طلوع الشَّمس من مغربها

2

{يوم ترونها} يعني: الزَّلزلة {تذهل كلُّ مرضعة عمَّأ أرضعت} تتلاك كلُّ امرأةٍ تُرضع ولدها الرضيع اشتعالا بنفسها وخوفاً {وتَضَعُ كلُّ ذات حملٍ حملها} تُسقط ولدها من هول ذلك اليوم {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} من شدَّة الخوف {وَمَا هم بسكارى} من الشَّراب {ولكنَّ عذاب الله شديد} فهم يخافونه

3

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ علم} نزلت في النَّضر بن الحارث وجماعةٍ من قريش كانوا يُنكرون البعث ويقولون: القرآن أساطير الأولين ويجادلون النبي صلى الله عليه وسلم {ويتبع} في جداله ذلك {كلَّ شيطان مريد} متمرِّدٍ عاتٍ

4

{كُتب عليه} قُضي على الشَّيطان {أنَّه مَنْ تولاَّه} اتَّبعه {فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} يدعوه إلى النَّار بما يُزيِّن له من الباطل

5

{يا أيها الناس} يعني: كفار مكَّة {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} شكٍّ من الإِعادة {فإنا خلقناكم} خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر {من تراب ثمَّ} خلقنا ذريَّته {من نطفة ثمَّ من علقة} وهي الدَّم الجامد {ثمَّ من مضغة} وهي لحمةٌ قليلةٌ قدر ما يُمضغ {مُخَلَّقَةٍ} مصوَّرةٍ تامَّة الخلق {وغير مخلقة} وهي ما تمجُّه الأرحام دماً يعني: السِّقط {لنبيِّن لكم} كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم {ونقرُّ في الأرحام ما نشاء} ننزل فيها ما لا يكون سقطاً {إلى أجل مسمى} إلى وقت خروجه {ثم نخرجكم} من بطون الأمهات {طفلاً} صغاراً {ثمَّ لتبلغوا أَشدكم} عقولكم ونهاية قوَّتكم {ومنكم من يُتوفَّى} يموت قَبْلُ بلوغ الأشدِّ {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أرذل العمر} وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل شيئاً وهو قوله: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} ثمَّ ذكر دلالةً أخرى على البعث فقال: {وترى الأرض هامدة} جافَّةً ذات ترابٍ {فإذا أنزلنا عليها الماء} المطر {اهتزت} تحركت بالنبات {وربت} زادت {وأنبتت من كلِّ زوج بهيج} من كلِّ صنفٍ حسنٍ من النَّبات

6

{ذلك} الذي تقدَّم ذكره من اختلاف أحوال خلق الإِنسان وإحياء الأرض بالمطر {بأن الله هو الحق} الدَّائم الثَّابت الموجود {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير}

7

{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}

8

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ علم} نزلت في أبي جهل {ولا هدىً} ليس معه من ربِّه رشادٌ ولا بيانٌ {ولا كتابٍ} له نورٌ

9

{ثاني عطفه} لاوي عنقه تكبُّراً {ليضل} الناس عن طاعة الله سبحانه باتِّباع محمَّد عليه السَّلام {له في الدنيا خزي} يعني: القتل ببدرٍ

10

{ذلك بما قدَّمت يداك} هذا العذاب بما كسبْتَ {وأن الله ليس بظلام للعبيد} لا يعاقب بغير جرمٍ

11

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} على جانبٍ لا يدخل فيه دخول مُتمكِّنٍ {فإن أصابه خير} خِصبٌ وكثرةُ مالٍ {اطمأنَّ به} في الدِّين بذلك الخصب {وإن أصابته فتنة} اختبارٌ بجدبٍ وقلَّة مالٍ {انقلب على وجهه} رجع عن دينه إلى الكفر

12

{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ} إن عصاه {ولا ينفعه} إن أطاعه {ذلك هو الضلال البعيد} الذَّهاب عن الحقِّ

13

{يدعو لمَنْ ضرُّه أقرب من نفعه} ضرره بعبادته أقرب من نفعه ولا ينفع عنده والعرب تقول لما لا يكون: هو بعيدٌ والمعنى في هذا أنَّه يضرُّ ولا ينفع {لبئس المولى} الناصر {ولبئس العشير} الصاحب والخليط

14

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}

15

{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ} محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يُظهره على الدِّين كلِّه فليمت غيظاً وهو تفسير قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} أَيْ: فليشدد حبلاً في سقفه {ثمَّ ليقطع} أَيْ: ليَمُدَّ الحبل حتى ينقطع فيموت مختلفا {فلينظر هل يُذْهِبَنَّ كيده ما يغيظ} غيظه وقوله:

16

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يريد}

17

{إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة} أَيْ: يحكم ويقضي بأن يدخل المؤمنين الجنَّة وغيرهم من هؤلاء الفرق النَّار {إنَّ الله على كل شيء شهيد} يريد: إنَّ اللَّهَ عالمٌ بما في قلوبهم

18

{ألم تر أنَّ الله يسجد له} يذلُّ له وينقاد له {من في السماوات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه العذاب} وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ منقاد لله عز وجل على ما خلقه وعلى ما رزقه وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه فالبر والفاجر والمؤمن والكافر في هذا سواءٌ {ومَنْ يهن الله} يذلَّه بالكفر {فما له من مكرم} أحدٌ يكرمه {إنَّ الله يفعل ما يشاء} يُهين من يشاء بالكفر ويكرم من يشاء بالإيمان

19

{هذان خصمان} يعني: المؤمنين والكافرين {اختصموا في ربهم} في دينه {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} يلبسون مقطعات النيران {يصبُّ من فوقِ رؤوسهم الحميم} ماءٌ حارٌّ لو سقطت نقطٌ على جبال الدُّنيا أذابتها

20

{يصهر} يُذاب {به} بذلك الماء {ما في بطونهم} من الأمعاء {والجلود} وتنشوي جلودهم فتتساقط

21

{ولهم مقامع} سياطٌ {من حديد}

22

{كلما أرادوا أن يخرجوا منها} من جهنَّم {من غمّ} يصيبهم {أعيدوا فيها} ردوا إليها بالمقاطع {و} تقول لهم الخزنة: {ذوقوا عذاب الحريق} النَّار وقال في الخصم الذين هم المؤمنون:

23

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات} الآية وهي مفسَّرةٌ في سورة الكهف

24

{وهدوا} أُرشدوا في الدُّنيا {إلى الطيب من القول} ت وهو شهادة أن لا إله إلا الله {وهدوا إلى صراط الحميد} دين اللَّهِ المحمود في أفعاله

25

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون عن طاعة الله تعالى {والمسجد الحرام} يمنعون المؤمنين عنه {الذي جعلناه للناس} خلقناه وبنيناه للنَّاس كلِّهم لم تخص به بعضاً دون بعض {سواءً العاكف فيه والباد} سواءٌ في تعظيم حرمته وقضاء النُّسك به الحاضر والذي يأتيه من البلاد فليس أهل مكَّة بأحقَّ به من النَّازع إليه {ومَن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ} أَيْ: إلحاداً بظلمٍ وهو أن يميل إلى الظُّلم ومعناه: صيد حمامة وقطع شجرة ودخوله غير مُحرمٍ وجميع المعاصي لأنَّ السَّيئات تُضاعف بمكَّة كما تضاعف الحسنات

26

{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} بيَّنا له أين يُبنى {أن لا تشرك} يعني: وأمرناه أَنْ لا تُشْرِكْ {بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} مفسَّرٌ في سورة البقرة

27

{وأذن في الناس} نادِ فيهم {بالحج يأتوك رجالاً} مُشاةً على أرجلهم {و} ركباناً {على كلّ ضامر} وهو البعير المهزول {يأتين من كلِّ فج عميق} طريق بعيدٍ

28

{ليشهدوا} ليحضروا {منافع لهم} من أمر الدُّنيا والآخرة {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني: التَّسمية على ما ينجر في يوم النَّحر وأيَّامِ التشويق {فكلوا منها} أمر إباحةٍ وكان أهل الجاهليَّة لا يأكلون من نسائكهم فأمر المسلمون أن يأكلوا {وأطعموا البائس الفقير} الشَّديد الفقر

29

{ثم ليقضوا تفثهم} يعني: ما يخرجون به من الإحرام وهو أخذ الشَّارب وتقليم الظُّفر وحلق العانة ولبس الثَّوب {وليوفوا نذورهم} يعني: ما نذروه من ير وهدي في أيَّام الحجِّ {وليطوفوا بالبيت العتيق} القديم: وقيل: المُعتق من أن يتسلَّط عليه جبَّار يعني: الكعبة

30

{ذلك} أَيْ: الأمر ذلك الذي ذكرت {ومن يعظم حرمات الله} فرائض الله وسننه {وأحلت لكم الأنعام} أن تأكلوها {إلاَّ ما يتلى عليكم} في قوله: {حرمت عليكم الميتة} الآية ومعنى هذا النَّهي تحريمُ ما حرَّمه أهل الجاهليَّة من البحيرة والسَّائبة وغير ذلك {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} يعني: عبادتها {واجتنبوا قول الزور} يعني: الشِّرك بالله

31

{حنفاء لله} مسلمين عادلين عن كلِّ دينٍ سواه {ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ} سقط {من السماء} فاختطفته الطَّير من الهواء أو ألفته الرِّيح في {مكان سحيق} بعيدٍ يعني: إنَّ مَنْ أشرك فقد هلك وبَعُدَ عن الحقِّ

32

{ذلك ومن يعظم شعائر الله} يستسمن البُدن {فإنَّ ذلك من} علامات التَّقوى

33

{لكم فيها منافع} الرُّكوب والدَّرُّ والنَّسل {إلى أجل مسمى} وهو أن يُسمِّيها هدياً {ثمَّ محلها} حيث يحلُّ نحرها عند {البيت العتيق} يعني: الحرم كلَّه

34

{ولكلِّ أمة} جماعةٍ سلفت قبلكم {جعلنا منسكاً} ذبحاً للقرابين {ليذكروا اسم الله} عند الذَّبح {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني: الأنعام {فإلهكم إله واحد} أَيْ: لا تذكروا على ذبائحكم إلاَّ الله وحده {فله أسلموا} أخلصوا العبادة {وبشر المخبتين} المتواضعين

35

{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفقون}

36

{والبدن} الإبل والبقر {جعلناها لكم من شعائر الله} أعلام دينه {لكم فيها خيرٌ} النَّفع في الدُّنيا والأجر في العقبى {فاذكروا اسم الله} وهو أن يقول عند نحرها: اللَّهُ أَكْبَرُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أكبر {صواف} قائمةً معقولة اليد اليسرى {فإذا وجبت جنوبها} سقطت على الأرض {فكلوا منها وأطعموا القانع} الذي يسألك {والمعتر} الذي يتعرَّض لك ولا يسألك {كذلك} الذي وفصفنا {سخرناها لكم} يعني: البدن {لعلَّكم تشكرون} لكي تطيعوني

37

{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} كان المشركون يُلطِّخون جدار الكعبة بدماء القرابين فقال الله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} أَيْ: لن يصل إلى اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم} أَيْ: النِّيَّةُ والإِخلاص وما أريد به وجه الله تعالى {لتكبروا الله على ما هداكم} إلى معالم دينه {وبشر المحسنين} المُوحِّدين

38

{إن الله يدافع} غائلة المشركين عن المؤمنين {إن الله لا يحب كل خوَّانٍ} في أمانته {كفورا} لنعمته وهم الذين تقرَّبوا إلى الأصنام بذبائحهم

39

{أُذِنَ للذين يقاتلون} يعني: المؤمنين وهذه أوَّلُ آيةٍ نزلت في الجهاد والمعنى: أُذن لهم أن يُقاتلوا {بأنهم ظلموا} بظلم الكافرين إيَّاهم {وإنَّ الله على نصرهم لقدير} وعدٌ من الله تعالى بالنَّصر

40

{الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} يعني: المهاجرين {إلاَّ أن يقولوا ربنا الله} أَيْ: لم يُخرجوا إلاَّ بأن وحَّدوا الله تعالى {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} لولا أن دفع الله بعض النَّاس ببعض {لهدِّمت صوامع وبيعٌ} في زمان عيسى عليه السَّلام {وصلوات} في أيَّام شريعة موسى عليه السَّلام يعني: كنائسهم وهي بالعبرانيَّة صلوتا {ومساجد} في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم {ولينصرنَّ الله من ينصره} يعني: مَنْ نصر دين الله نصره الله على ذلك {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ} على خلقه {عزيز} منيعٌ في سلطانه

41

{الذين إن مكناهم في الأرض} يعني: هذه الأمَّة إذا فتح الله عليهم الأَرْضِ {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} أَيْ: آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ثمَّ عزَّى نبيَّه فقال:

42

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}

43

{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ}

44

{وأصحاب مدين وكُذِّب موسى فأمليت للكافرين} أَيْ: أمهلتهم {ثم أخذتهم} عاقبتهم {فكيف كان نكير} إنكاري عليهم ما فعلوا بالعذاب

45

{فكأين من قرية} وكم من قريةٍ {أهلكناها وهي ظالمة} بالكفر {فهي خاوية} ساقطةٌ {على عروشها} سقوفها {وبئر مُعَطَّلَةٍ} متروكةٍ بموت أهلها {وقصر مشيد} رفيعٍ طويلٍ

46

{أفلم يسيروا في الأرض} يعني: كفَّار مكَّة {فينظروا} إلى مصارع الأمم المكذبة وهو قوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يسمعون بها} فيتفكَّروا ويعتبروا ثم ذكر أن الأبصار لا تعمى عن رؤية الآيات ولكن القلوب تعمى فلا يتفكروا ولا يعتبروا

47

{ويستعجلونك بالعذاب} كانوا يقولون له: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فقال الله تعالى: {ولن يخلف الله وعده} الذي وعدك من نصرك وإهلاكهم ثمَّ ذكر أنَّ لهم مع عذاب الدُّنيا في الآخرة عذاباً طويلاً وهو قوله تعالى: {وإنَّ يوماً عند ربك} أَيْ: من أيَّام عذابهم {كألف سنة مما تعدون} وذلك أن يوماً من أيَّام الآخرة كألفِ سنةٍ في الدُّنيا ثمَّ ذكر سبحانه أنَّه قد أخذ قوماً بعد الإِمهال فقال:

48

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثمَّ أخذتها وإلي المصير}

49

{قل يا أيها النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}

50

{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كريم}

51

{والذين سعوا في آياتنا} عملوا في إبطالها {معاجزين} مقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوتنا

52

{وما أرسلنا من قبلك من رسول} وهو الذي يأتيه جبريل عليه السلام بالوحي عياناً {ولا نبيّ} وهو الذي تكون نبوَّته إلهاماً ومناماً {إلاَّ إذا تمنى} قرأ {ألقى الشيطان} في قراءته ما ليس ممَّا يقرأ يعني: ما جرى على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قرأ سورة والنجم في مجلس من قريش فلما بلغ قوله تعالى: {ومناة الثَّالثة الأخرى} جرى على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى ثمَّ نبَّهه جبريل عليه السَّلام على ذلك فرجع وأخبرهم أنَّ ذلك كان من جهة الشَّيطان فذلك قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} يُبيِّنها حتى لا يجد أحدٌ سبيلاً إلى إبطالها {والله عليم} بما أوحى إلى نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم {حكيم} في خلقه ثمَّ ذكر أنَّ ذلك ليفتن الله به قوماً فقال:

53

{ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} ضلالةً {للذين في قلوبهم مرض} وهم أهل النِّفاق {والقاسية قلوبهم} المشركين {وإنَّ الظالمين} الكافرين {لفي شقاق بعيد} خلافٍ طويلٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين

54

{وليعلم الذين أوتوا العلم} التَّوحيد والقرآن {أنه الحق} أَيْ: الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن وهو الحقُّ {فتخبت له قلوبهم} فتخشع

55

{ولا يزال الذين كفروا في مرية} في شكٍّ {منه} ممَّا أُلقي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم {حتى تأتيهم الساعة} القيامة {بغتة} فجأة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} يعني: يوم بدرٍ وكان عقيماً عن أن يكون للكافرين فيه فرحٌ أو راحةٌ والعقيم معناه: التي لا تلد

56

{الملك يومئذ} يعني: يوم القيامة {لله} وحده من غير مُنازعٍ ولا مُدَّعٍ {يحكم بينهم} ثمَّ بيَّن حكمه فقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}

57

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مهين}

58

{والذين هاجروا} فارقوا أوطانهم وعشائرهم {في سبيل الله} في طاعة اللَّهِ {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رزقاً حسناً} في الجنَّة

59

{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مدخلاً} أَيْ: إدخالاً وموضعاً {يرضونه} وهو الجنة

60

{ذلك} أَيْ: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك {ومَنْ عاقب بمثل ما عوقب به} أَيْ: جازى العقوبة بمثلها {ثم بغي عليه} ظُلم {لينصرنَّه الله} يعني: المظلوم

61

{وذلك} أَيْ: ذلك النَّصر للمظلوم بأنَّه القادر على ما يشاء فمن قدرته أن {يولج الليل في النهار} يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا والباقي ظاهرٌ إلى قوله:

62

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هو العلي الكبير}

63

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خبير}

64

{له ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الحميد}

65

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم}

66

{إنَّ الإنسان لكفور} يعني: إنَّ الكافر لجاحدٌ لآيات الله تعالى الدَّالة على توحيده وقوله:

67

{لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه} شريعةً هم عاملون بها {فلا يُنازِعُنَّكَ} يُجادِلُنَّكَ {في الأمر} نزلت في الذين جادلوا المؤمنين فقالوا: ما لكم تأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ممَّا قتله الله؟

68

{وإن جادلوك} بباطلهم مِراءً وتعنُّتاً فادفعهم بقولك: {الله أعلم بما تعملون} من التكذيب والكفر

69

قال تعالى {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فيه تختلفون}

70

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض إنَّ ذلك} كلَّه {في كتاب} يعني: اللَّوح المحفوظ {إن ذلك} يعني: علمه بجميع ذلك {على الله يسير}

71

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ به} بعبادته {سلطاناً} حجَّةً وبرهاناً {وما ليس لهم به علم} لم يأتهم به كتابٌ ولا نبيٌّ {وما للظالمين} المشركين {من نصير} مانعٍ من عذاب الله تعالى

72

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني: القرآن {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} الإِنكار بالعبوس والكراهة {يكادون يسطون} يقعون ويبشطون {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ} بِشَرٍ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون {النار} أَيْ: هي النَّار

73

{يا أيها الناس} يعني: يا أهل مكَّة {ضرب مثل} بُيِّن لكم ولمعبودكم شَبَهٌ {فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله} من الأصنام {لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا} كلُّهم لخلقه {وإن يسلبهم الذباب شيئاً} ممَّا عليهم من الطَّيب {لا يستنقذوه منه} لا يستردُّوه منه لعجزهم {ضعف الطالبُ والمطلوب} يعني: العابد والمعبود والطَّالب: الذُّباب يطلب من الصَّنم ما لطِّخ به من الزَّعفران والطِّيب وهو مَثَلٌ لعابده يطلب منه الشَّفاعة والنُّصرة والمطلوب: الصنم

74

{ما قدروا الله حق قدره} ما عظَّموه حقَّ تعظيمه إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذُّباب ولا ينتصر منه

75

{الله يصطفي من الملائكة رسلاً} مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السَّلام {ومن الناس} يعني: النبيِّين عليهم السَّلام {إنَّ الله سميع} لقول عباد {بصير} بمَنْ يختاره

76

{يعلم ما بين أيديهم} ما عملوه {وما خلفهم} وما هم عاملون ممَّا لم يعلموه

77

قال تعالى {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخير لعلكم تفلحون}

78

{وجاهدوا في الله} في سبيل الله {حق جهاده} بينة صادقة {هو اجتباكم} اختاركم لدينه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج} ضيقٍ لأنَّه سهَّل الشَّريعة بالتَّرخيص {ملَّة أبيكم} اتبعوا ملَّة أبيكم {إبراهيم} كان هو في الحرمة كالأب صلى الله عليه وسلم ولذلك جُعل أبا المسلمين {هو سماكم} أَيْ: الله تعالى سمَّاكم {المسلمين من قبل} أي: من قبل القرآن في سائر الكتب {وفي هذا} يعني: القرآن {ليكون الرسول شهيداً عليكم} وذلك أنَّه يشهد لمَنْ صدَّقه وعلى مَنْ كذَّبه {وتكونوا شهداء على الناس} تشهدون عليهم أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم وقوله: {واعتصموا بالله} أَيْ: تمسَّكوا بدينه {هو مولاكم} ناصركم ومتولي أموركم {فنعم المولى ونعم النصير}

سورة المؤمنون

{قد أفلح المؤمنون} سعد المصدِّقون ونالوا البقاء في الجنَّة

2

{الذين هم في صلاتهم خاشعون} ساكنون لا يرفعون ابصارهم عن مواضع سجودهم

3

{والذين هم عن اللغو معرضون} عن كلِّ ما لا يجمل في الشَّرع من قولٍ وفعلٍ

4

{والذين هم للزكاة فاعلون} للصدقة الواجبة مودون

5

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} يحفظونها عن المعاصي

6

{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} من زوجاتهم {أو ما ملكت أيمانهم} من الإماء {فإنهم غير ملومين} لا يلامون في وطئهنَّ

7

{فمن ابتغى} طلب ما {وراء ذلك} ما بعد الزَّوجة والأَمَة {فأولئك هم العادون} المتعدُّون عن الحلال إلى الحرام

8

{والذين هم لأماناتهم} ما ائتمنوا عليه من أمر الدِّين والدُّنيا {وعهدهم راعون} وحلفهم الذي يُوجد عليهم راعون يرعون ذلك ويقومون بإتمامه

9

{والذين هم على صلواتهم يحافظون} بإدائها في مواقيتها

10

{أولئك هم الوارثون} ثمَّ ذكر ما يرثون فقال:

11

{الذين يرثون الفردوس} وذلك أنَّ الله تعالى جعل لكل امرئ بيتاً في الجنَّة فمَنْ عمل عمل أهل الجنَّة ورث بيته في الجنَّة والفردوس خير الجنان

12

{ولقد خلقنا الإنسان} ابن آدم {من سلالة} من ماءٍ سُلَّ واستُخرِجَ من ظهر آدم وكان آدم عليه السَّلام خُلق من طينٍ

13

{ثمَّ جعلناه} جعلنا الإنسان {نطفة} في أوَّل بُدوِّ خلقه {في قرار مكين} يعني: الرَّحم وقوله

14

{ثم أنشأناه خلقاً آخر} قيل: يريد الذُّكورية والأُنوثيَّة وقيل: يعني: نفخ الرُّوح وقيل: نبات الشَّعر والأسنان {فتبارك الله} استحقَّ التَّعظيم والثَّناء بدوام بقائه {أحسن الخالقين} المُصوِّرين والمقدرين

15

{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}

16

{ثمَّ إنكم يوم القيامة تبعثون}

17

{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} سبع سماوات كلٌّ سماءٍ طريقةٌ {وما كنَّا عن الخلق غافلين} عمَّن خلقنا من الخلق كلِّهم

18

{وأنزلنا من السماء ماء بقدر} بمقدارٍ معلومٍ عند الله تعالى {فأسكناه} أثبتناه {في الأرض} قيل: هو النِّيل ودجلة والفرات وسيحان وجيحان وقيل: هو جميع المياه فِي الأَرْضِ {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} حتى تهلكوا أنتم ومواشيكم عطشا وقوله:

19

{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}

20

{وشجرة تخرج} يعني: الزَّيتون {من طور سيناء} يعني: جبلاً معروفاُ أوَّل ما ينبت الزَّيتون ينبت هناك {تنبت بالدهن} لأنَّه يتَّخذ الدُّهن من الزَّيتون {وصبغ} إدام {للآكلين} وقوله:

21

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تأكلون}

22

{وعليها وعلى الفلك تحملون}

23

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}

24

{يريد أن يتفضل عليكم} يتشَّرف عليكم فيكون أفضل منكم بأن يكون متبوعاً وتكونوا له تبعاً {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} تُبلِّغنا عنه {ما سمعنا بهذا} الذي يدعو إليه نوحٌ {في آبائنا الأولين}

25

{إن هو} ما هو {إلاَّ رجلٌ به جنة} جنونٌ {فتربصوا به حتى حين} انتظروا موته حتى يموت

26

{قال رب انصرني} بإهلاكهم {بما كذبون} بتكذيبهم إياي وقوله:

27

{فأوحينا إليه} الآية مُفسَّرة في سورة هود {فاسلك فيها} أَيْ اُدخل في السَّفينة والباقي مفسَّر في سورة هود

28

{فإذا استويت} اعتدلت في السَّفينة راكباً الآية

29

{وقل رب أنزلني} منها {منزلاً} إنزالاً {مباركاً} فاستجاب الله تعالى دعاءَه حيث قال: {اهبط بسلام منا وبركات عليك} وبارك فيهم بعد إنزالهم من السَّفينة حتى كان جميع الخلق من نسل نوحٍ ومَنْ كان معه في السَّفينة

30

{إن في ذلك} الذي ذكرت {لآيات} لدلالاتٍ على قدرتنا {وإن كنا لمبتلين} مُختبرين طاعتهم بإرسال نوحٍ إليهم

31

{ثم أنشأنا من بعدهم} أحدثنا {قرناً آخرين} يعني: عاداً

32

{فأرسلنا فيهم رسولاً منهم} وهو هود وقوله:

33

{وأترفناهم} أَيْ: نعَّمناهم ووسَّعنا عليهم وقوله:

34

{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}

35

{أنكم مخرجون} أَيْ: من قبوركم أحياء

36

{هيهات هيهات} بُعْداً {لما توعدون} من البعث

37

{إن هي} ما هي {إلاَّ حياتنا الدنيا} يعني: الحياة الدَّانية في هذه الدَّار {نموت ونحيا} يموت الآباء ويحيا الأولاد

38

{إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وما نحن بمبعوثين}

39

{قال رب انصرني} عليهم {بما كذبون} بتكذيبهم إياي

40

{قال عمَّا قليل} عن قريبٍ {ليصبحنَّ نادمين} يندمون إذا نزل بهم العذاب على التَّكذيب

41

{فأخذتهم الصيحة} صيحة العذاب {بالحق} بالأمر من الله تعالى {فجعلناهم غثاء} هلكى هامدين كغثاء السَّيل وهو ما يحمله من بالي الشَّجر {فبعداً} فهلاكاً {للقوم الظالمين} المشركين

42

{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ}

43

{مَا تسبق من أمة أجلها} لا تموت قبل أجلها {وما يستأخرون} بعد الأجل طرفة عين وقوله:

44

{تترا} أَيْ: متتابعةً {وجعلناهم أحاديث} أَيْ: لمَنْ بعدهم يتحدثون بهم وقوله:

45

قال تعالى {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مبين}

46

{وكانوا قوماً عالين} مستكبرين قاهرين غيرهم بالظُّلم

47

{وقومهما لنا عابدون} أَيْ: مطيعون متذللون

48

{فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}

49

{ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون} لكي يهتدي به قومه

50

{وجعلنا ابن مريم وأُمَّه آية} دلالة على قدرتنا {وآويناهما إلى ربوة} يعني: بيت المقدس وهو أقرب الأرض إلى السَّماء {ذات قرار} أرضٍ مستويةٍ وساحةٍ واسعةٍ {ومعين} ماءٍ ظاهرٍ وقيل: هي دمشق

51

{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} هذا خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أنَّ الله تبارك وتعالى كأنه أخبر أنَّه قد قال لجميع الرُّسل قبله هذا القول وأمرهم بهذا والمعنى: كلوا من الحلال

52

{وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة} أَيْ: ملَّتكم أيُّها الرُّسل ملَّةٌ واحدةٌ وهي الإِسلام {وأنا ربكم} شرعتها لكم وبيَّنتها لكم {فاتقون} فخافون

53

{فتقطعوا أمرهم بينهم} يعني: المشركين واليهود والنصارى {وزيرا} فرقاً {كلُّ حزب} جماعةٍ {بما لديهم} بما عندهم من الدِّين {فرحون} مُعجبون مسرورون

54

{فذرهم في غمرتهم} حيرتهم وضلالتهم {حتى حين} يريد: حتى حينِ الهلاكِ بالسَّيف أو الموت

55

{أيحسبون أنما نمدُّهم به} ما نبسط عليهم {من مال وبنين} من المال والأولاد في هذه الدُّنيا

56

{نسارع لهم في الخيرات} نُعطيهم ذلك ثواباً لهم {بل لا يشعرون} أنَّ ذلك استدراجٌ ثمَّ رجع إلى ذكر أوليائه فقال:

57

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} خائفون عذابه ومكره

58

{وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}

59

{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}

60

{والذين يؤتون ما آتوا} يُعطون ما يُعطون {وقلوبهم وجلة} خائفةٌ أنَّ ذلك لا يُقبل منهم وقد أيقنوا أنَّهم إلى ربِّهم صائرون بالموت وقوله:

61

{وهم لها سابقون} أَيْ: إليها ثمَّ ذكر أنَّه لم يُكلِّف العبد إلاَّ ما يسعه فقال:

62

{ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها} فمَنْ لم يستطع أن يصلي قائماً فليصلِّ جالساً {ولدينا كتاب} يعني: اللَّوح المحفوظ {ينطق بالحق} يُبيِّن بالصِّدق {وهم لا يظلمون} لا ينقصون من ثواب أعمالهم ثمَّ عاد إلى ذكر المشركين فقال:

63

{بل قلوبهم في غمرة} في جهالةٍ وغفلةٍ {من هذا} الكتاب الذي ينطق بالحقِّ {ولهم أعمال من دون ذلك} وللمشركين أعمالٌ حبيثة دون أعمال المؤمنين الذين ذكرهم {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}

64

{حتى إذا أخذنا مترفيهم} رؤساءَهم وأغنياءَهم {بالعذاب} بالقحط والجوع سبع سنين {إذا هم يجأرون} يضجُّون ويجزعون ونقول لهم:

65

{لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} لا تُمنعون ولا ينفعكم جزعكم

66

{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} يعني: القرآن {فكنتم على أعقابكم} على أدياركم {تنكصون} ترجعون القهقرى مُكذِّبين به

67

{مستكبرين به} أي: بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحدٌ لأنَّا أهل الحرم {سامراً} سُمَّاراً باللَّيل {تُهْجِرُون} تهذون وتقولون الهُجر من سب النبي صلى الله عليه وسلم

68

{أفلم يدبروا القول} يتدبَّروا القرآن فيقفوا على صدقك {أم جاءهم} بل أَجاءهم {ما لم يأت آباءهم الأولين} يريد: إنَّ إنزال الكتاب قد كان قبل هذا فليس إنزال الكتاب عليك ببديعٍ ينكرونه

69

{أم لم يعرفوا رسولهم} الذي نشأ فيما بينهم وعرفوه بالصِّدق

70

{أم يقولون} بل أيقولون {به جنة} جنونٌ {بل جاءهم} ليس الأمر كما يقولون بل جاءهم الرَّسول {بالحق} بالقرآن من عند الله

71

{ولو اتبع الحق} القرآن الذي يدعو إلى المحاسن {أهواءَهم} التي تدعو إلى المقابح أي: لو كان التَّنزيل بما يُحبُّون {لفسدت السماوات والأرض} وذلك أنها خلفت دلالةً على توحيد الله فلو كان القرآن على مرادهم لكن يدعو إلى الشِّرك وذلك يُؤدِّي إلى إفساد أدلة التَّوحيد وقوله: {ومَنْ فيهنَّ} لأنَّهم حينئذٍ يُشركون بالله تعالى {بل أتيناهم بذكرهم} بشرهم في الدُّنيا والآخرة

72

{أم تسألهم} أنت يا محمَّد على ما جئت به {خرجاً} جُعلاً وأجراً {فخراج ربك} فعطاه ربك وثوابه {خير} وقوله:

73

{وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم}

74

{لناكبون} أَيْ: عادلون مائلون

75

{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} جذب وقحطٍ {للجوا} لتمادوا {في طغيانهم يعمهون} نزلت هذه الآية حين شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: قتلْتَ الآباء بالسَّيف والأبناء بالجوع

76

{ولقد أخذناهم بالعذاب} بالجوع {فما استكانوا لربهم} ما تواضعوا

77

{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شديد} يوم بدرٍ وقيل: عذاب الآخرة {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كلِّ خير وقوله:

78

قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قليلا ما تشكرون}

79

قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}

80

{وله اختلاف الليل والنهار} أي: هو الذي جعلنهما مختلفين وقوله:

81

{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ}

82

{قَالُوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاما أإنا لمبعوثون}

83

{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إن هذا إلاَّ أساطير الأوَّلين}

84

{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تعلمون}

85

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}

86

{قل من رب السماوات السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}

87

{سيقولون لله قل أفلا تتقون}

88

{ملكوت كل شيء} أي: ملكه يعني: مَنْ يملك كلَّ شيء؟ {وهو يجير} يُؤمن من يشاء {ولا يجار عليه} لا يُؤمَنُ مَنْ أخافه وقوله:

89

{فأنى تسحرون} تُخدعون وتُصرفون عن توحيده وطاعته

90

{بل أتيناهم بالحق} يعني: القرآن {وإنهم لكاذبون} أنَّ الملائكة بنات الله

91

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بما خلق} ينفرد بمخلوقاته فيمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليها {ولعلا بعضهم على بعض} بالقهر والمزاحمة كالعادة بين الملوك {سبحان الله} تنزيهاً له {عما يصفون} من الكذب

92

{عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}

93

{قل رب إما تريني ما يوعدون} ما يُوعَدُ المشركون من العذاب

94

{فلا تجعلني} معهم أَيْ: إنْ أنزلت بهم النِّقمة فاجعلني خارجا منهم

95

{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}

96

{ادفع بالتي هي أحسن} من الحلم والصَّفح {السيئة} التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه {نحن أعلم بما يصفون} فنجازيهم به وهذا كان قبل الأمر بالقتال

97

{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} نزعاتها ووساوسها

98

{وأعوذ بك رب أن يحضرون} في شيءٍ من أموري وقوله:

99

{رب ارجعون} أي: ارددني إلى الدُّنيا

100

{لعلي أعمل صالحاً} أَيْ: بالتَّوحيد {فيما تركت} حين كنت في الدُّنيا {كلا} لا يرجع إلى الدُّنيا {إنها كلمة هو قائلها} عند الموت ولا يُجاب إلى ذلك {ومن ورائهم} أمامهم {برزخ} حاجزٌ بينهم وبين الرُّجوع إلى الدُّنيا

101

{فإذا نفخ في الصور} النَّفخة الأخيرة {فلا أنساب بينهم يومئذ} لا يفتخرون بالأنساب {ولا يتساءلون} كما يتساءلون في الدُّنيا من أيِّ قبيلةٍ ونَسبٍ أنت

102

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

103

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جهنم خالدون}

104

{تفلح} تحرق {وهم فيها كالحون} عابسون لتقلُّص شفاههم بالانشواء فيقال لهم:

105

{أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تكذبون}

106

{قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا} التي قضيتَ علينا {وكنا قوماً ضالين} أقرُّوا على أنفسهم بالضلال وقوله:

107

{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}

108

{اخسؤوا} أي: تباعدوا تباعد سخط عليكم وقوله:

109

{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}

110

{فاتخذتموهم سخرياً} أَيْ: سخرتم منهم واسهزأتم {حتى أنسوكم ذكري} لاشتغالكم بالاستهزاء

111

{إني جزيتهم اليوم} قابلتُ عملهم بما يستحقُّون من الثَّواب {بما صبروا} على أذاكم {أنهم هم الفائزون} النَّاجون من العذاب والنَّار

112

{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} قال الله تعالى لمنكري البعث إذا بعثهم من قبورهم: كم لبثتم في قبوركم؟ وهذا سؤال توبيخٍ لهم لأنَّهم كانوا يُنكرون أن يُبعثوا من قبورهم

113

{قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} وذلك أنَّ العذاب رُفع عنهم فيما بين النَّفختين ونسوا ما كانوا فيه من العذاب فاستقصروا مدَّة لبثهم فلذلك قَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين} أي: فاسأل الملائكة الذين يحفظون عدد ما لبثنا

114

{قال إن لبثتم} ما لبثتم {إلاَّ قليلاً} وإن طال لبثكم في طول لبثكم في النَّار {لو أنكم كنتم تعلمون} مقدار لبثكم في القبر وذلك أنَّهم لم يعلموا ذلك حيث قالوا: {لبثنا يوماً أو بعض يوم} فقيل: لهم: لو كنتم تعلمون ذلك كان قليلاً عند طول لبثكم في النَّار

115

{أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً} أَيْ: للعبث لا لحكمة من ثوابٍ للمطيع وعقابٍ للعاصي وقيل: عبثاً للعبث حتى تعبثوا وتغفلوا وتلهوا

116

{رب العرش الكريم} أي: السَّرير الحسن

117

{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا برهان له به} لا حجَّة له بما يفعل من عبادته غير الله {فإنما حسابه عند ربه} جزاؤه عند الله تعالى فهو يجازيه لما يستحقُّه {إنه لا يفلح الكافرون} لا يسعد المُكذِّبون ثم أمر رسوله أن يستغفر للمؤمنين ويسأل لهم الرَّحمة فقال:

118

{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}

سورة النور

{سورة أنزلناها} أَيْ: هذه سُورةٌ أنزلناها {وفرضناها} ألزمنا العمل بما فُرض فيها

2

{الزانية والزاني} إذا كانا حُرَّين بالغين غير محصنين {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تأخذكم بهما رأفة} رقَّةٌ ورحمةٌ فَتُعطِّلوا الحدود وتخفِّفوا الضَّرب حتَّى لا يُؤلم وقوله: {في دين الله} أَيْ: في حكم الله {وليشهد} وليحضر {عذابهما} جلدهما {طائفة} نفرٌ {من المؤمنين}

3

{الزاني لا ينكح إلاَّ زانية} الآية نزلت في قومٍ من فقراء المهاجرين همُّوا أن يتزوَّجوا بغايا كنَّ بالمدينة لِعَيْلَتِهم فأنزل الله تعالى تحريم ذلك لأنهنَّ كنَّ زانياتٍ مشركاتٍ وبيَّن أنَّه لا يتزوَّج بهنَّ إلاَّ زانٍ أو مشركٌ وأنَّ ذلك حرامٌ على المؤمنين

4

{والذين يرمون} بالزِّنا {المحصنات} الحرائر العفائف {ثمَّ لم يأتوا} على ما رموهنَّ به {بأربعة شهداء} أَيْ: يشهدون عليهنَّ بذلك {فاجلدوهم} أَي: الرَّامين {ثمانين جلدة} يعني: كلَّ واحدٍ منهم {ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً} لا تُقبل شهادتهم إذا شهدوا لأنَّهم فسقوا برمي المحصنات إلاَّ أن يرجعوا ويُكذِّبوا أنفسهم ويتركوا القذف فينئذ تُقبل شهادتهم لقوله تعالى:

5

{إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك}

6

{والذين يرمون أزواجهم} يقذفوهن بالزِّنا {ولم يكن لهم شهداء إلاَّ أنفسهم} يشهدون على صحَّة ما قالوا إلاَّ هم {فشهادة أحدهم أربع شَهاداتٍ بالله} أربع مرات أنَّه صادقٌ فيما قذفها به يُسقط عنه الحدَّ ثم يقول في الخامسة: لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فإذا فعل الزَّوج هذا وجب الحدُّ على المرأة ويسقط ذلك عنها بأن تقول: أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين فيما قذفني به أربع مرات وذلك لقوله تعالى:

7

{وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ من الكاذبين}

8

{ويدرأ عنها العذاب} أَيْ: يدفع عنها عقوبة الحدِّ والخامسة تقول: عليَّ غضب الله إن كان الصادقين

9

{وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ من الصادقين}

10

{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} جواب لولا محذوفٌ عل تقدير: لفضحكم بارتكاب الفاحشة ولعاجلكم بالعقوبة ولكنَّه {توابٌ} يقبل التَّوبة ويرحم مَنْ رجع عن السَّيئة {حَكِيمٌ} فيما فرض من الحدود

11

{إنَّ الذين جاؤوا بالإِفك} بالكذب على عائشة رضوان الله عليها وصفوان {عصبة} جماعة {منكم} يعني: حسَّان بن ثابت ومسطحاً وعبد الله ابن أُبيّ المنافق وحمنة بنت جحش {لا تحسبوه} لا تحسبوا ذلك الإفك {شرّاً لكم بل هو خيرٌ لكم} لأنَّ الله تعالى يأجركم على ذلك ويُظهر براءتكم {لكلِّ امرىء منهم مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} جزاء ما اجترح من الذَّنب {والذي تولَّى كبره} تحمَّل معظمه فبدأ بالخوض فيه وهو عبد الله ابن أبي

12

{لولا} هلاَّ {إذ سمعتموه} يعني: الإِفك {ظنَّ المؤمنون والمؤمنات} رجع من الخطاب إلى الخبر والمعنى: ظننتم أيُّها المؤمنون بالذين هم كأنفسهم {خيراً} والمؤمنون كلُّهم كالنَّفس الواحدة وقلتم: {هذا إفك مبين} كذبٌ ظاهرٌ

13

{لولا جاؤوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فأولئك عند الله هم الكاذبون}

14

{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة لمسكم} لأصابكم {في ما أفضتم} خضتم {فيه} من الإفك {عذاب عظيم}

15

{إذ تلقونه بألسنتكم} تأخذونه ويرويه بعضكم عن بعض {وتحسبونه هيناً} وتظنُّونه سهلاً وهو كبيرٌ عند الله سبحانه

16

{ولولا} هلاَّ {إذ سمعتموه} سمعتم هذا الكذب {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سبحانك} تعجُّباً من هذا الكتاب {هذا بهتان} كذبٌ نتحيَّر من عظمه والمعنى: هلا أنكرتموه وصنتم ألسنتكم عن الخوض فيه؟

17

{يعظكم الله أن تعودوا} كراهة أن تعودوا لمثل هذا الإِفك أبداً

18

{إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} يفشوَ الزِّنا {في الذين آمنوا لهم عذاب أليمٌ} وهم المنافقون كانوا يشيعون هذا الكذب ويطلبون العيب للمؤمنين وأن يكثر فيهم الزنا

19

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}

20

{ولولا فضل الله عليكم ورحمته} لعجَّل لكم الذي تستحقُّونه من العقوبة

21

{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا} ما صلح وطهر من هذا الذَّنب أحد {منكم} يعني: من الذين خاضوا فيه {ولكنَّ الله يزكي مَنْ يشاء} يُطهِّر مَنْ يشاء من الإِثم والذَّنب بالرَّحمة والمغفرة

22

{ولا يأتل} ولا يحلف {أولو الفضل منكم والسعة} يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سبيل الله} يعني: مسطحاً وكان مسكيناً مهاجراً وكان ابن خالة أبي بكر وكان قد حلف أن لا ينفق عليه ولا يُؤتيه شيئاً {وليعفوا وليصفحوا} عنهم لخوضهم في حديث عائشة {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} فلمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق بلى أنا أحبُّ أن يغفر الله لي ورَجَع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه

23

{إنَّ الذين يرمون المحصنات الغافلات} عن الفواحش كغفلة عائشة رضي الله عنها عمَّا قذفت به {لعنوا} عُذِّبوا {في الدنيا} بالجلد {و} في {الآخرة} بالنار

24

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كانوا يعملون} وقوله:

25

{يوفيهم الله دينهم الحق} أي: جزاءهم الواجب {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ المبين} لأنَّه قد بيَّن لهم حقيقة ما كان بعدهم به في الدُّنيا

26

{الخبيثات} من القول وقيل: من النِّساء {للخبيثين} من الرِّجال {والخبيثون} من النَّاس {للخبيثات} من القول وقيل: من النِّساء {والطيبات} من القول وقيل: من النِّساء {للطيبين} من النَّاس {والطيبون} من النَّاس {للطيبات} من القول وقيل: من النَّاس {أولئك} يعني: عائشة وصفوان {مبرَّؤون مما يقولون} يقوله أهل الخبث والقاذفون

27

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تستأنسوا} تستأذنوا {وتسلموا على أهلها} وهو أن يقول: السَّلام عليكم أَأَدخلُ

28

{فإن لم تجدوا فيها} في البيوت {أحداً} يأذن لكم في دخولها {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لكم ارجعوا} انصرفوا {فارجعوا} ولا تقفوا على أبوابهم {هو} أي: الرُّجوع {أزكى لكم} أطهر لكم وأصلح فلمَّا نزلت هذا الآية قيل: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في الطَّريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه

29

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مسكونة} بغير استئذانٍ {فيها متاع} منفعةٌ {لكم} في قضاء حاجةٍ أو نزولٍ وغيره

30

{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} يكفُّوها عن النَّظر إلى ما لا يحلُّ {ويحفظوا فروجهم} عن مَنْ لا يحلُّ وقيل: يستروها حتى لا تظهر وقوله:

31

{ولا يبدين زينتهن} يعني: الخلخالين والقُرطين والقلائد والدَّماليج ونحوها ممَّا يخفى {إلاَّ ما ظهر منها} وهو الثِّياب والكحل والخاتم والخضاب والسِّوار فلا يجوز للمرأة أن تظهر إلاَّ وجهها ويديها إلى نصف الذِّراع {وليضربن بخمرهنَّ} وليلقين مقانعهنَّ {على جيوبهن} ليسترون بذلك شعورهنَّ وقرطهنَّ وأعناقهنَّ {ولا يبدين زينتهن} يعن: الزينة الخفيَّة لا الظَّاهرة {إلاَّ لبعولتهن} أزواجهنَّ وقوله: {أو نسائهنَّ} يعني: النِّساء المؤمنات فلا يحلُّ لامرأةٍ مسلمةٍ أن تتجرَّد بين يدي امرأةٍ مشركةٍ إلاَّ إذا كانت المشركة مملوكةً لها وهو قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أولي الإربة من الرجال} يعني: الذين يتَّبعون النِّساء يخدمونهنَّ ليصيبوا شيئاً ولا حاجة لهم فيهنَّ كالخصيِّ والخنثى والشَّيخ الهَرِم والأحمق العنِّين {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء} لم يقووا عليها {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زينتهنَّ} أَيْ: لا يضربن بإحدى الرِّجلين على الأخرى ليصيب الخلخالُ الخلخالَ فيعلم أنَّ عليها خلخالين فإنَّ ذلك يحرِّك من الشَّهوة {وتوبوا إلى الله جميعاً} راجعوا طاعة الله سبحانه فيما أمركم ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السُّورة

32

{وأنكحوا الأيامى منكم} الذين لا أزواج لهم من الرِّجال والنِّساء {والصالحين من عبادكم} عبيدكم {وإمائكم} جورابكم {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هذا وعدٌ من الله تعالى بالغنى على النِّكاح وإعلامٌ أنَّه سببٌ لنفي الفقر

33

{وليستعفف} وليعفَّ عن الحرام مَنْ لا يقدر على تزوُّج امرأةٍ بأن لا يملك المهر والنًّفقة {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} يطلبون {الكتاب} المكاتبة {مما ملكت أيمانكم} من عبيدكم وهو أن يطلب من مولاه أن يبيعه منه بمالٍ معلومٍ يُؤدِّيه إليه في مدَّةٍ معلومةٍ فإذا أدَّى ذلك عتق {فكاتبوهم} فأعطوهم ما يطلبون من الكتابة {إن علمتم فيهم خيراً} اكتساباً للمال يقدرون على أداء مال الكتابة {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} يعني: حطُّوا عنهم من المال الذي كاتبتموهم عليه ويستحبُّ ذلك للسيِّد وهو أن يحطَّ عنه ربع المال وقيل: المراد بهذا أن يُؤتوا سهمهم من الزَّكاة {ولا تكرهوا فتياتكم} إماءكم {على البغاء} الزِّنا نزلت في عبد الله ابن أُبيِّ وكانت له جوارٍ يكرههنَّ على الزِّنا ويأخذ منهنَّ أجراً معلوماً {إن أردن تحصناً} قيل: إنَّ هذا راجعٌ إلى قوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} إن أردن تحصُّناً وقيل: إنْ بمعنى: إذ والمعنى: لا تكرهوهنَّ على الزِّنا إذ أردن التًّعفُّف عنه {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} يعني: ما يؤخذ من أجورهنَّ {ومن يكرههنَّ} على الزِّنا {فإنَّ الله من بعد إكراههنَّ} لهنَّ {غفور رحيم} والوزر على المُكْرِه

34

{ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} يعني: القرآن {ومثلاً} وخبراً وعبرةً {من الذين خَلَوا} مضوا {من قبلكم} يعني: ما ذكر من قصص القرون الماضية

35

{الله نور السماوات والأرض} أَيْ: بنوره وهداه يهتدي من في السماوات والأرض ثمَّ ضرب مثلاً لذلك النُّور الذي يقذفه في قلب المؤمن حتى يهتدي به فقال: {مثل نوره كمشكاة} وهي الكوَّة غير النَّافذة والمراد بها ها هنا الذي وسط القنديل كالكوَّة يُوضع فيها الذُّبالة وهو قوله: {فيها مصباح} يعني: السِّراج {المصباح في زجاجة} لأنَّ النُّور في الزُّجاج وضوء النَّار أبين منه في كلِّ شيءٍ {الزجاجة كأنها كوكب} لبياضه وصفائه {دريّ} منسوبٌ إلى أنه كالدر {يوقد} أي: الزُّجاجة والمعنى للمصباح ولكنه حذف المضاف مَنْ قرأ بالياء أراد: يُوقد المصباح {من شجرة} أَيْ: من زيت شجرةٍ {مباركة زيتونة لا شرقية} ليست ممَّا يطلع عليها الشَّمس في وقت شروقها فقط {ولا غربية} أو عند الغروب والمعنى: ليس يسترها عن الشَّمس في وقتٍ من النَّهار شيءٌ فهو أنضر لها وأجود لزيتها {يكاد زيتها يضيء} لصفائه دون السراج وهو قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني: نور السراج ونور الزيت ثم قال عزَّ مِنْ قائلٍ: {يهدي الله لنوره مَنْ يشاء} الآية

36

{في بيوت} أَي: المصباح يوقد فِي بُيُوتٍ يعني: المساجد {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ ترفع} تبنى وقوله تعالى:

37

{تتقلب فيه القلوب} بين الطَّمع في النَّجاة والحذر من الهلاك {والأبصار} تنقلب في أي ناحية نؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشِّمال؟ ومن أيِّ جهةٍ يُؤتون كُتبهم من جهة اليمين أم من جهة الشِّمال؟

38

{ليجزيهم الله أحسن} بأحسن {ما عملوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ما لم يستحقُّوه بأعمالهم ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكافرين فقال:

39

{والذين كفروا أعمالهم كسراب} وهو يا يرى في الفلوات عند شدَّة الحرِّ كأنَّه ماءٌ {بقيعة} جمع قاعٍ وهو المنبسط من الأرض {يحسبه الظمآن} يظنُّه العطشان {ماءً حتى إذا جاءه} جاء موضعه {لم يجده شيئاً} كذلك الكافر يحسب أنَّ عمله مُغنٍ عنه أو نافعه شيئاً فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئاً {ووجد الله عنده} ووجد الله بالمرصاد عند ذلك {فوفَّاه حسابه} تحمَّل جزاء عمله

40

{أو كظلمات} وهذا مثلٌ آخرُ ضربه الله لأعمال الكافر {في بحر لجيٍّ} وهو البعيد القعر الكثير الماء {يغشاه} يعلوه {موجٌ} وهو ما ارتفع من الماء {من فوقه موج} متراكمٌ بعضه على بعض {مِن} فوق الموج {سحاب} وهذه كلُّها {ظلمات بعضها فوق بعض} ظلمة السَّحاب وظلمة الموج وظلمة البحر {إذا أخرج} النَّاظر {يده} بين هذه الظُّلمات {لم يكد يراها} لم يرها لشدَّة الظُّلمة وأراد بالظُّلمات أعمال الكفار وبالبحر اللُّجيِّ قلبه وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشَّكِّ والحيرة وبالسَّحاب الرِّين والختم على قلبه ثمَّ قال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا له من نور} أَيْ: مَنْ لم يهده الله للإِسلام لم يهتد

41

{ألم تر أنَّ الله يسبح له} يصلّي له {من السماوات والأرض} المطيع يُسبِّح له والعاصي يذلُّ أيضاً بخلق الله تعالى إيَّاه على ما يشاء على أنَّ الله بريءٌ من السُّوء {والطير صافات} أجنحتهنَّ في الهواء تسبِّح الله {كلٌّ قد علم صلاته} وهي لبني آدم {وتسبيحه} وهو عامٌّ لغيرهم من الخلق

42

{ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير}

43

{ألم تر أنَّ الله يزجي} يسوق {سحاباً} إلى حيث يريد {ثمَّ يؤلف بينه} يجمع بين قطع ذلك السَّحاب {ثم يجعله ركاماً} بعضه فوق بعض {فترى الودق} المطر {يخرج من خلاله} فُرَجِه {وينزل من السماء من جبالٍ} في السَّماء {من بَردٍ فيصيب} بذلك البرد {مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سنا برقه} ضوء برق السَّحاب {يذهب بالأبصار} من شدَّة توقُّده

44

{يقلب الله الليل والنهار} يُصرِّفهما في اختلافهما وتعاقبهما {إن في ذلك} الذي ذكرت من هذه الأشياء {لعبرة لأولي الأبصار} لذوي العقول

45

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} أَيْ: من نطفةٍ {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بطنه} كالحيًّات والحيتان {ومنهم من يمشي على رجلين} كالإنس والجنِّ والطَّير {ومنهم من يمشي على أربع} كالبقر والجمال وغيرهما

46

{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

47

{ويقولون آمنا بالله} يعني: المنافقين {ثمَّ يتولى} يعرض عن قبول حكم الرَّسول صلى الله عليه وسلم {فريق منهم من بعد ذلك} الإقرار {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}

48

{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} إلى كتاب الله {ورسوله ليحكم بينهم} نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهوديّ كان اليهوديُّ يجرُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما وجعل المنافق يجرُّه إلى كعب بن الأشرف وهذا إذا كان الحقُّ على المنافقين أعرضوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّه كان لا يقبل الرُّشا وإن كان لهم الحقُّ على غيرهم أسرعوا إلى حكمه وهو قوله تعالى:

49

{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} مُطيعين منقادين قال الله تعالى:

50

{أفي قلوبهم مرض} فجاء بلفظ التَّوبيخ ليكون أبلغ في ذمِّهم {أم ارتابوا} شكُّوا {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي: يظلم {بل أولئك هم الظالمون} لأنفسهم بكفرهم ونفاقهم

51

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

52

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فأولئك هم الفائزون}

53

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} وذلك أنَّ المنافقين حلفوا أنَّهم يخرجون إلى حيث يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم للغزو والجهاد فقال الله تعالى: {قل لا تقسموا طاعة معروفة} خيرٌ وأمثلُ من يمينٍ تحنثون فيها

54

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فإنما عليه ما حمَّل} من تبليغ الرِّسالة {وعليكم ما حملتم} من طاعته الآية

55

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنَّهم في الأرض} ليورثنَّهم أرض الكفَّار من العرب والعجم {كما استخلف الذين من قبلهم} يعني: بني إسرائيل {وليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} حتى يتمكَّنوا منه من غير خوفٍ {وليبدلنَّهم من بعد خوفهم} من العدوِّ {أمناً} لا يخافون معه العدوَّ {ومن كفر} بهذه النِّعمة فعصى الله ورسوله وسفك الدِّماء {فأولئك هم الفاسقون} فكان أوَّل مَنْ كفر بهذه النِّعمة بعد ما أنجز الله وعده الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه فعادوا في الخوف وظهر الشر والخلاف

56

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ ترحمون}

57

{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ومأواهم النار ولبئس المصير}

58

{يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} من العبيد والإماء {والذين لم يبلغوا الحلم منكم} من الأحرار {ثلاث مرَّات} ثمَّ بيَّنهنَّ فقال: {من قبل صلاة الفجر} وهو حين يخرج الإنسان من ثياب النَّوم {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} للقائلة {ومن بعد صلاة العشاء} الآخرة {ثلاث عورات لكم} يعني: هذه الأوقات لأنَّها أوقات التَّجرُّد وظهور العورة {ليس عليكم ولا عليهم جناح} ألا يستأذنوا بعد هذه الأوقات {طوافون} أَيْ: هم طَوَّافُونَ {عَلَيْكُمْ} يريد أنَّهم خدمكم فلا بأس عليهم أن يدخلوا في غير هذه الأوقات الثَّلاثة بغير إذنٍ وهذه الآية منسوخةٌ عند قومٍ وعند قومٍ لم تُنسخ ويجب العمل بها

59

{وإذا بلغ الأطفال منكم} من أحراركم {الحلم فليستأذنوا} في كلِّ وقتٍ {كما استأذن الذين من قبلهم} يعني: الكبار من الأحرار

60

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} يعني: العجائز اللاتي أيسن من البعولة {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن} جلابيبهنَّ {غير متبرجات بزينة} غير مُظهراتٍ زينتهنَّ وهو أن لا تريد بوضع الجلباب أن تُري زينتها {وأن يستعففن} فلا يضعن الجلباب {خيرٌ لهن}

61

{ليس على الأعمى حرج} الآية كان المسلمون يخرجون للغزو ويدفعون مفاتيح بيوتهنَّ إلى الزَّمنى الذين لا يخرجون ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما فيها فكانوا يتوفون ذلك حتى نزلت هذه الآية وقوله: {ولا على أنفسكم} أراد: ولا عليكم أنفسكم {أن تأكلوا من بيوتكم} أَيْ: بيوت أولادكم فجعل بيوت أولادهم بيوتهم لأنَّ ولد الرَّجل من كسبه ومالَه كمالِه وقوله: {أو ما ملكتم مفاتحه} يريد: الزَّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة {ليس عليكم جناح أن تأكلوا} من منازل هؤلاءٍ إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ولم يعلموا من غير أن يحملوا وهذه رخصةٌ من الله تعالى لطفاً بعباده ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النَّظر وقوله: {أَوْ صديقكم} يجوز للرَّجل أن يدخل بيت صديقه فيتحرَّم بطعامه من غير استئذانٍ بهذه الآية وقوله: {أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً} يقول: لا جناح عليكم إن اجتمعتم في الأكل أو أكلتم فرادى وإن اختلفتم فكان فيكم الزَّهيد والرغيب والعليل والصَّحيح وذلك أنَّ المسلمين تركوا مؤاكلة المرضى والزَّمنى بعد نزول قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فقالوا: إنَّهم لا يستوفون من الأكل فلا تحلُّ لنا مؤاكلتهم فنزلت الرُّخصة في هذه الآية {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} فليسلِّم بعضكم على بعض وقيل: إذا دخلتم بيوتاً خالية فليقل الدَّاخل: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله تعالى:

62

{وإذا كانوا معه على أمر جامع} يجمعهم في حربٍ حضرت أو صلاةٍ في جمعةٍ أو تشاورٍ في أمرٍ {لم يذهبوا} لم يتفرقوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم {حتى يستأذنوه} نزلت في حفر الخندق كان المنافقون ينصرفون بغير امر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله:

63

{اتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} أَيْ: لا تقولوا إذا دعوتموه: يا محمد كما يقول أحدكم لصاحبه ولكن قولوا: يا رسول الله يا نبيَّ الله {قد يعلم الله الذين يتسللون} يخرجون في خُفيةٍ من بين النَّاس {لواذاً} يستتر بغيره فيخرج مُختفياً {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} أَيْ: يخافون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وينصرمن بغير إذنه {أن تصيبهم فتنة} بلية يظهر نفاقهم {أو يصيبهم عذاب أليم} عاجلٌ في الدُّنيا

64

{ألا إنَّ لله ما في السماوات والأرض} عبيداً وملكاً وخلقاً

سورة الفرقان

{تبارك} ثبت ودام {الذي نزل الفرقان} القرآن الذي فرق بين الحقِّ والباطل {على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {ليكون للعالمين} الجنِّ والإِنس {نذيراً} مخوِّفاً من العذاب

2

{وخلق كلَّ شيء} ممَّا يُطلق في صفة المخلوق {فقدَّره تقديراً} جعله على مقدارٍ وقوله:

3

{نشوراً} أَيْ: حياةً بعد الموت

4

{وقال الذين كفروا إن هذا} ما هذا القرآن {إلاَّ إفك} كذبٌ {افتراه} اختلقه {وأعانه عليه قوم آخرون} يعنون: اليهود {فقد جاؤوا} بهذا القول {ظلماً وزوراً} كذباً

5

{وقالوا أساطير الأولين} أَيْ: هو ما سطره الأوَّلون {اكتتبها} كتبها {فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} يعنون أنَّه يختلف إلى مَنْ يعلَّمه بالغداة والعشيِّ

6

{قل} يا محمد لهم: {أنزله} أنزل القرآن {الذي يعلم السر في السماوات والأرض} يعلم بواطن الأمور فقد أنزله على ما يقتضيه علمه

7

{وقالوا مال هذا الرسول} يعنون محمداً عليه السَّلام {يأكل الطعام} أنكروا أن يكون الرَّسول بصفة البشر {ويمشي في الأسواق} طلباً للمعاش يعنون أنَّه ليس بملك ولام مَلَكٍ {لولا} هلاَّ {أنزل إليه ملك} يُصدِّقه {فيكون معه نذيراً} داعياً إلى الله يشاركه في النُّبوَّة

8

{أو يلقى إليه كنز} يستغني به عن طلب المعاش {وقال الظالمون} المشركون: {إن تتبعون} ما تتبعون {إِلا رَجُلا مسحوراً} مخدوعاً

9

{انْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} إذ مثَّلوك بالمسحور والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولاً والناقص عن القيام بالأمور إذ طلبوا أن يكون معك مَلَك {فضلوا} بهذا القول عن الدَّين والإِيمان {فلا يستطيعون سبيلاً} إلى الهدى ومخرجاً من ضلالتهم

10

{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا من ذلك} الذي قالوه من إلقاء الكنز وجعل الجنَّة ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {جنات تجري من تحتها الأنهار} يعني: في الدُّنيا لأنَّه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة وقوله:

11

{سمعوا لها تغيظاً} أَيْ: صوتاً بغيظٍ وهو التَّغضُّب {وزفيرا} صوتا شديدا

12

{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تغيظا وزفيرا}

13

{وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً} وذلك أنَّهم يُدفعون في النَّار كما يُدفع الوتد في الحائط {مقرَّنين} مقرونين مع الشيطان {دعوا هنالك ثبوراً} ويلاً وهلاكاً فيقال لهم:

14

{لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كثيراً}

15

{قل أذلك} الذي ذكرتُ من موضع أهل النَّار ومصيرهم {خيرٌ أم جنة الخلد} الآية وقوله:

16

{وعداً مسؤولاً} لأنَّ الملائكة سألت ذلك لهم في قوله تعالى: {ربَّنا وأَدْخِلْهم جنَّاتِ عدنٍ التي وَعَدْتَهُم ومن صلح من آبائهم وأزوَاجِهم وذُرِّيَّاتهم}

17

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الأصنام والملائكة والمسيح وعزيراً {فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} هذا توبيخ للكفَّار كقوله لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دون الله} ؟ !

18

{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نتَّخذ من دونك من أولياء} أن نوالي أعداءك وفي هذا براءةُ معبوديهم منهم {ولكن متعتهم وآباءهم} في الدُّنيا بالصَّحة والنِّعمة {حتى نسوا الذكر} تركوا ما وُعظوا به {وكانوا قوماً بوراً} هلكى بكفرهم

19

{فقد كذبوكم بما تقولون} بقولكم: إنَّهم كانوا آلهة {فما تستطيعون} يعني الآلهة {صرفاً} للعذاب عنكم {ولا نصراً} لكم {ومن يظلم} أَيْ: يشرك {منكم نذقه عذاباً كبيراً}

20

{وما أرسلنا قبلك} الآية هذا جواب لقولهم: {مال هذا الرسول} الآية أخبر الله سبحان أنَّ كلَّ مَنْ خلا من الرُّسل كان بهذه الصِّفة {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة} الصَّحيح للمريض والغنيّ للفقير فيقول الفقير: لو شاء الله لأغناني كما أغنى فلاناً ويقول المريض لو شاء الله لعافاني كما عافى فلاناً وكذلك كلُّ النَّاس مبتلى بعضهم ببعض فقال الله تعالى: {أتصبرون} على البلاء؟ فقد عرفتم ما وُعد الصَّابرون {وكان ربك بصيراً} بمَنْ يصبر وبمَنْ يجزع

21

{وقال الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} لا يخافون البعث: {لولا} هلاَّ {أنزل علينا الملائكة} فتخبرنا أنَّ محمداً صادقٌ {أو نرى ربنا} فيخبرنا بذلك {لقد استكبروا في أنفسهم} حين طلبوا من الآيات ما لم يطلبه أُمَّة {وعتوا عتوّاً كبيراً} وغلوا في كفرهم أشدَّ الغلوِّ

22

{يوم يرون الملائكة} يعني: إنَّ ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة وإنَّ الله سبحانه حرمهم البشرى في ذلك اليوم وتقول لهم الملائكة: {حجراً محجوراً} أَيْ: حراماً محرَّماً عليهم البشرى

23

{وقدمنا} وقصدنا {إلى ما عملوا من عمل} ممَّا كانوا يقصدون به التقرُّب إلى الله سبحانه {فجعلناه هباءً منثوراً} باطلاً لا ثواب له لأنَّهم عملوه للشَّيطان والهباء: دقاق التُّراب والمنثور: المتفرِّق

24

{أصحاب الجنة يومئذ خيرٌ مستقراً} موضع قرار {وأحسن مقيلاً} موضع قيلولة

25

{ويوم تشقق السماء بالغمام} عن الغمام وهو السَّحاب الأبيض الرَّقيق {ونزل الملائكة تنزيلاً} لإكرام المؤمنين

26

{الملك يومئذ الحق} أَيْ: الملك الذي هو الملك حقَّاً ملك الرَّحمن يومئذ

27

{ويوم يعض الظالم} الكافر يعني: عُقبة بن أبي مُعَيط كان قد آمن ثمَّ ارتدَّ لرضى أُبيّ بن خلف {على يديه} ندماً وتحسُّراً {يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} طريقاً إلى الجنة بالإسلام

28

{يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً} يعني: أُبيَّاً {خليلاً}

29

{لقد أضلني عن الذكر} القرآن {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا} عند البلاء يعني: إنًّ قبوله قول أُبيِّ بن خلف في الكفر كان من عمل الشيطان

30

{وقال الرسول} في ذلك اليوم: يا {ربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} متروكاً أعرضوا عنه

31

{وكذلك} وكما جعلنا لك أعداءً من المشركين {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بربك هادياً} يهديك وينصرك فلا تُبالِ بِمَنْ يعاديك

32

{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة} أَيْ: لم نزل عليه متفرِّقاً؟ وهلاَّ كان دفعةً واحدةُ كالتَّوراة والإِنجيل؟ قال الله تعالى: {كذلك} فرَّقنا تنزيله {لنثبت به فؤادك} لِنُقوِّيَ به قلبك وذلك أنَّه كلَّما نزل عليه وحيٌ جديدٌ ازداد هو قوَّة قلبٍ {ورتلناه ترتيلا} بيناه تبينا في تثبُّتٍ ومهلةٍ

33

{ولا يأتونك} يعني: المشركين {بمثل} يضربونهن في إبطال أمرك {إلاَّ جئناك بالحق} بما يردُّ ما جاؤوا به من المثل {وأحسن تفسيراً} بياناً وتفصيلاً ممَّا ذكروا

34

{الذين} أَيْ: هم الذين {يحشرون على وجوههم} يُمشيهم الله عليها فهم يُساقون عَلَى وُجُوهِهِمْ {إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وأضلُّ سبيلاً} من كلِّ أحدٍ

35

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هارون وزيراً} أَيْ: مُعيناً وملجأ

36

{فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} وهم القبط فكذَّبوهما {فدمَّرناهم تدميراً} أهلكناهم إهلاكاً

37

{وقوم نوحٍ لمَّا كذَّبوا الرسل} مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب الرُّسل كلَّهم لأنَّهم لا يفرِّقون بينهم في الإيمان بهم {أغرقناهم وجعلناهم للناس آية} عبرة {وأعتدنا للظالمين} في الآخرة {عذاباً اليماً} سوى ما ينزل بهم من عاجل العذاب وقوله:

38

{وأصحاب الرَّسِّ} كانوا أهل بئرٍ قعودٍ عليها وأصحاب مواشٍ يعبدون الأصنام فأُهلكوا بتكذيب نبيِّهم {وقروناً} وجماعاتٍ {بين ذلك} الذين ذكرناهم {كثيراً}

39

{وكلاً ضربنا له الأمثال} بيَّنا لهم الأشباه في إقامة الحجَّة عليهم {وكلاًّ تبرنا تتبيراً} أهلكنا إهلاكاً

40

{ولقد أتوا} يعني: مشركي مكَّة {على القرية التي أمطرت مطر السوء} يعني: الحجارة وهي قرية قوم لوطٍ {أفلم يكونوا يرونها} إذا مرُّوا بها مسافرين فيعتبروا {بل كانوا لا يرجون نشوراً} لا يخافون بعثاً

41

{وإذا رأوك إن يتخذونك إلاَّ هزواً} ما يتَّخذونك إلاَّ مهزوءاً به ويقولون: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} إلينا؟

42

{إن كاد} إنَّه كاد {ليضلنا عن آلهتنا} فيصدُّنا عن عبادتها {لولا أن صبرنا عليها} لصرفنا عنها

43

{أرأيت من اتخذ إلهه هواه} وهو أنَّهم كانوا يعبدون شيئاً حجراً أو ما كان فإذا رأوا حجراً أحسن طرحوا الأوَّل وعبدوا الأحسن فهم يعبدون ما تهواه أنفسهم {أفأنت تكون عليه وكيلا} حفيفا حتى تردَّه إلى الإِيمان أَيْ: ليس عليك إلاَّ التبليغ وقيل: إنَّ هذا ممَّا نسخته آية السَّيف

44

{أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون} سماع تفهيم {أو يعقلون} بقلوبهم ما تقول لهم: {إن هم} ما هم {إلاَّ كالأنعام} في جهل الآيات وما جعل لهم من الدَّليل {بل هم أضلُّ سبيلاً} لأنَّ النَّعم تنقاد لمن يتعهده وهم لا يطيعون مولاهم الذي أنعم عليهم

45

{ألم تر} ألم تعلم {إلى ربك كيف مدَّ الظلَّ} وقت الإِسفار إلى وقت طلوع الشَّمس {ولو شاء لجعله} لجعل الظلَّ {ساكناً} ثابتاً دائماً {ثمَّ جعلنا الشمس عليه دليلاً} لأنَّ بالشَّمس يُعرف الظِّلُّ

46

{ثم قبضناه} قبضنا الظِّلَّ إلينا بارتفاع الشَّمس {قبضاً يسيراً} قيل: خفيَّاً وقيل: سهلاً

47

{وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} يستركم {والنوم سباتاً} راحةً لأبدانكم {وجعل النهار نشوراً} حياة تنتشرون فيه من النَّوم وقوله:

48

{طهوراً} هو الطَّاهر المُطهِّر

49

{لنحيي به} بالماء الذي أنزلناه من السَّماء {بلدة ميتا} بالجدوية {ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً} جمع إنسيٍّ وهم الذين سقيناهم المطر

50

{ولقد صرفناه} أَيْ: المطر {بينهم} بأنواعه وابلاً وطشَّاً ورُهَاماً ورذاذاً {ليذكروا} ليتذكَّروا به نعمة الله تعالى {فأبى أكثر الناس إلاَّ كفوراً} جُحوداً حين قالوا: سُقينا بِنَوء كذا

51

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} لنخفِّف عليك أعباء النبوَّة ولكن لم نفعل ذلك ليعظم أجرك

52

{فلا تطع الكافرين} في هواهم ولا تداهنهم {وجاهدهم به} وجاهد بالقرآن {جهاداً كبيراً} لا يُخالطه فتورٌ

53

{وهو الذي مرج البحرين} خلطهما {هذا عذب فرات} شديد العذوبة {وهذا ملح أجاج} شديد الملوحة {وجعل بينهما} بين العذب والمالح {برزخاً} حاجزاً من قدرته حتى لا يختلط أحدهما بالآخر {وحجراً محجوراً} حراماً محرَّماً أن يغلب أحدهما صاحبه

54

{وهو الذي خلق من الماء} النُّطفة {بشراً} آدمياً {فجعله نسباً} لا يحلُّ تزوُّجه {وصهراً} يحلُّ تزوُّجه كابنة العمِّ والخال وابنهما {وكان ربك قديراً} قادراً على ما يشاء وقوله:

55

{وكان الكافر على ربه ظهيراً} معيناً للشَّيطان على معصية الله سبحانه

56

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}

57

{قل ما أسألكم عليه} على تبليغ الرِّسالة والوحي {من أجر} فيقولون: إنَّه يطلب أموالنا {إلاَّ من شاء} لكن مَنْ شاء {أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سبيلا} بإنفاق ماله وقوله:

58

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا}

59

{فاسأل به خبيراً} فاسأل أيُّها الإنسان الذي لا تعلم صفته خبيراً يخبرك بصفاته

60

{وإذا قيل لهم} لهؤلاء المشركين: {اسجدوا للرحمن} وهو اسم الله سبحانه كانوا لا يعرفونه لذلك قالوا: {وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا} أنت يا محمد {وزادهم} قول القاتل لهم: اسجدوا للرَّحمن {نفوراً} عن الإِيمان

61

{تبارك الذي جعل في السماء بروجاً} أَيْ: منازل الكواكب السَّبعة {وجعل فيها سراجاً} وهو الشَّمس

62

{وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} إذا وهب هذا أتى هذا فأحدهما يخلف الآخر فمَنْ فاته عملٌ بالليل فله مُسْتَدْرَكٌ بالنَّهار وهو قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} يذكر الله بصلاةٍ وتسبيحٍ وقراءةٍ {أو أراد شكوراً} شكراًَ لنعمته وطاعته

63

{وعباد الرحمن} يعني: خواصَّ عباده {الذين يمشون على الأرض هوناً} بالسَّكينة والوقار {وإذا خاطبهم الجاهلون} بما يكرهونه {قالوا سلاماً} سداداً من القول يسلمون فيه من الإثم وقوله:

64

{والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}

65

{غراماً} أيْ: شرَّاً لازماً

66

{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}

67

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} لم يكن إنفاقهم في معصية الله تعالى {ولم يقتروا} لم يمنعوا حقَّ الله سبحانه {وكان} إنفاقهم بين الإِسراف والإِقتار {قواما} قائماً قوله:

