الوجيز في أصول الفقه الإسلامي

محمد مصطفى الزحيلي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْوَجِيز فِي أصُول الْفِقْه الإسلامي «الْمدْخل - المصادر - الحكم الشَّرْعِيّ»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار الْخَيْر الطّبعَة الثّانِيَة 1427 هـ - 2006 م دَار الْخَيْر للطباعة والنشر والتوزيع للمراسلة: دمشق - سوريا - حلبوني - جادة الشَّيْخ تَاج هَاتِف الْمكتب: 2245822/ 011 - تلفاكس: 2222694/ 011 هَاتِف المكتبة: 2228074/ 011 ص. ب: 13492 E-mail: [email protected] دَار الْخَيْر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - فردان - جنوب سيّار الدَّرك - بِنَاء الشَّامي هَاتِف: 810571/ 01 - تلفاكس: 865697/ 01 ص. ب: 5630/ 113 - الرَّمْز البريدي: 2060/ 1103

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث رحمة للعالمين، الذي أدى الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونَصَحَ الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك. وبعد: فقد عشت مع علم أصول الفقه أكثر من أربعين سنة، فدرَسْته في الثانوية الشرعية، وفي كلية الشريعة وكلية الحقوق بجامعة دمشق، وفي جامعة القاهرة وجامعة الأزهر، ثم درّسته أكثر من ربع قرن. ومارست كتبه في التأليف والتحقيق، ولمست أهميته وفائدته النظرية والعملية، وأحببت أن أكتب فيه كتابًا مبسطًا يغطي مباحثه؛ لأن دراسة علم الأصول تصقل الذهن، وتشحذ العقل، وتفتح الدماغ، وتنير الطريق، وتكوِّن الملكة الفقهية، وترشد الإنسان إلى ينابيع المعرفة، ومصادر الخير، وتضع اليد على الموازين السليمة، والمعايير الدقيقة، والضوابط الحكيمة، لإدراك الأحكام الشرعية، وبيان مدى الالتزام بشرع الله ودينه القويم، ليكون المؤمن على المحجَّةِ البيضاء، ويقف الإنسان لمامة على محاسبة نفسه قبل أن يحاسب.

وإن علم أصول الفقه يشكل المنارة الوضَّاءة بين العلوم الشرعية، ويعتبر مفخرة الأمة في حضارتها وعلومها، وذلك أنه عبارة عن القواعد والمبادئ التي سار عليها الفقهاء في استنباط الأحكام وبيانها للناس، وأنه يكوِّن الضوابط التي يلتزم بها الفقيه، بقصد أن يكون طريقه مستقيمًا واضحًا، لا يعتريه وهن أو انحراف، ولا خبط أو اضطراب. كما أن هذا العلم هو المصباح الذي ورثته الأجيال، وحمله العلماء على مر العصور، لبيان الأحكام الشرعية في كل جديد، ومعالجة المشاكل التي تطرأ، وغير ذلك من تفسير النصوص، وبيان دلالات الألفاظ، والتوفيق بين الأدلة، وإزالة التعارض وكيفية الترجيح، ومنهج الاجتهاد، ومقوماته، وفق منهج محدد يسير عليه العالم في الاجتهاد والاستنباط (¬1). ومما يبهج النفس، ويسعد القلب أنه ظهر في هذه السنوات الثلاثين الأخيرة عدد من أمهات كتب الأصول، التي تعتبر من مصادره الأصلية، ومراجعه المعتمدة، كالبرهان لإمام الحرمين الجُويني، والمحصول لفخر الدين الرازي، والعُدَّة لأبي يَعْلى الفراء الحنبلي، وشرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي، وشرح تنقيح الأصول للقرافي المالكي، والتبصرة للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والمنخول لحجة الإسلام الغزالي، وشفاء الغليل للشيخ أبي جامد الغزالي أيضًا، والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام البعلي، والمغني للخبازي الحنفي، والتمهيد لأبي الخطاب الكلوداباذي .. ، وغيرها كثير (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فوائد علم أصول الفقه في الفصل الثاني من الباب التمهيدي. (¬2) منها الوصول إلى علم الأصول لابن بَرْهان، والفصول في الأصول للجصاص، وميزان الأصول للسمرقندي، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي، وبيان المختصر للأصفهاني في شرح مختصر ابن الحاجب، وتقريب الأصول إلى علم الأصول لابن جزئ المالكي، وغيرها.

طريقة البحث ومنهجه

وأعيد طباعة وتصوير بعض الكتب العظيمة في أصول الفقه، كالمعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي، وكشف الأسرار عن أصول البرذوي، وأصول السرخسي، والمستصفى للغزالي، وفوات الرحموت على مسلم الثبوت لابن عبد الشكور، والشرح للأنصاري، وجمع الجوامع لابن السبكي مع شروحه وحواشيه ... ، وغيرها كثير كالشروح على مختصرات ابن الحاجب. فصارت المكتبة الإسلامية غنية -والحمد لله- بكتب الأصول الأصلية، وصنفت كتب قيمة بأسلوب معاصر، وثوب قشيب في العصر الحاضر، من كبار العلماء، وأساتذة الجامعات، فأصبحت الأمور ميسرة، رجاء أن يكون ذلك مقدمة لعودة الحياة إلى هذا العلم المفيد، عمليًّا، وأن تعود الأمة إلى الاستفادة من تراث السلف الصالح، وذخائر أمتنا المجيدة، ليتجدد العمل بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتظفر -بعد ذلك- بالعزة والكرامة، وتحرير المقدسات، والنصر على الأعداء في الدنيا، والفوز بالسعادة الأبدية ومرضاة الله تعالى في الآخرة. طريقة البحث ومنهجه: التزمت غالبًا بالنقاط التالية: 1 - الطريقة المدرسية التي تعتمد الوضوح والتنظيم والموضوعية والإقناع. 2 - الجمع بين القواعد والمبادئ والضوابط الأصولية، مع بيان مدلولاتها، وبين الأحكام الفقهية والفروع الجزئية، باعتبارها أمثلة تطبيقية للقاعدة وتوضيحًا لها، وللترابط الكامل، والتلازم الدائم بين علم أصول الفقه وعلم الفقه. 3 - تجنب طرح الموضوعات الأصولية الجزئية التي تتفرع عن المبادئ العامة، وهي مسائل فرعية بحثها الأصوليون في كتبهم، وبينوا

4 - العرض المبسط لمبادئ أصول الفقه

آراء العلماء فيها، وأدلتهم، ومناقشة الأدلة، والردَّ عليها، وهي في معظمها نادرة الوقوع، وبعيدة عن الحياة، وقليلة الفائدة، مما يشوِّش ذهن القارئ، ويشتت فكره، ويضعه في متاهات علمية وجدلية، يصعب عليه أن يغوص فيها في المراحل الأولى لدراسة الأصول، ولا يصل فيها إلى شاطئ الأمان والسلامة، وخاصة لمن يدرس هذا العلم لأول مرة، ونترك هذه التفاصيل والجزئيات ريثما تتكون لديه ملكة أصولية، يستعين بها على فهم هذه المباحث. 4 - العرض المبسط لمبادئ أصول الفقه، وبيان الآراء والأقوال المختلفة في المسألة الواحدة، وذكر أصحاب كل رأي، ودليله، مع مناقشة موجزة للأدلة، وما قد يرد عليها من ملاحظات، مع الاقتصار على الآراء المشهورة والمعتمدة، والإعراض عن ذكر الآراء الشاذة والضعيفة. 5 - الاعتماد بشكل مباشر على المراجع الأصلية في الموضوع، والإشارة إلى أهمية بعض المراجع الثانوية في الهامش، واقتباس بعض النصوص أحيانًا، لبيان الدقة العلمية، والصياغة الحكيمة، والأسلوب الناصع لعلماء هذه الأمة وسلفها الصالح الذين بذلوا أقصى طاقاتهم في خدمة هذه الشريعة الغراء، ومن ثمَّ نوجه الأذهان نحو هذه المراجع والمصادر والكتب الأصلية في علم الأصول، ولا يفوتنا أن نستفيد من كتب الأصول الحديثة والمعاصرة. خطة الكتاب والبحث: سيأتي الكتاب بمشيئة الله تعالى في جزأين، يتضمن كل جزء ثلاثة محاور أساسية، وهي: الجزء الأول: في المقدمات لعلم أصول الفقه، ومصادر التشريع الإسلامي، والحكم الشرعي. الجزء الثاني: في الدلالات وتفسير النصوص، والاجتهاد،

والتعارض والترجيح. وقسمت الجزء الأول إلى باب تمهيدي، وبابين. أما الباب التمهيدي: فيتناول تعريف علم أصول الفقه، وفائدته، ولمحة تاريخية عنه، وطرق التأليف فيه، وأهم المصادر والمراجع، وأسباب اختلاف الفقهاء، ومقاصد الشريعة. والباب الأول: نعرض فيه مصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها، والمختلف فيها، بشيء من الإيجاز، وخاصة في الأدلة المختلف فيها. والباب الثاني: في الحكم الشرعي لتعريفه، وتقسيمه إلى حكم تكليفي، وحكم وضعي، وبيان موجز عن الحاكم، والمحكوم عليه وهو المكلف، والمحكوم به وهو الفعل. وأسأل الله أن يسدد خطانا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بيدنا إلى الصراط المستقيم، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يلهمنا رشدنا، ويجنبنا شر أنفسنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكتب لنا هذا العمل في صحائف أعمالنا المقبولة، ندَّخره ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، مع الأمل أن يدعو لنا من يقرؤه وينتفع به دعوة صالحة في ظهر الغيب، تنفعنا في الدنيا، وفي القبر، ويوم الحشر، والحمد لله رب العالمين. ونقدم -الآن- الجزء الأول للطباعة، ونسأل الله العون على استكمال الجزء الثاني. الشارقة في 8 رمضان 1422 هـ. الموافق 23/ 11 / 2001 م. الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة. وكيل كلية الشريعة للشؤون العلمية بجامعة دمشق- سابقًا.

الباب التمهيدي المدخل إلى أصول الفقه

الباب التمهيدي المدخل إلى أصول الفقه قبل أن نبدأ بدراسة موضوعات علم أصول الفقه لا بد لنا من أن نعرفه ونبين فوائده، ونذكر لمحة موجزة عن تطوره وتاريخه، ثم نعرج على المنطلق الأساسي والباعث الحقيقي، بل والثمرة الكاملة التي تنتج عنه، وهي أسباب اختلاف الفقهاء، ثم نعرض المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية (¬1)، وسوف نخصص كلا من ذلك بفصل. ¬

_ (¬1) يقول العلامة ابن الجوزي -رحمه الله- في "صيد الخاطر": "فائدة: اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول، ومحروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل، وكذلك كل الشرائع، وإنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال". صيد الخاطر ص: 114 تحقيق الشيخ محمد الغزالي.

الفصل الأول في تعريف علم أصول الفقه وموضوعه

الفصل الأول في تعريف علم أصول الفقه وموضوعه يذكر العلماء تعريفين لعلم أصول الفقه: أحدهما: ينظر إليه على أنه علم مستقل، وأن هذا الاسم لقب له، وأصبح حقيقة عرفية دون النظر إلى أجزائه المركب منها، مثل عبد الله وركن الدين، إذا جُعل كل منهما علمًا أو لقبًا لإنسان. وثانيهما: يعرفه على أنه مركب إضافي مكون من ثلاث كلمات، فيعرف كلًّا منها على حده. ونتناول كل تعريف في مبحث مع شرح التعريف وبيان حدوده وما يدخل فيه، وما يخرج منه، ونخلص من التعريفين إلى بيان موضوع علم أصول الفقه في مبحث ثالث، ونحدد الموضوعات التي سنتناولها في هذا الكتاب.

المبحث الأول في تعريف علم أصول الفقه مركبا

المبحث الأول في تعريف علم أصول الفقه مركبًا عرف الكثير من الأصوليين علم أصول الفقه باعتباره مركبًا إضافيًّا، وأنه مؤلف من ثلاث كلمات، وهي: علم، وأصول، وفقه، ولا بد من فهم معنى كل كلمة على حدة لفهم المعنى العام لعلم أصول الفقه، وإدراك مضمونه وحدوده. أولًا: العلم: العلم في اللغة: هو المعرفة واليقين والشعور (¬1). أما في الاصطلاح فيطلق العلماء لفظ العلم على أحد المعاني الأربعة التالية (¬2): 1 - العلم: هو إدراك الشيء ومعرفته، وهذا الإدراك أو المعرفة إما أن يكون بدليل قطعي يجزم الشخص به ويطمئن إليه، فيفيد العلم القطعي الذي تثبت به الأحكام الاعتقادية كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 3 ص 153، المصباح المنير: 2 ص 583. (¬2) انظر التعريفات: الجرجاني: ص 135، كشف الظنون: 1 ص 4، كشاف اصطلاحات الفنون: 4 ص 1055، شرح الكوكب المنير: 1 ص 63.

ورسله واليوم الآخر؛ لأن العقيدة لا تثبت بالظن، وإما أن يكون الدليل غير مقطوع به. وإنما يدل دلالة راجحة على غيره، فيفيد الظن، والأحكام العملية الفقهية تثبت بالقطعي وتثبت بالظني، فالعلم هنا عملية ذهنية في تصور الأشياء، أو تصور المعلوم. 2 - العلم: هو نفس الأشياء المدركة، فعلم الفقه مثلًا هو مسائل الفقه، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية، وعلم الطب هو مجموعة التعليمات والمعارف التي تميز بين الذات الصحيحة والمريضة، وعلم الأصول هو مجموعة القواعد والأبواب التي ترشد إلى استنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية. 3 - العلم: هو الملكة والقدرة العقلية التي يكتسبها العالم من دراسة العلم ومسائله، فيقال مثلًا: فلان عنده علم. 4 - العلم: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل، مثل: النار محرقة، والعالم حادث، وذلك إذا وصل البحث إلى المعرفة الكاملة المطابقة للحقيقة والواقع، فإنه يسمى علمًا، وإلا فإنه يكون فرضية أو ظنًّا أو شكًّا أو وهمًا وتخمينًا ورجمًا بالغيب، فالعلم أعلى درجات المعرفة (¬1). ¬

_ (¬1) إن معرفة الأشياء تقع على درجات، فإن كانت المعرفة صحيحة بشكل كامل، وكانت مطابقة للواقع، ولا تحتمل النقيض والعكس فهي "العلم"، وهو أعلى الدرجات، وإن كانت المعرفة أقل درجة، ويرد عليها احتمال النقيض والعكس، لكن يترجح فيها جانب الصدق على الكذب فهي "الظن"، ويتفاوت الظن حتى يقال: غلبة الظن، وإن ترجح جانب الكذب على الصدق، وكانت المطابقة مع الواقع مرجوحة، فهي "الوهم" وهو أدنى درجات المعرفة، وإن تساوى الأمران، ولم يترجح جانب على آخر، وكان احتمال النقيض مساويًا لغيره فهو "الشك". انظر: مختصر ابن الحاجب: 1 ص 58 وما بعدها، طبعة بولاق، شرح الكوكب المنير: 1 ص 74، الورقات، للجويني: ص 48.

ثانيا: الأصول

وأقرب المعاني التي تتصل بعلم الأصول هو الأول والثاني، فعلم أصول الفقه هو إدراك الأصول ومعرفتها، أو هو نفس الأصول التي تؤخذ منها الأحكام. ثانيًا: الأصول: الأصول: جمع أصل، وهو في اللغة أسفل الشيء، أو ما يبنى عليه غيره، سواء كان الابتناء حسيًّا، كالأساس الذي يشيد عليه البناء، فهو أصل له، أم كان الابتناء عقليًّا، كابتناء الأحكام الجزئية على القواعد الكلية (¬1). أما في الاصطلاح: فقد استعمل العلماء كلمة أصل في معان كثيرة أهمها (¬2): 1 - الأصل: هو ما يقابل الفرع، وذلك في الفقه وأصول الفقه، مثل الخمر والأب، فالخمر أصل والنبيذ فرع له، والأب أصل والولد فرع له. 2 - الأصل: بمعنى الراجح، مثل الحقيقة أصل للمجاز، أي راجحة عليه عند السامع، والقرآن الكريم أصل للقياس أي راجح عليه، والأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز. 3 - الأصل: بمعنى المستصحب، مثل: الأصل الطهارة، لمن كان متيقنًا منها، ويشك في الحدث، أي تستصحب الطهارة حتى يثبت ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 21، القاموس المحيط: 1 ص 328. (¬2) انظر: المستصفى، للإمام الغزالي: 1 ص 5، فواتح الرحموت: 1 ص 28، التلويح على التوضيح: 1 ص 9 ط صبيح، نهاية السول: 1 ص 18، مباحث الكتاب والسنة، الدكتور فوزي فيض الله: ص 2، مباحث الحكم عند الأصوليين، للأستاذ محمد سلام مدكور: ص 8، أصول الفقه، أَبو النور: 1 ص 5، شرح الكوكب المنير: 1 ص 38.

ثالثا: الفقه

عكسها، ومثل: الأصل براءة الذمة، ويقال: ما هو أصل القضية، أي الأمر الذي كان في الماضي والسابق لنستصحبه إلى الحاضر. 4 - الأصل: بمعنى القاعدة التي تبنى عليها المسائل، مثل: "بني الإسلام على خمسة أصول"، ويقال: أكل الميتة على خلاف الأصل، أي على خلاف الحالة المستمرة. 5 - الأصل: بمعنى الدليل، وهو ما تعارف عليه الفقهاء وعلماء الأصول، مثل قولهم: أصل هذا الحكم من الكتاب آية كذا، ومن السنة حديث كذا. وهذا المعنى الأخير هو المقصود من استعمال أصول الفقه، أي أدلة الفقه، وهذه الأدلة إما أن تكون إجمالية وكلية وتدرس في أصول الفقه، وهي مصادر التشريع، كما سنرى، وإما أن تكون الأدلة تفصيلية، ويختص بها علم الفقه والخلاف. ثالثًا: الفقه: الفقه لغة: الفهم (¬1)، وهو إدراك معنى الكلام، ومنه قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)} [طه:27 - 28]، وقوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ يُردِ اللهُ به خيرًا يُفقّهه في الدِّين" (¬2). وفي الاصطلاح، عرفه أصحاب الشافعي بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" (¬3)، وهاك شرح هذا التعريف. ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 656، القاموس المحيط: 4 ص 289. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه. (¬3) نهاية السول: 1 ص 23، المستصفى: 1 ص 4، فواتح الرحموت: 1 ص 10، التوضيح على التنقيح: 1 ص 12، ط صبيح، غاية الوصول: ص 5، منهاج الوصول: ص 3، التعريفات: ص 147، شرح الكوكب المنير: 1 ص 41، 63، وعرف الإمام أَبو حنيفة -رحمه الله تعالى- الفقه بأنه: معرفة النفس ما لها =

1 - العلم: هنا هو الإدراك والتصديق والمعرفة، ويدخل فيه سائر العلوم. 2 - الأحكام: جمع حكم، وهو لغةً: القضاء والمنع (¬1)، وعند الأصوليين هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وعرف الفقهاء الحكم بأنه ما ثبت بالخطاب، أو هو أثر الخطاب (¬2)، كوجوب الصوم؛ فإنه حكم ثبت من الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ويكون العلم بالأحكام هو التصديق بكيفية تعلق الأحكام بأفعال المكلفين. ويخرج من التعريف العام بذات الله تعالى وصفاته وأفعاله؛ فإنها تدخل في علم التوحيد والعقيدة، ويخرج العلم بالأدلة الكلية وبالقواعد والضوابط؛ فإنها تدخل في علم الأصول. 3 - الشرعية: أي الأحكام التي تتوقف على الشرع، ويخرج من الفقه العلم بالأحكام العقلية مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والأحكام اللغوية مثل: الفاعل مرفوع، والباء للتعليل، والأحكام الحسية مثل: النار محرقة، والماء بارد. 4 - العملية: وهي صفة للأحكام، بأن تقتضي عملًا، سواء كان من عمل القلب كوجوب النية، أو من عمل اللسان كالقراءة والكلام، أو من عمل الجوارح كالعبادات والجهاد. ¬

_ = وما عليها، وهو تعريف عام يشمل العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات، ولذلك فقد أضاف صدر الشريعة عليه لفظة "عملًا" لقصره على العبادات والمعاملات، انظر: تنقيح الأصول: ص 10، ط صبيح، المدخل لابن بدران: ص 58، وانظر تعريف الفقه في مقدمة "البحر الرائق" لابن نجيم الحنفي. (¬1) المصباح المنير: 1 ص 200، القاموس المحيط: 4 ص 98. (¬2) سيأتي معنا -إن شاء الله تعالى- شرح تعريف الفقهاء والأصوليين تفصيلًا في الباب الثاني من هذا الكتاب، عند الكلام عن الحكم.

ويخرج من الفقه الأحكام الاعتقادية التي لا تتعلق بكيفية عمل، وإنما قصد منها الاعتقاد فقط، مثل العلم بأن الله واحد، وأنه يُرى في الآخرة، وأن محمدًا رسول الله، وأن البعث حق، والأحكام الأخلاقية كالوفاء والكرم، كما تخرج الأحكام النظرية في علم الأصول كالعلم بأن الإجماع حجة (¬1). 5 - من أدلتها: جار ومجرور متعلق بصفة العلم، أي العلم الناشئ من الأدلة، فيخرج من الفقه العلم الذي لا يتوقف على دليل كعلم الله تعالى للأحكام، وعلم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم جبريل، فإنها علوم غير مكتسبة من الأدلة، وكذلك يخرج العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية التي يسأل عنها العالم، فإنه يعلم أنها حكم الله بدون معرفتها من دليل (¬2)، وهذا ما يفرق العالم وطالب العلم الشرعي عن الأمي وغير المختص بالشريعة. 6 - التفصيلية: وهي الأدلة التفصيلية التي تتعلق بمسألة معينة كوجوب الصلاة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [يونس: 87]، وتحريم أكل مال اليتيم في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. وخلاصة ذلك فإن الفقه هو: معرفة الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة (¬3). ¬

_ (¬1) زاد بعض العلماء هنا على التعريف لفظة: "المكتسب" أي العلم المكتسب والمستنبط والحاصل عن نظر واستدلال من الأدلة، ليخرج العلم غير الاكتسابي كعلم الله تعالى، والعلم بالأحكام الشرعية التي تعرف من الدين بالضرورة كوجوب الحج، فإنه لا يدخل بالفقه، انظر: نهاية السول: 1 ص 26. (¬2) نهاية السول: 1 ص 27. (¬3) انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 41.

يقول أستاذنا الدكتور فوزي فيض الله-: الفقه: "هو التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العلم، تصديقًا حاصلًا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا" (¬1). وإن علم أصول الفقه هو العلم بأدلة الأحكام، ومعرفة وجوه دلالتها عليها من حيث الجملة (¬2). ويظهر لنا أن ميدان عالم الأصول: هو الأدلة الكلية كالكتاب والسنة، وغايته: وضع قواعد كلية لمعرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة بالاجتهاد، كالأمر للوجوب. أما ميدان الفقه: فهو الأدلة التفصيلية الجزئية الخاصة، وغايته: الوصول إلى الحكم الجزئي لكل فعل من أفعال المكلفين. ¬

_ (¬1) مباحث الكتاب والسنة من علم أصول الفقه، محاضرات للسنة الثالثة، له: ص 4. (¬2) المستصفى: 1 ص 5.

المبحث الثاني في تعريف أصول الفقه لقبا

المبحث الثاني في تعريف أصول الفقه لقبًا عرف الشافعية أصول الفقه -باعتباره لقبًا- بتعريف يختلف عن تعريف الجمهور، وإليك التعريفين: أولًا: تعريف الشافعية: عرف البيضاوي من الشافعية أصول الفقه بأنه "معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد" (¬1). 1 - المعرفة: هي العلم والتصديق بأدلة الفقه الإجمالية، سواء أكان التصديق على سبيل القطع، أم على سبيل الظن، ومن هذا يظهر السبب ¬

_ (¬1) منهاج الوصول، له: ص 3، وانظر نهاية السول: 1 ص 17، غاية الوصول: ص 4، وذهب كثير من علماء الأصول إلى تعريف أصول الفقه بأنه "دلائل الفقه ... " والفرق بينهما أن الأول يعرفه بأنه معرفة الأدلة، بينما يقصره الثاني على نفس الأدلة، وكلا التعريفين صحيحان، لأن اسم أي علم من العلوم، كعلم النحو، أو علم الفقه، أو علم الأصول، يطلق على القواعد التي تدرس فيه، ويطلق على التصديق بهذه القواعد ومعرفتها، كما يطلق على الملكة الناشئة عن مزاولة هذه القواعد، انظر شرح التعريف، في نهاية السول: 1 ص 19، أصول الفقه لغير الحنفية، عدد من العلماء: ص 6 وما بعدها.

في اختيار لفظة المعرفة، دون لفظة العلم، لأن البيضاوي يحصر معنى العلم بالتصديق على سبيل القطع. ويخرج من التعريف علم الله تعالى بالأدلة، لأن علمه تعالى قطعي، وليس ظنيًّا (¬1). 2 - دلائل: جمع دلالة بمعنى دليل، أو جمع دليل، والدليل في اللغة: المرشد إلى الشيء، والكاشف عن حقيقته (¬2). وفي الاصطلاح: هو ما يمكن بالنظر فيه التوصل إلى إدراك حكم شرعي على سبيل العلم أو الظن (¬3)، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [يونس: 87]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]. فهذه الآيات الكريمة أدلة عند الأصوليين، لأنهم ينظرون إليها بأنها أوامر شرعية، ويتوصلون منها إلى إدراك الأحكام الشرعية بوجوب الوفاء بالعقد، وإقامة الصلاة، والجهاد في سبيل الله. والصحيح عند جمهور الأصوليين أن الدليل إما أن تكون دلالته على الحكم قطعية بأن ينتج حكمًا قطعيًّا، وإما أن تكون ظنية بأن ينتج حكمًا ظنيًّا، بينما قصر بعض الأصوليين الدليل على ما يتوصل منه إلى إدراك حكم شرعي قطعي، أو ما يتوصل منه إلى إدراك حكم شرعي ظني فهو أمارة (¬4). ¬

_ (¬1) المعرفة أعم من العلم من حيث إنها تشمل اليقين والظن، أما العلم فلا يطلق إلا على اليقين، كما أن المعرفة أخص من العلم لأنها تشمل العلم المستحدث أو بعد انكشاف، أما العلم فيشمل العلم غير المستحدث، وهو علم الله تعالى، فإنه لم يسبقه جهل، ويشمل العلم المستحدث بعد الجهل، وهو علم العباد، انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 65، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 10. (¬2) القاموس المحيط: 3 ص 377، المصباح المنير: 1 ص 270. (¬3) انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 52. (¬4) نهاية السول: 1 ص 19.

والدليل إما أن يكون مجملًا، كمطلق الأمر والنهي، الذي ينتج حكمًا كليًّا، هو الوجوب والحرمة، ويندرج تحته أدلة جزئية، وإما أن يكون دليلًا جزئيًّا تفصيليًّا يدل على الحكم في مسألة بذاتها، ويندرج تحت دليل كلي، كالأمر بإقامة الصلاة، الذي يدل على وجوبها، وهذه من مباحث الفقه، وتذكر استطرادًا في الأصول (¬1). والمراد بمعرفة الأدلة أن يعرف أن الكتاب والسنة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها، وأن الأمر مثلًا للوجوب، ولا يقصد حفظ الأدلة. ويخرج من التعريف معرفة غير الأدلة، كمعرفة أحكام الفقه، وقواعد النحو، ومبادئ البلاغة، وأسباب الخلاف؛ فإنها ليست أدلة. 3 - الفقه: لغةً الفهم، وإصطلاحًا: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، ومر شرحه في المبحث السابق. وإن إضافة الدلائل للفقه تفيد العموم، لأنه جمع مضاف، فيعم جميع الأدلة سواء كانت متفقًا عليها أو مختلفًا فيها (¬2). ويخرج من التعريف دلائل غير الفقه، كالنحو والقانون، فلا تدخل في موضوعنا. 4 - إجمالًا: حال من الدلائل، أي دلائل الفقه الإجمالية الكلية غير المعينة، التي يدخل تحتها جزئيات كثيرة، مثل كون الإجماع حجة، وأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد ما يؤيده بشريعتنا، وأن النهي يفيد التحريم. فلا يدخل في علم أصول الفقه الدليل التفصيلي للأحكام الجزئية في ¬

_ (¬1) مباحث الحكم عند الأصوليين: ص 10. (¬2) نهاية السول: 1 ص 20، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 12.

علم الفقه وعلم الخلاف، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "لا وصية لوارث" (¬1) فهو دليل على نسخ الوصية للوارث. 5 - كيفية الاستفادة منها: أي معرفة ما يميز الدليل الصحيح من الدليل الباطل، والدليل القوي من الدليل الضعيف (¬2)، وذلك أن أدلة الفقه التفصيلية ظنية من جهة دلالتها على الأحكام الشرعية، أو من جهة ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو من الجهتين معًا، وقد يتعارض الدليل الظني مع دليل آخر فيحتاج الفقيه إلى معرفة تعارض الأدلة، ومعرفة الأسباب التي يرجح بها بعض الأدلة على بعض، وهذا ما يدرسه الأصولي في باب التعارض والترجيح الذي يعين المجتهد، ويستفيد منه لبيان الدليل الصحيح المثبت للأمر أو النهي. 6 - وحالة المستفيد: أي معرفة صفة المستفيد، وهو المجتهد، وذلك أن استنباط الأحكام من أدلتها، وترجيح الدليل على غيره عند التعارض، لا يتسنى لكل إنسان، ولذا يشترط في المجتهد أن تتوفر فيه صفات وشروط كثيرة حتى يستطيع القيام بهذا العمل الخطير، وهي شروط المجتهد، وقد بحثها الأصوليون في باب شرائط الاجتهاد (¬3)، وأهمها: ¬

_ (¬1) رواه الشافعي وأحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والبيهقي والدارقطني عن جابر، وهو ما تلقته الأمة بالقبول، وأصبح مشهورًا، انظر تخريج هذا الحديث في هامش الرسالة: ص 141. (¬2) ذكر الأسنوي في شرح التعريف أن المراد من هذه الجملة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة وهذا معنى لازم للتعريف، وقد رجح العلماء المعنى الأول في الأعلى، وهو المرجحات، لعطفها على الدلائل، والعطف يقتضي المغايرة، انظر: نهاية السول: 1 ص 21، وأصول الفقه لغير الحنفية: ص 12. (¬3) ذهب الأسنوي رحمه الله إلى أن المراد من عبارة "حال المستفيد" أنها تشمل المجتهد والمقلد، وأن شرائط الاجتهاد والتقليد تدخل في علم الأصول، والصحيح أنه لا يصح إدخال المقلد في الأصول أصلًا، لأن الاستفادة من الدليل هو استنباط الأحكام ومعرفتها وتمييز الصحيح منها، والمقلد قاصر عن القيام بهذا، فلا يدخل =

ثانيا: تعريف الجمهور

العلم بكتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس، وإتقان اللغة العربية، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والحقيقة والمجاز، والمطلق والمقيد، وصحيح السنة وسقيمها، ومتواترها وآحادها، ومسندها ومنقطعها، ومعرفة شروط القياس وطرق العلة وغير ذلك. ونخلص من هذا التعريف إلى أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يكسبنا معرفة مصادر التشريع الإسلامي، ويبين لنا الدليل الصحيح المرشد إلى حكم الله تعالى، وسبب ترجيحه على غيره، وكيفية استخراج الأحكام الشرعية من المصادر، ويرشدنا إلى شرائط الاجتهاد، والطريق الذي يسلكه المجتهد في الاستنباط ضمن الحدود الشرعية. ثانيًا: تعريف الجمهور: عرف الحنفية والمالكية والحنابلة أصول الفقه بقولهم: "هو العلم بالقواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" (¬1). شرح التعريف: 1 - القواعد: جمع قاعدة، وتعني قضية كلية يدخل تحتها جزئيات كثيرة (¬2)، مثل قاعدة "الأمر للوجوب" فإنها قضية كلية يدخل تحتها عدد ¬

_ = في التعريف، وإنما يبين علماء الأصول نبذة عن التقليد والمقلد، في أثناء كلامهم عن الاجتهاد والمجتهد للمناظرة على سبيل التبعية والاستطراد، أخذًا بقاعدة "وبضدها تتميز الأشياء" وانظر: نهاية السول: 1 ص 21، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 18، أدب القضاء، ابن أبي الدم: ص 27. (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 14، التلويح على التوضيح: 1 ص 8، ط صبيح، المدخل إلى مذهب أحمد، ابن بدران ص 58، شرح الكوكب المنير: 1 ص 44. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 14، التعريفات: ص 149، كشاف اصطلاحات الفنون: 5 ص 1176.

لا يحصى من الجزئيات كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]. 2 - يتوصل بها إلى استنباط الأحكام: أي إن المجتهد يصل إلى استخراج الأحكام الشرعية بوساطة هذه القواعد، ويستدل بها على اجتهاده، مثل قاعدة "النهي يفيد التحريم" فإنه يتوصل بها إلى بيان حكم الله تعالى من الآية الكريمة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة 188] بأنه حرام، لأنه منهي عنه. 3 - الشرعية: أي الأحكام التي تتوقف على الشرع؛ فتخرج الأحكام العقلية واللغوية والحسية وغيرها. 4 - العملية: وهي صفة للأحكام التي تقتضي عملًا وفعلا من أفعال المكلفين، سواء كان من عمل القلب، كوجوب النية فيها، أو من عمل اللسان، أو من عمل الجوارح. وتخرج الأحكام الاعتقادية والأخلاقية، كما تخرج الأحكام النظرية كما مر سابقًا. 5 - من أدلتها التفصيلية: أي الدليل التفصيلي الجزئي على حادثة معينة، مثل آية {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الاسراء: 32] فإنه دليل جزئي على حكم خاص وهو حكم الزنا. وخلاصة التعريف أن علم أصول الفقه هو العلم بالقواعد والضوابط الكلية التي يستطيع المجتهد بوساطتها أن يعرف الأحكام الشرعية، ويستخرجها من الآيات والأحاديث وغيرها من مصادر التشريع.

المبحث الثالث في موضوع علم أصول الفقه

المبحث الثالث في موضوع علم أصول الفقه لكل علم من العلوم موضوع خاص، وهو عبارة عن مجموعة من المسائل الكلية التي يدور فيها البحث عن الأحوال الذاتية. ويظهر من التعريفات السابقة لأصول الفقه أن موضوعه يتكون من خمسة أجزاء، وهي (¬1): 1 - مباحث الأدلة التي توصل إلى الأحكام الشرعية، وهي مصادر التشريع الإسلامي الذي يستقي منها المسلم حكم الله تعالى، وهذه الأدلة قسمان: قسم متفق عليه بين أهل السنة والجماعة، وقسم مختلف فيه يعتمد عليه بعض الأئمة دون بعض. 2 - مباحث التعارض والترجيح. 3 - مباحث الاجتهاد، وشروط المجتهد وصفاته. 4 - مباحث الحكم الشرعي سواء أكان اقتضاء أم تخييرًا أم وضعًا. ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 7، الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 9، التلويح على التوضيح: 1 ص 8، ط صبيح، إرشاد الفحول: ص 5، غاية الوصول: ص 5، تسهيل الوصول: ص 11، شرح الكوكب المنير: 1 ص 33.

5 - كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، أي وجوه دلالة الأدلة بالصيغة والنظم، أو بالفحوى والمفهوم، أو بالاقتضاء والضرورة، أو بالمعقول وغير ذلك من مباحث الكتاب والسنة التي سندرسها في الدلالات، أو دلالات الألفاظ. أما موضوع علم الفقه فهو فعل المكلف من حيث ما يثبت له من أحكام شرعية في عباداته وتصرفاته وأخلاقه، وهل هي واجبة عليه أم مندوبة له أم مباحة أم مكروهة أم محرمة. فالأصولي يبحث في الدليل الكلي والقواعد الكلية، بينما يبحث الفقيه في الأدلة الجزئية والتطبيق في الفروع (¬1). وقد تباينت آراء علماء الأصول في تحديد المسائل الأصلية التي يتناولها موضوع أصول الفقه، واختلفوا على أربعة مذاهب: المذهب الأول: يرى أن موضوع علم أصول الفقه هو الأدلة التي تثبت الأحكام بها، فالموضوع هو الأدلة، وينتج عن دراسة أدلة التشريع، أو يتفرع عنها الحكم الشرعي .. ، وهو رأي الجمهور. المذهب الثاني: يرى أن موضوع علم أصول الفقه هو الأحكام التي تثبت بالأدلة، فالموضوع هو الأحكام الشرعية، ولكن معرفة الحكم الشرعي يتوقف على معرفة المصادر أو الأدلة، فتكون دراسة الأدلة مقدمة ووسيلة لدراسة الأحكام، وهو رأي بعض الحنفية. المذهب الثالث: يرى أن موضوعه هو الأدلة والأحكام معًا، وهو رأي صدر الشريعة وغيره من الحنفية. المذهب الرابع: يرى أن موضوعه الأدلة والمرجحات وصفات المجتهد، وهو رأي بعض الشافعية. ¬

_ (¬1) انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 36.

ونتج عن الاختلاف السابق اختلافهم في ترتيب المباحث الأصولية، فبعضهم يقدم الحكم الشرعي، ثم يتبعه بالأدلة، وبعضهم يبدأ بالأدلة ثم بالأحكام (¬1). والواقع أن مباحث الأصول متفق عليها، ولكن الاختلاف في اعتبار أحد الأبواب أصلًا، والآخر تبعًا، أو أن أحدها جوهر والآخر تقديم له، أو أن بعضها يدرس من الناحية الذاتية، والآخر من الناحية العرضية، وهكذا. ويستمد هذا العلم مادته من علم اللغة، وعلم الفقه، وعلم الكلام، ويستند إلى المنطق والعقل (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تفصيل الآراء في كتاب أصول الفقه لغير الحنفية: ص 22 - 26. (¬2) انظر: الوصول إلى علم الأصول 1/ 53.

الفصل الثاني في فائدة علم أصول الفقه

الفصل الثاني في فائدة علم أصول الفقه إن علم أصول الفقه من أشرف العلوم، وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، ولا تظهر فائدته إلا بعد بيان الغاية منه. والغاية من علم أصول الفقه هي الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية (¬1)، أي أحكام الله تعالى في أفعال العباد، سواء أكانت اعتقادًا بالقلب، أم نطقًا باللسان، أم عملًا بالأعضاء، وسواء أكانت في العقيدة أم العبادات، أم المعاملات، أم الأخلاق، أم العقوبات، وذلك ليلتزم المكلف حدود الله تعالى، ويبتغي مرضاته، ويؤدي واجباته، وينتهي عن المحارم، وباختصار ليكون المكلف في المكان الذي أمره الله به، ويتجنب معاصيه وما نهاه عنه. وبناء على ذلك فإن علم أصول الفقه ليس غاية في ذاته، وإنما هو ¬

_ (¬1) الأحكام: الآمدي: 1 ص 9، مختصر ابن الحاجب: ص 3، تسهيل الوصول: ص 20، المقدمة، ابن خلدون: ص 452، طبع المكتبة التجارية بمصر، الوصول إلى علم الأصول 1/ 52.

طريق ووسيلة إلى معرفة حكم الله تعالى في الوقائع، وإن دراسة القواعد والأدلة، ومعرفة طرق الاستنباط ليست مقصودة بذاتها، وإنما تقصد لما وراءها، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يغيب ذلك عن ذهن الطالب والعالم والمجتهد الذين يدرسون الأصول ويدركون فائدته وأهميته ومكانته الرفيعة بين العلوم، وأنه لا يقصد منه الحفظ والتلقي، وإنما يقصد منه أن يكون سلاحًا ماضيًا، ومفتاحًا سديدًا في يد الباحث. وبعد هذه المقدمة نذكر أهم فوائد علم الأصول: 1 - إن علم الأصول يرسم للمجتهد الطريق القويم الموصل إلى استنباط الأحكام، ويضع أمامه منهجًا واضحًا ومستقيمًا في كيفية الاستنباط، فلا ينحرف يمينًا أو يسارًا، ولا يخبط خبط عشواء، ولا يزل به العقل والهوى عند أخذ الأحكام من الأدلة، فيضع عالم الأصول القواعد الكلية لمعرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة والنصوص (¬1). 2 - كان علم الأصول الوسيلة الناجحة لحفظ الدين من التحريف ¬

_ (¬1) تظهر هذه الفائدة بشكل جلي في السبب الذي دعا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لوضع وتأليف أول كتاب أصولي وهو الرسالة، فقد كان النزاع على أشده بين أهل الرأي وأهل الحديث، وكان أهل الرأي على جانب عقلي بارع، وتفكير جدلي واسع، ومقدرة على المناظرة والجدل، وكانوا يزدرون أهل الحديث ويطعنون فيهم وينتقصون من قدرهم وقيمتهم، وكان أهل الحديث على علم كبير بالرواية وجمع الآثار والتقيد بالمأثور، ويقدمونه على الفكر والعقل، وكانوا يهاجمون أهل أصحاب الرأي ويعيبون عليهم تقديم الرأي، وبرز التعصب للفريقين، واشتد الخلاف بينهم فجاء الشافعي وكتب الرسالة وبين تنظيم الأحكام ورسم منهج البحث والنظر والجدل، وقعد القواعد، وحدد الأدلة والمصادر، ونظم العلاقة بينها، وبيَّن مكان كل منها ومرتبتها، وعين الضوابط التي يجب السير عليها في الاستنباط، فقرب بين الفريقين، وأذعن له المخالف والموافق، وسوف نرى تفصيل ذلك في الفصل القادم إن شاء الله.

والتضليل، فصان أدلة الشريعة، وحفظ حجج الأحكام، وعرف الناس بمصادر التشريع الأصلية التي يجب الالتزام بها والرجوع إليها، كما بيّن المصادر الفرعية والتبعية التي كانت المجال الرحب لاتساع الشريعة، وتلبية حاجات المجتمع والأمة فيما يعتريها من وقائع وأحداث، وكان علم الأصول العقبة الكأداء في وجه المنحرفين والمضللين والمشعوذين الذين حاولوا الدسّ في الأحكام، وتشويه مقاصد التشريع والمراوغة في التضليل والدعوة (¬1)، كمن ينفي حجية خبر الآحاد، أو ينكر السنة، أو ينفي حجية الإجماع والقياس، ومن يدعي أنه لا دلالة في ألفاظ القرآن على شيء، ومن يدعي أن في القرآن ألفاظًا مبهمة، ومن يتلاعب بالأحكام، وأن الخمر مثلًا ليست محرمة لعدم النص على التحريم بلفظ يحرم. وقد بيّن علماء الأصول مصادر التشريع وبينوا دلالات الألفاظ وتفسير النصوص، ونصوا على قوة الأدلة القطعية والظنية، والعلاقة بين النص السابق واللاحق في التخصيص والنسخ، كما بينوا لنا طرق الاجتهاد وشروط المجتهد، فكان علم الأصول سلاحًا ذا حدين يعين المخلصين على معرفة أحكام الله، ويرد كيد الكائدين في نحورهم (¬2). ¬

_ (¬1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 28، الوصول إلى علم الأصول: 1/ 53، التمهيد للإسنوي، مقدمته في فوائد علم أصول الفقه. (¬2) إن علم أصول الفقه الذي وضع القواعد والأسس للاجتهاد والاستنباط، وحدد الطريق للباحثين، علم فريد في تاريخ الأمم والشرائع القديمة والحديثة، ويحاول الآن بعض علماء القانون مجاراة هذا العلم، وإيجاد مثيل له، تحت عنوان أصول القانون أو طرق التفسير، مع الفارق الكبير بينها وبين أصول الفقه الإسلامي، يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري والدكتور حشمت أَبو ستيت عن الفقهاء المسلمين: قد امتازوا على الرومان وعلى غير الرومان من الأمم التي تفوقت في القانون بوضع علم أقرب ما يكون لعلم أصول القانون، وهو علم أصول الفقه، بحثوا فيه مصادر الشريعة الإسلامية، وكيفية استنباط الأحكام التفصيلية من هذه المصادر، وهذا =

3 - إن علم الأصول يبين للأمة عامة، ولأتباع المجتهد، ودارسي الفقه خاصة، المنهج الذي سلكه الإمام المجتهد، ويرسم أمامهم معالم الطريق الذي سار عليه في الاستنباط والاجتهاد لتطمئن قلوبهم لعلمه، وتزداد ثقتهم بالحكم الذي وصل إليه، وتستقر نفوسهم إلى مسلك الإمام وأساس الاختلاف، وأن المجتهد يقصد وجه الله تعالى ويبغي مرضاته في عمله، دون أن يدفعه لذلك الهوى الجامح، أو المصلحة الشخصية، أو القصد المادي، أو التطلع إلى منصب أو جاه. وأتباع كل مذهب -وإن لم يصلوا إلى درجة الاجتهاد، ولم ينزلوا إلى درجة العوام- يرغبون بطبيعة الحال في معرفة أساس الاجتهاد عند الأئمة، وكيف وصلوا إلى استنباطها، ولا يتمكنون من ذلك إلا بدراسة علم أصول الفقه، وإن فعلوا ذلك فقد نفوا عن أنفسهم وصمة التقليد الأعمى للإمام. والعلماء -إن عرفوا مناط الأحكام وسبل الاجتهاد وأساس التشريع- إن ورد أمامهم رأيان استطاعوا أن يختاروا الرأي الأقرب إلى قواعد المذهب، وإن اعترضتهم جزئية صغيرة استطاعوا تخريجها على أصول المجتهد (¬1). 4 - إن علم أصول الفقه يكوِّن عند الطالب والدارس والباحث ملكة ¬

_ = العلم يميز الفقه الإسلامي عن أبي فقه آخر. (أصول القانون لهما: ص 11)، وانظر: مصادر التشريع الإسلامي للدكتور محمد أديب صالح: ص 12 - 14، مباحث الحكم للأستاذ محمد سلام مدكور: ص 38، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 5، المدخل إلى علم أصول الفقه، الدواليبي ص 8، 10، ولذلك يدرس علم أصول الفقه في كليات الحقوق والقانون. (¬1) أصول الفقه: أَبو زهرة: ص 17، تسهيل الوصول: ص 20، مقاصد الشريعة الإسلامية ص 6.

عقلية وفقهية تصحح تفكيره، وتعبد الطريق أمامه للاجتهاد والاستنباط والإدراك الصحيح والفهم التام للحكم على الأشياء، ليكون في المستقبل القريب من علماء الأمة ورجال الغد، وحملة الرسالة السماوية والأمانة الإلهية في التشريع، ويصبح قادرًا على استنباط الأحكام من الأدلة. 5 - يرسم علم أصول الففه الطريق للعلماء، في كل عصر لمعرفة حكم الله تعالى في المسائل المستجدة، والوقائع الحادثة التي لم يرد فيها دليل شرعي، ولم ينص عليها الأئمة في كتبهم، فيخوض العالم غمار هذه الأحداث فيعرف ما يتفق منها مع حكم الله تعالى، وما يحقق شريعته، ويحفظ مقاصده الأصلية، فيبقى التشريع مسايرًا لتطورات الزمن، ولا شك أن الحاجة ملحة للتشريع الدائم، والاجتهاد المستمر، لأن التشريع نفسه وليد الحاجة، وإذا كان من الترف الفكري والعقلي وجود الفقه الافتراضي، فإنه من الخطأ الفادح، والتقصير الآثم جمود الفقه والتشريع عن مجاراة العصر وبيان كل ما يقع فيه من جديد، لأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ومن ذلك طفل الأنابيب، وموانع الحمل، والتأمين على الحياة، والتعامل مع المصارف، ونقل الأعضاء، وموت الدماغ، والتجارة الدولية، وحوادث السير، ونظام المرور، والاتصالات الحديثة، والأعمال المصرفية، والمواصلات الدولية، وغيرها كثير. وإن علم أصول الفقه هو الذي يعرفنا على الأحكام الشرعية في كل حادث وطارئ، فقد قال علماء الأصول: إن لكل واقعة حكمًا لله تعالى، وإن كل مجتهد مأجور، وهذا يبين السبب في غلق باب الاجتهاد الذي أوصده العلماء أمام الجهال والدجالين، وأنصاف المتعلمين، خشية أن يتولوا كرسي الاجتهاد، ويدسُّوا في الدِّين ما ليس فيه، فيَضلوا ويُضلوا، كغلق المدرسة إذا لم يتوفر طلاب أو أساتذة،

وغلق معمل إذا لم يتوفر فيه مهندس أو اختصاصي، أو مواد أولية. وعلى الرغم من القول بقفل باب الاجتهاد في فترة زمنية، فلم تتوقف دراسة أصول الفقه، ولم يَحرم الاطلاع عليه، ولم يُلغ من حلقات الدرس، بل بقي هذا العلم على مر الأزمان والعصور علمًا شرعيًّا يتبوأ الدرجة العليا في الدراسة والتدريس والتأليف، وما ذلك إلا لأن هذا العلم يؤكد صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان، ويظهر مرونة التشريع الإسلامي ومسايرته لمصالح الناس، وإن الشريعة الغراء تلبي حاجات المجتمع كيفما كان. 6 - إن علم أصول الفقه يضبط الفروع الفقهية بأصولها، ويجمع المبادئ المشتركة، ويبين أسباب التباين بينها، ويظهر أساس الاختلاف (¬1). مثال ذلك القاعدة الأصولية "الأمر للوجوب"، فإنها تشمل جميع النصوص في القرآن الكريم والسنة الشريفة التي جاءت بصيغة الأمر، فإنها تفيد الوجوب، ما لم يوجد قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة، وإن القاعدة الأصولية "لا اجتهاد في مورد النص" قاعدة أساسية تعتبر شعار المجتهد والمتبع والمقلد والباحث والمناظر، فحيثما ورد النص في القرآن والسنة فلا مجال لإعمال الرأي والاجتهاد والاستنباط. 7 - إن علم أصول الفقه هو الدعامة الرئيسية والركيزة الأساسية لدراسة المذاهب المختلفة والمقارنة بينها، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي شاع فيه البحث المقارن، وانتشرت الدراسات المقارنة لبيان ما يتفق مع الدليل الراجح، وما يوافق مقاصد الشريعة، ويحقق مصالح ¬

_ (¬1) كشف الأسرار: 1 ص 12.

الناس، ويؤكد هذه الأهمية أن القوانين والفتاوى والاجتهادات والدراسات تتجه للأخذ من مختلف المذاهب، باعتبار أن الشريعة الإسلامية بمذاهبها المتعددة مصدر للتشريع وأخذ الأحكام، ولم تعد تقتصر على مذهب معين، بل تبحث في المذاهب، وتطوف بين الأدلة والأحكام لاختيار ما يؤيده الدليل القوي، وما يصلح للأمة (¬1). ويأتي علم أصول الفقه في قمة الوسائل التي يستخدمها الباحث في المقارنة فيتعرف على الدليل، ومنهج الاستنباط، ومسلك الاجتهاد، ثم يختار الأحكام التي يرجحها على غيرها، ويكون علم أصول الفقه هو المقياس الذي توزن به الآراء عند الاختلاف (¬2). 8 - إن علم أصول الفقه يعطي الدليل الجازم لعظمة الثروة الفقهية من جهة، ويؤكد للباحث المجرد، والمطلع الحيادي أن أسباب الاختلاف بين الأئمة هي أسباب موضوعية علمية، وليست أسبابًا شخصية أو عشوائية، وهذا ما نفصله في الفصل الرابع من هذا التمهيد إن شاء الله تعالى. هذه الفوائد -وغيرها كثير- تثبت أهمية أصول الفقه، وضرورة دراسته وتعلمه، والاطلاع عليه، والتزود بقواعده، والتمرس بأسلوبه، والاهتداء به في معرفة تراث الأمة السابق، واستنباط الأحكام للوقائع ¬

_ (¬1) أخذت قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية من مختلف المذاهب، ولم تقتصر على المذهب الحنفي، كما كان سابقًا، وهي الأحكام الوحيدة التي لا تزال مأخوذة من الشريعة الإسلامية في معظم البلاد الإسلامية. (¬2) لقد زالت -والحمد لله- العصبية العمياء للمذهب، وانقرضت المذهبية الضيقة، بين العلماء والطلاب والناس، ومن يلتزم بمذهب معين فإنه يأخذ أحكامه بدون تعصب ولا تزمت، مع الاحترام والتقدير للمذاهب الأخرى، وكانت هذه النزعة المذهبية قد استشرت بين العلماء والعوام ووصلت إلى الحد الذي يتنافى مع العقل والشرع معًا.

في الحاضر، وتوضيح الرؤية لمستقبل المسلمين الذين يأملون في تطبيق شريعة ربهم والرجوع إلى كتابهم وسنة رسولهم بمشيئة الله تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) إن الفئة الوحيدة التي لا تستفيد من علم أصول الفقه فئة العوام الذين يكتفون بمعرفة الحكم الشرعي لتطبيقه دون أن يحتاجوا لمعرفة دليله وأساسه ومأخذه، (انظر: أصول الفقه، أَبو النور: 1 ص 3، أصول الفقه، الخضري: ص 20، أصول الفقه، خلاف: ص 13، 19، أصول الفقه البرديسي: ص 35، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 14، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 29، مباحث الكتاب والسنة، للدكتور فوزي فيض الله: ص 7، أبحاث في علم أصول الفقه، للدكتور أحمد الكردي: ص 7، أصول التشريع الإسلامي، علي حسب الله: ص 7، مقدمة ابن خلدون: ص 456).

الفصل الثالث في لمحة تاريخية عن أصول الفقه نشأة علم أصول الفقه وتطوره

الفصل الثالث في لمحة تاريخية عن أصول الفقه نشأة علم أصول الفقه وتطوره إن الدراسة التاريخية تقتضي أن نسير مع سير التاريخ وأحداثه (¬1)، فنبدأ بإعطاء صورة عن التشريع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في زمن الصحابة والتابعين، ثم عن حالة التشريع في زمن الفتوحات الإسلامية، ودخول الناس من جميع الأجناس والأقوام في الإسلام، وظهور مدرستي الرأي والحديث، ثم قيام المذاهب الفقهية، ثم نبين نشأة أصول الفقه، وأول من أرسى أسسه، ثم عن ظهور علم أصول الفقه بشكل مستقل ومدون على يد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ونكمل الصورة عن تطور هذا العلم وطرق التأليف فيه، وأهم الكتب والمراجع التي يستحسن الاعتماد عليها (¬2). ¬

_ (¬1) إن الدراسة التاريخية لأي علم من العلوم ذات فوائد كثيرة، ومنافع جمة، منها أنه يكشف عن حقائق هذا العلم، وينسبها لأصحابها، ويعطي كل ذي حق حقه، ويزيل الشبه والافتراءات، والأوهام التي تلحق به، عن قصد أو غير قصد. (¬2) انظر في تاريخ علم الأصول والمؤلفات فيه: الفتح المبين في طبقات الأصوليين، للشيخ عبد الله مصطفى المراغي: 1 ص 5 وما بعدها، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للتلمساني المالكي، تقديم الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف: =

التشريع في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

التشريع في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوحي هو مصدر التشريع في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان جبريل عليه السلام ينزل بالآية والآيتين، والسورة والسوريتن حسب مقتضيات الحاجة التشريعية للأمة الناشئة، وحسب أصول التدرج في التشريع، وحسب المناسبات التي كانت تقتضي معرفة حكم الله تعالى في القضايا. وكلما دعت الحاجة إلى تثبيت العقيدة أو تهذيب النفس، أو ترسيخ الأخلاق، أو بدء عبادة، كان الوحي ينزل لسد هذه الحاجات في تربية وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام ومن اتصل بهم. وكذا كان التشريع ينزل بالتدرج في تحريم المحرمات، وفرض الواجبات، وبناء صرح المجتمع الإسلامي بإقامة العلاقات الإسلامية التي تنظم علاقة المسلم بنفسه، وعلاقة المسلم بأخيه المسلم، وعلاقة الأمة الإسلامية بالأمم الكافرة، وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها. وكانت تنزل الواقعة بالمسلمين، أو يعرض السؤال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأتي الوحي مبينًا الحكم في ذلك. فالتشريع كان معتمدًا على نصوص القرآن الكريم أو على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عن طريق الفتوى، أو القضاء في خصومة، أو الجواب عن سؤال، وكان مصدر التشريع هو القرآن والسنة، وكانت العلاقة بينهما أن السنة مبيِّنة للقرآن الكريم، لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وكانت مجموعة الأحكام الشرعية في القرآن الكريم والسنة الشريفة هي المادة الرئيسية للفقه في معرفة أحكام الله تعالى، وتشتمل في جوهرها على الأسس العامة، والقواعد والمبادئ الأصولية التي ترسم ¬

_ = صفحة جـ، مرجع العلوم الإسلامية، لنا ص 567.

الاجتهاد في زمن الصحابة

منهج الله للناس (¬1). الاجتهاد في زمن الصحابة: كان الصحابة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقون الأحكام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن غابوا عن مجلسه، ولم يعلموا حكمًا شرعيًّا في واقعة، اجتهدوا فيها، وسعوا في استنباط الأحكام لها، وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حضوره وغيابه، فقال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد" (¬2)، وأقر معاذ على الاجتهاد عند عدم النص، كما سيرد بعد قليل، وكان الصحابة سرعان ما يعرضون اجتهادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان صوابًا أقره وباركه ودعا لصاحبه، وإن كان خطأ أنكره وبيَّن بطلانه، ولذلك فإن اجتهاد الصحابة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجع إلى القسم الأول، فكأن الحكم صادر عن رسول الله بإقراره أو إبطاله أو إلغائه. روي عن عبد الله بن عمرو أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمرو: "اقض بينهما، فقال: أقضي بينهما"، وأنت حاضر يا رسول الله؟ قال: "نعم، على أنك إن أصبت فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر" (¬3). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: ص 453، أصول الفقه، الخضري: ص 3، المدخل إلى علم أصول الفقه، الدواليبي ص 53، الفتح المبين: 1 ص 16. (¬2) رواه أصحاب الكتب الستة والحاكم والشافعي وأحمد عن عمرو بن العاص وأبي هريرة، (انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي: 4 ص 268، سنن الترمذي: 3 ص 307، سنن النسائي: 8 ص 197، سنن ابن ماجه: 2 ص 776، المستدرك: 4 ص 88، بدائع المنن: 2 ص 231، التلخيص الحبير: 4 ص 180، سبل السلام: 4 ص 160، تخريج أحاديث البزدوي: ص 230). (¬3) رواه الحاكم في المستدرك: 4 ص 88، وانظر أصول الفقه، الخضري: ص 410، تخريج أحاديث البزدوي ص 230، مسند أحمد: 2 ص 187، 4 ص 205، وروى =

ولكن هذه الفترة أعطت الصحابة تجربة حية، وملكة ناصعة، فقد عاصروا نزول القرآن الكريم، وعرفوا حكمة التشريع، واطلعوا على أسرار الشريعة، وعرفوا قسطًا من تفسير القرآن الكريم من رسول الله، وأدركوا أسباب نزول الآيات وورود الأحاديث، وصاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورشفوا من نوره، وتدربوا على مواجهة القضايا والمشاكل، وتمرنوا على الاجتهاد والاستنباط، ويضاف إلى ذلك الفطرة السليمة والذهن الصافي، والفكر المستقيم، وفصاحة اللسان الذي نزل القرآن به، كل ذلك كان مؤهلًا لهم لاستلام الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولي الحكم، وتدبير أمور الدولة، ومواكبة شؤون التشريع والاجتهاد. فإذا نزلت بهم الوقائع، أو طرأت عليهم الأمور في مجال القضاء والفتيا والاجتهاد والتشريع، رجعوا إلى كتاب الله تعالى، فإن وجدوا فيه الحكم أخذوا به ووقفوا عنده، وإن لم يجدوا لجؤوا إلى السنة، وسألوا من يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا، فإن وجدوا ضالتهم في السنة التزموا بها، وإن لم يجدوا بحثوا ونظروا واجتهدوا واستنبطوا حكم الله تعالى، معتمدين على المؤهلات العلمية والشخصية التي توفرت فيهم، فإن اتفقوا على أمر كان إجماعًا، وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي (¬1)، وإن لم يتفقوا بقي في حيز الاجتهاد والاستنباط، وهو المصدر التشريعي الرابع الذي عرف بالقياس (¬2)، وهذا أحد ¬

_ = الدارقطني مثل هذه القصة عن عقبة بن عامر (سنن الدارقطني: 4/ 203). (¬1) انظر ما رواه الدارمي (1/ 58) عن ميمون بن مهران أنه قال ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم: 6 ص 768 ومقدمة ابن خلدون: ص 453، أصول التشريع الإسلامي، حسب الله: ص 5، أصول الفقه، البرديسي: ص 8، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 54، 64 وما بعدها، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، الدهلوي: ص 19، حجة الله البالغة: 1 ص 296، الفتح المبين: 1 ص 9، 16.

المبادئ الأساسية في أصول الفقه بتحديد مصادر الاجتهاد وترتيبها. وكانت الملكة اللغوية والتشريعية عند الصحابة، والذوق الرفيع في تفهم معنى الآيات والأحاديث، والفطرة النقية في ترتيب المصادر، وصفاء الخاطر لمعرفة مقاصد الشريعة، وحدة الذهن في إدراك الأهداف والغايات -كان ذلك مرشدًا لهم في تتبع النصوص واستنباط الأحكام منها، والاجتهاد فيما لم يرد فيه نص (¬1). وقد وردت آثار كثيرة تؤكد سلامة الفطرة في الاستنباط، وأنهم كانوا يطبقون القواعد الأصولية بجوهرها، وإن لم ينصوا عليها، ويسيرون على منهج واضح في الاجتهاد والقضاء وبيان الأحكام، كما كانوا ينطقون بالفصحى، ويراعون الإعراب، قبل أن يوضع علم النحو والصرف، ونضرب عدة أمثلة على ذلك: 1 - أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيًا السنة العاشرة للهجرة، وسأله: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأي، ولا آلو، أي أقصر، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله (¬2) ". ¬

_ (¬1) انظر نصًّا طريفًا ودقيقًا لإمام الحرمين في "غياث الأمم ص 292": ويقول ابن مسعود: اسألوني عن كتاب الله، فما من آية إلا وأنا أعرف متى نزلت، وأين نزلت، وكيف نزلت؟ (انظر البخاري 4/ 1912 تخريج أحاديث البزدوي ص 238). (¬2) رواه أَبو داود في سننه: 2 ص 272، وانظر: الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم: 6 ص 766، ورواه الترمذي: 4 ص 556، وروى مثله النسائي: 8 ص 308، وانظر: أدب القضاء، لابن أبي الدم: ص 7، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - عليًّا قاضيًا إلى اليمن، وأرشده إلى المنهج السديد في القضاء، وأرسل عمر رضي الله عنه شريحًا =

وهذه القصة تظهر السليقة السليمة في ترتيب المصادر عند الرجوع إليها، فيقدم القرآن الكريم، ثم السنة، ثم الاجتهاد، وهذا ما قعّده علم الأصول فيما بعد. 2 - أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة إلى أبي موسى الأشعري، يقول فيها: الفهمَ الفهمَ فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، فاعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق (¬1). هذا الكلام يؤكد القاعدة الأصولية السابقة في ترتيب الفهم والاجتهاد، وأنه لا يصح الاجتهاد فيما ورد به الكتاب والسنة، وهو ما أرساه علماء الأصول بقولهم: "لا اجتهاد في مورد النص" ويؤكد آخر الكلام القواعد الأصولية في القياس ومعرفة العلة لقياس أمر على آخر، يشترك معه فيها. 3 - عرضت مسألة شاربِ الخمر على الصحابة لمعرفة عقوبة الشارب، فقضى علي رضي الله عنه بثمانين جلدة، قياسًا على عقوبة القذف، وبيَّن وجهة نظره واجتهاده في هذه العقوبة، وقال: إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة (¬2). ¬

_ = قاضيًا إلى بعض الولايات، وقال: بم تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجمع الناس، وأتحدث إليهم، وأبحث الأمر معهم، ولا آخذ بمفردي برأيي. انظر تاريخ القضاء في الإسلام، لنا ص 64، 111، 157. (¬1) انظر سنن الدارقطني: ص 512، أعلام الموقعين 1 ص 19 وما بعدها، وقد شرحها ابن قيم الجوزية شرحًا مطولًا. (¬2) رواه الدارقطني ومالك والشافعي (نيل الأوطار: 7 ص 152، الموطأ: ص 526، بدائع المنن: 2 ص 304).

فقد بنى الإمام علي رضي الله عنه اجتهاده على مبدأ أصولي هو سد الذرائع، فاعتبر شرب الخمر وسيلة وذريعة إلى القذف (¬1) وكل ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأعطاه نفس الحكم الثابت في القرآن الكريم للقاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. 4 - أراد الصحابة أن يعرفوا عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فاختلفوا في ذلك لقوله تعالى في سورة الطلاق: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4]، فالنص واضح في بيان عدة الحامل وأنها تنتهي بوضع الحمل، ولو بعد أُسبوع، والنص عام يشمل الحامل المطلقة، والحامل المتوفى عنها زوجها، وهذا يتعارض في ظاهره مع قوله تعالى في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فهذه الآية تبين أن عدة المتوفى عنها زوجها سواء أكانت حاملًا أم غير حامل، أربعة أشهر وعشر، فاختلف الصحابة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أن تضع الحمل، أخذًا بالآية الأولى، واستند رضي الله عنه لتأييد رأيه بقوله: أشهد أن سورة النساء الصغرى (الطلاق)، نزلت بعد سورة النساء الكبرى (البقرة)، أي إن النص المتأخر ينسخ، أو يخصص النص المتقدم، وهو مبدأ أصولي مسلم به، بينه علماء الأصول فيما بعد (¬2). ¬

_ (¬1) مباحث الحكم، مدكور: ص 42، أصول الفقه أَبو زهرة: ص 11، أصول الفقه، البرديسي: ص 7، قارن نيل الأوطار للشوكاني: 7 ص 154. (¬2) أخذ جماهير العلماء بمذهب ابن مسعود في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، وأخذ به قانون الأحوال الشخصية السوري بالمادة 123، وخالف الإمام علي وابن عباس وغيرهما في ذلك، وقال ابن مسعود: من شاء لاعنته، لأُنزلت سورة النساء =

التشريع في زمن الفتوحات

وسار الأمر على هذا المنوال في التابعين الذين نهجوا طريق الصحابة، وتتبعوا خطاهم، وتتلمذوا على أيديهم، واستمر اجتهاد التابعين يغطي حاجات المجتمع الكثيرة المتجددة، وتبلورت فيه بعض المبادئ الأصولية الجديدة، فكان سعيد بن المسيب مثلًا يراعي المصلحة في الاستنباط عند فقد النص، بينما كان إبراهيم النخعي يعتمد على القياس، فيستخرج العلة في المسألة التي ورد فيها نص، ويطبقها على الفروع، وينقل حكم النص إلى حكم الفروع (¬1)، وكان مجاهد رحمه الله تعالى يعتمد على الرأي، ويطلق عنان العقل في البحث والاجتهاد، وفي تفسير القرآن. التشريع في زمن الفتوحات: بدأت الفتوحات خارج الجزيرة العربية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستمرت في اتساعها في عهد عثمان وعلي، ثم في ¬

_ = القصرى بعد الأربعة أشهر وعشر، (انظر سنن أبي داود: 2 ص 536، مغني المحتاج: 3 ص 388، الرسالة: ص 573، فتح القدير: 3 ص 275، المغني، ابن قدامة: 8 ص 117، شرح قانون الأحوال الشخصية، لأستاذنا المرحوم الدكتور مصطفى السباعي: 1 ص 275، أصول الفقه، أَبو زهرة: ص 11، أصول الفقه، البرديسي: ص 7، سنن ابن ماجه: 1 ص 654). قال ابن عباس لعثمان: أين تجد الاثنين جماعة في لسان قومك، فالأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة (وذلك في حجب الأم من الثلث إلى السدس لوجود أخوين فقط) فقال عثمان رضي الله عنه: "لا أستطيع أن أنقض ما كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث به الناس" وهو التزام الإجماع السابق، انظر المحلى لابن حزم: 9/ 258، الفرائض والمواريث والوصايا، لنا ص 112. (¬1) مباحث الحكم: ص 43، مصادر التشريع الإسلامي: ص 26، أصول الفقه، خلاف: ص 16، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 15، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 85 وما بعدها، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، الدهلوي: ص 10 وما بعدها.

عهد معاوية وبني أمية وبني العباس، وسارت شرقًا حتى الصين، وغربًا حتى جنوب فرنسا، وذلك خلال القرنين الأول والثاني من الهجرة. ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولبى نداءَ الله شعوبُ الأرض في هذه البلاد، وانخرط في سلك الدعوة غير العرب من جميع الأجناس واللغات من كل حدب وصوب، فاختلط العرب بغيرهم، وضعفت اللغة العربية في ربوع الدولة الإسلامية، وتسربت العجمة إلى مجالس العلم والعلماء، ولم ينحصر العلم باللغة العربية، بل لم تبق الفصحى لغة التخاطب والكتابة، وبرز من غير العرب أئمة وعلماء، لا يدخلون تحت الحصر، ولم يعد الاجتهاد ميسورًا وسهلًا كما كان في زمن الصحابة والتابعين، واستجدت قضايا ومشاكل ونظريات وحركة عمرانية، وتفتح العقل على أمور لم يرد عليها نص في القرآن الكريم ولا في السنة، ولم يترك الصحابة والتابعون فيها رأيًا، فاتسع الاجتهاد، وفتح الباب على مصراعيه، وأدلى كل عالم بدلوه، وقام بواجبه في استنباط الأحكام الشرعية لكل جديد، وشرع الناس أيضًا بتدوين الأحكام مع تدوين السنة، وظهرت في هذا العصر أيضًا الفرق المختلفة، كالروافض (¬1) والخوارج والشيعة والمعتزلة، فأدى ذلك إلى الاختلاف الواسع في الاجتهاد، وتأثر كل فريق من العلماء بما وصل إليه من تراث السلف رواية ودراية، وبرز إلى الوجود أئمة أعلام، يتميزون بالكفاءات العلمية والملكات الفريدة. وكان من نتيجة ذلك أن تميزت مناهج العلماء والأئمة، واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية بذكر الأدلة والحجج والعلل والأصول العامة، ¬

_ (¬1) الروافض هم الذين كانوا مع زيد بن علي بن الحسين بن علي رحمهم الله تعالى، ثم تركوه لما رفض أن يتبرأ من الشيخين، وقال لهم: "كانا وزيري جدي" ثم أصبح هذ اللقب لكل من غلا من الشيعة (الوصول إلى الأصول 1/ 52 هامش).

وانقسم العلماء إلى مدرستين: الأولى: مدرسة الحديث، ومقرها الحجاز في مكة والمدينة، وتعتمد على الرواية والأثر، وشاع بين أهلها بعض الركود والكسل والعجز عن الجدل والنظر، ووقع بهم الارتباك عند نزول الوقائع الجديدة بهم، وظهر عليهم الضعف في الرد على الخصوم، أو الانتصار لطريقتهم. والمدرسة الثانية: مدرسة الرأي، ومركزها العراق في الكوفة والبصرة، وتعتمد على الاجتهاد والعقل والفكر والاستنباط، وكانت تفتقر إلى الحديث، وتشدد في التثبت من الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لشيوع الزندقة في العراق، وانتشار الوضع في الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتمدوا على النصوص لاستخراج الأحكام، ثم نشطوا في النظر والبحث، ومهروا في القياس، وقدموه في بعض الأحيان على الحديث، وردوا الخبر إذا كان في واقعة تعم بها البلوى. وبدأ النقاش العلمي بين المدرستين، وعقدت المناظرات، واشتد الجدل على قدم وساق، وطعن كل منهما بالآخر، وعاب طريقته، وتشكك أن فيما وصل إليه من أحكام، وكان كل إمام أو مجتهد أو مناظر يحاول أن يدعم رأيه بالأدلة والبراهين العلمية والعقلية (¬1). وشعر العلماء حينئذ بالحاجة الماسة لوجود ضوابط في الاستنباط يعتمدون عليها، ومنهاج للتفكير يبنون عليه، وشروط للاجتهاد والاستدلال، وقواعد لأساليب البيان العربي الذي وردت النصوص به، فجادت قرائح الأئمة والعلماء بمجموعة من ضوابط الاستنباط وشروط ¬

_ (¬1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 29، المختارات الفتحية في تاريخ التشريع وأصول الفقه، أحمد أَبو الفتوح: ص 93، مصادر التشريع الإسلامي: ص 30، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 93، وما بعدها، أصول التشريع الإسلامي: ص 5، الملل والنحل: 1/ 206.

الاجتهاد وقواعد البيان والفهم والاستدلال، ومنهاج للتفكير، وهي في مجموعها براعم أصول الفقه. وصار كل مجتهد يشير إلى دليل الحكم، ووجه الاستدلال به، ويحتج على مخالفه بوجوه من الحجج، فكان الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، يصرح باعتماده على الكتاب فالسنة ففتاوى الصحابة إذا أجمعوا، فإن اختلفوا تخير من آرائهم، ولا يخرج عنهم، ولا يأخذ برأي التابعين لأنهم رجال مثله، ويحدد منهجه في القياس والاستحسان، فكان أصحابه ينازعونه بالقياس، فإن قال: أستحسن، لم يلحق به أحد (¬1)، ثم يقول: علمُنا هذا رأي، فمن جاء بأفضل منه تركناه، وقال الشافعي في عدم وقوع الطلاق في عدة طلاق الخلع، وقال: "حجتي فيه من القرآن والأثر والإجماع" (¬2). وكان الإمام مالك يتبع منهجًا أصوليًّا واضحًا باعتماده على الكتاب والسنة، واحتجاجه بعمل أهل المدينة، وتقديمه على خبر الآحاد، وغير ذلك من القواعد والمبادئ التي نظمها علم الأصول ونص عليها (¬3). قال الشيخ أبو زهرة: نشأ علم أصول الفقه مع علم الفقه، وإن كان الفقه قد دُوِّن قبله، لأنه حيث يكون الفقه يكون حتمًا منهاج للاستنباط، وحيث كان المنهاج يكون حتمًا لا محالة أصول الفقه (¬4). ولكن هذه المبادئ وتلك القواعد كانت متناثرة هنا وهناك، وتختلف من عالم إلى آخر، ومن مدرسة إلى أخرى، ولا ينتظمها ¬

_ (¬1) مباحث الحكم: ص 45، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 12، علم أصول الفقه، خلاف: ص 107. (¬2) الأم 5/ 123 طبع دار الفكر بدمشق. (¬3) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 12، حجة الله البالغة: 1 ص 307. (¬4) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 10.

الشافعي وتدوين أصول الفقه

سلك، ولا يحوطها سور، ولا تشكل علمًا مستقلًا إلى أن جاء الإمام الشافعي فجمع شتاته، ودوَّن قواعده وأحكامه، وصنف أول كتاب في علم أصول الفقه، وهو الرسالة (¬1). الشافعي وتدوين أصول الفقه: الشافعي: هو أبو عبد الله، محمد بن إدريس، الشافعي القرشي، يلتقي نسبه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف باتفاق المؤرخين (¬2)، ولد ¬

_ (¬1) يذكر ابن النديم في الفهرست أن أول من دون علم أصول الفقه في سفر مستقل هو الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وهذا الكلام ليس له دليل علمي، وإنما أثبتت الأدلة التاريخية والواقعية عكسه، وأن ابن خلدون وغيره أكدوا أن الشافعي هو أول من دون علم أصول الفقه، فإن أراد ابن النديم من كلامه وجود ضوابط ومبادئ ومناهج أصولية في مذهب الإمام أبي حنيفة وفي كلام أبي يوسف، فهذا لا يخالفه فيه أحد، فإن الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم ينطلقوا في اجتهادهم من هوى، أما إن أراد التعصب المذهبي فهذا غير مقبول، والواقع أن عبارة ابن النديم لا تدل على المعنى الذي ينقله عنه علماء الأصول، والعبارة لا توحي بأن للصاحبين كتابًا في أصول الفقه، وإنما يعدد -عند ترجمة الإمام أبي يوسف والإمام محمد- الكتب فيقول: ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب المناسك، الفهرست: ص 203، 204 تصوير مكتبة الخياط، وتدعي الشيعة الأمامية أن أول من دون أصول الفقه هو الإمام محمد الباقر، ولكن لم يصل إلينا شيء من ذلك، ولم يوجد سند تاريخي يؤيد هذا الادعاء، وإن أريد أن الإمام محمد الباقر وابنه الإمام جعفر الصادق أمليا على أصحابهما قواعده، ثم جاء المتأخرون فجمعوا مسائله، فهذا لا نزاع فيه، والله أعلم، (انظر: أصول الفقه، أبو زهرة: ص 14، مباحث الحكم، مدكور: ص 45، أصول الفقه، خلاف: ص 16، أصول الفقه، البرديسي: 9، 11، تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري: ص 186)، وانظر: الشافعي، محمد أبو زهرة: ص 328، مفتاح الوصول: صفحة جـ، الفتح المبين: 1 ص 89، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أول من جرد الكلام في أصول الفقه من الأئمة الشافعي "مجموع الفتاوى 10/ 88، 19/ 178، 20/ 403. (¬2) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد الله بن عبد =

بغزة سنة 150 هـ، ثم انتقلت به أمه إلى مكة وعمره سنتان، وتوفي في فسطاط مصر، سنة 204 هـ، وقد تميزت حياة الإمام الشافعي بعدة أمور جعلته أهلًا لكتابة علم أصول الفقه وتدوينه، وهي: 1 - نشأ الإمام الشافعي في مكة المكرمة، وترعرع بجوار الكعبة المشرفة، وحفظ القرآن الكريم، وهو ابن سبع سنين، وأخذ تفسير القرآن الكريم عن علماء مكة الذين ورثوه عن ترجمان القرآن ومفسره: عبد الله بن عباس رضي الله عنه، عن طريق ابن جريج ومجاهد رحمهما الله، وقد اشتهرت مكة بهذا، وكانت مجمع العلماء من جميع الأقاليم، فأخذ الفقه والعلوم الشرعية عن جلة علمائها، وأذنوا له بالإفتاء، وهو ابن خمس عشرة سنة، قال له مسلم بن خالد الزنجي أحد علماء مكة: أَفْتِ يا أبا عبد الله، فقد -والله- آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة (¬1). فجمع في مكة بين حفظ القرآن وتفسيره وعلومه وبين الفقه والأحكام. 2 - رحل الإمام الشافعي إلى المدينة المنورة، وقصد الإمام مالكًا، وأخذ عنه الموطأ مشافهة، بعد أن حفظه في مكة وهو ابن عشر سنين، ولازم الإمام مالكًا حوالي تسع سنوات متقطعة، وكان يتفقه عليه ويدارسه في كل مسألة يُستفتى فيها، ويراجعه فيما يحتاج إلى ¬

_ = يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، وكان السائب بن عبد الله صحابيًّا، ونسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو محمد بن عبد الله بن المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي .. (انظر مناقب الشافعي، لأبي بكر البيهقي: 1 ص 76، سيرة ابن هشام: 1 ص 1، الشافعي، للشيخ محمد أبو زهرة: ص 14، الإمام الشافعي، عبد الحليم الجندي: ص 37، مناقب الشافعي، الرازي: ص 3). (¬1) مناقب الشافعي، البيهقي: 1 ص 338، مناقب الشافعي، الرازي: ص 8، 9.

المراجعة، واتصل بجميع علماء المدينة، وأخذ عنهم، واستفاد مما عندهم. فأخذ من المدينة السُّنَّةَ وما يتعلق بها، وما أخرجته من علم، وأتقن علوم الحديث، فدافع عن السنة، وبيَّن مكانتها من القرآن الكريم، وردَّ شبه المنحرين عنها حتى لقب بناصر السنة، أو ناصر الحديث (¬1). 3 - خرج الإمام الشافعي من مكة إلى البادية، ولزم هذيلًا (¬2)، يتعلم كلامها، ويأخذ اللغة عنها، وكانت أفصح العرب، فاستفاد منها -مع كونه عربيًّا وقرشيًّا- المعرفة الواسعة باللغة والشعر، حتى أصبح الإمام الشافعي حجة في اللغة، ونقل عن الأصمعي شعر الهذليين كاملًا وشعر الشنفرى (¬3)، واكتسب الشافعي فصاحة اللسان، وجودة النطق، وأخذ اللغة العربية من ينابيعها، وفهم أسرارها، وأدرك مرامي ألفاظها وعباراتها وأسلوبها، فساعده ذلك على تفهم معاني القرآن والسنة، وأفاده قوة في التعبير، ورصانة في الأسلوب (¬4). 4 - سافر الإمام الشافعي في سبيل طلب العلم إلى العراق، وأخذ عن ¬

_ (¬1) مناقب الشافعي، الرازي: ص 7، 10، الإمام الشافعي، الجندي: ص 91، محاضرات أستاذنا الشيخ جاد الرب في دبلوم الفقه المقارن عن الإمام الشافعي: ص 7، الشافعي، أبو زهرة: ص 143، الرسالة ص 6. (¬2) هذيل قبيلة من القبائل العربية التي أعرقت في الشعر، والنسبة لها هُذَلي، وهذيل رجل من مضر. (¬3) قال الأصمعي: صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس، انظر مناقب الشافعي، البيهقي: 2 ص 44، 47، الإمام الشافعي، الجندي: ص 47، 70، محاضرات جاد الرب: ص 13. (¬4) قال الجاحظ: نظرت في كتب هؤلاء النبغة، الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي، لسانه ينشر الدر، (انظر الإمام الشافعي، الجندي ص 70، مناقب الشافعي: 2 ص 51، مغيث الخلق في بيان الأحق، الجويني: ص 34)، ونقل عنه صاحب القاموس المحيط كلمة "النذارة" بمعنى الإنذار.

الإمام محمد بن الحسن فقه العراقيين (¬1)، وكان -سابقًا- قد أخذ الحديث والتفسير عن الإمام مالك وعلماء المدينة، فجمع بين علم الحجاز وعلم العراق، وكان فقهه يجمع بين علم أهل الحديث وعلم أهل الرأي، وجمع بين علم العقل وعلم النقل. وقال ابن حجر رحمه الله: انتهت رياسة الفقه في المدينة إلى مالك بن أنس، فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رئاسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حملًا ليس فيه شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول، وقعّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره حتى صار منه ما صار (¬2). وأتاحت له هذه الدراسة أن يقف على فقه أهل الرأي ومناهجهم في الاستدلال والاستنباط، كما كان واقفًا على مناهج أهل الحديث وفقههم، ثم اتخذ مذهبًا مغايرًا لهما، بين الجمع والترجيح، وبين الاجتهاد الشخصي، فأصبح نسيج وحده (¬3). 5 - وأخيرًا فقد درس الإمام الشافعي علم الجدل والمناظرة والمنطق، ¬

_ (¬1) يقول الشافعي: لقد حملت عن محمد بن الحسن وقر بعير، ليس فيه إلا سماعي منه، ويقول أيضًا: ما أحد في الرأي إلا وهو عيال على أهل العراق، ويقول: الناس عيال على أهل العراق في الفقه، (مناقب الشافعي: 1 ص 162 وما بعدها)، وقال عبد الملك بن هشام: الشافعي بصير باللغة، يؤخذ عنه، ولسانه لغة، فاكتبوه، وقالوا: إن لغة الشافعي وحدها يحتج بها، وقال الزعفراني: ما رأيت الشافعي لحن قط (تهذيب التهذيب: 9/ 27). (¬2) الشافعي، أبو زهرة: ص 18، وهذا مأخوذ من كلام ابن أبي الجارود المكي (انظر: الرسالة ص 7). (¬3) محاضرات جاد الرب: ص 70.

وأصبح مناظرًا من الطراز الأول، فيجادل أهل العراق لإلمامه بالقرآن والسنة وبلاغتهما، ويناظر أهل الحجاز لإدراكه الحِكَم الشرعية والعلل القياسية، ولم يناظر أحدًا إلا وظهر عليه (¬1)، وكان يستفيد من موسم الحج في أثناء إقامته في مكة وقدومه عليها، ليجتمع مع كبار العلماء المسلمين في العقيدة والحديث والفقه واللغة، فيأخذ منهم، ويأخذون منه، ويجادلهم ويناظرهم، فاجتمع فيه رجاحة العقل، وسعة الاطلاع، وفصاحة اللسان، وقوة البيان، ورصانة الأسلوب، وصدق فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدِّموا قريشًا ولا تَقَدَّموها، وتعلموا منها ولا تعالموها" (¬2)، ويضاف إلى ذلك التقوى والورع، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] (¬3). قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه (¬4). هذه الصفات والخصائص السابقة التي امتاز بها الإمام الشافعي رحمه الله، مع ما فطره الله تعالى عليه من رصانة العقل، وقوة الحفظ، وجودة الذاكرة، وصفاء القريحة، وشدة الذكاء، جعلته مؤهلًا لكتابة ¬

_ (¬1) كان الإمام الشافعي يبتغي من مناظراته الوصول إلى الحق، وكان يقول: ما جادلت أحدًا إلا ورجوت أن يكون الحق معه، ويقول: رجوت أن يأخذ الناس عني هذا العلم على ألَّا ينسب إلي منه شيء .. ، (مناقب الشافعي:1 ص 173 وما بعدها). وانظر مقدمة ابن خلدون: ص 457 في موضوع علم الجدل والمناظرة. (¬2) رواه الطبراني والشافعي والديلمي، وانظر ما ورد في فضل قريش في كتاب (مناقب الشافعي، للبيهقي: 1 ص 16 وما بعدها). (¬3) قال الإمام مالك للشافعي عندما جاءه فتى يطلب العلم: "يا فتى إني أرى الله قد ملأ قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية" ويقول الشافعي رحمه الله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي (¬4) مناقب الشافعي، البيهقي: 2 ص 41، مناقب الشافعي. الرازي: ص 20.

كتب الإمام الشافعي في الأصول

علم الأصول، وتدوين قواعده، ووضع ضوابط الاجتهاد، فأصَّل الأصول، وقعَّد القواعد، ليعصم أهل الاجتهاد والخلاف والمناظرة من الخطأ والانحراف في الاستنباط، ويضع بين أيديهم الموازين لبيان الخطأ من الصواب، فكان بحق أول من وضع علم الأصول (¬1). قال أبو ثور رحمه الله: لولا أن الله تعالى منَّ عليَّ بالشافعي للقيت الله تعالى، وأنا ضال، ولما قدم علينا ودخلنا عليه كان يقول: إن الله تعالى قد يذكر العام، ويريد به الخاص، وقد يذكر الخاص، ويريد به العام، وكنا لا نعرف هذه الأشياء، فسألناه عنها ... فعلمنا أن كلامه ليس على نهج كلام غيره (¬2). ويقول الإمام أحمد بن حنبل: ما كنت أعرف قبل الشافعي ناسخًا ولا منسوخًا (¬3). كتب الإمام الشافعي في الأصول: صنف الإمام الشافعي عدة كتب في الأصول وهي: 1 - الرسالة: وهي أكبر الكتب وأهمها وأشهرها، وقد كتب الإمام الشافعي رحمه الله فصول الرسالة في مكة المكرمة بعد تجواله في الأقطار، وعندما قدم بغداد في المرة الثانية طلب منه الفقيه الحافظ عبد الرحمن بن المهدي (¬4) أن يضع كتابًا في معاني القرآن والسنة والناسخ ¬

_ (¬1) انظر وصف شخصية الشافعي في كتاب الشيخ محمد أبو زهرة، الشافعي: ص 35، وكتاب مناقب الشافعي، للبيهقي. (¬2) محاضرات الشيخ جاد الرب: ص 73، مناقب الشافعي، الرازي: ص 20. (¬3) المرجع السابق: ص 1، وانظر مباحث الحكم: ص 46، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 13. (¬4) عبد الرحمن بن مهدي، الحافظ الإمام، ولد سنة 135 هـ، ومات سنة 198 هـ، قال الشافعي: لا أعرف له نظيرًا في الدنيا. (الرسالة: ص 11 هامش).

والمنسوخ وحجية الإجماع، وأجاب الشافعي لذلك، وكتب له الرسالة، ولما استقر في مصر أعادها، وأملاها على الربيع بن سليمان، وجعلها مقدمة لكتابه الأم (¬1). واستهل الإمام الشافعي الرسالة بموضوع البيان (ص 21)، فعرفه وبيَّن أنواعه، وهي: بيان القرآن للقرآن، وبيان السنة للقرآن، وبيان الأحكام بالاجتهاد والقياس، وانتقل رحمه الله تعالى إلى مباحث القرآن والسنة (ص 53) فبين أن بعض نصوص القرآن الكريم عام يراد به العموم، وبعضها عام يدخله الخصوص، وبعضها عام من حيث الظاهر وهو يجمع العام والخاص، وبعضها عام من حيث الظاهر والمراد منه الخاص، وبين المشترك والمجمل والمفصل، ثم أسهب الكلام عن أكثر الموضوعات أهمية منذ عصره حتى اليوم، وهو حجية السنة ووجوب اتباعها (ص 73)، وأن ذلك فرض بنصوص القرآن الكريم، وبيَّن مكانة السنة في التشريع، ومراتب السنة بالنسبة للقرآن الكريم ودرجتها بعد القرآن الكريم، وتطرق بشكل خاص إلى حجية خبر الواحد في إثبات الأحكام الشرعية، ثم تكلم رحمه الله عن الناسخ والمنسوخ (ص 106)، ثم استعرض مصادر التشريع (ص 471)، فبيَّن حقيقة الإجماع وحجيته، ووضع الضوابط للقياس، وتعرض لرد الاستحسان (¬2). ¬

_ (¬1) انظر مقدمة الرسالة، تحقيق محمد أحمد شاكر: ص 1، الإمام الشافعي، الجندي: ص 273، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 30، مناقب الشافعي، البيهقي: 1 ص 230، 2 ص 244، مناقب الشافعي، الرازي: ص 55، 57، الفتح المبين: 1 ص 127. وكان الإمام الشافعي رحمه الله يسمي الرسالة "الكتاب" أو "كتابي"، وسميت الرسالة في عصره لأنه أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي، فغلبت هذه التسمية على الكتاب، انظر: الرسالة ص 12. (¬2) تاريخ التشريع الإسلامي، الخضري: ص 186، مناقب الشافعي، الرازي: ص 57 وما بعدها.

كانت الرسالة المحجة للمخالفين، والموئل للمتنازعين، فوحَّدت شملهم، وخففت من أثر الخلاف بينهم، وساروا على نهج الرسالة في أعمالهم. قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لأنني رأيت كلام رجل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له (¬1). وكانت الرسالة أول كتاب أصولي، فلم تشتمل على جميع بحوث الأصول، شأن كل عمل جديد، يكون في الغالب غير منظم ولا مستوفى، وقد وصلت إلينا الرسالة كاملة، وطبعت عدة طبعات (¬2). قال ابن خلدون رحمه الله: وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله عنه، فأملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي، والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس (¬3). وقال الرازي رحمه الله: أعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 1. (¬2) شرح الرسالة الإمام أبو بكر الصيرفي، محمد بن عبد الله، المتوفى سنة 330 هـ، وأبو الوليد النيسابوري، حسان بن محمد، المتوفى سنة 349 هـ، والقفال الشاشي الكبير، محمد بن علي بن إسماعيل، المتوفى سنة 365 هـ، وأبو بكر الجوزقي، محمد بن عبد الله الشيباني النيسابوري، المتوفى سنة 388 هـ، والجويني أبو محمد، عبد الله بن يوسف والد إمام الحرمين، المتوفى سنة 438 هـ، وغيرهم، (انظر كشف الظنون: 1 ص 555 وما بعدها). وقد طبعت الرسالة مع كتاب الأم، وطبعت طبعة مستقلة عدة مرات، وأهم طبعة كانت بتحقيق العلامة المرحوم أحمد شاكر، فقد أخرجها بحلة قشيبة مقرونة بتحقيق الأحاديث والموضوعات الأصولية، فجزاه الله خيرًا، وبعد نفاد هذه الطبعة تطاول شخص آخر اسمه: سيد كيلاني، فاقتبس بعض تحقيقات موجزة من تحقيق أحمد شاكر، ونسبها لنفسه، وطبع الرسالة بشكل ممسوخ تقشعر له الأبدان. (¬3) مقدمة ابن خلدون: ص 455.

كنسبة أرسطو إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض (¬1). 2 - كتاب جماع العلم: وقد كتبه الشافعي لإثبات حجية خبر الآحاد، ووجوب العمل به، والرد على من أنكره، وقد أفرده لأهميته وشدة الاختلاف فيه (¬2). 3 - كتاب إبطال الاستحسان: بيَّن فيه الإمام الشافعي معنى الاستحسان، ورد على القائلين به، وأن الواجب اتباع ما شرع الله تعالى، وأن الاستحسان احتكام للعقل والهوى والشهوة، وقال: من استحسن فقد شرَّع (¬3). 4 - كتاب اختلاف الحديث الذي وضعه للجمع بين الأحاديث التي يبدو عليها التعارض، وهو أول كتاب من نوعه في هذا الموضوع (¬4). 5 - كتاب أحكام القرآن، وهو في أصول الفقه، وكذا كتاب القياس للشافعي (¬5). وقد وضع الإمام الشافعي علم الأصول ليكون ميزانًا وضابطًا لمعرفة الخطأ من الصواب في الاجتهاد، والصحيح من غير الصحيح من الآراء، وأن يكون قانونًا يلتزم به المجتهد عند الاستنباط، ويقيس به الأمور، ويوزن فيه أحكام غيره، وقد طبق الإمام الشافعي -رحمه الله ¬

_ (¬1) مناقب الشافعي، له: ص 56. (¬2) هذا الكتاب مطبوع مع كتاب الأم، الجزء السابع ص 250، كما أفرده أحمد شاكر بالنشر، ثم حققه الأستاذ محمد أحمد عبد العزيز، ونشرته دار الكتب العلمية، بيروت- 1405 هـ / 1984 م. (¬3) هذا الكتاب مطبوع أيضًا مع كتاب الأم: ص 267 - 277. (¬4) هذا الكتاب مطبوع على هامش الجزء السابع من كتاب الأم. (¬5) انظر مقدمة الرسالة: ص 13.

تدوين الفقه والأصول

تعالى- هذه القواعد والضوابط والموازين والقوانين في مناقشة آراء الأئمة والفقهاء، فكتب كتابًا في اختلاف الإمام مالك، وكتابًا في اختلاف محمد بن الحسن وأهل الرأي، وكتابًا في الرد على سير الأوزاعي ورد الإمام أبي يوسف عليه (¬1)، كما التزم الإمام الشافعي في مذهبه بهذه القواعد والضوابط والموازين، وقيد نفسه بها، وسار عليها، فكانت الرسالة هي أصول المذهب الشافعي، وكانت أصولًا نظرية وعملية في أن واحد، ولم تكن دفاعًا أو دليلًا وتسويغًا لفروعه الفقهية (¬2). وكانت الرسالة المنارة الباسقة لدعوة العلماء للتأليف والكتابة في أصول الفقه، وكانت حجر الأساس في بناء صرح هذا العلم، فشمر العلماء والأئمة عن ساعد الجد، وحرروا المصنفات، وأكملوا البناء الذي أقام أساسه الإمام الشافعي، وكان لهم فضل نماء هذا العلم وتحرير مسائله، ووافقوه في أكثرها، وخالفوه في بعضها، وزادوا عليه، فزاد الحنفية الاستحسان والعرف، وزاد المالكية إجماع أهل المدينة، وعمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، والذرائع، وكتب الإمام أحمد في ذلك كتاب العلل، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب طاعة الرسول، وكتب كثير من فقهاء المذاهب الأخرى في أصول الفقه، وتناوله العلماء أيضًا بالبحث والتأليف (¬3). تدوين الفقه والأصول: نلاحظ من النظرة التاريخية السابقة أن أحكام الفقه بدأت بالظهور مبكرًا، ونشأ الفقه في حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأخذ ¬

_ (¬1) هذه الكتب مطبوعة مع كتاب الأم في الجزء السابع. (¬2) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 16. (¬3) أصول الفقه، شعبان: ص 16، الشافعي، أبو زهرة: ص 338.

بالتوسع والتطور والنقل في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبدأت أحكامه بالتدوين في نهاية القرن الهجري الأول، ووصل إلى طور النضج والكمال في القرن الثاني عند ظهور الأئمة، بينما تأخر علم الأصول في الظهور إلى القرن الثاني، ووضعت قواعده ومبادئه وتدوينه في نهاية القرن الثاني الهجري، فما هو السبب في سبق الفقه للأصول؟ مع أنه أساس الفقه؟ الجواب أن علم أصول الفقه عبارة عن موازين لضبط الاستنباط ومعرفة الخطأ من الصواب في الاجتهاد، فهو علم الضوابط لمادة الفقه، والضابط يأتي بعد وجود المادة في كل العلوم، فعلم النحو والإعراب الذي وضع أساسه الإمام علي وأبو الأسود الدؤلي، جاء متأخرًا عن النطق بالفصحى، وعلم العروض الذي وضع أصوله الخليل بن أحمد الفراهيدي جاء متأخرًا عن قول الشعر وقرضه موزونًا، وعلم المنطق الذي دونه أرسطو جاء متأخرًا عن الجدل والتفكير والمناظرة التي رافقت نشوء البشرية (¬1). والسبب الرئيسي أن الفقه وأحكام الشرع الأولى نزلت مباشرة من السماء، واعتمد على الوحي لتغطية أحكام الناس في زمن البعثة، مع بيان القواعد والأسس والمناهج لما يحتاجه الناس في المستقبل، وفي القرآن والسنة منهج الأصول والاستدلال، ولما استحدثت القضايا والمسائل واحتاج الناس إلى الاجتهاد لتغطية الأحكام احتاج الناس إلى معرفة المنهج والقواعد والضوابط، فجاء علم أصول الفقه. وقال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: الأمر الذي لا شك فيه أن علم الفقه سابق على علم أصول الفقه، فالفقه نشأ بالاستنباط والفتيا ¬

_ (¬1) مناقب الشافعي، الرازي: ص 57، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 13، الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، الدهلوي: ص 17، 36. =

طرق التأليف في الأصول

والاجتهاد، ... ولا غرابة أن يكون الفقه متقدمًا على علم أصول الفقه، لأنه إذا كان علم أصول الفقه موازين لمعرفة الصحيح من الآراء من غير الصحيح فالفقه هو المادة التي توزن، والمادة سابقة على الميزان (¬1). قال ابن خلدون رحمه الله: واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصًا، فمنهم أخذ معظمها .. فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنًّا قائمًا برأسه سموه: أصول الفقه ... وحين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علومًا ولا قوانين، ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها، لأنها جبلة وملكة، فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح، ومقاييس مستنبطة صحيحة، وصارت علومًا يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله (¬2). طرق التأليف في الأصول: إن أسلوب الكتابة في الأصول اختلف بعد الشافعي، فبعض العلماء سار على منهج الإمام الشافعي في الرسالة؛ بتقرير المسائل، والتدليل عليها، وإقامة الحجج، واتخاذ السؤال والجواب أساسًا في البيان على طريقة علماء الكلام، وسميت هذه الطريقة بطريقة المتكلمين، أو بطريقة الشافعية، وهي الطريقة التي اختطها الإمام الشافعي في الرسالة، وكتب بها أكثر الشافعية والمالكية والحنابلة والمعتزلة وعلماء الكلام. ¬

_ (¬1) الشافعي، أبو زهرة: ص 328. (¬2) مقدمة ابن خلدون: ص 454، 455.

أولا: طريقة المتكلمين أو الشافعية

وبعض العلماء سار في كتابة الأصول على طريقة التأليف في الفقه، فسبك قواعد الأصول بأسلوب متتابع ومتسلسل، وسميت هذه الطريقة بطريقة الفقهاء أو طريقة الحنفية، وسار عليها أكثر علماء المذهب الحنفي. وامتازت كل طريقة ببعض المزايا والخصائص، وشابها بعض العيوب، فجاء المتأخرون وجمعوا بين الطريقتين باتباع مزايا وفوائد كل طريقة، وتجنب عيوبها، وسميت هذه الطريقة بطريقة المتأخرين. فما هي ميزات كل طريقة، وما هي الكتب التي دونت في كل منها؟ أولًا: طريقة المتكلمين أو الشافعية: تمتاز طريقة علماء الكلام أو طريقة الشافعية بأنها تحقق قواعد هذا العلم تحقيقًا منطقيًّا نظريًّا، وتقرر القواعد الأصولية وتنقحها، وتثبت ما أيده البرهان العقلي والنقلي، وتنظر إلى الحقائق المجردة، ولم تلتفت هذه الطريقة إلى التوفيق بين القواعد وبين الفروع التي استنبطها الأئمة في الفقه، ولا تعنى بالأحكام الفقهية؛ لأن الأصول علم مستقل عن الفقه، فكانت هذه الطريقة تهتم بتحرير القواعد وتنقيحها. فما أيده العقل، وقام عليه البرهان، فهو الأصل والقاعدة، سواء أوافق الفروع المذهبية أم خالفها، وسواء أوافق الأصل الذي وصل إليه الإمام أم لا (¬1)، ولذا نلاحظ مثلًا أن الآمدي اعتبر الإجماع السكوتي حجة، خلافًا لأصل إمامه الشافعي رحمه الله، لأن الدليل والحجة أوصلاه إلى ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) يقول إمام الحرمين الجويني رحمه الله تعالى: "على أنَّا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه، فالفرع يصحح على الأصل، لا على الفرع" البرهان، له: 2/ 1363. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 180، وانظر المسائل التي خالف فيها الجويني إمامه الشافعي في (البرهان 2/ 1442).

ثانيا: طريقة الفقهاء أو الحنفية

ويكثر في هذه الطريقة أسلوب الفنقلة، أي: "فإن قلت ... قلنا" على طريقة علماء الكلام، وتقل فيها الفروع الفقهية، وهي في الواقع أقرب إلى حقيقة وضع المبادئ والقواعد والأصول التي تعتبر أساسًا، لتأتي الفروع، على منوالها، فالأصول حاكمة على الفروع، وهي دعامة الفقه والاستنباط، وهذا الأسلوب أبعدَ الناسَ عن التعصب لفرع فقهي أو حكم مذهبي. ولكن هذه الطريق تسرف أحيانًا في الأمور النظرية والعقلية التي يستحيل وقوعها عقلًا أو شرعًا، مثل جواز تكليف المعدوم، والحسن والقبح العقليين، كما تتعرض لبعض بحوث العقيدة وعلم الكلام مثل عصمة الأنبياء قبل النبوة، ويقل فيها الربط بين الأصول والفروع (¬1). ثانيًا: طريقة الفقهاء أو الحنفية: وهي طريقة متأثرة بالفروع، وتتجه لخدمتها، وإثبات سلامة الاجتهاد فيها، وتمتاز هذه الطريقة بأخذ القواعد الأصولية من الفروع والأحكام التي وضعها أئمة المذهب الحنفي، ويفترضون أنهم راعَوْا هذه القواعد عند الاجتهاد والاستنباط، فإن وجدوا فرعًا يتعارض مع القاعدة لجؤوا إلى تعديلها بما يتفق مع هذا الفرع، مثل قولهم: "المشترَك لا يَعُمُّ إلا إذا كان بعد النفي فيعُمُّ" ومثل قولهم: "إن دلالة العام قطعية إلا إذا خصص" ويتفرع على ذلك تقديم النص العام على خبر الآحاد عند التعارض؛ لأن خبر الآحاد ظني، والعام قطعي (¬2). والهدف من هذه الطريقة تجميع الأحكام الفرعية في قواعد كلية، ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: 455، مباحث الكتاب والسنة: ص 10، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 331، أصول الفقه خلاف: ص 17. (¬2) إن تفصيل هذه الموضوعات سيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ثالثا: طريقة المتأخرين

وضوابط عامة، فيضعون القاعدة الأصولية بما يتفق مع الفروع، ويستمدون الأصول من فقه الإمام وفروع الأصحاب، ويعبر البزدوي عن ذلك في أصوله بقوله: على هذا دلت فروع أصحابنا (¬1). والسبب في اللجوء إلى هذه الطريقة أن علماء الحنفية لم يعثروا على كتب في الأصول من وضع أئمتهم، كما عثر علماء الشافعية في "الرسالة"، فبحثوا عن القواعد الأصولية في الفروع الفقهية باعتبار أنها لا بد أن تكون قائمة على أساس. وهذه الطريقة تكثر فيها الفروع الفقهية، وهي أقرب إلى الفقه، وأليق بالفروع، وأشبه بقواعد الفقه الكلية، وكانت للدفاع عن المذهب الذي ينتمي إليه مؤلف الكتاب، ويجعل من الأصول مقاييس مقررة ومؤكدة له، وليست حاكمة عليه (¬2). ثالثًا: طريقة المتأخرين: وهذه الطريقة تجمع بين الطريقتين السابقتين بما فيهما من مزايا، فتقعد القاعدة، وتقيم الأصل، وتثبته بالأدلة والبراهين، ثم تذكر الفروع والأحكام الفقهية التي تتفرع عن هذا الأصل وتطبقه عليها، كما تشير إلى الفروع التي خالفت الأصل، وتبين سبب المخالفة، وقد سار على هذه الطريقة العلماء من المذاهب الأربعة، كما سنرى في كتبهم. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار: 1 ص 292. (¬2) لئن كان الحنفية أول من سار على هذه الطريقة، فإنها لم تنحصر بهم، فإن بعض العلماء من المذهب المالكي والشافعي والحنبلي قد سلكوا هذه الطريقة في الأصول التي تطبق على الفروع الجزئية في المذهب، مثل القرافي المالكي، والإسنوي الشافعي، ومثل ابن تيمية الحراني، وابن القيم الحنبلي فيما كتباه في الأصول. (انظر مقدمة ابن خلدون: ص 455، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 21، 23، أصول الفقه، خلاف: ص 17).

أهم الكتب في علم أصول الفقه

أهم الكتب في علم أصول الفقه (¬1): أولًا: الكتب التي ألفت على طريقة المتكلمين: كانت الرسالة للإمام الشافعي أول كتاب على هذه الطريقة، ثم ظهرت كتب كثيرة على منوالها، أهمها: 1 - المعتمد، للبصري المعتزلي، أبي الحسين، محمد بن علي الشافعي، المتوفى سنة 436 هـ (¬2). 2 - البرهان، لإمام الحرمين، أبي المعالي، عبد الملك بن عبد الله الجويني النيسابوري الشافعي، المتوفى سنة 478 هـ (¬3). 3 - المستصفى، للغزالي، أبي حامد حجة الإسلام، محمد بن محمد الغزالي الشافعي، المتوفى سنة 505 هـ (¬4). ويمتاز المستصفى بعبارته الدقيقة، وأسلوبه الرفيع، ليس بالمختصر المخل، ولا بالطويل الممل، يحرر القواعد، ويدلل عليها، ويضرب الأمثلة، وقد كتبه قبل أن تشيع المختصرات (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: مفتاح السعادة: 2 ص 183، مفتاح الوصول للتلمساني المالكي، تقديم الشيخ المرحوم عبد الوهاب عبد اللطيف: صفحة هـ، الفتح المبين:1 ص 123 وما بعدها، مرجع العلوم الإسلامية: ص 610. (¬2) كتاب المعتمد مطبوع في جزأين، نشره المعهد العلمي الفرنسي بدمشق سنة 1384 هـ / 1964 م، ثم صور حديثًا في بيروت. (¬3) حقق البرهان الدكتور عبد العزيز الديب للحصول على درجة الدكتوراه في أصول الفقه، وطبع على نفقة أمير دولة قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، عام 1399 هـ. (¬4) اختصر المستصفى الحسين بن رشيد في كتابه (لباب المحصول مختصر المستصفى) واختصره الإشبيلي (651 هـ) وشرحه الفهري (679 هـ) وعليه تعاليق للغرناطي (639 هـ) واختصره السهروردي الحكيم (انظر: كشف الظنون 2/ 427). (¬5) المستصفى مطبوع ومتوفر في الأسواق، وقد طغ منفردًا، كما طبع مع كتاب فواتح الرحموت، ثم صورت هذه الطبعة حديثًا في لبنان تصويرًا جيدًا.

4 - المحصول، للرازي فخر الدين، محمد بن عمر الرازي الشافعي، المتوفى سنة 606 هـ. وكتاب المحصول تلخيص وجمع للكتب الثلاثة السابقة (¬1). 5 - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، سيف الدين أبي الحسن، علي بن أبي علي محمد الشافعي، المتوفى سنة 631 هـ. والإحكام اختصار وتلخيص للبرهان والمعتمد والمستصفى، وهو كتاب جيد الأسلوب، سهل العبارة، حسن التنظيم والتبويب (¬2). ¬

_ (¬1) اختصر المحصول تاج الدين الأرموي (656 هـ) في كتابه: الحاصل، كما اختصر المحصول محمود بن أبي بكر الأرموي (682 هـ) في كتاب: التحصيل، واختصر المحصول التبريزي وكان عالمًا أصوليًّا ومعاصرًا للرازي، ثم جاء القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي فاختصر الحاصل في كتاب: منهاج الوصول إلى علم الأصول، وهو مشهور ومختصر جدًّا، فجاء عبد الرحيم بن حسن الإسنوي الشافعي (772 هـ) فشرح المنهاج شرحًا جيدًا ومنظمًا، وأصبح شرحه مقصد الطلاب والعلماء، واختاره علماء الأزهر للتدريس في كلية الشريعة، "انظر طبقات الشافعية الكبرى: 8/ 81، 371، مرجع العلوم الإسلامية ص: 620)، والمحصول جزآن كبيران، حقق الجزء الأول منه الدكتور طه جابر العلواني للحصول على درجة الدكتوراه في أصول الفقه، ثم حقق الدكتور طه الجزء الثاني، وقامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض بطبع الجزأين في ست مجلدات كبيرة عام 1399 هـ 1979 م، وحقق مختصر التبريزي والتحصيل والحاصل وطبعت. (¬2) اختصر ابن الحاجب المالكي (646 هـ) كتاب الاحكام للآمدي في كتابه: منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، ثم اختصره في مختصر المنتهى، وجاء عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (756 هـ) فشرحه بشرح جيد، والأحكام مطبوع عدة طبعات في مجلدين، ومتوفر في الأسواق. ويحسن الانتباه إلى كتاب ابن حزم الأندلسي الظاهري (456 هـ) وهو بنفس الاسم "الإحكام في أصول الأحكام" وهو ثمانية أجزاء، ومطبوع في مجلدين، وهو كتاب نفيس يجمع بين الأصول والفروع، ويضع فيه أصول المذهب الظاهري.

ثانيا: الكتب التي ألفت على طريقة الفقهاء

6 - التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد، للباقلاني، القاضي أبي بكر، المتوفى سنة 403 هـ، وقد اختصره مؤلفه بعد ذلك، كما اختصره إمام الحرمين الجويني في كتابه "التلخيص". ثانيًا: الكتب التي ألفت على طريقة الفقهاء: كتب أكثر علماء الحنفية على هذه الطريقة (¬1)، وكتب فيها بعض علماء المذاهب الأخرى عدة كتب، أهمها: 1 - كتاب الأصول، للإمام الكرخي، أبي الحسن، عبيد الله بن الحسين، المتوفى سنة 340 هـ. 2 - كتاب الأصول للجصاص، أبي بكر، أحمد بن علي الرازي، المعروف بالجصاص، المتوفى سنة 370 هـ، حققه الدكتور جاسم عجيل النشمي، وطبع في الكويت. 3 - تأسيس النظر في الخلاف، وتقويم الأدلة في أصول الفقه، للدبوسي، أبي زيد عبيد الله بن عمر القاضي الدبوسي، المتوفى سنة 430 هـ، ويعرف كتابه بأصول الدبوسي. 4 - كتاب الأصول، للسرخسي، شمس الأئمة محمد بن أحمد، المتوفى في حدود الخمسمائة، أي سنة 490 هـ تقريبًا، وهو صاحب المبسوط في الفقه (¬2). 5 - كتاب الأصول للبزدوي، فخر الإسلام علي بن محمد، المتوفى سنة 482 هـ، وهو أحسن وأفضل كتب الحنفية، وجاء علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، المتوفى سنة 730 هـ، وشرحه شرحًا نفيسًا ¬

_ (¬1) انظر مقدمة ابن خلدون: ص 456، تاج التراجم في طبقات الحنفية، للقاسم بن قطلوبغا، مرجع العلوم الإسلامية ص: 610 وما بعدها. (¬2) أصول السرخسي مطبوع بمصر في جزأين، ومصور في لبنان حديثًا.

في كتابه "كشف الأسرار" وهو عمدة الحنفية في الأصول (¬1)، وهناك كتاب: "كشف الأسرار في الأصول" للنسفي الحنفي المفسر الأصولي (710 هـ). 6 - المنار، للنسفي حافظ الدين عبد الله بن أحمد، المتوفى سنة 710 هـ، وشرحه العلماء عدة شروح، أهمها شرح عز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز، الشهير بابن ملك 801 هـ، وحاشية "نسمات الأسحار" لمحمد أمين، المعروف بابن عابدين، المتوفى سنة 1252 هـ (¬2). 7 - تنقيح الفصول في علم الأصول، للقرافي، شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي، المتوفى سنة 684 هـ (¬3). 8 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للإمام الإسنوي، جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي الشافعي المتوفى سنة 772 هـ، مطبوع ¬

_ (¬1) كشف الأسرار الأربعة أجزاء، مطبوع طبعة قديمة سنة 1307 هـ في مجلدين كبيرين، وعلى هامشه كتاب الأصول للبزدوي. (¬2) شرح المنار لابن ملك مطبوع في جزء واحد، سنة 1306 هـ، مع شرح المنار لعبد الرحمن بن أبي بكر العيني، أما كتاب نسمات الأسحار فهو حاشية على شرح "إفاضة الأنوار" على متن أصول المنار للشيخ محمد علاء الدين الحصني الحنفي مفتي دمشق، والحاشية مطبوعة بمصر سنة 1328 هـ وعلى الهامش الشرح المذكور، وانظر الدرر الكامنة 2/ 352، الفوائد البهية ص 102، الفتح المبين 2/ 108، الأعلام 4/ 192، مرجع العلوم الإسلامية ص: 626. (¬3) ألف القرافي هذا الكتاب على أصول المالكية، وجعله مقدمة لكتابه النفيس: الذخيرة في الفقه المالكي، وقد طبع الجزء الأول من الذخيرة بالأزهر سنة 1961 م، وفي أوله كتاب التنقيح، وقام القرافي نفسه بشرح كتابه وسماه "شرح تنقيح الفصول" وهو مجلد ضخم، طبع في تونس قديمًا، ثم طبع في مصر حديثًا عام 1393 هـ 1973 م.

ثالثا: الكتب التي ألفت على طريقة المتأخرين

بمكة، ثم حققه الدكتور محمد حسن هيتو، وطبعه. 9 - المسودة، لآل تيمية في أصول الفقه على المذهب الحنبلي، مطبوعة. ثالثًا: الكتب التي ألفت على طريقة المتأخرين: وهي الكتب التي تجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الفقهاء، وسار عليها بعض العلماء من المذهب الحنفي والمذهب الشافعي، وأهمها: 1 - بديع النظام، الجامع بين أصول البزدوي والإحكام، للساعاتي، أو ابن الساعاتي، مظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي البغدادي الحنفي، المتوفى سنة 694 هـ، وعليه شروح كثيرة (¬1). 2 - تنقيح الأصول، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود البخاري، المتوفى سنة 747 هـ، وهو كتاب مختصر لخصه من كتاب البزدوي والمحصول للرازي، ومختصر ابن الحاجب، ثم شرحه بنفسه بكتاب سماه: التوضيح على التنقيح، وجاء التفتازاني سعد الدين محمود بن عمر الشافعي، المتوفى سنة 792 هـ، وكتب حاشية على التوضيح سماها: التلويح" (¬2). 3 - التحرير، لكمال الدين، محمد بن عبد الواحد، الشهير بابن الهمام الحنفي، المتوفى سنة 861 هـ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الأدب العربي، بروكلمان: 6/ 357، 360، مرجع العلوم الإسلامية ص: 625. (¬2) التوضيح على التنقيح مطبوع بجزأين، وحاشية التلويح مطبوعة في ثلاثة مجلدات، وعلى هامشها التوضيح والتنقيح، وانظر: مرجع العلوم الإسلامية ص: 628. (¬3) كتاب التحرير للكمال بن الهمام شرحه تلميذه محمد بن محمد بن أمير الحاج الحلبى المتوفى سنة 879 هـ في كتاب اسمه: التقرير والتحبير، مطبوع، كما شرحه =

4 - جمع الجوامع، لابن السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي الشافعي، المتوفى سنة 771 هـ، جمعه مما يقرب من مئة مصنف، كما يقول في مقدمته (¬1). 5 - مسلم الثبوت، للعلامة محب الله بن عبد الشكور البهاري الحنفي، المتوفى سنة 1119 هـ، وقد شرحه العلامة عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري (1180 هـ)، شرحًا جيدًا في كتابه فواتح الرحموت (¬2). الموافقات للشاطبي: ولا بد من الإشارة إلى كتاب أصولي انفرد بطريقة خاصة في التأليف، وهو كتاب: الموافقات في أصول الأحكام، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي، المعروف بالشاطبي، المتوفى سنة 795 هـ، وقد جمع فيه بين مبادئ الأصول وأسرار الشريعة، وحكم التشريع، وامتاز بالكتابة عن الأصول التي بيَّن الشارع عللها واعتبرها أصلًا، والموافقات كتاب سهل العبارة، عظيم الفائدة، لا يستغني عنه طالب العلم، ولا الباحث في الفقه والأصول (¬3). ¬

_ = محمد أمين، أمير بادشاه في كتاب اسمه: تيسير التحرير، في أربعة أجزاء، ومطبوع في مجلدين. (¬1) شرح جمع الجوامع جلال الدين المحلي المتوفى سنة 864 هـ، ثم جاء العلامة حسن العطار وكتب حاشبة على شرح المحلي، اسمها: حاشية العطار على شرح جمع الجوامع، كما كتب البناني حاشية على شرح المحلي، اسمها: حاشية البناني، والحاشيتان مطبوعتان بمصر. (¬2) مسلم الثبوت مطبوع في جزأين صغيرين بالمطبعة الحسينية بمصر، أما كتاب فواتح الرحموت فمطبوع على هامش المستصفى بالمطبعة الأميرية بمصر سنة 1322 هـ، وصور أخيرًا في لبنان، انظر: الأعلام: 4/ 163، مرجع العلوم الإسلامية ص: 635. (¬3) الموافقات مطبوع عدة طبعات، وهو أربعة أجزاء متوسطة الحجم، وله كتاب الاعتصام أيضًا، انظر الأعلام، الزركلي 1 ص 71، مرجع العلوم الإسلامية ص: 631.

رابعا: الكتب الحديثة في الأصول

كما تحسن الإشارة إلى كتاب "قواعد الأحكام" لسلطان العلماء العز بن عبد السلام (660 هـ) الذي سبق الشاطبي في بيان حِكم التشريع وقواعد الأصول، ومقاصد الشريعة، وربطها بالأحكام الفقهية. رابعًا: الكتب الحديثة في الأصول: ظهر أخيرًا عدة مؤلفات في الأصول كتبها عدد من العلماء الأجلاء الذين تولوا تدريس مادة أصول الفقه في كليات الشريعة والحقوق والقضاء الشرعي في البلاد العربية، وتمتاز بحسن العرض، وسهولة الأسلوب لتذليل القواعد والمبادئ الأصولية للطلاب المبتدئين لدراسة هذا العلم، ونذكر أهمها: 1 - إرشاد الفحول، للشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله، المتوفى سنة 1250 هـ. 2 - تسهيل الوصول إلى علم الأصول، للقاضي الشيخ محمد عبد الرحمن المحلاوي الحنفي، المتوفى سنة 1920 م. 3 - أصول الفقه، للشيخ محمد الخضري، المتوفى سنة 1927 م، وهو كتاب سهل ومفيد. 4 - أصول الفقه، للأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف، المتوفى سنة 1955 م، ويمتاز بعبارته الواضحة، وأسلوبه السهل وأمثلته الفقهية والقانونية. 5 - أصول الفقه، لأستاذنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة، الذي توفاه الله تعالى في أثناء كتابة هذه المحاضرات في نيسان 1974 م، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنانه، وعوض المسلمين خيرًا. 6 - أصول الفقه، للأستاذ الشيخ محمد زهير أبو النور، وكيل جامعة الأزهر، ومدرس الأصول في كلية الشريعة والقانون بالأزهر، والكتاب

أربعة أجزاء، وهو عبارة عن تلخيص وتوضيح لكتاب نهاية السول للإسنوي. 7 - أصول الفقه الإسلامي، للشيخ شاكر الحنبلي، مطبوع عام 1948 م بدمشق. هذه الكتب السبعة اشتملت على جميع مباحث وأبواب علم الأصول، وتتفاوت فيما بينها في الاختصار والشرح، وهناك كتب أخرى حديثة تناولت بعض الجوانب من علم أصول الفقه حسب مناهج الدراسة، أهمها: 8 - أصول الفقه الإسلامي، للأستاذ الشيخ زكي الدين شعبان، رئيس قسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة عين شمس سابقًا، مطبوع سنة 1967 م. 9 - أصول التشريع الإسلامي، للأستاذ علي حسب الله، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، مطبوع سنة 1964 م، الطبعة الثالثة. 10 - أصول الفقه، للأستاذ الشيخ محمد زكريا البرديسي، رئيس قسم الشريعة، بكلية الحقوق بجامعة عين شمس حاليًا، مطبوع سنة 1969 م، الطبعة الثالثة. 11 - مباحث الحكم، للأستاذ محمد سلام مدكور، رئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، مطبوع سنة 1959 م. 12 - المدخل إلى علم أصول الفقه، للدكتور معروف الدواليبي. 13 - الوسيط في أصول الفقه، للدكتور وهبة الزحيلي. 14 - مصادر التشريع الإسلامي، للدكتور محمد أديب صالح. 15 - مباحث الكتاب والسنة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. هذه نظرة تاريخية مختصرة عن علم أصول الفقه في نشأته،

ووضعه، وتطوره، وطرق التأليف فيه، وأهم الكتب والمراجع التي يعتمد عليها الطالب والباحث للتزود من بحوث علم أصول الفقه، والاستفادة منه، إن شاء الله تعالى.

الفصل الرابع في أسباب اختلاف الفقهاء

الفصل الرابع في أسباب اختلاف الفقهاء أهمية الموضوع: ينظر المرء أحيانًا إلى التفرق في الأمة، والخلاف بين أفرادها، والنزاع الناشب في صفوفها، والجدل الذي لا طائل تحته، والتعصب المقيت الذي يحجر على العقول، ويبحث عن السبب فيرى لأول وهلة أن سبب كل ذلك هو اختلاف الأئمة الذي جر هذه الويلات، ويتبادر إلى ذهنه فورًا السؤال عن أسباب اختلاف الفقهاء، ويخيل إليه أن اختلافهم كان نقمة على الأمة، وهذا ما يحاول أن يثيره أعداء الإسلام، وأتباع المستشرقين، وأذناب الاستعمار، وأبواق الغزو الفكري، ويوجهونه إلى ضعاف الإيمان، أو ضعاف النفوس، فيوقعون بينهم الشك والريبة والتردد، ويغرسون في نفوسهم عقدة النقص والعار في تاريخهم وأئمتهم. وينظر المرء من جهة أخرى إلى هذا التراث الزاخر في الفقه والتشريع، ويطوف بين الأحكام وعللها، ومأخذ كل إمام وحجته، ويضيق أحيانًا مجال البحث على هيئة التشريع في بعض أحكام مذهب

ما، فترى الشفاء القريب في المذهب الآخر، ويجول الإنسان بين المذاهب فيرى الصدر الرحب في الموسوعات الفقهية المقارنة، كالحاوي الكبير للماوردي، والمغني لابن قدامة، وبدائع الصنائع للكاساني، والذخيرة للقرافي، فتمتلئ النفس راحة، وتشعر بالثروة الفقهية العظيمة التي خلفها لنا الأئمة الأجلاء والسلف الصالح، وتقدر الجهد المبذول منهم، وتطمئن سريرتها إلى حسن المقصد، ونزاهة العمل، وتجرد النية لله تعالى، وتدرك تمامًا أن تعدد المذاهب كان نعمة كبرى، وأن اختلاف الأمة رحمة، وأن سبب الاختلاف أمر منطقي وعقلي وفطري، وتلمس في كل جزئية السبب العلمي الموضوعي للاختلاف فيها. وجهتا النظر السابقتان المتعارضتان تدعواننا لبحث ومعرفة الحقيقة في أسباب الاختلاف. ونسرع إلى القول: إن أسباب الاختلاف بين الفقهاء لا تدخل في علم أصول الفقه، ولذا نترك تفصيل هذا الموضوع الضروري المهم إلى مجاله الخاص، في مادة الفقه، أو الفقه المقارن، أو تاريخ التشريع والمدخل الفقهي، ونقتصر على بيان مكانة أصول الفقه في أسباب الاختلاف، والأثر المتبادل بين أصول الفقه واختلاف الفقهاء. وسبق أن عرفنا الغاية والفائدة من أصول الفقه، وعرفنا الظروف التي دعت إلى ظهوره وتدوينه، وبقي علينا أن نعلم وظيفة أصول الفقه في إزالة الاختلاف وتقليله، وأثره في بيان الضوابط والقواعد والموازين لأسباب الاختلاف الصحيح والمقبول. وقبل أن نبين ذلك نذكر بعض الحقائق الضرورية في الموضوع، ثم نشير باختصار إلى أهم أسباب الاختلاف، وخاصة ما يتعلق منها بأصول الفقه.

أولا: الحقائق الهامة في اختلاف الفقهاء

أولًا: الحقائق الهامة في اختلاف الفقهاء: 1 - إن الاختلاف في التشريع أمر طبيعي وعادي ولا غبار عليه، ولا يوجد تشريع في الدنيا يخلو من ذلك، سواء أكان التشريع سماويًّا أم وضعيًّا، بل لا يوجد علم من العلوم الإنسانية يخلو منه، فالأدباء مختلفون في الكتابة والنقد، والشعراء مختلفون في قرض الشعر وموازينه، وعلماء القانون مختلفون في تفسيره ومضمونه وشرحه، والمحاكم مختلفة في تطبيق القانون واللوائح على الرغم من اتباعها نظامًا واحدًا، وعلماء التاريخ مختلفون في أحداثه ورواياته، والشخص الواحد يختلف رأيه من حين إلى حين ... وهكذا الأطباء والمهندسون والخبراء يختلفون في تقييم الموضوع الواحد وتشخيصه والنظر إليه، ولا يزول الاختلاف إلا إذا صار الإنسان آلة مصنعة، ولو لم يختلف الفقهاء لكانوا شواذًا عن البشر. 2 - إن الاختلاف بين الفقهاء في الشريعة الإسلامية منحصر في الفروع الفقهية، مع الاتفاق الكامل على الأصول العامة، سواء أكانت في أصول الدين أي في العقيدة وأركان الإسلام، أم في أصول التشريع وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع والقياس. فالاتفاق كامل بين الأئمة في عقيدة المسلم التي تقوم على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، والاتفاق كامل في أركان الإسلام من الشهادة والصلاة والصيام والزكاة والحج، والإجماع على صحة القرآن الكريم ونقله بالتواتر، وأنه كلام الله تعالى، وأنه حجة على المسلمين دون اختلاف على حرف واحد منه، ولا نزاع في حجية السنة، وأنها مبينة لكتاب الله، ومصدر أساسي في التشريع، ولم ينكر ذلك إلا من خرج عن الإسلام وفارق الجماعة، وأما الاختلاف في الإجماع والقياس فهو على نطاق ضيق مع الاتفاق عليهما

بين أهل السنة والجماعة. وهذا الاتفاق على الأصول العامة هو من فضل الله تعالى على هذه الشريعة التي أنزلها خاتمة الشرائع والرسالات، وتكفل بحفظها إلى أن يرث الأرض ومن عليها، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. وأما الاختلاف في الفروع الفقهية، والأحكام التفصيلية فلا يضر بالأمة ولا يؤثر على كيانها وسمعتها ووحدتها، بل هو علامة على خلودها وصلاحها "كما سنرى". 3 - إن الاختلاف في بقية مصادر التشريع اختلاف في الظاهر غالبًا، أو هو اختلاف لفظي أو اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، وكثيرًا ما تكون النتائج متفقة، وينحصر أثر الاختلاف في جزئيات محددة، فلا خلاف في حقيقة الاستحسان بين الحنفية وبين المالكية والشافعية، ولا خلاف في الواقع بين الحنفية والشافعية وبين المالكية في المصالح المرسلة، لأن الشافعية والحنفية كثيرًا ما يعللون بالمصالح، ويبنون الأحكام عليها، وكذلك الأمر في العرف والعادة والاستصحاب وسد الذرائع وقول الصحابي وشرع من قبلنا (¬1). 4 - إن الاختلاف بين الأئمة كان السبب في تزويد المكتبة الإسلامية بهذه الثروة الفقهية التي نضاهي العالم بها، ونعتز بوجودها، وأتاحت للتشريع المرونة والحيوية في تلبية حاجات ومتطلبات التقدم والتطور ¬

_ (¬1) يقول الزنجاني: ذهب الشافعي إلى أن التمسك بالمصالح المستندة إلى كليّ الشرع، وإن لم تكن مستندة إلى الجزئيات الخاصة المعينة جائز، انظر تخريج الفروع على الأصول، له، ص 169، وانظر مذكرات الفقه المقارن، للمرحوم الشيخ محمد الزفزاف: ص 12 وما بعدها، وانظر تحقيق الموضوع في الفصل الثاني من الباب الأول من هذا الكتاب، عند دراسة هذه المصادر.

والعمران خلال العصور الطويلة في أرجاء المعمورة (¬1)، كما مرَّ في تدوين أصول الفقه وفوائده. 5 - إن الاختلاف في الفروع -مع الاتفاق على الأصول- هو رحمة بالأمة، وتخفيف عنها، وتوسعة عليها، فإن ضاق بالأمة مذهب استعانت بالآخر، وإن شق عليها الحكم لجأت إلى غيره، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما سرني أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة (¬2)، كمسح الرأس، وطلاق الثلاث، وزكاة الزروع والثمار، وأحكام الحج، والاغتسال من الجنابة قبل النوم أو بعده. 6 - إن الاختلاف بين الأئمة يعتمد على أسباب موضوعية وعلمية، وهو أبعد ما يكون عن التشهي والهوى أو الانتصار لذات أو شخص، ولا حاجة للتدليل وإقامة البرهان على ذلك، فتاريخ التشريع وسيرة الأئمة يؤكد ذلك، ومن ينكره أو يتشكك فيه فإنما يجهل تاريخ هذه الأمة، أو يحمل الحقد والضغينة واللؤم والعداوة لعلمائها، الذين كان الإخلاص رائدهم، والتعبد لله هدفهم، ومرضاة الله مبتغاهم، وطلب العلم والوصول إلى الحق أسمى أمانيهم. 7 - لم يقع اختلاف في النصوص القطعية -من ناحية الثبوت والدلالة، فالقرآن الكريم قطعي الثبوت، لأنه نقل إلينا بالتواتر، ¬

_ (¬1) انظر: كتاب أدب القضاء، لابن أبي الدم: ص 13، 20 من التقديم، 672. (¬2) كشف الخفا: 1 ص 66، وانظر تفصيل ذلك عند الكلام عن حديث "اختلاف أمتي رحمة" وتخريج هذا الحديث، ويقول يحيى بن سعيد: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون .. فلا يعيب هذا على هذا، وانظر المدخل الفقهي العام للأستاذ الزرقا: 1 ص 190 وما بعدها، ردّ المحتار: 1/ 68، الفقيه والمتفقه: 2/ 59، غياث الأمم: 139.

فلا خلاف في ثبوته، وكذلك السنة المتواترة قطعية الثبوت، فلا خلاف في ثبوتها، مثل أفعال الصلاة ومناسك الحج، وكذلك الدلالة القطعية التي لا تحتمل معنى آخر في القرآن أو السنة المتواترة، فلا خلاف فيها، مثل المقادير والحدود، وإنما ينحصر الاختلاف في الدلالة الظنية وفي الثبوت الظني كأخبار الآحاد. 8 - لم يقع الاختلاف في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان المرجع الوحيد للتشريع، وكان عليه الصلاة والسلام يعتمد على الوحي، وكان الصحابة إذا اختلفوا في حكم -لم يرد فيه نص- يرجعون إليه لمعرفة الصواب، ومع ذلك فإننا نلاحظ تعدد الأقوال في المسألة الواحدة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقر حكمين مختلفين لبيان إباحة الأمرين واستوائهما، أو لإباحة الأمرين مع تفضيل أحدهما على الآخر، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: أ - سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوقات متعددة عن أفضل الأعمال، فتعدد جوابه بحسب الأشخاص والأحوال والظروف المحيطة بالسائل، وقال مرة: "الجهاد في سبيل الله"، وقال: "بر الوالدين"، وقال: "الصلاة في وقتها"، وغير ذلك، وسئل عليه الصلاة والسلام: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف (¬1) ". ب - جاء رجلان من الصحابة إلى مسيلمة الكذاب فأمسكهما ¬

_ (¬1) رواه الشيخان والنسائي، وسأل أبو ذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"، أخرجه الشيخان، انظر رياض الصالحين: 77 - 78، تيسير الوصول: 1 ص 19، الترغيب والترهيب:1 ص 256، 2 ص 242، 247، 249، 3 ص 314، 315، مجمع الزوائد: 1 ص 55، وروى البخاري ومسلم: "إيمان بالله ورسوله، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور" انظر الترغيب والترهيب: 2 ص 162، صحيح مسلم بشرح النووي: 2/ 72، 74.

وهددهما بالقتل، ثم قال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضًا، فخلاه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: إنما أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أما الأول: فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني: فقد صدع بالحق، فهنيئًا له (¬1) ". ج - عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدًا طيبًا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك"، وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين (¬2) ". د - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نادى فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم انصرف عن الأحزاب: "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة"، فتخوف الناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن فاتنا الوقت، قال: فما عنف واحدًا من الفريقين (¬3). ¬

_ (¬1) تلخيص الحبير، وسيأتي الكلام مرة ثانية عن هذا الموضوع في مبحث الرخصة في هذا الكتاب، والأول عبد الله بن وهب، والثاني هو حبيب بن زيد الأنصاري المازني، انظر: الإصابة:1 ص 321، تفسير ابن كثير: 2 ص 588، أسد الغابة: 1/ 443، طبقات ابن سعد: 4/ 316. (¬2) رواه أبو داود (2/ 82) والنسائي (1/ 213) والحاكم (1/ 178) والدارمي (1/ 190) والدارقطني، والبيهقي (1/ 231)، وانظر: نيل الأوطار: 1/ 265، سبل السلام 1/ 97، المجموع: 2/ 338. (¬3) رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم 12/ 97، وعند البخاري: "لا يصلين أحد =

ثانيا: أهم أسباب الاختلاف

وهذا التعدد في الأقوال، وإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاختلاف الصحابة، إن دل على شيء فإنما يدل على مرونة الشريعة وسعتها، والتيسير فيها، ورفع الحرج عن المكلفين في تطبيقها. ثانيًا: أهم أسباب الاختلاف: سنكتفي بتعداد أهم أسباب الاختلاف مع ضرب بعض الأمثلة، دون التحقيق فيها أو الإفاضة في شرحها، وتوضيحًا للغرض فقد قسمنا أسباب الاختلاف إلى قسمين من حيث صلتها بعلم الأصول. القسم الأول: أسباب الاختلاف التي لا ترجع مباشرة إلى علم أصول الفقه، وكانت سابقة على وجوده، وهي: 1 - الاختلاف في الأمور الجبليَّة، وذلك أن الناس، ومنهم الأئمة والعلماء، قد فطروا على قدرات مختلفة، وطبائع متباينة، وأن تركيب النفس البشرية يختلف من شخص إلى آخر، كما أن القدرات العقلية والملكات الذاتية لا يمكن أن تكون متساوية ومتفقة بين شخصين، ولذلك تختلف وجهات النظر بينهم، وينتج بالتالي اختلاف في الأحكام التي يجتهدون في استنباطها. يقول الشيخ علي الخفيف: ذلك أن عادات الناس مختلفة، وأعرافهم متعددة، وأعمالهم متنوعة، وآراءهم متعارضة، وأنظارهم متفاوتة، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وإذا اختلفت المقدمات اختلفت النتائج (¬1). ثم يقول: وجد الخلاف ¬

_ = العصر"، انظر صحيح مسلم بشرح النووي:12 ص 97، صحيح البخاري مع حاشية السندي: 1 ص 116، حياة الصحابة: 2/ 381. (¬1) محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، له ص 2، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم =

ولا يزال إلى اليوم، ولن يزال قائمًا ما دام الناس هم الناس بطبائعهم وأفكارهم وتقلبهم ومعايشهم وتعليمهم وتربيتهم وبيئتهم وأعرافهم (¬1). فالاختلاف واقع في التفكير والعقل والحواس والملكات، وبالتالي فلا بد أن تختلف الآراء والاجتهادات في المسألة الواحدة، وهذا الخلاف لا يحتاج إلى استدلال ولا براهين، ولا ينكره إلا من ينكر الشمس الطالعة، وهذا من دلائل عظمة الله تعالى القائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)} [الروم: 22]. ولكن الذي يستدعي الانتباه فيه أمران: أ- أن هذا الاختلاف في التكوين اعترفت به الشريعة التي جاءت متفقة مع الفطرة والواقع والعقل، بل اعتبرت الاختلاف في ذلك رحمة بالأمة. ب- ونتج عن الأمر الأول أن الإسلام قدر قيمة العقل والفكر، وأطلق عنانه من قيود التبعية والتقليد، ومنحه القدرة على رفض الذيلية والخضوع لطبقة معينة تسمى رجال الدين أو رجال السياسة أو ... ولم توجب الشريعة إلزام المسلم برأي معين إلا ما أوجبه الله تعالى. 2 - الاختلاف في اللغة، وذلك أن علماء اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم مختلفون في أمور كثيرة تتعلق بوضع اللفظ الدال على المعنى، وبمعنى الألفاظ ودلالتها، وفي الأسلوب والصيغ وغير ذلك، وظهر عندهم الحقيقة والمجاز، والعام والخاص والمشترك والمترادف وغير ذلك، مما أكسب اللغة اتساعًا، فاختارها الله لرسالته، وظهر فيها ¬

_ = لابن تيمية ص 35 وما بعدها، الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف، للحافظ ابن عبد البر (الرسائل المنيرية: 2/ 153 - 194). (¬1) المرجع السابق: ص 8.

إعجاز القرآن الكريم، وكان الاختلاف الواقع في اللغة مؤديًا إلى الاختلاف في فهم النص ودلالته، وإلى الاختلاف في استنباط الحكم الشرعي منه، مثل لفظ: النكاح والقرء واليد واللمس والنبيذ وحروف الجر والعطف، وقد وضع علماء الأصول بعض المبادئ اللغوية التي تطبق على فهم النصوص، ودخلت هذه المبادئ في قواعد علم أصول الفقه (¬1). 3 - اختلاف البيئات والعصور والمصالح، وذلك أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن المصالح الثابتة والمقاصد الشرعية الرئيسية لا اختلاف فيها ولا نزاع، وأما الأحكام الجزئية والتفصيلية فقد تحقق المصلحة في مكان دون مكان، وقد تلبي حاجات الناس في زمان دون زمان، فلو كانت الأحكام التفصيلية الفرعية واحدة لأدى ذلك إلى الحرج، وانتفت مصالح الناس، وتوقفت أعمالهم، ولحقهم الضجر الذي يدفعهم إلى التحايل والتهرب من التشريع بشتى الوسائل، فالبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت في الحجاز تختلف تمامًا عنها في العراق أو الشام أو مصر، وما ألفه الناس من عادات وتقاليد وأعراف صحيحة في صدر الإسلام يستغربها المسلم في العصور الأخيرة، وإن بعض الأحكام والشروط التي نص عليها الأئمة في القرون الأولى لتحقيق المساواة والعدالة بين أطراف العقد تعتبر عبئًا عليهم اليوم بدون هدف ولا غاية ولا فائدة. ¬

_ (¬1) الفقه المقارن، الزفزاف: ص 41، 56، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء ص 131، أصول الفقه، خلاف: ص 329، أبحاث في علم أصول الفقه: ص 15، 18، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء: ص 68، الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف: ص 32 وما بعدها، ص 69 وما بعدها، ص 159، الاعتصام، الشاطبي: 2 ص 165، فقه الكتاب والسنة في القصاص، المرحوم محمود شلتوت: ص 48.

كل هذه الأسباب دعت الأئمة إلى الاختلاف في الأحكام الفرعية حسب البيئات والعصور والمصالح، وكان الإمام الواحد إذا تغيرت هذه الظروف لم يبق شامخ الرأس، متحجر العقل، متغطرس التفكير، بل كان واقعيًا وحساسًا لهذه الأمور فيرعاها ويغير من اجتهاده على مقتضاها، كما حصل مع الإمام الشافعي، وكما حدث مع الصاحبين بعد وفاة الإمام أبي حنيفة، وكما نرى في كثير من الأحكام المختلف فيها بين المتأخرين والمتقدمين في المذهب الواحد، ويقولون: "إنه اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان" ووضعوا القاعدة الفقهية: "لا ينكر تغير الأحكام لتغير الأزمان" لتأكيد صلاحية الشريعة في كل زمان ومكان، وأنها خالدة وحجة على المؤمنين بها والحاقدين عليها على حد سواء (¬1). 4 - الاختلاف في فهم المراد من النص عندما تكون دلالة النصوص ليست قطعية، ويكون المعنى خافيًا، أو محتملًا للتأويل، أو قابلًا للنسخ، وظهر هذا السبب منذ عصر الصحابة الذين اختلفوا في فهم النص القرآني، ثم جاء علماء التفسير وحاولوا بيان معنى الآيات فاختلفوا في ذلك، كالاختلاف في القراءات، والقراءة الشاذة، وألفاظ القرآن المشتركة، والعام الذي يدخله التخصيص، والمطلق الذي يلحقه التقييد، كما اختلف علماء الحديث في فهم المراد من الحديث عند غموض النص، أو احتمال تأويله، أو تعارضه مع نص آخر، كما اختلفوا في المراد من السنة الفعلية ودلالتها على الأحكام، كالاختلاف في حكم طواف القدوم، وحكم الأفعال الجبلية التي صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الاختلاف في فهم المراد من النص مؤديًا إلى الاختلاف في الأحكام بين الفقهاء (¬2). ¬

_ (¬1) محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، الخفيف: ص 195 وما بعدها. (¬2) الفقه المقارن، الزفزاف؛ ص 10، 11، 15، محاضرات في أسباب اختلاف =

القسم الثاني

القسم الثاني: أسباب الاختلاف التي ترجع مباشرة إلى علم أصول الفقه: 1 - الاختلاف في حجية بعض مصادر التشريع، إما من حيث ثبوتها، كالسنة غير المتواترة، وإما من حيث كونها مصدرًا تشريعيًّا عند عدم وجود النص. فقد اتفق الأئمة على حجية القرآن والسنة، وكاد الأمر أن يكون كذلك في الإجماع والقياس، ثم نشأ الخلاف في حجية بقية مصادر التشريع، وسوف يضع القارئ يده على هذا الاختلاف وحقيقته عند دراسة كل مصدر منها، وكان الاختلاف في حجية المصدر من جهة، ثم في فروعه وقواعده من جهة أخرى، كالاختلاف في أنواع الإجماع، والاختلاف في علة القياس ..... وهكذا (¬1). 2 - الاختلاف في علوم الحديث الذي ظهر في زمن الصحابة، وتفاقم واشتد في عهد التابعين ومن بعدهم، وتكرس في قواعد ومبادئ في علم الأصول، وقد اتفق المسلمون على أن السنة حجة، ¬

_ = الفقهاء: ص 103، 147، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية: ص 38، 60، الرسالة: ص 560، مقدمة في أصول التفسير، ابن تيمية، تحقيق الزميل الدكتور عدنان زرزور: 79، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 116 وما بعدها، المختارات الفتحية، أحمد أبو الفتح: ص 77، وانظر تفصيل هذا الموضوع بشكل وافٍ وكامل في رسالة الدكتور محمد أديب صالح، تفسير النصوص: ص 81 وما بعدها، الإنصاف، ابن السيد البطليوسي: ص 211. (¬1) انظر: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، الدهلوي: ص 15، الفقه المقارن، الزفزاف: ص 12 وما بعدها، الإحكام، الآمدي: 2 ص 93، محاضرات في أسباب الاختلاف، الخفيف: ص 180، المدخل إلى علم أصول الفقه: ص 111، الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف، ابن السيد البطليوسي: ص 171 وما بعدها.

وأن الحجة فيما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشكل صحيح، ومع ذلك ظهر الاختلاف في عدة حالات أهمها: أ - عدم العلم بالحديث من الصحابي أو من غيره، لعدم الإحاطة بالسُّنة، فيقضي العالم بظاهر آية، أو بحديث آخر، أو يجتهد رأيه، فأبو بكر لم يعلم بحديث ميراث الجدة (¬1)، وعمر لم يبلغه حديث الاستئذان، وحديث إرث المرأة من دية زوجها، وحديث الجزية على المجوس، وعثمان لم تبلغه السُّنَّة في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيت الزوجية، وعليّ لم يعلم بصلاة التوبة (¬2)، ولا بعدة الحامل المتوفى عنها زوجها، وغير ذلك من الأحاديث التي لم تصل إلى الخلفاء الراشدين بينما علمها غيرهم، وهكذا الأمر في بقية الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ب - عدم ثبوت الحديث عند الصحابي بعد علمه به لعدم ثقته بالراوي، بينما ثبت عند غيره، وبرز هذا الاختلاف في عهد التابعين ومن بعدهم، لكون أحد رجال السند مجهولًا أو متهمًا أو سيئ الحفظ، أو كان السند منقطعًا أو مضطربًا وغير ذلك من علل الحديث، بينما ثبت الحديث عند آخر صحيحًا متصلًا مقبولًا، وترتب على ذلك اختلاف في الأحكام. ج- الاعتقاد بضعف الحديث لمعرفة خاصة بأحد رجال السند، فيَرُدُّ حديثه، في حين يخفى الأمر على آخر، فيقبله، أو عرف كل منهما ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ 1/ 2. (¬2) عن علي رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله تعالى إلا غفر له" ثم قرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} .. إلى آخرها، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب.

سبب الجرح فاعتقد أحدهما أنه علة تؤثر في الراوي، واعتقد الآخر أنه لا يجرحه ولا يؤثر فيه، أو لاختلاف حالة الشخص الواحد من ضبط إلى اضطراب، ومن حفظ إلى نسيان، وهذا معروف في مصطلح الحديث، فالاختلاف في قواعد المصطلح يؤدي إلى الاختلاف في الحكم على الحديث صحة وضعفًا، وقبولًا ورفضًا، وانتقل إلى علم الأصول، فاختلفوا في أنواع الحديث المتواتر والمشهور والآحاد، وحجية كل منها، وخاصة في حديث الآحاد إذا خالف القياس، أو كان فيما تعم به البلوى، كما اختلفوا في أنواع أخرى من الأحاديث كالحديث المرسل، والعمل بالحديث الضعيف. د - وضع الشروط لقبول خبر الآحاد، وسوف نفصل الاختلاف في حجية خبر الآحاد والاختلاف في شروطه في مبحث السنة إن شاء الله تعالى (¬1). هـ - نسيان الحديث، لأن السُّنة لم تكن مدوَّنة، وكان الاعتماد فيها على الحفظ، والإنسان قد ينسى، فقد نسي عمر بن الخطاب حديث التيمم من الجنابة عند عدم الماء، فذكَّره به عمار، والأمثلة على ذلك كثيرة، وهذا يؤدي إلى الاختلاف في الحكم، ثم تكرس هذا الخلاف فيما بعد (¬2). 3 - الاختلاف في القواعد والمبادئ الأصولية، اختلف علماء ¬

_ (¬1) المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول من هذا الكتاب. (¬2) انظر تفصيل هذا الموضوع مع الأمثلة في رفع الملام، ابن تيمية: ص 4 وما بعدها، الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: ص 16 وما بعدها، الفقه المقارن، الزفزاف: ص 16، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء ص 24، الفقه المقارن، حسن الخطيب: ص 21، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، الدكتور مصطفى الخن: ص 42، الأحكام في أصول الأحكام، ابن حزم: 2 ص 238، حجة الله البالغة: 1 ص 313.

الأصول في القواعد والضوابط التي وضعوها في علم الأصول، ونتج عن هذا الاختلاف في القواعد اختلاف بين الفقهاء في الفروع الفقهية، والأحكام التفصيلية (¬1)، ونذكر بعض الأمثلة: أ- الاختلاف في القواعد الأصولية في دلالة الألفاظ على الأحكام، فقال الجمهور: إن دلالة اللفظ تكون بالمنطوق والمفهوم، وقال الحنفية: إن دلالة اللفظ تكون إما بالعبارة أو الإشارة أو النص أو الاقتضاء، واختلفوا اختلافًا واسعًا في المفهوم، ونتج عن ذلك اختلاف في الفروع. ب- الاختلاف في القواعد الأصولية في شمول الألفاظ وعدمها، كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، والزيادة على النص، وهذا الاختلاف نشأ عن الاختلاف في اللغة، والاختلاف في معرفة المراد من النص، وترتب عليه الاختلاف بين الفقهاء. ج- دلالة الأمر والنهي، ودلالة العام القطعية والظنية، مثلًا: هل الأمر يفيد الوجوب أم الإباحة؟ وهل النهي يفيد التحريم أم الكراهة، وهل دلالة العام قطعية أم ظنية ... ؟ د- قواعد التعارض والترجيح، سواء كان التعارض بين نصين في القرآن الكريم، أو بين نصين في الحديث، أو بين آية وحديث، أو كان التعارض بين قاعدتين في الترجيح، وقد اختلف العلماء في هذه القواعد، ونتج عنها اختلاف في الأحكام. ¬

_ (¬1) لخص ابن رشد هذه الأسباب فقال: (إن أسباب الاختلاف ستة، أحدها: تردد الألفاظ بين أن يكون اللفظ عامًّا ... ، وثانيًا: الاشتراك .. ، والثالث: اختلاف الأعراب، والرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو المجاز .. ، والخامس: عدّه اللفظ مطلقًا .. ، والسادس: التعارض بين القياسات أو الإقرارت ... " بداية المجتهد، له 1/ 6.

الاختلاف في القراءة الشاذة

هـ- الاختلاف في قواعد تخصيص العام، وقواعد تقييد المطلق، وقواعد النسخ، وغير ذلك من المباحث التي تتعلق بالكتاب والسنة مما سيطلع عليه القارئ فيما بعد، فيرى هذه القواعد، وأثر الاختلاف فيها على اختلاف الفقهاء (¬1). وأكتفي بهذا العرض الموجز لأضرب مثالين للتطبيق، أحدهما من القرآن، والآخر من السنة، ليكونا صلة الوصل بين هذا الباب التمهيدي وبين الباب الأول في بحث المصدرين الرئيسيين وهما الكتاب والسنة. الاختلاف في القراءة الشاذة: القرآن الكريم منقول إلينا بالتواتر، كما سيأتي تفصيله في البحث التالي، أما ما نقل بغير المتواتر فلا يعتبر قرآنًا، ولا تصح به الصلاة، ولا يتعبد بتلاوته، ويعرف بالقراءة الشاذة أو المشهورة، كما ورد في مصحف ابن مسعود في كفارة اليمين: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، بزيادة لفظ "متتابعات" ومثل قراءة ابن مسعود في آية السرقة "فاقطعوا أيمانهما" بدلًا من {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقراءة أبيّ "فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ متتابعات" [البقرة: 184]، بزيادة كلمة "متتابعات". ¬

_ (¬1) ألف الأستاذ الفاضل الدكتور مصطفى الخن رسالة دكتوراه في هذا الموضوع بعنوان: "أثر اختلاف القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء" فأبلى فيها بلاء حسنًا، وأجاد فيما كتب، فجزاه الله خير الجزاء، وانظر رفع الملام عن الأئمة الأعلام: ص 25، الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: ص 8، الفقه المقارن، الزفزاف: ص 44 وما بعدها، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، الخفيف: ص 110، تنقيح الفصول، القرافي: ص 127، الفقه المقارن، حسن الخطيب: 17، تفسير النصوص: ص 339 وما بعدها، الميزان الكبرى، للشعراني، الموافقات، الشاطبي: 4 ص 138، الاعتصام، الشاطبي: 2 ص 165، فقه الكتاب والسنة، شلتوت: ص 61، الإسلام عقيدة وشريعة: ص 434.

اختلف العلماء في حجية القراءة الشاذة على قولين: القول الأول: أن هذه القراءة حجة يجب العمل بها، وهو رأي الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد، لأن هذه القراءة لا بد أن تكون مسموعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكون سنة بيانية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والسنة يجب الاعتماد عليها، وإلا فلا يجوز للصحابي أن ينقلها، ولا يحتمل أن تكون مذهبًا للصحابي، لأن الصحابي نقلها وكتبها في القرآن، ولو كانت مذهبًا له كان عمله افتراء وكذبًا منه، مع أن الصحابة عدول لا يكذبون في القرآن، ولا في الحديث، ولا في غيرهما. القول الثاني: أن القراءة الشاذة ليست حجة ولا يعتمد عليها، وهي رأي أكثر الشافعية المالكية ورواية عن أحمد، لأنها ليست قرآنًا باتفاق، وأن الصحابي لم يصرح بأنها سنة، فتكون تفسيرًا واجتهادًا من الصحابي، فلا يُلزم الاحتجاج بها. وترتب على هذا الاختلاف اختلاف الأئمة في أحكام فقهية كثيرة، منها: الاختلاف في وجوب التتابع في صيام الكفارة أو عدم وجوبه. فذهب الحنفية والحنابلة في ظاهر المذهب إلى اشتراط التتابع في كفارة اليمين، فلو صام متفرقًا لم يصح، واحتجوا بقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقالوا: إن هذه القراءة تنزل منزلة الحديث الصحيح، وبما أنها مشهورة عن ابن مسعود فيمكن الزيادة بها على النص. وقال الشافعية والمالكية -وأحمد في رواية- بعدم اشتراط التتابع في كفارة اليمين، والمكلف حر ومخير بين الصيام المتتابع أو المتفرق، وإن قراءة ابن مسعود ليست حجة، ولا يلزم العمل بها، وتُحمل على معرض البيان منه (¬1). ¬

_ (¬1) أصول السرخسي: 1 ص 281، المستصفى: 1 ص 102، فواتح الرحموت: =

الاختلاف في الحديث المرسل

الاختلاف في الحديث المرسل: اختلف علماء الأصول في حجية الحديث المرسل، ونتج عن ذلك اختلافهم في الأحكام الفقهية التي تؤخذ منه، كما اختلف علماء الحديث وعلماء الأصول في تعريفه. فعرفه علماء الحديث بأنه: ما يقوله التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دون أن يذكر الصحابي الذي نقل عنه، وسمي مرسلًا لأنه أرسل الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يذكر من سمعه منه (¬1). وعرفه علماء الأصول بأن يقول الراوي الذي لم يلق رسول الله، سواء كان تابعيًّا أم غيره: قال رسول الله كذا (¬2). والمرسل عند علماء الأصول يشمل المرسل عند علماء الحديث ويشمل غيره، وقد اختلف الأئمة في الاحتجاج بالحديث المرسل عند المحدثين على قولين: القول الأول: أن الحديث المرسل حجة، وهو قول الحنفية والمالكية ورواية عن أحمد، وأخذ به الآمدي الشافعي، وقد يرجح الحنفية أحيانًا الحديث المرسل على المسند عند التعارض (¬3)، واحتجوا بأن كثيرًا من صغار الصحابة نقلوا أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ = 2 ص 16، روضة الناظر وجنة المناظر، لموفق الدين عبد الله بن قدامة: ص 34، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 177، أثر اختلاف القواعد الأصولية: ص 388، الوسيط في أصول الفقه: ص 21، أصول الفقه، شعبان: ص 37، أصول الفقه، البرديسي: ص 184، القواعد والفوائد الأصولية، ابن اللحام الحنبلي: ص 155، البرهان: 1/ 666. (¬1) أصول الحديث، للدكتور محمد عجاج خطيب: ص 334. (¬2) الإحكام، للآمدي: 2 ص 112. (¬3) يقولون: من أرسل لك فقد كفاك، ومن أسند لك فقد أحالك.

ولم يسمعوها منه، ولم ينكر عليهم أحد. ويرد على هذا الدليل أن قياس الحديث المرسل من التابعين ومن بعدهم على مرسل الصحابة قياس مع الفارق؛ لأن مرسل الصحابي مقبول باتفاق العلماء ما عدا الظاهرية لأن الصحابة عدول باتفاق، وأن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي. واحتجوا أيضًا بأن أكثر التابعين كانوا يرسلون الأحاديث عن رسول الله، دون أن ينكر عليهم الصحابة والتابعون، وأن التابعين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية. واحتجوا بأن العدل الضابط الثقة في الحديث لا يرسل الحديث إلا إذا علم، أو غلب على ظنه، أنه صحيح عن رسول الله، فالراوي جازم بنسبة الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). القول الثاني: أن الحديث المرسل ليس حجة، إلا إذا تقوى من طريق آخر، وهو رأي الإمام الشافعي، لأن الإمام الشافعي عند جمعه طرق الحديث ظهر له أنه كم من مرسل لا أصل له، وكم من مرسل يخالف الحديث المسند، ولأن العدالة شرط في صحة الخبر، وعندما ترك الراوي تسمية من حدثه به، فيجوز أن يكون المجهول عدلًا، ويحتمل أن يكون ليس بعدل، فلا يقبل خبره حتى يعلم المجهول. والحديث المرسل يتقوى بأحد الأمور التالية: 1 - أن يؤيده حديث مسند. ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 2 ص 113، تيسير التحرير: 3 ص 102، فواتح الرحموت: 2 ص 174، تنقيح الفصول، القرافي: ص 119، روضة الناظر: ص 64، المستصفى: 1 ص 169، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية: ص 396 وما بعدها، الفقه المقارن، الزفزاف: ص 34، أصول الفقه، الخضري: 256.

2 - أن يوافقه حديث مرسل من طريق آخر. 3 - أن يعضده قول صحابي. 4 - أن يتفق مع قول أكثر أهل العلم بأن يفتوا بمعناه. 5 - أن يكون المرسِل من كبار التابعين الذين لا يَروون إلا عن ثقة، أو عند صحة السند، مثل مراسيل سعيد بن المسيب والزهري اللذين تتبع الإمام الشافعي أحاديثهما المرسلة، فوجدها كلها صحيحة ومسندة من طرق أخرى (¬1). وترتب على هذا الاختلاف اختلاف الفقهاء في عدة أحكام وردت في الأحاديث المرسلة، فردها الشافعية، وعمل بها الجمهور، إن لم تتعارض مع دليل آخر عندهم، منها: 1 - الاختلاف في الحد الأعلى للتعزير بالضرب. 2 - الاختلاف في تحريم الزواج بسبب الزنا (¬2). 3 - الاختلاف في انتفاع المرتهن بالرهن. 4 - الاختلاف في نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة (¬3)، فأمر من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة. 5 - الاختلاف في وجوب قضاء صوم التطوع إذا أفسده بعد الشروع فيه لحديث "اقضيا يومًا مكانه" .. 6 - الاختلاف في نقض الوضوء بلمس المرأة، للحديث المرسل ¬

_ (¬1) الرسالة، للإمام الشافعي: ص 462 - 463، المستصفى: 1 ص 169، محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء: ص 97، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية: ص 396، هامش 3، اللمع، للشيرازي: ص 44. (¬2) الأم للشافعي 5/ 27 ط دار الفكر. (¬3) رواه الدارقطني (1/ 171).

ثالثا: صلة أسباب الاختلاف بعلم الأصول

"كان يقبل أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ" (¬1). وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي اختلف فيها الفقهاء بسبب اختلافهم في حجية الحديث المرسل وليس بسبب آخر. ثالثًا: صلة أسباب الاختلاف بعلم الأصول: الواقع أن علم الأصول ساهم مساهمة بناءة في القضاء على أسباب الاختلاف الباطلة التي لا تقوم على أساس، ولا تنسجم مع هدف المشرع، أو مقاصد الشريعة، ولا توافق الإيمان بأصول الدين وأركانه، ولذا فقد وفع علم الأصول حدًّا للترهات، وكان سلاحًا في وجه من تسول له نفسه الولوج إلى شريعة الله ليحرف فيها، أو يغير في أصولها، أو يدس فيها ما ليس منها، أو يحاول هدم وبذر الشقاق والخلاف الشخصي فيها (¬2)، وكان علم أصول الفقه حجر عثرة في وجه الطامعين في الإساءة إلى كتاب الله وسنة نبيه، فكانت قواعد الأصول وضوابطه ميزانًا لسبر الأحكام والآراء والاختلافات، بل كانت مساعدًا للحكم على الرجال والعاملين في هذا المضمار، لتمييز الخبيث من الطيب، والغث من الثمين، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]. ونضرب مثالًا لذلك أنه ظهر في القرن الثاني بدعة خطيرة، وملة ضالة، أرادت تقويض دعائم الإسلام بهدم أحد ركنيه وهو السنة، فأنكرت حجيتها، وحاولت تغطية مآربها الخبيثة بحجة الاكتفاء بالقرآن الكريم الذي أكمله الله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، {مَّا مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فوضع الإمام الشافعي "الرسالة" وغيرها من كتب ¬

_ (¬1) انظر تفصيل هذه المسائل في المراجع السابقة، في الصفحة السابقة. (¬2) انظر كتاب الاعتصام، للإمام الشاطبي: 2 ص 166 وما بعدها.

الأصول وأفاض في الكلام عن حجية السنة ومكانتها في التشريع، ورد الشبه والأوهام والأباطيل التي أثارها منكرو السنة، فتأكد هذا الأصل، واتفق المسلمون على حجية السنة، ولم يجرؤ أحد على إنكارها، أو الحياد عنها (¬1)، وانقرضت تلك الفئة الباغية دون أن تترك أثرًا في التاريخ الذي لم يحفظ لنا اسمها واسم الداعين إليها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن علم أصول الفقه جعل الاختلاف بين الفقهاء منضبطًا، فنظم هذا الاختلاف وحدد قواعده، وكان حَكَمًا على الفقهاء في اختلافهم، وهو دليل على أن الاختلاف بين الأئمة والفقهاء مبني على اختلافهم في المبادئ والأصول التي قامت عليها أحكام المذاهب، وليس بسبب التعصب الباطل والتقليد الأعمى، وإن كل باب من أبواب الأصول يعطي الدليل على ذلك، سواء في مصادر التشريع، أم في فهم النصوص وتفسيرها في القرآن والسنة، أم في تعارض الأدلة، مما يؤكد صدق النوايا، والإخلاص لله في العمل، والتوجه إلى مرضاته في الاستدلال والاستنباط والاجتهاد. ونختم الكلام عن أسباب الاختلاف بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فيقول: "وبعد: فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فعلماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون ما مات من سنته، بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الرسالة: ص 443، 756. (¬2) رفع الملام عن الأئمة الأعلام، له: ص 3.

فالاختلاف في الفروع لا يضر في الأمة، ولا يفرق شملها، ولا يشتت قوتها، وإنما الخطر كل الخطر في الاختلاف في العقيدة وأصول الشريعة، وهذا لم يحصل، والحمد لله، وإذا رأينا تعصبًا مقيتًا، أو شقاقًا مفرقًا، فإن الأئمة بريئون منه براءة الذئب من دم يوسف، وإن السبب يرجع إلى الجهل بالشريعة أولًا، وبسيرة الأئمة وآرائهم ثانيًا، وإلى اليد العاتية الدخيلة التي تريد تمزيق الأمة ثالثًا. نرجو الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، وأن يلهمنا السداد في القول والعمل.

الفصل الخامس في مقاصد الشريعة

الفصل الخامس في مقاصد الشريعة نتناول دراسة مقاصد الشريعة إجمالًا بحسب المخطط التالي: 1 - تعريف المقاصد. 2 - تحديد مقاصد الشريعة بتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة. 3 - فائدة دراستها ومعرفتها. 4 - أقسام المصالح بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة. 5 - وسائل تحقيق المقاصد بالتشريع. 6 - ترتيب الأحكام بحسب المقاصد، ومعرفة الراجح منها عند التعارض. أولًا: تعريف المقاصد: المقاصد لغة: جمع مقصد من قصد الشيء، وقصد له وقصد إليه قصدًا من باب ضرب، بمعنى طلبه وأتى إليه واكتنزه وأثبته، والقصد هو طلب الشيء أو إثبات الشيء، أو الاكتناز في الشيء أو العدل فيه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر القاموس المحيط: 1 ص 327 ومعجم مقاييس اللغة: 5 ص 95، المصباح المنير 2 ص 691، مختار الصحاح: ص 536، تهذيب الأسماء واللغات: 2 ص 93.

ثانيا: تحديد مقاصد الشريعة

ومقاصد الشريعة في اصطلاح العلماء هي الغايات والأهداف والنتائج والمعاني التي أتت بها الشريعة، وأثبتتها في الأحكام، وسعت إلى تحقيقها وإيجادها والوصول إليها في كل زمان ومكان (¬1). ثانيًا: تحديد مقاصد الشريعة: إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على أحسن تقويم، وكرم بني آدم غاية التكريم، وفضلهم على سائر المخلوقات، وسخر لهم ما في الأرض جميعًا وما في السماوات، وجعلهم خلفاءه في الأرض. وفوق كل ذلك فإن الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم يتركه سدى، وإنما أرسل له الرسل والأنبياء، وأنزل عليه الكتب والشرائع، إلى أن ختم الله الرسل والأنبياء بسيدنا محمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام، وختم الكتب والشرائع بالقرآن العظيم وشريعة الإِسلام. وتهدف هذه الشريعة إلى تحقيق السعادة للإنسان في هذه الدنيا لتحقيق خلافة الله في أرضه، فجاءت الشريعة لتحقيق مصالح الإنسان، وهي جلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فترشده إلى الخير، وتهديه سواء السبيل، وتدله على البر، وتأخذ بيده إلى الهدي القويم، وتكشف له المصالح الحقيقية، ثم وضعت له الأحكام الشرعية لتكون له هاديًا ودليلًا لتحقيق هذه المقاصد والغايات، وأنزلت عليه الأصول والفروع لإيجاد هذه الأهداف، ثم لحفظها وصيانتها وتأمينها وعدم الاعتداء عليها. وحدد العلماء مقاصد الشريعة بأنها تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة (¬2)، في العاجل والآجل، ومصالح الناس في الدنيا: هي كل ما ¬

_ (¬1) انظر مقاصد الشريعة الإِسلامية: ص 13، الأصول العامة لوحدة الدين الحق: ص 61. (¬2) قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: "اعلم أن الله سبحانه لم يشرع حكمًا من أحكامه إلا لمصلحة عاجلة أو آجلة أو عاجلة وآجلة تفضلًا منه على عباده" ثم =

فيه نفعهم وفائدتهم وصلاحهم وسعادتهم وراحتهم، وكل ما يساعدهم على تجنب الأذى والضرر ودفع الفساد، إن عاجلًا أو آجلًا، ومصالح الناس في الآخرة هي الفوز برضاء الله تعالى في الجنة، والنجاة من عذابه وغضبه في النار. وقد وردت الأحكام الشرعية لجلب المصالح للناس، ودفع المفاسد عنهم، وأن كل حكم شرعي إنما نزل لتأمين أحد المصالح، أو دفع أحد المفاسد، أو لتحقيق الأمرين معًا، وأنه ما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وقد رعاها المشرع، وأوجد لها الأحكام التي تكفل إيجادها والحفاظ عليها، وإن المشرع الحكيم لم يترك مفسدة في الدنيا والآخرة، في العاجل والآجل، إلا بينها للناس وحذرهم منها، وأرشدهم إلى اجتنابها والبعد عنها (¬1). والدليل على ذلك الاستقراء الكامل للنصوص الشرعية من جهة، ولمصالح الناس من جهة ثانية، وأن الله تعالى لا يفعل الأشياء عبثًا في الخلق والإيجاد والتهذيب والتشريع، وأن النصوص الشرعية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات المالية والعقوبات وغيرها جاءت معللة بأنها لتحقيق المصالح ودفع ................................... ¬

_ = يقول: "وليس من آثار اللطف والرحمة واليسر والحكمة أن يكلف عباده المشاق بغير فائدة عاجلة ولا آجلة، لكنه دعاهم إلى ما يقربهم إليه"، شجرة المعارف والأحوال، له: ص 401، وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جاءت هذه الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها" الفتاوى: 20/ 48، 234، السياسة الشرعية، له: ص 47، وقال الشاطبي رحمه الله: "إن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد" الموافقات، له 1/ 195. (¬1) انظر بيان ذلك بإسهاب وتفصيل في (ضوابط المصلحة في الشريعة الإِسلامية، للدكتور محمَّد سعيد رمضان البوطي: ص 45 وما بعدها، 73) وقال القرافي: "الشرائع مبنية على المصالح" شرح تنقيح الأصول: ص 427.

المفاسد (¬1). فالعقيدة بمختلف أصولها وفروعها إنما جاءت لرعاية مصالح الإنسان في هدايته إلى الدِّين الحق، والإيمان الصحيح، مع تكريمه والسمو به عن مزالق الضلال والانحراف، وإنقاذه من العقائد الباطلة والأهواء المختلفة والشهوات الحيوانية، فجاءت أحكام العقيدة لترسيخ الإيمان بالله تعالى واجتناب الطاغوت، ليسمو الإنسان بعقيدته وإيمانه، وينجو من الوقوع في شرك الوثنية، وتأليه المخلوقات من بقر وقرود، وشمس وقمر، ونجوم وشياطين، وغير ذلك. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17، 18]. وقال تعالى مبينًا الحكمة والفاية من خلق الإنسان: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ ¬

_ (¬1) اختلف علماء الأصول في اعتبار الأحكام معللة أم لا، على قولين، فذهب الجمهور إلى أن جميع الأحكام الشرعية معللة بمصالح العباد، ولكن معظمها معلل بعلة ظاهرة، وبعضها معلل بعلة غير ظاهرة، وهي التي يسمونها "الأحكام التعبدية" أي الأحكام التي تعبدنا الله تعالى بها, لتنفيذها وإرضاء الله تعالى بها, ولو لم نعرف لها علة وحكمًا وسببًا، كاوقات الصلاة، وأعداد الركعات، ونصاب الزكاة، وقال بعض العلماء: إن الأحكام الشرعية كلها غير معللة، قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: "لأهل السنة في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه قولان، والأكثرون على التعليل" (منهاج السنة النبوية: 2 ص 239 مط المدني) وانظر تحقيق هذا الموضوع مع مراجعه وأدلته في "شرح الكوكب المنير: 1 ص 312 وما بعدها، الموافقات: 2 ص 3، الأحكام، للآمدي: 2 ص 252، 271، مقاصد الشريعة الإِسلامية: ص 13 و 20، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2 ص 5، 71، ضوابط المصلحة: ص 73 وما بعدها، ص 88).

أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56، 57] والعبادة هنا بمعناها العام الشامل لكل عمل قصد به وجه الله تعالى. وبين تعالى أن الحكمة والغاية والهدف من ابتعاث الرسل هي تحقيق هذه المصلحة الكبرى للإنسان في عبادة الله واجتناب الطاغوت في الدنيا، والفوز برضاء الله في الجنة، وأن لا يبقى للإنسان حجة على الله تعالى بكفره وضلاله وانحرافه، قالِ تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. وصرح القرآن الكريم بالحكمة والمصلحة في بعثة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - خاصة فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107] , والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة وصريحة. وبين تعالى أن الغاية والهدف من إنزال الكتب هي تحقيق مصالح الناس، بتحقيق السعادة لهم في الدنيا، والفوز والنجاة بالآخرة لإخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1]. وجمع الله تعالى في آية واحدة الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، ليقوم الناس بالقسط والعدل والاستقامة، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ثم بين الله تعالى وظيفة القرآن بشكل عام وشامل، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} [الإسراء: 9، 10] وغير

ذلك من بقية فروع العقيدة. وفي مجال العبادات وردت نصوص كثيرة تبين أن الحكمة والغاية من العبادات إنما هي تحقيق مصلحة الإنسان، وأن الله تعالى غني عن العبادة والطاعة، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، فقال عَزَّ وَجَلَّ عن الهدف من العبادة عامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21] فالقصد من العبادة التزود بالتقوى للإنسان، وهو ما جاء مفصلًا في كل عبادة من العبادات، ففي الصوم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183] , وفي الحج قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة: 197] فالحج دورة تدريبية وتربوية للمسلم في التعود على الفضائل والأخلاق الكريمة، والبعد عن الفساد والرذائل، فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، وإنما يجب عليه التزود بالتقوى في مناسك الحج. وقال تعالى عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فالزكاة تزكية للمسلم وتطهير له، لتعود الفائدة الخالصة للمزكي. وقال تعالى عن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وأكد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا" (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن الله تعالى: "يا عبادي لو أن أولكم واخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ¬

_ (¬1) رواه الطبراني عن ابن عباس بإسناد ضعيف، ورواه علي بن معبد من حديث الحسن مرسلًا بإسناد صحيح (انظر فيض القدير: 6 ص 221).

وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئًا" (¬1). وفي المعاملات بيَّن الله تعالى الهدف منها، وأنها لتحقيق مصالح الناس بجلب المنافع لهم ودفع المفاسد والأضرار والمشاق عنهم، وإزالة الفساد والغش وغيره من معاملاتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} ثم قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} إلى قوله تعالى محددًا الهدف والغاية من ذلك: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] , وقال تعالى في النهي عن أكل المال بالباطل وأنه ظلم وإثم وطغيان ومفسدة: {ولَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} [البقرة: 188]. وبين تعالى الحكمة والهدف والمقصد من تحريم الخمر فقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]. وبين عَزَّ وَجَلَّ الحكمة والغاية من مشروعية القصاص وأنها لتأمين الحياة البشرية، وحفظ الأنفس والأرواح فقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179] , وأكد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "حَدٌّ يُعمل به في الأرض خيرٌ لأهلِ الأرْض من أن يُمْطَروا أربعين صباحًا" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم والحاكم وابن حبان وأبو عوانة عن أبي ذر مرفوعًا. (انظر الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية: ص 41). (¬2) رواه النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا. (انظر: سنن النسائي: 8 ص 68، سنن ابن ماجه: 2 ص 848).

ثالثا: الفائدة من معرفة مقاصد الشريعة

وبين تعالى أنه لا يهدف من التكليف الإرهاق، بل الهدف من الأحكامِ رفع الحرج والمشقة عن الناس، فقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] , وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] وقال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وهكذا يثبت قطعًا أن الله تعالى شرع الأحكام لمقاصد، وأن هذه المقاصد منها كلية، ومنها جزئية، وأن العلماء بينوا معرفة المقاصد الكلية والجزئية (¬1). ثالثًا: الفائدة من معرفة مقاصد الشريعة: إن معرفة مقاصد الشريعة لها أهمية عظيمة، وفوائد كثيرة بالنسبة للطالب والفقيه والعالم والمجتهد. أما فائدتها بالنسبة للطالب والباحث فتتحدد بما يلي: 1 - أن يعرف الطالب الإطار العام للشريعة، ويُكوِّن عند التصور الكامل للإسلام، ويحصل عنده الصورة الشاملة لتعاليمه، لتتكون لديه النظرة الكلية الإجمالية لأحكامه وفروعه، وبالتالي يدرك الطالب المكان ¬

_ (¬1) انظر الموافقات: 2 ص 289، مقاصد الشريعة الإِسلامية: ص 22، شرح الكوكب المنير: 1 ص 314. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها". (الفتاوى الكبرى: 20 ص 48، السياسة الشرعية: ص 47). وقال الإمام البيضاوي: "لكن نص في القياس على أن الاستقراء قال على أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل إلا لحكمة وإن كان على سبيل التفضل" (نهاية السول، شرح منهاج الأصول: 1 ص 150). وقال العلامة الشاطبي: "لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر، هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت من أجلها". (الموافقات: 2 ص 283). وانظر: قواعد الأحكام: 1 ص 5 , 10.

الطبيعي لكل مقرر دراسي، ومادة علمية، ويعرف موقعها الحقيقي في ذلك، ومن ثم تتحدد لديه بشكل عام ما يدخل في الشريعة وما يخرج منها، فكل ما يحقق مصالح الناس في العاجل والآجل، في الدنيا والآخرة فهو من الشريعة، ومطلوب من المسلم، وكل ما يؤدي إلى الفساد والضرر، والاضطراب والمشقة فهو ليس من الشريعة، بل هو منهي عنه، وهذا يساعده على وضع اللبنات في أماكنها، ويقيم المواد على قواعدها (¬1). 2 - إن دراسة مقاصد الشريعة تبين للطالب الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة في الأحكام، وتوضح للطالب الغايات الجليلة التي جاءت بها الرسل، وأنزلت لها الكتب، فيزداد إيمانًا إلى إيمانه، وقناعة في وجدانه، ومحبة لشريعته، وتمسكًا بدينه، وثباتًا على صراطه المستقيم، فيفتخر بدينه ويعتز بإسلامه، وخاصة إذا قارن ذلك مع بقية التشريعات والأنظمة الوضعية. 3 - إن مقاصد الشريعة تعين الطالب في الدراسة المقارنة على ترجيح القول الذي يحقق مقاصد الشريعة، ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد، وخاصة في قضاء المظالم والسياسة الشرعية فيما لا نص فيه. 4 - إن بيان مقاصد الشريعة يبرز للطالب الهدف الذي سيدعو الناس إليه بعد التخرج، وأن دعوته ترمي إلى تحقيق مصالح الناس ودفع ¬

_ (¬1) يقول العلامة ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وان أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل اللهِ بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها"، (أعلام الموقعين: 3 ص 5 تحقيق الوكيل).

المفاسد عنهم، وأنها ترشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق لهم السعادة في الدنيا، والفوز برضوان الله في الآخرة، وأن مهمة الأنبياء والرسل كانت تهدف إلى تحقيق هذه المقاصد، والعلماء ورثة الأنبياء في الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، وتسعى للبر والفضيلة، وتحذر من الفساد والإثم والرذيلة والشر، ولذلك كانت وظائف الأنبياء أنبل الأعمال، وأشرف الأمور، وأسمى الغايات، وأقدس المهمات، ومن سار على طريقهم لحق بهم، ونال أجرهم. أما أهمية معرفة مقاصد الشريعة بالنسبة للعالم والفقيه والمجتهد (¬1) فتظهر في الفوائد التالية: 1 - الاستنارة بها في معرفة الأحكام الشرعية الكلية والجزئية من أدلتها الأصلية والفرعية المنصوص عليها. 2 - الاستعانة بمقاصد الشريعة في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع. 3 - الاسترشاد بمقاصد الشريعة عند تحديد مدلولات الألفاظ ومعانيها, لتعيين المعنى المقصود منها؛ لأن الألفاظ والعبارات قد تتعدد معانيها، وتختلف مدلولاتها -كما سبق بيانه في أسباب اختلاف الفقهاء- فتأتي المقاصد لتحديد المعنى المقصود منها. 4 - الرجوع إلى مقاصد الشريعة عند فقدان النص على المسائل والوقائع الجديدة، فيرجع المجتهد والفقيه والقاضي إلى مقاصد الشريعة لاستنباط الأحكام بالاجتهاد والقياس والاستحسان والاستصلاح وغيرها ¬

_ (¬1) يقول السبكي رحمه الله تعالى: "واعلم أن كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على ثلاثة أشياء. .. ، الثالث أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم بها مراد الشرع من ذلك" الإبهاج، له: 1/ 8.

بما يتفق مع روح الدين، ومقاصد الشريعة وأحكامها الأساسية. 5 - إن مقاصد الشريعة تعين المجتهد والقاضي والفقيه على الترجيح عند تعارض الأدلة، الكلية أو الجزئية في الفروع والأحكام، وكثيرًا ما يكون التعارض ظاهريًّا بين الأدلة، ويحتاج الباحث إلى معرفة السبل للتوفيق بينها، أو معرفة الوسائل للترجيح، وإن طرق الترجيح في الفقه وأصول الفقه كثيرة، ومنها الترجيح بمقاصد الشريعة. وهذه الفوائد تحتم على الباحث والعالم والفقيه والمجتهد أن يضع مقاصد الشريعة نصب عينيه لتضيء له الطريق، وتصحح له المسار، وتعينه على الوصول إلى الحق والعدل، والصواب والسداد. وقد لمس رجال التشريع هذه الأهمية والفوائد، ولجأت السلطات التشريعية في الدول المعاصرة إلى وضع المذكرات التفسيرية للقانون أو للنظام، لتبين للناس عامة المقصد الخاص لكل مادة، ليتمكن شراح القانون والقضاة والمحامون من حسن فهم القانون، وحسن تطبيقه وتنفيذه بما يتفق مع روح التشريع والقصد الذي وضع من أجله. كما تطلب معظم الأنظمة في العالم من القضاة أن يحكموا بمبادئ العدالة وبما يتفق مع المبادئ العامة عندما يفقدون النص في النظام على أمر ما. كما أن فقهاء الشريعة الإِسلامية اتفقوا على أن تصرفات الإِمام (الحاكم) منوطة بالمصلحة، أي إن جميع تصرفات الحكام مرتبطة بتحقيق مصالح الناس، فإن خرجت من المصلحة إلى المفسدة كانت باطلة، ويتعرض أصحابها إلى المسؤولية في الدنيا والآخرة (¬1). ¬

_ (¬1) يقول العلامة الشيخ محمَّد الطاهر بن عاشور: "وليس كل مكلف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة؛ لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم" ثم يقول: =

رابعا: تقسيم المقاصد بحسب المصالح

رابعًا: تقسيم المقاصد بحسب المصالح: قلنا: إن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس، ولكن مصالح الناس ليست على درجة واحدة من حيث الأهمية والخطورة وحاجة الناس إليها، وإنما هي على مستويات مختلفة، ودرجات متعددة، فبعض المصالح ضروري وجوهري يتعلق بوجود الإنسان ومقومات حياته، وبعضها يأتي في الدرجة الثانية ليكون وسيلة مكملة للمصالح الضرورية السابقة، وتساعد الإنسان على الاستفادة الحسنة من جوانب الحياة المختلفة في السلوك والمعاملات وتنظيم العلاقات، وبعض المصالح لا تتوقف عليها الحياة، ولا ترتبط بحاجات الإنسان، وإنما تتطلبها مكارم الأخلاق والذوق الصحيح والعقل السليم، لتأمين الرفاهية للناس، وتحقيق الكماليات لهم (¬1). ومن هنا حصر العلماء مصالح الناس وقسموها بحسب أهميتها وخطورتها وأثرها في الحياة وحاجة الناس إليها إلى ثلاثة أقسام، وأن مقاصد الشريعة جاءت لتحقيق هذه المصالح بأقسامها الثلاثة وهي: 1 - المصالح الضرورية: وهي التي تقوم عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ويتوقف عليها وجودهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وإذا فقدت هذه المصالح الضرورية اختل نظام الحياة، وفسدت مصالح الناس، وعمت فيهم الفوضى وتعرض وجودهم للخطر والدمار والضياع والانهيار. ¬

_ = "وحق العالم فهم المقاصد، والعلماء في ذلك متفاوتون على قدر القرائح والفهوم"، (مقاصد الشريعة الإِسلامية: ص 18). وانظر: علم أصول الفقه، للمرحوم خلاف: ص 198 ط 8، مقاصد الشريعة الإِسلامية: ص 15 وما بعدها. (¬1) انظر: قواعد الأحكام: 1 ص 29 وما بعدها، 42 وما بعدها، 71.

2 - المصالح الحاجية

وتنحصر مصالح الناس الضرورية في خمسة أشياء، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض أو النسب والمال (¬1)، وقد جاءت الشريعة الغراء لحفظ هذه المصالح الأساسية، وإن مقاصد الشريعة الأساسية مرتبطة بها، وهي: 1 - حفظ الدين، 2 - حفظ النفس، 3 - حفظ العقل، 4 - حفظ النسل أو العرض أو النسب، 5 - حفظ المال، وقد اتفقت الشرائع السماوية على مراعاة هذه الأصول الأساسية والمصالح الضرورية للناس. قال حجة الإِسلام الغزالي رحمه الله: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة" (¬2). 2 - المصالح الحاجية: وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة بيسر وسهولة، وتدفع عنهم المشقة وتخفف عنهم التكاليف، وتساعدهم على تحمل أعباء الحياة، وإذا فقدت هذه الأمور لا يختل نظام حياتهم، ولا يتهدد وجودهم، ولا ينتابهم الخطر والدمار والفوضى، ولكن يلحقهم الحرج والضيق والمشقة، ولذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح الحاجية للناس لترفع عنهم الحرج، وتيسر لهم سبل التعامل، وتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية، وتأديتها، والحفاظ عليها عن طريق "الحاجيات" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر المستصفى: 1 ص 286، علم أصول الفقه، خلاف: ص 199 ط 8، الموافقات: 2 ص 4، الأصول العامة: ص 60، 61. (¬2) المستصفى: 1 ص 287. (¬3) انظر: المستصفى: 1 ص 289.

3 - المصالح التحسينية

3 - المصالح التحسينية: وهي الأمور التي تطلبها المروءة والآداب، ويحتاج إليها الناس لتسيير شؤون الحياة على أحسن وجه وأكمل أسلوب، وأقوم منهج، وإذا فقدت هذه الأمور فلا تختل شؤون الحياة، ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة، ولكن يحسون بالخجل، وتتقزز نفوسهم، وتستنكر عقولهم، وتأنف فطرتهم من فقدها. وهذه الأمور التحسينية ترجع إلى ما تقتضيه الأخلاق والأذواق الرفيعة، وتكمل المصالح الضرورية والمصالح الحاجية على أرفع مستوى وأحسن حال (¬1). وجاءت الشريعة الإِسلامية لتأمين هذه المصالح جميعًا، بأن نصت على كل منها، وبينت أهميتها وخطورتها ومكانتها في تحقيق السعادة للإنسان، ثم شرعت الأحكام لتحقيقها، كما سنفصله في الفقرة التالية. خامسًا: الوسائل الشرعية لتحقيق المقاصد: يدل الاستقراء والبحث والدراسة والتأمل على أن الشرع الحنيف جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام الشرعية كلها إنما شرعت لتحقيق هذه المصالح، وأنه ما من حكم شرعي إلا قصد به تحقيق أحد هذه المصالح أو أكثر، بحيث يكفل التشريع جميع المصالح بأقسامها الثلاثة. وكان منهج التشريع لرعاية هذه المصالح عن طريقين أساسيين: أ- الأحكام الشرعية التي تؤمن إيجاد هذه المصالح وتكوينها. ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات: 2 ص 6، علم أصول الفقه، خلاف: ص 200 ط 8، المستصفى: 1 ص 290.

1 - الوسائل الشرعية لحفظ المصالح الضرورية

ب- الأحكام الشرعية لحفظ المصالح وصيانتها ورعايتها ومنع الاعتداء عليها أو الإخلال بها، أو ضمانها والتعويض عنها (¬1). ونريد أن نفصل الكلام عن كل قسم مع بيان الأدلة لذلك، وضرب الأمثلة لكل منها بما يؤكد مقاصد الشريعة في حفظ هذه المصالح. 1 - الوسائل الشرعية لحفظ المصالح الضرورية: وردت أحكام كثيرة جدًّا تدعو لتأمين المصالح الضرورية للناس، وتسعى لإيجادها على أحسن وجه وأفضل طريقة، ثم تكفل حفظها ورعايتها. فالدين مصلحة ضرورية للناس؛ لأنه ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بمجتمعه، وقد شرع الإِسلام أحكامًا كثيرة لتنظيم هذه العلاقات كلها، فبين أحكام العقيدة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره، وشرع أركان الإِسلام الخمس، وهي: الشهادتان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام، وشرع أنواع العبادات وكيفيتها لتنمية الدين في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإيجاده في الحياة والمجتمع، ونشره في أرجاء المعمورة، وأوجب الدعوة إليه لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. ثم شرع الجهاد لحفظه ورعايته وضمانه سليمًا وعدم الاعتداء عليه، ومنع الفتنة في الدين، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، وشرع عقوبة المرتد عن دينه، وبيَّن عقوبة المبتدع والمنحرف عن دينه وطالب الأخذ على يد تارك الصلاة ومانع الزكاة، ¬

_ (¬1) انظر الموافقات: 2 ص 5، علم أصول الفقه، خلاف: ص 201 ط 8، الأصول العامة: ص 65.

والمفطر في رمضان، والمنكر لما علم من الدين بالضرورة ... وغير ذلك، لإبعاد الناس عن الخبط في العقائد وحفظهم من مفاسد الشرك، وإنقاذهم من وساوس شياطين الإنس والجن، وعدم الوقوع في الضلال والانحراف، وحتى لا يسف العقل في عبادة الأحجار والأصنام، أو الأبقار والقرود والحيوان، أو الشمس والقمر والنجوم، أو تأليه الأشخاص وعبادة البشر، ولينقذ البشرية من طقوس العبادات المزيفة، والترانيم السخيفة، والاعتقادات الباطلة (¬1). ويجب أن يعلم المسلم أن مصلحة الدين أساس للمصالح الأخرى، وأن حفظه مقدم على بقية المصالح، بل إن الدين في ذاته حفاظ لجميع مصالح العباد في الدنيا والآخرة (¬2). والنفس هي ذات الإنسان، وهي مقصودة بذاتها في الإيجاد والتكوين، وفي الحفظ والرعاية كما سبق بيانه. وشرع الإِسلام لإيجادها وتكوينها الزواج للتوالد والتناسل لضمان النقاء الإنساني والوجود البشري، واستمرار النوع السليم على أكمل وجه وأفضله وأحسنه، ثم حرم الزنا وبقية أنواع الأنكحة الفاسدة الباطلة. وشرع الإِسلام لحفظ النفس ورعايتها وعدم الاعتداء عليها وجوب تناول الطعام والشراب واللباس والمسكن، وأوجب القصاص والدية والكفارة (¬3). والعقل أسمى شيء في الإنسان، وأبرز ميزة وصفة تميزه عن بقية ¬

_ (¬1) انظر المستصفى: 1 ص 287، الموافقات: 2 ص، ضوابط المصلحة: ص 119. (¬2) انظر: ضوابط المصلحة: ص 58 وما بعدها. (¬3) انظر: علم أصول الفقه، خلاف: ص 201، ط 8، الأصول العامة: ص 130، الموافقات: 2 ص 5، قواعد الأحكام؛ 2 ص 5 والمستصفى: 1 ص 287.

الحيوان، وهو أعظم منحة من رب العالمين للإنسان ليرشده إلى الخير ويبعده عن الشر، ويكون معه مرشدًا ومعينًا. وإن وجود العقل جزء من إيجاد النفس، وأحكامها أحكامه، ولكن الحفاظ عليه يختلف عنها، ويختص بوسائل خاصة، فشرع الإِسلام أحكامًا للحفاظ على العقل، فدعا إلى الصحة الكاملة للجسم، لتأمين العقل الكامل، فالعقل السليم في الجسم السليم، وحرم الإِسلام الخمر وجميع المسكرات التي تزيل العقل، وتلغي وجوده، وتؤثر عليه، وشرع الإِسلام حد الخمر لمن يتناول هذه المشروبات النجسة الضارة، لأن الحفاظ على العقل مصلحة ضرورية للإنسان، وإلا فقد أعز ما يملك (¬1). والعرض فرع من النفس الإنسانية (¬2)، وهو ما يمدح الإنسان به أو يذم، وهو أحد الصفات الأساسية المعنوية للإنسان، والتي تميزه عن بقية الحيوان، والقصد منه حفظ النسل والنسب بأرقى الوسائل، وأشرف الطرق ويعبر عنه العلماء بحفظ النسب أو النسل، وإن وجود النسب والنسل فرع عن وجود النفس الإنسانية التي شرع الله لوجودها الزواج، ويتأكد وجود النسل والنسب بأحكام الأسرة، وإن الحفاظ على العرض مقصود بذاته من جهة، وهو وسيلة لحفظ النسل والذرية من جهة أخرى، حتى لا تختلط الأنساب، وتضيع الذرية ويتشرد الأطفال. وقد شرع الإِسلام للحفاظ على العرض ورعايته أحكامًا كثيرة تبدأ من غض النظر وتنتهي بإقامة الحد على الزاني الذي يعتدي ماديًا على العرض، وإقامة حد القذف على القاذف الذي يعتدي أدبيًّا على ¬

_ (¬1) انظر: الأصول العامة: ص 136، والمراجع السابقة. (¬2) يرى الطاهر بن عاشور رحمه الله أن الضروري هو حفظ النسل من التعطيل، وليس حفظ النسب أو العرض ضروريًّا، بل حاجيًا (مقاصد الشريعة، له: ص 81).

2 - الوسائل الشرعية لحفظ المصالح الحاجية

العرض (¬1). والمال شقيق الروح كما يقولون، وهو ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره، وهو الوسيلة التي تساعد الناس على تأمين العيش وتبادل المنافع والاستفادة من جوانب الحياة الكثيرة، وما سخره الله تعالى للإنسان في هذا الكون، ولذلك كان المال مصلحة ضرورية للناس، وإلا صارت حياتهم فوضى وبدائية وهمجية. وقد شرع الإِسلام لإيجاده وتحصيله السعي في مناكب الأرض والكسب المشروع والمعاملات الشرعية التي تكفل الحصول عليه وتوفيره للمسلم. وشرع الإِسلام لحفظه وحمايته ومنع الاعتداء عليه أحكامًا كثيرة، فحرم السرقة، وأقام الحد على السارق، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، واعتبر العقد عليها باطلًا، ومنع إتلاف أموال الآخرين وشرع الضمان والتعويض على المتلف والمتعدي (¬2). وهكذا نلاحظ أن الإِسلام شرع لكل مصلحة ضرورية للناس أحكامًا تكفل إيجادها وتكوينها، وأحكامًا ترعى حفظها وصيانتها, ليؤمن لهم المصالح الضرورية، ويكفل لهم حفظها وبقاءها واستمرارها، ثم أباح الله تعالى المحظورات إذا تعرضت المصالح الضرورية للخطر والتهديد. 2 - الوسائل الشرعية لحفظ المصالح الحاجية: شرع الله تعالى أحكامًا لا حصر لها لرعاية المصالح الحاجية ¬

_ (¬1) انظر الأصول العامة: ص 149، والمراجع السابقة. (¬2) انظر الموافقات: 2 ص 5، علم أصول الفقه، خلاف: ص 201، ط 8، الأصول العامة: ص 153، قواعد الأحكام: 2 ص 5.

للناس، فشرع الرخص في العبادات والعقيدة لرفع الحرج والمشقة عن الناس للتخفيف عنهم، فأباح الفطر في رمضان، وشرع قصر الصلاة وجمعها للمسافر والحاج، وأجاز للعاجز صلاة الفرض قاعدًا ومستلقيًا وعلى جنب، وأباح التيمم والمسح على الجبيرة والمسح على الخفين للمعذور، وشرع البيوع والشركات والإجارة لتأمين التعامل الصحيح بين الناس وإرشادهم إلى القواعد السليمة والأسس العادلة في التبادل والأخذ والعطاء، لتأمين حاجيات الناس وجلب النفع لهم ودفع الضرر والظلم والغش عنهم. وشرع للحفاظ على الحاجيات الضمان في المال، والبطلان والفساد في العقود، ورغب في الرخص، فرخص تعالى في بعض العقود التي لا تنطبق عليها الأسس العامة في العقود، فشرع السلم وهو بيع للمعدوم، وشرع الاستصناع والمزارعة والمساقاة ... لرفع الحرج عن الناس في التعامل، كما شرع الطلاق كدواء لأمراض الزوجية المستعصية، وهو أبغض الحلال إلى الله، وأحل الله الصيد ... ، وفي العقوبات فرض الدية على العاقلة في القتل الخطأ تخفيفًا على القاتل، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، ورغب ولي المقتول بالعفو عن القصاص والإحسان إلى الجاني (¬1). وقد وردت النصوص الشرعية صريحة واضحة لتأكيد هذه المعاني، وبيان الحِكَم في مشروعية الأحكام التي تحقق المصالح الحاجية للناس، وترفع الحرج عنهم فقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] , وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ¬

_ (¬1) انظر الموافقات: 2 ص 5، علم أصول الفقه، خلاف: ص 202 ط 8، قواعد الأحكام 2 ص 8، المستصفى: 1 ص 289.

3 - الوسائل الشرعية لحفظ المصالح التحسينية

وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] , وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مشروعية قصر الصلاة: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (¬1). 3 - الوسائل الشرعية لحفظ المصالح التحسينية: شرع الله تعالى أحكامًا كثيرة لتأمين المصالح التحسينية للناس، وتحقيق مصالحهم فيها، بما تقتضيه المروءة ومكارم الأخلاق في مختلف فروع الشريعة، لتؤدى مصالح الناس على أكمل وجه وأحسنه. فشرع الله في العبادات أحكامًا لتكون العبادة على أقوم السبل، كالطهارة في الجسم والثوب والمكان، وستر العورة، وأخذ الزينة عند كل مسجد، والتطوع بالصيام والصدقة، والحجاب. وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والاحتكار، وحرم الإسراف والتقتير في الإنفاق، ونهى عن بيع الإنسان على بيع أخيه، ونهى عن بيع النجاسات. وفي الجهاد حرم قتل النساء والصبيان والرهبان، ومنع قطع الشجر، ونهى عن الغدر والتمثيل بالقتلى، وطلب الإحسان في معاملة الأسرى، وعدم الإكراه في الدين. وفي العقوبات والقصاص فرض المماثلة والإحسان في القتل وجعل حق الدم لأولياء القتيل، ولكن عن طريق القضاء والسلطان. ثم أفاض الإِسلام في رعاية الأخلاق العامة، والآداب الراقية، والفضائل السامية (¬2)، وصرح الرسول الكريم بذلك فقال: "إنما بعثت ¬

_ (¬1) رواه الإمام مسلم وأصحاب السنن عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا، (انظر فيض القدير: 4 ص 191). (¬2) انظر: الموافقات: 2 ص 9، علم أصول الفقه، خلاف: ص 204، ط 8، المستصفى: 1 ص 290.

4 - الأحكام المتممة والمكملة لحفظ المصالح

لأتمم مكارم الأخلاق" (¬1). 4 - الأحكام المتممة والمكملة لحفظ المصالح: اقتضت الحكمة الإلهية أن تضع أحكامًا تشريعية إضافية مكملة للأحكام التي شرعت لحفظ نوع من أقسام المصالح، وقد شرعت هذه الأحكام المكملة لتحقيق مقاصد الشريعة على أكمل وجه وأتمه وأحسنه، ولتكون أمانًا احتياطيًا، وسياجًا واقيًا للحفاظ على مصالح الناس، دون أن تتعرض لنقص أو خدش أو خطر. فشرع الإِسلام الصلاة لحفظ الدين، وشرع للصلاة أحكامًا تكميلية كالأذان لإعلانها، وصلاة الجماعة في المسجد، وخطبة الجمعة والعيدين لتعليم الناس أمور دينهم. وشرع القصاص لحفظ النفوس، وشرع لإكماله التماثل في النفس والعضو والجروح، وحرم الزنا لحفظ العرض، وشرع لإكماله تحريم الخلوة ومنع النظر إلى الأجنبية، وحرم الإِسلام الخمر لحفظ العقل، وشرع لإكماله تحريم القليل منه ولو لم يسكر؛ لأنه يريد أن يسد منافذ الشيطان بشكل يقيني حاسم، كما طلب الشارع التورع عن الشبهات والمحرمات، وأن لا يحوم المسلم حول الحمى حتى لا يقع فيه، وشرع الإشهاد في المعاملات واشترط الكفاءة في الزواج، وأوجب النفقة الزوجية وطلب حسن المعاشرة لتأمين السعادة الكاملة في الأسرة. وشرع الإِسلام لتكميل الحاجيات الشروط في العقود، ونهى عن الغرر والجهالة وكل ما يؤدي إلى التخاصم والاختلاف، لتتم مصالح الناس الحاجية دون أن تؤدي إلى الخصومات والخلافات والأحقاد ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك وأحمد عن أبي هريرة بلاغًا ومرفوعًا. (انظر الموطأ: ص 564، مسند أحمد: 2 ص 281).