68

{يلق أثاماً} أَيْ: عقوبةً وقيل: جزاء الآثام وقوله:

69

{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مهانا}

70

{يبدّل الله سيئاتهم حسنات} يُبدِّلهم الله بقبائح أعمالهم في الشِّرك محاسن الأعمال في الإسلام بالشِّرك إيماناً وبالزِّنا عفَّة وإحصاناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين

71

{ومن تاب} أَيْ: عزم على التَّوبة {فإنه يتوب إلى الله متاباً} فينبغي أن يبادر إليها ويتوجَّه بها إلى الله

72

{والذين لا يشهدون الزور} لا يشهدون بالكذب {وإذا مرُّوا باللغو مروا كراماً} سمعوا من الكفار الشَّتم والأذى صفحوا وأعرضوا وهو منسوخ بالقتال على هذا التَّفسير

73

{والذين إذا ذكروا} وُعظوا {بآيات ربهم} بالقرآن {لم يخروا عليها صماً وعمياناً} لم يتغافلوا عنها كأنَّهم صمٌّ لم يسمعوها وعميٌّ لم يروها

74

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذرياتنا قرة أعين} بأَنْ نراهم مطيعين لك صالحين {واجعلنا للمتقين إماماً} أَيْ: اجعلنا ممَّن يهتدي به المُتَّقون ويهتدي بالمتَّقين

75

{أولئك يجزون} يثابون {الغرفة} الدرجة في الجنة {بما صبروا} على طاعة الله سبحانه {ويلقون} ويُستقبلون {فيها} في الغرفة بالتحية والسلام

76

{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}

77

{قل ما يعبأ بكم} أَيْ: ما يفعل ويصنع وأيُّ وزنٍ لكم عنده {لولا دعاؤكم} توحيدكم وعبادتكم إياه {فقد كذبتم} يا أهل مكَّة فخرجتم عن أن يكون لكم عنده مقدار {فسوف يكون} العذاب لازماً لكم

سورة الشعراء

{طسم} أقسم الله بطَوله وسنانه وملكه

2

{تلك} هذه {آيات الكتاب المبين} يعني: القرآن

3

{لعلَّك باخعٌ نفسك} قاتلٌ نفسك {أن لا يكونوا مؤمنين} لتركهم الإِيمان وذلك أنَّه لما كذَّبه أهل مكًّة شقَّ عليه ذلك فأعلمه الله سبحانه أنَّه لو شاء لاضطرهم إلى الإِيمان فقال:

4

{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فظلت أعناقهم لها خاضعين} يذلُّون بها فلا يلوي أحدٌ منهم عنقه إلى معصية الله تعالى

5

{وما يأتيهم من ذكرٍ} من وعظٍ {من الرحمن محدث} في الوحي والتَّنزيل

6

{فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} فسيعلمون نبأ ذلك وهو وعيدٌ لهم وقوله:

7

{كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كلِّ نوع محمودٍ ممَّا يحتاج إليه النَّاس

8

{إنَّ في ذلك لآية} لدلالةً على توحيد الله سبحانه وقدرته {وما كان أكثرهم مؤمنين} لما سبق في علمي وقضائي

9

{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}

10

{و} اذكر يا محمَّدُ {إذ نادى ربك موسى} ليلة رأى الشَّجرة والنَّار {أن ائت القوم الظالمين} لأنفسهم بالكفر

11

{قوم فرعون ألا يتقون} ألا يخافون الله سبحانه فيؤمنوا به

12

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أخاف أن يكذبون}

13

{وَيَضِيقُ صدري} من تكذيبهم إيَّاي {ولا ينطلق لساني} بأداء الرِّسالة للعقدة التي في فيه {فأرسل إلى هارون} ليظاهرني على التَّبليغ

14

{ولهم عليَّ ذنب} بقتل القبطيِّ

15

{قال كلا} لا يقتلونك {إنَّا معكم} بالنُّصرة {مستمعون} نسمع ما تقول ويقال لك

16

{فأتيا فرعون فقولا إنا رسول} ذوا رسالة {ربّ العالمين}

17

{أن أرسل معنا بني إسرائيل} مفسَّرٌ في سورة طه فلمَّا أتاه بالرِّسالة عرفه فرعون فقال:

18

{ألم نُربِّك فينا وليداً} صبيّاً {ولبثت فينا من عمرك سنين} ثلاثين سنةً

19

{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يعني: قتل القبطيِّ {وأنت من الكافرين} الجاحدين لنعمتي عليك

20

{قَالَ} موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} الجاهلين لم يأتني من الله شيء

21

{فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}

22

{وتلك نعمة تمنُّها عليَّ} أقرَّ بإنعامه عليه فقال: هي نعمةٌ إذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل {عبَّدت} معناه: اتَّخذت عبيداً

23

{قال فرعون وما ربُّ العالمين} أَيُّ شيءٍ ربُّ العالمين الذي تزعم أنَّك رسوله؟

24

{قال رب السماوات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أنَّه خالقهما

25

{قال} فرعون {لمن حوله} من أشراف قومه مُعجبِّاً لهم: {ألا تستمعون} إلى ما يقوله: موسى؟ ! فقال موسى

26

{ربكم وربُّ آبائكم الأولين}

27

{قال} فرعون: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} يتكلَّم بكلام لا تعرف صحَّته

28

{قال} موسى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تعقلون} فقال فرعون حين لزمته الحجَّة

29

{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} من المحبوسين في السِّجن

30

{قال} موسى: {أو لو جِئِتُكَ بشيء مبين} يعني: أو نفعل ذلك وإن أتيتُك على ما أقول بحجَّةٍ بيِّنةٍ؟

31

{قال فأت به} مفسَّر أكثره إلى قوله تعالى:

32

{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}

33

{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}

34

{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}

35

{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تأمرون}

36

{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}

37

{يأتوك بكل سحار عليم}

38

{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}

39

{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}

40

{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}

41

{فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}

42

{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}

43

{قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}

44

{فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لنحن الغالبون}

45

{فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يأفكون}

46

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}

47

{قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ}

48

{رب موسى وهارون}

49

{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}

50

{قالوا لا ضير} لا ضرر {إنا إلى ربنا منقلبون} راجعون إلى ثوابٍ

51

{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أنْ كنا} لأن كنَّا {أول المؤمنين} من هذه الأُمَّة

52

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ متبعون} يتَّبعكم فرعون وقومه

53

{فأرسل فرعون في المدائن حاشرين} يعني: الشُّرَط ليجمعوا له الجيش وقال لهم:

54

{إنَّ هؤلاء} يعني: بني إسرائيل {لشرذمة} عصبةٌ {قليلون}

55

{وإنهم لنا لغائظون} مُغضبون بمخالفتهم إيَّانا

56

{وإنا لجميع حاذرون} مُستعدّون للحرب بأخذ أداتها و {حذرون} متيقِّظون

57

{فأخرجناهم من جنات} يعني: حين خرجوا من مصر ليلحقوا موسى وقومه

58

{ومقام كريم} مجلسٍ حسنٍ

59

{كذلك} كما وصفنا {وأورثناها} بهلاكهم {بني إسرائيل}

60

{فأتبعوهم} لحقوهم {مشرقين} في وقت شروق الشَّمس

61

{فلما تراء الجمعان} رأى كلُّ واحدٍ الآخر {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} أيْ: سيدركنا جمع فرعون

62

{قال: كلا} لن يدركونا {إنًّ معي ربي} بالنُّصرة {سيهدين} طريق النَّجاة

63

{فكان كلُّ فرق} قطعةٍ من الماء {كالطود العظيم} كالجبل

64

{وأزلفنا ثمَّ الآخرين} قرَّبنا قوم فرعون إلى الهلاك وقدمناهم إلى البحر

65

{وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}

66

{ثم أغرقنا الآخرين}

67

{وما كان أكثرهم مؤمنين} لم يؤمن من أهل مصر إلاَّ رجلٌ وامرأتان وقوله:

68

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}

69

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}

70

{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}

71

{قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}

72

{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}

73

{أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}

74

{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}

75

{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}

76

{أنتم وآباؤكم الأقدمون}

77

{فإنَّهم عدوٌّ لي} أَيْ: هذه الآلهة التي تعبدونها عدوٌّ لي أعاديهم أنا ولا أعبدهم {إلاَّ ربَّ العالمين} لكن ربّ العالمين أعبده

78

{الذي خلقني} ظاهرٌ إلى قوله:

79

{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}

80

{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}

81

{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}

82

{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين}

83

{رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين}

84

{لسان صدقٍ في الآخرين} أَيْ: ذكراً جميلاً وثناءً حسناً في الأمم التي تجيء بعدي

85

{واجعلني} ممَّن يرث الجنَّة بفضلك ورحمتك وقوله:

86

{وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}

87

{وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}

88

{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}

89

{إِلا مَنْ أتى الله بقلب سليم} سلم من الشِّرك

90

{وأزلفت الجنة} قرِّبت {للمتقين}

91

{وبرزت} وأُظهرت {الجحيم للغاوين} للكافرين

92

{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}

93

{مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}

94

{فكبكبوا فيها} طُرح بعضهم على بعض في الجحيم {هم والغاوون} يعني: الشَّياطين

95

{وجنود إبليس} أتباعه من الجنِّ والإِنس

96

{قالوا} للشَّياطين والمعبودين:

97

{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

98

{إِذْ نسويكم} نَعْدِلُكُمْ {بربِّ العالمين} في العبادة

99

{وما أضلّنا} وما دعانا إلى الضَّلال {إلاَّ المجرمون} أوَّلونا الذين اقتدينا بهم

100

{فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}

101

{ولا صديق حميم} قريبٍ يشفع

102

{فلو أنَّ لنا كرَّة} رجعةً إلى الدُّنيا تمنَّوا أن يرجعوا إلى الدُّنيا فيؤمنوا وقوله:

103

{إني لكم رسول أمين} على الوحي والرِّسالة لأنَّكم عرفتموني قبل هذا الأمانة وقوله:

104

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

105

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}

106

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}

107

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}

108

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

109

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}

110

{فاتقوا الله وأطيعون}

111

{واتبعك الأرذلون} يعني: السلفة والحاكة وقوله:

112

{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

113

{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ}

114

{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ}

115

{إن أنا إلاَّ نذير مبين}

116

{من المرجومين} أَيْ: من المشتومين وقيل: من المقتولين

117

{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ}

118

{فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي من المؤمنين}

119

و {الفلك المشحون} المملوء وقوله:

120

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ}

121

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين}

122

{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}

123

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}

124

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ}

125

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}

126

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

127

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}

128

{أتبنون بكلِّ ريع} أَيْ: شَرَفٍ ومكانٍ مرتفعٍ {آية} علماً {تعبثون} تلعبون: يعني: أبنية الحمام وبروجها

129

{وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أَيْ: تتخذون مباني وقصوراً للخلود لا تُفكِّرون في الموت

130

{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جبارين} إذا ضربتم بالسوط وإذا عاقبتم قتلتم فعل الجبَّارين الذين يقتلون على الغضب بغير حق وقوله:

131

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

132

{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}

133

{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ}

134

{وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}

135

{إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}

136

{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ من الواعظين}

137

{إن هذا} ما هذا الذي تدعونا إليه {إلا خَلْق الأوَّلين} كذبهم وافتراؤهم ومَنْ قرأ {خُلق الأولين} فمعناه: عادة الأوَّلين أَيْ: الذي نحن فيه عادة الأوَّلين يعيشون ما عاشوا ثمَّ يموتون ولا بعثٌ ولا حساب وقوله:

138

{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}

139

{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كان أكثرهم مؤمنين}

140

{إن رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

141

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}

142

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ}

143

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}

144

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

145

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ على رب العالمين}

146

{أتتركون في ما هاهنا} أَيْ: في الدُّنيا {آمنين} من الموت والعذاب وقوله:

147

{في جنات وعيون}

148

{ونخل طلعها} أَيْ: ثمرها {هضيم} أَيْ: ليِّنٌ نضيجٌ

149

{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} حاذقين بنحتها و {فارهين} أشرين بطرين وكانوا مُعمَّرين لا يبقى البناء مع عمرهم فنحتوا في الجبال بيوتا وقوله:

150

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

151

{وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ}

152

{الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}

153

{إنما أنت من المسحرين} أَيْ: من الذين سُحروا مرَّةً بعد أخرى: وقيل ممَّن له سَحر وهو الرِّئة أَيْ: إنَّما أنت بشر مثلنا وقوله:

154

{مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصادقين}

155

{لها شربٌ} أَيْ: حظٌّ ونصيب من الماء

156

{ولا تمسوها بسوء} بعقر وقوله:

157

{فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}

158

{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}

159

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

160

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}

161

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ}

162

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}

163

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

164

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ على رب العالمين}

165

{أتأتون الذكران من العالمين} يريد: ما كان من فعل قوم لوطٍ مِنْ إتيان الرِّجال في أدبارهم

166

{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لكم ربكم من أزواجكم} وتدَعون أن تأتوا نسائكم {بل أنتم قوم عادون} ظالمون غاية الظُّلم

167

{قَالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ من المخرجين} عن بلدنا

168

{قال: إني لعملكم} يعني: اللِّواط {من القالين} من المبغضين وقوله:

169

{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}

170

{فنجيناه وأهله أجمعين}

171

{إلاَّ عجوزاً} يعني: امرأته {في الغابرين} في الباقين في العذاب

172

{ثم دمرنا} أهلكنا

173

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}

174

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}

175

{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}

176

{كذَّب أصحاب الأيكة} وهي الغيضة وهم قوم شعيب

177

{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ}

178

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}

179

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}

180

{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إلاَّ على رب العالمين}

181

{أوفوا الكيل} أتمُّوه {ولا تكونوا من المخسرين} النَّاقصين للكيل والوزن وقوله:

182

{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}

183

{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرض مفسدين}

184

{والجبلَّة الأولين} أَيْ: الخليقة السابقين

185

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}

186

{وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لمن الكاذبين}

187

{فأسقط علينا كسفاً من السماء} أَيْ: قطعةً

188

{قال ربي أعلم بما تعملون} فيجازيكم به وما عليَّ إلاَّ الدَّعوة

189

{فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة} وذلك أنَّ الحرَّ اخذهم فلم ينفعهم ماءٌ ولا كَنٌّ فخرجوا إلى البرِّيَّة وأظلَّتهم سحابةٌ وجدوا لها برداً واجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا به وقوله:

190

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين}

191

{وإن ربك لهو العزيز الرحيم}

192

{وإنه} يعني: القرآن {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

193

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} جبريل عليه السَّلام

194

{على قلبك} حتى وعيته

195

{بلسان عربي مبين}

196

{وإنه} وإنَّ ذكر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {لفي زبر الأولين} لفي كتب الأوَّلين

197

{أو لم يكن لهم} للمشركين {آية} دلالةً على صدقه {أن يعلمه علماء بني إسرائيل} يعلمون محمدا صلى الله عليه وسلم بالنُّبوَّة والرِّسالة

198

{ولو نزلناه} يعني: القرآن {على بعض الأعجمين} جمع الأعجم وهو الذي لا يحسن العربيَّة

199

{فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} أنفةً من اتَّباعه

200

{كذلك سلكناه} أدخلنا التَّكذيب {في قلوب المجرمين} فذلك الذي منعهم عن الإِيمان

201

{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}

202

{فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}

203

{فيقولوا هل نحن منظرون} فلمَّا نزلت هذه الآيات قالوا: إلى متى توعدنا بالعذاب؟ فأنزل الله سبحانه

204

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}

205

{أفرأيت إن متعناهم} بالدُّنيا وأبقيناهم فيها {سنين}

206

{ثمَّ جاءهم} العذاب لم ينفعهم إمتاعهم بالدُّنيا فيما قبل

207

{مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}

208

{وَمَا أهلكنا من قرية إلاَّ لها منذرون} رسلٌ ينذرهم

209

{ذكرى} إنذاراً للموعظة {وما كنا ظالمين} في إهلاكهم بعد قيام الحُجَّة عليهم

210

{وما تَنَزَّلَتْ به} بالقرآن {الشياطين}

211

{وما ينبغي لهم} ذلك {وما يستطيعون} ذلك

212

{إنهم} عن استراق من السَّماء {لمعزولون} بالشُّهب

213

{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ من المعذبين}

214

{وأنذر} خوِّف {عشيرتك الأقربين} أدنى أهلك وأقاربك

215

{واخفض جناحك} ليِّن جانبك وقوله تعالى:

216

{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}

217

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}

218

{الذي يراك حين تقوم} أَيْ: إلى صلاتك

219

{وتقلبك} تصرُّفك في أركان الصَّلاة قائماً وقاعداً وراكعاَ وساجداً {في الساجدين} في المصلين

220

{إنه هو السميع العليم}

221

{هل أنبئكم} أخبركم {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}

222

{تنزَّل على كلِّ أفاك} كذَّاب {أثيم} فاجرٍ مثل مسيلمة وغيره من الكهنة

223

{يلقون} إليهم ما سمعوا ويخلطون بذلك كذباً كثيراً وهذا كان قبل أن حجبوا عن السَّماء

224

{والشعراء يتبعهم الغاوون} يعني: شعراء الكفَّار كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتَّبعهم الكفَّار

225

{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} في كلِّ لغوٍ يخوضون يمدحون بباطلٍ ويشتمون بباطلٍ ثمَّ استثنى شعراء المؤمنين فقال:

226

{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}

227

{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا} ردُّوا على مَنْ هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين {وسيعلم الذين ظلموا أَيَّ منقلب ينقلبون} أَيَّ مرجعٍ يرجعون إليه بعد مماتهم

سورة النمل

{طس تلك آيات القرآن} هذه الآيات التي وُعدتم بها وذلك أنَّهم وُعدوا بالقرآن في كتبهم {وكتاب} أَيْ: وآياتِ كتابٍ {مبين}

2

{هدىً} أَيْ: هو هدىً {وبشرى للمؤمنين}

3

{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم} جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زيَّنا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنةً {فهم يعمهون} يتحيَّرون

4

{أولئك الذين لهم سوء العذاب} في الدُّنيا القتل ببدرٍ {وهم في الآخرة هم الأخسرون} بحرمان النَّجاة والمنع من الجنان

5

{وإنك لتلقى القرآن} الآية أَيْ: يلقى إليك القرآن وحياً من الله سبحانه

6

{وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}

7

{إذ قال موسى} اذكر يا محمَّد قصَّة موسى حين قال {لأهله} في مسيرة من مدين إلى مصر وقد ضلَّ الطَّريق وأصلد زنده: {إني آنست ناراً} أبصرتها من بعيد {سآتيكم منها بخبر} عن الطَّريق أين هو {أو آتيكم بشهاب قبسٍ} شعلة نار أقتبسها لكم {لعلكم تصطلون} تستدفئون من البرد

8

{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النار} أَيْ: مَنْ في طلب النَّار وقصدها والمعنى: بورك فيك يا موسى يقال: بورك فلانٌ وبورك له وبورك فيه {ومَنْ حولها} وفيمن حولها من الملائكة وهذا تحيَّةٌ من الله سبحانه لموسى وتكرمةٌ له {وسبحان الله ربِّ العالمين} تنزيهاً لله من السُّوء وقوله:

9

{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

10

{تهتزُّ} أَيْ: تتحرَّك {كأنَّها جانّ} حيَّةٌ خفيفةٌ {ولى مدبراً ولم يعقب} ولم يرجع ولم يلتفت قلنا: {يا موسى لا تخف}

11

{إلا من ظلم} لكن مَنْ ظلم نفسه {ثمَّ بدَّل حسناً بعد سوء} أَيْ: تاب {فإني غفورٌ رحيم} وقوله:

12

{في تسع آيات} أَيْ: من تسع آيات أنت مرسلٌ بها {إلى فرعون وقومه} وقوله:

13

{مبصرة} أَيْ: مضيئةً واضحةً

14

{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} الآية معناها: وجحدوا بها ظلماً وترفُّعاً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنَّها من عند الله عزَّ وجل

15

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المؤمنين}

16

{وورث سليمان داود} نبوَّته وعلمه دون سائر أولاده {وقال: يا أيُّها الناس علِّمنا منطق الطير} فهمنا ما يقوله الطَّير

17

{وحشر} وجُمع {لسليمان جنوده} في مسيرٍ له {فهم يوزعون} يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا

18

{حتى إذا أتوا على واد النمل} كان هذا الوادي بالشَّام وكانت نملة كأمثال الذُّباب {لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده} لا يكسرنَّكم بأن يطؤوكم

19

{فتبسَّم} سليمان عليه السلام لمَّا سمع قولها وتذكَّر ما أنعم الله به عليه فقال: {ربِّ أوزعني} ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي برحمتك في عبادك الصالحين}

20

{وتفقد الطير} طلبها وبحث عنها {فَقَالَ: مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كان} بل أَكان {من الغائبين} لذلك لم يره

21

{لأعذبنه عذاباً شديداً} لأنتفنَّ ريشه وألقينَّه في الشَّمس {أو ليأتيني بسلطان مبين} حجَّةٍ واضحةٍ في غيبته

22

{فمكث غير بعيدٍ} لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد وقال لسليمان: {أحطتُ بما لم تحط به} علمتُ ما لم تعلمه {وجئتك من سبأ} وهي مدينةٌ باليمن {بنبأ يقين} بخبرٍ لا شكَّ فيه وقوله:

23

{وأوتيت من كلِّ شيء} أَيْ: ممَّا يُعطى الملوك {ولها عرش} سريرٌ {عظيم} وقوله:

24

{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فهم لا يهتدون}

25

{أن لا يسجدوا} أَيْ: لأنْ لا يسجدوا لله {الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض} القطر من السَّماء والنبات من الأرض وقوله:

26

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ العظيم}

27

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}

28

{ثمَّ تولَّ عنهم} أَيْ: استأخر غير بعيدٍ {فانظر ماذا يرجعون} ما يردُّون من الجواب فمضى الهدهد وألقى إليها الكتاب ف

29

{قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتاب كريم} حسنٌ ما فيه ثمَّ بيَّنت ما فيه فقالت:

30

{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

31

{أن لا تعلوا علي} أَيْ: لا تترفَّعوا عليَّ وإن كنتم ملوكاً {وأتوني مسلمين} طائعين مُنقادين

32

{قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري} بيِّنوا لي ما أعمل {ما كنت قاطعة} قاضية وفاضلة {أمرا حتى تشهدون} حتى تحضرون أَيْ: لا أقطع أمراً دونكم

33

{قالوا} مُجيبين لها: {نحن أولو قوَّة} في القتال {وأولو بأس شديد} عند الحرب {والأمر إليك} أيَّتها الملكة {فانظري ماذا تأمرين} نُطِعْك

34

{قالت إنَّ الملوك إذا دخلوا قرية} عنوةً وغلبةً {أفسدوها} خرَّبوها {وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة} أهانوا أشرافها بها ليستقيم لهم الأمر أشارت إلى أنَّها لو جاءت سليمان محاربة اجتاحت إلى التَّخريب والإِفساد وصدَّقها الله سبحانه في قولها فقال: {وكذلك يفعلون}

35

{وإني مرسلة إليهم بهدية} أُصانعه بها وأختبره أملكٌ هو أم نبيٌّ؟ فإن كان ملكاً قبلها وإن كان نبيا لهم يقبلها {فناظرة بِمَ} بأيِّ شيءٍ {يرجع المرسلون} من عنده

36

{فلما جاء} البريد أو الرسول {سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} من الدِّين والنُّبوَّة والحكمة {خيرٌ مما آتاكم} من الدُّنيا {بل أنتم بهديتكم تفرحون} لأنَّهم أهل مكاثرة بالدُّنيا ثمَّ قال للرَّسول:

37

{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ} لا طاقة لهم {بها ولنخرجنَّهم منها} من أرضهم {أذلة} فجاءها الرَّسول وأخبرها بما رأى وشاهد فتجهَّزت للمسير إلى سليمان فلمَّا علم سليمان عليه السَّلام بمسيرها إليه

38

{قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها} سريرها {قبل أن يأتوني مسلمين} لأنَّه حينئذٍ لا يحلُّ أخذ ما في أيديهم

39

{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} وهو المارد القويُّ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مقامك} من مجلسك الذي جلستَ فيه للحكم {وإني عليه} على حمله {لقويٌّ أمين} على ما فيه من الجواهر فقال سليمان عليه السَّلام: أريد أسرع من هذا ف

40

{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} وهو آصف بن برخيا وكان قد قرأ كتب الله سبحانه {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طرفك} قبل أن يرجع إليك الشَّخَص من منتهى طرفك {فلما رآه} رأى سليمان عليه السَّلام العرش {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أأشكر} نعمته {أم أكفر} ها {ومَنْ شكر فإنما يشكر لنفسه} لأَنَّ نفع ذلك يعود إليه حيث يستوجب المزيد {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره {كريم} بالإٍفضال على مَنْ يكفر النِّعمة

41

{قال نكروا} غيِّروا لها {عرشها} بتغيير صورته {ننظر أتهتدي} أتعلم أنَّه عرشها فتعرفه

42

{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ: أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هو} شبَّهته به لأنَّه كان مُغيَّراً وأراد سليمان أن يختبر عقلها لأنَّه قيل له: إنَّ في عقلها شيئاً ثمَّ قالت: {وأوتينا العلم} بصحَّة نبوَّة سليمان {من قبلها} من قبل هذه الآية التي رأيتُها في إحضار العرش {وكنا مسلمين} مناقدين له قبل مجيئنا

43

{وصدها} ومنعها عن الإيمان {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كانت من قوم كافرين} فنشأت فيهم ولم تعرف إلاَّ قوماً يعبدون الشَّمس

44

{قيل لها ادخلي الصرح} وذلك أنَّه قيل لسليمان عليه السَّلام: إنَّ قدميها كحافر الحمار فأراد سليمان أن يرى قدميها فاتَّخذ له ساحةً من زجاجٍ تحته الماء والسَّمك وجلس سليمان في صدر الصَّرح وقيل لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} ماءً وهي معظمه {وكشفت عن ساقيها} لدخول الماء فرأى سليمان قدمها وإذا هي أحسن النَّاس ساقاً وقدماً و {قال} لها: {إنَّه صرح ممرَّد} أملس {من قوارير} ثمَّ إنَّ سليمان عليه السَّلام دعاها إلى الإِسلام فأجابت و {قالت: رب إني ظلمت نفسي} بالكفر {وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين} وقوله:

45

{فإذا هم فريقان} فإذا قوم صالحٍ فريقان مؤمنٌ وكافرٌ {يختصمون} يقول كلُّ فريقٍ: الحقُّ معي وطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح عليه السَّلام العذاب فقال:

46

{يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أَي: لمَ قلتم: إنْ كان ما أتيت به حقاً فأنتا بالعذاب {لولا} هلاَّ {تستغفرون الله} بالتَّوبة من الكفر {لعلكم ترحمون} لكي ترحموا

47

{قالوا اطيرنا بك} تشاءمنا بك {وبمن معك} وذلك إنَّهم قُحطوا بتكذيبهم فقالوا: أصابنا القحط بشؤمك وشؤم أصحابك فقال صالح عليه السَّلام: {طائركم عند الله} أَيْ: ما أصابكم من خيرٍ وشرٍّ فمن الله {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالخير والشرِّ

48

{وكان في المدينة} مدينة ثمود {تسعة رهط} كانو عتادة قومِ صالحٍ

49

{قالوا: تقاسموا} احلفوا {بالله لنبيتنَّه وأهله} لنأتينَّ صالحاً ليلا ولنقتلته وأهله {ثم لنقولنَّ} لوليِّ دمه: {ما شهدنا مهلك أهله} ما حضرنا إهلاكهم {وإنا لصادقون} في قولنا

50

{ومكروا مكراً} لتبييت صالحٍ {ومكرنا مكراً} جازيناهم على ذلك وقوله:

51

{إنَّا دمرناهم} وذلك أنَّهم لمَّا خرجوا ليلاً لإِهلاك صالحٍ دَمَغتهم الملائكة بالحجارة من حيث لا يرونهم فقتلوهم وقوله: {وقومهم أجمعين} إهلاك قوم ثمود بالصَّيحة

52

{فتلك بيوتهم} مساكنهم {خاوية} ساقطةً خاليةً {بما ظلموا} بكفرهم بالله سبحانه وقوله:

53

{وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}

54

{أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون} تعلمون أنَّها فاحشة فهو أعظم لذنوبكم وقوله:

55

{أإنكم لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أنتم قوم تجهلون}

56

{إنهم أناس يتطهرون} يتنزهن عن أدبار الرِّجال يقولونه استهزاءً وقوله:

57

{قدرناها من الغابرين} أَيْ: قضينا عليها أنَّها من الباقين في العذاب

58

{وأمطرنا عليهم} على شُذَّاذهم ومَنْ كان منهم في الأسفار {مطراً} وهو الحجارة

59

{قل} لهم يا محمد: {الحمد لله} أَيْ: على إهلاك الكفَّار من الأمم الخالية {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} اصطفاهم لرسالته {آلله خير أما يشركون} به من الأصنام وقوله:

60

{حدائق ذات بهجة} أَيْ: بساتين ذات حسنٍ {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أَيْ: ما قدرتم عليه {بل هم قومٌ يعدلون} يشركون

61

{أمن جعل الأرض قراراً} لا تتحرَّك {وجعل خلالها أنهاراً} وسطها أنهاراً جاريةً {وجعل لها رواسي} جبالاً ثوابت {وجعل بين البحرين} العذب والمالح {حاجزاً} مانعاً من قدرته حتى لا يختلطا

62

{أمن يجيب المضطر} المجهود ذا الضرورة {ويكشف السوء} الضُّرَّ {ويجعلكم خلفاء الأرض} سكَّانها بإهلاك من قلبكم

63

{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مع الله تعالى الله عما يشركون}

64

{ومن يرزقكم من السماء} المطر {و} من {الأرض} النبات وقوله:

65

{قل لا يعلم من في السماوات وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون}

66

{بل ادارك علمهم في الآخرة} أَيْ: لحقهم علمهم بأنَّ السَّاعة والبعث حقٌّ في الآخرة حين لا ينفعهم ذلك ومن قرأ: (إدراك) فمعناه: تدارك أَيْ: تكامل عملهم يوم القيامة لأنَّهم يبعثون ويشاهدون ما وعدوا {بل هم في شك منها} في الدُّنيا {بل هم منها} من علمها {عمون} جاهلون وقوله:

67

{وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون}

68

{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}

69

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين}

70

{ولا تحزن عليهم} أَيْ: على تكذيبهم وإعراضهم عنك {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} ولا تضيّق قلبك بمكرهم

71

{ويقولون متى هذا الوعد} أَيْ: وعد العذاب {إن كنتم صادقين} أنَّ العذاب نازلٌ بالمكذِّب

72

{قل عسى أن يكون ردف لكم} أَي: ردفكم والمعنى: تبعكم ودنا منكم {بعض الذي تستعجلون} من العذاب وكان ذلك يوم بدر

73

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}

74

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يعلنون}

75

{وما من غائبة} أَيْ: جملةٍ غائبةٍ عن الخلق {إلاَّ في كتاب مبين} وهو اللَّوح المحفوظ

76

{إنَّ هذا القرآن يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فيه يختلفون} وذلك أنَّ بني إسرائيل اختلفوا حتى لعن بعضهم بعضاً فقال الله سبحانه: إنَّ هذا القرآن ليقصُّ عليهم الهدى ممَّا اختلفوا فيه لو أخذوا به

77

{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}

78

{إنَّ ربك يقضي بينهم} بين المختلفين في الدِّين {بحكمه} يوم القيامة {وهو العزيز} القويُّ فلا يردُّ له أمرٌ {العليم} بأحوالهم

79

{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}

80

{إنك لا تسمع الموتى} الكفَّار {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} يعني: الكفَّار الذين هم بمنزلة الصم ولا يسمعون النِّداء إذا أعرضوا

81

{وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم} يريد: إنَّه أعمالهم حتى لا يهتدوا فكيف يهدي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضلالتهم قوماً عمياً {إن تُسمع} ما تُسمع سماع إفهام {إِلا مَنْ يؤمن بآياتنا} بأدلَّتنا {فهم مسلمون} في علم الله سبحانه

82

{وإذا وقع القول عليهم} وجب العذاب والسُّخط عليهم وذلك حين لا يقبل الله سبحانه من كافرٍ إيمانه ولم يبق إلاَّ مَنْ يموت كافراً في علم الله سبحانه {أخرجنا لهم دابة من الأرض} وخروجها من أوَّل أشراط القيامة {تكلمهم} تُحدِّثهم بما يسوءهم {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} تخبر الدَّابَّة مَنْ رآها أنَّ أهل مكة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن لا يوقنون ومَنْ كسر: {إنَّ النَّاس} كان المعنى: تقول لهم: إنَّ الناس

83

{ويوم نحشر} نجمع {من كلِّ أمة فوجاً} جماعةً {ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون} يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا

84

{حتى إذا جاؤوا قال} الله تعالى لهم: {أكذَّبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً} ولم تعرفوها حقَّ معرفتها وهذا توبيخٌ لهم {أماذا كنتم تعملون} حين لم تتفكَّروا فيها

85

{ووقع القول} وجبت الحُجَّة {عليهم بما ظلموا} بإشراكهم {فهم لا ينطقون} بحجَّةٍ وعذرٍ ثمَّ ذكر الدَّليل على قدرته وإلهيتَّه سبحانه وتعالى فقال:

86

{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون} وقوله:

87

{إلا من شاء الله} يعني: الشّهداء {وكلٌّ أتوه} يأتون الله سبحانه {داخرين} صاغرين

88

{وترى الجبال تحسبها جامدة} واقفةً مُستقرَّةً {وهي تمرُّ مرَّ السحاب} وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ عظيمٌ وكلَّ جمع كثيرٌ يقصر عنه الطَّرف لكثرته فهو في حسبان النَّاظر واقفٌ وهو يسير {صنع الله} أَيْ: صنع الله ذلك صنعه {الذي أتقن} أحكم {كلَّ شيء}

89

{من جاء بالحسنة} وهي كلمة لا إله إلاَّ الله {فله خيرٌ منها} فمنها يصل إليه الخير {ومَنْ جاء بالسيئة} الشِّرك {فَكُبَّت} أُلقيت وطُرحت {وجوههم في النار} وقيل لهم: {هل تجزون إلاَّ ما كنتم} بما كنتم {تعملون}

90

قل يا محمَّد: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} يعني: مكَّة {الذي حرَّمها} جعلها حرماً آمناً {وله كلُّ شيء} ملكا وخلقا وقوله:

91

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أكون من المسلمين}

92

{وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ: ليس عليَّ إلاَّ البلاغ

93

{وقل الحمد لله سيريكم آياته} أيُّها المشركون يعني: يوم بدر {فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون}

سورة القصص

{طسم}

2

{تلك آيات الكتاب المبين} يعني: القرآن وهو مبينٌ للأحكام

3

{نتلو} نقصُّ {عليك من نبأ موسى} خبر موسى {وفرعون بالحق} بالصِّدق الذي لا شكَّ فيه {لقوم يؤمنون} يُصدِّقون أنَّ ما يأتيهم به صدقٌ

4

{إنَّ فرعون علا} استكبر وتعظَّم {في الأرض} أرض مصر {وجعل أهلها شيعاً} فرقاً تتبع بعض تلك الفرق بعضاً في خدمته {يستضعف طائفة منهم} وهم بنو إسرائيل

5

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض} ننعم على بني إسرائيل {ونجعلهم أئمّة} قادةً في الخير {ونجعلهم الوارثين} يرثون ملك فرعون وقومه وقوله:

6

{ونمكن لهم في الأرض} أرض مصر والشَّام حتى يغلبوا عليها من غير مُنازعٍ {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يحذرون} وذلك أنَّهم كانوا قد أُخبروا أنَّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجلٍ منهم

7

{وأوحينا إلى أم موسى} قيل: إنَّه وحي إلهام وقيل: وحي إعلام

8

{فالتقطه} أخذه {آل فرعون} عن الماء {ليكون لهم عدوا وحزنا} أي: ليصبر الأمر إلى ذلك {إنَّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} أَيْ: عاصين آثمين

9

{وقالت امرأة فرعون قرة عين} أَيْ: هو قرَّة عين لي {ولك لا تقتلوه} فإنَّه أتانا به الماء من أرضٍ أخرى وليس هو من بني إسرائيل {وهم لا يشعرون} بما هو كائنٌ من أمرهم وأمره

10

{وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} خالياً عن كلِّ شيء إلاَّ عن ذكر موسى وهمِّه {إن كادت لتبدي به} بأنَّه ابنها {لولا أن ربطنا على قلبها} قوينا وألهمناها الصَّبر {لتكون من المؤمنين} المُصدِّقين بوعد الله سبحانه

11

{وقالت لأخته} لأخت موسى {قصيه} اتَّبعي أثره فاتَّبعته {فبصرت به عن جنب} أبصرته من بعيدٍ {وهم لا يشعرون} أنَّها أخته

12

{وحرمنا عليه المراضع} منعتا موسى أن يقبل ثدي مرضعةٍ {من قبل} أن نردَّه على أُمَّه {فقالت} أخته حين تعذَّر عليهم رضاعة: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} يضمُّونه إليهم {وهم له ناصحون} مخلصون شفقته

13

{فرددناه إلى أمه} وذلك أنَّها دلَّتهم على أمِّ موسى فَدُفِعَ إليها تُربِّيه لهم وقوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} آل فرعون كانوا لا يعملون أنَّ الله وعدها ردَّه عليها

14

{ولما بلغ أشدَّه} منتهى قوَّته وهو ما فوق الثَّلاثين {واستوى} وبلغ أربعين سنةً {آتيناه حكماً} عقلاً وفهماً {وعلماً} قبل النُّبوَّة

15

{ودخل المدينة} يعني: مدينةً بأرض مصر {على حين غفلة من أهلها} فيما بين المغرب والعشاء {فوجد فيها رجلين يقتتلان} أحدهما إسرائيليٌّ وهو الذي من شيعته والآخر قطبي وهو الذي من عدوه {فاستغاثه} الإِسرائيلي على الفرعونيِّ {فوكزه موسى} ضربه بجميع كفِّه {فقضى عليه} فقتله ولم يتعمَّد قتله فندم على ذلك لأنَّه لم يُؤمر بقتله فـ {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مضلٌّ مبين} ثمَّ استغفر فقال:

16

{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

17

{قال رب بما أنعمت عليَّ} بالمغفرة {فلن أكون ظهيراً للمجرمين} لن أُعين بعدها على خطيئة

18

{فأصبح في} تلك {المدينة خائفا} من قتله القطبي {يترقب} ينتظر الأخبار {فإذا} الإسرائيليُّ {الذي استنصره بالأمس يستصرخه} يستغيثه {قال له موسى: إنك لغويٌّ مبين} ظاهر الغواية قد قلت بك بالأمس رجلاً وتدعوني إلى آخر وأقبل إليهما {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عدوٌّ لهما} أَيْ: بالقبطِيِّ فظنَّ الذي من شيعته أنَّه يريده فقال:

19

{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض} تقتل ظلماً فلمَّا قال الإِسرائيلي هذا علم القبطيِّ بالأمس فأتى فرعون فأخبره بذلك فأمر فرعون بقتل موسى فأتاه رجلٌ فأخبره بذلك وهو قوله:

20

{وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} وهو مؤمن آل فرعون {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الملأ يأتمرون بك} يأمر بعضهم بعضاً ويتشاورون {ليقتلوك فاخرج} من هذه المدينة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}

21

{فخرج منها خائفاً يترقب} ينتظر الطَّلب {قال: ربّ نجني من القوم الظالمين} قوم فرعون

22

{ولما توجَّه} قصد بوجهه {تلقاء مدين} نحوها {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} قصد الطَّريق وذلك أنَّه لم يكن يعرف الطَّريق

23

{ولما ورد ماء مدين} وهو بئر كانت لهم {وجد عليه أمة} جماعةً {من الناس يسقون} مواشيهم {ووجد من دُونِهمُ امرأتين تذودان} تحبسان غنمهما عن الماء حتى يصدر مواشي النَّاس {قال} موسى لهما: {ما خطبكما} ؟ ما شأنكما لا تسقيان مع النَّاس؟ {قالتا لا نسقي} مواشينا {حتى يصدر الرعاء} عن الماء لأنا لا نطيق أن نستقي وأن نُزاحم الرِّجال فإذا صدروا سقينا من فضل مواشيهم {وأبونا شيخ كبير} لا يمكنه أن يرد وأن يستقي

24

{فسقى لهما} أغنامهما من بئرٍ أخرى رفع عنها حجراً كان لا يرفعه إلاَّ عشرة أنفس {ثمَّ تولى إلى الظلّ} أَيْ: إلى ظلِّ شجرةٍ {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خير} طعامٍ {فقير} محتاجٌ وكان قد جاع فسأل الله تعالى ما يأكل فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بما فعل موسى فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه فذلك قوله:

25

{فجاءته إحداهما} أخذت {تمشي على استحياء} مُستترةً بكُمِّ درعها {قَالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أخبره بأمره والسَّبب الذي أخرجه من أرضه {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني: من فرعون وقومه فإنَّه لا سلطان له بأرضنا

26

{قالت إحداهما يا أبت استأجره} ليرعى أغنامنا {إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين} وإنَّما قالت ذلك لأنَّها عرفت قوَّته برفع الحجر من رأس البئر وأمانته بأنَّ موسى قال لها لمَّا دعته إلى أبيها: امشي خلفي فإنَّا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النِّساء

27

{قال} عند ذلك الشِّيخ لموسى: {إني أريد أن أنكحك} أزوِّجك {إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجرني} تكون أجيراً لي {ثماني حجج} سنين {فإن أتممت عشراً فمن عندك} وليس بواجبٍ عليك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بأن اشترط العشر {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} الوافين بالعهد

28

{قال} موسى: {ذلك} الذي وصفت {بيني وبينك} أَيْ: لك ما شرطتَ عليَّ ولي ما شرطتُ من تزويج إحداهما {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ} لا علم عليَّ بأن أُطالب بأكثر منه {والله على ما نقول وكيل} والله شاهدنا على ما عقدنا

29

{فلما قضى موسى الأجل} مفسَّر فيما مضى إلى قوله: {أو جذوة من النار} قطعةٍ وشعلةٍ من النَّار

30

{فلما أتاها نودي من شاطئ} جانب {الواد الأيمن} من يمين موسى {في البقعة} في القطعة من الأرض {المباركة} بتكليم الله سبحانه فيها موسى عليه السَّلام وإتيانه النُّبوَّة {من الشجرة} من جانب الشَّجَرَةِ {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ربُّ العالمين} والباقي مفسَّرٌ فيما سبق إلى قوله:

31

{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين}

32

{واضمم إليك جناحك} أَيْ: يدك {من الرهب} من الخوف والمعنى: سكِّن روعك واخفض عليك جنبيك وذلك أنه كان يرتعد خوفاً {فذانك} اليد والعصا {برهانان من ربك} الآية وقوله:

33

{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أن يقتلون}

34

{ردءاً} أَيْ: مُعيناً

35

{قال: سنشدُّ عضدك} أَيْ: نُقوِّيك {بأخيك ونجعل لكما سلطاناً} حُجَّةً بيِّنة {فلا يصلون إليكما} بسوءٍ {بآياتنا} العصا واليد وسائر ما أُعطيا

36

{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا في آبائنا الأولين}

37

{وقال موسى} لمَّا كُذِّب ونُسب إلى السِّحر: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ} يعني: نفسه أَيْ: ربِّي أعلم بي أنَّ الذي جئتُ به مِنْ عِنْدِهِ {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أَيْ: العقبى المحمودة في الدَّار الآخرة وقوله:

38

{فأوقد لي يا هامان على الطين} أَيْ: اطبخ لي الآجر {فاجعل لي صرحاً} بناء طويلاً مشرفاً {لعلي أطلع إلى إله موسى} أنظر إليه وأقف عليه وقوله:

39

{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}

40

{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كان عاقبة الظالمين}

41

{وجعلناهم أئمة} قادةً ورؤساء {يدعون إلى النار} أي: إلى الضَّلالة التي عاقبتها النَّار

42

{وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً} وذلك أنَّهم لمَّا هلكوا لُعنوا فهم يُعرضون على النار غدوةً وعشيةً إلى يوم القيامة {ويوم القيامة هم من المقبوحين} الممقوتين المهلكين

43

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لعلهم يتذكرون} أَيْ: مبيِّناً لهم

44

{وما كنت بجانب الغربيّ} أَيْ: الجبل الغربيّ الذي هو في جانب الغرب {إذ قضينا إلى موسى الأمر} أحكمناه معه وعهدنا إليه بأمرنا ونهينا {وما كنت من الشاهدين} الحاضرين هناك

45

{ولكنا أنشأنا} أحدثنا وخلقنا {قروناً} أمماً {فتطاول عليهم العمر} فنسوا عهد الله وتركوا أمره {وما كنت ثاوياً} مُقيماً {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كنا مرسلين} أرسلناك رسولاً وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما عملتها

46

{وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} موسى {ولكن} أوحينا إليك هذه القصص {رحمة من ربك}

47

{ولولا أن تصيبهم مصيبة} عقوبةٌ ونقمةٌ {بما قدَّمت أيديهم} وجواب لولا محذوف وتقديره: لعاجلناهم بالعقوبة

48

{فلما جاءهم الحق} محمد صلى الله عليه وسلم {من عندنا قالوا: لولا أوتي} محمد {مثل ما أوتي موسى} كتاباً جملةً واحدةً {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أَيْ: فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد صلى الله عليه وسلم و {قالوا سحران تظاهرا} وذلك حين سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنَّهم يجدونه في كتابهم بنعمته وصفته وقالوا: ساحران تظاهرا يعنون: موسى ومحمداً عليهما السَّلام تعاونا على السِّحر {وقالوا إنَّا بكلٍّ} من موسى ومحمدٍ عليهما السَّلام {كافرون}

49

{قل} لهم: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى منهما} من كتابيهما {أتبعه أن كنتم صادقين} أَنَّهما كانا ساحرين

50

{فإن لم يستجيبوا لك} أَيْ: لم يجيبوك إلى الإيتان بالكتاب {فاعلم أنَّما يتبعون أهواءهم} أَيْ: يُؤثرون هواهم على الدِّين

51

{ولقد وصلنا لهم القول} أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً {لعلهم يتذكرون} يتَّعظون ويعتبرون

52

{الذين آتيناهم الكتاب من قبله} من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {هم به يؤمنون} يعني: مؤمني أهل الكتاب

53

{وإذا يُتلى عليهم} القرآن {قالوا آمنا به} صدَّقنا به {إنَّه الحقُّ من ربنا} ذلك أنَّهم عرفوا بما ذُكر في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه {إنَّا كنا من قبله} من قبل القرآن أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم {مسلمين} لأنَّا كنَّا نؤمن به وبكتابه

54

{أولئك يؤتون أجرهم مرتين} مرَّةً بإيمانهم بكتابهم ومرَّةً بإيمانهم بالقرآن {بما صبروا} بصبرهم على ما أُوذوا {ويدرؤون بالحسنة السيئةَ} ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدَّم لهم من السَّيئات {ومما رزقناهم ينفقون} يتصدَّقون

55

{وإذا سمعوا اللغو} القبيح من القول {أعرضوا عنه} لم يلتفتوا إليه يعني: إذا شتمهم الكفَّار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشَّتم {وَقَالُوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} ليس هذا تسليم التحيَّة وإنَّما هو تسليم المتاركة أي: بينا وبينكم المتاركة والتَّسليم وهذا قبل أن يُؤمر المسلمون بالقتال {لا نبتغي الجاهلين} لا نصحبهم

56

{إنك لا تهدي مَنْ أحببت} نزلت حين حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمِّه عند موته فلم يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى: لا تهدي مَنْ أحببت هدايته {ولكنَّ الله يهدي من يشاء} هدايته {وهو أعلم بالمهتدين} بمن يهتدي في معلومه

57

{وقالوا} يعني: مشركي مكَّة: {إن نتبع الهدى معك} بالإِيمان بك {نُتخطف} نُسلب ونوخذ {من أرضنا} لإِجماع العرب على خلافنا فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} أخبر سبحانه أنَّه آمنهم بحرمة البيت ومنع منهم العدوَّ فكيف يخافون أن تستحل العرب قتالهم فيه؟ {يجبى} يُجمع {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنَّ ذلك ممَّا تفضَّل الله به سبحانه عليهم

58

{وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} عاشوا في البطر وكفران النِّعمة {فتلك مساكنهم} خاويةً {لم تسكن من بعدهم إلاَّ قليلاً} لا يسكنها إلاَّ المسافر والمارُّ يوماً أو ساعةً

59

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أمها} أعظمها والآية

60

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تعقلون}

61

{أفمن وعدناه وعداً حسناً} يعني: الجنَّة {فهو لاقيه} مُدركه ومُصيبه {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ المحضرين} في النَّار نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل

62

{ويوم يناديهم} أَيْ: المشركين {فَيَقُولُ: أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} في الدُّنيا أنَّهم شركائي

63

{قال الذين حقَّ عليهم القول} وجب عليهم العذاب يعني: الشَّياطين {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} كعادة الشَّيطان في التَّبَرُّؤِ ممَّن يطيعه إذا أورده الهلكة

64

{وقيل} للكفَّار: {ادعوا شركاءَكم} مَنْ كنتم تعبدون من دون الله {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} لم يجيبوهم بشيءٍ ينفعهم {ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون} لما اتَّبعوهم ولما رأوا العذاب

65

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}

66

{فَعَمِيَتْ عليهم الأنباء} عميت عليهم الحجج لأنَّ الله تعالى قد أعذر إليهم في الدُّنيا فلا تكون لهم حجة يؤمئذ فسكتوا فذلك قوله: {فهم لا يتساءلون} أَيْ: لا يسأل بعضهم بعضا عم يحتجُّون به

67

{وربك يخلق ما يشاء} كما يشاء {ويختار} ممَّا يشاء فاختار من كلِّ ما خلق شيئاً {ما كان لهم الخيرة} ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى وليس لهم الاختيار والمعنى: لا يرسل الرُّسل إليهم على اختيارهم والباقي ظاهرٌ إلى قوله:

68

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

69

{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}

70

{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ ترجعون}

71

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}

72

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}

73

{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}

74

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تزعمون}

75

{ونزعنا من كلِّ أمة} أَيْ: أخرجنا {شهيداً} يعني: رسولهم الذي أُرسل إليهم {فقلنا هاتوا برهانكم} أَيْ: اعتقدتم به أنّه برهانٌ لم في أنَّكم كنتم على الحقِّ {فعلموا أنَّ الحق لله} أنَّ الحقَّ ما دعا إليه الله سبحانه وأتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم {وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون} لم ينتفعوا بما عبدوه من دون الله سبحانه

76

{إنَّ قارون كان من قوم موسى} كان ابن عمِّه {فبغى عليهم} بالكبر والتجبُّر والبذخ وكثرة المال {وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه} جمع المفتح وهو ما يُفتح به {لتنوء بالعصبة} تُثقل الجماعة {أُولِي الْقُوَّةِ} {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: لا تفرح} بكثرة الماء ولا تأشر {إنَّ الله لا يحبُّ الفرحين} الأشرين البطرين

77

{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} أَيْ: اطلبها بإنفاق مالك في رضا الله تعالى {ولا تنس نصيبك من الدنيا} لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك {وأحسن} إلى الناس {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ في الأرض} العمل بالمعاصي

78

{قال إنما أوتيته على علم عندي} عل فضل علمٍ عندي وكنت بذلك العلم مستحقا لفضل المال وكان أقرأ بني إسرائيل للتَّوراة قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قوة وأكثر جمعاً} للمال منه {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} لأنَّهم يدخلون النَّار بغير حسابٍ

79

{فخرج على قومه في زينته} في ثيابٍ حمرٍ عليه وعلى دوابِّه والرُّكبان الذين معه {قال الذين يريدون الحياة الدنيا} ظاهرٌ إلى قوله:

80

{ولا يلقاها} أَيْ: ولا يُلقَّن ولا يُوفَّق لهذه الكلمة {إلاَّ الصابرون} عن زينة الدنيا

81

{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}

82

{وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} صار الذين كانوا يقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ {يقولون ويكأنَّ الله} ألم تر ألم تعلم أن {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} يوسع لمن يشاء ويُضيِّق {لولا أنْ منَّ الله علينا} عصمنا عن مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي {لخسف بنا} كما خُسف به

83

{تلك الدار الآخرة} يعني: الجنَّة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرض} تكبُّراً وتجبُّراً فيها {ولا فساد} عملاً بالمعاصي وأخذاً للمال بغير حقٍّ {والعاقبة} المحمودة {للمتقين}

84

{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلا ما كانوا يعملون}

85

{إن الذي فرض عليك القرآن} أنزله وقيل: فرض عليك العمل بما في القرآن {لرادُّك إلى معاد} إلى مكَّة ظاهراً عليها وذلك حين اشتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مولده

86

{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إلاَّ رحمة من ربك} لكن رحمك ربُّك فاختارك للنُّبوَّة وأنزل عليك الوحي

87

{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أنزلت إليك} وهذا حين دُعي إلى دين آبائه وقوله:

88

{كل شيء هالك إلاَّ وجهه} أَيْ: إلاَّ إيَّاه {له الحكم} يحكم بما يريد {وإليه ترجعون}

سورة العنكبوت

{الم}

2

{أحسب الناس أن يتركوا} الآية نزلت في الذين جزعوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين معناه أحسبوا أن يُقنع منهم بأن يقولوا: إنَّا مؤمنون فقط ولا يُمتحنون بما يُبيِّن حقيقة إيمانهم

3

{ولقد فتنا الذين من قبلهم} اختبرنا وابتلينا {فليعلمنَّ الله} صِدقَ {الذين صدقوا} في قولهم: آمنَّا بوقوعه منهم وهو الصَّبر على البلاء {وليعلمنَّ} كذب {الكاذبين} في قولهم: آمنَّا بارتدادهم إلى الكفر عن الدِّين عند البلاء ومعنى العلم ها هنا العلم به موجوداً كائناً

4

{أم حسب الذين يعملون السيئات} الشِّرك {أن يسبقونا} يفوتونا {ساء ما يحكمون} بئس حكما يحكمون لأنفسهم بهذا الظَّنِّ

5

{من كان يرجو لقاء الله} يخشى البعث {فإنَّ أجل الله} وعده بالثَّواب والعقاب {لات} لكائن وقوله:

6

{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لغني عن العالمين}

7

{ولنجزينَّهم أحسن الذي كانوا يعملون} أَيْ: بأحسن أعمالهم وهو الطَّاعة

8

{ووصينا الإِنسان بوالديه حسناً} أمرناه أن يُحسن إليهما {وإن جاهداك} اجتهدا عليك {لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أنَّه لي شريك {فلا تطعهما} أُنزلت في سعد بن أبي وقَّاص لمَّا أسلم حلفت أمُّه أن لا تأكل ولا تشرب ولا يظلُّها سقف بيت حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجع إلى ما كان عليه فأُمر أن يترضَّاها ويُحسن إليها ولا يُطيعها في الشِّرك وقوله:

9

{لندخلنَّهم في الصالحين} أَيْ: في زمرتهم وجملتهم ومعناه: لنحشرنَّهم معهم وقوله:

10

{جعل فتنة الناس} أَيْ: أذاهم وعذابهم {كعذاب الله} جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر على الأذيَّة في الله {ولئن جاء} المؤمنين {نصرٌ من ربك ليقولنَّ} هؤلاء الذين ارتدُّوا حين أُوذوا: {إنا كنَّا معكم} وهم كاذبون فقال الله تعالى: {أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} يعني: إنَّه عالم بإيمان المؤمن وكفر الكافر

11

{وليعلمنَّ الله الذين آمنوا وليعلمنَّ المنافقين} هذا إخبارٌ عن الله تعالى أنَّه يعلم إيمان المؤمن وكفر المنافق

12

{وقال الذين كفروا} من أهل مكَّة {للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا} الطَّريق الذي نسلكه ي ديننا {ولنحمل خطاياكم} أَيْ: إن كان فيه إثمٌ فنحن نحمله قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خطاياهم من شيء} يخفِّف عنهم العذاب {إنهم لكاذبون} في قولهم لأنَّهم في القيامة لا يحملون عنهم خطاياهم ثمَّ أعلم الله عز وجل أنَّهم يحملون أوزار أنفسهم وأثقالاً أخرى بسبب إضلالهم مع أثقال أنفسهم لأنَّ مَنْ دعا إلى ضلالةٍ فاتُّبع فعليه مثل أوزار الذين اتَّبعوه ثمَّ ذكر أنَّه يُوبِّخهم على ما قالوا فقال: {وليسألنَّ يوم القيامة عما كانوا يفترون} أي: سؤال توبيخ وقوله:

13

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عما كانوا يفترون}

14

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}

15

{فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين}

16

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}

17

{وتخلقون إفكاً} أَيْ: تقولون كذبا: إن الأوثان شركاه الله وقوله:

18

{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وما على الرسول إلا البلاغ المبين}

19

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يعيده} كما بدأ وليس المعنى: على أو لم يروا كيف يعيده لأنَّهم لم يروا الإِعادة

20

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} يعني: الأمم الماضية كيف قدر الله سبحانه على خلقهم ابتداءً {ثمَّ الله ينشئ النشأة الآخرة} أيْ: يبعثهم ثانية بإنشائه إيلهم

21

{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تقلبون}

22

{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السماء} لو كنتم فيها ثمَّ عاد الكلام إلى قصَّة إبراهيم عليه السَّلام فقال:

23

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم}

24

{فما كان جواب قومه} حين دعاهم إلى الله سبحانه {إلاَّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه} الآية

25

{وقال} لهم إبراهيم: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بينكم} أَيْ: ليتوادُّوا بها فهي مودَّة بينكم ما دمتم في هذه الدنيا تنقطع ولا تنفع في الآخرة وهو قوله تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} تتبرَّأُ الأوثان من عابديها وقوله تعالى:

26

{فآمن له لوط} هو أوَّل مَنْ آمن بإبراهيم عليه السَّلام {وقال إني مهاجر إلى ربي} هاجر من سواد الكوفة إلى الشَّام

27

{وآتيناه أجره في الدنيا} قيل: هو الذِّكر الحسن وقيل: هو الوالد الصالح

28

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}

29

{وتقطعون السبيل} أَيْ: سبيل الولد وقيل: يأخذون النَّاس من الطُّرق لطلب الفاحشة {وتأتون في ناديكم} مجلسكم {المنكر} كان بعضهم يُجامع بعضاً في مجالسهم {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أنًّه نازلٌ بنا وقوله:

30

{قال رب انصرني على القوم المفسدين}

31

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}

32

{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ من الغابرين}

33

{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ من الغابرين}

34

{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

35

{ولقد تركنا منها} من قرية قوم لوط {آية بينة} عبرةً ظاهرةً وهي خرابها وآثارها وقوله:

36

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}

37

{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}

38

{وكانوا مستبصرين} أَيْ: في ضلالتهم معجبين بها وقيل: حسبوا أنَّهم على الهدى وهم على الباطل وقيل: أتوا ما أتوه وقد بيِّن لهم أنَّ عاقبته العذاب

39

{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}

40

{فكلاً} من الكفَّار {أخذنا} عاقبنا {بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} وهم قوم لوط {ومنهم من أخذته الصيحة} قوم ثمود {ومنهم مَنْ خسفنا به الأرض} قارون وقومه {ومنهم من أغرقنا} قوم نوح وفرعون {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} لأنَّه قد بيَّن لهم بإرسال الرَّسول {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بكفرهم

41

{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: الأصنام في قلَّة غنائها عنهم {كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} لا يدفع عنها حراً ولا برداً {وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت} وذلك أنَّه لا بيت أضعف منه فيما يتَّخذه الهوامُّ {لو كانوا يعلمون} موضعَه عند قوله: مثلُ الذين اتخذوا من دونه أولياء لو كانوا يعملون كمثل العنكبوت فهو مؤخَّر معناه التقديم وقوله:

42

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

43

{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا العالمون}

44

{خلق الله السماوات وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}

45

{إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} يعني: إنَّ في الصَّلاة منهاةً ومزدجراً عن معاصي الله تعالى فمن لم تنهه صلاته عن المنكر فليست صلاته بصلاةٍ {ولذكر الله أكبر} من كلِّ شيء في الدُّنيا وأفضل

46

{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} وهو الجميل من القول بالدُّعاء إلى الله عزَّ وجل والتَّنبيه على الحجج {إلاَّ الذين ظلموا منهم} أَيْ: إلاَّ الذين ظلموكم بالقتال ومنع الجزية

47

{وكذلك} أَيْ: وكما آتيناهم الكتاب {أنزلنا إليك الكتاب فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يؤمنون به} بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني: مَنْ كانوا قبل عصره كانوا يؤمنون به لما يجدونه من نعته في كتابهم {ومن هؤلاء} الذين هو بين ظهرانيهم {مَنْ يؤمن به}

48

{وما كنت تتلو من قبله} من قبل الكتاب الذي أنزلناه إليك {من كتابٍ ولا تخطُّه} ولا تكتبه {بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} لشكُّوا فيك واتَّهموك لو كنت تكتب وأراد بالمبطلين كفَّار قريش يعني: لقالوا: إنَّه كتبه وتعلَّمه من كتاب

49

{بل هو} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم والعلم بأنَّه أُمِّيٌّ {آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} من أهل الكتاب قرؤوها من التَّوراة وحفظوها

50

{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} كما أُنزل على مَنْ قبله من الأنبياء {قل إنما الآيات عند الله} إذا شاء أرسلها وليست بيدي

51

{قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً} يشهد على صدقي وعلى تكذيبكم وقوله:

52

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ ما في السماوات وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هم الخاسرون}

53

{ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}

54

{يستعجلونك بالعذاب وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين}

55

{ويقول: ذوقوا ما كنتم تعملون} أَيْ: جزاءه من العذاب

56

{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} نزلت في حثِّ مَنْ كانوا بمكَّة لا يقدرون على إظهار دينهم على الهجرة

57

{كل نفس ذائقة الموت} أينما كانت فلا تُقيموا بدار الشِّرك وقوله:

58

{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ من الجنة غرفاً} أَيْ: ولننزلنَّهم منها قصوراً

59

{الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون}

60

{وكأين} وكم {من دابَّة لا تحمل رزقها} فتخبئه لغدٍ {الله يرزقها} يوماً بيوم {وإياكم} وذلك أنَّ الذين كانوا بمكَّة من المؤمنين إذا قيل لهم اخرجوا إلى المدينة قالوا: فمَنْ يُطعمنا بها ولا مال لنا هناك فأنزل الله تعالى: {الله يرزقها وإياكم}

61

{ولئن سالتهم من خلق السماوات وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يؤفكون}

62

{الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

63

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله قل الحمد لله} على إنزاله الماء لإِحياء الأرض {بل أكثرهم لا يعقلون} العقل الذي يعرفون به الحقَّ من الباطل

64

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} لنفادها عن قريب {وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان} الحياة الدَّائمة {لو كانوا يعلمون} أنَّها كذلك ولكنَّهم لا يعلمون

65

{فإذا ركبوا في الفلك} وخافوا الغرق {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}

66

{ليكفروا بما آتيناهم} أَيْ: ليجحدوا بما أنعمنا عليهم من إنجائهم والظَّاهر أنَّ هذا لام الأمر أمر التَّهديد ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وليتمتعوا فسوف يعلمون}

67

{أَوَلَمْ يروا} يعني: أهل مكَّة {أنا جعلنا حرماً آمناً} ذا أمنٍ لا يُغار على أهله {ويتخطف الناس من حولهم} بالقتل والنَّهب والسَّبي {أفبالباطل يؤمنون} يعني: الأصنام {وبنعمة الله} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن {يكفرون}

68

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جهنَّم مثوى للكافرين}

69

{والذين جاهدوا فينا} أعداء الدِّين والكفَّار {لنهدينَّهم سبلنا} سبل الشًّهادة والمغفرة: وقيل: من اجتهد في عملٍ لله زاده الله تعالى هدىً على هدايته {وإنَّ الله لمع المحسنين} بنصره إيَّاهم

سورة الروم

{الم}

2

{غلبت الروم} غلبتها فارس {في أدنى الأرض} أدنى أرض الشَّام من أرض العرب وفارس وهي أذرعات وعسكر {وهم} والرُّوم {من بعد غلبهم} غلبة فارس إيَّاهم {سيغلبون} فارس

3

{في بضع سنين} البضع: ما بين الثّلاث إلى التِّسع {لله الأمر من قبل} من قبل أن تغلب الرُّوم {ومن بعد} ما غلبت {ويومئذٍ يفرح المؤمنون} يوم تغلب الرُّومُ فارسَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {بِنَصْرِ اللَّهِ} الرُّوم لأنَّهم أهل كتاب فهم أقرب إلى المؤمنين وفارس مجوس فكانوا أقرب إلى المشركين فالمؤمنون يفرحون بنصر الله الرُّوم على فارس والمشركون يحزنون لذلك

4

{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}

5

{بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}

6

{وعد الله} وعد ذلك وعداً {ولكنَّ أكثر الناس} يعني: مشركي مكَّة {لا يعلمون} ذلك ثمَّ بيَّن مقدار ما يعلمون فقال:

7

{يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا} يعني: أمر معاشهم وذلك أنَّهم كانوا أهل تجارة وتكسب بها

8

{أولم يتفكروا في أنفسهم} فيعلموا {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق} أَيْ: للحقِّ وهو الدّلالة على توحيده وقدرته {وأجل مسمى} ووقتٍ معلومٍ تفنى عنده يعني: يوم القيامة وقوله:

9

{وأثاروا الأرض} أَيْ: قلبوها للزِّراعة {وعمروها أكثر مما عمروها} يعني: إنَّ الذين أُهلكوا من الأمم الخالية كانوا أكثر حرثاَ وعمارةً من أهل مكَّة

10

{ثم كان عاقبة الذين أساؤوا} أشركوا {السوأى} النَّار {أن كذَّبوا} بأن كذَّبوا وقوله:

11

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ ترجعون}

12

{يبلس المجرمون} أَيْ: يسكتون لانقطاع حجَّتهم وليأسهم من الرَّحمة

13

{ولم يكن لهم من شركائهم} أوثانهم التي عبدوها رجاء الشَّفاعة {شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين} قالوا: ما عبدتمونا وقوله:

14

{يومئذ يتفرَّقون} يعني: المؤمنين والكافرين ثمَّ بيَّن كيف ذلك التفرق فقال:

15

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي روضة يحبرون} أَي: يسمعون في الجنَّة

16

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فأولئك في العذاب محضرون}

17

{فسبحان الله} فصلُّوا لله سبحانه {حين تمسون} يعني: صلاة المغرب والعشاء الآخرة {وحين تصبحون} صلاة الفجر {وعشياً} يعني: صلاة العصر {وحين تظهرون} يعني: صلاة الظهر

18

{وله الحمد في السماوات وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}

19

{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}

20

{ومن آياته أن خلقكم من تراب} يعني: أباكم آدم {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} يعني: ذريته

21

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من جنسكم {أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} يعني: الأُلفة بين الزَّوجين

22

{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} وأنتم بنو رجلٍ واحدٍ وامرأةٍ واحدةٍ

23

{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فضله} أَي: اللَّيل لتناموا فيه والنَّهار لتبتغوا فيه من فضله

24

{ومن آياته يريكم البرق خوفاً} للمسافر {وطمعاً} للحاضر وقوله:

25

{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أنتم تخرجون} ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض هكذا تقدير الآية على التَّقديم والتأخير وقوله:

26

{كلٌّ له قانتون} أَيْ: مُطيعون لا طاعة العبادة ولكن طاعة الإرادة خلقهم على ما أراد فكانوا على ما أراد لا يقدر أحدٌ أن يتغيَّر عمَّا خُلق عليه وقوله:

27

{وهو أهون عليه} أَيْ: هيِّنٌ عليه وقيل: هو أهون عليه عندكم وفيما بينكم لأَنَّ الإِعادة عندنا أيسر من الابتداء {وله المثل الأعلى} الصِّفة العليا وهو أنَّه لا إله إلاَّ هو ولا ربَّ غيره

28

{ضرب لكم مثلاً} بيَّن لكم شبهاً في اتِّخاذكم الأصنام شركاء مع الله سبحانه {من أنفسكم} ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من العبيد والإماء {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} من المال والولد أّيْ: هل يشاركونكم فيما أعطاكم الله سبحانه حتى تكونوا أنتم وهم {فيه سواء تخافونهم} أن يرثوكم كما يخاف بعضكم بعضاً أن يرثه ماله والمعنى: كما لا يكون هذا فكيف يكون ما هو مخلوقٌ لله تعالى مثلَه حتى يُعبد كعبادته؟ فلمَّا لزمتهم الحجَّة بهذا ذكر أنَّهم يعبدونها باتَّباع الهوى فقال: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم} في عبادة الأصنام

29

{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ من ناصرين}

30

{فأقم وجهك للدين حنيفاً} أَيْ: أقبل عليه ولا تُعرض عنه {فطرة الله} أي: اتَّبع فطرة الله أَيْ: خِلقة الله التي خلق النَّاس عليها وذلك أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على ما فطره الله عليه من أنَّه لا ربَّ له غيره كما أقرَّ له لمَّا أُخرج من ظهر آدم عليه السَّلام {لا تبديل لخلق الله} لم يبدَّلِ الله سبحانه دينه فدينُه أنَّه لا ربَّ غيره {ذلك الدين القيم} المستقيم

31

{منيبين إليه} راجعين إلى ما أمر به وهو حالٌ من قوله: {فأقم وجهك} والمعنى: فأقيموا وجوهكم لأنَّ أمره أمرٌ لأمته وقوله:

32

{من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً} مفسَّرٌ في سورة الأنعام {كلُّ حزب} كلُّ جماعةٍ من الذين فارقوا دينهم {بما لديهم فرحون} أَيْ: يظنون أنَّهم على الهدى ثمَّ ذكر أنَّهم مع شركهم لا يلتجئون في الشَّدائد إلى الأصنام فقال:

33

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إليه} الآية وقوله:

34

{ليكفروا بما آتيناهم} مفسَّرٌ في سورة العنكبوت إلى قوله:

35

{أم أنزلنا} أَيْ: أَأنزلنا {عليهم سلطاناً} كتاباً {فهو يتكلَّم بما كانوا به يشركون} ينطق بعذرهم في الإِشراك

36

{وإذا أذقْنا الناس رحمة فرحوا بها} الآية هذا من صفة الكافر يبطر عند النِّعمة ويقنط عند الشدة ولا يشكر في الأُولى ولا يحتسب في الثانية

37

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون}

38

{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هم المفلحون}

39

{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس} يعني: ما يعطونه من الهدية ليأخذوا أكثر منها وهو من الرِّبا الحلال {فلا يربو عند الله} لأنَّكم لم تريدوا بذلك وجه الله وقوله: {فأولئك هم المضعفون} أصحاب الإِضعاف يُضَاعِفُ لهم بالواحدة عشراً

40

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركون}

41

{ظهر الفساد} القحط وذهاب البركة {في البر} القفار {والبحر} القرى والرِّيف {بما كسبت أيدي الناس} بشؤم ذنوبهم {ليذيقهم بعض الذي عملوا} كان ذلك لِيُذَاقوا الشِّدَّة بذنوبهم في العاجل

42

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}

43

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يأتي يومٌ} القيامةُ فلا ينفع نفساً إيمانها {يومئذٍ يصدَّعون} يتفرَّقون فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير

44

{مَنْ كفر فعليه كفره} أي: وبال كفره وعذابه {ومَنْ عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون} يفرشون ويسؤون المضاجع والمعنى: لأنفسهم يبغون الخير

45

{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات} بالمطر {وليذيقكم من رحمته} نعمته بالمطر يُرسلها {ولتجري الفلك بأمره} وذلك أنَّها تجري بالرِّياح {ولتبتغوا من فضله} بالتِّجارة في البحر وقوله:

46

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فضله ولعلكم تشكرون}

47

{فانتقمنا من الذين أجرموا} أَيْ: عاقبنا الذين اشركوا {وكان حقاً عليناً نصر المؤمنين} في العاقبة وكذلك ننصرك في العاقبة على مَنْ عاداك

48

{الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً} تُزعجها وتُخرجها من أماكنها {فيبسطه} الله {في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً} قطعاً يريد أنَّه مرَّةً يبسطه ومرَّةً يقطعه {فترى الودق} المطر {يخرج من خلاله} وسطه وشقوقه {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} بالودق {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده إذا هم يستبشرون} يفرحون

49

{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} المطر {من قبله} كرَّر من قبل التأكيد {لمبلسين} آيسين

50

{فانظر إلى آثار رحمة الله} يعني: آثار المطر الذي هو رحمة الله تعالى {كيف يحيي الأرض} جعلها تنبت {بعد موتها} يبسطها {إنَّ ذلك} الذي فعل ذلك وهو الله عزَّ وجل {لمحيي الموتى}

51

{ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً} رأوا النَّبت قد اصفرَّ وجفَّ {لظلُّوا من بعده يكفرون} يريد: إنَّ الكفَّار يستبشرون بالغيث فإذا جفَّ النَّبت ولم يحتاجوا إلى الغيث ظلوا يكفوا بنعمة الله عز وجل فلم يؤمنوا ولم يشكروا إنعامه بالمطر

52

{فإنك لا تسمع الموتى} مضت الاية في سورة الأنبياء والتي بعدها في سورة النمل

53

{وما أنت بهاد الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}

54

{الله الذي خلقكم من ضعف} من نطفةٍ الآية

55

{ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون} يحلف الكافرون {ما لبثوا} في قبورهم {غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} أَيْ: كذَّبوا في هذا الوقت كما كانوا يُكذِّبون في الدُّنيا

56

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كتاب الله} أَيْ: فيما بيَّن في كتابه وهو اللوح المحفوظ {يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون} أنَّه يكون وقوله:

57

{ولا هم يستعتبون} أَيْ: لا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله سبحانه

58

{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل} بيَّنا لهم الأمثال للاعتبار {ولئن جئتهم بآية} لهم فيها بيانٌ واعتبارٌ {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ} ما أنتم إلاَّ أصحاب الأباطيل

59

{كذلك} كما طبع الله على قلوبهم حتى لم يفهموا {يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أدلَّة التَّوحيد