سادسا: ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقاصد

والأضغان بين الأفراد. وفي التحسينيات بيَّن الشارع شروط الطهارة، والإحسان بالتعامل، والتحلي السامي بمكارم الأخلاق، وأن يترفع المسلم عن المعاملة بالمثل، كما طلب الشارع الإنفاق من الطيب الحلال، وأن يحسن المسلم الأضحية والعقيقة ليقدمها بين يديه يوم القيامة (¬1). ونبادر إلى التنبيه إلى أن هذا التقسيم للأحكام بحسب مقاصد الشريعة ومصالح الناس لا يعني أن الأحكام الضرورية فرض وواجب، وأن الأحكام الحاجية مندوبة وسنة، وأن الأحكام التحسينية مباحة، وإنما شرعت الأحكام لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وفي كل قسم منها فرائض ومندوبات ومباحات. سادسًا: ترتيب الأحكام الشرعية بحسب المقاصد: تبين لنا من النظر العقلي والواقع الملموس أن مصالح الناس متدرجة ومرتبة بحسب أهميتها ومكانتها في الحياة الإنسانية، وجاءت الأحكام الشرعية مطابقة لذلك، فجاءت على درجات مختلفة بحسب مصالح الناس، ويأتي ترتيبها بحسب أهميتها، فأهمها الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح الضرورية؛ لأنه يترتب على تركها وضياعها الاختلال في نظام الحياة، ثم تأتي الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح الحاجية؛ لأنه يترتب على عدم الأخذ بها وقوع الناس في الضيق والحرج، والشدة والمشقة والعسر، ثم تأتي الأحكام التي شرعت لتحقيق المصالح التحسينية، وأخيرا تأتي الأحكام المكملة لكل نوع من الأنواع السابقة. ويظهر من ذلك أيضًا أن الأحكام الحاجية هي كالتتمة والتكملة ¬

_ (¬1) انظر الموافقات: 2 ص 6.

والصيانة للمصالح الضرورية وأحكامها، وأن التحسينيات مكملة للحاجيات، فالضروريات هي أصل المصالح كلها، وهي مقصود الشارع الأصلي، فشرع لها الأحكام الأصلية ثم صانها ورعاها وحفظها ببقية الأحكام. وينتج عن ذلك أنه إذا تعرضت المصالح الضرورية أو إحداها للخلل أدى ذلك إلى اختلال المصالح الحاجية والتحسينية، وإذا اختل حكم حاجي أو تحسيني فإنه يؤثر بطريق غير مباشر على المصالح الضرورية بوجه من الوجوه، وينذرها بالخطر، لذلك تجب المحافظة على المقاصد الحاجية، والمقاصد التحسينية حتى لا تتعرض المصالح الضرورية للخلل، و"في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكَدُ منه، ومدخل للإخلال به، فصار الأخف كأنه حِمًى للآكَد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" (¬1). وإذا تعارض حكمان من الأحكام الشرعية، فيقدم الأهم فالأهم، وقد وضع العلماء قواعد للترجيح في ذلك، منها: 1 - تقدم الأحكام المشروعة للمصالح الضرورية على الأحكام المشروعة للمصالح الحاجية والتحسينية، فالصلاة المفروضة لحفظ الدين مقدمة على البيع والشراء، والمعاملات المشروعة لحفظ المصالح الحاجية، ومقدمة على النوافل والذكر وتلاوة القرآن، والمؤمن يترك البيع والشراء في بعض الأوقات لأداء العبادات المفروضة من صلاة وصيام وحج حتى لا تفوت عليه هذه العبادات؛ لأن حفظ الدين ¬

_ (¬1) الموافقات: 2 ص 13، وانظر المرجع نفسه: 2 ص 9، 10. ويقول العز عبد السلام: (طلب الشرع لتحصيل أعلى الطاقات كطلبه لتحصيل أدناها في الحد والحقيقة، كما أن طلبه لدفع أعظم المعاصي كطلبه لدفع أدناها؛ إذ لا تفاوت بين طلب وطلب" (قواعد الأحكام: 1 ص 22)،

ضروري وأهم من ممارسة المعاملات وحفظ الحاجيات، وإذا مرض إنسان فإنه يباح له أن يكشف عورته على الطبيب للمعالجة وأخذ الدواء، ويرخص له أن يفطر في رمضان، ليحافظ على صحته، ولكي لا يعرض نفسه للخطر والهلاك، وليرفع عنها المشقة والحرج، ولأن حفظ النفس أهم من ستر العورة، قال تعالى في آية الصيام: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وأنه لا يصح الأخذ بحكم حاجي أو تحسيني إذا كان في تطبيقه مساس أو تأثير على حكم ضروري، فلا يصح البيع والشراء إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة؛ لأن ذلك يؤدي إلى هدم أمر ضروري، وهو إقامة الدين وتأدية شعائره في الخطبة وصلاة الجمعة. وإذا تعارض حكم مشروع لتحقيق الحاجيات مع حكم مشروع لتحقيق التحسينات فإنه يقدم الأول، فمن التحسينيات النهي عن بيع المعدوم، والنهي عن الجهالة في البيع، ولكن الشارع أباح ذلك في السلم والاستصناع لرفع الحرج والمشقة عن الناس. 2 - إن المصلحة العامة في كل قسم من أقسام المصالح تقدم على المصلحة الخاصة فيه، فالمصلحة العامة في أحد الضروريات تقدم على المصلحة الخاصة فيه، كما لو تترس الكفار وراء أسرى المسلمين، وكما يجوز الإقدام على القتل والقتال في المعركة للحفاظ على حياض المسلمين والدفاع عن أرواحهم، والمصلحة العامة في الحاجيات تقدم على المصلحة الخاصة في الحاجيات؛ فيحرم الاحتكار؛ لأن فيه ضررًا بمصلحة حاجية عامة، والمصلحة العامة في التحسينات تقدم على المصلحة الخاصة فيها, ولذلك ورد النهي عن التطويل في الصلاة، وأن من أمَّ في الناس فليخفف، والمصلحة العامة مثلًا في الجهاد لحفظ الدين مقدمة قطعًا على المصلحة الخاصة في حفظ النفس والمال،

ولذلك شرع الجهاد في سبيل الله لإقامة الدين والحفاظ عليه، مع ما فيه من تعريض النفس والمال للقتل والهلاك والخطر (¬1). والمصلحة العامة في الضروريات كلها تقدم بالأولى على المصلحة الخاصة في الحاجيات والتحسينات، فالجهاد مقدم على المعاملات وإقامة النوافل. 3 - إن الأحكام لرعاية المصالح الضرورية نفسها على درجات، فبعضها أهم من بعض، فيجب مراعاة الأهم فالمهم، فحفظ الدين أهم من حفظ النفس، فشرع الجهاد بالنفس والمال للحفاظ على الدين، وحفظ النفس أهم من حفظ العقل، فهذا تعرضت النفس للهلاك فيرخص بشرب الخمر، وتباح المحظورات عند الضرورة التي تهدد الإنسان بإتلاف نفسه أو عضو منه، مما يطول شرحه وتفصيله (¬2). 4 - ونختم هذه الفقرة بسرد أهم القواعد الفقهية التي وضعها العلماء لترجيح أحد الأحكام والمصالح على بعض، وهي: 1 - الضرورات تبيح المحظورات. 2 - يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. 3 - يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما. 4 - يختار أهون الشرين. 5 - المشقة تجلب التيسير. 6 - الحرج مرفوع شرعًا. 7 - الحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات. ¬

_ (¬1) انظر المستصفى: 1 ص 294 وما بعدها. (¬2) انظر ضوابط المصلحة: ص 60.

8 - الضرر يزال شرعًا. 9 - الضرر لا يزال بالضرر. 10 - دفع المضار مقدم على جلب المنافع. 11 - درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ونكتفي بهذا العرض الموجز لمقاصد الشريعة، لنترك التفصيل والشرح للدراسات المعمقة والتخصصية.

الباب الأول في مصادر التشريع الإسلامي

الباب الأول في مصادر التشريع الإسلامي

مقدمة

مقدمة إن الله خلق آدم، وخلقه في أحسن تقويم، واصطفاه على غيره من المخلوقات، وجعله خليفة على الأرض، وسخر له الكون وما فيه من شمس وقمر ونجوم وأنهار وبحار ودواب، وعندما خلق الله الإنسان لم يخلقه عبثًا، ولم يتركه سدى، وإنما أنزل عليه الوحي هدى وإرشادًا، قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} [البقرة: 38] وأرسل الله لكل قوم أو أمة نبيًّا أو رسولًا، يعلمهم العقيدة ويرسم لهم نظام الحياة، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إلا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر: 24] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] كل ذلك ليلتزم الإنسان بشريعة الله وهداه، ويتمسك بأحكامه ومبادئه، وهذا يوجب أن يحقق الإنسان خلافة الله ويطبق شريعته، ويعض عليها بالنواجذ، ويحتكم إليها، وإلا اعتبر شاذًّا ومنحرفًا وكافرًا وفاسقًا، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47] الكافرون كالظالمون، وكان من صفات المؤمنين الاستسلام لحكم الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51]. فأحكام الله تعالى وشريعته جاءت لهداية الناس وإرشادهم إلى ما فيه الخير، وهذه الأحكام الشرعية لها أدلة تدل عليها، ومصادر تؤخذ منها،

الأدلة والمصادر

لتكون مطابقة لإرادة الله تعالى، ومتجنبة حكم الطواغيت والأهواء والشهوات والقوانين الوضعية. الأدلة والمصادر: والأدلة: جمع دليل، وهو في اللغة: المرشد إلى الشيء، سواء كان حسيًّا أو معنويًّا، وفي الاصطلاح: هو ما يمكن بالنظر فيه التوصل إلى إدراك حكم شرعي على سبيل العلم أو الظن، كما سبق (¬1). فالطرق والوسائل التي نتوصل بها إلى معرفة حكم الله تعالى تسمى: الأدلة الشرعية أو أدلة التشريع، وتسمى أيضًا: أصول الشرع، أو أصول التشريع؛ لأن الأصل لغة: هو ما يبنى عليه غيره، ويستند إليه في تحقيق العلم ويرجع إليه، أو هو الدليل عند الفقهاء وعلماء الأصول كما سبق (¬2)، كما تسمى هذه الأدلة: مصادر التشريع؛ لأن المصدر ما يتفرع عنه غيره، وتنبع منه الأشياء، فمصدر التشريع هو ما تؤخذ منه الأحكام الشرعية. وقد رجحنا التسمية الأخيرة لحصرها في الدلالة على المطلوب، فالدليل مشترك بين الدليل الأساسي في الأصول، وبين الدليل الفرعي في الفقه، ويغلب استعماله عند الأصوليين في أدلة الأحكام الفرعية، أو في الأدلة الكلية، كالأمر للوجوب في قواعد الأصول، ولفظ أصول قد ¬

_ (¬1) صفحة 28 من هذا الكتاب. (¬2) ص 22، وانظر: تيسير الوصول: 3 ص 2، والمستصفى: 1 ص 100، روضة الناظر: ص 33، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 86، كشف الأسرار: 1 ص 19، أصول السرخسي: 1 ص 277، 279، فواتح الرحموت: 2 ص 2، أصول الفقه، خلافك ص 20، أصول الفقه البرديسي: ص 16، تسهيل الوصول: ص 15، أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 26، وقد سار معظم المؤلفين في علم الأصول قديمًا وحديثًا على التسمية بالأدلة، أو أدلة الأحكام.

تقسيم مصادر التشريع

يوهم المعنى المراد في القياس، وقد ينصرف إلى أصول الدِّين في العقيدة وعلم الكلام. ومصادر التشريع التي يعتمد عليها العلماء لمعرفة أحكام الله تعالى كثيرة بالعد، وقد تصل إلى نيف وعشرين مصدرًا، أهمها: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا والعرف وسد الذرائع (¬1). ولا بد من التنبيه إلى أن المصدر الحقيقي -في نظر المسلم- هو مصدر سماوي، لا وضعي، وأن مصدر التشريع الوحيد -بإجماع المسلمين- هو الله سبحانه وتعالى، ولا مشرع سواه، {إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ويتجلى هذا المصدر السماوي بالقرآن الكريم، وبما أشار إليه القرآن الكريم، وإن بقية المصادر متابعة للقرآن الكريم، أو مبينة وكاشفة لحكم الله تعالى، وليست منشئة للحكم، فالمسلم لا يقبل إلا حكم الله تعالى. تقسيم مصادر التشريع: تقسم هذه المصادر عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، فتقسم من حيث أصلها إلى مصادر نقلية كالكتاب والسنة والإجماع والعرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي، وهي التي لا دخل للمجتهد فيها، وتوجد قبل المجتهد، ومصادر عقلية وهي التي يظهر في تكوينها ووجودها أثر المجتهد، وهي القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وهذان القسمان متكاملان؛ لأن الاستدلال بالدليل النقلي لا بد فيه من ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 48، الأحكام، الآمدي: 1 ص 14، تيسير التحرير: 3 ص 2، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 87، تنقيح الفصول، القرافي: ص 141، مرآة الأصول، منلا خسرو: ص 15، أصول السرخسي: 1 ص 278، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 18.

بذل الجهد والتدبر والنظر، والاستدلال بالمعقول لا بد أن يكون معتمدًا على النقل، وإن مصادر الشريعة لا تنافي قضايا العقول (¬1). وتنقسم المصادر من حيث استقلالها إلى قسمين، الأول: ما هو أصل مستقل بنفسه في إثبات الأحكام مثل الكتاب والسنة والإجماع والعرف ومذهب الصحابي، والثاني: ما لا يكون أصلًا مستقلًا، ويحتاج إلى أصل فيه، كالقياس والاستحسان وسد الذرائع، وهذا القسم يكون مُظْهِرًا للحكم لا مثبتًا له (¬2). وتنقسم المصادر من حيث الاتفاق عليها إلى قسمين، الأول: مصادر متفق عليها بين جماهير أهل السنة والجماعة، وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس (¬3)، وإن الاستدلال بها مرتب على هذا الشكل، والدليل على ذلك من القرآن والسنة وعمل الصحابة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ¬

_ (¬1) قال الإمام الشاطبي: الأدلة العقلية غير مستقلة بالدلالة، وإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها، أو ما شابه ذلك، لا مستقلة بالدلالة, لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي، والعقل ليس بشارع، الموافقات، له: 1 ص 13. وقال في مكان آخر: إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسري العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل، الموافقات: 1 ص 53، وانظر الموافقات: 3 ص 24، أصول الفقه، الخضري: 225، 227، أصول الفقه، شعبان: ص 28، الوسيط في أصول الفقه: ص 208، وقال الماوردي رحمه الله تعالى: "العقل متبوع فيما لا ينفع فيما لا يمنع منه الشرع، والشرع مسموع فيما لا يمنع منه العقل" أدب الدين والدنيا، له، 7 ص 78. (¬2) كشف الأسرار: 1 ص 19، تيسير التحرير: 3 ص 3. (¬3) لم يُعتبر خلاف الظاهرية والمعتزلة في القياس، ولا خلاف المعتزلة والروافض في الإجماع، ولهذا اعتبرت مصادر متفقًا عليها.

59] , فالآية تدل على أحكام الله في الكتاب والسنة وإجماع أهل الحل والعقد، فإن لم يوجد فيها حكم، واختلف العلماء في المسألة فيقيسونها على النص، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] , ولحديث معاذ بن جبل في القضاء والحكم، واتفاق المسلمين في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي على الرجوع إلى الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس (¬1)، والقسم الثاني مصادر مختلف فيها، وهي الاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة والعرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي وسد الذرائع، وتسمى المصادر الأولى: أصلية، والثانية: مصادر تبعية؛ لأنها ترجع إلى الأولى (¬2). وهذا التقسيم الأخير هو أهم تقسيم للمصادر، ولهذا نشرع بدراسة هذه المصادر بمشيئة الله، فنعطي فكرة عامة وتعريفًا مختصرًا لها، في الفصلين القادمين. ¬

_ (¬1) الأحكام، الآمدي: 1 ص 145، الموافقات: 3 ص 7، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 87، مصادر التشريع الإِسلامي: ص 44. (¬2) فواتح الرحموت: 2 ص 3، تيسير التحرير: 3 ص 2، أصول السرخسي: 1 ص 279، شرح الكوكب المنير: 2 ص.

الفصل الأول في المصادر المتفق عليها

الفصل الأول في المصادر المتفق عليها اتفق العلماء على اعتبار القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع والقياس مصادر أصلية لاستنباط الأحكام الشرعية منها، وسوف ندرس هذه المصادر دراسة موجزة في هذا الفصل، فنبين تعريف كل منها وحجيته وأحكامه، وذلك في أربعة مباحث.

المبحث الأول في الكتاب الكريم

المبحث الأول في الكتاب الكريم وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. والكتاب هو القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى استعمل كلا اللفظين بمعنى واحد، فقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} إلى قوله تعالى: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 29 - 30] وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)} [الجن: 1] وهو كلام الله تعالى المكتوب في المصحف ليكون دستور المسلمين الخالد. والكتاب الكريم أول مصادر التشريع، وأهم هذه المصادر، وهو عمدة الشريعة، وأصل أدلتها، وإن مصادر التشريع جميعها ترجع إليه، إما لأنها راجعة إليه في البيان والتوضيح، وإما لأنها تعتبر حجة ومصدرًا لدلالة القرآن الكريم عليها. ونتناول دراسة هذه المصادر في ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: في تعريف الكتاب، وما يتفرع عن ذلك من بحوث. المطلب الثاني: في حجية الكتاب، وما يتصل بذلك من إعجاز القرآن الكريم. المطلب الثالث: في أحكام الكتاب التي وردت فيه.

المطلب الأول في تعريف الكتاب الكريم

المطلب الأول في تعريف الكتاب الكريم الكتاب لغة: يطلق على المكتوب وعلى الكتابة، والفعل كتب بمعنى: حكم وقضى وأوجب، ومنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] , أي: أوجبه، وكتب القاضي بالنفقة: قضى بها وحكم، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] , أي: حكم، والقرآن: مصدر بمعنى القراءة (¬1). أما تعريف الكتاب في الاصطلاح فلا يحتاج إلى تعريف لأنه معروف للجميع، دون أن يلتبس أمره على إنسان، سواء أكان مسلمًا أم كافرًا، كبيرًا أم صغيرًا، عربيًّا أم عجميًّا، وإنما نص العلماء على تعريفه لبيان ما يكون حجة في استنباط الأحكام، وما يتعبد بتلاوته، وما تجوز به الصلاة، وما يكفر به جاحده، وغير ذلك من العناصر الهامة والخصائص الرئيسية (¬2). وأشهر هذه التعريفات عندهم هو: الكتاب: هو كلام الله تعالى، المنزل على سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، باللفظ ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 1 ص 121، المصباح المنير: 2 ص 719. (¬2) انظر النبأ العظيم، دراز: ص 9، كشف الأسرار: 1 ص 22.

العربي، المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب بالمصاحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس (¬1). شرح التعريف: 1 - كلام الله تعالى: القرآن الكريم كلام الله تعالى، والكلام جنس يشمل كل كلام، ويدخل في ذلك كلام الله المنزل على جميع الرسل، ويشمل كلام الله الأزلي النفسي والمنزل، وإضافته إلى الله تعالى لتمييزه عن كلام من سواه، ويخرج من التعريف كلام المخلوقات من إنس وجن وملائكة، وتخرج السنة النبوية والأحاديث القدسية؛ لأنها من كلام سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وألفاظه، وإن كانت معانيها من عند الله تعالى. 2 - المنزل على سيدنا محمَّد: أي: كلام الله الذي نزل به جبريل الأمين، ونقله من اللوح المحفوظ، ووقر في قلب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وأول ما نزل منه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} ومن أول ما نزل أيضًا سورة المدثر وسورة الضحى وسورة الفاتحة، واستمر نزول القرآن الكريم ثلاثًا وعشرين سنة منذ أول البعثة حتى السنة العاشرة ¬

_ (¬1) انظر المستصفى: 1 ص 101، فواتح الرحموت: 2 ص 7، شرح الكوكب المنير: 2 ص 7، مختصر ابن الحاجب: ص 48، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 195، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 87، الأحكام، ابن حزم: 1 ص 85، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 290، التلويح على التوضيح: 1 ص 154، أصول الفقه، شعبان: ص 33، حاشية البناني: 1 ص 223، أصول السرخسي: 1 ص 279، كشف الأسرار: 1 ص 21، نسمات الأسحار، ابن عابدين: ص 8، روضة الناظر: ص 33، شرح المنار: ص 7، مرآة الأصول: ص 16، وعرف الآمدي الكتاب بقوله: هو القرآن الكريم المنزل، الأحكام، له: 1 ص 147. وعرفه الكمال بن الهمام بأنه: اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر، والمتواتر، تيسير التحرير: 3 ص 3، ونقله عنه الشوكاني في إرشاد الفحول: ص 92، نهاية السول: 1 ص 204.

للهجرة (¬1)، وكان آخر ما نزل في حجة الوداع قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] , ثم نزل بعدها قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) ...} سورة النصر، وآخر آية نزلت هي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة: 281] وتسمى الآيات والسور التي نزلت بمكة بالمكيَّة، وتسمى الآيات والسور التي نزلت بالمدينة بالمدنيَّة، ولكل منها طابع خاص في النظم والمعنى. ويخرج من التعريف الكتب السماوية التي أنزلت على الرسل السابقين، من كلام الله تعالى في التوراة المنزل على موسى، وكلام الله تعالى في الإنجيل المنزل على عيسى، وهذا ينطبق عليهما قبل التبديل والتغيير والتحريف. ويخرج بالمنزل كلام الله النفسي القائم بالذات، وما استأثر الله به في نفسه. 3 - باللفظ العربي: القرآن الكريم عربي النظم والمعنى، نزل بلغة قريش، وليس فيه لغة أجنبية أخرى، والقرآن الكريم نظمه ومعناه من عند الله تعالى، أما الحديث فإن معناه منزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما لفظه ونظمه فهو من عند محمَّد عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) نزل القرآن منجمًا أي مفرقًا حسب المناسبات والحوادث وحاجات الدعوة وتطور المجتمع وسير الزمن، والحِكَم من نزوله منجمًا كثيرة، منها: تثبيت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتدرج في التشريع، والتأكيد على إعجاز القرآن الكريم، وغير ذلك من الحكم الكثيرة التي أشار إليها القرآن الكريم وذكرها العلماء في علوم القرآن وتاريخ التشريع، انظر مصادر التشريع الإِسلامي: ص 57، فصول في أصول التشريع الإِسلامي، جاد المولى سليمان: ص 14، تاريخ التشريع الإِسلامي، السايس والسبكي والبربري: ص 38، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 74، دراسات قرآنية، زرزور: ص 44، 77.

وإذا ظن الإنسان وجود بعض الألفاظ غير العربية في القرآن الكريم فهو إما أن يكون من لهجة عربية غير لهجة قريش، أو من الألفاظ العربية التي اندثر استعمالها ثم أحياها القرآن الكريم، أو أنها لفظ عربي قديم انتقل إلى اللغة الأعجمية ثم نسيه العرب فذكره القرآن، أو أن يكون اللفظ معربًا، ودخل إلى العربية فصار عربيًّا، وإن اشتمل القرآن الكريم على كلمتين أو ثلاث أصلها أعجمي، أو ذكر أسماء الأعلام الأعجمية مما يستعمله العرب في لسانهم، فهذا لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا (¬1). والآيات التي تؤكد أن القرآن منزل بالعربية كثيرة، منها قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192 - 195] وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2] وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)} [الزمر: 28] وقوله تعالى في بيان سخف الكفار وتناقضهم في التفكير عندما نسبوا القرآن إلى رجل أعجمي (¬2) يعلم رسول الله فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103] وأكد القرآن الكريم أنه أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في الأمة العربية في آيات كثيرة، وأن كل نبي يُرسل بلغة قومه ليبين لهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 105 - 106، الرسالة: ص 40 - 42، وما بعدها، التبصرة للشيرازي: ص 180، الإحكام للآمدي 1/ 47، العدة 3/ 707، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 88، الموافقات: 2 ص 45، روضة الناظر: ص 35، قارن إرشاد الفحول: ص 32، وحصول المأمول من علم الأصول، صديق حسن خان: ص 42، وسوف ننقل نص الإمام الشافعي في الرسالة عن لغة القرآن الكريم. (¬2) الرجل هو غلام نصاري يقال له سبيعة أو جبر، عبد لبعض بني الحضرمي، ويقال: اسمه بلعام، انظر تفسير ابن كثير: 2 ص 586.

رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]. وأما المسلم غير العربي فيجب عليه أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، ليستطيع تحقيق الإيمان, وأداء العبادات، وقراءة القرآن وذكر الله تعالى، كما قال الشافعي في الرسالة (¬1)، وقد كان فضل القرآن على العرب عظيمًا جدًّا، فوحد لغاتهم وجمع شملهم، وحفظ اللغة من التطور والتغيير والتبديل (¬2). ويتفرع عن ذلك أنه لا يصح تغيير لفظ في القرآن الكريم بلفظ مرادف له، وإن كان مطابقًا له في المعنى، كما لا يصح ترجمته، ونقله إلى لغة أخرى؛ لأن القرآن الكريم كلام الله تعالى نزل باللفظ العربي. 4 - المنقول إلينا بالتواتر: التواتر في اللغة: التتابع، وفي الاصطلاح: هو ما رواه جماعة عن جماعة، يؤمن تواطؤهم على الكذب، والتواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا يحتمل غيره، والقرآن الكريم وصل إلينا بالتواتر، فكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقون القرآن الكريم عنه، ويحفظونه بقلوبهم، ويكتبونه على الألواح، وبلغ عدد كتّاب الوحي أربعين صحابيًّا، بينما يسمع بقية الصحابة القرآن، ثم انتقل عن جمهور الصحابة إلى جماهير التابعين الذين حفظوه أيضًا في الصدور والكتب، ونقلوه إلى من بعدهم حتى وصل إلينا كما نزل عن طريق التواتر جيلًا بعد جيل، كتابة ومشافهة في كل عصر بما يؤمن تواطؤهم على الكذب. ويشترط في التواتر أن يبلغ عدد الرواة حدًّا يحيل العقل تواطؤهم ¬

_ (¬1) ص 48. (¬2) قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] قال: "فالقرآن نزل بلسان قريش، وإياهم خاطب، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم، كل من آمن بذلك، فصاروا عيالًا عليهم" تفسير القرطبي: 16/ 93.

على الكذب، وأن يتوفر هذا العدد في كل طبقة على مر الزمان وتعاقب القرون، واختلف العلماء في العدد الذي يتحقق به التواتر، ولكنهم اتفقوا على الضابط فيه وهو أن تشعر النفس باليقين والطمأنينة فيهم. وهذا النقل بالتواتر هو من فضل الله على هذه الأمة بحفظ كتابها، لأن حفظ القرآن هو أساس حفظ الشريعة، ومصدر الفقه الإِسلامي الذي توزن به أعمال المسلمين، وأن النقل بالتواتر كتابة وحفظًا جعل القرآن الكريم قطعي السند، فإن ثبوته يقيني لا مجال للشك فيه، ولا يحتمل الخطأ والتغيير، فالقرآن قطعي الثبوت. واتفق المسلمون جميعًا على أن اللفظ أو القراءة غير المتواترة لا تعتبر قرآنًا، ولو كانت مشهورة، ولا تصح بها الصلاة، ولا يتعبد بتلاوتها، كالقراءة الشاذة والمشهورة؛ لأنه يستحيل في العرف والعادة أن يهمل ذلك، ولا ينقل بالتواتر مع توفر الدوافع على حفظه (¬1). 5 - المتعبد بتلاوته: هذه خاصيّة مهمة في القرآن الكريم تميزه عن غيره، وتفتح أمام المسلم بابًا من أبواب العبادة، فالقرآن الكريم كلام الله تعالى، ولذا فإن تلاوته وقراءته عبادة، سواء كانت من الحفظ أم من المصحف، قيامًا أم قعودًا، في السفر أم في الحضر، في الليل أم في النهار، وجاءت أحاديث كثيرة تبين ذلك، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها, لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" (¬2)، ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 101، 102، الإحكام، الآمدي: 1 ص 1448، أصول التشريع الإِسلامي: ص 19، مختصر ابن الحاجب: ص 49، تيسير التحرير: 3 ص 6، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 88، القواعد والفوائد الأصولية، ابن اللحام: ص 155، إرشاد الفحول: ص 30. (¬2) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، ورواه الحاكم.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" (¬1)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" (¬2). ولا تصح الصلاة من المسلم إلا بتلاوة القرآن الكريم، قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬3). أما الأحاديث القدسية والأقوال النبوية فلا يتعبد بتلاوتها, ولا تصح الصلاة فيها؛ لأن ألفاظها من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تخرج الآيات المنسوخة اللفظ، سواء بقي حكمها أم لا؛ لأنها لم تبق قرآنًا، ولا يصح التعبد بتلاوتها (¬4). 6 - المكتوب في المصاحف: المصاحف جمع مصحف، والمصحف مجمع الصحف، فكتاب الله تعالى دونه كُتّاب الوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجمع ألواحه أبو بكر رضي الله عنه، ثم نسخه عثمان رضي الله عنه في ستة أو سبعة مصاحف، ونشره في الأمصار الإِسلامية، لتوحيد قراءتها، ومنع الاختلاف بين المسلمين في كتابهم، وحصر العلماء كتابة المصحف بالرسم العثماني الذي كتب في عهد عثمان رضي الله عنه، للحفاظ التام والكامل على الشكل والمضمون لكتاب الله تعالى، ولذلك يشترط لصحة القراءة أن تكون موافقة للرسم ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأحمد. (¬2) رواه البخاري ومسلم. (¬3) رواه الستة وأحمد. (¬4) انظر شرح الكوكب المنير: 2 ص 8.

أولا: ترجمة القرآن ليست قرآنا

العثماني، وإلا كانت القراءة شاذة غير مقبولة (¬1). ويخرج من الكتاب ما نسخت تلاوته وبقي حكمه، مثل: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله". 7 - المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس: وهذا التحديد لأوله وآخره زيادة في الاحتياط حتى لا يزاد فيه دعاء أو ثناء أو سورة أو غير ذلك، وهذا الترتيب لسور القرآن الكريم وآياته توقيفي عن رسول الله عن جبريل عن رب العزة، ولا يجوز تغييره ولا تبديله (¬2). ويتفرع عن التعريف عدة حالات أهمها: أولًا: ترجمة القرآن ليست قرآنًا: لأن الكتاب نظمه ومعناه من عند الله تعالى، وأن القرآن اسم للنظم والمعنى، فالنظم هو عبارات القرآن الكريم وألفاظه، والمعنى هو ما تدل عليه العبارة والنظم، أما المعنى فقط فليس بقرآن، ولذلك فإن الترجمة إلى لغة أجنبية مهما كانت دقيقة وكاملة لا تعد قرآنًا، ولا يصح الاستنباط من الترجمة؛ لأن فهم المراد من الآيات لترجمتها يحتمل الخطأ، لوجود الحقيقة والمجاز، والمشترك، والعام، والخاص، والتعبير بألفاظ لغة أخرى عن معاني القرآن يحتمل الخطأ أيضًا، وهذان ¬

_ (¬1) قال الغزالي: وقيدناه بالمصحف؛ لأن الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله، المستصفى: 1 ص 101، وانظر: فواتح الرحموت: 2 ص 12، 13، أصول الفقه الإِسلامي، للشيخ شاكر الحنبلي: ص 47، كشف الأسرار: 1 ص 22. (¬2) قال الغزالي: فإن قيل: هلا حددتموه بالمعجز؟ قنا: لا؛ لأن كونه معجزًا يدل على صدق الرسول - عليه السلام - لا على كونه كتاب الله لا محالة، إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى، ولأن بعض الآية ليس بمعجز، وهو من الكتاب، المستصفى: 1 ص 101، وانظر: كشف الأسرار: 1 ص 22، وإن الكلام في هذا الموضوع طويل وشائق، ولن نتوسع فيه لأنه تابع إلى علوم القرآن الكريم.

الاحتمالان واقعان وملموسان، ولذا فالترجمة لا تكون قطعية في القرآنية، والقرآن بلفظه ومعناه نزل باللغة العربية دون ما عداها (¬1). ولكن يصح ترجمة معاني القرآن الكريم، بأن يضع العلماء له تفسيرًا مختصرًا يوضح معناه، ويبين أحكامه، ويقوم بعض العلماء الثقات العدول الذين يتقنون اللغة العربية ويجيدون اللغة الأجنبية بترجمة هذه المعاني، ولا يصح أن يطلق على الترجمة اسم: القرآن، أو: كتاب الله، وإنما يطلق عليها: تفسير، أو: معاني القرآن الكريم، وتأكيدًا لذلك واحتياطًا للأمر يقترح العلماء أن يطبع القرآن الكريم بنصه ولفظه العربي في منتصف الصفحة، ويطبع التفسير باللغة الأجنبية على هامشه، ليشار إلى الأصل باستمرار. وهذه الترجمة لا تعتبر قرآنًا، ولا يستنبط منها أحكام الله تعالى، ولا يحتج بصيغتها وعبارتها, ولا تثبت لها أحكام القرآن الكريم، ولا تصح بها الصلاة، ولا يتعبد بتلاوتها. ونقل عن الإِمام أبي حنيفة أنه أجاز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة من غير عذر؛ لأنه لم يجعل النظم ركنًا لازمًا في القرآن، ويسقط لزوم النظم عنده رخصة إسقاط، مع وجوب الاعتقاد بنزول النظم وحرمة كتابة المصحف بالفارسية وحرمة المداومة والاعتياد على القراءة بالفارسية (¬2). ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت: 2 ص 8، الرسالة، هامش 2، تحقيق أحمد شاكر: ص 49، أصول الفقه الإِسلامي: ص 46، مصادر التشريع الإِسلامي: ص 65، كشف الأسرار: 1 ص 23، نسمات الأسحار: ص 9، شرح المنار: ص 9، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 85، أصول الفقه، الخضري: ص 230، اقتضاء الصراط المستقيم: ص 203. (¬2) كشف الأسرار: 1 ص 23 - 35، التلويح والتوضيح: 1 ص 156، 158، شرح المنار: ص 9، الوسيط في أصول الفقه: ص 214، أصول السرخسي: 1 ص 282، البرهان =

ثانيا: القراءة المشهورة والقراءة الشاذة

وروي أن الإِمام أبا حنيفة رجع عن هذا الرأي، ووافق الصاحبين في عدم القراءة بالفارسية لغير عذر؛ لأن النظم العربي ركن في القرآن، ولكن الإِمام وصاحبيه أجازوا قراءة القرآن بالفارسية أو بغيرها للعذر عند عدم العلم بالعربية أو عدم انطلاق اللسان بها، ويكون ذلك بمثابة ذكر وتسبيح لله تعالى؛ لأن العاجز سقطت عنه القراءة فيذكر الله تعالى ويسبحه بلغته، بينما ذهب الأئمة الثلاثة إلى أن العاجز عن العربية وقراءة القرآن يصلي ساكتًا بلا قراءة، وتسقط عنه للعجز (¬1). ثانيًا: القراءة المشهورة والقراءة الشاذة: ويتفرع عن اشتراط التواتر في نقل القرآن الكريم أن القراءة غير المتواترة سواء أكانت مشهورة أم كانت شاذة، وخارجة عن نطاق المصحف العثماني والقراءات السبع، فإنها لا تعتبر قرآنًا، ولا يتعبد بتلاوتها, ولا تصح الصلاة بها باتفاق المسلمين (¬2). وإنما ذهب بعض العلماء إلى الاحتجاج بالقراءة المشهورة أو الشاذة على أنها سنة ثابتة، وخالفهم الجمهور في ذلك، وسبق بيان الآراء في أسباب الاختلاف. ثالثًا: هل البسملة من القرآن: اتفق المسلمون على أن "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" بعض آية من القرآن الكريم في سورة النمل، ثم اختلفوا في كونها آية من أوائل السور على ثلاثة أقوال: ¬

_ = في علوم القرآن 1/ 288. (¬1) فواتح الرحموت: 2 ص 8، تيسير التحرير: 3 ص، التلويح: 1 ص 159، كشف الأسرار: 1 ص 25، شرح المنار: ص 9، أصول السرخسي: 1 ص 281. (¬2) فواتح الرحموت: 2 ص 9، مختصر ابن الحاجب: ص 49، 50، تيسير التحرير: 3 ص 9، حصول المأمول: ص 39، حاشية العطار: 1 ص 297.

القول الأول: أن البسملة آية من القرآن الكريم في أول كل سورة أو مع الآية الأولى من كل سورة إلا في سورة التوبة، وهو قول الشافعي. واستدل على ذلك أن البسملة منزلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أول كل سورة، لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله في أول كل سورة" (¬1)، وأنها كتبت مع القرآن بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وأن المسلمين أثبتوها في مصحف عثمان بالإجماع، مع تصلب الصحابة في الدِّين، وتشدُّدِهم في حفظ القرآن، ومنع الزيادة أو كتابة أسماء السور والنقط والتعشير (¬2)، وروت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فعدَّها آية (¬3)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فاتحة الكتاب سبع آيات، أولهنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (¬4). القول الثاني: أن البسملة ليست آية في أوائل السور مطلقًا، وهو قول المالكية ومنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، واستدلوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، أي بدون تسمية، واستدلوا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي، انظر: المستدرك 1 ص 551، نيل الأوطار 2/ 234، تلخيص الحبير 1/ 223. (¬2) المستصفى: 1 ص 102، الإحكام، الآمدي، 1 ص 151، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 296، مختصر ابن الحاجب: ص 49، حاشية البناني: 1 ص 227، الوسيط في أصول الفقه: ص 219، نيل الأوطار 2/ 222، المجموع 3/ 291. (¬3) رواه الدارقطني والحاكم، ومعناه عند أحمد وأبي داود والترمذي (انظر: نيل الأوطار 2/ 230، تلخيص الحبير 1/ 232). (¬4) انظر في أحاديث البسملة: الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف، لابن عبد البر، الرسائل المنيرية 2/ 156.

بعمل أهل المدينة الذين لا يعتبرونها من القرآن الكريم، وعمل أهل المدينة حجة عند المالكية؛ لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كان يعمله، وأن البسملة في أوائل السور للفصل بينها فقط (¬1)، وفي الحديث القدسي "قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله ... ". القول الثالث: أن البسملة آية واحدة من القرآن الكريم، وليست جزءًا من أوائل السور، بل وضعت للفصل بينها والتبرك فيها، وهو قول الحنفية، واستدلوا على كونها آية أنها كتبت في القرآن بأمر رسول الله، وأنها داخلة بين دفتي المصحف ومكتوبة بخط القرآن الكريم، وأن تواترها في أوائل السور لا يستلزم تواترها كآية، وإنما أنزلت للفصل، لحديث ابن عباس السابق، كما ترك قراءتها نصف القراء؛ لأنه ثبت عندهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركها عند قراءة السور، وقراءة القراء متواترة، ولهذه الاحتمالات والشبه فإن منكرها لا يكفر (¬2). قال الشوكاني: والحق أنها آية في كل سورة لوجودها في رسم المصحف، وذلك هو الركن الأعظم في إثبات القرآنية للقرآن، ثم الإجماع على ثبوتها خطأ في المصحف في أوائل السور، ولم يخالف في ذلك من لم يثبت كونها قرآنًا من القراء وغيرهم، وبهذا حصل الركن الثاني وهو النقل مع كونه نقلًا إجماعيًّا بين جميع الطوائف، وأما الركن الثالث وهو موافقتها للوجه الإعرابي والمعنى العربي فذلك ظاهر (¬3). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، شرح الكوكب المنير: 2 ص 124. (¬2) فواتح الرحموت: 2 ص 14، تيسير التحرير: 3 ص 7، شرح الكوكب المنير: 2 ص 124، أصول السرخسي: 1 ص 280، التلويح والتوضيح: 1 ص 159، 161، كشف الأسرار: 1 ص 23، والقراءات السبع المنسوبة إلى الأئمة السبعة، وهم نافع وابن كثير، وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، قراءات متواترة. (¬3) إرشاد الفحول، له: ص 31.

المطلب الثاني في حجية الكتاب الكريم

المطلب الثاني في حجية الكتاب الكريم اتفق المسلمون قاطبة على حجية الكتاب الكريم، وأنه يجب العمل بما ورد فيه والرجوع إليه لمعرفة حكم الله تعالى ولا يجوز العدول عنه إلى غيره من مصادر التشريع إلا إذا لم يقف العالم على الحكم في القرآن الكريم، وذلك لأن الكتاب هو كلام الله تعالى الذي جاء بالشريعة السماوية للناس (¬1)، والدليل على ذلك ما يلي: 1 - الكتاب منقول إلينا بالتواتر، فهو ثابت قطعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصادق الأمين الذي نقله عن جبريل عن اللوح المحفوظ، والتواتر يفيد العلم اليقيني القطعي الذي لا يحتمل غيره. 2 - جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تنطق أن هذا الكتاب من عند الله تعالى، منها قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} [آل عمران: 2، 3] وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] وقوله تعالى: ¬

_ (¬1) الإحكام، ابن حزم: 1 ص 85، 86، فصول في أصول التشريع الإِسلامي، سليمان: ص 10، أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 47، أصول الفقه، البرديسي: ص 181.

أولا: معنى الإعجاز

{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105] وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89] وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17] , وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)} [الإنسان: 23]. 3 - إعجاز القرآن الكريم، وهو الدليل الجازم على كون القرآن الكريم من كلام الله تعالى، أنزله على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وقد أعجز البشر على أن يأتوا بمثله. والقرآن الكريم معجزة الله الخالدة على صدق نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وإن الأحكام الواردة فيه أحكام الله تعالى أنزلها هداية للناس وإرشادًا (¬1). وهذا يقتضي منا أن نبين معنى الإعجاز وشروطه ووجوهه. أولًا: معنى الإعجاز: الإعجاز لغة: نسبة العجز إلى الغير، من عَجَزَ عنه أي: ضعف، والمعجزة هي إعجاز الخصم عن التحدي، والهاء للمبالغة، يقال: أعجز الرجل أخاه إذا أثبت عجزه عن شيء (¬2). والإعجاز في القرآن هو قصد إظهار صدق النبي في دعوى الرسالة، بفعل خارق للعادة، وإعجاز القرآن ارتقاؤه في البلاغة إلى حد خارج عن طرق البشر، ولهذا عجزوا عن معارضته عند تحديهم، والإعجاز في الكلام هو أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق (¬3). وقد أعطى الله تعالى كل نبي معجزة أو أكثر، للدلالة على صدق ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 3 ص 4، مصادر التشريع الإِسلامي: ص 70، الجواب الصحيح: 4 ص 71. (¬2) القاموس المحيط: 2 ص 181، المصباح المنير: 2 ص 538. (¬3) نهاية السول: 1 ص 204، حاشية العطار: 1 ص 294، إرشاد الفحول: ص 30، التعريفات، الجرجاني: ص 26.

ثانيا: شروط الإعجاز

نبوته، وكانت معجزات الأنبياء تتناسب مع أهل زمانهم، ففي عهد موسى - عليه السلام - شاع السحر، وانتشر في بقاع الأرض، فكانت معجزته في العصا واليد، وتحداهم وتغلب عليهم، وفي عصر عيسى - عليه السلام - ترقى الطب فكانت معجزته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والشفاء من الأمراض المستعصية بإذن الله ومشيئته، فاقروا بنبوته وآمنوا به، وفي الجزيرة العربية سادت البلاغة والفصاحة والبيان والشعر العربي، فكانت معجزة محمَّد عليه الصلاة والسلام القرآن الكريم الذي نزل بلغة العرب وألفاظهم وحروفهم، فعجز أئمتهم عن الإتيان بمثله، فصدقوا به وآمنوا برسالته، وعلموا أن هذا الكلام لا يقوله بشر، بل هو من عند الله تعالى. وامتازت معجزة محمَّد عليه الصلاة والسلام على المعجزات الأخرى أنها معجزة حية باقية خالدة في كل عصر، ودائمة في كل زمان (¬1)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نبي من الأنبياء قبلي إلا أعطي من الآيات -المعجزات- ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (¬2). ثانيًا: شروط الإعجاز: ويشترط في تحقيق الإعجاز لإثبات العجز للغير أن تتوفر في المعجزة الشروط التالية (¬3)، وهي: الشرط الأول التحدي: وهو طلب المباراة والمنازلة والمعارضة: وقد تحقق هذا الشرط في إعجاز القرآن الكريم، وذلك أن محمَّد بن ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 77، مصادر التشريع الإِسلامي: ص 70. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأحمد. (¬3) أصول الفقه، خلاف: ص 25.

عبد الله أخبر الناس أنه رسول الله بعثه الله تعالى إلى الناس بشيرًا ونذيرًا بين يدي عذاب أليم، والدليل الذي يؤكد صدق دعوته هذا القرآن الكريم الذي هو من كلام الله تعالى أوحاه إلى محمَّد معجزة له، وتحدى البشر على أن يأتوا بمثله، واستمر هذا التحدي عدة سنوات، ومر بثلاث مراحل، وهي: المرحلة الأولى: التحدي بأن يأتوا بكتاب مثل القرآن الكريم في جميع نواحيه، فقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} [القصص: 49، 50] , وزاد القرآن الكريم في التحدي بل في السخرية منهم وتأكيد العجز ولو تساعد الإنس والجن على ذلك فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]. المرحلة الثانية: عندما عجز المشركون عن الإتيان بمثل القرآن الكريم كاملًا، تحداهم وبيَّن عجزهم عن الإتيان بعشر سور مثله، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)} [هود: 13، 14]. المرحلة الثالثة: ولما عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور تحداهم بسورة منه، وطلب المعارضة بذلك، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 23، 24] ومع كل ذلك فقد وقفوا حيارى مبهوتين عن الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله (¬1). ¬

_ (¬1) أصول التشريع الإسلامي: ص 16، الجواب الصحيح: 4 ص 72.

الشرط الثاني: أن يوجد المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المباراة والمنازلة

الشرط الثاني: أن يوجد المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المباراة والمنازلة، فهل كان هناك دافع للعرب الكفار لمعارضة القرآن، وأن ينازلوا محمدًا في الإتيان بمثل كتابه؟. والجواب واضح وظاهر؛ لأن الكفار في الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام، ويقدسون الأوثان، ويقلدون الآباء، ويتبعون الأجداد، فجاء رسول الله بدين جديد يبطل دينهم، ويسخر من آلهتهم، ويسفه عقولهم، ويهزأ من أصنامهم، وفرق شملهم بدعوته لله، وأنه رسول الله، وأن القرآن معجزته التي تحداهم بها، فكان الدافع قويًّا وشديدًا إلى التحدي، وكانوا حريصين على تكذيب دعواه، وإبطال نبوته ومعجزته، ودحض حجته، لتبقى لهم الآلهة والأصنام، ويستمروا في تقليد الآباء والأجداد والدفاع عنهم والسير على سننهم ومنوالهم. الشرط الثالث: أن ينتفي المانع من المباراة والمعارضة والمنازلة، وهذا الشرط متحقق في العرب الذين تحداهم رسول الله، فالقرآن نزل بلغة عربية، ويتألف من أحرف الهجاء التي ينطقون بها، وعباراته عربية، وأسلوبه عربي مبين، ومن جهة أخرى فالعرب وقتئذ في مكة وغيرها هم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، اشتهروا بذلك وتباروا بينهم، وعقدوا الندوات والأسواق للشعراء والخطباء والفصحاء، فهم أرباب الفصاحة وفرسان البلاغة وأمراء البيان، ومن جهة ثالثة فإن أقوالهم مملوءة بالحكم، وأشعارهم ثرية بالمواعظ والإرشاد، وحياتهم تدل على نضج العقل وكثرة التجارب في هذا الميدان، وطلب منهم القرآن الكريم أن يتجمعوا، وأن يُعين بعضهم بعضًا، وأن يستمدوا النصرة من آلهتهم وإنسهم وجنهم، وأن يستعينوا بشهدائهم، وبقي الأمر كذلك على مدى ثلاث وعشرين سنة، وهذا يؤكد إنتفاء المانع من المعارضة في الإتيان بمثل هذا القرآن، مع ما أصابهم من خزي وعار، وما تبع عجزهم من اللجوء إلى الحرب وسفك الدماء، وهذا أشد

ثالثا: وجوه إعجاز القرآن الكريم

عليهم من التحدي بالمعجزة. فالإعجاز قد تم وتحقق، وأن القرآن الكريم هو كلام الله، ولا يستطيع البشر أن يأتوا بمثل سورة منه، وأنه دليل على صدق نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه معجزة من عند الله تعالى، يتقبله المؤمن بصدر رحب، ويرجع إليه لمعرفة حكم الله تعالى، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 77 - 79]. ثالثًا: وجوه إعجاز القرآن الكريم: بعد أن تبين أن القرآن الكريم معجزة، وأنه أعجز البشر عن المجيء بمثله، فما هي أوجه الإعجاز التي اشتمل عليها؟. إن القرآن الكريم كلام الله تعالى معجزة في مناحية من نواحيه، وإن العقل البشري في عصر ما قاصر عن حصر أوجه الإعجاز، وإنه معجزة لرسول الله في حياته وبعد مماته إلى أن تقوم الساعة، وإنه برهان أكيد دائم على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لا يمكن حصر أوجه الإعجاز فيه، وكلما ازداد النظر والتدبر في كتاب الله تعالى تجلت أنواع جديدة في إعجازه، وكلما تقدم العلم وتطورت وسائله تكشفت أوجه أخرى في الإعجاز، وكلما سار الزمن ظهرت معجزات القرآن الكريم، وتأكد أنه كلام الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى، ويطلع على أسرار الكون القديمة والحاضرة والمسقبلة، وأن الزمن مكشوف أمام الله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]. ومع ذلك حاول العلماء حصر أوجه الإعجاز بما يلي (¬1): ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 28، أصول التشريع الإِسلامي: ص 17، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 78، فصول في أصول التشريع الإسلامي: ص 10، الجواب الصحيح: 1 ص 74، الإنصاف، للباقلاني: ص 62، إعجاز القرآن للباقلاني: =

1 - اتساق ألفاظه وعباراته ومعانيه وأحكامه ونظرياته: فالقرآن الكريم كتاب كبير، شامل لموضوعات مختلفة في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع، وتحدث عن الخالق والإنسان والكون والمجتمع، ومع ذلك تجد الاتساق الكامل في اختيار الألفاظ، وتناسق العبارات، وعظمة المعاني وشمول الأحكام، وإتقان النظريات العلمية فيه، دون أن يكون فيه وهن أو ركاكة أو ضعف أو تناقض أو تعارض أو اختلاف، وذلك تحقيقًا لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. فالأسلوب بليغ في جميع السور والآيات، والألفاظ فصيحة من أوله إلى آخره، والعبارات راقية في كل جانب من جوانبه، مع كثرة آياته التي تزيد عن ستة آلاف وستمائة آية، ومع امتداد الفترة الزمنية التي نزل فيه خلال ثلاث وعشرين سنة، وما ذلك إلا لأنه كلام الله تعالى المنزل على محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. ويلاحظ المتأمل اختلاف أسلوب القرآن الكريم حسب الموضوع الذي يتناوله، فإن كان الموضوع تشريعًا كانت الآيات طويلة، والعبارات واضحة، والأسلوب هادئًا، وإذا كان يتعلق بتثبيت العقيدة، وهدم العقائد الباطلة، ومجادلة الكفار في تفكيرهم، وتذكير الناس بيوم الحساب والعقاب، أو الجنة والنعيم، كان الأسلوب خطابيًّا محركًا للوجدان والمشاعر، مع نبرة خاصة، وعبارات مختصرة، وآيات قصيرة، وذلك أن لكل مقام مقالًا. 2 - انطباق آيات القرآن الكريم على ما يكشفه العلم الصحيح: القرآن الكريم أنزله الله تعالى كتاب هداية في الإيمان والعقيدة، ¬

_ = 1/ 151 على هامش الإتقان للسيوطي.

ودستور حياة للناس، وليس من مقاصده أن يتعرض لطبيعة الكون، ويبين النظريات العلمية في تكوين السموات والأرض والإنسان ونظام الوجود، ولكنه أشار عند الاستدلال على وجود الله وعظمة الخالق ووحدانيته إلى بعض المخلوقات في عظمتها ونظامها وكثرة نفعها ووظائفها, ولفت النظر إلى نظريات علمية بعضها في متناول العقل في حياة العرب في الجزيرة كالإبل والشمس والقمر والجبال والإنسان، وبعضها الآخر يكشفها العلم الحديث في كل عصر وزمان، ولا يزال العلم -وسيبقى- يحقق إشارات القرآن الكريم في الكون والإنسان، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53] وأن العلم الذي يكشف عن حقيقة الكون والنظام يقف مكتوفًا عن إيجاد هذه المخلوقات أو إقامة النظام بينها، وهذا دليل وبرهان على أن هذا الكتاب من عند الله، وأن البشر عاجزون عن الإتيان بمثله، والآيات الكريمة كثيرة في هذا المجال، ويحاول كثير من العلماء في كل زمان جمع هذه الآيات التي كشف عن سرها العلم الحديث، مثل قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 4] , التي تشير إلى علم البصمات، وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر: 22] التي تشير إلى علم التكاثر، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء: 30] وهذا يشير إلى علم الأحياء، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)} [المؤمنون: 12 - 15] وهذه الآيات تشير إلى تكوين الجنين وأطوار خلقه، وقوله تعالى: {وَفِي

أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21] , وغير ذلك من الأمثلة التي يحاول بعض العلماء إفرادها في كتب خاصة حسب الاختصاصات والعلوم (¬1). 3 - إخباره عن وقائع لا يعلمها إلا علام الغيوب: أخبر القرآن الكريم عن قصص الأمم الخالية، وعن تاريخ الأنبياء والمرسلين، وعما حدث في غابر الأزمان، مما يعجز البشر عن تذكره ومعرفته وخاصة من أُمّي ومن أمة أمِّية، قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)} [هود: 49]. كما أخبر القرآن الكريم عن وقوع حوادث في المستقبل لا يمكن لإنسان أن يعلمها، وقد وقعت فعلًا، مثل انتصار الروم بعد هزيمتهم، قال تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم: 2، 3] ومثل دخول مكة بعد الرجوع عنها، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} [الفتح: 27] , ومثل عودة رسول الله إلى مكة بعد هجرته منها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] , ومثل وعد الله تعالى للمؤمنين أن يستخلفهم في الأرض، وقد تم ذلك ودانت الجزيرة العربية لهم في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم امتد الإِسلام وسيطر المسلمون على أرض الفرس والروم، وتحقق وعد الله للمؤمنين، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ¬

_ (¬1) انظر: كتاب: الله يتجلى في عصر العلم، وكتاب: العلم يدعو للإيمان، وكتاب: القرآن الكريم والعلم الحديث، وكتاب: الإِسلام والطب، وكتاب: النحلة تسبح ربها، وكتاب: العسل للدكتور نزار الدقر، وكتاب: إعجاز علم الحياة "بيولوجيا" في القرآن الكريم، للمهندس محمود الخطيب، وغيرها.

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55]. كل ذلك يؤكد أن القرآن الكريم من عند الله تعالى الذي يعلم الغيب، وأنه أنزله معجزة لرسوله، وأن هذه النواحي في الإعجاز بما ورد فيه من حقائق علمية، وتوجيهات سامية، وتربية عظيمة، ومقاصد نبيلة، وإخباره بوقائع غيبية قديمًا ومستقبلا، تظهر واضحة للعربي ولغير العربي على حد سواء. 4 - فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره: إن ألفاظ القرآن الكريم منتقاة من اللغة العربية بما يحقق المعنى المقصود منها، والعبارات بليغة ومطابقة لأعلى مستويات البلاغة، ويعرف ذلك ويتذوقه العالم في اللغة والتشبيهات والأمثال والحجج والمجادلات، وأكد هذا علماء الفصاحة والبلاغة في هذه الأمة، وتكفلوا بإظهاره للناس، وبيانه ومقارنته مع أرقى الأساليب والعبارات التي يفخر بها أصحابها (¬1). وتظهر قوة تأثير القرآن الكريم على النفوس والقلوب بما تحدثنا السيرة أن أبا سفيان والأخنس بن شُريْق وأبا جهل كانوا يتسللون ليلًا لاستماع القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن أثر القرآن وبلاغته كان السبب المباشر في إسلام عمر بن الخطاب عندما قرأ سورة طه في بيت أخته، وأن كفار قريش خافوا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم من أثر القرآن ¬

_ (¬1) انظر: كتاب تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، وإعجاز القرآن للقاضي الباقلاني، ودلائل الإعجاز للجرجاني، وإعجاز القرآن للقاضي عياض، وإعجاز القرآن للرافعي، والظاهرة القرآنية للمرحوم مالك بن بني، وأعلام النبوة للماوردي، والإرشاد إلى قواطع الأدلة، للجويني ص 345.

الذي كان يتلوه أبو بكر رضي الله عنه عندما استجار بابن الدُغُنّة، فخيروا أبا بكر بين ترك قراءة القرآن وترك الجوار، فترك جوار ابن الدغنة ورضي بجوار الله (¬1). وكان الكفار يخشون من سماع القرآن، ويتواصون بالابتعاد عنه، قال تعالى حكاية عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26] وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر: 21] , وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} [المائدة: 83]. ويعبر عن هذا التأثير الوليد بن المغيرة الذي أرسله كفار قريش ليفاوض رسول الله بالمال والسلطان والنساء على ترك الإِسلام، فرده وتلا عليه القرآن الكريم، وعاد الوليد متأثرًا بالقرآن وقال: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر" (¬2). ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأثير القرآن الكريم على القلب والنفس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هو حبل الله المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يُعْوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، ولا يَخْلق على كثرة الرد" (¬3). ويؤكد هذا التأثير العظيم على النفوس أنه ربَّى أمة، ونقلها من ¬

_ (¬1) السيرة النبوية، ابن هشام: 1 ص 315، 271، 342. (¬2) السيرة النبوية، ابن هشام: 1 ص 270. (¬3) رواه الحاكم عن ابن مسعود، وأخرجه الترمذي عن علي مرفوعًا، وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الصراط المستقيم قال: كتاب الله (المستدرك 2/ 258).

جاهلية جهلاء إلى قيادة الأمم، وحملت مشعل العلم والنور والحضارة والهداية إلى أمم الأرض، وكتب التاريخ والسيرة والتراجم غنية في ذلك (¬1). 5 - ما تضمنه القرآن الكريم من الأحكام الشرعية التي أقامت شريعة الله في الأرض: وهي قوام الأنام في الحلال والحرام، وصلاح الأمة في الدنيا والآخرة، وإن هذه الشريعة التي تصلح الفرد والمجتمع، وترقى بهما إلى مدارج السمو النفسي والروحي والعقلي والعلمي والحضاري دليل على معجزة القرآن الكريم، وأنه من عند الله تعالى، وأن البشر لا يستطيعون، ولن يستطيعوا، أن يضعوا شريعة تسامى شريعة الله، وتصلح الأمم والشعوب كما فعل القرآن الكريم (¬2). هذه أهم صفات الإعجاز التي وقفت البشرية خاشعة أمامها مع العلم القطعي والمعرفة الكاملة بحياة محمَّد بن عبد الله الذي جاء بالقرآن الكريم، وأنه نشأ يتيمًا فقيرًا في مكة، وتربى بين أظهرهم، ولم يتعلم في مدرسة ولا جامعة، ولا يعرف القراءة والكتابة، ونبه إلى ذلك القرآن الكريم فقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلا الظَّالِمُونَ (49)} [العنكبوت: 48، 49]. وإن الدراسات القرآنية كثيرة لا تحصى، وستبقى العناية بالقرآن الكريم حفظًا ودراسة حتى تقوم الساعة (¬3)، ونفرد في المطلب القادم أحكام القرآن الكريم التي تخص علم الأصول. ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 17، وما بعدها، الوسيط في أصول الفقه: ص 227، أصول التشريع الإِسلامي: ص 17، مصادر التشريع الإِسلامي: ص 71. (¬2) أصول الفقه، أبو زهرة؛ ص 81. (¬3) انظر: مرجع العلوم الإِسلامية، فصل علوم القرآن ص 139 وما بعدها.

المطلب الثالث في أحكام الكتاب الكريم

المطلب الثالث في أحكام الكتاب الكريم نذكر في هذا المطلب أنواع الأحكام التي اشتمل عليها كتاب الله تعالى، وطريقة بيان القرآن للأحكام، ومفهوم الكمال في أحكام القرآن، ودلالة الكتاب على الأحكام، وأسلوب القرآن في عرض الأحكام، وفي الخاتمة كيفية الانتفاع بالقرآن الكريم. أولًا: أنواع الأحكام في الكتاب: اشتمل القرآن الكريم على جميع الأحكام التي تخص البشرية في الحياة الدنيا والآخرة، ويمكن تصنيف هذه الأحكام بما يلي (¬1): 1 - الأحكام الاعتقادية، وهي الأحكام التي تتعلق بعقيدة المسلم وإيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وتُدرس هذه الأحكام في مادة العقيدة أو علم الكلام. ب- الأحكام الأخلاقية، وهي الأحكام الوجدانية التي تتعلق بالفضائل التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، وبالسلوك الذي يجب ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 33، الوسيط في أصول الفقه: ص 228، فصول في أصول التشريع الإِسلامي، جاد المولى سليمان: ص 8، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 89.

عليه أن يتبعه ويسير عليه، وتدرس هذه الأحكام في علم الأخلاق. جـ - الأحكام العملية، وتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أحكام العبادات التي تنظم علاقة الإنسان بربه، وتبين ما يجب على المكلف أداؤه، والقيام به تجاه خالقه، وهي أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج والكفارات والنذور والأضاحي والأعمال الأخرى التي تصبح عبادة بالنية. القسم الثاني: أحكام المعاملات التي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات. وتنقسم أحكام المعاملات في الاصطلاح الفقهي الحديث إلى سبعة أقسام وهي: 1 - أحكام الأحوال الشخصية: وهي الأحكام التي نص عليها القرآن الكريم لبناء الأسرة، وبيان تكوينها، وتنظيم العلاقة بين أفرادها من الزوجين والأولاد والأقارب. 2 - الأحكام المدنية أو المالية: وهي الأحكام التي تنظم العلاقة المالية بين الناس، كالبيوع وعقود التوثيق والكفالة والرهن وعقود التعاون بين الأفراد كالشركة والقرض والوديعة والإعارة. 3 - الأحكام الجنائية: وهي الأحكام التي نص عليها القرآن الكريم لبيان الأفعال التي حرمها الإِسلام، ووضع لها عقوبة من أجل الحفاظ على حياة الناس وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم، وتعرف بالحدود والقصاص والتعازير. 4 - أحكام المرافعات: وهي الأحكام التي تتعلق بنظام القضاء والإثبات لإقامة العدل بين الناس، ودرسها العلماء في باب أدب القضاء.

ثانيا: بيان الكتاب للأحكام

5 - الأحكام الدستورية: التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، وتبين علاقة الحاكم بالمحكومين، وحقوق الأفراد والجماعات، ودرسها العلماء في الأحكام السلطانية والسِّير. 6 - الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإِسلامية لغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وتنظيم علاقة الدولة بأهل الذمة المستأمنين المقيمين على أرضها، وعرفت قديمًا، ودرسها الفقهاء في باب الجهاد. 7 - الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تنظم الموارد والمصارف في الدولة الإِسلامية، وكانت هذه الأحكام مبعثرة في أبواب متفرقة، وقد توجهت العناية والاهتمام بها حديثًا، وظهرت بشكل مستقل في هذا العصر. هذه مجمل الأحكام التي نص عليها، أو أشار إليها، القرآن الكريم، وهي في مجموعها تهدف إلى هداية الناس إلى ما فيه صلاح حالهم في الدنيا والآخرة، وذلك بإصلاح القلوب والعقول بالعقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة، وتسعى إلى توجيه النفوس والجوارح إلى الأعمال الصالحة وتقويم السلوك وحسن المعاشرة وتكوين المجتمع الإِسلامي الفاضل. ثانيًا: بيان الكتاب للأحكام: القرآن الكريم أساس الشريعة ومصدرها الأول، وقد بين القرآن الكريم أحكامه بإحدى طريقتين (¬1): الأولى: البيان التفصيلي لبعض الأحكام، وذلك في نطاق محدود، ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 49، أصول الفقه، الخضري: ص 235، أصول الفقه، أبو زهرة ص 86، الموافقات 3 ص 242.

مثل بحوث العقيدة التي وردت الآيات الكثيرة فيها لتوضيح حقيقة الإيمان بالله وكيفيته والأدلة عليه، ومناقشة العقائد الباطلة والرد عليها، مثل أحكام المواريث التي جاءت مفصلة وشبه تامة في القرآن الكريم، ومثل أحكام الأسرة والحدود والكفارات تقريبًا. والحكمة من البيان التفصيلي أن هذه الأحكام إما أنها تعبدية أي توقيفية أو سماعية، لا مجال للعقل فيها, ولا يصح فيها الاجتهاد، وإما أنها أحكام معقولة لمصالح ثابتة لا مجال لتغييرها بتغيير الزمن، أو اختلاف البيئات. الثانية: البيان الإجمالي لبقية الأحكام الشرعية التي ورد النص عليها في القرآن الكريم بشكل إجمالي لا تفصيلي، وبشكل كلي لا جزئي، ونص القرآن الكريم على القواعد العامة فيها والأسس الرئيسية عليها، مثل أحكام العبادات في الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذه العبادات اقتصر القرآن الكريم على طلبها بشكل عام، ولم يبين لنا أركانها وشروطها وكيفية أدائها، وكذلك أحكام المعاملات المدنية والدولية والجنائية والدستورية .. وغير ذلك، وهذا لا يمنع من تعرض القرآن الكريم لبعض الجزئيات والتفاصيل فيها أحيانًا، ونص القرآن الكريم على بيانها عن طريق السنة وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44] وهذا يؤكد وجوب الرجوع إلى السنة، وأنه لا يصح الوقوف عند مجرد الكتاب. والحكمة من البيان الإجمالي للأحكام في الكتاب الكريم أن هذه الشريعة جاءت خاتمة الشرائع لترافق البشرية مع تطورها وتقدمها فاقتضى ذلك أن تتصف نصوصها بالمرونة والشمول لتتسع لحاجات الناس، فجاء النص القرآني يشير إلى المبدأ الأساسي الذي يجب

ثالثا: الكمال في أحكام القرآن الكريم

الالتزام به، وترك تفصيله وتطبيقه وكيفية أدائه لعلماء الأمة حسب مقتضيات الزمان والمكان، مثال ذلك الأمر بالشورى في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] , ووصف المؤمنين بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] , فالنص عام ومرن، وأما التنفيذ فله أشكال متعددة لا تدخل تحت حصر، فيختار كل فرد وكل جماعة وكل أمة ما يلائمها من وسائل لتطبيق الشورى. ولكن هذا الموضوع يقودنا إلى سؤال: كيف يتفق ذلك البيان مع صفة الكمال في القرآن الكريم؟ ثالثًا: الكمال في أحكام القرآن الكريم: قد يبدو للإنسان شيء من التعارض بين هذا البيان الإجمالي العام في القرآن الكريم، وبين عدد من الآيات التي تصف القرآن بالكمال، مثل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89] وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38] (¬1). ويلاحظ أن بعض الناس تمسكوا بظاهر هذه الآيات في محاولة رد السُّنة وغيرها من مصادر التشريع، وسبقت الإشارة في الرد عليهم؛ وسيأتي مزيد من التفصيل في حجية السنة؛ كما تعرض لهذه المسألة بعض ضعاف الإيمان ودعاة التشكيك في العقيدة بالتنطح والتحدي بضرب بعض الأمثلة والحوادث والوقائع والكونيات والمخترعات التي يطلبون دلالة القرآن الكريم عليها. ¬

_ (¬1) انظر قول الشاطبي: إن القرآن فيه بيان كل شيء، الموافقات: 3/ 244.

والجواب عن ذلك أن القرآن الكريم عالج الأمور وبين الأحكام بشكل إجمالي ونص على القواعد العامة، والمبادئ الهامة، ونبه على مقاصد الشريعة وأهدافها، وأحال العاقل إلى التدبر والتأمل عن طريق القياس والاستحسان والاستصلاح، وأرشد إلى السنة بأسلوبه الرائع المعجز؛ لأن القرآن لا يتسع للنص على كل شاردة أو واردة، وإن هذا الأسلوب يعطي التشريع صفة المرونة والشمول، ويتيح المجال لتطبيق الشريعة في كل زمان ومكان، وأنها صالحة للبشرية عامة. فمثلًا سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ميراث الجدة في كتاب الله تعالى، فقال للسائل: في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وسئل عالم عن مرض ودواء في كتاب الله فقال: إنه في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. ونرى أن الكمال في القرآن الكريم يتحقق بالأمور الثلاثة التالية: 1 - النصوص التفصيلية التي جاءت في القرآن الكريم كالمواريث واللعان والعقيدة. 2 - النصوص المجملة التي وردت في القرآن الكريم وتضمنت القواعد العامة والمبادئ الكلية والضوابط الشرعية، وتركت تفصيل ذلك إلى علماء الأمة يضعون التفاصيل التي تحقق أغراض الشريعة وأهدافها العامة، وتتفق مع مصالح الناس وتطور الأزمان واختلاف البيئات. 3 - الإحالة بنص القرآن الكريم إلى المصادر الأخرى التي تعتبر جزءًا من الشريعة، مثل السنة والإجماع والقياس وغير ذلك من المصادر التي أمر بها، أو أشار إليها، القرآن الكريم. وبذلك يكون القرآن الكريم قد تناول جميع الأحكام ونظم الحقوق

رابعا: دلالة آيات القرآن على الأحكام

والواجبات إما تفصيلًا وإما إجمالًا وإما بالإحالة إلى غيره، ويكون الكتاب الكريم -بحق- كاملًا ومستوفيًا لجميع الأشياء (¬1). رابعًا: دلالة آيات القرآن على الأحكام: إن آيات القرآن الكريم ثابتة بطريق قطعي؛ لأنها نقلت إلينا بالتواتر الذي يوحي بالجزم أن الآية التي يقرؤها كل مسلم في بقاع الأرض هي نفسها التي تلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وهي التي نزل بها جبريل من اللوح المحفوظ من غير تبديل ولا تغيير، تحقيقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. أما دلالة النص القرآني على الحكم فليست واحدة، فمنها ما هو قطعي الدلالة، ومنها ما هو ظني الدلالة (¬2). فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلًا آخر معه، وذلك مثل النصوص التي وردت فيها أعداد معينة أو أنصبة محددة في المواريث والحدود قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} [النساء: 11] وقال تعالى: ¬

_ (¬1) انظر خصائص التشريع القرآني وهي الإجمال والعموم وقلة التكاليف وعدم الحرج والتدرج في التشريع والواقعية في كتاب (مصادر التشريع الإِسلامي ص 75، تاريخ التشريع الإِسلامي، السبكي والسايس والبربري: ص 49، والموافقات: 3 ص 244). (¬2) الوسيط في أصول الفقه: ص 231، أصول الفقه خلاف: ص 37، أصول التشريع الإِسلامي: ص 20، فصول في أصول التشريع: ص 11، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 87، أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 48.

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء: 12] فإن دلالة النصين قطعية على أن فرض البنتين الثلثان، وفرض البنت الواحدة النصف، وفرض الزوج النصف، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فالآية قطعية الدلالة على مقدار حد الزنا، وقال تعالى في كفارة اليمين: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} [المائدة: 89] فالعدد قطعي الدلالة، ولا تقبل الكفارة بأقل من ذلك، ولا بأكثر منه، وكل ما بيَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو قطعي الدلالة، مثل معنى الصيام، والصلاة، والزكاة، والحج، وقرر العلماء أن المصطلحات الشرعية تقدم على المعاني اللغوية. أما النص الظني الدلالة فهو ما يدل على عدة معان، أو هو ما يدل على معنى، ولكنه يحتمل معاني أخرى، بأن يحتمل التأويل والصرف عن معنى إلى غيره، مثل لفظ القرء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فلفظ القرء في اللغة لفظ مشترك بين معنيين: الطهر والحيض، والنص القرآني يحتمل أن يراد منه ثلاثة أطهار، كما قال الشافعي وغيره، ويحتمل أن يراد منه ثلاث حيضات، كما قال الإِمام أبو حنيفة ومن معه، وكذلك لفظ اليد في آية

خامسا: أسلوب القرآن الكريم في عرض الأحكام

السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فاليد لفظ مشترك لليمنى واليسرى، وتحتمل كلًّا منهما، كما يحتمل أن يراد منها الأصابع إلى الرسغ أو إلى المرفق أو إلى الإبط، فجاءت السنة وبينت ذلك. فهذا النص الذي يدل على عدة معان، أو يحتمل أكثر من معنى، تكون دلالته على المعنى ظنية. خامسًا: أسلوب القرآن الكريم في عرض الأحكام: سبق الكلام عن إعجاز القرآن الكريم، وأن من وجوه إعجازه فصاحته وبلاغته، وتقضي البلاغة أن تختلف الأساليب في عرض الأحكام، وأن تتنوع الألفاظ للدلالة على مقصوده، سواء أكان الموضوع في العقيدة أم في أخبار المغيبات أم في قصص الأنبياء أم في آيات الأحكام، ولذلك كثرت الأساليب التي تدل على معنى واحد، حتى لا تمله النفوس، فلم يعبر عن الوجوب مثلًا بلفظ يجب فقط، ولا على التحريم بلفظ حرم، بل يعبر عن الوجوب والتحريم بعدة صيغ وأساليب -كما سنبين ذلك في مباحث الواجب والحرام .. وبناء على ذلك فعلى المتأمل في كتاب الله تعالى لاستنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم أن يستعين بمدلولات الألفاظ وما يجري عليها من العرف استعمالها، وما يقترن بها من وعد أو وعيد، ومن مدح أو ذم، ومن ترغيب أو ترهيب. ويمكن إجمال الأساليب التي تدل على طلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير فيه بما يلي (¬1): ¬

_ (¬1) تاريخ التشريع الإِسلامي، السبكي والسايس والبربري: ص 57، أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 52، الوسيط في أصول الفقه: 232، أصول الفقه، =

خاتمة: في الانتفاع بالقرآن الكريم

1 - كل فعل عظمه الله تعالى في كتابه الكريم، أو مدحه أو أثنى على فاعله أو أحبه أو أقسم به أو أقسم بفاعله، أو قرب فاعله أو وصفه بالاستقامة أو البركة، فهو مطلوب فعله، ويكون حكمه بين الإيجاب وبين الندب بحسب صيغة طلبه من الشارع وترتب العقوبة على تركه أو عدم ترتبها. 2 - كل فعل طلب الشارع تركه أو ذمه، أو ذم فاعله أو لعنه أو شبه فاعله بالبهائم أو أنه من فعل الشيطان أو أنه يرضي الشيطان، أو يزين له، أو جعله سببًا لعقوبة في الدنيا أو عذاب في الآخرة، أو وصفه بخبث أو رجس أو نجس أو أنه يؤدي إلى الفسق أو يوقع في العداوة والبغضاء، فهو دليل على منع الفعل، ويكون حكمه إما التحريم وإما الكراهة بحسب الصيغة في طلب الترك أو ترتُّب العقوبة على فاعله أو عدم ترتبها. 3 - أما إذا جاء النص يدل على مجرد الجواز والإحلال أو بنفي الحرج أو الجناح أو الإثم على فاعله فيكون حكمه الإباحة، وسيأتي تفصيل ذلك في فصل الحكم التكليفي. هذه نظرة عامة في أحكام القرآن الكريم من حيث الظاهر والشكل، أما كيفية استنباط الأحكام من القرآن الكريم وكيفية دلالة آيات الكتاب على الأحكام الفقهية في كل مسألة فذلك منوط في مباحث الدلالات، أو في مباحث الكتاب والسنة. خاتمة: في الانتفاع بالقرآن الكريم: ونختم كلامنا عن الكتاب بالإشارة إلى بعض الأمور التي يجب ¬

_ = أبو زهرة: ص 88، وانظر: الإكليل في استنباط التنزيل، للسيوطي، ت عبد القادر، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2 سنة 1405 هـ 1985 / م ص 22 - 23.

مراعاتها للانتفاع بكتاب الله تعالى، نمهد الطريق بها إلى مبحث السنة. 1 - إن القرآن الكريم هو أساس الشريعة وأصلها ومعتمدها في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع، وإنه المرجع الأول في كل ذلك، وإنه المحتكم إليه عند الاختلاف فيها. وإن القرآن الكريم هو أساس سر بقاء الإِسلام، وهذا يقتضي وجوب العناية به حفظًا وتلاوة وتدبرًا وعلمًا وعملًا، وأنه يجب أن يكون قرين المؤمن في كل وقت، وأن يكون أنيسه في حله وترحاله، وأن يكون محيي نظره في تفكيره، وأن يتدبر آياته، وأن يتعظ بها، وأن يعمل بما فيه، وأن يسعى لنشره وتوزيعه إلى بيت كل مسلم، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} [الإسراء: 9] ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلغوا عني ولو آية" (¬1). 2 - يجب معرفة أسباب النزول؛ لأنها تعين على الفهم، وتساعد على بيان المراد من كلام الله تعالى؛ لأن القرآن الكريم نزل منجمًا خلال فترة طويلة، وكان ينزل حسب الوقائع والمناسبات، وإن الجهل بأسباب التنزيل يثير الشُّبه والإشكال في فهم المراد من النصوص العامة المجملة الواردة في القرآن الكريم (¬2). 3 - أن يعرف المسلم عادات العرب في أقوالها وأفعالها وتقاليدها، لأن القرآن الكريم نزل في مجتمعهم، فأقر الحسن منها، وأبطل القبيح، ¬

_ (¬1) هذا طرف من حديث رواه البخاري والترمذي وأحمد والدارمي، (انظر: صحيح البخاري: 2 ص 167، تحفة الأحوذي: 7 ص 431، مسند أحمد: 2 ص 1959، سنن الدارمي: 1 ص 136). (¬2) قال الشاطبي: "معرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن" الموافقات: 3/ 225.

وخاطبهم بما تدركه عقولهم من المعاني والألفاظ، وحملهم الرسالة، وأمرهم بالتبليغ والدعوة. ولا يقتصر الباحث على بيان المحاسن والعادات الحميدة بل لا بد من معرفة المفاسد والتقاليد الجاهلية التي كانت سائدة بينهم، لمعرفة معالجة القرآن الكريم لها، سواء في العقيدة أم في الأحكام، وقد تكون هذه الأمور سببًا من أسباب النزول التي تلقي الضوء على النص وفهمه. 4 - وجوب معرفة اللغة العربية ودراستها؛ لأن فهم القرآن الكريم والانتفاع منه والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة، وما يتعلق بها من المعاني والعبارات والصيغ والقواعد التي بحثها الأصوليون، وأصبحت جزءًا من علم أصول الفقه (¬1). قال الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى: لأنه لا يعلم من إيضاح جمل الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه، وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها (¬2). 5 - الاعتماد على السنة في فهم كتاب الله، وقد ظهر لنا هذا في أوجه الكمال في القرآن الكريم، وأنه لا يمكن فهم القرآن الكريم وتطبيقه إلا بعد معرفة السنة، وأن العمل بالسنة هو عمل بالكتاب، كما سيأتي، وأن السنة هي بيان للقرآن الكريم (¬3). ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإِسلامي، شاكر الحنبلي: ص 48، مصادر التشريع الإِسلامي، ص 60، أصول الفقه، الخضري: ص 231، أصول التشريع الإِسلامي: ص 28، الموافقات: 3 ص 225، 229، 243، منهاج الوصول، البيضاوي: ص 16، الرسالة: ص 42، نهاية السول: 1 ص 204، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 195، الموافقات: 2 ص 45، 3 ص 226. (¬2) الرسالة: ص 50. (¬3) الرسالة: ص 31، 32، الموافقات: 3 ص 25.

نصوص من كتب الأصول

نصوص من كتب الأصول: وفي نهاية هذا المبحث عن المصدر الأول، وهو الكتاب الكريم نورد نصين من كتب الأصول القديمة، ليطلع القاري على أسلوبها، ويتمرن على قراءتها، ويستفيد من مضمونها. النص الأول: من كتاب الرسالة للشافعي، وهو أقدم كتاب وأول كتاب في علم الأصول، ووضعت له عنوانًا، وهو" القرآن واللغة العربية" (¬1). والنص الثاني: من كتاب الأحكام للآمدي، ووضعت له عنوانًا وهو "التواتر في نقل القرآن الكريم". القرآن واللغة العربية قال الشافعي رحمه الله تعالى (¬2): ومن جماع علم كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب .. فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا. وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له، إن شاء الله. فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيًّا وأعجميًّا. والقرآن يدل على أنه ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب. ووَجَد قائلُ هذا القول من قَبِلَ ذلك منه، تقليدًا له، وتركًا للمسألة ¬

_ (¬1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: ص 203، 205، 207، وفيه عنوان "اللغة أعظم شعائر الأمم". (¬2) الرسالة، له: ص 41.

له عن حجته، ومسألة غيره ممن خالفه. وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم. ولعل من قال: إن في القرآن غيرَ لسان العرب، وقبل ذلك منه: ذهب إلى أن من القرآن خاصًّا يجهل بعضه بعضُ العرب. ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه. والعلم به عند العرب كالعلم بالسُّنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلًا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء. فإذا جُمعَ علمُ عامة أهل العلم بها أتي على السنن, وإذا فُرِّقَ علمُ كل واحد منهم: ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره. وهم في العلم طبقات: منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره. وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها: دليلًا على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله، بأبي هو وأمي، فيتفرد العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها. وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها: لا يذهب منه شيء عليها, ولا يطلب عند غيرها, ولا يعلمه إلا من قبله عنها, ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها. وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله. وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء.

فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟ فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد من ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه. ولا ننكر إذا كان اللفظ قيل تعلمًا أو نُطق به موضوعًا: أن يوافق لسانُ المعجم أو بعضها قليلًا من لسان العرب، كما يتفق القليل من ألسنة المعجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها. فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلطه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتاب الله، قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]. فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمَّد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمدًا بعث إلى الناس كافة: فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة المعجم؟ فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض: فلا بد أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع. وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي. ولا يجوز -والله أعلم- أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تَبَع للسانه، وكل أهلِ دينٍ قبله فعليهم اتّباع دينه.

وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه: قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192 - 195]. وقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37]. وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]. وقال: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} [الزخرف 1 - 3]. وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)} [الزمر: 28]. قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي، في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه -جل ثناؤه- كل لسان غير لسان العرب، في آيتين من كتابه: فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]. وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]. قال الشافعي: وعرفنا نعمه بما خصنا به من مكان فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة: 2]. وكان مما عرف الله نبيه من إنعامه أن قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] فخص قومه بالذكر معه بكتابه. وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] وأم القرى مكة، وهي بلده وبلد

التواتر في نقل القرآن الكريم

قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن يُنذروا بلسانهم العربي: لسان قومه منهم خاصة. فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطلق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك. وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه: كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما أمر بإيتائه، ويتوجه لما وجه له، ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه، لا متبوعًا. وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها. التواتر في نقل القرآن الكريم قال الآمدي رحمه الله تعالى (¬1): اتفقوا على أن ما نقل إلينا من القرآن نقلًا متواترًا، وعلمنا أنه من القرآن، أنه حجة، واختلفوا فيما نقل إلينا منه آحادًا، كمصحف ابن مسعود وغيره، أنه هل يكون حجة أم لا؟ فنفاه الشافعي، وأثبته أبو حنيفة، وبنى عليه وجوب التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه من قوله: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات". ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام، له: ص 148.

والمختار إنما هو مذهب الشافعي، وحجته أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مكلفًا بإلقاء ما أنزل عليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم، ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه، فالراوي له إذا كان واحدًا، إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ، وإن لم يذكره على أنه قرآن، فقد تردد بين أن يكون خبرًا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبين أن يكون ذلك مذهبًا له، فلا يكون حجة، وهذا بخلاف خبر الواحد عن النبي - عليه السلام -، وعلى هذا منع من وجوب التتابع في صوم اليمين على أحد قوليه. فإن قيل: قولكم: إن النبي - عليه السلام - كان يجب عليه إلقاء القرآن إلى عدد تقوم الحجة القاطعة بقولهم، لا نسلم ذلك، وكيف يمكن دعواه مع أن حفاظ القرآن في زمانه، - عليه السلام -، لم يبلغوا عدد التواتر لقلتهم، وإن جمعه إنما كان بطريق تلقي آحاد آياته من الآحاد، ولذلك اختلفت مصاحف الصحابة. ولو كان قد ألقاه إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم، لما كان كذلك، ولهذا أيضًا اختلفوا في البسملة أنها من القرآن، وأنكر ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن. سلمنا من وجوب ذلك عن النبي - عليه السلام -، وأنه سمعه منه جمع تقوم الحجة بقولهم، ولكن إنما يمتنع السكوت على نقله عن الكل لعصمتهم عن الخطأ، ولا يمتنع ذلك بالنسبة إلى بعضهم، وإذا كان ابن مسعود من جملتهم، وقد روى ما رواه، فلم يقع الاتفاق من الكل على الخطأ بالسكوت، وعند ذلك فيتعين حمل روايته لذلك في مصحفه على أنه من القرآن؛ لأن الظاهر من حاله الصدق، ولم يوجد ما يعارضه، غايته أنه غير مجمع على العمل به لعدم تواتره، وإن لم يصرح بكونه قرآنًا، أمكن أن يكون من القرآن وأمكن أن لا يكون، لكونه خبرًا عن

النبي - عليه السلام -، وأمكن أن يكون، لكونه مذهبًا له كما ذكرتموه، وهو حجة بتقدير كونه قرآنًا، وبتقدير كونه خبرًا عن النبي - عليه السلام -، وهما احتمالان، وإنهما لا يكون حجة بتقدير كونه مذهبًا له، وهو احتمال واحد، ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين، أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه. سلمنا أنه ليس بقرآن، وأنه متردد بين الخبر وبين كونه مذهبًا له، إلا أن احتمال كونه خبرًا راحج؛ لأن روايته له موهم بالاحتجاج به، ولو كان مذهبًا له لصرح به، نفيًا للتلبيس عن السامع المعتقد كونه حجة، مع الاختلاف في مذهب الصحابي هل هو حجة أم لا؟. والجواب: أما وجوب إلقائه على عدد تقوم الحجة بقولهم: فذلك مما لم يخالف فيه أحد من المسلمين؛ لأن القرآن هو المعجزة الدالة على صدقه - عليه السلام - قطعًا، ومع عدم بلوغه إلى من لم يشاهده بخبر التواتر، لا يكون حجة قاطعة بالنسبة إليه، فلا يكون حجة عليه في تصديق النبي - عليه السلام - ولا يلزم من عدم بلوغ حفاظ القرآن في زمن النبي - عليه السلام -، عدد التواتر أن يكون الحفاظ لآحاد آياته كذلك، وأما التوقف في جمع آيات القرآن على أخبار الآحاد، فلم يكن في كونها قرآنًا، بل في تقديمها وتأخيرها بالنسبة إلى غيرها، وفي طولها وقصرها. وأما ما اختلفت به المصاحف، فما كان من الآحاد فليس من القرآن، وما كان متواترًا، فهو منه، وأما الاختلاف في التسمية إنما كان في وضعها في أول كل سورة، لا في كونها من القرآن. وأما إنكار ابن مسعود، فلم يكن لإنزال هذه السور على النبي، عليه السلام، بل لإجرائها مجرى القرآن في حكمه. قولهم: إذا رواه ابن مسعود لم يتفق الكل على الخطأ، قلنا: وإن

كان كذلك، إلا أن سكوت من سكت، وإن لم يكن ممتنعًا، إلا أنه حرام لوجوب نقله عليه. وعند ذلك فلو قلنا: إن ما نقله ابن مسعود قرآن، لزم ارتكاب من عداه من الصحابة للحرام بالسكوت، ولو قلنا: إنه ليس بقرآن، لم يلزم منه ذلك، لا بالنسبة للراوي ولا بالنسبة إلى من عداه من الساكتين، وبتقدير ارتكاب ابن مسعود للحرام، مع كونه واحدًا أولى من ارتكاب الجماعة له، وعلى هذا، فقد بطل قولهم بظهور صدقه فيما نقله من غير معارض، وتعين نقله بين الخبر والمذهب. قولهم: حمله على الخبر راجح، لا نسلم ذلك. قولهم: لو كان مذهبًا لصرح به، نفيًا للتلبيس، قلنا: أجمع المسلمون على أن كل خبر لم يصرح بكونه خبرًا عن النبي - عليه السلام - ليس بحجة، وما نحن فيه كذلك، ولا يخفى أن العمل على المذهب، مع أنه مختلف في الاحتجاج به، أولى من حمله على الخبر الذي ما صرح فيه بالخبرية، مع أنه ليس بحجة بالاتفاق، وكيف وفيه موافقة النفي الأصلي، وبراءة الذمة من التتابع، بخلاف مقابله، فكان أولى.

المبحث الثاني في السنة الشريفة

المبحث الثاني في السنة الشريفة لقد اختار الله سبحانه محمد بن عبد الله لتبليغ رسالته للناس، واصطفاه لهذه المهمة، وأنزل عليه القرآن الكريم هدى ورحمة للعالمين، ليطبقه وينفذ أحكامه، ويرشد الناس إلى الدين الحق، والشريعة الغراء، بالتربية والتوجيه، فكانت أقواله وأفعاله مصدرًا تشريعيًّا كاملًا. وتعتبر السنة مصدرًا ثانيًا بعد القرآن الكريم، ولكنها تشتمل على كثرة الفروع، وزيادة التفصيل، ودقة التنظيم التشريعي؛ لأنها جاءت شارحة للقرآن الكريم، ومفصلة لقواعده الكلية التي جاءت في محكم آياته (¬1)، ولذا يتحتم علينا الاعتماد عليها، والاهتداء بنورها، والاستعانة بها على فهم كتاب الله تعالى، وسوف نرى تفصيل ذلك في مطلب مكانة السنة، بعد أن نتناول تعريف السنة وحجيتها وأنواعها وثبوتها. ¬

_ (¬1) السنة ومكانتها في التشريع، لأستاذنا المرحوم الدكتور مصطفى السباعي: ص 6.

المطلب الأول في تعريف السنة

المطلب الأول في تعريف السنة تعريف السنة لغة: هي الطريقة والعادة، حسنة كانت أم سيئة (¬1)، ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} [الإسراء: 77] ومنه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سنَّ في الإِسلام سُنّة حسنة فله أجرُها وأجرُ من عَمِل بها من بعده من غير أن يَنْقُصَ من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإِسلام سُنة سيئة كان عليه وزرُها ووزرُ من عَمِلَ بها من بعده من غير أن يَنْقص من أوزارهم شيء" (¬2)، ومن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتتَبِعُنَّ سنَنَ من كانَ قبلكم شِبرًا بشِبرٍ وذِراعًا بذراع" (¬3). تعريف السنة اصطلاحًا: عرف علماء الأصول السنة بأنها: "ما نقل عن رسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير" (¬4). فالسنة إما أن تكون قولية أو فعلية أو تقريرية. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 4 ص 236. (¬2) رواه مسلم عن جرير، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه. (¬3) رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري. (¬4) إرشاد الفحول: ص 33.

أولا: السنة القولية

أولًا: السنة القولية: هي الأحاديث التي نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع المناسبات والأغراض، وقد سمعها الصحابة رضوان الله عليهم، ونقلوها عنه، وهي تشكل السواد الأعظم من السنة، مثل حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1)، وحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" (¬2) ثانيًا: السنة الفعلية: وهي الأفعال والتصرفات التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم بها في دائرة العمل والتشريع، ونقلها الصحابة رضوان الله عليهم لنا بالوصف الدقيق في مختلف شؤون حياته، سواء أكان الوصف والنقل بطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قوله: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وقوله: "خُذُوا عني مناسككم" (¬3)، أم بدون طلبه كوصف الصحابة له بما كان يفعله في الحرب، والقضاء بشاهد ويمين، والمعاملة في الدِّيْن، والشراء والبيع، وغير ذلك، ويعبرون عنه بقولهم: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا، أو يعمل كذا، أو فعل كذا، وعمل كذا" (¬4). ثالثًا: السنة التقريرية: هي ما أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما صدر عن الصحابة من أقوال وأفعال، بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه ورضاه، فيكون إقراره وموافقته على القول أو الفعل كأنه صادر عنه، مثل إقراره لمن تيمم من الصحابة للصلاة لعدم وجود الماء ثم وجده بعد الصلاة، ولم يعد صلاته، وإقراره لعليٍّ في بعض أقضيته، وإقراره لمن أكل لحم حمار الوحش والضَّب، واستحسانه لقول معاذ في كيفية القضاء ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد. (¬3) وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، وقال: "أيها الناس، إنما صنعت هكذا كيما تروني، فتأتموا بي" رواه البخاري (1/ 148) ومسلم (5/ 34) والنسائي (2/ 60) وابن ماجه (1/ 454)، وانظر: المهذب 1/ 329 ط محققة. (¬4) المستصفى: 1 ص 131.

بكتاب الله ثم بسنة رسوله ثم بالاجتهاد، وإقراره لصلاة العصر في غزوة بني قريظة، وإقراره لقول القائف في نسب أسامة بن زيد، ويدخل في ذلك قول الصحابي: "كنا نفعل كذا في عهد رسول الله" (¬1)، وإقراره الأذان الذي رآه عبد الله بن زيد، والعلة في ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسكت على باطل، فإن صدر أمامه قول أو فعل وسكت عنه فهذا يدل على قبوله شرعًا. تعريفات فرعية: بعد هذا التعريف وشرحه. نذكر بعض الاصطلاحات المتصلة بالسنة ونبين الصلة بينها: 1 - عرف علماء الحديث السنة بأنها "ما أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة" فأضافوا كلمة "صفة" لإدخال الصفات الخَلقية والخُلقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة (¬2). 2 - تطلق السنة عند الأصوليين أيضًا ويراد منها ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، مثل سنة الصبح ركعتان، وهي بهذا الإطلاق ترادف المندوب، وتقابل الواجب والحرام والمكروه والمباح (¬3)، ويكون بين هذا المعنى والتعريف السابق عموم وخصوص من وجه، فيشتركان في بعض الأمور، ويختص كل منهما بجانب. 3 - يدخل في السنة إشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتابته، وكذا تركه لأمر من الأمور، وغير ذلك مما توسع فيه علماء الأصول (¬4). ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول: ص 41، شرح الكوكب المنير: 2 ص 166. (¬2) السنة ومكانتها في التشريع: ص 60، أصول الحديث للزميل الفاضل الدكتور محمَّد عجاج الخطيب: ص 19. (¬3) إرشاد الفحول: ص 33، الأحكام، الآمدي: 1 ص 165، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 108، الحدود في الأصول، الباجي: ص 57. (¬4) إرشاد الفحول: ص 42، شرح الكوكب المنير: 2 ص 161، 163، 165، كإشارته =

4 - السنة والحديث: السنة هي قول أو فعل أو تقرير، أما الحديث فهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، عند الجمهور، فتكون السنة أعم من الحديث، لأن كل حديث سنة ولا عكس، فيكون بينهما عموم وخصوص مطلق، وفي قول آخر: إن الحديث ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما نقل عن الصحابة، أما السنة فهي ما نقل عن الرسول فقط، فيكون الحديث هنا أعم من السنة (¬1). 5 - وقد تطلق السنة على ما يقابل البدعة، فالسنة هي الطريقة التي أقرها الشرع، والبدعة ما ينافي ذلك مما ينكره الشرع (¬2). 6 - عرف بعض علماء الأصول السنة فقال: هي ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير غير القرآن (¬3)، فأضاف لفظ "غير القرآن" ليتحرز في تعريف السنة عن القرآن الكريم، فإنه نقل عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالف جمهور الأصوليين في هذه الإضافة؛ لأن رسول الله لم يكن إلا مبلغًا لكلام الله عن جبريل إلى الأمة، وليس القرآن صادرًا عنه كالسنة. ما يدخل في السنة وما لا يدخل: قلنا في تعريف السنة: إنها ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، والسؤال الآن: هل كل أقواله وأفعاله وتقريراته تعتبر سنة يجب العمل بها أم لا؟ ¬

_ = - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضي الله عنه ليبقى إمامًا في الصلاة، رواه البخاري ومسلم، وكتابة فريضة الزكاة. (¬1) إرشاد الفحول: ص 33، المدخل لابن بدران: ص 89، تسهيل الوصول: ص 139، الموافقات: 4 ص 4. (¬2) إرشاد الفحول: ص 33، المدخل لابن بدران: ص 89، تسهيل الوصول ص 139. (¬3) تسهيل الوصول: ص 139.

والجواب بالنفي طبعًا, ولذلك بيّن علماء الأصول الأقوال والأفعال والتقريرات التي صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تعتبر تشريعًا لغيره من الأمة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان كسائر الناس اختاره الله للرسالة، ولم تخرجه النبوة عن الصفة البشرية، والضابط في ذلك هو: أن ما صدر عن رسول الله بوصفه رسول الله وكان مقصودًا به التشريع فهو حجة، وما صدر عنه بصفته البشرية فليس بسنة ولا حجة، وهي: 1 - ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال والتقريرات قبل البعثة؛ لأنه لا تشريع فيها. 2 - ما صدر عن رسول الله بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود ومشي ونوم وأكل وشرب وغير ذلك من الأفعال فلا تعتبر تشريعًا؛ لأن هذه الأعمال صدرت عنه بصفته الإنسانية وليس بصفته التشريعية، ويطلق عليها العلماء الأفعال الجبلية (¬1)، إلا إذا قام الدليل على أن المقصود من فعله الاقتداء فتكون تشريعًا بهذا الدليل، وليس بمجرد صدوره عنه (¬2)، كالأكل باليد اليمنى الذي ورد في حديث ابن أم سلمة "يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك" (¬3). 3 - ما صدر عن رسول الله بمقتضى الخبرة البشرية التي استقاها من ¬

_ (¬1) ذهب الجمهور إلى الحكم على هذه الأفعال بأنها للإباحة، ونقل الباقلاني والغزالي عن قوم بأنها للندب، وكان عبد الله بن عمر أكثر الصحابة تأسيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يتبع هذه الأفعال ليقوم بها ويقتدي فيها، وقد بحث علماء الأصول بحثًا مستفيضًا في أنواع الأفعال التي تصدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يعتبر منها تشريعًا وما لا يعتبر كذلك، وحكم كل نوع منها، انظر الإحكام، الآمدي: 1 ص 159، نهاية السول: 2 ص 240، إرشاد الفحول: ص 35، أصول الفقه، للخضري: ص 261، شرح الكوكب المنير: 2 ص 178. (¬2) إرشاد الفحول: ص 35، الإحكام، الآمدي: 1 ص 159. (¬3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عمر بن أبي سلمة.

تجاربه الخاصة في الحياة، كالتجارة والزراعة وقيادة الجيش ووصف الدواء وغيره، فهذا لا يعتبر حجة ولا تشريعًا، وكان هذا المعنى واضحًا في ذهن الصحابة، فيسألون رسول الله عن مثل هذه الأمور، وهل هي من عند الله أم من الخبرة، قال الحباب بن المنذر في غزوة بدر: أهذا منزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر قريب من الماء ليقطع على العدو الشرب (¬1)، وعندما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل المدينة وهم يؤبرون النخل أشار عليهم بالترك فتركوا، فلم تحمل الأشجار فشَكَوْا إليه، فقال لهم: "أبروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم" (¬2). 4 - الخصوصيات: وهي الأمور التي قالها أو فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام الدليل على أنها خاصة به أو بأحد الصحابة، وليست تشريعًا لغيره، كزواجه بأكثر من أربع زوجات، واكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خُزَيمة وحده في مجال إثبات الواقعة، أما الحكم فهو تشريع، وإباحة الوصال في الصيام للرسول دون غيره، واختصاصه بوجوب التهجد في الليل وصلاة الضحى والوتر، والتخيير لنسائه، ودخوله مكة بغير إحرام (¬3). قال الشافعي رحمه الله تعالى: "افترض الله عَزَّ وَجَلَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة إليه وكرامة، وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته، وتبيين فضيلته، مع ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام، 2 ص 620. (¬2) رواه مسلم عن طلحة وعائشة، جامع الأصول: 10 ص 354. (¬3) إرشاد الفحول: ص 35، الإحكام، الآمدي: 1 ص 159، أصول الفقه، الخضري: ص 262، أصول الفقه، خلاف: ص 47، ط 7، شرح الكوكب المنير: 2 ص 178.

ما لا يحصى من كرامته له" (¬1) ¬

_ (¬1) الأم: 5/ 150 ط دار الفكر.