60

{فاصبر إنَّ وعد الله} في نصرك وتمكينك {حق ولا يستخفنَّك} لا يستفزنَّك عن دينك {الذين لا يوقنون} أي: الضُّلال الشَّاكُّون

سورة لقمان

{الم}

2

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}

3

{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}

4

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هم يوقنون}

5

{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون}

6

{ومن الناس من يشتري لهو الحديث} يعني: النَّضر بن الحارث كان يخرج تاجراً إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم ثمَّ يأتي بها فيقرؤها في أندية قريش فيستملحونها ويتركون استماع القرآن وقوله: {ويتخذها هزواً} أَيْ: يتَّخذ آيات الكتاب هزوا وقوله:

7

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بعذاب أليم}

8

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم}

9

{خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم}

10

{خلق السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}

11

{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

12

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أَيْ: وقلنا له: أن اشكر الله وقوله:

13

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيم}

14

{حملته أمه وهناً على وهن} أَيْ: لزمها بحملها إيَّاه أن تضعف مرَّةً بعد مرَّةً {وفصاله} وفطامه {في عامين} لأنَّها ترضع الولد عامين {أن اشكر لي ولوالديك} المعنى: وصَّينا الإِنسان أن اشكر لي ولوالديك

15

{وإن جاهداك} مُفسَّرٌ فيما مضى وقوله: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} أَيْ: مُصَاحَباً معروفاً وهو المستحسن {واتبع سبيل من أناب} رجع {إليَّ} يعني: اسلك سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد مرَّ

16

{يا بني إنها إن تك مثقال} رُوي أنَّ ابنه قال له: إنْ علمت بالخطيئة حيث لا يراني أحدٌ كيف يعلمها الله عزوجل؟ فقال: {إنها} أي: الخطيئة {إن تك مثقال حبة من خردل} أو: السَّيِّئة ثمَّ كانت {في صخرة} أي: ي أخفى مكان {أو في السماوات أو في الأرض} أينما كانت أتى الله بها ولن تخفى عليه ومعنى {يأت بها الله} أَيْ: للجزاء عليها {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} باستخراجها {خبير} بمكانها وقوله:

17

{إنَّ ذلك من عزم الأمور} أي: الأمور الواجبة

18

{ولا تصعر خدِّك للناس} لا تُعرض عنهم تكبُّراً {ولا تمش في الأرض مرحاً} مُتَبختراً مختالاً

19

{واقصد في مشيك} ليكن مشيك قصداً لا بِخُيلاء ولا بإسراع {واغضض} واخفض {من صوتك إنَّ أنكر الأصوات} أقبحها {لصوت الحمير}

20

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السماوات} من الشَّمس والقمر والنُّجوم لتنتفعوا بها {وما في الأرض} ومن البحار والأنهار والدَّوابِّ {وأسبغ} وأوسعَ وأتمَّ {عليكم نعمة ظاهرة} وهي حسن الصُّورة وامتداد القامة {وباطنة} وهي المعرفة والباقي قد مضى تفسيره إلى قوله تعالى:

21

{أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} أَيْ: موجباته فيتَّبعونه

22

{ومن يسلم وجهه إلى الله} يُقبل على طاعته وأوامره {وهو محسن} مؤمنٌ موحِّدٌ {فقد استمسك بالعروة الوثقى} بالطَّرفِ الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه {وإلى الله عاقبة الأمور} مرجعها

23

{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}

24

{نمتعهم قليلاً} بالدُّنيا {ثمَّ نضطرهم} نُلجئهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}

25

{ولئن سالتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله} الذي خلقها {بل أكثرهم لا يعلمون} إذ أشركوا به بعد إقرارهم بأنه خالقها

26

{لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد}

27

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية وذلك أنَّ المشركين قالوا في القرآن: هذا كلام سيفذ وينقطع فأعلم الله سبحانه أن كلامه لا ينفذ {والبحر يمده} أَيْ: يزيد فيه ثمَّ كتبت به كلمات الله {ما نفدت}

28

{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أَيْ: كخلق وكبعث نفسٍ واحدةٍ لأنَّ قدرة الله سبحانه على بعث الخلق كقدرته على بعث نفسٍ واحدةٍ وقوله:

29

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ الله بما تعملون خبير}

30

{ذلك} أَيْ: فعل الله ذلك لتعلموا {بأن الله هو الحق} الذي لا إله إلا غيره وقوله:

31

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شكور} أَيْ: لكلِّ مؤمنٍ بهذه الصِّفة

32

{وإذا غشيهم} علاهم {موج كالظلل} كالجبال وقيل: كالسَّحاب وقوله: {فمنهم مقتصد} أَيْ: مؤمنٌ مُوفٍ بما عاهد الله في البحر وقوله: {كل ختار} عذار {كفور} جحودٍ وقوله:

33

{لا يجزي والد عن ولده} لا يكفي ولا يُغني عنه شيئاً و {الغَرُور} الشَّيطان

34

{إنَّ الله عنده علم الساعة} متى تقوم {وينزل الغيث} المطر {ويعلم ما في الأرحام} ذكرا أو أنثى

سورة السجدة

{الم}

2

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ العالمين}

3

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ من قبلك لعلهم يهتدون}

4

{الله الذي خلق السماوات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ}

5

{يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} يعني: القضاء من السَّماء فينزله إلى الأرض مدَّة أيام الدُّنيا {ثمَّ يعرج إليه} أَيْ: يرجع الأمر والتَّدبير إلى السَّماء ويعود إليه بعد انقضاء الدُّنيا وفنائها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تعدون} وهو يوم القيامة وذلك اليوم يطول على قومٍ ويشتدُّ حتى يكو كخمسين ألف سنة ويقصر على قوم فلا آخر له معلوم وقوله

6

{ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم}

7

{الذي أحسن كلَّ شيء خلقه} أَيْ: أتقنه وأحكمه {وبدأ خلق الإنسان من طين} آدم عليه السَّلام

8

{ثم جعل نسله} ذريَّته {من سلالةٍ} نطفةٍ {من ماء مهين} ضعيفٍ حقيرٍ

9

{وقالوا} يعني: منكري البعث {أإذا ضللنا في الأرض} صرنا تراباً وبطلنا {أإنا لفي خلق جديد} نُخلق بعد ذلك خلقاً جديداً

10

{وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كافرون}

11

{قل يتوفاكم} يقبض أرواحكم

12

{ولو ترى} يا محمد {إذ المجرمون} المشركون {ناكسوا رؤوسهم} مُطأطئوها حياءً من ربهم عز وجل ويقولون: {ربنا أبصرنا} ما كنا به مُكذِّبين {وسمعنا} منك صدق ما أتت به الرُّسل {فارجعنا} فارددنا إلى الدُّنيا {نعمل صالحاً}

13

{ولو شئنا لآتينا كلَّ نفس هداها} رشدها الآية ويقال لأهل النَّار:

14

{فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أَيْ: تركتم الإِيمان به {إنا نسيناكم} تركناكم في النَّار

15

{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} أي: وُعظوا {خرُّوا سجداً} لله سبحانه خوفاً منه {وسبحوا بحمد ربهم} نزَّهوا الله تعالى بالحمد لله {وهم لا يستكبرون} عن الإيمان به والسُّجود له

16

{تتجافى جنوبهم} ترتفع أضلاعهم {عن المضاجع} الفرش ومواضع النَّوم {يدعون ربهم خوفاً} من النَّار {وطمعاً} في الجنَّة {وَمِمَّا رزقناهم ينفقون} يصَّدَّقون

17

{فلا تعلم نفس} من هؤلاء {ما أخفي لهم} ما أعد لهم {من قرة أعين} ممَّا تقرُّ به عينه إذ رآه

18

{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط

19

{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

20

{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

21

{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى} قيل: المصيبات في الدُّنيا وقيل: القتل ببدر وقيل: عذاب القبر وقيل: الجوع سبع سنين والأولى المُصيبات والجوع لقوله: {لعلهم يرجعون} وقوله:

22

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون}

23

{فلا تكن في مرية من لقائه} أَيْ: من لقاء موسى عليه السَّلام ليلة المعراج وعده الله تعالى أن يريه موسى عليه السَّلام ليلة الإِسراء به

24

{وجعلنا منهم} من بني إسرائيل {إئمة} قادة {يهدون} يدعون الخلق {بأمرنا لما صبروا} حين صبروا على الحقِّ

25

{إنَّ ربك هو يفصل} يحكم {بينهم يوم القيامة} بين المُكذِّبين بك {فيما كانوا فيه يختلفون} من أمرك

26

{أولم يهد لهم} يتبيَّن لهم صدقك {كم أهلكنا} إهلاكنا مَنْ كذَّب الرُّسل منهم وهم {يمشون في مساكنهم} إذا سافروا فيرون خرابَ منازلهم {إنَّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون} آيات الله وعظاته

27

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجرز} الغليظة التي لا نبأت فيها {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أفلا يبصرون} هذا فيلعموا أنَّا نقدر على إعادتهم

28

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وذلك أنَّ المؤمنين قالوا للكفَّار: إنَّ لنا يوماً يحكم الله بيننا وبينكم فيه يريدون يوم القيامة فقالوا: متى هذا الفتح؟ فقال الله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمانهم ولا هم ينظرون} يمهلون للتوبة

29

{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيمانهم ولا هم ينظرون}

30

{فأعرض عنهم} منسوخٌ بآية السَّيف {وانتظر} عذابهم {إنهم منتظرون} هلاكك في زعمهم الكاذب

سورة الأحزاب

{يا أيها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} اثبت على تقوى الله ودُمْ عليه {ولا تطع الكافرين والمنافقين} وذلك أنَّ الكافرين قالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنَّ لها شفاعةً ومنفعةً لمن عبدها ووازَرَهم المنافقون على ذلك {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بما يكون قبل كونه {حكيماً} فيما يخلق

2

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}

3

{وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا}

4

{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه} هذا تكذيبٌ لبعض مَنْ قال من الكافرين: إنَّ لي قلبين أفهم بكلِّ واحدٍ منهما أكثر ممَّا يفهم محمد فأكذبه الله تعالى قيل: إنَّه ابن خطل {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} لم يجعل نسائكم اللائي تقولون: هنَّ علينا كظهور أمهاتنا في الحرام كما تقولون وكان هذا من طلاق الجاهليَّة فجعل الله في ذلك كفَّارة {وما جعل أدعياءكم} مَنْ تبنَّيتموه {أبناءكم} في الحقيقة كما تقولون {ذلكم قولكم بأفواهكم} قولٌ بالفم لا حقيقة له {وَاللَّهُ يَقُولُ الحق} وهو أنَّ غير الابن لا يكون ابناً {وهو يهدي السبيل} أَيْ: السَّبيل المستقيم

5

{ادعوهم لآبائهم} أَيْ: انسبوهم إلى الذين ولدوهم {هو أقسط عند الله} أعدل عند الله {فإن لم تعلموا آباءهم} مَنْ هم {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي: فهم إخوانكم في الدين {ومواليكم} وبنو عمّكم وقيل: أولياؤكم في الدِّين {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ به} وهو أن يقول لغير ابنه: يا بنيَّ من غير تَعَمُّدٍ أن يجريه مجرى الولد في الميراث وهو قوله: {ولكن ما تعمَّدت قلوبكم} يعني: ولكنَّ الجُناح في الذي تعمَّدت قلوبكم

6

{النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} إذا دعاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى شيءٍ ودعتهم أنفسهم إلى شيءٍ كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى {وأزواجه أمهاتهم} في حرمة نكاحهن عليهم {وأولو الأرحام} والأقارب {بعضهم أولى ببعض} في الميراث {في كتاب الله} في حكمه {من المؤمنين والمهاجرين} وذلك أنَّهم كانوا في ابتداء الإِسلام يرثون بالإِيمان والهجرة {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً} لكن إن يوصوا بهم بشيءٍ من الثُّلث فهو جائزٌ {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} كان هذا الحكم في اللَّوح المحفوظ مكتوبا

7

{وإذ أخذنا} واذكر إذ أخذنا {من النبيّين ميثاقهم} على الوفاء بما حملوا وأن يُصدِّق بعضهم بعضاً

8

{ليسأل الصادقين عن صدقهم} المُبلِّغين من الرُّسل عن تبليغهم وفي تلك المسألة تبكيتٌ للكفَّار {وأعدَّ للكافرين} بالرُّسل {عذاباً أليماً}

9

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءتكم جنود} يعني: الأحزاب وهم قريش وغطفان قريظة والنَّضير حاصروا المسلمين أيَّام الخندق {فأرسلنا عليهم ريحاً} وهي الصَّبا كفأت قدورهم وقلعت فساطيطهم {وجنوداً لم تروها} وهم الملائكة {وكان الله بما يعملون} من حفر الخندق {بصيراً}

10

{إذ جاءوكم من فوقكم} من قبل المشرق يعني: قُريظة والنَّضير {ومن أسفل منكم} قريشٌ من ناحية مكَّة {وإذ زاغت الأبصار} مالت وشخصت وتحيَّرت لشدَّة الأمر وصعوبته عليكم {وبلغت القلوب الحناجر} ارتفعت إلى الحلوق لشدَّة الخوف {وتظنون بالله الظنونا} ظنَّ المنافقون أنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون بنصر اللَّهِ

11

{هنالك} في تلك الحال {ابتلي المؤمنون} اختبروا ليتبيَّن المخلص من المنافق {وزلزلوا} وحرِّكوا وخُوِّفوا

12

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} شك ونفاقٌ: {ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غرورا} إذْ وعدنا أنَّ فارس والرُّوم يُفتحان علينا

13

{وإذ قالت طائفة منهم} من المنافقين: {يا أهل يثرب} يعني: المدينة {لا مُقَامَ لَكُمْ} لا مكان لكم تُقيمون فيه {فارجعوا} إلى منازلكم بالمدينة أمروهم بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله كان قد خرج من المدينة إلى سلع لقتال القوم {ويستأذن فريقٌ منهم} من المنافقين {النبيَّ} في الرُّجوع إلى منازلهم {يقولون: إنَّ بيوتنا عورة} ليست بحصينةٍ نخاف عليها العدوِّ قال الله تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فراراً} من القتال

14

{ولو دخلت عليهم} لو دخل عليهم هؤلاء الذين يريدون قتالهم المدينة {من أقطارها} جوانبها {ثمَّ سئلوا الفتنة} سألتهم الشِّرك بالله {لأتوها} لأعطوا مرادهم {وما تلبثوا بها إلاَّ يسيراً} وما احتبسوا عن الشِّرك إلا يسيراً أَيْ لأسرعوا الإجابة إليه

15

{ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل} عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة الخندق {لا يولون الأدبار} لا ينهزمون عن العدوِّ {وكان عهد الله مسؤولاً} والله تعالى يسألهم عن ذلك العهد يوم القيامة

16

{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الموت أو القتل} الذي كُتب عليكم {وإذاً لا تمتعون إلاَّ قليلاً} لا تبقون في الدُّنيا إلاَّ إلى آجالكم

17

{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ولا نصيرا}

18

{قد يعلم الله المعوقين منكم} الذين يُعوِّقون النَّاس عن نصرة محمَّد عليه السَّلام {والقائلين لإِخوانهم هلمَّ إلينا} يقولون لهم: خلُّوا محمدا صلى الله عليه وسلم فإنَّه مغرورٌ وتعالوا إلينا {ولا يأتون البأس إلاَّ قليلاً} لا يحضرون الحرب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ تعذيراً وتقصيراً يرى أنَّ له عذراً ولا عذر له يوهمونهم أنَّهم معهم

19

{أشحة عليكم} بخلاء عليكم بالخير والنَّفقة {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أعينهم} في رؤوسهم من الخوف كدوران عين الذي {يُغشى عليه من الموت} قَرُبَ أن يموت فانقلبت عيناه {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} آذوكم بالكلام وجادلوكم في الغنيمة {أشحة} بخلاء {على الخير} الغنيمة

20

{يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} لجبنهم وشدَّة خوفهم يظنون أنَّهم بعد انهزامهم لم ينصرفوا بعد {وإن يأت الأحزاب} يرجعوا كرَّةً ثانية {يودوا لو أنَّهم بادون في الأعراب} خارجون من المدينة إلى البادية في الأعراب {يسألون عن أنبائكم} أَيْ: يودوا لو أنَّهم غائبون عنكم يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} رياءً من غير حِسْبَةٍ ولمَّا وصف الله تعالى حال المنافقين في الحرب وصف حال المؤمنين فقال:

21

{لقد كان لكم} أيُّها المؤمنون {في رسول الله أسوة حسنة} سنَّةٌ صالحةٌ واقتداءٌ حسنٌ حيث لم يخذلوه ولم يتولَّوا عنه كما فعل هو صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ شُجَّ حاجبه وكسرت رباعيته فوقف صلى الله عليه وسلم ولم يمهزم ثمَّ بيَّن لمَنْ كان هذا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} أَيْ: يخافهما

22

{ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا} تصديقاً لوعد الله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ ورسوله} ووعدُ الله تعالى إيَّاهم في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قريبٌ} فعلموا بهذه الآية أنَّهم يُبتلون فلمَّا ابتلوا بالأحزاب علموا أنَّ الجنَّة والنَّصر قد وجبا لهم إن سلَّموا وصبروا وذلك قوله: {وما زادهم إلاَّ إيماناً} وتصديقاً بالله ورسوله {وتسليماً} لله أمره

23

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ} كانوا صادقين في عهودهم بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم {فمنهم من قضى نحبه} فرغٍ من نذره واستُشهد يعني: الذين قُتلوا بأُحدٍ {ومنهم مَنْ ينتظر} أن يقتل شهيداً {وما بدلوا تبديلاً} عهدهم ثمَّ ذكر جزاء الفريقين فقال:

24

{ليجزي الله الصادقين بصدقهم} الآية

25

{وردَّ الله الذين كفروا} قريشاً والأحزاب {بغيظهم} على ما فيهم من الغيظ {لم ينالوا خيراً} لم يظفروا بالمسلمين {وكفى الله المؤمنين القتال} بالرِّيح والملائكة

26

{وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب} الذين عاونوا الأحزاب من يقظة {من صياصيهم} حصونهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصرهم واشتدَّ ذلك عليهم حتى نزلوا على حكمه وذلك قوله تعالى: {وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون} يعني: الرِّجال {وتأسرون فريقاً} يعني: النِّساء والذُّريَّة وقوله:

27

{وأرضا لم تطئوها} يعني: خيبر ولم يكونوا نالوها فوعدهم الله تعالى إيَّاها

28

{يأ أيها النبي قل لأزواجك} الآية نزلت حين سألت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من عرض الدُّنيا وآذينه بزيارة النَّفقة فأنزل الله سبحانه هذه الآيات وأمره أن يخبرهن بين الإِقامة معه على طلب ما عند الله أو السِّراح إن أردْنَ الدُّنيا وهو قوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أمتعكنَّ} متعة الطَّلاق فقرأ عليهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات فاخترن الآخرة على الدُّنيا والجنَّة على الزِّينة فرفع الله سبحانه درجتهنَّ على سائر النِّساء بقوله:

29

{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}

30

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مبيِّنة} بمعصيةٍ ظاهرةٍ {يضاعف لها العذاب ضعفين} ضعفي عذاب غيرها من النِّساء

31

{ومن يقنت} يطع {نؤتها أجرها مرَّتين} مثلي ثواب غيرها من النِّساء {وأَعتدنا لها رزقاً كريماً} يعني: الجنَّة وقوله:

32

{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مرض} أَيْ: لا تقلن قولاَ يجد منافقٌ به سبيلاً إلى أن يطمع في موافقتكنَّ له وقوله: {وقلن قولا معروفا} أي: فلن بما يوجبه الدِّين والإِسلام بغير خضوعٍ فيه بل بتصريحٍ

33

{وقرن في بيوتكن} أمرٌ لهنَّ من الوقار والقرار جميعاً {ولا تبرجن} ولا تُظهرن المحاسن كما كان يفعله أهل الجاهليَّة وهو ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} وهو كلُّ مُستَنكرٍ ومُستقذَرٍ من عملٍ {أهل البيت} يعني: نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورجال أهل بيته

34

{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله} يعني: القرآن {والحكمة} يعني: السُّنَّة

35

{إنَّ المسلمين والمسلمات} الآية قالت النِّساء: ذكر الله تعالى الرِّجال بخيرٍ في القرآن ولم يذكر النِّساء بخيرٍ فما فينا خيرٌ يُذكر فأنزل الله تعالى هذه الآية

36

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة وظنَّت أنَّه خطبها لنفسه فلمَّا علمت أنًّه يريدها لزيدٍ كرهت ذلك فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن} يعني: عبد الله بن جحش {ولا مؤمنة} يعني: أخته زينب {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لهم الخيرة من أمرهم} أَيْ: الاختيار فأعلم أنَّه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله وزوَّجها من زيدٍ ومكثت عنده حيناً ثمَّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يومٍ لحاجة فأبصرها قائمةً في درع وخمار فأعجبه وكأنَّها وقعت في نفسه وقال: سبحان الله مُقلِّب القلوب فلمَّا جاء زيدٌ أخبرته بذلك وأُلقي في نفس زيدٍ كراهتها فأراد فراقها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي فإنَّها تؤذيني بلسانها فذلك قوله:

37

{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه} بالإسلام يعني: زيداً {وأنعمت عليه} بالإِعتاق: {أمسك عليك زوجك واتق الله} فيها وكان صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يتزوَّج بها إلا أنَّه آثر ما يجب من الأمر بالمعروف وقوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} أن لو فارقها تزوجها وذلك أن الله تعالى كان قضى ذلك وأعلمه أنَّها ستكون من أزواجه وأن زيداً يُطلِّقها {وتخشى الناس} تكره قالة النَّاس لو قلت: طَلِّقْها فيقال أمر رجلاً بطلاق امرأته ثمَّ تزوَّجها {والله أحقُّ أن تخشاه} في كلِّ الأحوال ليس أنَّه لم يَخْشَ الله في شيءٍ من هذه القضيَّة ولكن ذكر الكلام ها هنا على الجملة وقيل والله أحقُّ أن تستحيي منه فلا تأمر زيداً بإمساك زوجته بعد إعلام الله سبحانه إياك أنها ستكون زوجتك وأنت تستحيي من النَّاس وتقول: أمسك عليك زوجك {فلما قضى زيد منها وطراً} حاجته من نكاحها {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية لكيلا يظنَّ ظانٌّ أنَّ امرأة المتبنَّى لا تحلُّ للمتبنِّي وكانت العرب تظنُّ ذلك وقوله: {وكان أمر الله مفعولاً} كائناً لا محالة وكان قد قضى في زينب أن يتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم

38

{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فرض الله له} فيما أحلَّ له من النِّساء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} يقول: هذه السُّنَّة قد مضت أيضاً لغيرك يعني: كثرة أزواج داود وسليمان عليهما السَّلام والمعنى: سنَّ الله له سنَّةٌ واسعةً لا حرج عليه فيها {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} قضاءً مقضياً

39

{الذين يبلغون رسالات الله} الذين نعت قوله: {في الذين خلوا من قبل} {ويخشونه وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} لا يخشون قالة النَّاس ولائمتهم فيما أحلَّ الله لهم {وكفى بالله حسيباً} حافظاً لأعمال خلقه

40

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} فتقولوا: إنَّه تزوجَّ امرأة ابنه يعني: زيداً ليس له بابنٍ وإن كان قد تبنَّاه {ولكن} كان {رسول الله وخاتم النبيين} لا نبيَّ بعده

41

{يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} وهو أن لا يُنسى على حالٍ

42

{وسبحوه} صلُّوا له {بكرة} صلاة الفجر {وأصيلاً} صلاة العصر والعشاءين

43

{هو الذي يصلي عليكم} يغفر لكم ويرحمكم {وملائكته} يستغفرون لكم {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} من ظلمات الجهل والكفر إلى نور اليقين والإسلام

44

{تحيتهم} تحيَّةُ الله للمؤمنين {يوم يلقونه} يرونه {سلام} يسلِّم عليهم {وأعدَّ لهم أجراً كريماً} وهو الجنَّة

45

{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً} على أُمَّتك بإبلاغ الرِّسالة

46

{وداعياً إلى الله} إلى ما يُقرب منه من الطَّاعة والتَّوحيد {بإذنه} بأمره أَيْ: إنَّه أمرك بهذا لا أنَّك تفعله من قبلك {وسراجاً منيراً} يُستضاء به من ظلمات الكفر وقوله:

47

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كبيرا}

48

{ودع أذاهم} لا تُجازهم عليه إلى أن تُؤمر فيهم بأمرنا

49

{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات} تزوجتموهنَّ {ثمَّ طلقتموهنَّ من قبل أن تمسوهن} تجامعوهن {فما لكم عليهن من عدَّة تعتدونها} تحصونها عليهن بالأفراد والأشهر لأنَّ المُطلَّقة قبل الجماع لا عدَّة عليها {فمتعوهنَّ} أعطوهنَّ ما يستمتعن به وهذا أمر ندب لأنَّ الواجب لها نصف الصَّداق {وسرحوهن سَراحاً جميلاً} بالمعروف كما أمر الله تعالى ثمَّ ذكر ما يحلُّ من النِّساء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:

50

{يا أيها النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أجورهن} مهورهنَّ {وما ملكت يمينك} من الإِماء {ممَّا أفاء الله عليك} جعلهنَّ غنيمة تُسبى وتُسترقُّ بحكم الشَّرع {وبنات عمك وبنات عماتك} أن يتزوجهنَّ يعني: نساء بني عبد المطلب {وبنات خالك وبنات خالاتك} يعني: نساء بني زُهرة {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فمن لمن يهاجر منهنَّ لم يحلَّ له نكاحها {وامرأة} وأحللنا لك امرأةً {مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبيُّ أن يستنكحها} فله ذلك {خالصة لك من دون المؤمنين} فليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبيح وطء امرأةٍ بلفظ الهبة من غير ولي ولا مهر ولا شاهدٍ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} وهو أن لا نكاح إلاَّ بوليٍّ وشاهدين {وما ملكت أيمانهم} يريد أنَّه لا يحلُّ لغير النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربع ولي وشاهدين وإلا ملك اليمين والنبي صلى الله عليه وسلم يحلُّ له ما ذكر في هذه الآية {لكيلا يكون عليك حرج} في النِّكاح

51

{ترجي من تشاء منهن} تُؤخِّر {وتؤوي} وتضمُّ {إليك مَنْ تشاء} أباح الله سبحانه له أن يترك القسمة والتَّسوية بين أزواجه حتى إنَّه ليؤخِّر مَنْ شاء منهنَّ عن وقت نوبتها ويطأ مَنْ يشاء من غير نوبتها ويكون الاختيار في ذلك إليه يفعل فيه ما يشاء وهذا من خصائصه {ومن ابتغيت} طلبتَ وأردتَ إصابتها {ممن عزلت} هجرتَ وأخَّرت نوبتها {فلا جناح عليك} في ذلك كلِّه {ذلك أدنى أن تقرَّ أعينهنَّ} الآية إذا كانت هذه الرُّخصة مُنزَّلة من الله سبحانه عليك كان أقرب إلى أن {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من أمر النِّساء والميل إلى بعضهنَّ ولمَّا خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ورضين به قصره الله سبحانه عليهنَّ وحرَّم عليه طلاقهنَّ والتَّزوُّج بسواهنَّ وجعلهنَّ أُمَّهات المؤمنين وهو قوله:

52

{لا يحلُّ لك النساء من بعد} أَيْ: من بعد هؤلاء التِّسع {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أعجبك حسنهنَّ} ليس لك أن تطلِّق واحدةً من هؤلاء ولا تتزوَّج بدلها أخرى أعجبتك بجمالها {إلاَّ ما ملكت يمينك} من الإِماء فإنهنَّ حلالٌ لك

53

{يا أَيُّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية نزلت في ناسٍ من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطَّعام إلى أن يدرك ثمَّ يأكلون ولا يخرجون فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذَّى بهم وهو قوله: {غير ناظرين إناه} أيْ: منتظرين إدراكه {ولا مُسْتأنِسِين لحديث} طالبين الأنس {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقِّ {وإذا سألتموهنَّ متاعاً فاسألوهنَّ من وراء حجاب} إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أمرٍ فخاطبوهنَّ من وراء حجابٍ وكانت النِّساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرِّجال فلمَّا نزلت هذه الآية ضرب عليهنَّ الحجاب فكانت هذا آية الحجاب بينهنَّ وبين الرِّجال {ذلكم} أَيْ: الحجاب {أطهر لقلوبكم وقلوبهن} فإنَّ كلَّ واحدٍ من الرَّجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قبله {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أَيْ: ما كان لكم أذاه في شيءٍ من الأشياء {وَلا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً} وذلك أنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: لئن قبض رسول الله صلى عليه وسلم لأنكحن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فأعلم الله سبحانه أنَّ ذلك محرَّمٌ بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عند الله عظيماً} أَيْ: ذنباً عظيماً

54

{إن تبدوا شيئاً أو تخفوه} الآية نزلت في هذا الرَّجل الذي قال: لأنكحنَّ عائشة أخبر الله أنَّه عالمٌ بما يُظهر ويُكتم فلمَّا نزلت آية الحجاب قالت الآباء والأنباء لرسول الله صلى عليه وسلم: ونحن أيضاً نُكلِّمهنَّ من وراء الحجاب؟ فأنزل الله سبحانه:

55

{لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أَيْ: في ترك الاحتجاب من هؤلاء

56

{إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيِّ} الله تعالى يثني على النبيِّ ويرحمه والملائكة يدعون له {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} قولوا: اللهم صلى على محمدٍ وسلِّمْ

57

{إن الذين يؤذون الله ورسوله} يعني: اليهود والنَّصارى والمشركين في قولهم: {يد الله مغلولةٌ} و {إنَّ الله فقيرٌ} و {المسيحُ ابنُ الله} والملائكة بنات الله وشجُّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ساحرٌ وشاعرٌ

58

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} يرمونهم بغير ما عملوا

59

{يأ أيها النبي قل لأزواجك} الآية كان قومٌ من الزُّناة يتَّبعون النِّساء إذا خرجن ليلاً ولم يكونوا يطلبون إلاَّ الإِماء ولم يكن يومئذ تُعرفْ الحرَّة من الأمة لأنَّ زِيَّهُنَّ كان واحداً إنما يخرجون في درع وخمار فنهيى الله سبحانه الحرائر أن يتشبَّهنَّ بالإماء وأنزل قوله تعالى: {يدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ} أَيْ: يرخين أرديتهنَّ وملاحفهنَّ ليعلم أنهنَّ حرائر فلا يتعرض لهنَّ وهو قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يؤذين وكان الله غفوراً} لما سلف من ترك السِّتر {رحيماً} بهنَّ إذ يسترهنَّ

60

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرض} يعني: الزُّناة {والمرجفون في المدينة} الذين يوقعون أخبار السَّرايا بأنهم هُزموا بالكذب والباطل {لنغرينَّك بهم} لنسلطنَّك عليهم {ثم لا يجاورونك فيها} لا يساكنونك في المدينة {إلاَّ قليلاً} حتى خرجوا منها

61

{ملعونين} مطرودين {أينما ثقفوا} وُجدوا {أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا}

62

{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} سنَّ الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقتلوا حيث ما ثقفوا وقوله:

63

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قريبا}

64

{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}

65

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نصيرا}

66

{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا}

67

{إنا أطعنا سادتنا} أَيْ: قادتنا ورؤساءنا في الشِّرك والضَّلالة

68

{ربنا آتهم ضعفين من العذاب} مثلي عذابنا

69

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} لا تؤذوا نبيَّكم كما آذَوا هم موسى عليه السَّلام وذلك أنَّهم رموه بالبرص والأدرة حتى برَّأه الله مما رموه به بآيةٍ معجزةٍ {وكان عند الله وجيهاً} ذا جاهٍ ومنزلةٍ وقوله:

70

{وقولوا قولاً سديداً} أَيْ: حقَّاً وصواباً قيل: هو لا إله إلا الله

71

{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}

72

{إنا عرضنا الأمانة} الفرائض التي افترض الله سبحانه على العباد وشرط عليهم أنَّ مَنْ أدَّاها جُوزي بالإِحسان ومَنْ خان فيها عوقب {على السماوات والأرض والجبال} أفهمهنَّ الله سبحانه خطابه وأنطقهنَّ {فأبين أن يحملْنَها} مخافةً وخشيةً لا معصيةً ومخالفةً وهو قوله: {وأشفقن منها} أَيْ: خشين منها {وحملها الإِنسان} آدم عليه السَّلام {إنَّه كان ظلوماً} لنفسه {جهولاً} غِرَّاً بأمر الله سبحانه وما احتمل من الأمانة ثمَّ بيَّن أنَّ حمل آدم عليه السَّلام هذه الأمانة كان سبباً لتعذيب المنافقين والمشركين في قوله:

73

{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ الله على المؤمنين والمؤمنات} يعني: إذا خانوا في الأمانة بمعصية أمر الله سبحانه تاب عليهم بفضله {وكان الله غفوراً رحيماً}

سورة سبأ

{الحمد لله} على جهة التَّعظيم {الذي له ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} لأنَّ أهل الجنَّة يحمدونه

2

{يعلم ما يلج في الأرض} يدخل فيها من الماء والأموات {وما يخرج منها} من النَّبات {وما ينزل من السماء} من الأمطار {وما يعرج} يصعد {فيها} من الملائكة

3

{وقال الذين كفروا} يعني: منكري البعث: {لا تأتينا الساعة} أَيْ: لا نبعث {قل} لهم يا محمد: {بلى وربي لتأتينكم عالمِ الغيب} بالخفض من نعت قوله: {وربي} وبالرَّفع على معنى: هو عالم الغيب وقوله: {لا يعزب} مفسَّرٌ في سورة يونس وقوله:

4

{ليجزي} يعود إلى قوله: {لتأتينكم} معناه: لتأتينَّكم السَّاعة {ليجزي الذين آمنوا} الآية

5

{والذين سعوا في آياتنا} مفسَّر في سورة الحج

6

{ويرى الذين أوتوا العلم} يعني: مؤمني أهل الكتاب {الذي أنزل إليك من ربك} وهو القرآن {هو الحقَّ ويهدي إلى صراط العزيز} القرآن

7

{وقال الذين كفروا} إنكاراً للبعث وتعجُّباً منه: {هل ندلكم على رجل} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {ينبئكم إذا مزقتم كلَّ ممزق} أَيْ: فُرِّقتم وصرتم رُفاتاً {إنكم لفي خلق جديد} أَيْ: تُبعثون

8

{افترى على الله كذبا} فيما يُخبر به من البعث {أم به جنة} حالةُ جنونٍ قال الله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ والضلال البعيد}

9

{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خلفهم من السماء والأرض} يقول: أما يعلمون أنَّهم حيث ما كانوا فهم يرون ما بين أيديهم من الأرض والسَّماء مثل الذي خلقهم وأنَّهم لا يخرجون منها فكيف يأمنون؟ ! {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عليهم كسفاً من السماء} عذاباً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} لعلامةً تدلُّ على قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى لكلِّ مَنْ أناب إلى الله تعالى وتأمَّل ما خلق الله سبحانه

10

{ولقد آتينا داود منَّا فضلاً} ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {يا جبال} أَيْ: قلنا يا جبال {أوّبي معه} سبِّحي معه {والطير} كان إذا سبَّح جاوبته الجبال بالتَّسبيح وعكفت عليه الطَّير من فوقه تسعده على ذلك {وألنا له الحديد} جعلناه ليِّناً في يده كالطِّين المبلول والعجين وقلنا له:

11

{أن اعمل سابغات} دروعاً كوامل {وقدِّر في السرد} لا تعجل مسمار الدِّرع دقيقاً فيفلق ولا غيظا فيفصم الحلق اجعله على قدر الحاجة والسَّرْد: نسج الدُّروع {واعملوا} يعني: داود وآله {صالحاً} عملاً صالحاً من طاعة الله تعالى

12

{ولسليمان الريح} وسخرنا له الرِّيح {غدوها شهر} مسيرها إلى انتصاف النَّهار مسيرة شهر ومن انتصاف النَّهار إلى اللَّيل مسيرة شهر وهو قوله: {ورواحها شهر وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أذبنا له عين النُّحاس فسالت له كما يسيل الماء {ومن الجنِّ} أَيْ: سخَّرنا له من الْجِنِّ {مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} بأمر ربه {ومَنْ يزغ} يمل ويعدل {منهم عن أمرنا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان {نذقه من عذاب السعير} وذلك أنَّ الله تعالى وكَّل بهم ملكاً بيده سوطٌ من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربةً أحرقته

13

{يعملون له ما يشاء من محاريب} مجالس ومساكن ومساجد {وتماثيل} صورة الأنبياء إذ كانت تصوَّر في المساجد ليراها النَّاس ويزدادوا عبادة {وجفانٍ} قصاعٍ كبارٍ {كالجوابِ} كالحياض التي تجمع الماء {وقدور راسيات} ثوابت لا تحرَّكن عن مكانها لعظمها وقلنا: {اعملوا} بطاعة الله يا {آل داود شكراً} له على نعمه

14

{فلما قضينا عليه الموت ما دلَّهم} الآية كان سليمان عليه السَّلام يقول: اللَّهم عمِّ على الجنِّ موتي ليعلم الإِنس أنَّ الجنَّ لا يعلمون الغيب فمات سليمان عليه السَّلام مُتوكِّئاً على عصاه سنةً ولم تعلم الجنُّ ذلك حتى أكلت الأرضةُ عصاه فسقط ميِّتاً وهو قوله: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تأكل منسأته} عصاه {فلما خرَّ} سقط {تبينت الجن} علمت {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا} بعد موت سليمان {في العذاب المهين} فيما سخَّرهم فيه سليمان عليه السَّلام واستعملهم

15

{لقد كان لسبأ} وهو اسم قبيلةٍ {في مساكنهم} باليمن {آية} دلالةٌ على قدرتنا {جنتان} أَيْ: هي جنَّتان {عن يمين وشمال} بستانٌ يمنةً وبستانٌ يسرةً وقيل لهم: {كلوا من رزق ربكم واشكروا له} على ما أنعم عليكم {بلدة طيبة} أَيْ: بلدتكم بلدةٌ طيِّبةٌ ليست بسبخةٍ {و} الله {ربٌّ غفور} والمعنى: تمتَّعوا ببلدتكم الطَّيِّبة واعبدوا ربَّاً يغفر ذنوبكم

16

{فأعرضوا} عن أمر الله تعالى بتكذيب الرُّسل {فأرسلنا عليهم سيل العرم} وهو السِّكْر الذي يحبس الماء وكان لهم سِكْرٌ يحبس الماء عن جنَّتيهم فأرسل الله تعالى فيه جرذاناً ثقبته فانبثق الماء عليهم فغرق جنَّاتهم {وبدلناهم بجنَّتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} أَيْ: ثمرٍ مُرٍّ {وأثل} وهو الطَّرفاء {وشيء من سدر قليل} وذلك أنَّ الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر

17

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أَيْ: جزيناهم ذلك الجزاء بكفرهم {وهل نجازي إلاَّ الكفور} بسوء عمله وذلك أنَّ المؤمن تُكفَّر عنه سيئاته والكافر يُجازى بكلِّ سوءٍ يعمله

18

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني: قرى الشَّام {قرى ظاهرة} متواصلةً يُرى من هذه القرية القرية الأخرى فكانوا يخرجون من سبأ إلى الشَّام فيمرُّون على القرى العامرة {وقدرنا فيها السير} جعلنا سيرَهم بمقدارٍ إذا غدا أحدهم من قريةٍ قال في أخرى وإذا راح من قريةٍ أوى إلى أخرى وقلنا لهم: {سيروا فيها} في تلك القرى {ليالي وأياماً} أَيَّ وقت شئتم من ليلٍ أو نهارٍ {آمنين} لا تخافون عدوَّاً ولا جوعاً ولا عطشاً

19

{فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} وذلك أنَّهم سئموا الرَّاحة وبطروا النِّعمة فتمنَّوا أن تتباعد قراهم ليبعد سفرهم بينها {وظلموا أنفسهم} بالكفر والبطر {فجعلناهم أحاديث} لمَنْ بعدهم يتحدَّثون بقصَّتهم {ومزَّقناهم كلَّ ممزق} وفرَّقناهم في البلاد فصاروا يُتمثَّل بهم في الفُرقة وذلك أنَّهم ارتحلوا عن أماكنهم وتفرَّقوا في البلاد {إنَّ في ذلك} الذي فعلنا {لآيات لكل صبار شكور} أَيْ: لكلِّ مؤمنٍ لأنَّ المؤمن هو الذي إذا ابتُليَ صبر وإذا أُعطيَ شكر

20

{ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنه} الذي ظن من إغوائهم {فاتبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين} أَيْ: وجدهم كما ظنَّ بهم إلاَّ المؤمنين

21

{وما كان له عليهم من سلطان} من حجَّةٍ يستتبعهم بها {إلاَّ لنعلم} المعنى: لكن امتحانهم بإبليس لِنَعْلَمَ {مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شك} عُلِمَ وقوعه منه

22

{قل} يا محمد لمشركي قومك: {ادعوا الذين زعمتم} أنَّهم آلهةٌ {من دون الله} وهذا أمرُ تهديدٍ ثمَّ وصفهم فقال: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما} في السماوات ولا في الأرض {من شرك} شركةٍ {وما له} لله {منهم من ظهير} عونٍ يريد: لم يُعنِ الله على خلق السماوات والأرض آلهتُهم فكيف يكونون شركاء له؟ ثمَّ أبطل قولهم أنَّهم شفعاؤنا عند الله فقال:

23

{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ له} أَيْ: أذن الله له أن يشفع {حتى إذا فزّع} أذهب الفزع {عن قلوبهم} يعني: كشف الفزع عن قلوب المشركين بعد الموت إقامةً للحجَّة عليهم وتقول لهم الملائكة: {ماذا قال ربكم} ؟ فيما أوحى إلى أنبيائه {قالوا الحق} فأقرُّوا حين لا ينفعهم الإِقرار

24

{قل من يرزقكم من السماوات} المطر {و} من {الأرض} النَّبات ثمَّ أمره أن يخبرهم فقال: {قل الله} أَيْ: الذي يفعل ذلك الله وهذا احتجاجٌ عليهم ثمَّ أمره بعد إقامة الحجَّة عليهم أن يُعرَّض بكونهم على الضَّلال فقال: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين} أَيْ: نحن أو أنتم إمَّا على هدىً أو ضلالٍ والمعنى: أنتم الضَّالون حيث أشركتم بالذي يرزقكم من السماء والأرض وهذا كما تقول لصاحبك إذا كذب: أحدنا كاذبٌ وتعنيه ثمَّ بيَّن براءته منهم ومن أعمالهم فقال:

25

{قل لا تسألون عما أجرمنا} الآية وهذا كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} ثمَّ أخبر أنَّه يجمعهم في القيامة ثمَّ يحكم بينهم وهو قوله تعالى:

26

{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}

27

{قل أروني الذين ألحقتم به شركاء} ألحقتموهم بالله تعالى في العبادة يعني: الأصنام أَيْ: أرونيهم هل خلقوا شيئاً وهذه الآية مختصرةٌ تفسيرها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لهم شرك في السماوات} ثمَّ قال: {كلا} أيْ: لبس الأمر على ما يزعمون {بل هو الله العزيز الحكيم}

28

{وما أرسلناك إلاَّ كافَّة للناس} جامعا صلهم كلَّهم بالإِنذار والتَّبشير {ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون} ذلك وقوله تعالى:

29

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

30

{قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعة ولا تستقدمون}

31

{ولا بالذي بين يديه} أَيْ: من الكتب المُتقدِّمة وقوله: {يرجع بعضهم إلى بعض القول} أَيْ: في التَّلاوم ثمَّ ذكر إيش يرجعون فقال: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لكنا مؤمنين}

32

{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مجرمين}

33

{وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} أَيْ: مكركم بنا فيهما {إذ تأمروننا أن نكفر بالله} {وأسروا} : وأظهروا

34

{وما أرسلنا في قرية من نذير} نبيٍّ يُنذرهم {إلاَّ قال مترفوها} رؤساؤها وأغنياؤها {إنَّا بما أُرسلتم به كافرون}

35

{وقالوا} للرُّسل: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً} منكم يعنون أنَّ الله سبحانه رضي منَّا حيث أعطانا المال {وما نحن بمعذبين} كما تقولون

36

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويقدر} وليس ذلك ممَّا يدلُّ على العواقب {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ذلك

37

{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زلفى} أَيْ: قُربى يعني: تقريباً {إلاَّ من آمن} لكنْ مَنْ آمَنَ {وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضعف} من الثَّواب بالواحد عشرة {وهم في الغرفات آمنون} قصور الجنة

38

{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي العذاب محضرون}

39

{وما أنفقتم من شيء} ما تصدَّقتم من صدقةٍ {فهو يخلفه} يعطي خلقه إمَّا عاجلاً في الدُّنيا وإمَّا آجلاً في الآخرة

40

{ويوم نحشرهم جميعاً} العابدين والمعبودين {ثم يقول للملائكة} توبيخاً للكفَّار: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون}

41

{قالوا سبحانك} تنزيهاً لك {أنت ولينا} الذي نتولاَّه ويتولاَّنا {من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} يُطيعون إبليس وأعوانه {أكثرهم بهم مؤمنون} مُصدِّقون ما يمنُّونهم ويعدونهم وقوله تعالى:

42

{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ التي كنتم بها تكذبون}

43

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ}

44

{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إليهم قبلك من نذير} يعني: مشركي مكَّة لم يكونوا أهل كتابٍ ولا بُعث إليهم نبيٌّ قبل محمد صلى الله عليه وسلم

45

{وكذب الذين من قبلهم} من الأمم {وما بلغوا} يعني: مشركي مكَّة {معشار} عشر {ما آتيناهم} من القُوَّة والنِّعمة {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} إنكاري عليهم ما فعلوا بالإِهلاك والعقوبة؟

46

{قل إنما أعظكم بواحدة} بخصلةٍ واحدةٍ وهي الطَّاعة لله تعالى {أن تقوموا} لأن تقوموا {لله مثنى وفرادى} مُجتمعين ومُنفردين {ثم تتفكروا} فتعلموا {ما بصاحبكم} محمد {من جنة} من جنونٍ {إنْ هو إلاَّ نذير لكم} ما هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شديد} إنْ عصيتموه

47

{قل ما سألتكم من أجر} على تبليغ الرِّسالة {فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} يعني: إنَّما أطلب الثَّواب من الله لا عَرضاً من الدُّنيا

48

{قل إنَّ ربي يقذف بالحق} يُلقيه إلى أنبيائه

49

{قل جاء الحق} جاء أمر الله الذي هو الحق {وما يبدئ الباطل وما يعيد} أَيْ: ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه إنَّما يفعل ذلك الله تعالى

50

{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أَيْ: على نفسي يكون وبال ضلالي وهذا إخبارٌ أنَّ مَنْ ضلَّ فإنما يضرُّ نفسه {وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي} يعني: لولا الوحيُ ما كنت أهتدي

51

{ولو ترى} يا محمد {إذ فزعوا} عن البعث {فلا فوت} لهم منَّا {وأخذوا من مكان قريب} على الله وهو القبور

52

{وقالوا} حين عاينوا العذاب {آمنا به} بالله {وأنى لهم التناوش} أَيْ: كيف يتناولون التَّوبة وقيل: الرَّجعة وقد بعدت عنهم يريد إنَّ التَّوبة كانت تُقبل عنهم في الدُّنيا وقد ذهبت الدُّنيا وبعدت عن الآخرة

53

{وقد كفروا به} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {من قبل} أَيْ: في الدُّنيا {ويقذفون بالغيب} يرمون محمدا صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان ظنَّاً لا يقيناً {من مكان بعيد} وهو أنَّ الله تعالى أبعدهم قبل أن يعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم

54

{وحيل بينهم} مُنعوا ممَّا يشتهون من التَّوبة والإِيمان والرُّجوع إلى الدنيا {كما فُعل بأشياعهم} ممَّن كانوا على مثل دأبهم من تكذيب الرُّسل قبلهم حين لم يقبل منهم الإِيمان والتَّوبة {إنهم كانوا في شك} من أمر الرُّسل والبعث {مريب} موقعٍ للرِّيبة والتُّهمة

سورة فاطر

{الحمد لله فاطر السماوات والأرض} خالقهما على ابتداء {جاعل الملائكة رسلاً أولي} أصحاب {أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ} في خلق الملائكة وأجنحتها {ما يشاء}

2

{ما يفتح الله للناس من رحمة} رزقٍ ومطرٍ فلا يقدر أحدٌ أن يمسكه والذي يمسك لا يرسله أحد

3

{يا أيها الناس} خطاب أهل مكَّة {اذكروا نعمة الله عليكم} بالرِّزق والمطر وسائر ذلك {هل من خالق غير الله} هل يخلق أحدٌ سواه ثُمَّ {يرزقكم من السماء} المطر {و} من {الأرض} النَّبات {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تؤفكون} من أين يقع لكم الإِفك والكذب بتوحيد الله؟ ! ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام بقوله:

4

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وإلى الله ترجع الأمور}

5

{يا أيها النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}

6

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}

7

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير}

8

{أفمن زين له سوء عمله} بإضلال الله تعالى إيَّاه فرأى قبيح ما يعمله حَسَنًا {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} لا تغتمَّ لكفرهم ولا تتحسَّر على تركهم الإيمان

9

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}

10

{مَنْ كان يريد العزة} أَيْ: عِلْمَ العزَّةِ لمَنْ هي {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} إليه يصل الكلام الذي هو توحيده وهو قول لا إله إلا الله {والعمل الصالح} يرفع ذلك الكلم الطَّيَّب والكلم الطَّيَّب: ذكر الله تعالى والعمل الصَّالح: أداء فرائضه فمن كان حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ومعنى الرَّفع رفعه إلى محل القبول {والذين يمكرون السيئات} يعني: الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة {ومكر أولئك هو يبور} أي: يفسد ويبطل وقوله تعالى:

11

{وما يعمَّر من معمَّر} أي: يُطوَّل عُمر أحدِ {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} ولا يكون أحدٌ ناقص العمر وهو مُحصىً في الكتاب يعني: عدد عمر الطَّويل العمر وعمر القصير العمر

12

{وما يستوي البحران هذا عذب فرات} شديد العذوبة {وهذا ملح أجاج} شديد المرارة {ومن كلٍّ} من الملح والعذب {تأكلون لحماً طرياً} من السَّمك {وتستخرجون} منه من الملح {حلية تلبسونها} يعني: المرجان وإنَّما ذكر هذا للدَّلالة على قدرته وقوله:

13

{من قطمير} يعني: لفافة النَّواة

14

{ويوم القيامة يكفرون بشرككم} أَيْ: يقولون: ما كنتم إيَّانا تعبدون {ولا ينبئك مثل خبير} وهو الله عز وجل وقوله:

15

{يا أيها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}

16

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}

17

{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}

18

{ولا تزرُ وازِرَةٌ} أَيْ: لا تحمل نفسٌ حاملةٌ {وزِرْ أخرى} حِمل نفسٍ أخرى {وإن تدع مثقلة} نفس بالذنوب {إلى حملها} ذبوبها {لا يحمل منه شيء ولو كان} المدعو {ذا قربى} مثل الأب والابن {إنما تنذر الذين يخشون ربَّهم بالغيب} إنَّما ينفع إنذارك الذين يخافون الله تعالى ولم يروه {ومَنْ تزكَّى} عمل خيراً

19

{وما يستوي الأعمى} عن الحقِّ وهو الكافر {والبصير} الذي يبصر رشده وهو المؤمن

20

{ولا الظلمات ولا النور} يعني: الكفر والإيمان

21

{وَلا الظِّلُّ وَلا الحرور} يعني: الجنَّة التي فيها ظلٌّ دائمٌ والنَّار التي لها حرارةٌ شديدةً

22

{وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ ولا الأموات} يعني: المؤمنين والكفَّار {إنَّ الله يُسمع من يشاء} فينتفع بذلك {وما أنت بمسمع مَنْ في القبور} يعني: الكفَّار شبَّههم بالأموات أيْ: كما لا يسمع أصحاب القبور كذلك لا يسمع الكفار وقوله:

23

{إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ}

24

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}

25

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}

26

{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}

27

{ومن الجبال جدد بيض وحمر} أَيْ: طرائق تكون في الجبال كالعروق بيض وحمر {وغرابيب سود} وهي الجبال ذات الصُّخور السُّود

28

{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أَيْ: كاختلاف الجبال والثَّمرات في اختلاف الألوان {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أَيْ: مَنْ كان عالماً بالله اشتدَّت خشيته وقوله:

29

{يرجون تجارة لن تبور} يعني: لن تكسد ولن تفسد

30

{إنه غفور} لذنوبهم {شكور} لحسناتهم

31

{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لخبير بصير}

32

{ثمَّ أورثنا} أعطينا بعد هلاك الأمم {الكتاب} القرآن لـ {الذين اصطفينا من عبادنا} وهم أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ ذكر أصنافهم فقال: {فمنهم ظالم لنفسه} وهو الذي زادت سيئاته على حسناته {ومنهم مقتصد} وهو الذي استوت حسناته وسيِّئاته {ومنهم سابق بالخيرات} وهو الذي رجحت حسناته {بإذن الله} بقضائه وإرادته {ذلك هو الفضل الكبير} يعني: إيتاء الكتاب: وقوله تعالى:

33

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير}

34

{الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَنَ} يعني: كلَّ ما يحزن له الإنسان من أمر المعاش والمعاد

35

{الذي أحلنا} أنزلنا {دار المقامة} دار الخلود {من فضله} أَيْ: ذلك بتفضُّله لا بأعمالنا {لا يمسنا فيها نصب} تعبٌ {ولا يمسنا فيها لغوب} إعياءٌ

36

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عليهم فيموتوا}

37

{وهم يصطرخون} يستغيثون وقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أَيْ: العمر الذي يتَّعظ فيه ويرجع فيه إلى الله مَنْ يتَّعظ وهو ستون سنةً {وجاءكم النذير} يعني: الرَّسول: وقيل: الشيب

38

{إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور}

39

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} أَيْ: جعلكم أمة خلفت مَنْ قبلها من الأمم

40

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله أروني} أخبروني عنهم {ماذا خلقوا من الأرض} أَيْ: بأيِّ شيءٍ أوجبتم لهم الشِّركة مع الله أَلخلقٍ خلقوه من الأرض {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي} خلق {السماوات أم آتيناهم} أعطينا المشركين {كتاباً} بما يدَّعونه من الشِّرك {فهم على بيَّنةٍ} من ذلك الكتاب {بل إن يعد الظالمون} ما بعد بعض الظالمين بعضاً {إلاَّ غروراً} أباطيل

41

{إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} لئلا تزولا وتتحرَّكا {ولئن زالتا} ولو زالتا {إن أمسكهما} ما أمسكهما {من أحدٍ من بعده} سوى الله تعالى

42

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} يعني: المشركين كانوا يقولون قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لئن أتانا رسولٌ {ليكونن أهدى من إحدى الأمم} أَيْ: من اليهود والنَّصارى والمجوس {فلما جاءهم نذير} هو النبي صلى الله عليه وسلم {ما زادهم} مجيئه {إلاَّ نفوراً} عن الحقِّ

43

{استكباراً في الأرض} أَيْ: استكبروا عن الإيمان استكباراً {ومكر السيئ} ومكروا المكر السيئ وهو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه {ولا يحيق} أَيْ: يحيط {المكر السيئ إلاَّ بأهله} فحاق بهم مكرهم يوم بدرٍ {فهل ينظرون} بعد تكذيبك {إلاَّ سنة الأولين} يعني: العذاب

44

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ في السماوات وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}

45

{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا} من الجرائم {ما ترك على ظهرها} على ظهر الأرض {من دابة} من الإنس والجنِّ وكلِّ ما يعقل {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أجلهم فإنَّ الله كان بعباده بصيراً}

سورة يس

{يس} يا إنسان

2

{والقرآن الحكيم} أقسم الله تعالى بالقرآن المحكم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين وهو قوله:

3

{إنك لمن المرسلين}

4

{على صراط مستقيم} على طريق الأنبياء الذين تقدَّموك

5

{تنزيل} أَيْ: القرآن تَنْزِيلَ {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}

6

{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آباؤهم} في الفترة {فهم غافلون} عن الإيمان والرُّشد

7

{لقد حقَّ القول} وجبت عليهم كلمة العذاب {فهم لا يؤمنون} ثمَّ بيَّن سبب تركهم الإيمان فقال:

8

{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} أراد: في أعناقهم وأيديهم لأنَّ الغلَّ لا يكون في العنق دون اليد {فهي إلى الأذقان} أَيْ: فأيديهم مجموعةٌ إلى أذقانهم لأنَّ الغلَّ يجعل في اليد ممَّا يلي الذقن {فهم مقمحون} رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه وهذا مَثَلٌ معناه: أمسكنا أيديهم عن النَّفقة في سبيل الله بموانعَ كالأغلال

9

{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سداً} هذا وصف إضلال الله تعالى إياهم فهم بمنزلة مَنْ سُدَّ طريقه من بين يديه ومن خلقه يريد: إنَّهم لا يستطيعون أن يخرجوا من ضلالهم {فأغشيناهم} فأعميناهم عن الهدى {فهم لا يُبصرون} هـ ثم ذكر أنَّ هؤلاء لا ينفعهم الإِنذار فقال:

10

{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}

11

{إنما تنذر من اتبع الذكر} إنما إنذارك من ابتع القرآن فعمل به {وخشي الرحمن بالغيب} خاف اله تعالى ولم يره

12

{إنا نحن نحيي الموتى} عند البعث {ونكتب ما قدَّموا} من الأعمال {وآثارهم} ما استُنَّ به بعدهم وقيل: خطاهم إلى المساجد {وكلَّ شيء أحصيناه} عددناه وبيَّناه {في إمام مبين} وهو اللَّوح المحفوظ

13

{واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية} وهي أنطاكية {إذ جاءها المرسلون} رسل عيس عليه السَّلام

14

{إذْ أرسلنا إليهم اثنين} من الحوارييِّن {فكذبوهما فَعَزَّزْنا بثالث} قوَّينا الرِّسالة برسولٍ ثالث وقوله:

15

{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ}

16

{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}

17

{وَمَا علينا إلا البلاغ المبين}

18

{إنّا تطيرنا بكم} أَيْ: تشاءمنا وذلك أنَّهم حُبس عنهم المطر فقالوا: هذا بشؤمكم {لئن لم تنتهوا لَنَرْجُمَنَّكم} لنقتلنَّكم رجماً بالحجارة

19

{قالوا طائركم معكم} شؤمكم معكم بكفركم {أَإِنْ ذكرتم} وُعظتم وخُوِّفتم تطيَّرتم {بل أنتم قوم مسرفون} مُجاوزون الحدّ بشرككم

20

{وجاء من أقصى المدينة رجل} وهو حبيب النَّجار كان قد آمن بالرُّسل وكان منزله في أقصى البلد فلمَّا سمع أنَّ القوم كذَّبوهم وهمُّوا بقتلهم أتاهم يأمرهم بالإيمان فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}

21

{اتبعوا مَنْ لا يسألكم أَجْراً} على أداء النُّصح وتبليغ الرِّسالة {وهم مهتدون} يعني: الرُّسل فقيل له: أنت على دين هؤلاء؟ فقال:

22

{وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ ترجعون}

23

{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنَ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا ينقذون}

24

{إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}

25

{إني آمنت بربكم فاسمعون} فلمَّا قال ذلك وثبوا إليه فقتلوه فأدخله الله تعالى الجنَّة فذلك قوله تعالى:

26

{قيل ادخل الجنَّة} فلمَّا شاهدها قَالَ: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}

27

{بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أَيْ: بمغفرة ربي

28

الجزء الثالث والعشرون: {ما أنزلنا على قومه} يعني: على قوم حبيب {من جند من السماء} لنصرة الرُّسل الذين كذَّبوهم يريد: لم نحتج في إهلاكهم إلى إرسال جند

29

{إن كانت} ما كانت عقوبتهم {إلاَّ صيحة واحدة} صاح بهم جبريل عليه السَّلام فماتوا عن آخرهم وهو قوله: {فإذا هم خامدون} ساكنون قد ماتوا

30

{يا حسرة على العباد} يعني: هؤلاء حين استهزؤوا بالرُّسل فتحسَّروا عند العقوبة

31

{ألم يروا} يعني: أهل مكَّة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يرجعون} يعني: ألم يروا أنَّ الذين أهلكناهم قبلهم لا يرجعون إليهم

32

{وإن كل} وما كلُّ مَنْ خُلق مِن الخلق إلاَّ {جميع لدينا محضرون} عند البعث يوم القيامة يحضرهم ليقفوا على ما عملوا

33

{وآية لهم} على البعث {الأرض الميتة أحييناها} وقوله:

34

{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فيها من العيون}

35

{وما عملته أيديهم} أَيْ: لم تعمله ولا صنع لهم في ذلك

36

{سبحان الذي خلق الأزواج كلها} أَيْ: الأجناس من النَّبات والحيوان {وممَّا لا يعلمون} ممَّا خلق الله سبحانه من جميع الأنواع والأشباه

37

{وآية لهم} ودلالةٌ لهم على توحيد الله سبحانه وقدرته {الليل نسلخ} نُخرج {منه النهار} إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النَّهار والمعنى: ننزع النَّهار فنذهب به ونأتي باللَّيل {فإذا هم مظلمون} داخلون في الظَّلام

38

{والشمس} أَيْ: وآيةٌ لهم الشَّمس {تجري لمستقرٍ لها} عند انقضاء الدُّنيا

39

{والقمر قدرناه منازل} ذا منازلٍ {حتى عاد} في آخر منزله {كالعرجون القديم} وهو عود الشِّمراخ إذا يبس اعوجَّ

40

{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} فيجتمعا معاً {ولا الليل سابق النهار} يسبقه فيأتي قبل انقضاء النَّهار {وكلٌّ} من الشَّمس والقمر والنُّجوم {فِي فَلَكٍ يسبحون} يسيرون

41

{وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} أباهم {في الفلك المشحون} يعني: سفينة نوحٍ عليه السَّلام

42

{وخلقنا لهم من مثله} من مثل جنس سفينة نوح {ما يركبون} في البحر

43

{وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم} فلا مُغيث لهم {ولا هم يُنقذون} ينجون

44

{رحمةً منا ومتاعاً إلى حين} أَيْ: إلا أن نَرحمهم ونُمتِّعهم إلى انقضاء آجالهم

45

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} العذاب الذي عُذِّب به الأمم قبلكم {وما خلفكم} يعني: عذاب الآخرة {لعلكم ترحمون} لكي تكونوا على رجاء الرَّحمة وجواب {إذا} محذوف تقديره: وإذا قيل لهم هذا أعرضوا ودلَّ على هذا قوله تعالى:

46

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}

47

{وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم ال} كان فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون للمشركين: أعطونا من أموالكم ما زعمتم أنَّها لله تعالى فكانوا يقولون استهزاءً: {أنطعم مَن لو يشاء الله أطعمه} فقال الله تعالى: {إن أنتم إلاَّ في ضلال مبين}

48

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنَّا نُبعث

49

{ما ينظرون} ما ينتظرون {إلاَّ صيحة واحدة} وهي نفخة إسرافيل {تأخذهم وهم يخصمون} يختصمون يُخاصم بعضهم بعضاً يعني: يوم تقوم الساعة وهم في غفلةٍ عنها

50

{فلا يستطيعون} بعد ذلك أن يُوصوا في أمورهم بشيءٍ {ولا إلى أهلهم يرجعون} لا ينقلبون إلى أهليهم من الأسواق ويموتون في مكانهم

51

{ونفخ في الصور} يعني: نفخة البعث {فإذا هم من الأجداث} القبور {إلى ربهم ينسلون} يخرجون بسرعة

52

{قَالُوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} أَيْ: منامنا وذلك أنَّهم كانوا قد رفع عنه العذاب فيا بين النَّفختين فيرقدون ثم يقولون: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} أقرُّوا حين لم ينفعهم

53

{إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جميع لدينا محضرون} يريد: إنَّ بعثهم وإحياءهم كان بصيحة تُصاح بهم وهو قول إسرافيل عليه السَّلام: أيَّتها العظام البالية

54

{فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إلاَّ ما كنتم تعملون}

55

{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل} بافتضاض الأبكار {فاكهون} ناعمون فرحون مُعجبون

56

{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}

57

{ولهم ما يدعون} يتمنَّون

58

{سلام} أَيْ: لهم سلامٌ {قولاً} يقوله الله عزَّ وجل قولاً

59

{وامتازوا اليوم أيها المجرمون} أَيْ: انفردوا عن المؤمنين

60

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} ألم آمركم {يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}

61

{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}

62

{ولقد أضل منكم جبلاً} خلقاً {كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} عدوانه وإضلاله

63

{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

64

{اصلوها اليوم} اُدخلوها وقاسوا حرَّها {بما كنتم تكفرون} بكفركم

65

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}

66

{ولو نشاء لطمسنا على أعينهم} لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم {فاستبقوا الصراط} فتبادروا إلى الطَّريق {فأنى} يبصرون حينئذٍ وقد طمسنا أعنيهم؟

67

{ولو نشاء لمسخناهم} حجارةً وقردةً وخنازير {على مكانتهم} في منازلهم {فما استطاعوا مُضيّاً ولا يرجعون} أَيْ: لم يقدروا على ذهابٍ ولا مجيءٍ

68

{ومَنْ نعمره ننكسه في الخلق} مَنْ أطلنا عمره نكَّسنا خلقه فصار بدل القوة ضعفا وبدل الشَّباب هرماً {أفلا يعقلون} أنَّا نفعل ذلك

69

{وما علمناه الشعر} لم نعلم محمدا صلى الله عليه وسلم قول الشِّعر {وما ينبغي له} وما يتسهَّل له ذلك {إن هو} أَيْ: ليس الذي أتى به {إلاَّ ذكرٌ وقرآن مبين}

70

{لينذر مَنْ كان حيَّاً} عاقلاً فلا يغفل ما يُخاطب به لأنَّ الكافر كالميِّت {ويحق القول على الكافرين} تجب الحُجَّة عليهم

71

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أيدينا أنعاماً} أَيْ: عملناه من غير واسطةٍ ولا توكيلٍ ولا شريكٍ أعاننا {أنعاماً فهم لها مالكون} ضابطون

72

{وذللناها} سخَّرناها {لهم فمنها ركوبهم} ما يركبون

73

{ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون}

74

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} يُمنعون من عذاب الله تعالى

75

{لا يستطيعون نصرهم} لا تنصرهم آلهتهم {وهم لهم جند محضرون} في النار لأنَّ أوثانهم معهم فيها

76

{فلا يحزنك قولهم} فيك بالسُّوء والقبيح {إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} فنجازيهم بذلك

77

{أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: العاص بن وائل وقيل: أبي بن خلف {فإذا هو خصيم مبين} جَدِلٌ بالباطل خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث وهو قوله:

78

{وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه} وهو أنَّه قال: متى يحيي الله العظم البالي المتفتِّت؟ ونسي ابتداء خلقه لأنَّه لو علم ذلك ما أنكر الإِعادة وهذا معنى قوله: {قال من يحيي العظام وهي رميم} أَيْ: باليةٌ

79

{قل يحييها الذي أنشأها} خلقها {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ} من الابتداء والإِعادة {عليم}

80

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} يعني: المرخ والعفار ومنهما زنود الأعراب {فإذا أنتم منه توقدون} تورون النَّار ثمَّ احتج عليهم بخلق السماوات والأرض فقال:

81

{وليس الذي خلق السماوات وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وهو الخلاق العليم} ثمَّ ذكر كمال قدرته فقال:

82

{إنما أمره إذا أراد شيئاً} أَيْ: خلق شيءٍ {أن يقول له كن فيكون} ذلك الشَّىء

83

{فسبحان} تنزيهاً لله سبحانه من أن يُوصف بغير القدرة على الإعادة {الذي بيده ملكوت كلِّ شيء} أَيْ: القدرة على كلِّ شيء {وإليه ترجعون} تُردُّون في الآخرة

سورة الصافات

{والصافات صفاً} يعني: صفوف الملائكة في السَّماء

2

{فالزاجرات زجراً} يعني: الملائكة تزجر السَّحاب وتسوقه

3

{فالتاليات ذكراً} جماعة قرَّاء القرآن

4

{إن إلهكم لواحد} أقسم الله سبحانه بهؤلاء أنَّ إلهكم لواحد

5

{وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} مطالع الشمس

6

{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} بضوئها {و} حفظناها

7

{حفظاً من كلِّ شيطان مارد} متمرِّدٍ خبيثٍ

8

{لا يَسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى} يعني: الملائكة {ويقذفون من كلّ جانب} ويُرمون

9

{دحوراً} يُدحرون دحوراً أَيْ: يُباعدون {ولهم عذاب واصب} دائم

10

{إلاَّ من خطف الخطفة} سمع الكلمة من الملائكة فأخذها بسرعة {فأتبعه} لحقه {شهاب ثاقب} كوكبٌ مضيءٌ

11

{فاستفتهم} فسلهم يعني: أهل مكَّة {أهم أشد خلقاً أم من خلقنا} من الأمم السَّالفة قبلهم وغيرهم من السماوات والأرض {إنا خلقناهم من طين لازب} لاصقٍ لازمٍ

12

{بل عجبت} يا محمَّد من تكذيبهم إيَّاك {و} هم {يسخرون} من تعجُّبك

13

{وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ}

14

{وإذا رأوا آية} معجزةً سخروا

15

{وقالوا إن هذا إلاَّ سحر مبين}

16

{أإذا متنا وكنا تراباً وعظاما أإنا لمبعوثون}

17

{أو آباؤنا الأولون}

18

{قل: نعم} تبعثون {وأنتم داخرون} صاغرون أذلاَّء

19

{فإنما هي} يعني: القيامة {زجرة} صحية {واحدة فإذا هم} أحياءٌ {ينظرون} سوء أعمالهم وقيل: ما كذَّبوا به

20

{وقالوا: يا ويلنا هذا يوم الدين} يوم نُجازى فيه بما عملنا

21

{هذا يوم الفصل} بين الحقِّ والباطل {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

22

{احشروا الذين ظلموا} كفروا {أزواجهم} قرناءهم من الشَّياطين وأوثانهم

23

{فاهدوهم} دلُّوهم إلى النار

24

{وقفوهم} احسبوهم {إنهم مسؤولون} عن أقوالهم وأفعالهم

25

{ما لكم لا تناصرون} لا ينصر بعضكم بعضاً

26

{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مستسلمون} مُنقادون

27

{وأقبل بعضهم على بعض} يعني: الأتباع والرُّؤساء {يتساءلون} يتخاصمون

28

{قالوا} يعني: الأتباع للرُّؤساء {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} تقهروننا بالقوَّة من قبل الدين فتضلوننا عنه

29

{قالوا بل لم تكونوا مؤمنين} أَيْ: إنَّما الكفر من قبلكم

30

{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كنتم قوما طاغين}

31

{فحق علينا} جميعاً {قول ربنا} كلمة العذاب

32

{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}

33

{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}

34

{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}

35

{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إلا الله يستكبرون}

36

{ويقولون أإنا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}

37

{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ المرسلين}

38

{إنكم لذائقوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ}

39

{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}

40

{إِلا عباد الله المخلصين} المؤمنين لكن عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

41

{أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ معلوم} بكرة وعشيا

42

{فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ}

43

{في جنات النعيم}

44

{عَلَى سرر متقابلين}

45

{بكأس من معين} خمرٍ تجري على وجه الأرض

46

{بيضاء لذة للشَّاربين} ذات لذاة

47

{لا فيها غولٌ} داءٌ ولا وجعٌ {ولا هم عنها ينزفون} لا تذهب بعقولهم

48

{وعندهم قاصرات الطرف} نساء لا ينظرن إلى غير أزواجهنَّ {عين} نُجْل العيون

49

{كأنهن بيض} في صفاء لونها {مكنون} يستره ريش النَّعام

50

{فأقبل بعضهم} يعني: أهل الجنَّة {على بعض يتساءلون} عمَّا مرَّ بهم

51

{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} يعني: الذين قصَّ الله خبرهما في سورة الكهف كان يقول له قرينه:

52

{أَإِنّك لمن المصدقين} ممَّن يصدِّق بالبعث والجزاء؟ وقوله:

53

{أإنَّا لمدينون} أَيْ: مجزيون

54

{قال} الله سبحانه لأهل الجنَّة: {هل أنتم مطلعون} إلى النَّار

55

{فاطلع} المسلم فرأى قرينه الكافر {في سواء الجحيم} وسطه فقال له:

56

{تالله إن كدت لَتُرِديْنَ} تهلكني وتضلُّني

57

{ولولا نعمة ربي} عصمته ورحمته {لكنت من المحضرين} في النَّار

58

{أفما نحن بميتين} {إلاَّ موتتنا الأولى} يقوله أهل الجنَّة للملائكة حين يُذبح الموت فتقول الملائكة: لا فيقولون: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} {لِمِثْلِ هَذَا فليعمل العاملون}

59

{إِلا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}

60

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

61

{لمثل هذا فليعمل العاملون}

62

{أذلك} الذي ذكرتُ من نعيم أهل الجنَّة {خَيْرٌ نُزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}

63

{إنا جعلناها فتنة للظالمين} افتتنوا بها وكذَّبوا بكونها فصارت فتنةً لهم وذلك أنَّهم أنكروا أن يكون في النَّار شجرة قال الله تعالى:

64

{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أصل الجحيم} أصلها في قعر جهنَّم

65

{طلعها} ثمرها {كأنَّه رؤوس الشياطين} في القبح وكراهية المنظر

66

{فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}

67

{ثُمَّ إنَّ لهم عليها} على شجرة الزَّقوم {لشوباً} خلطاً ومزاجاً {من حميم} ماءٍ حارٍ

68

{ثم إنَّ مرجعهم} مرجع الكفَّار {لإِلى الجحيم} الذي يجمع هذه الأشياء وقوله:

69

{إنهم ألفوا آباءهم ضالين}

70

{يهرعون} أَيْ: يزعجون إلى أتباعهم

71

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ}

72

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ}

73

{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ}

74

{إلاَّ عباد الله المخلصين}

75

{ولقد نادانا نوح} يعني: قوله: {إنِّي مغلوبٌ فانتصر} {فلنعم المجيبون} نحن

76

{ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} يعني: الغرق

77

{وجعلنا ذريته هم الباقين} لأنَّ الخلق كلَّهم أُهلكوا إلاَّ مَنْ كان معه في سفينته وكانوا من ذرِّيَّته