المطلب الثاني في حجية السنة

المطلب الثاني في حجية السنة اتفق العلماء على أن السنة الصحيحة الثابتة التي صدرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقصد التشريع والاقتداء حجة على المسلمين، ومصدر تشريعي لهم متى ثبتت بسند صحيح إما بطريق القطع، أو غلبة الظن، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة واضحة بينة لا تدخل تحت الحصر، وصار عندهم يقين جازم بأنه لا فرق بين حكم ثبت بالكتاب وحكم ثبت بالسنة، وهذه الأدلة من القرآن الكريم وإجماع الصحابة والمعقول، وأهمها ثبوت العصمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). أولًا: القرآن الكريم: استدل العلماء على حجية السنة بنصوص القرآن الكريم، وذلك من عدة وجوه، أهمها ما يلي: 1 - أحال القرآن الكريم إلى السنة بعبارة صريحة، حيث طلب الله تعالى من رسوله أن يبين للناس ما أنزل إليهم من أحكام القرآن، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ¬

_ (¬1) انظر شرح الكوكب المنير: 2 ص 167.

فأصبح بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة بتكليف الله تعالى وتفويض منه. 2 - أمر الله تعالى بطاعة رسوله، والطاعة تفيد الالتزام بأمر المطاع وتنفيذ طلباته (¬1)، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} [النور: 56]. 3 - ربط الله تعالى محبته باتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. قال الآمدي: ومحبة الله واجبة، والآية دلت على أن متابعة النبي - عليه السلام - لازمة لمحبة الله الواجبة (¬2). 4 - قرن الله تعالى طاعته بطاعة رسوله في آيات كثيرة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقال عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} [الأنفال: 20] وقال تعالي: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] وجعل طاعة الرسول طاعة له، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. فهذه الآيات الكريمة تدل دلالة قاطعة على أن الله تعالى يوجب اتباع رسوله فيما شرعه، وأن الالتزام بطاعة الرسول كالالتزام بطاعة الله، وأن تنفيذ أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأوامره كتنفيذ أقوال الله تعالى وأوامره والانتهاء عما نهى عنه (¬3). 5 - أمر الله تعالى برد الحكم إلى الله والرسول عند التنازع والاختلاف، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] , وهذا دليل على وجوب الرجوع إلى حكم الله ¬

_ (¬1) الرسالة، للإمام الشافعي: ص 33. (¬2) الإحكام في أصول الأحكام، له: ص 162. (¬3) الإحكام، ابن حزم: 1 ص 87.

تعالي الوارد في القرآن الكريم، وإلى حكم الله تعالى الثابت بالسنة الشريفة (¬1). 6 - وصف القرآن الكريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفات المشرع، فقال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وهذه الآية صريحة الدلالة في أن أوامره ونواهيه شرع للمسلم، بل وصفه الله تعالى بالعصمة في التشريع، فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]. 7 - نبه القرآن الكريم إلى مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التشريعية، وحذر من مخالفة أمره، وهدد بالفتنة والعذاب لمن يخالف أمره، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63] وهذا يدل على وجوب اتباعه والاقتداء به والالتزام بما يصدر عنه (¬2). 8 - أمر القرآن الكريم الأمة بالأخذ بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنهي عما نهاهم عنه، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. 9 - نص القرآن الكريم أن الله تعالى أعطى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الكتاب والحكمة في آيات كثيرة (¬3)، فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 79، الإحكام، ابن حزم الأندلسي: 1 ص 87 , 88. (¬2) الإحكام، الآمدي: 1 ص 162. (¬3) انظر تفصيل ذلك في الرسالة: ص 76، للإمام الشافعي رحمه الله تعالى الذي بين مكانة السنة وحجيتها، وفند شبه المنحرفين والمتشككين فيها بأسلوب رائع لم يسبق إليه حتى سمي بناصر السنة.

وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. قال العلماء: الحكمة هي السنة (¬1)، مما يدل على أن الله تعالى أوحاها إليه، وأنزلها عليه. 10 - نص القرآن الكريم على وجوب الرضا بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن حكمه ملزم للمسلمين في أمورهم الخاصة، دون خيار لهم، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. 11 - نفى القرآن الكريم الإيمان عمن يرفض المثول لقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يسخط عليه ولا يستسلم له أو لا يقبله، فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65] ووصم الله تعالى من يصد ويعرض عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه منافق (¬2)، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 61]. 12 - بيّن القرآن الكريم أن من صفات الرسل عامة وجوب طاعتهم من الأمة التي أرسلوا إليها، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] ونص على ذلك في شأن كل رسول خاصة فقال تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)} [الشعراء: 107، 108]. 13 - خاطب القرآن الكريم الأمة واعظًا ومرشدًا بأنه جعل لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة وقدوة لمن يبتغي تطبيق شرعه، ويطمع في رضوان ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 32، 78، جماع العلم، للإمام الشافعي: 7 ص 250. (¬2) الإحكام، ابن حزم: 1 ص 91.

ثانيا: إجماع الصحابة

الله، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. هذه النصوص القرآنية -وغيرها كثير- برهان ودليل قاطع على حجية السنة واعتبارها مصدرًا من مصادر التشريع الإِسلامي، وأن أحكام السنة تشريع إلهي واجب الاتباع (¬1). ثانيًا: إجماع الصحابة: أجمع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد وفاته على وجوب اتباع سنته والعمل بها والالتزام بما ورد فيها من أحكام، وتنفيذ ما فيها من أوامر، والانتهاء عما فيها من نواهٍ، فكانوا لا يفرقون بين الأحكام المنزلة في القرآن الكريم، وبين الأحكام الصادرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إن لم أجد في كتاب الله قضيت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" والأمثلة كثيرة بعد وفاته، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وابن عباس وابن مسعود وغيرهم من الصحابة كانوا إذا أعوزهم أمر، أو نزل بهم حادث، أو تعرضوا لقضاء، بحثوا عن الحكم في القرآن الكريم، فإن لم يجدوا فيه، بحثوا عن ذلك في السنة، وسأل بعضهم بعضًا عمن يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئًا، وقد تعددت الأحوال، ولم يستنكر واحد منهم ذلك، وسار على هذا المنوال التابعون، ومن بعدهم حتى يومنا هذا (¬2). فدل عمل الصحابة وإجماعهم على أن السنة حجة كاملة ومصدر ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 39، وقد توسعنا بالاستدلال بنصوص القرآن الكريم ليكون بين يدي الطالب والداعية مجموعة من المعاني الواضحة القاطعة للرد على الشبهة التي يثيرها بعض الملحدين والحاقدين في دعوى ترك السنة والاكتفاء بالقرآن الكريم والاحتكام إليه فقط. (¬2) إرشاد الفحول: ص 36.

ثالثا: المعقول

تشريعي واجب الاتباع متى صح نقلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثالثًا: المعقول: وذلك من عدة وجوه: 1 - إن القرآن الكريم فرض على الناس فرائض مجملة، وشرع لهم أحكامًا عامة، وأخبرهم عن واجبات كثيرة، ولم يبين القرآن الكريم تفصيل هذه الفرائض والأحكام والواجبات، ويستحيل عقلًا استنباط ذلك وكيفيته إذا أراد المكلف المخاطب بالقرآن الكريم أن يؤدي هذه الفرائض، وينفذ تلك الأحكام بنفسه، ويرضي ربه في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، فجاء الرسول الكريم فبين هذا الإجمال بالسنة القولية والعملية، لما منحه الله تعالى من سلطة البيان، بقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل: 44]. 2 - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجمة عملية للقرآن الكريم، وكانت أعماله وأفعاله صورة حية للأحكام الواردة في كتاب الله تعالى، وكانت أوصافه وأخلاقه تنفيذًا واقعيًّا لأوامر الله تعالى، وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "كان خُلُقُه القرآن"، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل كلام ربه، ويلتزم رضاه، ويسير على الصراط المستقيم، بل كان أول من ينفذ أحكامه، وخير من يطبق كتابه، فكانت سنته وسيرته تطبيقًا عمليًّا لأحكام القرآن الكريم، وبيانًا واقعيًّا للناس (¬1). فلا جرم أن تكون أقواله وأفعاله وكل ما يصدر عنه موافقًا لحكم الله ¬

_ (¬1) فقه السيرة، الغزالي: ص 36.

تعالى، وأن تكون بالنسبة للمسلمين مصدرًا رئيسيًّا لمعرفة الأحكام الشرعية نصًّا واجتهادًا واستنباطًا واستدلالًا. 3 - إن وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ للناس كتاب الله تعالى، وأن يبينه لهم، فبلغ القرآن الكريم بنصه وحرفه، ونقله عن جبريل إلى المسلمين، أما البيان فهو بالأقوال والأفعال التي صدرت عن رسول الله، وقد ثبتت عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمرين معًا، وتكفل الله تعالى أن يحفظ الذكر، والقرآن الكريم لا يحفظ إلا بحفظ بيانه، وهو السنة (¬1). فدل ذلك على أن السنة بأقسامها الثلاثة السابقة واجبة الاتباع متى صح صدورها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنها حكم شرعي واجب التنفيذ، ومصدر تشريعي للأمة في استنباط الأحكام (¬2). قال حجة الإِسلام الغزالي رحمه الله تعالى: "وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة لدلالة المعجزة على صدقه، ولأمر الله تعالى إيانا باتباعه، ولأنه لا ينطق عن الهوى" (¬3). وإن القرآن الكريم والشريعة جاءتنا عن طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المبلغ عن ربه، وهو المبين لكتاب الله تعالى، فكان لزامًا علينا اتباع أوامره ونواهيه. حجية السنة من السنة: وبعد أن ثبتت حجية السنة بنصوص القرآن الكريم وإجماع الصحابة والمعقول نورد بعض الأدلة من السنة ¬

_ (¬1) أبحاث في علم أصول الفقه: ص 40. (¬2) قال إسحاق بن راهويه: من بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر، وأيد ابن حزم قول إسحاق في الكفر، انظر الإحكام، ابن حزم: 1 ص 89. (¬3) المستصفى: 1 ص 129.

إنكار السنة

للاستئناس على حجيتها والاعتماد عليها (¬1)، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكد هذ الحجية بأقواله وأحاديثه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه" (¬3)، وهذا المثل هو السنة (¬4)، وعندما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "كيف تقضي إن عَرَضَ لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ " قال: فبسنةِ رسول الله، قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ "، قال: أجتهدُ رأيي ولا آلو, فضربَ رسول الله على صدره، وقال: "الحمدُ لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله، لما يُرضي الله ورسولَه (¬5) ". إنكار السنة: عندما ضاق الكفار بالإِسلام، ونفد صبرهم عن تحمله، وخلت عقولهم وأيديهم من معارضة القرآن الكريم، والطعن به، لجؤوا إلى الهدم عن طريق السنة، وسلطوا شكوكهم على الحديث، ووجهوا سهامهم على حجيته، وتعرضت السنة للإنكار في القرن الثاني الهجري من بعض الفرق الضالة المارقة من الدِّين، احتجوا بشبه واهية ضعيفة، ¬

_ (¬1) الأدلة الآتية للاستئناس وليست لإقامة الحجة؛ لأنه لا يصح أن نحتج على الشيء بنفسه، فنقول: السنة حجة لما ثبت في السنة. (¬2) رواه الحاكم في المستدرك. (¬3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن المقداد بن معديكرب، وانظر معالم السنن, للخطابي: 7 ص 7، سنن أبي داود: 2/ 505، مسند أحمد: 4/ 331. (¬4) روى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: "وكان الوحي ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك" تفسير القرطبي: 1/ 39. (¬5) رواه أبو داود (2/ 272)، وأحمد (5/ 242)، والترمذي (4/ 556)، والدارمي (1/ 65، ط البغا).

وحاولوا الاعتماد على بعض الآيات القرآنية لتأويلها حسب هواهم، وتحميلها ما لم تحتمل، مثل قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقالوا: لا حاجة للسنة لأن القرآن بيَّن كل شي، ولم يفرط في أمر من الأمور، وبالتالي فالسنة ليست مصدرًا تشريعيًّا للأحكام (¬1)، وأضافوا إلى حجتهم الحديث الذي ينكر استقلال السنة بالتشريع، وأن ما ورد فيها يجب عرضه على كتاب الله، فإن لم يوجد في القرآن فيجب رده، ونسبوا الحديث إلى ثوبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف فلم أقله". ويرد على هذه الفئة بما يلي: 1 - إن الآيات الكريمة! السابقة في حجية السنة ترد مزاعمهم وتبطل حججهم، وتفند أدلتهم، وهي نصوص صريحة واضحة في اعتبار السنة مصدرًا تشريعيًّا في الأحكام. 2 - إن الآيتين الكريمتين اللتين استندوا إليهما لا تدلان على هذا الفهم، وإن القرآن الكريم تبيان لكل شيء بما ورد فيه من أحكام، وبما أشار إليه من مصادر، وما تضمنه من قواعد عامة وأحكام مجملة بينتها السنة. ¬

_ (¬1) كتاب جماع العلم للإمام الشافعي، مطبوع مع الأم: 7 ص 250، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 90، الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي: ص 248، الموافقات: 4 ص 11، أصول السرخسي: 1 ص 283، ومما قاله الشاطبي رحمه الله تعالى: "إن الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن السنة، إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شيء، فاطرحوا أحكام السنة، فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزله الله".

3 - أما حديث ثوبان فهو موضوع، وضعته الزنادقة، كما قال يحيى بن معين، وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وهذا الحديث نفسه إذا عرض على كتاب الله فإنه يخالفه (¬1) في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] , وقوله تعالي: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. 4 - يقول: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُوشك أن يقعد الرجل متكئًا، يحدِّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرّم رسولُ الله مثل ما حرَّم الله (¬2). 5 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتُم مما علمني يومي هذا ... " الحديث (¬3). ولا تزال السنة تتعرض لهجمات الملحدين والمستشرقين والمارقين من الدِّين الذين يسعون لهدم الإِسلام عن طريق هدم السنة متنًا وسندًا، ولكن الله تعالى سخر الأئمة والعلماء والمخلصين لرد كيد الكائدين، وتزييف دعواهم، وصيانة السنة من كل دخيل، وبقيت السنة خالصة من كل شائبة، نقية من كل تحريف (¬4)، تحقيقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول: ص 33، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 90. (¬2) رواه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم عن المقداد بن معد يكرب. (¬3) رواه مسلم 17/ 197. (¬4) انظر كتاب: السنة ومكانتها في التشريع، للدكتور المرحوم مصطفى السباعي، والسنة قبل التدوين، للزميل الدكتور محمَّد عجاج الخطيب. وسأل ضمام بن ثعلبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة والزكاة والصوم والحج، وكان يقول: الله أمرك بهذا؟ فيقول: "نعم" رواه البخاري ومسلم والبيهقي (4/ 325)، وانظر المجموع للنووي 7/ 75.

الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ويلحق بهذا المطلب فرعان: الأول: تقسيم السنة من حيث السند لبيان حجية كل قسم، والثاني: حجية خبر الآحاد.

الفرع الأول في تقسيم السنة من حيث السند، وحجية كل قسم

الفرع الأول في تقسيم السنة من حيث السند، وحجية كل قسم إن السنة حجة على الصحابة الذين سمعوها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما بالنسبة لمن بعدهم، فلا تعتبر كذلك إلا إذا ثبتت صحتها بالطريق المقبول، وهو ما يعرف عند علماء الحديث بالسند (¬1) الذي اهتم به جهابذة العلماء، وأولوه الرعاية التامة، والدقة المتناهية، فمحَّصوا فيه الصحيح من السقيم، والثابت من الدخيل. وانقسم العلماء في تقسيم الأحاديث الصحيحة من حيث السند إلى فريقين: الفريق الأول: وهم الذين قسموا السنة من حيث السند إلى قسمين: متواتر وآحاد، وهم علماء الحديث وجمهور علماء الأصول (¬2). الفريق الثاني: وهم الذين قسموا السنة إلى ثلاثة أقسام، وهي المتواتر والمشهور والآحاد، وهم علماء الحنفية، فزادوا الحديث المشهور. ¬

_ (¬1) مصادر التشريع الإِسلامي، الدكتور محمَّد أديب صالح: ص 95. (¬2) الإحكام، الآمدي: 2 ص 14، الإحكام، ابن حزم: 1 ص 94.

أولا: الحديث المتواتر

ونتناول تعريف كل قسم وشروطه باختصار لنبين حكمه وحجيته في ثبوت الأحكام. أولًا: الحديث المتواتر: التواتر لغة: التتابع، ومنه تواتر القوم إذا جاء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، والمتواتر المتتابع (¬1). وفي الاصطلاح: هو ما رواه جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب (¬2)، أي: ينقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدد كبير من الصحابة، ثم ينقله عنهم عدد من التابعين (¬3)، وهكذا حتى يصل إلى العلماء الذين قاموا بتدوين السنة وتسجيلها في القرنين الثاني والثالث الهجريين. ويكثر هذا القسم في السنة الفعلية، ويقل في السنة القولية، وأفرده العلماء بالجمع والتصنيف مثل كتاب: "الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة" لجلال الدين السيوطي، ومثال ذلك حديث: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬4)، والأحاديث في كيفية أداء الصلاة والصوم والحج والأذان؛ مما نقله جماهير الصحابة عن رسول الله إلى من بعدهم. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 2 ص 152، المصباح المنير: 2 ص 890. (¬2) يعرف بعض العلماء الخبر المتواتر بأنه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بمخبره، انظر إرشاد الفحول: ص 46، الإحكام، الآمدي: 2 ص 14، كشف الأسرار: 2 ص 680، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 123. (¬3) اختلف العلماء في العدد المطلوب في التواتر فحدده بعضهم بثلاثة أو بعشرة، وحدده آخرون بالمئات، وقال الشوكاني وغيره: ولا يعتد بعدد معين، بل ضابطه حصول العلم الضروري، انظر: إرشاد الفحول: ص 47، الإحكام، الآمدي: 2 ص 25، المستصفى: 1 ص 134، 139، كشف الأسرار، البزدوي: 2 ص 281. (¬4) رواه أصحاب الكتب السبعة وغيرها من كتب الحديث.

ثانيا: الحديث المشهور

والسنة المتواترة حجة كاملة باتفاق العلماء، وينطبق عليها ما قلناه تمامًا في حجية السنة، وتفيد العلم اليقيني القطعي في صحتها وثبوتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى توافرت شروط التواتر، ويكفر جاحد الحديث المتواتر، والاحتجاج به في قوة الاحتجاج بالقرآن الكريم، وهما بمرتبة واحدة في الثبوت، ولذا فإن الحديث المتواتر يخصص العام في القرآن الكريم، ويقيد المطلق، ويبين المشترك، وينسخ القرآن الكريم عند الجمهور (¬1)، وغير ذلك كما سنرى فيما بعد (¬2). ثانيًا: الحديث المشهور: وهو ما رواه عن رسول الله صحابي أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ثم رواه عن هؤلاء جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، ورواه عنهم جمع مثله، أي: إن الحديث المشهور كان آحاديًّا في الطبقة الأولى من رواته، ثم تواتر في الطبقة الثانية والثالثة (¬3). مثاله: ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات .. الحديث" (¬4) ثم رواه عن عمر عدد كبير من الصحابة والتابعين الذين يبلغون حد التواتر، ومثله ما رواه أبو بكر أو علي أو ابن مسعود أو غيرهم من الصحابة، ثم اشتهر بعد ذلك، ولا عبرة لاشتهاره بعد القرن الثاني والقرن الثالث؛ لأن تدوين السنة قد اكتمل، واشتهرت جميع الأحاديث وأخبار الآحاد. ¬

_ (¬1) انظر كشف الأسرار: 2 ص 282. نهاية السول: 2 ص 262، المستصفى: 1 ص 132، الإحكام، الآمدي: 2 ص 15، اللمع، للشيرازي: ص 42، الإحكام، ابن حزم: 1 ص 95، إرشاد الفحول: ص 47، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 129، 130، الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص 243. (¬2) المطلب الثالث في مكانة السنة: ص 217. (¬3) إرشاد الفحول: ص 49، كشف الأسرار: 2 ص 688. (¬4) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الكتب المعتمدة.

ثالثا: حديث الآحاد

والفرق بين الحديث المشهور والحديث المتواتر في عدد الطبقة الأولى من الرواة، فهو في المتواتر جمع من جموع التواتر، وفي المشهور واحد أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر. ويترتب على هذا الفرق اختلاف بين الفقهاء وعلماء الأصول في الأحكام، فالجمهور يعتبر الحديث المشهور في حكم حديث الآحاد، ويأخذ أحكامه، أما الحنفية فيرون الحديث المشهور له مرتبة مستقلة بين الحديث المتواتر وخبر الآحاد، وأنه يشترك مع المتواتر في تخصيص عام القرآن، والزيادة عليه، وأنه يقيد مطلقه، ويفيد الطمأنينة والظن القريب من اليقين، ويفسق جاحده ولا يكفر؛ لأنه مقطوع بوروده عن الصحابي، ولا يقطع بوروده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وهذا القسم غير مجموع بمفرده، وغير متفق على عدده. ثالثًا: حديث الآحاد: وهو ما رواه عن رسول الله شخص أو اثنان أو عدد لم يبلغ حد التواتر، ثم رواه عن هؤلاء مثلهم وهكذا حتى وصل الحديث إلى عصر التدوين فاشتهر، ويمثل هذا القسم الغالبية العظمى من السنة، ويسمى خبر الآحاد. وخبر الآحاد يفيد غالبية الظن من حيث وروده عن رسول الله متى توافرت فيه شروط الراوي التي وضعها علماء الحديث كالثقة والعدالة والضبط، وغير ذلك، ولكنه يجب العمل به مع الشك في ثبوته، وهو ما سنفرده بالبحث. ¬

_ (¬1) ذهب أبو بكر الجصاص الحنفي إلى أن المشهور كالمتواتر تمامًا، وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يوجب علم طمأنينة لا علم يقين، وهو ما اختاره متأخرو الحنفية، انظر كشف الأسرار: 2 ص 288، وذهب عيسى بن أبان إلى اشتراط عدم مخالفته للقياس، وتابعه بقية الحنفية، وهو خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، انظر: أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 7.

الفرع الثاني في حجية خبر الآحاد

الفرع الثاني في حجية خبر الآحاد هذه الأقسام الثلاثة من السنة المتواترة والمشهورة والآحاد حجة يجب العمل بها واتباع ما ورد فيها, ولكن لا يؤخذ بحديث الآحاد في الاعتقاد؛ لأن الأمور الاعتقادية تبنى على الجزم واليقين، ولا تبنى على الظن، ولو كان راجحًا؛ لأن الظن في الاعتقاد لا يغني عن الحق شيئًا (¬1). واتفق العلماء على الاحتجاج بخبر الواحد، ولكنهم اختلفوا في طريق إثبات خبر الواحد، فاشترط بعضهم شروطًا معينة للاحتجاج بخبر الآحاد، بينما اشترط آخرون شروطًا غيرها، وسنعرض لدراسة هذا الموضوع فنبين أدلة الاحتجاج بخبر الواحد، ثم نذكر شروط قبوله (¬2)، ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 103، أصول السرخسي: 1 ص 333. (¬2) يبحث علماء الأصول في وجوب العمل بخبر الواحد من ناحية جواز التعبد به عقلًا، ومن ناحية وجوب العمل به شرعًا، وأنه يفيد العلم أم غلبة الظن، والأكثرون على أن التعبد به جائز عقلًا وواجب شرعًا وأنه يفيد غلبة الظن. (انظر المستصفى: 1 ص 146، نهاية السول: 2 ص 281، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 135، كشف الأسرار: 2 ص 290)، وقال القاشاني والرافضة وابن داود: لا يجب العمل به، (انظر إرشاد الفحول: ص 48)، وقال ابن حزم: إنه يوجب =

أدلة الاحتجاج بخبر الواحد

وقد أفردناه بالبحث نظرًا لأهميته. أدلة الاحتجاج بخبر الواحد (¬1): استدل العلماء على وجوب العلم بخبر الآحاد بالقرآن والسنة والإجماع والقياس والمعقول. أولًا: القرآن الكريم: ونقتصر على آيتين: 1 - قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]. فالفرقة ثلاثة، والطائفة واحد أو اثنان، والترجي من الله تعالى يعتبر طلبًا لازمًا، فالآية أوجبت الحذر وعدم الإقدام على ما يوجب العقاب بقول الطائفة المتعلمة، وهي واحد أو اثنان، مما يدل على أن خبر الواحد يجب قبوله (¬2). 2 - قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فالآية أمرت بالتثبت من خبر الواحد إذا كان فاسقًا؛ لأن العلة في عدم قبول خبر الفاسق هي فسقه، لتعليق الحكم فيها بالفسق، أما خبر الواحد العدل فيجب قبوله والعمل به (¬3). ¬

_ = العلم والعمل معًا، (الإحكام في أصول الأحكام، له: 1 ص 107)، وانظر أصول السرخسي: 1 ص 321، شرح الكوكب المنير: 2 ص 352. (¬1) أنكر جماعة من الزنادقة وبعض شذاذ الخوارج حجية السنة أصلًا، وأنكر جماعة لم يذكر الإمام الشافعي اسمهم حجية خبر الواحد، انظر كتاب: جماع العلم للشافعي، مطبوع مع الأم: 7 ص 252. (¬2) أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 139، الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي: ص 259، أصول السرخسي: 1 ص 322، إرشاد الفحول: ص 49، كشف الأسرار: 2 ص 692، المستصفى: 1 ص 152، الإحكام، الآمدي: 2 ص 51، الإحكام، ابن حزم: 1 ص 98، نهاية السول: 2 ص 284. (¬3) إرشاد الفحول، المرجع السابق، منهاج الوصول: ص 67، الإحكام، الآمدي: =

ثانيا: السنة

ثانيًا: السنة: ويستدل من السنة على حجية خبر الواحد وصحة الاعتماد عليه بأدلة كثيرة منها: 1 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَضّر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه، وربَّ حاملِ فقه إلى من هو أفقه منه ... الحديث" (¬1). فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حبَّبَ ودعا إلى الاستماع إلى أقواله وحفظها ووعيها وأدائها من كل المسلمين، سواء كانوا أفرادًا أم جماعات، ولذا فإن نَقَلَ الحديث واحد أو اثنان أو ثلاثة فيجب قبول الخبر والعمل به (¬2). 2 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلِّغوا عني ولو آية" (¬3)، فالحديث يأمر المخاطب بالتبليغ لإرشاد الناس ونصحهم إلى الخير، ولو كان خبر الواحد لا يجدي لكان الحديث عبثًا، والرسول منزه عن العبث. 3 - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث في وقت أحد اثني عشر رسولًا إلى اثني عشر ملكًا يبلغون رسالته، ويدعونهم إلى الإِسلام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسل الكتب إلى الولاة المسلمين بوساطة أحد الصحابة، وهذا يدل على أن الخبر الذي ينقله هذا المبعوث يجب قبوله والعمل به، وإلا لما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 4 - كان الصحابة ينقلون الأحكام الشرعية بأخبار الآحاد ويبلغونها إلى أهلهم وذويهم وإخوانهم، وقد أقرهم رسول الله على ذلك، فهذا من السنة التقريرية على قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به. ¬

_ = 2 ص 53، الإحكام، ابن حزم: 1 ص 100، نهاية السول: 2 ص 290، كشف الأسرار، المرجع السابق. (¬1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والبيهقي عن جبير وابن مسعود. (¬2) الرسالة: ص 401، وقارن الغزالي في المستصفى: 1 ص 152. (¬3) هذا جزء من حديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن ابن عمر.

ثالثا: الإجماع

ومثل ذلك حالة تحويل القبلة في مسجد قُباء بخبر أحد الصحابة، ومثل تحريم الخمر الذي نقله أحد الصحابة إلى بعض المسلمين الذين كانوا يتناولونه فامتنعوا عنه، وأراقوا الخمر، وكسروا الدنان (¬1). ثالثًا: الإجماع: أجمع الصحابة على العمل بخبر الواحد الذي يرويه واحد أو اثنان، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى، فقد عمل أبو بكر بخبر المغيرة بن شعبة في إعطاء الجدة السدس في الميراث، وعمل عمر بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بهم سنةَ أهل الكتاب"، وعمل عثمان بخبر فُرَيْعة بنت مالك في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيت الزوجية، وعمل علي وابن عباس وغيرهما في وقائع مختلفة وأزمان متباينة دون أن ينكر عليهم أحد من الصحابة ذلك، فكان هذا إجماعًا على وجوب العمل بخبر الواحد (¬2). رابعًا: القياس: قاس العلماء خبر الآحاد في الحديث على خبر الآحاد في القضاء، فالقاضي يحكم بناء على شهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين بنص القرآن والسنة، وكذلك العالم يقبل خبر الآحاد في الحديث (¬3)، وقاس الغزالي قبول خبر الواحد على قبول قول المفتي في ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 407 وما بعدها، 415، 418، إرشاد الفحول: ص 49، المستصفى: 2 ص 151، الإحكام، الآمدي: 2 ص 51، 56، الإحكام، ابن حزم: 1 ص 98، كشف الأسرار: 2 ص 692. (¬2) نهاية السول: 2 ص 291، كشف الأسرار: 2 ص 694، 695، الإحكام، الآمدي: 2 ص 57، الإحكام، ابن حزم: 1 ص 102، المستصفى: 1 ص 148، إرشاد الفحول: ص 49، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 144، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 134. (¬3) الرسالة: ص 240، منهاج الوصول: ص 67، نهاية السول: 2 ص 282، 290، كشف الأسرار: 2 ص 695، أصول السرخسي: 1 ص 331.

خامسا: المعقول

الحكم بالأولى (¬1)، وقال الإِمام الشافعي رحمه الله: وإنا لنطلب في المُحَدِّث أكثر مما نطلب في الشاهد (¬2). خامسًا: المعقول: وذلك أن خبر الآحاد يحتمل الصدق والكذب، ولكن اشتراط العدالة والضبط والعقل والثقة وغيرها من الشروط ترجح جانب الصدق على جانب الكذب، ومثل ذلك ما يجري بين الناس من قبول أخبار الآحاد في أمور الفتوى والتزكية والخبرة سواء في ذلك الأمور الدينية والأمور الدنيوية (¬3). وإن أكثر السنة وردت إلينا آحادًا، فلو لم نعمل بها، ونحتج بما ورد فيها , لضاع قسم كبير من الشريعة، ووقع الناس في حرج، ولو لم يكن خبر الآحاد مقبولًا لوجب على الصحابة أن يلزموا رسول الله، ويعطلوا أعمالهم، وهذا لم يحدث قطعًا. شروط العمل بخبر الواحد: إن اتفاق جماهير العلماء على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به لم يمنعهم من اشتراط بعض الشروط التي تبعث في أنفسهم الطمأنينة والراحة في صحة الخبر والاطلاع على السند الذي وصلهم، وإني أعتبر ذلك مفخرة لهم في الوعي والبحث عن الدِّين الحق، خشية أن يتسرب الغث أو الأوهام أو الأساطير والأكاذيب إلى دين الله. وهذه الشروط قسمان: شروط عامة متفق عليها في الراوي، كالإِسلام والبلوغ والعقل والضبط والعدالة (¬4)، وشروط مختلف عليها، ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 152. (¬2) جماع العلم على هامش الأم: 7 ص 253. (¬3) الإحكام، الآمدي: 2 ص 48، 50، كشف الأسرار: 2 ص 69. (¬4) إرشاد الفحول: ص 50، اللمع: ص 43، المستصفى: 1 ص 155، وانظر تفصيل شروط العمل بخبر الواحد في الإحكام، الآمدي: 2 ص 64، أصول السرخسي: =

أولا: آراء الصحابة رضي الله عنهم

فبعضها اشترطها الصحابة، وبعضها الآخر اشترطها كل إمام من الأئمة، وهذا هو البيان. أولًا: آراء الصحابة رضي الله عنهم: كان أبو بكر وعمر أحيانًا لا يقبلان الحديث إلا بشهادة اثنين على سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان علي يستحلف الراوي بأنه سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الطريقة لم تكن مطردة بإطلاق، فقد ثبت أن أبا بكر وعمر وعليًّا وغيرهم كانوا يقبلون أحاديث الآحاد بدون هذه الشروط (¬1). وكان الصحابة أحيانًا يرفضون قبول حديث أو العمل به، لما يرونه من نسخ الحديث أو معارضته لحديث آخر أو لعدم الثقة بالراوي أو لظروف خارجة تحيط به، ولم يتسرب إلى أنفسهم مطلقًا شك أو ريب في حجية السنة وخبر الآحاد (¬2). ثانيًا: مذهب الحنفية: اشترط الحنفية لقبول خبر الآحاد والعمل به ثلاثة شروط وهي: 1 - أن لا يعمل الراوي بخلاف ما يرويه، كما في حديث أبي هريرة في ولوغ الكلب من الإناء، وغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب الطاهر، وكان أبو هريرة يكتفي بالغسل ثلاثًا، وحديث عائشة: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ثلاثًا"، بينما تولت السيدة عائشة عقد نكاح قريبتها. 2 - أن لا يكون موضوع الحديث مما تكثر به البلوى، إلا إذا اشتهر ¬

_ = 1 ص 345، شرح الكوكب المنير: 2 ص 345 وما بعدها. (¬1) انظر تفصيل هذا الموضوع في كتاب: السنة ومكانتها في التشريع: ص 81. (¬2) إرشاد الفحول: ص 49، المستصفى: 1 ص 153، الإحكام، الآمدي: 2 ص 60، الموافقات: 3 ص 9، أصول السرخسي: 1 ص 333.

ثالثا: مذهب المالكية

وتلقته الأمة بالقبول، مثل حديث: "من مس ذكره فليتوضأ"، قالوا: إنه خبر آحاد، والصحيح أنه مشهور، ولم ينقله عن الرسول إلا راوٍ واحد مع حاجة المسلمين إلى معرفة نواقض الوضوء (¬1)، ومثله حديث رفع اليدين عند الركوع، وحديث الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. 3 - أن لا يكون الحديث مخالفًا للقياس والأصول الشرعية إذا كان الراوي غير فقيه (¬2)، مثل حديث المُصَراة بردها وصاعًا من تمر، وعللوا هذا الشرط بانتشار نقل الحديث بالمعنى، وعدوا من غير الفقهاء أبا هريرة وأنسًا وسلمان وبلالًا. ثالثًا: مذهب المالكية: اشترط المالكية للعمل بخبر الآحاد أن لا يكون مخالفًا لعمل أهل المدينة, لأن عمل أهل المدينة يعتبر كالحديث المتواتر، والحديث المتواتر يقدم على خبر الآحاد (¬3)، فلم يعملوا بحديث: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" لمخالفة عمل أهل المدينة له، ومثل حديث السلام على اليمين في الصلاة ثم السلام على اليسار، بينما عمل أهل المدينة بالسلام على اليمين فقط، وهو قول الإِمام مالك. رابعًا: مذهب الشافعية: اشترط الإِمام الشافعي الشروط العامة لقبول الحديث وحددها في الراوي بأربعة، وهي: ¬

_ (¬1) نقل الشيخ الخضري أن هذا الحديث رواه 17 صحابيًّا، أصول الفقه، له: ص 259. (¬2) تيسير التحرير: 3 ص 112، منهاج الوصول: ص 69، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 104، وانظر رد ابن حزم على هذه الشروط في الإحكام، له: 1 ص 104، والإحكام، الآمدي: 2 ص 84، الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي: ص 25، أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 69. (¬3) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 104، أعلام الموقعين: 2 ص 423، أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 68، شرح الكوكب المنير: 2 ص 367.

خامسا: مذهب الحنابلة

1 - أن يكون ثقة في دينه معروفًا بالصدق في حديثه. 2 - أن يكون عاقلًا لما يحدث، فاهمًا له. 3 - أن يكون ضابطًا لما يرويه. 4 - أن يكون الخبر غير مخالف لحديث أهل العلم بالحديث. وهذه الشروط تتعلق بصحة السند واتصاله، ولذلك لم يعمل بالحديث المرسل إلا بشروط (¬1). خامسًا: مذهب الحنابلة: يشترط الإِمام أحمد صحة السند لقبول خبر الآحاد والعمل به، كالشافعية، ولكن الفرق بينهما في بعض الجزئيات، مثل قبول الحنابلة للحديث المرسل، خلافًا للشافعية لأن الإِمام أحمد لا يشترط اتصال السند، ومثل تقديم الحديث الضعيف على القياس (¬2). ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 155، اللمع: ص 43، شرح الكوكب المنير: 2 ص 578. (¬2) الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي: ص 263، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 43، أعلام الموقعين: 1 ص 31، شرح الكوكب المنير: 2 ص 576.

المطلب الثالث في مكانة السنة

المطلب الثالث في مكانة السنة نبحث في هذا الفصل عن منزلة السنة في التشريع، ودرجة السنة بين مصادر التشريع، ومراتب السنة بالنسبة إلى القرآن الكريم. أولًا: منزلة السنة في التشريع: تبين من الدراسة السابقة أن السنة حجة كاملة في ثبوت الأحكام، وأنها مصدر تشريعي مستقل، وأن الأحكام التي تثبت في السنة لا تقل منزلة عن الأحكام في القرآن الكريم، فكلا الأمرين من عند الله تعالى، وكل حكم في السنة يعتبر حكمًا من عند الله تعالى، وأحكام الله تعالى متساوية، لا تفاوت بينها, ولا تمييز لأحدها عن الآخر، فالمسلم مكلف بكل حكم يثبت في السنة بنفس قوة تكليفه بالأحكام الواردة في القرآن الكريم، وأنه يثاب على الفعل، ويعاقب على الترك. ونلمس هذا الفهم في حياة الصحابة رضوان الله عليهم في أثناء نزول الوحي من السماء وتلقي أحكام الله تعالى، فلم يفرقوا بين حكم نزل بالوحي وحكم صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل لم يرد عن صحابي واحد سؤال عن مصدر الحكم الشرعي هل هو قرآن أم سنة؟ تصديقًا لوصف الله تعالى لهم بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51].

ولذا فالمسلم المؤمن هو من يطبق الأحكام الشرعية كلها سواء وردت في الكتاب الكريم أو جاءت في السنة، بشرط واحد وهو أن تكون السنة صحيحة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومتى ثبتت لديه السنة فليس له عذر قطعًا في تركها أو الابتعاد عنها أو تأويلها بدون مسوغ. ولا أظن أن هذا الكلام يحتاج إلى دليل، ويكفي أن نذكر بأن السنة ليست من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا باللفظ، أما المعنى فهو من عند الله تعالى، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4] ولقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231] والحكمة هي السنة كما فسرها العلماء، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيت الكتابَ ومثلَه معه" (¬1) وهو السنة، وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُسأل عن أشياء كثيرة فكان يتوقف حتى ينزل عليه الوحي إما لفظًا ومعنى وهو القرآن، وإما معنى ويعبر رسول الله عنه، مثل قضية الظهار واللعان وصفات الله تعالى والإذن بالهجرة والقتال وصلح الحديبية (¬2). والفرق بين السنة والقرآن أن القرآن معجز، ويتعبد بتلاوته، أما السنة فليست كذلك. قال المحلاوي: واعلم أن من يعتد بعلمه من العلماء قد اتفق على أن السنة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريج هذا الحديث في مطلب حجية السنة. (¬2) تسهيل الوصول: ص 140، الإحكام، ابن حزم: 1 ص 87، قال عليه الصلاة والسلام: "قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها" وقال أيضًا: "إن الله قد أذن لي بالخروج"، الكفاية للخطيب ص 40 ط مصر. (¬3) تسهيل الوصول، له: ص 139.

ثانيا: درجة السنة بين مصادر التشريع

وقال ابن حزم: فصح أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كله في الدين وحي من عند الله عَزَّ وَجَلَّ، لا شك في ذلك (¬1). ثانيًا: درجة السنة بين مصادر التشريع: اتفق العلماء على أن السنة مصدر تشريعي مستقل، ولكنها تأتي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم، فالعالم أو المجتهد يرجع أولًا إلى كتاب الله تعالى لمعرفة حكمه في الواقعة، فإن لم يجد فيه مبتغاه رجع إلى السنة ليستخرج الحكم الشرعي ويستنبطه منها. والأدلة على ذلك من السنة وعمل الصحابة والمعقول (¬2). 1 - السنة: والدليل هو حديث معاذ بن جبل عندما أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وسأله: "كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ " فقال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإن لم تجد؟ " قال أجتهد رأيي ولا آلو. فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيده على هذا الترتيب للسنة بعد القرآن الكريم، وأقره عليه بقوله: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله" (¬3). 2 - عمل الصحابة: فقد ثبت عن أبي بكر وعمر وابن عباس وغيرهم ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام، له: 1 ص 109، مجموع الفتاوى لابن تيمية 17/ 11، وقال أيضًا: "السعادة والهدى في متابعة الرسول، وإن الضلال والشقاء في مخالفته، وإن كل خير في الوجود فمنشؤه من جهة الرسول، وإن كل شر في العالم فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به" مجموع الفتاوى: 19/ 76 - 81، 93 - 105. (¬2) انظر بيان ذلك تفصيلًا مع مزيد من الأدلة والأمثلة في (الموافقات 4/ 5 وما بعدها). (¬3) سبق تخريج هذا الحديث في المطلب الثاني.

ما يجزم بأنهم كانوا يرجعون في القضاء والأحداث والفتاوى إلى كتاب الله، فإن لم يجدوا في كتاب الله تعالى بحثوا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن مسعود: من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 3 - المعقول: وذلك من وجوه: أ- القرآن الكريم قطعي الثبوت جملة وتفصيلا، أما السنة فهي قطعية الثبوت جملة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما في التفصيل فمنها ما هو قطعي الثبوت كالحديث المتواتر، وهو قليل، ومنها ما هو ظني الثبوت كالحديث المشهور وحديث الآحاد، وهما أغلب السنة، والقطعي يقدم على الظني عقلًا بالاتفاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالقرآن الكريم معجزة بلفظه ومعناه، وأنه من كلام الله تعالى، أما السنة فهي كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الخالق مقدم على كلام المخلوق قطعًا. ب- جاءت السنة لتبين القرآن الكريم بالتأكيد والتقرير، أو بالتفسير والشرح، أو بالنسخ والزيادة، كما سنرى بعد قليل، فيكون القرآن أصلًا، والسنة تبعًا له، ويترتب على ذلك أن يكون القرآن في الدرجة الأولى، والسنة في الدرجة الثانية، قال الآمدي: والبيان تابع للمبيَّن (¬2). ج- القرآن الكريم محدد ومحصور، أما السنة فهي واسعة وغير محصورة، فكان الرجوع إلى القرآن أسهل منالًا، وأقرب مقصدًا، ¬

_ (¬1) أصول الفقه، الخضري: ص 267، وهو ما رواه الدارمي عن عمر ومعاذ وابن مسعود. (انظر سنن الدارمي: 1 ص 60، الملل والنحل للشهرستاني: 1/ 198، الفقيه والمتفقه: 2/ 219). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام، له: 1 ص 160، وانظر: أصول الفقه، الخضري: ص 267.

ثالثا: مراتب السنة بالنسبة إلى القرآن الكريم

فيقضي العقل أن نرجع إليه أولًا، ثم إلى السنة ثانيًا (¬1). د- القرآن الكريم أصل التشريع ومصدره الأول، فإن وجد فيه حكم أخذه المسلم فورًا، وإن لم ينص على الواقعة رجع إلى السنة، فإن ظفر بالحكم فيها طبقه (¬2). ثالثًا: مراتب السنة بالنسبة إلى القرآن الكريم: قال الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى: "فلم أعلم من أهل العلم مخالفًا في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه .. أحدها: ما أنزل الله عز وجل فيه نص كتاب، فبين رسول الله مثل ما نص الكتاب، والثاني: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله معنى ما أراد .. والثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب" (¬3). ويظهر من كلام الشافعي أن السنة بالنسبة إلى القرآن ثلاث مراتب، ويزاد عليها مرتبة أخرى أنها تكون دالة على النسخ (¬4)، فالمراتب أربعة، وهي: 1 - المرتبة الأولى: أن تكون السنة مقررة ومؤكدة حكمًا جاء في القرآن الكريم، فيكون الحكم قد ورد في مصدرين، ودل عليه دليلان: القرآن والسنة، وهذا القسم كثير في السنة، منها الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالجهاد، وفضل الشهيد، وبر الوالدين، وصلة الأقارب، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وأكل مال الآخرين. ¬

_ (¬1) أبحاث في أصول الفقه: ص 42. (¬2) أصول الفقه، خلاف: ص 41. (¬3) الرسالة، له: ص 91 - 92. (¬4) الرسالة: ص 106.

2 - المرتبة الثانية: أن تكون السنة مُبينة حكمًا ورد في القرآن الكريم (¬1)، وهذا البيان على ثلاثة أنواع: أ- أن تكون السنة مفسرة لحكم جاء في القرآن مجملًا، مثل قوله تعالى: {أقيموا الصلاة}، {وآتوا الزكاة}، {كتب عليكم الصيام}، {ولله على الناس حج البيت} ولم يبين القرآن الكريم كيفية إقامة الصلاة، ولا مقدار الزكاة، ولا مفهوم الصوم، ولا مناسك الحج، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي"، وحج: وقال: "خذوا عني مناسككم" وبين وقت الصيام من الفجر إلى غروب الشمس، وأنه امتناع عن الطعام والشراب والجماع، وغير ذلك من أحكام المعاملات والقضاء والجهاد. ب- أن تكون السنة مقيدة لحكم جاء في القرآن مطلقًا، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فاليد مطلقة، ولم توضح الآية الحد المطلوب في القطع، فجاءت السنة وبينت أن القطع من رسغ اليد اليمنى. ج- أن تكون السنة مخصصة لحكم عام في القرآن الكريم (¬2)، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" (¬3)، مع قوله تعالى في الآية التي عدَّدت المحرمات من النساء في النكاح: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} .. الآية ثم قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فلفظ "ما" من ألفاظ العموم، فيفهم من الآية جواز النكاح من غير ما ذكرت الآية، ثم جاءت السنة وخصصت هذا العموم بأنه ما عدا العمة والخالة. ¬

_ (¬1) جماع العلم مع كتاب الأم: 7 ص 251. (¬2) الرسالة: ص 58. (¬3) رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه بروايات مختلفة.

3 - المرتبة الثالثة: أن تكون السنة منشئة لحكم جديد لم يتعرض له القرآن الكريم (¬1)، مثل قضائه - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، والتحريم من الرضاع لكل ما يحرم من النسب، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬2) بينما اقتصرت الآية على تحريم الجمع بين الأختين من النسب، وتحريم الأمهات والأخوات فقط من الرضاع, ومثل رجم الزاني المحصن، وتحريم لبس الذهب والحرير على الرجال، وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (¬3). قال الإِمام الشوكاني: اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، أي: أوتيت القرآن ومثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن (¬4). 4 - المرتبة الرابعة: أن تكون السنة ناسخة للقرآن الكريم، وهذه المرتبة اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول: أن السنة لا تنسخ القرآن، والقرآن لا ينسخ السنة، ¬

_ (¬1) نقل الإمام الشافعي قولًا مخالفًا يمنع استقلال السنة، وهو أنه "لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب" الرسالة: ص 192، وانظر الموافقات: 4 ص 11، وقد تبنى بعض المعاصرين هذا القول كالشيخ محمَّد الخضري فقال: "ولا تجد في السنة أمرًا إلا والقرآن قد دل عليه دلالة إجمالية أو تفصيلية؛ لأن الله جعل القرآن تبيانًا لكل شيء، فيلزم من ذلك أن السنة حاصلة فيه في الجملة"، أصول الفقه، له: ص 268، 270، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 107. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، وابن ماجه وأحمد. (¬3) الرسالة: ص 92 وما بعدها، جماع العلم 5 ح الأم: 7 ص 251. (¬4) إرشاد الفحول، له: ص 33.

وإنما تكون السنة دليلًا على ناسخ القرآن ومنسوخه، وهو مذهب الشافعي، واستدل بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فإن الفاعل في لفظ "نأت" يرجع إلى الله تعالى، فالناسخ هو كلام الله تعالى في القرآن، وإن الناسخ يكون خيرًا من المنسوخ أو مثله، والسنة ليست خيرًا من القرآن الكريم، وليست مثل كلام الله، لكن السنة تكون دليلًا على نسخ الحكم (¬1). القول الثاني: أن السنة تنسخ حكمًا ورد في القرآن الكريم، وهو قول الجمهور والبيضاوي والإسنوي والغزالي والجويني من الشافعية. واستدلوا على ذلك بوقوع النسخ فعلًا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لوارث" (¬2) فإنها نسخت الوصية للوالدين في الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180] فالحديث نسخ الآية (¬3)، والأمثلة على ذلك كثيرة في باب النسخ كما سيأتي في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى. وبعد بيان مراتب السنة بالنسبة إلى القرآن الكريم يتأكد لنا أن السنة ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 137، 142، 222، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 72، 74، مختصر ابن الحاجب: ص 168. منهاج الوصول: ص 59، تسهيل الوصول: ص 131، الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي: ص 254. (¬2) رواه الشافعي وأحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والبيهقي والدارقطني عن جابر، وهو مما تلقته الأمة بالقبول وأصبح مشهورًا، انظر تخريج هذا الحديث في هامش الرسالة: ص 141، للشيخ أحمد شاكر. (¬3) انظر تفصيل ذلك في إرشاد الفحول: ص 191، المستصفى: 1 ص 124، الإحكام، ابن حزم: 4 ص 477، منهاج الوصول، للبيضاوي: ص 59، تفسير البيضاوي: ص 22، 23، مغيث الخلق للجويني: ص 30، 32. نهاية السول: 2 ص 216، أصول السرخسي: 2 ص 67 وما بعدها.

تكمل القرآن الكريم في البيان والتشريع، وأنه لا يمكن أن يقع بينهما اختلاف أو تعارض، وأن ما يتبادرا منه إلى الذهن أحيانًا فهو توهم ظاهري أو دس وتشكيك (¬1)، وهذاء، يدفعنا إلى زيادة الحرص على السنة الشريفة، والتطلع إليها، دراسة وبحثا وحفظا، لتتوضح أمامنا معالم الطريق، ونسلك الصراط المستقيم، ونرضي رب العالمين، القائل في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وفي الختام فإن مباحث الكتاب والسنة كثيرة، وإن المرء لا يحيط علمه بها، وإن المباحث اللغوية والدلالات اللفظية للقرآن والسنة، وما يتعلق بهما في الاستدلال والاستتباط مجاله في مبحث الدلالات، وإن هذه المباحث مشتركة بين القرآن, الكريم والسنة القولية، وتنفرد السنة من جهة أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وما يتعلق بها من عصمة الأنبياء ودلالة الأفعال وتعارض الأقوال مع الأفعال، وغير ذلك مما أسهب علماء الأصول في عرضه وبيانه (¬2)، فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ومنحنا القوة والقدرة على الاستفادة مما كتبوه، وتطبيقه في هذه الحياة. وبعد أن درسنا مبحثي الكتاب والسنة، بشيء من التفصيل فإننا نتناول بقية المصادر إجمالًا، فنعرِّف كلا منها، ونشرح التعريف، ونبين الصورة والمثال، ونذكر الحجة وبعض الشروط، ونشير إلى آراء الأئمة في المصادر المختلف فيها وأهم أدلتهم. والفائدة من هذه الدراسة الإجمالية -مع أنها استباق للزمن في ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 216. (¬2) انظر إرشاد الفحول: ص 35، منهاج الوصول: ص 61، الإحكام في أصول الإحكام، الآمدي: 1 ص 156، 174، ج 2 ص 3، نهاية السول، الإسنوي: 2 ص 237، 250، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 108، أصول السرخسي: 2 ص 86، شرح الكوكب المنير: 2 ص 287 وما بعدها.

الدراسة التفصيلية- أن القاري يدرس ذلك في أبواب الفقه والحديث والأحوال الشخصية والأصول، وتعتمد دراسته في مشروعية الأحكام على الإجماع أو القياس أو الاستحسان أو العرف أو عمل الصحابة ... فلا بد أن يكون لديه تصور صحيح لها, ليطمئن قلبه إلى الأحكام ومشروعيتها، ونترك التفاصيل لوقتها المناسب. ولا يمكن للقارئ أن يحتج مثلًا بالإجماع بأنواعه، أو بالعرف أو بالاستصلاح، وهو جاهل بها، أو يفاجأ بعدم حجية بعضها مثلًا.

المبحث الثالث في الإجماع

المبحث الثالث في الإجماع تعريف الإجماع: الإجماع لغة: له معنيان: أحدهما: العزم على الأمر والقطع به، ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71] أي: اعزموا عليه، والثاني: هو الاتفاق، من قولهم: أجمع القوم على كذا أي: اتفقوا (¬1). وفي الاصطلاح: اختلف علماء الأصول في تعريف الإجماع بناء على اختلافهم في بعض شروطه، ونختار تعريف الكمال بن الهمام وهو: "اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على أمر شرعي" (¬2). ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 150، القاموس المحيط: 3 ص 15. (¬2) تيسير التحرير: 3 ص 224، زاد بعضهم في التعريف لفظ "بعد عصر النبي" لأنه لا إجماع مع وجود المشرع، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو وحده المرجع في التشريع، وقال آخرون: "على أمر من الأمور" ليشمل الإجماع على الأمر الشرعي كحل البيع، والإجماع على الأمر العقلي كحدوث العالم، والأمر اللغوي، كالفاء للتعقيب، والأمر الدنيوي كالحروب والعمران، وعبر آخرون بلفظ "أهل الحل والعقد" بدلًا من المجتهدين، انظر التعريفات: ص 5، الإحكام، الآمدي: 1 ص 180، إرشاد الفحول: ص 71، حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 ص 210. كشف الأسرار: 3 ص 946، المستصفى: 1 ص 173، مختصر ابن الحاجب: ص 55، المنهاج =

شرح التعريف

شرح التعريف: 1 - الاتفاق: هو الاشتراك، وهذا يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير. 2 - مجتهدي: وهم العلماء وأهل الحل والعقد الذين توفرت فيهم شروط الاجتهاد في الأحكام الشرعية، ويخرج من التعريف العوام وأهل التقليد ومن لم يبلغ درجة الاجتهاد الشرعي، فلا عبرة لموافقتهم ولا لمخالفتهم، ولا عبرة لاتفاق غير المجتهدين. 3 - عصر: وهو الزمن، أي اتفاق المجتهدين الموجودين في عصر واحد، فلا يشترط اتفاق المجتهدين في جميع العصور؛ لأنه مستحيل، وإضافة العصر إلى المجتهدين يدل على الاستغراق، فيشترط اتفاق جميع المجتهدين في عصر من العصور، ويخرج من التعريف اتفاق بعض المجتهدين، فلا يعدُّ إجماعًا. 4 - من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: وهذا تقييد للإجماع في أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو خاصية لها، وتكريم لشأنها, لما ورد في القرآن الكريم من جعلها أمة وسطًا، ويخرج إجماع الأمم الأخرى، كاتفاق علماء النصارى أو اليهود على أمر، فلا يعتبر إجماعًا شرعيًّا، ولا يقبل، ولا يحتج به. 5 - على أمر شرعي: وهو الأمر الذي لا يدرك لولا خطاب الشارع، سواء كان قولًا أو فعلًا، أو اعتقادًا، أو تقريرًا، والإجماع حجة في جميع الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات، وعقوبات وأحوال شخصية، وغير ذلك من الحلال والحرام (¬1). ¬

_ = للبيضاوي: ص 73، أصول الفقه، أبو النور: 2 ص 178، الحدود في الأصول، الباجي: ص 63، شرح الكوكب الكبير: 2 ص 211، 213. (¬1) كما يكون الإجماع في الأحكام الشرعية يكون في تأويل نص أو تفسيره أو تعليل =

حجية الإجماع

ويؤخذ من التعريف أنه إذا وقعت حادثة، وأراد المسلمون أن يعرفوا الحكم الشرعي فيها، فتعرض على جميع المجتهدين المسلمين وقت حدوثها، فإن اتفقوا على حكم معين فيها، كان اتفاقهم إجماعًا، ويكون هذا الإجماع هو الدليل على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة. وهذا ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، عند نزول الوقائع الجديدة في المسلمين، وكان عمر رضي الله عنه يحرص على الاحتفاظ بالصحابة والمجتهدين في المدينة المنورة مركز الخلافة الإِسلامية. ومثال الإجماع الاتفاق على خلافة أبي بكر، وتوريث الجدات السدس، وحجب ابن الابن من الإرث بالابن (¬1)، والإجماع لا بد له من دليل كآية أو حديث ظاهر الدلالة، أو محل الاجتهاد، وعند الإجماع يصبح الأمر حكمًا قطعيًّا لا مجال لاحتمال غيره (¬2). حجية الإجماع: اتفق المسلمون على كون الإجماع حجة شرعية، ومصدرًا من مصادر التشريع الإِسلامي في بيان الأحكام الشرعية، وأنه لا تجوز مخالفته (¬3)، واستدلوا على ذلك بالقرآن الكريم والسنة والمعقول. ¬

_ = حكم النص وبيان الوصف المناط به، وقصره بعضهم على الأحكام العملية فقط، انظر: اللمع، للشيرازي: ص 51، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 189. (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 54، أصول الفقه، الخضري: ص 300. (¬2) يطلق الإجماع على ما علم من الدين بالضرورة، وهذا متفق عليه، وصرح به الشافعي رحمه الله تعالى، (الرسالة، له: ص 534)، ويطلق على اتفاق جميع الأمة، وهو محل البحث، باتفاق أهل الحل والعقد، ويطلق على اتفاق علماء مذهب فقهي، أو اتفاق المذاهب الأربعة، أو على لم ما يرد فيه خلاف، وهذه الثلاثة خارج البحث. (¬3) خالف في حجية الإجماع فئة قليلة من المسلمين، كالخوارج والشيعة والنظام من =

أولا: نصوص القرآن الكريم

أولًا: نصوص القرآن الكريم: استدل العلماء على حجية الإجماع بآيات كثيرة نقتصر منها على ما يلي: 1 - قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. فالآية الكريمة تحرم مخالفة الطريق التي سلكها المؤمنون؛ لأنها توعدت المخالف بالتخلي عنه في الدنيا، والعذاب بالآخرة، وجمعت الآية بين مخالفة المؤمنين ومخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوعيد، مما يدل على أنهما بمرتبة واحدة، فكما يجب على المسلم اتباع الرسول وعدم مخالفته، وكذلك يجب عليه متابعة سبيل المؤمنين واتفاقهم في الأحكام، وعدم مخالفتهم فيها (¬1). 2 - قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. فالآية تزكي هذه الآمة وتمن عليها بأنها وسط بين الأمم لتشهد عليهم؛ لأن الله عدَّلها، فتجب عصمتها عن الخطأ قولًا وفعلًا، والوسط هو العدل الذي يعتبر قوله حجة، كما جعل الله الرسول حجة في قبول قوله على المسلمين (¬2). ¬

_ = المعتزلة، وأنكروا حجيته في الأحكام، ولا عبرة لإنكارهم لخروجهم عن إجماع المسلمين السابق لهم، ولضعف أدلتهم، وسوء معتقدهم أحيانًا، ولذا يعتبر الإجماع من الأدلة المتفق عليها بين العلماء، انظر: أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 190، الإحكام، الآمدي: 1 ص 181. شرح الكوكب المنير: 2 ص 213. (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 183، حاشية العطار: 3 ص 231، إرشاد الفحول: ص 74، كشف الأسرار: 3 ص 973، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 184، أصول السرخسي: 1 ص 296، شرح الكوكب المنير: 2 ص 21. (¬2) الإحكام، الآمدي: 1 ص 192، نهاية السول: 2 ص 347، إرشاد الفحول: ص 76، =

ثانيا: السنة

3 - قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. فالآية وصفت المسلمين بأنهم خير الأمم؛ لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإذا أمرت الأمة كلها -الممثلة بعلمائها- بشيء فيكون معروفًا بنص الآية، وإذا نهت عن شيء كان منكرًا، وبالتالي فإن أمرهم ونهيهم حجة على المسلمين، ويكون إجماعهم على أمر مصدرًا من مصادر التشريع؛ لأن الآية وصفتهم بصفة المشرع في الأمر والنهي (¬1). وهناك آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقوله تعالي: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وأولو الأمر الديني هم المجتهدون والعلماء وأهل الفتيا، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. والواقع أن هذه الآيات الكريمة لا تدل دلالة صريحة على حجية الإجماع، وناقش العلماء ما يرد على الاحتجاج فيها، وأن أظهرها دلالة هي الآية الأولى، ولذا قال الغزالي رحمه الله: "فهذه كلها ظواهر، ولا تنص على الغرض، بل لا تدل دلالة الظواهر، والأقوى هو التمسك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجمع أمتي على الخطأ" (¬2). ثانيًا: السنة: وهي أقرب الطرق في إثبات حجية الإجماع، وذلك أنه وردت عدة ¬

_ = منهاج الوصول: ص 73، كشف الأسرار: 3 ص 97، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 189، أصول السرخسي: 1 ص 297. (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 195، إسناد الفحول: ص 77، كشف الأسرار: 3 ص 976، أصول السرخسي: 1 ص 296، شرح الكوكب المنير: 2 ص 217. (¬2) المستصفى: 1 ص 185.

أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدل على عصمة الأمة عن الخطأ والضلالة، وأن المعنى المشترك بين هذه الأحاديث بلغ حد التواتر، من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن تجمع أمتي على الضلالة"، "أمتي لا تجتمع على الخطأ"، "أمتي لا تجتمع على الضلالة"، "ولم يكن الله بالذي يجمع أمتي على الضلالة، وسألت الله أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيه". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا من سَرّه بَحْبَحَة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد"، وقوله: "يد الله مع الجماعة"، وقوله: "عليكم بالسواد الأعظم"، وقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم خلاف من خالفهم، ومن خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه، ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية، عليكم بالسواد الأعظم" (¬2). فالأحاديث تدل على قصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتعظيم هذه الأمة وعصمتها من الخطأ، وأن الله تعالى لا يجمع هذه الأمة على الخطأ والضلالة، وأن ما اتفقوا عليه فهو حجة شرعية يجب على المسلمين الأخذ به، والالتزام بأحكامه، وأن الإجماع مصدر من مصادر التشريع الإسلامي (¬3). ¬

_ (¬1) حديث موقوف على ابن مسعود، رواه أحمد (1/ 379)، وانظر: مجمع الزوائد 1/ 178، كشف الخفا 2/ 263، الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 89. (¬2) انظر تحقيق هذه الأحاديث في هامش الرسالة، للشيخ أحمد شاكر: ص 474، وكشف الخفا: 2 ص 488، المستدرك: 4/ 506 , 507، جامع الترمذي: 4/ 416، السنة، لابن أبي عاصم: ص 39 - 40. (¬3) المستصفى: 1 ص 175، منهاج الوصول: ص 73، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 190، أصول السرخسي: 1 ص 229، شرح الكوكب المنير: 2 ص 218.

ثالثا: المعقول

ثالثًا: المعقول: وهو أن أهل الحل والعقد من مجتهدي الأمة كثيرون، وإذا اتفقوا على الحكم في قضية ما، وجزموا بها جزمًا قاطعًا، فالعادة تحيل هذا الحكم القاطع الجازم لو لم يستندوا إلى سند قوي قاطع، وإلا تنبه إلى الخطأ في القطع أحدهم، فاتفاق جميع المجتهدين مع اختلاف أنظارهم وبيئاتهم وتوافر الأسباب لاختلافهم دليل على أن وحدة الحق والصواب هي التي جمعتهم على الحكم (¬1). ركن الإجماع وشروطه: ركن الإجماع هو الاتفاق على الحكم من جميع المجتهدين مع اختلاف أجناسهم وطوائفهم وبلادهم، وهذا الاتفاق إما أن يكون صريحًا بالقول أو بالفعل، وهو الإجماع الصريح الحقيقي المتفق عليه، وهو المراد عند إطلاق العلماء لفظ الإجماع، وإما أن يصدر بعض المجتهدين حكمًا ويسكت الآخرون عليه دون إقرار ولا إنكار، وهو الإجماع السكوتي، وهذا مختلف فيه، فقال الشافعية والظاهرية بعدم حجيته، وقال الحنفية والمالكية وأحمد: إنه حجة؛ وهاتان مرتبتان للإجماع، وله مراتب أخرى في كتب الأصول (¬2). ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 202، المستصفى: 1 ص 179، أصول الفقه، خلاف: ص 51، وأكد البزدوي التعليل بالعقل بأن انقطاع الوحي مع كثرة الحوادث والوعد بثبات الشريعة وحفظها يقتضي العقل أن يكون إجماعهم حجة. (كشف الأسرار: 3 ص 976). (¬2) اختلف الفقهاء والأصوليون في الركن فبعضهم اقتصره على الماهية، وبعضهم أضاف إليه ما تحتاج إليه الماهية من أطراف وغيرها، فتختلف الأركان بناء على ذلك، وانظر: مراتب الإجماع في: كتاب أصول الفقه، أبو زهرة: ص 198، شرح الكوكب المنير 2/ 212، 254.

أما شروط الإجماع فكثيرة، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وأهمها: 1 - أن لا يعارضه نص من القرآن أو السنة أو إجماع سابق؛ لأن النص يأتي في المرتبة الأولى، والإجماع في المرتبة الثانية، وأن الإجماع السابق قطعي فلا يصح الإجماع على خلافه، ولأن الإجماع لا بد أن يستند على أصل شرعي من كتاب أو سنة (¬1). 2 - أن يكون الإجماع مستندًا إلى دليل شرعي، وِإن لم يصلنا الدليل؛ لأن المجتهد مقيد في اجتهاده في الحدود الشرعية، وأكد ابن حزم أنه لا إجماع إلا بناء على نص (¬2). 3 - أن يوجد عدد من المجتهدين في عصر واحد، يؤمن تواطؤهم على الكذب. 4 - أن يكون الاتفاق من جميع المجتهدين. 5 - أن يكون الإجماع على أمر شرعي عند الجمهور، وقال آخرون: يصح على كل أمر. 6 - أن ينقرض العصر ويموت جميع المجتهدين حتى لا يرجع أحدهم عن رأيه، وهو شرط مختلف فيه (¬3). 7 - أن ينتفي سبق الخلاف في المسألة عند أبي حنيفة خلافًا ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 599. (¬2) الإحكام، ابن حزم: 4 ص 495، إرشاد الفحول: ص 79، أصول السرخسي: 1 ص 301، تسهيل الوصول: ص 175، اللمع: ص 51، تيسير التحرير: ص 254، المستصفى: 2 ص 244، مصادر التشريع الإِسلامي: ص 154، أصول الفقه، أبو النور: ص 214، شرح الكوكب المنير: 2 ص 259. (¬3) انظر تفصيل ذلك مع بيان آراء العلماء والأئمة وأدلتهم في (شرح الكوكب المنير: 2 ص 246 وما بعدها).

حكم الإجماع ومرتبته وأنواعه

للجمهور (¬1). حكم الإجماع ومرتبته وأنواعه: اتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل بها على كل مسلم، وأنه يفيد القطع في إثبات الأحكام، ولا مجال لمخالفته ولا لنسخه. ويأتي الإجماع في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة، كما بينه الشافعي رحمه الله (¬2). قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجده ففي سنة رسول الله، فإن لم يجد فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون. وإلا فليجتهد (¬3). أما الإجماع السكوتي فقد اختلف العلماء في حجيته، فذهب أكثر الحنفية والإمام مالك والإمام أحمد إلى اعتباره حجة قطعية، كالإجماع الصريح، لعموم الأدلة التي لم تفرق بين إجماع صريح وإجماع سكوتي، وذهب الكرخي من الحنفية، والآمدي من الشافعية إلى اعتباره حجة ظنية؛ لأن السكوت يحتمل الموافقة، ويحتمل غيرها، فهو ظني الدلالة على الحكم، ولا يمنع الاجتهاد في الواقعة والإجماع عليها بخلافه (¬4). ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 3 ص 232، شرح الكوكب المنير: 2 ص 272 - 273. (¬2) الرسالة: ص 599. (¬3) كشف الخفا: 2 ص 488، المستصفى، الغزالي: 2 ص 244، أصول السرخسي: 1 ص 295. (¬4) المستصفى: 1 ص 189، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 208، إرشاد الفحول: ص 84، أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 96، شرح الكوكب المنير: 2 ص 212، 254.

وقال الشافعي وأكثر أصحابه والظاهرية: إنه ليس بحجة أصلًا (¬1). وهناك أنواع فرعية للإجماع مختلف فيها أيضًا أهمها: 1 - إجماع أهل المدينة المنورة، فقال مالك: يعتبر حجة تشريعية، خلافًا للجمهور (¬2)، كما سنفصله في عمل أهل المدينة. 2 - إجماع الأكثرية لا يعتبر حجة مع مخالفة الأقل، وقال جماعة منهم الطبري، والجوهري التميمي، والرازي الحنفي، وابن حمدان، والغزالي والجويني والسرخسي: هو حجة، خلافًا للجمهور (¬3). 3 - ذهب الظاهرية إلى قصر الإجماع على الصحابة فقط، ولا إجماع بعدهم (¬4). 4 - إجماع العترة، وإجماع الخلفاء الراشدين، وإجماع الشيخين أبي بكر وعمر (¬5). ¬

_ (¬1) الرسالة: ص 599. (¬2) المستصفى: 1 ص 187، أصول الفقه، أبو النور: 3 ص 193، إرشاد الفحول: ص 82، أصول السرخسي: 1 ص 314، شرح الكوكب المنير: 2 ص 237. (¬3) المستصفى: 1 ص 186، شرح الكوكب المنير: 2 ص 243، نوادر الفقهاء: ص 9، 13. (¬4) المستصفى: 1 ص 189، الإحكام، ابن حزم: 4 ص 508، أصول السرخسي: 1 ص 313. (¬5) تيسير التحرير: 3 ص 242، حاشية العطار: 2 ص 213، أصول السرخسي: 1 ص 314، شرح الكوكب المنير: 2 ص 239، 241، وانظر إطلاقات الإجماع في كتب الفقه في (أصول الفقه الإِسلامي، شعبان: ص 105).

المبحث الرابع في القياس

المبحث الرابع في القياس وهذا هو الدليل الرابع من الأدلة الشرعية التي اتفق جماهير المسلمين على الأخذ بها، واعتبروه مصدرًا رئيسيًّا من مصادر التشريع الإِسلامي، وهو ذو أهمية خاصة؛ لأن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، ولا يمكن أن يحيط المتناهي بغير المتناهي، فتظهر ضرورة القياس الحتمية في التشريع، وقد سد هذا المصدر بابًا كبيرًا في بيان الأحكام، وتمت صلاحية الشريعة به لخلودها وصلاحها لكل زمان ومكان، وأن هذه النصوص المحكمة والقواعد العامة والأصول الثابتة دلت على الأخذ بالقياس، وأنه دليل على حكم الله تعالى. تعريف القياس: القياس في اللغة: التقدير، مثل قست الثوب بالذراع أي: عرفت مقداره، وقستِ القُذَّة بالقُذَّة أي: سويت بينهما في المقدار، والقياس من قاس يقيس وقاس يقوس، ويتعدى بالباء وبعلى، فيقال: قاسه على الشيء، وقاسه بالشيء (¬1)، ويكثر في الأصول تعديه بعلى. ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 2 ص 713، 716، القاموس المحيط: 2 ص 244، والقذة: ريش السهم.

شرح التعريف

أما القياس في الاصطلاح فعرفه ابن الحاجب بأنه "مساواة فرع لأصل في علة حكمه" (¬1). شرح التعريف: 1 - مساواة: جنس، يشمل كل مساواة، مثل مساواة فرع لأصل، أو فرع لفرع، أو مساواة زيد لعمرو. 2 - فرع: وهو المحل الذي لم ينص أو يجمع على حكمه. 3 - أصل: وهو المحل الذي ورد فيه نص، أو أجمع المجتهدون على حكم فيه، ويخرج مساواة الفرع لفرع آخر، ومساواة زيد لعمرو. 4 - علة: وهي الوصف الجامع المشترك أو الشبه المشترك بين الأصل والفرع والذي يتعلق الحكم به. 5 - حكمه: وهو حكم الأصل الشرعي المتعلق بفعل المكلف بطلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير فيه. والخلاصة أن الفرع ساوى الأصل في نفس العلة فينقل حكم الأصل الثابت إلى الفرع، والعلة قد تكون في الفرع أقوى منها في الأصل، مثل قياس ضرب الوالدين على التأفف فيكون القياس بالأولى، وقد تكون مساوية لها كقياس إحراق مال اليتيم على أكله وهو القياس المساوي، وقد تكون أضعف في الفرع كقياس الموز على البر بجامع الطعمية وهو القياس الأدون (¬2). ومثال القياس أن يقيس المجتهد النبيذ، وهو فرع، على الخمر، وهو أصل لاشتراكهما في علة الإسكار، وينقل حكم الخمر وهو ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 147، وانظر: إرشاد الفحول: ص 198، حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 ص 240. (¬2) حاشية العطار: 2 ص 265، المستصفى: 2 ص 228، تيسير التحرير: 3 ص 264.

أركان القياس وشروطه

الحرمة إلى النبيذ، فيكون النبيذ حرامًا. وقياس المالكية الذرة على البر لكونه مقتاتًا مدخرًا، وحكم البر أنه مال ربويٌّ، فتكون الذرة كذلك مالًا برويًّا، ومثل قياس قبول خبر الآحاد على قبول الشهادة بجامع العدالة المتوفرة في كل منهما. أركان القياس وشروطه (¬1): أركان القياس -كما وردت في التعريف- أربعة، وهي: أصل، وفرع، وحكم الأصل، والعلة. 1 - الأصل: وهو محل الحكم المُشَبَّه به، ويشترط فيه أن يكون شرعيًّا وغير منسوخ، وألا يكون فرعًا من أصل آخر. 2 - الفرع: وهو الواقعة أو الحادثة التي نريد معرفة حكمها، ويشترط في الفرع أن يساوي الأصل في العلة، وأن يساوي حكمه حكم الأصل، وألا يكون حكمه متقدمًا على حكم الأصل. 3 - حكم الأصل: وهو الحكم الشرعي، ويشترط فيه أن يكون ثابتًا بنص أو بإجماع، وألا يكون ثابتًا بالقياس، وأن لا يكون دليله شاملًا لحكم الفرع، وبشرط أن يكون الحكم معقول المعنى لمعرفة علته، وأن لا يكون الحكم معدولًا به عن سنن القياس، وهو ما لا يعقل معناه كأعداد الركعات ومقادير الزكاة والكفارات، وما استثني من قاعدة مقررة، كشهادة خزيمة بن ثابت، فإنه خاص به. 4 - العلة: وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع، ويشترط فيها ¬

_ (¬1) انظر مختصر ابن الحاجب: ص 177، إرشاد الفحول: ص 204 وما بعدها، حاشية العطار: 2 ص 253 وما بعدها، المستصفى: 2 ص 325، تيسير التحرير: 3 ص 275، محاضرات أصول الفقه لطلاب السنة الثانية في دبلوم الفقه المقارن بالأزهر: ص 18.

حجية القياس

أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا معرِّفًا للحكم بحيث يدور الحكم معها، وأن تكون مطَّرِدة. وغير ذلك من الشروط الكثيرة والبحوث المتعلقة بمسالك العلة. حجية القياس: ذهب الجمهور إلى اعتبار القياس حجة ومصدرًا شرعيًّا، وأصلًا من أصول الشريعة (¬1)، واستدلوا على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة ¬

_ (¬1) اتفق علماء الأصول على حجية القياس في الأمور الدنيوية، واتفقوا على حجية القياس الذي صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفقوا على نفي القياس في التوحيد، ووقع الخلاف في القياس الشرعي في الأحكام، فأنكر ابن حزم والشيعة غير الزيدية والنظام القياس، ورفضوا الاحتجاج به، وشنع ابن حزم على الأئمة لقبولهم القياس، واحتج بقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] ويقول: والمجتهدون يختلفون في حكم القياس وفي نتائجه، فهو من عند غير الله. ويرد عليه أن الاختلاف المنفي في القرآن هو التناقض في المعنى والبلاغة والإعجاز، أما الاختلاف في الأحكام فهو مقبول إجماعًا، لوقوع الاختلاف بين الصحابة في التيمم، وإعادة الصلاة، وفي صلاة العصر في غزوة بني قريظة، وأقرهم عليه رسول الله، ولذا قالوا: "اختلاف العلماء رحمة" واحتج ابن حزم أيضًا بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فالقرآن فيه بيان لكل الأحكام، ولو ثبتت الأحكام بالقياس لكان ذلك معارضا للقرآن في بيان الأحكام، ويُردُّ عليه أن القرآن تبيان لكل شيء إجمالًا، وتأتي السنة والإجماع والقياس بيانًا وتفصيلًا وتوضيحا، واستدل من السنة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيمًا حتى قاسوا ما لم يكن على ما كان، فضَلُّوا وأضَلُّوا" فالرسول اعتبر القياس ضلالًا وإضلالًا، والرد عليه أن هذا ليس بحديث، وإنما هو قول لعروة كما رواه الدارمي وأبو عوانة، ولو كان حديثًا فهو ضعيف لأن في سنده قيس بن الربيع، وقد جرحه علماء الحديث، وأن المعنى أنهم قاسوا بدون علة مشتركة بدليل قوله: إما لم يكن على ما كان" وهو الحكم بالتشهي، وهذا ممنوع قطعًا، انظر: المستصفى: 2 ص 235، 246، 256، أعلام الموقعين: 2 ص 34، إرشاد الفحول: ص 199، حاشية العطار: 2 ص 241، الإحكام، ابن حزم: =

أولا: نصوص الكتاب الكريم

والإجماع والمعقول. أولًا: نصوص الكتاب الكريم: قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر: 2]. الاعتبار هو القياس، والآية أمرت بالاعتبار، والأمر يفيد الوجوب، فيكون القياس واجبًا على المجتهد، وإذا كان القياس واجبًا على المجتهد فيجب عليه أن يلتزم بالحكم الذي وصل إليه اجتهاده، وأنه هو حكم الله تعالى في اعتقاده (¬1)، قال الشوكاني: الاعتبار مشتق من العبور، والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فكان داخلًا تحت الأمر (¬2). ثانيًا: السنة: 1 - ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، والاجتهاد هو القياس، وفي رواية قال: أقيس الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملت به، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أصبت" (¬3). فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر معاذًا على طريقة القضاء، فيكون الاجتهاد ¬

_ = 7 ص 975، أصول السرخسي: 2 ص 124، قال المحلي: "الذي نذهب إليه أنه ليس بحجة" مبادئ الوصول إلى علم الأصول، له: ص 214، وهذا تناقض مع قولهم بأن العقل مصدر؛ لأن القياس إعمال للعقل في المتشابهات. (¬1) إرشاد الفحول: ص 200، حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 ص 250، أصول السرخسي: 2 ص 125. (¬2) إرشاد الفحول، المرجع السابق. (¬3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وقال الشوكاني: وقد قيل: إنه مما تلقته الأمة بالقبول.

والقياس ثابتًا بالسنة التقريرية. 2 - قاس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمور كثيرة تزيد عن مائة مرة ليعلم الأمة ذلك ويرشدها إلى الطريق في بيان الأحكام التي لم يرد فيها نص بقياسها على الأحكام التي وردت فيها النصوص، وهذا من السنة الفعلية التي تعتبر حجة على المسلمين لأن يأتسوا بها، ويقتدوا بصاحبها. - منها أن عمر سأل عن القُبلة هل تفطر الصائم؟ فقال: "أرأيتَ إن تمضمضت، أكنت تفطر؟ " قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: "فمَه (¬1)؟ "، أي: فما الفرق؟ وهنا قاس القُبلة على المضمضة في عدم الإفطار، والعلة المشتركة بينهما أن كلًّا منهما مقدمة للإفطار. - ومنها أن امرأة من جهينة سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نذر أمها بالحج، وماتت قبل الوفاء، وقالت: أفأحج عنها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أفكنت قاضِيَتِه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء"، وقد تكررت هذه القصة مع امرأة من خثعم بالحج عن والدها، وعن رجل من خثعم بالحج عن والده، وهي أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والبيهقي والدراقطني (¬2). فالحديث شبه الحج بالدين، وقاسه عليه في وجوب الوفاء بجامع أن كلًّا منهما دين ثابت في الذمة، وأحدهما حق للعباد والآخر حق الله. - ومنها ما رواه أبو هريرة أن رجلًا من فزارة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، سنن أبي داود: 1 ص 556، والبيهقي والحاكم وأحمد (المجموع 6/ 363)، وانظر معالم السنن للخطابي 3/ 263 على هامش مختصر سنن أبي داود. (¬2) انظر نيل الأوطار: 4/ 320، صحيح مسلم (8/ 23، 25، 9/ 97) صحيح البخاري (2/ 656)، سنن الدارقطني (2/ 260).

ثالثا: الإجماع

فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "فما ألوانها؟ " قال: حُمر، قال: "فهل فيها من أَوْرق؟ " قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: "فأنّى أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق (¬1) ". ثالثًا: الإجماع: ثبت عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم اجتهدوا رأيهم، وقاسوا الأمور على أمثالها، وتكرر ذلك وشاع ولم ينكر عليهم أحد، فكان إجماعًا منهم على حجية القياس (¬2)، قال ابن عقيل الحنبلي: وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي (¬3). مثاله أن أبا بكر قاس في الكلالة الوالد على الولد في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فقال أبو بكر لما سئل عن الكلالة، أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، الكلالة ما عدا الوالد والولد. وقال عمر في رسالته المشهورة لأبي موسى الأشعري: "اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي، والأورق: الأسمر، جمع وُرْق: الذي لونه لون الرماد، وانظر كتاب أقيسة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لابن الحنبلي، طبع دار الكتب الحديثة بالقاهرة، 1393 هـ/ 1973 م. (¬2) حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 ص 249، المستصفى: 2 ص 242، وفيه أمثلة كثيرة، أصول السرخسي: 2 ص 118. (¬3) إرشاد الفحول: ص 203. (¬4) انظر رسالة عمر مع شرحها الوافي في أعلام الموقعين: 1 ص 90، 140.

رابعا: المعقول

رابعًا: المعقول: إن الحوادث لا تنتهي، والنصوص محصورة، فلا بدَّ من القياس. حكم القياس ومرتبته: أما حكم القياس فإنه يفيد الظن وليس القطع؛ لأنه بذل الجهد من المجتهد، والمجتهد قد يصيب وقد يخطئ، وإن الحكم الثابت بالقياس هو حكم شرعي ديني؛ لأنه مأمور به بالآية السابقة، وهو طريق لمعرفة الأحكام الشرعية، ومصدر من مصادر التشريع يجب العمل به (¬1). فيأتي القياس في المرتبة الرابعة بعد القرآن والسنة والإجماع، قال الإِمام الشافعي رحمه الله: يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليهما الذي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا في الظاهر والباطن، ويُحكم بالسنة قد رويت من طريق الأفراد لا يجتمع الناس عليها فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم بالإجماع ثم بالقياس، وهذا أضعف من هذا, ولكنها منزلة ضرورة (¬2) ". ¬

_ (¬1) حاشية العطار: 2 ص 379، اللمع: 56. (¬2) الرسالة، الشافعي: ص 599.

الفصل الثاني في المصادر المختلف فيها

الفصل الثاني في المصادر المختلف فيها إن المصادر المختلف فيها كثيرة، وهي في جملتها ترجع إلى المصادر السابقة المتفق عليها، وسوف نلقي الضوء على هذه المصادر بشكل سريع ومقتضب، ونخصص كلًّا منها في مبحث.

المبحث الأول في الاستحسان

المبحث الأول في الاستحسان تعريف الاستحسان: الاستحسان لغة: عدُّ الشيء واعتقاده حسنًا (¬1)، وفي اصطلاح الحنفية القائلين به هو: عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي، لدليل انقدح في عقله رجح هذا العدول (¬2). ويظهر من التعريف أن الاستحسان نوعان: الأول: ترجيح أحد القياسين على الآخر، ويسمي البزدوي القياس المرجوح بأنه ما ضعف أثره، أي: دليله (¬3). والنوع الثاني: استثناء حكم من القاعدة لمصلحة؛ لأن استمرار ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 4 ص 214. (¬2) أصول الفقه، خلاف: ص 89، كشف الأسرار: 4 ص 1123، المستصفى: 1 ص 283، والقياس الجلي هو ما يكون دليله ظاهرًا، أو دليله قويًّا، والقياس الخفي هو الذي خفيت علته لدقتها وبعدها عن الذهن. (¬3) كشف الأسرار، للبخاري، على أصول البزدوي: 4 ص 1123، أصول مذهب أحمد: ص 501، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 122، أصول الفقه، للخضري: ص 367.

القاعدة، وتطبيقها على بعض الفروع، فيه فساد وحرج. صورته: أن تقع حادثة ليس فيها حكم، ولها وجهتان مختلفتان، الأولى ظاهرة توجب حكمًا ظاهرًا للمجتهد، والأخرى خفية توجب حكمًا دقيقًا، لا يصل إليه المجتهد إلا بعد النظر والتدقيق، فيرجح المجتهد الحكم الخفي، لدليل خاص، على الحكم الظاهر الجلي، ويسمى عمله هذا استحسانًا، وكذا إذا ترجح بنفس المجتهد دليل يوجب استثناء جزئية معينة من حكم كلي أو قاعدة عامة، فيكون هذا استحسانًا. مثال الأول: التحالف: الأصل أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ويطبق هذا الأصل على كل قياس، فتكون اليمين على المدعى عليه، وليس على المدعي يمين وإنما عليه البينة، ولكن فقهاء الحنفية قالوا: إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن قبل القبض، فادعى البائع أنه ألفان، وادعى المشتري أنه ألف، فيتحالفان استحسانًا وهو الراجح (¬1). والسبب في ترجيح الاستحسان هنا على القياس أن البائع مدَّعٍ من حيث الظاهر للألفين، ولكنه يعتبر منكرًا لحق المشتري في تسليم المبيع، والمشتري ينكر الزيادة ظاهرًا، ويدعي حق تسليم المبيع ضمنًا، فصار كل منها مدعيًا ومنكرًا في آن واحد، فيتحالفان (¬2). مثال الثاني: ضمان الأجير المشترك (¬3)، فالأصل أن الأمين لا يضمن ¬

_ (¬1) التحالف: هو أن يقسم كل من البائع والمشتري يمينًا على دعواه. (¬2) فتح القدير: 6 ص 184، تبيين الحقائق: 4 ص 305، كشف الأسرار: 4 ص 1131، وانظر تفصيل هذا المثال ومقارنة المذاهب وآراء العلماء في رسالتنا: وسائل الإثبات: 2 ص 684. (¬3) وهو قول المالكية والصاحبين من الحنفية، وقال الشافعي في الأظهر: لا يضمن =

حجية الاستحسان

إلا بالتعدي أو التقصير في الحفظ، ويقاس عليه الأجير أو العامل الذي يُستأجر للعمل في البيت أو المعمل، ولكن استثنوا الأجير المشترك وهو العامل المشترك الذي يعمل للجميع في آن واحد، مثل مصلح السيارة والأحذية وتجليد الكتب، وقالوا: إنه يضمن استحسانًا، إلا إذا كان الهلاك بقوة قاهرة، وسبب الاستحسان هو الحاجة والضرورة في تأمين أموال الناس خشية أن يُهمل المحافظة عليها أو يضيعها ويتلفها بدون مبالاة (¬1). حجية الاستحسان: اختلف الأئمة في حجية الاستحسان واعتباره مصدرًا من مصادر التشريع على قولين: القول الأول: أنه حجة شرعية ومصدر من مصادر التشريع، ذهب إلى ذلك الحنفية، وينسب إلى الحنابلة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] فالآيتان تبينان أن المؤمن يتبع الأحسن، أي: يتبع ما يستحسنه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" أي: ما يستحسنه المسلمون فهو حسن ومقبول عند الله تعالى" (¬2). القول الثاني: أن الاستحسان ليس حجة شرعية ولا مصدرًا ولا دليلًا ¬

_ = الأجير المشترك (المهذب 3/ 561 ط محققة). (¬1) انظر أمثلة كثيرة في: كشف الأسرار: 4 ص 1126، والتوضيح على التنقيح: 3 ص 4، علم أصول الفقه، خلاف: ص 91. (¬2) المستصفى 1 ص 276، المدخل إلى مذهب أحمد ص 136، أصول السرخسي 2 ص 204، التوضيح 2 ص 2، المسودة ص 453، الإحكام، الآمدي 4 ص 136، 139، وسبق تخريج الحديث في الإجماع.

من أدلة الشرع، وأن استنباط الأحكام بالاستحسان هوى وتلذذ وتعسف، وأنه من استحسن فقد شرع من عند نفسه (¬1)، وعرفه الغزالي فقال: هو ما يستحسنه المجتهد بعقله (¬2)، وهو مذهب الشافعية والمالكية (¬3)، وضرب الشافعي مثلًا لذلك كمن يتجه في الصلاة إلى جهة يستحسن أنها الكعبة، بغير دليل. يقول الشافعي رحمه الله: فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سابق (¬4)، أي من الكتاب والسنة، واستدل الشافعي على ذلك بأن الاستحسان إن كان مع وجود نص فهو معارض للنص، وإن لم يكن نص في المسألة فهو تعطيل للقياس، وكذا الأمرين غير جائز، فالحكم الشرعي يكون بنص أو إجماع أو اجتهاد، والاجتهاد هو القياس، وإذا تعطل القياس جاز لأهل العقول أن يشرعوا من عندهم بما تستحسنه عقولهم، قال الشافعي: ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعده الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها (¬5)، وأن إجماع الأمة أنه ¬

_ (¬1) اشتهرت هذه العبارة عن الإمام الشافعي وكررها الناس عنه، ولم تثبت في كتبه، لكن قال في "الأم": "من قال بالاستحسان فقد قال قولًا عظيمًا ووضع نفسه في رأيه واستحسانه على غير كتاب ولا سنة فوضعها في أن يتبع رأيه" (العطار على جمع الجوامع 2/ 365). (¬2) المستصفى: 1 ص 274. (¬3) الرسالة: ص 25، 505، 517، جمع الجوامع: 2 ص 394، الحدود في الأصول، الباجي: ص 65، تنقيح الفصول: ص 148، الإحكام، لابن حزم: 2 ص 757، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 130، بينما نقل الإِمام مالك أنه قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان، الموافقات: 4/ 137. (¬4) الرسالة: ص 25. (¬5) الرسالة: ص 508، الأم: 7 ص 271، المستصفى: 1 ص 275، جمع الجوامع: 2 ص 395، وقد كتب الإمام الشافعي كتابًا سماه إبطال الاستحسان مع كتابه الأم.

ليس للعالم أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة، وأن الله تعالى خاطب نبيه فقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]. والواقع أن الحنفية نظروا إلى الاستحسان من وجهة نظر معينة تختلف عن وجهة نظر الشافعية، وأن اختلافهم في تحديد معناه أدى إلى اختلافهم في حجيته، وأن الشافعية والمالكية، لا ينكرون وجهة نظر الحنفية في مراعاة القياس القوي وتقديمه عند تحقق المصلحة، ويؤيدون ترجيح قياس على قياس لعلة أو سبب، وكذلك الحنفية يوافقون الشافعية في إنكار الاستحسان الموسوم بالتشهي وإعمال العقل والتحكّم والهوى في الأحكام الشرعية، ولو نظر كل طرف في المعنى الذي حدده الآخر لوافقه عليه، فالاختلاف بينهم هو اختلاف لفظي كما يقول علماء الأصول، وأنهم متفقون على استعمال لفظه وحقيقته في الأحكام العملية في مسائل كثيرة (¬1)، من ذلك استحسان المصلحة، والاستصناع للمصلحة، وأقر المالكية الاستصلاح، وهو مصلحة (¬2). ¬

_ (¬1) يطلق الحنفية قاعدة الاستحسان السابقة على النصوص الشرعية في الكتاب والسنة وعلى الإجماع فإذا ورد حكم شرعي خاص مستثنى من القاعدة العامة أو الأصل فإنهم يسمونه استحسان النص، أي استحسان المشرع، وإذا أجمع المسلمون على حكم خاص، يخالف قاعدة عامة، سموا الاجماع استحسانًا، والحقيقة أن هذا الإطلاق توسع في الاستحسان، وأنه محاولة لزيادة الاستدلال على حجية الاستحسان وأنه وارد في النصوص والإجماع، ولكن لا يصح أن يطلق عليه هذا الاصطلاح، لأنه اصطلاح متأخر، له مدلول خاص، علمًا بأن استحسان النص أو الإجماع أو الضرورة متفق عليه، وإنما الخلاف في استحسان الرأي أي في القياس الخفي فقط، انظر: كشف الأسرار: 4 ص 125، تسهيل الوصول: ص 234، المدخل الفقهي العام: 1 ص 57، الإحكام، الآمدي: 4 ص 136، التلويح: 3 ص 2، أصول السرخسي: 2 ص 202. (¬2) قال الشيرازي بعد تحرير الخلاف: "فيسقط الخلاف في المسألة" اللمع ص 334 ط =

حكم الاستحسان ومرتبته بين الأدلة

حكم الاستحسان ومرتبته بين الأدلة: بالرغم من أن الاستحسان مختلف فيه، ومع ذلك فإنه يأتي في المرتبة الرابعة عند الحنفية القائلين به، وأنه يقدم على القياس، فإذا تعارض الاستحسان مع القياس يقدم الاستحسان، لأن الاستحسان نوع راجح من أنواع القياس الذي يقدم على قياس آخر، قال البزدوي: وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسين (¬1)، وقال ابن بدران: وحاصل هذا يرجع إلى تخصيص الدليل بدليل أقوى منه في نظر المجتهد (¬2). ولذلك يذكر الحنفية في كتبهم باستمرار العبارة التالية "أن الحكم استحسانًا كذا، وقياسًا كذا" ويفهم منها ترجيح الاستحسان على القياس باتفاق علمائهم. والاستحسان دليل ظني في دلالته على الأحكام كالقياس، والظن مقبول في الأحكام. ¬

_ = محققة، وانظر: حاشية السعد على العضد 2/ 289، المستصفى 1/ 139، المحلي على جمع الجوامع 2/ 353. (¬1) كشف الأسرار: 4 ص 1123، 1126. (¬2) المدخل إلى مذهب أحمد، له: ص 136، وانظر: المدخل الفقهي العام 1/ 88.

المبحث الثاني في المصالح المرسلة أو الاستصلاح

المبحث الثاني في المصالح المرسلة أو الاستصلاح تعريف المصالح المرسلة: المصلحة لغة: هي المنفعة، والمرسلة: أي المطلقة، والمصلحة المرسلة في الاصطلاح: هي المصلحة التي لم ينص الشارع على حكم لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها (¬1). مثالها المصلحة التي شرع لأجلها عمر رضي اللَّه عنه اتخاذ السجون وتدوين الدواوين للجند، وهي مصلحة لم يرد فيها دليل شرعي بالتأييد والاعتبار أو بالإلغاء والإبطال. أنواع المصالح: ومن هنا يظهر لنا أن المصالح ثلاثة أنواع (¬2): 1 - المصالح المعتبرة: وهي المصالح التي جاءت الأحكام الشرعية لتحقيقها ومراعاتها من أجل المحافظة على مقصود الشرع في جلب المصالح أو دفع المفاسد والمضار (¬3)، مثل المصلحة في حفظ النفس ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه، خلاف: ص 94، ضوابط المصلحة: ص 329. (¬2) المستصفى: 1 ص 284. (¬3) المستصفى: 1 ص 286.

والمال والعرض التي شرع اللَّه لحفظها القصاص وحد السرقة وحد القذف. 2 - المصالح الملغاة: وهي المصالح التي وردت الأحكام بإلغائها وعدم مراعاتها، لأنها مصالح من سط الظاهر وتخفي وراءها أضرارًا ومفاسد ومخاطر دينية واجتماعية، مثل الربا، فإن فيه مصلحة ظاهرية آنية للمقرض بالفائدة وللمستقرض بالاستفادة من المال، ومثل قتل المريض اليائس من الشفاء، وذبح الأضاحي على الأصنام لإطعام الفقراء، وشرب المسكرات للنشوة، أو المخدرات للتأمل الخيالي والهرب من الواقع، ففي كل منها مصلحة ولكنها تنطوي على الشر والفساد، وتخفي في طياتها الضرر والخراب، فنص الشارع على إلغاء المصلحة فيها وعدم اعتبارها. وهذان القسمان متفق عليهما بين جميع المسلمين، لأن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ولرعاية أحوالهم ومنافعهم، فشرعت كل ما يحقق مصلحتهم، وحرمت كل ما يضرهم ويوقع الإيذاء بهم (¬1). 3 - المصالح المرسلة: وهي المصالح التي لم ينص الشارع على اعتبارها ولا على إلغائها، وهذه المصالح هي مجال الاختلاف بين العلماء، علمًا أنهم متفقون على تحقيق المصالح والتعليل بها، وبناء الأحكام عليها في جميع المذاهب، ولكن الاختلاف في اعتبارها دليلًا شرعيًّا مستقلًا، وهل هي مصدر من مصادر التشريع أم لا؟ ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي: 2 ص 3، المستصفى: 1 ص 286، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 136، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 32، ضوابط المصلحة: ص 330.

حجية المصالح المرسلة

حجية المصالح المرسلة: اختلف الأئمة في حجية المصالح المرسلة واعتبارها دليلًا شرعيًّا ومصدرًا مستقلًا على قولين: القول الأول: المصالح المرسلة ليست دليلًا مستقلًا، وهو مذهب الشافعية والحنفية (¬1)، واحتجوا لقولهم بأن الشريعة راعت مصالح الناس بالنص والإجماع والقياس، فكل مصلحة لها شاهد من هذه الأدلة، وأن المصلحة التي لا يشهد لها دليل شرعي ليست في الحقيقة مصلحة، وإنما هي وهم، كما أن بناء الأحكام على مجرد المصلحة فيه فتح لباب التشريع أمام أصحاب الأهواء وحكام السوء والفساد بأن يشرعوا ما يحقق أغراضهم وأهواءهم بحجة المصلحة، ولذا فإن حفظ مقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، وكل مصلحة لا ترجع لواحد مما سبق فهي باطلة (¬2). القول الثاني المصالح المرسلة دليل شرعي مستقل ومصدر من مصادر التشريع التي يرجع إليها المجتهد، وحجة تبنى عليها الأحكام دون أن تتوقف على دليل شرعي آخر، وهو مذهب المالكية والحنابلة (¬3). ¬

_ (¬1) أنكر الحنفية الاحتجاج بالمصلحة المرسلة كدليل مستقل، ولكنهم أدخلوها في القسم الثاني من الاستحسان، وهو استثناء حكم من قاعدة للضرورة، وهي المصلحة، انظر المدخل الفقهي، لأستاذنا العلامة الشيخ مصطفى الزرقا: 1 ص 76، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 54، ضوابط المصلحة: ص 370، 380. (¬2) المستصفى، الغزالي: 1 ص 310، تيسير التحرير: 4 ص 171، إرشاد الفحول: ص 242، الإحكام، الآمدي: 4 ص 140، ضوابط المصلحة: ص 367. (¬3) إرشاد الفحول: ص 242، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 138، تنقيح الفصول، القرافي: 142، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 41 وما بعدها.

شروط الاحتجاج بالمصالح المرسلة

واستدلوا على ذلك بأن مصالح العباد كثيرة جدًّا، وأنها تتجدد مع تجدد الحوادث وتطور الزمان، والشرع إنما جاء لتحقيق المصالح الحقيقية في الدنيا والآخرة، وذلك بجلب المصالح لهم ودفع المفاسد عنهم، فلا بد من إقراراها، وإلا تعطلت مصالح الناس، ووقفت الأحكام عن مواكبة التطور والتغيير، وهذا يخالف مقاصد الشريعة. كما استدلوا على ذلك بأعمال الصحابة الذين شرعوا أحكامًا كثيرة لتحقيق مصالح العباد المتجددة مع عدم وجود دليل شرعي عليها، مثل جمع المصحف في عهد أبي بكر رضي اللَّه عنه وعهد عثمان، واستخلاف عمر، ووضع الخراج وتدوين الدواوين واتخاذ السجون (¬1)، وهي مصالح عامة، ولا دليل من الشارع على إقرارها، ولا إلغائها. شروط الاحتجاج بالمصالح المرسلة: واشترط أصحاب القول الثاني في المصلحة المرسلة التي يصح بناء الأحكام عليها ثلاثة شروط، وهي: 1 - أن تكون مصلحة حقيقية بحيث تحقق النفع للناس أو تدفع الضرر عنهم، ولا عبرة للمصالح الظاهرية أو الوهمية. 2 - أن تكون مصلحة عامة لمجموع الأمة، أو للأكثرية الغالبة، ولا عبرة للمصالح الشخصية والفردية، أو التي تخدم طائفة معينة قليلة في المجتمع، لأنها في الغالب تكون ضارة بالمجموع، ولأن التشريع لا يكون من أجل الأفراد، وإنما يكون لتحقيق المصالح العامة. 3 - أن لا تعارض الأحكام المبنية على المصلحة حكمًا شرعيًّا ثابتًا بالنص أو الإجماع، فإن معارضته تدل على أن هذه المصلحة ملغاة من قبل المشرع لما يترتب عليها من مفاسد، فيكون إبطالها من المشرع ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 3 ص 171.