78

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} فيمن يأتي بعده ثناءً حسناً وهو أن يُصلَّى عليه ويُسلَّم وهو معنى قوله: {سلام على نوح في العالمين}

79

{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ في العالمين}

80

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}

81

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}

82

{ثم أغرقنا الآخرين}

83

{وإن من شيعته} أهل دينه وملَّته {لإِبراهيم}

84

{إذ جاء ربه بقلب سليم} من الشرك

85

{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ}

86

{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}

87

{فما ظنكم برب العالمين} قال إبراهيم عليه السَّلام لقومه وهم يعبدون الأصنام: أَيُّ شيءٍ ظنُّكم بربِّ العالمين وأنتم تعبدون غيره؟

88

{فنظر نظرة في النجوم} وذلك أنَّه كان لقومه من الغد عيدٌ يخرجون إليه ويضعون أطعمتهم بين يدي أصنامهم لتبرِّك عليها زعموا فقالوا لإِبراهيم: ألا تخرج معنا إلى عيدنا؟ فنظر إلى نجم وقال:

89

{إني سقيم} وكانوا يتعاطون علم النُّجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه واعتلَّ في التَّخلُّف عن عيدهم بأنَّه يعتلُّ وتأوَّل في قوله: {سقيم} سأسقم

90

{فتولوا عنه مدبرين} أدبروا عنه إلى عيدهم وتركوه

91

{فراغ} فمال {إلى آلهتهم فقال} إظهار لضعفها وعجزها: {ألا تأكلون} من هذه الأطعمة

92

{ما لكم لا تنطقون}

93

{فراغ} فمال {عليهم} يضربهم {ضرباً باليمين} بيده اليمنى

94

{فأقبلوا إليه} من عيدهم {يزفون} يسرعون فقال لهم إبراهيم محتجاً:

95

{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} من نحتكم وجميع أعمالكم

96

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}

97

{قالوا ابنوا له بنياناً} حظيرة واملؤوه ناراً وألقوا إبراهيم في تلك النَّار

98

{فأرادوا به كيداً} حين قصدوا إحراقه بالنَّار {فجعلناهم الأسفلين} المقهورين لأنَّه علاهم بالحجَّة والنُّصرة

99

{وقال إني ذاهب إلى ربي} إلى المكان الذي أمرني بالهجرة إليه {سيهدين} يثبتني على الهدى

100

{رب هب لي} ولداً {من الصالحين}

101

{فبشرناه بغلام حليم} سيِّدٍ يُوصف بالحلم

102

{فلما بلغ} ذلك الغلام {معه السعي} أَيْ: أدرك معه العمل {قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أني أذبحك} وذلك أنَّه أُمر في المنام بذبح ولده {فانظر ماذا ترى} ما الذي تراه فيما أقول لك هل تستسلم له؟ فاستسلم الغلام و {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}

103

{فلما أسلما} انقادا لأمر الله {وتلَّه للجبين} صرعه على أحد جنبيه

104

{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنا كذلك نجزي المحسنين}

105

{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}

106

{إنّ هذا لهو البلاء المبين} الاختيار الظاهر يعني: حين اختبره بذبح ولده فانقاد وأطاع

107

{وفديناه بذبحٍ} بكبشٍ {عظيم} لأنَّه رعى في الجنَّة أربعين خريفاً وكان الكبش الذي تُقبِّل من ابن آدم عليه السلام

108

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}

109

{سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}

110

{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}

111

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}

112

{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}

113

{وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لنفسه مبين}

114

{ولقد مننا على موسى وهارون} بالنُّبوَّة

115

{ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم} يعني: الغرق وقوله:

116

{وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}

117

{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ}

118

{وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}

119

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ}

120

{سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}

121

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}

122

{إنهما من عبادنا المؤمنين}

123

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}

124

{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ}

125

{أتدعون بعلاً} يعني: صنماً كان لهم

126

{الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}

127

{فكذبوه فإنهم لمحضرون} في النَّار

128

{إلاَّ عباد الله المخلصين} من قومه

129

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}

130

{سلام على إِلْ ياسين} يعني: إلياس عليه السَّلام وقيل: يعني قومه ممَّن ينتسب إلى إتباعه

131

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ز

132

{إنه من عبادنا المؤمنين}

133

{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}

134

{إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}

135

{إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}

136

{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ}

137

{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ}

138

{وبالليل أفلا تعقلون}

139

{وإن يونس لمن المرسلين}

140

{إذ أبق} هرب {إلى الفلك المشحون} السَّفينة المملوءة حين ذهب مغاضبا فوقعت السَّفينة ولم تجرِ فقارعه أهل السَّفينة فخرجت القرعة عليه فخرج منها وألقى نفسه في البحر فذلك قوله:

141

{فساهم} فقارع {فكان من المدحضين} المغلوبين بالقرعة

142

{فالتقمه} فابتلعه {الحوت وهو مليم} أتى بما يُلام عليه

143

{فلولا أنَّه كان من المسبحين} من المُصلِّين قبل ذلك

144

{للبث في بطنه} في بطن الحوت إلى يوم القيامة

145

{فنبذناه} طرحناه {بالعراء} وجه الأرض {وهو سقيم} عليلٌ كالفرخ الممعَّط

146

{وأنبتنا عليه} عنده {شجرة من يقطين} وهو القرع ليستظلَّ بها

147

{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} بل يزيدون

148

{فآمنوا فمتعناهم إلى حين} إلى انقضاء آجالهم

149

{فاستفتهم} فسل يا محمَّد أهلَ مكَّة {ألربك البنات ولهم البنون} وذلك أنَّهم كانوا يزعمون أنَّ الملائكة بنات الله

150

{أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون} حاضرون خلقنا إياهم

151

{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ}

152

{وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

153

{أَصطفى البنات على البنين} أتَّخذ البنات دون البنين فاصطفاها وجعل لكم البنين؟ كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا}

154

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تحكمون}

155

{أفلا تتذكرون}

156

{أم لكم سلطان} برهانٌ {مبين} على أنَّ لله ولداً

157

{فأتوا بكتابكم} الذي فيه حُجَّتكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

158

{وجعلوا بينه وبين الجنة} يعني: الملائكة {نسباً} حين قالوا: إنَّهم بنات الله {ولقد علمت الجنة} الملائكة {إنهم لمحضرون} أنَّ الذين قالوا هذا القول محضرون في النار

159

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}

160

{إلاَّ عباد الله المخلصين} فإنهم ناجون من النَّار

161

{فإنكم وما تعبدون} من الأصنام

162

{ما أنتم عليه بفاتنين} لا تفتنون أحداً على ما يعبدون ولا تضلونه

163

{إِلا مَنْ هُوَ صال الجحيم} أَيْ: إلا مَنْ هو في معلوم الله أنَّه يدخل النَّار

164

{وما منا إلاَّ له} هذا من قول الملائكة والمعنى: ما منَّا مَلَكٌ إلاَّ له {مقام معلوم} من السَّماء يعبد الله سبحانه هناك

165

{وإنا لنحن الصافون} في الصَّلاة

166

{وإنا لنحن المسبحون} المُصلُّون

167

{وإن كانوا ليقولون} كان كفار مكَّة يقولون: لو جاءنا كتابٌ كما جاء غيرنا من الأوَّلين لأخلصنا عبادة الله سبحانه فلمَّا جاءهم كفروا به

168

{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ}

169

{لَكُنَّا عباد الله المخلصين}

170

{فسوف يعلمون} عاقبة كفرهم

171

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}

172

{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ}

173

{وإن جندنا لهم الغالبون} أَيْ: تقدَّم الوعد بنصرتهم وهو قوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}

174

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حين} حتى تنقضي المدة التي أمهلوا فيها

175

{وأَبْصرْهم} انظر إليهم إذا عذِّبوا {فسوف يبصرون} ما أنكروا

176

{أفبعذابنا يستعجلون} وذلك أنَّهم كانوا يقولون: متى هذا الوعد؟

177

{فإذا نزل} العذاب {بساحتهم} بِفِنائهم {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ}

178

{وتول عنهم حتى حين}

179

{وأبصر} انظر فبئس ما يصبحون عند ذلك

180

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}

181

{وَسَلامٌ على المرسلين}

182

{والحمد لله رب العالمين}

سورة ص

{ص} صدق الله {والقرآن ذي الذكر} ذي الشَّرف

2

{بل الذين كفروا في عزَّة} امتناعٍ من الدِّين {وشقاق} خلافٍ وعداوةٍ

3

{كم أهلكنا} هذا جواب القسم واعترض بينهما قوله: {بل الذين كفروا} {فنادوا} بالاستغاثة عند الهلاك {ولات حين مناص} وليس حين منجىً وفوت

4

{وعجبوا} يعني: أهل مكَّة {أن جاءهم منذر منهم} محمد صلى الله عليه وسلم

5

{أجعل الآلهة إلهاً واحداً} وذلك أنَّهم اجتمعوا عند أبي طالب يشكون إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إني أدعوكم إلى كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله فقالوا: كيف يسع الخلق كلَّهم إلهٌ واحد؟ {إنَّ هذا} الذي يقوله {لشيء عجاب} عجب

6

{وانطلق الملأ منهم} نهضوا من مجلسهم ذلك يقول بعضهم لبعض: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هذا} الذي يقوله محمَّد {لشيءٌ يراد} أَيْ: لأَمرٌ يُراد بنا ومكرٌ يمكر علينا

7

{ما سمعنا بهذا} الذي يقوله {في الملَّة الآخرة} فيما أدركنا عليه آباءنا {إن هذا إلاَّ اختلاق} زورٌ وكذب

8

{أَأنزل عليه الذكر من بيننا} كيف خُصَّ بالوحي من جملتنا؟ قالوا هذا حسداً له على النُّبوَّة قال الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذكري} أَيْ: وَحْيِي أَيْ: حين قالوا: اختلاق {بل لما يذوقوا عذاب} ولو ذاقوه لأيقنوا وصدَّقوا

9

{أم عندهم خزائن رحمة ربك} أَيْ: مفاتيح النُّبوَّة حتى يعطوا النُّبوَّة مَن اختاروا

10

{أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما} يعني: إنَّ ذلك لله عزَّ وجل فيصطفي مَنْ يشاء {فليرتقوا في الأسباب} أَيْ: إن ادَّعوا شيئاً من ذلك فليصعدوا فيما يوصلهم إلى السَّماء وليأتوا منها بالوحي إلى مَنْ يختارون ثمَّ وعد نبيَّه النَّصر فقال:

11

{جند ما هنالك} أَيْ: هم جندٌ هنالك {مهزوم} مغلوبٌ {من الأحزاب} كالقرون الماضية الذين قُهروا وأُهلكوا وهذا إخبارٌ عن هزيمتهم ببدرٍ ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام فقال:

12

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد}

13

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} ذو الملك الشَّديد

14

{إن كل} ما كل من هؤلاء {إلاَّ كذَّب الرسل فحقَّ} فوجب {عقاب}

15

{وما ينظر هؤلاء} أَيْ: ما ينتظر هؤلاء كفار مكَّة {إلاَّ صيحة واحدة} وهي نفخة القيامة {ما لها من فواق} رجوعٌ ومردٌّ

16

{وقالوا ربنا عجِّلْ لنا قطنا} كتابنا وصحيفة أعمالنا {قبل يوم الحساب} وذلك لمَّا نزل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {وَأَمَّا مَنْ أوتي كتابه بشماله} سألوا ذلك فنزلت هذه الآية وقوله:

17

{داود ذا الأيد} أي: ذا القوة في العبادة {إنَّه أوَّابٌ} رجَّاع إلى الله سبحانه

18

{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن} يجاوبنه بالتَّسبيح {بالعشي والإِشراق} يعني: الضُّحى

19

{والطير} أَيْ: وسخَّرنا الطَّير {محشورة} مجموعةً {كلٌّ له} لداود {أواب} مطيعٌ يأتيه ويسبِّح معه

20

{وشددنا ملكه} بالحرس وكانوا ثلاثةً وثلاثين ألف رجلٍ يحرسون كلَّ ليلةٍ محرابه {وآتيناه الحكمة} الإِصابة في الأمور {وفصل الخطاب} بيان الكلام والبصر في القضاء وهو الفصل بين الحقِّ والباطل

21

{وهل أتاك نبأ الخصم} يعني: الملكين اللذين تصوَّرا في صورة خصمين من بني آدم {إذ تسوروا المحراب} علوا غرفة داود عليه السَّلام

22

{إذ دخلوا على داود ففزع منهم} لأنَّهما دخلا بغير إذنٍ في غير وقت دخول الخصوم {قالوا لا تخف خصمان} أَيْ: نحن خَصْمَانِ {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أَيْ: ظلم بعضنا بعضاً {فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} ولا تَجُرْ {واهدنا إلى سواء الصراط} إلى طريق الحقِّ

23

{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} يعني: امرأة {ولي نعجة واحدة} أَي: امرآةٌ {فقال أكفلنيها} أَي: انزل عنها واجعلني أنا أكلفها {وعزَّني في الخطاب} غلبني في الاحتجاج لأنَّه أقوى مني وأقدر على النُّطق وهذا القول من الملكين على التّمثيل لا على التَّحقيق كأنَّ القائل منهما قال: نحن كخصمين هذه حالهما فلمَّا قال هذا أحد الخصمين اعترف له الآخر

24

{قال} داود عليه السَّلام: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك} أَيْ: بسؤاله إيَّاك نعجتك: امرأتك أن يضمَّها {إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء} الشُّركاء {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم} وقليلٌ هم {وظنَّ داود} علم عند ذلك {إنّما فتناه} ابتليناه بتلك المرأة التي أحبَّ أن يتزوَّجها ثمَّ تزوَّجها {فاستغفر ربه} ممَّا فعل وهو محبته أن يتزوَّج امرأةَ مَنْ له امرأةٌ واحدةٌ وله تسع وتسعون امرأةً {وخرَّ راكعاً} سقط للسُّجود بعد ما كان راكعاً {وأناب} رجع إلى الله سبحانه بالتَّوبة

25

{فغفرنا له ذلك وإنَّ له عندنا} بعد المغفرة {لزلفى} قربةً {وحسن مآب} مرجع

26

{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} أَيْ: عن قبلك من الأنبياء وقوله: {بما نسوا يوم الحساب} أَيْ: تركوا الإِيمان به والعمل له

27

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا} إلاَّ لأمرٍ صحيحٍ وهو الدَّلالة على قدرة خالقهما وتوحيده وعبادته وقوله:

28

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}

29

{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أولو الألباب}

30

{وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}

31

{الصافناتُ الجياد} أي: الخيل القائمة

32

{فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ ربي} آثرت حبَّ الخير أي: الخيل على ذكر الله حتى فاتني في وقته {حتى توارت} الشَّمس {بالحجاب} أَيْ: غربت وقوله:

33

{فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} أَيْ: أقبل يقطع سوقها وأعناقها ولم يفعل ذلك إلاَّ لإِباحة الله عزَّ وجل له ذلك وقوله:

34

{ولقد فتنا سليمان} ابتليناه {وألقينا على كرسيِّه جسداً} شيطاناً تصوَّر في صورته وذلك أنَّه تزوَّج امرأة وهويها وعبدت الصَّنم في داره بغير علمه فنزع الله ملكه أيَّاماً وسلَّط شيطاناً على مملكته ثمَّ تاب سليمان وأعاد الله عليه ملكه فسأل الله أن يهب له ملكاً يدلُّ على أنَّه غفر له وردَّ عليه ما نزع منه وهو قوله:

35

{وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بعدي} وقوله:

36

{رخاءً} أي: ليِّنةً مُطيعةً سريعةً {حيث أصاب} أراد وقصد سليمان عليه السَّلام

37

{والشياطين} أَيْ: وسخَّرنا له {كلَّ بناء} من الشَّياطين مَنْ يبنون له {وغوَّاص} يغوصون في البحر فيستخرجون ما يريد

38

{وآخرين مقرنين في الأصفاد} وسخَّرنا له مردة الشَّياطين حتى قرنهم في السَّلاسل من الحديد وقلنا له:

39

{هذا} الذي أعطيناك {عطاؤنا فامنن} أَيْ: أعطِ {أو أمسك بغير حساب} عليك في إعطائه ولا إمساكه وهذا مما خصَّ به وقوله:

40

{وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}

41

{بنصب} أَيْ: بتعبٍ ومشقَّةٍ في بدني {وعذاب} في أهلي ومالي فقلنا له:

42

{اركض برجلك} أَيْ: دُسْ وحرِّك برجلك في الأرض فداس فنبعت عين ماءٍ فاغتسل به حتى ذهب الدّاء من ظاهره ثمَّ شرب منه فذهب الدَّاء من باطنه

43

{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وذكرى لأولي الألباب} مُفسَّرةٌ في سورة الأنبياء عليهم السَّلام

44

{وخذ بيدك ضغثاً} حزمةً من الحشيش {فاضرب به} امرأتك {ولا تحنث} في يمينك وقوله:

45

{أولي الأيدي} أَيْ: ذوي القوَّة في العبادة {والأبصار} البصائر في الدِّين

46

{إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} أَيْ: جعلناهم يُكثرون ذكر الدَّار الآخرة والرُّجوع إلى الله تعالى وقوله:

47

{وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار}

48

{من الأخيار} جمع خيِّر

49

{هذا ذكر} شرفٌ وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً {وإنَّ للمتقين} مع ذلك {لحسن مآب} مرجعٍ في الآخرة ثمَّ بيَّن ذلك المرجع فقال:

50

{جنات عدن} وقوله:

51

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}

52

{أتراب} أقرانٌ وأمثالٌ أسنانهنَّ واحدة

53

{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ}

54

{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}

55

{هذا وإنَّ للطاغين} أي: الأمر هذا الذي ذكرت وقوله:

56

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ}

57

{هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق} أي: حميمٌ وغسَّاقٌ فليذوقوه والغسَّاق: ما سال من جلود أهل النَّار

58

{وآخر} أَيْ: وعذابٌ آخر {من شكله} من مثل ذلك الأوَّل {أزواج} أنواع فإذا دخلت الرُّؤساء النَّار ثمَّ دخل بعدهم الأتباع قالت الملائكة:

59

{هذا فوج} جماعةٌ {مقتحمٌ معكم} داخلوا النَّار فقال الرُّؤساء: {لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} كما صليناها فقال الأتباع

60

{بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لنا} شرعتم وسننتم الكفر لنا {فبئس القرار} قرارنا وقراركم

61

{قالوا} أي: الأتباع {ربنا مَنْ قدَّم لنا هذا} شرعه وسنَّه {فزده عذاباً ضعفاً في النار} كقوله: {ربنا آتهم ضعفين من العذاب}

62

{وقالوا} يعني: صناديد قريش: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ من الأشرار} أي: فقراء المسلمين

63

{أتخذناهم سخرياً} كنَّا نسخر بهم في الدَّنيا أَمفقودون هم؟ {أم زاغت عنهم الأبصار} فلا نراهم ها هنا

64

{إن ذلك} الذي ذكرنا عن أهل النَّار {لحق} ثمَّ بيَّن ما هو فقال: {تَخَاصُمُ أهل النار}

65

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا الله الواحد القهار}

66

{رب السماوات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}

67

{قل هو نبأٌ عظيم} أي: القرآن الذي أنباتكم به وجئتكم فيه بما لا يُعلم إلاَّ بوحي وهو قوله:

68

{أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ}

69

{مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى} وهم الملائكة {إذ يختصمون} في شأن آدم عليه السَّلام يعني: قولهم: {أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها} الآية وقوله:

70

{إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مبين}

71

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا من طين}

72

{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا له ساجدين}

73

{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}

74

{إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين}

75

{لما خلقت بيدي} أَيْ: تولَّيت خلقه وهذا اللَّفظ ذُكر تخصيصاً وتشريفاً لآدم عليه السَّلام وإن كان كلُّ شيءٍ يتولَّى الله خلقه دون غيره وقوله:

76

{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وخلقته من طين}

77

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}

78

{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}

79

{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}

80

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}

81

{إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}

82

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}

83

{إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}

84

{قال فالحقُّ والحقَّ أقول} أَيْ: فبالحقِّ أقول وأقول الحقَّ قَسمٌ جوابه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}

85

{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}

86

{قل ما أسألكم عليه} على تبليغ الرِّسالة {من أجر وما أنا من المتكلفين} المنقولين للقرآن من تلقاء نفسي

87

{إن هو} ليس القرآن {إلا ذكر} عظة {للعالمين}

88

{ولتعلمنَّ} أنتم أيُّها المشركون {نبأه} ما أخبرتكم فيه من البعث والقيامة {بعد حين} بعد الموت

سورة الزمر

{تنزيل الكتاب} ابتداء وخبره قوله: {من الله العزيز الحكيم} وقوله:

2

{مخلصا له الدين} أي: الطَّاعة والمعنى: اعبده مُوحِّداً لا إله إلا هو

3

{ألا لله الدين الخالص} أَيْ: الطَّاعة لا يستحقُّها إلاَّ الله تعالى ثمَّ ذكر الذين يعبدون غيره فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} أَيْ: ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أَيْ: قربى {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فيه يختلفون} من أمر الدين ثم أنَّه لا يهدي هؤلاء فقال {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذب} في إضافة الولد إلى الله تعالى {كفار} يكفر نعمته بعبادة غيره ثمَّ ذكر براءته عن الولد فقال:

4

{لو أراد الله أن يتخذ ولداً} كما يزعم هؤلاء {لاصطفى} لاختار {ممَّا يخلق ما يشاء سبحانه} تنزيهاً له عن الولد وقوله:

5

{يكور الليل على النهار} أَيْ: يدخل أحدهما على الآخر

6

{خلقكم من نفس واحدة} يعني: آدم عليه السَّلام {ثمَّ جعل منها زوجها} حوَّاء {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} مشروحٌ في سورة الأنعام وقوله: {خلقاً من بعد خلق} أَيْ: نطفةً ثمَّ علقةً ثمَّ مضغةً {في ظلمات ثلاث} ظلمة البطن وظلمة الرَّحم وظلمة المشيمة {فأنى تُصرفون} عن عبادته إلى عبادة غيره بعد هذا البيان! وقوله:

7

{ولا يرضى لعباده الكفر} أَيْ: المؤمنين المخلصين منهم كقوله: {عيناً يشرب بها عباد الله} {وإن تشكروا} أَيْ: إن تطيعوا ربَّكم {يرضه لكم} يرض الشُّكر لكم ويُثبكم عليه

8

{وإذا مس الإنسان} يعني: الكافر {ضرٌّ دعا ربَّه منيباً إليه} راجعاً {ثمَّ إذا خَوَّلَهُ} أعطاه {نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من قبل} نسي الله الذي كان يتضرَّع إليه من قبل النِّعمة وترك عبادته {قل} يا محمَّد عليه السَّلام لمن يفعل ذلك: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} وهذا تهديدٌ

9

{أمن هو قانت} قائمٌ مطيعٌ لله {آناء الليل} أوقاته {يحذر} عذاب {الآخرة} كمَنْ هو عاص؟ ثمَّ ضرب لهما مثلاً فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} أَيْ: هل يستوي العالم والجاهل؟ كذلك لا يستوي المطيع والعاصي {إنما يتذكر أولو الألباب} إنَّما يتَّعظ بوعظ الله ذوو العقول وقوله:

10

{للذين أحسنوا في هذه الدنيا} وحَّدوا الله تعالى وعملوا بطاعته {حسنة} وهي الجنَّة {وأرض الله واسعة} فهاجروا فيها واخرجوا من بين الكفَّار {إنما يوفى الصابرون} على طاعة الله تعالى وما يبتليهم به {أَجْرَهُمْ بغير حساب} بغير مكيالٍ ولا ميزان

11

{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا له الدين} أَيْ: مُوحِّداً

12

{وأمرت لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هذه الأمة

13

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}

14

{قل الله أعبد مخلصا له ديني}

15

{قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم} بالتَّخليد في النَّار {وأهليهم} لأنَّهم لم يدخلوا مدخلِ المؤمنين الذين لهم أهل في الجنَّة

16

{لهم من فوقهم ظللٌ} هذا كقوله {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم} الآية وكقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} {ذلك} الذي وصفت من العذاب {يخوِّف الله به عباده}

17

{والذين اجتنبوا الطاغوت} أَيْ: الأوثان {أن يعبدوها وأنابوا إلى الله} رجعوا إليه بالَّطاعة {لهم البشرى} بالجنَّة {فَبَشِّرْ عباد}

18

{الذين يستمعون القول} القرآن وغيره {فيتبعون أحسنة} وهو القرآن

19

{أفمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت} يا محمَّدُ {تنقذ} هـ أَيْ تُخرجه من النَّار أيْ: إنَّه لا يقدر على هدايته وقوله:

20

{لهم غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنية} أَيْ: لهم منازل في الجنَّة رفيعةٌ وفوقها منازل أرفع منها

21

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ماء فسلكه} أدخل ذلك الماء {ينابيع في الأرض} وهي المواضع التي ينبع منها الماء وكلُّ ماءٍ في الأرض فن السَّماء نزل {ثم يخرج به} بذلك الماء {زرعاً مختلفا ألوانه} خضرة وصفرةً {ثمَّ يهيج} ييبس {فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً} دُقاقاً فتاتاً {إنَّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب} يذكرون ما لهم من الدَّلالة في هذا على توحيد الله تعالى وقدرته

22

{أفمن شرح الله صدره} وسَّعه {للإِسلام فهو على نور من ربه} أَيْ: فاهتدى إلى دين الإِسلام كمَنْ طبع على قلبه ويدل على هذا المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ من ذكر الله}

23

{اللَّهُ نزَّل أَحسنَ الحَديثِ} أي: القرآن {كتاباً متشابهاً} يشبه بعضه بعضاً من غير اختلاف ولا تناقص {مثاني} يثني فيه الأخبار والقصص وذكر الثَّواب والعقاب {تقشعر} تضطرب وتتحرَّك بالخوف {منه جلود الذين يخشون ربهم} يعني: عند ذكر آية العذاب {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: من آية الرَّحمة {ذلك هدى الله} أَيْ: ذلك الخشية من العذاب ورجاء الرَّحمة هدى الله

24

{أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب} وهو الكافر يُلقي في النَّار مغلولاً فلا يتهيَّأ له أن يتَّقي النَّار إلاَّ بوجهه ومعنى الآية: أفمن هذا حاله كمَن يدخل الجنَّة؟ وقوله:

25

{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}

26

{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}

27

{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل لعلهم يتذكرون}

28

{غير ذي عوج} أَيْ: ليس فيه اختلافٌ وتضادٌّ ثمَّ ضرب مثلاً للموحِّد والمشرك فقال:

29

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} متنازعون سيِّئةٌ أخلاقهم وكلُّ واحدٍ يستخدمه بقدر نصيبه وهذا مَثَلُ المشرك الذي يعبد آلهة شتى {ورجلا سلما} خالصاً لرجل وهو الذي يعيد اله وحده {هل يستويان مثلاً} أَيْ: هل يستوي مَثَل الموحِّد ومَثَل المشرك؟ {الحمد لله} وحده دون غيره من المعبودين {بل أكثرهم لا يعلمون} مفسَّر في سورة النَّحل ثمَّ ذكر أنهم يموتون ويرجعون إلى الله فيختصمون عنده فقال:

30

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عند ربكم تختصمون} يعني: المؤمن والكافر والمظلوم والظَّالم

31

{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عند ربكم تختصمون}

32

{فمن أظلم ممن كذب على الله} وزعم أنَّ له ولداً وشريكاً {وكذَّب بالصدق} بالقرآن {إذ جاءه} على لسان الرَّسول {أليس في جهنَّم مثوى} مقامٌ ومنزلٌ لهؤلاء

33

{والذي جاء بالصدق} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن {وصدَّق} أبو بكر رضي الله عنه ثم المؤمنين بعده وقوله:

34

{لهم ما يشاؤون عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}

35

{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون}

36

{أليس الله بكافٍ عبده} يعني: محمدا صلوات الله عليه ينصره ويكفيه أمر مَنْ يُعاديه {ويخوفونك بالذين من دون} أَيْ: يُخوِّفونك بأوثانهم يقولون: إنَّك لتعيبها وإنَّها لتصيبنَّك بسوء ثمَّ بيَّن أنَّهم مع عبادتهم الأوثان يُقرُّون بأنَّ الخالق هو الله فقال:

37

{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أليس الله بعزيز ذي انتقام}

38

{ولئن سالتهم من خلق السماوات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ من دون الله} الأوثان {إن أرادني الله بضرٍّ} بلاءٍ وشدَّةٍ هل يكشفنَ ذلك عني {أو أرادني برحمة} نعمةٍ هل يمسكن ذلك عني؟ وهذا بيان أنَّها لا تنفع ولا تدفع

39

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}

40

{مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مقيم}

41

{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}

42

{الله يتوفى الأنفس} يقبض الأرواح {حين} عند {موتها والتي لم تمت} أَيْ: ويقبض روح التي لَمْ تَمُتْ {فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عليها الموت} أَيْ: يمسك أنفس الأموات عنده {ويرسل الأخرى} أنفس الأحياء إذا انتهبوا من منامهم يردُّ عليهم أرواحهم {إلى أجل مسمى} وهو أجل الموت

43

{أم اتخذوا من دون الله شفعاء} أَيْ: الأوثان التي عبدوها لتشفع لهم {قل أو لو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} من الشَّفاعة {ولا يعقلون} أنَّهم يعبدونهم لا يتركون عبادتهم

44

{قل لله الشفاعة جميعاً} فليس يشفع أحدٌ إلاَّ بإذنه

45

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يؤمنون بالآخرة} كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له نفروا من ذلك وإذا ذكر الأوثان فرحوا و {اشمأزَّت} : نفرت وقوله:

46

{قل اللهم فاطر السماوات وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عبادك في ما كانوا فيه يختلفون}

47

{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يحتسبون} في الدُّنيا أنَّه نازلٌ بهم في الآخرة وقوله:

48

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ ما كانوا به يستهزئون}

49

{إنما أوتيته على علم} أُعطيته على شرفٍ وفضلٍ وكنت علمتُ أنِّي سأُعطى هذا باستحقاقي {بل هي فتنة} أي: تلكم العطيَّة فتنةٌ من الله تعالى يبتلي به العبد ليشكر أو يكفر

50

{قد قالها الذين من قبلهم} يعني: قارون حين قال: {إنما أوتيته على علم عندي}

51

{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بمعجزين}

52

{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون}

53

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بارتكاب الكبائر والفواحش نزلت في قومٍ من أهل مكَّة همُّوا بالإسلام ثمَّ قالوا: إنَّ محمداً يقول: إنَّ مَنْ عبد الأوثان واتَّخذ مع الله آلهةً وقتل النَّفس لا يُغفر له وقد فعلنا كلَّ هذا فأعلم الله تعالى أنَّ مَنْ تاب وآمن غفر اله له كلَّ ذنب فقال: {لا تقنطوا من رحمة الله} اللآيه

54

{وأنيبوا إلى ربكم} أَيْ: ارجعوا إليه بالطاعة {وأسلموا} وأطيعوا {له}

55

{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم} أَيْ: القرآن كقوله: {اللَّهُ نزَّل أَحسنَ الحَديثِ} وقوله:

56

{أن تقول نفس يا حسرتى} أَيْ: افعلوا ما أمرتكم به من الإنابة وابتاع القرآن خوفَ أن تصيروا إلى حالةٍ تقولون فيها هذا القول وقوله: {على ما فرطت في جنب الله} أَيْ: قصَّرت في طاعة الله وسلوك طريقة {إن كنت لمن الساخرين} أَيْ: ما كنت إلاَّ من المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه

57

{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ من المتقين}

58

{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

59

{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وكنت من الكافرين}

60

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}

61

{وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} بمناجتهم من العذاب والمفازة ها هنا بمعنى الفوز وقوله:

62

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء وكيل}

63

{له مقاليد السماوات والأرض} أَيْ: مفاتيح خزائنها فكل شيء في السماوات والأرض الله فاتحُ بابه

64

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} هذا جواب الذين دعوه إلى دين آبائه وقوله:

65

{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

66

{بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}

67

{والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} أَيْ: ملكه من غير منازعٍ كما يقال: هو في قبضة فلان: إذا ملك التَّصرُّف فيه وإن لم يقبض عليه بيده {والسماوات مطويات} كقوله: {يوم نطوي السَّماء} {بيمينه} أَيْ: بقوَّته وقيل: بقسمه لأنَّه حلف أنَّه يطويها

68

{ونفخ في الصور فصعق} أَيْ: مات {مَنْ في السماوات وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} قيل: هم الشُّهداء وهم أحياءٌ عند ربِّهم وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش عليهم السَّلام {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون} ينتظرون أمر الله فيهم

69

{وأشرقت الأرض} أُلبست الإِشراق عَرَصَاتُ القيامة {بنور ربها} وهو نورٌ يخلقه الله في القيامة يلبسه وجه الأرض {ووضع الكتاب} أَيْ: الكتب التي فيها أعمال بني آدم {وجيء بالنبيين والشهداء} الذين يشهدون للرُّسل بالتبليغ

70

{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بما يفعلون}

71

{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً} جماعاتٍ وأفواجاً وقوله:

72

{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مثوى المتكبرين}

73

{طبتم} أَيْ: كنتم طيِّبين في الدُّنيا وقوله:

74

{وأورثنا الأرض} أَيْ: أرض الجنَّةَ {نتبوَّأ من الجنة} نتَّخذ منها منازل {حيث نشاء فنعم أجر العاملين} ثواب المطيعين

75

{وترى الملائكة حافين من حول العرش} محيطين به {وقضي بينهم} أيْ: حُكم بين أهل الجنَّة والنَّار {وقيل الحمد لله رب العالمين}

سورة غافر

{حم} قُضي ما هو كائن

2

{تنزيل الكتاب} ابتداء وخبره: {من الله العزيز العليم}

3

{غافر الذنب} لمن قال لا إله إلا الله {وقابل التوب} ممن قال: لا إله إلا الله {شديد العقاب} لمَنْ لم يقل لا إله إلاَّ الله {ذي الطول} الغنى والسَّعة

4

{ما يجادل في آيات الله} أي: في دفعها وإبطالها {فلا يغررك تقلبهم} تصرفهم {في البلاد} للتجارات أَيْ: سلامتهم بعد كفرهم حتى إنَّهم يتصرَّفون حيث شاؤوا فإنَّ عاقبتهم كعاقبة من الكفَّار وهو قوله:

5

{كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم} أي: الذين تحزَّبوا على انبيائهم بالمخافة والعداوة كعادٍ وثمود {وهمَّت كلُّ أمة برسولهم ليأخذوه} أَيْ: قصدت كلُّ أمة رسولها ليتمكَّنوا منه فيقتلوه {وجادلوا} بباطلهم {ليدحضوا} ليدفعوا {به الحق فأخذتهم} فعاقبتهم {فكيف كان عقاب} استفهام تقرير

6

{وكذلك} ومثل ما ذكرنا {حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} يعني: قوله: {لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك} الآية ثمَّ أخبر بفضل المؤمنين وأنَّ الملائكة يستغفرون لهم فقال:

7

{الذين يحملون العرش ومَنْ حوله} من الملائكة وقوله: {ربنا وسعت كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً} أَيْ: وسعت رحمتك كلَّ شيء وعلمتَ كل شيء

8

{ربَّنا وأَدْخِلْهم جنَّاتِ عدنٍ التي وَعَدْتَهُم ومَنْ صلَحَ من آبائِهم وأزوَاجِهم وذُرِّيَّاتهم إنك أنت العزيز الحكيم}

9

{وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم}

10

{إن الذين كفروا ينادون} وهم في النَّار وقد مقتوا أنفسهم حين وقعوا في العذاب: {لمقت الله} إيَّاكم في الدُّنيا إذ تُدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبرُ من مقتكم أنفسكم

11

{قالوا ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} وذلك أنَّهم كانوا أمواتاً نُطفاً فأُحيوا ثمَّ أُميتوا في الدُّنيا ثمَّ أُحيوا للبعث {فاعترفنا بذنوبنا} أي: أريتنا من الآيات ما أوجب علينا الإقرار بذنوبنا {فهل إلى خروج} من الدُّنيا {من سبيل} فقيل لهم:

12

{ذلكم} العذاب {بأنَّه إذا دعي الله وحده كفرتم} نكرتم وحدانيته {وإن يشرك به تؤمنوا} تُصدِّقوا ذلك الشِّرك {فالحكم لله} في إنزال العذاب بكم لا يمنعه عن ذلك مانع

13

{هو الذي يريكم آياته} دلائل توحيده {وينزل لكم من السماء رزقاً} بالمطر {وما يتذكر} وما يتَّعظ بآيات الله {إلاَّ مَنْ ينيب} يرجع إلى الله بالإيمان

14

{فادعوا الله مخلصين له الدين} الطَّاعة

15

{رفيع الدرجات} رافعها لأهل الثَّواب في الجنَّة {ذو العرش} مالكه وخالقه {يلقي الروح} الوحي الذي تحيا به القلوب من موت الكفر {من أمره} من قوله {على مَنْ يشاء من عباده} على مَنْ يختصه بالرِّسالة {لينذر يوم التلاق} ليخوِّف الخلق يوم يلتقي أهل الأرض وأهل السَّماء أَيْ: يوم القيامة

16

{يوم هم بارزون} خارجون من قبورهم {لا يخفى على الله} من أعمالهم وأموالهم {شيء} يقول الله في ذلك اليوم: {لمن الملك اليوم} ثمَّ يجيب نفسه {لله الواحد القهار}

17

{اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب}

18

{وأنذرهم يوم الآزفة} خوّفهم بيوم القيامة والآزقة: القريبة {إذ القلوب لدى الحناجر} وذلك أنَّ القلوب ترتفع من الفزع إلى الحناجر {كاظمين} ممتلئين غمّاً وخوفاً وحزناً {ما للظالمين} أي: الكافرين {من حميم} قريبٍ {ولا شفيع يطاع} فيشفع فيهم

19

{يعلم خائنة الأعين} خيانة الأعين وهي مسارقتها النَّظر إلى ما لا يحلُّ

20

{والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير}

21

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق}

22

{ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب}

23

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} بعلاماتنا التي تدلُّ على صحة نبوّته {وَسُلْطَانٍ مبين} أي: حجة ظاهرة

24

{إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب}

25

{فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} وذلك أَنَّ فرعون أمر بإعادة القتل على الذُّكور من أولاد بني إسرائيل لمَّا أتاه موسى عليه السَّلام ليصدَّهم بذلك عن متابعة موسى {وما كيد الكافرين} مكر فرعون وسوء صنيعه {إلاَّ في ضلال} زوالٍ وبطلانٍ وذهابٍ

26

{وقال فرعون} لملَئهِ: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه} الذي أرسله إلينا فمنعه {إني أخاف أن يبدل دينكم} الذي أنتم عليه ويبطله {أو أن يظهر في الأرض الفساد} أو يفسد عليكم دينكم إن لم يبطله فلمَّا توعَّده بالقتل قال موسى:

27

{إني عذت بربي وربكم من كلِّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} وقوله:

28

{يصبكم بعض الذي يعدكم} قيل: كلُّ الذي يعدكم

29

{يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض} هذا من قول مؤمن آل فرعون أعلمهم أنَّ لهم الملك ظاهرين عالين عل بني إسرائيل في أرض مصر ثمَّ أعلمهم أنَّ عذاب الله لا يدفعه دافع فقال: {فمن ينصرنا من بأس الله} أَيْ: مَنْ يمنعنا من عذابه {إن جاءنا} ؟ فـ {قال فرعون} حين منع قتله: {ما أُريكُمْ} من الرَّأي والنَّصيحة {إلاَّ ما أرى} لنفسي

30

{وقال الذي آمن} يعني: مؤمن آل فرعون: {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} ثمَّ فسَّر ذلك فقال:

31

{مثل دأب قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} خوَّفهم إن أقاموا على كفرهم مثل حال هؤلاء حين عذِّبوا ثمَّ خوَّفهم بيوم القيامة وهو قوله:

32

{إني أخاف عليكم يوم التناد} وذلك أنَّه يكثر النِّداء في ذلك اليوم يُنادى بالسَّعادة والشَّقاوة ويُنادى فيُدعى كلُّ أناسٍ بإمامهم

33

{يوم تولون مدبرين} مُنصرفين عن موقف الحساب إلى النَّار {ما لكم من الله} من عذاب الله {من عاصم} مانعٍ يمنعكم من عذاب الله

34

{ولقد جاءكم يوسف من قبل} أي: من قبل موسى {بالبينات} بالآيات المعجزات {كذلك} مثل ذلك الضَّلال {يضل الله مَنْ هو مسرف} مشركٌ {مرتاب} شاكٌّ فيما أتى به الأنبياء

35

{الذين يجادلون في آيات الله} أَيْ: في إبطالها ودفعها {بغير سلطان} أَيْ: حُجَّةٍ {أتاهم كبر} ذلك الجدال {مقتاً} بغضاً

36

{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً} قصراً طويلاً {لعلي أبلغ الأسباب} أبواب السماوات وأطرافها التي تُوصلني إليها

37

{وإني لأظنه كاذباً} في ادِّعائه إلهاً دوني {وكذلك} مثل ما وصفنا {زين لفرعون سوء عمله وصدَّ عن السبيل} ومُنع عن الإيمان {وما كيد فرعون إلاَّ في تباب} خسارٍ يريد: أنه خسر كيده ولم ينفعه ذلك

38

{وقال الذي آمن} من قوم فرعون: {يا قوم اتَّبِعُون أهدكم سبيل الرشاد} طريق الصَّواب

39

{يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} متعةٌ ينتفعون بها مدَّة ولا تبقي وقوله:

40

{من عمل سيئة فلا يجزى إلاَّ مثلها ومن عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}

41

{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار}

42

{وأشرك به ما ليس لي به علم} أيْ: أشرك بالله شيئاً لا علم لي به أنَّه شريك له

43

{لا جرم} حقا {أنما تدعونني إليه ليس له دعوة} إجابة دعوة أَيْ: لا يستجيب لأحدٍ {في الدنيا ولا في الآخرة وأنَّ مردَّنا} مرجعنا {إلى الله}

44

{فستذكرون} إذا عاينتم العذاب {ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله} وذلك أنهم تدعوه لمخالفته دينهم

45

{فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب}

46

{النار يعرضون عليها غدوّاً وعشياً} وذلك أنَّهم يُعرضون على النَّار صباحاً ومساءً ويقال لهم: هذه منازلكم إذا بعثتم

47

{وإذ يتحاجون في النار فيقول الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار}

48

{قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد}

49

{وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب}

50

{قالوا: أَوَلَمْ تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا: بلى قالوا: فادعوا} أَيْ: فادعوا أنتم إذاً فإنَّا لن ندعو الله لكم {وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلال} هلاكٍ وبطلانٍ لأنَّه لا ينفعهم

51

{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} بظهور حجتهم والانتصار ممَّن عاداهم بالعذاب في الدُّنيا والآخرة {ويوم يقوم الاشهاد} الملائكةُ الذين يكتبون أعمال بني آدم

52

{يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار}

53

{ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب}

54

{هدى وذكرى لأولي الألباب}

55

{فاصبر} يا محمَّدُ {إنَّ وعد الله} في نصرتك وإهلاك أعدائك {وسبح بحمد ربك} صل بالشُّكر منك لربِّك {بالعشي والإِبكار} أَيْ: طرفي النَّهار وقوله:

56

{إن في صدورهم إلاَّ كبر ما هم ببالغيه} أَيْ: تكبُّرٌ وطمعٌ أن يعلوا على محمدٍ عليه السلام وما هم ببالغي ذلك {فاستعذ بالله} أي: فامتنع بالله من شرِّهم

57

{لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} أي: في القدرة من إعادة الناس للبعث

58

{وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون}

59

{إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}

60

{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} اعبدوني أُثبكم وأغفر لكم وقوله: {داخرين} أي: صاغرين وقوله:

61

{الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مبصراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون}

62

{ذلكم الله ربكم خالق كلِّ شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون}

63

{كذلك يؤفك} أَيْ: كما صُرفتم عن الحقِّ مع قيام الدلائل يُصرف عن الحقِّ {الذين كانوا بآيات الله يجحدون} وقوله:

64

{الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين}

65

{هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}

66

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين}

67

{ولتبلغوا أجلاً مسمَّى} أَيْ: وقتاً محدوداً لا تجاوزونه {ولعلكم تعقلون} ولكي تعقلوا أنَّ الذي فعل ذلك لا إله غيره

68

{هو الذي يحيي ويميت فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

69

{ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله} أي: في دفعها وإبطالها {أنى يصرفون} عن الحقِّ وقوله:

70

{الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون}

71

{والسلاسل يسحبون} يُجَرُّون

72

{في الحميم ثم في النار يسجرون} يُصيَّرون وقوداً للنَّار

73

{ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون}

74

{من دون الله} أي: الأصنام {قالوا ضلوا عنا} زالوا عنَّا وبطلوا فلا نراهم {بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً} أَيْ: ضاعت عبادتنا فلم تكن تصنع شيئاً {كذلك} كما أضلَّهم {يضل الله الكافرين}

75

{ذلكم} العذاب الذي نزل بكم {بما كنتم تفرحون} بالباطل وتبطرون

76

{ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}

77

{فإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم} من العذاب في حياتك {أو نتوفينك} قبل أن ينزل بهم ذلك {فإلينا يرجعون} وقوله:

78

{فإذا جاء أمر الله} بعذاب الأمم المُكذِّبة {قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون} أَيْ: تبيَّن خسران أصحاب الباطل فقوله:

79

{الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون}

80

{ولكم فيها منافع} من الصُّوف والوبر والدَّرِّ والنَّسل {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} من حلم أثقالكم إلى البلاد وقوله:

81

{ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون}

82

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}

83

{فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} رضوا بما عندهم من العلم وقالوا: نخن أعلم منهم لن نُبعث ولن نعذب قوله:

84

{فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين}

85

{سنة الله} أَيْ: سنَّ الله هذه السُّنَّةَ في الأمم كلِّها أن لا ينفعهم الإِيمان إذا رأوا العذاب {وخسر هنالك الكافرون} تبيَّن لهم الخسران

سورة فصلت

{حم}

2

{تنزيلُ من الرحمن الرحيم} ابتداءٌ وخبره قوله:

3

{كتابٌ فصلت آياته} بُيِّنت {لقوم يعلمون} لمَنْ يعلم ذلك ممَّن يعلم العربيَّة

4

{بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}

5

{وقالوا قلوبنا في أكنَّة} أغطيةٍ {وفي آذاننا وقر} صممٌ أَيْ: نحن في ترك القبول منك بمنزلة مَن لا يفقه ولا يسمع {ومن بيننا وبينك حجاب} خلافٌ في الدِّين فلا نجتمع معك ولا وافقك {فاعمل} على دينك فـ {إننا عاملون} على ديننا وقوله:

6

{فاستقيموا إليه} وجِّهوا إليه وجوهكم بالطَّاعة {وويلٌ للمشركين}

7

{الذين لا يؤتون الزكاة} لا يؤمنون بوجوبها فلا يؤدونها

8

{إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}

9

{قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} الأحد والأثنين

10

{وبارك فيها} بما خلق فيها من المنافع {وقدَّر فيها أقواتها} أرزاق أهلها وما يصلح لمعاشهم في البحار والأنهار والأشجار والدَّوابِّ {في أربعة أيام} في تتمة أربعة أَيَّامٍ وهو يوم الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أربعة أيَّام خلق الله الأرض وما فيها من سبب الأقوات والمنافع والتجارات فتمَّ أمرها في أربعة أيَّام {سواء} أَيْ: استوت استواء وسواءً {للسائلين} عن ذلك أَيْ: لمَنْ سأل في كم خُلقت السماوات والأرض؟ فيقال: في أربعة أيام

11

{ثم استوى} قصد وعمد {إلى} خلق {السماء وهي دخان} بخارٌ مرتفعٌ عن الماء {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً} بما خلقت فيكما من المنافع وأَخْرِجاها لمنافع خلقي قال للسماوات: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك وقال للأرض: أخرجي ماءك وثمارك طائعةً أو كارهةً ففعلتا ما أمرهما طوعاً وهو قوله: {قالتا أتينا طائعين}

12

{فقضاهن} صنعهنَّ وأحكمهنَّ {سبع سماوات في يومين وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها} أوحى في أهل كلِّ سماءٍ بما أراد من الأمر والنَّهي وقوله: {وحفظاً} أَيْ: حفظناها من استماع الشَّياطين بالكواكب حفظاً

13

{فإن أعرضوا} عن الإِيمان بعد هذا البيان {فقل أنذرتكم} خوَّفتكم {صاعقة} مهلكةً تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم {إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم} أتت الرُّسل إيَّاهم ومَنْ كان قبلهم {ومن خلفهم} ومن بعد الرُّسل الذين أُرسلوا إلى آبائهم جاءتهم الرسل أنفسهم وقوله:

14

{إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلاَّ الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون}

15

{فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون}

16

{ريحاً صرصراً} أي: لها صوتٌ شديدٌ {في أيام نحسات} مشؤومات عليهم وقوله:

17

{وأما ثمود فهديناهم} دعوناهم ودللناهم {فاستحبوا العمى على الهدى} فاختاروا الكفر على الإيمان {فأخذتهم صاعقة} مهلكةُ {العذاب} ذي {الهون} وهو الهوان أي: العذاب الذي يهينهم وقوله:

18

{ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}

19

{ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون}

20

{حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون}

21

{وهو خلقكم أوَّل مرة} ابتداءُ إخبارٍ عن الله تعالى وليس من كلام الجلود

22

{وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم} أي مِنْ أن يشهد عليكم سمعكم أي: لم تكونوا تخافون أن يشهد عليكم جوارحكم فتستتروا منها {ولكن ظننتم أنَّ الله} أي: ظننتم أنَّ ما تُخفون {لا يعلم} اللَّهُ ذلك ولا يطَّلع عليه وذلك الظَّنُّ منكم بربِّكم

23

{أرداكم} أهلككم

24

{فإن يصبروا} في جهنَّم {فالنار مثوىً لهم} أي: مقامهم لا يخرجون منها {وإن يستعتبوا} يطلبوا الصلح {فما هم من المعتبين} أَيْ: ممَّن يُصالح ويرضى

25

{وقيضنا لهم} أيْ: سبَّبنا لهم {قرناء} من الشَّياطين {فزينوا لهم ما بين أيديهم} من أمر الدُّنيا حتى آثروه {وما خلفهم} من أمر الآخرة فدعوهم إلى التَّكذيب به وأن لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب {وحقَّ عليهم القول في أمم} مع أممٍ بالخسران والهلاك وقوله:

26

{والغوا فيه} أَيْ: عارضوه بكلامٍ لا يُفهم من المُكاء والصَّفير وباطل الكلام {لعلكم تغلبون} هـ على قراءته فيترك القراءة وقوله:

27

{فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون}

28

{ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون}

29

{ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس} يعنون: إبليس وقابيل لأنًّهما أوَّل مَنْ سنَّ الضَّلالة {نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا} في الدرك الأسفل من النَّار

30

{إنَّ الذين قالوا ربنا الله} أَيْ: وحَّدوه {ثمَّ استقاموا} على التَّوحيد فلم يشركوا به شيئاً {تتنزل عليهم الملائكة} عند الموت {أن لا تخافوا} ذنوبكم {ولا تحزنوا} عليها فإنَّ الله يغفرها لكم

31

{نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أَيْ: أنصاركم وأحباؤكم وهم قرناؤهم الذين كانوا معهم في الدُّنيا من الحفظة يقولون لهم: لن نُفارقكم في القيامة حتى ندخلكم الجنَّة {ولكم فيها ما تدَّعون} تمنون وتسألون

32

{نزلاً} أيْ: جعل الله ذلك رزقا لهم مُهيَّئاً

33

{ومَنْ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} الآية قيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّه دعا إلى توحيد الله وقيل: إنَّها نزلت في المُؤّذِّنين

34

{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} لا زائدة {ادفع} السَّيئة {بالتي هي أحسن} كالغضب يُدفع بالصَّبر والجهل والحلم والإِساءة بالعفو {فإذا الذي بينك وبينه عداوة} يصير لك كأنًّه صديقٌ قريبٌ إذا فعلت ذلك

35

{وما يلقاها} أي: ما يُلقَّى هذه الخصلة {إلاَّ الذين صبروا} بكظم الغيظ واحتمال الأذى {وما يلقَّاها إلاَّ ذو حظ عظيم} وهو الجنَّة

36

{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ} أَيْ: إنْ صرفك عن الاحتمال نَزْغُ الشَّيطان {فاستعذ بالله} من شرِّه وامض على حلمك

37

{ومن آياته} علاماته التي تدلُّ على أنَّه واحدٌ {الليل والنهار والشمس والقمر} الآية

38

{فإن استكبروا} أي: الكفَّار يقول: إن استكبروا عن السُّجود لله {فالذين عند ربك} وهم الملائكة {يسبحون له} يُصلُّون له {بالليل والنهار وهم لا يسأمون} لا يملُّون

39

{ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة} مُغبَّرةً لا نبات فيها {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ} تحرَّكت بالنًّبات {وربت} انتفخت وعلت ثمَّ تصدَّعت عن النَّبات

40

{إنَّ الذين يلحدون في آياتنا} يجعلون الكلام فيها على غير جهته بأن ينسبوها إلى الكذب والسِّحر {لا يخفون علينا} بل نعلمهم ونجازيهم بذلك

41

{إنَّ الذين كفروا بالذكر} أَيْ: بالقرآن {لما جاءهم وإنَّه لكتاب عزيز} منيعٌ من الشَّيطان والباطل

42

{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} أي: الكُتب التي تقدَّمت لا تبطله ولا يأتي كتابٌ بعده يبطله وقيل: إنَّه محفوظٌ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلقه

43

{ما يقال لك إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك} أَيْ: إنْ كذَّبك قومك فقد كذَّب الذين من قبلك

44

{ولو جعلناه قرآناً أعجمياً} لا بلسان العرب {لقالوا لولا فصلت} بُيِّنت {آياته} بلغتنا حتى نعرفها {أأعجمي وعربي} أي: القرآنُ أعجميٌّ ونبيٌّ عربيٌّ {قل هو} أي: القرآن {للذين آمنوا هدى} من الضَّلالة {وشفاء} من الجهل {والذين لا يؤمنون} في ترك قبوله بمنزلة مَنْ {في آذانهم وقرٌ وهو} أي: القرآن {عليهم} ذو {عمى} لأنَّهم لا يفقهونه {أولئك ينادون من مكان بعيد} أَيْ: كأنهم لقلَّة استماعهم وانتفاعهم يُنادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعونه لبعد المسافة

45

{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} بالتَّكذيب والتَّصديق والإِيمان به والكفر كما فعل قومك {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير العذاب عن قومك {لقضي بينهم} لفرغ من هلاكهم {وإنهم لفي شك منه} من القرآن {مريب}

46

{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد}

47

{إليه يردُّ علم الساعة} لأنَّه لا يعلمه غيره {وما تخرج من ثمرات من أكمامها} أوعيتها {ويوم يناديهم أين شركائي} الذين كنتم تزعمون {قالوا آذناك} أعلمناك {ما منا من شهيد} شاهدٍ أنَّ لك شريكاً لمَّا عاينوا القيامة تبرَّؤوا من معبوديهم

48

{وضلَّ عنهم} زال وبطل {ما كانوا يدعون من قبل} يثقون به ويعبدون قبل يوم القيامة {وظنوا} علموا {ما لهم من محيص} من مهربٍ

49

{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير} لا يَمَلُّ الكافر من الدُّعاء بالصحَّة والمال {وإن مسَّه الشرُّ} الفقر والضرُّ {فيؤوس} من روح الله {قنوط} من رحمته وقوله:

50

{ليقولنَّ هذا لي} أَيْ: هذا واجبٌ لي بعملي استحققه {وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} أَيْ: لستُ أوقن بالبعث وقيام السَّاعة فإن كان الأمر على ذلك إنَّ لي عنده لثواباً

51

{وإذا أنعمنا على الإنسان} الآية يقول: إذا كان الكافر في نعمةٍ تباعد عن ذكر الله وإذا مسَّته الحاجة أكثر الدُّعاء

52

{قل أرأيتم إن كان} القرآن {من عند الله ثم كفرتم به من أضلُّ} منكم لأنَّهم في {شقاق بعيد} أيْ: في خلافٍ بعيدٍ عن الحقّ بكفرهم بالقرآن

53

{سنريهم آياتنا في الآفاق} ما يفتح على محمَّد صلى الله عليه وسلم من القرى {وفي أنفسهم} فتح مكة {حتى يتبين لهم} أنَّ القرآن حقٌّ وصدقٌ منزلٌ من عند الله تعالى {أَوَلَمْ يكف بربك أنَّه على كل شيء شهيد} وهو يشهد لمحمَّد عليه السَّلام ولكتابه بالصِّدق

54

{ألا إنهم في مرية} شكٍّ {من لقاء ربهم} من البعث والمصير إليه {ألا إنَّه بكلِّ شيء محيط} عالمٌ

سورة الشورى

{حم} ح: حكم الله م: مجده

2

{عسق} ع: علمه س: سناؤه ق: قدرته أقسم الله تعالى بها

3

{كذلك يوحي إليك} ما من نبيٍّ صاحب كتابٍ إلاَّ وقد أوحى الله إليه: حم عسق فهو معنى قوله: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك}

4

{له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم}

5

{تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن} تكاد كلُّ واحدة منها تتفطَّر فوق التي تليها من قول المشركين: اتَّخذ الله ولداً {والملائكة يسبحون بحمد ربهم} يُنزِّهون الله تعالى عن السُّوء {ويستغفرون} اللَّهَ {لمن في الأرض} من المؤمنين

6

{والذين اتخذوا من دونه أولياء} أَيْ: آلهةً {الله حفيظ عليهم} يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها {وما أنت عليهم بوكيل} لم تُوكَّل عليهم وما عليك إلاَّ البلاغ

7

{وكذلك} وهكذا {أوحينا إليك قرآناً عربياً} بلفظ العرب {لتنذر أمَّ القرى} أهل مكَّة {ومَنْ حولها} سائر النَّاس {وتنذر يوم الجمع} تخوِّفهم بيوم القيامة الذي يجمع فيه الخلق {لا ريب فيه} كما يرتاب الكافرون {فريق في الجنة وفريق في السعير} إخبارٌ عن اختلاف حال النَّاس في ذلك اليوم

8

{ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة} لجعل الفريقين فريقاً واحداً {ولكن يدخل من يشاء في رحمته} بيَّن أنَّه إنَّما يُدخل الجنة مَنْ يشاء فهو فضلٌ منه {والظالمون} والكافرون {ما لهم من وليٍّ ولا نصير} ناصرٍ يمنعهم من العذاب

9

{أم اتخذوا} بل اتَّخذوا {من دونه أولياء فاللَّهُ هو الوليُّ} لا ما اتَّخذوه من دونه

10

{وما اختلفتم فيه من شيء} من أمر الدِّين {فحكمه إلى الله} لا إليكم وقد حكم أنَّ الدِّين هو الإِسلام لا غيره وقوله:

11

{جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} حلائل {ومن الأنعام أزواجاً} أَيْ: خلق الذَّكر والأنثى {يذرؤكم فيه} أيْ: يكثركم بجعله لم حلائل لأنهنَّ سبب النَّسل وفيه بمعنى: به {ليس كمثله شيء} الكافُ زائدةٌ أَيْ: ليس مثله شيء

12

{له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم}

13

{شرع لكم} بيَّن وأظهر لكم {من الدين ما وصى به} أمر {زوجا} ثمَّ بيَّن ذلك فقال: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} والله يبعث الأنبياء كلَّهم بإقامة الدِّين وترك الفرقة {كبر} عَظُمَ وشقَّ {على المشركين ما تدعوهم إليه} من التَّوحيد وترك الأوثان {الله يجتبي إليه مَنْ يشاء} يصطفي مَنْ يشاء لدينه فيهديه إليه

14

{وما تفرَّقوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بينهم} ما تفرَّق أهل الكتاب إلاَّ عن علمٍ بأنَّ الفرقة ضلالةٌ ولكنَّهم فعلوا ذلك للبغي {ولولا كلمة سبقت من ربك} في تأخيرهم إلى السَّاعة {لقضي بينهم} لجوزوا بأعمالهم {وإنَّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم} يعني: هذه الأمَّة أعطوا الكتاب من بعد اليهود والنَّصارى {لفي شك منه مريب} يعني: كفَّار هذه الأمَّة ومشركيها

15

{فلذلك فادع} أَيْ: إلى ذلك يعني: إلى إقامة الدِّين فادع النَّاس {واستقم كما أمرت} اثبت على الدِّين الذي أُمرتَ به {وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب} أَيْ: بجميع كتب الله المنزلة {وأمرت لأعدل بينكم} لأسوِّي بينكم في الإيمان بكتبكم وقيل: لأعدل بينكم في القضية وقوله: {لا حجة} أَيْ: لا خصومة {بيننا وبينكم} وهذا منسوخٌ بآية القتال

16

{والذين يحاجون في الله} يُخاصمون في دين الله نبيه عليه السلام {من بعد ما استجيب له} أجيب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدِّين فأسلموا ودخلوا في دينه {حجتهم داحضةٌ عند ربهم} أَيْ: باطلةٌ زائلةٌ لأنَّهم يخاصمون صادقاً في خبره قد ظهرت معجزته

17

{الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} أَيْ: العدل والمعنى: إنَّ الله تعالى أمر أن يقتدي بكتابه في أوامره ونواهيه وأن يعامل بالنَّصفة والسَّويَّة وآلةُ ذلك الميزان ثمَّ قال: {وما يدريك لعلَّ الساعة قريب} أَيْ: فاعمل بالعدل والكتاب فلعلَّ السَّاعة قد قربت منك وأنت لا تدري

18

{يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} ظنَّاً منهم أنَّها غير كائنة {والذين آمنوا مشفقون} خائفون منها لأنَّهم يعلمون أنَّهم مبعوثون ومحاسبون {ألا إنَّ الذين يمارون} تدخلهم المِرية والشَّكُّ {في الساعة لفي ضلال بعيد} لأنَّهم لو فكَّروا لعلموا أنَّ الذي أنشأهم أوَّلاً قادرٌ على إعادتهم

19

{الله لطيف بعباده} حفيٌّ بارٌّ بهم بَرِّهم وفاجرِهم حيث لم يقتلهم جُوعاًَ بمعاصيهم

20

{مَنْ كان يريد حرث الآخرة} من أراد بعمله الآخرة {نزد له في حرثه} أَيْ: كسبه بالتَّضعيف بالواحدة عشراً {ومَنْ كان يريد حرث الدنيا} بعمله الدنيا {نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} أَيْ: مَنْ آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة

21

{أم لهم} بل أَلهم {شركاء} آلهةٌ {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل} أَيْ: القَدَر السَّابق بأنَّ القضاء والجزاء يوم القيامة {لقضي بينهم} في الدُّنيا

22

{ترى الظالمين} المشركين يوم القيامة {مشفقين} خائفين {ممَّا كسبوا} أَيْ: من جزائه {وهو واقع بهم} لا محالة وقوله:

23

{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أَيْ: على تبليغ الرِّسالة {أجراً إلاَّ المودَّة في القربى} أيْ: إلاَ أن تحفظوا قرابتي وتَوَدُّوني وتصلوا رحمي وذلك أنَّه لم يكن حيٌّ من قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابةٌ فكأنًّه يقول: إذا لم تؤمنوا بي فاحفظوا قرابتي ولا تُؤذوني وقيل: معناه: إلاَّ أَنْ تتودَّدُوا إلى الله عزَّ وجل بما يُقرِّبكم منه وقوله: {إلاَّ المودة} استثناءٌ ليس من الأوَّل {ومن يقترف} يعمل {حسنة نزدْ له فيها حسناً} نضاعفها له

24

{أم يقولون} بل أيقولون يعني: أهل مكَّة {افترى على الله كذباً} تقوَّل القرآن من قبل نفسه {فإنْ يشأ اللَّهُ يختم على قلبك} يربط على قلبك بالصَّبر على أذاهم ثم ابتدأ فقال {ويمح الله الباطل} أَيْ: الشِّرك {ويحق الحق بكلماته} بما أنزله الله من كتابه على لسان نبيِّه عليه السَّلام وهو القرآن

25

{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} إذا رجع العبد عن معصية الله تعالى إلى طاعته قَبِلَ ذلك الرُّجوع وعفا عنه ما سلف وهو قوله: {ويعفو عن السيئات}

26

{ويستجيب الذين آمنوا} أَيْ: يُجيبهم إلى ما يسألون

27

{ولو بسط الله الرزق لعباده} أَيْ: وسَّع عليهم الرِّزق {لبغوا في الأرض} لطغوا وعصوا {ولكن ينزِّل بقدر ما يشاء} فيجعل واحداً فقيراً وآخر غنيَّاً {إنَّه بعباده خبيرٌ بصير}

28

{وهو الذي ينزل الغيث} المطر {من بعد ما قنطوا} من بعدِ يأسِ العباد من نزوله {وينشر رحمته} ويبسط مطره

29

{ومن آياته} دلائل قدرته {خلق السماوات والأرض وما بثَّ} فرَّق ونشر {فيهما من دابة وهو على جمعهم} للحشر {إذا يشاء قدير}

30

{وما أصابكم من مصيبة} بليَّةٍ وشدَّةٍ {فبما كسبت أيديكم} فهي جزاء ما اكتسبتم من الإِجرام {ويعفو عن كثير} فلا يُجازي عليه

31

{وما أنتم بمعجزين في الأرض} هرباَ اَيْ: إنِْ هربتم لم تعجزوا الله في أخذكم

32

{ومن آياته الجوار} السُّفن التي تجري {في البحر كالأعلام} كالجبال في العظم

33

{إن يشأ يسكن الريح فيظللن} فيصرن {رواكد} ثوابت على ظهر البحر لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لكلِّ مؤمنٍ

34

{أو يوبقهن} يُهلكهنَّ يعني: أهلها {بما كسبوا} من الذُّنوب {ويعف عن كثير} فلا يعاقب عليها

35

{ويعلم الذين يجادلون في آياتنا} أَيْ: في دفعها وإبطالها {ما لهم من محيص} مهربٍ من عذاب الله

36

{فما أوتيتم من شيء} من أثاثِ الدُّنيا {فمتاع الحياة الدنيا} يتمتَّع به في هذه الدَّار {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثَّواب {خير وأبقى للذين آمنوا} نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أنفق جميع ماله وتصدَّق به فلامه النَّاس

37

{والذين يجتنبون} عطفٌ على قوله: {للذين آمنوا} {كبائر الإِثم والفواحش} الشِّرك وموجبات الحدود {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} يتجاوزون ويحملون

38

{والذين استجابوا لربهم} أجابوه بالإِيمان والطَّاعة {وأمرهم شورى بينهم} لا ينفردون برأيهم بل يتشاورون

39

{والذين إذا اصابهم البغي} الظُّلم {هم ينتصرون} ينتقمون ممَّن ظلمهم ثمَّ بيَّن حدَّ الانتصار فقال:

40

{وجزاء سيئة سيئة مثلها} أَيْ: إنما يُجازى السُّوء بمثله فيقتصُّ من الجاني بمقدار جنايته {فمن عفا} ترك الانتقام {وأصلح} بينه وبين الظَّالم عليه بالعفو {فأجره على الله} أَيْ: إنَّ الله يأجره على ذلك {إنَّه لا يحب الظالمين} الذين يبدؤون بالظُّلم

41

{ولمن انتصر بعد ظلمه} أَيْ: بعد أنْ ظُلم {فأولئك ما عليهم من سبيل} باللَّوم ولا القصاص لأنه أخذ حقه

42

{إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}

43

{ولمن صبر} على الأذى {وغفر} ولم يكافئ {إن ذلك} أَيْ: الصَّبر والغفران {لمن عزم الأمور} لأنَّه يوجب الثَّواب فهو أتم عزم وقوله:

44

{ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل}

45

{وتراهم يعرضون عليها} على النَّار {خاشعين من الذل} مُتواضعين ساكنين {ينظرون} إلى النَّار {من طرف خفي} مسارقة

46

{وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل}

47

{استجيبوا لربكم} بالإيمان والطَّاعة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ له من الله} أَيْ: إنَّ الله تعالى إذا أتى به لم يرده {ما لكم من ملجأ يومئذٍ} مهربٍ من العذاب {وما لكم من نكير} إنكارٌ على ما ينزل بكم من العذاب لا تقدرون أن تنكروه فتغيروه وقوله:

48

{فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فإن الإنسان كفور}

49

{لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور}

50

{أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} أَيْ: يجعل ما يهب من الولد بعضه ذكوراً وبعضه إناثاً {ويجعل من يشاء عقيماً} لا يُولد له

51

{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً} بأن يوحي إليه في منامه {أو من وراء حجاب} كما كلَّم موسى عليه السَّلام {أو يرسل رسولاً} مَلَكاً {فيوحيَ بإذنه ما يشاء} فيكلِّمه عنه بما يشاء

52

{وكذلك} وكما أوحينا إلى سائر الرُّسل {أوحينا إليك روحاً} ما يحيا به الخلق أَيْ: يهتدون به وهو القرآن {من أمرنا} : أَيْ: فِعْلِنا في الوحي إليك {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} قبل الوحي ويعني بالإيمان شرائعه ومعالمه {ولكن جعلناه} جعلنا الكتاب {نوراً} وقوله: {وإنك لتهدي} بوحينا إليك {إلى صراط مستقيم} يعني الإسلام

53

{صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}

سورة الزخرف

{حم}

2

{والكتاب المبين} الذي أبان الهدى وما تحتاج إليه الأُمَّة {إنا جعلناه} بيَّناه {قرآنا عربيا} بلغة العرب {لعلكم تعقلون} تعرفون أحكامه ومعانيه

3

{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}

4

{وإنه} أَيْ: القرآن {في أمِّ الكتاب} أَيْ: اللَّوح المحفوظ {لدينا لعليٌّ حكيم} يريد: إنَّه مثبتٌ عند الله تعالى في اللَّوح المحفوظ بهذه الصِّفة

5

{أفنضرب عنكم الذكر صفحاً} أَفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنَّكم لا تؤمنون به وهو قوله: {أن كنتم قوماً مسرفين} أَيْ: لأن كنتم قوماً مُشركين مُجاوزين أمر الله قال قتادة رضي الله عنه: واللَّهِ لو أنَّ هذا القرآنَ رُفع حين ردَّه أوائل هذا الأمة لهلكوا

6

{وكم أرسلنا من نبي في الأولين}

7

{وما يأتيهم من نبي إلاَّ كانوا به يستهزئون}

8

{فأهلكنا أشد منهم} من قومك {بطشاً} قوَّة {ومضى مثل الأولين} سنَّتهم في العقوبة

9

{ولئن سالتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم}

10

{الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون}

11

{والذي نزل من السماء ماء بقدر} بمقدار معلوم عند الله {فأنشرنا} فأحيينا {به} بذلك الماء {بلدة ميتاً كذلك تخرجون} من قبوركم أحياء

12

{والذي خلق الأزواج} الأصناف {كلها} وقوله:

13

{وما كنَّا له مقرنين} أي: مطيقين

14

{وإنا إلى ربنا لمنقلبون}

15

{وجعلوا له من عباده جزءاً} أَيْ: الذين جعلوا الملاكة بنات الله

16

{أم اتخذ ممَّا يخلق بنات وأصفاكم} أخلصكم وخصَّكم {بالبنين} كقوله: {أفأصفاكم ربُّكم بالبنين} الآية

17

{وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاَ} بما وصفه به من اتِّخاذ البنات

18

{أو مَنْ يُنشَّأ في الحلية} أَيْ: أَنسبوا إليه مَنْ يُنشَّأ في الحلية؟ يعني: البنات {وهو في الخصام غير مبين} وذلك أنَّ المرأة لا تكاد تقوم بحجَّةٍ في الخصومة

19

{وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} أَيْ: حكموا بأنَّهم إناثٌ حين قالوا: إنَّهم بنات الله {أشهدوا} أَحضروا {خلقهم} حين خُلقوا؟ {ستكتب شهادتهم} على الملائكة بأنَّهم بنات الله {ويسألون} عنها

20

{وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم} أَيْ: الملائكة وذلك أنَّهم قالوا: لو لم يرض منَّا بعبادتنا إيَّاها لعجَّل عقوبتنا {ما لهم بذلك من علم} ما لهم بقولهم: الملائكة بناتُ الله من علمٍ {إن هم إلاَّ يخرصون} يكذبون

21

{أم آتيناهم كتاباً من قبله} من قبل القرآن فيه عبادة غير الله {فهم به مستمسكون} بذلك الكتاب ثمَّ بيَّن أنَّهم اتَّبعوا ضلالة آبائهم فقال:

22

{بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة} دينٍ

23

{وكذلك ما أرسلنا من قبلك فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}

24

{قال أو لو جئتكم بأهدى} بدينٍ أهدى {ممَّا وجدتم عليه آباءكم} أَتتبعونهم؟ {قالوا} أَيْ: الأمم للرُّسل: {إنا بما أرسلتم به كافرون}

25

{فانتقمنا منهم} بالعقوبة

26

{وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إنني براء} أي: بريء

27

{إلا الذي فطرني فإنه سيهدين}

28

{وجعلها كلمة} أَيْ: كلمة التَّوحيد {باقية في عقبه} عقب إبراهيم عليه والسلام لا يزال من ولده مَنْ يوحِّدُ الله عزَّ وجل {لعلهم يرجعون} كي يرجعوا بها من الكفر إلى الإيمان

29

{بل متعتُ هؤلاء وآباءهم} في الدُّنيا ولم أهلكهم {حتى جاءهم الحق} القرآن

30

{ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون}

31

{وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من} إحدى {القريتين} مكَّة والطَّائف {عظيم} أَيْ: الوليد بن المغيرة من أهل مكَّة وعروة بن مسعود الثقفيِّ من الطَّائف قال الله تعالى:

32

{أهم يقسمون رحمة ربك} نبوَّته وكرامته فيجعلونها لمن يشاؤون؟ {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} فجعلنا بعضهم غنيَّاً وبعضهم فقيراً {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} بالمال {ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} ليُسخِّر الأغنياء بأموالهم الفقراء ويستخدموهم فيكون بعضهم لبعض سببَ المعاش في الدُّنيا هذا بماله وهذا بأعماله فكما قسمنا هذه القسمة كذلك اصطفينا للرِّسالة مَنْ نشاء ثمَّ بيَّن أنَّ الآخرة أفضل من الدُّنيا فقال: {ورحمة ربك} أَيْ: الجنَّة {خيرٌ ممَّا يجمعون} في الدُّنيا ثمَّ ذكر قلَّة خطر الدُّنيا عنده فقال:

33

{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة} مجتمعين على الكفر وقوله: و {معارج} : مراقي {عليها يظهرون} يعلون يصعدون

34

{ولبيوتهم أبواباً وسرراً} من فضَّةٍ {عليها يتكئون}

35

{وزخرفاً} أَيْ: ومن زخرفٍ وهو الذَّهب {وإن كلُّ ذلك لما متاع الحياة الدنيا} لمتاع الحياة الدُّنيا

36

{ومَنْ يعش} يُعرض {عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً} نسبِّب له شيطاناً {فهو له قرين} لا يُفارقه

37

{وإنهم} أَيْ: الشَّياطين {ليصدونهم} يمنعون الكافرين {ويحسبون} الكفَّار {أنهم مهتدون}

38

{حتى إذا جاءنا} يعني: الكافر {قال} لقرينه: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين} أَيْ: بُعد ما بين المشرق والمغرب {فبئس القرين} أنت ثم لا يفارقه حتى يصيروا إلى النار وقال الله تعالى:

39

{ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم} أشركتم في الدُّنيا {أنكم في العذاب مشتركون} إشراككم في العذاب لأنَّ لكلِّ واحدٍ نصيبَه الأوفرَ منه

40

{أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين}

41

{فإما نذهبن بك} تميتك قبل أن نعذِّبهم {فإنا منهم منتقمون} بعد موتك

42

{أو نرينك} في حياتك {الذي وعدناهم} من العذاب

43

{فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}

44

{وإنه} أَيْ: القرآن {لذكر} لَشرفٌ {لك ولقومك} إذ نزل بلغتهم ونزل عليك وأنت منهم {وسوف تسألون} عن شكر ما جعلنا لكم من الشَّرف

45

{واسأل من أرسلنا} أَيْ: أمم مَنْ أرسلنا {من قبلك} يعني: أهل الكتابين هل في كتاب أحدٍ الأمرُ بعبادة غير الله تعالى؟ ومعنى هذا السُّؤال التَّقرير لعبدة الأوثان أنَّهم على الباطل

46

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين}

47

{فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون}

48

{وما نريهم من آية إلاَّ هي أكبرُ من أختها} قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها {وأخذناهم بالعذاب} بالسِّنين والطُّوفان والجراد {لعلهم يرجعون} عن كفرهم

49

{وقالوا يا أيها الساحر} خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسَّاحر: {ادع لنا ربك بما عهد عندك} فيمن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه {إننا لمهتدون} أَيْ: مؤمنون

50

{فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون} ينقصون عهدهم وقوله:

51

{وهذه الأنهار تجري من تحتي} بأمري: وقيل: من تحت قصوري

52

{أم أنا} بل أنا {خير من هذا الذي هو مهين} حقيرٌ ضعيفٌ يعني: موسى {ولا يكاد يبين} يُفصح بكلامه لِعِيِّه

53

{فلولا} فهلاًّ {ألقي عليه أسورة من ذهب} حليٌّ بأساور الذَّهب إن كان رئيساً مُطاعاً؟ والطَّوق والسِّوار من الذَّهب كان من علامة الرِّئاسة عندهم {أو جاء معه الملائكة مقترنين} مُتتابعين يشهدون له

54

{فاستخف قومه} وجد قومه القبط جُهَّالاً

55

{فلما آسفونا} أغضبونا بكفرهم {انتقمنا منهم}

56

{فجعلناهم سلفاً} مُتقدِّمين في الهلاك ليتَّعظ بهم مَنْ بعدهم {ومثلاً للآخرين} عبرةً لن يجيء بعدهم

57

{ولما ضرب ابن مريم مثلاً} نزلت هذه الآية حين خاصمه الكفَّار لما نزل قوله تعالى: {إنَّكم وما تعبدون من دون الله} الآية فقالوا: رضينا أن يكون آلهتنا بمنزلة عيسى فجعلوا عيسى عليه السَّلام مثلاً لآلهتهم فقال الله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يَصِدًّون} أَيْ: يضجُّون وذلك أنَّ المسلمين ضجُّوا من هذا حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عنها مُبعدون} وذكر الله تعالى في هذه السُّورة تلك القصَّة وهو قوله:

58

{وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو} يعني: عيسى عليه السَّلام {ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً} أَيْ: إلاَّ الإرادة للمجادلة لأنَّهم علموا أنَّ المراد بحصب جهنم ما اتَّخذوه من الموات {بل هم قوم خصمون} يجادلون بالباطل ثمَّ بيَّن حال عيسى عليه السَّلام فقال:

59

{إن هو إلاَّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل} آيةً تدلُّ على قدرة الله

60

{ولو نشاء لجعلنا منكم} بدلكم {ملائكة في الأرض يخلفون} بأن نهلككم ونأتي بهم بدلاً منكم يكونون خلفاء منكم

61

{وإنه} أَي: وإنَّ عيسى {لعلم للساعة} بنزوله يُعلم قيام السَّاعة {فلا تمترنَّ بها} لا تشكُّوا فيها

62

{ولا يصدنكم الشيطان إنَّه لكم عدوٌ مبين}

63

{ولما جاء عيسى} إلى بني إسرائيل {بالبينات} بالآيات التي يعجز عنها المخلوقون {قال قد جئتكم بالحكمة} أَيْ: الإنجيل {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه} أي: كله

64

{إن الله هو رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}

65

{فاختلف الأحزاب} الآية مفسَّرةٌ في سورة مريم

66

{هل ينظرون} أَيْ: يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك {إلاَّ} أن يَفْجَأَهُمْ قيام {السَّاعة} ثمَّ ذكر أنَّ مخالَّتهم في الدُّنيا تبطل في ذلك اليوم وتنقلب عداوة فقال:

67

{الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} وهم المؤمنون وقوله:

68

{يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}

69

{الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين}

70

{تحبرون} تُكرمون وتسرُّون

71

{يطاف عليهم بصحاف} بقصاع وأكوابٍ وهي الأواني التي لا عُرى لها {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} أَيْ: تستلذًّ وهذا وصفٌ لجميع ما في الجنَّة من الطيبات وقوله:

72

{وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون}

73

{لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}

74

{إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون}

75

{لا يفتر عنهم} أَيْ: لا يخفف عنهم العذاب {وهم فيه مبلسون} ساكنون سكوت يأس

76

{وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين}

77

{ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك} ليمتنا فنستريح {قال: إنكم ماكثون} مُقيمون في العذاب

78

{لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}

79

{أم أبرموا أمراً} أحكموا الأمر في المكر بمحمَّد عليه السَّلام {فإنا مبرمون} مُحكمون أمراً في مجازاتهم

80

{أم يحسبون أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون}

81

{قل: إن كان للرحمن ولد} الآية معناها: إنْ كنتم تزعمون أنَّ للرحمن ولداً فأنا أوَّل الموحِّدين لأنَّ مَنْ عبد الله واعترف بأنَّه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد وقيل: {فأنا أول العابدين} الآنفين من هذا القول

82

{سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون}

83

{فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون}

84

{وهو الذي في السماء إله} يُعبد {وفي الأرض إله} يُعبد أيْ: هو المعبود فيهما {وهو الحكيم} في تدبير خلقه {العليم} بصلاحهم

85

{وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون}

86

{ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة} أَيْ: الأوثان لا يشفعون لعابديها {إلاَّ مَنْ شهد بالحق} يعني: عيسى وعزيزا والملائكة فلهم الشَّفاعة في المؤمنين لا في الكفَّار وهم يشهدون بالحقِّ بالوحدانيَّة لله {وهم يعلمون} حقيقة ما شهدوا به

87

{ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون}

88

{وقيله} أَيْ: ويسمع قول محمَّد عليه السَّلام شاكياًَ إلى ربِّه وهو راجعٌ إلى قوله {أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم}

89

{فاصفح عنهم} أَيْ: أعرض عنهم وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم {وقل سلام} أيْ: سلامةٌ لنا منكم {فسوف تعلمون} تهديدٌ لهم

سورة الدخان

{حم}

2

{والكتاب المبين}

3

{إنا أنزلناه} أَيْ: القرآن {في ليلة مباركة} قيل: هي ليلة القدر في رمضان أنزل الله القرآن فيها من أمِّ الكتاب إلى سماء الدُّنيا ثمَّ أنزله على نبيِّه عليه السَّلام نجوماَ وقيل: ليلة النِّصف من شعبان {إنا كنا منذرين} مُحذِّرين عبادنا العقوبة بإنزال الكتاب

4

{فيها يفرق} يُفصل {كلُّ أمر حكيم} مُحكمٍ من أرزاق العباد وآجالهم وذلك أنَّه يُدبِّر في تلك الليلة أمر السَّنة

5

{أمراً من عندنا} معناه: يُفْرق كلُّ أمرٍ حكيمٍ فرقاً من عندنا فوضع الأمر موضع الفرق لأنَّه أمرٌ {إنا كنا مرسلين} محمَّداً إلى قومه

6

{رحمةً} أَيْ: للرًّحمة وقوله:

7

{إن كنتم موقنين} أَيْ: إن أيقنتم بأنَّه ربُّ السماوات والأرض فأيقنوا أنَّ محمداً رسوله لأنه أرسله

8

{لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم وربُّ آبائكم الأولين}

9

{بل هم في شك} من البعث والنَّشر {يلعبون} مُشتغلين بالدُّنيا

10

{فارتقب} فانتظر {يوم تأتي السماء بدخان مبين} وذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه بالقحط فمنع القطر وأجدبت الأرض وانجرَّت الآفاق وصار بين السَّماء والأرض كالدُّخان

11

{يغشى الناس} ذلك الدخان وهم يقولون: {هذا عذاب أليم}

12

{ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} مُصدِّقون بنبيِّك قال الله تعالى:

13

{أنى لهم الذكرى} من أين لهم التَّذكُّر والاتِّعاظ {و} حالهم أنَّهم {قد جاءهم رسول مبين} يبيِّن لهم أحكام الدِّين يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم

14

{ثمَّ تولوا} أعرضوا {عنه وقالوا معلَّم} أَيْ: إنَّه معلَّم يُعلِّمه ما يأتي به بشر

15

{إنا كاشفوا العذاب قليلاً} أَيْ: يكشف عنكم عذاب الجوع في الدُّنيا ثمَّ تعودون في العذاب وهو قوله: {إنكم عائدون}

16

{يوم نبطش البطشة الكبرى} أَيْ: يوم القيامة وقيل: يوم بدرٍ

17

{ولقد فتنا} بلونا {قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم} على الله تعالى يعني: موسى عليه السَّلام

18

{أن أدوا إليَّ عباد الله} أَيْ: سلِّموهم إليَّ ولا تُعذِّبوهم يعني: بني إسرائيل كما قال: {فأرسل معي بني إسرائيل} {إني لكم رسول أمين} على وحي الله عز وجل

19

{وأن لا تعلوا على الله} لا تعصوه ولا تخالفوا أمره {إني آتيكم بسلطان مبين} بحجة واضحة تدلُّ على أنَّني نبيٌّ

20

{وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون} أَن تقتلون وذلك أنَّهم توعَّدوه بالقتل

21

{وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} أَيْ: لا تكونوا عليَّ ولا لي وخلُّوا عني

22

{فدعا ربَّه أنَّ} أَيْ: بأنَّ {هؤلاء} أَيْ: يا ربِّ هؤلاء {قوم مجرمون} مشركون فقال الله تعالى:

23

{فأسرِ بعبادي} بني إسرائيل {ليلاً إنكم متبعون} يتَّبعكم فرعون وقومه

24

{واترك البحر رهواً} خلِّفه وراءك ساكناً غير مضطربٍ وذلك أنّ الماء وقف له كالطود العظيم حين جاوز البحر {إنهم جندٌ مغرقون} نغرقهم في ذلك البحر الذي تجاوزوه رهواً

25

{كم تركوا} بعد هلاكهم {من جنات وعُيُون} الآية مُفسَّرةٌ في سورة الشُّعراء

26

{وزروع ومقام كريم}

27

{ونعمة كانوا فيها فاكهين}

28

{كذلك} أَيْ: الأمر كما وصفنا {وأورثناها} أعطيناها {قوماً آخرين} يعني: بني إسرائيل

29

{فما بكت عليهم السماء والأرض} لأنَّهم ماتوا كفَّاراً والمؤمن يبكي عليه مصعد عمله ومُصلاَّه من الأرض {وما كانوا منظرين} مؤخَّرين حين أخذناهم بالعذاب

30

{ولقد نجينا بني إسرائيل} بإهلاك فرعون وقومه {من العذاب المهين} يعني: قتل الأبناء واستخدام النِّساء

31

{من فرعون إنه كان عالياً} مستكبراً مُتعظِّماً {من المسرفين} الكافرين المُتجاوزين حدِّهم

32

{ولقد اخترناهم} بني إسرائيل {على علمٍ} منَّا بهم {على العالمين} عالمي زمانهم

33

{وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين} نعمةٌ ظاهرةٌ من فلق البحر وإنزال المنِّ والسَّلوى

34

{إنَّ هؤلاء} أَيْ: مشركي مكَّة {ليقولون:}

35

{إن هي إلاَّ موتتنا الأولى} أَيْ: ليس إلاَّ الموت ولا نشر بعده وهو قوله: {وما نحن بمنشرين}

36

{فأتوا بآبائنا} الذين ماتوا {إن كنتم صادقين} أنَّا نُبعث بعد الموت

37

{أهم خير} أَيْ: أقوى وأشدُّ {أم قوم تبع} الحِميريِّ {والذين من قبلهم} من الكفَّار {أهلكناهم}

38

{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين} ونحن نلعب في خلقهما أَيْ: إنَّما خلقناهما لأمرٍ عظيم وهو قوله: {ما خلقناهما إلاَّ بالحق} أَيْ: لإقامة الحقِّ وإظهاره من توحيد الله وإلزام طاعته

39

{ما خلقناهما إلاَّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون}

40

{إنَّ يوم الفصل} وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين العباد {ميقاتهم} الذي وقَّتنا لعذابهم {أجمعين}

41

{يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} قريبٌ عن قريبٍ {ولا هم ينصرون} يُمنعون من عذاب الله

42

{إلا من رحم} لكن مَنْ رحم الله فإنَّه يُنصر

43

{إنَّ شجرة الزَّقوم}

44

{طعام الأثيم} أَيْ: صاحب الإثم وهو أبو جهل

45

{كالمهل} أَيْ: كالذَّائب من الفضَّة والنُّحاس في الحرارة {يَغلي في البطون} في بطون آكليه

46

{كغلي الحميم} وهو الماء الحارُّ

47

{خذوه} يعني: الأثيم {فاعتلوه} سوقوه سوقاً بالعنف {إلى سواء الجحيم} وسط الجحيم

48

{ثمَّ صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} كما قال: {يصبُّ من فوقِ رؤوسهم الحميم} ويقال له:

49

{ذق إنك أنت العزيز الكريم} بزعمك وعلى قولك وذلك أنَّه قال: ما بين جبليها أعزُّ ولا أكرم مني

50

{إنَّ هذا} الذي ترون من العذاب {ما كنتم به تمترون} فيه تشكُّون

51

{إنَّ المتقين في مقام أمين} أمنوا فيه من الغير

52

{في جنات وعيون}

53

{يلبسون من سندس} وهو ما رقَّ من الثّياب {وإستبرق} وهو ما غلظ منه {متقابلين} متواجهين

54

{كذلك} كما وصفنا {وزوجناهم بحور} وهنَّ النِّساء النَّقيات البياض {عين} واسعة الأعين

55

{يدعون فيها بكلِّ فاكهة آمنين} من الموت

56

{لا يذوقون فيها الموت إلاَّ} سوى {الموتة الأولى} الموتة التي ذاقوها في الدنيا

57

{فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم}

58

{فإنما يسرناه} سهَّلنا القرآن {بلسانك لعلهم يتذكرون} يتَّعظون

59

{فارتقب} فانتظر الفتح والنَّصر {إنهم مرتقبون} مُنتظرون قهرك وهلاكك

سورة الجاثية

{حم}

2

{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}

3

{إن في السماوات والأرض} أَيْ: إنَّ في خلقهما {لآيات} لدلالاتٍ على قدرة الله وتوحيده وقوله:

4

{وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون}

5

{واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون}

6

{فبأيِّ حديث بعد الله} أَيْ: بعد حديث الله وكتابه {يؤمنون}

7

{ويلٌ لكلِّ أفاك أثيم} كذَّاب صاحب إثمٍ

8

{يسمع آيات الله تتلى عليه ثمَّ يصرُّ} يُقيم على كفره {مستكبراً} مُتعظِّماً عن الإيمان به

9

{وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً} استهزأ بها

10

{ومن ورائهم} أمامهم {جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا} من الأموال {شيئاً}

11

{هذا هدى} أَيْ: هذا القرآن هدىً {والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذابٌ من رجز أليم} مُؤلمٌ مرجع وقوله:

12

{الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}

13

{جميعاً منه} أيْ: كلُّ ذلك تفضُّلٌ منه وإحسانٌ

14

{قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} نزلت قبل الأمر بالقتال يقول: قل لهم يصفحوا عن المشركين الذين لا يخافون عقوبة الله وعذابه {ليجزي قوماً} أَيْ: ليجزيهم {بما كانوا يكسبون} من سوء أعمالهم وقوله:

15

{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون}

16

{ورزقناهم من الطيبات} أَيْ: المنِّ والسَّلوى

17

{وآتيناهم بينات من الأمر} يعني: أحكام التَّوراة وبيان أمر النبيِّ عليه السَّلام {فما اختلفوا} في نبوَّته {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} يعني: ما عملوه من شأنه {بغياً بينهم} حسداً منهم له

18

{ثم جعلناك على شريعة} مذهبٍ وملَّةٍ {من الأمر} من الدِّين {فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} مراد الكافرين

19

{إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً} لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتَّبعت أهواءهم

20

{هذا} إشارةٌ إلى القرآن {بصائر} معالم {للناس} في الحدود والأحكام يبصرون بها

21

{أم حسب الذين اجترحوا السيئات} اكتسبوا الكفر والمعاصي {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم} مُستوياً حياتهم وموتهم أَيْ: المؤمنُ مؤمنٌ حياً وميتاً والكافر كافرٌ حياً وميتاً فلا يستويان {ساء ما يحكمون} بئس ما يقضون إذ حسبوا أنَّهم كالمؤمنين: نزلت هذه الآية حين قال المشركون: لئن كان ما تقولون حقا لنفضلنَّ عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا

22

{وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون}

23

{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} أَيْ: الكافر اتَّخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئاً إلاَّ ركبه {وأضله الله على علم} على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنَّه ضالٌّ وباقي الآية مُفسَّر في أوَّل سورة البقرة

24

{وقالوا} يعني: منكري البعث: {ما هي إلاَّ حياتنا الدنيا} أَيْ: ما الحياة إلاَّ هذه الحياة في دار الدُّنيا {نموت} نحن {ونحيا} أولادنا {وما يهلكنا إلاَّ الدهر} أَيْ: ما يفنينا إلاَّ مرُّ الزَّمان {وما لهم بذلك من علم} أَيْ: الذين يقولون {إن هم إلاَّ يظنون} ما هم إلاَّ ظانِّين ما يقولون

25

{وإذا تتلى عليهم آياتنا} أَدلَّتنا في قدرتنا على البعث {بينات} واضحات {ما كان حجَّتهم إلاَّ أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} أن نُبعث بعد الموت وقوله:

26

{ثمَّ يجمعكم إلى يوم القيامة} أَيْ: مع ذلك اليوم

27

{ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون}

28

{وترى كل أمة} كلم أهلِ دينٍ {جاثية} مُجتمعةً للحساب وقيل: جالسةً على الرُّكَب من هول ذلك اليوم

29

{هذا كتابنا ينطق} أَيْ: ديوان الحفظة {إنا كنا نَستنسِخُ} نأمر بنسخ {ما كنتم تعملون}

30

{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين}

31

{وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين}

32

{وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}

33

{وبدا لهم سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا به يستهزئون}

34

{وقيل اليوم ننساكم} نترككم في العذاب كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم هذا وقوله:

35

{ولا هم يستعتبون} أَيْ: لا يُلتمس منهم عمل ولا طاعة

36

{فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين}

37

{وله الكبرياء} العظمة {في السماوات والأرض} أَيْ: إنَّه يُعظَّم بالعبادة في السموات والأرض {وهو العزيز الحكيم}

سورة الأحقاف

{حم}

2

{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}

3

{ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق} أَيْ: للحقِّ ولإِقامة الحقِّ {وأجل مسمَّى} تفنى عند انقضاء ذلك الأجل {والذين كفروا عما أنذروا معرضون} أعرضوا بعدما قامت عليهم الحجَّة بخلق الله السماوات والأرض ثمَّ طالبهم بالدَّليل على عبادة الأوثان فقال:

4

{قل أرأيتم ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات} أَيْ: مشاركةٌ مع الله في خلقهما لذلك أشركتموهم في عبادته {ائتوني بكتاب من قبل هذا} أَيْ: من قبل القرآن فهي بيان ما تقولون {أو أثارة من علم} روايةٍ عن الأنبياء أنَّهم أَمروا بعبادة غير الله فلمَّا قامت عليهم الحجَّة جعلهم أضلَّ الخلق فقال:

5

{ومَنْ أضلُّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} أَيْ: أبداً الآية

6

{وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً} عادوا معبوديهم لأنهم بسبهم وقعوا في الهلكة وجحد المعبودون عبادتهم وهو قوله: {وكانوا بعبادتهم كافرين} كقوله: {تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} وقوله:

7

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين}

8

{قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} أي: إن عذَّبني على افترائي لم تملكوا دفعه وإذا كنتم كذلك لم أفتر على الله من أجلكم {هو أعلم بما تفيضون فيه} تخوضون فيه من الإفك {وهو الغفور} لمَنْ تاب {الرحيم} به

9

{قل ما كنت بدعاً} بديعاً {من الرسل} أَيْ: لستُ بأوَّل مرسل فتنكروا نبوَّتي {وما أدري ما يفعل بي} إلى إيش يصير أمري معكم أتقتلونني أم تخرجونني {ولا بكم} أَتُعذِّبون بالخسف أم الحجارة والمعنى: ما أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدُّنيا

10

{قل أرأيتم إن كان} القرآن {من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل} يعني: عبد الله بن سلام {على مثله} على مثل ما شهد عليه القرآن من تصديق محمَّد عليه السَّلام {فآمن} ذلك الرَّجل {واستكبرتم} عن الإيمان

11

{وقال الذين كفروا} من اليهود: {لو كان} دين محمَّدٍ {خيراً ما سبقونا إليه} يعنون: عبد الله بن سلام وأصحابه {وإذ لم يهتدوا به} بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان {فسيقولون هذا إفكٌ قديم} كما قالوا: أساطير الأوَّلين

12

{ومن قبله} ومن قبل القرآن {كتاب موسى} التَّوراة {إماماً ورحمة وهذا كتاب} أَيْ: القرآن {مصدق} أَيْ: مصدِّقٌ لما بين يديه لما تقدَّم من الكتب {لساناً عربياً} نصب على الحال وقوله:

13

{إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}

14

{أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون}

15

{حملته أمه كرهاً} على مشقَّةٍ {ووضعته كرهاً} أَيْ: على مشقَّةٍ {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} أقلُّ الحمل ستة أشهر والفِصال: الفِطام ويكون ذلك بعد حولين {حتى إذا بلغ أشده} غاية شبابه وهي ثلاثٌ وثلاثون سنةً {وبلغ أربعين سنةً قال: ربِّ أوزعني} الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وذلك أنَّه لمَّا بلغ أربعين سنةً آمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وآمن أبوه فذلك قوله: {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى والدي} أَيْ: بالإِيمان {وأصلح لي في ذريتي} بأن تجعلهم مؤمنين فاستجاب الله له في أولاده فأسلموا ولم يكن أحدٌ من الصَّحابة أسلم هو وأبوه وبنوه وبناته إلاَّ أبو بكر رضي الله عنه

16

{أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}

17

{والذي قال لوالديه} نزلت في كافرٍ عاقٍّ قال لوالديه: {أَتَعِدانِني أن أخرج} من قبري حيَّاً {وقد خلت القرون من قبلي} فلم يُبعث منهم أحدٌ {وهما يستغيثان الله} يعني: والديه يستغيثان بالله على إيمان ولدهما ويقولان له: {ويلك آمن إنَّ وعد الله حق فيقول ما هذا} الذي تتدعونني إليه {إلاَّ أساطير الأولين}

18

{أولئك الذين} أَيْ: مَنْ كان بهذه الصِّفة فهم الذين {حق عليهم القول} وجب عليهم العذاب {في أمم} كافرةٍ {من الجن والإِنس}

19

{ولكلٍّ} من المؤمنين والكافرين {درجات} منازل ومراتب من الثَّواب والعقاب {ممَّا عملوا}

20

{ويوم يعرض الذين كفروا على النار} فيقال لهم: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} وذلك أنَّهم يفعلون ما يشتهون لا يتوفون حراما ولا يجتنبون مأئما {فاليوم تجزون عذاب الهون} الآية

21

{واذكر أخا عاد} يعني: هوداً {إذ أنذر قومه بالأحقاف} أَيْ: منازلهم {وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} أَيْ: قد أُنذروا بالعذاب أنْ عَبَدوا غيرَ الله قبل إنذار هو وبعده

22

{قالوا أجئتنا لتأفكنا} لتصرفنا {عن آلهتنا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصادقين}

23

{قال: إنما العلم عند الله} هو يعلم متى يأتيكم العذاب {و} إنما أنا مُبلِّغٌ {أبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوماً تجهلون} مراشدكم حين أدلُّكم على الرَّشاد وأنتم تُعرضون

24

{فلما رأوه} أَيْ: السَّحاب {عارضاً} قد عرض في السماء {مستقبل أوديتهم} يأتي من قبلها {قالوا هذا عارض ممطرنا} سحابٌ يمطر علينا قال الله تعالى: {بل هو ما أستعجلتم به} من العذاب

25

{تدمّر} تُهلك {كلَّ شيء} مرَّت به من الرِّجال والدَّوابِّ {فأصبحوا لا يُرى} أشخاصهم {إلاَّ مساكنهم} لأنَّ الرِّيح أهلكتهم وفرَّقتهم وبقيت مساكنهم خاليةً

26

{ولقد مكَّناهم} من القوَّة والعمر والمال {فيما إن مكَّناكم فيه} في الذي ما مكَّنَّاكم فيه

27

{ولقد أهلكنا ما حولكم} يا أهل مكَّة {من القرى} كحجر ثمود وقرى قوم لوط {وصرَّفنا الآيات} بيَّنا الدَّلالات {لعلهم يرجعون} عن كفرهم يعني: الأمم المهلكة

28

{فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة} يعني: أوثانهم الذين اتَّخذوها آلهةَ يتقرَّبون بها إلى الله {بل ضلوا عنهم} بطلوا عند نزول العذاب {وذلك إفكهم} أَيْ: كذبهم وكفرهم يعني: قولهم: إنَّها تُقرِّبنا إلى الله

29

{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن} كانوا تسعة نفرٍ من الجنِّ من نينوى من أرض الموصل وذلك أنَّه عليه السَّلام أُمر أن يُنذر الجنَّ فصرف إليه نفرٌ منهم ليتسمعوا ويبلِّغوا قومهم {فلما حضروه} قال بعضهم لبعض: {أنصتوا} أَيْ: اسكتوا {فلما قضي} أَيْ: فرغ من تلاوة القرآن رجعوا {إلى قومهم منذرين} وقالوا لهم ما قصَّ الله في كتابه وقوله:

30

{قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم}

31

{يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم}

32

{ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين}

33

{ولم يعي بخلقهن} أَيْ: لمن يضعف عن إبداعهن

34

{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}

35

{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} أَيْ: ذوو الرَّأي والجدِّ وكلّهم أولو العزم إلاَّ يونس وقيل: هم أصحاب الشَّرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد منهم صلى الله عليه وسلم أجمعين {ولا تستعجل لهم} العذاب {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} من العذاب في الآخرة {لم يلبثوا} في الدُّنيا {إلاَّ ساعة من نهار} لهولِ ما عاينوا ونسوا قدره مكثهم في الدُّنيا {بلاغ} أَيْ: هذا القرآن بلاغٌ أَيْ: تبْليغٌ من الله تعالى إليكم على لسان محمَّد عليه السَّلام {فهل يهلك إلاَّ القوم الفاسقون} أَيْ: لا يُهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلاَّ الكافرون

سورة محمد

{الذين كفروا} أهل مكَّة {وصدوا عن سبيل الله} ومنعوا النَّاس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {أضلَّ أعمالهم} أحبطها فلا يرون في ألآخرة لها جزاءً وقوله:

2

{كفَّر عنهم سيئاتهم} أَيْ: سترها وغفرها لهم {وأصلح بالهم} أمرهم وحالهم

3

{ذلك} الإِضلال والتَّكفير لاتِّباع الكافرين الباطل وهو الشَّيطان واتِّباع المؤمنين الحقَّ وهو القرآن {كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} أَيْ: كالبيان الذي ذُكر يُبيِّن الله للنَّاس أمثال سيئات الكافرين وحسنات المؤمنين

4

{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} فاضربوا رقابهم أَيْ: فاقتلوهم {حتى إذا أثخنتموهم} أكثرتم فيهم القتل {فشدوا} وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم {فإمَّا منَّاً بعد} أَيْ: بعد أن تأسروهم إما منتم عليهم فأطلقتموهم وإمَّا أن تُفادوهم بمالٍ {حتى تَضَعَ الحرب أوزارها} أَيْ: اقتلوهم وأسروهم حتى لا يبقى كافر يقاتلكم فتسكن الحر وتنقطع وهو معنى قوله: {تضع الحرب أوزارها} أي: يضع أهلها آلة الحر من السِّلاح وغيره ويدخلوا في الإِسلام أو الذِّمَّة {ذلك} أَيْ: افعلوا ذلك الذي ذكرت {ولو يشاء الله لانتصر منهم} أهلكهم بغير قتالٍ {ولكن ليبلو بعضكم ببعض} يمحِّص المؤمنين بالجهاد ويمحق الكافرين {والذين قتلوا في سبيل الله} وهم أهل الجهاد

5

{سيهديهم} في الدُّنيا إلى الطَّاعات وفي الآخرة إلى الدَّرجات {ويصلح بالهم} أمر معاشهم

6

{ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم} بيَّن لهم مساكنهم فيها وعرَّفهم منازلهم

7

{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله} أَيْ: رسوله ودينه {ينصركم ويثبت أقدامكم} في مواطن القتال

8

{والذين كفروا فتعساً لهم} أَيْ: سقوطاً وهلاكاً {وأضلَّ أعمالهم} أبطلها لأنَّها كانت للشَّيطان ثمَّ توعَّدهم فقال:

9

{ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}

10

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قبلهم دمَّر الله عليهم وللكافرين أمثالها} أَيْ: أمثال تلك العاقبة التي كانت لمَنْ قبلهم

11

{ذلك} أَيْ: ذلك النَّصر للمؤمنين والهلاك للكافرين {بأنَّ الله مولى الذين آمنوا} وليُّهم وناصرهم {وأن الكافرين لا مولى لهم} لا ولي ينصرهم من الله

12

{والذين كفروا يتمتعون} في الدُّنيا {ويأكلون كما تأكل الأنعام} ليس لهم همَّةٌ إلاَّ بطونهم وفروجهم ثمَّ يصيرون إلى النَّار

13

{وكأين من قرية هي أشدُّ قوة من قريتك التي أخرجتك} يعني: مكَّة أخرجك أهلها {أهلكناهم} بتكذيبهم الرُّسل {فلا ناصر لهم}

14

{أفمن كان على بينة من ربه} وهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون {كمَنْ زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} وهم أبو جهل والكفَّار

15

{مثل} صفة {الجنَّة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسن} غير متغيِّرِ الرَّائحة {وأنهار من خمر لذة للشاربين} لذيذة

16

{ومنهم مَنْ يستمع إليك} يعني: المنافقين {حتى إذا خرجوا من عندك} كانوا يستمعون خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذاخرجوا سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً وإعلاماً أنَّهم لم يلتفتوا إلى ما قال يقولون: {ماذا قال آنفاً} أَيْ: الآن وقوله:

17

{وآتاهم تقواهم} أَيْ: ثواب تقواهم ويجوز أن يكون المعنى: وألهمهم تقواهم ووفَّقهم لها

18

{فهل ينظرون} ينتظرون {إلاَّ الساعة} القيامة {أن تأتيهم بغتة} أَيْ: هم في الحقيقة كذلك لأنَّه ليس الأمر إلاَّ أن تقوم عليهم السَّاعة بغتةً {فقد جاء أشراطها} علاماتها من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وغيره {فأنى لهم إذا جاءتهم} السَّاعة {ذكراهم} أَيْ: فمن أين لهم أن يتذكَّروا أو يتوبوا بعد مجيء السَّاعة

19

{فأعلم أنه لا إله إلاَّ الله} أَيْ: فاثبت على ذلك من علمك {والله يعلم متقلبكم} مُتصرِّفكم في أعمالكم وأشغالكم وقيل: مُتقلَّبكم من الأصلاب إلى الأرحام {ومثواكم} مرجعكم في الدُّنيا والآخرة

20

{ويقول الذين آمنوا} حرصاً منهم على الوحي إذا استبطؤوه: {لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة} غير منسوخةٍ {وذكر فيها} فُرِضَ {القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض} أَيْ: المنافقين {ينظرون إليك} شررا {نظر المغشي عليه من الموت} كنظر مَنْ وقع في سكرات الموت كراهة منهم للقتال {فأولى لهم}

21

{طاعة وقول معروف} أَيْ: لو أطاعوا وقالوا لك قولاً حسناً كان ذلك أولى {فإذا عزم الأمر} أَيْ: جدَّ الأمرُ ولزم فرض القتال {فلو صدقوا الله} في الإِيمان والطَّاعة {لكان خيراً لهم}

22

{فهل عسيتم إن توليتم} أَيْ: لعلَّكم إن أعرضتم عمَّا جاء به محمد عليه السَّلام أن تعودوا إلى أمر الجاهليَّة فيقتل بعضكم بعضاً وهو قوله: {أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} أَيْ: بالبغي والظلم والقتل

23

{أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}

24

{أفلا يتدبرون القرآن} فيتَّعظوا بمواعظه {أم على قلوبٍ أقفالها} فليس تفهمها

25

{إنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} يعني: كفَّار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه {الشيطان سول لهم} زيَّن لهم {وأملى لهم} أطال لهم الأمل

26

{ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله} يعني: المشركين {سنطيعكم في بعض الأمر} في التَّظاهر على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم

27

{فكيف} أَيْ: فكيف يكون حالهم {إذا توفتهم الملائكة}

28

{ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}

29

{أم حسب الذين في قلوبهم مرض} وهم المنافقون {أن لن يخرج الله أضغانهم} لن يظهر الله أحقادهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين

30

{ولو نشاء لأريناكهم} لعرفناكم {فلعرفتهم بسيماهم} بعلامتهم {ولتعرفنهم في لحن القول} في معنى كلامهم إذا تكلَّموا معك

31

{ولنبلونكم} بالجهاد {حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} العلم الذين يقع به الجزاء {ونبلو أخباركم} أَيْ: ونكشف ما تُسرُّون

32

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم}

33

{ولا تبطلوا أعمالكم} أَيْ: بالمنِّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامكم

34

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم}

35

{وتدعوا إلى السلم} أَيْ: لا توادعوهم ولا تتركوا قتالهم حتى يُسلموا لأنَّكم الأعلون ولا ضعف بكم فتدعوا إلى الصُّلح {والله معكم} بالنُّصرة {ولن يتركم أعمالكم} لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم وقوله:

36

{ولا يسألكم أموالكم} أَيْ: لا يسألكم محمَّد عليه السَّلام أموالكم أجراً على تبليغ الرِّسالة

37

{إن يسألكموها فيحفكم} يجهدكم بالمسألة {تبخلوا ويخرج أضغانكم} ويظهر عداوتكم لأنَّ في مسألة المال ظهور العداوة والحق

38

{ها أنتم هؤلاء} يا هؤلاء {تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم مَنْ يبخل} بالصدفة {ومَنْ يبخل فإنما يبخل عن نفسه} لأنَّ له ثواب ما أعطي فإذا لم يعط لم يستحقَّ الثَّواب {والله الغنيُّ} عن صدقاتكم {وأنتم الفقراء} إليها في الآخرة {وإن تتولوا} عن الرَّسول {يستبدل قوماً غيركم} أطوع منكم وهم فارس {ثم لا يكونوا} في الطَّاعة {أمثالكم} بل يكونوا أطوع منكم وهذا الخطاب للعرب

سورة الفتح

{إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} حكمنا لك بإظهار دينك والنُّصرة على عدوِّك وفتحنا لكم أمر الدِّين

2

{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} ما علمت في الجاهليَّة {وما تأخَّر} ممَّا لم تعمله وقيل: ما تقدَّم من ذنبك يعني: ذنب أبويك آدم وحوَّاء ببركتك وما تأخَّر من ذنوب أُمَّتك بدعوتك {ويتم نعمته عليك} بالنبوة والحكمة {ويهديك صراطاً مستقيماً} أَيْ: يُثبِّتك عليه

3

{وينصرك الله نصرا عزيز} ذا عزٍّ لا يقع معه ذلٌّ

4

{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين} اليقين والطُّمأنينة {ليزدادوا إيماناً} بشرائع الدِّين {مع إيمانهم} تصديقهم بالله وبرسله وقوله:

5

{ليدخل الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما}

6

{الظانين بالله ظنَّ السوء} يظنُّون أن لن ينصر الله محمَّداً والمؤمنين {عليهم دائرة السوء} بالذُّلَّ والعذاب أَيْ: عليهم يدور الهلاك والخزي

7

{ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما}

8

{إنا أرسلناك شاهدا} على أُمَّتك يوم القيامة {ومبشراً} بالجنَّة مَنْ عمل خيراً {ونذيراً} منذراً بالنَّار مَنْ عمل سوءً

9

{وتعزروه} أَيْ: تنصروه {وتوقروه} وتعظِّموه

10

{إنَّ الذين يبايعونك} بالحديبية {إنما يبايعون الله} أَيْ: أخذك عليهم البيعة عقدُ الله عليهم {يد الله فوق أيديهم} نعمة الله علهيم فوق ما صنعوا من البيعة {فمن نكث} نقض البيعة {فإنما ينكث على نفسه} فإنما يضرُّ نفسه بذلك النَّكث

11

{سيقول لك المخلفون من الأعراب} الآية لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكَّة عام الحديبية استنفر مَنْ حول المدينة من الأعراب حذراً من قريش أن يعرضوا بحرب فتثاقلوا عنه وخافوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنفسهم فأنزل الله تعالى: {سيقول لك المخلفون} الذين خلَّفهم الله عن صحبتك إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم عن التَّخلُّف: {شغلتنا} عن الخروج معك {أموالنا وأهلونا} أَيْ: ليس لنا مَنْ يقوم فيها إذا خرجنا {فاستغفر لنا} تركنا الخروج معك ثمَّ كذَّبهم الله تعالى في ذلك العذر فقال: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} الآية

12

{بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً} وذلك أنَّهم قالوا: إنَّ محمداً وأصحابه أكلة رأس أًيْ: قليلو العدد وأنهم لا لا يرجعون من هذا الوجه أبداً فقال الله تعالى: {وظننتم ظنَّ السوء وكنتم قوماً بُوْراً} هالكين عند الله تعالى بهذا الظن

13

{ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا}

14

{ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفوراً رحيماً}

15

{سيقول المخلفون} يعني: هؤلاء: {إذا انطلقتم إلى مغانم} يعني: عنائم خيبر {ذرونا نتبعكم} إلى خيبر فنشهد معكم {يريدون أن يبدلوا كلام الله} يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية وذلك أنَّ الله تعالى حكم لهم بغنائم خيبر دون غيرهم {قل لن تتبعونا} إلى خيبر {كذلكم قال الله من قبل} أَيْ: من قبل مرجعنا إليكم إنَّ غنيمة خيبر لمّنْ شهد الحديبية دون غيرهم {فسيقولون بل تحسدوننا} أن نصيب معكم من الغنائم

16

{قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم} إلى قتال قوم {أولي بأس شديد} وهم فارس والرُّوم وقيل: بنو حنيفة أصحاب اليمامة {تقاتلونهم أو يسلمون} يعني: أو هم يسلمون أصحاب مسيلمة الكذاب فيترك قتالهم {فإن تطيعوا} مَنْ دعاكم إلى قتالهم {يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل} عام الحديبية يعني: نافقتم وتركتم الجهاد {يعذِّبكم عذاباً أليماً} ثم ذكر أهل العُذر في التَّخلُّف عن الجهاد فقال:

17

{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حرج ولا على المريض حرج} الآية ثمَّ ذكر خبر مَنْ أخلص نيَّته فقال:

18

{لقد رضي الله عن المؤمنين} وكانوا ألفاً وأربعمائة {إذ يبايعونك} بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ولا يفرُّوا {تحت الشجرة} يعني: سمرة كانت هنالك وهذه البيعة تسمَّى بيعة الرِّضوان {فعلم ما في قلوبهم} من الإِخلاص والوفاء {فأنزل} الله {السكينة عليهم} وهي الطُّمأنينة وثلج الصدر بالنُّصرة من الله تعالى لرسوله {وأثابهم فتحاً قريباً} أَيْ: فتح خيبر

19

{ومغانم كثيرة يأخذونها} يعني: عقار خيبر وأموالها

20

{وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها} وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة {فعجَّل لكم هذه} يعني: خيبر {وكفَّ أيدي الناس عنكم} لما خرجوا وخلفوا عيالهم بالمدينة حفظ الله عليهم عيالهم وقد همَّت اليهود بهم فقذف الله في قلوبهم الرُّعب فانصرفوا {ولتكون} هزيمتهم وسلامتكم {آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً} يعني: طريق التَّوكُّل وتفويض الأمر إلى الله سبحانه في كلِّ شيء

21

{وأخرى} أَيْ: ومغانم أخرى {لم تقدروا عليها} يعني: فارس والرُّوم {قد أحاط الله بها} علم أنَّه يفتحها لكم

22

{ولو قاتلكم الذين كفروا} أَيْ: أهل مكَّة لو قاتلوكم عام الحديبية {لولوا الأدبار} لانهزموا عنك ولنصرت عليهم

23

{سنة الله} كسنَّة الله في النُّصرة لأوليائه

24

{وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} مَنَّ الله سبحانه على المؤمنين بما أوقع من صلح الحديبية فكفَّهم عن القتال بمكَّة وذكر حُسن عاقبة ذلك في الآية الثَّانية وقوله: {من بعد أن أظفركم عليهم} وذلك أنَّ رجالاً من قريش طافوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العام ليصيبوا منهم فأُخذوا وأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم وكان ذلك سبب الصُّلح بينهم

25

{هم الذين كفروا} يعني: أهل مكَّة {وصدوكم عن المسجد الحرام} منعوكم من زيارة البيت {والهدي} ومنعوا الهدي {معكوفاً} محبوساً {أن يبلغ محله} منحره وكانت سبعين بدنةً {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} بمكَّة {لم تعلموهم أن تطئوهم} أَيْ: لولا أن تطؤوهم في القتال لأنَّكم لم تعلموهم مؤمنين وهو قوله: {بغير علم} {فتصيبكم منهم معرَّة} كفَّارةٌ وعارٌ وعيبٌ من الكافرين يقولون: قتلوا أهل دينهم {ليدخل الله في رحمته} دينه الإِسلام {مَنْ يشاء} من أهل مكَّة قبل أن يدخلوها {لو تزيلوا} تميَّز عنهم هؤلاء المؤمنين {لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} لأنزلنا بهم ما يكون عذاباً لهم أليماً بأيديكم

26

{إذْ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية} حين صدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} أَيْ: الوقار حين صالحوهم ولم تأخذهم من الحمية ما أخذهم فيلجُّوا ويقاتلوا {وألزمهم كلمة التقوى} توحيد الله والإيمان به وبرسوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل: يعني: بسم الله الرحمن الرحيم أبى المشركون أن يقبلوا هذا لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاب الصُّلح بينهم وقالوا: اكتب باسمك اللَّهم فقال الله تعالى: {وكانوا أحقَّ بها وأهلها} أي: المؤمنين لأنَّ الله اختارهم للإيمان وكانوا أحقَّ بكلمة التَّقوى من غيرهم

27

{لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رأى في منامه قبل خروجه عام الحديبية كأنَّه وأصحابه يدخلون مكَّة مُحلِّقين ومُقصِّرين غير خائفين فلمَّا خرج عام الحديبية كانوا قد وطنوا أنفسهم على دخول مكَّة لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا صدُّوا عن البيت راب بعضهم ذلك فأخبر الله تعالى أنَّ تلك الرُّؤيا صادقةٌ وأنَّهم يدخلونها إٍن شاء الله آمنين وقوله: {فعلم ما لم تعلموا} علم الله تعالى أنًّ الصَّلاح كان في ذاك الصُّلح ولم تعلموا ذلك {فجعل من دون ذلك} أَيْ: من دون دخولكم المسجد {فتحاً قريباً} وهو صلح الحديبية ولم يكن فتحٌ في الإسلام كان أعظم من ذلك لأنَّه دخل في الإسلام في تلك السِّنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر وقيل: يعني: فتح خيبر

28

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ليظهره على الدين كله} ليجعل دين الحقِّ ظاهراً على سائر الأديان عالياً عليها {وكفى بالله شهيداً} أنَّك مرسلٌ بالحقِّ ثمَّ حقَّق الله تلك الشَّهادة وبيَّنها فقال:

29

{محمد رسول الله والذين معه} من المؤمنين {أشداء} غلاظٌ {على الكفار رحماء بينهم} متوادُّون متعاطفون {تراهم ركعاً سجداً} في صلواتهم {يبتغون فضلاً من الله} أن يدخلهم الجنَّة {ورضواناً} أن يرضى عنه {سيماهم} علامتهم {في وجوههم من أثر السجود} يعني: نوراً وبياضاً في وجوههم يوم القيامة يُعرفون بذلك النُّور أنَّهم سجدوا في دار الدُّنيا لله تعالى {ذلك مثلهم} صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} فراخه ونباته {فآزره} قوَّاه وأعانه أيْ: قوَّى الشَّطأ الزَّرع كما قوَّى أمر محمَّد وأصحابه والمعنى: أنَّهم يكونون قليلاً ثمَّ يكثرون وهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيِّه عليه السَّلام إذ خرج وحده فأيَّده بأصحابه كما قوَّى الطَّاقة من الزرع بما ينبت حوله {فاستغلظ} فَغَلُظَ وقوِيَ {فاستوى} ثمَّ تلاحق نباته وقام على {سوقه} جمع ساق {يعجب الزراع} بحسن نباته واستوائه {ليغيظ بهم الكفار} فعل الله تعالى ذلك بمحمَّد وأصحابه ليغيظ بهم أهل الكفر {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم} أَيْ: من أصحاب محمد عليه السَّلام {مغفرة وأجراً عظيماً}

سورة الحجرات

{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} أَيْ: لا تُقدِّموا خلاف الكتاب والسُّنَّة وقيل: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيُّ عليه السَّلام في الأضحى وقيل: لا تصوموا قبل صومه نزلت في النَّهي عن صوم يوم الشَّكِّ والمعنى: لا تسبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ حتى يكون هو الذي يأمركم به {واتقوا الله} في مخالفة أمره {إنَّ الله سميع} لأقوالكم {عليم} بأحوالكم

2

{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ} نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس وكان جهوريَّ الصَّوت وربَّما كان يُكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته فأمره بغضِّ الصَّوت عند مخاطبته {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} لا تُنزِّلوه منزلة بعضكم من بعضٍ فتقولوا: يا محمد ولكن خاطبوه بالنبوَّة والسَّكينة والإِعظام {أن تحبط أعمالكم} كي لا تبطل حسناتكم {وأنتم لا تشعرون} أنَّ خطابه بالجهر ورفع الصَّوت فوق صوته يُحبط العمل فلمَّا نزلت هذه الآية خفض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صوتهما فما كلَّما النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ كأخي السِّرار فأنزل الله تعالى:

3

{إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} أَيْ: اختبرها وأخلصها للتَّقوى

4

{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} نزلت في وفد تميمٍ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفاخروه فنادوا على الباب: يا محمَّد اخرج إلينا فإنَّ مدحنا زينٌ وإنَّ ذمنا شينٌ فقال الله تعالى: {أكثرهم لا يعقلون} أَيْ: إنَّهم جهَّال ولو عقلوا لما فاخر رسول الله صلى الله عليه وسلم

5

{ولو أنَّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} من إيذائهم إيَّاك بالنِّداء على بابك {والله غفور رحيم} لمن تاب منهم

6

{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ} نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصَّدِّقاً إلى قومٍ كانت بينه وبينهم تِرةٌ في الجاهليَّة فخاف أن يأتيهم وانصرف من الطَّريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنَّهم منعوا الصَّدقة وقصدوا قتلي ذلك قوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} أَيْ: فاعلموا صدقه من كذبه {أن تصيبوا} لئلا تصيبوا {قوماً بجهالة} وذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم همَّ أن يغزوهم حتى تبيَّن له طاعتهم

7

{واعلموا أنَّ فيكم رسول الله} فلا تقولوا الباطل فإنَّ الله يخبره {لو يطيعكم في كثير من الأمر} لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له {لعنتم} لائمتم ولهلكتم {ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمان} فأنتم تطيعون الله ورسوله فلا تقعون في العنت يعني بهذا: المؤمنين المخلصين ثمَّ أثنى عليهم فقال: {أولئك هم الراشدون}

8

{فضلاً من الله} أَيْ: الفضل من الله عليهم

9

{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} نزلت في جمعين من الأنصار كان بينهما قتالٌ بالأيدي والنِّعال {فأصلحوا بينهما} بالدُّعاءِ إلى حكم كتاب الله فإن بغت إحداهما على الأخرى أَيْ: تعدَّت إحداهما على الأخرى وعدلت عن الحقِّ {فقاتلوا} الباغية حتى ترجع إلى أمر الله في كتابه {فإن فاءت} رجعت إلى الحقِّ {فأصلحوا بينهما} بحملهما على الإِنصاف {وأقسطوا} وأعدلوا {إنَّ الله يحب المقسطين}

10

{إنما المؤمنون أخوة} في الدين والولاية {فأصلحوا بين أخويكم} إذا اختلفا واقتتلا {واتقوا الله} في إصلاح ذات البين {لعلكم ترحمون} كي ترحموا به

11

{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} الآية نهى الله تعالى المؤمنين والمؤمنات أن يسخر بعضهم من بعض {عسى أن يكونوا} أَيْ: المسخور منه {خيراً منهم} من السَّاخر ومعنى السُّخرية ها هنا الازدارء والاحتقار {ولا تلمزوا أنفسكم} لا يعب بعضكم بعضاً {ولا تنابزوا بالألقاب} وهو أن يُدعى الرَّجل بلقبٍ يكرهه نهى الله تعالى عن ذلك {بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان} يعني: إنَّ السُّخرية واللَّمز والتَّنابز فسوقٌ بالمؤمنين وبئس ذلك بعد الإِيمان

12

{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنَّ بعض الظن إثم} وهو أنْ يظنَّ السُّوء بأهل الخير وبمن لا يُعلم منه فسقٌ {ولا تجسسوا} لا تطلبوا عورات المسلمين ولا بتحثوا عن معايبهم {ولا يغتب بعضكم بعضاً} لا تذكروا أحدكم بشيءٍ يكرهه وإن كان فيه ذلك الشَّيء {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً} يعني: إن ذكراك أخاك على غيبةٍ بسوءٍ كأكل لحمه وهو ميِّت لا يحسُّ بذلك {فكرهتموه} إنْ كرهتم أكل لحمه ميتاً فاكرهوا ذكره بسوءٍ

13

{يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى} أَيْ: كلُّكم بنو أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ فلا تفاضل بينكم في النَّسب {وجعلناكم شعوباً} وهي رؤوس القبائل كربيعة ومضر {وقبائل} وهي دون الشُّعوب كبكر من ربيعة وتميم من مضر {لتعارفوا} ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النَّسب وبعده لا لتتفاخروا بها ثمَّ أعلم أنَّ أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم فقال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الآية

14

{قالت الأعراب آمنا} نزلت في نفرٍ من بني أسدٍ قدموا المدينة في سنة جدبة بذرايهم وأظهروا كلمة الشَّهادة ولم يكونوا مؤمنين في السِّرِّ فقال الله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} أَيْ: لم تُصدِّقوا الله ورسوله بقلوبكم ولكن أظهرتم الطَّاعة مخافة القتل والسَّبي {ولما يدخل الإِيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله} ظاهراً وباطناً {لا يلتكم} لا ينقصكم {من} ثواب {أعمالكم شيئاً} الآية ثمَّ بيَّن حقيقة الإيمان والمؤمن فقال:

15

{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} أَيْ هؤلاء هم الذين صدقوا في إيمانهم لا مَنْ أسلم خوف السَّيف ورجاء المنفعة فلمَّا نزلت الآيتان جاءت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا بالله أنَّهم مؤمنون وعلم الله غير ذلك منهم فأنزل الله تعالى:

16

{قل أتعلمون الله بدينكم} الآية أيْ: أَتُعَلِّمونه بما أنتم عليه وهو يعلم ذلك

17

{يمنون عليك أن أسلموا} وذلك أنَّهم كانوا يقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالعيال والأثقال طوعاً ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلانٍ فأعطنا فقال الله تعالى: {قل لا تمنوا عليَّ} وقوله: {إن كنتم صادقين} أنَّكم مؤمنون أَيْ: لله المنَّةُ إن صدقتم في إيمانكم لا لكم

18

{إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون}

سورة ق

{ق} قُضي ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة {والقرآن المجيد} الكبير القدر والكثير الخير

2

{بل عجبوا} يعني: كفَّار مكَّة {أن جاءهم منذر منهم} محمدٌ عليه السَّلام وهم يعرفون نسبه وأمانته {فقال الكافرون هذا شيء عجيب} يعني: هذا الإنكار الذي ينذرنا

3

{أإذا متنا وكنا تراباً} نُبعث؟ وهذا استفهامُ إنكارٍ وجوابه محذوفٌ ثمَّ انكروا ذلك أصلاً فقالوا: {ذلك} أَيْ: البعث {رجع بعيد} ردٌّ لا يكون قال الله تعالى:

4

{قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} ما تأكل من لحومهم {وعندنا كتاب حفيظ} أي: اللَّوح المحفوظ من أن يدرس ويتغيَّر وفيه جميع الأشياء المقدَّرة

5

{بل كذَّبوا بالحق} أَيْ: بالقرآن {لما جاءهم فهم في أمرٍ مريج} مُلتبسٍ عليهم مرَّةً يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ساحرٌ ومرَّةً: شاعرٌ ومرَّةً: مُعلَّمٌ ثمَّ دلَّهم على قدرته فقال:

6

{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} شقوق وقوله:

7

{من كلِّ زوج بهيج} أَيْ: من كلِّ لونٍ حسنٍ

8

{تبصرة} فعلنا ذلك تبصيراً ودلالةً على قدرتنا {لكلِّ عبد منيب} يرجع إلى الله تعالى فيتفكَّر في قدرته وقوله:

9

{وحبَّ الحصيد} أَيْ: ما يُقتات من الحبوب

10

{والنخل باسقات} طوالاً {لها طلع نضيد} ثمرٌ متراكبٌ

11

{رزقاً للعباد} أَيْ: آتينا هذا الأشياء للرِّزق {وأحيينا به} بذلك الماء {بلدة ميتاً كذلك الخروج} من القبور وقوله:

12

{كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود}

13

{وعاد وفرعون وإخوان لوط}

14

{وقوم تبع} وهو ملكٌ كان باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإِسلام فكذَّبوه وقوله: {فحقَّ وعيد} وجب عليهم العذاب

15

{أفعيينا بالخلق الأول} أَيْ: أعجزنا عنه حتى تعيى بالإعادة {بل هم في لبس} شكٍّ {من خلق جديد} أَيْ: البعث

16

{ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} يحدثه قلبه {ونحن أقرب إليه} بالعلم {من حبل الوريد} وهو عرقٌ في العنق

17

{إذ يتلقى المتلقيان} أَيْ: المَلكان الحافظان يتلقَّيان ويأخذان ما يعمله الإنسان فيثبتانه {عن اليمين وعن الشمال قعيد} قاعدان على جانبيه

18

{ما يلفظ} يتكلَّم {من قول إلاَّ لديه رقيب} حافظٌ {عتيد} حاضر

19

{وجاءت سكرة الموت} أَيْ: غمرته وشدَّته {بالحق} أَيْ: من أمر الآخرة حتى يراه الإنسان عياناً {ذلك ما كنت منه تحيد} أي: تهرب وتروغ يعني: الموت

20

{ونفخ في الصور} أَيْ: نفخة البعث {ذلك يوم الوعيد} الذي يُوعد الله به الكفَّار

21

{وجاءت كلُّ نفس} إلى المحشر {معها سائق} من الملائكة يسوقها {وشهيد} شاهدٌ عليها بعملها وهو الأيدي والأرجل فيقول الله تعالى:

22

{لقد كنت في غفلة من هذا} اليوم {فكشفنا عنك غطاءك} فخلينا عنك سترك حتى عاينته {فبصرك اليوم حديد} فعلمك بما أنت فيه نافذٌ

23

{وقال قرينه} أَيْ: المَلك الموَّكل به: {هذا ما لديَّ عتيد} هذا الذي وكَّلتني به قد أحضرته فأحضرت ديوان أعماله فيقول الله للملَكين الموكَّلين بالإِنسان:

24

{ألقيا في جهنم كلَّ كفار عنيد} عاصٍ مُعرضٍ عن الحقِّ

25

{مناع للخير} للزَّكاة المفروضة وكلِّ حقٍّ في ماله {معتد} ظالمٍ {مريب} شاكٍّ

26

{الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد}

27

{قال قرينه} من الشَّياطين: {ربنا ما أطغيته} ما أظللته {ولكن كان في ضلال بعيد} أَيْ: إنَّما طغى هو بضلاله وإنَّما دعوته فاستجاب لي كما قال في الإخبار عن الشَّيطان: {إلاَّ أنْ دعوتُكم فاستجبتُمْ لي} فحينئذٍ يقول الله:

28

{لا تختصموا لدي وقد قدَّمت إليكم بالوعيد} حذَّرتكم العقوبة في الدُّنيا على لسان الرُّسل

29

{ما يبدل القول لدي} لا تبديل لقولي ولا خلف لوعدي {وما أنا بظلام للعبيد} فأعاقب بغير جرم

30

{يوم نقول لجهنم هل امتلأت} وهذا استفهامُ تحقيقٍ وذلك أنَّ الله عزَّ وجل وعدها أن يملأها فلمَّا ملأها قال لها: {هل امتلأت وتقول هل من مزيد} أَيْ: هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلىء أيْ قد امتلأت

31

{وأزلفت الجنة} أُدنيت الجنَّة {للمتقين} حتى يروها {غير بعيد} منهم ويقال لهم:

32

{هذا ما توعدون لكلِّ أواب} رجاع إلى الله بالطًّاعة {حفيظ} حافظ لأمر الله

33

{من خشي الرحمن بالغيب} خاف الله ولم يره {وجاء بقلب منيب} مقبلٍ إلى طاعة الله يقال لهم:

34

{ادخلوها بسلام} بسلامةٍ من العذاب {ذلك يوم الخلود} لأهل الجنَّة فيها

35

{لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد} زيادةٌ ممَّا لم يخطر ببالهم وقيل: هو الرُّؤية

36

{وكم أهلكنا قبلهم} قبل أهل مكَّة {من قرنٍ} جماعةٍ من النَّاس {هم أشدُّ منهم بطشاً فَنَقَّبوا} طوفوا في البلاد وفتشوا فلم يريوا محيصاً من الموت

37

{إن في ذلك} الذي ذكرت {لذكرى} لعظةً وتذكيراً {لمن كان له قلب} أَيْ: عقلٌ {أو ألقى السمع} أَيْ: استمع القرآن {وهو شهيد} حاضر القلب وقوله:

38

{وما مسنا من لغوب} أَيْ: وما أصابنا تعبٌ وإعياءٌ وهذا ردٌّ على اليهود في قولهم: إنَّ الله تعالى استراح يوم السَّبت

39

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} صل لله {قبل طلوع الشمس} أَيْ: صلاة الفجر {وقبل الغروب} صلاة الظهر والعصر

40

{ومن الليل فسبحه} أَيْ: صلاتي العشاء {وأدبار السجود} أَيْ: الرَّكعتين بعد المغرب

41

{واستمع} يا محمد {يوم يناد المناد} وهو إسرافيل عليه السَّلام يقول: أيَّتها العظام البالية واللُّحوم المُتمزِّقة إنَّ الله يأمركن أن تتجمعن لفصل القضاء {من مكان قريب} من السِّماء وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضعٍ من الأرض إلى السَّماء

42

{يوم يسمعون الصيحة بالحق} أَيْ: نفخة البعث {ذلك يوم الخروج} من القبور

43

{إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير}

44

{يوم تشقق الأرض عنهم} فيخرجون {سراعاً}

45

{وما أنت عليهم بجبار} بمسلِّطٍ يجبرهم على الإسلام وهذا قبل أن يوم بالقتال {فذكِّر} فعظ {بالقرآن مَنْ يخاف وعيد}

سورة الذاريات

{والذاريات ذرواً} أي: الرِّياح التي تذرو التُّراب

2

{فالحاملات وقراً} وهي السَّحاب تحمل الماء

3

{فالجاريات يسراً} السُّفن تجري في البحر بيسرٍ {فالمقسمات أمراً} الملائكة تأتي بأمرٍ مختلف من الخصب والخصب والجدب والمطر والحوادث

4

{فالمقسمات أمرا}

5

{إنما توعدون} من الخير والشَّرِّ والثَّواب والعقاب {لصادق} أقسم الله بهذه الأشياء على صدق وعده

6

{وإنَّ الدين} الجزاء على الأعمال {لواقع} لكائنٌ

7

{والسماء ذات الحبك} الخَلْق الحسن

8

{إنكم} يا أهل مكَّة {لفي قول مختلف} في أمر النبي صلى الله عليه وسلم

9

{يؤفك عنه} يُصرف عن الإيمان به {مَنْ أفك} صُرف عن الخير

10

{قتل الخراصون} لُعن الكذَّابون يعني: المُقتسمين

11

{الذين هم في غمرة} غفلةٍ {ساهون} لاهون

12

{يسألون أيان يوم الدين} متى يوم الجزاء؟ استهزاءً منهم قال الله تعالى:

13

{يوم هم على النار يفتنون} أي: يقع الجزاء يوم هم على النار يُفتنون يُحرَّقون ويُعذَّبون وتقول لهم الخزنة:

14

{ذوقوا فتنتكم} عذابكم {هذا الذي كنتم به تستعجلون} في الدُّنيا

15

{إنَّ المتقين في جنات وعيون}

16

{آخذين ما آتاهم ربهم} من الثَّواب والكرامة {إنهم كانوا قبل ذلك} قبل دخولهم الجنَّة {محسنين}

17

{كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} كانوا ينامون قليلا من الليل

18

{وبالأسحار هم يستغفرون}

19

{وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} وهو الذي لا يسأل الناس ولا يكسب

20

{وفي الأرض آيات} دلالاتٌ على قدرة الله تعالى ووحدانية {للموقنين}

21

{وفي أنفسكم} أيضاً آياتٌ من تركيب الخلق وعجائب ما في الآدمي من خلقه {أفلا تبصرون} ذلك

22

{وفي السماء رزقكم} أَي: الثَّلج والمطر الذي هو سبب الرِّزق والنَّبات من الأرض {وما توعدون} ما ابتداء وخبره محذوف على تقدير: وما توعدون من البعث والثَّواب والعقاب حقٌّ ودلَّ على هذا المحذوف قوله:

23

{فوربِّ السماء والأرض إنَّه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون} أَيْ: كما أنَّكم تتكلَّمون أي: إنَّه معلومٌ بالدَّليل كما إِنَّ كلامكم إذا تكلّمتم معلومٌ لكم ضرورة أنكم تتكلمون ومثل رفع لأنَّه صفةٌ لقوله: لحق ومَنْ نصب أراد: إنَّه لحقّ حقاً مثلَ ما أنّكم تنطقون

24

{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} بأن خدمهم بنفسه

25

{إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً} سلَّموا سلاماً {قال سلامٌ} عليكم {قوم منكرون} أي: أنتم قوم لا نعرفكم

26

{فراغ} فعدل ومال {إلى أهله} وقوله:

27

{فقربه إليهم قال ألا تأكلون}

28

{فأوجس منهم خيفة} أَيْ: وقع في نفسه الخوف منهم وقوله:

29

{فأقبلت امرأته في صرَّة} أَيْ: أخذت تصيح بشدَّةٍ {فَصَكَّتْ} لطمت {وجهها وقالت} : أنا {عجوز عقيم} فكيف ألد؟

30

{قالوا كذلك} كما اخبرناك {قال ربك} أي: نخبرك عن الله لا عن أنفسنا {إنَّه هو الحكيم العليم} يقدر أن يجعل العقيم ولوداً فلمَّا قالوا ذلك علم إبراهيم أنَّهم رسلٌ وأنَّهم ملائكة صلوات الله عليهم

31

الجزء السابع والعشرين: {قال: فما خطبكم} أي: ما شأنكم وفيمَ أُرسلتم؟

32

{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} يعنون قوم لوط

33

{لنرسل عليهم حجارة من طين} يعني: السِّجيل

34

{مسوَّمة عند ربك للمسرفين} مًعلَّمة على كلِّ حجرٍ منها اسم مَنْ يهلك به

35

{فأخرجنا مَنْ كان فيها} يعني: من قرى قوم لوط {من المؤمنين}

36

{فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} يعني: بيت لوطٍ عليه السَّلام

37

{وتركنا فيها} بأهلاكهم {آية} علامة للخائفين تدلُّ على أنَّ الله أهلكهم

38

{وفي موسى} عطفٌ على قوله: وفي الأرض {إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين} بحجَّةٍ واضحةٍ

39

{فتولى} فأعرض عن الإيمان {بركنه} مع جنوده وما كان يتقوَّى به وقوله:

40

{وهو مليم} أَيْ: أتى ما يُلام عليه

41

{وفي عاد} أيضاً آيةٌ {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} وهي التي لا بركة فيها ولا تأتي بخيرٍ

42

{ما تذر من شيء أتت عليه إلاَّ جعلته كالرميم} كالنَّبت الذي قد تحطَّم

43

{وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين} إلى فناء آجالكم

44

{فعتوا عن أمر ربهم} عصوه {فأخذتهم الصاعقة} العذاب المهلك

45

{فما استطاعوا من قيام} أي: أن يقوموا بعذاب الله {وما كانوا منتصرين} أي: لم ينصرهم أحدٌ علينا

46

{وقوم نوح} وأهلكنا قوم نوحٍ قبل هؤلاء

47

{والسماء بنيناها بأيدٍ} بقوَّةٍ {وإنا لموسعون} لقادرون وقيل: جاعلون بين السَّماء والأرض سعةً

48

{والأرض فرشناها} مهَّدناها لكم {فنعم الماهدون} نحن

49

{ومن كل شيء خلقنا زوجين} صنفين كالذَّكر والأنثى والحلو والحامض والنُّور والظُّلمة {لعلكم تذكرون} فتعلموا أنَّ خالق الأزواج فردٌ

50

{ففروا} من عذاب الله إلى طاعته

51

{ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين}

52

{كذلك} كما أخبرناك {ما أتى الذين من قبلهم} من قبل أهل مكَّة {من رسول إلاَّ قالوا ساحرٌ أو مجنون}

53

{أتواصوا به} أوصى بعضهم بعضاً بالتَّكذيب والألف للتَّوبيخ {بل هم قوم طاغون} عاصون

54

{فتولًّ عنهم فما أنت بملوم} لأنَّك بلغت الرِّسالة

55

{وذكر} ذكِّرهم بأيَّام الله {فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين}

56

{وما خلقت الجن والإِنس إلاَّ ليعبدون} أي: إلاَّ لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها وقيل: أراد المؤمنين منهم وكذا هو في قراءة ابن عباس: وما خلقت الجن والإِنس من المؤمنين إلاَّ ليعبدون {ما أريد منهم من رزق} أن يرزقوا أنفسهم أو أحداً من عبادي {وما أريد أن يطعمون} لأنِّي أنا الرَّزَّاق والمُطعم وقوله:

57

{ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون}

58

{المتين} أي: المُبالغ في القُوَّة

59

{فإنَّ للذين ظلموا} أَيْ: أهل مكَّة {ذنوباً} نصيباً من العذاب {مثل ذنوب} نصيب {أصحابهم} الذين هلكوا {فلا يستعجلون} إنْ أخَّرتهم إلى يوم القيامة

60

{فويلٌ للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} من يوم القيامة

سورة الطور

{والطور} أقسم الله تعالى بالجبل الذي كلَّم عليه موسى وهو جبلٌ بمدين اسمه زبير

2

{وكتاب مسطور} مكتوبٍ

3

{في رقّ} وهو الجلد الذي يكتب فيه {منشور} مبسوطٍ أَيْ: دواوين الحفظة التي أثبتت فيها أعمال بني آدم

4

{والبيت المعمور} وهو بيتٌ في السَّماء بإزاء الكعبة تزوره الملائكة

5

{والسقف المرفوع} أي: السَّماء

6

{والبحر المسجور} المملوء

7

{إنَّ عذاب ربك لواقع} لنازلٌ كائن

8

{ما له من دافع}

9

{يوم تمور السماء موراً} تتحرَّك وتضطرب وتدور يعني: يوم القيامة

10

{وتسير الجبال سيرا}

11

{فويل يومئذ للمكذبين}

12

{الذين هم في خوض} باطلٍ {يلعبون} أي: تشاغلهم بكفرهم

13

{يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً} يُدفعون إليها دفعاً عنيفاً ويقال لهم:

14

{هذه النار التي كنتم بها تكذبون}

15

{أفسحر هذا} الذي ترون {أم أنتم لا تبصرون} وهذا توبيخٌ لهم والمعنى: أتصدِّقون الآن عذاب الله وقوله:

16

{اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون}

17

{إنَّ المتقين في جنات ونعيم}

18

{فاكهين بما آتاهم ربهم} أي: معجبين به

19

{كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون}

20

{متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين}

21

{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} يريد: إنَّه يلحق الأولاد بدرجة الآباء في الجنَّة إذا كانوا على مراتب وكذلك الآباء بدرجة الأبناء لتقرَّ بذلك أعينهم فيلحق بعضهم بعضاً إذا اجتمعوا في الإيمان من غير أن ينقص من أجر مَنْ هو أحسن عملاً شيئا بزيارته في درجة الأنقص عملاً وهو قوله: {وما ألتناهم} أَيْ: وما نقصناهم {من عملهم من شيء كلُّ امرئ بما كسب} بما عمل من خيرٍ أو شرٍّ {رهين} مرهونٌ يُؤخذ به

22

{وأمددناهم بفاكهة ولحم} أَيْ: زدناهم

23

{يتنازعون} يتناولون ويأخذ بعضهم من بعض {فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم} لا يجري بينهم فيها باطلٌ ولا إثمٌ كما يجري بين شرب الخمر في الدُّنيا

24

{ويطوف عليهم} بالخدمة {غلمان لهم كأنهم} في بياضهم وصفائهم {لؤلؤ مكنون} مخزونٌ مصونٌ

25

{وأقبل بعضهم على بعض} في الجنَّة {يتساءلون} عن أحوالهم التي كانت في الدُّنيا

26

{قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} خائفين من عذاب الله

27

{فمنَّ الله علينا} بالجنَّة {ووقانا عذاب السموم} عذاب سموم جهنم وهو نارها وحرارتها

28

{إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم}

29

{فذكر} فذكِّرهم يا محمَّد الجنَّة والنَّار {فما أنت بنعمة ربك} برحمة ربّك وإكرامه إيَّاك بالنُّبوَّة {بكاهنٍ} تخبر بما في غدٍ من غير وحيٍ {ولا مجنون} كما تقولون

30

{أم يقولون} بل أيقولون: هو {شاعرٌ نتربَّص به ريب المنون} ننتظر به الموت فيهلك

31

{قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} حتى يأتي أمر الله فيكم

32

{أم تأمرهم أحلامهم} عقولهم {بهذا} أَيْ: بترك قبول الحقِّ من صاحب المعجزة {أم هم قوم طاغون} أَيْ: أم يكفرون طغياناً بعد ظهور الحقِّ

33

{أم يقولون تقوَّله} أَي: القرآن من قبل نفسه ليس كما يقولون {بل لا يؤمنون} استكباراً

34

{فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} أنَّ محمداً يقوله من قبل نفسه

35

{أم خلقوا من غير شيء} أَيْ: لغير شيءٍ يعني: أَخُلقوا عبثاً وسُدىً {أم هم الخالقون} أنفسهم

36

{أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون}

37

{أم عندهم خزائن ربك} ما في خزائن ربِّك من العلم بما يكون في غدٍ {أم هم المصيطرون} المُسلَّطون الجبَّارون

38

{أم لهم سلَّم} مرقىً إلى السَّماء {يستمعون فيه} أنَّ الذي هم عليه حقٌّ {فليأت مستمعهم} إن ادَّعوا ذلك {بسلطانٍ مبين} بحجَّةٍ واضحةٍ ثمَّ سفَّه أحلامهم في جعلهم البنات لله فقال:

39

{أم له البنات ولكم البنون}

40

{أم تسألهم أجراً} على ما جئتهم به {فهم من مغرم} غُرمٍ {مثقلون} مجهدون والمعنى: إنَّ الحجَّة واجبةٌ عليهم من كلِّ جهةٍ

41

{أم عندهم الغيب} علم ما يؤول إليه أمر محمد صلى الله عليه وسلم {فهم يكتبون} يحكمون بأنَّه يموت فتسريح منه

42

{أم يريدون كيداً} مكراً بكم في دار النَّدوة {فالذين كفروا هم المكيدون} المجزيون بكيدهم لأنَّ الله تعالى حفظ نبيَّه عليه السَلام من مكرهم وقُتلوا هم ببدر