أبعد نظرًا وأسد قيلًا، مثاله أن بعض علماء الأندلس (¬1) أفتى حاكمها أن يصوم شهرين متتابعين كفارة إفطاره في رمضان بالجماع، بحجة أنه لو أمره بإعتاق رقبة لكان سهلًا عليه ذلك، ويستحقر إعتاق الرقبة مقابل قضاء شهوته، فرأى أن المصلحة لانزجاره عنه بالصوم شهرين، وهذه المصلحة باطلة، لأنها تخالف النص الوارد في الحديث الذي أمر بإعتاق رقبة أولًا، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين (¬2). وإن دواعي الاستصلاح هي: 1 - جلب المصالح، 2 - درء المفاسد، 3 - سد الذرائع، 4 - تغير الزمان. والخلاصة أن الخلاف لفظي بين العلماء في حجية المصلحة، وأن الخلاف في المصلحة المرسلة التي تؤدي إلى حفظ مقاصد الشرع هل تعتبر قياسًا على المصالح الواردة في الكتاب والسنة والإجماع، أم هي مصدر شرعي مستقل تسمى مصلحة مرسلة؟ قال الغزالي: وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة (¬3). وقال الشيرازي رحمه اللَّه تعالى: "لأن في الرهن بالأرش مصلحة للراهن في حفظ ماله ... ، ويجوز للمصلحة ما لا يجوز لغيرها" (¬4). ¬

_ (¬1) وهو يحيى بن يحيى الليثي تلميذ الإمام مالك، مع عبد الرحمن بن الحكم، انظر: علم أصول الفقه، خلاف ص 97، مختصر البعلي ص 162، المستصفى 1/ 285، الاعتصام 3/ 97، غياث الأمم ص 166. (¬2) المستصفى: 1 ص 285. (¬3) المستصفى: 1 ص 311، وانظر ضوابط المصلحة: ص 407. (¬4) المهذب 3/ 207، ط محققة، وانظر: شفاء الغليل ص 184.

المبحث [الثالث] في الاستصحاب

المبحث [الثالث] (*) في الاستصحاب تعريف الاستصحاب: الاستصحاب في اللغة: الملازمة، واستصحاب الحال هو التمسك بما كان ثابتًا، كأنك جعلت الحالة مصاحبة غير مفارقة، واستصحبه دعاه إلى الصحبة ولازمه (¬1). أما في الاصطلاح فعرفه الشوكاني بقوله: هو: ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل حتى يثبت ما يغيره (¬2). فيقال: الحكم الفلاني قد كان فيما مضى، فيثبت في الزمن الثاني كذلك لفقدان ما يغيره، كاستصحاب الوضوء، واستصحاب البكارة، واستصحاب الوجود والعدم (¬3). مثاله: المفقود يعتبر حيًّا لاستصحاب حاله عند فقده في الماضي ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 454، القاموس المحيط: 1 ص 91. (¬2) إرشاد الفحول: ص 237. (¬3) جمع الجوامع: 2 ص 391، مختصر ابن الحاجب: ص 217، حاشية العطار: 2 ص 387، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 133، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 209، أصول الفقه، الخضري: ص 391. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع (الثاني)

حجية الاستصحاب

عندما كان موجودًا، فيعتبر حيًّا في الوقت الحاضر، وتثبت له الحقوق من الميراث وغيره، ويمنع ورثته من توزيع أمواله، وتبقى زوجته على عصمته، ولا تعتد ولا تتزوج من غيره. ومثل استصحاب الملك الآن لمن تثبت ملكيته لعقار مثلًا في الماضي، فتبقى له الملكية في الحاضر ما لم يثبت الناقل لها، وكذلك براءة الذمة فالأصل أن تبقى بريئة حتى يثبت العكس، وإن شغلت الذمة بالتزام ما، فتبقى مشغولة به إلى الوقت الحاضر ما لم يثبت الوفاء أو الإبراء. ومثال استصحاب نفي الحكم الشرعي عدم وجوب صوم شهر شوال وغيره من الشهور سوى رمضان (¬1). حجية الاستصحاب (¬2): اختلف الأئمة في اعتبار الاستصحاب حجة ودليلًا شرعيًّا ومصدرًا من مصادر التشريع على عدة أقوال، أهمها اثنان: القول الأول: أنه حجة عند عدم الدليل سواء في حالتي الإثبات والنفي، وبه قالت المالكية والحنابلة وأكثر الشافعية والظاهرية (¬3). واستدلوا على ذلك من الشرع بأن جميع الأحكام الشرعية تعتبر ثابتة في محلها من الإيجاب والإباحة والتحريم بحسب الدليل حتى يقوم ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 283، مفتاح الوصول: ص 127، تسهيل الوصول: ص 237. (¬2) اتفق العلماء على حجية الاستصحاب في الأمور الحسية لجريان العادة بها من الله تعالى، والاختلاف في الأحكام الشرعية، لأن الله تعالى لم يجر العادة فيها كذلك (انظر إرشاد الفحول: ص 237، 238، تيسير التحرير: 4 ص 172). (¬3) إرشاد الفحول: ص 237، مختصر ابن الحاجب: ص 170، مفتاح الوصول: ص 127، تسهيل الوصول: 237، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 133.

أنواع الاستصحاب

دليل على التغيير، وأن ظن البقاء أغلب من ظن التغير، والظن حجة متبعة في الأحكام الشرعية، كالخمر تبفى حرامًا حتى يثبت تغيرها إلى خل مثلًا، ودم الإنسان مصون حتى يثبت موجب الهدر والقصاص (¬1)، والعقل يؤيد ذلك، فالإنسان يحكم على الأمور بعقله في الحاضر بناء على معرفته السابقة ما لم يثبت العكس، فالبداهة العقلية تؤيد الاستصحاب (¬2). القول الثاني: الاستصحاب ليس حجة شرعية، ولا يصح لاعتماد الأحكام عليه، وهو مذهب الحنفية (¬3)، لأن إثبات الدليل والحجة للحكم الشرعي في الزمن الأول يحتاج إلى دليل، وكذلك في الزمن الحاضر يحتاج إلى دليل لاحتمال وجوده أو عدمه، وقال أكثر محققي الحنفية: إن الاستصحاب يصلح دليلًا للدفع والرفع أي لإبقاء ما كان على ما كان، ولا يصلح لإثبات أمر لم يكن، مثل استصحاب حياة المفقود إلى الزمن الحاضر، فهو حجة لدفع الموت ونفيه عنه، ومنع ورثته من اقتسام أمواله، ولكن لا يصلح حجة لإثبات ما لم يكن، فلا يثبت له إرث من مورثه الذي يتوفى في هذه الأثناء (¬4). أنواع الاستصحاب: يتنوع الاستصحاب بحسب الحالة الأولى السابقة إلى ثلاثة أنواع: ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 4 ص 112. (¬2) تيسير التحرير: 4 ص 177، حاشية العطار: 2 ص 387، الإحكام، الآمدي: 4 ص 111، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 284. (¬3) تيسير التحرير: 4 ص 177، الإحكام، الآمدي: 4 ص 111، أصول السرخسي: 2 ص 223. (¬4) تيسير التحرير، المرجع السابق، تسهيل الوصول: ص 238، أصول السرخسي: 2 ص 140، 225، الأشباه والنظائر، ابن نجيم: ص 73، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 188 وما بعدها.

1 - استصحاب الحكم الأصلي للأشياء، وهو الإباحة عند عدم الدليل، فالأصل في الأشياء الإباحة، ما لم يرد دليل يخالفه، فإن لم يجد المجتهد حكمًا في الشيء، وكان فيه منفعة، حكم بإباحته بناء على الأصل في أن الله خلق الأرض وما فيها للإنسان. وهذا النوع متفق على العمل به بين العلماء، وإن خالف بعضهم في تسميته استصحابًا، ويدخله بعضهم في الإباحة. 2 - استصحاب العدم الأصلي، أو البراءة الأصلية، كالحكم ببراءة الذمة من التكاليف الشرعية وحقوق الناس حتى يوجد دليل شغلها. وهذا النوع لم يخالف أحد من أهل العلم به. 3 - استصحاب ما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه حتى يقوم الدليل على زواله، كثبوت الملك لشخص من البيع والإرث فيبقى ملكه قائمًا حتى يقوم الدليل على انتفائه ونقله، ومثل ثبوت الحل بين الزوجين عند العقد فتبقى الزوجية قائمة إلى أن تحصل الفرقة، ومثل شغل الذمة بدين أو ضمان فتبقى الذمة مشغولة حتى يقوم الدليل على البراءة (¬1). وقد استنبط الفقهاء عدة مبادئ فقهية وقواعد كلية من الاستصحاب منها: 1 - الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره. 2 - إن كل شيء لم يقم الدليل المعين على حكمه فهو على الإباحة الأصلية. 3 - اليقين لا يزول بالشك (¬2). ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 210، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 187. (¬2) المرجع السابق: ص 214، وانظر تفصيل القواعد الفقهية في كتابي: النظريات الفقهية، وكتابي: القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي ص 121، 92.

حكم الاستصحاب ومرتبته

حكم الاستصحاب ومرتبته: الاستصحاب دليل ظني في إثبات الأحكام، وإنه مصدر احتياطي يثبت الحكم به عند عدم وجود دليل في الكتاب والسنة والإجماع والقياس (¬1)، قال الخوارزمي: "وهو آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس، فإن لم يجد فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه، وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته (¬2) ". واعتبره ابن بدران من الأصول المتفق عليها وهي: الكتاب والسنة والإجماع والاستصحاب، مع ذكره خلاف الحنفية فيه (¬3). وقال البعلي: "الاستصحاب ذكره المحققون إجماعًا" (¬4). وإن المبدأ العام في الاستصحاب مسلم به بين الأئمة، ولكن الاختلاف في التطبيق والفروع، أو في اعتباره دليلًا مستقلًا (¬5). وهذا المصدر يلعب دورًا كبيرًا في بناء القواعد الفقهية عليه من جهة، وفي الاعتماد عليه في نظام العقوبات ونظام المعاملات من جهة أخرى. ملاحظة: ولا بد أن نلاحظ بعد ذكر الأدلة السابقة، وهي: الاستحسان والاستصلاح والاستصحاب، أن كل واحد من الأئمة أخذ ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول: ص 238. (¬2) إرشاد الفحول: ص 237، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: 213. (¬3) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 134، وانظر مختصر البعلي: ص 61. (¬4) مختصر في أصول الفقه، له: ص 60. (¬5) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 285 - 290.

قواعد الفقه المتعلقة بالاستصحاب

بواحد منها أو أكثر، ورفض الباقي، والسبب في ذلك كما يقول الشربيني: "واعلم أن الأمة أجمعوا على أنه ثمَّ دليل شرعي غير ما تقدم، واختلفوا في تشخيصه، فقال قوم: هو الاستصحاب، وقوم: الاستحسان، وقوم: المصالح المرسلة (¬1)، وذلك لاعتماد الأحكام التي لم يرد لها حكم في الأدلة المتفق عليها على مصدر تشريعي صحيح. قواعد الفقه المتعلقة بالاستصحاب: 1 - اليقين لا يزول بالشك. 2 - الأصل بقاء ما كان على ما كان. 3 - الأصل براءة الذمة. 4 - الأصل في الصفات العارضة العدم. 5 - ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافه. 6 - الأصل في الأشياء الإباحة. 7 - الأصل في الأبضاع التحريم. 8 - الأصل في الكلام الحقيقة. 9 - الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته. 10 - الظاهر يصلح حجة للدفع لا للاستحقاق، وكل ضابط يعبر فيه عن "الأصل كذا" (¬2). ¬

_ (¬1) تقرير الشربيني على جمع الجوامع: 2 ص 383. (¬2) انظر شرح هذه القواعد وأمثلتها في كتابي: القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي، عند عرض كل قاعدة.

المبحث الرابع في العرف

المبحث الرابع في العرف تعريف العرف: العرف لغة: المعرفة والمعروف، وهو الخير والرفق والإحسان، والمعروف ضد المنكر أيضًا (¬1). وفي الاصطلاح: العرف: مرادف للعادة، وعرفه الشيخ أبو سنة نقلًا عن "مستصفى النسفي" بقوله: العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول (¬2). والعادة مأخوذة من المعاودة، فهي بتكرارها ومعاودتها مرة بعد أخرى صارت معروفة مستقرة في النفوس والعقول، متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية (¬3)، وفسر ذلك الشيخ أبو سنة فقال: يعني الأمر الذي اطمأنت إليه النفوس وعرفته، وتحقق في قرارتها، وألفته مستندًا في ذلك إلى استحسان العقل، ولم ينكره ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 553، القاموس المحيط: 3 ص 173. (¬2) انظر بحثًا شاملًا ومستفيضًا لحجية العرف في كتاب: العرف والعادة، للشيخ أحمد أبو سنة: ص 8، 27. (¬3) رسائل ابن عابدين: 2 ص 114، ط محمد هاشم الكتبي 1325 هـ.

أنواع العرف

أصحاب الذوق السليم في الجماعة، وإنما يحصل استقرار الشيء في النفوس وقبول الطباع له بالاستعمال الشائع المتكرر الصادر عن الميل والرغبة (¬1). والعرف مصدر للأحكام مجازًا وليس حقيقة، لأنه يرجع إليه عند التطبيق وفهم النص. أنواع العرف: العرف نوعان: قولي وعملي، وكل منهما قد يكون عامًّا وقد يكون خاصًّا. 1 - العرف العملي: وهو التعارف بين الناس على أمر عملي معين كأكل لحم الضان في بلد، أو لحم البقر أو لحم الجاموس في بلد آخر، والعرف العملي في بيع التعاطي، والعرف في تقسيم المهر إلى معجل ومؤجل. 2 - العرف القولي: وهو التعارف بين الناس على إطلاق لفظ على معنى معين بحيث لا يتبادر إلى الذهن عند سماعه غيره (¬2)، كالعرف بإطلاق لفظ اللحم على الحيوان وعدم إطلاقه على السمك والطير. 3 - العرف العام: هو الذي يتفق عليه الناس في كل البلاد أو معظمها، كالتعارف على بيع الاستصناع. 4 - العرف الخاص: هو العادة التي تكون لفرد أو طائفة معينة أو بلد معين، كعادة شخص في أكله وتصرفاته، وتعارف التجار على تسجيل ¬

_ (¬1) العرف والعادة: الشيخ أحمد أبو سنة: ص 8، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 242، وقال الزرقا: هو عادة جمهور قوم في قول أو فعل. (¬2) تنقيح الفصول إلى علم الأصول في مقدمة الذخيرة للقرافي: ص 143، أثر الأدلة فيها: ص 246.

حجية العرف

المبيعات في دفتر خاص، وتعارف منطقة على تسجيل الأثاث للزوجة أو للزوج. حجية العرف: يتفق الأئمة عمليًّا على اعتبار العرف الصحيح حجة ودليلًا شرعيًّا (¬1)، ولكنهم يختلفون في اعتباره مصدرًا مستقلًا قائمًا بذاته على قولين: القول الأول: العرف حجة ودليل شرعي مستقل، وهو مذهب الحنفية والمالكية وابن القيم من الحنابلة، واحتجوا بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، فالأمر بالعرف في الآية يدل على وجوب الرجوع إلى عادات الناس، وما جرى تعاملهم به، وهذا يدل على اعتبار العادات في الشرع بنص الآية. أما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن" (¬2) يدل الحديث أن الأمر المتعارف عليه تعارفًا حسنًا بين المسلمين يعتبر من الأمور الحسنة التي يقرها اللَّه تعالى، وما أقره الله تعالى فهو حق وحجة ودليل، ولذا يعتبر الحنفية أن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وأن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا. أما المعقول: فنلاحظ أن العرف له سلطان كبير على النفس، ويتمتع بالاحترام العظيم في القبول، وهو طبيعة ثانية للناس، يرضون به بسهولة، ويحقق مصالحهم ومنافعهم، والشريعة جاءت لتحقيق ¬

_ (¬1) العرف والعادة، أبو سنة: ص 23، تنقيح الفصول: ص 144. (¬2) حديث موقوف على ابن مسعود رواه أحمد، وسبق تخريجه ص؟؟؟.

المصالح، فيكون العرف الصحيح مصدرًا ودليلًا وأصلًا من أصول الاستنباط. القول الثاني: أن العرف ليس حجة ودليلًا شرعيًّا إلا إذا أرشد الشارع إلى اعتباره، وهو مذهب الشافعية، واحتجوا بأن العادة لا تعتبر إلا إذا جرى الشرع على قبولها، وأن العرف دليل ظاهر يرجع إلى الأدلة الصحيحة (¬1). ونلاحظ أن جميع العلماء يحتجون بالعرف ويرجعون إلى عادات الناس في بناء الأحكام عليها وتفسير النصوص والوقائع على ضوئها (¬2)، ووضع الفقهاء عدة قواعد تعتمد على العرف والعادة، وإنما اختلفوا في شروط العرف، وفي درجته التشريعية بين المصادر. ويشترط للعمل بالعرف شرطان: 1 - أن يكون عامًّا شاملًا مستفيضًا بين الناس، فلا يكون عادة شخص بعينه، أو عادة جماعة قليلة. 2 - أن لا يعارضه نص أو إجماع، وإلا كان عرفًا باطلًا لا قيمة له، وهو العرف الفاسد، كتعارف الناس ارتكاب المحرمات من الربا وشرب الخمر واختلاط النساء مع الرجال، وكشف العورة، ولبس الحرير والذهب للرجال وغير ذلك مما ورد فيه نص بالتحريم، فلا قيمة لهذا العرف، ولا اعتبار له، فهو عرف فاسد مردود، واتباع للهوى وإبطال للنصوص، وهو غير مقبول قطعًا (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 ص 395، العرف والعادة: ص 32، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 250، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 134، ابن حنبل، أبو زهرة: ص 331، 361، روضة الناظر: ص 33، 82. (¬2) المدخل الفقهي العام: 1 ص 112. (¬3) العرف والعادة، أبو سنة: ص 61.

مرتبة العرف بين مصادر التشريع

مرتبة العرف بين مصادر التشريع: العرف الصحيح يعتبر دليلًا شرعيًّا وحجة للأحكام عند فقد النص والإجماع، وقد يقدم على القياس، فيعدل المجتهد بسببه عن القياس إلى الاستحسان كما هو عند الحنفية، مثل تعارف الناس على عقد الاستصناع، كما أن العرف يخصص العام (¬1)، فمن حلف أن لا يأكل لحمًا فأكل سمكًا فلا يحنث، مع أن لفظ اللحم عام يشمل الحيوان والطير والسمك وورد القرآن الكريم به فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]. وإن الأحكام المبنية على العرف تتغير بتغير الأعراف، وهو المراد من القاعدة الفقهية القائلة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان". قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "فهل تجري العادة المطردة مجرى الإباحة؟ فيه وجهان: أصحهما تجري" وقال: "فإن جهلت العادة فوجهان، وأصحهما يحل لاطراد العادة المستمرة بذلك" (¬2). وقال السيوطي رحمه اللَّه تعالى: "اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثرة، فمن ذلك ... " (¬3). ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 262، تيسير التحرير: 3 ص 317. (¬2) المجموع: 9/ 150، 153. (¬3) الأشباه والنظائر، له: ص 90، وانظر المبسوط للسرخسي: 12/ 45، البدائع للكاساني: 6/ 220 ط قديمة.

المبحث الخامس في قول الصحابي

المبحث الخامس في قول الصحابي الصحابي: كل من رأى رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - وهو مؤمن به (¬1)، والصحابة هم الذين لازموا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - منذ البعثة حتى الوفاة بقدر ما تسمح لهم ظروفهم، وقد اطلعوا على مقاصد الشريعة ورأوا أسباب النزول، وشاهدوا التطبيق الصحيح للقرآن الكريم الذي تجسد في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتمتعوا بنور المصطفى، وتلقوا منه الحكمة، ومن مجموع هذا تكوَّن عند أكثرهم ثروة علمية وملكة فقهية، تصدوا بعد وفاة رسول اللَّه للتدريس والإفتاء والقضاء والحكم والاجتهاد فيما يسوغ الاجتهاد فيه، ووصلوا إلى آراء اجتهادية نقلها عنهم التابعون ودوَّنها العلماء. حجية قول الصحابي: بحث الأئمة في حجية آراء الصحابة الاجتهادية في اعتبارها ملزمة لمن بعدهم، أم لا، وهل تقدم على القياس، أم لا؟ فاتفق العلماء على أن قول الصحابي الذي لا يدرك بالاجتهاد ¬

_ (¬1) انظر آراء العلماء في تعريف الصحابي في كتاب تسهيل الوصول: ص 167، منهج النقد في علوم الحديث، الدكتور نور الدين العتر: ص 106.

والعقل بأنه حجة على المسلمين، لأن قول الصحابي في مثل هذه الأحوال يستند إلى دليل شرعي، ولا يمكن أن يقوله تشهيًا وعبثًا، مثل قول السيدة عائشة رضي اللَّه عنها في فساد بيع النقود قبل نقد الثمن، وأنه يحبط العمل الصالح والجهاد، فهذا لا يدرك بالعقل، ومثل قول عمر وعلي وابن مسعود رضي اللَّه عنهم بتقدير أقل مدة الحيض بثلاثة أيام، وهو ما أخذ به الحنفية. وكذلك اتفق العلماء على قبول قول الصحابي الذي أبداه ولم يخالفه فيه أحد من الصحابة ويكون حجة على المسلمين، لأن اتفاقهم دليل على وقوفهم على مستند شرعي صحيح. واتفقوا على أن قول الصحابي في الاجتهاد ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين (¬1). ولكن اختلف الأئمة عند تعدد أقوال الصحابة واختلاف اجتهاداتهم، هل هي حجة على التابعين ومن بعدهم أم لا؟ فيه قولان: القول الأول: وهو قول الإمام أبي حنيفة والإمام مالك، فقالا بوجوب الالتزام بأحد أقوال الصحابة بدون تعيين، واختيار المناسب منها مع عدم الخروج عن مجموع آرائهم، وأن قول الصحابي يقدم على القياس (¬2)، واستدلوا على ذلك بأن اختلاف الصحابة في المسألة على ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 3 ص 133، كشف الأسرار: 3 ص 938، جمع الجوامع: 2 ص 396، الإحكام، الآمدي: 4 ص 130، تنقيح الفصول: ص 142، أصول السرخسي: 2 ص 109، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 338، الروضة للنووي: 11/ 147. (¬2) تيسير التحرير، المرجع السابق، كشف الأسرار: 3 ص 937، التوضيح والتلويح: 2 ص 277، أصول السرخسي: 1 ص 318، 2 ص 105، وانظر أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 204، أبو حنيفة للشيخ محمد أبو زهرة: ص 308.

قولين إجماع منهم على عدم القول الثالث، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أصْحابي كالنُّجوم بأيِّهم اقتدَيْتم اهتدَيْتُم" (¬1)، وغيره من الأحاديث، وأن اللَّه تعالى مدح وأثنى على التابعين باتباعهم الصحابة فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وأن الظاهر من حال الصحابة أن قولهم مستند إلى سماع، وإن لم يكن سماع فرأيهم أقوى من رأي غيرهم (¬2). القول الثاني: وهو قول الإمام الشافعي والإمام أحمد، فقالا بعدم اعتبار قول الصحابي حجة، فيجوز اتباعه، ويجوز مخالفته، وأن العمل والاتباع يعتمد على الأدلة التي احتج بها الصحابة بالفتوى والاجتهاد والقضاء، وليس بأقوالهم (¬3). واستدلوا على ذلك بأن الصحابي ليس مشرعًا، وليس معصومًا، وكما جاز للصحابي أن يخالف صحابيًّا آخر -باتفاق العلماء- جاز للتابعين وبقية المسلمين مخالفته أيضًا، وأن التابعين خالفوا الصحابة في أقوالهم واجتهاداتهم، ولم ينكر عليهم الصحابة، وأن الصحابي مجتهد كغيره من المجتهدين، ويحرم على المجتهد تقليد مجتهد آخر (¬4). وقال النووي الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "فاختار الغزالي في المستصفى أنه ليس بحجة، والصحيح الذي عليه جماهير الأصحاب أنه ¬

_ (¬1) رواه البيهقي وأسنده الديلمي عن ابن عباس بلفظ آخر، كشف الخفا: 2 ص 146. (¬2) تسهيل الوصول: ص 168، والمستصفى: 2 ص 262، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 135، الإحكام، الآمدي: 4 ص 131. (¬3) المستصفى: 2 ص 268، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 135، الإحكام، الآمدي: 4 ص 130، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 340. (¬4) تيسير التحرير: 3 ص 135، جمع الجوامع وحاشية العطار: 2 ص 396، المستصفى: 2 ص 261، الإحكام، الآمدي: 4 ص 133، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 342.

حجة" (¬1). ونقل ابن القيم رحمه اللَّه تعالى قول الشافعي رحمه اللَّه تعالى عن الصحابة: "رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا" (¬2). ¬

_ (¬1) الروضة، له: 11/ 148. (¬2) أعلام الموقعين: لابن القيم: 2/ 186.

المبحث السادس في شرع من قبلنا

المبحث السادس في شرع من قبلنا المشرع الحقيقي هو اللَّه تعالى الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب هداية ونورًا للعالمين، وإن وحدة الأديان في العقائد أمر مسلم به ومتفق عليه، وإن اختلفت الشرائع التي أنزلها رب العزة لتنظيم حياة الناس ورعاية مصالحهم في الدنيا والآخرة. فهل الأحكام التشريعية الثابتة في تشريع الأمم السابقة تعتبر شرعًا وحجة وأصلًا للتشريع والاستنباط في شريعتنا؟ اتفق العلماء على حالتين، واختلفوا في حالة. الحالة الأولى: اتفق العلماء على أن الأحكام الشرعية التي نص عليها القرآن أو السنة حكاية عن الأمم السابقة، وأقرها اللَّه تعالى علينا: اتفقوا على أنها أحكام شرعية واجبة الاتباع بالنسبة للمسلمين، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]. الحالة الثانية: اتفق العلماء على أن الأحكام الشرعية التي ورد فيها نص في القرآن الكريم أو في السنة حكاية عن تشريع الأمم السابقة مع نسخها وإلغائها في شريعتنا: اتفقوا على أنها ليست أحكامًا شرعية، ولا تعتبر دليلًا ولا حجة ولا شرعًا لنا، مثل قتل النفس للتوبة وقطع

الثوب النجس للطهارة عند بني إسرائيل. الحالة الثالثة: إذا قصَّ القرآن الكريم حكمًا أو ثبت في السنة، ولم يرد في القرآن الكريم أو السنة ما يدل على إقراره أو إلغائه مثل قوله تعالي: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنّ} [المائدة: 45]. فهذه الحالة اختلف العلماء في اعتبارها حجة ومصدرًا تشريعيًّا على قولين: القول الأول: أنها حجة علينا وتشريع لنا يجب اتباعه وتطبيقه، وذهب إلى ذلك الحنفية والحنابلة وبعض المالكية وبعض الشافعية (¬1). واحتجوا بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى التوراة في رجم اليهودي، وأن شرع من قبلنا شرع لنبي سابق، وأن وروده في مصادر شريعتنا دون أن يرد له ناسخ قرينة على أنه شرع لنا وأنه إقرار علينا، وأن الأصل هو وحدة الشرائع السماوية، وأن عقيدتنا تأمرنا باتباع الرسل السابقين والاهتداء بهم، وأن القصاص بالنفس ثابت عندنا بالاتفاق مع أن الآية تتكلم عن بني إسرائيل. ويتفرع عن ذلك أن الإمام أبا حنيفة قال بالقصاص بين الرجل والمرأة لإطلاق الآية {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأن الإمام محمدًا احتج لصحة المهايأة والقسمة بقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28]، وقوله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء: 155]، والآيتان ¬

_ (¬1) التوضيح على التنقيح: 2 ص 276، كشف الأسرار: 3 ص 932، تيسير التحرير: 3 ص 131، تسهيل الوصول: ص 166، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 134، إرشاد الفحول: ص 239، أصول السرخسي: 2 ص 99 وما بعدها، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 534، العضد: 2/ 286، شرح الكوكب المنيرة 4/ 412.

في قوم صالح (¬1). ولكن يشترط أن يثبت ورود الشرع السابق في الكتاب أو السنة الصحيحة، ولا يصح الرجوع إلى كتب الشرائع السابقة للقطع بإدخال التحريف والتبديل فيها، وهذا يؤكد أن شرع من قبلنا ليس مصدرًا مستقلًا، وإنما يرجع إلى الكتاب والسنة ولو لم يرد إقرار صريح له (¬2). القول الثاني: أن شرع من قبلنا الوارد في شريعتنا دون إقرار ليس شرعًا لنا، ولا حجة علينا، وهو قول الشافعي، لأن الشرائع السابقة خاصة بقومهم، لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وأن الإسلام نسخ الشرائع السابقة ما لم يرد إقرار لها في شريعتنا، وأن حديث معاذ السابق لم يذكر شرع من قبلنا عند تعداد مصادر الاستنباط في التشريع (¬3). ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 4 ص 125، كشف الأسرار: 3 ص 936، أصول السرخسي: 2 ص 103. (¬2) تيسير التحرير: 3 ص 132، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 135، كشف الأسرار: 3 ص 936. (¬3) الإحكام، الآمدي: 4 ص 123، تيسير التحرير: 3 ص 132، تسهيل الوصول: ص 166، تقوير الشربيني على جمع الجوامع: 2 ص 394، المستصفى: 2 ص 251، 255، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 294، اقتضاء الصراط المستقيم: ص 170، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 535، 537، المجموع للنووي: 9/ 25.

المبحث السابع في سد الذرائع

المبحث السابع في سد الذرائع تعريف الذريعة: الذريعة: لغة: الوسيلة (¬1)، وفي الاصطلاح: عرفها ابن بدران فقال: هي ما ظاهره مباح ويتوصل به إلى محرم (¬2). فالطريق إلى الحرام حرام، مثل النظر إلى عورة المرأة، فإنه وسيلة إلى الزنا، وكلاهما حرام، وما لا يؤدى الواجب إلا به فهو واجب، فالجمعة واجبة ولا تتم إلا بترك البيع وقت الأذان، فترك البيع واجب، والسؤال: ما هو حكم الطريق الموصل إلى محرم؟ هل نعتبره منفصلًا عن النتيجة؟ أم نحرم الذريعة الموصلة إلى حرام لسد باب الحرام؟ ويكون دليل التحريم هو سد الذرائع؟ حجية سد الذرائع: اختلف الأئمة في الاحتجاج بمبدأ سد الذرائع على قولين، فقال المالكية والحنابلة بقبول الاحتجاج به والرجوع إليه واعتباره مصدرًا من ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 282، القاموس المحيط: 3 ص 23. (¬2) المدخل إلى مذهب أحمد، له: ص 138.

مصادر التشريع (¬1)، واحتجوا بأنه وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تعتمد على الذرائع وتعطيها حكم نتائجها فتحرم بعض الأشياء، وتكون حرمتها ليست مقصودة بذاتها، وإنما منعت لأنها تؤدي إلى الحرام، سواء أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد (¬2)، مثاله أن القرآن الكريم منع لسب الأوثان والأصنام وما يعبد من دون اللَّه لأنه ذريعة إلى سب اللَّه تعالى، فقال عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، ومن - صلى الله عليه وسلم - قبول الهدية من المدين حتى لا تكون بابًا إلى الربا، ومنع الوصية للوارث حتى لا تكون ذريعة إلى تفضيل وارث على آخر احتيالًا على نظام الإرث، وغير ذلك من الأمثلة التي تستند إلى سد الذرائع، وأن الاعتماد عليه يرجع إلى إبطال الحيل في الشريعة، وأنها لا تصح (¬3). قال القرافي رحمه اللَّه تعالى: "ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد، دفعًا له، فمتى كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا ذلك الفعل وهو مذهب مالك رحمه اللَّه تعالى"، وقال: "واعلم أن الوسيلة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة (¬4) ". وخالف الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي الاحتجاج بسد الذرائع، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، تنقيح الفصول: ص 145، الحدود في الأصول، الباجي، تحقيق الدكتور نزيه حماد: ص 68، الفروق: 3 ص 266، أثر الأدلة المختلف فيها: ص 573. (¬2) المدخل الفقهي العام: 1 ص 171، وانظر قاعدة "ما يسد من الذرائع وما لا يسد" الفروق، القرافي: 3/ 366. (¬3) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 277. (¬4) تنقيح الفصول، له: 144، 145.

أدلة أخرى

ولم يصرحوا بالأخذ به، وبنوا الأحكام التي وافقوا فيها المالكية والحنابلة على أدلة أخرى كالتحريم للذريعة والوسيلة بحد ذاتها، وليس باعتبارها موصلة إلى أمر آخر، أي اعتبر الحرمة في الواقعة لذاتها وليس لأنها سبب لأمر آخر، فمن حبس شخصًا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له، وينفذ عليه القصاص، ويكون عمله محرمًا لذاته وليس من باب سد الذرائع (¬1). هذه هي أهم مصادر التشريع الإسلامي الأصلية والتبعية أو المتفق عليها والمختلف فيها، عرضناها عرضًا موجزًا مختصرًا لإلقاء الضوء عليها وتوضيح مفهومها ورأي العلماء في الاحتجاج بها. أدلة أخرى: وهناك أدلة فرعية كثيرة مختلف فيها بين الأئمة، يعتمدون عليها، ويبنون الأحكام الشرعية بالاستناد إليها، ونظرًا لضيق الوقت وقلة الرجوع إليها فإننا نقتصر على ذكرها وتعدادها مثل الاحتجاج بانتفاء الحكم لانتفاء الدليل عند الشافعية، والاحتجاج بأقل ما قيل الذي ينسب إلى الشافعية أيضًا، والإلهام، والأخذ بالأخف، والبراءة الأصلية، والعصمة، والاستقراء ... ، وغيرها مما ذكر علماء الأصول في كتبهم (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 ص 399، وانظر مناقشة ابن حزم الظاهري لرد أدلة سد الذرائع في (الإحكام في أصول الأحكام، له: 2 ص 745). (¬2) حاشية العطار على جمع الجوامع: 2 ص 384، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 139، الإحكام، الآمدي: 4 ص 104، المستصفى: 1 ص 216، تسهيل الوصول: ص 239، شرح الكوكب المنير: 1 ص 329، 2 ص 5 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول: ص 445، المسودة: ص 490، الإحكام لابن حزم: 2/ 630، الروضة ص 155، ط محققة، المحصول: 6/ 208، المستصفى: 1/ 216، اللمع: ص 69، ط الحلبي، نهاية السول: 3/ 161.

الباب الثاني في الأحكام الشرعية

الباب الثاني في الأحكام الشرعية مقدمة: إذا قلنا: هناك بيع، فهذا يعني وجود بائع ومشتر ومبيع وثمن وصيغة، وكذا إذا أطلق الأصوليون اصطلاح الأحكام الشرعية تعلق به أولًا: الحاكم، وهو الذي أصدر الحكم، وثانيًا: المحكوم عليه، وهو المكلف الذي يتعلق الحكم به، وثالثًا: المحكوم فيه، وهو فعل المكلف الذي يكون الحكم وصفًا له ويعبر عنه أيضًا بالمحكوم به، ورابعًا: الحكم الذي صدر من الحاكم على المحكوم عليه ليبين صفة فعل المكلف. فالحكم الشرعي يتناول أربعة أشياء وهي: الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه. وسوف نتناول كلًّا منها في فصل إن شاء اللَّه تعالى.

الفصل الأول في الحكم

الفصل الأول في الحكم تعريف الحكم لغة: هو القضاء والمنع، يقال حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه، وحكمت بين الناس قضيت بينهم وفصلت (¬1). إطلاقات الحكم: يطلق لفظ الحكم ويراد منه أحد المعاني التالية: الأول: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، مثل إثبات طلوع القمر، ونفي الظلمة للشمس. الثاني: الحكم خطاب اللَّه تعالى، مثل: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فهو حكم اللَّه، أي هو النص الصادر عن الشارع وهو استعمال الأصواليين (¬2). ¬

_ (¬1) ومنه حكَّمت الرجل بالتشديد فوَّضت إليه الحكم، وتحكَّم في كذا فعل ما رآه، وأَحْكَمْتُ الشيء أتقنته، ومنه الحكمة لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل والفساد، (انظر المصباح المنير: 1 ص 200، القاموس المحيط: 4 ص 98). (¬2) حقيقة الحكم إما أن تكون لغوية بمعني، القضاء، وإما أن تكون أصولية وهي خطاب اللَّه تعالى، وإما أن تكون فقهية، وهي أثر الخطاب، وإما أن تكون عرفية، وهي =

أقسام الحكم

الثالث: الحكم هو أثر خطاب اللَّه تعالى، مثل الوجوب المأخوذ من قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، وهو استعمال الفقهاء، والفرق بين علماء الأصول وبين الفقهاء أن قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} هو الحكم عند الأصوليين، أما الفقهاء فيقولون: إن الحكم هو الوجوب، ودليله قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فالفقهاء يفرقون بين الحكم والدليل، أما علماء الأصول فيقولون: هما شيء واحد. الرابع: الحكم هو القرار الصادر عن القضاة، وهو استعمال قضائي. أقسام الحكم: يقسم الحكم عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، فيقسم الحكم بحسب مصدره إلى قسمين: الأول: الحكم الشرعي: وهو ما يؤخذ من الشرع بأن يدل الدليل عليه، أو يتوقف على دليل شرعي، كحرمة الربا، ووجوب الصلاة، والحكم الشرعي نوعان: حكم عملي وهو الذي يبين كيفية عمل المكلف، ويبحث في الفقه والأصول، وحكم اعتقادي وهو الذي يبين مباحث الاعتقاد. الثاني: الحكم غير الشرعي: وهو الذي لا يؤخذ من الشرع، ويشمل الأحكام العقلية، مثل الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والأحكام الحسية مثل الشمس مشرقة، والأحكام العرفية مثل ¬

_ = إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، والسبب في اختلاف الاصطلاحين عند علماء الأصول والفقهاء أنه يتعلق بحسب ما لاحظه كل منهم، فالأصوليون نظروا للحكم من ناحية مصدره، وهو اللَّه تعالى، والحكم صفة له، والفقهاء نظروا للحكم من ناحية متعلَّقه، وهي أفعال المكلفين، انظر أصول الفقه، البرديسي: ص 47، مباحث الحكم، مدكور: ص 13.

تعريف الحكم اصطلاحا

التواتر يفيد العلم (¬1). ويهمنا من هذه الأقسام الحكم الشرعي العملي، كما ينحصر بحثنا في إطلاق الحكم عند الأصوليين، وهذا ينقلنا لتعريف الحكم في الاصطلاح الأصولي. تعريف الحكم اصطلاحًا: عرف جمهور علماء الأصول الحكم بأنه: خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا (¬2). شرح التعريف: 1 - خطاب: الخطاب كالمخاطبة مصدر خاطب، وهو توجيه الكلام المفيد إلى السامع، وهذا المصدر لا يتعلق به أمر ولا نهي، فنقل المعنى إلى المجاز وهو الكلام الموجه نفسه، فأطلقوا المصدر "خطاب" وأرادوا فيه اسم المفعول وهو الكلام المخاطَب به، قال الآمدي: الخطاب هو اللفظ المتواضع عليه، المقصود به إفهام من هو متهيئ للفهم (¬3)، والمراد من خطاب اللَّه تعالى هو الكلام الأزلي النفسي للخالق، ويخرج الكلام اللفظي المتصف بالحركات والصوت فهو حادث (¬4). 2 - اللَّه: الخطاب جنس يشمل جميع أنواع الكلام الموجه، وإضافته إلى لفظ الجلالة قيد أول، فيخرج من التعريف خطاب الملائكة وخطاب الناس وخطاب الجن وخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال والأفعال ¬

_ (¬1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 71. (¬2) إرشاد الفحول: ص 6، تسهيل الوصول: ص 246، منهاج الوصول: ص 4، مختصر ابن الحاجب: ص 33، الحدود في الأصول، الباجي: ص 72. (¬3) الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 90. (¬4) فواتح الرحموت: 1 ص 57، تيسير التحرير: 2 ص 130، نهاية السول: 1 ص 39.

الجبلية التي لا تدخل في السنة وسبق الكلام عنها. والتعريف يشمل خطاب اللَّه تعالى الصريح في القرآن الكريم، ويشمل كل ما أشارت إليه الآيات الكريمة من المصادر الأخرى، كالسنة والإجماع وغيرها. وفهم بعض الأصوليين أن خطاب اللَّه محصور في القرآن الكريم، فقال: إن التعريف غير جامع، لعدم دخول السنة والإجماع والقياس فيه، فعرف الحكم بقوله: "هو خطاب الشارع" (¬1). ورُدَّ الجمهور عليهم بأن القرآن الكريم أشار إلى هذه الأدلة فتكون داخلة في التعريف بلفظ "خطاب اللَّه" وأن هذه المصادر ليست مشرعة بذاتها، وإنما هي أمارات معرِّفة لحكم اللَّه، ووسائل كاشفة عنه وموصلة إلى خطاب اللَّه تعالى (¬2). وخطاب اللَّه تعالى يشمل كلامه الموجه في أمور العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات ... ، ويشمل كلامه تعالى المتعلق بذاته وصفاته .. ، وكلام اللَّه تعالى المتعلق بالخلق والإيجاد، والمتعلق بذات المكلفين. 3 - المتعلق: اسم فاعل من التعلق، وهو الارتباط، فالحكم هو كلام اللَّه تعالى المرتبط بأفعال المكلفين في بيان المراد منها بإيجاب أو ندب أو تحريم، وهو تعلق معنوي قديم، لأن كلام اللَّه تعالى نفسي قديم، ولكن ظهوره للمكلف بالألفاظ والحركات حادث ومتوقف على البعثة ووجود المكلف، فالحادث هو أن يصير المكلف مشغول الذمة ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 91. (¬2) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 73، فواتح الرحموت: 1 ص 56، تيسير التحرير: 2 ص 133، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 48.

بوجوب الفعل أو تحريمه مثلًا (¬1). 4 - أفعال: جمع فعل، ومعناه العرفي ما يقابل القول والاعتقاد والنية، أما معناه هنا في التعريف فهو كل ما يصدر عن المكلف وتتعلق به قدرته من قول أو فعل أو اعتقاد أو تقرير، مثل الضرب باليد، والمشي بالرجل، والكلام باللسان، والنية والاعتقاد بالقلب. ولفظ "أفعال" قيد ثان يخرج الخطاب الذي يتعلق بغير الأفعال، كالخطاب المتعلق بذات اللَّه تعالى وصفاته، مثل قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وما يتعلق بذات المكلفين، كقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 55]، وما يتعلق بأعيان الجمادات، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47]، فهذه الأمور الثلاثة ليست أحكامًا مع أنها خطاب اللَّه تعالى وكلامه في القرآن الكريم. 5 - المكلفين: جمع مكلف، وهو الإنسان البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة، وإن طرأ عليه عارض بنفي كالإكراه والنسيان، ولفظ المكلفين جمع والمراد منه المفرد، وهو من إطلاق العام وإرادة الخاص أي المكلف الواحد، ويكثر استعماله في اللغة، مثل قولهم: فلان يركب الخيل ويلبس البرود ويخدمه العبيد، أي جنس الخيل والبرود والعبيد، مع أنه يركب فرسًا واحدًا ويلبس بردًا واحدًا وقد يخدمه عبد واحد، ويؤكد ذلك القاعدة الأصولية القائلة "مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادًا"، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. ويدخل في التعريف الأحكام الخاصة بمكلف واحد، مثل ¬

_ (¬1) حاشية البناني، المرجع السابق، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 74، أصول الفقه، البرديسي: ص 44.

خصوصيات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخصوصية أحد الصحابة كخزيمة وأبي بردة (¬1). واختار بعض الأصوليين في التعريف "فعل المكلف" بالمفرد، ليتناول الخصوصيات، لأن الجمع لا يشمل الأحكام الخاصة (¬2)، ويُردَّ عليهم بما سبق، وأنه لا فرق بين الجمع المحلى بلام الاستغراق والمفرد المحلى بها في العموم (¬3). ويخرج من التعريف الإنسان غير المكلف كالصبي والمجنون، مع أن الشريعة الغراء ذكرت أحكامًا كثيرة تتعلق بالصغار والمجانين، مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطلب الإذن في الدخول، وهذا ما دفع بعض علماء الأصول لاستبدال لفظ المكلفين بلفظ العباد، ليشمل الصغار والمجانين، فقال: "هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال العباد" (¬4). ولكن جماهير العلماء ردوا هذا البدل، لأن الأحكام المتعلقة بالصغار والمجانين لا ينطبق عليها خواص الحكم الشرعي، وإنما شرعت لهم من أجل التعويد والتربية، وأن المخاطب بالحكم هو الولي والوصي والقيم، فاللَّه سبحانه وتعالى خاطب الأب ليعود ولده على الصلاة، وأن يربيه على الاستئذان في الدخول، وأن يطهر ماله بالزكاة، وأن ثبوت الثواب من اللَّه تعالى على صلاة الصبي هو فضل من ¬

_ (¬1) اختصاص أبي بردة بإجزاء العناق في الأضحية، وهي أنثى المعز من وقت ولادتها إلى أن تستكمل ستة أشهر، أو التي لم تبلغ سنة، وسبق بيان اختصاص خزيمة بالشهادة، والإشارة إلى خصوصيات الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) جمع الجوامع مع حاشية العطار: 1 ص 67، وحاشية البناني: 1 ص 48، فواتح الرحموت: 1 ص 54. (¬3) تيسير التحرير: 2 ص 133. (¬4) تيسير التحرير: 2 ص 132، تسهيل الوصول: ص 247، فواتح الرحموت: 1 ص 56.

اللَّه تعالى ومنَّه وكرم، لأن الثواب ليس من لوازم التكليف بل من فضله تعالى (¬1). 6 - اقتضاء: الاقتضاء هو الطلب، والطلب إما أن يكون طلب فعل أو طلب ترك، وكل منهما إما أن يكون طلبه جازمًا أو غير جازم، فأنواع الطلب أربعة، وهي: الأول: طلب الفعل بشكل جازم وهو الإيجاب. الثاني: طلب الفعل بشكل غير جازم وهو الندب. الثالث: طلب الترك بشكل جازم وهو التحريم. الرابع: طلب الترك بشكل غير جازم وهو الكراهة. فالاقتضاء يشمل خطاب اللَّه تعالى المبين للإيجاب والندب والتحريم والكراهة (¬2). 7 - أو تخييرًا: وهو تخيير المكلف بالخطاب بين الفعل والترك، دون ترجيح لأحد الجانبين على الآخر، ويسمى إباحة، وحرف "أو" ليس للتشكيك بل للتنويع (¬3). ويخرج من التعريف خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين للعبرة والعظة والاعتبار والإعلام، مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، فتعلق الخطاب بفعل المكلف ليس للاقتضاء أو التخيير أو الوضع، بل للعبرة (¬4). 8 - أو وضعًا: الوضع هو الجَعْل، وهو خطاب اللَّه تعالى المتعلق ¬

_ (¬1) جمع الجوامع مع حاشية العطار: 1 ص 72، تيسير التحرير: 2 ص 133. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 57، والمراجع السابقة. (¬3) فواتح الرحموت: 1 ص 54. (¬4) أصول الفقه، البرديسي: ص 42.

لفظ الوجوب والحرمة والواجب والحرام

بجعل الشيء سببًا لفعل المكلف أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا أو رخصة أو عزيمة، وسوف نرى تعريف كل منها مع الأمثلة في فرع مستقل. وخلاصة تعريف الحكم أنه كلام اللَّه تعالى الذي ارتبط بتصرفات المكلف في بيان حالها من الإيجاب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، وما يتعلق بها من أسباب وموانع وشروط وصحة وفساد وعزيمة ورخصة. واعترض بعض الأصوليين على التعريف لجمعه بين الاقتضاء والتخيير وبين الوضع، وأن الوضع ليس حكمًا من جهة، أو يدخل تحت الاقتضاء من جهة أخرى (¬1). ولكن جماهير العلماء جمعوا بينهما في التعريف، وأن الحكم يشمل الأمرين، قال الكمال بن الهمام: والأوجه دخول الوضع في الجنس، وهو الخطاب المتعلق بفعل المكلف (¬2). لفظ الوجوب والحرمة والواجب والحرام: يعبر بعض الأصوليين عن معاني الحكم الاقتضائي بالوجوب والحرمة، وهذا خطأ، لأن الخطاب يصدق على الإيجاب والتحريم، أما الوجوب والحرمة فإنهما من أثر الخطاب، ولكن شاع واشتهر بين الأصوليين أن الإيجاب والوجوب أو التحريم والحرمة شيء واحد بالذات والحقيقة، وأنهما مختلفان في الاعتبار، فالذات واحدة وهي الخطاب الإلهي، ولكن إن اعتبرناه في جانب اللَّه تعالى كان إيجابًا ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 54، تيسير التحرير: 2 ص 130، تسهيل الوصول: ص 248، نهاية السول: 1 ص 49، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 52، التوضيح: 1 ص 54. (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 130.

أنواع الحكم الشرعي في أصول الفقه

وتحريمًا، وإن اعتبرناه في جانب المكلف كان وجوبًا وحرمة، فلا ضَيْرَ من استعمال اللفظين، أما الندب والكراهة والإباحة فاللفظ واحد في الحالين. وهذه الأحكام الخمسة الإيجاب والتحريم والندب والكراهة والإباحة إذا تعلقت بالأفعال أطلق عليها لفظ الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح، ويوصف الفعل بها. وباختصار فالإيجاب هم نفس خطاب الشارع، والوجوب هو الأثر المترتب على ذلك الخطاب، والواجب هو وصف لفعل المكلف الذي طلبه الشارع، مثل ذلك التحريم والحرمة والحرام، وأما الندب الإباحة والكراهة فلها صيغتان فقط ندب ومندوب، وإباحة ومباح، وكراهة ومكروه (¬1)، ومتعلقات الأحكام هي: الواجب، والمندوب، والمحرم أو الحرام، والمكروه، والمباح، لأن الخطاب يتعلق بالفعل فيجعله واجبًا أو ... أنواع الحكم الشرعي في أصول الفقه: قسم جمهور علماء الأصول الحكم الشرعي إلى نوعين: النوع الأول: الحكم التكليفي: وهو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل المكلف اقتضاء أو تخييرًا، ويشمل الأحكام الخمسة، وهي الإيجاب والندب والإباحة والكراهة والتحريم (¬2). ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 58، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 83، تيسير التحرير: 2 ص 134، مباحث الحكم، مدكور: ص 63، التوضيح والتلويح: 1 ص 55، شرح الكوكب المنير: 1 ص 333. (¬2) حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 79، المستصفى: 1 ص 65، تيسير التحرير: 2 ص 129.

النوع الثاني: الحكم الوضعي

مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الإسراء: 33]. ونضرب مثالًا يجمع بين طلب الفعل وطلب الترك على سبيل الجزم في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 5]. كما اجتمع طلب الفعل وطلب الترك بدون جزم في قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. النوع الثاني: الحكم الوضعي: وهو خطاب اللَّه تعالى الذي اقتضى جعل أمر علامة لحكم تكليفي وجعله مرتبطًا به بكونه سببًا له، مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، فالدلوك سبب لإيجاب الصلاة، أو شرطًا له مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فرؤية الهلال شرط للصيام، أو مانعًا له كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للقاتل ميراث" (¬1)، فالقتل يمنع الإرث، والأبوة تمنع القصاص مع الابن أو صحة أو فسادًا أو عزيمة أو رخصة. رأي الآمدي: قسم الآمدي الحكم إلى ثلاثة أنواع وهي: 1 - الحكم الاقتضائي: وهو ما فيه طلب فعل أو طلب ترك. 2 - الحكم التخييري: وهو تخيير المكلف بين الفعل والترك حسب رغبته. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه والنسائي، قال ابن عبد البر: وإسناده صحيح بالاتفاق، وله شواهد كثيرة.

موازنة بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي

3 - الحكم الوضعي: وهو الخطاب الذي وضعه الشارع سببًا لحكم تكليفي أو مانعًا أو شرطًا أو صحة أو فسادًا أو رخصة أو عزيمة، فأخرج الإباحة من الحكم التكليفي، لأن التكليف يستلزم وجود كلفة ومشقة من المكلف، والمباح لا كلفة فيه، فلا يعتبر فرعًا له (¬1). بينما أدخل الجمهور الحكم التخييري وهو الإباحة بالحكم التكليفي تغليبًا للأحكام الأربعة عليه، أو لأن أغلب الأحكام المباحة جاءت بصيغة الطلب، أو بالنظر إلى وجوب الاعتقاد بالمباح لا بالنظر إلى الفعل المتعلق به الحكم، أو لأن الاشتغال بالمباح يستلزم ترك الحرام، وترك الحرام واجب فكان المباح مطلوبًا (¬2)، أو لأن المباح مباح بالجزء ولكن تعتريه الأحكام الأربعة السابقة بالنسبة إلى الكل، كما سنرى تفصيل ذلك في فرع المباح، ويكون الحكم نوعين، وهما حكم تكليفي وحكم وضعي، ولكل منهما صفات وخصائص وميزات تختلف عن الآخر كما يظهر من الموازنة بينهما. موازنة بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي: 1 - الحكم التكليفي فيه طلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير بين الفعل والترك، أما الحكم الوضعي فليس فيه طلب أو تخيير، وإنما يفيد الارتباط بين أمرين ليكون أحدهما سببًا للآخر أو مانعًا أو شرطًا (¬3). 2 - الحكم التكليفي مقصود بذاته في الخطاب، ليقوم المكلف ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 91. (¬2) إرشاد الفحول: ص 6، مباحث الحكم، مدكور: ص 60، تيسير التحرير: 2 ص 192. (¬3) أصول الفقه، خلاف: ص 116، تسهيل الوصول: ص 248، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 42، أصول الفقه، البرديسي: ص 51، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 224، شرح الكوكب المنير: 1 ص 434.

بالفعل أو الترك أو التخيير، أما الحكم الوضعي فلا يقصد من المكلف مباشرة، وإنما وضعه المشرع ليرتب عليه الأحكام التكليفية، مثل ملك النصاب سبب للزكاة، وحولان الحول شرط لها، والقتل مانع من الميراث (¬1). 3 - إن الحكم التكليفي يتعلق بالمكلف وهو البالغ العاقل الذي يتوجه إليه الخطاب، ويقع عليه التكليف، أما الحكم الوضعي فإنه يتعلق بالإنسان سواء أكان مكلفًا أم لا، كالصبي والمجنون، فقال الفقهاء بصحة بيع الصبي عند الحنفية، وأنه يضمن ما يتلفه إذا كان سببًا بالاتفاق (¬2)، وقد يكون الحكم متعلقًا بفعل المكلف كالطهارة للصلاة، وقد لا يتعلق بفعل المكلف، وإنما يتعلق بما ارتبط به فعل المكلف كالدلوك، وقد يتعلق بغير الإنسان. 4 - الحكم التكليفي يكون في مقدور المكلف فعله أو تركه، لأن التكليف لا يصح أن يكون فيه حرج ومشقة، أو مما يستحيل على المكلف القيام به، مثل صيغ العقود والتصرفات والجرائم (¬3)، فإذا باشر ¬

_ (¬1) الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 42، مباحث الحكم: ص 61. (¬2) الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 42، أصول الفقه الإسلامي، البرديسي: ص 52، شرح الكوكب المنير: 1 ص 436، الفروق: 1/ 161. (¬3) ذهب فريق من العلماء إلى عدم اشتراط القدرة للتكليف، وبالتالي فإنه يجوز التكليف بالمحال، سواء كان محالًا لذاته بان يكون ممتنعًا عادة وعقلًا كالجمع بين البياض والسواد، أو محالًا لغيره بأن يكون ممتنعًا عادة كالمشي من المريض العاجز والطيران من الإنسان، أو ممتنعًا عقلًا لا عادة، كالإيمان ممن علم اللَّه أنه لا يؤمن، (انظر حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 269، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 206) وخالف الحنفية والمعتزلة وبعض الشافعية وقالوا القدرة شرط التكليف، وأنه لا يصح التكليف بالمستحيل لأنه تكليف بما لا يطاق ولقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا}، (انظر تيسير التحرير: 2 ص 137 وما بعدها).

المكلف عقدًا أو تصرفًا ترتب عليه حكمه، أما الحكم الوضعي فقد يكون في مقدور المكلف مثل صيغة العقد وإحضار الشاهدين في النكاح، وقد يكون ليس في مقدور المكلف مثل دلوك الشمس وحولان الحول وبلوغ الحُلُم (¬1). وبعد هذا البيان الموجز للحكم وأقسامه، نتناول كل قسم في مبحث خاص لنعرفه ونبين ما يندرج تحته من أحكام. ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 116، المراجع السابقة، أصول الفقه، البرديسي: ص 51، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 224، شرح الكوكب المنير: 1 ص 436.

المبحث الأول في الحكم التكليفي

المبحث الأول في الحكم التكليفي تعريفه: هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا، وسبق شرح هذا التعريف، وما يدخل فيه وما يخرج منه مع الأمثلة، واختلف العلماء في تقسيم الحكم التكليفي إلى فريقين، الجمهور والحنفية. أقسام الحكم التكليفي عند الجمهور: قسم جمهور الأصوليين الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام، وهي: الأول: الإيجاب: وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا، أو هو طلب الفعل مع المنع من الترك لترتب العقاب على التارك، ويكون أثره الوجوب، والفعل المطلوب هو الواجب، والفرض والواجب بمعنى واحد عند الجمهور. الثاني: الندب: هو ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم، أو هو طلب الفعل مع عدم المنع من الترك لعدم الإشعار بالعقاب، وأثره الندب، والمطلوب فعله هو المندوب. الثالث: الإباحة: وهو التخيير بين الفعل والترك، وأثره الإباحة

تقسيم الحكم التكليفي عند الحنفية

والفعل المخير بين فعله وتركه هو المباح. الرابع: الكراهة: وهو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم، أو هو طلب الترك مع عدم المنع من الفعل، وأثره الكراهة، والمطلوب الكف عن فعله هو المكروه. الخامس: التحريم: وهو ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا، أو هو طلب الترك مع المنع عن الفعل، لترتب العقاب على الفاعل، وأثره الحرمة، والمطلوب تركه والكف عن فعله هو الحرام (¬1). تقسيم الحكم التكليفي عند الحنفية: قسم الحنفية الحكم التكليفي إلى سبعة أقسام (¬2)، وهي: 1 - الافتراض: وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا بدليل قطعي الثبوت والدلالة، كالصلاة والزكاة والجهاد، وحكمه وجوب فعله، وأن منكره كافر، وتاركه بلا عذر فاسق. 2 - الإيجاب: وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا بدليل ظني الثبوت أو ظني الدلالة، مثل صدقة الفطر والأضحية وقراءة الفاتحة وصلاة الوتر ومسح ربع الرأس، وحكمه وجوب إقامته كالفرض، ولكنه ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول: ص 6، المستصفى: 1 ص 65، منهاج الوصول: ص 5، الإحكام، الآمدي: 1 ص 91، نهاية السول: 1 ص 50، حاشية العطار: 1 ص 112، أصول الفقه، خلاف: ص 118، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 85، التبصرة، للشيرازي: ص 94. (¬2) وهو قول عند أحمد، وقول الباقلاني، انظر: مسلم الثبوت مع فواتح الرحموت: 1 ص 58، تيسير التحرير: 1 ص 375، 2 ص 135، تسهيل الوصول: ص 248، التلويح على التوضيح: 2 ص 75، مباحث الحكم: ص 65، أصول السرخسي: 1 ص 110، وما بعدها، القواعد والفوائد الأصولية: ص 63، أحكام القرآن، للجصاص: 2 ص 85.

ثمرة الاختلاف في التقسيم

لا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إذا تركه استخفافًا. 3 - الندب: وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم، كالجمهور. 4 - الإباحة: وهي التخيير بين الفعل والترك. 5 - الكراهة التنزيهية: وهي ما طلب الشارع تركها طلبًا غير جازم، كالمكروه عند الجمهور، مثل لطم الوجه بالماء في الوضوء، وصوم يوم الجمعة فقط. 6 - الكراهة التحريمية: وهي ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا ولكن بدليل ظني الثبوت أو ظني الدلالة، ويشترك مع الحرام باستحقاق العقاب للفاعل، مثل البيع وقت صلاة الجمعة، والبيع على بيع الأول، وأنكر الإمام محمد هذا القسم، وألحقه مع الحرام، وقال: كل مكروه حرام، بينما اعتبره الشيخان أبو حنيفة وأبو يوسف قسمًا مستقلًا، وقالا: إنه إلى الحرام أقرب، وإذا أطلق المكروه عند الحنفية فهو المكروه تحريمًا (¬1). 7 - التحريم: وهو ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، مثل قتل النفس والزنا. ثمرة الاختلاف في التقسيم: وتظهر ثمرة الاختلاف بين الحنفية والجمهور في عدة حالات، أهمها: 1 - قال الحنفية: إذا أنكر المكلف فرضًا أو حرامًا فهو كافر ولو كان متأولًا، لأن الفرض والحرام ثبتا بدليل قطعي الدلالة ولا مجال فيه للتأويل، أما إذا أنكر واجبًا فلا يكفر، مع لزوم العمل للفرض والواجب (¬2). ¬

_ (¬1) لسان الحكام: ص 242. (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 135، مباحث الحكم: ص 66.

الترجيح

وقال الجمهور: الفرض والواجب مترادفان، ويدلان على تعبير واحد، وهما سيان في حالة الإنكار ولزوم العمل، ومن أنكر الفرض أو الواجب فهو كافر (¬1). 2 - إذا ترك المكلف الفرض بطل عمله، عند الحنفية، كما لو ترك المصلي الركوع أو السجود، ولا تبرأ ذمته إلا بالإعادة، أما إذا ترك الواجب فإن عمله صحيح ولكنه ناقص، وعليه الإعادة، فإن لم يعد برئت ذمته مع الإثم (¬2)، مثل ترك قراءة الفاتحة في الصلاة، وعند الجمهور يبطل العمل سواء ترك المكلف فرضًا أو واجبًا. 3 - إن المكروه تحريمًا يعاقب فاعله، ولا يكفر منكره، أما المكروه تنزيهًا فإن فاعله لا يستحق عتابًا ولا ذنبًا ولا إثمًا، لكنه فعل غير الأولى (¬3)، وقال الجمهور: المكروه نوع واحد، وفاعله لا يستحق عقابًا لكنه يعاتب، وإن المكروه تحريمًا يدخل في الحرام. الترجيح: قبل اختيار أحد القولين نبين الأمور التالية: 1 - إن الجمهور يقسمون المندوب والمكروه إلى درجات كما سنرى ذلك في كل فرع، ويدخلون في المندوب السنة المؤكدة والسنة غير المؤكدة، وفي المكروه خلاف الأولى، دون أن يعتبروا هذه الدرجات أقسامًا جديدة للحكم مع ترتيب بعض الأحكام المختلفة لكل درجة (¬4). ¬

_ (¬1) جمع الجوامع مع حاشية العطار: 1 ص 124، الإحكام، الآمدي: 1 ص 92، حاشية البناني: 1 ص 88، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 55، نهاية السول: 1 ص 58. (¬2) مباحث الحكم، مدكور: ص 66. (¬3) المرجع السابق. (¬4) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 86.

2 - إن التفريق بين الفرض والواجب يترتب عليه نتائج غريبة، فقراءة الفاتحة في الصلاة مثلًا تعتبر فرضًا بالنسبة إلى رسول اللَّه وإلى الصحابي الذي سمع الحديث منه، فإن تركها بطلت صلاته، بينما تعتبر قراءة الفاتحة واجبًا بالنسبة إلى بقية الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولا تبطل الصلاة بتركها لثبوتها بخبر الآحاد (¬1). 3 - إن الأحكام الشرعية الثابتة بدليل قطعي الدلالة والثبوت قليلة ومحصورة، وأغلب الآيات الكريمة والأحاديث المتواترة ليست قطعية الدلالة، وإنما تحتمل التأويل، وإن معظم السنة وردت إلينا بطريق الآحاد، وهذا يقلل من وجود الفرض بمعناه الخاص عند الحنفية. 4 - كثيرًا ما يستعمل الحنفية لفظ الافتراض ويريدون به الإيجاب، أو يستعملون لفظ الإيجاب ويريدون به الافتراض (¬2). 5 - إن الفرق بين لفظي الفرض والواجب في اللغة لا يؤثر ولا يرجح، لأننا بصدد التفريق بين المعاني الاصطلاحية، وليس بين المعاني اللغوية، وإن القرآن الكريم استعمل أحدهما بمعنى الآخر، فقال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]، أي: أوجب (¬3). 6 - إن الجمهور يقولون: إن ترك ما ثبت بدليل قطعي يوجب الكفر، وترك ما ثبت بدليل ظني لا يوجبه (¬4). ¬

_ (¬1) أصول الفقه، الخضري: ص 35. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 58، تسهيل الوصول: ص 248، أعلام الموقعين: 1/ 41، 43، زاد المعاد: 4/ 11، ط قديمة، الموافقات: 1/ 13، وكثيرًا ما يطلق الفقهاء لفظ الكراهة ويريدون الحرام. (¬3) نهاية السول: 1 ص 58، الإحكام، الآمدي: 1 ص 93، قارن أبحاث في علم أصول الفقه: ص 93. (¬4) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 55.

7 - إن الاختلاف بين الجمهور والحنفية لفظي واصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، قال الآمدي: وبالجملة فالمسألة لفظية (¬1)، وقال المحلي: وهو أي الخلاف لفظي، أي عائد إلى اللفظ والتسمية (¬2)، وجاء في شرح العضد: "والنزاع لفظي"، وقال الشيخ أبو النور زهير: وبذلك يكون غير الحنفية قد رتبوا على القطع والظن ما رتبه الحنفية على كل منهما، فلا خلاف بينهم في المعنى (¬3). لهذه الأسباب فإننا نختار تقسيم الجمهور ونسير عليه في هذا الكتاب، ونتكلم عن كل قسم من أقسام الحكم التكليفي في فرع مستقل، ونبين في كل قسم ما ينطوي تحته من أحكام ودرجات. والكلام عن الحكم التكليفي يدور على متعَلَّق الحكم وهو فعل المكلف، فإن تعلق الحكم بالإيجاب فالفعل واجب، وإن تعلق بالندب فهو مندوب، وإن تعلق بالإباحة فهو مباح، وإن تعلق بالكراهة فهو مكروه، وإن تعلق بالتحريم فهو محرم (¬4)، وهذا ما نفصله في المطالب الخمسة القادمة. ¬

_ (¬1) الإحكام، له: 1 ص 94. (¬2) حاشية العطار على شرح المحلي: 1 ص 124، حاشية البناني: 1 ص 88. (¬3) أصول الفقه، له: 1 ص 55. (¬4) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 93، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 51، نهاية السول: 1 ص 55.

المطلب الأول في الواجب

المطلب الأول في الواجب تعريف الواجب: الواجب لغة: من وَجَبَ بمعنى ثبت أو سقط أو رجف، يقال: وجب البيع والحق: ثبت ولزم، ووجب الحائط سقط، ووجب القلب رجف (¬1). وفي الاصطلاح: عرفه علماء الأصول تعريفات كثيرة، نختار منها تعريفين، الأول: من حيث طلب الفعل وعدم الترك، والثاني: من حيث الثواب والعقاب. التعريف الأول: الواجب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبًا حتمًا (¬2). 1 - ما: بمعنى الذي، وهي صفة الفعل، لأن الإيجاب إذا تعلق بفعل المكلف فيكون الفعل واجبًا، والفعل يشمل الأحكام الخمسة. ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 2 ص 891، القاموس المحيط: 1 ص 136. (¬2) يعرف كثير من الأصوليين الواجب بأنه طلب الفعل مع المنع من الترك، (انظر نهاية السول: 1 ص 52، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 59، حاشية البناني: 1 ص 80، أصول الفقه، خلاف: 118).

التعريف الثاني

2 - طلب الشارع فعله: أي القيام به وأداءه، فيدخل في التعريفات الواجب والمندوب، لأن الشارع طلب فعلهما، ويخرج من التعريف المباح، لأن الشارع لم يطلب فعله ولا تركه، ويخرج المكروه والمحرم؛ لأن الشارع لم يطلب فعلهما بل طلب تركهما. 3 - طلبًا حتمًا: أي طلبًا لازمًا جازمًا من المكلف؛ بحيث لا يسوغ تركه، ويخرج المندوب؛ لأن الشارع طلبه بدون حتم، والطلب اللازم يكون بصيغة تدل عليه، كما سنرى بعد قليل. فالواجب هو الفعل الذي طلب الشارع القيام به طلبًا جازمًا من المكلف (¬1). التعريف الثاني: الواجب هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه (¬2). 1 - ما يثاب فاعله: "ما" اسم موصول بمعنى الذي وهي صفة الفعل الواجب، والثواب من اللَّه تعالى للعبد على تنفيذ أوامره والتزام أحكامه، وتطبيق شريعته، فاعله: أي فاعل الواجب، ويدخل في ¬

_ (¬1) سبق الكلام على تعريف الحنفية للواجب بأنه ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا بدليل ظني، فإن كان بدليل قطعي فهو الفرض، انظر التلويح على التوضيح: 3 ص 75. (¬2) اقتصر بعض الأصوليين في تعريف الواجب على القسم الثاني من التعريف وهو ما يوجب العقاب فقط، فعرفه البيضاوي بأنه الذي يذم شرعًا تاركه قصدًا مطلقًا، فقوله قصدًا ليدخل فيه الواجب الموسع، وقوله مطلقًا ليدخل فيه الواجب الكفائي والمخير، ونقل الآمدي تعريفه بأنه ما يستحق تاركه العقاب على تركه، (انظر منهاج الوصول: ص 5، الإحكام، الآمدي: 1 ص 91، الحدود في الأصول: ص 53، إرشاد الفحول: ص 6، مختصر ابن الحاجب: ص 34، تسهيل الوصول: ص 249، نهاية السول: 1 ص 52، المستصفى: 1 ص 65، فواتح الرحموت: 1 ص 61).

الأساليب التي تفيد الوجوب

التعريف الواجب والمندوب، فإن الفاعل يستحق الثواب عليهما، ويخرج المباح والمكروه لأن فاعلهما لا يستحق ثوابًا، ويخرج المحرم لأن فاعله يستحق عقوبة لا ثوابًا. 2 - ويعاقب تاركه: العقوبة من اللَّه تعالى على المكلف لمخالفة أمره، وارتكاب محارمه، وعصيان شريعته، فالمكلف الذي يترك الواجب الثابت بخطاب اللَّه تعالى يستحق العقاب الذي يثبت عن طريق الشرع فقط، وهذا احتراز عن الحرام، فإن تاركه لا يعاقب بل يثاب تاركه ويعاقب فاعله، وقلنا: ما يستحق تاركه العقاب، بمعنى أنه لو عاقبه اللَّه تعالى لكان مستحقًا له، لاحتمال أن يعفو اللَّه عنه كرمًا منه وفضلًا (¬1). والتعريف الأول يتفق مع التعريفات السابقة للإيجاب والندب والكراهة والإباحة والتحريم من حيث الحقيقة والماهية، والتعريف الثاني من حيث العوارض والصفات التي تميزه عن غيره، وتظهر به حقيقته. وحكم الواجب -كما سبق بيانه- أنه يجب القيام به، ويكفر منكره إذا ثبت بدليل شرعي، وأن فاعله يستحق الثواب وتاركه يستحق العقاب (¬2). الأساليب التي تفيد الوجوب: يثبت الواجب بخطاب اللَّه تعالى بالاتفاق، ولكن الشارع الكريم استعمل عدة أساليب، يدل كل منها على الطلب الحتمي الذي يفيد ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 90، نهاية السول: 1 ص 55، 56. (¬2) يقول الإمام الشاطبي: وإذا كان واجبًا بالجزء، فهو كذلك بالكل من باب أولى، (الموافقات، له: 1 ص 80) أي من ترك الظهر يستحق العقاب، ومن ترك كل صلاة فيستحق العقاب بالأولى.

الإيجاب (¬1)، وذلك لبيان إعجاز القرآن باختلاف الصيغ، حتى لا يكثر تكرار اللفظ الواحد عدة مرات، لأن النفوس تسأم التكرار، والأساليب التي تدل على الواجب بعضها حقيقة، وبعضها مجاز، وأهمها هي: 1 - فعل الأمر، مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة 110]، وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]. 2 - المصدر النائب عن الفعل، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، فلفظ ضرب مصدر ناب عن فعل الضرب. 3 - الفعل المضارع المقترن بلام الأمر، مثل قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]. 4 - اسم الفعل، مثل مَهْ وعليكم، مثل قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، أي الزموا أنفسكم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْ، عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن اللَّه لا يمل حتى تملوا" (¬2). 5 - التصريح بلفظ الأمر، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. 6 - أساليب اللغة العربية الأخرى التي تستعمل للدلالة على الطلب الجازم مجازًا، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]. ¬

_ (¬1) مباحث الحكم، مدكور: ص 68، أصول الفقه، خلاف: 119، منهج التربية، محمد قطب: ص 235، المسودة في أصول الفقه: ص 42، المعتمد: 1 ص 385، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية: ص 294، الإمام في أدلة الأحكام، للعز بن عبد السلام: ص 87 وما بعدها. (¬2) رواه الطبراني عن عمران بن حصين.

أقسام الواجب

7 - ترتيب العقوبة من اللَّه على تارك الفعل، أو التهديد بها أو الوعيد الشديد على تاركه، سواء كانت العقوبة في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من وجدَ سَعَةً ولم يضح فلا يقرب مسجدنا" (¬1)، فهذا الوعيد لا يكون إلا بترك الواجب، فالأضحية واجبة عند البعض كالحنفية. 8 - التصريح بلفظ وجب ويجب، وفرض، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - عن رمضان: "إن اللَّه فرض عليكم صيامه". فالإيجاب إما أن يكون بفعل الأمر أو طلب الأمر، وإما أن يكون بصيغة الطلب التي تدل على التحتيم، وإما أن يكون بالعقوبة أو بالتهديد بها على التارك، ويكون فعل المكلف في هذه الحالات واجبًا عليه. أقسام الواجب: ينقسم الواجب أربعة تقسيمات باعتبارات مختلفة، فينقسم باعتبار الوقت إلى واجب مؤقت وواجب مطلق، وينقسم باعتبار المقدار المطلوب إلى واجب محدد وواجب غير محدد، وينقسم باعتبار المكلف إلى واجب عيني وواجب كفائي، وينقسم باعتبار الفعل المأمور به إلى واجب معين وواجب مخير، وقد ينقسم القسم الواحد إلى عدة أنواع، وإليك التفصيل: التقسيم الأول باعتبار الوقت: ينقسم الواجب من جهة وقت أدائه إلى قسمين واجب مؤقت وواجب مطلق عن التوقيت. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم مرفوعًا عن أبي هريرة وصححه.

أولا: الواجب المؤقت

أولًا: الواجب المؤقت: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبًا حتمًا في وقت معين، كالصلاة وصوم رمضان والحج. فالوقت جزء من الواجب، ولا يلتزم المكلف بالواجب إلا بعد دخول الوقت، ولا يصح أداؤه غالبًا إلا في وقته المحدد له، بدون تقديم ولا تأخير، فإن قدمه عن الوقت فإنه باطل، وإن أخره عن وقته بدون عذر أثم، ولذا قال العلماء: الواجب في الصلاة واجبان، وللمؤدي أجران، واجب الأداء وواجب الوقت، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103]، وكذا الصيام فمن صام في رمضان فله أجران أجر الصيام وأجر فضيلة الشهر المبارك، ومن فعل الواجب في غير وقته فقد قام بأحد الواجبين وترك الواجب الآخر، وله أجر في الأول ويستحق الإثم على ترك الثاني إذا كان بغير عذر (¬1). ثانيًا: الواجب المطلق عن الوقت: وهو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبًا حتمًا مطلقًا عن الوقت، مثل الكفارة الواجبة والنذور المطلقة، فمن حلف يمينًا وحنث، أو نذر ولم يقيد نذره بوقت، فليس لفعله وقت معين، فإن شاء كفَّر عن يمينه وأدى نذره فورًا، وإن شاء أخره إلى الوقت الذي يريده، وكذا الحج في العمر عند الشافعية، وقضاء رمضان عند الحنفية (¬2). ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 1 ص 188، التلويح على التوضيح: 2 ص 188، الموافقات: 1 ص 93، أصول الفقه، خلاف: ص 121، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1 ص 237، 241. (¬2) نهاية السول: 1 ص 84، تيسير التحرير: 1 ص 187، التلويح: 2 ص 188، مباحث الحكم: ص 70، ودفع الزكاة عند الحنفية والشافعية واجب على الفور، وفي قول =

تقسيم الواجب المؤقت

ويطلق الفقهاء على الواجب المطلق اصطلاح واجب على التراخي، فيجوز للمكلف أن يفعله في أي وقت شاء دون أن يترتب عليه إثم في التأخير، ولا يسمى فعله أداء ولا قضاء (¬1). والفائدة من هذا التقسيم أن الأول يثبت في الذمة، فإذا انقضى الوقت ولم يقم المكلف به ثبت في ذمته، وصارت الذمة مشغولة به حتى يقضى، أما الثاني فلا يثبت في الذمة، لأنه لم يمض وقته لأنه غير مؤقت. ويتفرع عن هذا التقسيم كلام طويل عن الواجب المؤقت، ونذكر ناحيتين فقط، الأولى: من ناحية اتساع الوقت له، والثانية: من ناحية أدائه في وقته أو خارجه. تقسيم الواجب المؤقت: ينقسم الواجب المؤقت باعتبارين مختلفين: أ- باعتبار ارتباطه بالوقت. ب- باعتبار فعله والإتيان به. الأول: ارتباط الواجب المؤقت بالوقت: ينقسم الواجب المؤقت بحسب ارتباطه بالوقت إلى ثلاثة أنواع: واجب مضيق، وواجب موسع، وواجب ذي شبهين (¬2). ¬

_ = على التراخي، والحج واجب على التراخي عند الشافعية والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن، وواجب على الفور عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك وأحمد وبعض الشافعية، انظر المستصفى 1 ص 95، المغني: 2 ص 515، حاشية ابن عابدين: 2 ص 271، مجلة الأزهر: ص 1119، عدد يناير 1985 م، أدب القضاء، ابن أبي الدم: ص 199، المهذب: 1/ 140. (¬1) نهاية السول، المرجع السابق، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 48، أصول الفقه، خلاف: ص 121. (¬2) أضاف البيضاوي قسمًا رابعًا للواجب المؤقت وهو الواجب الذي يقل وقته عن =

الواجب المؤقت بوقت مضيق

أولًا: الواجب المؤقت بوقت مضيق: هو الواجب المؤقت الذي يستغرق فعله جميع الوقت المحدد له، والوقت معيار له، فلا يسع واجبًا آخر معه من جنسه، مثل الصيام في شهر رمضان، فالصيام يستغرق جميع الشهو، ولا يستطيع المكلف أن يصوم في شهر رمضان تطوعًا أو نذرًا أو قضاء، لأن الوقت بقدر الواجب فلا يزيد عنه ولا ينقص (¬1)، ووقته سبب لوجوبه، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. الواجب المؤقت بوقت موسع: وهو الواجب المؤقت الذي يتسع وقته لأدائه ولأداء غيره من جنسه، فالوقت أوسع من الواجب، مثل الصلوات الواجبة المؤقتة بأوقات معينة، فإن وقت كل منها يتسع لأداء الفرض وأداء غيره من الصلوات الأخرى، ويستطيع المكلف أن يصلي في وقت الظهر فرض الظهر وسننه ونوافله وما يرغب من التطوع، وأن يقضي فرضًا آخر عليه (¬2). ¬

_ = فعله، وهذا لا يجوز التكليف به عند من لا يجوز التكليف بالمحال إلا أن يكون بغرض القضاء فيجوز، كوجوب الظهر مثلًا على من زال عذره قبل آخر الوقت بمقدار تكبيرة مثلًا، (انظر نهاية السول: 1 ص 112، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 104، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 60، القواعد والفوائد الأصولية: ص 61، أصول السرخسي: 1 ص 30، التوضيح: 2 ص 188، إرشاد الفحول: ص 6). (¬1) يطلق الحنفية على الواجب المضيق اسم المعيار، لأن الواجب يقدر بمقدار الوقت، انظر تيسير التحرير: 2 ص 207، نهاية السول: 1 ص 112، المستصفى: 1 ص 69، فواتح الرحموت: 1 ص 69، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 60. (¬2) يطلق الحنفية على الواجب الموسع اسم الظرف أي الوعاء، لأن الظرف يضم أجزاء الموضوع سواء امتلأ أم لا، انظر التوضيح: 2 ص 189، تيسير التحرير: 1 ص 188، المستصفى: 1 ص 69، فواتح الرحموت: 1 ص 69، أصول الفقه، خلاف: ص 120.

واتفق العلماء في الواجب الموسع على أن وقته سبب لوجوبه، فوقت دلوك الشمس سبب لوجوب الظهر، ولا تجب الصلاة قبل دخول وقته، لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78]. وذهب جمهور الأصوليين إلى أن جميع وقت الظهر وقت لأدائه، والمكلف مخير في الأداء في أي جزء منه، وأن الشارع وسعه على المكلف، خلافًا للحنفية الذين يرون أن الوقت هو الجزء المتصل بالأداء لعدم إمكان جعل الوقت كله سببًا للأداء، وعدم إمكان تعيين جزء خاص منه، فربط الواجب بوقت الأداء، فإن لم يؤده المكلف انحصر الواجب في الجزء الأخير من الوقت (¬1). والواجب الموسع ينقلب إلى واجب مضيق إذا غلب على ظن المكلف العجز عن أداء الواجب طوال وقته، كمن ظن الموت بالإعدام بعد فترة من دخول الوقت، وأنه لن يعيش إلى آخر الوقت الموسع، فيصبح الموسع مضيقًا عليه ويجب أداؤه فورًا، ومثل إذا اعتادت المرأة أن ترى الحيض بعد دخول الوقت بفترة تستطيع فيها الصلاة فيجب عليها الأداء فورًا، وإن أخرت فهي آثمة. فإن لم يصلِّ المكلف في مثل هذه الحالة ولم يُعدَمْ، أو لم يأت الحيض، ثم أدى الواجب، فاختلف العلماء فيه، فقال أكثرهم: يعتبر ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 37، تيسير التحرير: 1 ص 189، فواتح الرحموت: 1/ 73، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 105، الإحكام، الآمدي: 1 ص 98، التوضيح: 2 ص 205، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 60، التبصرة للشيرازي: ص 60، لكن يرى أكثر الجمهور أن الواجب تعلق بأول الوقت، ويجب على المكلف أداؤه فورًا، أو العزم عليه خلال الوقت، انظر: شرح الكوكب المنير: 1/ 369، 371، وقارن ما قاله السيوطي في الأشباه والنظائر: ص 13.

الواجب المؤقت ذو الشبهين

فعله أداء لبيان خطأ ظنه (¬1)، وقال بعضهم وهو الباقلاني والفراء والحسين: يعتبر فعله قضاء، لأن الوقت صار مضيقًا، فإن أخر فهو قضاء، لكنهم اتفقوا على أنه آثم في التأخير؛ لغلبة الظن بضيق الوقت (¬2). ثالثًا: الواجب المؤقت ذو الشبهين: وهو الواجب الذي لا يسع غيره من جنسه، ولكن لا يستغرق فعله كل الوقت المحدد له، مثل الحج، فإن أشهر الحج تسع فريضة الحج، ولا تسع حجًّا آخر في نفس العام، ولكن أعمال الحج لا تستغرق جميع أشهر الحج، فيمكن أداء أعمال الحج عدة مرات وقت الحج، ولكن لا يحسبها الشارع إلا حجًّا واحدًا، فيمكن الوقوف في عرفة عدة مرات في يوم عرفة، ويمكن للحاج أن يطوف أكثر من مرة، وأن يسعى مرارًا، وأن يرمي الجمار، وغير ذلك من أعمال الحج، فالوقت يسع الواجب وزيادة من جهة، ولا يسع غيره من جنسه من جهة أخرى، ولذا سمي ذا الشبهين (¬3). ويرى بعض العلماء أن الحج واجب غير مؤقت فهو واجب مطلق، لأنه يجب على المكلف على التراخي طوال العمر، ولكن إذا أراد المكلف أداءه في سنة معينة فهو محدد بأشهر معينة، ومن هنا فالحج واجب ذو شبهين، فهو يشبه الواجب المقيد من جهة، ويشبه الواجب المطلق من جهة أخرى (¬4). ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر، السيوطي: ص 157، ط الحلبي. (¬2) مختصر ابن الحاجب: ص 38، نهاية السول: 1 ص 87، فواتح الرحموت: 1 ص 86، الإحكام، الآمدي: 1 ص 102، القواعد والفوائد الأصولية: ص 82. (¬3) تيسير التحرير: 2 ص 120، فواتح الرحموت: 1 ص 72، أصول السرخسي: 1 ص 42، التلويح على التوضيح: 2 ص 216، أصول الفقه، خلاف: ص 121. (¬4) التلويح على التوضيح: 2 ص 216.

فائدة تقسيم الواجب المؤقت إلى مضيق وموسع وذي شبهين

فائدة تقسيم الواجب المؤقت إلى مضيق وموسع وذي شبهين: وينتج عن هذا التقسيم عدة نتائج، أهمها حكم تعيين النية في العبادات، واعتبار الوقت سببًا أو شرطًا في الواجب المؤقت والموسع، ونقتصر على مسألة النية. اتفق العلماء على أن المكلف يجب أن يعين الواجب الموسع بالنية حين أدائه، وإذا لم يعينه فلا يسقط عنه الواجب الموسع، لأن الوقت يسعه ويسع غيره من جنسه فلا يقع الأداء عن الواجب إلا بالنية كمن صلى أربع ركعات في وقت الظهر، ولم يعين فريضة الظهر، فتقع نفلًا، ولا تبرأ ذمته من الواجب، وإن نوى فريضة الظهر صح أداؤه، وإن نوى تطوعًا وقعت تطوعًا (¬1). أما الواجب المضيق فقد اتفق جمهور العلماء على صحة أدائه بالنية مطلقًا سواء عين أم لم يعين، كمن نوى مطلق الصوم في شهر رمضان فيصح صومه ويقع عن رمضان، وأن مجرد النية تنصرف إلى الواجب، لأن الوقت محدد له ولا يسع غيره (¬2). ولكن العلماء اختلفوا في حالة النية المخالفة كمن نوى التطوع أو النذر في رمضان، فقال الحنفية يقع الصوم عن رمضان بالنية المباينة، ولا عبرة لتعيينه المخالف، لأن وقت الواجب المضيق متعين له، ولا يسع غيره من جنسه، فينصرف الفعل إليه عند الإطلاق، وأن النية المخالفة باطلة، لأنها تخالف تعيين الشارع، فيقع الفعل أيضًا عن ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، أصول السرخسي: 1 ص 36، أصول الفقه، خلاف: ص 121. (¬2) وقال أكثر الشافعية بوجوب تعيين النية في رمضان خلافًا لأبي عبد اللَّه الحليمي الشافعي الذي قال: يصح صوم رمضان بنية مطلقة، قال النووي: "هذا الوجه شاذ مردود". انظر المجموع: 6 ص 328، مغني المحتاج: 1 ص 424، فواتح الرحموت: 1 ص 71.

الواجب المضيق، وبعبارة مختصرة قال الحنفية: الواجب المضيق يختلف عن الواجب الموسع (¬1). وقال جمهور العلماء: لا تصح النية المخالفة، ولا يقع الصوم عن رمضان (¬2)، لأن المكلف قصد صيام النفل، وصرح بهذه النية، وجاهر بعدم رغبته في صوم رمضان، فإن صحت النية فتقع عن النفل، وإن بطلت وقع الفعل بدون نية فلا قيمة له، لأن النية شرط أساسي في العبادات (¬3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬4)، وأن الفعل إن كان عن رمضان مع نية غيره فيكون الصوم جبرًا على المكلف، وهذا ينافي صحة الأداء (¬5). ورجح المحققون في المذهب الحنفي رأي الجمهور، وأن الحق معهم للحديث السابق (¬6). أما الواجب المؤقت ذو الشبهين فإنه يقع صحيحًا بمطلق النية كالواجب المضيق، كمن نوى الحج مطلقًا ولم يبين أنه الفريضة أم النفل فإنه يقع عن الواجب، لأن الغالب أن يبدأ الإنسان بما يجب ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 2 ص 207، فواتح الرحموت: 1 ص 69، أصول السرخسي: 1 ص 36، التوضيح: 1 ص 209، أصول الفقه، خلاف: ص 121، أبحاث في علم أصول الفقه: ص 98. (¬2) قال الشافعية: لا يصح صومه عن رمضان، ولا يصح عما نواه (المهذب 2/ 632، ط محققة، المجموع: 6/ 333). (¬3) وهذا قول الشافعية، فقالوا: يتعين رمضان لصوم رمضان، فلا يصح فيه غيره، فلو نوى .. كفارة أو نذرًا أو تطوعًا أو أطلق الصوم لم تصح نيته، ولا يصح صومه عما نواه، ولا عن رمضان، انظر المجموع للنووي: 6 ص 288، 333، 334، المهذب: 2/ 632، ط محققة. (¬4) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومالك عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. (¬5) تيسير التحرير 2 ص 207، أصول السرخسي: 1 ص 38. (¬6) فواتح الرحموت: 1 ص 69، تيسير التحرير: 2 ص 208، الموافقات: 1 ص 91.

الثاني: أداء الواجب المؤقت

عليه (¬1)، وإن نوى التطوع وقصد خلاف الواجب فإن فعله يقع تطوعًا حسب نيته عند الحنفية كالواجب الموسع، وقال الشافعية: ينصرف إلى الفرض (¬2)، حتى قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "لو تكلف غير المستطيع الحج وقع عن فرض الإسلام، ولو نوى غيره وقع عنه" (¬3). الثاني: أداء الواجب المؤقت: قلنا: إن الواجب المؤقت هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبًا حتمًا في وقت معين، وإن الوقت فيه واجب، ويتفرع عن هذا أن المكلف إن قام بالواجب في وقته المحدد له والمعين من قبل الشارع كان فعله أداء، وإن قام به بعد خروج الوقت كان فعله قضاء، وإن أداه في وقته غير كامل، ثم أعاده مرة ثانية في نفس الوقت كان فعله إعادة، وهذا تقسيم للواجب المؤقت باعتبار فعله والإتيان به، فما هو الأداء والقضاء والإعادة (¬4)؟. أولًا: الأداء: عرف ابن الحاجب الأداء بأنه: فعل الواجب في وقته المقدَّر له شرعًا أولًا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المجموع، للنووي: 7 ص 129، 303، مغني المحتاج: 1 ص 476. (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 211، فواتح الرحموت: 1 ص 72، أصول السرخسي: 1 ص 43، 44، مغني المحتاج: 1 ص 477، 478، المهذب: 1/ 199، 200. (¬3) المجموع: 7/ 18، 19، انظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 150. (¬4) أضاف الشافعية قسمًا رابعًا هو التعجيل، وذلك في بعض الحالات التي أجاز الشارع فيها أداء الواجب قبل دخول وقته مثل إخراج زكاة الفطر قبل انتهاء رمضان، ودفع الزكاة قبل حولان الحول، ويسمى فعل الواجب تعجيلًا (انظر نهاية السول: 1 ص 84، التلويح: 2 ص 191، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 1 ص 241، الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 395). (¬5) مختصر ابن الحاجب: ص 35، وانظر: نهاية السول: 1 ص 84، فواتح الرحموت: =

1 - فعل الواجب: هو تنفيذ الواجب وإيقاعه، ويدخل فيه جميع الواجبات سواء أكانت مؤقتة أم لا، ويخرج منه المباح والمندوب، لأنها ليست واجبة. وذهب بعض الأصوليين إلى استبدال هذا اللفظ بآخر، وهو فعل العبادات أو فعل المأمورات، ليشمل الأداءُ الواجبَ المؤقت وغيرَ المؤقت، أو الواجب والمندوب (¬1). 2 - في وقته: قيد أول يخرج الواجب المطلق الذي ليس له وقت كالنذور والعمرة والكفارات، فإن فعلها يعتبر أداء في جميع الأوقات، أو لا يوصف بأداء ولا قضاء. 3 - المقدَّر له شرعًا: قيد ثانٍ، أي الوقت المحدد للواجب من الشارع الحكيم، أما إذا حدَّدَ وقتها غيرُ الشارع فلا يعتبر، كما إذا حدد الإمام وقتًا للزكاة، فلا ينطبق هذا التعريف عليه، ويسمى فعل المكلف أداء سواء دفع الزكاة في الوقت أم خارجه (¬2). 4 - أولًا: أي لأول مرة، بأن يؤدي الواجب أداء صحيحًا لأول مرة، فإن أداه مرة ثانية فيعتبر إعادة، وإن فعله ناقصًا، فلا يعتبر ولا تبرأ ذمته منه، ويجب إعادته، هذا إذا كان لفظ "أولًا" حالًا من "فعل الواجب"، ¬

_ = 1 ص 85، حاشية البناني: 1 ص 108، التلويح: 2 ص 74، أصول الفقه، خلاف: ص 120. كشف الأسرار: 1 ص 134. (¬1) التعريفات السابقة لأداء الواجب، وهو ما يتعلق بموضوع البحث، أما تعريف الأداء بشكل عام فهو تسليم عين الثابت بالأمر، وهذا يشمل الواجب والمندوب، فإن القيام بالفعل كما طلبه الشارع يعتبر أداء، ويقابله القضاء وهو تسليم مثل الثابت بالأمر، (انظر التلويح: 2 ص 75، أصول السرخسي: 1 ص 44، أبحاث في علم أصول الفقه: ص 105). (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 198.

ثانيا: الإعادة

أما إن كان حالًا من الوقت فيكون الأداء في الوقت المحدد له أولًا أي في الوقت الأول، ويخرج الأداء في الوقت الثاني المقدر له شرعًا، مثل قضاء شهر رمضان في نفس العام، فهذا وقت ثان لرمضان عن الشافعية والمالكية (¬1). ويُكتفى بوقوع أول الواجب في الوقت المحدد مثل تكبيرة الإحرام عند الحنفية، أو الركعة الأولى من الصلاة عند الشافعية (¬2). ثانيًا: الإعادة: وهو فعل الواجب في وقته المحدد له شرعًا ثانيًا، بعد سبق الأداء، وعرفه ابن الحاجب بأنه "ما فعل في وقت الأداء ثانيًا لخلل، وقيل لعذر" (¬3). وفائدة الإعادة أن المكلف أدى الواجب ناقصًا عن الوجه المطلوب شرعًا، فإذا أراد جبر هذا النقص فيؤدي الواجب مرة ثانية مستكملًا نقصه، ومستفيدًا من الأجر والثواب في الزيادة، وتقع الإعادة لعذر ولغير عذر، لتحصيل فضيلة مطلقًا زيادة في الثواب، كالجماعة في الصلاة بعد الأداء منفردًا، أو في جماعة ثانية. ¬

_ (¬1) نهاية السول: 1 ص 84. (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 198، فواتح الرحموت: 1 ص 85، حاشية البناني: 1 ص 108. (¬3) مختصر ابن الحاجب، ص 35، وعرفها الكمال بأنه فعل مثل الواجب في الوقت لخلل غير الفساد، تيسير التحرير: 2 ص 199، وانظر فواتح الرحموت: 1 ص 85، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 117، التلويح: 2 ص 74. وعرفها الشيخ زكريا الأنصاري بقوله: "هي فعل العبادة في وقتها ثانيًا مطلقًا" غاية الوصول: ص 18، أما إذا كان الأداء الأول فاسدًا فلا يعتبر، وهو غير موجود شرعًا، ولا يسمى الفعل الثاني إعادة إلا في اللغة والعرف.

ثالثا: القضاء

والإعادة ليست مرتبطة بالواجب المؤقت، فإن بعض الواجبات المؤقتة لا يمكن فيها الإعادة كالواجب المؤقت المضيق، فلا يجري فيه تعجيل ولا إعادة، لأن وقته لا يتسع إلا للأداء، فإن فات الوقت فهو قضاء، كما أن الإعادة قد تتحقق في الواجب المطلق عن الوقت، كمن صام نذرًا مطلقًا أو صام للكفارة، وارتكب فيه محرمًا، أو أطعم عشرة مساكين في الكفارة وشك في إشباعهم، فأراد الإعادة للاحتياط فيكون فعله إعادة لتدارك الخلل في أداء الواجب المطلق (¬1)، كما يرى بعض العلماء صحة إعادة المندوب. ثالثًا: القضاء: عرفه ابن الحاجب بقوله: هو فعل الواجب بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق له وجوب مطلقًا (¬2). فمتى مضى الوقت المحدد للواجب فقد ثبت في الذمة، ويجب على المكلف قضاؤه، سواء أخره عمدًا أم سهوًا، وسواء أكان متمكنًا من فعله كالمسافر والمريض اللذين يفطران في رمضان، أم غير متمكن شرعًا كالحائض في رمضان، أم غير متمكن عقلًا كالنائم عن الصلاة (¬3)، ويدخل في القضاء من مات فحج عنه وليه فإنه يكون قضاء، لأن الحج واجب في العمر، وقد فات العمر (¬4). ¬

_ (¬1) مباحث الحكم، مدكور: ص 77. (¬2) مختصر ابن الحاجب: ص 35، وانظر: نهاية السول: 1 ص 85، تيسير التحرير: 2 ص 199، فواتح الرحموت: 1 ص 85، حاشية البناني: 1 ص 110، الإحكام، الآمدي: 1 ص 103، التلويح: 2 ص 74، كشف الأسرار: 1 ص 134، أصول السرخسي: 1 ص 44، التبصرة: ص 67. (¬3) المراجع السابقة، وعرفه النووي فقال: "هو فعل العبادة بعد وقتها المحدد" المجموع: 6/ 118. (¬4) نهاية السول: 1 ص 85، وانظر أنواع القضاء في أصول السرخسي: 1 ص 49.

التقسيم الثاني للواجب باعتبار المقدار

اتفق الفقهاء على وجوب قضاء الواجبات التي، يؤدها المكلف في وقتها المحدد لها شرعًا، كالصلاة والصيام، سواء أكان عدم الأداء لعذر أم لغير عذر، ثم اختلفوا في دليل قضاء الواجب، فذهب جمهور الأصوليين إلى أن القضاء يثبت بدليل جديد غير دليل الواجب لأن الواجب المؤقت -كما سبق- واجبان، واجب الفعل وواجب الوقت، وطلب فعله يشمل الأمرين أي أداء الواجب في الوقت المحدد، فإذا فات الوقت فلا بد من دليل جديد للإيجاب، لأن الدليل الأول لا يتضمن القضاء، بينما ذهب الحنفية والحنابلة إلى وجوب القضاء بالدليل الذي أوجب الأداء لشغل الذمة به، وأنه لا تبرأ الذمة إلا بالأداء أو القضاء، فشملها الدليل، وتقييده بالوقت للمصلحة في الثواب والأجر في شرف الوقت (¬1). ونختم الكلام عن تقسيم الواجب باعتبار الوقت، وأنواع الواجب المؤقت، لننتقل إلى التقسيم الثاني. التقسيم الثاني للواجب باعتبار المقدار: ينقسم الواجب من حيث تقديره بمقدار معين أو عدم تقديره من الشارع إلى قسمين: واجب محدد وواجب غير محدد، وذلك أن الواجب إما أن يكون مقدرًا من الشارع بحد معين وهو الواجب المحدد، وإما أن يكون غير مقدر من الشارع وهو الواجب غير المحدد. أولًا: الواجب المحدد: وهو الواجب الذي حدد الشارع له مقدارًا معينًا، مثل الزكاة ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 2 ص 200، فواتح الرحموت: 1 ص 88، التلويح: 2 ص 79، أصول السرخسي: 1 ص 44، التبصرة: 64.