43

{أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون}

44

{وإن يروا كسفاً} قطعاً {من السماء ساقطا يقولوا} لعنادهم وفرط شقاوتهم: {سحاب مركوم} بعضه على بعض وهذا جوابٌ لقولهم: {فأسقط علينا كسفاً من السماء} أخبر الله تعالى أنَّه لو فعل ذلك لم يؤمنوا

45

{فذرهم حتى يُلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} يموتون ثمَّ أخبر أنَّه يعجِّل لهم العذاب في الدنيا فقال:

46

{يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون}

47

{وإنَّ للذين ظلموا} كفروا {عذاباً دون ذلك} قبل موتهم وهو الجوع والقحط سبع سنين ثمَّ أمره بالصَّبر فقال:

48

{واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} بحيث نراك ونحفظك ونرعاك {وسبح بحمد ربك حين تقوم} من مجلسك قل: سبحانك اللهم وبحمدك

49

{ومن الليل} فسبحه أَيْ: صلِّ له صلاتي العشاء {وإدبار النجوم} أَيْ: ركعتي الفجر

سورة النجم

{والنجم إذا هوى} أي: والثُّريا إذا سقطت وقيل: القرآن إذا نزل مُتفرِّقاً نجوماً

2

{ما ضلَّ صاحبكم} محمد عليه السَّلام {وما غوى}

3

{وما ينطق عن الهوى} ما الذي يتكلَّم به ممَّا قاله بهواه

4

{إن هو} ما هو {إلاَّ وحيٌ يوحى} إليه

5

{علمه شديد القوى} أَيْ: جبريل عليه السَّلام

6

{ذو مرَّة} قوَّةٍ شديدةٍ {فاستوى} جبريل عليه السَّلام في صورته التي خلقه الله عز وجل عليها

7

{وهو بالأفق الأعلى} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يريه نفسه على صورته فواعده ذلك بحراء فطلع له جبريل عليه السلام من الشرق فسدَّ الأفق إلى المغرب

8

{ثم دنا فتدلى} هذا من المقلوب أَيْ: ثمَّ تدلى أَيْ: نزل من السَّماء فدنا من محمَّد عليه السَّلام

9

{فكان} منه في القرب على قدر {قوسين أو أدنى} والمعنى: أنَّه بعد ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظمه وهاله ذلك ردَّه الله تعالى إلى صورة آدميٍّ حتى قرب من النبي صلى الله عليه وسلم للوحي وذلك قوله:

10

{فأوحى إلى عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {ما أوحى} الله عزَّ وجل إلى جبريل عليه السَّلام

11

{ما كذب الفؤاد ما رأى} أَيْ: لم يكذب قلب محمَّد عليه السَّلام فيما رأى ليلة المعراج وذلك أنَّ الله جعل بصره في فؤاده حتى رآه وحقَّق الله تعالى تلك الرُّؤية وقال: إنها كانت رؤية حقيقة ولم تكن كذباً

12

{أفتمارونه على ما يرى} أفتجادلونه في أنه رأى الله عز وجل

13

{ولقد رآه} ربَّه وقيل: رأى جبريل على صورته التي خلق عليها {نزلة أخرى} مرَّة أخرى

14

{عند سدرة المنتهى} وهي شجرةٌ إليها ينتهي علم الخلق وما وراءها غيبٌ لا يعلمه إلاَّ الله عز وجل

15

{عندها جنة المأوى} وهي جنَّةٌ تصير إليها أرواح الشُّهداء

16

{إذ يغشى السدرة ما يغشى} قيل: يغشاها فراش من ذهب وقيل: الملائكة أمثال الغربان

17

{ما زاغ البصر وما طغى} هذا وصفٌ أدبِ النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أَيْ: لم يمل بصره عما قصده له ولا جاوز إلى ما أُمر به

18

{لقد رأى من آيات ربه الكبرى} أَيْ: ما رأى من الآيات العظام تلك اللَّيلة

19

{أفرأيتم اللات والعُزَّى}

20

{ومناة الثالثة الأخرى} هذه أصنامٌ من حجارةٍ كانت في جوف الكعبة والمعنى أخبرنا عن هذه الإناث التي تعبدونها وتزعمون أنَّها بنات الله أللَّهِ هي وأنتم تختارون الذُّكران وذلك قوله:

21

{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}

22

{تلك إذاً قسمة ضيزى} جائرةٌ ناقصةٌ

23

{إن هي} ما هذه الأوثان {إلاَّ أسماء} لا حقيقة لها {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا} بعبادتها {من سلطان} حجَّةٍ وبرهانٍ {إن يتبعون} ما يتَّبعون في عبادتها وأنَّها شفعاء لهم {إلاَّ الظن وما تهوى الأنفس} يعني: إنَّ ذلك شيء ظنُّوه وأمرٌ سوَّلت لهم أنفسهم {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} البيان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم

24

{أم للإِنسان ما تمنى} أَيظنُّون أنَّ لهم ما تمنَّوا من شفاعة الأصنام؟ ليس كما تمنَّوا بل

25

{فللَّه الآخرة والأولى} فلا يجري في الدَّارين إلاَّ ما يريد

26

{وكم من ملك في السماوات} هو أكرم على الله من هذه الأصنام {لا تغني شفاعتهم} عن أحدٍ {شيئاً إلاَّ من بعد أن يأذن الله} لهم في ذلك {لمن يشاء ويرضى} كقوله: {ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى}

27

{إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى} يقولون: إنَّهم بنات الله

28

{وما لهم به من علم إن يتبعون إلاَّ الظن وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} إِنَّ ظنَّهم لا يدفع عنهم من العذاب شيئاً

29

{فأعرض} يا محمَّد {عن من تولَّى عن ذكرنا} أعرضَ عن القرآن {ولم يرد إلاَّ الحياة الدنيا}

30

{ذلك مبلغهم من العلم} يقول: ذلك نهاية علمهم أَنْ آثروا الدُّنيا على الآخرة وقوله:

31

{ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}

32

{إلاَّ اللمم} يعني: صغار الذُّنوب كالنَّظرة والقُبلة وقوله: {إذ أنشأكم من الأرض} يعني: خلق أباكم من التُّراب {وإذ أنتم أجنَّة} جمع جنين {فلا تزكوا أنفسكم} لا تمدحوها {هو أعلم بمن اتقى} عمل حسنةً

33

{أفرأيت الذي تولى} أعرض عن الإيمان يعني: الوليد بن المغيرة وكان قد ابتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين على ذلك فقال: إنّي أخشى عذاب الله فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله إلى شركه أنْ يتحمَّل عنه عذاب الله فرجع في الشِّرك وأعطى صاحبه الضَّامن من بعض ما كان ضمن له ومنعه الباقي وذلك قوله:

34

{وأعطى قليلاً وأكدى} أَيْ: قطع ذلك ومنعه

35

{أعنده علم الغيب فهو يرى} ما غاب من أمر الآخرة حتى علم أنَّ غيره يحمل عنه العذاب

36

{أم لم ينبأ بما في صحف موسى} أسفار التَّوراة

37

{و} صحف {إبراهيم الذي وفَّى} أكمل ما أُمر به أتمه ثمَّ بيَّن ذلك فقال:

38

{ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى} أَيْ: لا تؤخذ نفسٌ بمأثم غيرها

39

{وإن ليس للإِنسان إلاَّ ما سعى} عمل لآخرته

40

{وإنَّ سعيه} عمله {سوف يرى} في ميزانه من خيرٍ وشرٍّ

41

{ثم يجزاه} يجزى عليه {الجزاء الأوفى} الأتمَّ

42

{وأنَّ إلى ربك المنتهى} المصير والمرجع

43

{وأنه هو أضحك} مَنْ شاء من خلقه {وأبكى} نم شاء منهم

44

{وأنه هو أمات} في الدنيا {وأحيا} للبعث وقوله:

45

{وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى}

46

{إذا تمنى} أي: نصب في الرَّحم

47

{وأنَّ عليه النشأة الأخرى} الخلق الآخر بعد الموت

48

{وأنه هو أغنى} بالمال {وأقنى} أرضى بما أعطى وقيل: أقنى: أعطى أصول الأموال وما يتَّخذ فيه قنيةً

49

{وأنَّه هو رب الشعرى} وهي كوكب خلف الجوزاء كانت تُعبد في الجاهليَّة

50

{وأنه أهلك عاداً الأولى} قوم هود

51

{وثمود فما أبقى}

52

{وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى}

53

{والمؤتفكة} قرى قوم لوط {أهوى} أسقطها إلى الأرض بعد رفعها

54

{فغشَّاها ما غشَّى} ألبسها العذاب والحجارة

55

{فبأي آلاء ربك تتمارى} بأيِّ نِعَم ربِّك التي تدلُّ على توحيده وقدرته تتشكَّكُ أيُّها الإنسان؟

56

{هذا} محمَّدٌ {نذير من النذر الأولى} أَيْ: هو رسولٌ أُرسل إليكم كما أُرسل مَنْ قبله من الرُّسل

57

{أزفت الآزفة} قربت القيامة

58

{ليس لها من دون الله كاشفة} لا يكشف عنها إلاَّ الله تعالى كقوله: {لا يجلِّيها لوقتها إلا هو}

59

{أفمن هذا الحديث} أي: القرآن {تعجبون}

60

{وتضحكون ولا تبكون}

61

{وأنتم سامدون} لاهون غافلون

62

{فاسجدوا لله واعبدوا} معناه: فاسجدوا لله واعبدوا الذي خلق السماوات والأرض ولا تسجدوا للأصنام التي ذكرت في هذه السُّورة

سورة القمر

{اقتربت الساعة} دنت القيامة {وانشقَّ القمر} انفلق بنصفين عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وذلك أنَّ أهل مكَّة سألوه آيةً فأراهم القمر فلقتين حتى رأوا حراءً بنيهما فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك من علامات قرب السَّاعة

2

{وإن يروا} يعني: أهل مكَّة {آية} تدلُّ على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر} ذاهب باطلٌ يذهب وقيل: محكمٌ شديدٌ وقوله:

3

{وكلُّ أمر مستقر} أَيْ: يستقرُّ قرار تكذيبهم وقرار تصديق المؤمنين يعني: عند ظهور الثَّواب والعقاب

4

{ولقد جاءهم} جاء أهل مكَّة {من الأنباء} أخبار إهلاك الأمم المُكذِّبة {ما فيه مزدجر} متناهى منتهى

5

{حكمة بالغة} أَيْ: ما أتاهم من أخبار مَنْ قبلهم حكمةٌ بالغةٌ تامَّةٌ ليس فيها نقصانٌ أي: القرآن وذلك أنَّ تلك الأخبار قُصَّت عليهم في القرآن {فما تغن النذر} جمع نذير أَيْ: فليست تغني عن التَّكذيب

6

{فتولَّ عنهم} وتمَّ الكلام ثمَّ قال: {يوم يدع الداع إلى شيء نكر} مُنكرٍ وهو النَّار

7

{خشعاً} ذليلةً {أبصارهم يخرجون من الأجداث} القبور {كأنهم جراد منتشر} كقوله: {كالفراش المبثوث}

8

{مهطعين} مُقبلين ناظرين {إلى الداع} إلى مَنْ يدعوهم إلى المحشر {يقول الكافرون هذا يوم عسر} شديدٌ

9

{كذبت قبلهم} قبل أهل مكَّة {قوم نوح فكذَّبوا عبدنا} نوحاً {وقالوا: مجنون وازدجر} زُجر ونُهِرَ ونُهي عن دعوته ومقالته

10

{فدعا ربَّه أني مغلوب} مقهورٌ {فانتصر} فانتقم لي منهم

11

{ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} سائلٍ

12

{وفجرنا الأرض عيوناً} فتحناها بعيون الماء {فالتقى الماء} ماءُ السَّماء وماءُ الأرض {على أمر قد قدر} قُضي عليهم في أمِّ الكتاب

13

{وحملناه} أَيْ: نوحاً {على ذات ألواح} وهي السَّفينة {ودسر} يعني: ما تُشدَّ به السَّفينة من المسامير والشرط

14

{تجري بأعيننا} بمرأى من وحفظٍ {جزاءً لمن كان كفر} يعني: نوحاً أَيْ: فعلنا ذلك ثواباً له إذ كُفر به وكُذِّب

15

{ولقد تركناها آية} تركنا تلك القِصَّة آيةً: علامةً ليعتبر بها {فهل من مدَّكر} مُتَّعظٍ بها

16

{فكيف كان عذابي} استفهام معناه التَّقرير {ونذر} أي: إنذاري

17

{ولقد يسرنا القرآن للذكر} سهَّلناه للحفظ فليس يحفظ كتابٌ من كتب الله ظاهراً إلاَّ القرآن {فهل من مدكر} مُتَّعظ بمواعظه

18

{كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر}

19

{إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} شديدةً ذات صوتٍ {في يوم نحس} شؤمٍ {مستمر} دائم الشُّؤم

20

{تنزع الناس} تقلعهم من مواضعهم {كأنهم أعجاز نخل} أصول نخلٍ {منقعر} مُنقطعٍ ساقطٍ شُبِّهوا وقد كبَّتهم الرِّيح على وجوههم بنخيل سقطت على الأرض

21

{فكيف كان عذابي ونذر}

22

{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}

23

{كذبت ثمود بالنذر} جمع نذير وقوله:

24

{إنا إذاً لفي ضلال} ذهابٍ عن الصَّواب {وسعر} جنون

25

{أألقي الذكر عليه من بيننا} أنكروا أن يكون مخصوما بالوحي من بينهم {بل هو كذَّاب أشر} بَطِرٌ يريد أن يتعظَّم علينا

26

{سيعلمون غداً} عند نزول العذاب بهم {من الكذاب الأشر}

27

{إنا مرسلو الناقة} مخرجوها من الهضبة كما سألوا {فتنة لهم} محنةً لهم لنختبرهم {فارتقبهم} انتظر ما هم صانعون {واصطبر}

28

{ونبئهم أنَّ الماء قسمة بينهم} بين ثمود والناقة غِبَّاً لهم يومٌ ولها يومٌ {كلُّ شرب} نصيبٍ من الماء {محتضر} يحضره القوم يوماً والنَّاقة يوماً

29

{فنادوا صاحبهم} قُدَاراً عاقر الناقة {فتعاطى} تناول النَّاقة بالعقر فعقرها وقوله:

30

{فكيف كان عذابي ونذر}

31

{كهشيم المحتظر} هو الرَّجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشَّجر والشَّوك دون السِّباع مما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم وقوله:

32

{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}

33

{كذبت قوم لوط بالنذر}

34

{إلاَّ آل لوط} أَي: أتباعه على دينه من أهله وأُمَّته {نجيناهم} من العذاب {بسحر} من الأسحار كقوله: {فأسر بأهلك} الآية؟

35

{نعمة من عندنا} عليهم بالإنجاء {كذلك} كما جزينا لوطاً وآله {نجزي مَنْ شكر} آمن بالله وأطاعه

36

{ولقد أنذرهم} خوَّفهم لوط {بطشتنا} أخذنا إيَّاهم بالعقوبة {فتماروا بالنذر} كذَّبوا بإنكاره شكَّاً منهم

37

{ولقد راودوه عن ضيفه} سألوه أن يُخلِّي بينهم وبين القوم الذين أتوه في صورة الأضياف وكانوا ملائكةً {فطمسنا أعينهم} أعميناها وصيّرناها كسائر الوجه وقلنا لهم: {فذوقوا عذابي ونذر}

38

{ولقد صبحهم بكرةً} جاءهم صباحاً {عذابٌ مستقر} ثابتٌ لأنَّه أفضى بهم إلى عذاب الآخرة

39

{فذوقوا عذابي ونذر}

40

{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}

41

{ولقد جاء آل فرعون النذر} الإنذار على لسان موسى وهارون عليهما السَّلام

42

{كذبوا بآياتنا} التِّسع {كلها فأخذناهم} بالعذاب {أخذ عزيز} قويٍّ {مقتدر} قادرٍ لا يعجزه شيء ثمَّ خاطب العرب فقال:

43

{أكفاركم خيرٌ من أولئكم} الذين ذكرنا قصَّتهم {أم لكم براءة} من العذاب {في الزبر} الكتب تأمنون بها من العذاب

44

{أم يقولون} كفَّار مكَّة: {نحن جميع منتصر} جماعةٌ منصورون

45

{سيهزم الجمع} أَي: جمعهم {ويولون الدبر} ينهزمون فيرجعون على أدباره وكان هذا يوم بدر

46

{بل الساعة موعدهم} للعذاب {والساعة أدهى وأمر} أشدُّ أمراً وأشدُّ مرارةً ممَّا يلحقهم في الدُّنيا

47

{إنَّ المجرمين في ضلال} في الدُّنيا {وسعر} نارٍ في الآخرة

48

{يوم يسحبون} يجرُّون {في النار على وجوههم} ويقال لهم: {ذوقوا مسَّ سقر} إصابة جهنَّم إياكم بالعذاب

49

{إنا كلَّ شيء خلقناه بقدر} أَيْ: كلُّ ما خلقناه فمقدورٌ مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ وهذه الآيات نزلت في القدرية الذين يُكذِّبون بالقدر

50

{وما أمرنا} لشيءٍ إذا أردنا تكوينه {إلاَّ واحدة} كلمةٌ واحدةٌ وهي كن {كلمح بالبصر} في السُّرعة كخطفة البصر

51

{ولقد أهلكنا أشياعكم} أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية

52

{وكل شيء فعلوه في الزبر} في كتب الحفظة

53

{وكلُّ صغير وكبير} من أعمالهم {مستطر} مكتوبٌ

54

{إنَّ المتقين في جنات ونهر} ضياءٍ وسعةٍ وقيل: أراد أنهاراً فوحَّد لوفاق الفواصل

55

{في مقعد صدق} في مجلس لا لغوٌ فيه ولا تأثيمٌ {عند مليك مقتدر} وهو الله تعالى وعند إشارةٌ إلى الرُّتبة والقربة من فضل الله ورحمته

سورة الرحمن

{الرحمن}

2

{علم القرآن} علَّم نبيَّه عليه السَّلام القرآن ليس كما يقول المشركون: إنَّما يُعلِّمه بَشرٌ وقيل: معناه: يسَّر القرآن لأَنْ يُذكر فعلَّمه هذه الأُمَّة حتى حفظوه

3

{خلق الإنسان} يعني: النبيَّ صلى الله عليه وسلم

4

{علمه البيان} القرآن الذين فيه بيان كلِّ شيءٍ وقيل: {خلق الإنسان} يعني: ابن آدم فعلَّمه النُّطق وفضَّله به على سائر الحيوان

5

{الشمس والقمر} يجريان {بحسبان} بحسابٍ لا يجاوزانه

6

{والنجم} كلُّ نبتٍ لا يقوم على ساق ولا يبقى على الشَّتاء {والشجر يسجدان} يخضعان لله تعالى بما يريد منهما

7

{والسماء رفعها} فوق الأرض {ووضع الميزان} العدل والإنصاف

8

{أن لا} لئلا {تطغوا} تجاوزوا القدر {في الميزان}

9

{وأقيموا الوزن بالقسط} بالعدل {ولا تخسروا الميزان} لا تنقصوا الوزن

10

{والأرض وضعها للأنام} للجنِّ والإنس

11

{فيها فاكهة} أنواع الفواكه {والنخل ذات الأكمام} أوعية الثَّمر

12

{والحب ذو العصف} أَيْ: ورق الزَّرع وقيل: هو التِّبن {والريحان} الرِّزق ثمَّ خاطب الجن والإنس فقال:

13

{فبأي آلاء} نِعمَ {ربكما} من هذه الأشياء التي ذكرها {تكذبان} لأنَّها كلَّها مُنعَمٌ بها عليكُم في دلالتها إيَّاكم على وحدانيَّة الله سبحانه ثمَّ كرر في هذه السُّورة هذه الآية توكيداً وتذكيراً لنعمه

14

{خلق الإنسان} آدم {من صلصال} طينٍ يابسٍ يُسمع له صلصلةٌ {كالفخار} وهو ما طبخ من الطِّين

15

{وخلق الجان} أَيْ: أبا الجن {من مارج} من لهب النار الخالص

16

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

17

{رب المشرقين ورب المغربين} مشرق الصَّيف ومشرق الشَّتاء وكذلك المغربان

18

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

19

{مرج البحرين} خلط البحر العذب والبحر المالح {يلتقيان} يجتمعان وذلك أنَّ البحر المالح فيه عيون ماءٍ عذبٍ

20

{بينهما برزخ} حاجزٌ من قدرة الله {لا يبغيان} لا يختلطان ولا يُجاوزان ما قدَّر الله لهما فلا الملح يختلط بالعذب ولا العذب يختلط بالملح

21

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

22

{يخرج منهما} أراد: من أحدهما وهو الملح {اللؤلؤ} وهو الحبُّ الذي يخرج من البحر {والمرجان} صغار اللؤلؤ

23

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

24

{وله الجوار} السفن {المنشآت} المرفوعات {كالأعلام} كالجبال في العظم

25

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

26

{كلُّ مَنْ عليها} على الأرض من حيوانٍ {فانٍ} هالكٌ

27

{ويبقى وجه ربك} وهو السَّيِّد {ذو الجلال} العظمة {والإكرام} لأنبيائه وأوليائه

28

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

29

{يسأله من في السماوات والأرض} من مَلَكٍ وإنس وجنِّ الرِّزقَ والمغفرة وما يحتاجون إليه {كلَّ يوم هو في شأن} من إظهار أفعاله وإحداث ما يريد من إحياءٍ وإماتةٍ وخفضٍ ورفعٍ وقبضٍ وبسطٍ

30

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

31

{سنفرغ لكم} سنقصد لحسابكم بعد الإمهال {أيها الثقلان} يعني: الجن والإنس

32

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

33

{يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} تخرجوا {من أقطار السماوات والأرض} نواحيها هاربين من الموت {فانفذوا} فاخرجوا {لا تنفذون إلاَّ بسلطان} أَيْ: حيث ما كنتم شاهدتم حجَّة الله وسلطاناً يدلُّ على أنه واحد

34

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

35

{يرسل عليكما شواظ من نار} وهو اللَّهب الذي لا دخان له {ونحاس} وهو الدخان الذي لا لهب له أَيْ: يرسل هذا مرَّةً وهو في يوم القيامة يُحاط على الخلق بلسانٍ من نارٍ {فلا تنتصران} أي: تمتنعان

36

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

37

{فإذا انشقت السماء} انفجرت أبوبا لنزول الملائكة {فكانت وردة} في اختلاف ألوانه

38

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

39

{فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه} سؤالَ استفهامٍ ولكن يُسألون سؤالَ تقريعٍ وتوبيخٍ

40

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

41

{يعرف المجرمون بسيماهم} بعلامتهم وهي سواد الوجوه وزرقة العيون {فيؤخذ بالنواصي والأقدام} تضم نواصيهم إلى أقامهم ويُلقون في النَّار والنَّواصي: جمع النَّاصية وهو شعر الجبهة ثم يقال لهم:

42

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

43

{هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون}

44

{يطوفون بينها وبين حميم آن} وهو الذي قد انتهى في الحرارة والمعنى أنَّهم إذا استغاثوا من النار جعل غيائهم الحميم الآني فيُطاف بهم مرة إلى الحميم مرة إلى النار

45

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

46

{ولمن خاف مقام ربه} قيامه بين يدي الله تعالى للحساب فترك المعصية {جنتان}

47

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

48

{ذواتا أفنان} أغصان

49

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

50

{فيهما عينان تجريان} إحداهما بالماء الزُّلال والأخرى بالخمر

51

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

52

{فيهما من كلِّ فاكهة زوجان} نوعان كلاهما حلو

53

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

54

{متكئين على فرش} جمع فراش {بطائنها} ما بطن منها وهو ضدُّ الظَّاهر {من إستبرق} وهو ما غلظ من الدِّيباج {وجنى الجنتين} ثمرهما {دان} قريبٌ يناله القاعد والقائم

55

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

56

{فيهن قاصرات الطرف} حابسات الأعين إلاَّ على أزواجهنَّ ولا ينظرون إلى غيرهم {لم يَطْمِثْهُنَّ} لم يُجامعهنَّ {إنس قبلهم} قبل أزواجهن {ولا جانٌ}

57

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

58

{كأنهنَّ الياقوت} في الصَّفاء {والمرجان} في البياض

59

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

60

{هل جزاء الإِحسان إلاَّ الإِحسان} ما جزاء مَنْ أحسن في الدُّنيا بطاعة الله تعالى إلاَّ الإِحسان إليه في الآخر بالجنَّة ونعيمها

61

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

62

{ومن دونهما} وسوى الجنتين الأوليين {جنتان} أخريان

63

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

64

{مدهامتان} سوداوان لشدَّة الخضرة

65

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

66

{فيهما عينان نضاختان}

67

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

68

{فيهما فاكهة ونخل ورمان}

69

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

70

{فيهن خيرات} نساء فاضلات الأخلاق {حسان} الوجوه

71

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

72

{حور} سود الأحداق {مقصورات} محبوساتٌ {في الخيام} من الذر المجوفة

73

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

74

{لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان}

75

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

76

{متكئين على رفرف} وهو ما فضل من الفرش والبسط وقيل: الوسائد {وعبقري} أَيْ: الزَّرابي والطَّنافس {حسان} ثمَّ ختم السورة بما ينبغي أن يُمجَّد به ويعظم فقال:

77

{فبأي آلاء ربكما تكذبان}

78

{تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام}

سورة الواقعة

{إذا وقعت الواقعة} جاءت القيامة

2

{ليس لوقعتها} لمجيئها {كاذبة} كذبٌ

3

{خافضة رافعة} تخفض قوماً إلى النَّار وترفع آخرين إلى الجنَّة

4

{إذا رجَّت الأرض رجّاً} حُرَّكت الأرض حركةً شديدةً

5

{وبست الجبال بساً} فتَّت فتَّاً

6

{فكانت هباء منبثاً} غُباراً متفرقا

7

{وكنتم} في ذلك اليوم {أزواجاً} أَصنافاً {ثلاثة} ثمَّ بيَّن الأصناف فقال:

8

{فأصحاب الميمنة} وهم الذين يُؤتون كتبهم بأيمانهم وقيل: الذين كانوا عل يمين آدم عليه السَّلام حين أخرج الذُّريَّة من ظهره {ما أصحاب الميمنة} أَيُّ شيءٍ هم؟ على التَّعظيم لشأنهم

9

{وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة} أَيْ: الشِّمال تفسيرها على ضدِّ تفسير التي قبلها

10

{والسابقون} إلى الإِيمان من كلِّ أمَّةٍ {السابقون} إلى رحمة الله وجنَّته

11

{أولئك المقربون} إلى كرامة الله

12

{في جنات النعيم}

13

{ثلة من الأولين} جماعةٌ من الأمم الماضية

14

{وقليل من الآخرين} من هذه الأُمّة يريد: من سابقي الأمم وسابقي هذه الأُمَّة

15

{على سرر موضونة} منسوجةٍ بقضبان الذهب والجواهر

16

{متكئين عليها متقابلين}

17

{ولدان مخلدون} غلمانٌ لا يموتون ولا يهرمون

18

{بأكواب} بأقداحٍ لا عُرى لها {وأباريق} التي لها عُرى وخراطيم {وكأس} إناءٍ {من معين} من خمرٍ جاريةٍ

19

{لا يصدعون عنها} لا ينالهم الصُّداع عن شربها {ولا ينزفون} ولا يسكرون

20

{وفاكهة مما يتخيرون} يختارون

21

{ولحم طير مما يشتهون}

22

{وحور} جوار وعلمان شديدات سواد الأعين وبياضها {عين} ضخام العيون

23

{كأمثال} كأشباه {اللؤلؤ المكنون} في صفاء اللَّون والمكنون: المستور في كِنِّه وهو الصدف

24

{جزاء بما كانوا يعملون}

25

{لا يسمعون فيها} في الجنَّات {لغواً} كاملاً فاحشاً {ولا تأثيماً} ولا ما يوقع في الإِثم

26

{إلا قليلا} قولاً {سلاماً سلاماً} ما يسلمون فيه من اللَّغو والإٍثم ثمَّ ذكر منازل أصحاب الميمنة فقال:

27

{وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين}

28

{في سدر} وهو نوعٌ من الشجر {منضود} مقطوعِ الشَّوك لا كسدر الدُّنيا

29

{وطلح} وهو شجر الموز {منضود} نُضِدَ بالحمل من أوَّله إلى آخره فليست له سوقٌ بارزةٌ

30

{وظل ممدود} دائمٍ ثابت

31

{وماء مسكوب} جارٍ غير منقطع

32

{وفاكهة كثيرة}

33

{لا مقطوعة} بالأزمان {ولا ممنوعة} بالأثمان

34

{وفرش مرفوعة} على السررظ

35

{إنا أنشأناهن} خلقناهنَّ أَيْ: الحور العين {إنشاء} خلقاً من غير ولادةٍ

36

{فجعلناهنَّ أبكاراً} عذارى

37

{عُرباً} مُتحبِّبات إلى الأزواج عواشق لهم {أتراباً} مُستوياتٍ في السنِّ

38

{لأصحاب اليمين}

39

{ثلة من الأولين} من الأمم الماضية

40

{وثلة من الآخرين} من هذه الأُمَّة يعني: إنَّ أصحاب الجنَّة نصفان: نصفٌ من الأمم الماضية ونصفٌ من هذه الأمَّة ثمَّ ذكر منازل أصحاب الشِّمال فقال:

41

{وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال}

42

{في سموم} ريحٍ حارَّةٍ {وحميم}

43

{وظلٍّ من يحموم} دخانٍ شديد السَّواد {لا بارد} المنزل {ولا كريم} المنظر

44

{إنهم كانوا قبل ذلك} في الدُّنيا {مترفين} مُنعَّمين لا يتعبون في طاعة الله

45

{وكانوا يصرون على الحنث العظيم} يُقيمون على الذَّنب العظيم وهو الشِّرك وكانوا يُنكرون البعث {وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أَإِنّا لمبعوثون} فقال الله تعالى:

46

{وكانوا يصرون على الحنث}

47

{أإذا متنا وكنا تراباً وعظاما أإنا لمبعوثون}

48

{أو آباؤنا الأولون}

49

{قل إنَّ الأولين والآخرين} {لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} وهو يوم القيامة ومعنى {إلى ميقات} لميقات يوم وقوله:

50

{لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}

51

{ثم إنكم أيها الضالون المكذبون}

52

{لآكلون من شجر من زقوم}

53

{فمالئون منها البطون}

54

{فشاربون عليه من الحميم}

55

{شرب الهيم} أَيْ: الإِبل العطاش

56

{هذا نزلهم} ما أعدَّ لهم من الرِّزق {يوم الدين} المجازاة

57

{نحن خلقناكم} ابتداءً {فلولا} فهلاَّ {تصدّقون} بالخلق الثَّاني وهو البعث

58

{أفرأيتم ما تمنون} تصبُّون في الأرحام من المنيّ

59

{أأنتم تخلقونه} بشراً {أم نحن الخالقون}

60

{نحن قدَّرنا} قضينا {بينكم الموت وما نحن بمسبوقين}

61

{على أن نبدِّل أمثالكم} أَيْ: إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم نُسبق ولا فاتنا ذلك {وننشئكم} نخلقكم {في ما لا تعلمون} من الصُّور أَيْ: نجعلكم قردةً وخنازير والمعنى: لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلاً منكم ومسخكم من صوركم إلى غيرها

62

{ولقد علمتم النشأة الأولى} الخلقة الأولى أَيْ: أقررتم بأنَّ الله خلقكم في بطون أُمَّهاتكم {فلولا تذكرون} أنِّي قادرٌ على إعادتكم

63

{أفرأيتم ما تحرثون} تقلبون من الأرض وتلقون فيه من البذر

64

{أأنتم تزرعونه} تنبتونه {أم نحن الزارعون}

65

{لو نشاء لجعلناه حطاماً} تبناً يابساً لا حَبَّ فيه {فظلتم تفكهون} تعجبون وتندمون ممَّا نزل بكم وممَّا علمتم من الحرث وتقولون:

66

{إنا لمغرمون} صار ما أنفقنا على الحرث غُرْماً علينا

67

{بل نحن محرومون} ممنوعون منعنا رزقنا وقوله:

68

{أفرأيتم الماء الذي تشربون}

69

{أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون}

70

{أجاجاً} أَيْ: مِلحاً لا يمكن شربه

71

{أفرأيتم النار التي تورون} تقدحون

72

{أأنتم أنشأتم} خلقتم {شجرتها} التي تخرج منها

73

{نحن جعلناها تذكرة} يتذكَّر بها نار جهنَّم {ومتاعاً} ومنفعةً {للمقوين} للمسافرين

74

{فسبح باسم ربك العظيم} أَيْ: نَزِّه الله ممَّا يقول المشركون

75

{فلا أقسم} لا زائدة {بمواقع النجوم} مساقطها ومغاربها وقيل: أراد نجوم القرآن

76

{وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}

77

{إنه لقرآن كريم} حسنٌ عزيزٌ

78

{في كتاب مكنون} مصونٍ عند الله

79

{لا يمسه} باليد أَيْ: المصحف {إلاَّ المطهرون} من الجنابات والأحداث

80

{تنزيل من رب العالمين}

81

{أفبهذا الحديث} أَيْ: القرآن {أنتم مدهنون} مُكِّذبون

82

{وتجعلون رزقكم} شكر رزقكم فحذف الشُّكر {أنكم تكذبون} بسقيا الله إذا مُطرتم وتقولون: مطرنا بنوء كذا

83

{فلولا} فهلاَّ {إذا بلغت} الرُّوح {الحلقوم}

84

{وأنتم} يا أصحاب الميت {حينئذٍ تنظرون} إليه وهو في النَّزع

85

{ونحن أقرب إليه منكم} بالعلم والقدرة {ولكن لا تبصرون} لا تعلمون ذلك

86

{فلولا إن كنتم غير مَدِينين} مملوكين ومجزيين

87

{ترجعونها} أَيْ: تردُّون الرُّوح إلى الميِّت {إن كنتم صادقين} أنَّكم غير مملوكين وغير مُدْبِرين وقوله: {ترجعونها} جوابٌ واحدٌ لشيئين وقوله: {فلولا إذا بلغت الحلقوم} وقوله: {فلولا إن كنتم} ثمَّ ذكر مآل الخلق بعد الموت فقال:

88

{فأما إن كان من المقربين} {فروح} فلهم روحٌ أَيْ: استراحةٌ وبردٌ {وريحان} ورزقٌ حسنٌ

89

{وأما إن كان من أصحاب اليمين} {فسلام لك من أصحاب اليمين} أَيْ: إنَّك ترى فيهم ما تحبُّ من السَّلامة وقد علمت ما أعدَّ لهم من الجزاء لأنَّه قد بُيِّن لك في قوله: {في سدر مخضود} الآيات

90

{وأما إن كان من أصحاب اليمين} ز

91

{فسلام لك من أصحاب اليمين}

92

{وأما إن كان من المكذبين الضالين} وهم أصحاب المشأمة

93

{فنزل من حميم} فلهم نزلٌ أعدَّ لهم من شراب جهنَّم

94

{وتصلية جحيم} إدخال النَّار

95

{إن هذا} الذي ذكرت {لهو حق اليقين}

96

{فسبح باسم ربك العظيم} أَيْ: نزِّه الله من السُّوء

سورة الحديد

{سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} ذُكر تفسيرها في قوله: {إن مِنْ شيءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بحمده}

2

{له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير}

3

{هو الأوَّل} قبل كلِّ شيءٍ فكلُّ شيءٍ دونه {والباطن} العالم بكلِّ شيءٍ

4

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} ما يدخل فيها من مطرٍِ وغيره {وما يخرج منها} من نباتٍ وشجرٍ {وما ينزل من السماء} من رزقٍ ومطرٍ ومَلكٍ وأمرٍ {وما يعرج فيها} يصعد إليها من عملٍ {وهو معكم} بالعلم والقدرة {أين ما كنتم}

5

{له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور}

6

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليل وهو عليم بذات الصدور}

7

{آمنوا بالله ورسوله} صدِّقوا بأنَّ الله تعالى واحدٌ وأنَّ محمداً رسول الله {وأنفقوا} من المال الذي {جعلكم مستخلفين فيه} أَيْ: كان لغيركم فملكتموه وقوله:

8

{وقد أخذ ميثاقكم} أَيْ: حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السَّلام بأنَّ الله ربُّكم لا إله لكم سواه {إن كنتم مؤمنين} أي: إِن كنتم على أن تؤمنوا يوماً من الأيام

9

{هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم}

10

{وما لكم أنْ لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض} أَيْ: أَيُّ شيءٍ لكم في ترك الإِنفاق في طاعة الله وأنتم ميِّتون تاركون أموالكم ثمَّ بيَّن فضل السَّابقين في الإنفاق والجهاد فقال {لا يستوي منكم مَنْ أنفق من قبل الفتح} يعني: فتح مكَّة {وقاتل} جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداء الله {أولئك أعظم درجة} يعني: عند الله {من الذين أنفقوا من بعد} الفتح {وقاتلوا وكلاً} من الفريقين {وعد الله الحسنى} الجنَّة

11

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ذُكر تفسيره في سورة البقرة

12

{يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} وهو يوم القيامة {يسعى نورهم} على الصِّراط {بين أيديهم وبأيمانهم} وتقول لهم الملائكة: {بشراكم اليوم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلك هو الفوز العظيم}

13

{يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} انتظرونا وقفوا لنا تستضيء بنوركم {قيل} لهم {ارجعوا وراءكم} من حيث جئتم {فالتمسوا نوراً} فلا نور لكم عندنا {فضرب بينهم} بين المؤمنين والمنافقين {بسور} وهو حاجزٌ بين الجنَّة والنار وقيل: هو سور الأعراف {له باب} في ذلك السُّور بابٌ {باطنه فيه الرحمة} لأنَّ ذلك الباب يُفضي إلى الجنَّة {وظاهره من قبله} أَيْ: من قبل ذلك الظَّاهر {العذاب} وهو النَّار

14

{ينادونهم} ينادي المنافقون المؤمنين: {ألم نكن معكم} في الدُّنيا نناكحكم ونوارثكم {قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم} آثمتموها بالنِّفاق {وتربصتم} بمحمدَّ عليه السَّلام الموت {وارتبتم} شككتم في الإيمان {وغرَّتكم الأمانيّ} ما كنتم تمنَّون من نزول الدَّوابر بالمؤمنين {حتى جاء أمر الله} الموت {وغرَّكم بالله} أَيْ: بحلمه وإمهاله {الغرور} الشَّيطان

15

{فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} بدلٌ {ولا من الذين كفروا} وهم المشركون {مأواكم النار} منزلكم النَّار {هي مولاكم} أولى بكم {وبئس المصير} هي

16

{ألم يأن للذين آمنوا} ألم يحن {أن تخشع قلوبهم} ترقَّ وتلين {لذكر الله وما نزل من الحق} وهو القرآن وهذا حثٌّ من الله تعالى لقومٍ من المؤمنين على الرِّقة والخشوع {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} أي: اليهود والنَّصارى {فطال عليهم الأمد} الزَّمان بينهم وبين أنبيائهم {فقست قلوبهم} لم تَلِنْ لذكر الله ونسوا ما عهد الله سبحانه إليهم في كتابهم {وكثير منهم فاسقون} وهم الذين تركوا الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم

17

{اعلموا أنَّ الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات} أي: إنَّ إحياء الأرض بعد موتها دليلٌ على توحيد الله تعالى وقدرته

18

{إن المصدقين والمصدقات} الذي يتصدَّقون وينفقون في سبيل الله {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} بالنَّفقة في سبيله {يضاعف لهم} ما عملوا {ولهم أجرٌ كريم} وهو الجنَّة

19

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} المُبالغون في الصِّدق {والشهداء عند ربهم} أَي: الأنبياء عليهم السَّلام {لهم أجرهم ونورهم} في ظلمة القبر وقيل: هم جميع المؤمنين

20

{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو} في انقضائها وقلَّة حاصلها {وزينة} يتزيَّنون بها {وتفاخرٌ بينكم} يفخر بها بعضكم على بعض {وتكاثر في الأموال والأولاد} مباهاةٌ بكثرتها ثمَّ ضرب لها مثلاً فقال: {كمثل غيث} مطرٍ {أعجب الكفار} أي: الزُّراع {نباتُه} ما أنبته ذلك الغيث {ثم يهيج} ييبس {فتراه مصفراً} بعد يبسه {ثمَّ يكون حطاما} هشيما متفتتا كذلك الإِنسان يهرم ثمَّ يموت ويبلى {وفي الآخرة عذاب شديد} للكفَّار {ومغفرة من الله ورضوان} لأوليائه

21

{سابقوا إلى مغفرة من ربكم} ذُكر في سورة آل عمران عند قوله: {وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم} الآية

22

{ما أصاب من مصيبة في الأرض} بالجدبِ {ولا في أنفسكم} بالمرض والموت والخسران {إلاَّ في كتاب} أي: اللَّوح المحفوظ {من قبل أن نبرأها} نخلق تلك المصيبة {إنَّ ذلك على الله يسير} أَيْ: خلقها في وقتها بعد أَنْ كتبها في اللَّوح المحفوظ

23

{لكي لا تأسوا على ما فاتكم} من الدُّنيا {ولا تفرحوا بما آتاكم} أعطاكم منها أَيْ: لكيلا تحزنوا حزناً يُطغيكم ولا تبطروا بالفرح بعد أَنْ علمتم أنَّ ما يصيبكم من خيرٍ وشرٍّ فمكتوب لا يخطئكم {والله لا يحب كل مختال} مُتكبِّرٍ بما أُوتي من الدُّنيا {فخور} به على النَّاس

24

{الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} ذُكر في سورة النِّساء

25

{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} بالدّلالات الواضحات {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} العدل {ليقوم الناس بالقسط} ليتعامل النَّاس بينهم بالعدل {وأنزلنا الحديد} وذلك أنَّ آدم عليه السَّلام نزل إلى الأرض بالعلاة والمطرقة وآلة الحدَّادين {فيه بأس شديد} قوَّةٌ وشدَّةٌ يُمتنع بها ويُحارب {ومنافع للناس} يستعملونه في أدواتهم {وليعلم الله} أَيْ: أرسلنا الرُّسل ومعهم هذه الأشياء ليتعامل النَّاس بالحقِّ وليرى الله مَنْ ينصر دينه {ورسله بالغيب} في الدنيا وقوله:

26

{ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون}

27

{ورهبانية ابتدعوها} أَي: ابتدعوا من قبل أنفسهم رهبانيَّةً أَي: التَّرهُّب في الصَّوامع {ما كتبناها عليهم} ما أمرناهم بها {إلاَّ ابتغاء رضوان الله} لكنَّهم ابتغوا بتلك الرَّهبانيَّة رضوان الله {فما رعوها حق رعايتها} أي: قصورا في تلك الرَّهبانيَّة حين لم يؤمنوا بمحمد عليه السَّلام {فآتينا الذين آمنوا منهم} بمحمَّدٍ عليه السَّلام {أجرهم وكثير منهم فاسقون} وهم الذين لم يؤمنوا به

28

{يا أيها الذين آمنوا} بالتَّوراة والإنجيل {اتقوا الله وآمنوا برسوله} محمد عليه السَّلام {يؤتكم كفلين} نصيبين {من رحمته} نصيباً بإيمانكم الأوَّل ونصيباً بإيمانكم بمحمَّد عليه السَّلام وكتابه {ويجعل لكم نوراً تمشون به} في الآخرة على الصِّراط {ويغفر لكم} وعدهم الله هذه الأشياء كلَّها على الإيمان بمحمد عليه السلام ثمَّ قال:

29

{لئلا يعلم} أي: ليعلم ولا زائدة {أهل الكتاب} اليهود والنَّصارى {ألا يقدرون على شيء} أنَّهم لا يقدرون على شيءٍ {من فضل الله} يعني: إِنْ لم يؤمنوا لم يُؤتهم الله شيئاً ممَّا ذُكر {وأنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذو الفضل العظيم}

سورة المجادلة

{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} نزلت في سبب خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصَّامت ظاهر منها وكان ذلك أوَّل ظهارٍ في الإِسلام وكان الظِّهار من طلاق الجاهليَّة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أنَّ زوجها ظاهر منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَرُمْتِ عليه فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وصبيةً صغاراً وجعلت تُراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها: حَرُمْتِ عليه هتفت وشكت إلى الله وقوله: {والله يسمع تحاوركما} أَيْ: تخاطبكما ومراجعتكما الكلام ثمَّ ذمَّ الظَّهار فقال:

2

{الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنَّ أمهاتهم} أَيْ: ما اللواتي يجعلن من الزَّوجات كالأمهات بأمهاتٍ {إن أمهاتهم إلاَّ اللائي ولدنهم} ما أُمهاتهم إلاَّ الوالدات {وإنهم ليقولون} بلفظ الظِّهار {منكراً من القول} لا تُعرف صحَّته {وزوراً} وكذباً فإنَّ المرأة لا تكون كالأمِّ {وإنَّ الله لعفو غفور} عفا وغفر للمُظاهِر بجعل الكفَّارة عليه ثمَّ ذكر حكم الظِّهار فقال:

3

{والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرها: والذين يُظاهرون من نسائهم فتحرر رقبةٍ لما قالوا ثمَّ يعودون أي: عل المُظاهر عتق رقبةٍ لقوله لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أُمِّي ثمَّ يعود إلى استباحة الوطء ولا تحلُّ له قبل الكفَّارة وهو قوله: {من قبل أن يتماسا} أي: يَجَّامعا {ذلكم توعظون به} أي: ذلك التَّغليظ في الكفَّارة وعظٌ لكم كي تنزجروا به عن الظِّهار فلا تُظاهروا

4

{فمن لم يجد} الرَّقبة لفقره {فصيام شهرين متتابعين} لو أفطر فيما بين ذلك ابطل التَّتابع ويجب عليه الاستئناف {فمن لم يستطع} ذلك لمرضٍ أو لخوفِ مشقَّةٍ عظيمةٍ {فإطعام ستين مسكيناً} لكلِّ مسكينٍ مدٌّ من غالب القوت {ذلك} أي: الفرض الذين وصفنا {لتؤمنوا بالله ورسوله} لتصدقوا ما أتى به الرَّسول عليه السَّلام وتُصدِّقوا أنَّ الله تعالى به أمر {وتلك حدود الله} يعني: ما وصف في الظِّهار والكفَّارة {وللكافرين} لمن لم يُصدِّق به {عذاب أليم}

5

{إنَّ الذين يحادون الله} يُخالفون الله {ورسوله كُبِتوا} أُذِلُّوا وأُخزوا {كما كُبِتَ الذين من قبلهم} ممَّن خالف الله ورسوله {وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين} بها {عذاب مهين}

6

{يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا} يخبرهم بذلك ليعلموا وجوب الحجَّة عليهم {أحصاه الله} علمه الله وأحاط بعدده {ونسوه} هم وقوله:

7

{ما يكون من نجوى ثلاثة} أَيْ: مناجاة ثلاثةٍ وإن شئت قلتَ: من متناجين ثلاثة {إلاَّ هو رابعهم} بالعلم يسمع نجواهم

8

{ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} نزلت في المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ليُواقعوا في قلوبهم ريبةً وتهمةً ويظنُّون أنَّ ذلك لشيءٍ بلغهم ممَّا يهمُّهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فنهاهم عن ذلك فعادوا لما نُهوا عنه فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما} أَي: إلى {ما نُهوا عنه ويتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول} أي: يعصي بعضهم بعضاً سرَّاً بالظُّلم والإِثم وترك طاعة الرَّسول عليه السَّلام {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يُحَيِّكَ به الله} يعني: قولهم: السَّام عليك {ويقولون في أنفسهم: لولا يعذِّبنا الله بما نقول} وذلك أنَّهم قالوا: لو كان نبيَّاً لعذَّبنا بهذا قال الله: {حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير} ثمَّ نهى المؤمنين عن مثل ذلك فقال:

9

{يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول}

10

{إنما النجوى من الشيطان} أَيْ: النَّجوى بالإِثم والعدوان ما يزيِّن الشَّيطان لهم {ليحزن الذين آمنوا وليس بضارِّهم} وليس الشَّيطان بضارِّهم {شيئاً إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ: وإِليه فَلْيَكِلُوا أمورهم

11

{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس} توسَّعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم {فافسحوا} أوسعوا المجلس {يفسح الله لكم} يُوسِّعه عليكم نزلت في قومٍ كانوا يبكون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون مجالسهم بالقرب منه فإذا دخل غيرهم ضنُّوا بمجالسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يُكرم أهل بدرٍ فدخلوا يوماً فقاموا بين يديه ولم يجدوا عنده مجلساً ولم يقم لهم أحدٌ من هؤلاء الذين أخذوا مجالسهم فكره النبيُّ عليه السَّلام ذلك فنزلت هذه الآية وأمرهم أن يُوسِّعوا في المجلس لمن أراد النبي صلى الله عليه وسلم {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} وإذا قيل لكم: قوموا إلى صلاةٍ أو جهادٍ أو عمل خيرٍ فانهضوا {يرفع الله الذين آمنوا منكم} بطاعة الله {والذين أوتوا العلم درجات} في الجنَّة

12

{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم} أمام مناجاتكم {صدقة} نزلت حين غلب أهلُ الجدة الفقراءَ على مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناجاته فكره الرَّسول ذلك فأمرهم الله بالصَّدقة عند المناجاة ووضع ذلك عن الفقراء فقال: {فإن لم تجدوا فإنَّ الله غفور رحيم} ثمَّ نسخ الله ذلك فقال:

13

{أأشفقتم} بخلتم وخفتم بالصَّدقة الفقر {فإذْ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} عاد عليكم بالتَّخفيف {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} المفروضة

14

{ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم} أَي: المنافقين تولَّوا اليهود وناصحوهم ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين {ما هم منكم} أيُّها المؤمنون {ولا منهم} من اليهود {ويحلفون} أنَّهم لا يخونون المؤمنين {وهم يعلمون} أنَّهم كاذبون في حلفهم

15

{أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون}

16

{اتخذوا أيمانهم} الكاذبة {جنة} يستجنُّون بها من القتل

17

{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}

18

{يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له} كاذبين ما كانوا مشركين {كما يحلفون لكم} كاذبين {ويحسبون أنهم على شيء} من نفاقهم يأتونكم بوجهٍ ويأتون الكفَّار بوجهٍ ويظنُّون أنَّهم يسلمون فيما بينكم وبينهم {ألا إنهم هم الكاذبون}

19

{استحوذ عليهم الشيطان} أي: استولى عليهم

20

{إنَّ الذين يحادون الله ورسوله} يخالفونهما {أولئك في الأذلين} المغلوبين

21

{كتب الله} قضى الله {لأغلبنَّ أنا ورسلي} إمَّا بالظفَّر والقهر وإمَّا بظهور الحجَّة

22

{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله} الآية أخبر الله في هذه الآية أنَّ المؤمن لا يوالي الكافر وإنْ كان أباه أو أخاه أو قريبه وذلك أنَّ المؤمنين عادوا آباءَهم الكفَّار وعشائرهم وأقاربهم فمدحهم الله على ذلك فقال: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} أي: أثبته {وأيدهم بروحٍ منه} أيْ: بنور الإِيمان وقيل: بالقرآن ثمَّ وعدهم الإِدخال في الجنَّة فقال: {ويدخلهم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله أَلاَ إنَّ حزب الله هم المفلحون}

سورة الحشر

{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم}

2

{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني: النَّضير {من ديارهم} مساكنهم بالمدينة وذلك أنهم نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف سيدهم فقتل غلية وحاصر بني النَّضير ثمَّ صالحهم على أن يخرجوا إلى الشَّام فخرجوا وتركوا رباعهم وضياعهم وقوله: {لأوَّل الحشر} كانوا أوَّل مَنْ حُشر إلى الشَّام من اليهود من الجزيرة العرب وقيل إنه أوَّل حشرٍ إلى الشَّام والحشر الثَّاني حشر القيامة والشَّام أرض المحشر {ما ظننتم} أَيُّها المؤمنون {أن يخرجوا} لعدَّتهم ومنَعتهم {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} وذلك أنَّهم كانوا أهل حلقةٍ وحصونٍ فظنُّوا أنَّها تحفظهم من ظهور المسلمين عليهم {فأتاهم الله} أي: أمر الله {من حيث لم يحتسبوا} من جهة المؤمنين وما كانوا يحسبون أنَّهم يغلبونهم ويظهرون عليهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} ألقى في قلوبهم الخوف بقتل سيِّدهم {يخربون بيوتهم بأيديهم} وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم على أنَّ لهم ما أقلَّت الإِبل وكانوا ينظرون إلى الخشبة والشَّيء في منازلهم ممَّا يستحسنونه فيقلعونه وينتزعونه ويهدمون البيوت لأجله فذلك إخراجهم بأيديهم ويخرِّب المؤمنون باقيها وهو قوله: {وأيدي المؤمنين} وأضاف الإخراب بأيدي المؤمنين إليهم لأنهم عضوا منازلهم للخراب بنقض العهد {فاعتبروا} فاتَّعظوا {يا أولي الأبصار} يا ذوي العقول فلا تفعلوا فعل بني النير فينزل بكم ما نزل بهم

3

{ولولا أن كتب الله} قضى الله {عليهم الجلاء} الخروج عن الوطن {لعذَّبهم في الدنيا} بالقتل والسَّبى كما فعل بقريظة

4

{ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}

5

{ما قطعتم من لينة} من نخلةٍ من نخيلهم {أو تركتموها قائمة} فلم تقطعوها {فبإذن الله} أي: إنَّه أذن في ذلك إِنْ شئتم قطعتم وإنْ شئتم تركتم وذلك أنَّهم لمَّا تحصَّنوا بحصونهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وإحراقها فجزعوا من ذلك وقالوا: من أين لك يا محمَّد عقر الشَّجر المثمر؟ واختلف المسلمون في ذلك فمنهم مَنْ قطع غيظاً لهم ومنهم من ترك القطع وقالوا: هو مالنا: أفاء الله علينا به فأخبر الله أنَّ كلَّ ذلك من القطع والتَّرك بإذنه {وليخزي الفاسقين} وليذلَّ اليهود وليغيظهم

6

{وما أفاء الله على رسوله} ردَّ الله على رسوله ورجع إليه {منهم} من بني النَّضير من الأموال {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أَيْ: ما حملتم خيلكم ولا إبلكم على الوجيف إليه وهو السَّير السَّريع والمعنى: لم تركبوا إليه خيلاً ولا إبلاً ولا قطعتم إليه شفة فهو خالصٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فيه ما أحبَّ وليس كالغنيمة التي تكون للغانمين وهذا معنى قوله: {ولكنَّ الله يسلط رسله على مَنْ يشاء} الآية

7

{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} من أموال القرى الكافرة {فللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وكان الفيء يُخَمَّسُ خمسةَ أخماسٍ فكانت أربعةُ أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية وأمَّا اليوم فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الفيء يُصرف إلى أهل الثُّغور المُترصِّدين للقتال في أحد قولي الشَّافعي رحمه الله والفيء: كلُّ مالٍ رجع إلى المسلمين من أيدي الكفَّار عفواً من غير قتال مثل: مال الصُّلح والجزية والخراج أو هربوا فتركوا ديارهم وأموالهم كفعل بني النَّضير وقوله: {كيلا يكون} يعني: الفيء {دولة} متداولاً {بين الأغنياء} الرُّؤساء والأقوياء {منكم وما آتاكم الرسول} أعطاكم من الفيء {فخذوه وما نهاكم عنه} عن أخذه {فانتهوا}

8

{للفقراء المهاجرين} يعني: خمس الفيء للذين هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم حُبَّاً لله ولرسوله ونصرةً لدينه وهو قوله: {وينصرون الله} أي: دينه {ورسوله أولئك هم الصادقون} في إيمانهم

9

{والذين تبوؤوا الدار والإِيمان} نزلوا المدينة وقبلوا الإيمان {من قبلهم} من قبل المهاجرين وهم الأنصار {يحبون من هاجر إليهم} من المسلمين {ولا يجدون في صدورهم حاجة} غيظاً وحسداً {مما أوتوا} ممَّا أُوتي المهاجرون من الفيء وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النَّضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلاَّ ثلاثة نفرٍ كانت بهم حاجة فطابت أنفس الأنصار بذلك فذلك قوله: {ويؤثرون على أنفسهم} أَي: يختارون إخوانهم المهاجرين بالمال على أنفسهم {ولو كان بهم خصاصة} حاجةٌ وفاقةٌ إلى المال {ومَنْ يوق شح نفسه} مَنْ حُفظ من الحرص المهلك على المال وهو حرصٌ يحمله على إمساك المال عن الحقوق والحسد {فأولئك هم المفلحون}

10

{والذين جاؤوا من بعدهم} أي: والذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} أي: المهاجرين والأنصار {ولا تجعل في قلوبنا غلاً} حقداً {للذين آمنوا} الآية فمن ترحَّم عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم فهو من أهل هذه الآية ومَنْ يشتم واحداً منهم ولم يترحَّم عليه لم يكن له حظٌّ في الفيء وكان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين وهم ثلاثةٌ: المهاجرون والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم بهذه الصِّفة التي ذكرها الله تعالى

11

{ألم تر إلى الذين نافقوا} الآية وذلك أنَّ المنافقين ذهبوا إلى بني النَّضير لمَّا حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم محمدٌ كنَّا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم وذلك قوله: {لئن أخرجتم لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً} سألنا خذلانكم {أبداً} فكذَّبهم الله تعالى فيما قالوا بقوله: {والله يشهد إنهم لكاذبون} والآية الثَّانية وذكر أنَّهم إن نصروهم انهزموا ولم ينتصروا وهو قوله:

12

{ولئن نصروهم ليولنَّ الأدبار ثمَّ لا ينصرون}

13

{لأنتم} أيُّها المؤمنون {أشد رهبة في صدورهم} صدور المنافقين من الله يقول: أنتم أهيبُ في صدورهم من الله تعالى لأنهم يخفون منكم موافقة اليهود خوفاً منكم ولا يخافون الله فيتركون ذلك

14

{لا يقاتلونكم جميعاً} أي: اليهود {إلاَّ في قرىً محصنة أو من وراء جدر} أي: لِمَا ألقى الله في قلوبهم من الرعب لا يقاتلونكم إلاَّ محصنين بالقرى والجدران ولا يبرزون لقتالكم {بأسهم بينهم شديد} خلافهم بينهم عظيم {تحسبهم جميعاً} مُجتمعين مُتَّفقين {وقلوبهم شتى} مُختلفةٌ مُتفرِّقةٌ و {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} عن الله أمره

15

{كمثل الذين من قبلهم} أي: المشركين يقول: هم في تركهم الإيمان وغفلتهم عن عذاب الله كالذين من قبلهم {قريباً ذاقوا وبال أمرهم} يعني: أهل بدرٍ ذاقوا العذاب بمدَّةٍ قليلةٍ من قبل ما حلَّ بالنَّضير من الجلاء والنَّفي وكان ذلك بعد مرجعه من أُحدٍ وقوله:

16

{كمثل الشيطان} يعني: إنَّ المنافقين في نصرتهم لليهود كمثل الشَّيطان {إذ قال للإِنسان اكفر} يعني: عابداً في بني إسرائيل فتنه الشَّيطان حتى كفر ثمَّ خذله كذلك المنافقون منَّوا بني النَّضير نصرتهم ثمَّ خذلوهم وتبرَّؤوا منهم

17

{فكان عاقبتهما} عاقبة الشَّيطان والكافر {أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين}

18

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} بأداء فرائضه واجتناب معاصيه {ولتنظر نفسٌ ما قدَّمت لغد} يوم القيامة من طاعةٍ وعملٍ صالحٍ

19

{ولا تكونوا كالذين نسوا الله} تركوا طاعة اللَّه وأمره {فأنساهم أنفسهم} حظَّ أنفسهم أن يُقدِّموا لها خيرا

20

{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}

21

{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} أخبر الله تعالى أنَّ من شأن القرآن وعظمته أنَّه لو جُعل في الجبل تمييزٌ - كما جعل في الإنسان - وأُنزل عليه القرآن لخشع وتصدَّع أَيْ: تشقَّق من خشية الله قوله:

22

{عالم الغيب والشهادة} السِّرِّ والعلانيَة وقوله:

23

{الملك} : ذو الملك {القدوس} الطَّاهر عمَّا لا يليق به {السلام} ذو السَّلامة من الآفات والنقائض {المؤمن} المُصدِّق رسله بخلق المعجزة لهم وقيل: الذي آمن خلقه من ظلمه {المهيمن} الشَّهيد {العزيز} القويُّ {الجبار} الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره {المتكبر} عمَّا لا يليق به

24

{هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}

سورة الممتحنة

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة لمَّا كتب إلى مشركي مكَّة ينذرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إليهم {تلقون إليهم بالمودة} أَيْ: تُلقون إليهم أخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وسرَّه بالمودة التي بينكم وبينهم {وقد كفروا} أَي: وحالهم أنَّهم كافرون {بما جاءكم من الحق} دين الإِسلام والقرآن {يخرجون الرسول وإياكم} أيُّها المؤمنون من مكَّة {أن تؤمنوا} لأن آمنتم {بالله ربكم إن كنتم خرجتم} من مكَّة {جهاداً} للجهاد {في سبيلي وابتغاء مرضاتي} وجواب هذا الشَّرط متقدِّم وهو قوله: {لا تتخذوا عدوي} أي: لا تتَّخذوهم أولياء إن كنتم تبتغون مرضاتي وقوله: {تسرون إليهم بالمودة} كقوله: {تُلقون إليهم بالمودَّة} {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} وذلك أنَّ الله أطلع نبيَّه عليه السَّلام على مكاتبة حاطبٍ للمشركين حتى استردَّ الكتاب ممَّن دفعه إليه ليوصله إليهم {ومن يفعله منكم} أي: الإسرار إليهم {فقد ضلَّ سواء السبيل} أخطأ طريق الدِّين ثمَّ أعلم أنَّه ليس ينفعهم ذلك عند المشركين فقال:

2

{إن يثقفوكم} أَيْ: يلقوكم ويظفروا بكم {يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم} بالضَّرب والقتل {وألسنتهم بالسّوء} أي: الشَّتم {وودوا لو تكفرون} فلا تُناصِحوهم فإنَّهم معكم على هذه الحالة ثمَّ أخبر أنَّ أهلهم وأولادهم الذين لأجلهم يُناصحون المشركين لا ينفعونهم شيئاً في القيامة فقال:

3

{لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} المشركون {يوم القيامة يفصل بينكم} فيدخل المؤمنون الجنَّة والكافرون النَّار ثمَّ أمرَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأصحاب إبراهيم عليه السَّلام فقال:

4

{قد كانت لكم أسوة حسنة} ائتمامٌ واقتداءٌ وطريقةٌ حسنةٌ {في إبراهيم والذين معه} من أصحابه إذ تبرَّؤوا من قومهم الكفَّار وعادوهم وقالوا لهم: {كفرنا بكم} أَيْ: أنكرناكم وقطعنا محبتكم وقوله: {إلاَّ قول إبراهيم لأبيه} أَيْ: كانت لكم أسوةٌ فيهم ما خلا هذا فإنَه لا يجوز الاستغفار للمشركين ثمَّ أخبرنا أنَّهم قالوا يعني قوم إبراهيم: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير}

5

{ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} أَيْ: لا تُظهرهم علينا فيظنوا أنَّهم على حق فيقتتنوا بذلك

6

{لقد كان لكم فيهم} في إبراهيم والذين معه {أسوة حسنة} تقتدون بهم فتفعلون من البراءة من الكفَّار كما فعلوا وتقولون كما قال ممَّا أخبر عنهم ثمَّ بيَّن أنَّ هذا الاقتداء بهم {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} {ومن يتول} عن الحقِّ ووالى الكفَّار {فإنَّ الله هو الغني الحميد}

7

{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم} من مشركي مكَّة {مودَّة} بأن يهديهم للدِّين فيصبروا لكم أولياء وإخواناً ثمَّ فعل ذلك بعد فتح مكَّة فتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ولأن أبي سفيان للمؤمنين وترك ما كان عليه من العداوة ثمَّ رخص في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال:

8

{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} أَيْ: لا ينهاكم عن برِّ هؤلاء {وتقسطوا إليهم} أَيْ: تعدلوا فيهم بالإحسان ثمَّ ذكر أنَّه إنَّما ينهاهم عن أن يتولَّوا مشركي مكَّة الذين قاتلوهم فقال:

9

{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم}

10

{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} الآية نزلت بعد صلح الحديبية وكان الصُّلح قد وقع على أن يردَّ إلى أهل مكَّة مَنْ جاء من المؤمنين منهم فأنزل الله في النِّساء إذا جئن مهاجراتٍ أَنْ يمتحن وهو قوله: {فامتحنوهن} وهو أنّْ تُستحلف ما خرجت بُغضاً لزوجها ولا عشقاً لرجلٍ من المسلمين وما خرجت إلاَّ رغبةً في الإسلام فإذا حلفت لم تردَّ إلى الكفَّار وهو قوله: {فإن علمتموهنَّ مؤمنات فلا ترجعوهنَّ إلى الكفار} لأنَّ المسلمةَ لا تحلُّ للكافر وقوله: {وآتوهم} يعني: أزواجهم الكفَّار ما أنفقوا عليهنَّ من المهر {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهنَّ} أي: مهورهنَّ وإن كان لهنَّ أزواجٌ كفَّارٌ في دار الإِسلام لأنَّ الإِسلام أبطل تلك الزَّوجية {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} أَيْ: لا تمسكوا بنكاحهنَّ فإنَّ العصمة لا تبقى بين المشركة والمؤمن والمعنى: إن لحقت بالمشركين واحدةٌ من نسائكم فلا تتمسكوا بنكاحها {واسألوا ما أنفقتم} عليهنَّ من المهر مَنْ يتزوجهنَّ من الكفَّار {وليسألوا} يعني: المشركين {ما أنفقوا} من المهر فلمَّا نزلت هذه الآية أدَّى المؤمنون ما أُمروا به من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون ذلك فنزلت:

11

{وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} أَيْ: لحقتْ واحدةٌ من نسائكم مرتدَّةً بالكفَّار {فعاقبتم} فغزوتموهم وكانت العقبى لكم {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم} إلى الكفَّار {مثل ما أنفقوا} عليهنَّ من الغنائم ثمَّ نزل في بيعة النِّساء:

12

{يا أيها النبيُّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنَّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} أَيْ: لا يأتين بولدٍ ينسبنه إلى الزَّوج فإن ذلك بهتانٌ وفِريةٌ {ولا يعصينك في معروف} أيْ: فيما وافق طاعة الله تعالى {فبايعهنَّ} أمره أن يُبايعهنَّ على الشَّرائط التي ذكرها في هذه الآية ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود فقال:

13

{يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة} أن يكون لهم فيها ثوابٌ {كما يئس الكفار} الذين لا يوقنون بالبعث {من أصحاب القبور} أن يُبعثوا وقيل: كما يئس الكفار الذين في القبور مَنْ أَنْ يكون لهم في الآخرة خيرٌ

سورة الصف

{سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}

2

{يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون} كان المؤمنون يقولون: لو علمنا أحبَّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فأُخبروا بذلك في قوله: {إنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون} الآية

3

وقوله: {كَبُر مقتاً عند الله} أَيْ: عَظُم ذلك في البغض {أن تقولوا ما لا تفعلون} وقوله:

4

{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} وأُعلموا أنَّ أحب الأعمال إلى الله الجهاد فلم يَفوا بما قالوا وانهزموا يوم أُحدٍ فَعُيِّروا بهذه الآية وقوله: {كأنهم بنيان مرصوص} لاصق بعضه ببعض لا يزولون عن أماكنهم

5

{وإذ قال موسى} أَيْ: اذكر يا محمَّد لقومك قصَّة موسى إذ قال لقومه: {يا قوم لم تؤذونني} وذلك حين رموه بالأذرة {وقد تعلمون أني رسول الله إليكم} والرَّسول يُعظَّم ولا يُؤذى {فلما زاغوا} عدلوا عن الحقِّ {أزاغ الله قلوبهم} أضلَّهم الله وصرف قلوبهم عن الحقِّ {والله لا يهدي القوم الفاسقين} أَيْ: مَنْ سبق في علمه أنَّه فاسقٌ وقوله:

6

{وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل أني رسول الله إليكم مُصدِّقاً لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين}

7

{ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين}

8

{يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}

9

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}

10

{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}

11

{تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}

12

{يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم}

13

{وأخرى تحبونها} أَيْ: ولكم أخرى تحبُّونها في العاجل مع ثواب الآجل ثمَّ بيَّن ما هي فقال: {نصرٌ من الله وفتح قريب}

14

{يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله} أعواناً بالسَّيف على أعدائه {كما قال عيسى ابن مريم للحواريين مَنْ أنصاري إلى الله} أَيْ: مع الله {قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل} بعيسى {وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا} قوّيناهم {على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} غالبين

سورة الجمعة

{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم}

2

{هو الذي بعث في الأميين} يعني: العرب {رسولاً منهم} محمداً عليه السَّلام

3

{وآخرين منهم} أَيْ: وفي آخرين منهم {لما يلحقوا بهم} وهم التَّابعون وجميعُ مَنْ يدخل في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى كلِّ مَنْ شاهده وإِلى كلِّ مَنْ كان بعدهم من العرب والعجم

4

{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذو الفضل العظيم}

5

{مثل الذين حملوا التوراة} كُلِّفوا العمل بها {ثمَّ لم يحملوها} لم يعملوا بما فيها {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} كتباً أَيْ: اليهود شبَّههم في قلَّة انتفاعهم بما في أيديهم من التَّوراة إذ لم يؤمنوا بمحمد عليه السَّلام بالحمار يحمل كتباً ثمَّ قال: {بئس مثلُ القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}

6

{قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادقين} فسِّر في سورة البقرة عند قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} الآية

7

{ولا يتمنونه أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}

8

{قل إنَّ الموت الذي تفِرُّون منه} وذلك أنَّهم علموا أنَّ عاقبتهم النَّار بتكذيب محمد عليه السلام فكرهوا الموت قال الله: {فإنَّه ملاقيكم} أَيْ: لا بدَّ لكم منه يلقاكم وتلقونه

9

{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} أي: اعملوا على المشي إليه {وذروا البيع} اتركوه بعد النِّداء

10

{فإذا قضيت الصَّلاة} فُرغ منها {فانتشروا في الأرض} أَمرُ إباحةٍ {وابتغوا من فضل الله} الرِّزق

11

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} أَيْ: تفرَّقوا عنك إلى التِّجارة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة فقدمت عيرٌ وضرب لقدومها الطبل وكان ذلك في زمان غلاءٍ بالمدينة فتفرَّق الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى التِّجارة وصوت الطبل ولم يبق معه إلاَّ اثنا عشر نفساً وقوله: {وتركوك قائماً} أَيْ: في الخطبة {قل ما عند الله} للمؤمنين {خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} فإيَّاه فاسألوا ولا تنفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلب الزرق

سورة المنافقون

{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون} لإِضمارهم خلاف ما أظهروا

2

{اتخذوا أيمانهم} جمع يمينٍ {جنَّة} سترةً يستترون بها من القتل يعني: قولهم: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم} وقوله: {يحلفون بالله ما قالوا} {فصدوا عن سبيل الله} منعوا النَّاس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {إنهم ساء ما كانوا يعملون} بئس العملُ عملهم

3

{ذلك بأنهم آمنوا} في الظَّاهر {ثمَّ كفروا} بالاعتقاد

4

{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} في طولها واستواء خلقها وكان عبد الله ابن أبي جسيماً صبيحاً فصيحاً إذا تكلم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله وهو قوله: {وإن يقولوا تسمع لقولهم} ثمَّ أعلم أنَّهم في ترك التَّفهُّم بمنزلة الخشب فقال: {كأنهم خشب مسندة} أَيْ: ممالة إلى الجدار {يسبحون} من جُبنهم وسوء ظنِّهم {كلَّ صيحة عليهم} أَيْ: إنْ نادى منادٍ في العسكر أو ارتفع صوتٌ ظنُّوا أنَّهم يُرادون بذلك لما في قلوبهم من الرُّعب {هم العدو} وإن كانوا معك {فاحذرهم} ولا تأمنهم {قاتلهم الله} لعنهم الله {أنى يؤفكون} من أين يُصرفون عن الحقِّ بالباطل؟ !

5

{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم} وذلك أنَّه لما نزلت هذا الآيات قيل لعبد الله بن أبيّ: لقد نزلت فيك آيٌ شدادٌ فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه وأعرض بوجهه إظهاراً للكراهة {ورأيتهم يصدون} يُعرضون عمَّا دُعوا إليه {وهم مستكبرون} لا يستغفرون ثمَّ أخبر أنَّ استغفار الرَّسول عليه السَّلام لا ينفعهم لفسقهم وكفرهم فقال:

6

{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لهم لن يغفر الله لهم}

7

{هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله} وذلك أن عبد الله ابن أبي قال لقومه وذويه: لا تنفقوا على أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم عنهم - حتى يفضوا أَيْ: يتفرَّقوا {ولله خزائن السماوات والأرض} أَيْ: إنَّه يرزق الخلق كلَّهم وهو يرزق المؤمنين والمنافقين جميعاً

8

{يقولون لئن رجعنا إلى المدينة} يعني: عبد الله بن أبيّ وكان قد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق وجرى بينه وبين واحدٍ من المؤمنين جدال فأفرط عليه المؤمن فقال عبد الله بن أبيّ: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل} يعني: الأعز نفسه والأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى: {ولله العزَّة} القوَّة والغلبة {ولرسوله} بعلوِّ كلمته وإظهار دينه {وللمؤمنين} بنصر الله إيَّاهم على مَنْ ناوأهم

9

{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم} لا تشغلكم {أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} أَيْ: الصَّلوات الخمس {ومَنْ يفعل ذلك} يشتغل بشيءٍ عن الصَّلوات {فأولئك هم الخاسرون}

10

{وأنفقوا من ما رزقناكم} يعني: أذوا الزَّكاة {من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب} هلاَّ أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ يسأل الرجعة وما قصَّر أحدٌ في الزَّكاة والحجِّ إلاَّ سأل الرَّجعة عند الموت {فأصدَّق} أَيْ: أتصدَّق وأُزكِّي {وأكن من الصالحين} أَيْ: أحج قال الله تعالى:

11

{ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبيرٌ بما تعملون}

سورة التغابن

{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}

2

{هو الذي خلقكم} أَيْ: في بطون أمهاتكم {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} أَيْ: خلقكم كُفَّاراً ومؤمنين وقوله:

3

{فأحسن صوركم} أَيْ: خلقكم أحسن الحيوان

4

{يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليمٌ بذات الصدور}

5

{ألم يأتكم} يا أهلَ مكَّة {نبأ الذين كفروا من قبل} أَيْ: خبر الأمم الكافرة قبلكم {فذاقوا وبال أمرهم} ذاقوا في الدُّنيا العقوبة بكفرهم {ولهم} في الآخرة {عذاب أليم}

6

{ذلك} أَيْ: ذلك الذي نزل بهم {بأنَّه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشرٌ يهدوننا} استبعدوا أن يكون الدَّاعي إلى الحقِّ بشراً والمراد بالبشر ههنا الجمع لذلك قال: {يهدوننا فكفروا وتولوا} عن الإِيمان {واستغنى الله} أَيْ: عن إيمانهم {والله غنيٌّ} عن خلقه {حميد} في أفعاله وقوله:

7

{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير}

8

{فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير}

9

{يوم التغابن} يغبن فيه أهلُ الجنَّة أهلَ النَّار بأخذ منازلهم التي كانت لهم في الجنَّة لو آمنوا ويغبن مَنْ ارتفعت منزلته في الجنَّة مَنْ كان دون منزلته فيظهر في ذلك اليوم غبن كلِّ كافرٍ بترك الإِيمان وغبن كلِّ مؤمنٍ بتقصيره

10

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خالدين فيها وبئس المصير}

11

{ما أصاب من مصيبة إلاَّ بإذن الله} بعلمه وإرادته {ومَنْ يؤمن بالله} يُصدِّق بأنَّه لا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله {يهد قلبه} يجعله مهتدياً حتى يشكر عند النِّعمة ويصبر عند الشدة

12

{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين}

13

{الله لا إله إلاَّ هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون}

14

{يا أيها الذين آمنوا إنَّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} نزلت في قومٍ آمنوا وأرادوا الهجرة فثبَّطهم أهلهم وأولادهم وقالوا: لا نصبر على مفارفتكم فأخبر الله تعالى أنَّهم أعداءٌ لهم بحملهم إيَّاهم على المعصية وترك الطَّاعة {فاحذروهم} أن تقبلوا منهم ولا تطيعوهم ثمَّ إذا هاجر هذا الذي ثبَّطه أهله عن الهجرة رأى النَّاس قد تعلَّموا القرآن وتفقَّهوا في الدِّين فيهمُّ أن يعاقب أهله فقال الله تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}

15

{أنما أموالكم وأولادكم فتنة} ابتلاء واختبارٌ لكم فمَنْ كسب الحرام لأجل الأولاد ومنع ماله عن الحقوق فهو مفتونٌ بالمال والولد {والله عنده أجر عظيم} لمن صبر عن الحرام وأنفق المال في حقِّه

16

{فاتقوا الله ما استطعتم} يعني: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عن ذلك وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى: {اتَّقوا اللَّهَ حقَّ تُقاتِه} وقوله: {وأنفقوا خيراً لأنفسكم} أَيْ: قدِّموا خيرا لأنفسكم من أموالكم {ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفسه} بخلها وحرصها حتى ينفق المال {فأولئك هم المفلحون} الفائزون بالخير

17

{إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم}

18

{عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}

سورة الطلاق

{يا أيها النبيُّ إذا طلقتم النساء} هذا خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون داخلون معه في الخطاب ومعنى قوله: {إذا طلقتم} : إذا أردتم طلاق النِّساء {فطلقوهنَّ لعدتهنَّّ} أَيْ: لطهرهنَّ الذي يحصينه من عدتهنَّ وهذا سنَّةُ الطَّلاق ولا تُطلقوهنَّ لحيضتهنَّ التي لا يعتدون بها من زمان العِدَّة {وأحصوا العدة} أَيْ: عدد أقرائها واحفظوها لتعلموا وقت الرَّجعة إن أردتم أن تُراجعوهنَّ وذلك أنَّ الرجعة إنَّما تجوز في زمان العِدَّة {واتقوا الله ربكم} وأطيعوه فيما يأمركم وينهاكم {لا تخرجوهنَّ من بيوتهن} حتى تنقضي عدَّتهنَّ {ولا يخرجن} من البيوت في زمان العِدَّة {إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينة} وهي الزِّنا فيخرجن حينئذٍ لإِقامة الحدِّ عليهنَّ {وتلك حدود الله} يعني: ما ذكر من طلاق السُّنَّة {ومَنْ يتعدَّ حدود الله} ما حدَّ الله له من الطَّلاق وغيره {فقد ظلم نفسه لا تدري لعلَّ الله يحدث بعد ذلك أمراً} بعد الطَّلاق مراجعةً وهذا يدلُّ على كراهية التَّطليق ثلاثاً بمرَّةٍ واحدةٍ لأنَّ إحداث الرَّجعة لا يكون بعد الثَّلاث

2

{فإذا بلغن أجلهنَّ} قاربن انقضاء العدَّة {فأمسكوهنَّ} برجعةٍ تراجعونهنَّ بها {بمعروف} وهو أن لا يريد بالرَّجعة ضرارها {أو فارقوهنَّ بمعروف} أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين ولا تضروهن بمراجعتهنَّ {وأشهدوا ذوي عدل منكم} على الرَّجعة أو الفراق {ومَنْ يتَّق الله} يُعطه فيما يأمره وينهاه {يجعل له مخرجاً} من الشدَّة إلى الرَّخاء ومن الحرام إلى الحلال ومن النَّار إلى الجنَّة يعني: من صبر على الضِّيق واتَّقى الحرام جعل الله له مخرجاً من الضِّيق

3

{ويرزقه من حيث لا يحتسب} ويروى أنَّ هذا نزل في عوف بن مالك الأشجعيِّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ العدو أسر ابني وشكا إليه الفاقة فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم اتَّق الله واصبر وأَكْثِرْ من قول: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله ففعل الرَّجل ذلك فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو وأصابَ إبلاً لهم وغنماً فساقها إلى أبيه {ومَن يتوكل على الله} ما أهمَّه يتوثق به ويسكن قلبه إليه {فهو حسبه} كافيه {إنَّ الله بالغ أمره} يبلغ أمره فيما يريد وينفذه {قد جعل الله لكل شيء قدراً} ميقاتاً وأجلاً

4

{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم} أَيْ: القواعد من النِّساء اللاتي قعدن عن الحيض {إن ارتبتم} إنْ شككتم في حكمهنَّ ولم تعلموا عدَّتهنَّ وذلك أنَّهم سألوا فقالوا: قد عرفنا عدَّة التي تحيض فما عِدَّة التي لا تحيض والتي لم تحض بعده؟ فبيَّن الله تعالى ذلك فقال: {فعدتهنَّ ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} يعني: الصِّغار {وأولات الأحمال} ذوات الحمل من النِّساء {أجلهنَّ} عدتهنَّ {أن يضعن حملهنَّ} فإذا وضعت الحامل انقضت عدَّتها مُطلَّقةً كانت أو مُتوفَّى عنها زوجها {ومن يتق الله} بطاعته في أوامره ونواهيه {يجعل له من أمره يسراً} أتاه باليسر في أموره

5

{ذلك} يعني: ما ذكر من أحكام العِدَّة {أمر الله أنزله إليكم} الآية

6

{أسكنوهنَّ} أَيْ: المطلَّقات {من حيث سكنتم} أَيْ: من منازلكم وبيوتكم {من وُجدكم} : من سعتكم وطاقتكم {ولا تضاروهنَّ} لا تؤذوهن {لتضيقوا عليهن} مساكنهن فيحتجن إلى الخروج {وإن كنّ} أي المطلقات {أولات حَمْلٍ فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم} أولادكم منهنَّ {فآتوهن أجورهنّ} على إرضاعهن {وأتمروا بينكم بمعروف} أَيْ: ليقبل بعضكم من بعضٍ إذا أمره بمعروف {وإن تعاسرتم} تضايقتم ولم تتوافقوا على إرضاع الأمِّ {فسترضع} الصَّبيَّ {له} لوالده مرضعةٌ أخرى سوى الأُمَّ ولا تُكرَهُ الأمُّ على الإِرضاع

7

{لينفق ذو سعة من سعته} أمر أهل التَّوسعة أن يُوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهنَّ {ومَنْ قدر عليه رزقه} مَنْ كان رزقه بمقدار القوت {فلينفق} على قدر ذلك {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} أعطاها {سيجعل الله بعد عسرٍ يُسْراً} أعلم الله تعالى المؤمنين أنَّهم - وإن كانوا في حالٍ ضيقةٍ - سَيُوَسِّرهم ويفتح عليهم وكان الغالب عليهم في ذلك الوقت الفقر والفاقة ثمَّ فتح الله عليهم وجاءهم باليسر

8

{وكأين} وكم {من قرية عتت عن أمر ربها ورسله} عتا أهلها عمَّا أمر الله تعالى به ورسله {فحاسبناها} في الآخرة {حساباً شديداً وعذَّبناها عذاباً نكراً} فظيعاً يعني: عذاب النَّار

9

{فذاقت وبال أمرها} ثقل عاقبة أمرها {وكان عاقبة أمرها خسراً} خساراً وهلاكاً وقوله:

10

{قد أنزل الله إليكم ذكراً} أَيْ: القرآن

11

{رسولاً} أَيْ: وأرسل رسولاً {يتلو عليكم آياتِ الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وقوله: {قد أحسن الله له رزقاً} أَيْ: رزقهُ الجنَّة التي لا ينقطع نعيمُها وقوله:

12

{يتنزل الأمر بينهنَّ} يعني: إن من كلِّ سماء وكلِّ أرض خلقاً من خلقه وأمراً نافذاً من أمره {لتعلموا} أَيْ: أعلمكم ذلك وبيَّنه لتعلموا قدرته على كلّ شيء وأنَّه علم كلَّ شيءٍ

سورة التحريم

{يا أيها النبيُّ لم تحرم ما أحل الله لك} [رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل حفصة في يوم نوبتها فخرجت هي لبعض شأنها فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مارية جاريته وأدخلها بيت حفصة وواقعها فلمَّا رجعت حفصة علمت بذلك فغضبت وبكت وقالت: أَما لي حرمةٌ عندك وحقٌّ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسكتي فهي حرامٌ عليَّ أبتغي بذلك رضاك وحلف أن لا يقربها وبشَّرها بأنَّ الخليفة من بعده أبوها وأبو عائشة رضي الله عنهم أجمعين ذكوراً وإناثاً وقال لها: لا تخبرني أحداً بما أسررتُ إليك من أمر الجارية وأمر الخلافة من بعدي فلمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها أخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها بذلك وقالت: قد أراحنا الله من مارية فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّمها على نفسه] وقصَّت عليها القصَّة فنزل: {لم تحرم ما أحل الله لك} أَيْ: الجارية {تبتغي} بتحريمها {مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} غفر لك ما فعلت من التَّحريم ثمَّ أمره بأن يكفِّر عن يمنيه فقال:

2

{قد فرض الله لكم} أَيْ: بيَّن الله لكم {تحلَّة أيمانكم} ما تستحلُّ به المحذوف عليه من الكفَّار يعني: في سورة المائدة

3

{وإذ أسرَّ النبيُّ إلى بعض أزواجه} يعني: حفصة {حديثاً} تحريم الجارية وأمر الخلافة {فلما نبأت به} أخبرت به عائشة رضوان الله عليهما وعلى أبيهما {وأظهره الله عليه} أطلع نبيَّه عليه السَّلام على إفشائها السِّرَّ {عرَّف بعضه} أخبر حفصه ببعض ما قالت لعائشة {وأعرض عن بعض} فلم يُعرِّفها إيَّأه على وجه التَّكرُّم والإِغضاء {فلما نبأها به} أخبر حفصة بما فعلت {قالت من أنبأك هذا} من أخبرك بما فعلت؟ {قال نبأني العليم الخبير}

4

{إن تتوبا إلى الله} يعني: عائشة وحفصة {فقد صغت قلوبكما} عذلت وزاغت عن الحقِّ وذلك أنَّهما أحبَّتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته {وإن تظاهرا عليه} تتعاونا على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم {فإنَّ الله هو مولاه} وليُّه وحافظه فلا يضرُّه تظاهُرُكُما عليه وقوله: {وصالح المؤمنين} قيل: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم {والملائكة بعد ذلك ظهير} أَيْ: الملائكة بعد هؤلاء أعوانٌ

5

{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خيراً منكن} هذا إخبارٌ عن قدرة الله تعالى على أن يبذله لو طلَّق أزواجه خيراً منهنَّ وتخويفٌ لنسائه وقوله: {قانتات} مطيعاتٍ {سائحات} صائماتٍ

6

{يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً} أَيْ: خذوا أنفسكم وأهليكم بما يُقرِّب من الله تعالى وجَنِّبوا أنفسكم وأهليكم المعاصي {وقودها الناس والحجارة} أَيْ: توقد بهذين الجنسين {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} يعني: خزنة جهنم وقوله:

7

{يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون}

8

{توبة نصوحاً} هي التَّوبة التي تنصح صاحبها حتى لا يعود إلى ما تاب منه ونصوحاً معناه بالغةً في النُّصْح وقوله: {لا يخزي الله النبيَّ والذين آمنوا معه} أَيْ: لا يفضحكم ولا يهلكهم {نورهم} على الصِّراط {يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} إذا طُفىء نور المنافقين دعوا الله وسألوه أن يتمَّ لهم النُّور ثمَّ ضرب مثلاً للنِّساء الصَّالحات والطَّالحات فقال:

9

{يا أيها النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جهنم وبئس المصير}

10

{ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} أَيْ: في الدِّين فكانت امرأةُ نوحٍ تخبر قومه أنَّه مجنونٌ وامرأة لوط دلَّت على أضيافه {فلم يُغْنيا} يعني: نوحاً ولوطاً {عنهما من} عذاب {الله شيئاً} من شيءٍ وهذا تخويفٌ لعائشة وحفصة وإخبار أنَّ الأنبياء لا يُغنون عن مَنْ عمل بالمعاصي شيئاً وقطعٌ لطمع من ركب المعصية رجاء أن ينفعه صلاح غيره وقوله:

11

{ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة} قيل: إنَّ فرعون لما تبيَّن له إسلامها وَتَدَها على الأرض بأربعة أوتاد على يديها ورجليها فقالت وهي تعذَّب: {ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله} أَيْ: تعذيبه إيَّاي وفي هذا بيانٌ أنَّها لم تمل إلى معصيته مع شدَّة ما قاست من العذاب وكذا فليكن صوالح النِّساء وأمرٌ لعائشة وحفصة أن يكونا كآسيةَ وكمريم بنت عمران وقوله:

12

{ومريم ابنة عمران} هو عطفٌ على قوله: امرأة فرعون {التي أحصنت فرجها} أَيْ: عفَّت وحفظت {فنفخنا فيه من} جيب درعها من {روحنا} فُسِّر في سورة الأنبياء {وصدَّقت بكلمات ربِّها وكتبه} آمنت بما أنزل الله على الأنبياء {وكانت من القانتين} أَيْ: من القوم المُطيعين لله أَيْ: إِنَّها أطاعت فدخلت في جملة المطيعين لله من الرِّجال والنِّساء

سورة الملك

{تبارك} أَيْ: تعالى وتعظَّم {الذي بيده الملك} يُؤتيه مَنْ يشاء وينزعه عمَّن يشاء

2

{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم} في الحياة {أيكم أحسن عملاً} أَيْ: أطوع لله وأروع عن محارمه ثمَّ يُجازيكم بعد الموت

3

{الذي خلق سبع سماوات طباقا} بعضها فوق بعض {ما ترى في خلق الرحمن} أَيْ: خلقه السَّماء {من تفاوت} اضطرب واختلافٍ بل هي مستويةٌ مستقيمةٌ {فارجع البصر} أعد فيها النَّظر {هل ترى من فطور} صدوعٍ وشقوقٍ {ثم ارجع البصر} كرِّر النظر {كرَّتين} مرَّتين

4

{ينقلب إليك البصر} ينصرف ويرجع {خاسئاً} صاغراً ذليلاً {وهو حسير} أيْ: وقد أعيا من قبل أن يرى في السَّماء خللاً

5

{ولقد زيَّنا السماء الدنيا} التي تدنو منكم {بمصابيح} بكواكب {وجعلناها رجوماً} مرامي {للشياطين} إذا استرقوا السَّمع {وأعتدنا لهم} في الآخرة {عذاب السعير}

6

{وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير}

7

{إذا ألقوا فيها سمعوا لها} لجهنَّم {شهيقاً} صوتاً كصوت الحمار {وهي تفور} تغلي

8

{تكاد تميز من الغيظ} تنقطع غضباً على الكفَّار {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها} سؤال توبيخ: {ألم يأتكم نذير} رسولٌ في الدُّنيا ينذركم عذاب الله؟ فقالوا:

9

{قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلاَّ في ضلال كبير}

10

{لو كنا نسمع} من الرسل مَنْ يفهم ويتفكَّر {أو نعقل} عقل مَن ينظر {ما كنا في أصحاب السعير} وقوله:

11

{فاعترفوا بذنبهم} بتكذيب الرُّسل ثمَّ اعترفوا بجهلهم {فسحقاً لأصحاب السعير} أَيْ: أسحقهم الله سحقاً أَيْ: باعدهم من رحمته مُباعدةً

12

{إن الذين يخشون ربهم بالغيب} قبل مُعاينة العذاب وأحكام الآخرة

13

{وأسروا قولكم أو اجهروا به} نزلت في المشركين الذين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم فيخبره الله تعالى فقالوا: فيما بينهم: أَسرّوا قولكم كيلا يسمع إله محمد فقال الله تعالى:

14

{ألا يعلم من خلق} أَيْ: ألا يعلم ما في صدوركم وما تُسرّون به مَنْ خلقكم؟

15

{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً} سهلاً مُسخَّرةً {فامشوا في مناكبها} جوانبها {وإليه النشور} إليه يبعث الخلق

16

{أأمنتم من في السماء} قدرته وسلطانه وعرشه {أن يخسف بكم الأرض} تغور بكم {فإذا هي تمور} تتحرَّك بكم وترتفع فوقكم وقوله:

17

{فستعلمون} أَيْ: عند مُعاينة العذاب {كيف نذير} أَيْ: إنذاري بالعذاب

18

{ولقد كذَّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير} إنكاري إذ أهلكتهم

19

{أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات} باسطاتٍ أجنحتها {ويقبضن} يضربن بها جنوبهنَّ {ما يمسكهنَّ} في حال القبض والبسط {إلاَّ الرحمن} بقدرته

20

{أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم مِنْ دون الرحمن} يدفع عنكم عذابه

21

{بل لجُّوا} تمادوا {في عتوّ} عصيانٍ وضلالٍ {ونفور} تباعدٍ عن الحقِّ

22

{أفمن يمشي مكباً على وجهه} أَيْ: الكافر يُحشر يوم القيامة وهو يمشي على وجهه يقال: كببْتُ فلاناً على وجهه فأكبَّ هو يقول هذا {أهدى أمن يمشي سوياً} مستوياً مستقيماً {على صراط مستقيم} وهو المؤمن

23

{قل هو الذي أنشأكم} خلقكم {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تشكرون} أَيْ: لا تشكرون خالقكم وخالق هذه الأعضاء لكم إذ أشركتم به غيره

24

{قل هو الذي ذرأكم} خلقكم {في الأرض وإليه تحشرون}

25

{ويقولون متى هذا الوعد} أَيْ: وعد الحشر

26

{قل إنما العلم} بوقوعه ومجيئه {عند الله وإنما أنا نذير} مُخوِّفٌ {مبين} أُبيِّن لكم الشَّريعة

27

{فلمَّا رأوه} أَيْ: العذاب في الآخرة {زلفة} قريباً {سيئت وجوه الذين كفروا} تبيَّن في وجوههم السُّوء وعلتها الكآبة {وقيل هذا} العذاب {الذي كنتم به تَدَّعُون} تفتعلون من الدُّعاء أَيْ: تدعون الله به إذ تقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عندك} الآية

28

{قل أرأيتم إن أهلكني الله} فعذَّبني {ومَنْ معي أو رحمنا} غفر لنا {فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} يعني: نحن مع إيماننا خائفون نخاف عذاب الله ونرجو رحمته فمن يمنعكم من عذابه وأنتم كافرون؟

29

{قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين}

30

{قُلْ أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً} غائراً ذاهباً في الأرض {فمن يأتيكم بماء معين} ظاهر تناله الأيدي والدِّلاء

سورة القلم

{ن} أقسم الله بالحوت الذي على ظهره الأرضُ {والقلم} يعني: القلم الذي خلقه الله تعالى فجرى بالكائنات إلى يوم القيامة {وما يسطرون} أَيْ: وما تكتب الملائكة

2

{ما أنت بنعمة ربك} بإنعامه عليك بالنُّبوِّة {بمجنون} أَيْ: إِنَّك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنُّبوَّة وهذا جوابٌ لقولهم: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنَّك لمجنونٌ}

3

{وإنَّ لك لأجراً غير ممنون} غير مقطوعٍ ولا منقوصٍ

4

{وإنك لعلى خلق عظيم} أَيْ: أنت على الخُلُقِ الذي أمرك الله به في القرآن

5

{فستبصر} يا محمد {ويبصرون} أي: المشركون الذين رموه بالجنون

6

{بأيكم المفتون} الفتنة أَبِكَ أم بهم

7

{هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أعلم بالمهتدين}

8

{فلا تطع المكذبين} فيما دعوك إليه من دينهم

9

{وَدُّوا لو تدهن فيدهنون} تلين فلينون لك

10

{ولا تطع كلَّ حلاَّفٍ} كثير الحلف بالباطل أَيْ: الوليد بن المغيرة {مهين} حقير

11

{همَّاز} عيَّابٍ {مشَّاء بنميم} سَاعٍ بين النَّاسِ بالنَّميمة

12

{مناع للخير} بخيلٍ بالمال عن الحقوق {معتد} مجاوزٍ في الظُّلم {أثيم} آثمٍ

13

{عتل} جافٍ غليظٍ {بعد ذلك} مع ذكرنا من أوصافه {زنيم} مُلحَقٍ بقومه وليس منهم

14

{إن كان} لأن كان {ذا مال وبنين} يُكذِّب بالقرآن وهو قوله:

15

{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} والمعنى: أَيجعل مُجازاة نعمة الله عليه بالمال والبنين الكفر بآياتنا؟

16

{سنسمه على الخرطوم} سنجعل على أنفه علامةً باقيةً ما عاش نخطم أنفه بالسَّيف يوم بدرٍ

17

{إنا بلوناهم} امتحنا أهل مكَّة بالقحط والجوع {كما بلونا أصحاب الجنة} كما امتحنَّا أصحاب البستان بإحراقها وذهاب قوتهم منها وكانوا قوماً بناحية اليمن وكان لهم أبٌ وله جنَّةٌ كان يتصدَّق فيها على المساكين فلمَّا مات قال بنوه: نحن جماعةٌ وإنْ فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر فخلقوا ليقطعنَّ ثمرها بسدفةٍ من اللَّيل كيلا يشعر المساكين فيأتوهم وهو قوله: {إذْ أقسموا ليصرمنها مصبحين}

18

{ولا يستثنون} ولا يقولون إن شاء الله

19

{فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون} أَيْ: أنزل الله عليها ناراً أحرقتها

20

{فأصبحت كالصريم} كاللَّيل المُظلم سوداء

21

{فتنادوا مصبحين} نادى بعضهم بعضاً لمَّا أصبحوا ليخرجوا إلى الصِّرام وهو قوله:

22

{أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين} قاطعين الثَّمر

23

{فانطلقوا} ذهبوا إليها {وهم يتخافتون} يسارون الكلام بينهم

24

بـ {أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}

25

{وغدوا على حرد} قصدٍ وجدٍّ {قادرين} عند أنفسهم على ثمر الجنَّة

26

{فلما رأوها} سواد محترقةً {قالوا إنَّا لضالون} مُخطئون طريقنا وليست هذه جنتنا ثم عملوا أنَّها عقوبةٌ من الله تعالى فقالوا:

27

{بل نحن محرومون} حُرمنا ثمر جنَّتنا بمنعنا المساكين

28

{قال أوسطهم} أعدلهم وأفضلهم: {ألم أقل لكم لولا تسبحون} هلاَّ تستثنون ومعنى التَّسبيح ها هنا الاستثناء بإن الله لأنَّه تعظيمٌ لله وكلُّ تعظيمٍ لله فهو تسبيحٌ له

29

{قالوا سبحان ربنا} نزَّهوه عن أن يكون ظالماً وأقرُّوا على أنفسهم بالظُّلم فقالوا: {إنا كنا ظالمين}

30

{فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ومنع حقهم

31

{قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين} بمنع حقِّ الفقراء وترك الاستثناء

32

{عسى ربنا أن يُبْدِلَنا خيراً منها} من هذه الجنَّة {إنا إلى ربنا راغبون}

33

{كذلك العذاب} كما فعلنا بهم نفعل بمَنْ خالف أمرنا ثمَّ بيَّن ما عند الله للمؤمنين فقال تعالى:

34

{إنَّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم} فلمَّا نزلت قال بعض قريش: إنْ كان ما تذكرون حقَّاً فإنَّ لنا في الآخرة أكثرَ ممَّا لكم فنزل:

35

{أفنجعل المسلمين كالمجرمين} {ما لكم كيف تحكمون}

36

{ما لكم كيف تحكمون}

37

{أم لكم كتاب} نزل من عند الله {فيه} ما تقولون {تدرسون} تُقرُّون ما فيه

38

{إنَّ لكم فيه} في ذلك الكتاب {لما تخيرون} تختارون

39

{أم لكم أيمان} عهودٌ ومواثيق {علينا بالغة} محكمةٌ لا ينقطع عهدها {إلى يوم القيامة إنَّ لكم لما تحكمون} تقضون وكسرت إنَّ في الآيتين لمكان اللازم في جوابها وحقُّها الفتح لو لم تكن اللام

40

فـ {سلهم} يا محمد {أيهم بذلك} الذين يقولون من أنَّ لهم في الآخرة حظّاَ {زعيم} كفيلٌ لهم

41

{أم لهم شركاء} آلهةٌ تكفل لهم بما يقولون {فليأتوا بشركائهم} لتكفل لهم {إن كانوا صادقين} فيما يقولون

42

{يوم يكشف عن ساق} عن شدَّةٍ من الأمر وهو يوم القيامة قال ابن عباس رضي الله عنه: أشدُّ ساعةٍ في القيامة فصار كشف السَّاق عبارةً عن شدَّة الأمر {ويدعون إلى السجود} أَيْ: الكافرون والمنافقون {فلا يستطيعون} يصير ظهرهم طبقاً واحداً كلَّما أراد أن يسجد واحدٌ منهم خرَّ على قفاه

43

{خاشعة أبصارهم} ذليلةً لا يرفعونها {ترهقهم} تغشاهم {ذلَّة وقد كانوا يدعون إلى السجود} في الدُّنيا {وهم سالمون} فيأبون ولا يسجدون لله

44

{فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} دعني والمُكذِّبين بهذا القرآن أَيْ: كِلْهُمْ إليَّ ولا تشغل قلبك بهم فإنِّي أكفيك أمرهم {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} أَيْ: نأخذهم قليلاً قليلاً ولا نباغتهم

45

{وأملي لهم} أُمهلهم كي يزدادوا تمادياً في الشِّرك {إنَّ كيدي متين} شديدٌ لا يطاق

46

{أم تسألهم} بل أتسألهم على ما آتيتهم به من الرِّسالة {أجراً فهم من مغرم} ممَّا يعطونك {مُثقلون}

47

{أم عندهم الغيب} علم ما في غدٍ {فهم يكتبون} يحكمون وقوله:

48

{ولا تكن كصاحب الحوت} كيونس في الضَّجر والعجلة {إذ نادى} دعا ربَّه {وهو مكظوم} مملوءٌ غمَّاً

49

{لولا أن تداركه} أدركه {نعمة} رحمةٌ {من ربه لنبذ} لطرح حين ألقاه الحوت {بالعراء} بالأرض الفضاء الواسعة لأنَّها خاليةٌ من البناء والإِنسان والأشجار {وهو مذموم} مجرم

50

{فاجتباه ربه} فاختاره {فجعله من الصالحين} بأن رحمه وتاب عليه

51

{وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر} أَيْ: إنَّهم لشدَّة إبغاضهم وعداوتهم لك إذا قرأت القرآن ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد يصرعك ويسقطك عن مكانك {ويقولون إنه لمجنون}

52

{وما هو} أَيْ: القرآن {إلا ذكر} عظمة {للعالمين}

سورة الحاقة

{الحاقة} أَيْ: القيامة لأنَّها حقَّت فلا كاذبة لها

2

{ما الحاقة} استفهامٌ معناه التَّعظيم لشأنها كقولك: زيدٌ ما هو؟

3

{وما أدراك ما الحاقة} أَيٌّ شيء أعلمك ما ذلك اليوم؟ ثمَّ ذكر أمر مَنْ كذَّب بالقيامة فقال:

4

{كذبت ثمود وعادٌ بالقارعة} بالقيامة التي تقرع القلوب

5

{فأمَّا ثمود فأهلكوا بالطاغية} أَيْ: بالصَّيحة الطَّاغية وهي التي جاوزت المقدار

6

{وأمَّا عادٌ فأهلكوا بريح صرصر عاتية} عتت على خُزَّانها فلم تُطعهم

7

{سخرها عليهم} استعملها عليهم كما شاء وقوله: {حسوماً} أَيْ: دائمةً مُتتابعةً والمعنى: تحسمهم حسوماً أَيْ: تذهبهم وتفنيهم {فترى القوم} أيْ: أهل القرى {فيها} أَيْ: في تلك الأيَّام {صرعى} جمع صريعٍ {كأنهم أعجاز} أصول {نخل خاوية} ساقطةٍ

8

{فهل ترى لهم من باقية} أَيْ: هل ترى منهم باقياً

9

{وجاء فرعون ومِنْ قِبَلِه} أَيْ: تُبَّاعه ومَنْ قرأ {ومَنْ قَبْلَه} فمعناه: مَنْ تقدَّمه من الأمم {والمؤتفكات} أَيْ: أهل قرى قوم لوط {بالخاطئة} بالخطأ العظيم وهو الكفر

10

{فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} زائدةً تزيد على الأخذات

11

{إنَّا لما طغى الماء} جاوز حدَّه يعني: أيَّام الطُّوفان {حملناكم} أَيْ: حملنا آباءكم {في الجارية} وهي السَّفينة

12

{لنجعلها} لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوحٍ وإنجاء مَنْ معه {لكم تذكرة} تتذكَّرونها فتتَّعظون بها {وتعيها أذن واعية} لتحفظها كلُّ أذنٍ تحفظ ما سمعت

13

{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} أَيْ: النِّفخة الأولى لقيام السَّاعة

14

{وحملت الأرض والجبال فدكتا} كُسرتا {دكَّة واحدة} فصارت هباءً منبثاً

15

{فيومئذٍ وقعت الواقعة} قامت القيامة

16

{وانشقت السماء فهي يومئذٍ واهية} أَيْ: مُتَشَقِّقةٌ

17

{والملك} يعني: الملائكة {على أرجائها} نواحيها {ويحمل عرش ربك فوقهم} فوق الملائكة {يومئذٍ ثمانية} أملاك

18

{يومئذٍ تعرضون} على ربِّكم {لا تخفى منكم خافية} كقوله: {لا يخفى على الله منهم شيءٌ}

19

{فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه} خذوا فاقرؤوا كتابي وذلك لما يرى فيه الحسنات

20

{إني ظننت أني ملاق حسابيه} أَيْ: أيقنت أنِّي أُحاسب

21

{فهو في عيشة راضية} ذات رضىً أَيْ: يرضى بها صاحبها

22

{في جنة عالية}

23

{قطوفها دانية} ثمارها قريبةٌ من مريدها على أيِّ حالٍ كان يقال لهم:

24

{كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم} قدمتم لآخرتم من الأعمال الصَّالحة {في الأيام الخالية} الماضية في الدنيا وقوله:

25

{وأمَّا مَنْ أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه}

26

{ولم أدر ما حسابيه}

27

{يا ليتها كانت القاضية} يقول: ليت الموتة التي مُتها لم أَحْيَ بعدها

28

{ما أغنى عني ماليه}

29

{هلك عني سلطانية} ذهب عني حجتي وزال عن ملكي وقوَّتي فيقول الله لخزنة جهنَّم:

30

{خذوه فغلُّوه} {ثم الجحيم صلوه} أدخلوه

31

{ثم الجحيم صلوه}

32

{ثمَّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} أَيْ: أدخلوه في تلك السلسة فتدخل في دبره وتخرج من فيه وهي سلسة لو جُمع حديد الدُّنيا ما وزن حلقةً منها

33

{إنه كان لا يؤمن بالله العظيم}

34

{ولا يحض على طعام المسكين} لا يأمر بالصَّدقة على الفقراء

35

{فليس له اليوم هاهنا حميم} قريبٌ ينفعه

36

{ولا طعام إلا من غسلين} وهو صديد أهل النَّار

37

{لا يأكله إلاَّ الخاطئون} وهم الكافرون

38

{فلا أقسم} {لا} زائدة {بما تبصرون} ما ترون من المخلوقات

39

{وما لا تبصرون} ما ترون منها

40

{إنه} إنَّ القرآن {لقول} لتلاوةُ {رسول كريم} على الله يعني: محمَّداً صلوات الله عليه

41

{وما هو بقول شاعر} أَيْ: ليس هو شاعراً {قليلاً ما تؤمنون} {ما} لغوٌ مؤكِّدة

42

{ولا بقول كاهن} وهو الذي يُخبر عن المُغيَّبات من جهة النُّجوم كذباً وباطلاً ثمَّ بيَّن أنَّ ما يتلوه من الله تعالى فقال:

43

{تنزيل من رب العالمين}

44

{ولو تقول علينا بعض الأقاويل} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لو قال ما لم يُؤمر به وأتى بشيءٍ مِنْ قِبَل نفسه {لأخذنا منه باليمين} {مِنْ} صلةٌ والمعنى: لأخذناه بالقوَّة والقدرة

45

{لأخذنا منه باليمين}

46

{ثمَّ لقطعنا منه الوتين} وهو نياط القلب أَيْ: لأهلكناه

47

{فما منكم من أحد عنه حاجزين} أَيْ: لم يحجزنا عنه أحدٌ منكم

48

{إنه لتذكرة للمتقين}

49

{وإنا لنعلم أن منكم مكذبين}

50

{وإنَّه} أَيْ: القرآن {لحسرة على الكافرين} يوم القيامة إذا رأوا ثواب متابعيه

51

{وإنه لحق اليقين} أَيْ: وإنَّه اليقين حقُّ اليقين

52

{فسبح باسم ربك العظيم} نزِّهه عن السُّوء

سورة المعارج

{سأل سائل} دعا داعٍ {بعذاب واقع}

2

{للكافرين} على الكافرين وهو النَّضر بن الحارث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} الآية {ليس له دافع} ليس لذلك العذاب الذي يقع بهم دافعٌ

3

{من الله} أَيْ: ذلك العذاب يقع بهم من الله {ذي المعارج} ذي السماوات

4

{تعرج الملائكة والروح} يعني: جبريل عليه السَّلام {إليه} إلى محل قربته وكرامته وهو السَّماء {في يوم} {في} صلةُ واقعٍ أَيْ: عذابٌ واقعٌ فِي يَوْمٍ {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو يوم القيامة

5

{فاصبر صبراً جميلاً} وهذا قبل أن أمر بالقتال

6

{إنهم} يعني: المشركين {يرونه} يرون ذلك اليوم {بعيداً} مُحالاً لا يكون

7

{ونراه قريباً} لأنَّ ما هو آتٍ قريبٌ ثمَّ ذكر متى يكون ذلك اليوم فقال:

8

{يوم تكون السماء كالمهل} كدرديِّ الزَّيت وقيل: كالقار المُذاب وقد مَّر هذا

9

{وتكون الجبال} : الجواهر وقيل: الذَّهب والفضَّة والنُّحاس {كالعهن} كالصُّوف المصبوغ

10

{ولا يسأل حميم حميماً} لا يسأل قريبٌ عن قريبٍ لاشتغاله بما هو فيه

11

{يبصرونهم} يُعرَّف بعضهم بعضاً أَيْ: إنَّ الحميم يرى حميمه ويعرفه ولا يسأل عن شأنه {يودُّ المجرم} يتمنَّى الكافر {لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه}

12

{وصاحبته} وزوجته {وأخيه}

13

{وفصيلته} عشيرته التي فُصِلَ منها {التي تؤويه} تضمُّه إليها في النَّسب

14

{ومَنْ في الأرض جميعاً ثم ينجيه} ذلك الافتداء

15

{كلا} ليس الأمر كذلك لا ينجيه شيءٌ {إنها لظى} وهي من أسماء جهنَّم

16

{نزاعة للشوى} يعني: جلود الرأس تقشرها عنه

17

{تدعو} الكافر باسمه والمنافق فتقول: إليَّ إليَّ يا {مَنْ أدبر} عن الإِيمان {وتولى} أعرض

18

{وجمع} المال {فأوعى} فأمسكه في وعائه ولم يُؤدِّ حقَّ الله منه

19

{إنَّ الإِنسان خُلق هلوعاً} وتفسير الهلوع ما ذكره في قوله: {إذا مسَّه الشر جزوعاً} يجزع من الشر ولا يستمسك

20

{إذا مسَّه الشر جزوعاً}

21

{وإذا مسَّه الخير منوعاً} إذا أصاب المال منع حقَّ الله

22

{إلاَّ المصلين} أَيْ: المؤمنين

23

{الذين هم على صلاتهم دائمون} لا يلتفتون في الصَّلاة عن سمت القبلة

24

{والذين في أموالهم حق معلوم}

25

{للسائل والمحروم}

26

{والذين يصدقون بيوم الدين}

27

{والذين هم من عذاب ربهم مشفقون}

28

{إن عذاب ربهم غير مأمون}

29

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}

30

{إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}

31

{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}

32

{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}

33

{والذين هم بشهاداتهم قائمون} يقيمونها ولا يكتمونها

34

{والذين هم على صلاتهم يحافظون}

35

{أولئك في جنات مكرمون}

36

{فمال الذين كفروا} ما بالهم {قبلك مهطعين} يُديمون النَّظر إليك ويتطلّعون نحوك

37

{عن اليمين وعن الشمال} عن جوانبك {عزين} جماعاتٍ حلقاً حلقاً وذلك أنَّهم كانوا يجتمعون عنده ويستهزئون به وبأصحابه ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنَّة فلندخلنَّها قبلهم قال الله تعالى:

38

{أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا} لا يدخلونها {إنا خلقناهم مما يعلمون} من ترابٍ ومن نطفةٍ فلا يستوجب أحدٌ الجنة بشرفه وماله لأنَّ الخلق كلَّهم من أصلٍ واحدٍ بل يستوجبونها بالطاعة

39

{كلا إنا خلقناهم مما يعلمون}

40

{فلا أقسم} لا صلة يعني: أُقسم وقوله:

41

{وما نحن بمسبوقين} أَيْ: بمغلوبين نظيره قد تقدَّم في سورة الواقعة

42

{فذرهم يخوضوا} في باطلهم {ويلعبوا} في دنياهم {حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون} نسختها آية القتال

43

{يوم يخرجون من الأجداث} القبور {سراعاً كأنهم إلى نصب} إلى شيءٍ منصوبٍ من علمٍ أو رايةٍ {يوفضون} يُسرعون

44

{خاشعة أبصارهم} ذليلةً خاضعةً لا يرفعونها لذلَّتهم {ترهقهم ذلة} يغشاهم هوان {ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} يعني: يوم القيامة

سورة نوح

{إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك} أَيْ: بأن خوِّفهم عذاب الله {من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم}

2

{قال يا قوم إني لكم نذير مبين} {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}

3

{أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون}

4

{يغفر لكم من ذنوبكم} {مِنْ} صلة {ويؤخركم} عن العذاب {إلى أجل مسمىً} وهو أجل الموت فتموتوا غيرَ ميتة مَنْ يهلك بالعذاب {إنَّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر} إذا جاء الأجل في الموت لا يُؤخَّر {لو كنتم تعلمون} ذلك وقوله:

5

{قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا}

6

{إلاَّ فراراً} أَيْ: نفاراً عن طاعتك وإدباراً عني

7

{وإني كلما دعوتهم} إلى الإِيمان بك {لتغفر لهم} ما قد سلف من ذنوبهم {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا صوتي {واستغشوا ثيابهم} غطُّوا بها وجوههم مبالغةً في الإِعراض عني كيلا يروني {وأصروا} أَقاموا على كفرهم {واستكبروا} عن اتِّباعي {استكباراً} لأنَّهم قالوا: {أَنؤمنُ لك واتَّبعكَ الأَرْذَلون}

8

{ثم إني دعوتهم جهاراً} أظهرتُ لهم الدَّعوة

9

{ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً} أَيْ: خلطتُ دعاءَهم العلانيَة بدعاءِ السِّرِّ

10

{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} {يرسل السماء عليكم مدرارا}

11

{يرسل السماء عليكم مدراراً}

12

{ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} وذلك أنَّهم لما كذَّبوه حبس الله عنهم المطر وأعقم نساءَهم فهلكت أموالهم ومواشيهم فوعدهم نوحٌ إنْ آمنوا أَنْ يردَّ الله عليهم ذلك فقال: {يرسل السماء عليكم مدراراً} كثيرة الدر أي: كثرة المطر {ويمددكم بأموالٍ وبنين} : يعطكم زينة الدُّنيا وهي المال والبنون

13

{ما لكم لا تَرْجُون لله وقاراً} لا تخافون لله عظمةً

14

{وقد خلقكم أطواراً} حالاً بعد حالٍ نطفةً ثمَّ علقةً ثمَّ مضغةً إلى تمام الخلق

15

{ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا} بعضها فوق بعض

16

{وجعل القمر فيهن نوراً} أي: في إحدهن {وجعل الشمس سراجاً} تُضِيءُ لأهل الأرض

17

{والله أنبتكم من الأرض نباتاً} جعلكم تنبتون من الأرض نباتاً وذلك أنَّه خلق آدم من الأرض وأولاده أحياءً منه

18

{ثم يعيدكم فيها} أمواتاً {ويخرجكم} منها إخراجاً وقوله:

19

{والله جعل لكم الأرض بساطا}

20

{سبلاً فجاجاً} أَيْ: طرقاً بيِّنةً وقوله:

21

{واتبعوا مَنْ لم يزده ماله وولده إلاَّ خساراً} أَيْ: اتَّبعوا أشرافهم الذين لا يزيدون بإنعام الله تعالى عليهم بالمال والولد إلاَّ طغياناً وكفراً

22

{ومكروا مكراً كباراً} أفسدوا في الأرض فساداً عظيماً بالكفر وتكذيب الرسل

23

{وقالوا} لسفلتهم: {لا تذرنَّ آلهتكم ولا تَذَرُنَّ ودَّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا} وهي أسماء أوثانهم

24

{وقد أضلوا كثيراً} أَيْ: ضلَّ كثيرٌ من النَّاس بسببها كقوله: {إنهنَّ أضللْنَ كثيراً من النَّاس} {ولا تزد الظالمين إلاَّ ضلالاً} دعاءٌ من نوحٍ عليهم بأن يزيدهم الله ضلالاً وذلك أن الله تعالى أخبره لن يؤمن من قومه إلاَّ من قد آمن فلما أيس نوح من إيمانهم دعا عليهم بالضَّلال والهلاك قال الله تعالى

25

{ممَّا خطيئاتهم} {ما} صلة أَيْ: مِن خطيئاتهم التي ارتكبوها {أغرقوا} بالطُّوفان {فأدخلوا ناراً} بعد الغرق أَيْ: أُدخلوا جهنَّم {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً} لم يجدوا مَنْ يمنعهم من عذاب الله

26

{وقال نوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديَّاراً} أَيْ: نازل دار أَيْ: أحداً

27

{إنك إن تذرهم} فلا تهلكهم {يضلوا عبادك} بدعوتهم إلى الضَّلال {ولا يلدوا إلاَّ فاجراً كفاراً} إلاَّ مَنْ يفجر ويكفر وذلك أنَّ الله أخبره أنَّهم لا يلدون مؤمناً

28

{ربِّ اغفر لي ولوالدي} وكانا مؤمنين {ولمن دخل بيتي} مسجدي {مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} إلى يوم القيامة {ولا تزد الظالمين إلاَّ تباراً} هلاكاً ودماراً

سورة الجن

{قل أوحي إليَّ} أَيْ: أُخبرت بالوحي من الله إليَّ {أنَّه استمع نفرٌ من الجن} وذلك أنَّ الله تعالى بعث نفراً من الجنِّ ليَستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي الصُّبح ببطن نخلة وهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة الأحقاف في قوله: {وإذ صرفنا إليك} الآية فلما رجعوا إلى قومهم قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} في فصاحته وبيانه وصدق إخباره

2

{يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا}

3

{وأنَّه تعالى جدُّ ربنا} أي: جلاله وعظمته عن أن يتخذ ولدا أوصاحبة

4

{وأنَّه كان يقول سفيهنا} جاهلنا {على الله شططاً} غلوَّاً في الكذب حتى يصفه بالوالد والصاحبة

5

{وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً} أي: كنَّا نظنُّهم صادقين في أنَّ لله صاحبةً وولداً حتى سمعنا القرآن وكنَّا نظنُّ أنَّ أحداً لا يكذب على الله انقطع ها هنا قول الجن قال الله تعالى:

6

{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} وذلك أنَّ الرَّجل في الجاهليَّة كان إذا سافر فأمسى في الأرض الفقر قال: أعوذ بسيِّد هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه أَي: الجنِّ يقول الله: {فزادوهم رهقاً} أَيْ: فزادهم بهذا التَّعوُّذ طغياناً وذلك أنَّهم قالوا: سُدْنا الجنَّ والإِنس

7

{وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً} يقول: ظنَّ الجنُّ كما ظننتم أيُّها الإِنس أن لا بعث يوم القيامة وقالت الجنُّ:

8

{وأنا لمسنا السماء} أَي: رُمْنَا استراق السَّمع فيها {فوجدناها ملئت حرساً شديداً} من الملائكة {وشهباً} من النُّجوم يريدون: حُرست بالنُّجوم من استماعنا

9

{وأنا كنَّا} قبل ذلك {نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} أي: كواكب حفظةً تمنع من الاستماع

10

{وأنَّا لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض} بحدوث رجم الكواكب {أم أراد بهم ربهم رشداً} أَيْ: خيراً

11

{وأنا منا الصالحون} بعد استماع القرآن أَيْ: بررةٌ أتقياءُ {ومنا دون ذلك} دون البررة {كنا طرائق قدداً} أَيْ: أصنافاً مختلفين

12

{وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض} علمنا أن لا نفوته إِنْ أراد بنا أمراً {ولن نعجزه هرباً} إِنْ طلبنا وقوله:

13

{فلا يخاف بَخْساً} أَيْ: نقصاً {ولا رهقاً} أَيْ: ظلماً والمعنى: لا نخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يُزاد في سيئاته

14

{وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون} الجائرون عن الحقّ {فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً} قصدوا طريق الحقّ قال الله تعالى:

15

{وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}

16

{وألو استقاموا على الطريقة} لو آمنوا جميعاً أَي: الخلق كلُّهم أجمعون الجنُّ والإِنس {لأسقيناهم ماءً غدقاً} لوسَّعنا عليهم في الدُّنيا وضرب المثل بالماء لأنَّ الخير كلَّه والرِّزق بالمطر وهذا كقوله تعالى: {ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا} الآية

17

{لِنَفْتنهم فيه} لنختبرهم فنرى كيف شكرهم {ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه} يدخله {عذاباً صعداً} شاقاً

18

{وأنَّ المساجد لله} يعني: المواضع التي يُصلَّى فيها وقيل: الأعضاء التي يسجد عليها وقيل: يعني: إنَّ السَّجدات لله جمع مسجد بمعنى السُّجود {فلا تدعوا مع الله أحداً} أمرٌ بالتَّوحيد لله تعالى في الصَّلاة

19

{وإنه لما قام عبد الله يدعوه} أي: النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قام ببطن نخلة يدعوا الله {كادوا يكونون عليه} كاد الجنُّ يتراكبون ويزدحمون حرصاً على ما يسمعون ورغبة فيه وقوله:

20

{قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا}

21

{قل إني لا أملك لكم ضرّاً ولا رشدا}

22

{ولن أجد من دونه ملتحداً} أَيْ: ملجأً

23

{إلاَّ بلاغاً من الله ورسالاته} لكن أُبلِّغ عن الله ما أُرسلت به ولا أملك الكفر والإِيمان وهو قوله: {لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً} وقوله:

24

{حتى إذا رأوا} أي: الكفَّار {ما يوعدون} من العذاب والنَّار {فسيعلمون} حينئذٍ {مَنْ أضعف ناصراً} أنا أو هم {وأقل عدداً}

25

{قل إن أدري} ما أدري {أقريب ما توعدون} من العذاب {أم يجعل له ربي أمداً} أجلاً وغايةً

26

{عالم الغيب} أي: هو عالم الغيب {فلا يظهر} فلا يطع على ما غيبه من العباد {أحداً}

27

{إلاَّ من ارتضى} اصطفى {من رسول} فإنَّه يُطلعه على ما يشاء من الغيب معجزةً له {فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} أي: يجعل من جميع جوانبه رصداً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشَّياطين فتلقيه إلى الكهنة فيساوون الأنبياء

28

{ليعلم} الله {أن قد أبلغوا رسالات ربهم} أي: ليُبلِّغوا رسالات ربِّهم فإذا بلَّغوا علم الله ذلك فصار كقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} أي: ولمَّا يجاهدوا {وأحاط بما لديهم} علم الله ما عندهم {وأحصى كلَّ شيء عدداً} أي: علم عدد كلِّ شيء فلم يخف عليه شيءٌ

سورة المزمل

{يا أيها المزمل} أي: المُتَلفِّف بثيابه نزل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُتلَفِّفٌ بقطيفةٍ

2

{قم الليل إلاَّ قليلاً} أي: صلِّ كلَّ اللَّيلِ إلاَّ شيئاً يسيراً تنام فيه وهو الثُّلث ثمَّ قال:

3

{نصفه} أَيْ: قم نصفه {أو انقص منه} من النِّصف {قليلاً} إلى الثُّلث

4

{أو زد عليه} على النِّصف إلى الثُّلثين جعل له سعةً في مدَّة قيامه في اللَّيل فكأنَّه قال: قم ثلثي اللَّيل أو نصفه أو ثلثه فلمَّا نزلت هذه الآية أخذ المسلمون أنفسهم بالقيام على هذا المقادير وشقَّ ذلك عليهم لأنهم لكم يمكنهم أن يحفظوا هذه المقادير وكانوا يقومون اللَّيل كله حتى انتفخت أقدامهم ثمَّ خفَّف الله عنهم بآخر هذه السُّورة وهو قوله: {إنَّ ربك يعلم أنك تقوم} الآية ثمَّ نسخ قيام اللَّيل بالصَّلوات الخمس وكان هذا في صدر الإِسلام وقوله: {ورتل القرآن ترتيلاً} أَي: بيِّنه تبييناً بعضُه على إثر بعضٍ في تودة

5

{قولا ثقيلا} رصينا زرينا ليس بالسفساف والخفيف لأنَّه كلام الله

6

{إنَّ ناشئة الليل} ساعاته {هي أشد وطئا} أثقلُ على المُصلِّين من ساعات النَّهار ومَنْ قرأ: وِطاء فمعناه: أشدُّ موافقةً بين القلب والسَّمع والبصر واللِّسان لأنَّ اللَّيل تهدأ فيه الصلوات وتنقطع الحركات ولا تحول دون تسمُّعه وتفهُّمه شيءٌ {وأقوم قيلاً} وأصوب قراءةً

7

{إنَّ لك في النهار سبحاً طويلاً} أَيْ: تصرُّفاً في حوائجك إقبالاً وإدباراً وهذا حثٌ على القيام باللَّيل لقراءة القرآن

8

{واذكر اسم ربك} بالتَّعظيم والتَّنزيه {وتبتل إليه تبتيلاً} وانقطع إليه في العبادة وقوله:

9

{فاتخذه وكيلاً} أَيْ: قيِّماً بأمورك مُفوَّضاً إليه

10

{واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً} وهو أن لا تتعرَّض لهم ولا تشتغل بمكافآتهم وهذه الآية نسختها آية القتال

11

{وذرني والمكذبين} لا تعنهم لشأنهم فإني أكفيكم يعني: رؤساء المشركين كقوله: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وقد مرَّ {أولي النعمة} ذوي التنغم والتًَّرفُّه {ومهِّلهم قليلاًَ} يعني: إلى مدَّة آجالهم

12

{إنَّ لدينا} يعني: في الآخرة {أنكالاً} قيوداً {وجحيماً} ناراً عظيمةً

13

{وطعاما ذا غصة} يغض في الحلوق ولا يسوغ وهو الغِسلين والضَّريع والزَّقُّوم

14

{يوم ترجف الأرض والجبال} تضطرب وتتحرَّك {وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} رملاً سائلاً

15

{إنا أرسلنا إليكم رسولاً} محمدا صلى الله عليه وسلم {شاهداً عليكم} يشهد عليكم يوم القيامة بما فعلتم وقوله:

16

{فأخذناه أخذاً وبيلاً} ثقيلاً غليظاً

17

{فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً} أَيْ: فكيف تتحصَّنون من عذاب يومٍ يشيب الطِّفل لهوله وشدَّته إن كفرتم اليوم في الدُّنيا

18

{السماء منفطر به} متشقِّق في ذلك اليوم

19

{إنَّ هذه} الآيات {تذكرة} تذكيرٌ للخلق {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} بالطَّاعة والإِيمان

20

{إن ربك يعلم أنك تقوم} للصَّلاة والقراءة {أدنى} أقلَّ {من ثلثي الليل ونصفه وثلثه} أي: وتقم نصفه ثلثه {وطائفة من الذين معك والله يقدِّر الليل والنهار} فيعلم مقادير أوقاتهما {علم أن لن تحصوه} لن تُطيقوا قيام اللَّيل {فتاب عليكم} رجع لكم إلى التَّخفيف {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} رخَّص لهم أن يقوموا فيقرؤوا ما أمكن وخفَّ بغير مقدارٍ معلومٍ من القراءة والمُدَّة {علم أن سيكون منكم مرضى} فيثقل عليهم قيام اللَّيل وكذلك المسافرون للتِّجارة والجهاد وهو قوله: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} يريد: أنَّه خفف قيام اللَّيل لما علم من ثقله على هؤلاء {فاقرؤوا ما تيسر منه} قال المُفسِّرون: وكان هذا في صدر الإِسلام ثمَّ نُسخ بالصَّلوات الخمس وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله هو خيراً وأعظم أجراً} مما خلقتم وتركتم {واستغفروا الله إن الله غفور} لذنوب المؤمنين {رحيم} بهم

سورة المدثر

{يا أيها المدثر} أي: المتدثر في ثوبه

2

{قم فأنذر} النَّاس

3

{وربك فكبر} فصفه بالتَّعظيم

4

{وثيابك فطهر} لا تلبسها على معصيةٍ ولا على غدر فإنَّ الغادر والفاجر يُسمَّى دنس الثِّياب

5

{والرجز فاهجر} أي: الأوثان فاهجر عبادتها وكذلك كلَّ ما يؤدي إلى العذاب

6

{ولا تمنن تستكثر} لا تعظ شيئاً لتأخذَ أكثر منه وهذا خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنَّه مأمورٌ بأجلِّ الأخلاق وأشرفِ الآداب

7

{ولربك فاصبر} اصبر لله على أوامره ونواهيه وما يمتحنك به حتى يَكون هو الذي يُثيبك عليها

8

{فإذا نقر في الناقور} نُفخ في الصُّور الآية وقوله:

9

{فذلك يومئذ يوم عسير}

10

{على الكافرين غير يسير}

11

{ذرني ومن خلقت وحيداً} أَيْ: لا تهتمَّ لشأنه فإني أكفيك أمره أَي: الوليد بن المغيرة يقول: خلقته وحيداً لا ولد له ولا مال

12

{وجعلت له مالاً ممدوداً} دائماً لا ينقطع عنه من الزَّرع والضَّرع والتّجارة

13

{وبنين شهوداً} حضوراً معه بمكَّة وكانوا عشرةً

14

{ومهدت له تمهيداً} بسطت له في العيش والمال بسطاً

15

{ثم يطمع أن أزيد} يرجو أن أزيده مالاً وولداً

16

{كلا} قطعٌ لرجائه {إنَّه كان لآياتنا عنيداً} للقرآنِ معانداُ غير مطيعٍ

17

{سأرهقه صعوداً} سأغشيه مشقَّةً من العذاب

18

{إنَّه فكر وقدَّر} وذلك أنَّ قريشاً سألته ما تقول في محمَّد؟ فتفكَّر في نفسه وقدَّر القول في محمد عليه السلام والقرآن ماذا يمكنه أن يقول فيهما

19

{فقتل} لُعن وعُذِّب {كيف قدَّر} ؟ استفهامٌ على طريق التعجب

20

{ثم قتل كيف قدر}

21

{ثم نظر} {ثم عبس وبسر} كلح وجهه

22

{ثم عبس وبسر}

23

{ثمَّ أدبر واستكبر} عن الإِيمان

24

{فقال إن هذا} ما هذا الذي يقرؤه محمد {إلاَّ سحرٌ يؤثر} يُروى عن السَّحرة

25

{إن هذا إلاَّ قول البشر} كما قالوا: {إنَّما يُعلِّمه بشرٌ} قال الله تعالى

26

{سأصليه سقر} سأُدخله جهنَّم ثمَّ أعلم عظم شأن سقر من العذاب فقال:

27

{وما أدراك ما سقر} ما أعلمك أيُّ شيءٍ سقر!

28

{لا تبقي ولا تذر}

29

{لواحة للبشر} محرّقةٌ للجلد حتى تُسوِّده

30

{عليها تسعة عشر} من الخزنة الواحد منهم يدفع بالدُّفعة الواحدة في جهنَّم أكثر من ربيعة ومضر فلمَّا نزلت هذه الآية قال بعض المشركين: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر فاكفوني اثنين فأنزل الله:

31

{وما جعلنا أصحاب النار إلاَّ ملائكة} لا رجالاً فمن ذا يغلب الملائكة؟ {وما جعلنا عدتهم} عددهم في القلَّة {إلاَّ فتنة للذين كفروا} لأنَّهم قالوا: ما أعون محمَّدٍ إلاَّ تسعة عشر {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} ليعلموا أنَّ ما أتى به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم موافقٌ لما في كتبهم {ويزداد الذين آمنوا} لأنَّهم يُصدِّقون بما أتى به الرَّسول عليه السَّلام وبعدد خزنة النَّار {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} أَيْ: لا يشكُّون في أنَّ عددهم على ما أخبر به محمد عليه السَّلام {وليقول الذين في قلوبهم مرض} شكٌّ {والكافرون: ماذا أراد الله بهذا مثلاً} أيُّ شيءٍ أراد الله بهذا العدد وتخصيصه؟ {كذلك} كما أضلَّهم الله بتكذيبهم {يضلُّ الله مَنْ يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلاَّ هو} هذا جوابٌ لقولهم: ما أعوانه إلاَّ تسعة عشر {وما هي} أي: النَّار {إلاَّ ذكرى للبشر} أَيْ: إنَّها تُذكِّرهم في الدُّنيا النّار في الآخرة

32

{كلا} ليس الأمر على ما ذكروا من التَّكذيب له {والقمرِ} قسمٌ

33

{والليل إذ أدبر} جاء بعد النَّهار

34

{والصبح إذا أسفر} أضاء

35

{إنها لإِحدى الكبر} إنَّ سقر لإِِحدى الأمور العظام

36

{نذيراً} إنذاراً {للبشر}

37

{لمن شاء منكم أن يتقدَّم} فيما أُمِرَ به {أو يتأخر} عنه فقد أُنذرتم

38

{كل نفس بما كسبت رهينةٌ} مأخوذةٌ بعملها

39

{إلاَّ أصحاب اليمين} يعني: أهل الجنَّة فهم لا يزتهنون بذنوبهم ولكن الله يغفر لهم وقيل: أصحاب اليمين ها هنا أطفال المسلمين وقوله:

40

{في جنات يتساءلون}

41

{عن المجرمين}

42

{ما سلككم في سقر} أَيْ: ما أدخلكم جهنَّم؟

43

{قالوا لم نك من المصلين}

44

{ولم نك نطعم المسكين}

45

{وكنا نخوض مع الخائضين} ندخل الباطل مع مَنْ دخله

46

{وكنا نكذب بيوم الدين} بيوم الجزاء

47

{حتى أتانا اليقين} الموت

48

{فما تنفعهم شفاعة الشافعين}

49

{فما لهم عن التذكرة معرضين} ما لهم يُعرضون عن تذكيرك إيَّاهم

50

{كأنهم حمر مستنفرة}

51

{فرَّت من قسورة} أي: الأسد وقيل: الرُّماة الصَّيَّادون

52

{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صحفا منشرة} وذلك أنهم قالوا: إن سرَّك أن نتَّبعك فأت كلَّ واحدٍ منا بكتابٍ من ربِّ العالمين نؤمر فيه بابتاعك كما قالوا: {لن نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} الآية

53

{كلا} ردٌّ لما قالوا {بل لا يخافون الآخرة} حيث يقترحون أن يُؤتوا صحفاً منشرة

54

{كلا إنه تذكرة} إنَّ القرآن تذكيرٌ للخلق وليس بسحرٍ

55

{فمن شاء ذكره}

56

{وما يذكرون إلاَّ أن يشاء الله هو أهل التقوى} أهلٌ أن يُتَّقى عقابه {وأهل المغفرة} أهلٌ أنْ يعمل بما يُؤدِّي إلى مغفرته

سورة القيامة

{لا أقسم} لا صلةٌ معناه: أقسم وقيل: لا ردٌّ لإِنكار المشركين البعث ثمّ قال: أقسم {بيوم القيامة}

2

{ولا أقسم بالنفس اللوامة} وهي نفس ابن آدم تلومه يوم القيامة إنْ كان عمل شرَّاً لِمَ عمله وإنْ كان عمل خيراً لأمته على ترك الاستكثار منه وجواب هذا القسم مضمرٌ على تقدير: إنَّكم مبعوثون ودلَّ عليه ما بعده من الكلام وهو قوله:

3

{أيحسب الإِنسان} أي: الكافر {ألن نجمع عظامه} للبعث والإِحياء بعد التَّفرقة والبلى!

4

{بلى قادرين} بلى نقدر على جمعها و {على أن نسوي بنانه} نجعله كخف البعير فلا يمكن أن يعمل بها شيئاً وقيل: نسوي بنائه على ما كانت وإنْ دقَّت عظامها وصغرت

5

{بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه} يُؤخِّر التَّوبة ويمضي في معاصي الله تعالى قُدُماً قُدُماً فيقدّم الأعمال السَّيِّئة وقيل: معناه ليكفر بما قدَّامه يدلُّ على هذا قوله:

6

{يسأل أيان} متى {يوم القيامة} تكذيباً به واستبعاداً لوقوعه

7

{فإذا برق البصر} فزع وتحيَّر

8

{وخسف القمر} أظلم وذهب ضوءه

9

{وجمع الشمس والقمر} أَيْ: جُمعا في ذهاب نورهما

10

{يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر} أَي: الفرار؟

11

{كلا} لا مفرَّ ذلك اليوم و {لا وزر} ولا ملجأ ولا حِرز

12

{إلى ربك يومئذٍ المستقر} المنتهى والمصير

13

{ينبأ الإِنسان} يُخبر {بما قدَّم وأخر} بأوَّل عمله وآخره

14

{بل الإِنسان على نفسه بصيرة} أَيْ: شاهدٌ عليها بعملها يشهد عليه جوارحه وأُدخلت الهاء في البصيرة للمبالغة وقيل: لأنَّه أراد بالإِنسان الجوارح

15

{ولو ألقى معاذيره} ولو اعتذر وجادل فعليه من نفسه من يُكذِّب عذره وقيل: معناه: ولو أرخى السُّتور وأغلق الأبواب والمِعذار: الستر بلغة اليمن

16

{لا تحرّك به} بالوحي {لسانك لتعجل به} كان جبريل عليه السَّلام إذا نزل بالقرآن تلاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل فراغ جبريل كراهيةَ أن ينفلت منه فأعلم الله تعالى أنه لا ينسبه إيَّاه وأنَّه يجمعه في قلبه فقال:

17

{إنَّ علينا جمعه وقرآنه} قراءته عليك حتى تعيه

18

{فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أَي: لا تعجل بالتِّلاوة إلى أن يقرأ عليك

19

{ثم إنَّ علينا بيانه} أَيْ: علينا أن ننزِّله قرآناً فيه بيانٌ للنَّاس

20

{كلا} زجرٌ وتنبيهٌ {بل تحبون العاجلة}

21

{وتذرون الآخرة} أي: تختارون الدُّنيا على العقبى

22

{وجوهٌ يومئذٍ} يوم القيامة {ناضرة} مُضِيئةٌ حسنةٌ

23

{إلى ربها ناظرة} تنظر إلى خالقها عياناً

24

{ووجوه يومئذ باسرة} كالحةٌ

25

{تظن} توقن {أن يفعل بها فاقرة} داهيةٌ عظيمةٌ من العذاب

26

{كلا إذا بلغت التراقي} يعني: النَّفس بلغت عظام الحلق

27

{وقيل من راق} قال مَنْ حضر ذلك الذي قارب الموت: هل من طبيبٍ يداويه وراقٍ يرقيه فيشفى برقيته؟

28

{وظن} أيقن الذي نزل به الموت {أنَّه الفراق} من الدُّنيا والأهل والمال

29

{والتفت الساق بالساق} التفَّت ساقاه لشدَّة النَّزع وقيل: تتابعت عليه الشَّدائد

30

{إلى ربك يومئذ المساق} المنتهى والمرجع بسوق الملائكة الرُّوح إلى حيث أمر الله سبحانه

31

{فلا صدَّق ولا صلى} يعني: أبا جهلٍ لعنه الله

32

{ولكن كذب وتولى} عن الإِيمان

33

{ثمَّ ذهب إلى أهله يتمطى} يتبختر

34

{أولى لك فأولى} {ثم أولى لك فأولى} هذا تهديدٌ ووعيدٌ له والمعنى: وليك المكروه يا أبا جهل أي: لومك المكروه

35

{ثم أولى لك فأولى}

36

{أيحسب الإنسان أن يترك سدى} مُهملاً غير مأمورٍ ولا منهيٍّ

37

{ألم يك نطفة من مني يمنى} يصبُّ في الرَّحم

38

{ثمَّ كان علقة فخلق فسوى} فخلقه الله فسوَّى خلقه حتى صار إنساناً بعد أن كان علقةً

39

{فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى} فخلق من الإِنسان صنفين الرَّجل والمرأة

40

{أليس ذلك} الذي فعل هذا {بقادر على أن يحيي الموتى} ؟ بلى وهو على كل شيء قدير

سورة الإنسان

{هل أتى على الإنسان} قد أتى على آدم {حين من الدَّهر} أربعون سنةً {لم يكن شيئاً مذكوراً} لأنَّه كان جسداً مُصوَّراً من طينٍ لا يُذكر ولا يُعرف ويجوز أن يريد جميع النَّاس لأنَّ كلَّ أحدٍ يكون عدماً إلى أَنْ يصير شيئاً مذكوراً

2

{إنا خلقنا الإِنسان} يعني: ابن آدم {من نطفة أمشاج} أخلاطٍ يعني: ماء الرَّجل وماء المرأة واختلاف ألوانهما {نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا} أي: خلقناه كلذلك لنختبره بالتَّكليف والأمر والنَّهي

3

{إنَّا هديناه السبيل} بيَّنا له الطَّريق {إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً} إنْ شكر أو كفر يعني: أعذرنا إليه في بيان الطَّريق يبعث الرَّسول آمن أو كفر

4

{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا}

5

{إنَّ الأبرار} المُطيعين لربِّهم {يشربون من كأس} إناءٍ فيه شرابٌ {كان مزاجها كافوراً} يُمزج لهم بالكافور

6

{عيناً} من عينٍ {يشرب بها} بتلك العين {عباد الله يفجرونها تفجيراً} يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم

7

{يوفون بالنذر} إذا نذروا في طاعة الله وفوا به {ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً} منتشراً فاشياً

8

{ويطعمون الطعام على حبّه} على قلَّته وحبِّهم إيَّاه {مسكيناً} فقيراً {ويتيماً} لا أب له {وأسيراً} أي: المملوك والمحبوس في حقٍّ من المسلمين ويقولون لهم:

9

{إنما نطعمكم لوجه الله} لطلب ثواب الله {لا نريد منكم} بما نُطعمكم {جزاء} مكافأة منكم {ولا شكوراً} شكراً

10

{إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً} كريه المنظر لشدَّته {قمطريراً} صعباً شديداً طويل الشَّر

11

{فوقاهم الله شرَّ ذلك اليوم} الذي يخافون {ولقَّاهم نضرة} ضياءً في وجوههم {وسروراً} في قلوبهم

12

{وجزاهم بما صبروا} على طاعة الله وعن معصيته {جنة وحريراً}

13

{متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً} حرَّاً ولا برداً صيفاً ولا شتاءً

14

{ودانية عليهم ظلالُها} أَيْ: قريبة منهم ضلال أشجارها {وذللت قطوفها تذليلاً} أُدنيت منهم ثمارها فهم ينالونها قعوداً كانوا أو قياماً

15

{ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا} أَيْ: لها بياض الفضَّة وصفاء القوارير وهو قوله:

16

{قوارير من فضة قدروها تقديراً} أي: جُعلت الأكواب على قدر رِيِّهِمْ وهو ألد الشَّراب

17

{ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً} والزَّنجبيل: شيءٌ تستلذُّه العرب فوعدهم الله ذلك في الجنَّة

18

{عيناً} من عينٍ {فيها} في الجنَّة {تسمى} تلك العين {سلسبيلاً}

19

{ويطوف عليهم ولدان} أي: غلمانٌ {مخلَّدون} لا يشيبون {إذا رأيتهم حسبتهم} في بياضهم وصفاء ألوانهم {لؤلؤاً منثوراً}

20

{وإذا رأيت ثمَّ} إذا رميت ببصرك في الجنَّة {رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} وهو أنَّ أدناهم منزلاً ينظر في ملكه في مسيرة ألف عامٍ

21

{عاليهم} فوقهم {ثياب سندس} أي: الحرير وقوله: {شراباً طهوراً} طاهراً من الأقذاء والأقذار وليس بنجس كخمر الدنيا وقوله:

22

{إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}

23

{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}

24

{ولا تطع منهم آثماً} يعني: عتبة بن ربيعة {أو كفوراً} يعني: الوليد بن المغيرة وذلك أنَّهما ضمنا للنبي صلى الله عليه وسلم المال والتَّزويج إِنْ ترك دعوتهم إلى الإسلام

25

{واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا}

26

{ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا}

27

{إنَّ هؤلاء يحبُّون العاجلة} يعني: الدُّنيا {ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً} ويتركون العمل ليومٍ شديدٍ أمامهم وهو يوم القيامة

28

{نحن خلقناهم وشددنا أسرهم} خلقهم وخلق مفاصلهم

29

{إنَّ هذه} السُّورة {تذكرة} تذكيرٌ للخلق {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً} وسيلةً بالطَّاعة

30

{وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} أَيْ: لستم تشاؤون شيئاً إلاَّ بمشيئة الله تعالى لأنَّ الأمر إليه

31

{يدخل من يشاء في رحمته} جنَّته وهم المؤمنون {والظالمين} الكافرين الذين عبدوا غيره {أعدَّ لهم عذاباً أليماً}

سورة المرسلات

{والمرسلات عرفاً} أي: الرِّياح التي أُرسلت مُتتابعةً كعُرْف الفرس

2

{فالعاصفات عصفاً} أي: الرِّياح الشَّديدة الهبوب

3

{والناشرات نشراً} الرِّياح التي تأتي بالمطر

4

{فالفارقات فرقاً} يعني: آي القرآن فرَّقت بين الحلال والحرام

5

{فالملقيات ذكراً} أي: الملائكة التي تنزل بالوحي

6

{عذراً أو نذراً} للإِعذار والإِنذار من الله تعالى

7

{إنما توعدون} من البعث والثَّواب العقاب {لواقع}

8

{فإذا النجوم طمست} مُحي نورها

9

{وإذا السماء فُرِجَتْ} شُقَّت

10

{وإذا الجبال نسفت} قُلعت من أماكنها فأُذهبت بسرعةٍ

11

{وإذا الرسل أقتت} جُمعت لوقتٍ وهو يوم القيامة

12

{لأي يوم أجلت} أخرجت وأُمهلت

13

{ليوم الفصل} القضاء بين النَّاس

14

{وما أدراك ما يوم الفصل} على التَّعظيم لذلك اليوم {ويلٌ يومئذٍ للمكذبين}

15

{ويلٌ يومئذٍ للمكذبين}

16

{ألم نهلك الأولين} من الأمم المكذِّبة

17

{ثم نتبعهم الآخرين} ممَّن سلكوا سبيلهم في الكفر والتَّكذيب

18

{كذلك} مثل الذي فعلنا بهم {نفعل بالمجرمين} بالمُكذِّبين من قومك

19

{ويلٌ يومئذٍ للمكذبين}

20

{ألم نخلقكم من ماء مهين} أي: النُّطفة

21

{فجعلناه في قرار مكين} أي: الرَّحم

22

{إلى قدر معلوم} وهو وقت الولادة

23

{فقدرنا} أَيْ: قدَّرنا وقت الولادة {فنعم القادرون} فنعم المُقدِّرون نحن وقُرئت بالتَّشديد والتَّخفيف لغتان بمعنى واحدٍ

24

{ويلٌ يومئذٍ للمكذبين}

25

{ألم نجعل الأرض كفاتاً} وعاءً وقيل: ذات كفات أَيْ: ضمٍّ وجمعٍ تَكْفِتُ الخلق أحياءً على ظهرها وأمواتاً في بطنها