ثانيا: الواجب غير المحدد

والصلاة والحدود والكفارات، فقد بيَّن الشارع مقدار الزكاة في كل نوع، وذكر عدد الصلوات وركعاتها، ونص على مقدار الكفارة في اليمين والظهار، وغير ذلك مما حدده الشارع الحكيم، فلا يجوز تغييره (¬1). ثانيًا: الواجب غير المحدد: وهو الواجب الذي لم يحدد الشارع مقداره بل طلبه من المكلف بغير تحديد (¬2)، وترك ذلك لأهل الذكر من العلماء وأهل الحل والعقد من هذه الأمة، مثل مقدار التعزير على الجرائم التي نهى الشارع عنها، ولم يحدد مقدار العقوبة لها، لأن القصد تحقيق العدالة، وهذا يختلف بحسب الأشخاص والأزمان والأماكن والظروف، مثل مقدار النفقة الواجبة للزوجة والأقارب، ومثل الإنفاق في سبيل اللَّه وإطعام الجائع والدفع بالتي هي أحسن، والدعوة في سبيل اللَّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المقصود فيها سد الحاجة وتحقيق الهدف منها، وهذا يختلف أيضًا باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن. ويترتب على هذا التقسيم أن الواجب المحدد يثبت دينًا في الذمة، ويجب أداؤه في وقته، أو قضلؤه بعد وقته، أما الواجب غير المحدد فلا يثبت دينًا في الذمة إلا بعد تعيينه من المكلف أو من السلطة المنوط بها التعيين. ومثال ذلك النفقة الواجبة للزوجة والأقارب، قال الحنفية: إنها واجب غير محدد، وبالتالي فلا تشغل الذمة بها إلا بعد تعيينها من القضاء أو بالتراضي، ولا يحق للزوجة أو القريب أن يطالب بها عن ¬

_ (¬1) الموافقات: 1 ص 97، أصول الفقه، خلاف: ص 123، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 58. (¬2) الموافقات: 1 ص 97، مباحث الحكم: ص 81.

التقسيم [الثالث] باعتبار المكلف

الفترة التي سبقت القضاء أو التراضي. وقال الجمهور: إنها واجب محدد بحال الزوج والقريب يسرًا وعسرًا، وبما يكفي لسد الحاجة، ولذا فإنها تثبت في الذمة، وتصح المطالبة بها قبل القضاء أو التراضي، لأن القضاء أظهر مقدارها فقط (¬1). والحكمة من هذا التقسيم أنه يعطي نموذجًا من النماذج التي تدل على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وأن المشرع الحكيم حدد بعض الواجبات نظرًا لأهميتها، لأنها أمور جوهرية في الحياة لا يصح التنازع فيها ولا الاختلاف عليها، لأنها تمس كيان الأمة في دينها ودنياها، أو لأن العقل البشري يعجز عن بيان المقدار المجدي فيها كعدد الصلوات ومقدار الزكاة والحدود، بينما ترك الشارع الحكيم تحديد بعض الواجبات الأخرى، وخول أهل الذكر بها، ليكون مقدارها متناسبًا مع الظروف والناس والأحوال التي تحيط بصاحبها، ولجريان التطور والتجدد واختلاف البيئات والنفوس (¬2). التقسيم [الثالث] (*) باعتبار المكلف: ينقسم الواجب من جهة المكلف بأدائه إلى قسمين: واجب عيني وواجب كفائي. ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 34، أصول الفقه، خلاف: ص 125، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 59. (¬2) أبحاث في علم أصول الفقه: ص 113، أصول الفقه، الخضري: ص 47، المدخل للفقه الإسلامي، للمؤلف: ص 28، ويجب التنبيه إلى خطأ يقع فيه كثيرون بالنقل عن الشافعية الذين يفرقون في النفقات، فهم يقولون: إن نفقة الزوجة فقط تثبت في الذمة، أما نفقة الأقارب فلا تثبت إلا بحكم القاضي، انظر: المهذب: 4/ 632، ط محققة. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوع (الثاني)

أولا: الواجب العيني

أولًا: الواجب العيني: وهو ما طلب الشارع فعله من كل فرد من أفراد المكلفين (¬1)، وسمي واجبًا عينيًا لأن خطاب الشارع يتوجه إلى كل مكلف بعينه، ولا تبرأ ذمة المكلف منه إلا بأدائه بنفسه، ولا يجزئه قيام مكلف آخر به، فلا بد من أدائه من جميع المكلفين كالصلاة والزكاة والحج والوفاء واجتناب الخمر والميسر. وحكمه أن كل مكلف ملتزم به، وأن ذمته مشغولة به حتى يؤديه بنفسه، فإن قام به فله الأجر والثواب، وإن تركه فهو آثم وعليه العقاب (¬2). ويقصد الشارع من هذا الواجب أمرين: القيام بالواجب من جهة، والتزام كل فرد بعينه به من جهة أخرى (¬3). ثانيًا: الواجب الكفائي: وهو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد بعينه، فإن قام به بعض المكلفين فقد تأدى الواجب وسقط الإثم عن الباقين، وسمي واجبًا كفائيًا لأن قيام بعض المكلفين به يكفي للوصول إلى مقصد الشارع، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد السلام، ¬

_ (¬1) نهاية السول: 1 ص 117، أصول الفقه، خلاف: ص 122، ويقول الإسنوي: إن فرض العين قد يتناول واحدًا معينًا كالضحى والتهجد وغيرها من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظر الموافقات: 1 ص 100. (¬2) أصول الفقه، خلاف: ص 122. (¬3) وقد يكون الواجب العيني مطلوبًا من فرد واحد بعينه، وذلك في حالات انقلاب الواجب الكفائي إلى واجب عيني، كطبيب واحد في بلد، وسباح واحد أمام الغريق، وعالم واحد يصلح للقضاء وتتوفر فيه شروطه، فكل مهم يجب عليه بعينه القيام بالعمل، وهذا واجب عيني عليه.

والجهاد واكتساب أنواع العلوم المختلفة وأنواع الصنائع وصلاة الجنازة ... وغيرها (¬1). وحكمه أنه يتعلق بكل المكلفين عند الجمهور، فالقادر عليه يقوم بنفسه به، وغير القادر يحث غيره على القيام به، لأن الخطاب موجه لكل مكلف، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬2)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)} [التوبة: 123]، وإذا قام به بعضهم فقد برئت ذمة الجميع، وإن لم يؤده أحد أثم الجميع، لأن القادر لم يؤده، وغير القادر لم يحث عليه (¬3)، وهذا القسم يعطي صورة من صور التضامن في المجتمع المسلم. وفي قول بعض الأصوليين: إن الواجب الكفائي يتعلق ببعض المكلفين، وهو بعض مبهم أو معلوم عند اللَّه تعالى، ولا نعلمه، أو هو متعلق بالمشاهد لمقتضى الواجب، بدليل أن الواجب يسقط عن الكل بفعل البعض، ولو كان واجبًا على الكل لم يسقط، إلا بفعلهم، وردَّ عليهم الجمهور بأنه لا تلازم بين وجوب الفعل وبين سقوطه، لأن المقصود وجود الفعل في الواقع، وقد وجد، فلم تبق علة الوجوب (¬4). ويقصد الشارع من الواجب الكفائي القيام به فقط دون اعتبار للقائم به، ويتحقق مقصد المشرع متى قام به بعض المكلفين بدون تعيين، ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 35، نهاية السول: 1 ص 119، تيسير التحرير: 2 ص 213، الموافقات: 1 ص 100، فواتح الرحموت: 1 ص 63، الإحكام، الآمدي: 1 ص 94، الفروق، القرافي: 1 ص 116. (¬2) رواه ابن ماجه وابن عبد البر عن أنس. (¬3) المراجع السابقة في الهامش قبل السابق، الموافقات: 1 ص 112، الفروق: 1/ 116. (¬4) فواتح الرحموت: 1 ص 64، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 177.

التقسيم الرابع باعتبار الفعل المأمور به

فالمقصود من الواجب الكفائي وجود الفعل، وليس تكليف الأفراد به. فإذا وجدت هذه الواجبات الكفائية في الأمة فقد تحققت المصلحة المقصودة من تشريعها (¬1)، قال الإسنوي: لأن فعل البعض كان في تحصيل المقصود منه والخروج من عهدته (¬2). والواجب الكفائي إذا انحصر بشخص واحد صار واجبًا عينيًا ويجب عليه القيام به، مثل وجود عالم واحد للفتوى، وشاهد واحد في القضية، وطبيب واحد في البلدة، وسباح واحد أمام الغريق، ففي هذه الأمثلة تعين الواجب على كل منهم، وصار الواجب الكفائي واجبًا عينيًا عليهم (¬3). كما ينقلب الواجب الكفائي من جهة أخرى إلى واجب عيني على كل مسلم في بعض الحالات، كالجهاد في سبيل اللَّه، فهو واجب كفائي ولكن إذا تعرضت بلاد المسلمين للغزو أو الاعتداء، فيصبح الجهاد واجبًا عينيًا على كل مكلف قادر يستطيع حمل السلاح وحماية الوطن والذود عن حياضه، وإقامة حكم اللَّه وشرعه في الأرض. التقسيم الرابع باعتبار الفعل المأمور به: ينقسم الواجب من حيث نوع الفعل المطلوب القيام به إلى قسمين: واجب معين وواجب مخير. أولًا: الواجب المعين: وهو ما طلب الشارع فعله حتمًا بعينه، أي: إن الفعل مطلوب ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 2 ص 113، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 115، الفروق: 1 ص 116. (¬2) نهاية السول: 1 ص 118. (¬3) أصول الفقه، خلاف: ص 123، وانظر تفصيل حكم تحمل الشهادة وأدائها وانتقاله إلى واجب عيني في رسالتنا وسائل الإثبات: 1 ص 108 - 109.

ثانيا: الواجب المخير

بعينه، كالصلاة والصيام وثمن المبيع ورد المغصوب (¬1). وحكمه وجوب أداء هذا الفعل بعينه، وإن ذمة المكلف لا تبرأ إلا بأدائه، وإن الأمر متعلق بعين الواجب المعين. ثانيًا: الواجب المخير: وهو ما طلب الشارع فعله حتمًا من أمور معينة، كأحد خصال الكفارة وحكم الأسرى (¬2)، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، فاللَّه سبحانه وتعالى خير الحالف بين الإطعام أو الكساء أو تحرير الرقبة، ومثل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فالآية خيرت الإمام بين المن على الأسرى أو أخذ الفداء منهم وأضافت السنة: القتل والاسترقاق. وحكم الواجب المخيّر أن المكلف بالخيار في أن يخصص واحدًا من الأمور المخير فيها بالفعل، وتبرأ ذمته من الواجب بأداء أي واحد. وقال جمهور العلماء: إن الواجب المخير منصب على إحدى هذه المأمورات للقطع بصحة القول "أوجبت أحد هذه الأمور" فإن هذا القول لا يوجب جهالة مانعة من الامتثال لحصول التعيين بالفعل، وقال المعتزلة: إن الواجب يتعلق بجميع المأمورات المخير بينها، وفي قول ¬

_ (¬1) نهاية السول: 1 ص 56، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 59، أصول الفقه، خلاف: 125، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 91، مباحث الحكم: ص 83، الفروق: 3 ص 16، التبصرة: ص 70. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 66، المستصفى: 1 ص 67، الإحكام، لابن حزم: 1 ص 319، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 60، ويسمى هذا الواجب بالواجب المبهم عند كثير من الأصوليين.

مقدمة الواجب

عندهم: إن الواجب يتعلق بواحد معين عند اللَّه تعالى (¬1). والواجب المخير نوعان، نوع يجوز الجمع فيه بين الأمور المخير بينها، كخصال الكفارة، ونوع لا يجوز الجمع بين الأمور المخير بينها، مثل إذا تقدم إلى الخلافة عدة أشخاص فيجب على الأمة اختيار واحد منهم ليكون خليفة، ولا يجوز الجمع بينهم (¬2)، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" (¬3). وقد يتضيق الواجب المخير من عدة أفعال إلى فعلين مثلًا، أو يتعين بفعل واحد، فالحالف مثلًا مخير في كفارة اليمين بثلاثة أشياء، والآن مخير بين أمرين فقط، وهو الإطعام والكساء، بعد إلغاء نظام الرق عالميًّا، وكذلك فإن تخيير الحاكم في الأسرى تضيق بعد معاهدة جنيف في معاملة الأسرى بمنع القتل ومنع الاسترقاق. مقدمة الواجب: ونختم الكلام على الواجب بمسألة أصولية هامة يطلق عليها الأصوليون اصطلاح مقدمة الواجب، أو يعبرون عنها بعبارة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وقبل بيان هذه المسألة نقدم تمهيدًا لها في بيان أقسامها. أقسام مقدمة الواجب: المقدمة إما أن تكون مقدمة وجوب وهي التي يتعلق بها التكليف بالواجب، أي شغل الذمة به، كدخول الوقت بالنسبة للصلاة، فهو ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب، ص 36، نهاية السول: 1 ص 97، تيسير التحرير: 2 ص 212 فواتح الرحموت: 1 ص 66، الإحكام، الآمدي: 1 ص 94، المستصفى: 1 ص 68، التبصرة: ص 70. (¬2) تسهيل الوصول: ص 259، نهاية السول: 1 ص 96، فواتح الرحموت: 1 ص 66. (¬3) رواه مسلم في كتاب الإمارة 12 ص 242.

حكم مقدمة الواجب

مقدمة لوجوب الواجب في ذمة المكلف، وكالاستطاعة لوجوب الحج، وحولان الحول لوجوب الزكاة. وإما أن تكون مقدمة وجود وهي التي يتوقف عليها وجود الواجب بشكل صحيح، أي صحة تفريغ الذمة من الواجب، إما من جهة الشرع، كالوضوء بالنسبة للصلاة، فلا توجد الصلاة الصحيحة إلا بوجود الوضوء، والعدد بالنسبة لصلاة الجمعة، وإما من جهة العقل، كالسير وقطع المسافة للحج (¬1). كما تكون المقدمة إما سببًا للواجب، كالبلوغ ودخول الوقت للصلاة والصوم، والصيغة للعتق الواجب بنذر أو كفارة، والاعتداء والقتل للضمان والقصاص، وإما أن تكون شرطًا للواجب كالعقل للتكليف بالواجب، والقدرة للحج، والطهارة للصلاة (¬2). ثانيًا: حكم مقدمة الواجب: اتفق العلماء على أن مقدمة الوجوب ليست واجبة على المكلف لأنها ليست في مقدوره، مثل دخول الوقت والاستطاعة وحولان الحول (¬3). أما مقدمة الوجود فهي نوعان، نوع لا يقدر المكلف على فعله ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 18 وما بعدها، نهاية السول: 1 ص 127، مباحث الحكم، مدكور: 89، المستصفى: 1 ص 71، البرهان، للجويني: 1 ص 257. (¬2) السبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، والشرط هو الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، وسوف ندرس كلًّا منهما بالتفصيل في الفصل الثاني من هذا الباب، وانظر الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 103، نهاية السول: 1 ص 123، تيسير التحرير: 2 ص 115. (¬3) مباحث الحكم: ص 90، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 61، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 119، المستصفى: 1 ص 71.

فلا يجب عليه، كحضور العدد في صلاة الجمعة، ونوع يقدر المكلف على فعله، مثل صيام جزء من الليل حتى يكون صوم النهار الواجب صحيحًا، ومثل غسل جزء من الرأس، حتى يكون غسل الوجه الواجب في الوضوء صحيحًا، فهذا النوع واجب باتفاق العلماء (¬1)، وهو المقصود من مقدمة الواجب، وقاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". لكنهم اختلفوا في دليل الإيجاب، هل هو نفس دليل الواجب الأصلي، أم هو بدليل جديد؟ أي هل إيجاب الواجب يدل على إيجاب مقدمته أم لا يدل عليها، ولا بد من إيجاب جديد (¬2)، اختلفوا على عدة مذاهب نذكر اثنين منها: الأول: مذهب الجمهور وهو أن دليل الواجب يدل على وجوب المقدمة، سواء أكانت سببًا أم شرطًا، لأن التكليف بالواجب بدون التكليف بمقدمته يؤدي إلى التكليف بالمحال، وهو ممنوع، وأن السعي إلى تحصيل أسباب الواجب واجب، وأن السعي في تحصيل أسباب الحرام حرام، باتفاق، فكان دليل الواجب دليلًا للمقدمة. الثاني: وهو عكس الأول، وهو أن مقدمة الواجب لا تجب بإيجاب الواجب، وإنما تحتاج إلى إيجاب جديد، لأنه لو وجبت المقدمة بدليل الواجب الأول لوجب التصريح بها، مع أن المقدمة لا يصرح بها، أو لكانت واردة في ذهن المخاطب مع أنه كثيرًا ما يغفل عنها، فإثبات ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 120، المستصفى: 1 ص 71، فواتح الرحموت: 1 ص 95، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 61، مختصر ابن الحاجب: ص 38، تيسير التحرير: 2 ص 216. (¬2) يعبر عن ذلك أمير بادشاه بقوله: أي ما يتوقف عليه الواجب وجوبه بسبب وجوب ذلك الواجب، تيسير التحرير، له: 2 ص 216.

إيجاب المقدمة لشيء لا يقتضيه الخطاب فيكون باطلًا (¬1). وهناك آراء أخرى تفرق بين السبب والشرط، وبين الشرط الشرعي والشرط العقلي وغيره، وذلك أن عدم المشروط عند عدم الشرط إن كان منشؤه الشرع فهو شرط شرعي، كالطهارة بالنسبة للصلاة، وإن كان منشؤه العقل فهو شرط عقلي، مثل ترك ضد من أضداد المأمور به، كالأكل بالنسبة للصلاة، وإن كان منشؤه العادة فهو شرط عادي، كنصب السلم بالنسبة لصعود السطح، وغسل جزء من الرأس بالنسبة لغسل الوجه، فإن غسل الوجه لا ينفك عادة عن غسل جزء من الرأس (¬2). وتفصيل هذا الموضوع دقيق ولا طائل تحته، ولذا نكتفي بهذا الجزء منه، قال الآمدي: وبالجملة فالمسألة وعرة، والطرق ضيقة فليقنع بمثل هذا في المضيق (¬3). فائدة: يقول القرافي رحمه اللَّه تعالى: "الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة" (¬4). ¬

_ (¬1) مباحث الحكم: ص 91، المستصفى: 1 ص 72، فواتح الرحموت: 1 ص 95، الإحكام، الآمدي: 1 ص 104، مختصر ابن الحاجب: 1 ص 39، نهاية السول: 1 ص 120. (¬2) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 118. (¬3) الإحكام، له: 1 ص 14. (¬4) شرح تنقيح الفصول: ص 449.

المطلب الثاني في المندوب

المطلب الثاني في المندوب تعريف المندوب: المندوب أصله المندوب إليه، وحذف الجار والمجرور تخفيفًا وتسهيلًا، والمندوب في اللغة: المدعو إليه والمستحب، والندب: الدعاء إلى أمر مهم (¬1)، ومنه قول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا وفي الاصطلاح: نذكر تعريفين له -كما فعلنا في الواجب- أحدهما: يتعلق بالماهية في دليل الحكم، والثاني: يتعلق في أثر الخطاب بالمدح والذم أو بالثواب والعقاب. التعريف الأول: المندوب: هو ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم (¬2). ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 2 ص 819، القاموس المحيط: 1 ص 131. (¬2) عرف بعض الأصوليين المندوب بأنه الذي يكون فعله راجحًا في نظر الشارع، أي راجحًا على تركه، أو راجحًا طلبه بدون جزم، (انظر: إرشاد الفحول: ص 6، نهاية السول: 1 ص 40، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 80، 89، أصول الفقه، الخضري: ص 51).

التعريف الثاني

1 - ما: اسم موصول بمعنى الذي، صفة فعل المكلف، لأن المندوب هو الفعل الذي تعلق به الندب، والندب حكم شرعي يتعلق بأفعال المكلفين، ولفظ "ما" يشمل كل فعل يتعلق به أحد الأحكام الخمسة، ويخرج فعل غير المكلف كفعل اللَّه تعالى، فلا يوصف بالندب والإيجاب. 2 - طلب الشارع فعله: وذلك بخطاب اللَّه الاقتضائي، ويدخل في التعريف الواجب والمندوب، ويخرج المباح والمكروه والمحرم؛ لأن الشرع لم يطلب فعلها، وتخرج الأحكام الوضعية أيضًا. 3 - طلبًا غير جازم: يخرج الواجب بأنواعه، لأن الشارع طلبه طلبًا جازمًا، والطلب غير الجازم إما أن يكون صريحًا أو غير صريح، كما سنرى قريبًا. فالمندوب هو فعل المكلف الذي طلبه الشارع طلبًا غير جازم ولا حتمي. التعريف الثاني: عرف البيضاوي المندوب فقال: "هو ما يحمد فاعله ولايذم تاركه" (¬1). 1 - ما يحمد: ما اسم موصول صفة لفعل المكلف -كما سبق- الحمد لغة: الثناء بالجميل على فعل الجميل، والمراد به هنا الثواب من اللَّه تعالى، ويخرج من التعريف المباح، لأنه لا حمد فيه على الفعل، ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 57، منهاج الوصول: ص 5، نهاية السول: 1 ص 58، إرشاد الفحول: ص 6، المستصفى: 1 ص 66. كشف الأسرار: 2 ص 623، الإحكام، الآمدي: 1 ص 111، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 52، التلويح: 3 ص 78، الحدود في الأصول، الباجي: ص 55.

حكم المندوب

ولا حمد فيه على الترك. 2 - فاعله: قيد أول يخرج المكروه والحرام، فإنه يحمد تاركهما، وحمد الفاعل يدخل فيه الواجب والمندوب. 3 - ولا يذم تاركه: يخرج الواجب بأنواعه، لأن تارك الواجب مذموم، أما تارك المندوب فلا يذم ولا يعاقب، لأن الشارع تركه بدون جزم. وأضاف بعض العلماء لفظ "مطلقًا" على التعريف، أي لا يذم تاركه مطلقًا في جميع حالات الترك، لإخراج الواجب المخير، لأن المخاطب لا يذم على تركه في الجملة إذا فعل واحدًا من المأمورات، ولإخراج الواجب الموسع، لأن المكلف لا يذم على تركه في أول الوقت، فالذم في الواجب المخير بترك جميع المأمورات، والذم في الواجب الموسع بتركه حتى فوات الوقت (¬1)، ويخرج المباح لأنه لا يذم تاركه. وذهب كثير من الأصوليين إلى اختيار الجمع بين التعريفين في المندوب، فعرفه الآمدي بقوله: "هو المطلوب فعله شرعًا من غير ذم على تركه مطلقًا" (¬2). حكم المندوب: ويظهر حكم المندوب من التعريف الثاني، وهو أن فاعله يستحق الثواب والأجر من اللَّه تعالى، وتاركه لا يستحق العقاب. ويطلق العلماء على المندوب أسماء أخرى، كالسنة والنافلة ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 66، كشف الأسرار: 2 ص 623، الإحكام، الآمدي: 1 ص 111، نهاية السول: 1 ص 59. (¬2) الإحكام، له: 1 ص 111.

الأساليب التي تفيد الندب

والمرغب فيه والمستحب والإحسان، قال ابن السبكي: والمندوب والمستحب والتطوع والسنة مترادفة (¬1)، وخص بعض العلماء لفظ السنة بما واظب عليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كالوتر، والمستحب بما لم يواظب عليه، والتطوع باختيار بعض الأفعال اقتداء برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كاللبس والأوراد (¬2). الأساليب التي تفيد الندب: الأساليب التي تدل على الندب كثيرة، وأهمها هي: 1 - التعبير الصريح بلفظ يندب أو يسن، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان: "سننت لكم قيامه" (¬3). 2 - الطلب غير الجازم، وذلك بأسلوب الأمر السابق المقترن بقرينة لفظية تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب، وقد تكون القرينة قاعدة شرعية عامة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فلفظ {اكتبوه} أمر يقتضي الوجوب، وصرف من الوجوب إلى الندب بقرينة لاحقة في الآية بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، فكتابة الدَّيْن مندوب، لأن الدائن إن وثق بمدينه فلا حاجة لكتابة الدين عليه، ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فلفظ كاتبوهم أمر بمكاتبة العبد ليصبح حرًّا فيما بعد، ولكن هذا ¬

_ (¬1) حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 89. (¬2) منهاج الوصول: ص 5، إرشاد الفحول: ص 6، حاشة البناني: 1 ص 89، 90، كشف الأسرار: 1 ص 622، نهاية السول: 1 ص 59، ألمدخل إلى مذهب أحمد: ص 62، المجموع للنووي: 3/ 496. (¬3) رواه النسائي وابن ماجه، انظر سنن النسائي: 4 ص 158، ط مصطفى محمد، سنن ابن ماجه: 1 ص 421.

الأمر يفيد الندب للنص على القرينة بعده {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فعلق الكتابة على علم المالك بأن الكتابة خير للعبد، ولوجود قرينة أخرى وهي قاعدة عامة في الشريعة أن المالك له حرية التصرف في ملكه، وأول الآية نصت على ثبوت الملك له {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مما يدل على أن الأمر مصروف من الإيجاب إلى الندب (¬1). 3 - عدم ترتيب العقوبة على ترك الفعل، مع طلبه من الشارع، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه" (¬2)، فالحديث لم يرتب عقوبة على ترك الرخصة. 4 - مواظبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الفعل في معظم الأحيان، وتركه في حالة أو في بعض الأحيان، ليدل على عدم العقاب على الترك، كالسنن المؤكدة قبل صلاة الفرض أو بعدها. 5 - الأساليب العربية الأخرى التي تدل على عدم الإلزام وعدم التحتيم (¬3)، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬4) ومثل قوله: "إن اللَّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (¬5)، وقوله: "إن اللَّه جميل يحب الجمال" (¬6). فهذه الأحاديث تدل على طلب الفعل، ولكن بدون إلزام ولا تحتيم، وبدون ترتيب العقوبة على التارك، وإنما اقتصر الطلب على التحبيب وبيان الفضل والترغيب في الفعل. ¬

_ (¬1) مباحث الحكم، مدكور: ص 93، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 77. (¬2) رواه أحمد والبيهقي والطبراني. (¬3) مباحث الحكم: ص 93، وانظر: المعتمد: 1 ص 386. (¬4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة عن سمرة. (¬5) رواه الترمذي والحاكم عن عبد اللَّه بن عمرو. (¬6) رواه مسلم والترمذي والحاكم عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه.

هل المندوب مأمور به

هل المندوب مأمور به: بما أن الندب يستفاد من صيغة الأمر المصحوب بقرينة صارفة عن الإيجاب إلى الندب، فيتفرع عن ذلك مسألة هامة، وهي هل المندوب مأمور به أم لا؟ اتفق العلماء على كون المندوب مأمورًا به، ثم اختلفوا في طبيعة هذا الأمر على قولين: القول الأول: أن المندوب مأمور به حقيقة، وهو رأي الجمهور من الشافعية والحنابلة وقول عند المالكية والمحققين من الحنفية (¬1)، واستدلوا على ذلك بما يلي: 1 - إن فعل المندوب يسمى طاعة، والطاعة تكون من امتثال أمر اللَّه تعالى لعباده، فكان المندوب مأمورًا به. واعترض ابن عبد الشكور على الدليل فقال: الطاعة تكون في الأمر وتكون في الندب، فلا يكون الندب مأمورًا به (¬2). 2 - إن الأمر ينقسم لغة إلى قسمين أمر إيجاب وأمر ندب، وكما أن الواجب مأمور به، فكذلك يكون المندوب مأمورًا به. واعترض على الاستدلال بأن الأمر ينقسم عند أهل اللغة إلى أمر تهديد وأمر إباحة أيضًا، والتهديد والإباحة ليس مأمورًا بهما باتفاق، فيكون الندب كذلك ليس مأمورًا به حقيقة (¬3). ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 75، فواتح الرحموت: 1 ص 111، الإحكام، الآمدي: 1 ص 112 تيسير التحرير: 2 ص 222 وما بعدها، المسودة في أصول الفقه: ص 11 وما بعدها 15، أصول السرخسي: 1 ص 14، البرهان، للجويني: 1 ص 249. (¬2) البرهان: 1 ص 249، فواتح الرحموت: 1 ص 112. (¬3) فواتح الرحموت: 1 ص 112.

3 - المندوب مطلوب كالواجب، ولكن الواجب مطلوب مع ذم تاركه، والمندوب مطلوب من الشارع مع عدم ذم تاركه، والطلب أمر من الشارع، فالمندوب مأمور به. القول الثاني: أن المندوب ليس مأمورًا به حقيقة، وإنما هو مأمور به مجازًا، وهو رأي بعض الحنفية، كالكرخي والرازي، وأخذت به كتب الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي: 1 - لو كان المندوب مأمورًا به حقيقة لكان تركه معصية، والمعصية معاقب عليها لمخالفة الأمر، مع أن العلماء اتفقوا على أن ترك المندوب لا يكون معصية، وأن التارك لا يعاقب فاعله، ولا يذم -كما سبق في حكمه- فكان المندوب مأمورًا به مجازًا فقط (¬1). ويعترض الغزالي عليهم بأن الندب اقتضاء لا تخيير فيه، لأن التخيير عبارة عن تسوية بين أمرين، فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير، واللَّه تعالى يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم، ويقتضي بالندب لنيل الثواب، وأما القول بأن تاركه لا يسمى عاصيًا فسببه أن العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب، وقد أسقط الذم عن المندوب، ويسمى تاركه مخالفًا وغير ممتثل، كما يسمى فاعله موافقًا ومطيعًا (¬2). 2 - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬3)، فالسواك مندوب، ولم يأمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو أمر به لكان واجبًا. ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 111، تيسير التحرير: 2 ص 224، مباحث الحكم: ص 94، أصول السرخسي: 1 ص 14 وما بعدها. (¬2) المستصفى: 1 ص 76، الإحكام، الآمدي: 1 ص 113. (¬3) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد ومالك.

أقسام المندوب

واعترض عليه بأن الأمر في الحديث محمول على أمر الإيجاب للجمع بين الأدلة، أي: إن الحديث لم يأمر أمر الإيجاب، وهذا الحديث استدل به ابن بدران للدلالة على أن المندوب مأمور به حقيقة (¬1). 3 - الأمر حقيقة في لفظ "افعل"، وهذا اللفظ حقيقة في الإيجاب فقط، فالأمر حقيقة في الإيجاب، ولا يكون حقيقة في الندب (¬2). وأرى أن هذا الخلاف لفظي لا طائل تحته، ولا تترتب عليه حقائق عملية في الأحكام بين الجمهور والحنفية، وإنما ذكرناه كنموذج عن البحوث النظرية الكثيرة التي بحثها علماء الأصول، وأطالوا الحديث عنها من الناحية النظرية والفكرية والجدلية. أقسام المندوب: يقسم العلماء المندوب إلى ثلاثة أقسام: أولًا: السنة المؤكدة: وهي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولكنه يستحق اللوم والعتاب، فالفعل مندوب على وجه التأكيد، ويشمل السنن المكتوبة قبل الفرائض أو بعدها، كركعتي الصبح وسنة الظهر وسنة المغرب وسنة العشاء، ومثل المضمضة والاستنشاق في الوضوء. والضابط لهذا القسم أنه ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتركه إلا نادرًا ليبين جواز الترك، وأنه ليس واجبًا، ويسمى سنة الهدى (¬3). ¬

_ (¬1) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 62. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 111، تيسير التحرير: 2 ص 223. (¬3) التوضيح على التنقيح: 3 ص 76، أصول الفقه، الخضري: ص 51، مباحث الحكم، مدكور: ص 95، أصول الفقه الإسلامي، زكي الدين شعبان: ص 238.

ثانيا: السنة غير المؤكدة

وحكم السن المؤكدة أن صاحبها يستحق الثواب والأجر من اللَّه تعالى، وأن تاركها لا يعاقب، ولكنه يعاتب ويلام، لأن تركها معاندة لسنة رسول اللَّه، وأن ما يتعلق من هذا القسم بالشعائر الدينية كالأذان والجماعة إذا اتفق أهل بلد على تركه وجب قتالهم لاستهانتهم بالسنة (¬1). ثانيًا: السنة غير المؤكدة: وهي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولا يستحق اللوم والعتاب، فالفعل مندوب بدون تأكيد، كالصدقة غير المكتوبة، وصلاة الضحى، وسنة العصر قبل الفرض، وصيام الاثنين والخميس من كل أسبوع. والضابط لهذا القسم أنه ما لم يواظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان يفعله النبي في بعض الأحيان، ويسمى هذا القسم مستحبًا، كما يسمى نافلة (¬2). وحكم السنة غير المؤكدة أن فاعلها يستحق الثواب، وتاركها لا يستحق اللوم والعتاب أو العقاب (¬3). ثالثًا: السنة الزائدة: وهي ما يثاب فاعلها إن نوى بها متابعة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به، ولا شيء على تاركها مطلقًا، وهي أفعال الرسول عليه الصلاة السلام الجبلية التي يفعلها بحكم صفته البشرية مما لا يتعلق بالأحكام الشرعية كالنوم والمشي ولبس البياض من الثياب والاختضاب بالحناء، فهذا ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 38، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 79، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: 238. (¬2) مباحث الحكم: ص 95، أصول الفقه، الخضري: ص 52. (¬3) أصول الفقه، شعبان: ص 238، أصول الفقه، البرديسي: ص 75.

هل المندوب حكم تكليفي

القسم لا يعتبر من ابحكم التكليفي إلا بنية متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي تدل على شدة التعلق والاقتداء به (¬1). والفرق بين السنة غير المؤكدة والسنة الزائدة أن الأولى يستحق صاحبها الثواب بمجرد نية الفعل، والثانية لا يستحق صاحبها الثواب بمجرد نية الفعل، ولا بد من نية الاقتداء والتأسي. هل المندوب حكم تكليفي: اختلف علماء الأصول أيضًا في حقيقة الندب وماهيته، وهل يعتبر من الحكم التكليفي أم لا يعتبر؟ على قولين: القول الأول: أن الندب حكم تكليفي، وهو رأي أبي إسحاق الإسفراييني (¬2) من الشافعية، وأبي بكر الباقلاني من المالكية، وابن عقيل وابن قدامة والطوفي وابن قاضي الجبل من الحنابلة، لأن الشارع طلبه من المكلف، فهو من خطاب اللَّه تعالى الاقتضائي، فكان المندوب حكمًا تكليفيًّا، ولا يخلو المندوب من الكلفة والمشقة، فهو سبب للثواب، ويسمى فعله طاعة، فالفعل بقصد الثواب فيه طاعة (¬3). القول الثاني: أن المندوب ليس بحكم تكليفي، وهو رأي جمهور العلماء (¬4)، واستدلوا على ذلك بأن التكليف ما فيه كلفة ومشقة، ¬

_ (¬1) التوضيح: 3 ص 76، أصول الفقه، محمد زكريا البرديسي: ص 70. (¬2) هو إبراهيم بن محمد بن مهران، الأستاذ الأصولي الفقيه المتكلم، درس أصول الفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وأخذ عنه شيوخ نيسابور الكلام والأصول، وله تعليقة في أصول الفقه، توفي سنة 417 هـ، (انظر: طبقات الفقهاء: ص 126، طبقات الشافعية الكبرى: 4 ص 256، البداية والنهاية: 12 ص 24). (¬3) الإحكام، الآمدي: 1 ص 113، والوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 79، جمع الجوامع وحاشية البناني عليه: 1 ص 171، شرح الكوكب المنير: 1 ص 405، روضة الناظر: ص 6، مختصر الطوفي: ص 11، المسودة: ص 35. (¬4) فواتح الرحموت: 1 ص 112، الإحكام، الآمدي: 1 ص 113، تيسير التحرير: =

حكم الشروع في المندوب

والمندوب ليس فيه كلفة ولا مشقة، لأن المكلف يستطيع تركه، بدون عقاب ولا حرمة، فكأن المندوب ليس بتكليف كالمباح. وقد اعتبر بعض العلماء كلام أبي إسحاق في أن المندوب والمباح من الحكم التكليفي شاذًّا وظاهر الفساد، وأنه لا يليق بشأنه ومكانته، وأوَّلوا كلامه بأنه يريد وجوب اعتقاد الندبية، وهو حكم تكليفي، كما جعلوا المباح تكليفًا، لأن اعتقاد إباحته واجب، وهذا أمر متفق عليه (¬1). وأرى أن الخلاف لفظي واصطلاحي، ولا أثر له، لأن كل فريق نظر للأمر من جانب يختلف عن نظر الفريق الثاني. حكم الشروع في المندوب: سبق في التعريف أن المندوب ما يستحق فاعله الثواب، وتاركه لا يستحق العقاب، أي: إن المسلم مخير بين الفعل لكسب الثواب، وبين الترك وعدم الأجر، أو إن المكلف إن أراد الثواب والأجر فعل المندوب، وإلا تركه بدون عقاب، أما إذا شرع بالمندوب فهل يبقى له الخيار في استكمال الفعل أو تركه، وإن تركه فلا شيء عليه، أم يجبر على الاستمرار؟ وبتعبير آخر، هل يبقى المندوب بعد الشروع به على حاله السابقة قبل الشروع أم ينقلب إلى واجب؟ اختلف علماء الأصول في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن المندوب يبقى على حاله بعد الشروع فيه، ولا يجب إتمامه، وإن تركه الفاعل فلا إثم عليه ولا يجب عليه قضاؤه، وهو مذهب الشافعية (¬2). ¬

_ = 2 ص 224، والمراجع السابقة. (¬1) المراجع السابقة، مباحث الحكم: ص 95. (¬2) هذا في الصوم والصلاة، أما الحج والعمرة فيجب إتمامهما بعد الشروع فيهما نفلًا =

الأدلة

القول الثاني: أن المندوب ينقلب إلى واجب، ويصبح لازمًا بالشروع، وأن المكلف إذا شرع بالمندوب وجب عليه إكماله، لكن يجوز تركه استثناء بلا إثم للنص عليه، وإن تركه وجب عليه قضاؤه، وهو مذهب الحنفية (¬1). وفصل الإمام مالك وأبو ثور فقال: يلزم الإتمام، فإن خرج بلا عذر لزمه القضاء، وإن خرج بعذر فلا قضاء، وهو ما نقله النووي في المجموع (¬2). الأدلة: استدل الحنفية على رأيهم بالأدلة التالية: 1 - قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد: 33]، فالمندوب بعد الشروع به صار عملًا يستحق صاحبه الثواب، فإن تركه فقد أبطل عمله وثوابه، والقرآن الكريم ينهى عن إبطال العمل، فكان إتمامه واجبًا (¬3). 2 - قياس الشروع في المندوب على النذر بطريق الأولى، وذلك أن النذر التزام قولي، والناذر قبل النذر مخير بين الالتزام وعدمه، وبعد الكلام أصبح النذر واجبًا، وكذا المندوب، فالمكلف قبل الشروع مخير بين الفعل وعدمه، وبعد الشروع ينقلب إلى واجب بالأولى، لأن الفعل ¬

_ = باتفاق للتشابه مع الفرض في النية والكفارة، (انظر: حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 90، 93، كشف الأسرار: 2 ص 634، أصول السرخسي: 1 ص 116، المستصفى: 1 ص 229، المجموع: 7 ص 382، 8 ص 258). (¬1) تقريرات الشربيني على جمع الجوامع: 1 ص 90، كشف الأسرار: 2 ص 633، التلويح على التوضيح: 3 ص 79، أصول السرخسي: 1 ص 115. (¬2) المجموع: 6 ص 455. (¬3) أصول السرخسي: 1 ص 115.

أقوى من القول (¬1). ويعترض على الاستدلال بأنه قياس مع الفارق، لأن الناذر التزم الوجوب قولًا، وألزم نفسه به لولايته عليها، وأما الشروع فليس بالتزام يل هو أداء بعض المندوب بنية النفل، وليس بنية الوجوب أو الالتزام به (¬2). 3 - إن الشروع بالمندوب يجعله حقًّا للَّه، وحقوق اللَّه تعالى يجب صيانتها والحفاظ عليها، وطريق صيانة المندوب هو بإلزام المكلف بالباقي أو بقضائه بعد ذلك احتياطًا في العبادات (¬3). واستدل الشافعية على رأيهم بما يلي: 1 - إن المندوب يجوز للمكلف أن يتركه في البدء، فكذلك بعد الشروع به يجوز له تركه، والمكلف مخير بين الاستمرار في الفعل وبين تركه، فالمندوب لا يتغير بالشروع، لأن حقيقة الشيء لا تتغير بالشروع، وأن المندوب يبقى بعد الشروع مندوبًا بدليل أنه يتأدى بنية النفل، وأن إتمام المندوب لا يعتبر إسقاطًا لواجب بل هو أداء لنفل (¬4). 2 - قياس الصلاة والصيام على الصدقة، وذلك أن الانسان إذا أخرج عشرة دراهم للتصدق بها، فتصدق بدرهم فقط، فهو في الخيار في الباقي، ولا يجب عليه التصدق بالعشرة، وكذا الصلاة والصوم نفلًا، إذا شرع بهما المكلف فلا ينقلب الباقي إلى واجب (¬5). 3 - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام ¬

_ (¬1) كشف الأسرار: 2 ص 634، أصول السرخسي: 1 ص 116. (¬2) انظر تفصيل هذا الاعتراض والأمثلة عليه في كشف الأسرار: 2 ص 632. (¬3) كشف الأسرار: 2 ص 633، التلويح: 3 ص 79، أصول السرخسي: 1 ص 115. (¬4) حاشية البناني: 1 ص 92، كشف الأسرار: 2 ص 632، التلويح: 3 ص 79. (¬5) كشف الأسرار: 2 ص 632.

ملحق

وإن شاء أفطر" (¬1)، وهو نص صريح في حكم المندوب بعد الشروع به، وأن إتمامه عائد إلى المكلف إن شاء استمر، وإن شاء ترك ولا شيء عليه. ويظهر من الأدلة ترجيح قول الشافعية لقوة استدلالهم في الحديث الشريف، وأنه نص صريح واضح في موضوع النزاع، وأن هذا الحديث خاص في المسألة، ويرد استدلال الحنفية بالآية {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، لأنها عامة وتنصرف للأعمال الواجبة جمعًا بين الأدلة، ويتأكد بقاء حكم المندوب على حاله بسبب ورود الحديث، فقد جاء فيه عن أم هانئ رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها، فدعا بشراب فشرب، ثم ناولها فشربت، فقالت: يا رسول اللَّه، أما إني كنت صائمة، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "الصائم المتطوع أمين نفسه"، وفي رواية: "أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر". وروى أبو داود والترمذي حديثًا آخر وفيه: "ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، فقالت: يا رسول اللَّه، لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها: أكنت تقضين شيئًا؟ فقالت: لا، قال: "فلا يضرك إن كان تطوعًا" (¬2). ملحق: ونتبع الكلام عن المندوب بمسألتين هامتين نبه عليهما الإمام الشاطبي، وتبعه في ذلك كل من تعرض للكلام عن المندوب. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم عن أم هانئ، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، انظر: سنن أبي داود: 1 ص 572، سنن الترمذي: 3 ص 81، كشف الخفا: 2 ص 26، الفتح الكبير: 2 ص 200، مسند أحمد: 6/ 341. (¬2) سنن أبي داود: 1 ص 572، سنن الترمذي: 3 ص 81.

أولا: المندوب خادم الواجب

أولًا: المندوب خادم الواجب: قال الشاطبي: المندوب إذا اعتبرته اعتبارًا أعم من الاعتبار المتقدم وجدته خادمًا للواجب، لأنه إما مقدمة له أو تكميل له، أو تذكار به، سواء كان من جنس الواجب أو لا، فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها، ونوافل الصيام والصدقة والحج، والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى (¬1)، والسواك وأخذ الزينة وغير ذلك مع الصلاة، وكتعجيل الإفطار وتأخير السحور وكف اللسان عما لا يعني مع الصيام، فإن كان ذلك فهو لاحق بقسم الواجب بالكل، وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبًا بالكل والجزء (¬2). وهذا كلام حق، يُذكِّر بأساس مشروعية المندوب والسنن، وأنها خادمة للواجب، وأن السنة تجبر النقص الذي يقع في الواجبات كالخشوع في الصلاة والتدبر في القراءة فيها، والشرود عند الوقوف بين يدي اللَّه، وما تقع عليه العين في الصوم، وما ينطق به اللسان في نهار رمضان، وغير ذلك، بالإضافة إلى زيادة الأجر والثواب في المندوب، وأنه يذكر بالواجبات للاستعداد لها نفسيًّا وروحيًّا. ثانيًا: المندوب واجب بالكل: قال الشاطبي: إذا كان الفعل مندوبًا بالجزء كان واجبًا بالكل، كالأذان في المساجد والجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة وصلاة العيدين وصدقة التطوع والنكاح والوتر والفجر والعمرة وسائر النوافل الرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء، ولو فرض تركها جملة لجرح ¬

_ (¬1) هذه الأحكام على مذهب الإمام مالك الذي يجعل الطهارة في الصلاة مندوبًا وسنة، وقال الأئمة الثلاثة: ومالك في قول ثان: إنها شرط صحة الصلاة. (¬2) الموافقات، له: 1 ص 92.

التارك لها، ثم يبين ذلك فيقول: يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه (الأذان) .. وقد توعد الرسول - عليه السلام - من داوم على ترك الجماعة منهم أن يحرق عليهم بيوتهم ... والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع من تكثير النسل وبقاء النوع الإنساني، وما أشبه ذلك، فالترك لها جملة، مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائمًا، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له، فلا محظور في الترك (¬1). وهذا كلام صحيح لا غبار عليه، ولا يخالفه أحد من العلماء، ويبين حكمة إخرى من حكم مشروعية المندوب، وأنه يتعلق بأمور هامة في الواجبات الدينية والمصالح الدنيوية التي أجمع العلماء على اعتبارها من المقاصد العامة في الشريعة، وجاءت الأحكام الشرعية لتحقيقها سواء كانت واجبة أم مندوبة، جزى اللَّه الإمام الشاطبي خيرًا، ووفقنا اللَّه لتطبيق شرعه كاملًا، والعمل فيما يحبه ويرضاه. ¬

_ (¬1) الموافقات، له: 1 ص 79.

المطلب الثالث في الحرام

المطلب الثالث في الحرام تعريف الحرام: الحرام لغة: الممتنع فعله، من حرم من بابي قرب وتعب، وسُمِع: أحرمته بمعنى حرمته، والممنوع يسمى حرامًا تسمية بالمصدر (¬1). وفي الاصطلاح نذكر تعريفين له، أحدهما: بالحد وبيان الماهية، والثاني: بالرسم وبيان الصفات. التعريف الأول: الحرام هو ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم والإلزام (¬2). 1 - ما: اسم موصول، صفة لفعل المكلف. 2 - طلب الشارع تركه: أي: الابتعاد عنه وعدم القيام به، ويدخل فيه الحرام والمكروه؛ لأن الشارع طلب تركهما، ويخرج من التعريف ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 180، القاموس المحيط: 4 ص 94، والأصل فيه: حرمته تحريمًا فهو محرم، أي: الفعل محرم. (¬2) المستصفى: 1 ص 76، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 59، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 80، نهاية السول: 1 ص 61.

التعريف الثاني

المباح والمندوب والواجب لعدم طلب تركها من الشارع. 3 - على وجه الحتم والإلزام: فيخرج المكروه، ويبقى الحرام. ويُعرف طلب الكف الحتمي بالصيغة التي تدل عليه عن طريق الأساليب الكثيرة المفيدة للتحريم (¬1). التعريف الثاني: عرف البيضاوي الحرام بالصفة فقال: هو ما يذم شرعًا فاعله (¬2). 1 - ما: اسم موصول صفة لفعل المكلف، ويشمل كل أفعال المكلفين التي يتعلق بها الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، ويخرج من التعريف ما ليس بفعل المكلف. 2 - يذم شرعًا فاعله: قيدٌ في التعريف، فيخرج الواجب؛ لأن الذم فيه على الترك، ويخرج المندوب والمكروه والمباح؛ لأنه لا ذم فيه أصلًا، لا على الفعل ولا على الترك، ويبقى المحرم فقط، والذم لا يكون إلا من الشرع، وفعل الحرام يشمل كل ما يصدر عن المكلف من قول محرم كالغيبة والقذف، أو فعل كالسرقة والقتل، أو من عمل القلب كالحقد والحسد، والذم هو اللوم والاستنقاص الذي يصل إلى درجة العقاب (¬3). وأضاف بعض العلماء على هذا التعريف قولهم: "ويمدح تاركه" ¬

_ (¬1) المحرم: هو طلب الترك الجازم سواء أكان طلب الترك ثابتًا بطريق القطع أم بطريق الظن، خلافًا للحنفية الذين يفرقون بين الحرام والمكروه تحريمًا، وأن الحرام هو ما طلب الشارع تركه بدليل قطعي، وأن المكروه تحريمًا هو ما طلب الشارع تركه حتمًا بدليل ظني، كما فرقوا بين الفرض والواجب في طلب الفعل بناء على قوة الدليل، وقد سبق الكلام عن هذا الموضوع في أقسام الحكم التكليفي. (¬2) منهاج الوصول، له: ص 5. (¬3) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 50.

الأساليب التي تفيد التحريم

للمقابلة مع تعريف الواجب (¬1). ويرادف المحرمَ المحظورُ والمعصية والذنب والممنوع والقبيح والسيئة والفاحشة والإثم والمزجور عنه والمتوعَّد عليه (¬2). الأساليب التي تفيد التحريم: الأساليب التي تفيد التحريم في الكتاب الكريم والسنة الشريفة كثيرة (¬3)، أهمها: 1 - أن يرد الخطاب صريحًا بلفظ التحريم، وما يشتق منه، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه وماله وعرضه" (¬4). 2 - صيغة النهي، لأن النهي يفيد التحريم (¬5)، مثل قوله تعالى: ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول: ص 6، تسهيل الوصول: ص 250، المستصفى: ص 66، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، نهاية السول: 1 ص 61، الإحكام، الآمدي: 1 ص 106. (¬2) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 51، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، إرشاد الفحول: ص 6، نهاية السول: 1 ص 61، الإحكام، الآمدي: 1 ص 106. (¬3) أصول الفقه، البرديسي: ص 72، مباحث الحكم: ص 98، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 82، أصول الفقه، شعبان: ص 239، أصول الفقه، الخضري: ص 52، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 41، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية: ص 328. (¬4) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه. (¬5) النهي يفيد التحريم عند جمهور العلماء إلا إذا رافقته قرينة تصرفه إلى الكراهة أو =

{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الأنعام: 151]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، ومن ذلك ما ورد بلفظ النهي مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، وهذا القسم أكثر الأساليب استعمالًا للدلالة على التحريم. 3 - طلب اجتناب الفعل، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات" (¬1). وهذا أمر يفيد وجوب الترك من حيث اللفظ، ويفيد تحريم الفعل من حيث المعنى. 4 - استعمال لفظ "لا يحل"، مثل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" (¬2). 5 - ترتيب العقوبة على الفعلِ سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة أم فيهما، مثل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4]، فالقذف ¬

_ = الإباحة، وقال بعض العلماء: النهي في الأصل يدل على الكراهة إلا لقرينة، وفي قول: إنه مشترك بينهما، وسوف يدرس هذا الموضوع بالتفصيل في الجزء الثاني إن شاء اللَّه تعالى، وانظر: الأم للشافعي: 5/ 153، ط دار الفكر. (¬1) رواه البخاري ومسلم والنسائي، وهي: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات. (¬2) رواه أبو داود.

حكم الحرام

حرام لترتب عقوبة الجلد عليه، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا} [النساء: 93]، فالقتل حرام لتوعد فاعله بالنار. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬1)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فأكل مال اليتيم حرام لتشبيهه بأكل النار وتهديده بالعذاب يوم القيامة. 6 - كل لفظ يدل على إنكار الفعل بصيغة مشددة، مثل غضب اللَّه، حرب اللَّه، لعن اللَّه، والتحذير من الفعل، مثل: "إياكم والجلوس على الطرقات" (¬2)، وكذا وصف الفاعل بالنفاق أو الكفر أو الفسق، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .. {الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ... {الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] ومثل نفي الإيمان عنه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لا يؤمن -ثلاثًا- الذي لا يأمن جاره بوائقه" (¬3). حكم الحرام: من التعريف السابق وبيان الأساليب التي تفيد التحريم يظهر أن حكم الحرام وجوب الترك على المكلف، فإن فعله فإنه يستحق العقاب والذم من اللَّه تعالى، وأن اللَّه تعالى وصف المؤمنين بأنهم الذين يجتنبون ما حرم اللَّه عليهم {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، وأن هذه المحرمات ليست إلا فواحش ومنكرات ومضار ¬

_ (¬1) رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس. (¬2) هذا طرف من حديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود عن أبي سعيد. (¬3) رواه البخاري وأحمد عن أبي شريح.

أقسام الحرام

ومفاسد تضر بالفرد والمجتمع، فحرم اللَّه تعالى فعلها، وطلب من المكلفين تركها لتحقيق السعادة لهم في الدنيا والآخرة. أقسام الحرام: سبق الكلام أن التشريع جاء لتحقيق العدالة الإلهية ورعاية مصالح البشر في الدنيا والآخرة، فما أوجب اللَّه حكمًا إلا بسبب فوائده ومنافعه الراجحة في تحقيق المصالح، وما حرم أمرًا إلا لرجحان ضرره الحقيقي وثبوت فساده، قال البيضاوي: ما نهي عنه شرعًا فقبيح، وإلا فحسن كالواجب والمندوب والمباح (¬1). والمفسدة إما أن تكون راجعة إلى ذات الفعل ويسمى حرامًا لذاته، وإما أن تكون المفسدة راجعة لأمر يتعلق بالمحرم، ويسمى حرامًا لغيره (¬2). أولًا: المحرم لذاته: وهو ما حرمه الشارع ابتداء وأصالة، مثل أكل الميتة والدم والخنزير ولعب الميسر وشرب الخمر والزنا وقتل النفس وأكل أموال الناس بالباطل وزواج المحارم. ويكون المحرم لذاته غير مشروع أصلًا، لأن منشأ الحرمة فيه عين المحل أو ذات الفعل، وأنه يشتمل على مفسدة ومضرة راجعة إلى الذات. ويترتب على ذلك أن التعاقد على الحرام باطل، ولا يترتب عليه أثر ¬

_ (¬1) منهاج الوصول، له: ص 5. (¬2) يرى الحنابلة أن الحرام قسم واحد سواء كان التحريم لذات المحرم أم لأمر عارض له، أو وصف خارج عنه، (انظر: المستصفى: 1 ص 79، المسودة في أصول الفقه: ص 83).

ثانيا: المحرم لغيره

شرعي، والحرام لا يصلح سببًا شرعيًّا، لعدم صلاحية المحل لظهور الحكم الشرعي فيه، فزواج المحارم باطل، والدخول في الزنا باطل، وبيع الميتة باطل، والباطل لا يترتب عليه حكم (¬1). ثانيًا: المحرم لغيره: وهو ما كان مشروعًا في أصله، ولكن اقترن به أمر آخر بسبب مفسدة وضرر للناس، فحرمه الشارع لهذا السبب، مثل الصلاة في ثوب مغصوب، والبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وصوم يوم العيد، وزواج المحلِّل، والصلاة بدون طهارة، فإن الصلاة في الأول مشروعة وواجبة على المكلف، ولكن لما اقترن بها المنكر، وهو الانتفاع بالثوب المغصوب، أصبحت محرَّمة بسببه، والبيع مشروع ومباح، ولكن لما اقترن به منكر وهو الانشغال عن صلاة الجمعة صار محرمًا، ومثله الصوم يوم العيد، وزواج المحلِّل، وصوم الوصال، والغش في البيع. وينظر العلماء إلى المحرم لغيره من جهتين، فمن جهة أصله فهو مشروع لعدم وجود المفسدة والمضرة فيه، ومن جهة ما اقترن به فهو حرام لما يترتب عليه من مفسدة ومضرة وهو أمر خارجي عن المحل أو الفعل، ولذا فقد اختلفت آراء الأئمة في حكم كل مسألة من المسائل السابقة، وانقسموا في تكييف المحرم لغيره إلى قسمين كل منهما يرجح أحد الجانبين على الآخر، وظهر قولان: القول الأول: أن التعاقد على المحرم لغيره يكون فاسدًا لا باطلًا، وهو رأي الحنفية، الذين يفرقون بين البطلان والفساد، وأن الفساد مرتبة بين البطلان والصحة، وأن العقد الفاسد منعقد ولكنه غير ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 128، مباحث الحكم، مدكور: ص 101، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 43.

صحيح، وأنه يجب فسخه، فإن نفذ ترتبت آثاره عليه، ويكون المال خبيثًا. القول الثاني: أن العقد على المحرم لغيره باطل كالعقد على المحرم لذاته، وأنه لا فرق بين الفساد والبطلان، وهما مرتبة واحدة، وهو رأي جمهور الأئمة، قال الآمدي: مذهب الشافعي أن المحرم بوصفه مضاد لوجوب أصله (¬1)، أي: إن التحريم للوصف كالتحريم للأصل تمامًا. ونتيجة للاختلاف السابق اختلفت الأنظار في حكم كل مسألة محرمة لغيرها، ففرق الحنفية بين الصفة الجوهرية التي يتعلق بها التحريم لغيره ويكون العقد فاسدًا كالربا، وبين الصفة العارضة التي يتعلق بها التحريم لغيره، ويكون حكمها الكراهة فقط، أي: التحريمية، كالبيع وقت أذان الجمعة (¬2). وفرق الشافعية بين المحرم لغيره لوصف فيه كالصلاة بدون طهارة وحكمها البطلان، وبين التحريم لأمر خارج عن المحل، وحكمه الصحة مثل الطلاق في زمن الحيض، فهو صحيح لصرف التحريم إلى أمر خارج عن الطلاق وهو ما يفضي إليه من تطويل العدة، وكذا الصلاة في الأوقات والأماكن المنهي عنها (¬3). وهذا الاختلاف يرجع إلى مقتضى النهي، وهو ما سنبينه إن شاء اللَّه في مبحثي الأمر والنهي. وينتج عن تقسيم الحرام إلى حرام لذاته وحرام لغيره، بالإضافة إلى الاختلاف في الفساد والبطلان ينتج أمر آخر، وهو جواز استباحة المحرم في بعض الحالات، فالمحرم لذاته يباح بهدف الحفاظ على الضروريات وهي حفظ الدين والمال والنفس والعقل والعرض، فيباح ¬

_ (¬1) الإحكام، له: 1 ص 110، وانظر المدخل للفقه الإسلامي، للمؤلف: ص 5. (¬2) أبحاث في علم أصول الفقه: ص 138، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 43. (¬3) الإحكام، الآمدي: 1 ص 110، المستصفى: 1 ص 80، المسودة: ص 83.

المحرم المعين والمخير

الخمر للحفاظ على الحياة عند التهلكة، ويرخص بالكفر ظاهرًا للحفاظ على النفس عند الإكراه بالقتل، أما المحرم لغيره فإنه يباح من أجل الحفاظ على الضروريات السابقة، ومن أجل الحفاظ على الحاجيات، وهي التي يؤدي تركها إلى مشقة بالغة على المكلف؛ مثل كشف العورة، فتباح للحفاظ على الحياة أحيانًا، وتباح للطبيب من أجل الاستشفاء من الأمراض، وتخفيف الألم عن المريض (¬1). المحرم المعيَّن والمخيَّر: ينقسم الواجب باعتبار المطلوب فعله إلى واجب معين كالصلاة وواجب مخير كأحد خصال الكفارة، وكذلك المحرم ينقسم إلى قسمين، محرم معين، وهو جميع المحرمات تقريبًا التي نهى عنها الشارع، ورتب على فاعلها العقوبة، كتحريم قتل النفس وعقوق الوالدين والعبودية لغير اللَّه، ومحرم مخير وهو أن يحرم الشارع أحد الأمرين فقط، فإذا فعل أحدهما أصبح الآخر محرمًا، وأن المكلف له أن يفعل عدة أشياء إلا واحدًا منها (¬2)، وهذا القسم محصور وقليل جدًّا، وله عدة أمثلة: 1 - أن يقول رجل لزوجاته: إحداكن طالق، فتحرم واحدة منهن، فإذا عاشر الزوج ثلاثًا فالرابعة محرمة، كما يجوز أن يعين إحداهن للطلاق أيضًا (¬3). ¬

_ (¬1) أبحاث في علم أصول الفقه، ص 138، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 43. (¬2) خالف المعتزلة في هذا التقسيم، وأنكروا وجود المحرم المخير في الشرع (انظر مختصر ابن الحاجب: ص 39، الإحكام، الآمدي: 1 ص 106، القواعد والفوائد الأصولية: ص 96، التبصرة: ص 104). (¬3) تسهيل الوصول: ص 263، تيسير التحرير: 2 ص 218، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63.

الوجوب والحرمة وضدهما

2 - النهي عن الجمع بين الأختين في وقت واحد، فالشريعة أجازت الزواج بكل منهما، لكن إذا تزوج إحدى الأختين حرمت عليه الأخرى، ما لم يطلق الأولى أو تموت، وكذلك الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها (¬1). 3 - نص القرآن الكريم والسنة الشريفة على التخيير في التحريم بين الأم وبنتها، فكل منهما يجوز الزواج منها، ولكن إذا تزوج من إحداهما حرمت عليه الأخرى، وهذا خير مثال للحرام المخير (¬2). 4 - كان العرب يعددون الزوجات بدون حد، وجاء الإسلام وبعضهم عنده عشر زوجات، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه: "أمسك أربعًا وطلق سائرهن" (¬3)، فتعدد الزوجات زيادة على الأربع زوجات حرام، ولكن لم يعين الشارع المحرمة منهن، وترك الخيار للزوج (¬4). الوجوب والحرمة وضدهما (¬5): هذه المسألة تتعلق بالواجب والحرام معًا، وقبل الخوض فيها نبين معنى الضد والنقيض من جهة، ونذكر اتفاق العلماء في بعض حالاتها ¬

_ (¬1) أصول الفقه، الخضري: ص 53، مختصر ابن الحاجب: ص 39، فواتح الرحموت: 1 ص 110، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، الإحكام، الآمدي: 1 ص 106، المسودة في أصول الفقه: ص 81. (¬2) أبحاث في علم أصول الفقه: ص 139. (¬3) رواه أبو داود وأحمد والشافعي بلفظ: اختر، ثم طلَّق الأربع زمن عمر، نهج البلاغة: 12/ 69. (¬4) مباحث الحكم: ص 102، الأم: 5/ 53، ط دار الفكر. (¬5) ذكر كثير من العلماء أن هذه المسألة تشمل المندوب والمكروه، وأن المندوب يتضمن كراهة ضده، والمكروه يتضمن استحباب ضده، (انظر: فواتح الرحموت: 1 ص 97، التلويح على التوضيح: 2 ص 239).

أولا: تعريف الضد والنقيض

من جهة أخرى، ثم نحرر محل النزاع ونبين الآراء في ضد الواجب وضد الحرام. أولًا: تعريف الضد والنقيض: الضد يغاير النقيض، والنقيضان هما الأمران اللذان أحدهما وجودي، أي تحقُّق ووقوع ووجود، والآخر عدمي، فلا يجتمعان ولا يرتفعان، مثل الوجود وعدم الوجود، والقعود وعدم القعود، أما الضدان فهما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان، وقد يرتفعان، مثل البياض والسواد؛ فإنهما لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد، ولكن قد يرتفعان ويأتي بدلهما لون الصفرة أو الحمرة. وبما أن الضد مغاير للنقيض فالواجب له ضد أو أكثر، وله نقيض واحد، فضد الواجب هو الأمر الوجودي المنافي له الذي لا يمكن تحقق الواجب معه، ونقيضه هو تركه وعدم فعله. والمثال يوضح ذلك، الصلاة واجبة، وضد الصلاة هو الأكل أو الشرب أو النوم، لأنها أمور منافية لها، ولا توجد الصلاة معها، أما نقيض الصلاة فهو تركها وعدم الإتيان بها (¬1). ثانيًا: حكم نقيض الواجب والحرام: اتفق العلماء على أن نقيض الواجب منهي عنه وحرام، لأن الأمر بالشيء يدل على طلب الشيء من جهة، ومنع تركه من جهة أخرى، والمنع من الترك هو النهي عن الترك أو هو الحرام، ويأخذ نقيض الواجب حكم مقدمة الواجب، لأنه لا يتم الواجب إلا بتركه، فهو واجب. فالترك نقيض الطلب فيكون الترك منهيًا عنه، ومن هنا عرف بعض ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 132.

ثالثا: حكم ضد الواجب وضد الحرام

الأصوليين الواجب بأنه طلب الفعل مع المنع من الترك، ويظهر أن الترك، وهو المنع من النقيض، جزء من الواجب، والطلب الدال على الكل يدل على الجزء (¬1)، فالتربص بالعدة واجب لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 822]، ونقيضه وهو عدم التربص والزواج من آخر، حرام، واجتمع الأمر بالشيء والنهي عن نقيضه في آية واحدة، فقال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222]. وكذلك فإن نقيض الحرام واجب، فالزنا حرام، وتركه واجب، وشرب الخمر حرام، وتركه واجب، وكتمان المرأة ما يتعلق بعدتها حرام؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، وإظهاره واجب. ثالثًا: حكم ضد الواجب وضد الحرام: اتفق العلماء على أن الواجب إذا كان له ضد واحد فهو حرام، مثل الإيمان وضده الكفر، فإيجاب الإيمان يقتضي حرمة الكفر (¬2). واختلف العلماء في الخطاب الذي يتعلق بالإيجاب إذا كان له عدة أضداد، هل يدل على حرمة الضد بطريق الالتزام أم لا؟ وصورته هو فعل قم، له مفهومان أحدهما: طلب القيام، والآخر: ترك القعود، فهل طلب القيام هو بعينه طلب ترك القعود، أم لا؟ اختلفوا على عدة أقوال، أهمها اثنان: القول الأول: أن الخطاب بالإيجاب يدل على حرمة الضد بطريق الالتزام (¬3)، وأن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، وأن النهي عن ¬

_ (¬1) منهاج الوصول، البيضاوي: ص 11، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 133. (¬2) أبحاث في علم أصول الفقه: 143، أصول السرخسي: 1 ص 94. (¬3) إن دلالة اللفظ على المعنى إما أن تكون بطريق المطابقة أو بطريق التضمن أو =

الشيء أمر بأحد أضداده، وهو رأي جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة (¬1). واستدلوا على ذلك بأن الإيجاب هو طلب الفعل مع المنع من الترك، فالمنع من الترك جزء من الإيجاب، وهو منهي عنه بطريق التضمن، ويكون الضد منهيًا عنه بطريق الالتزام، لأن الامتناع عن الضد من لوازم وجوب الفعل، وأن الاشتغال بالضد من لوازم الكف عن الفعل (¬2). القول الثاني: أن الخطاب الدال على الوجوب لا يدل على حرمة الضد، لا بطريق التضمن ولا بطريق الالتزام، وهو رأي جمهور المعتزلة وبعض الشافعية (¬3). واستدلوا على ذلك بأنه لو كان الخطاب الطالب للفعل طلبًا جازمًا يدل على حرمة الضد لكان الآمر متعقلًا للضد ومتصوِّرًا له حتى يحكم بحرمته، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولكن لا يتصور تعقل الضد ومعرفته، وكثيرًا ما يأمر الآمر بالشيء وهو غافل عن الضد الذي ¬

_ = بطريق الالتزام، أما دلالة المطابقة فهي دلالة اللفظ على جميع معناه، كدلالة إنسان على الحيوان الناطق، وأما دلالة التضمّن فهي دلالة اللفظ على جزء معناه، كدلالة الإنسان مطلقًا، وأما دلالة الالتزام فهي دلالة اللفظ على المعنى اللازم لمعناه، ولا يدل على المعنى الموضوع له لغة، مثل دلالة الإنسان على قابلية العلم أو قابلية النطق، ودلالة المطابقة دلالة لفظية، أما دلالة التضمن والالتزام فدلالتهما عقلية أي: إن اللفظ لا يفيد المعنى إلا بوساطة العقل، انظر نهاية السول: 1 ص 225، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 64، حاشية الباجوري على متن السلم في فن المنطق: ص 39، روضة الناظر: ص 8. (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 97، أصول السرخسي: 1 ص 94. (¬2) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 133، المستصفى: 1 ص 81، فواتح الرحموت: 1 ص 97، أصول السرخسي: 1 ص 94، 270، المسودة: ص 81. (¬3) المستصفى: 1 ص 81، فواتح الرحموت: 1 ص 97، المسودة: ص 82.

يفوته، ولذا فلا يكون أمره نهيًا عن الضد بأي نوع من أنواع الدلالة. ويعترض على الدليل بأن الآمر هنا هو اللَّه تعالى، واللَّه عالم بكل شيء ولا تخفى عليه خافية، ولا يغفل عن الضد، فبطل الدليل، وأن اتفاق العلماء على أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولو كان الآمر غافلًا عنه، وكذا هنا فإن الوجوب لا يتم إلا بترك ضده، فكان الضد واجبًا (¬1). والخلاصة الهامة في هذا الموضوع أن ترك الفعل يتحقق بالاشتغال بأي ضد من الأضداد، مثل السرقة والخمر والربا تتحقق بأي ضد كالأكل والشرب والصلاة وقيام الليل والوضوء، أما حصول الفعل المطلوب حتمًا، وهو الواجب، فإنه يتوقف على ترك جميع الأضداد المنافية له، مثال ذلك أن ترك الصلاة يتحقق عند الاشتغال بالأكل أو بالشرب أو بالنوم، ولكن أداء الصلاة يتوقف على ترك جميع الأمور التي تتنافى مع الصلاة، ولذا قال العلماء: إن إيجاب الشيء يقتضي حرمة جميع الأضداد المنافية له، وإن النهي عن الشيء يقتضي وجوب الاشتغال بأي ضد من الأضداد، ولا يقتضي وجوب جميع الأضداد (¬2). ويضع صدر الشريعة ضابطًا ومعيارًا لذلك فيقول: والصحيح أن ضد الأمر إن فوَّت المقصود بالأمر، يحرم، وإن فوَّت ضد النهي المقصود بالنهي يجب (¬3). ¬

_ (¬1) المستصفى: 1 ص 82، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 143، نهاية السول: 1 ص 135. (¬2) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 134، المسودة في أصول الفقه: ص 81، أصول السرخسي: 1 ص 96، التبصرة: ص 89، الفوائد، ابن القيم: ص 226، ط دار البيان. (¬3) التنقيح، له 2 ص 238.

الوجوب والحرمة في أمر واحد

الوجوب والحرمة في أمر واحد: ونختم الكلام عن الحرام بمسألة أخرى يشترك فيها الحرام مع الواجب، وهي هل يجتمع الإيجاب والتحريم في أمر واحد؟ وبتعبير آخر هل يكون الفعل واجبًا وحرامًا معًا؟ إن الواجب والحرام ضدان، والضدان لا يجتمعان في الأمر الواحد باتفاق العقلاء، ولكن اختلفوا في المقصود من الواحد الذي يعتبر محلًا للواجب والحرام، ويتعلق به الإيجاب والتحريم (¬1)، ويتفرع الكلام حسب الحالات الأربع التالية: الحالة الأولى: إذا كان الفعل واحدًا بالجنس فيجوز أن يتعلق به الواجب والحرام، أو ينقسم إلى واجب وحرام، وتكون القسمة بحسب الأوصاف والإضافات، كالسجود للَّه تعالى، والسجود للصنم، فالسجود الأول واجب والسجود الثاني حرام، ولا تناقض بينهما في تعلق الإيجاب والتحريم في السجود، بقوله تعالى {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37]، فلا يلزم من تحريم أحد السجودين تحريم الآخر، ولا من وجوب الثاني وجوب الأول، للتغاير بالشخصية بين السجود للَّه والسجود للصنم (¬2). ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 39، المستصفى: 1 ص 76، الإحكام، الآمدي: 1 ص 107. (¬2) خالف المعتزلة في هذه الحالة وقالوا: إن السجود نوع واحد مأمور به، والساجد للصنم عاص لأنه يقصد تعظيم الصنم وليس بنفس السجود: (انظر المستصفى: 1 ص 76، فواتح الرحموت: 1 ص 104، البرهان، للجويني: ص 304، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، الإحكام، الآمدي: 1 ص 107، المسودة: ص 84، أصول الفقه، الخضري: ص 54). =

الحالة الثانية

الحالة الثانية: إذا كان الواحد متعلقًا بشخص واحد، وليس له إلا جهة واحدة فلا يجوز وجوب الفعل وحرمته في آن واحد، لأنه مستحيل، لأن الطلب يتضمن جواز الفعل، وهو يناقض طلب الترك، فيكون تكليفًا بالمحال، ومعنى هذا أن الفعل يجوز تركه ولا يجوز تركه في آن واحد، كوجوب الصلاة على زيد المكلف الصحيح، وحرمة الصلاة عليه في وقت واحد (¬1). الحالة الثالثة: إذا تعددت الجهة التي يتعلق بها الخطاب، وكانت الجهتان متلازميتن فلا يجتمع الفعل وطلب الترك، لأن الجهتين المتلازمتين ترجعان إلى جهة واحدة، كصوم يوم النحر نذرًا، ففيه مطلق الصوم، والصوم في ذلك اليوم، والمطلق في ضمن المقيد، ومثل الصلاة في الوقت المكروه مكروهة فلا يثاب عليها، وبالتالي فالصوم باطل، والصلاة باطلة عند بعض العلماء، وقال الحنفية: الصلاة والصوم فاسدان، لأن التحريم ورد لأمر عارض، بينما الصلاة والصوم مشروعان بأصلهما، فالصلاة والصوم منعقدان عندهم مع الفساد، وقال بعض الشافعية بصحة الصلاة والصوم لصرف النهي فيهما عن الصلاة والصوم إلى أمر خارج منهما (¬2). ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول: ص 265، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 72، تيسير التحرير: 2 ص 219. (¬2) تسهيل الوصول: ص 265، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 76، الإحكام، الآمدي: 1 ص 111.

الحالة الرابعة

الحالة الرابعة: إذا تعددت الجهة، وكانت الجهتان غير متلازمتين كالصلاة في الأرض المغصوبة، فهنا اختلف العلماء في اجتماع الوجوب والحرمة في هذا الفعل على قولين: القول الأول: جواز تعلق الطلب مع تعلق النهي في فعل المكلف، ويصح التكليف به، وهو رأي الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وأحمد في قول، لأن النهي لأمر خارج عن ذات الفعل فلا يقتضي الفساد، فالصلاة والغصب جهتان منفكتان ولا تلازم بينهما، لإمكان وجود أحدهما دون الآخر، ولتغاير الفعل المحكوم عليه باعتبار اختلاف الجهتين من الغصب والصلاة، فتكون الصلاة في الأرض المغصوبة واجبة بالنظر إلى جهة الصلاة، ومحرمة بالنظر إلى جهة الغصب، ويقيسون ذلك على الأمر لشخص بالخياطة وعدم السفر، فإذا خاط وسافر فهو مطيع في الخياطة عاص في السفر قطعًا، ولأن التغاير بين الشيئين إما أن يكون بتعدد النوع تارة كالإنسان والفرس، وإما بتعدد الشخص تارة كزيد وعمرو، وإما أن يكون باختلاف الصفات في الموضوع الواحد كهذا المثال (¬1). واحتجوا أيضًا بإجماع السلف على عدم أمر الظالمين عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة، وعدم نهي الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة (¬2). ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول: ص 266، المستصفى: 1 ص 76، فواتح الرحموت: 1 ص 105، 106، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، الإحكام الآمدي: ص 107، مختصر ابن الحاجب: ص 39، أصول الفقه، الخضري: ص 55، الفروق: 2 ص 85، البرهان، للجويني: 1 ص 284. (¬2) المستصفى: 1 ص 77، فواتح الرحموت: 1 ص 109، تيسير التحرير: 1 ص 220، =

القول الثاني: عدم تعلق الطلب والنهي في أمر واحد ولو تعددت جهته، وهو مذهب الإمام أحمد وأكثر المتكلمين والظاهرية (¬1). وقالوا: إن الصلاة لا تصح في الأرض المغصوبة، ولا يسقط الواجب عندها، لأن الصلاة استمرار ومكث في الأرض المغصوبة، وهذا منهي عنه، والمنهي عنه يستحيل أن يكون واجبًا، وإن إقامة الصلاة في المكان المغصوب ليست الإقامة المأمور بها في الصلاة، وإن الفعل الصادر من المكلف واحد، فلا يكون مثابًا عليه ومعاقبًا عليه في آن واحد (¬2). ¬

_ = مختصر ابن الحاجب: ص 39، البرهان: 1 ص 288. (¬1) قال الباقلاني والرازي في قول ثالث: إن الصلاة في الأرض المغصوبة تسقط عن المكلف، ولكن أداءها واجب بدليل الإجماع السابق، (انظر: المراجع السابقة، البرهان، للجويني: 1 ص 287). (¬2) انظر الرد على هذا القول وأدلته في تسهيل الوصول: ص 267، المستصفى: 1 ص 77، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، الإحكام، الآمدي: 1 ص 107، المسودة: ص 83، مختصر ابن الحاجب: ص 39، أصول الفقه، الخضري: ص 53.

المطلب الرابع في المكروه

المطلب الرابع في المكروه تعريف المكروه: المكروه لغة: القبيح، من كره الأمر مثل قبح، وزنًا ومعنى، وهو ضد المحبوب، والكريهة الحرب، أو الشدة في الحرب (¬1). وفي الاصطلاح نذكر تعريفين له، الأول: يتعلق بالذات والماهية، والثاني: يتعلق بالرسم والصفة. التعريف الأول: المكروه هو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم (¬2). والتعريف واضح بعد ما سبق بيانه في شرح تعريف الحرام، فالمكروه هو الفعل الذي طلب الشارع تركه وعدم القيام به، وكان هذا الطلب بدون حتم ولا إلزام، مما يدل على كراهة الفعل، ورغبة المشرع في الابتعاد عنه. ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 2 ص 729، القاموس المحيط: 4 ص 291. (¬2) نهاية السول: 1 ص 52.

التعريف الثاني

التعريف الثاني: عرف الإسنوي المكروه فقال: "هو ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله" (¬1). فالمكروه هو ما يستحق تاركه المدح والثناء والأجر والثواب من اللَّه تعالى، أما فاعله فلا يستحق العقاب والذم، وقد يستحق اللوم والعتاب، ومثال المكروه أكل لحم الخيل، وشرب لبنها عند الحنفية، وترك السنن المؤكدة، والصلاة في الأوقات المكروهة، وغير ذلك مما سنذكره خلال البحث. والمكروه يقابل المندوب، ولذا يطلق على ترك المندوب، ويطلق على ترك كل مصلحة راجحة، وقد يطلق المكروه على الحرام، مثل قولهم: يكره التوضؤ بآنية الذهب والفضة، أي: يحرم، وقد يطلق على ترك الأولى (¬2). الأساليب التي تدل على الكراهة: 1 - اللفظ الصريح بالكراهة، وما أشبهها من الألفاظ التي تصرح بعدم الاستحسان، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق" (¬4). ¬

_ (¬1) نهاية السول: 1 ص 61، وانظر: إرشاد الفحول: ص 6، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، أصول الفقه، الخضري: ص 53. (¬2) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 63، مختصر ابن الحاجب: ص 41، أعلام الموقعين: 1 ص 41، وكان الإمام مالك يعبر كثيرًا عن الحرام بالمكروه ورعًا وخوفًا واحتياطًا. (¬3) رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة. (¬4) رواه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه الحاكم وصححه، ورواه البيهقي.

حكم المكروه

2 - أن ينهى الشارع عنه نهيًا مقترنًا بما يدل على صرفه إلى الكراهة، مثل قوله تعالى في كراهة السؤال عن المباح خشية أن يحرم على المؤمنين: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، والقرينة التي صرفت النهي عن التحريم إلى الكراهة هي قوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101]. 3 - أن يطلب الشارع اجتنابه وتركه مع القرينة التي تدل على الكراهة دون التحريم، مثل قوله تعالى في كراهة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] قال الحنفية: القرينة على صرف الطلب من التحريم إلى الكراهة أن البيع مشروع ومباح في أصله، وإنما كره لأنه يشغل عن الصلاة. ونلاحظ أن الأساليب التي تفيد التحريم والكراهة واحدة تقريبًا وتشترك فيما بينها، فإن طلب الشارع الكف عن أمر، أو جاء النهي عامًّا، أو طلب الاجتناب مطلقًا، كان الفعل حرامًا، وإن وجدت القرينة التي تصرفه عن الحرمة كان مكروهًا، ومن القرائن اللفظية والنصية ترتيب العقوبة على الفعل أو عدم ترتيبها (¬1). حكم المكروه: إن الفعل المكروه يشتمل على بعض المفاسد، ولذا ترجح طلب تركه على طلب فعله، ولكنه لم يصل إلى درجة الحرام، وإن فاعله لا يستحق العذاب والعقاب في الدنيا والآخرة، وقد يستحق اللوم والعتاب على فعله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن رغب عن سنتي فليس ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 129، مباحث الحكم: ص 150، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 85، أصول الفقه الإسلامي، شعبان: ص 241، أصول الفقه، البرديسي: ص 77.

مني" (¬1)، وتارك المكروه يمدح ويثاب إذا نوى به التقرب إلى اللَّه تعالى. ويتفرع عن بحث المكروه عدة أحكام هي: 1 - اختلف العلماء في المكروه، هل هو منهيٌّ عنه أم لا؟ كما اختلفوا في المندوب هل هو مأمور به أم لا؟ والجمهور على المكروه منهي عنه حقيقة، خلافًا للحنفية، كما أن المندوب مأمور به، والأدلة واحدة، والخلاف واحد، وقد سبق الكلام عنه في المندوب (¬2). 2 - اختلف العلماء في المكروه هل يعتبر حكمًا تكليفيًّا أم لا؟ ذهب الجمهور إلى أنه ليس تكليفًا، لأن تركه ليس إلزامًا، ولا كلفة فيه، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: إنه تكليف، والأدلة نفسها التي سبقت في المندوب (¬3). وخلاصة القول: إن المكروه مع المحرم كالمندوب مع الواجب. 3 - إن الحنفية يقسمون المكروه إلى قسمين، مكروه تحريمي ومكروه تنزيهي، والمكروه التحريمي هو ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا بدليل ظني مثل لبس الحرير والذهب على الرجال الثابت بحديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "هذان حرام على رجال أمتي حلٌّ لإناثهم" (¬4)، والبيع على بيع الآخر، والخطبة على خطبة غيره، وحكمه أنه إلى الحرام أقرب، وهو قسم من الحرام عند الإمام أبي حنيفة والإمام أبي يوسف، وإن أطلق عليه لفظ المكروه، ويأخذ أحكام الحرام تقريبًا من تحريم ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم من حديث طويل. (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 225، الإحكام، الآمدي: 1 ص 114، مختصر ابن الحاجب: ص 41. (¬3) المراجع السابقة، الموافقات: 1 ص 97. (¬4) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه.

الفعل وطلب الترك واستحقاق العقاب على الفعل، ولكن لا يكفر جاحده. والمكروه التنزيهي هو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم، وحكمه مثل حكم المكروه المذكور عند الجمهور سابقًا، وأن فاعله يخالف الأولى في المكروه، مثل الوضوء من سؤر سباع الطير، وأكل لحوم الخيل (¬1). 4 - قسم بعض الشافعية المكروه إلى قسمين، بحسب الدليل في النهي، فإن كان النهي غير الجازم مخصوصًا بأمر معين فهو مكروه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" (¬2)، ومثل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل، فإنها خلقت للشياطين (¬3)، وإن كان النهي غير الجازم غير مخصوص بأمر معين فيكون فعله خلاف الأولى، كالنهي عن ترك المندوبات وإفطار المسافر في رمضان (¬4). ¬

_ (¬1) الإحكام، ابن حزم: 3 ص 321، التوضيح: 3 ص 80، مصادر التشريع الإسلامي، صالح: ص 549، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 44، أصول الفقه، خلاف: ص 131، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 87، أصول الفقه، البرديسي: ص 77. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن. (¬3) رواه ابن ماجه، وأعطان الإبل: المبارك التي تنام فيها، أو تجتمع للشرب فيها. (¬4) حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 80، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 113.

المطلب الخامس في المباح

المطلب الخامس في المباح تعريف المباح: المباح لغة: المأذون والمعلن، من باح الشيء ظهر، وأباحه أظهره، والإباحة بمعنى الإظهار وبمعنى الإطلاق والإذن، وأباح لك ماله: أذن في الأخذ والترك، وجعله مطلق الطرفين، وأباح الشيء أحله لك (¬1). وفي الاصطلاح نذكر تعريفين للمباح -كما أسلفنا في غيره- صع البيان أن المعنى الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي. التعريف الأول: المباح هو ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه (¬2). فالشارع لم يطلب فعل المباح ولم يطلب تركه واجتنابه، فهو مستوي الطرفين، ويعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع، فيدخل فيه ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 91، القاموس المحيط: 1 ص 216. (¬2) نهاية السول: 1 ص 52 وحاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 83.

التعريف الثاني

الواجب المخير، فإن كل خصلة منه يخير المرء بين فعلها وتركها، ويدخل فيه الواجب الموسع، لأن المكلف مخير بين الصلاة في أول الوقت أو في تركها (¬1). ويرد على هذا الاعتراض بأن الواجب الموسع أو المخير مطلوب من الشارع، وبعد طلبه خير المكلف في أجزائه أو في وقته، أما المباح فليس مطلوبًا أصلًا. التعريف الثاني: عرف الشوكاني المباح بأنه ما لا يمدح على فعله ولا على تركه (¬2). فالشارع الكريم قصد تخيير المكلف في الفعل والترك، فما فعله المكلف فهو قصد الشارع، وذلك لتساوي المفاسد والمصالح في المباح، أو لتساوي النفع والضرر فيه، أو لأن الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية والعقل السليم الذي خلقه اللَّه تعالى يتجه نحوه، كإباحة الأكل والشرب وأنواع اللباس والمشي في الطرقات والتمتع بالهواء والوقوف في الشمس، ولذا فإن فاعله لا يستحق المدح وتاركه لا يستحق المدح. وجمع الغزالي وغيره بين التعريفين السابقين فقالوا: المباح ما ورد الإذن من اللَّه تعالى بفعله وتركه، غير مقرون بذم فاعله ومدحه، ولا بذم تاركه ومدحه (¬3). ويرادف المباح الحلال والجائز والمطلق (¬4). ¬

_ (¬1) الإباحة عند الأصوليين والفقهاء، مدكور: ص 32، أصول الفقه، خلاف: ص 130، أصول الفقه، الخضري: ص 57. (¬2) إرشاد الفحول: ص 6، وانظر: كتاب الحدود في الأصول، الباجي: ص 55. (¬3) المستصفى، له: 1 ص 66، وانظر: المدخل إلى مذهب أحمد: ص 64، الإحكام، الآمدي: 1 ص 115، نهاية السول: 1 ص 61، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 58. (¬4) إرشاد الفحول: ص 6.

الأساليب التي تفيد الإباحة

الأساليب التي تفيد الإباحة (¬1): 1 - النص الصريح على إباحة الفعل أو التخيير فيه، مثل: افعلوا إن شئتم، أو اتركوا إن شئتم، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصوم في السفر: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر". 2 - النص على عدم الإثم على الفعل أو ما في معناه، كعدم الجناح ونفي الحرج، قال تعالى في إباحة الخلع على مال بين زوجين: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقال تعالى في إباحة التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها في أثناء العدة: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، وقال تعالى في إباحة ترك الجهاد على الأعمى وإباحة الأكل من بيت المرء وبيت أبيه وأمه: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61]. 3 - الأمر بالفعل مع القرينة الدالة على أن الأمر للإباحة وليس للوجوب أو الندب، مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31]. وقوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]. 4 - الأمر بالفعل بعد حظره، فإنه يفيد الإباحة، مثل قوله تعالى في إباحة الصيد بعد التحلل من الحج: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وكان محرمًا في أثناء الحج بقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا ¬

_ (¬1) انظر: المستصفى: 1 ص 75، تيسير التحرير: 1 ص 225، الموافقات: 1 ص 87 وما بعدها، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 45، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 89، مصادر التشريع الإسلامي، صالح: ص 549، أصول الفقه، خلاف: ص 130، الإباحة، مدكور: ص 65.

حكم المباح

فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة" (¬1). وهذا الأسلوب الرابع يرجع إلى ما قبله، وأن الأمر بالفعل بعد حظره قرينة على صرف الأمر للإباحة. 5 - النص على حل الفعل، مثل قوله تعالى في إباحة الطعام وغيره من الطيبات وإباحة طعام أهل الكتاب: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، ومثل قوله تعالى في إباحة الزواج من غير المحارم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، وقال تعالى في إباحة معاشرة الزوجة في ليالي رمضان: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. 6 - الإباحة الأصلية للفعل عند عدم الأمر به أو النهي عنه، لأن المقرر في الشريعة الغراء أن الأصل في الأشياء الإباحة، فإن لم يرد نص شرعي في مسألة ما فيكون حكمها الإباحة لاستصحاب الأصل فيها (¬2). 7 - الاستثناء من أشياء محرمة، كقوله تعالى: (حرمت عليكم ... إلا ...}. حكم المباح: يظهر حكم المباح من تعريفه، أن فاعله أو تاركه لا يستحق العقوبة ولا الذم ولا العتاب، ولا يستحق الثواب والأجر والمدح، وأن الشارع لم يطلب فعله ولم يطلب اجتنابه (¬3)، والأدلة على ذلك ما يلي: ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه والحاكم عن أنس. (¬2) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 64، المستصفى: 1 ص 75، الإحكام: ابن حزم: 6 ص 870، وقارن ما قاله ابن حزم في هذا الموضوع في الإحكام، له: 3 ص 332، وانظر تفصيل هذا الموضوع بإسهاب في كتاب الإباحة، مدكور: ص 484 وما بعدها. (¬3) الموافقات: 1 ص 36 وما بعدها، الإحكام، ابن حزم: 3 ص 321، أصول الفقه، =

1 - إن حقيقة المباح عند الشارع هو التخيير في الفعل والترك من غير مدح ولا ذم، وعند تحقق الاستواء بين الطرفين والتخيير فيهما فلا يتعلق الثواب والأجر أو الذم والعقاب على الفعل أو الترك. 2 - إن فاعل المباح لا يعتبر مطيعًا، لأن الطاعة لا تكون إلا على طلب، كما أن تاركه لا يكون مطيعًا، لأن الشارع لم يطلب تركه، وإذا افترضنا أن فاعله مطيع وله الأجر، فيجب أن يكون تاركه مطيعًا وله الأجر، وهذا غير صحيح ولا معقول. 3 - إن النذر بترك المباح لا يلزم الوفاء به، لأن فعل المباح ليس طاعة، وكذا تركه. 4 - إن المباح قسم خامس في الحكم التكليفي يختص بالتخيير من الشارع، والمساواة بين الطلب والترك، وعدم تعلق الطاعة به، فلو تعلقت به طاعة كان مطلوبًا، ودخل في الواجب أو المندوب، وخرج عن كونه قسمًا خامسًا، وهو مخالف للإجماع. ويتعلق بحكم المباح أمران: الأول: أن المباحات إذا قَصَدَ بها المكلف وجه اللَّه تعالى، وابتغى مرضاته، وأنه يقوم بها بقصد الطاعة فإنها تنقلب إلى طاعة وعبادة، كالأكل للتقوي على الطاعة والعبادة والعلم والجهاد، ومثل التمتع بأشعة الشمس بقصد تنشيط الجسم ليصبح قويًّا صحيحًا يحبه اللَّه ورسوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف وفي كل خير" (¬1). وهذا الموضوع ميزة من ميزات وخصائص الإسلام في توسيع معنى ¬

_ = الخضري: ص 57، الإباحة، مدكور: 285. (¬1) رواه مسلم وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة.

هل المباح مأمور بطلبه أو باجتنابه؟

العبادة، وأن كل أمر قصد به المكلف وجه اللَّه تعالى أصبح عبادة يستحق به صاحبه الأجر والثواب. الثاني: أن المباح خادم للواجب والمندوب، وأن المباح مباح بالجزء مطلوب الفعل أو مطلوب الترك بالكل (¬1)، وهذا ما انفرد به الشاطبي، وسوف نعرضه بالتفصيل في نهاية البحث. هل المباح مأمور بطلبه أو باجتنابه؟: قبل الجواب عن هذا السؤال نبين أن المباح حكم شرعي بإجماع علماء الأصول، وخالف بعض المعتزلة وقالوا: إن المباح ليس حكمًا شرعيًّا، لأن المباح ما لا حرج في فعله وتركه، وهذا ثابت قبل النص عليه في الشرع، فيبقى مستمرًا لاستصحاب الحال، ولا علاقة للحكم التكليفي به، والواقع أن المباح كحكم شرعي هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بتخيير المكلف بين الفعل والترك، وهذا ثابت بالخطاب الذي تثبت به الأحكام الشرعية الأخرى (¬2)، ولئن كان المباح حكمًا شرعيًّا، فإنه ليس حكمًا تكليفيًّا، لأن التكليف ما فيه كلفة ومشقة، والتخيير ليس فيه كلفة ومشقة، وإنما دخل في الحكم التكليفي من جهة التغليب، ويدخل في الواجب من جهة الاعتقاد بإباحته (¬3). أما من جهة الأمر بالمباح فيكاد العلماء يتفقون على أن المباح غير مأمور به، وأن الشارع خير المكلف فيه، فلم يأمر المكلف بفعله ولم يطلب منه الترك (¬4). ¬

_ (¬1) الموافقات: 1 ص 78، 85. (¬2) المستصفى: 1 ص 75، الإحكام، الآمدي: 1 ص 115، مباحث الحكم: ص 107. (¬3) الإحكام، الآمدي: 1 ص 117، مباحث الحكم: ص 109، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 64. (¬4) المستصفى: 1 ص 75، تيسير التحرير: 2 ص 226، الإحكام، الآمدي: 1 ص 115، =

وخالف في ذلك الكعبي من كبار المعتزلة، وقال: إن المباح مأمور به، ونفى وجود المباح في الأحكام الشرعية، وأن الأحكام الشرعية إما أن تكون مطلوبة الفعل أو مطلوبة الترك، واستدل على ذلك بأن القيام بأحد المباحات يشغل المكلف عن الحرام، ويكون عمل المباح تركًا للحرام، وترك الحرام واجب، فالمباح واجب، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالاشتغال بالأكل أو بالصيد يمنع الإنسان ويبعده عن السرقة وشرب الخمر وقذف المحصنات والغيبة والنميمة. وقال الكعبي أيضًا: إن الأحكام الشرعية تتعلق بالنفع والضرر للأفعال، فإن كانت نافعة، أو كان نفعها أكثر من ضررها فهي مطلوبة الفعل، وإن كانت ضارة، أو كان ضررها أكثر من نفعها، فهي مطلوبة الترك، وإنه لا يوجد فعل يتساوى فيه النفع والضرر في آن واحد، أو يتساوى فيه الوجود والعدم، فالأكل فيه منفعة ومطلوب فعله لتغذية الجسم، والنوم مطلوب لصحة الإنسان، واللهو مطلوب بمقدار ما ينتفع الذهن به (¬1). وناقش الجمهور أدلة الكعبي وردوا شبهته بأن ترك الحرام والكف عنه أمر نفسي وإرادي ولا يتحقق بالاشتغال بالمباح، وأن المرء يمارس المباحات دون أن يخطر بباله ترك الحرام (¬2). ¬

_ = الموافقات: 1 ص 73، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 64، مختصر ابن الحاجب: ص 41. (¬1) المراجع السابقة: أصول الفقه، الخضري: 58، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 47، البرهان، الجويني: 1 ص 294. (¬2) أصول الفقه، الخضري: ص 59، مباحث الحكم: ص 108، الإباحة: ص 289، وما بعدها. تيسير التحرير: 2 ص 226، مباحث الحكم: ص 109.

أقسام المباح

كما ينتج عن قول الكعبي نتائج خطيرة لا يقرها الشرع، وذلك أن ترك الحرام قد يكون بالمباح أو بالمندوب أو بغيرهما فلم يتعين المباح لترك الحرام، وأن ترك الحرام قد يكون بحرام مثله، فهل يكون الحرام الثاني واجبًا حسب قاعدة الكعبي؟ لأنه ينشغل به الفاعل عن الحرام الأول، وأن الصلاة إذا شغلت عن واجب آخر أصبحت حرامًا؟ وهذا غير صحيح باتفاق. وأجمع العلماء على تقسيم الفعل إلى خمسة أقسام، وأن المباح هو القسم الخامس، فإن نفاه الكعبي فيكون مخالفًا للإجماع، وهذا باطل (¬1). ولو اقتصر الكعبي على أن بعض المباح قد يكون واجبًا لكان صحيحًا، وذلك إذا اتجه المرء إلى حرام، ولم يستطع تركه إلا بالاشتغال بمباح، فيكون المباح هنا واجبًا، لأنه وسيلة إلى واجب وهو ترك الحرام (¬2). والمباح قد يؤدي إلى مصلحة محققة أو مفسدة ومضرة فيتغير وصفه من المباح إلى غيره كالمندوب والمكروه إذا أدى إلى عكسه فيتغير حكمه (¬3). وخلاصة القول: إن المباح حكم شرعي، وإنه حكم غير تكليفي، وإن المباح غير مأمور به شرعًا. أقسام المباح: ينقسم المباح من حيث تعلقه بالنفع والضرر إلى ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 2 ص 227. (¬2) مباحث الحكم: ص 109. (¬3) انظر تفصيل ذلك في الإباحة، مدكور: ص 372 وما بعدها.

1 - قسم لا ضرر على المكلف في فعله وتركه، كالأكل والشرب واللباس والصيد وصبغ الثياب والتنزه في الهواء الطلق وغير ذلك مما سبق شرحه. 2 - وقسم لا ضرر على المكلف في فعله مع فساده وثبوت ضرره وتحريم أصله، وهو ما أباح الشارع فعله من المحرمات للضرورة أو للإكراه، وما أباح الشارع تركه من الواجبات في حالات خاصة، أو لا ضرر على المكلف بتركه مع وجوب أصله كالإفطار للحامل المرضع والمسافر، وترك القيام في الصلاة للعاجز، وسوف ندرس هذا القسم في الرخصة والعزيمة (¬1)، وما أباح الشارع فعله بعد تحريمه لسبب طارئ مثل دم المرتد يباح، ولا ضرر على إراقته، وقد كان دمه حرامًا فلما ارتد زالت حرمة دمه، بل ينقلب إلى وجوب قتله على الحاكم، وكذلك أخذ جزء من مهر المرأة فإنه حرام لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)} [النساء: 20]، أما إذا استمر الشقاق بين الزوجين فيباح للرجل أن يأخذ من مال زوجته ما تفتدي به نفسها في الخلع كما سبق، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. 3 - قسم ثبت فساده وضرره، ولكن اللَّه تعالى عفا عن صاحبه، فصار فعله مباحًا، فلا يذم على تركه ولا يثاب على فعله، ويعرف عند الفقهاء بمرتبة العفو. والأمثلة على ذلك كثيرة، كارتكاب المحرمات قبل الإسلام، مثل الزواج من المحارم، والزواج من زوجة الآباء، والجمع بين الأختين، ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في كتاب: الإباحة، مدكور ص 372 وما بعدها.

ثم جاء الشرع السماوي فحرم هذه الأفعال، ونص على العفو عنها، فقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [النساء: 22]، وأكد هذا العفو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الإسلام يَجُبُّ ما قبله" (¬1)، ومثله ما كان شائعًا في أول الإسلام ولم يحرم، واستمر المسلمون على فعله، ثم نص الشرع على تحريمه، كالخمر وتعدد الزوجات فوق الأربع وبعض بيوع الجاهلية وغيرها مما حرمته الشريعة، فكانت قبل التحريم مباحة لا يعاقب فاعلها. وهذا القسم يعتبر من المباح تبعًا لا أصالة. واعتبر بعض الفقهاء هذا القسم مرتبة مستقلة عن الأحكام الخمسة، وأنها مرتبة بين الحلال والحرام، لأن المباح هو ما تساوى طرفاه في النفع والضرر، وهذا القسم ثبت ضرره أكثر من نفعه قطعًا لتحريم الشارع له، ولكن اللَّه تعالى عفا عنه، ولم يعذب صاحبه كشارب الخمر مثلًا، واستدل الفقهاء على قولهم بما ورد من النصوص التي تدل على هذه المرتبة المستقلة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها" (¬2)، ومثل قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، وما ثبت من العفو عن الخطأ والنسيان والاستكراه، وأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم بناء على البراءة الأصلية، والأمثلة كثيرة على الأمور المعفو عنها، كالرخص أيضًا، والترجيح بين الدليلين عند ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد عن الزبير وجبير بن مطعم. (¬2) رواه الحاكم عن أبي ثعلبة. والبيهقي (10/ 12).

المباح من حيث الجزء والكل

التعارض وعدم إمكان الجمع، وما سكت الشارع عنه (¬1). ويمكن أن تدخل هذه الأمور تحت حكم المباح الذي لا يؤاخذ اللَّه سبحانه وتعالى فاعله، ويعفو عنه، لما ورد فيها من العفو وعدم المؤاخذة، وأن الفاعل لا يثاب ولا يعاقب على الفعل، وإن كان ضرره أكثر من نفعه، ولكن قد تحيط به ظروف وقرائن وحالات تجعل الضرر متساويًا مع النفع، أو تجعل النفع أكثر من الضرر كأكل لحم الميتة في المَخْمَصَة وشرب الخمر عند خوف الهلاك. المباح من حيث الجزء والكل: ونختم الكلام عن المباح بمسألة لطيفة ذكرها الشاطبي في المباح، وسبق له مثلها في المندوب، وأن المندوب خادم للواجب، وأن المندوب واجب بالكل، وقد قسم الشاطبي المباح بحسب الكلية والجزئية إلى أربعة أقسام (¬2)، وهي: أولًا: المباح بالجزء المطلوب بالكل من جهة الوجوب، كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والمركب والملبس، فإن هذه الأمور مباحة بالجزء، ويكون المكلف بالخيار في فعلها أو تركها في بعض الأوقات أو الأحوال، أو إذا قام بها غيره من الناس، أما من حيث الجملة فإن الأكل والشرب يجب فعلهما، وإن ترك المكلف الأكل والشرب بشكل كلي حتى أصابه الهلاك والموت أو المرض فهو آثم، ويكون تركه حرامًا، فيجب عليه الأكل والشرب، ومثله البيع والشراء ووطء الزوجات وممارسة وسائل الاكتساب. ¬

_ (¬1) انظر بحثًا مستفيضًا وطريفًا مع الأدلة والبراهين والأمثلة في الموافقات، للشاطبي: 1 ص 100 وما بعدها. (¬2) الموافقات، له: 1 ص 78، 86، وانظر: مباحث الحكم: ص 113، أصول الفقه، أبو زهرة: 46.

ثانيًا: المباح بالجزء المطلوب بالكل على جهة الندب، كالتمتع بالأكل والشرب بما فوق الحاجة، فهذه الأشياء مباحة بالجزء، ويخير المكلف بين فعلها وتركها في بعض الأحوال أو الأزمان، لكنها مندوبة بالكل بحيث لو تركها المكلف لكان تركه مكروهًا لمخالفة طلب الشارع لها طلبًا غير جازم، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إذا أوسع اللَّه عليكم فأوسعوا على أنفسكم، إن اللَّه يحب أن يرى نعمته على عبده" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه جميل يحب الجمال" (¬2)، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. ثالثًا: المباح بالجزء المحرم بالكل، كالمباحات التي تقدح المداومة عليها في العدالة، كالتمتع باللذائذ، والمجازفة في الكلام، واعتياد الحلف، وشتم الأولاد، فإنها مباحة في الأصل، ولكن الإكثار منها والاعتياد عليها يصبح حرامًا، ومثله الأكل فوق الشبع مما يؤدي إلى التخمة والمرض. رابعًا: المباح بالجزء المكروه بالكل، كالتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام واللعب به والغناء المباح، فإنها مباحة بالجزء في أصلها إذا فعلها المكلف مرة أو مرتين في يوم ما، ولكن الاستمرار عليها وقضاء الأوقات فيها وجعلها عادة للمرء يترتب عليها بعض الضرر بمخالفة محاسن العادات، فتصبح مكروهة. قال الشاطبي: إن المباح بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وحسنه والبيهقي وأحمد. (¬2) رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد وأبو يعلى. انظر: بحثًا مستفيضًا وطريفًا مع الأدلة والبراهين والأمثلة في الموافقات للشاطبي 1 ص 100 وما بعدها.

خاتمه الحكم التكليفي

البواقي، فالمباح يكون مباحًا بالجزء مطلوبًا بالكل على جهة الندب أو الوجوب، ومباحًا بالجزء منهيًا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع (¬1) ... ويتابع الشاطبي كلامه ويقول: ونخلص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق، وإنما هو مباح بالجزء خاصة، وأما بالكل فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فإن قيل: أفلا يكون هذا التقرير نقضًا لما تقدم من أن المباح هو التساوي بين الطرفين؟ فالجواب أن لا، لأن ذلك الذي تقدم من حيث النظر إليه في نفسه من غير اعتبار أمر خارج، وهذا النظر باعتباره بالأمور الخارجة، فإذا نظرت إليه في نفسه فهو الذي سمي هنا المباح بالجزء، وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة فهو المسمى بالمطلوب بالكل (¬2). خاتمه الحكم التكليفي: وإلى هنا ننتهي من الحكم التكليفي وأنه يقسم عند الجمهور إلى خمسة أقسام وهي: الواجب والمندوب والمباح والحرام والمكروه، وزاد الحنفية قسمين: وهما: الفرض، والمكروه تحريمًا، فصار المجموع عندهم سبعة أقسام. وهذه الأحكام التكليفية تتعلق بأفعال المكلف، فقد يكون الفعل واجبًا كالصلاة، وقد يكون مندوبًا كالنوافل، وقد يكون مباحًا كالبيع والأكل، وقد يكون مكروهًا مثل كثرة الكلام، وقد يكون محرمًا كالسرقة والقتل. وقد تتعلق هذه الأحكام بفعل واحد، وتعتريه الأحكام الخمسة كلها أو بعضها بحسب الظروف والأحوال التي تحيط به، كالزواج يكون ¬

_ (¬1) الموافقات، له: 1 ص 78، وانظر: رسالة المسترشدين: ص 33 هامش. (¬2) الموافقات، له: ص 86.

واجبًا على المكلف إذا استطاع تكاليف الزواج وتأكد من نفسه الوقوع في الحرام، إذا لم يتزوج، ويكون مندوبًا في الأحوال العادية مع القدرة على الباءة، ويكون محرمًا إذا تأكد من نفسه ظلم زوجته وعدم قيامه بحقوقها، ويكون مكروهًا إذا خاف ذلك، ويكون مباحًا إذا تساوت المحاسن والمفاسد (¬1)، ومثل الزواج كثير من أفعال المكلفين التي تعتريها الأحكام الخمسة أو بعضها بحسب القرائن المحيطة بها، كما أن الأحكام تختلف من حيث الجزئية والكلية، وسبق بيان ذلك في المندوب والمباح، قال الشاطبي: إن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية عن غير اتفاق، ولمدع أن يدعي اتفاق أحكامها، وإن اختلفت بالكلية والجزئية (¬2). وبعد الانتهاء من الكلام عن الحكم التكليفي ننتقل للقسم الثاني من الحكم الشرعي، وهو الحكم الوضعي. ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 132، مصادر التشريع الإسلامي: ص 550، الوسيط في أصول الفقه: ص 88. (¬2) الموافقات: ص 82 وما بعدها، وانظر فيها أمثلة تفصيلية لكل قسم وإنه يختلف أيضًا حسب الأشخاص.

المبحث الثاني في الحكم الوضعي

المبحث الثاني في الحكم الوضعي سبق تعريف الحكم بأنه خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وأن الحكم ينقسم عند الجمهور إلى قسمين: الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وقد انتهينا من الكلام عن الحكم التكليفي، ونشرع الآن في القسم الثاني وهو الحكم الوضعي. تعريف الحكم الوضعي: الوضع في اللغة: الإسقاط والترك والافتراء والولادة وغير ذلك، من وضع عنه دينه أسقطه، ووضعت الشيء بين يديه تركته هناك، ووضع الرجل الحديث افتراه وكذبه، ووضعت الحامل ولدها أي ولدته (¬1). والحكم الوضعي في الاصطلاح: هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بجعل الشيء سببًا لفعل المكلف، أو شرطًا له، أو مانعًا، أو صحيحًا، أو فاسدًا، أو رخصة، أو عزيمة، فالوضع جعل الشيء مرتبطًا بشيء آخر. ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 2 ص 913، القاموس المحيط: 3 ص 94.

الحكمة من خطاب الوضع

فالحكم الوضعي هو الوصف المتعلق بالحكم التكليفي، وهذا الوصف إما أن يكون سببًا أو مانعًا أو شرطًا أو صحيحًا أو فاسدًا أو رخصة أو عزيمة (¬1). ويطلق الحكم الوضعي على الوصف بالسببية والشرطية والمانعية والصحة والفساد والرخصة والعزيمة، وهذا الوصف إما أن يسبق الحكم التكليفي كالأنواع الثلاثة الأولى، وإما أن يكون لاحقًا وأثرًا للحكم التكليفي كالنوعين الأخيرين، وعلى كلا الحالين فالحكم الوضعي علامة للحكم التكليفي ومرتبط به، فاللَّه سبحانه كلف الناس بأحكام، ولكنه ربط هذا التكليف بأمور أخرى. الحكمة من خطاب الوضع: وتتجلى الحكمة من وجود الحكم الوضعي مع مبدأ صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وذلك أنه يتعذر معرفة حكم اللَّه تعالى في كل الأحوال، كما تتعذر معرفة حكم اللَّه تعالى في كل الوقائع والمسائل بعد انقطاع الوحي، فاقتضت حكمة اللَّه تعالى أن يعرف الناس على أحكامه بربطها بأمور محسوسة تقتضي معرفة الأحكام الشرعية، كربط الحكم بالعلة، وربط الحكم بالسبب، وذلك حتى لا تتعطل الوقائع عن الأحكام (¬2). ومن جهة ثانية فلا يشترط للحكم الوضعي التكليف والعلم ¬

_ (¬1) نهاية السول، الإسنوي: 1 ص 71، مناهج العقول، شرح منهاج الوصول، البدخشي: 1 ص 68، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 85، الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي: 1 ص 91، تسهيل الوصول: ص 255، أصول الفقه، خلاف: ص 132، المسودة في أصول الفقه: ص 80. (¬2) انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 434، مختصر الطوفي: ص 30، روضة الناظر: ص 30، المستصفى: 1 ص 93، أصول السرخسي: 2 ص 302.

أقسام الحكم الوضعي

والقدرة، فلا يشترط فيمن يتعلق به الحكم الوضعي أن يكون مكلفًا، كما لا يشترط فيه العلم به، والقدرة عليه، إلا في حالتين: الأولى: سبب العقوبة كالقصاص والحدود، فيشترط لترتب العقوبة أن يكون الفاعل مكلفًا وعالمًا وقادرًا على الفعل، فلا تجب العقوبة على المخطئ والمكره والمجنون والصغير. والثانية: نقل الملك: كالبيع والهبة والوصية، فيشترط فيها العلم والقدرة، والحكمة من ذلك أن الشرع رتب العقوبة ونقل الملك بحسب قانون العدل بين الناس والرفق بهم وعدم تكليفهم بالمشاق أو بما لا يطاق (¬1). أقسام الحكم الوضعي: ينقسم الحكم الوضعي بحسب طبيعة ارتباط الحكم التكليفي به إلى خمسة أقسام، وهي: السبب، والشرط، والمانع، والصحيح ويقابله الفاسد أو الباطل، والعزيمة ويقابلها الرخصة. وذلك أن الشيء يقتضي أن يكون سببًا لشيء آخر، أو شرطًا له، أو مانعًا، أو مسوغًا لرخصة بدل العزيمة، أو صحيحًا، أو غير صحيح، فكل منها حكم ثبت بخطاب الوضع. واتفق العلماء على اعتبار السبب والشرط والمانع من أقسام الحكم الوضعي، واختلفوا في الصحة والفساد أو البطلان والرخصة والعزيمة. ونخصص كل قسم في مطلب خاص، فنبين تعريفه وحكمه واختلاف العلماء فيه إن وجد، وما يتعلق به من بحوث. ¬

_ (¬1) انظر شرح الكوكب المنير: 1 ص 437 وما بعدها، التمهيد للإسنوي: ص 25، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 85، الفروق: 1 ص 161، 163، شرح تنقيح الفصول: ص 79، 80، مختصر الطوفي: ص 80.

المطلب الأول في السبب

المطلب الأول في السبب تعريف السبب: السبب في اللغة: عبارة عما يمكن التوصل به إلى مقصود ما، ومنه سمي الطريق سببًا، وسمي الحبل سببًا (¬1). وفي الاصطلاح: عرفه الآمدي بأنه: الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي (¬2). فالوصف هو المعنى، والظاهر هو المعلوم ضد الخفي، والمنضبط هو المحدد بأن لا يختلف باختلاف الأشخاص أو الأحوال، بخلاف الحكمة وهي الباعث على شرع الأحكام لمصلحة العباد، من جلب نفع أو دفع ضرر، والدليل السمعي هو ما كان في الكتاب والسنة، وكونه معرفًا لحكم شرعي أي علامة على الحكم الشرعي من غير تأثير فيه. فالسبب هو المعنى الظاهر المعلوم المحدد الذي ثبت بالكتاب والسنة أنه علامة على وجود الحكم، أو هو ما ارتبط به غيره وجودًا وعدمًا. ¬

_ (¬1) قال الجوهري: "السبب: الحبل، وكل شيء يتوصل به إلى أمر آخر"، (الصحاح: 1 ص 145)، وانظر: المصباح المنير: 1 ص 356، القاموس المحيط: 1 ص 81. (¬2) الإحكام، له: 1 ص 181، وانظر: أصول السرخسي: 2 ص 301.

وحقيقة السبب أن الشارع جعل وجوده علامة على وجود مسببه وهو الحكم، وجعل تخلفه وانتفاءه علامة على تخلف وانتفاء ذلك الحكم، أي: إن الشارع ربط وجود المسبب بوجود السبب، وعدمه بعدمه، ويلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدم السبب عدم المسبب (¬1). مثاله: جعل الزنا سببًا لوجوب الحد، لأن الزنا لا يوجب الحد بذاته، وإنما بجعل الشارع له، وزوال الشمس سبب في وجوب الظهر، وغروب الشمس سبب في وجوب المغرب، وطلوع الفجر سبب في وجوب الصبح. ويعرف السبب بإضافة الحكم إليه كحد الزنا، فالحد حكم شرعي أضيف إلى الزنا، فعرفنا أن الزنا هو السبب، مثل صلاة المغرب، فالصلاة حكم شرعي أضيف إلى المغرب، فعرفنا أن الغروب هو السبب (¬2). ويبدو من التعريف السابق أن السبب لا يكون سببًا إلا بجعل الشارع له سببًا، لأنه سبب لحكم تكليفي، والتكليف من اللَّه تعالى الذي يكلف المرء بالحكم، ويضع السبب الذي يرتبط به الحكم، وهذه الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في وجود الأحكام، بل هي علامة وأمارة لظهورها ووجودها ومعرفة لها عند جمهور العلماء، فالسبب وسيلة وصلة، كالحبل في إخراج الماء من البئر (¬3)، ولذا عرف الإمام الغزالي السبب ¬

_ (¬1) التلويح على التوضيح: 3 ص 102، إرشاد الفحول: ص 6، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 67، مصادر التشريع الإسلامي، صالح: 551، مباحث الحكم: ص 135. (¬2) هذا هو السبب الظاهر عند المتأخرين، ويرى المتقدمون أن السبب للعبادات مثلًا ليس الوقت وغيره وإنما نعم اللَّه الكثيرة علينا هي سبب العبادة. (¬3) قال بعض العلماء وهم المعتزلة: إن السبب مؤثر في الأحكام بذاته، بواسطة قوة =

أنواع السبب

فقال: هو ما يحصل الشيء عنده لا به (¬1)، ويقول الشاطبي رحمه اللَّه: إن السبب غير فاعل بنفسه، وإنما وقع المسبب عنده لا به (¬2)، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7 - 8]. أنواع السبب: ينقسم السبب عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، أهمها: أولًا: أنواع السبب من حيث موضوعه: ينقسم السبب باعتبار موضوعه إلى قسمين: 1 - السبب الوقتي: وهو ما لا يعرف له حكمة باعثة في تعريفه للحكم، كالزوال سبب وقتي لوجوب الظهر (¬3)، لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فإن الوقت سبب محض وعلامة على وجوب الصلاة، ورؤية هلال رمضان سبب وقتي لوجوب الصيام، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. 2 - السبب المعنوي: وهو ما يعرف له حكمة باعثة في تعريفه للحكم الشرعي، كالإسكار سبب معنوي لتحريم الخمر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ¬

_ = أودعها اللَّه فيه، وقال بعض العلماء: إن الأسباب تؤثر في الأحكام لا بذاتها، بل بجعل اللَّه تعالى، انظر: المدخل إلى مذهب أحمد: ص 67، الموافقات: 1 ص 129، إرشاد الفحول: ص 6، الإحكام، الآمدي: 1 ص 116، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 95، المستصفى: 1 ص 93، نهاية السول: 1 ص 73، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 67، شرح الكوكب المنير: 1 ص 446. (¬1) المستصفى، له: 1 ص 94. (¬2) الموافقات، له: 1 ص 129. (¬3) انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 450.

ثانيا: أنواع السبب باعتبار علاقته بالمكلف

مسكر حرام" (¬1)، وملك النصاب سبب معنوي لوجوب الزكاة، وكذا السرقة والزنا وقطع الطريق والقتل أسباب للعقوبات (¬2). وتظهر فائدة التقسيم في جواز القياس في القسم الثاني، وعدم جوازه في القسم الأول. ثانيًا: أنواع السبب باعتبار علاقته بالمكلف: ينقسم السبب باعتبار قدرة المكلف على القيام به، وعدم قدرته إلى قسمين: 1 - السبب الذي هو من فعل المكلف ومقدور له: كالبيع، فهو سبب لملك المبيع والثمن، والقتل العمد سبب لوجوب القصاص، وعقد الزواج سبب لإباحة الاستمتاع بين الزوجين، وعقد الإجارة سبب لحل الانتفاع بالعين، وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام، هي: أ- سبب مأمور به شرعًا: ويجب على المكلف فعله، أو يندب له القيام به، كالنكاح، فهو سبب للتوارث، ومأمور به. ب- سبب منهي عنه: كالسرقة سبب للحد، والسرقة منهي عنها. جـ- سبب مأذون به ومباح فعله للمكلف، كجعل الذبح سببًا لحل الحيوان المذبوح، والذبح مباح (¬3). والسبب الذي يكون من فعل المكلف ويكون قادرًا عليه له صفتان، صفة التكليف، لأنه مقدور عليه ومطلوب من الشارع فعله لجلب ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 61، مناهج العقول، البدخشي: 1 ص 68، مختصر ابن الحاجب: ص 42، تسهيل الوصول: 255، إرشاد الفحول: ص 7، شرح الكوكب المنير: 1 ص 450. (¬3) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 54، أبحاث في علم أصول الفقه: ص 159.

ثالثا: أنواع السبب باعتبار المشروعية

المنافع ودفع المضار، ويدخل في الحكم التكليفي، وصفة الوضع، لأن الشارع رتب عليه أحكامًا أخرى، ويدخل في الحكم الوضعي، كالنكاح سبب للتوارث وحل الاستمتاع من جهة، ومندوب إليه من جهة أخرى، وذبح الحيوان سبب لحل الانتفاع، وهو مباح، والقتل سبب للقصاص، وهو حرام، والزنا سبب للحد، وهو حرام (¬1). 2 - السبب الذي ليس من فعل المكلف، ولا يقدر عليه، كالزوال فهو سبب لوجوب صلاة الظهر، والقرابة سبب للإرث والولاية، والموت سبب لنقل ملكية التركة إلى الوارث (¬2)، وهذه الأسباب ليست من فعل المكلف، ولا يقدر عليها. وهذا النوع قد يكون سببًا لحكم تكليفي كالزوال، وقد يكون سببًا لحكم وضعي كالموت، فهو سبب لنقل الملك إلى الورثة. وإن الشارع الذي وضع السبب قصد منه المسبب، لأن الأسباب ليست مقصودة لذاتها، وإنما شرعت لما ينشأ عنها من مسببات، ولأن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد، فتصبح الأحكام كذلك أسبابًا لهذه النتائج وهذه المسببات. ثالثًا: أنواع السبب باعتبار المشروعية: ينقسم السبب باعتبار المشروعية وعدمها إلى نوعين: 1 - السبب المشروع: وهو كل ما أدى إلى مصلحة في نظر الشارع، وإن اقترن به أو تضمن مفسدة بحسب الظاهر، كالجهاد سبب لنشر الدعوة وحماية العقيدة وتبليغ الرسالة، وإن أدى إلى مفسدة كإتلاف ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 54، أصول الفقه، الخضري: ص 61، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 67. (¬2) المراجع السابقة.

2 - السبب غير المشروع

المال وتعريض الأنفس للقتل. وإذا ظهر أحيانًا، أو نتج عن السبب المشروع بعض المفاسد فإنها ليست ناشئة عن السبب المشروع، وإنما تنتج عن أمر آخر مرافق له (¬1). 2 - السبب غير المشروع: وهو ما يؤدي إلى المفسدة في نظر الشارع، وإن اقترن به أو تضمن مصلحة بحسب الظاهر، كالنكاح الفاسد والتبني، فإنها أسباب غير مشروعة لأنها تؤدي إلى مفاسد كثيرة تضر بالفرد والمجتمع، وإن لم تظهر فورًا فإن العاقل المتبصر يدرك خطرها في المستقبل. وإن ما يظهر للمرء أحيانًا من مصالح، أو ما ينتج من منافع عن السبب الفاسد، فلا يكون من ذات السبب الممنوع، وإنما هو من أمر آخر (¬2). يقول الشاطبي: والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابًا للمفاسد، والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابًا للمصالح، إذ لا يصح ذلك بحال (¬3). رابعًا: أنواع السبب باعتبار تأثيره في الحكم: ينقسم السبب باعتبار تأثيره في الحكم وعدمه إلى نوعين: 1 - السبب المؤثر في الحكم (¬4)، ويسمى علة، وهو ما يكون بينه وبين الحكم مناسبة يدركها العقل، وحكمة باعثة لتشريعه، كالإسكار فهو سبب مؤثر في الحكم، وهو علة التحريم، والسفر سبب لجواز ¬

_ (¬1) انظر: أمثلة توضح هذه الأمور في الموافقات: 1 ص 161 وما بعدها. (¬2) الموافقات: 1 ص 160، 163، مصادر التشريع الإسلامي: ص 553. (¬3) الموافقات، له: 1 ص 163. (¬4) السبب المؤثر لا بذاته في الحكم، وإنما بجعل اللَّه تعالى له علامة.

العلاقة بين العلة والسبب

الإفطار، وهو علة الإفطار في رمضان، والعلة هي الوصف المنضبط الذي جعل مناطًا لحكم يناسبه. 2 - السبب غير المؤثر في الحكم: وهو الذي لا يكون بينه وبين الحكم مناسبة، ولا يستلزم وجود مناسبة وحكمة بينه وبين الحكم، مثل الوقت سبب لوجوب الصلاة (¬1)، وهذا يتطلب منا بيان الصلة بين العلة والسبب. العلاقة بين العلة والسبب: العلة أو السبب أمارة على وجود الحكم، كالإسكار في الخمر أمارة على التحريم، والسفر في رمضان أمارة على جواز الإفطار، ولذا قال بعض علماء الأصول: إنهما بمعنى واحد، وقال آخرون: إنهما متغايران، وخصوا العلة بالأمارة المؤثرة التي تظهر فيها المناسبة بينها وبين الحكم، وخصوا السبب بالأمارة غير المؤثرة في الحكم. وقال أكثر العلماء: إن السبب أعم من العلة مطلقًا، فكل علة سبب ولا عكس، وإن السبب يشمل الأسباب التي في المعاملات والعقوبات، ويشمل العلة التي تدرس في القياس، والفرق بينهما أن الصفة التي يرتبط بها الحكم إن كانت لا يدرك تأثيرها في الحكم بالعقل، ولا تكون من صنع المكلف، كالوقت للصلاة المكتوبة، فتسمى باسم السبب، أما إذا أدرك العقل تأثير الوصف بالحكم فيسمى علة ويسمى سببًا أيضًا، فالسبب يشمل القسمين، وهو أعم من العلة كما قدمنا (¬2). ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 118، التوضيح والتلويح: 2 ص 102، أصول الفقه، الخضري: ص 60، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 56. (¬2) المستصفى: 1 ص 94، تسهيل الوصول: ص 256، الموافقات: 1 ص 179، أصول السرخسي: 2 ص 302، 311، الحدود في الأصول، الباجي: ص 72.

خامسا: أنواع السبب باعتبار نوع المسبب

خامسًا: أنواع السبب باعتبار نوع المسبب: ينقسم السبب باعتبار نوع المسبب الذي يدل عليه واختلاف أثره عليه إلى قسمين. 1 - السبب لحكم تكليفي، كالوقت الذي جعله الشارع سببًا لإيجاب الصلاة في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وظهور الهلال سبب لإيجاب الصوم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته" (¬1). 2 - سبب لإثبات ملك أو حل أو إزالة الملك والحل، كالبيع سبب لإثبات الملك، والعتق سبب لإزالة الملك، وعقد الزواج سبب لحل المتعة بين الزوجين، والطلاق سبب لإزالة حل المتعة، وهكذا (¬2). سادسًا: أنواع السبب باعتبار مصدر العلاقة بينه وبين المسبب: ينقسم السبب باعتبار مصدر الرابطة والعلاقة بينه وبين المسبب إلى ثلاثة أنواع: 1 - السبب الشرعي: وهو السبب الذي تكون العلاقة والرابطة بينه وبين المسبب ناتجة عن حكم شرعي، كالوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، فإنه سبب له بحكم الشرع. 2 - السبب العقلي: وهو السبب الذي تكون العلاقة والرابطة بينه وبين المسبب ناتجة عن حكم العقل، ولم تثبت عن طريق شرعي، كالنظر بالنسبة للعلم، فإنه سبب لاكتساب العلم، وهذا يعرفه العقل، ووجود النقيض سبب في انعدام نقيضه، فالعقل يدرك ذلك. 3 - السبب العادي: وهو السبب الذي تكون العلاقة والرابطة بينه ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد والبيهقي. (¬2) الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 99.

حكم السبب

وبين المسبب ناتجة عن حكم العادة والعرف، مثل حز الرقبة بالنسبة للقتل أو الذبح، والسفر للحج (¬1). وهذا التقسيم لإخراج السبب العقلي والعادي من الحكم الوضعي، وأنه يقتصر على السبب الشرعي. حكم السبب: تبين أن حقيقة السبب هي أنه يلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدم الحكم، فإذا وجد السبب سواء قام به المكلف وكان من فعله، أو كان من غير فعله، وتوافرت الشروط الموضوعة للسبب والمسبب، وانتفت موانع الحكم، ترتب على السبب مسببه حتمًا، سواء أكان المسبب حكمًا تكليفيًّا، أو كان إثبات ملك أو حل أو إزالتهما، وسواء أقصد المكلف ترتب المسبب على فعله أم لم يُرِد، وسواء قصد إلى المسبب أم لم يقصد، لأن ترتب المسبب على السبب من وضع الشارع ولا دخل للمكلف به، ولا عبرة بقصده، ولأن السبب لا يؤثر بنفسه في المسبب، كما سبق عند جمهور العلماء، بل يترتب المسبب على السبب، ولو قصد المكلف مثلًا عدم ترتبه عليه، والأمثلة توضح ذلك، فمن اشترى سلعة ثبت له الملك والانتفاع، ومن سافر في رمضان أبيح له الفطر سواء أقصد ذلك أم لم يقصد، والموت والقرابة سببان للميراث ولو لم يرض الوارث أو المتوفى ذلك، وتدخل التركة في ملك الوارث جبرًا عنه، ولا يحق له أن يرفض التركة أو أن يمتنع عن قبول الميراث، ومن تزوج وجب عليه المهر ونفقة الزوجة، ولو تزوجها على أن لا مهر عليه ولا نفقة، وهكذا (¬2). ¬

_ (¬1) أبحاث في علم أصول الفقه: ص 123، وانظر تقسيم السرخسي للسبب إلى سبب مجازي وسبب محض، وسبب فيه شبهة العلة، وسبب هو بمعنى العلة، أصول السرخسي: 2 ص 304. (¬2) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 6، أصول الفقه، خلاف: ص 134، الموافقات: =

ويعرِّج الشاطبي رحمه اللَّه تعالى في حكم السبب لبيان صلته بالعقيدة وسلوك المسلم في الحياة، ويعرض بحثًا جميلًا وطويلًا نقتبس منه ما يلي: إن الفاعل للسبب عالمًا بأن السبب ليس إليه إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه كان أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على اللَّه تعالى والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها، والخروج عن الأسباب المحظورة، والشكر، وغير ذلك .. (¬1). ثم يقول: إن تارك النظر في المسبب أعلى مرتبة، وأزكى عملًا، إذا كان عاملًا في العبادات، وأوفر أجرًا في العادات، لأنه عامل على إسقاط حظه، بخلاف من كان ملتفتًا إلى المسببات؛ فإنه عامل على الالتفات إلى الحظوظ، لأن نتائج الأعمال راجعة إلى العباد مع أنها خلق للَّه ... (¬2). وينتقل الإمام الشاطبي ليبين النتائج المترتبة على السبب في المعاملات والعقوبات مع بيان العدالة الإلهية فيها، فيقول: إن اللَّه عز وجل جعل المسببات في العادة تجري على وِزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج، فإذا كان السبب تامًّا، والتسبب على ما ينبغي، كان المسبب كذلك، وبالضد، ومن هنا إذا وقع الخلل في المسبب نظر الفقهاء إلى التسبب، هل كان على تمامه أم لا؟ (¬3). والمثال على ذلك الضرب المفضي إلى الموت أو القطع، فإنه سبب للقصاص، فإن كان كاملًا كان الجزاء قصاصًا بالنفس، وإن كان ناقصًا كان الجزاء قصاصًا فيما دون النفس، أو دية أو حكومة عدل أو أرش. ¬

_ = 1 ص 126، 143. (¬1) الموافقات، له: 1 ص 147. (¬2) الموافقات: 1 ص 153. (¬3) الموافقات: 1 ص 157.

وإن سبب السبب ينزل منزلة السبب، كالإعتاق في الكفارة، فإنها سبب لبراءة الذمة، والإعتاق يتوقف على اللفظ والصيغة، فالصيغة سبب الإعتاق، والإعتاق سبب لبراءة الذمة، فيكون سبب السبب كالسبب، لأن الحكم يتوقف عليه (¬1). ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير: 1 ص 461.

المطلب الثاني في الشرط

المطلب الثاني في الشرط تعريف الشرط: الشرط لغة بفتحتين: العلامة، والجمع أشراط، والشرط بفتحة وسكون جمع شروط، قال الفيروزاباذي: الشرط: إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه (¬1). وفي الاصطلاح: هو ما يتوقف وجود الحكم وجودًا شرعيًّا على وجوده، ويكون خارجًا عن حقيقته، ويلزم من عدمه عدم الحكم (¬2). فالشرط وصف يتوقف عليه وجود الحكم، وحقيقته أن عدمه يستلزم عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، ولا يتحقق الحكم بشكل شرعي إلا بوجود الشرط الذي وضعه الشارع له، كالوضوء شرط للصلاة، فلا توجد الصلاة بشكل شرعي إلا إذا وجد الوضوء، والوضوء ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 2 ص 368، المصباح المنير: 1 ص 421. (¬2) الإحكام، الآمدي: 1 ص 121، مصادر التشريع الإسلامي: ص 553، أصول الفقه، خلاف: ص 134، أصول السرخسي: 2 ص 303، الحدود في الأصول، الباجي: ص 60، شرح الكوكب المنير: 1 ص 452.

العلاقة بين الركن والشرط

ليس جزءًا في الصلاة، وإذا عدم الوضوء عدمت الصلاة، ولكن إذا وجد الوضوء فلا يلزم منه وجود الصلاة، ومثل الحول شرط في وجوب الزكاة، فإذا عدم الحول لزم عدم وجوب الزكاة، ومثل حضور الشاهدين في عقد الزواج، فالشهادة شرط في الزواج، ولا يصح الزواج إلا بالشهادة، والشهادة ليست جزءًا في الزواج، وإذا فقدت الشهادة فسد الزواج، ولكن لا يلزم من وجود الشاهدين وجود الزواج، ومثل القدرة على التسليم شرط في صحة البيع، والإحصان شرط في سببية الزنا للرجم (¬1). وشرح التعريف وبيان حقيقته يقودنا لبيان العلاقة بين الركن والشرط، وبين الشرط والسبب. العلاقة بين الركن والشرط: الركن هو ما يتوقف عليه وجود الحكم، وبكون جزءًا في ماهيته، أما الشرط فهو ما يتوقف عليه وجود الحكم، ويكون خارجًا عن حقيقته وماهيته، ويظهر من هذا أن الركن والشرط يتفقان بأن كلًّا منهما يتوقف عليه وجود الحكم، وإذا نقص الركن أو الشرط بطل أو فسد الحكم. ويختلفان بأن الركن جزء من الماهية، والشرط ليس جزءًا من الماهية، والمثال يوضح ذلك. الركوع ركن يتوقف عليه وجود الصلاة، وهو جزء منها، وكذا السجود والقراءة والقيام، والصيغة في العقد ركن، وإذا اختل الركن بطلت الصلاة أو العقد. والوضوء شرط يتوقف عليه وجود الصلاة، ولكنه خارج عن ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول: ص 7، تسهيل الوصول: ص 256، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 68، مختصر ابن الحاجب: ص 43، الإحكام، الآمدي: 1 ص 178.

العلاقة بين السبب والشرط

الصلاة، لأنه يسبقها، وكذا طهارة الثوب والمكان والجسد، ومثله الشهود في عقد الزواج شرط فيه وخارج عن الزواج، وإذا فقد الشرط فقدت الصلاة وعقد الزواج. وإذا حصل خلل في الركن كان الخلل في نفس التصرف أو العقد، ولا يتحقق وجود المسبب والماهية، وكان حكمه البطلان باتفاق العلماء، أما إذا حصل خلل في شرط من الشروط كان الخلل في وصف خارج عن الحقيقة وتكون الحقيقة والماهية موجودة، ولكن لا يترتب عليها أثرها الشرعي لانتفاء الشرط فيها، وحكمها البطلان عند جمهور العلماء كالركن، خلافًا للحنفية الذين وصفوها بالفساد الذي يترتب عليه بعض الآثار. ولكن الحنفية يفرقون في أثر الفساد بين العبادات والمعاملات، فالعبادات الفاسدة لا أثر لها عندهم، ولا تسقط عن المكلف، ولا تبرأ منها الذمة، كالباطلة، ويتفقون بذلك مع الجمهور فيها، أما المعاملات الفاسدة فإنها يترتب عليها بعض الآثار عندهم، بخلاف المعاملات الباطلة فإنه لا يترتب عليها أثر شرعي (¬1). العلاقة بين السبب والشرط: إن الشروط الشرعية تكمل السبب، وتجعل أثره يترتب عليه، وهو المسبب، وإذا وجد السبب ولم يتوفر الشرط فلا يوجد المسبب، فالسبب يلزم منه وجود المسبب عند تحقق الشرط وانتفاء المانع، وإذا لم يتحقق الشرط فلا أثر له، مثل القتل سبب لإيجاب القصاص، إذا تحقق شرطه وهو العمد والعدوان، وعقد الزواج سبب لحل الاستمتاع ¬

_ (¬1) الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 152، أصول الفقه، خلاف: 135، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 58، أصول الفقه، الخضري: ص 66، المدخل الفقهي العام: 1 ص 287.

عند تحقق الشرط وهو حضور الشاهدين، والنصاب سبب لوجوب الزكاة عند تحقق الشرط، وهو حولان الحول، وهكذا فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه لم يكن شرطًا فيه، وقد فرض كذلك أنه شرط. ويتفرع عن هذا الأصل خلاف فقهي بين المذاهب، وهو هل يوجد الحكم بوجود سببه مع عدم الشرط أو تأخره، أم لا؟، وذلك أن الحكم يتوقف على وجود السبب وتحقق الشرط، فإن وجد السبب فقط فهل يصح أن يقع الحكم بدون الشرط أم لا يصح؟ ذهب بعض الفقهاء إلى مراعاة السبب ووقوع المسبب عليه دون توقفه على الشرط، وذهب آخرون إلى توقف الحكم على تحقق الشرط، مراعاة لأثر الشرط، وإن اختفاء الشرط مانع للسبب من تأثيره في وجود المسبب، وتطبيق القواعد يرجح القول الثاني، والقول الأول يعتمد على النصوص في الحديث، فجعلوا ذلك استثناء من القاعدة العامة، والأمثلة الفقهية توضح ذلك، مثل الاختلاف في جواز تعجيل الزكاة عند الحنفية والشافعية، فالنصاب سبب في وجوب الزكاة، والحول شرط له، فعلى القول الأول يجوز تعجيل الزكاة قبل تحقق الشرط، وعلى القول الثاني لا يجوز تعجيل الزكاة إلا بعد حولان الحول على النصاب، ومثل تعجيل الكفارة قبل الحنث عند الشافعية، كمن حلف يمينًا على إثم مثلًا، فاليمين سبب الكفارة، والحنث شرطها، فعلى القول الأول يجوز تقديم الكفارة ثم الحنث في اليمين، واستدلوا بما رواه مسلم عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "واللَّه، إن شاء اللَّه، لا أحلف على يمين ثم أرى خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" (¬1)، وعلى القول الثاني لا يجوز، ومثل العفو عن القاتل ¬

_ (¬1) رواه مسلم وغيره عن أبي موسى الأشعري في كتاب الأيمان.

أنواع الشرط

من القتيل، لأن الضرب المؤدي إلى الموت سبب في القصاص أو الدية، والزهوق شرط، ويجوز العفو من القتيل قبل زهوق روحه باتفاق، وتفصيل الأدلة والآراء في كتب الفقه (¬1). ويتفق الشرط والسبب في حالة العدم، فإذا عدم السبب عدم المسبب، وإذا عدم الشرط عدم المشروط، ويختلفان في حالة الوجود، فإذا وجد الشرط فلا يلزم منه وجود الحكم، كالوضوء لا يلزم من وجوده وجوب إقامة الصلاة، ولا يلزم من وجود الشاهدين وجود النكاح، أما السبب فيلزم من وجوده وجود الحكم، فإذا وجد الوقت وجبت الصلاة ووجب الصيام (¬2). أنواع الشرط: ينقسم الشرط عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، وهي: أولًا: تقسيم الشرط باعتبار ارتباطه بالسبب أو المسبب: ينقسم الشرط باعتبار ارتباطه بالسبب أو المسبب إلى نوعين: 1 - الشرط المكمل للسبب: وهو الذي يكمل السبب حتى ينتج أثره في الحكم، وهو المسبب، مثل حولان الحول في وجوب الزكاة في النصاب، فالنصاب سبب لوجوب الزكاة، ولا يتحقق وجود النصاب الدال على الغنى إلا بشرط حولان الحول، فالحول شرط مكمل للنصاب، والعمد والعدوان شرطان في القتل الموجب للقصاص، فالقتل سبب، والقصاص مسبب، ولا يرتبط السبب والمسبب إلا إذا تحقق شرطا العمد والعدوان، والقدرة على تسليم المبيع شرط ¬

_ (¬1) الموافقات: 1 ص 182، 189، شرح الكوكب المنير: 1 ص 442. (¬2) المراجع السابقة قبل هامشين، وانظر: المدخل إلى مذهب أحمد: ص 65، إرشاد الفحول: ص 7، الموافقات: 1 ص 178.

ثانيا: تقسيم الشرط باعتبار جهة اشتراطه

لصحة البيع الذي هو سبب ثبوت الملك، والإحصان شرط في سببية الزنا للرجم، وهكذا، وعدم هذه الشروط يفيد عدم الأسباب. 2 - الشرط المكمل للمسبب: وهو الذي يكمل المسبب وهو الحكم، فالطهارة وستر العورة شرطان يكملان الصلاة، لأن عدم الشرط يستلزم عدم الحكم (¬1). ثانيًا: تقسيم الشرط باعتبار جهة اشتراطه: ينقسم الشرط من حيث جهة اشتراطه إلى قسمين: 1 - الشرط الشرعي: وهو ما اشترطه الشارع للأحكام والتصرفات، مثل الشروط التي وردت في العبادات والمعاملات وإقامة الحدود. 2 - الشرط الجَعْلي: وهو ما اشترطه المكلف، كما لو اشترطت المرأة تقديم معجل المهر كله، وكما لو اشترط المشتري نقل المبيع أو استلامه في مكان معين (¬2). ولا بد أن يكون الشرط الجعلي موافقًا لحكم الشرع، ومتفقًا مع مقتضى العقد أو التصرف، فإن كان منافيًا له بطل التصرف، كما لو اشترطت المرأة في عقد الزواج عدم المعاشرة، أو اشترط البائع تقييد ملكية المشتري، ولذا تتفاوت درجات الشرط الجعلي. فإما أن يكون مكملًا لحكمة الشرع ومتفقًا مع مقتضى العقد، ومحققًا للغاية منه كاشتراط الكفالة أو الرهن في الدَّيْن المؤجل، وهذا ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 120، 121، فواتح الرحموت: 1 ص 61، شرح الكوكب المنير: 1 ص 454، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 68، وانظر تقسيم السرخسي للشرط في: أصول السرخسي: 2 ص 320. (¬2) أصول الفقه، خلاف: ص 136، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 59، الموافقات: 1 ص 191.

ثالثا: تقسيم الشرط باعتبار إدراك الرابطة مع المشروط

القسم متفق على صحته. وإما أن يكون الشرط الجعلي مخالفًا لمقتضى العقد ومتعارضًا معه، وغير ملائم لمقصود المشروط فيه ولا مكمل لحكمته، كأن يشترط الزوج عدم الإنفاق على زوجته، أو أن يشترط البائع عدم انتفاع المشتري بالعين، وهذا القسم متفق على بطلانه وإلغائه. وإما أن يكون شرطًا زائدًا على مقتضى العقد، وهو الذي يقترن فيزيد من التزامات أحد الطرفين، أو يقوي هذه الالتزامات، وحكم هذا النوع مختلف فيه بين المذاهب اختلافًا واسعًا، فقد أجاز هذا الاشتراط وتوسع به المذهب الحنبلي والمالكي، وضيق فيه المذهب الحنفي والشافعي (¬1). ثالثًا: تقسيم الشرط باعتبار إدراك الرابطة مع المشروط: ينقسم الشرط من جهة إدراك الرابطة والعلاقة بينه وبين المشروط إلى أربعة أنواع (¬2): 1 - الشرط الشرعي: وهو الشرط الذي تكون العلاقة فيه بين الشرط والمشروط ناتجة عن حكم الشرع، كالوضوء للصلاة. 2 - الشرط العقلي: وهو الشرط الذي تكون العلاقة فيه بين الشرط والمشروط ناتجة عن حكم العقل، مثل ترك ضد الواجب لحصوله، كترك الأكل شرط لصحة الصلاة، ومثل اشتراط الحياة لي، فإذا انتفت الحياة انتفى العلم، ولا يلزم من وجود الحياة وجود العلم، ومثل ¬

_ (¬1) انظر أنواع الشروط الفقهية وما يتعلق فيها وآراء المذاهب في: أصول الفقه، الخضري: ص 69، المدخل الفقهي العام، الأستاذ مصطفى الزرقا: 1 ص 481 وما بعدها، الموافقات: 1 ص 187، الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد، الدكتور وهبة الزحيلي: 1 ص 154. (¬2) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 68، الموافقات: 1 ص 18.

الفهم في التكليف. 3 - الشرط العادي: وهو ما تكون العلاقة بينه وبين مشروطه ناتجة عن حكم العادة والعرف، كغسل جزء من الرأس لإتمام غسل الوجه، ومثل الغذاء للحيوان أي لحياته، وملاصقة النار للجسم في الإحراق، ومقابلة الرائي للمرئي، وتوسط الجسم الشفاف في الإبصار (¬1). 4 - الشرط اللغوي: وذلك في صيغ التعليق، مثل: إنها طالق إن خرجت من البيت، وهذا النوع له حكم السبب (¬2). هل يصح التكليف بالحكم مع فقدان شرطه؟ يبحث علماء الأصول هذه المسألة، ويعبرون عنها بأهم مثال لها، وهو "هل الكافر مخاطب بفروع الشريعة"؟ وصورتها أن الشارع اعتبر الإيمان شرطًا لصحة الصلاة وغيرها من العبادات، فهل يصح التكليف بالصلاة وإيجابها على الإنسان الكافر مع عدم حصول الشرط، وهو الإيمان؟ اتفق العلماء على أن الكفار مخاطبون بالإيمان إجماعًا، وأنهم مخاطبون بالمعاملات، وأنها تطبق عليهم ما داموا قائمين على أرض الدولة الإسلامية، واختلف الفقهاء في تطبيق العقوبات الشرعية عليهم، كما اختلفوا في تكليفهم بالعبادات، وهو موضوع بحثنا، على قولين: ¬

_ (¬1) وهناك تقسيمات مختلفة للشرط بحثها الفقهاء في كتبهم وخاصة في عقد البيع، كالشرط المعلق والمقيد والمضاف، وشرط الانعقاد والصحة والنفاذ واللزوم، والشرط الراجع إلى خطاب التكليف، والشرط الراجع إلى خطاب الوضع، وغير ذلك، انظر المراجع السابقة في الهامش قبل السابق، والموافقات: 1 ص 185، نظرية الشروط المقترنة بالعقد، الشيخ زكي الدين شعبان. (¬2) انظر: شرح الكوكب المنير: 2 ص 455، شرح تنقيح الفصول: ص 85، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 68، مختصر الطوفي: ص 32.

القول الأول: يصح التكليف مع عدم حصول الشرط، والكافر مكلف بالصلاة مع عدم الإيمان، وذلك لأن الكفر مانع من إقامة الصلاة، ولكنه لا يعتبر مانعًا من التكليف، فالكافر يتمكن من إزالة المانع وهو الكفر، ويستطيع الدخول في الإيمان ثم يقيم الصلاة، وهو رأي الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر العراقيين من الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي: 1 - القياس على الجنب والمحدث، فإنهما مأموران بالصلاة، ومكلفان فيها، بالرغم من وجود المانع من الصلاة، وهو الجنابة والحدث، وذلك لأنهما يتمكنان من إزالة المانع ثم القيام بالصلاة. فوجود الجنابة والحدث لا يمنع التكليف بالصلاة، وكذلك الكفر أو عدم تحقق شرط الإيمان لا يمنع تكليف الكافر بالعبادات، فالعقيدة الباطلة منعته من الإيمان ويستطيع أن يزيلها ثم يصلي (¬1). 2 - وردت عدة آيات تؤكد عقوبة الكافر على ترك الصلاة والزكاة وبقية فروع الشريعة، قال تعالى حكاية عن الكفار يوم القيامة: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [المدثر: 42 - 47]، فأخبرنا اللَّه تعالى أن من سبب دخول الكفار الجحيم أنهم تركوا الصلاة، فهذا يدل على أنهم مخاطبون بالصلاة ومكلفون بها، ولو لم يكلفوا بها لما سئلوا عنها، وأن القرآن الكريم جمع بين ترك الصلاة ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول: ص 257، تيسير التحرير: 2 ص 148، وما بعدها، فواتح الرحموت: 1 ص 128، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 153، القواعد والفوائد الأصولية: ص 49، الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص 253، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 325، شرح الكوكب المير: 1 ص 501 وما بعدها، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، للونشريسي: ص 283.

وهو عبادة وبين إنكار يوم القيامة، وهو عقيدة، وقال تعالى أيضًا مخبرًا عن المشركين: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 6 - 7]، فوصفهم بالشرك وترك الزكاة وعدم الإيمان بالآخرة، فكان جزاؤهم العذاب الأليم في جهنم، وهذا يدل على أنهم مكلفون ومخاطبون بالزكاة وبالإيمان معًا، ومحاسبون على الاثنين أيضًا، ومثل قوله تعالى: {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} [الزمر: 16]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88]، أي فوق عذاب الكفر (¬1). القول الثاني: لا يصح التكليف قبل حصول الشرط الشرعي، وإن الإيمان شرط في التكليف، والكافر غير مكلف بالعبادات، وهو رأي الرازي والإسفراييني من الشافعية، والسرخسي وجمهور الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد. واحتجوا بأن الشارع يشترط الإيمان للعبادة، وهذا يقتضي النهي عن الصلاة بدون إيمان، وأن الصلاة بدونه غير صحيحة، وبالتالي فلا يمكن الامتثال حال الكفر لوجود المانع (¬2)، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام يجبُّ ما قبله" (¬3)، وأن الكافر لا يطالب بإعادة وقضاء الصلاة بعد إسلامه. ويَرُدَّ عليهم ابن عبد الشكور بأن العاقل يستبعد أن يدَّعي المنافاة ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير: 1 ص 502. (¬2) المراجع السابقة، وسترد هذه المسألة في فصل المحكوم فيه، وفي المسألة قول ثالث، وهو أنهم مخاطبون بالنواهي دون الأوامر، وهناك أقوال أخرى في المسألة، (انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 504). (¬3) رواه مسلم وأحمد، عن عمرو بن العاص.

بين التكليف وفقدان الشرط، لأنه يلزم على هذا القول أن يكون المحدث والجنب غير مكلفين شرعًا بالصلاة لوجود المانع من أدائها، وأن عدم الإحرام في الحج مانع من أداء الحج، ولكنه لا يمنع تكليف المسلم المستطيع بالحج ... وهكذا (¬1). ويرى الإمام الشاطبي أن الإيمان ليس شرطًا للعبادة والتكليف بالصلاة مثلًا، بل هو العمدة في التكليف، لأن معنى العبادة هو التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح، وهذا فرع الإيمان، فكيف يكون أصل الشيء وقاعدته شرطًا فيه؟ وإذا توسعنا في معنى الشرط فيكون الإيمان شرطًا عقليًّا، وليس شرطًا شرعيًّا، أو هو شرط في المكلف وليس في التكليف (¬2). والنتيجة التي تترتب على قول الجمهور بأنهم مخاطبون بفروع الشريعة كثرة عقابهم في الآخرة، وليس المطالبة منهم بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات منها (¬3). قال النووي رحمه اللَّه: "اتفق أصحابنا على أن الكافر الأصلي لا تجب عليه الصلاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام، والصحيح في كتب الأصول: أنه مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان .. " ثم قال: "وليس هذا مخالفًا لما تقدم، لأن المراد هناك غير المراد هنا، فالمراد هناك أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت، له: 1 ص 129. (¬2) الموافقات، له: 1 ص 181. (¬3) شرح الكوكب المنير: 1 ص 503، كشف الأسرار: 4 ص 243، نهاية السول: 1 ص 197، شرح تنقيح الفصول: ص 165، فواتح الرحموت: 1 ص 126، القواعد والفوائد الأصولية: ص 50، إرشاد الفحول: ص 10، روضة الناظر: ص 28.

لعقاب الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول: أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعًا، لا على الكفر وحده، ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا، فذكروا في الأصول حكم طرف، وفي الفروع حكم الطرف الآخر" (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب: 3 ص 5، 5/ 349، وانظر: كشف الأسرار 4/ 243.

المطلب الثالث في المانع

المطلب الثالث في المانع تعريف المانع: المانع لغة: الحائل بين شيئين، وهو اسم فاعل من منع، والامتناع هو الكف عن الشيء (¬1). والمانع في الاصطلاح: هو وصف ظاهر منضبط يستلزم وجوده عدم الحكم أو عدم السبب (¬2). فالمانع معنى معلوم محدد يمنع وجود الحكم، أو يمنع تحقق السبب، وذلك أنه إذا وجد السبب الشرعي، وتحقق شرطه، فلا يترتب المسبب عليه إلا إذا انتفى المانع، لأن المانع يمنع ترتب الحكم على السبب. وحقيقته أنه يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم (¬3). ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 2 ص 798، القاموس المحيط: 3 ص 86. (¬2) انظر: تسهيل الوصول: ص 258، إرشاد الفحول: ص 7، جمع الجوامع مع حاشية البناني عليه: 1 ص 98، الموافقات: 1 ص 179. (¬3) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 65، 69، شرح الكوكب المنير: 1 ص 456.

العلاقة بين السبب والشرط والمانع

مثاله: اختلاف الدين والقتل في الميراث، فإذا وجدت الزوجية أو القرابة، وهما سببان للإرث، فلا يتم الميراث إلا إذا انتفى المانع، وهو اختلاف الدِّين أو القتل، والأبوة مانع من القصاص، فإذا وجد القتل وهو سبب للقصاص، وتحقق الشرط وهو العمد والعدوان، فلا ينفذ القصاص إلا إذا انتفى المانع، فإن وجد فلا قصاص. العلاقة بين السبب والشرط والمانع: من التعريف والشرح تظهر العلاقة بين السبب والشرط من جهة وبين المانع من جهة أخرى، فالمانع يوجد مع وجود السبب وتوفر الشرط، ويمنع ترتب المسبب على سببه، فالشارع أخبرنا بوجوب الأحكام عند وجود السبب والشرط وانتفاء المانع، وعدم وجوب الأحكام أو عدم وجودها عند انتفاء السبب والشرط أو وجود المانع. فالمانع عكس الشرط، لأنه يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، والشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، والمانع عكس السبب أيضًا، لأنه يلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدمه، أما المانع فيلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم. وقد يلتبس الشرط مع عدم المانع، لأن كلًّا منهما يتوقف عليه وجود الحكم، ولذلك اعتبر بعض العلماء من شروط الصلاة: ترك المناهي من الكلام والطعام وغيرهما، ولكن الإمام النووي رحمه اللَّه حقق ذلك، وقال: إنها ليست شروطًا للصلاة، وإنما سميت بذلك مجازًا، وإنما هي مبطلات، لأن الشرط وصف وجودي، وعدم المانع وصف عدمي (¬1). ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب: 3 ص 493، وانظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 461، الفروق: 1/ 111. =

أنواع المانع

أنواع المانع: ينقسم المانع عدة أقسام باعتبارات مختلفة. أولًا: أنواع المانع باعتبار تأثيره على الحكم والسبب: ينقسم المانع في الأصول من حيث تأثيره على الحكم والسبب إلى نوعين: 1 - مانع للحكم لحكمة تقتضي نقيض الحكم، كالأبوة في القصاص، فإنها منعت القصاص مع وجود السبب وهو القتل، وتحقق الشرط وهو العمد والعدوان، ولكن وجد مانع الأبوة فيمنع القصاص، والحكمة أن الأب سبب وجود الابن، وهذا يقتضي ألّا يصير الابن سببًا لإعدام الأب (¬1)، ومثل ذلك القتل يمنع الإرث. وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أ- المانع الذي لا يجتمع مع الحكم التكليفي، وهو الذي يزيل العقل كالنوم أو الجنون أو الإغماء، فإنها تمنع الخطاب التكليفي، وتكون مانعة للحكم. ب- المانع الذي يجتمع مع أهلية التكليف، لكن المانع يرفع التكليف مع إمكان اجتماعه، كالحيض والنفاس والجنابة مانعة للصلاة ودخول المسجد، كما أن الحيض والنفاس مانعان للصيام. ب- المانع الذي يرفع اللزوم في التكليف، ويحوله من طلب حتمي ¬

_ (¬1) انظر تعقيب الشوكاني على هذا المثال، واعتراضه عليه، وأن سبب إعدام الأب هو جريمة قتله، وليس الابن، (إرشاد الفحول: ص 7)، ويأتي المنع من جهة مكانة الوالد في الإسلام، ووجوب بره في جميع الحالات، لذلك قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقاد والد بولده" رواه الترمذي وأحمد عن عمر رضي اللَّه عنه (الفتح الكبير 3/ 367).

ثانيا: أنواع المانع باعتبار مصدره

إلى التخيير، كالمرض المانع من فريضة الجمعة، وإن صلى صحت صلاته، والأنوثة المانعة من صلاة الجمعة، وإن صلت صحت صلاتها (¬1). 2 - المانع للسبب لحكمة تخل بحكمة السبب، كالدَّيْن في الزكاة، فهو مانع أبطل سبب وجوب الزكاة، وهو ملك النصاب، لأن مال المدين أصبح كأنه ليس ملكه، لوجود حق الدائنين، ولأن دفع الدين وإبراء الذمة أولى من مساعدة الفقراء والمساكين (¬2)، وهذا عند الحنفية والجمهور، خلافًا للشافعية في الجديد. يقول الآمدي: والمانع منقسم إلى مانع الحكم ومانع السبب، أما مانع الحكم فهو كل وصف وجودي ظاهر منضبط مستلزم لحكمة مقتضاها بقاء نقيض حكم المسبب، مع بقاء السبب كالأبوة في باب القصاص مع القتل العمد والعدوان، وأما مانع السبب فهو كل وصف يخل وجوده بحكمة السبب يقينًا، كالدَّيْن في باب الزكاة مع ملك النصاب (¬3). ثانيًا: أنواع المانع باعتبار مصدره: إن المانع إما أن يكون سماويًّا كالجنون والعته والنوم، وإما أن يكون مكتسبًا، كالسكر فإنه مانع للتكليف، والقتل فإنه مانع من الإرث. ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 61، الموافقات: 1 ص 193، شرح الكوكب المنير: 1 ص 457. (¬2) مختصر ابن الحاجب: ص 42، تسهيل الوصول: ص 258، الإحكام، الآمدي: 1 ص 120، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 69، تقريرات الشربيني على جمع الجوامع: 1 ص 97، فواتح الرحموت: 1 ص 61، مصادر التشريع الإسلامي: ص 556، أصول الفقه، خلاف: ص 138، أصول الفقه، الخضري: ص 69، شرح الكوكب المنير: 1 ص 458. (¬3) الإحكام، له: 1 ص 121.

ثالثا: أنواع المانع باعتبار تأثيره في الحكم

ثالثًا: أنواع المانع باعتبار تأثيره في الحكم: ينقسم المانع باعتبار تأثيره في الحكم إلى ثلاثة أنواع: 1 - ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره، كالرضاع، يمنع ابتداء النكاح، ويمنع استمراره إذا طرأ عليه. 2 - ما يمنع ابتداء الحكم فقط، كالعدة تمنع ابتداء النكاح، ولا تبطل استمراره إذا طرأت في أثناء الزواج، كالزوجة التي وطئت غصبًا، أو بشبهة من غير زوجها، فعليها عدة تسمى استبراءً، ولا يبطل زواجها. 3 - ما اختلف فيه، كالإحرام يمنع ابتداء الصيد، واختلف الفقهاء في أثره إذا طرأ في أثناء الإحرام، هل تجب إزالة اليد عنه أم لا؟ ومثل وجود الماء يمنع ابتداء التيمم، فإن طرأ في أثناء الصلاة، فهل يبطلها فيه قولان واختلاف (¬1)؟. رابعًا: أنواع المانع عند الحنفية: قسم الحنفية المانع إلى خمسة أنواع وهي: 1 - ما يمنع انعقاد السبب، مثل انتفاء المحلية في البيع، فإنه مانع له كبيع الحر. 2 - ما يمنع تمام السبب في حق غير العاقد، كبيع الفضولي، فالسبب وهو البيع قد تم في حق العاقد، ولا يستطيع إبطاله، ولم يتم العقد في حق المالك لعدم ولاية العاقد عليه، فهو بالخيار بين إجازته أو إبطاله. 3 - ما يمنع ابتداء الحكم، كخيار الشرط للبائع، فالعقد منعقد في حقهما، ولكن الخيار منع ملكية المبيع للمشتري. 4 - ما يمنع تمام الحكم، كخيار الرؤية، فالملك ثبت بالعقد، ولكن ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير: 1 ص 463 وما بعدها، الفروق: 1/ 110.

لا يتم إلا بعد الرؤية، ويحق لصاحب الخيار أن يفسخ العقد بإرادته. 5 - ما يمنع لزوم الحكم، كخيار العيب، فالملك ثابت وتام، وللمشتري ولاية التصرف في المبيع، ولكن العيب مانع من لزوم العقد، فالعقد غير لازم، وللمشتري طلب فسخ العقد (¬1). ¬

_ (¬1) أصول الفقه، الخضري: ص 70.

المطلب الرابع في الصحيح وغير الصحيح

المطلب الرابع في الصحيح وغير الصحيح تعريف الصحيح: الصحة لغة: حالة طبيعية في البدن تجري أفعاله معها على المجرى الطبيعي، واستعيرت للمعاني، وصح القول إذا طابق الواقع (¬1). والحكم الصحيح في الاصطلاح الأصولي: هو ترتب ثمرته المطلوبة منه شرعًا عليه، فإذا حصل السبب، وتوفر الشرط، وانتفى المانع، ترتبت الآثار الشرعية على الفعل، كما إذا أدى المكلف فعلًا من الأفعال، مستكملًا أركانه وشروطه ترتب الأثر الذي وضعه الشارع عليه، كسقوط الواجب وإبراء الذمة في العبادات، وترتب المسبب على السبب، وإقامة المشروط على الشرط، وتحقق الآثار في المعاملات والعقود. وغير الصحيح: هو الذي لا يترتب على فعله الآثار الشرعية، فإن كان واجبًا فلا يسقط عنه، ولا تبرأ ذمته، وإن كان سببًا فلا يترتب حكمه، وإن كان شرطًا فلا يوجد المشروط (¬2). ¬

_ (¬1) المصباح المنير: 1 ص 454، القاموس المحيط: 1 ص 233. (¬2) أصول الفقه، خلاف: ص 145، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 69، نهاية السول: =

هل الصحة الفساد والبطلان من الحكم الوضعي؟

ومثال ذلك: الصلاة الصحيحة، وهي التي استوفت أركانها وشروطها، وتسقط عن المكلف وتبرأ ذمته، ويكسب بها الأجر والثواب، وإلا فهي غير صحيحة، ويجب إعادتها، وعقد البيع الصحيح هو ما استكمل أركانه وشروطه وترتبت عليه آثاره من نقل الملكية، وإلا فهو غير صحيح، ولا تنتقل الملكية به، والوضوء الصحيح هو ما يصح به أداء الصلاة، وإلا فهو غير صحيح، ويجب إعادته. وعرف البيضاوي الصحة: بأنها استتباع الغاية (¬1)، أي طلب الفعل بأن تتبعه غايته، والغاية هي الأثر المقصود من الفعل، واتفق العلماء على أن الغاية من المعاملات هي الانتفاع بكل من العوضين، انتفاعًا مباحًا لا حرمة فيه، واختلفوا في الغاية من العبادات، فقال علماء الأصول: هي موافقة الفعل أمر الشارع، ولو ظنًّا، وقال الفقهاء: إن غاية العبادة هي سقوط القضاء، أي براءة الذمة أمام اللَّه تعالى، فلا يحاسب عليه (¬2). وبناء على هذا المعنى للصحة وعدم الصحة ينقسم الحكم باعتبار اجتماع الأركان والشروط المعتبرة في الفعل وعدم اجتماعها فيه، أو بحسب تحقق الغاية منه، وترتيبها عليه، أو عدم تحققها، إلى حكم صحيح، وحكم غير صحيح، وهو الفاسد والباطل. هل الصحة الفساد والبطلان من الحكم الوضعي؟ انقسم العلماء في وصف الصحة والفساد والبطلان، وهل تدخل في الحكم الوضعي أم في الحكم التكليفي؟ على أربعة أقوال: ¬

_ = 1 ص 47، وما بعدها، تيسير التحرير: 2 ص 234، المستصفى: 1 ص 95، المدخل للفقه الإسلامي، للمؤلف: ص 65. (¬1) نهاية السول: 1 ص 72، وانظر: جمع الجوامع وحاشية البناني: 1 ص 99. (¬2) شرح الكوكب المنير: 1 ص 467.

1 - قال ابن الحاجب: إن الصحة والبطلان أو الحكم بهما أمر عقلي، فالفعل إما أن يكون مسقطًا للقضاء، أو يكون موافقًا أمر الشارع، فالفعل الصحيح بحكم العقل، وإما أن لا يسقط القضاء، أو لا يوافق أمر الشرع فهو باطل وفاسد بحكم العقل (¬1). 2 - وقال بعض العلماء: إن الصحة أو الفساد صفة للفعل وليس للحكم، وتدخل في المحكوم فيه، وليس في الحكم، وإنها أوصاف ترد على الأحكام الشرعية سواء كانت تكليفية أو كانت وضعية (¬2). 3 - قال جماعة: الصحة والفساد من الحكم التكليفي، فالصحيح هو المباح، والباطل والفاسد هو المحرم (¬3). 4 - وقال أكثر العلماء: إنهما من خطاب الوضع، بمعنى أنه حكم بتعلق شيء بشيء تعلقًا زائدًا على التعلق الذي لا بد منه في كل حكم، فالشارع حكم بتعلق الصحة بهذا الفعل، وحكم بتعلق الفساد أو البطلان بذلك (¬4). والراجح أن الصحة والفساد من خطاب الوضع، وأن الصحة والفساد في المعاملات من أحكام الوضع باتفاق، لأن المعاملات لا تستتبع ثمراتها المطلوبة إلا بتوقيف من الشارع، وأن ترتب المقصود من العقد يدل على أنه صحيح، وعدم ترتبه عليه يدل على الفساد، فالصحة موافقة الفعل لأمر الشارع على وجه، والفساد عدم موافقة الفعل لأمر الشارع. وينحصر الخلاف في الصحة والفساد المتعلقين بالعبادات لاختلاف ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 43، وانظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 464. (¬2) أصول الفقه، أبو زهرة: ص 62، التلويح على التوضيح: 3 ص 73. (¬3) شرح الكوكب المنير: 1 ص 464. (¬4) تسهيل الوصول: ص 259، فواتح الرحموت: 1 ص 120، مختصر ابن الحاجب: ص 43، التلويح: 3 ص 73، شرح الكوكب المنير: 1 ص 464.

الصحة وعدم الصحة في العبادات

الغاية منها كما سبق، يقول الكمال بن الهمام: إن ترتب الأمر على الفعل حكم وضعي، ويعني معرفة كون العبادة مسقطة للقضاء أم لا (¬1). الصحة وعدم الصحة في العبادات: اتفق العلماء على أن العبادات الصحيحة هي التي استوفت أركانها وشروطها، وترتبت عليها الآثار الشرعية من براءة الذمة بالأداء. وأن العبادات غير الصحيحة هي التي فقدت ركنًا أو شرطًا أو أكثر، ويترتب عليها عدم براءة الذمة، ولا فرق فيها بين الفساد والبطلان، باتفاق (¬2). الصحة وعدم الصحة في المعاملات: اتفق العلماء أيضًا على أن العقود الصحيحة هي التي أقرها الشارع ورتب عليها آثارها، بعد أن تستكمل أركانها وتستوفي شروطها، وأن العقد غير الصحيح هو الذي لم يستوف أركانه وشروطه، ولكنهم اختلفوا في وصف العقد غير الصحيح وتقسيمه على قولين: القول الأول: أن العقد غير الصحيح قسم واحد، وهو الفاسد أو الباطل، ولا فرق بين الفساد والبطلان في المعاملات كالعبادات، سواء كان الخلل في الركن أو في الشرط والوصف، والفساد والبطلان مترادفان، وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (¬3). ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 2 ص 234، وانظر: أصول الفقه، البرديسي: ص 86، الإحكام، الآمدي: 1 ص 91. (¬2) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 69، الإحكام، الآمدي: 1 ص 121، جمع الجوامع وحاشية البناني: 1 ص 100، المدخل الفقهي العام: 1 ص 687، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 62، المستصفى: 1 ص 94، فواتح الرحموت: 1 ص 121، شرح الكوكب المنير: 1 ص 468. (¬3) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 73، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 69، جمع =

تعريف الباطل والفاسد

القول الثاني: العقد غير الصحيح قسمان، فاسد وباطل، فإن حدث خلل في الركن فهو باطل، ولا يترتب عليه أثر، وإن حدث الخلل في الشرط أو الوصف فيكون العقد قد انعقد بأركانه وترتبت عليه بعض الآثار، ولكنه فاسد، وهو قول الحنفية. ويكون البطلان والفساد عند الحنفية متغايرين، فالباطل هو الذي لم يشرع بأصله ولا بوصفه كالبيع من الصبي الصغير والمجنون فهو باطل، لأنه اختل ركن من أركانه وهو الصيغة والأهلية فيكون باطلًا ولا تترتب عليه آثاره الشرعية، والفاسد هو ما شرع بأصله لا بوصفه، كبيع الدراهم بالدراهم مع التفاضل وهو الربا، والبيع بثمن مجهول، والزواج بغير شهود، فكل منها فاسد لوجود الخلل الذي يرجع إلى شرط من الشروط أو لورود النهي عن صفة فيه (¬1). تعريف الباطل والفاسد: الباطل لغة: من بطل الشيء إذا فسد وسقط حكمه، ويتعدى بالهمزة فيقال: أبطله، وبطل: ذهب ضياعًا وخسرانًا (¬2). وعرف الأستاذ الزرقا الباطل في الاصطلاح بأنه: تجرد التصرف الشرعي عن اعتباره وآثاره في نظر الشرع (¬3). وهذا المعنى متفق عليه بين العلماء. والفاسد لغة: تغير الشيء عن الحال السليمة، والمفسدة ضد ¬

_ = الجوامع وحاشية البناني: 1 ص 101، أصول الفقه، البرديسي: ص 111، المسودة: ص 80، شرح الكوكب المنير: 1 ص 468، 473. (¬1) المراجع السابقة، التلويح: 3 ص 73، وسوف يرد تفصيل هذا الموضوع في المدخل للفقه الإسلامي، للمؤلف. (¬2) المصباح المنير: 1 ص 72، القاموس المحيط: 3 ص 335. (¬3) المدخل الفقهي العام: 1 ص 651.

أساس الاختلاف في الفساد والبطلان

المصلحة، ويتعدى بالهمزة والتضعيف (¬1). أما في الاصطلاح فقد اختلف العلماء في معنى الفساد على قولين، كما سبق في اختلافهم في غير الصحيح، فقال جمهور العلماء: إن الفساد بمعنى البطلان، وقال الحنفية: الفساد يغاير البطلان، والفاسد قسيم للباطل، فالحكم إما أن يكون صحيحًا أو غير صحيح، وغير الصحيح إما أن يكون باطلًا، وإما أن يكون فاسدًا، وعرفوا الفساد بأنه مرتبة بين الصحة والبطلان، يختل فيها العقد في بعض نواحيه الفرعية، وأنه مشروع بأصله لا بوصفه كبيع مال الربا، أما الباطل فهو ما ليس مشروعًا بأصله ووصفه، فالعقد إما أن يكون صحيحًا أو فاسدًا أو باطلًا (¬2). أساس الاختلاف في الفساد والبطلان: يرجع الاختلاف في الحكم غير الصحيح وتقسيمه إلى فاسد وباطل، وظهور مرتبة الفساد والبطلان عند الحنفية خلافًا للجمهور، لسببين رئيسيين: الأول: مقتضى النهي: فقال الجمهور: النهي يقتضي البطلان والفساد، سواء ورد على ذات الأمر وحقيقته أو ورد علي وصف فيه، كما سبق الكلام عنه في أنواع الحرام، وسيرد مزيد تفصيل لذلك في ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 2 ص 323، المصباح المنير: 1 ص 646. (¬2) القواعد والفوائد الأصولية ص 110، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 69، الإحكام، الآمدي: 1 ص 122، جمع الجوامع على حاشية البناني: 1 ص 105، نهاية السول، الإسنوي: 1 ص 75، المستصفى: 1 ص 95، تيسير التحرير: 2 ص 236، فواتح الرحموت: 1 ص 122، وانظر تفصيل أحكام البطلان والفساد والآثار التي تترتب على كل منهما في: المدخل الفقهي العام: 1 ص 649 وما بعدها.

بحث الأمر والنهي إن شاء اللَّه تعالى (¬1)، وقال الحنفية: إذا ورد نهي الشارع على ذات الشيء وحقيقته فهو باطل، وإن ورد النهي على وصف في الشيء مع مشروعية الأصل فالنهي يفيد الفساد، ولذا عرفوا الفاسد بأنه مشروع بأصله لا بوصفه، فالربا بيع مع زيادة ومنفعة لأحد العاقدين، والبيع مشروع، والنهي ورد على الوصف الزائد، فكان البيع مع الربا فاسدًا لا باطلًا. الثاني: الفرق بين الركن والشرط: سبق الكلام عن الفرق بين الركن والشرط، وأن الركن والشرط يتوقف عليهما الشيء، ولكن الركن داخل في الماهية، والشرط خارج عن الماهية، فإذا اختل الركن فالعقد باطل باتفاق العلماء، وإن اختل الشرط فقال الجمهور: العقد باطل وفاسد بمعنى واحد، وقال الحنفية: العقد فاسد لكون الخلل في وصف خارج عن الشيء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: مباحث الكتاب والسنة، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: ص 67. (¬2) الوسيط في أصول الفقه: ص 102، تيسير التحرير: 2 ص 236، المدخل الفقهي العام: 1 ص 681، أصول البيوع الممنوعة، عبد السميع إمام: ص 144، وانظر: المدخل للفقه الإسلامي، للمؤلف: ص 68 وما بعدها، مباحث الكتاب والسنة، البوطي: 67، 87.

المطلب الخامس في العزيمة والرخصة

المطلب الخامس في العزيمة والرخصة هذا هو القسم الخامس للحكم الوضعي الذي اختلف العلماء في اعتباره داخلًا في الحكم الوضعي أو غير داخل على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الرخصة والعزيمة من أقسام الفعل المحكوم فيه، وهو رأي بعض العلماء كابن الحاجب والرازي، وقالوا: إن الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به إما أن يكون عزيمة أو رخصة (¬1). القول الثاني: أن الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم التكليفي، وهو رأي بعض العلماء، كصدر الشريعة وابن السبكي والإسنوي وابن عبد الشكور، ونظروا إلى الرخصة والعزيمة كصفة للأحكام التكليفية، فالواجب أو المندوب أو المكروه أو الحرام أو المباح إما أن يكون عزيمة ومطلوبًا، وإما أن يكون رخصة ومخيرًا فيه، ولذا كانت العزيمة والرخصة تابعة للحكم التكليفي (¬2). ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 43، مباحث الحكم: ص 120، شرح الكوكب المنير: 1 ص 482. (¬2) كشف الأسرار: 2 ص 618، جمع الجوامع مع حاشية البناني: 1 ص 119، منهاج الوصول: ص 7، فواتح الرحموت: 1 ص 116، القواعد والفوائد الأصولية: ص 114، شرح الكوكب المنير: 1 ص 482.

أولا: العزيمة

القول الثالث: أن الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم الوضعي، وهو رأي الغزالي والآمدي والشاطبي وصاحب شرح مسلم الثبوت، وذلك أن الأصل في جميع الأحكام أن تكون عزيمة، ولا تنتقل من العزيمة إلى الرخصة إلا لسبب، وهو الضرورة في إباحة المحظور، أو طروء العذر كسبب للتخفيف بترك الواجب، أو دفع الحرج عن الناس كسبب صحيح في بعض عقود المعاملات بينهم، فارتبطت العزيمة بفقدان السبب الشرعي المبيح، وارتبطت الرخصة بوجود السبب المبيح لها فالرخصة في الحقيقة عبارة عن وضع الشارع وصفًا من الأوصاف سببًا في التخفيف، والعزيمة عبارة عن اعتبار مجاري العادات سببًا للجري على الأحكام الأصلية، فكانت الرخصة من أقسام الحكم الوضعي، وهذا القول أخذ به كثير من العلماء، ورأينا ترجيحه والسير على منواله (¬1). أولًا: العزيمة تعريف العزيمة: العزم لغة: هو القصد المؤكد، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أي حزمًا وتصميمًا. وعزم على الشيء جد واجتهد في أمره، وعزم على الشيء عقد ضميره على فعله، وعزائم اللَّه فرائضه (¬2). وفي الاصطلاح: هي ما شرعه اللَّه لعامة عباده من الأحكام ابتداء (¬3). ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 91، فواتح الرحموت: 1 ص 116، الموافقات: 1 ص 122، المستصفى: 1 ص 98، تسهيل الوصول: ص 255، شرح الكوكب المنير: 1 ص 482، الوسيط في أصول الفقه: ص 105. (¬2) المصباح المنير: 2 ص 558، القاموس المحيط: 4 ص 149. (¬3) الإحكام، الآمدي: 1 ص 122، جمع الجوامع وحاشية البناني: 1 ص 124، كشف =

"ما شرعه اللَّه": أي الأحكام التي شرعها اللَّه تعالى، ولفظ "عامة عباده" قيد يخرج الأحكام الخاصة ببعض المكلفين، وأن العزيمة عامة لجميع العباد ولجميع الأحوال، وتخرج الخصوصية، ولفظ "ابتداء" أي لم تسبق في شريعتنا بأحكام أخرى، وأن العباد مكلفون بها من أول الأمر. وعرف البيضاوي العزيمة بأنها "الحكم الثابت لا على خلاف الدليل القائم لعذر"، وهذا التعريف للمقابلة مع تعريف الرخصة الآتي بعد قليل، فكل حكم لم يخالف الدليل أصلًا كالأكل والشرب، أو خالف الدليل ولكن ليس بسبب العذر بل بسبب الاختبار مثلًا كالتكاليف، أو خالف الدليل لمانع كإفطار الحائض وترك الصلاة، فهذه كلها عزائم. ومن التعريفين السابقين نجد أنه لا واسطة بين العزيمة والرخصة، فكل حكم ثبت بالشرع فهو عزيمة، إلا إذا ورد ما يخالفه لعذر فهو رخصة، وسميت الأحكام الأصلية عزيمة لأنها مشروعة ابتداء حقًّا لصاحب الشرع الذي يستحق الطاعة وتنفيذ الأوامر (¬1). وذهب بعض الأصوليين في تعريف العزيمة إلى أنها "الحكم الثابت الذي خولف لعذر"، فالعزيمة تقابل الرخصة، وأن الحكم لا يسمى عزيمة إلا إذا ثبت الترخيص فيه لعذر، وتكون الأحكام ثلاثة أقسام: الرخصة والعزيمة عند وجود العذر، والحكم الأصلي الذي لم يتطرأ ¬

_ = الأسرار: 2 ص 618، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71، تيسير التحرير: 2 ص 228، أصول الفقه، خلاف: ص 138، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 91، أصول السرخسي: 1 ص 117، مباحث الحكم: ص 115، أصول الفقه، الخضري: ص 71، تسهيل الوصول: ص 250، شرح الكوكب المنير: 1 ص 476. (¬1) كشف الأسرار: 2 ص 618، فواتح الرحموت: 1 ص 116، تيسير التحرير: 2 ص 229.

إليه هذا الترخيص ولم يحطه عذر، فهو حكم لا يوصف بأنه رخصة ولا عزيمة، وإنما هو حكم شرعي أصلي (¬1). ويرجح القول الأول في تقسيم الأحكام إلى قسمين: رخصة وعزيمة، وأن جميع الأحكام الشرعية التكليفية تعتبر عزائم للَّه تعالى، ويكلف العبد بتنفيذها والالتزام بها وتطبيقها، وبذل الجهد والمشقة في المحافظة عليها، واستحقاق الأجر والثواب من اللَّه على فعل الواجبات والمندوبات، واستحقاق الذم والعقاب على فعل المحرمات، فإن طرأ عذر رفع الإثم والحرج والذم والعقاب عن فاعل المحرم، وصار الحكم رخصة له من اللَّه تعالى، ولذا تنسب العزائم إلى اللَّه تعالى، فيقال: عزائم اللَّه تعالى، ويراد بها فرائضه التي أوجبها، وحدوده التي أقامها (¬2). والعزيمة تشمل الأحكام الخمسة التكليفية عند الجمهور، فكل حكم منها هو عزيمة، لأنها من الأحكام التي شرعت ابتداء في الشريعة من غير نظر إلى الأعذار، وتبقى عزيمة ما لم يرد دليل مخالف لها لعذر، سواء كان الحكم الإيجاب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم. وذهب بعض الأصوليين إلى قصر العزيمة على الواجب والمندوب والمباح والمكروه، وقصرها آخرون على الواجب والمندوب، وخصها بعضهم بالواجب والحرام فقط (¬3). ¬

_ (¬1) أصول الفقه لغير الحنفية: ص 91. (¬2) التلويح على التوضيح: 3 ص 82، مباحث الحكم: ص 115. (¬3) تسهيل الوصول: ص 251، نهاية السول: 1 ص 91، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71، كشف الأسرار: 2 ص 620 وما بعدها، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 91، شرح الكوكب المنير: 1 ص 476.

أنواع العزيمة

أنواع العزيمة: يدخل في العزيمة الأنواع الأربعة التالية: 1 - ما شرع ابتداء من أول الأمر لصالح المكلفين عامة، كالعبادات والمعاملات والجنايات وجميع الأحكام التي شرعها اللَّه تعالى لعباده لتحقيق المصالح في الدنيا والآخرة، وهذا النوع هو الغالب في الأحكام. 2 - ما شرع من الأحكام لسبب طارئ اقتضى مشروعيته، كحرمة سب الأنداد والأوثان التي تعبد من دون اللَّه، بسبب ما ينشأ عنها من سب المشركين للَّه سبحانه وتعالى، فحرم اللَّه تعالى سب الأوثان والطواغيت لأنه ذريعة إلى سب اللَّه تعالى، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ} [الأنعام: 108]، ومثله منع استعمال لفظ "راعنا" لما يلتبس به من طعن وغمز ولمز من اليهود إلى رسول اللَّه، فقال تعالى: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء: 46]، مع أن الأصل في معنى الكلمة الرعاية، ولكن اليهود والمنافقين كانوا يقصدون منها الرعونة لسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخزاهم اللَّه ولعنهم (¬1). 3 - ما شرع من أحكام ناسخة لأحكام سابقة، ويصبح المنسوخ كأن لم يكن، والحكم الناسخ هو العزيمة، وهو الحكم الأصلي الذي يعتبر أنه شرع ابتداء لجميع المكلفين، مثل قوله تعالى في نسخ الاتجاه إلى بيت المقدس، وتحويل الصلاة إلى الكعبة، قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 1 ص 507.

ثانيا: الرخصة

"كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة" (¬1). 4 - الأمر المستثنى من أمر عام محكوم فيه، مثل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فالآية الكريمة حرمت المحصنات بلفظ عام، ثم استثنت منه النساء اللاتي يملكهن الإنسان بالرق، ومثل ذلك ما سبق بيانه في المباح من قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}] البقرة: 229]، فقد حرم اللَّه تعالى على الزوج أن يأخذ شيئًا مما دفعه إلى زوجته، ثم استثنت الآية الكريمة حال عدم الوفاق وعدم تحقيق أغراض الزواج وانتفاء موضوعه، واحتمال انتهاك حرمات اللَّه فيه، فأباح أخذ المال من الزوجة في سبيل إطلاق، يدها وفسخ عقد الزواج بينهما، وهو الخلع، فيكون عزيمة (¬2). ثانيًا: الرخصة تعريف الرخصة: الرخصة في اللغة: التيسير والتسهيل، أو اليسر والسهولة، والرخص ضدّ الغلاء، وفلان يترخص في الأمر إذا لم يستقص، ويتعدى بالهمزة والتضعيف (¬3). وفي الاصطلاح عرفها البيضاوي بأنها: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه عن ابن مسعود، ورواه مسلم عن بريدة، والحاكم عن أنس. (¬2) مباحث الحكم: ص 116. (¬3) المصباح المنير: 1 ص 304، القاموس المحيط: 2 ص 304. (¬4) نهاية السول: 1 ص 87، وانظر: المستصفى: 1 ص 98، تيسير التحرير: 2 ص 228، مختصر ابن الحاجب: ص 43، تسهيل الوصول: ص 251، كشف الأسرار: =

1 - الحكم: أي الشرعي، وهو جنس يشمل الرخصة والعزيمة. 2 - الثابت على خلاف الدليل: قيد أول، والثابت إشارة إلى أن الرخصة لا تكون إلا بدليل مع وجود العذر، والدليل هو الدليل الشرعي الصحيح، الذي سبق شرحه في أول الكتاب، سواء أكان هذا الدليل يفيد الإيجاب كصيام رمضان، أو التحريم كتحريم الميتة، أم الندب كترك الجماعة، أم الكراهة أم الإباحة، أي الدليل الذي يثبت به الحكم الأصلي، وهو العزيمة التي سبق بيانها، وتأتي الرخصة على خلاف هذه الأدلة، فيجوز الإفطار في رمضان للمسافر رخصة، ويجوز أكل الميتة للمضطر رخصة، ويجوز ترك الجماعة لمرض رخصة. وهذه العبارة احتزاز عن الحكم الخاص الذي لا يخالف دليلًا شرعيًّا، لعدم ورود دليل أصلًا، كحل المنافع المباحة من أكل وشرب ولبس مما لم يرد على منعها دليل، فإباحتها لا تكون رخصة، وإنما تبقى مباحة بحسب الأصل، ويحترز أيضًا عن دليل المنع المنسوخ أو المرجوح، فالحكم الثابت على خلافهما لا يعتبر رخصة بل هو عزيمة (¬1). 3 - لعذر: قيد ثان، لإخراج ما يستباح لغير عذر، وهذا العذر أعم من الضرورة أو المشقة أو الحاجة، فيشمل الضرورة كأكل الميتة في ¬

_ = 2 ص 670، الإحكام، الآمدي: 1 ص 122، التلويح: 3 ص 82، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 87، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71، الموافقات: 1 ص 205، أصول السرخسي: 1 ص 117، شرح الكوكب المنير: 1 ص 478، الأشباه والنظائر، السيوطي: ص 76، 82. (¬1) مثال الحكم المخالف لدليل منسوخ جواز فرار مسلم واحد إذا التقى بأكثر من كافرين اثنين، وحرمة قتل النفس توبة، وحرمة إحراق الغنائم، ومثال الدليل المرجوح النص العام الذي يخالفه دليل خاص، مثل عدم قتل المستأمن مع قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فهذه الأحكام ليست رخصة بل عزيمة.

المخمصة، والمشقة كالإفطار في رمضان للمسافر، والحاجة كالسلم (¬1). ولفظ العذر احتزاز أيضًا عن التكاليف الشرعية، فالأصل عدم التكليف، فإذا ورد التكليف فلا يعتبر ذلك رخصة؛ لأنه ثبت للابتلاء والاختبار، وليس لعذر، واحتراز أيضًا عن وجوب ترك الحائض للصلاة، وغيرهما من الأحكام التي تثبت لمانع وليس لعذر (¬2)، والفرق بينهما أن العذر يجتمع مع المشروع كالسفر والمرض مع الصوم، أما المانع فلا يجتمع معه، بل يمنع وجوده أصلًا، كما سبق في تعريف المانع (¬3). وهذه الرخصة التي تثبت على خلاف الدليل لعذر تشمل الأحكام الشرعية الأربعة، وهي: الإيجاب والندب والكراهة والإباحة، وبتعبير آخر تشمل أفعال المكلف التي تتعلق بها الأحكام (¬4)، ونضرب مثالًا لكل منها: 1 - الواجب: مثل أكل الميتة للمضطر، فهو واجب عند جمهور الفقهاء (¬5). ¬

_ (¬1) قارن ما جاء في مباحث الحكم: ص 117، فإنه يرى أن السلم والقراض والمساقاة ليست رخصة لأنها شرعت لعذر غير شاق، والرخصة تختص بالشاق، وتسمى رخصة مجازًا. (¬2) حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 124. (¬3) عرف بعض الحنفية الرخصة بأنها ما تغيَّر من عسر إلى يسر لعذر، وهذا تعريف عام يشمل الرخصة الحقيقية والمجازية، فالناسخ لعذر رخصة عندهم، وهذا توسع في الرخصة، انظر تسهيل الوصول: ص 251، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 88. (¬4) جمع الجوامع وحاشية البناني: 1 ص 121، التوضيح: 3 ص 82، تيسير التحرير: 2 ص 229، نهاية السول: 1 ص 90، المستصفى: 1 ص 99، المجموع: 4 ص 222، وقارن الموافقات: 1 ص 209، شرح الكوكب المنير: 1 ص 479. (¬5) قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبًا، وقد يكون مباحًا، بحسب الأحوال، =

2 - المندوب: مثل القصر للمسافر عند الجمهور خلافًا للحنفية، فإنهم يعتبرون القصر عزيمة وليس رخصة. 3 - المباح: مثل رؤية الطبيب لعورة المرأة أو الرجل، فالنظر في الأصل محرم، ولكنه أبيح لرفع الحرج عن الناس، ومثل الإجارة والمساقاة والسلم، فإنها رخصة مجازية، لأنها عدول عن القياس لعذر، وهو الحاجة إليها، ومثل الجمع بين الصلاتين في غير مزدلفة وعرفة؛ فإنه رخصة عند الجمهور، خلافًا للحنفية الذين يمنعون الجمع إلا في مزدلفة وعرفة (¬1). 4 - المكروه: مثل النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، فالنطق بالكفر حرام، وعند الإكراه يجوز النطق بها، مع الكراهة، وإن صبر فأولى كما سنرى، ومثل قصر الصلاة لأقل من ثلاث مراحل عند الشافعية، ومثل الإفطار في رمضان، فإنه خلاف الأولى، لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]. ولا يخطر على البال أن يرخص اللَّه تعالى في أمر وتكون الرخصة حرامًا، فإن اللَّه تعالى لا يشرع الحرام (¬2)، ولأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللَّه يحب أن تُؤتى رُخَصُه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" (¬3)، وقال لعمار: "إن عادوا فَعُدْ" (¬4). ¬

_ = انظر: تفسير ابن كثير: 2 ص 14، المجموع: 4/ 222، الأشباه للسيوطي: ص 82. (¬1) مباحث الحكم: ص 123، نهاية السول: 1 ص 90، شرح الكوكب المنير: 1 ص 480. (¬2) كشف الأسرار: 2 ص 619. (¬3) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان عن ابن عمر، وفي لفظ لأحمد: "من لم يقبل رخصة اللَّه كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة،، تفسير ابن كثير: 2 ص 14، مسند أحمد: 2 ص 71، 108، ورواه البزار بإسناد حسن، والطبراني وابن حبان وصححه (الترغيب والترهيب 2/ 135). (¬4) رواه البيهقي وغيره.

إطلاقات الرخصة

إطلاقات الرخصة: أطلق الأصوليون الرخصة مجازًا بثلاثة إطلاقات بالإضافة إلى معناها الحقيقي، وهي: 1 - ما استثني من أصل كلي يقتضي المنع مطلقًا دون توقف على عذر، وهو ما يقال له إنه مشروع على خلاف القياس، كالسلم والإجارة والقرض والمساقاة والاستصناع، فالقياس يمنع ويحرم هذه العقود، وشرعت استحسانًا، ويطلق عليها العلماء أنها رخصة، لما تتضمن في مشروعيتها من تسهيل وترخيص وتيسير ورفع للحرج عن الناس (¬1)، ولما جاء في الحديث: "نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الإنسان ما ليس عنده، ورخص في السلم" (¬2). 2 - نسخ الأحكام التكليفية الغليظة التي شدد اللَّه بها على الأمم السابقة، كالقتل لصحة التوبة، والصلاة في مكان العبادة فقط، ودفع ربع المال زكاة، وقطع الثوب إذا أصابته نجاسة، وغير ذلك مما نسخ في شريعتنا (¬3)، ودل على النسخ قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. 3 - الأحكام التي جاءت توسعة على العباد، كالتمتع بالمباحات، والاستفادة من الملذات، وأكل الطيبات، فإنها رخصة مجازًا، لما يظهر ¬

_ (¬1) الموافقات: 1 ص 206. (¬2) قال القرطبي في شرح مسلم: إنه عثر عليه بهذا اللفظ، ويظهر أنه حديث مركب من حديثين (فتح القدير 5/ 324). (¬3) أصول الفقه، الخضري: ص 72، أصول الفقه، خلاف: ص 139، مباحث الحكم: ص 119، الموافقات: 1 ص 207، أصول السرخسي: 1 ص 120.

أنواع الرخصة

فيها من معارضة قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]. فهذه الأنواع تسمى رخصة تجاوزًا أو تسامحًا، ولا تدخل في معنى الرخصة الذي اصطلح عليه علماء الأصول، وتضاف إلى النوعين اللذين نص عليهما علماء الحنفية، وقالوا: إنهما رخصة مجازًا، كما سنرى في الفقرة التالية، فجميع هذه الحالات لا تكون رخصة حقيقية (¬1). أنواع الرخصة: الرخصة مبنية على أعذار العباد، ولما كانت أعذارهم مختلفة فلذلك اختلفت الرخص وتنوعت إلى أربعة أنواع، الأول والثاني متفق عليهما، والثالث والرابع نص عليهما الحنفية واعتبروهما رخصة مجازًا (¬2)، وهذه الأنواع هي: 1 - الرخصة في فعل المحظورات، وهي التي تجعل الفعل في حكم المباح، فتسقط المؤاخذة عنه، مع بقاء حكم الحرام فيه، مثل الترخص بكلمة الكفر عند الإكراه على النفس بالقتل أو على قطع عضو من الجسد، والامتناع عن النطق بكلمة الكفر عزيمة، فإن صبر حتى قتل كان مأجورًا، وإن نطق بها فلا يؤاخذ لوجود الإكراه مع ثبوت الإيمان والتصديق بالقلب، ومثله الترخيص للإفطار في رمضان للإكراه، والترخيص بإتلاف مال غيره، ومن اضطره الجوع الشديد والظمأ الشديد ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، الإحكام، الآمدي: 1 ص 123. (¬2) تسهيل الوصول: ص 252، كشف الأسرار: 2 ص 635، أصول السرخسي: 1 ص 118، جمع الجوامع والبناني: 1 ص 122، التلويح: 3 ص 82، تيسير التحرير: 2 ص 228، 232، وقارن رأي الخضري في كتاب أصول الفقه: ص 74، فإنه يرى أن هذا التقسيم خطأ.

إلى أكل الميتة أو شرب الخمر فيباح له أكلها وشربها. وحكم هذا النوع -ما عدا الكفر مع الإكراه- ترجيح الأخذ بالرخصة على العزيمة لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، ولأن في الرخصة حفظًا للنفس ولاستيفاء حق اللَّه فيها، ولو أصر على العزيمة وامتنع عن شرب الخمر وأكل الميتة عند الاضطرار والإكراه حتى مات بسببهما أثم بإلقاء نفسه إلى التهلكة (¬1). أما الإكراه على الكفر فالأخذ بالعزيمة أولى وأفضل لبقاء المحرم والحرمة، ولو تحمل المكره الإكراه، وامتنع عن الرخصة، وقتل، كان شهيدًا، لأنه بذل نفسه لإقامة حق اللَّه تعالى. والدليل على ذلك أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من الصحابة، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول اللَّه، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضًا، فخلاه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول اللَّه، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: إنما أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أما الأول: فقد أخذ برخصة اللَّه، وأما الثاني: فقد صدع بالحق، فهنيئًا له"، وحصل مثل ذلك مع عمار وخبيب بن عدي وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في خبيب: "هو أفضل الشهداء، وهو رفيقي في الجنة (¬2) ". 2 - الرخصة في ترك الواجباب: وهي الرخصة التي تجعل الفعل في حكم المباح مع قيام السبب الموجب لحكمه، ولكن الحكم متراخٍ عن ¬

_ (¬1) تيسير التحرير: 2 ص 232، وقال الإمام أحمد في قول: إن العزيمة أفضل في الميتة، ويخير بين القتل وشرب الخمر، انظر المدخل إلى مذهب أحمد: ص 71، 72. (¬2) انظر تسهيل الوصول: ص 252، فواتح الرحموت: 1 ص 116، كشف الأسرار: 2 ص 635، الإصابة: 2 ص 102، سيرة ابن هشام: 2 ص 172.

السبب حتى يزول العذر، فهذا العذر اتصل بالسبب، ومنعه من العمل (¬1)، مثل إفطار المسافر والمريض في رمضان، فهذا رخصة مع قيام السبب وهو شهود الشهر الثابت، وتراخي الحكم، وهو وجوب الصوم وحرمة الإفطار في أيام أخر، وبما أن السبب قائم فيجوز لهما الصوم، وبما أنه يجب الصوم عليهما على التراخي إلى أيام أخر، فلا يجب عليهما الفدية إذا ماتا قبل وجوب الأيام الأخر. وحكم هذا النوع جواز الإفطار في رمضان، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ولكن الأخذ بالعزيمة أولى إذا لم يضعفه الصوم، فالصوم في السفر والمرض أفضل من الإفطار، لقوله تعالى في نفس الآية: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] إلا إذا أضره الصوم وأضعفه، أو منعه عن أمر أهم كالجهاد، فيكون الإفطار أفضل، وإن خاف الهلاك يجب الإفطار (¬2). 3 - نسخ الأحكام في الشرائع السابقة: وهي الأحكام التي سقطت عنا، ولم تشرع في حقنا، وكانت في الشرائع السابقة، كاشتراط قتل النفس وقطع الأعضاء في التوبة، وقص موضع النجاسة في الثوب، ودفع ربع المال في الزكاة، وغير ذلك مما خففه اللَّه عنا، ولم يشرع علينا، وجاءت مقابله أحكام ميسرة وسهلة، وهذا النوع رخصة مجازية، لأن الأصل لم يرد في شريعتنا أصلًا، ولا يجوز القيام به ولا العمل بموجبه قطعًا. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار: 2 ص 638. (¬2) تذكر كتب الحنفية أن الشافعية تقول بأن العمل في إفطار المسافر أولى، (انظر التلويح: 3 ص 85، أصول السرخسي: 1 ص 119)، وهذا غير صحيح، فالثابت عند الشافعية أن الصوم أفضل، لثبوت ذلك بصريح النص، (انظر نهاية السول، الإسنوي: 1 ص 90، المستصفى: 1 ص 99).

خاتمة: هل الأفضل الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟

4 - ما سقط عن العباد بإخراج سببه بأن يكون موجبًا للحكم في محل الرخصة، مع كون الساقط مشروعًا في وقت آخر كالقصر في السفر فهو رخصة مجازًا عند الحنفية، ولا تصح العزيمة عندهم (¬1). فالنوعان الأول والثاني رخصة حقيقية لثبوت العزيمة المقابلة لها، والعمل فيها، وتسمى عند الحنفية رخصة ترفيه، وقال الحنفية بالنوع الثالث والرابع وأنهما مجازيان للرخصة، ووافقهم الإمام الغزالي على ذلك، ويطلق عليهما اصطلاح رخصة إسقاط، فالترخيص أسقط حكم العزيمة، وصار الحكم الشرعي هو الرخصة (¬2). خاتمة: هل الأفضل الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟ اختلف العلماء في ترجيح الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة، وكان اختلافهم غالبًا في كل جزئية على حدة (¬3)، وجاء الشاطبي وتناول هذا الموضوع بشكل عام، ووازن بين الرخصة والعزيمة، وذكر الأدلة التي ترجح الأخذ بالعزيمة، ثم أتبعها بالأدلة التي ترجح الأخذ بالرخصة، ونستعرض أهمها: أولًا: أدلة ترجيح العزيمة: 1 - العزيمة هي الأصل الثابت المتفق عليه المقطوع به، أما ¬

_ (¬1) ذكرت الشافعية في قول أن حكم قصر الصلاة في السفر كالأفطار في رمضان، وأن الإتمام أفضل من القصر، والمشهور عندهم أن القصر أفضل من الإتمام، إذا بلغ ثلاث مراحل، والأدلة متوفرة في الفقه المقارن، انظر التوضيح: 3 ص 86، المستصفى: 1 ص 98، تسهيل الوصول: ص 252، مغني المحتاج: 1 ص 271، 437. (¬2) تسهيل الوصول: ص 252، التوضيح: 3 ص 86، المستصفى: 1 ص 98، أصول الفقه، خلاف: ص 141، أصول السرخسي: 1 ص 117 وما بعدها. (¬3) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 72، أصول الفقه، الخضري: ص 76، مباحث الحكم: ص 127.