26

{أحياء وأمواتا}

27

{وجعلنا فيها رواسي} جبالاً ثوابت {شامخات} مرتفعاتٍ {وأسقيناكم ماء فراتا} عذابا

28

{ويل يومئذ للمكذبين} ويُقال لهم ذلك اليوم

29

{انطلقوا} اذهبوا {إلى ما كنتم به تكذبون} في الدنُّيا

30

{انطلقوا إلى ظل} إلى دُخان جهنَّم {ذي ثلاث شعب} إذا ارتفع انْشَعَبَ ثلاث شُعَبٍ فيقف على رؤوس الكافرين

31

{لا ظليل} بارد {ولا يغني من اللهب} ولا يدفع من لهب النَّار شيئاً

32

{إنها ترمي بشرر} وهو ما يتطاير من النَّار {كالقصر} من البناء في العظم

33

{كأنه جمالة} جمع جمالٍ {صفر} سود

34

{ويل يومئذ للمكذبين}

35

{هذا يوم لا ينطقون}

36

{ولا يؤذن لهم فيعتذرون} يعني: في بعض ساعات ذلك اليوم يُؤمرون بالسُّكوت

37

{ويل يومئذ للمكذبين}

38

{هذا يوم الفصل} بين أهل الجنَّة والنَّار {جمعناكم والأولين}

39

{فإن كان لكم كيدٌ فكيدون} إنْ كان عندكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم

40

{ويل يومئذ للمكذبين}

41

{إن المتقين في ظلال وعيون}

42

{وفواكه مما يشتهون}

43

{كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون}

44

{إنا كذلك نجزي المحسنين}

45

{ويل يومئذ للمكذبين}

46

{كلوا وتمتعوا} في الدُّنيا {قليلاً إنكم مجرمون} مشركون

47

{ويل يومئذ للمكذبين}

48

{وإذا قيل لهم اركعوا} صلُّوا {لا يركعون} لا يصلون

49

{ويل يومئذ للمكذبين}

50

{فبأيّ حديث بعده} بعد القرآن الذين آتاهم فيه البيان {يؤمنون} إذا لم يؤمنوا به

سورة النبأ

{عمَّ يتساءلون} عمَّا يتساءلون والمعنى: عن أيِّ شيءٍ يتساءلون يعني: قريشاً وهذا لفظ استفهامٍ معناه تفخيم القصَّة وذلك أنَّهم اختلفوا واختصموا فيما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فمن مصدِّق ومكذِّبٍ ثمَّ بيَّن فقال:

2

{عن النبأ العظيم} يعني: البعث

3

{الذي هم فيه مختلفون} لا يُصدِّقون به

4

{كلا} ليس الأمر على ما ذكروا من إنكارهم البعث {سيعلمون} حقيقة وقوعه

5

{ثم كلا سيعلمون} تأكيدٌ وتحقيقٌ ثمَّ دلَّهم على قدرته على البعث فقال:

6

{ألم نجعل الأرض مهاداً} أَيْ: فرشناها لكم حتى سكنتموها

7

{والجبال أوتادا}

8

{وخلقناكم أزواجاً} ذكوراً وإناثاً

9

{وجعلنا نومكم سباتاً} راحةً لأبدانكم

10

{وجعلنا الليل لباساً} يلبس كلَّ شيءٍ بسواده

11

{وجعلنا النهار معاشاً} سبباً للمعاش

12

{وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} سبع سماوات شدادٍ محكمةٍ

13

{وجعلنا سراجاً} أي: الشَّمس {وهَّاجاً} وقَّاداً حارَّاً

14

{وأنزلنا من المعصرات} السَّحاب {ماء ثجاجاً} صبَّاباً

15

{لنخرج به حبَّاً} ممَّا يأكله النَّاس {ونباتاً} ممَّا ترعاه النَّعم

16

{وجنات ألفافاً} مُلتفَّةً مُجتمعةً

17

{إنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً} لما وعده الله من الجزاء والثَّواب

18

{يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} زُمراً وجماعاتٍ

19

{وفتحت السماء} شُقِّقت {فكانت أبواباً} حتى يصير فيها أبواب

20

{وسيِّرت الجبال} عن وجه الأرض {فكانت سراباً} في خفَّة سيرها

21

{إنَّ جهنم كانت مرصاداً} ترصد أهل الكفر فر يجاوزونها

22

{للطاغين} للكافرين {مآباً} مرجعاً

23

{لابثين} ماكثين {فيها أحقاباً} جمع حقب وهو ثمانون سنة كلُّ سنةٍ ثلثمائة وستون يوماً كلُّ يومٍ كألف سنةٍ من أيَّام الدُّنيا فإذا مضى حقبٌ عاد حقبٌ إلى ما لا يتناهى

24

{لا يذوقون فيها برداً} نوماً وراحةً {ولا شراباً}

25

{إلاَّ حميماً} ماءً حارَّاً من حميم جهنَّم {وغسَّاقاً} وهو ما سال من جلود أهل النَّار

26

{جزاءً وفاقاً} أَيْ: جُوزوا وفق أعمالهم فلا ذنب أعظم من الشِّرك ولا عذاب أعظم من النارز

27

{إنهم كانوا لا يرجون حساباً} لا يخافون أن يحاسبهم الله

28

{وكذبوا بآياتنا كذاباً} تكذيباً

29

{وكلَّ شيء} من أعمالهم {أحصيناه} كتبناه {كتاباً} لنحاسبهم عليه

30

{فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا}

31

{إنَّ للمتقين مفازاً} فوزاً بالجنَّة ونجاةً من النَّار

32

{وكواعب} جوازي قد تكعَّبت ثُدُيّهن {أتراباً} مستويات في السن

33

{حدائق وأعنابا}

34

{وكأسا دهاقا} ممتلئة

35

{لا يسمعون فيها لغواً ولا كذابا}

36

{عطاءً حساباً} كثيراً كافياً وقوله:

37

{لا يملكون منه خطاباً} أي: لا يملكون أن يخاطبوه إلاَّ بإذنه كقوله تعالى: {لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه} وقد فُسِّر هذا فيما قبل وقوله:

38

{يوم يقوم الروح} قيل: هو جبريل عليه السَّلام وقيل: هو مَلَكٌ يقوم صفاً وقيل: الرُّوح جندٌ من جنود الله ليسوا من الملائكة ولا من النَّاس يقومون {والملائكة صفاً} صفوفاً {لا يتكلمون إلاَّ من أذن له الرحمن وقال صواباً} حقاً في الدُّنيا يعني: لا إله إلاَّ الله

39

{ذلك اليوم الحقُّ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} مرجعاً إلى طاعته

40

{إنا أنذرناكم عذاباً قريباَ} يعني: يوم القيامة {يوم ينظر المرء ما قدَّمت يداه} ما عمل من خيرٍ وشرٍّ {ويقول الكافر} في ذلك اليوم: {يا ليتني كنت ترابا} وذلك حين يقول الله تعالى للبهائم والوحش: كوني تراباً فيتمنَّى الكافر أن لو كان تراباً فلا يُعذَّب

سورة النازعات

{والنازعات} أي: الملائكة التي تنزع أرواح الكفَّار {غرقاً} إغراقاً كما يُغرق النَّازع في القوس يعني: المبالغة في النَّزع

2

{والناشطات نشطاً} يعني: الملائكة تقبض نفس المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير أَيْ: يُفتح

3

{والسابحات سبحاً} أي: النُّجوم تسبح في الفلك

4

{فالسابقات سبقاً} أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى لقاء الله عزَّ وجل وقيل: النُّجوم يسبق بعضها بعضاً في السَّير

5

{فالمدبرات أمراً} يعني: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام يُدبِّر أمر الدُّنيا هؤلاء الأربعة من الملائكة وجواب هذه الأقسام مضمرٌ على تقدير: لَتُبعَثُنَّ

6

{يوم ترجف الراجفة} تضطرب الأرض وتتحرَّك حركةً شديدةً

7

{تتبعها الرادفة} يعني: نفخة البعث تأتي بعد الزَّلزلة

8

{قلوب يومئذٍ واجفة} قلقةٌ زائلةٌ عن أماكنها

9

{أبصارها خاشعة} ذليلةٌ

10

{يقولون} يعني: منكري البعث: {أإنا لمردودون في الحافرة} أَيْ: إلى أوَّل الأمر من الحياة بعد الموت وهو قوله:

11

{أإذا كنا عظاماً نخرة} أَيْ: باليةً

12

{قالوا تلك إذاً كرَّة خاسرة} رجعةٌ يُخسر فيها فأعلم الله تعالى سهولة البعث عليه فقال:

13

{فإنما هي زجرة واحدة} أي: صيحةٌ ونفخةٌ

14

{فإذا هم بالساهرة} يعني: وجه الأرض بعد ما كانوا في باطنها

15

{هل أتاك} يا محمَّد {حديث موسى}

16

{إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} طوى اسم ذلك الوادي

17

{اذهب إلى فرعون إنه طغى} جاوز الحدَّ في الكفر

18

{فقل هل لك إلى أن تزكى} أترغب في أن تتطهَّر من كفرك بالإيمان

19

{وأهديك إلى ربك فتخشى}

20

{فأراه الآية الكبرى} اليد البيضاء

21

{فكذَّب} فرعون موسى {وعصى} أمره

22

{ثم أدبر} أعرض عنه {يسعى} في الأرض يعمل فيها بالفساد

23

{فحشر} فجمع السَّحرة وقومه {فنادى}

24

{فقال أنا ربكم الأعلى} ليس ربٌّ فوقي

25

{فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} أَيْ: نكَّل الله به في الآخرة بالعذاب في النَّار وفي الدُّنيا بالغرق

26

{إنَّ في ذلك لعبرة لمن يخشى}

27

{أأنتم} أيُّها المنكرون للبعث {أشدُّ خلقاً أم السماء بناها}

28

{رفع سمكها} سقفها {فسوَّاها} بلا شقوقٍ ولا فطورٍ

29

{وأغطش} أَظلم {ليلها وأخرج ضحاها} أظهر نورها بالشَّمس

30

{والأرض بعد ذلك دحاها} بسطها وكانت مخلوقةً غير مدحوَّةٍ

31

{أخرج منها ماءها ومرعاها} ما ترعاه النَّعم من الشَّجر والعشب

32

{والجبال أرساها} {متاعاً} منفعةً {لكم ولأنعامكم}

33

{متاعا لكم ولأنعامكم}

34

{فإذا جاءت الطامة الكبرى} يعني: صيحة القيامة

35

{يوم يتذكر الإنسان ما سعى}

36

{وبرزت الجحيم لمن يرى}

37

{فأما من طغى}

38

{وآثر الحياة الدنيا}

39

{فإن الجحيم هي المأوى}

40

{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى}

41

{فإن الجنة هي المأوى}

42

{يسألونك عن الساعة} يعني: القيامة {أيَّان مرساها} متى وقوعها وثبوتها؟ قال الله تعالى

43

{فيم أنت} يا محمد {من ذكراها} أي: ليس عندك علمها

44

{إلى ربك منتهاها} منتهى علمها

45

{إنما أنت منذر مَنْ يخشاها} إنَّما ينفع إنذارك من يخشاها

46

{كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا} في قبورهم {إلاَّ عَشِيَّةً أو ضحاها} أَيْ: نهارها استقصروا مدَّة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول

سورة عبس

{عبس} كلح {وتولَّى} أعرض

2

{أن} لأَنْ {جاءه الأعمى} وهو عبد الله بن أمِّ مكتوم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإِسلام فجعل يُناديه ويكرِّر النِّداء ولا يدري أنَّه مشتغلٌ حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبس وأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم فأنزل الله تعالى هذه الآيات

3

{ومَا يدريك لعله} لعلَّ الأعمى {يزكَّى} يتطهَّر من ذنوبه بالإِسلام وذلك أنَّه أتاه يطلب الإِسلام ويقول له: علِّمني ممَّا علمك الله

4

{أو يَذكَّر} يتَّعظ {فتنفعه الذكرى} الموعظة ثمَّ عاتبه عز وجل فقال:

5

{أمَّا من استغنى} أثرى من المال

6

{فأنت له تصدَّى} تُقبِلُ عليه وتتعرَّض له

7

{وما عليك أن لا يزكَّى} أيُّ شيء عليك في أنْ لا يُسلم لأنَّه ليس عليك إسلامه إنَّما عليك البلاغ

8

{وأمَّا مَنْ جاءك يسعى} أي: الأعمى

9

{وهو يخشى} الله تعالى

10

{فأنت عنه تلهى} تتشاغل

11

{كلا} ردع وزجر أي: لا تفعل مثل ما فعلت {إنها} إنَّ آيات القرآن {تذكرة} تذكيرٌ للخلق

12

{فمن شاء ذكره} يعني: القرآن ثمَّ أخبر بجلالته في اللَّوح المحفوظ عنده فقال:

13

{في صحف مكرمة}

14

{مرفوعة} رفيعة القدر {مطهرة} لا يمسها إلى المطهرون

15

{بأيدي سفرة} كَتَبةٍ وهم الملائكة

16

{كرام بررة} جمع بارٍّ

17

{قتل الإنسان} لُعن الكافر يعني: عُتبة بن أبي لهب {ما أكفره} ما أشدَّ كفره

18

{من أي شيء خلقه} استفهامٌ معناه التَّقرير ثمَّ فسَّر فقال:

19

{من نطفة خلقه فقدَّره} أطواراً من علقةٍ ومضغةٍ إلى أن خرج من بطن أُمِّه وهو قوله:

20

{ثم السبيل يسره} أي: طريق خروجه من بطن أُمِّه

21

{ثمَّ أماته} قبض روحه {فأقبره} جعل له قبراً يُوارى فيه ولم يجعله ممَّن يُلقى إلى السِّباع والطير

22

{ثمَّ إذا شاء أنشره} أحياه بعد موته

23

{كلا} حقاً {لما} لم {يقض} هذا الكافر {ما أمره} به ربُّه

24

{فلينظر الإنسان إلى طعامه} كيف قدَّره ربُّه ودبَّره له

25

{أنّا صببنا الماء صباً} أي: المطر من السَّحاب

26

{ثم شققنا الأرض شقاً} بالنبات

27

{فأنبتنا فيها حباً}

28

{وعنباً وقضباً} وهو القت الرطب

29

{وزيتونا ونخلا}

30

{وحدائق غلباً} بساتين كثيرة الأشجار

31

{وفاكهة وأباً} أي: الكلأ الذي ترعاه الماشية

32

{متاعاً} منفعةً {لكم ولأنعامكم}

33

{فإذا جاءت الصاخَّة} صيحة القيامة

34

{يوم يفرُّ المرء من أخيه} {وأمه وأبيه}

35

{وأمه وأبيه}

36

{وصاحبته وبنيه} لا يلتفت إلى واحدٍ منهم لشغله بنفسه وهو قوله:

37

{لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه} يشغله عن شأن غيره

38

{وجوهٌ يومئذٍ مسفرة} مضيئةٌ

39

{ضاحكة مستبشرة} فرحةٌ

40

{ووجوه يومئذ عليها غبرة} غبارٌ

41

{ترهقها} تغشاها {قترة} ظلمةٌ وسوادٌ

42

{أولئك} أهل هذه الحال {هم الكفرة الفجرة}

سورة التكوير

{إذا الشمس كورت} ذهب ضوؤها

2

{وإذا النجوم انكدرت} تساقطت وتناثرت

3

{وإذا الجبال سيرت} عن وجه الأرض فصارت هباءً منبثاً

4

{وإذا العشار} يعني: النُّوق الحوامل {عطلت} سُيِّبت وأُهملت تركها أربابها ولم يكن مالٌ أعجب إليهم منها لإيتان ما يشغلهم عنها

5

{وإذا الوحوش حشرت} جُمعت للقصاص

6

{وإذا البحار سجرت} أُوقدت فصارت ناراً ويقال: تقذف الكواكب فيها ثم تضطرم فتصير ناراً

7

{وإذا النفوس زوجت} قُرِن كلُّ أحدٍ بمَنْ يعمل عمله فأُلحق الفاجر بالفاجر والصَّالح بالصَّالح وقيل: قُرنت الأجساد بالأرواح

8

{وإذا الموؤدة} وهي الجارية تدفن حيَّةً {سئلت}

9

{بأيِّ ذنب قتلت} وسؤالها سؤال توبيخ لوائدها لأنها تقول: قتلت بغير ذنبٍ وهذا كقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للنَّاسِ} الآية

10

{وإذا الصحف نشرت} كُتُب الأعمال

11

{وإذا السماء كشطت} قُلعت كما يكشط الغطاء عن الشَّيء

12

{وإذا الجحيم سعِّرت} أُوقدت

13

{وإذا الجنة أزلفت} قرِّبت لأهلها حتى يروها

14

{علمت نفس ما أحضرت} أي: إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة علمت في ذلك الوقت كلُّ نفسٍ ما أحضرت من عملٍ

15

{فلا أقسم} لا زائدة {بالخنس} وهي النُّجوم الخمس تخنس أَيْ: ترجع في مجراها وراءها وتكنس: تدخل في كناسها أَيْ: تغيب في المواضع التي تغيب فيها فهي الكنَّس جمع كانس

16

{الجوار الكنس}

17

{والليل إذا عسعس} أقبل بظلامه وقيل: أدبر

18

{والصبح إذا تنفس} امتدَّ حتى يصير نهاراً بيِّناً

19

{إنه لقول رسول كريم} أي: القرآن لتنزيلُ جبريلٍ

20

{ذي قوة} من صفة جبريل {عند ذي العرش مكين} ذي مكانةٍ ومنزلةٍ

21

{مطاع ثمَّ} تطيعه الملائكة في السَّماء {أَمين} على الوحي

22

{وما صاحبكم} محمد صلى الله عليه وسلم {بمجنون} كما زعمتم

23

{ولقد رآه} رأى جبريل عليه السَّلام في صورته {بالأفق المبين} وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق

24

{ما هو} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {على الغيب} أي: على الوحي وخبر السماء {بضنين} بمتَّهم أَيْ: هو الثِّقة بما يؤدِّيه عن الله تعالى

25

{ما هو} يعني: القرآن {بقول شيطان رجيم}

26

{فأين تذهبون} فأيَّ طريقٍ تسلكون أبينَ من هذه الطَّريقة التي قد بُيِّنت لكم؟

27

{إن هو إلاَّ ذكر} ليس القرآن إلا عظمة {للعالمين}

28

{لمن شاء منكم أن يستقيم} يتبع الحقَّ ويعمل به ثمَّ أعلمهم أنَّهم لا يقدرون على ذلك إلاَّ بمشيئة الله تعالى فقال:

29

{وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله رب العالمين}

سورة الانفطار

{إذا السماء انفطرت} انشقَّت

2

{وإذا الكواكب انتثرت} تساقطت

3

{وإذا البحار فجِّرت} فُتح بعضها في بعضٍ فصارت بحراً واحداً

4

{وإذا القبور بعثرت} قُلب ترابها وبُعث الموتى الذين فيها

5

{علمت نفسٌ ما قدَّمت} من عملٍِ أُمرت به {و} ما {أخرت} منه فلم تعلمه

6

{يا أيها الإِنسان ما غرَّك بربك الكريم} أَي: ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى أضعت ما أوجب عليك

7

{الذي خلقك فسوَّاك} جعلك مستوي الخلق {فعدلك} قوَّمك وجعلك معتدل الخلق والقامة

8

{في أيِّ صورة ما شاء ركَّبك} إمَّا طويلاً وإمَّا قصيراً وإمَّا حسناً وإمَّا قبيحاً

9

{كلا بل تكذبون بالدين} بالمجازاة بالأعمال

10

{وإنَّ عليكم لحافظين} يحفظون أعمالكم

11

{كراماً} على الله {كاتبين} يكتبون أقوالكم وأعمالكم

12

{يعلمون ما تفعلون} لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم

13

{إنَّ الأبرار} الصَّادقين في إيمانهم {لفي نعيم}

14

{وإنَّ الفجار} الكفَّار {لفي جحيم}

15

{يصلونها} يقاسون حرَّها {يوم الدين}

16

{وما هم عنها بغائبين} بمخرجين ثمَّ عظَّم شأن يوم القيامة فقال:

17

{وما أدراك ما يوم الدين}

18

{ثم ما أدراك ما يوم الدين}

19

{يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً} لا تملك أن تُنجيها من العذاب {والأمر يومئذٍ لله} وحده لم يملك أحدٌ أمراً في ذلك اليوم كما ملك في الدُّنيا

سورة المطففين

{ويل للمطففين} يعني: الذين يبخسون حقوق النَّاس في الكيل والوزن

2

{الذين إذا اكتالوا} أخذوا بالكيل {على الناس} من النَّاس {يستوفون} يأخذون حقوقهم تامَّة وافيةً

3

{وإذا كالوهم} كالوا لهم {أو وزنوهم} وزنوا لهم {يخسرون} ينقصون

4

{ألا يظن أولئك} ألا يستيقن أولئك الذين يفعلون ذلك {أنهم مبعوثون}

5

{ليوم عظيم} يعني: يوم القيامة

6

{يوم يقوم الناس} من قبورهم {لربِّ العالمين} والمعنى أنَّهم لو أيقنوا بالبعث ما فعلوا ذلك

7

{كلا} ردع وزجر أي: ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا {إنَّ كتاب الفجار} الذي فيه أعمالهم مرقومٌ مكتوبٌ مثبتٌ عليهم في {سجين} في أسفل سبع أرضين وهو محل إبليس وجنده

8

{وما أدراك ما سجين} أي: ليس ذلك ممَّا كنتَ تعلمه أنت ولا قومُك وقوله:

9

{كتاب مرقوم} فمؤخَّرٌ معناه التَّقديم لأنَّ التَّقدير كما ذكرنا: إنَّ كتاب الفجَّار كتابٌ مرقومٌ في سجِّين وقوله:

10

{ويل يومئذ للمكذبين}

11

{الذين يكذبون بيوم الدين}

12

{وما يكذب به إلا كل معتد أثيم}

13

{إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين}

14

{كلا بل ران على قلوبهم} أي: غلب عليها حتى غمرها وغشيها {ما كانوا يكسبون} من المعاصي وهو كالصَّدأ يغشى القلب

15

{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} يحجبون عن الله تعالى فلا يرونه

16

{ثم إنهم لصالوا الجحيم} لداخلوا النَّار

17

{ثمَّ يقال هذا} العذاب {الذي كنتم به تكذبون} في الدُّنيا

18

{كلا إنَّ كتاب الأبرار لفي عليين} في السَّماء السَّابعة تحت العرش

19

{وما أدراك} وما الذي أعلمك يا محمد {ما عليون} كيف هي وأيُّ شيءٍ صفتها

20

{كتاب مرقوم} يعني: كتاب الأبرار كتابٌ مرقومٌ

21

{يشهده المقربون} تحضره الملائكة لأنَّ عليين محلُّ الملائكة وقوله:

22

{إن الأبرار لفي نعيم}

23

{على الأرائك ينظرون} أَيْ: إلى ما أعطاهم الله سبحانه من النَّعيم والكرامة

24

{تعرف في وجوههم نَضْرَةَ النعيم} أي: غضارته وبريقه

25

{يسقون من رحيق} وهو الخمر الصَّافية {مختوم}

26

{ختامه مسك} يعني: إذا فني ما في الكأس وانقطع الشَّراب يختم ذلك الشَّراب برائحة المسك {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} فليرغب الرَّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله عزَّ وجل

27

{ومزاجه} ومزاج ذلك الشَّراب {من تسنيم} وهو عينُ ماءٍ تجري في جنَّة عدنٍ وهي أعلى الجنَّات ثمَّ فسَّره فقال:

28

{عيناً يشرب بها المقربون} أَيْ: يشربها المُقرَّبون

29

{إنَّ الذين أجرموا} أشركوا يعني: أبا جهلٍ وأصحابه {كانوا من الذين آمنوا} من فقراء المؤمنين {يضحكون} استهزاءً بهم

30

{وإذا مروا بهم يتغامزون} يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون إليهم

31

{وإذا انقلبوا} رجعوا {إلى أهلهم} أصحابهم وذويهم {انقلبوا فكهين} مُعجبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكر المؤمنين

32

{وإذا رأوهم} رأوا المؤمنين {قالوا إنَّ هؤلاء لضالون}

33

{وما أرسلوا} يعني: الكفَّار {عليهم} على المؤمنين {حافظين} لأعمالهم موكلين بأموالهم

34

{فاليوم} يعني: يوم القيامة {الذين آمنوا من الكفار يضحكون} كما ضحكوا منهم في الدُّنيا

35

{على الأرائك ينظرون} إليهم كيف يُعذَّبون

36

{هل ثوِّب الكفار ما كانوا يفعلون} أي: هل جُوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدُّنيا؟

سورة الانشقاق

{إذا السماء انشقت} تنشقُّ السَّماء يوم القيامة

2

{وأذنت لربها} سمعت أمر ربِّها بالانشقاق {وحقت} وحقَّ لها أن تطيع

3

{وإذا الأرض مدَّت} من أطرافها فَزِيد فيها كما يمدُّ الأديم

4

{وألقت ما فيها} ما في بطنها من الموتى والكنوز {وتخلَّت} وخَلَتْ منها

5

{وأذنت لربها وحقت}

6

{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} عاملٌ لربِّك عملاً {فملاقيه} فملاقٍ عملك والمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله

7

{فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه}

8

{فسوف يحاسب حساباً يسيراً} وهو العرض على الله عز وجل لأنَّ مَنْ نُوقش الحساب عذاب

9

{وينقلب إلى أهله} في الجنَّة {مسروراً}

10

{وأمَّا مَنْ أوتي كتابه وراء ظهره} وذلك أنَّ يديه غُلَّتا إلى عنقه فيُؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره

11

{فسوف يدعو ثبوراً} فينادي بالهلاك على نفسه

12

{ويصلى سعيراً} ويدخل النَّار

13

{إنَّه كان في أهله} في الدُّنيا {مسروراً} متابعاً لهواه

14

{إنَّه ظنَّ أن لن يحور} لن يرجع إلى ربِّه

15

{بلى} أيْ: ليس الأمر كما ظنَّ يرجع إلى ربِّه

16

{فلا أقسم} معناه فأقسم {بالشفق} وهو الحمرة التي تُرى بعد سقوط الشَّمس وقيل: يعني: اللَّيل والنَّهار

17

{والليل وما وسق} جمع وحمل وضمَّ وآوى من الدواب والحشرات والهرام والسباع وكلّ شيء دخل عليه اللَّيل

18

{والقمر إذا اتسق} اجتمع واسترى

19

{لتركبنَّ طبقاً عن طبق} حالا بعد حال ومن النُّطفة وإلى العلقة وإلى الهرم والموت حتى يصيروا إلى الله تعالى وقوله:

20

{فما لهم لا يؤمنون}

21

{وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}

22

{بل الذين كفروا يكذبون}

23

{والله أعلم بما يوعون} أي: يحملون في قلوبهم ويُضمرون

24

{فبشرهم} أخبرهم {بعذاب أليم} وقوله:

25

{غير ممنون} أي: غير منقوصٍ ولا مقطوعٍ

سورة البروج

{والسماء ذات البروج} يعني: بروج الكواكب وهي اثنا عشر برجاً

2

{واليوم الموعود} يوم القيامة

3

{وشاهد} يوم الجمعة {ومشهود} يعني: يوم عرفة

4

{قتل} لُعن {أصحاب الأخدود} وهو الشَّقُّ يحفر في الأرض طولاً وهم قومٌ كفرةٌ كانوا يعبدون الصنم وكان قومٌ من المؤمنين بين أظهرهم يكتمون إيمانهم فاطَّلعوا على ذلك منهم فشقُّوا أخدوداً في الأرض وملؤوه ناراً وعرضوهم على النَّار فمن لم يرجع عن دينه قذفوه فيها

5

{النار ذات الوقود} ذات الالتهاب

6

{إذ هم عليها قعود} وذلك أنَّهم قعدوا عند تلك النَّار

7

{وهم على ما يفعلون بالمؤمنين} من التَّعذيب والصَّدِّ عن الإِيمان {شهود} حاضرون أخبر الله تعالى عن قصَّة قومٍ بلغت بصيرتهم في إيمانهم إلى أن صبروا على أَنْ أُحرقوا بالنَّار في الله

8

{وما نقموا منهم إلاَّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} أَيْ: ما أنكروا عليهم ذنباً إلاَّ إيمانهم

9

{الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد}

10

{إنَّ الذين فتنوا} أَيْ: أحرقوا {المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا} لم يرجعوا عن كفرهم {فلهم عذاب جهنم} بكفرهم {ولهم عذاب الحريق} بما أحرقوا المؤمنين

11

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير}

12

{إنَّ بطش ربك} أخذه بالعذاب {لشديد}

13

{إنه هو يبدئ} الخلق يخلقهم ابتداءً ثمَّ يُعيدهم عند البعث

14

{وهو الغفور الودود} المحبُّ أولياءه

15

{ذو العرش} خالقه ومالكه {المجيد} المستحقُّ لكمال صفات العلو والمدح

16

{فعال لما يريد}

17

{هل أتاك حديث الجنود} خبر الجموع الكافرة ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال:

18

{فرعون وثمود}

19

{بل الذين كفروا} من قومك {في تكذيب} كذبٍ لك

20

{والله من ورائهم محيط} قدرته مشتملةٌ عليهم فلا يعجزه عنهم أحدٌ

21

{بل هو قرآن مجيد} كثير الخير وليس كما زعم المشركون

22

{في لوح محفوظ} من أن يبدِّل ما فيه أو يُغيِّر

سورة الطارق

{والسماء والطارق} يعني: النُّجوم كلَّها لأنَّ طلوعها باللَّيل وكلُّ ما أتى ليلاً فهو طارق فقد فسَّر الله تعالى ذلك بقوله:

2

{وما أدراك ما الطارق}

3

{النجم الثاقب} المضيء النَّيِّرُ

4

{إن كلُّ نفسٍ لما عليها} لَعَليها و {ما} صلة {حافظ} من ربِّها يحفظ عملها

5

{فَلْيَنْظُرِ الإِنسان ممَّ خلق} من أي شيء خلقه ربُّه ثمَّ بيَّن فقال:

6

{خلق من ماءٍ دافق} مدفوقٍ مصبوبٍ في الرَّحم يعني: النُّطفة

7

{يخرج من بين الصلب} وهو ماء الرَّجل {والترائب} عظام الصَّدر وهو ماء المرأة

8

{إنَّه} إنَّ الله {على رجعه} على بعث الإِنسان وإِعادته بعد الموت {لقادر}

9

{يوم تبلى السرائر} يعني: يوم القيامة وفي ذلك اليوم تختبر السَّرائر وهي الفرائضُ التي هي سرائر بين العبد وربِّه كالصَّلاة والصَّوم وغسل الجنابة ولو شاء العبد أن يقول: فعلت ذلك ولم يفعله أمكنه فهي سرائر عند العبد وإنما تبين وتظهر صحَّتها وأمانة العبد فيها يوم القيامة

10

{فما له} يعني: الإِنسان الكافر {من قوة ولا ناصر}

11

{والسماء ذات الرجع} أَيْ: المطر

12

{والأرض ذات الصدع} تتشقَّق عن النبات

13

{وإنه} أَيْ: القرآن {لقول فصل} يفصل بين الحقّ والباطل

14

{وما هو بالهزل} أَيْ: باللَّعب والباطل

15

{إنهم} يعني: مشركي مكَّة {يكيدون كيداً} يُظهرون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما هم على خلافه

16

{وأكيد كيدا} وهو استدراج الله تعالى إيَّاهم من حيث لا يعلمون {فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً} يقول: أخِّرهم قليلاً فإني آخذهم بالعذاب فأُخذوا يوم بدرٍ وذلك أنَّه كان يدعو الله تعالى عليهم فقال الله تعالى: {أمهلهم رويداً} أي: قليلا

17

{فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً}

سورة الأعلى

{سبِّح اسم ربك الأعلى} نزِّه ذات ربِّك من السُّوء وقيل: معناه: قل: سبحان ربِّي الأعلى

2

{الذي خلق فسوَّى} خلق الإنسان مُستوي الخلق

3

{والذي قدَّر فهدى} قدَّر الأرزاق ثمَّ هدى لطلبها

4

{والذي أخرج} من الأرض {المرعى} النَّبات

5

{فجعله غثاء} يابساً وهو ما يحمله السَّيل ممَّا يجف من النَّبات {أحوى} أسود بالياً

6

{سنقرئك} سنجعلك قارئاً لما يأتيك به جبريل عليه السَّلام من الوحي {فلا تنسى} شيئاً وهذا وعدٌ من الله سبحانه لنبيِّه عليه السَّلام أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيءٌ

7

{إلاَّ ما شاء الله} أن ينسخه وقيل: إلاَّ ما شاء الله وهو لا يشاء أن تنسى {إنَّه يعلم الجهر} من القول والفعل {وما يخفى}

8

{ونيسِّرك لليسرى} أَيْ: نُهوِّن عليك الشَّريعة اليسرى وهي الحنيفيَّة السَّمحة

9

{فذكر} فَعِظْ بالقرآن {إن نفعت الذكرى} التَّذكير

10

{سيذكر} سيتَّعظ {من يخشى} الله

11

{ويتجنبها} ويتجنب الذكرى ويباعد عنها {الأشقى} في علم الله

12

{الذي يصلى النار الكبرى} الذي يدخل جهنَّم

13

{ثمَّ لا يموت فيها ولا يحيا} لا يموت فيها موتاً يستريح به من العذاب ولا يحيا حياةً يجد فيها روح الحياة

14

{قد أفلح} صادف البقاء في الجنَّة {مَنْ تزكَّى} أكثر من العمل الصالح

15

{وذكر اسم ربه فصلى} أَيْ: الصَّلوات الخمس

16

{بل تؤثرون} تختارون {الحياة الدنيا}

17

{والآخرة خير وأبقى} من الدُّنيا

18

{إن هذا} الذي ذكرت من فلاح المُتزكِّي وكون الآخرة خيراً من الدُّنيا {لفي الصحف الأولى} مذكورٌ في الكتب المتقدِّمة

19

{صحف إبراهيم وموسى} يعني: ما أنزل الله عليهما من الكتب

سورة الغاشية

{هل أتاك حديث الغاشية} يعني: القيامة لأنَّها تغشى الخلق ومعنى: {هل أتاك} أَيْ: إنَّ هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك

2

{وجوه يومئذٍ خاشعة} ذليلةٌ

3

{عاملة} في النار تعالج حرَّها وعذابها {ناصبة} ذات نصبٍ وتعبٍ

4

{تصلى ناراً} تقاسي حرَّها {حامية} حارَّةً

5

{تسقى من عين آنية} متناهيةٍ في الحرارة

6

{ليس لهم} في جهنم {طعام إلاَّ من ضريع} وهو يبيس الشِّبْرِقِ وهو نوعٌ من الشَّوك لا تقربه دابَّةٌ ولا ترعاه وصفته ما ذكر الله: {لا يسمن ولا يغني من جوع}

7

{لا يسمن ولا يغني من جوع}

8

{وجوهٌ يومئذٍ ناعمة} حسنةٌ

9

{لسعيها} في الدُّنيا {راضية} حين أًعطيت الجنَّة بعملها

10

{في جنة عالية}

11

{لا تسمع فيها لاغية} لغواً ولا باطلا قوله:

12

{فيها عين جارية}

13

{فيها سرر مرفوعة}

14

{وأكواب موضوعة}

15

{ونمارق مصفوفة} أَيْ: وسائد بعضها بجنب بعضٍ

16

{وزرابيُّ} وهي البسط والطَّنافس {مبثوثة} مفرَّقة في المجالس ثمَّ نبَّههم على عظيمٍ من خلقه قد ذلَّله لصغير ليدلَّهم بذلك على توحيده فقال:

17

{أفلا ينظرون إلى الإِبل كيف خلقت} وقوله:

18

{وإلى السماء كيف رفعت}

19

{وإلى الجبال كيف نصبت}

20

{سطحت} أَيْ: بُسطت

21

{فذكِّر إنما أنت مذكِّر} ذكِّرهم نعم الله ودلائل توحيده فإنَّك مبعوثٌ بذلك

22

{لست عليهم بمصيطر} بمسلِّط تُكرههم على الإِيمان وهذا قبل أن أمر بالحرب

23

{إلاَّ من تولى} لكنْ من تولَّى عن الإيمان {وكفر}

24

{فيعذِّبه الله العذاب الأكبر} عذاب جهنم

25

{إنَّ إلينا إيابهم} رجوعهم

26

{ثمَّ إنَّ علينا حسابهم}

سورة الفجر

{والفجر} يعني: فجر كلِّ يومٍ

2

{وليالٍ عشر} عشر ذي الحجَّة

3

{والشفع} يعني: يوم النَّحر لأنَّه يوم العاشر {والوتر} يوم عرفة لأنَّه يوم التَّاسع

4

{والليل إذا يسر} يعني: ليل المزدلفة إذا مضى وذهب وقيل: إذا جاء وأقبل

5

{هل في ذلك} الذي ذكرت {قَسَمٌ لذي حجر} أَيْ: مقنعٌ ومكتفى في القسم لذي عقلٍ ثمَّ ذكر الأمم التي كذَّبت الرُّسل كيف أهلكهم فقال:

6

{ألم تر كيف فعل ربك بعاد}

7

{إرم} يعني: عاداً الأولى وهو عاد بن عوص بن إرم وإرم: اسم القبيلة {ذات العماد} أَيْ: ذات الطُّول وقيل: ذات البناء الرفيع وقيل: ذات العمد السيَّارة وذلك أنَّهم كانوا أهل عمدٍ سيَّارة ينتجعون الغيث

8

{التي لم يخلق مثلها في البلاد} في بطشهم وقوَّتهم وطول قامتهم

9

{وثمود الذين جابوا} قطعوا {الصخر} فاتَّخذوا منها البيوت {بالواد} يعني: وادي القرى وكانت مساكنهم هناك

10

{وفرعون ذي الأوتاد} ذي الجنود والجموع الكثيرة وكانت لهم مضارب كثيرةٌ يوتدونها في أسفارهم وقوله:

11

{الذين طغوا في البلاد}

12

{فأكثروا فيها الفساد}

13

{فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب} أَيْ: جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب

14

{إنَّ ربك} جواب القسم الذي في أوَّل السُّورة {لبالمرصاد} بحيث يرى ويسمع ويرصد أعمال بني آدم

15

{فأمَّا الإنسان} يعني: الكافر {إذا ما ابتلاه ربُّه} امتحنه بالنِّعمة والسَّعة {فأكرمه} بالمال {ونعَّمة} بما وسَّع عليه {فيقول ربي أكرمنِ} لا يرى الكرامة من الله إلاَّ بكثرة الحظِّ من الدُّنيا

16

{وإمَّا إذا ما ابتلاه فقدر} فضيَّق {عليه رزقه فيقول: ربي أهانن} يرى الهوان في قلَّة حظِّه من الدنيا وهذا صفة الكافر فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يُكرمه الله بطاعته والهوان أن يُهينه بمعصيته ثم رَدَّ هذا على الكافر فقال:

17

{كلا} أي: ليس الأمر كما يظنُّ هذا الكافر {بل لا تكرمون اليتيم} إخبارٌ عمَّا كانوا يفعلونه من ترك اليتيم وحرمانه ما يستحقُّ من الميراث

18

{ولا تَحَاضُّون على طعام المسكين} لا تأمرون به ولاتعينون عليه

19

{وتأكلون التراث} يعني: ميراث اليتامى {أكلاً لمّاً} شديداً تجمعون المال كلَّه في الأكل فلا تُعطون اليتيم نصبه

20

{وتحبون المال حباً جماً} كثيراً

21

{كلا} ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر {إذا دكت الأرض دكاً دكاً} إذا زُلزلت الأرض فكَسر بعضها بعضاً

22

{وجاء ربك} أَيْ: أمر ربِّك وقضاؤه {والملك} أَيْ: الملائكةُ {صفاً صفاً} صفوفاً

23

{وجيء يومئذٍ بجهنم} تُقاد بسبعين أَلْفِ زمامٍ كلُّ زمامٍ بأيدي سبعين ألف مَلَكٍ {يومئذٍ يتذكَّر الإنسان} يُظهر الكافر التَّوبة {وأنى له الذكرى} ومن أين له التَّوبة؟

24

{يقول يا ليتني قدمت لحياتي} أَيْ: للدَّار الآخرة التي لا موت فيها

25

{فيومئذٍ لا يعذِّب عذابه أحد} لا يتولَّى عذاب الله تعالى يومئذٍ أحدٌ والأمر يومئذ أمره ولا أمر غيره

26

{ولا يوثق وثاقه} يعني: بالوثاق الإِسار والسًَّلاسل والأغلال والمعنى: لا يبلغ أحدٌ من الخلق كبلاغ الله سبحانه في التَّعذيب والإِيثاق

27

{يا أيتها النفس المطمئنة} إلى ما وعد الله سبحانه المصدِّقة بذاك

28

{ارجعي إلى ربك} يقال لها ذلك عند الموت {راضية} بما آتاها الله {مرضية} رضي الله عنها ربُّها هذا عند خروجها من الدُّنيا فإذا كان يوم القيامة قيل:

29

{فادخلي في عبادي} أَيْ: في جملة عبادي الصَّالحين

30

{وادخلي جنتي}

سورة البلد

{لا أقسم} المعنى: أقسم و {لا} توكيدٌ {بهذا البلد} يعني: مكَّة

2

{وأنت} يا محمَّدُ {حلٌّ بهذا البلد} تصنع فيه ما تريد ما القتل والأسر وأحلت له مكَّةُ ساعةً من النَّهار يوم الفتح حتى قاتل وقتل من شاء

3

{ووالدٍ} أقسم بآدم عليه السَّلام {وما ولد} وولده و {ما} بمعنى مَنْ

4

{لقد خلقنا الإِنسان في كبد} أَيْ: مشقَّةٍ يكابد أمر الدنيا والآخرة وشدائدها وقيل: مُنتصباً معتدلاً

5

{أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} نزلت في رجلٍ من بني جمح يُكنى أبا الأشدين كان يوصف بالقوَّة فقال الله تعالى: أيحسب بقوَّته أن لن يقدر عليه أحد والله قادر عليه

6

{يقول أهلكت مالاً} على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم {لبداً} كثيراً بعضه على بعض كاذبٌ في ذلك قال الله تعالى:

7

{أيحسب أن لم يره أحد} في إنفاقه فيعلم مقدار نفقته ثمَّ ذكر ما يستدلُّ به على أنَّ الله تعالى قادرٌ عليه وأَنْ يحصي عليه ما يعمله فقال:

8

{ألم نجعل له عينين}

9

{ولساناً وشفتين}

10

{وهديناه النجدين} يقول: ألم نُعرِّفه طريق الخير وطريق الشَّرِّ

11

{فلا اقتحم العقبة} أَيْ: لم يدخل العقبة وهذا مثل ضربه الله تعالى للمنفق في طاعة الله يحتاج أن يتحمَّل الكُلفة كمَنْ يتكلَّف صعود العقبة يقول: لم ينفق هذا الإنسان في طاعة الله شيئاً

12

{وما أدراك ما العقبة} أَيْ: ما اقتحام العقبة ثمَّ فسَّره فقال:

13

{فك رقبة} وهو إخراجها من الرِّقِّ بالعون في ثمنها

14

{أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة} مجاعةٍ

15

{يتيماً ذا مقربة} ذا قرابةٍ

16

{أو مسكيناً ذا متربة} أَيْ: ذا فقرٍ قد لصق من فقره بالتُّراب

17

{ثم كان من الذين آمنوا} أَيْ: كان مقتحم العقبة وفاكُّ الرَّقبة والمُطعم من الذين آمنوا فإنَّه إنْ لم يكن منهم لم ينفعه قربةٌ {وتواصوا} أوصى بعضهم بعضاً {بالصبر} على طاعة الله تعالى {وتواصوا بالمرحمة} بالرَّحمة على الخلق

18

{أولئك أصحاب الميمنة} مَنْ كان بهذه الصفة فهو من جملة أصحاب اليمين

19

{والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة} أصحاب الشِّمال وقيل في أصحاب اليمين: إنَّهم الميامين على أنفسهم وفي أصحاب المشأمة: إنَّهم المشائيم على أنفسهم

20

{عليهم نار مؤصدة} مُطَبقةٌ

سورة الشمس

{والشمس وضحاها} وضيائها

2

{والقمر إذا تلاها} تبعها في الضِّياء والنُّور وذلك في النِّصف الأوَّل من الشَّهر يخلف الشمس والقمر في النُّور

3

{والنهار إذا جلاَّها} جلَّى الظُّلمة وكشفها وقيل: جلَّى الشَّمس وبيَّنها لأنها تبين إذا انبسط النَّهار

4

{والليل إذا يغشاها} يستر الشَّمس

5

{والسماء وما بناها} أَيْ: وبنائها

6

{والأرض وما طحاها} وطحوها أَيْ: بسطها

7

{ونفس وما سوَّاها} وتسوية خلقها

8

{فألهمها فجورها وتقواها} علَّمها الطَّاعة والمعصية

9

{قد أفلح} سعد {مَنْ زكاها} أصلح الله نفسه وطهَّرها من الذُّنوب

10

{وقد خاب مَنْ دسَّاها} جعلها الله ذليلةً خسيسةً حتى عملت بالفجور ومعنى دسَّاها: أخفى محلها ووضع منها وأحملها وخذلها

11

{كذبت ثمود بطغواها} بطغيانها كذَّبت الرُّسل

12

{إذِ انبعث} قام {أشقاها} عاقر النَّاقة

13

{فقال لهم رسول الله} صالحٌ {ناقة الله} ذَروا ناقة الله {وسقياها} وشربها في يومها

14

{فكذَّبوه فعقروها} فقتلوا النَّاقة {فدمدم عليهم ربهم} أهلكهم هلاك استئصال {بذنبهم فسوَّاها} سوى الدمدمة عليهم فعمَّهم بها وقيل: سوَّى ثمود بالهلاك فأنزله بصغيرها وكبيرها

15

{ولا يخاف عقباها} لا يخاف اللَّهُ من أحدٍ تبعةَ ما أنزل بهم وقيل: لا يخاف أشقاها عاقبة جنايته

سورة الليل

{والليل إذا يغشى} أيْ: يغشى الأُفق بظلمته

2

{والنهار إذا تجلى} بان وظهر

3

{وما خلق} ومَنْ خلق {الذكر والأنثى} وهو الله تعالى وجواب القسم وهو قوله:

4

{إنَّ سعيكم لشتى} إنَّ عملكم لمختلفٌ يريد: بينهما بُعدٌ يعني: عمل المؤمن وعمل الكافر نزلت في أبي بكر الصِّديق وأبي سفيان بن حرب

5

{فأمَّا مَنْ أعطى} ماله {واتقى} ربَّه واجتنب محارمه

6

{وصدَّق بالحسنى} أيقن بأنَّ الله سبحانه سيخلف عليه وقيل: صدَّق بـ لا إله إلاَّ الله

7

{فسنيسره} فسنهيِّئه {لليسرى} للخلَّة اليسرى أَي: الأمر السَّهل من العمل بما يُرضي الله تعالى وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه اشترى جماعةً يُعذِّبُهم المشركون ليرتدُّوا عن الإِسلام فوصفه الله تعالى بأنَّه أعطى وصدَّق بالمُجازاة من الله له

8

{وأمَّا مَنْ بخل} بالنَّفقة في الخير {واستغنى} عن الله فلم يرغب في ثوابه

9

{وكذب بالحسنى}

10

{فسنيسره للعسرى} أَيْ: نخذله حتى يعمل بما يُؤدِّيه إلى العذاب والأمر العسير

11

{وما يغني عنه ماله إذا تردَّى} أَيْ: مات وهلك وقيل: سقط في جهنَّم

12

{إنَّ علينا للهدى} أَي: إِنَّ علينا أَّنْ نبيِّن طريق الهدى من طريق الضَّلال

13

{وإن لنا للآخرة والأولى} فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ

14

{فأنذرتكم} خوَّفتكم {ناراَ تلظى} تتوقَّد

15

{لا يصلاها إلاَّ الأشقى} لا يدخلها إلاَّ الكافر {الذي كذب وتولى}

16

{الذي كذَّب وتولَّى}

17

{وسيجنبها} أَيْ: يبعد منها {الأتقى} يعني: أبا بكر رضوان الله عليه

18

{الذي يؤتي ماله يتزكى} يطلب أن يكون عند الله زاكياً ولا يطلب رياءً ولا سمعةً

19

{وما لأحد عنده من نعمة تجزى} وذلك أنَّ الكفَّار قالوا لمَّا اشترى أبو بكر رضي الله عنه بلالاً فأعتقه: ما فعل أبو بكر ذلك إلاَّ ليدٍ كانت عنده لبلال فقال الله تعالى: وما لأحد عنده من نعمة تُجزى أَيْ: لم يفعل ذلك مجازاة ليدٍ أُسديت إليه

20

{إلاَّ ابتغاء وجه ربه الأعلى} أي: لكن طلب ثواب الله

21

{ولسوف يرضى} سيدخل الجنَّة

سورة الضحى

{والضحى} أيْ: النَّهارِ كلِّه

2

{والليل إذا سجى} سكن بالخلق واستقرَّ بظلامه

3

{ما ودَّعك ربك وما قلى} وما تركك منذ اختارك وما أبغضك منذ أحبَّك وهذا جواب القسم وقد كان تأخَّر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً فقال ناس: إنَّ محمداً ودَّعه ربُّه وقلاه فأنزل الله هذه السورة

4

{وللآخرة خير لك من الأولى} لأّنَّ الله يعطيك فيها الكرامات والدَّرجات

5

{ولسوف يعطيك ربك} في الآخرة من الثَّواب وفي مقام الشَّفاعة {فترضى} يروى أنَّه قال عليه السَّلام لمَّا نزلت هذه الآية: إذن لا أرضى وواحدٌ من أُمَّتي في النَّار ثمَّ أخبر عن حاله قبل الوحي وذكَّره نعمه عليه فقال:

6

{ألم يجدك يتيماً} حين مات أبوك ولم يُخلِّفا لك مالاً ولا مأوى {فآوى} فآواك إلى عمِّك أبي طالب وضمَّك إليه حتى كفلك وربَّاك

7

{ووجدك ضالاً} عمَّا أنت عليه اليوم من معالم النُّبوَّة وأحكام القرآن والشَّريعة فهداك إليها كقوله: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمانُ} الآية

8

{ووجدك عائلا} فقيرا لا مال لك فأغناك بمال خديجة رضي الله عنه ثمَّ بالغنائم

9

{فأما اليتيم فلا تقهر} على ماله واذكر يُتمك

10

{وأما السائل فلا تنهر} فلا تزجره ولكن بذلٌ يسير أو رد جميل واذكر فقرك

11

{وأمَّا بنعمة ربك} أَيْ: النُّبوَّة والقرآن {فحدِّث} أخبر بها

سورة الشرح

{ألم نشرح لك صدرك} أَلم نفتحْ ونوسِّع ونليِّن لك قلبك بالإِيمان والنُّبوَّة والعلم والحكمة؟ هذا استفهامٌ معناه التَّقرير

2

{ووضعنا} حططنا {عنك وزرك} ما سلف منك في الجاهليَّة وقيل: يعني: الخطأ والسَّهو وقيل: معناه: خفَّفنا عليك أعباء النُّبوَّة والوِزر في اللُّغة: الحِمل الثقيل

3

{الذي أنقض} أثقل {ظهرك}

4

{ورفعنا لك ذكرك} أي: إذا ذُكرت ذكرتَ معي

5

{فإنَّ مع العسر يسراً} أي: مع الشِّدَّة التي أنتَ فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاري إيَّاك عليهم حتى تغلبهم وينقادوا لك طوعاً أو كرهاً

6

{إنَّ مع العسر يسراً} تكرارٌ للتَّأكيد وقيل: إنَّ هذا عامٌّ في كلِّ عسرٍ أصاب المؤمن وهو من الله تعالى على وعد اليسر إمَّا في الدنيا وأما في الآخرة فالعسر واحدٌ واليسر اثنان

7

{فإذا فرغت} من صلاتك {فانصب} أَي: اتعب في الدُّعاء وسله حاجتك وارغب إلى الله تعالى به

8

{وإلى ربك فارغب}

سورة التين

{والتين والزيتون} هما جبلان بالشَّام طور تينا وطور زيتا بالسِّريانية سمِّيا بالتِّين والزَّيتون لأنَّهما يُنبتانهما

2

{وطور سينين} جبل موسى عليه السَّلام وسينين: المبارك بالسِّريانية

3

{وهذا البلد الأمين} الآمن يعني: مكَّة سمَّاه أميناً لأنه آمنٌ لا يُهاج أهله

4

{لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم} صورةٍ لأنَّه معتدل القامة يتناول مأكوله بيده

5

{ثم رددناه أسفل سافلين} إلى أرذل العمر والسَّافلون: هم الهرمى والزَّمنى والضَّعفى

6

{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنون} يعني: إن المؤمن ردَّ إلى أرذل العمر كُتب له مثل أجره إذا كان يعمل بخلاف الكافر فذلك قوله: {فلهم أجرٌ غير ممنون} أي: غير مقطوعٍ وقيل: معنى: {ثم رددناه أسفل سافلين} : إلى النَّار يعني: الكافر ثمَّ استثنى المؤمنين فقال: {إلاَّ الذين آمنوا} وهذا القول أظهر ثمَّ قال توبيخاً للكافر:

7

{فما يكذبك} أيُّها الإِنسان {بعد} هذه الحُجَّة {بالدين} بالحساب والجزاء ومعنى: ما يُكذِّبك: ما الذي يجعلك مكذِّباً بالدِّين وقيل: إنَّ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فما الذي يكذِّبك يا محمد بعد ما تبيَّن متن قدرتنا على خلق الإِنسان وظهر من حجَّتنا كأنَّه قال: فمَنْ يقدر على تكذيبك بالثَّواب والعقاب

8

{أليس الله بأحكم الحاكمين} في جميع ما خلق وصنع وكلُّ ذلك دالٌّ على علمه وحكمته جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه ولا إله غيره

سورة العلق

{أقرأ باسم ربك} يعني: اقرأ القرآن باسم ربك وهو أن تذكر التَّسمية في ابتداء كلِّ سورةٍ {الذي خلق} الأشياء والمخلوقات

2

{خلق الإنسان} يعني: ابن آدم {من علق} جمع عَلَقةٍ

3

{اقرأ وربك الأكرم} يعني: الحليم عن جهل العباد فلا يعجل عليهم بالعقوبة

4

{الذي علَّم بالقلم} ثمَّ بيَّن ما علَّم فقال:

5

{علَّم الإنسان ما لم يعلم} وهو الخطُّ والكتابة

6

{كلا} حقَّاً {إنَّ الإِنسان ليطغى} ليتجاوز حده ويستكبر على ربِّه

7

{أن رآه} رأى نفسه {استغنى}

8

{إنَّ إلى ربك الرجعى} المرجع في الآخرة فيجازي الطَّاغي بما يستحقُّه

9

{أرأيت الذي ينهى} يعني: أبا جهلٍ

10

{عبداً إذا صلى} وذلك أنَّه قال: لئن رأيتُ محمدا لأطأنَّ على رقبته ومعنى: أرأيتَ ها هنا تعجُّبٌ وكذلك قوله:

11

{أرأيت إن كان على الهدى} {أو أمر بالتقوى}

12

{أو أمر بالتقوى}

13

{أرأيت إن كذب وتولى} والمعنى: أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلَّى وهو على الهدى آمرٌ بالتَّقوى والنَّاهي كاذبٌ مُتولٍّ عن الذِّكرى أَيْ: فما أعجب من ذا!

14

{ألم يعلم} أبو جهلٍ {بأنَّ الله يرى} أَيْ: يراه ويعلم ما يفعله

15

{كلا} ردعٌ وزجرٌ {لئن لم ينته} عمَّا هو عليه من الكفر ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم {لنسفعا بالناصية} لنجرَّن بناصيته إلى النَّار ثمَّ وصف ناصيته فقال:

16

{ناصيةٍ كاذبة خاطئة} وتأويلها: صاحبها كاذب خاطئ

17

{فليدع ناديه} فليستعن بأهل مجلسه وذلك أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لأملأنَّ عليك هذا الوادي خيلا جرداء ورجالاً مُرداً فقال الله تعالى: {فليدع ناديه}

18

{سندع الزبانية} وهم الملائكة الغلاط الشِّداد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دعا ناديه لأخذته الزَّبانية عياناً

19

{كلا} ليس الأمر على ما عليه أبو جهلٍ {لا تطعه واسجد} وصلِّ {واقترب} تقرّب إلى ربِّك بطاعته

سورة القدر

{إنا أنزلناه} أي: أنزلنا القرآن {في ليلة القدر} ليلة الحكم والفصل يقضي الله فيها قضاء السَّنة والقَدْر: بمعنى التَّقدير أنزل الله تعالى القرآن كلَّه في ليلة القدر جُملةً واحدةً من اللَّوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا ثمَّ به جبريل عليه السَّلام على النبي صلى الله عليه والسلام في عشرين سنةً

2

{وما أدراك} يا محمَّد عليه السَّلام {ما ليلة القدر} على التَّعظيم لشأنها والتعجب منها ثمَّ أخبر عنها فقال:

3

{ليلة القدر خير من ألف شهر} أي: من ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر

4

{تنزل الملائكة والروح} يعني: جبريل عليه السَّلام {فيها} في تلك اللَّيلة {بإذن ربهم من كل أمر} أي: بكلِّ أمرٍ قضاه الله تعالى في تلك اللَّيلة للسَّنة وتمَّ الكلام ها هنا ثمَّ قال:

5

{سلام هي} أَيْ: تلك اللَّيلة كلها سلامةٌ وخيرٌ لا داء فيها ولا يستطيع الشَّيطان أن يصنع فيها شيئاً وقيل: يعني: تسليم الملائكة في تلك اللَّيلة على أهل المساجد {حتى مطلع الفجر} إلى وقت طلوع الفجر

سورة البينة

{لم يكن الذين كفروا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {من أهل الكتاب} أي: اليهود والنَّصارى {والمشركين} يعني: كفَّار العرب {منفكين} مُنتهين زائلين عن كفرهم {حتى تأتيهم البينة} يعني: أتتم البينة أَي: البيان والبصيرة وهو محمد عليه السلام والقرآن يقول: لم يتركوا كفرهم حتى بُعث إليهم محمَّدٌ عليه السَّلام وهذا فيمَنْ آمن من الفريقين ثمَّ فسَّر البيِّنة فقال:

2

{رسول من الله يتلو صحفاً} كتباً {مطهرة} من الباطل

3

{فيها كتب} أحكامٌ {قيِّمة} مستقيمةٌ عادلةٌ ثمَّ ذكر كفَّار أهل الكتاب فقال:

4

{وما تفرَّق الذين أوتوا الكتاب} أي: ما اختلفوا في كون محمَّدٍ عليه السَّلام حقاً لما يجدون من نعته في كتابهم {إلا من بعد ما جاءتهم البينة} إلاَّ من بعد ما بيَّنوا أنَّه النبيُّ الذي وُعدوا به في التَّوراة والإِنجيل يريد: أنَّهم كانوا مجتمعين على صحَّة نبوَّته فلمَّا بُعث جحدوا نبوَّته وتفرَّقوا فمنهم مَنْ كفر بغياً وحسداً ومنهم مَنْ آمن وهذا كقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} الآية

5

{وما أمروا} يعني: كفَّار الذين أوتوا الكتاب {إلا ليعبدوا الله} إلاَّ أنْ يعبدوا الله {مخلصين له الدين} الطَّاعة أَيْ: مُوحِّدين له لا يعبدون معه غيره {حنفاء} على دين إبراهيم عليه السَّلام ودين محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: {وذلك دين القيمة} أي: دين الملَّة القيِّمة وهي المستقيمة وباقي الآية ظاهر

6

{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}

7

{إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}

8

{جزاؤهم عند ربهم جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه}

سورة الزلزلة

{إذا زلزلت الأرض زلزالها} أي: حُرِّكت حركةً شديدةً لقيام السَّاعة

2

{وأخرجت الأرض أثقالها} كنوزها وموتاها فألقتها على ظهرها

3

{وقال الإِنسان} يعني: الكافر الذي لا يؤمن بالبعث: {ما لها} إنكاراً لتلك الحالة

4

{يومئذ تحدّث أخبارها} أَيْ: تُخبر بما عُمل عليها من خيرٍ وشرٍّ

5

{بأنَّ ربك أوحى لها} أي: أمرها بالكلام وأذن لها فيه

6

{يومئذ يصدر الناس} ينصرف النَّاس {أشتاتاً} متفرِّقين عن موقف الحساب فآخذٌ ذات اليمين وآخذٌ ذات الشِّمال {ليروا أعمالهم} أَيْ: ثوابها

7

{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} يرى المؤمن ثوابه في الآخرة والكافر في الدُّنيا يراه في نفسه وأهله وماله

8

{ومَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره} جزاء المؤمن في الدُّنيا بالأحزان والمصائب والكافر في الآخرة

سورة العاديات

{والعاديات} يعني: الخيل في الغزو {ضبحاً} تضبح ضبحاً وهو صوت أجوافها إذا عدت

2

{فالموريات} وهي الخيل التي تُوري النَّار {قدحاً} بحوافرها إذا عدت في الأرض ذات الحجارة باللَّيل

3

{فالمغيرات صبحاً} يعني: الخيل تُغير على العدوِّ وقت الصبح وإنما يُغير أصحابها ولكن جرى الكلام على الخيل

4

{فأثرن} هجين {به} بمكان عدوها {نقعاً} غباراً

5

{فوسطن} توسطن {به} بالمكان الذي هي به {جمعاً} من النَّاس أغارت عليهم يريد: صارت في وسط قومٍ من العدوِّ تُغير عليهم

6

{إن الإنسان} جواب القسم {لربه لكنود} لكفورٌ يعني: الكافر يجحد نعم الله تعالى

7

{وإنه} وإنَّ الله تعالى {على ذلك} على كنوده {لشهيد}

8

{وإنّه لحب الخير} لأجل حبِّ المال {لشديد} لبخيلٌ

9

{أفلا يعلم} هذا الإنسان {إذا بعثر} قُلب فَأُثير {ما في القبور} يعني: إذا بُعث الموتى

10

{وحصِّل} بيِّن وأُبرز {ما في الصدور} من الكفر والإيمان

11

{إنَّ ربهم بهم يومئذٍ لخبير} عالمٌ فيجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم وإنَّما قال بهم لأنَّ الإِنسان اسم الجنس

سورة القارعة

{القارعة} يعني: القيامة لأنَّها تقرع القلوب بأهوالها

2

{ما القارعة} تفخيمٌ لشأنها وتهويلٌ كما قلنا في الحاقة

3

{وما أدراك ما القارعة}

4

{يوم يكون الناس كالفراش} كغوغاء الجراد لا يتَّجه إلى جهةٍ واحدةٍ كذلك النَّاس إذا بُعثوا ماج بعضهم في بعضٍ للحيرة {المبثوث} المفرَّق

5

{وتكون الجبال كالعهن} كالصُّوف {المنفوش} المندوف لخفَّة سيرها

6

{فأمَّا مَنْ ثقلت موازينه} بالحسنات

7

{فهو في عيشة راضية} يرضاها

8

{وأما من خفت موازينه} {فأمه هاوية} فمسكنه النَّار

9

{فأمه هاوية} فمسكنه النَّار

10

{وما أدراك ما هيه} ثمَّ فسرها فقال:

11

{نار حامية} شديدة الحرارة

سورة التكاثر

{ألهاكم التكاثر}

2

{حتى زرتم المقابر} شغلكم التَّكاثر بالأموال والأولاد والعدد عن طاعة الله تعالى: {حتى زرتم المقابر} : حتى أدرككم الموت على تلك الحالة نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثرُ من بني فلانٍ وبنو فلان أكثرُ من بني فلانٍ ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلالاً

3

{كلا} ليس الأمر الذي ينبغي أَنْ تكونوا عليه التَّكاثر {سوف تعلمون} عند النَّزع سوء عاقبة ما كنتم عليه

4

{ثمَّ كلا سوف تعلمون} سوء عاقبة ما كنتم عليه في القبر والتكوير لتأكيد التَّهديد

5

{كلا لو تعلمون علم اليقين} أَيْ: لو علمتم الأمرَ حقَّ علمه لشغلكم ذلك عمَّا أنتم فيه وجواب {لو} محذوف ثمَّ ابتدأ فقال:

6

{لترون الجحيم}

7

{ثم لترونها} تأكيدٌ أيضاً {عَيْنَ اليقين} عياناً لستم عنها بغائبين

8

{ثمَّ لتسألنَّ يومئذ عن النعيم} عن الأمن والصَّحة فيما أفنيتموها

سورة العصر

{والعصر} هو الدَّهر أَقسم الله به

2

{إن الإنسان} يعني: الكافر العامل لغير طاعة الله {لفي خسر} خسرانٍ يعني: إنَّه يخسر أهله ومحله ومنزلته في الجنَّة

3

{إلاَّ الذين آمنوا} فإنَّهم ليسوا في خسرٍ {وتواصوا بالحق} وصى بعضهم الإقامة على التَّوحيد والإِيمان {وتواصوا بالصبر} على طاعة الله والجهاد في سبيله ويروى مرفوعاً: {إن الإنسان لفي خسرٍ} يعني: أبا جهلٍ {إلاَّ الذين آمنوا} يعني: أبا بكر {وعملوا الصالحات} يعني: عمر بن الخطاب {وتواصوا بالحقِّ} يعني: عثمان {وتواصوا بالصَّبر} يعني: علياً رضي الله عنهم أجمعين

سورة الهمزة

{ويلٌ لكلِّ همزة لمزة} يعني: الإنسان الذي يغتاب النَّاس ويعيبهم نزلت في أُميَّة بن خلف وقيل: في الوليد بن المغيرة وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم

2

{الذي جمع مالاً وعدده} أعدَّه للدَّهر وقيل: أكثر عدده

3

{يحسب أنَّ ماله أخلده} في الدُنيا حتى لا يموت

4

{كلا} ليس الأمر على ما يحسب {لينبذنَّ في الحطمة} ليطرحنَّ في النار وقوله:

5

{وما أدراك ما الحطمة}

6

{نار الله الموقدة}

7

{التي تطلع على الأفئدة} أَيْ: يبلغ ألمها وإحراقها إلى الأفئدة

8

{إنها عليهم مؤصدة} مطبقةٌ

9

{في عمد} جمع عمودٍ {ممددة} قيل: يعني: أوتاد الأطباق التي تطبق عليهم ومعنى {في عمدٍ} : بعمدٍ وقيل: إنَّها عمدٌ يُعذَّبون بها في النَّار

سورة الفيل

{ألم تر} ألم تعلم وقيل: ألم تخبر {كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}

2

{ألم يجعل كيدهم في تضليل} أضلَّ كيدهم عمَّا أرادوا من تخريب الكعبة

3

{وأرسل عليهم طيراً أبابيل} جماعاتٍ جماعاتٍ

4

{ترميهم بحجارة من سجيل} من آجرٍ

5

{فجعلهم كعصف مأكول} كزرعٍ أكلته الدَّوابُّ فداسته وفتَّتته والعصف: ورق الزرع

سورة قريش

{لإِيلاف قريش} قيل: هذه اللام تتَّصل بما قبلها على معنى: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وتألف رحلتيها وقيل: معنى اللام التَّأخير على معنى: ليعبدوا ربَّ هذا البيت {لإِيلاف قريش} أَيْ: ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النِّعم واعترافاً بها يقال: ألف الشَّيء وآلفه بمعنىً واحد والمعنى: لإيلاف قريش رحلتيها وذلك انَّه كانت لهم رحلتان رحلةٌ في الشتاء إلى اليمن ورحلة في الصَّيف إلى الشَّام وبهما كانت تقوم معايشهم وتجاراتهم وكان لا يتعرَّض لهم في تجارتهم أحدٌ يقول: هم سكَّان حرم الله وولاة بيته فمنَّ الله عليهم بذلك وقال:

2

{إيلافهم رحلة الشتاء والصيف}

3

{فليعبدوا ربَّ هذا البيت}

4

{الذي أطعمهم من جوع} أَيْ: بعد جوعٍ وكانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الميتة والجيف ثمَّ كشف الله ذلك عنهم {وآمنهم من خوف} فلا يخافون في الحرم الغارة ولا يخافون في رحلتهم

سورة الماعون

{أرأيت الذي يكذب بالدين} نزلت في العاص بن وائل وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل: في أبي سفيان وذلك أنه جزوراً فأتاه يتيمٌ يسأله فقرعه بعصاه فذلك قوله تعالى: {يدعُّ اليتيم} أَيْ: يدفعه بجفوةٍ من حقِّه

2

{فذلك الذي يدع اليتيم}

3

{ولا يحض على طعام المسكين} لا يُطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه

4

{فويل للمصلين}

5

{الذين هم عن صلاتهم ساهون} غافلون يُؤخِّرونها عن وقتها

6

{الذين هم يراؤون} يعني: المنافقين يُصلُّون في العلانيَة ويتركون الصَّلاة في السِّرِّ

7

{ويمنعون الماعون} الزَّكاة وما فيه منفعةٌ من الفأس والقِدر والماء والملح

سورة الكوثر

{إنَّا أعطيناك الكوثر} قيل: هو نهرٌ في الجنَّة حافتاه الدُّرُّ وقيل: هو الخير الكثير

2

{فصلِّ لربك} صلاة العيد يعني: يوم النَّحر {وانحر} نُسكك وقيل: {فصلِّ} : فضع يدك على نحرك في صلاتك

3

{إنَّ شانئك} مُبغضك {هو الأبتر} المُنقطع العقب وقيل: المنقطع عن كلِّ خير نزلت في العاص بن وائل سمى النبي صلى الله عليه وسلم أبتر عند موت ابنه القاسم

سورة الكافرون

{قل يا أيها الكافرون} نزلت في رهطٍ من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم تعبد آلهتنا سنةً ونعبد إلهك سنةً فأنزل الله هذه السُّورة

2

{لا أعبد ما تعبدون} في الحال

3

{ولا أنتم عابدون ما أعبد} في الحال ما أعبده

4

{ولا أنا عابد} في الاستقبال {ما عبدتم}

5

{ولا أنتم عابدون} في الاستقبال {ما أعبد} فنفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل وهذا في قومٍ أعلمه الله أنَّهم لا يؤمنون ونفى أيضاً عن نفسه عبادة الأصنام في الحال وفيما يستقبل ولييئسوا في ذلك

6

{لكم دينكم} الشِّرك {ولي دين} الإسلام وهذا قبل أن يُؤمر بالحرب

سورة النصر

{إذا جاء نصر الله} إيَّاك على مَنْ ناوأك من اليهود والعرب {والفتح} يعني: فتح مكة

2

{ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} جماعاتٍ جماعاتٍ بعد ما كان يدخل واحدٌ فواحدٌ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزلت هذه السورة قال: قد نُعِيَتْ إليَّ نفسي

3

{فسبح بحمد ربك} أمره الله عز وجل أن يُكثر التَّسبيح والاستغفار ليختم له في آخر عمره بالزِّيادة في العمل الصّالح

سورة المسد

{تبت يدا أبي لهب وتب} لمَّا نزل قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم الصَّفا ونادى بأعلى صوته يدعو قومه فاجتمعوا إليه فأنذرهم النَّار وقال: إنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أبو لهب: تبَّاً لك ما دعوتنا إلاَّ لهذا فأنزل الله: {تبت يدا أبي لهب} أَيْ: خابت وخسرت {وتب} وخسر هو ولمَّا خوفه النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال: إنَّه إنْ كان ما يقوله ابن أخي حقاً فإني أفتدي منه بمالي وولدي فقال الله تعالى

2

{ما أغنى عنه ماله وما كسب} يعني: ولده

3

{سيصلى ناراً ذات لهب}

4

{وامرأته حَمّالةَ الحطب} نقَّالة الحديث الماشية بالنَّميمة وهي أمُّ جميلٍ أخت أبي سفيان

5

{في جيدها} في عنقها {حبل من مسد} سلسلةٌ من حديدٍ ذرعها سبعون ذراعاً تدخل في فيها وتخرج من دبرها ويلوى سائرها في عنقها والمسد: كلُّ ما أُحكم به الحبل

سورة الإخلاص

روي أنَّ قوماً من المشركين قال لرسول الله صلى عليه وسلم: انسب لنا ربَّك فأنزل الله عز وجل: {قل هو الله أحد} أَيْ: الذي سألتم نسبته هو الله أحدٌ

2

{الله الصمد} السَّيِّد الذي قد انتهى إليه السودد وقيل: الصَّمد: الذي لا جوف لَه ولا يأكل ولا يشرب وقيل: هو المقصود إليه في الرَّغائب

3

{لم يلد ولم يولد}

4

{ولم يكن له كفواً أحد} لم يكن أحدٌ مثلاً له

سورة الفلق

{قل أعوذ برب الفلق} نزلت هذا السُّورة والتي بعدها لمَّا سحر لبيدُ بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى شكوى شديدةً فأعلمه الله بما سحر به وأين هو فبعث مَنْ أتى به وكان وَتَراً فيه إحدى عشرة عقدةً فجعلوا كلما حلُّوا عقدةً وجد راحة حتى حلو العقد كلَّها وأمره الله أن يتعوَّذ بهاتين السُّورتين وهما إحدى عشرة آية على عدد العقد قوله: {برب الفلق} يعني: الصُّبح

2

{من شر ما خلق}

3

{ومن شر غاسق} يعني: اللَّيل {إذا وقب} دخل

4

{ومن شر النفاثات} يعني: السَّواحر تنفث {في العقد} كأنَّها تنفخ فيها بشيءٍ تقرؤه

5

{ومن شرِّ حاسد إذا حسد} يعني: لبيداً الذي سحره

سورة الناس

{قل أعوذ برب الناس}

2

{ملك الناس}

3

{إله الناس}

4

{من شرِّ الوسواس} يعني: ذا الوسواس وهو الشيطان {الخناس} وهو الذي يخنس ويرجع إذا ذُكر الله والشَّيطان جاثمٌ على قلب الإِنسان فإذا ذَكر الله تنحَّى وخنس وإذا غفل التقم قبله فحدثه ومناه وهو وقوله:

5

{الذي يوسوس في صدور الناس}

6

{من الجِنَّة} أَيْ: الشيطان الذي هو من الجنِّ {والناس} عطف على قوله: الوسواس والمعنى: من شرِّ ذي الوسواس ومن شر النَّاس كأنَّه أُمر أن يستعيذه من شرِّ الجنِّ ومن شر الناس

§1/1