الرخصة، وإن كان مقطوعًا بها، لكن سبب الترخيص ظني، وهو المشقة، لأنها ليست منضبطة، وتتفاوت حسب الأشخاص والأحوال. 2 - العزيمة راجعة إلى أصل كلي في التكليف لجميع المسلمين، وهو أصل عام مطلق على جميع المكلفين، أما الرخصة فإنها ترجع إلى حالة جزئية حسب بعض المكلفين المعذورين، أو بحسب بعض الأحوال والأوقات فالرخصة عارض طارئ على العزيمة، ومن المقرر عند تعارض الأمر الكلي مع الأمر الجزئي، ترجيح الكلي، لأنه يحقق ويقتضي مصلحة عامة. 3 - الأمر بالمحافظة على التكاليف وتحمل المشاق فيها، وإنْ فُتِح مقابلها باب الرخصة أحيانًا، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، فوصفهم بالصدق مع حصول الزلزال الشديد والمشقة بالمؤمنين، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10]، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} [آل عمران: 186]، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. 4 - الأخذ بالرخصة قد يصبح ذريعة إلى انحلال العزائم في التعبد، أما الأخذ بالعزيمة فإنه يعوِّد على الثبات في التعبد، والأخذ بالحزم في الأمور، وإن اعتاد الشخص على الرخص صارت كل عزيمة شاقة عليه وحرجة، فيحاول التهرب منها، والخروج من مقتضاها. 5 - إن الأصل في التشريع هو التكليف، والتكليف فيه كلفة ومشقة على العبد، واقتضت حكمة اللَّه تعالى أن تكون الكلفة حسب طاقة الإنسان وقدرته، وحسب مجرى العادات، فإن ظهرت شدة المشقة والتكليف على بعض الأفراد أو في بعض الحالات فلا تخرج العزيمة

ثانيا: أدلة ترجيح الأخذ بالرخصة

عن قصد الشارع، ولا تؤثر في مقتضى العزيمة، فالأصل البقاء على العزيمة، ولا يخرج عنها إلا لسبب قوي (¬1). ثانيًا: أدلة ترجيح الأخذ بالرخصة: 1 - الرخصة ثابتة قطعًا بالشرع كالعزيمة، فإن وجدت المظنة وجد الحكم، لأن الشارع اعتبر الظن في ترتيب الأحكام، وأنه يجري مجرى القطع، فإنْ ظن المشقة الكبيرة والمرض في الصوم فيرخص له الإفطار. 2 - أن أصل الرخصة وإن كان جزئيًّا فلا يؤثر عليها، لأنها تعتبر كالأمر المستثنى من العزيمة، أو هي من باب تخصيص العام أو تقييد المطلق، والخاص يقدم على العام، والمقيد يقدم على المطلق (¬2). 3 - الأدلة على رفع الحرج عن الأمة بلغت درجة القطع، وأن الشارع يقصد السهولة واليسر للمكلف، مما يدل على أن الرخصة أرجح من التمسك بالعزيمة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" (¬3)، ولم يُخَيَّر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وقال تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]. 4 - أن مقصود الشارع من الرخصة الرفق والتخفيف عن المكلف، فمن أخذ بها فيكون موافقًا لقصد الشارع، وقد نددت الآيات الكريمة ¬

_ (¬1) الموافقات: 1 ص 224، وانظر: أصول الفقه، الخضري: 77. (¬2) الموافقات: 1 ص 232. (¬3) رواه أحمد والبيهقي والطبراني، والبزار بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه (الترغيب والترهيب 2/ 135).

الترجيح

بالتشدد والتكلف في أمور الدِّين، قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "هلك المتنطعون" (¬1)، ونهى عن التبتل في العبادة وقال: "من رغب عن سنتي فليس مني"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن هذه صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته" (¬2). 5 - إن ترك الترخص مع وجود السبب قد يؤدي إلى الانقطاع عن العمل والسآمة والملل، وهذا لا يجوز شرعًا، وحذر منه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن اللَّه لن يمل حتى تملوا" (¬3)، ونهى عبدَ اللَّه بن عمرو عن صوم الوصال، وقال عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص حين كبر: "يا ليتني قبلت رخصة رسول اللَّه" وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من البر الصيام في السفر" (¬4)، وغير ذلك من الآيات والأحاديث. الترجيح: لم يرجح الشاطبي رحمه اللَّه جانبًا على آخر (¬5)، والواقع أن الموضوع يرجع إلى تقدير المشقة والحرج الذي يحصل للمكلف، وإلى اجتهاده الشخصي وطاقته الخاصة وإيمانه وورعه وتقواه. قال الشيخ الخضري رحمه اللَّه: إن كل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها، ما لم يجد فيها حدًّا شرعيًّا فيقف عنده، وبيان ذلك أن سبب الرخصة المشقة، والمشقة تختلف بحسب قوة العزائم وضعفها وبحسب ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأبو داود وأحمد عن ابن مسعود. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن عمر. (¬3) رواه البخاري ومسلم عن عائشة. (¬4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد. (¬5) الموافقات: 1 ص 235.

الأفعال، وليس كل الناس في المشاق وتحملها على حد سواء، وإذا كان كذلك فليس للمشقات المعتبرة في التخفيف ضابط مخصوص، ولا حد محدود يَطَّردُ في جميع الناس، ولذلك أقام الشارع في جملة منها المظنة مقام الحكمة، فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان المشقة، وترك جملة منها إلى الاجتهاد كالمرض (¬1). أما تتبع الرخص عند الأئمة المجتهدين بقصد التشهي والتخفيف والتهرب من التكليف فغير جائز، قال ابن حزم: وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدِّين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له، غير طالبين ما أوجبه النص عن اللَّه تعالى وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأخيرًا فإن الفعل الواحد قد يشتمل على الوصف بالرخصة من جهة وبالعزيمة من جهة أخرى، ويتعلق بفعل المكلف حقان: حق اللَّه وحق العبد، فالتيمم مثلًا رخصة بحق العبد للتيسير عند عدم إمكان استعمال الماء، وهو عزيمة بحق اللَّه تعالى، فلا بد من الإتيان به (¬3). إلى هنا ننتهي من الكلام عن الحكم الشرعي، وعن قسميه التكليفي والوضعي، وننتقل إلى الفصل الثاني، وهو الحاكم. ¬

_ (¬1) أصول الفقه، له: ص 75. (¬2) الإحكام، له: 5 ص 645، وانظر: فتح العلي المالك للشيخ عليش 1/ 71. (¬3) المدخل إلى مذهب أحمد: ص 72.

الفصل الثاني في الحاكم

الفصل الثاني في الحاكم من هو الحاكم: يطلق لفظ الحاكم على معنيين: المعنى الأول: أن الحاكم هو واضع الأحكام ومثبتها ومنشئها ومصدرها. المعنى الثاني: أن الحاكم هو الذي يدرك الأحكام ويظهرها ويعرفها ويكشف عنها (¬1). وبناء على ذلك فالحاكم بالمعنى الأول هو اللَّه تبارك وتعالى، الخالق البارئ المصور، المشرع للأحكام، المنشئ لها، وهو المصدر الوحيد للأحكام الشرعية لجميع المكلفين، فلا شرع في الإسلام إلا من اللَّه تعالى، سواء أكانت الأحكام تكليفية أم وضعية، ولا حكم إلا ما حكم به، هذا باتفاق المسلمين قاطبة، لم يخالف بذلك أحد منهم يؤمن باللَّه ربّا، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآن دستورًا، وبالإسلام دينًا. فمصدر الأحكام كلها حقيقة هو اللَّه عزَّ وجلَّ، سواء أظهر هذا ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 147، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 62.

الحكم بالنص الذي أوحى به إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، أم فيما يتوصل إليه المجتهد بالقياس والدلائل والأمارات التي شرعها اللَّه لاستنباط أحكامه، وليست السنة والإجماع والقياس وبقية المصادر إلا مبيِّنة وكاشفة عن حكم اللَّه تعالى، ولا تعتبر حجة ولا دليلًا إلا لثبوت حجيتها من قبل اللَّه تعالى، فهي سبل ومناهج لمعرفة حكم اللَّه الواحد الأحد (¬1). فاللَّه هو المشرع للأحكام، وهو الموجب لها باتفاق، ولذا وضع علماء الأصول القاعدة المشهورة "لا حكم إلا للَّه" (¬2)، واتفقوا على تعريف الحكم -كما سبق- بأنه خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، فالحاكم هو اللَّه تعالى الذي يصدر عنه الخطاب، وترجع إليه الأحكام. واستدل العلماء على ذلك بأدلة كثيرة أهمها: قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)} [الأنعام: 57]، فالآية الكريمة حصرت الحاكمية باللَّه تعالى، واستعمل القرآن الكريم أداة الحصر لتأكيد هذا المعنى. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، فالآية الكريمة بيَّنت أن الحكم الواجب على المؤمنين هو ما أنزله اللَّه تعالى، وليس ما تميل إليه الأهواء والنفوس والعقول البشرية. 3 - قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 108. (¬2) الإحكام، الآمدي: 1 ص 76، فواتح الرحموت: 1 ص 25، تيسير التحرير: 2 ص 150، إرشاد الفحول: ص 7، نهاية السول: 1 ص 145، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 78.

فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47]، فالآيات الثلاث نددت بالحكم بغير ما أنزل اللَّه تعالى، واعتبرت ذلك كفرًا أو ظلمًا أو فسوقًا. 4 - بين القرآن وجوب الرجوع إلى أحكام اللَّه تعالى في القرآن والسنة عند التنازع وعلق الإيمان عليه، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. 5 - نفى القرآن الكريم الإيمان عن الناس حتى يحتكموا إلى أحكام الله تعالى، ويرضوا بذلك وتستسلم نفوسهم لها، فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. أما المعنى الثاني للحاكم وهو الذي يدرك الأحكام ويظهرها ويعرفها ويكشف عنها فميز العلماء بين حالتين: الحالة الأولى: بعد البعثة وبلوغ الدعوة: اتفق العلماء على أن الذي يدرك الأحكام الشرعية ويظهرها هو التشريع السماوي المنزل، والحاكم هو الشرع الذي جاء به الرسول، فما أحله اللَّه فهو حلال، وما حرمه اللَّه فهو حرام، وما أمر به الشرع فهو حسن وفيه مصلحة، وما نهى عنه الشرع فهو قبيح وفيه مفسدة، وهكذا، وإن ما ورد بالشرع يلتزم به المسلم، ولا يخرج عنه قيد أنملة، ويسلم بكل ما جاء فيه دون اعتراض، ومن أنكر آية في كتاب اللَّه تعالى أو حكمًا ثبت قطعًا عن اللَّه تعالى فقد خرج عن الإسلام، وكفر باللَّه، والعياذ باللَّه (¬1). الحالة الثانية: قبل البعثة، اختلف علماء المسلمين في تحديد الحاكم بالمعنى الثاني قبل البعثة، واختلفوا على دور العقل في ذلك على قولين (¬2). ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول: ص 7. (¬2) منهاج الوصول: ص 12، فواتح الرحموت: 1 ص 25، حاشية العطار: 1 ص 79، =

أساس الاختلاف والنتائج المترتبة عليه

القول الأول: عدم وجود ما يكشف عن حكم اللَّه، وعدم وجود حكم شرعي قبل البعثة، وأن العقل لا يدرك الأحكام بنفسه بدون واسطة الرسل والكتب السماوية، فالحاكم هو اللَّه تعالى، والكاشف هو الشرع، ولم يرد شرع، وهو قول أهل السنة والجماعة. القول الثاني: أن الحاكم حقيقة هو اللَّه تعالى، ولكن العقل يدرك أحكام اللَّه تعالى ويكشف عنها ويعرفها ويظهرها، قبل ورود الشرع، وهو قول المعتزلة، كما أن العقل يعرف أحكام اللَّه تعالى بعد البعثة فيما لم يرد فيه نص (¬1). أساس الاختلاف والنتائج المترتبة عليه: ويرجع الاختلاف السابق إلى الاختلاف في مسألة الحسن والقبح العقليين، وما يشتمل عليه الفعل من مصلحة ومفسدة، وينتج عن هذا الاختلاف عدة نتائج، أهمها اثنتان: 1 - هل يجب على الإنسان العاقل أن يدرك حسن الأفعال وقبحها، وأن يفعل الحسن ويمتنع عن القبيح؟ وبالتالي فهو محاسب على فعل القبيح، ومثاب على فعل الحسن، وهل يجب على الإنسان أن يشكر اللَّه تعالى بموجب عقله بسبب النعم التي حباه بها من الخلق والرزق والصحة وغيرها أم لا يجب؟ ¬

_ = أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 147. (¬1) يطلق كثير من علماء الأصول عبارة أن الحاكم عندنا هو اللَّه تعالى، وعند المعتزلة هو العقل، وهذا الإطلاق فيه تجاوز وتسامح وعدم دقة، لأنه لم يقل أحد من المسلمين: إن الحاكم هو العقل، وإنما قال المعتزلة: إن العقل يعرف الأحكام ويدركها قبل نزول الشرع، ولذا نبه بعض العلماء عليه، (انظر فواتح الرحموت: 1 ص 25، تيسير التحرير: 2 ص 151، نهاية السول: 1 ص 146، جمع الجوامع وحاشية العطار: 1 ص 79، شرح الكوكب المنير: 1 ص 303).

معنى الحسن والقبح

2 - هل يجب على اللَّه تعالى عند إنزال الشرائع أن يحكم بحسن الفعل الذي أدرك العقل حسنه، وأن يحكم بقبح الفعل الذي أدرك العقل قبحه؟ وقبل بين الاختلاف والجواب عن هذه الأسئلة نبين معنى الحسن والقبح، ثم نذكر المذاهب المختلفة في الموضوع. معنى الحسن والقبح: يطلق الحسن والقبح على أربعة إطلاقات، هي: 1 - يطلق الحسن على كل أمر يلائم الطبع، مثل حسن الحلو وحسن إنقاذ الغرقى، ويطلق القبح على كل أمر ينفر الطبع منه، مثل قبح المر، وقبح أخذ المال ظلمًا. 2 - يطلق الحسن على صفة الكمال، مثل حسن العلم وحسن الكرم، ويطلق القبح على صفة النقص، مثل قبح الجهل وقبح البخل. وهذان الإطلاقان معنيان عقليان، يحكم بهما العقل بالاتفاق بين أهل السنة والمعتزلة (¬1). 3 - يطلق الحسن على ما يباح للإنسان فعله مع العلم به والقدرة عليه، بمعنى نفي الحرج عنه، والقبيح ما يقابله مما لا يباح له فعله، وهذا المعنى غير ذاتي باتفاق، ولا يدركه العقل، لاختلافه باختلاف الأحوال. ¬

_ (¬1) قال العز بن عبد السلام: "ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره" قواعد الأحكام، له: 1/ 5، ثم قال: "وأما مصالح الدارين وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع" المرجع السابق: 1/ 10.

مذاهب العلماء في دور العقل قبل البعثة

4 - يطلق الحسن على ترتب المدح في الدنيا والثواب في الآخرة، مثل حسن الطاعة، ويطلق القبح على ترتب الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة مثل قبح المعصية (¬1)، وهذا المعنى مختلف فيه على قولين: القول الأول: أن الحسن والقبح بهذا المعنى شرعيان، فلا يؤخذان إلا من الشرع، ولا يدركان إلا به، وأن الأشياء ليس لها حسن ذاتي، ولا قبح ذاتي، ولكن الأمور كلها إضافية. القول الثاني: أن الحسن والقبح عقليان، فإن العقل يدرك ذلك بدون توقف على الشرع، وأن الحسن صفة ذاتية لبعض الأشياء، وأن القبح صفة ذاتية لبعضها الآخر، ويوجد بعض الأشياء تتردد بين النفع والضر والخير والشر (¬2). مذاهب العلماء في دور العقل قبل البعثة: اختلف علماء المسلمين في موضوع النزاع في معنى الحاكم الكاشف المظهر، ودور العقل في إظهار الأحكام، وأساس الاختلاف في الحسن والقبح والنتائج المترتبة عليه على ثلاثة مذاهب. أولًا: مذهب الأشاعرة (¬3): ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 25، المستصفى: 1 ص 56، تسهيل الوصول: ص 271، إرشاد الفحول: ص 7، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 80، مختصر ابن الحاجب: ص 29، الإحكام، الآمدي: 1 ص 76، نهاية السول: 1 ص 145، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 148، شرح الكوكب المنير: 1 ص 305، مجموع الفتاوى: 11/ 346 وما بعدها، الوصول إلى علم الأصول: 1/ 56. (¬2) مختصر ابن الحاجب: ص 30، أصول الفقه، الخضري: ص 21، المستصفى: 1 ص 56، نهاية السول: 1 ص 145، حاشية العطار: 1 ص 83، تيسير التحرير: 2 ص 150، فواتح الرحموت: 1 ص 25. (¬3) وهم أتباع أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة 324 هـ، ومن وافقه كأكثر الشافعية.

وهو أن العقل لا يعرف حكم اللَّه تعالى في أفعال المكلفين إلا بواسطة رسله وكتبه، لأن العقول تختلف اختلافًا ظاهرًا في الحكم على الأفعال، فبعض العقول تستحسن فعلًا معينًا، بينما تستقبحه بعض العقول، وأن عقل الشخص الواحد يختلف في الفعل الواحد، فيراه حسنًا في وقت، ويراه قبيحًا في وقت آخر، ولأنه قد يغلب الهوى والتشهي على العقل، فيكون التحسين والتقبيح واهيًا وضعيفًا وقائمًا على الهوى. وأساس هذا المذهب أن الحسن والقبح للأفعال شرعيان، وأن الحسن من أفعال العباد هو ما رآه الشارع حسنًا فأباحه وطلب فعله كالإيمان والصوم والصلاة وغيرها، وأن القبيح من أفعال الناس هو ما رآه الشارع قبيحًا وطلب تركه، مثل الكفر والزنا وشرب الخمر وغيرها، وليس الحسن ما رآه العقل حسنًا، ولا القبيح ما رآه العقل قبيحًا، أي: إن مقياس الحسن والقبح هو الشرع لا العقل. واستدلوا على ذلك بأن الحسن والقبح ليسا ذاتيين في الفعل، لأنهما غير مطردين، فكل فعل اتفق الناس على حسنه كالصدق، نجد له جزئيات يقبح فيها إذا ترتب على الصدق مثلًا هلاك جزء عظيم من الأمة، أو قتل بريء على يد جبار ظالم، وكل فعل اتفق الناس على قبحه نجد له جزئيات يحسن فيها، فالوصف غير ذاتي، لأن ما بالذات لا يتخلف (¬1). وينتج عن مذهب الأشاعرة ما يلي: ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 29، الإحكام، الآمدي: 1 ص 78، أصول الفقه، خلاف: ص 109، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 150، تيسير التحرير: 2 ص 150، الوسيط في أصول الفقه: ص 121، الإحكام، لابن حزم: 1 ص 47، شرح الكوكب المنير: 1 ص 304، الإرشاد، الجويني: ص 259.

1 - أن أهل الفترة الذين عاشوا بعد موت رسول وقبل مبعث رسول، ومن عاش في عزلة تامة فلم تبلغه دعوة النبي، فلا يكلف من اللَّه تعالى بفعل شيء ولا بترك شيء، ولا يثاب على فعل الحسن، ولا يعاقب على كفر، ولا يجب عليه الإيمان والشكر للمنعم، ولا يحرم عليه غيره، لأن الثناء والشكر والتكليف واجب بالشرع لا بالعقل، فلا يأثم الإنسان إلا إذا بلغته دعوة نبي، فالواجب ما أوجبه اللَّه تعالى ومنح الثواب عليه، والحرام ما حرمه اللَّه تعالى، وتوعد بالعقاب على فاعله، وأما قبل البعثة فلا يحرم كفر ولا يجب إيمان، والعبرة لأوامر الشارع الحكيم، وأنه لا طريق إلى معرفة الأحكام إلا بالشرع. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]، فقد نفى القرآن الكريم الحساب والمؤاخذة والعذاب قبل بعثة الرسل الذين تنزل عليهم الأحكام الشرعية، واستغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب. واستدلوا بقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165]، فالآية تدل على أن المسؤولية والحساب على الناس يكون بعد إرسال الرسل وبيان الأحكام وإقامة الحجة عليهم، ومفهوم المخالفة إمكان الاحتجاج قبل البعثة، وأن العلة في إرسال الرسل هي قطع الحجة للناس على اللَّه بعد الإرسال (¬1)، فعلى هذا فأهل الفترة متروكون لمشيئة اللَّه، إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم. ¬

_ (¬1) نهاية السول: 1 ص 147، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 87، منهاج الوصول: ص 12، مختصر ابن الحاجب: ص 32، الإحكام، الآمدي: 1 ص 83، تسهيل الوصول: ص 273، فواتح الرحموت: 1 ص 47، إرشاد الفحول: ص 7، أصول الفقه لغير الحنفية: ص 66، أصول الفقه، الخضري: ص 26.

ثانيا: مذهب المعتزلة

2 - لا يجب على اللَّه تعالى أن يحكم بحسن ما رآه العقل حسنًا، وأن يطلب فعله من الناس، ويوجبه عليهم، ولا يجب عليه أن يحكم بقبح ما رآه العقل قبيحًا، وأن يطلب من الناس تركه، لأن إرادة اللَّه مطلقة، وهو خالق الحسن والقبيح، فله أن يشرع ما شاء على من شاء، من غير منفعة أصلًا، ولكن ثبت بالاستقراء أن اللَّه تعالى شرع أحكامه لتحقيق مصالح العباد تفضلًا منه وإحسانًا، فإن مراعاة النفع والضرر والمصلحة والمفسدة هي تفضل وكرم من اللَّه سبحانه وتعالى، وإذا لم تظهر لنا المنفعة والمصلحة فيكون الوجوب الشرعي لفائدة في الآخرة قطعًا (¬1). ثانيًا: مذهب المعتزلة (¬2): يرى المعتزلة أن العقل نفسه يعرف حكم اللَّه تعالى في أفعال المكلفين قبل البعثة، بدون واسطة الرسل والأنبياء والكتب، لأن كل فعل من أفعال العباد فيه من الصفات، وله من الآثار ما يجعله نافعًا أو ضارًّا، فالفعل حسن بذاته أو قبيح بذاته، وإن العقل بناء على صفات الفعل وآثاره يستطيع أن يحكم بأنه حسن أو قبيح. واستدلوا على ذلك بأن بعض الأفعال والأقوال لا يسع العاقل إلا أن يفعلها، ويحكم بمدح فاعلها، فهي حسنة بذاتها كالصدق والإيمان، وأن بعض الأفعال والأقوال لا يسيغ العقل فعلها، لما تجلب من المضار واستنكار الناس وذمهم، كالكذب والضرر والكفر، فلا تحتاج لإقامة الدليل عليها، فالعلم بحسنها أو قبحها ضروري، فالعدل حسن ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 89، أصول الفقه، الخضري: 25، 27، نهاية السول: 1 ص 153، الإرشاد للجويني: ص 268. (¬2) المعتزلة أتباع واصل بن عطاء المتوفى سنة 131 هـ، وعمرو بن عبيد المتوفى سنة 144 هـ، ووافقهم على مذهبهم الخوارج والشيعة الإمامية والزيدية والبراهمة والكرامية وغيرهم من الفرق التي تختلف مع أهل السنة والجماعة.

ولو كان ضارًّا، والظلم قبيح ولو كان نافعًا، في نظر العاقل سواء كان متدينًا أو غير متدين، وأن الرسول في الآية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] هو العقل. وأساس هذا المذهب أن الحسن والقبح أمران عقليان، وليسا شرعيين، وأن الحسن من الأفعال: ما رآه العقل حسنًا لما فيه من نفع، والقبيح من الأفعال ما رآه العقل قبيحًا لما فيه من ضرر، لأن العقل إذا لم يعلم حسن الأفعال وقبحها قبل الشرع، لاستحال عليه أن يعلم ذلك بعد الشرع، وكان مكلفًا بما لا يستطيع وهو محال (¬1). وينتج عن هذا المذهب ما يلي: 1 - أن من لم تبلغهم دعوة الرسل والشرائع مكلفون من اللَّه تعالى بفعل ما يهديهم عقلهم إلى حسنه، ويثابون من اللَّه تعالى على فعله، وأنهم مكلفون بترك ما يهديهم عقلهم إلى قبحه، ويعاقبون من اللَّه تعالى على فعله، لأن العاقل يقر بأن كل فعل فيه خواص وله آثار تجعله حسنًا أو قبيحًا، فيمكن إدراك تلك الأحكام قبل أن ترد الشرائع فيها، وهل ينكر عاقل أن الشكر على النعمة والصدق والوفاء والأمانة والإيمان كلها حسنة وأن ضدها قبيح، وبالتالي فيجب شكر المنعم عليها والثناء له؟ ويكون الشكر اعتقادًا بالقلب أو تحدثًا باللسان أو سلوكًا بالخضوع والاستسلام، ومن ترك الشكر والثناء فهو آثم (¬2). ونلاحظ أن استدلال المعتزلة يعتمد على إطلاق الحسن بمعنى ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 77، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 68، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 150، 152، فواتح الرحموت: 1 ص 26، أصول الفقه، خلاف: ص 110، الوسيط في أصول الفقه: ص 122. (¬2) المراجع السابقة، تسهيل الوصول: ص 273، أصول الفقه، البرديسي: ص 161، فواتح الرحموت: 1 ص 47.

الكمال، وهذا أمر متفق عليه مع الأشاعرة، ولكن الخلاف في إطلاق الحسن بمعنى ترتب المدح والثواب عليه. 2 - أن حكم اللَّه تعالى على الأفعال يكون بحسب ما تدركه العقول من النفع أو الضرر، فيطلب اللَّه تعالى من المكلفين فعل ما فيه النفع بحسب ما يدركه العقل، ويطلب ترك ما فيه ضررهم حسب ما يدركه العقل، ولا يمكن أن يأمر بأمر قبيح ذاتيًّا، ولا ينهى عن شيء حسن ذاتيًّا، لاعتقاد المعتزلة وجوب مراعاة المصالح والمفاسد، وأن الشرائع مؤكدة لحكم العقل فيما يعلمه. ومبدأ المعتزلة أن ما رآه العقل حسنًا فهو حسن، ومطلوب شرعًا فعله، ويثاب من اللَّه فاعله، وما رآه العقل قبيحًا فهو قبيح، ومطلوب شرعًا تركه، ويعاقب من اللَّه فاعله، فالشرع تابع للعقل، ويقولون: إن الشرع مؤكد وكاشف لحكم العقل فيما أدركه من حسن الأشياء وقبحها. واستدلوا على ذلك بأن اللَّه تعالى ما شرع حكمًا إلا بناء على ما فيه من نفع أو دفع ضرر، وأن الأحكام الشرعية جاءت لتحقيق مصالح الناس، فكل ما طلب الشارع فعله فقد طلبه لما فيه من نفع ولما يحقق من مصلحة، وكل ما نهى الشارع عنه فقد حرمه، لما فيه من ضرر ولما يترتب على فعله من مفسدة (¬1). وعلى الرغم من فساد مذهب المعتزلة في بناء الأحكام على الحسن والقبح العقليين، أو بحسب المصالح والمفاسد أو المنافع والمضار، فقد يقال: إن أساس هذا المذهب هو المسوغ لتشريع الأحكام الوضعية ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول: ص 271، فواتح الرحموت: 1 ص 26، 27، المستصفى: 1 ص 61، إرشاد الفحول: ص 7.

ثالثا: مذهب الماتريدية

قديمًا وحديثًا في القوانين التي تخلت عن شرع اللَّه وحكمه، وتركت الأحكام الإلهية، ووضعت لنفسها أحكامًا تعتمد على العقل، وتستند على المصالح والمفاسد، وتتنكب صراط اللَّه المستقيم، وطريقه القويم، نسأل اللَّه تعالى أن يردنا إلى ديننا ردًّا جميلًا، وأن يهدي المسلمين للعمل بشريعته، إنه نعم المولى ونعم النصير. ثالثًا: مذهب الماتريدية (¬1): وهذا مذهب وسط بين المذهبين السابقين، ويرى -كالمعتزلة- أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، فالأشياء لها حسن ذاتي وقبح ذاتي، وأن العقل بناء على هذه الآثار والخواص يحكم بأن هذا الفعل حسن، وأن هذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنًا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحًا فهو قبيح، وأن اللَّه تعالى لا يأمر بما هو قبيح في ذاته، ولا ينهى عما هو حسن لذاته (¬2). ومبدأ الماتريدية أن الحسن والقبح عقليان لا شرعيان، لأن أمهات الفضائل يدرك العقل حسنها، لما فيها من نفع، وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها، لما فيها من ضرر، ولو لم يرد بها شرع، واستدلوا أيضًا أن الحسن والقبح لو كانا شرعيين، ولا يعرفان إلا بالشرع لكانت الصلاة والزنا مثلًا متساويين قبل بعثة الرسل، فجعل أحدهما واجبًا والآخر حرامًا ليس أولى من العكس (¬3). ¬

_ (¬1) الماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي، المتوفى سنة 333 هـ، وأكثرهم من الحنفية، وهو رأي بعض الحنابلة كأبي الخطاب وابن تيمية وابن القيم، (انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 303، 304). (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 26، 29، 30، تيسير التحرير: 2 ص 152، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 69. (¬3) فواتح الرحموت: 1 ص 29.

ولكنهم قالوا: إن هذا الحسن والقبح العقليين لا يقتضي طلب الحسن أو ترك القبيح في الدنيا، ولا يقتضي الثواب أو العقاب في الآخرة، لأن الثواب والعقاب على الأفعال من وضع الشارع، ومتوقف على الشرع والرسل (¬1). وينتج عن هذا المذهب ما يلي: 1 - إن أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة لا يطالب بفعل الحسن ولا يطالب بترك القبيح، ولا ثواب لفعل الحسن، ولا عقاب على تركه، كما لا ذم على فعل القبيح، ولا ثواب على تركه، فالثواب والعقاب لا يكون بمجرد العقل، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء: 15]، ولذلك اشترط الحنفية في تعلق التكليف أن تبلغ الدعوة المكلف، وأن إدراك الحسن والقبح للأفعال لا يقدر عليه كل الأفراد، ولا يعقل أن يعاقب إنسان على ترك فعل لم يدرك حسنه، ولم يرشده إليه داع موثوق (¬2). وهذا مما يتفق فيه الماتريدية مع الأشاعرة، وأن الثواب والعقاب والمدح والذم أمور شرعية، وتتوقف على البعثة وبلوغ الدعوة. واستثنى الماتريدية أمرًا واحدًا وهو وجوب الإيمان والاعتقاد بوحدانية اللَّه تعالى، وأن أهل الفترة إذا لم يعتقدوا ذلك بموجب عقولهم فإنهم يعذبون ويحاسبون على شركهم وكفرهم، لأن الإيمان حسن لنفسه حسنًا لا يقبل السقوط بحال من الأحوال، وهذا رأي أكثر الحنفية بوجوب الإيمان وتحريم الكفر على كل عاقل، سواء بلغته ¬

_ (¬1) وهو رأي ابن تيمية القائل: "الحسن القبح ثابتان، الإيجاب والتحريم بالخطاب، التعذيب متوقف على الإرسال"، (انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 302). (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 25، تيسير التحرير: 2 ص 162، 165، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 69.

ثمرة الاختلاف

الدعوة أم لا، لأن العقل يستقل في إدراك بعض أحكام اللَّه تعالى، وأهمها الإيمان به، وروي عن أبي حنيفة رحمه اللَّه أنه قال: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه، لما يرى من دلائل وحدانيته (¬1). 2 - إن الحكم العقلي بحسن الفعل أو قبحه لا يلزم منه أن تكون أحكام اللَّه تعالى في أفعال المكلفين حسب ما تدركه العقول فيها من حسن أو قبح، لأن الفعل قد يخطئ وحكم اللَّه لا يخطئ، ولأن بعض الأفعال قد تشتبه فيها العقول، ولذا فلا تلازم بين أحكام اللَّه تعالى وما تدركه العقول، وبالتالي فلا يعرف حكم اللَّه تعالى إلا بواسطة الرسل والكتب السماوية (¬2). ثمرة الاختلاف: 1 - يظهر مما سبق أن جميع المسلمين متفقون على أن الحسن ما حسنه الشرع، وأن القبيح ما قبحه الشرع بعد البعثة ونزول الكتاب، فلا يترتب على الاختلاف السابق أثر بالنسبة للمكلفين الذين بلغتهم الدعوة، سواء آمنوا بها أم كفروا، فكل فعل أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله، وكل فعل نهى عنه الشارع فهو قبيح، ومطلوب تركه ويعاقب فاعله، وإن الدراسة السابقة في موضوع الحاكم والاختلاف في الحسن والقبح دراسة تاريخية نظرية لا جدوى منها ولا طائل تحتها، ولا تترتب عليها الأحكام الشرعية إلا في الأمور التالية الأخرى. ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 28، 48، تيسير التحرير: 2 ص 151، ونقل ابن عبد الشكور قول بعض الحنفية الآخر وهو أن الكافر الذي لم تبلغه الدعوة غير مكلف بالإيمان، ولا يؤاخذ في الآخرة بخلاف المعتزلة والإمامية. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 25، تيسير التحرير: 1 ص 153، وقارن ما نقله الشيخ محمد أبو زهرة عن الحنفية في كتاب أصول الفقه: ص 69.

2 - يظهر أثر الاختلاف وثمرته بالنسبة لمن لم تبلغهم شرائع الرسل في زماننا مثلًا، أو قبل البعثة الذين يطلق عليهم اسم أهل الفترة، فقال الأشاعرة: إنهم ناجون، ولا يثابون على فعل ولا يعاقبون على غيره، وأن أمرهم راجع إلى اللَّه تعالى، وقال المعتزلة: إنهم مكلفون ومحاسبون إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وقال الماتريدية: إنهم مكلفون بالإيمان باللَّه تعالى فقط، ولا يحاسبون ولا يعاقبون على غيره. 3 - تظهر ثمرة الاختلاف أيضًا في مكانة العقل بين مصادر التشريع، وهل يعتبر العقل مصدرًا من المصادر التشريعية التي يرجع إليها المجتهد إذا لم يجد نصًّا في كتاب أو سنة؟ قال أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية: إن العقل ليس مصدرًا ولا دليلًا ولا حجة، وإنما تنحصر المصادر في الأمور التي سبق ذكرها وهي القرآن والسنة ثم الاجتهاد والاستدلال والاستنباط بالقياس والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب وغير ذلك، وإن العقل يعمل فيها حيث أباح الشارع له العمل بناء على هذه المصادر. وقال الشيعة الإمامية الجعفرية، الذين يلتزمون بمذهب المعتزلة في العقائد: إن العقل دليل ثالث بعد القرآن والسنة، ولكن بإذن من الشارع جعل له الحق بالأخذ بما يشير إليه، فإن لم يجد المجتهد نصًّا رجع إلى العقل، فما رآه العقل حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وهو حكم اللَّه تعالى، ويجب على المكلف فعله، وما رآه العقل قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح ويجب على المكلف تركه (¬1). ¬

_ (¬1) أصول الفقه: ص 66، 70، وقد كتب الزميل الدكتور رشدي عرسان المدرس في جامعة بغداد رسالة دكتوراة في كلية الشريعة بالأزهر عن "العقل كمصدر تشريعي عند الشيعة الجعفرية" وناقشها فيآب 1971 م، وساعدت جامعة بغداد على طبعها، وجاءت في 490 صفحة.

الفصل الثالث في المحكوم فيه

الفصل الثالث في المحكوم فيه (¬1) تعريف المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به خطاب الشارع (¬2). وذلك أن كل حكم من أحكام الشارع يتعلق بفعل من أفعال المكلفين سواء كان الحكم اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وقد سبق تعريف الحكم بأنه خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلفين، فالخطاب له محل، وهذا المحل هو فعل المكلف. وهذا الفعل إما أن يكون واجبًا أو مندوبًا أو مكروهًا أو حرامًا أو مباحًا، وإما أن يكون سببًا أو مانعًا أو شرطًا (¬3). ¬

_ (¬1) يعبر بعض العلماء عن المحكوم فيه بالمحكوم به، وذلك لأن فعل المكلف يوصف بأنه مأمور به أو منهي عنه، والتعبير في المحكوم فيه أقرب وأولى كما يقول الكمال بن الهمام، لأن الشارع لم يحكم به على المكلف، بل جعل الفعل محكومًا فيه بالوجوب أو بالمنع، (انظر تيسير التحرير: 2 ص 184). (¬2) التلويح على التوضيح: 3 ص 129، نهاية السول: 1 ص 181، أصول الفقه، خلاف: ص 145. (¬3) الوسيط في الفقه الإسلامي: ص 140، أصول الفقه، البرديسي: ص 115.

مثل قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة: 35]، فالإيجاب في الآية تعلق بفعل من أفعال المكلفين، وهو الجهاد فكان واجبًا. ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فالندب في الآية تعلق بفعل من أفعال المكلفين، وهو كتابة الدَّين فجعلته مندوبًا. ومثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، فالتحريم في الآية تعلق بفعل من أفعال المكلفين هو القتل فجعلته حرامًا. ومثل قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، فالكراهة المأخوذة من الآية تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو إتفاق المال الخبيث فجعلته مكروهًا. ومثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [بالجمعة: 10]، فالإباحة في الآية تعلقت بفعل من أفعال المكلفين هو الانتشار في الأرض فجعلته مباحًا. ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، فالقتل الوارد في الآية، الصادر من فعل الشخص، سبب في القصاص، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث القاتل" (¬1)، فالقتل الوارد في الحديث، الصادر من فعل المكلف، مانع له من الميراث. ومثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فالوضوء الوارد في الآية فعل من أفعال المكلفين وهو شرط للصلاة. وإن كان الحكم الوضعي ليس من فعل المكلف، فهو يتعلق بفعله ¬

_ (¬1) رواه أبو داود ومالك وأحمد وغيرهما بلفظ "ليس للقاتل ميراث".

الحكم تكليف بفعل

مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فالدلوك سبب، وهذا السبب يتعلق بفعل المكلف، وهو وجوب الصلاة عليه. وكذلك فإن الصحة أو الفساد أو البطلان وصف لأفعال المكلفين، وكذا العزيمة والرخصة وصف لأفعال المكلف. الحكم تكليف بفعل: ويدل التعريف على أن الحكم لا يتعلق إلا بفعل من أفعال المكلفين، ولذلك وضع علماء الأصول قاعدتهم: "لا تكليف إلا بفعل". فالحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف، بأن يقوم المكلف بأداء فعل من الأفعال، فإن كان الحكم طلب فعل بالإيجاب أو الندب فقد تعلق الحكم بفعل الواجب على سبيل الحتم باتفاق، كالجهاد والصلاة، أو تعلق بفعل مندوب بدون حتم كتوثيق الدين وأداء السنن. وإن كان الحكم طلب ترك بالتحريم أو الكراهة فيتعلق الحكم أيضًا بفعل عند الجمهور، وهو كف النفس عن فعل المحرم في القتل والزنا، لأن النهي عن الشيء أمر بضده، أو كف النفس عن فعل المكروه في السؤال وكثرة الحلف باللَّه (¬1)، ولذلك قال الجمهور: إن ترك الحرام لا يترتب عليه ثواب إلا عند الكف والامتناع عنه حالة التعرض له. أما الحكم الوضعي فإن كان مقدورًا للمكلف وكان من فعله، كالوضوء للصلاة، فإنه يتعلق بفعل المكلف مباشرة كما سبق، وإن لم ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 45، الإحكام، الآمدي: 1 ص 136، المستصفى: 1 ص 90، تسهيل الوصول: ص 285، 287، أصول الفقه، الخضري: ص 91، حاشية العطار: 1 ص 281، حاشية البناني: 1 ص 213، فواتح الرحموت: 1 ص 132، تيسير التحرير: 2 ص 135، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 59، القواعد والفوائد الأصولية: ص 62، شرح الكوكب المنير: 1 ص 490، 491.

شروط المحكوم فيه

يكن من فعله كالدلوك فإنه يتعلق بحكم تكليفي، والحكم التكليفي يتعلق بفعل المكلف، بأن يكون سببًا لحكم تكليفي، أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو رخصة، فالحكم الوضعي متعلق بالحكم التكليفي، والحكم التكليفي متعلق بفعل المكلف، فيكون الحكم الوضعي متعلقًا بفعل المكلف بطريق غير مباشر، وذلك بواسطة الحكم التكليفي. والنتيجة أن الحكم الشرعي، سواء كان تكليفيًّا أو وضعيًّا، متعلق بفعل المكلف، لأن الفعل هو مناط الثواب والعقاب، والمدح والذم، وقد سبق في تعريف الحكم أن المقصود بالفعل هنا كل ما يصدر عن المكلف وتتعلق إرادته وقدرته به من قول أو فعل أو اعتقاد أو تقرير (¬1). شروط المحكوم فيه: يشترط علماء الأصول بالفعل المحكوم فيه لصحة التكليف به أربعة شروط، وهي: أولًا - أن يكون الفعل معلومًا للمكلف علمًا تامًّا حتى يتجه قصده للقيام به ويستطيع فعله، فالمكلف لا يطالب بالصلاة والزكاة والحج والجهاد والإنفاق وترك الخمر والزنا والسرقة وفحش القول إلا بعد أن يعلم حكم اللَّه فيها بالإيجاب أو التحريم، أما قبل العلم فلا يتعلق الخطاب بفعله، ولا يطالب بالفعل أو بالترك، ولا يستحق الثواب ولا العقاب (¬2). وإنَّ علم المكلف بالفعل لا يكفي، بل لا بد أن يكون العلم تامًّا به، ¬

_ (¬1) انظر: تعريف الحكم اصطلاحًا وشرحه في هذا الكتاب. (¬2) مباحث الحكم: ص 198، المستصفى: 1 ص 86، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 140، أصول الفقه، خلاف: ص 147، القواعد والفوائد الأصولية: ص 57 - 58، شرح الكوكب المنير: 1 ص 490.

فيعلم أركان الفعل وشروطه وكيفية القيام به، وعلى هذا فإن النص المجمل في القرآن الكريم لا يكفي في تكليف المكلف به إلا بعد بيانه من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أمر بفعل الصلاة على المكلف، ومع ذلك لا يكلف بالصلاة، لأنه لم يعرف أركانها وشروطها وكيفية أدائها، فجاء رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وبيَّن كل ذلك وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وهكذا بقية التكاليف بالصوم والزكاة والحج والجهاد والدعوة والبيع والربا، وكل فعل تعلق به خطاب مجمل من الشارع لا يصح التكليف به إلا بعد بيانه في القرآن الكريم بنص آخر أو بالسنة المبينة، كما سبق في مبحث السنة. ثانيًا - أن يعلم المكلف مصدر التكليف بالفعل، بأنه من اللَّه تعالى، لكي يكون التنفيذ طاعة وامتثالًا لأمر اللَّه تعالى، ولكي يتجه قصد المكلف لموافقة طلب اللَّه تعالى في التزام أحكامه بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب، ولهذا السبب لا يقبل المسلم حكمًا إلا إذا عرف دليله الشرعي، فيبدأ الفقهاء في كل بحث بذكر الدليل الشرعي أو الأصل الشرعي، لإقامة الحجة على المكلفين بتنفيذ الفعل والتقيد به (¬1). والمراد بعلم المكلف بالفعل وبمصدر التكليف إمكان علمه به، بأن تتوفر فيه القدرة والعقل والتمكن من العلم إذا قصده واتجه إليه، بأن يكون بالغًا عاقلًا قادرًا على معرفة الأحكام بنفسه أو بسؤال أهل العلم عنها عند قيامه في دار الإسلام التي يتوفر فيها العلم والعلماء، وعندئذ يتحقق الشرط بالعلم بما كلف به، فيتعلق التكليف به، ويجب عليه تنفيذه والالتزام بآثاره، فإن قصر فلا يقبل منه الاعتذار بجهلها، ولهذا ¬

_ (¬1) أصول الفقه، خلاف: ص 148، الوسيط في أصول الفقه: ص 140، مباحث الحكم: ص 198، أصول الفقه، الخضري: ص 82، المستصفى: 1 ص 86، شرح الكوكب المنير: 1 ص 491.

قال الفقهاء: "لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي". ولا يشترط علمه بالحكم فعلًا، لأنه لو اشترط ذلك لما استقام التكليف، ولفتح باب الاعتذار بجهل الأحكام، وادعى كل شخص عدم علمه به. أما إذا لم يتوفر العقل والقدرة على العلم كالصبي والمجنون ومن أسلم حديثًا ودخل دار الإسلام، فلا يكون مأمورًا، لأنه لا يتمكن من النظر والبحث والعلم بالحكم (¬1). ثالثًا - أن يكون الفعل المكلف به ممكنًا، بأن يكون في قدرة المكلف أن يفعله أو أن يتركه. ويتفرع عن هذا الشرط ثلاثة أمور، وهي: 1 - أنه لا يصح شرعًا التكليف بالمستحيل، سواء كان مستحيلًا لذاته أو مستحيلًا لغيره. والمستحيل لذاته هو ما لا يتصور العقل وجوده، كالجمع بين الضدين، كأن يكون الفعل واجبًا ومحرمًا في نفس الوقت على شخص واحد، والجمع بين النقيضين كالنوم واليقظة، فلا يصح التكليف بالمستحيل لذاته عند الجمهور، لأن المستحيل لذاته لا يمكن تصوره، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وطلب الفعل والتكليف فيه فرع عن تصور وقوعه، والمستحيل لا يمكن تصوره (¬2). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، أصول الفقه، البرديسي: ص 117، وانظر شرط المحكوم عليه في المبحث الآتي. (¬2) تسهيل الوصول: ص 247، مختصر ابن الحاجب: ص 43، إرشاد الفحول: ص 9، نهاية السول: 1 ص 185، حاشية البناني: 1 ص 206، فواتح الرحموت: 1 ص 123، المستصفى: 1 ص 186، أصول الفقه، خلاف: ص 149، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 178، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 303، مباحث الحكم: =

أما المستحيل لغيره، وهو ما يتصور العقل وجوده، ولكن لم تجر العادة بوقوعه، كالمشي من المريض المقعد، والطيران من الإنسان بدون أداة، والمشي على الماء، وهكذا، فلا يصح التكليف بالمستحيل لغيره عند الجمهور أيضًا، وهو قول الماتريدية ومعهم أبو حامد الإسفراييني والغزالي وابن دقيق العيد من الشافعية. والدليل على عدم صحة التكليف بالمستحيل قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، ولأن التكليف بالمستحيل الذي لا سبيل إلى فعله عبث، والمشرع الحكيم منزه عن العبث (¬1). وذهب جمهور الأشاعرة إلى جواز التكليف بالمستحيل لذاته والمستحيل لغيره (¬2)، لوقوعه في الشرع في تكليف العاصي بالإيمان مع استحالة إيمانه لعلم اللَّه تعالى بعدم إيمانه، وتكليف أبي جهل بالإيمان وتصديق الرسول، ومن جملة ما جاء به الرسول أن أبا جهل لا يُصدِّقه، واحتجوا بسؤال رفع التكليف في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، على جواز التكليف بالمستحيل لغيره، لأن سؤال رفعه يدل على جواز وقوعه، ولأن التكليف بالمستحيل يفيد في اختبار المكلفين بالأخذ في الأسباب والمقدمات التي كلفوا بها لاكتساب الأجر والثواب، وإن لم يترتب عليها حكم ولا ثمرة (¬3). ¬

_ = ص 190، الوسيط في أصول الفقه: ص 141، أصول الفقه، الخضري: ص 83، الموافقات: 2 ص 76، شرح الكوكب المنير: 1 ص 484، 485، شرح تنقيح الفصول: ص 143. (¬1) المراجع السابقة. (¬2) انظر الإرشاد للجويني ص: 226. (¬3) المراجع السابقة، حاشية العطار: 1 ص 269، الإحكام، الآمدي: 1 ص 124، منهاج الوصول: ص 15، وانظر صفحة 232 هامش 4 من هذا الكتاب، شرح =

وهذا الاختلاف نظري في الجواز وعدمه، لا يترتب عليه أثر عملي، لاتفاق العلماء على عدم وقوعه في الأحكام التشريعية، وأن الواقع العملي أن الشارع لم يكلف المكلف إلا بما هو في مقدوره أن يفعله، لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا}، قال الشوكاني: على أن الخلاف في مجرد الجواز لا يترتب عليه فائدة أصلًا (¬1). 2 - لا يصح شرعًا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلًا أو يكف غيره عن فعل، لأن هذا التكليف ليس ممكنًا، ولا يدخل في مقدوره (¬2)، فلا يكلف شخص بأن يجاهد أخوه، أو أن يصلي أبوه، أو أن يكف صديقه عن الفواحش، ولذا فلا يسأل الإنسان عن فعل غيره، ولا يعاقب مكانه، لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، وقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فالإنسان مسؤول عن نفسه فقط، ولا يكون مسؤولًا عن غيره نهائيًّا إلا بما أنيط به بنفسه من رعاية وتربية ونصح ووعظ وإرشاد للزوجة والأولاد والطلاب والناس من حوله. وكل ما يكلف به الإنسان تجاه غيره هو أن يقدم له النصيحة، وأن يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، وهذا في مقدوره، وكل مسلم مسؤول عنه، لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (¬3). ¬

_ = الكوكب المنير: 1 ص 485 وما بعدها، شرح تنقيح الفصول: ص 143. (¬1) إرشاد الفحول: ص 9، وانظر الموافقات: 2 ص 76، شرح الكوكب المنير: 1 ص 489. (¬2) الإحكام، الآمدي: 1 ص 124، المستصفى: 1 ص 86. (¬3) رواه مسلم وأصحاب السنن وأحمد.

ويتفرع عن هذا الموضوع النيابة عن الغير، فيجوز النيابة عن الغير في المعاملات باتفاق، ولا تقبل النيابة في الإيمان وأصول العقيدة باتفاق، أما في التكاليف البدنية ففيه تفصيل، فالصلاة لا تصح فيها النيابة باتفاق، لأنها وجبت ابتلاء وامتحانًا من اللَّه تعالى لاستسلام النفس إلى خالقها، وكسر النفس الأمارة بالسوء، وأما الصوم فقال بعض الشافعية وأحمد بجواز النيابة فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬1)، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي بعدم جواز النيابة في الصوم لقول ابن عباس: "لا يصلِّ أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد"، وبما قالته السيدة عائشة: "لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم"، أما الحج فقال الجمهور بجواز النيابة عنه، وقال الإمام مالك بعدم جوازه (¬2). 3 - لا يصح شرعًا التكليف بالأمور الفطرية التي لا كسب للإنسان فيها ولا اختيار، وهي أمور وجدانية وجبلية تستولي على النفس من حيث لا تشعر، ولا قدرة للإنسان على جلبها ولا على دفعها، كالانفعال عند الغضب، والحمرة عند الخجل، والخوف عند الظلام، والحزن والفزع والطول والقصر والسواد والبياض، والشهية عند رؤية الطعام والشراب، والحب والكره، وغير ذلك من الغرائز التي خلقها اللَّه تعالى في الإنسان، ولا تخضع لإرادة المكلف، وبالتالي فهي خارجة عن قدرته وإمكانيته، فلا يكلف بها، لأنها تكليف بما لا يطاق (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد، صحيح البخاري: 2/ 690، صحيح مسلم 8/ 23. (¬2) انظر الإحكام، الآمدي: 1 ص 137، مباحث الحكم: ص 193، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 310. ورجح النووي قول أحمد لصحة الحديث فيه (مسند أحمد 5/ 349، المجموع: 6/ 425، 428). (¬3) الموافقات: 2 ص 79، 81، أصول الفقه، خلاف: ص 150، الوسيط في الفقه: =

وكل نص يدل ظاهره على التكليف بأحد هذه الأمور فلا يقصد منه ظاهره، ويكون التكليف فيه واردًا على سببه أو نتيجته وثمرته (¬1)، مثل قوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]، فالظاهر أن الآية تنهى الإنسان عن الموت إلا وهو مسلم، والموت ليس بيد الإنسان، فتصرف الآية عن ظاهرها، ويكون التكليف في الآية حقيقة هو الأمر بالدخول في الإسلام، واتخاذ الأسباب والطرق التي تُثبت الإيمان، وتقوي العقيدة، ليبقى الإنسان مسلمًا حتى الموت. ومثل قوله تعالى {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]، فالآية تنهى عن الحزن عند المصيبة، وتنهى عن الفرح للرزق، والحزن والفرح أمران نفسيان جبليان ذاتيان لا يقدر عليهما المكلف، فيكون التكليف بالتخفيف من شدة الحزن، وعدم البطر والزهو بالرزق والنعمة، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغضب" (¬2)، فالظاهر التكليف بالكف عن الغضب، وهو أمر طبيعي عند وجود سببه، والحقيقة أن التكليف بالامتناع عن الدخول في أسباب الغضب، وعما يعقب الغضب من الانتقام والخروج عن الحالة الطبيعية للإنسان العادي (¬3)، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" (¬4)، وهو ميل القلب والمحبة لبعض نسائه أكثر ¬

_ = ص 146. (¬1) يقول الشاطبي: "إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة المكلف فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه". (الموافقات: 2 ص 76). (¬2) رواه البخاري والترمذي وأحمد والحاكم عن أبي هريرة. (¬3) انظر تفصيل ذلك في الموافقات: 2 ص 79، 94، 96، أصول الفقه، شعبان: ص 263، أصول الفقه، خلاف: ص 150، الوسيط في أصول الفقه: ص 146. (¬4) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.

من بعض، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - عندما مات ابنه إبراهيم وذرفت دموعه - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتبكي يا رسول اللَّه، وقد نَهَيْتَ عن البكاء؟ فقال: "إنما نهيتُ عن النياحة، وأن يندب الميت بما ليس فيه، وإنما هذه رحمة، ومن لا يرحم لا يُرحم، ثم قال: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنَّا عليك يا إبراهيم لمحزونون (¬1) "، والمطلوب شرعًا أن يخفف الإنسان من هذه الأمور الفطرية، وأن يهذبها وأن يوجهها نحو الفضيلة والخير، مثل حب المال، وحب البقاء، والطمع ... وغير ذلك من الغرائز والعواطف والميول التي تنزع بالإنسان نحو الشر والرذيلة وما يسيء إليه. رابعًا -حصول الشرط الشرعي، وهو الذي لا يصح عمل المكلف إلا به، كالطهارة بالنسبة للصلاة، والإيمان بالنسبة للعبادات. واختلف العلماء في صحة تكليف الإنسان بفعل قبل حصول الشرط، ويتجلى هذا الشرط في مسألة أصولية مشهورة، وهي تكليف الكفار بفروع الشريعة بعد الاتفاق على تكليفهم بالإيمان وأصول الدين، وإنَّ تركهم له يوجب تخليدهم في النار، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]، وفيما وراء ذلك قال الجمهور بعدم اشتراط الشرط الشرعي للتكليف، وأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأن آيات التكليف عامة تخاطب الناس جميعًا، فيدخل فيها المؤمن والكافر، وأن الآيات التي تتحدث عن عقاب الآخرة تصرح بمسؤولية الكافر وعقوبته على ترك الصلاة والزكاة مثلًا، وأن العقل لا يمنع ذلك. وقال أكثر الحنفية: يشترط حصول الشرط الشرعي أولًا لصحة ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد.

المشقة في التكليف بالأفعال

التكليف، فإن فقد الشرط فلا يكلف العبد بها، وإن الكفار غير مكلفين بفروع الشريعة (¬1). والأدلة من النصوص وغيرها ترجح قول الجمهور، ولذا قال الشوكاني: والحق ما ذهب إليه الجمهور (¬2). وقد سبق بيان ذلك في مطلب الشرط، فلا حاجة لتكراره، ومن أراد التفصيل في الأدلة والمزيد في البيان فليرجع إلى كتب الأصول المعتمدة (¬3). المشقة في التكليف بالأفعال: ويتفرع عن الشرط الثالث، بأن يكون الفعل ممكنًا ومقدورًا للمكلف، مسألةُ المشقة في التكليف، فإن كل عمل يقوم به الإنسان لا يخلو من مشقة، ولو في طعامه وشرابه، ولذا تقسم المشقة إلى نوعين: ¬

_ (¬1) وهناك قول ثالث يفصل في الموضوع، فيقول: الكفار مخاطبون ومكلفون بالنواهي دون الأوامر، وسبق بيان ذلك في مطلب الشرط. (¬2) إرشاد الفحول: ص 10، ويترتب على قول الجمهور أحكام كثيرة في الحياة الدنيا مثل تنفيذ طلاق الكافر وظهاره وإلزامه بالكفارات وتطبيق الأحكام المترتبة عليه حال ردته، (انظر الوسيط في أصول الفقه: ص 158، التمهيد للإسنوي: ص 28) وقارن أصول الفقه، الخضري: ص 94. (¬3) مختصر ابن الحاجب: ص 45، المدخل إلى مذهب أحمد: ص 58، منهاج الوصول: ص 16، الإحكام، الآمدي: 1 ص 133، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 184، المستصفى: 1 ص 91، فواتح الرحموت: 1 ص 128، حاشية العطار على جمع الجوامع: 1 ص 274، وحاشية البناني: 1 ص 211، نهاية السول: 1 ص 194، تيسير التحرير: 2 ص 148، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 309، وانظر: مطلب الشرط من هذا الكتاب، وانظر: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، الونشريسي ص 283.

أولا: المشقة المعتادة

أولًا: المشقة المعتادة: وهي المشقة التي جرت عادة الناس على احتمالها والاستمرار عليها، وتدخل في حدود طاقة المكلف. وهذا النوع مشروع وموجود في التكاليف الشرعية، واشتراط الإمكان والقدرة في التكليف لا يستلزم انتفاء المشقة على المكلف، وأن نفس التكليف فيه زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف، وأنه لا منافاة بين كون الفعل مقدورًا وكونه شاقًّا، وأن التكاليف الشرعية لا تخلو من مشقة، لأن التكليف نفسه هو الإلزام بما فيه كلفة ومشقة، وكل تكليف فيه مشقة محتملة، لترويض النفس على المباحات وإبعادها عن المحرمات، وذلك فيه مشقة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات" (¬1)، فالوضوء والصلاة والحج فيها مشقات على المكلف، ولكنه يتحملها ولا يلحقه ضرر إذا داوم عليها (¬2). وهذه المشقة الموجودة في التكاليف ليست مقصودة من الشارع، وإنما القصد منها تحقيق المصالح المترتبة عليها، ودرء المفاسد المتوقعة منها، للحفاظ على مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية (¬3)، فيلزم المكلف أن يتحمل هذه المشقة لتحقيق هذه المصالح، كما يتحمل المريض الدواء المر من أجل الشفاء، فالمقصود ¬

_ (¬1) رواه مسلم والترمذي وأحمد. (¬2) الموافقات: 2 ص 85، 87، مباحث الحكم: ص 195، أصول الفقه، شعبان: ص 265، أصول الفقه، خلاف: ص 151، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 147، شرح الكوكب المنير: 1 ص 483، قواعد الأحكام: 2/ 9، الأشباه للسيوطي: ص 80. (¬3) الموافقات: 2 ص 4.

ثانيا: المشقة غير المعتادة

في الصوم مثلًا تهذيب النفس وتربية الروح، وتعويد المرء على الصبر، وليس المقصود إيلام النفس بالجوع والعطش (¬1). ويجب على المكلف أن يتحرى مقاصد الشريعة في التكليف، وأن لا يقصد مجرد المشقات التي فيها، ومن فعل ذلك ظانًّا زيادة الأجر والتقرب فقد أخطأ، ولا أجر له، ولكن له أن يقصد العمل الذي يعظم أجره وتعظم مشقته (¬2). ثانيًا: المشقة غير المعتادة: وهي المشقة الخارجة عن معتاد الناس، ولا يمكن أن يداوموا على تحملها، وأن المداومة على هذه المشقة يرهق المكلف ويقطعه عن التكليف، ويناله الضرر والأذى في النفس والمال، وهذا يتنافى مع مقاصد الشريعة (¬3). وهذا النوع لم يرد في التكاليف الشرعية إلا استثناء (¬4)، وإذا حصلت مثل هذه المشقة، لعارض ما، فقد شرع سبحانه وتعالى الرخصة ورغب ¬

_ (¬1) أصول الفقه، الخضري: ص 85. (¬2) الموافقات: 2 ص 91. (¬3) أصول الفقه، خلاف: ص 153، مباحث الحكم: ص 197، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 305، الموافقات: 2 ص 84. (¬4) ورد التكليف بأمور شاقة استثناء في أحوال خاصة لمقاصد معينة وبشروط معينة، وذلك لجواز التكليف فيها لا على وجه الدوام والاستمرار من جهة، أو فيها دوام واستمرار ولكن ليست فرض عين على جميع المكلفين، إنما هي فرض كفاية على من يجاهد نفسه ويتحمل هذه المشقة، مثل الجهاد في سبيل اللَّه، ففيه مشقة شديدة تؤدي إلى القتل والموت، ولا يستطيع كل الناس تحمل هذه المشقة، فكان الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ومثل الصبر على العذاب والقتل عند الإكراه على الكفر، وغير ذلك من العزائم الشديدة التي تتضمن مشقة كبيرة على المكلف، وهذه المشقة ليست مقصودة أيضًا، ولكن تبذل في سبيل الحفاظ على أمر هام، ولدفع ضرر أشد، انظر: أصول الفقه، أبو زهرة: ص 306.

في ترك العزيمة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" (¬1)، مثال ذلك المشقة في الصيام للمريض والحامل والعاجز والمرضع، فرخص اللَّه تعالى لهم في الإفطار، ومثل المشقة والضرر في استعمال الماء للطهارة فرخص الشارع في التيمم، وغير ذلك من الرخص التي سبق الكلام عنها في مطلب الرخصة والعزيمة، ووضع العلماء القاعدة المشهورة في ذلك "إباحة المحظورات عند الضرورات". كما نص الشارع على النهي عن قصد تلك المشقة، ومنع الناس من اللجوء إليها، فنهى عن صوم الوصال، وعن المثابرة في قيام الليل، والترهب للعبادة، والصيام في الشمس، والحج ماشيًا، وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (¬2)، وقال عمن نذرت أن تحج ماشية: "إن اللَّه لغني عن مشيها" (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن اللَّه لا يمل حتى تملوا" (¬4)، وقال: "هلك المتنطعون" (¬5)، وقال: "إن هذا الدين متينٌ فأوغل فيه برفق" (¬6)، وقال: "إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" (¬7)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من البر الصيام في السفر" (¬8). ¬

_ (¬1) رواه أحمد والبيهقي والطبراني. (¬2) رواه البخاري ومسلم والنسائي. (¬3) رواه أحمد، وروى مثله البخاري ومسلم وأبو داود بلفظ آخر، مسند أحمد 4/ 143. (¬4) رواه البخاري ومسلم عن عائشة. (¬5) رواه مسلم وأبو داود وأحمد عن ابن مسعود. (¬6) رواه أحمد والبزار عن أنس وجابر. (¬7) رواه البزار عن جابر. (¬8) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد.

أقسام المحكوم فيه

كما وردت آيات كثيرة وأحاديث متعددة تؤكد رفع الحرج والعسر في التكاليف، وأن اللَّه أراد التيسير والتخفيف عنا في الأوامر والنواهي الشرعية دون أن يصيب المسلم إرهاق وإعنات منها (¬1)، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا مُعسرين" (¬2). والحكمة من رفع الحرج وعدم المشقة في التكاليف هو التخفيف عن العباد، والرغبة في استمرار المكلف بها، وألا يتطرأ إليه انقطاع في الطريق وبغض للعبادة، وكراهية للتكاليف، وألا تشغله التكاليف عن أعماله الأخرى وواجباته الخاصة في نفسه وأهله ومجتمعه (¬3)، ولذا ورد عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن لزوجك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه" (¬4). أقسام المحكوم فيه أولًا: أقسام المحكوم فيه باعتبار ماهيته: المحكوم فيه له وجود حسي، لأنه فعل من أفعال المكلفين يُدرك بأحد الحواس، وبعد ذلك إما أن يكون له وجود واعتبار شرعي، بأن يشترط الشارع لوجوده أركانًا وشروطًا معينة، وإما أن لا يكون له اعتبار شرعي، وكل قسم منهما إما أن يترتب عليه حكم شرعي، وإما أن لا يترتب عليه حكم شرعي، فالمحكوم فيه أربعة أقسام: ¬

_ (¬1) الموافقات: 2 ص 86، وانظر تفصيل ذلك في كتابنا "الاعتدال في التَدَيُّن". (¬2) رواه البخاري 1/ 89، والترمذي (الفتح الكبير 1/ 437). (¬3) أصول الفقه، الخضري: ص 78. (¬4) رواه مسلم 9/ 175، والبخاري 5/ 1949، والنسائي، ومر في الصفحة السابقة.

ثانيا: أقسام المحكوم فيه بحسب ما يضاف إليه

1 - الفعل الذي له وجود حسي، وليمس له وجود شرعي، ولا يعتبر سببًا لحكم شرعي، كالأكل والشرب. 2 - الفعل الذي له وجود حسي، وليس له وجود شرعي، وهو سبب لحكم شرعي، كالزنا والسرقة والقتل، فإنها أسباب للحكم الشرعي في الحدود والقصاص. 3 - الفعل الذي له وجود في الحس وفي الشرع، ولا يترتب عليه حكم شرعي، كالصلاة والزكاة، فإن أفعال الصلاة والزكاة لا تعتبر شرعًا إلا بتحقق الأركان والشروط التي وضعها الشارع. 4 - الفعل الذي له وجود في الحس وفي الشرع، ويترتب عليه حكم شرعي آخر، كالنكاح والإجارة والبيع، فكل منها له ماهية شرعية، لا تتحقق إلا بأركان وشروط معينة، وكل منها يترتب عليه حكم شرعي، مثل حل الاستمتاع ووجوب المهر والنفقة في النكاح، ومثل تملك المنفعة والأجرة في الإجارة، ومثل انتقال الملكية في البيع (¬1). ثانيًا: أقسام المحكوم فيه بحسب ما يضاف إليه: قسم الحنفية المحكوم فيه، وهو فعل المكلف الذي تعلق به خطاب اللَّه تعالى إلى أربعة أقسام: القسم الأول: الحق الخالص للَّه تعالى، وهو فعل المكلف الذي هو حق خالص للَّه تعالى، وهذا القسم لا يحق للإنسان أن يتنازل عنه أو يصالح عنه، ولا يحتاج في إثباته إلى دعوى، ولا يقبل العفو والإسقاط، ويسقط بالشبهة عند إثبات الحدود. ¬

_ (¬1) أصول الفقه، البرديسي: ص 121، التوضيح على التنقيح: 3 ص 129.

وحق اللَّه هو ما يتعلق به النفع العام، وهو يشمل المصلحة العامة الدنيوية والمصلحة الأخروية، ولا يختص بأحد، ويكون فيه دفع الاعتداء عن المجتمع كالجهاد مثلًا، ونسب إلى اللَّه تعالى للتعظيم والتشريف، لكثرة نفعه وعظيم خطره، لأنه تعالى تنزه عن الانتفاع بشيء، ومثل حرمة الزنا فإنه يتعلق به عموم النفع من سلامة النسب من الاشتباه، وصيانة الأولاد عن الضياع (¬1). وهذا القسم ثمانية أنواع، وهي: 1 - عبادات خالصة لا يشوبها معنى للمؤونة والعقوبة، كالإيمان والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد، وهذه العبادات يلزم فيها النية. 2 - عبادات فيها معنى المؤونة، كصدقة الفطر عند الحنفية (¬2)، فإنها مشتملة على معنى العبادة لكونها صدقة، وأنها طهرة للصائم، ويشترط فيها النية، ويتعلق وجوبها بالوقت، وفيها معنى المؤونة لعدم اشتراط كمال الأهلية في وجوبها، فتجب على الصبي والمجنون، ومعنى المؤونة: الثقل والكلفة (¬3). 3 - مؤونة فيها معنى العبادة، كالعشر ونصف العشر فيما تنبته الأرض، والمؤونة فيه أن سببه الأرض النامية، ومؤونة الشيء سبب بقائه، وبما أنه يصرف في مصارف الزكاة فيتحقق فيه معنى العبادة، وبما أن الأرض أصل، والنماء تابع، فكانت المؤونة أصلًا والعبادة تبعًا. ¬

_ (¬1) أصول السرخسي: 2 ص 289، التلويح على التوضيح: 3 ص 129، 130، حاشية الفنري على التلويح: 3 ص 129، مباحث الحكم، مدكور: ص 210. (¬2) يرى الشافعية أن الزكاة عبادات فيها معنى المؤونة، ولذا تجب في مال الصغير والقاصر ويؤديها عنه وليه، خلافًا للحنفية. (¬3) التوضيح: 3 ص 131، تسهيل الوصول: ص 279، أصول السرخسي: 2 ص 290.

القسم الثاني

4 - مؤونة فيها معنى العقوبة، كالخراج فباعتبار تعلقه بالأرض فهو مؤونة، وباعتبار الاشتغال بالزراعة من أهل الذمة والإعراض عن الجهاد فهو عقوبة (¬1). 5 - عقوبة كاملة، كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر والتعزيرات وحد البغاة وقطع الطريق، وهذه العقوبات واجبة بطريق العقوبة، ويؤديها الإمام، وهي عقوبة كاملة، لأنها وجبت بجنايات كاملة. 6 - عقوبة قاصرة، كحرمان القاتل من ميراث المقتول، فالحرمان من الميراث عقوبة مالية، ولكنها قاصرة بالنسبة للعقوبة البدنية. 7 - حقوق دائرة بين الأمرين: العقوبة والعبادة، كالكفارات ففي أدائها معنى العبادة، لأنها تؤدى بالصوم والتحرير والإطعام، ويؤديها المكلف طوعًا، وبما أنها لا تجب إلا بسبب فعل ممنوع شرعًا ارتكبه المكلف فهي عقوبة. 8 - حق قائم بنفسه، من غير أن يتعلق بذمة المكلف شيء، ويؤديه بطريق الطاعة، مثل خمس الغنائم والمعادن والكنوز. القسم الثاني: الحق الخالص للعبد، وهو فعل المكلف الذي يتعلق به الحق الخالص للعباد، وحق العبد ما تتعلق به مصلحة خاصة دنيوية كحرمة ¬

_ (¬1) الفرق بين العشر والخراج أن العشر على أرض المسلم، والخراج على أرض الكافر، فإذا انتقلت أرض كل منهما إلى الآخر أو أسلم الكافر ففيه خلاف بين الأئمة، قال الحنفية: إن انتقلت أرض الخراج إلى مسلم فيبقى الخراج عليه، وإن انتقلت أرض العشر إلى كافر فيبقى العشر عند محمد، وقال يوسف: يضاعف عليه العشر، وقال أبو حنيفة ينقلب العشر إلى خراج، وقال الشافعية: الخراج عقوبة على الكافر، فلا يبقى على المسلم، والعشر عبادة من المسلم فلا تقبل من الكافر، انظر: أصول السرخسي: 2 ص 292.

القسم الثالث

ماله، ويستباح بإباحة صاحبه، ويشترط في خصومته وإثباته رفع الدعوى، ويجوز لصاحبه أن يتنازل عنه وأن يصالح عنه، وأن يسقط حقه، وأن يعفو عن غريمه، ولا تؤثر فيه الشبهة (¬1). والمقصود من الحق الخالص للعباد هو الحفاظ على مصالح العباد الخاصة، مثل بدل المتلفات، وملك المبيع والثمن، وحق الشفعة، وحبس العين المرهونة للمرتهن، وغير ذلك من الحقوق المالية (¬2). القسم الثالث: ما اجتمع فيه الحقان، وحق اللَّه غالب فيه، وهو فعل المكلف الذي اجتمع فيه حق اللَّه تعالى وحق العبد، ولكن حق اللَّه غالب فيه، مثل حد القذف عند الحنفية، فقد شرعه اللَّه تعالى لرفع عار الزنا عن المقذوف، وللزجر للقاذف، وهذا حق العبد، كما شرعه اللَّه تعالى لصيانة أعراض الناس، وإبعاد الفساد عن المجتمع، وحفظ اللسان والأخلاق الاجتماعية، وهذا حق اللَّه تعالى (¬3)، ويرى الشافية والحنابلة والمشهور عند المالكية أن حد القذف حق خالص للآدمي المقذوف، كالقصاص (¬4). القسم الرابع: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العبد غالب، وهو فعل المكلف الذي اجتمع فيه حق اللَّه تعالى وحق العبد، ولكن حق العبد فيه غالب، ¬

_ (¬1) الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 162، تسهيل الوصول: ص 281، التلويح على التوضيح: 3 ص 130، أصول السرخسي: 2 ص 297. (¬2) المراجع السابقة. (¬3) التلويح على التوضيح: 3 ص 138، أصول السرخسي: 2 ص 296. (¬4) المهذب: 2 ص 276، المغني، لابن قدامة: 9 ص 85، الفقه الإسلامي وأدلته: 6/ 87.

نظرة الشاطبي لتقسيم الحقوق

كالقصاص وعقوبات الدماء كلها، سواء كانت قصاصًا أم ديات، فإن فيها حق اللَّه تعالى، في صيانة الدماء وحفظ المجتمع، وفيها حق العبد لأن القصاص يحقق مصلحة أولياء القتيل، ويمنع الانتقام والحقد من قلوبهم، فكان حق العبد غالبًا (¬1). نظرة الشاطبي لتقسيم الحقوق: ونختم الكلام عن المحكوم فيه بذكر رأي الشاطبي في أقسام المحكوم فيه، فيرى أن كل حكم شرعي يجمع بين حق اللَّه وهو جهة التعبد، وحق العبد وهو جهة المصلحة المالية أو المنفعة الشخصية، ويرى أنه لا يوجد حق خالص للَّه تعالى، كما لا يوجد حق خالص للعبد، وكل حق يبدو أنه خالص للَّه تعالى فإنه يحقق منافع ظاهرة وملموسة للعبد من ناحية المصلحة له في الدنيا، والثواب والأجر والدرجات العليا في الآخرة، وكل حكم يبدو عليه أنه حق خالص للعبد، فإن اللَّه تعالى له حق فيه، بأن تطبق أحكام اللَّه تعالى فيه وتنفذ شريعته، ويلتزم المرء فيه حدود اللَّه تعالى، ويرتع في حظيرته، ولأن حق العبد إنما يثبت كونه حقًّا له بإثبات الشرع ذلك له، وليس بكونه مستحقًا لذلك بحكم الأصل (¬2). ¬

_ (¬1) الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 163، التلويح والتوضيح: 3 ص 183، أصول السرخسي: 2 ص 297. (¬2) الموافقات: 2 ص 277، وانظر: مباحث الحكم: ص 206، وقد سبق القرافي إلى تقرير ذلك، الفروق: 1/ 141.

الفصل الرابع في المحكوم عليه

الفصل الرابع في المحكوم عليه تعريف المحكوم عليه: هو الشخص الذي تعلق خطاب اللَّه نعالى بفعله، ويسمى المكلف. فالمكلف هو الشخص الذي توجه إليه الخطاب، ويحكم على أفعاله بالقبول أو الرد، أو أن أفعاله تدخل في قسم المأمور به، أو المنهي عنه أو لا تدخل فيهما، وقد سبق الكلام أن الحكم هو خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وأن الخطاب هو توجيه الكلام إلى شخص، وليس المقصود الشخص بذاته، وإنما المقصود أفعاله التي يرتبط بها الخطاب (¬1)، وأساس التكليف هو العقل والفهم. ¬

_ (¬1) التلويح على التوضيح: 3 ص 142، تيسير التحرير: 2 ص 238، تسهيل الوصول: ص 297، المستصفى: 1 ص 83، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 161، أصول الفقه، خلاف: ص 154، الوسيط في أصول الفقه: ص 160، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 314، أصول الفقه، البرديسي: ص 128، أصول الفقه، شعبان: ص 279.

شروط المحكوم عليه

شروط المحكوم عليه: يشترط لصحة التكليف أن يتوفر فيه شرطان: أولًا: أن يكون قادرًا على فهم دليل التكليف (¬1): بأن يفهم بنفسه خطاب الشارع في القرآن والسنة، أو بواسطة غيره بالسؤال والتعلم، لأن طاعة اللَّه تعالى وامتثال أوامره، والابتعاد عن نواهيه، يتوقف على فهم الخطاب، أما العاجز الذي لا يملك قدرة لتفهم الخطاب فلا يمكنه أن ينفذ ما كُلِّفَ به، وأن يمتثل الأحكام وأن يتجه قصده إليها، فلا يقال لمن لا يفهم: افهم، ولا يقال لمن لا يسمع: اسمع، ولا لمن لا يبصر: أبصر (¬2). والقدرة على فهم الخطاب تتحقق بوجود العقل من جهة، وبكون النصوص التي يكلف بها العاقل في متناول عقله لفهمها من جهة أخرى، لأن العقل أداة فهم النصوص وإدراكها، قال الآمدي: اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلًا، فاهمًا، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال (¬3). وبما أن العقل خفي لا يدرك بالحس، وأنه يتفاوت من شخص إلى آخر، وأنه يتطور وينمو ويتدرج من العدم إلى الكمال في الشخص الواحد، لذا ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر منضبط يدرك بالحس، ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب: ص 46، الإحكام، الآمدي: 1 ص 138، إرشاد الفحول: ص 11، فواتح الرحموت: 1 ص 143، أصول السرخسي: 2 ص 340، تيسير التحرير: 2 ص 243، أصول الفقه، الخضري: ص 96، وانظر المراجع السابقة، وقال ابن اللحام: "قاعدة: شرط التكليف العقل وفهم الخطاب"، (القواعد والفوائد الأصولية: ص 15)، وانظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 498. (¬2) شرح الكوكب المنير: 1 ص 499، العقيدة النظامية، للجويني: ص 42. (¬3) الإحكام، له: 1 ص 138.

ويدل على تحقق المستوى العقلي المطلوب للقدرة على فهم الخطاب، وهو البلوغ، إقامةً للسبب الظاهر مقام حكمه (¬1). قال ابن عبد الشكور: العقل شرط التكليف، وذلك متفاوت في الشدة والضعف، ولا يناط التكليف بكل قدر من العقول، بل رحمة اللَّه اقتضت أن يناط بقدر مُعْتَدٍّ به فأنيط بالبلوغ عاقلًا، لأنه مظنة كمال العقل، فالتكليف دائر عليه وجودًا وعدمًا، لا على كمال العقل ونقصانه، كالسفر أنيط به الحكم لكونه مظنة المشقة، والمشقة أمر غير مضبوط، فالحكم دائر عليه وجودًا وعدمًا، وجدت المشقة أم لا (¬2). والبلوغ يكون بتحقق العلامات الطبيعية على جسم الشاب والفتاة، كالاحتلام والحيض، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} [النور: 58]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (¬3)، فقد علقت الآيتان والحديث الأحكام على بلوغ الحلم والاحتلام، مما يدل على أن التكليف يرتبط بالاحتلام، وهذا عند الشاب، ويقابله الحيض ¬

_ (¬1) الإحكام، الآمدي: 1 ص 139، تيسير التحرير: 2 ص 248، تسهيل الوصول: ص 297، فواتح الرحموت: 1 ص 154، التوضيح على التنقيح: 3 ص 150، أصول الفقه، خلاف: ص 154، مباحث الحكم: ص 227. (¬2) فواتح الرحموت: 1 ص 154. (¬3) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، قال الشوكاني: في طرقه مقال، لكنه باعتبار كثرة طرقه من قسم الحسن، وباعتبار تلقي الأمة له بالفعل لكونهم بين عامل به ومؤول له صار دليلًا قطعيًّا، ويؤيده حديث: "من اخضر مئزره فاقتلوه" وأحاديث النهي عن قتل الصبيان حتى يبلغوا، إرشاد الفحول: ص 11، سنن أبي داود: 2 ص 228، جامع الترمذي مع تحفة الأحوذي: 4 ص 685، سنن ابن ماجه: 1 ص 658، المستدرك: 4 ص 389.

عند الفتاة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل اللَّه صلاة حائض إلا بخمار" (¬1)، أي لا تقبل صلاة المرأة البالغة التي وصلت إلى سن الحيض إلا بستر الشعر، فعلق الحكم على بلوغها سن المحيض. فإن لم تظهر علامات البلوغ الطبيعية بالاحتلام أو الحيض فيقدر البلوغ بالسن، والتقدير بالسن مختلف فيه، فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، والصاحبان من الحنفية، والمتأخرون في المذهب، إلى أن سن البلوغ خمس عشرة سنة للصبي والفتاة، بينما قدره الإمام أبو حنيفة بسبع عشرة سنة للأنثى وثماني عشرة سنة للصبي (¬2). فمتى بلغ الإنسان الحلم فقد تحقق شرط التكليف، وتمكن العبد من معرفة خطاب الشارع، وإدراك معناه، وتوجيه القدرة والإرادة إلى تنفيذه والالتزام به. أما إذا بلغ الإنسان الحلم مجنونًا، فيكون الجنون مؤشرًا حقيقيًّا لفقدان العقل الذي يتعلق به التكليف، وبالتالي فلا يكلف المجنون. وكذلك الصبي قبل البلوغ لا يكلف بالخطاب، وإن توفر فيه العقل بعد التمييز، ولكنه دون المستوى المطلوب لإدراك الخطاب (¬3). وكذا الغافل والنائم والسكران لا يكلفون في حالة الغفلة والنوم والسكر، لأنه ليس في استطاعتهم الفهم والإدراك (¬4)، والدليل على ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والحاكم عن عائشة. (¬2) انظر مباحث الحكم: ص 262 والمراجع التي أشار إليها في الهامش. (¬3) وروي عن الإمام أحمد روايات أخرى، منها أن المراهق مكلف بالصلاة، ومنها أن ابن عشر مكلف بها، ومنها أن المميز مكلف بالصوم. (انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 500، القواعد والفوائد الأصولية: ص 16، 17). (¬4) يبحث علماء الأصول هنا في مسألة كلامية هي تكليف المعدوم، ثم يفرعون عليها =

ذلك الحديث السابق "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها" (¬1). ويتفرع عن هذا الشرط ثلاثة أمور: 1 - إن المراد من فهم الخطاب التصور وإمكان الفهم، وليس التصديق بالخطاب والاقتناع به، فمن أمكنه فهم الخطاب، وتصور الدليل، فهو مكلف من اللَّه تعالى، سواء كان مصدقًا ومعتقدًا به أم لا، وبالتالي فإن الكفار مخاطبون بالأحكام الشرعية كلها على الرغم من عدم تصديقهم لها، لتوفر إمكان الفهم والتصور للخطاب، وهذا يتفق مع مذهب الجمهور الذي قدمناه عن تكليف الكفار بفروع الشريعة (¬2). 2 - إن الصبي والمجنون والسكران غير مكلفين -كما سبق- فكيف تجب عليهم الزكاة والنفقة والضمان؟ وكيف يوجه الخطاب إلى السكران في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]. والجواب أن الزكاة والنفقة والضمان على الصبي والمجنون ليس ¬

_ = مسألة تكليف الغافل والسكران والنائم وغير ذلك، وقد عزفنا عن ذكرها لضعف صلتها بعلم الأصول، ولعدم ترتب الآثار عليها، وقلة فائدتها، انظر: فواتح الرحموت: 1 ص 155، المستصفى: 1 ص 83، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 68، منهاج الأصول: ص 14، إرشاد الفحول: ص 11، الإحكام، الآمدي: 1 ص 139، نهاية السول: 1 ص 170، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 166، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 161، شرح الكوكب المنير: 1 ص 513. (¬1) رواه أصحاب السنن والحاكم وأحمد عن أبي سعيد بلفظ "من نام عن وتره". (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 243، إرشاد الفحول: ص 11، تسهيل الوصول: ص 297، أصول الفقه، الخضري: ص 96، أصول الفقه، البرديسي: ص 128، القواعد والفوائد الأصولية: ص 57 - 58، شرح الكوكب المنير: 1 ص 500.

تكليفًا لهما، وإنما هو تكليف على الولي بأداء حق الفقراء والمساكين، الذي تعلق بالمال بسبب النصاب، وكذلك دفع النفقة المستحقة للأقارب في ماله، وإعطاء الضمان المتعلق بسبب إتلافه، فالخطاب ليس متعلق بفعل الصبي والمجنون بل بمالهما وذمتهما، وهذا الخطاب ليس حكمًا تكليفيًّا، وإنما هو حكم وضعي، فالأحكام ترتبت على أسبابها (¬1). وأن أمر الصبي بالصلاة وهو ابن سبع سنين، هو خطاب لوليه إرشادًا له في التربية والتوجيه. وأن خطاب السكران ليس خطابًا له حال سكره بأن لا يقرب الصلاة، وإنما هو خطاب للمسلم حال الصحو أن لا يشرب الخمر إذا اقترب وقت الصلاة، حتى لا يقرب الصلاة وهو سكران، وقدره المفسرون بقولهم: "إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا" (¬2)، وكان هذا الحكم قبل التحريم النهائي لشرب الخمر. ونخلص من هذا أن الغافل والسكران والنائم وغيرهم لا يتعلق بفعلهم الحكم التكليفي، وهو ما فيه طلب أو تخيير، وأن الحكم الوضعي لا يشترط فيه العلم والخطاب، ولا يشترط فيه البلوغ والعقل. 3 - إن خطاب اللَّه تعالى نزل باللغة العربية، فخاطب البشر جميعًا مع ¬

_ (¬1) وكذا لا تكليف على الناسي حال نسيانه، (انظر: المستصفى: 1 ص 84، فواتح الرحموت: 1 ص 143، تسهيل الوصول: ص 298، التوضيح: 3 ص 158، المدخل إلى مذهب أحمد ص 58، الإحكام، الآمدي: 1 ص 139، إرشاد الفحول: ص 11، أصول الفقه، خلاف: ص 155، مباحث الحكم: ص 224، أصول الفقه، أبر زهرة: ص 316، القواعد والفوائد الأصولية: ص 30). (¬2) مختصر ابن الحاجب: ص 47، الإحكام، الآمدي: 1 ص 140، إرشاد الفحول: ص 11، المستصفى: 1 ص 84، فواتح الرحموت: 1 ص 144، تسهيل الوصول: ص 298.

ثانيا: أن يكون المكلف أهلا لما كلف به

اختلاف الأجناس والأقوام واللغات، وأكثر الناس في أفريقيا وأمريكا وأوربا وأهل الهند والباكستان والصين وأندونيسيا وإيران وتركيا ... لا يعرفون اللغة ولا يفهمون أدلة التكليف الشرعية، فكيف نعتبرهم مخاطبين بالتكاليف؟ إن غير العرب لا يصح تكليفهم شرعًا إلا بعد تعلمهم اللغة العربية، أو بعد ترجمة أدلة التكليف إلى لغاتهم (¬1)، أو بعد قيام طائفة من العرب المسلمين بتعلم اللغات الأخرى، ونشر أحكام الشريعة وأدلتها بين أصحاب اللغات، أو أن يرسل كل قوم طائفة منهم يتعلمون أحكام الشريعة وينذرون قومهم بها، وقد تمت هذه الوسائل كلها في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فطلب من زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة العبرية، وأرسل الرسل إلى الحكام والملوك في دولة الروم والفرس والحبشة، وأعلن أن يبلغ الشاهد الغائب (¬2)، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، وقال تعالى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]. ثانيًا: أن يكون المكلف أهلًا لما كلف به (¬3): ¬

_ (¬1) اتفق جمهور العلماء قديمًا وحديثًا على استحالة ترجمة القرآن الكريم المنزل من اللَّه تعالى، المعجز بلفظه ومعناه، وذهبوا إلى إمكان وجواز ترجمة معاني القرآن الكريم وتفسيره، وحصل جدل وخلاف في هذا الموضوع قديمًا، ثم عاد أدراجه في مطلع القرن العشرين لاتصال الغرب بالمسلمين، وانظر: تفسير القرطبي: 16/ 93. (¬2) أصول الفقه، خلاف: ص 155، مباحث الحكم: ص 225، أصول الفقه، الخضري: ص 98، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 169 وما بعدها، الموافقات: 2 ص 45، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر: 2 ص 538. (¬3) التوضيح على النتقيح: 3 ص 142، فواتح الرحموت: 1 ص 156، أصول السرخسي: 2 ص 332.

الأهلية

والأهلية في اللغة: الصلاحية والاستحقاق (¬1)، أما في الاصطلاح: فهي صلاحية الشخص للإلزام والالتزام (¬2)، أي أن يكون الشخص صالحًا لأن يلزم له حقوق على غيره، ويَلزمه حقوق لغيره، وأن يكون صالحًا لأن يلتزم بهذه الأمور بنفسه. ولما كانت هذه التكاليف متفاوتة، وكان الحكم الشرعي منقسمًا إلى حكم تكليفي وحكم وضعي، فقد قسم علماء الأصول الأهلية إلى قسمين: أهلية وجوب وأهلية أداء، وكل منهما تعتبر مناطًا ومحلًا لتعلق بعض الأحكام الشرعية فيها (¬3). الأهلية: وهذا يقودنا للكلام عن حالات الأهلية للإنسان، ثم عن عوارضها: أولًا: حالات الأهلية: تنقسم الأهلية إلى قسمين: أهلية الوجوب، وأهلية الأداء، ولكل منهما حالات. أما أهلية الوجوب: فهي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وتتعلق أهلية الوجوب بالإنسان بمجرد إنسانيته، فهي ملازمة لحياة الإنسان منذ بدء حياته حتى انتهائه منها، مهما كانت صفته وأحواله، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، جنينا أم طفلًا أم بالغًا، عاقلًا أم مجنونًا، ويترتب على أهلية الوجوب وصف معنوي ملازم لها هو الذمة. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط: 3 ص 331، المصباح المنير: 1 ص 39. (¬2) أصول الفقه، للعلامة المرحوم محمد أبو زهرة: ص 316، وانظر: كشف الأسرار: 4 ص 1357. (¬3) التوضيح: 3 ص 152، أصول الفقه، خلاف: ص 156، مباحث الحكم: ص 237، 249، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي: ص 171، المدخل للفقه الإسلامي، للمؤلف: ص 113 وما بعدها.

وأهلية الوجوب قسمان: ناقصة، وكاملة، وكل منهما تختص ببعض الأحكام: 1 - أهلية الوجوب الناقصة: وهي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق دون أن تجب عليه واجبات، وأهلية الوجوب الناقصة تختص بالجنين قبل الولادة، فله بعض الحقوق بشرط ولادته حيًّا، فيثبت له حق الإرث والوصية والنسب والوقف، وأخيرًا أقروا له الهبة في قول بعض شراح القوانين (¬1). 2 - أهلية الوجوب الكاملة: وهي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وتتوفر هذه الأهلية في كل إنسان منذ ولادته حتى وفاته، فتثبت له جميع الحقوق، وتجب عليه بعض الواجبات قبل البلوغ كالضمان والنفقة والزكاة، وتجب عليه جميع الواجبات بعد البلوغ (¬2)، ولكن أهلية الوجوب الكاملة قبل البلوغ لا تخول الإنسان صلاحية التعامل، ولا تكفي لاعتبار أقواله وأفعاله ما لم تتحقق فيه أهلية الأداء. أما أهلية الأداء فهي صلاحية المكلف لأن تعتبر أقواله وأفعاله، سواء أكانت في العقيدة أم في العبادات أم في المعاملات أم في العقوبات، وهذه الأهلية تساوي المسؤولية، وأساسها البلوغ مع العقل (¬3). ¬

_ (¬1) تسهيل الوصول: ص 306، التلويح على التوضيح: 3 ص 152، المستصفى: ص 84، تيسير التحرير: 2 ص 250، الأحوال الشخصية للمرحوم الدكتور مصطفى السباعي والدكتور الصابوني: ص 106. (¬2) كشف الأسرار: 4 ص 1357، أصول الفقه، خلاف: ص 158، أصول الفقه، الخضري: ص 100. (¬3) التلويح على التوضيح: 3 ص 152، أصول السرخسي: 2 ص 340، تسهيل الوصول: ص 307، مباحث الحكم: ص 251، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 319، أصول الفقه، خلاف: ص 157.

ويمر الإنسان في أهلية الأداء عند الجمهور في ثلاث مراحل، وهي: 1 - الإنسان عديم أهلية الأداء أصلًا، وهو الطفل من ولادته حتى سن التمييز، كذا المجنون طوال جنونه، فالطفل والمجنون لا عقل لهما، وبالتالي ليس لهما أهلية أداء، ولا تعتبر التصرفات التي تصدر منهما، ولا يترتب عليها أثر شرعي، فالإيمان غير معتبر، والصلاة لا أثر لها، والعقود والتصرفات باطلة، أما الجنايات فيتعلق بها الضمان المالي، ولا يقتص من الطفل والمجنون بدنيًّا. 2 - الإنسان ناقص أهلية الأداء، وهو الصبي المميز الذي بدأ يدرك بعض الأشياء، ويمر في مرحلة التطور والنماء العقلي الذي يكتمل بالحلم والبلوغ، ويلحق به المعتوه ضعيف العقل. فالتصرفات التي تصدر عن المميز أو المعتوه في المعاملات ينظر فيها: فإن كانت نافعة له نفعًا محضًا، كقبول الهدية والصدقة، فهي صحيحة بدون إذن وليه، وإن كانت ضارة به ضررًا محضًا كالتبرع وإسقاط حقه فهي باطلة، ولا تصح إجازتها من الولي، وإن كانت تصرفاته دائرة بين النفع والضرر، كالبيع والشراء، فهي صحيحة، ولكنها موقوفة على إجازة وليه، فإن أجازها الولي نفذت، وإن لم يجزها بطلت، وهذا عند الجمهور خلافًا للشافعية. وإن الصبي المميز، وإن كان عنده عقل وفهم وتمييز، ولكنه ليس كاملًا، فلا تتعلق به بالتالي أحكام التكليف، لأن اللَّه تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقد اختلف العلماء في اعتبار أقواله وأفعاله في الإيمان والعبادة، أما في الجنايات فيعامل معاملة الصبي غير المميز في الضمان المالي دون البدني (¬1). ¬

_ (¬1) التلويح على التوضيح: 3 ص 150، 158، كشف الأسرار: 4 ص 1350، 1359، =

ثانيا: عوارض الأهلية

3 - الإنسان كامل أهلية الأداء، وهو كل من بلغ عاقلًا، وهذه الأهلية تعتمد على العقل وترتبط بالبلوغ، لأنه مظنة العقل. وفي هذه الحالة تكون جميع تصرفات الإنسان معتبرة، وتترتب عليها الحقوق والواجبات، ويكون الإنسان صالحًا لصدور التصرف منه على وجه يعتد به شرعًا، ويكون مخاطبًا بجميع التكاليف الشرعية في العقيدة والعبادات والأخلاق والمعاملات والعقوبات، ولكن لا تسلم له أمواله إلا إذا بلغ رشيدًا وتأكد الولي أو القاضي من رشده (¬1)، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. ثانيًا: عوارض الأهلية: بما أن أهلية الأداء تساوي المسؤولية التي تقوم على العقل، وبما أن أحوال الإنسان وقدراته العقلية معرضة لطوارئ ونقص وتغيير، فإن قدرته على الفهم وصلاحيته للالتزامات تتغير، وبالتالي فإن أهلية التكليف تختلف بحسب الطوارئ، وأطلق العلماء على هذه العوامل التي تؤثر في أهلية الأداء اسم عوارض الأهلية، لأنها تمنع الأحكام التي تتعلق بأهلية الوجوب، أو بأهلية الأداء، عن الثبوت؛ لنقص في العقل أو فقدانه (¬2). ¬

_ = 1373 وما بعدها، فواتح الرحموت: 1 ص 153، 156، تيسير التحرير: 2 ص 248 وما بعدها، أصول السرخسي: 2 ص 336، 339، 341 وما بعدها. وقال الشافعية: إن أهلية الأداء إما معدومة قبل البلوغ، أو كاملة بعد البلوغ، وقد تكون ناقصة للمحجور عليه. (¬1) فواتح الرحموت: 1 ص 156. (¬2) تيسير التحرير: 2 ص 258، كشف الأسرار: 4 ص 1382، أصول الفقه، شعبان: ص 286.

وهذه العوارض إما أن تكون سماوية، وهي التي تثبت من قبل الشارع، ولا كسب للإنسان فيها، ولا اختيار له في وقوعها، وأهمها الجنون والعته والنسيان والنوم والإغماء، وإما أن تكون عوارض كسبية تقع بفعل الإنسان وكسبه واختياره، وأهمها الجهل والسكر (¬1) والسفه والخطأ والإكراه (¬2). وهذه العوارض تؤثر على الأهلية، ولكن تأثيرها يختلف من حالة إلى أخرى، فبعضها يزيل الأهلية، وبعضها ينقصها، وبعضها يغير في الأحكام فقط، ولذا تنقسم العوارض إلى ثلاثة أقسام: 1 - العوارض التي تعرض لأهلية الأداء فتزيلها أصلًا، كالجنون والنوم والإغماء والإكراه، ويصبح الإنسان في هذه الحالات عديم الأهلية تمامًا، ولا يترتب على تصرفاته أثر شرعي، وتنعدم عنه التكاليف، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬3)، والمراد رفع المؤاخذة، وهذا يستلزم رفع التكليف (¬4). ¬

_ (¬1) يميز في السكر بين حالتين، فإن كان سكره بعذر فإنه لا يكلف باتفاق، وإن كان سكره بدون عذر بأن يشرب الخمر والمسكر مختارًا طائعًا عالمًا بأنه مسكر وحرام، فالجمهور على أنه يبقى مكلفًا حالة سكره، ولا يرفع عنه القلم، وقال بعض العلماء بأنه كالمجنون في أقواله وأفعاله، وهناك أقوال أخرى معروفة في كتب الفقه، (انظر: شرح الكوكب المنير: 1 ص 505 وما بعدها). (¬2) تسهيل الوصول: ص 309، كشف الأسرار: 4 ص 1382، أصول الفقه، خلاف: ص 160، أصول الفقه، الخضري: ص 102، أصول الفقه، أبو زهرة: ص 325، مباحث الحكم: ص 268. (¬3) رواه ابن ماجه والطبراني عن ثوبان. (¬4) منهاج الوصول: ص 15، الإحكام، الآمدي: 1 ص 142، نهاية السول: 1 ص 173، حاشية البناني على جمع الجوامع: 1 ص 72، فواتح الرحموت: =

2 - العوارض التي تنقص أهلية الأداء كالعته، فإذا أصاب البالغ العاقل حجر أو عته فلا تزول عنه أهلية الأداء بل تنقص، وتصح منه التصرفات النافعة دون غيرها كالصبي المميز. 3 - العوارض التي تغير بعض الأحكام، كالسفه والغفلة والدَّيْن، فإذا أصاب المكلف سفه أو غفلة أو دين فلا يؤثر ذلك على أهليته، فلا تزول ولا تنقص، ولكن تتغير بعض الأحكام الناشئة عن تصرفاته، كالحجر عن تصرفاته المالية بالمعاوضة والتبرع للمحافظة على ماله حتى لا يبقى عالة على غيره، أو للمحافظة على حقوق الدائنين الذين يتضررون بتصرفه (¬1). وقد توسع علماء الأصول في المذهب الحنفي في بيان الأهلية وأقسامها وفروعها، وما يتعلق بها من أحكام، وخصوا عوارض الأهلية أيضًا بالتفصيل، وتابعهم على ذلك أكثر الكُتَّاب المحدثين في علم الأصول، وقد اقتصرت على الخلاصة السابقة خشية الإطالة من جهة، ولتجنب التكرار في الدراسة من جهة أخرى، فإن بحث الأهلية يدرس بتوسع في مادة المدخل الفقهي العام، وفي مادة الأحوال الشخصية، وفي مادة القانون المدني، ومن أراد التوسع فليرجع إلى الكتب المعتمدة في الأصول (¬2). ¬

_ = 1 ص 166، أصول الفقه، أبو النور: 1 ص 170، شرح الكوكب المنير: 1 ص 509. (¬1) انظر: أصول الفقه، خلاف: ص 161. (¬2) تسهيل الوصول: ص 306، التلويح: 3 ص 152، تيسير التحرير: 2 ص 253، كشف الأسرار: 4 ص 1357 وما بعدها، فواتح الرحموت: 1 ص 156، وانظر المدخل للفقه الإسلامي، لطلاب السنة الثالثة للتوسع في الموضوع.

الخاتمة

الخاتمة وبعد أن ختمنا الكلام عن المحكوم عليه نكون قد انتهينا من بحث الحكم الشرعي الذي تضمن الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه، وبذلك ننتهي من الجزء الأول، لنكمله بالجزء الثاني إن شاء اللَّه تعالى. نسأل اللَّه العلي القدير حسن الختام، وأن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكتبه لنا في صحائف أعمالنا، وأن نكون قد حققنا الهدف في العرض والبيان الذي توخينا فيه السهولة والإيجاز، فإن أصبت فذلك فضل من اللَّه ونعمة، وإن تكن الأخرى فمني ومن الشيطان، وأستغفر اللَّه وأتوب إليه، وأفتح أذني لكل تصويب أو توجيه هادف، من كل أخ صادق كريم، مع تقديم الشكر سلفًا. وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين. الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة

من آثار المؤلف

من آثار المؤلف أ- التحقيق: 1 - أدب القضاء، لابن أبي الدم الحموي الشافعي - عدة طبعات، مجلد. 2 - شرح الكوكب المنير في أول الفقه الإسلامي، لابن النجار الفتوحي، بالاشتراك -أربع مجلدات- نشر جامعة أم القرى بمكة، ثم مكتبة العبيكان - أربع طبعات. 3 - المهذب في الفقه الشافعي، لأبي إسحاق الشيرازي، ست مجلدات - دار القلم دمشق. 4 - استخراج القواعد الفقهية الكلية من كتاب "الأم" للإمام الشافعي، ضمن "معلمة القواعد الفقهية" في مجمع الفقه الإسلامي بجدة. 5 - تقديم لتحقيق: الطرق الحكمية لابن القيم، تاريخ التشريع الإسلامي وزملائه، شرح المعتمد في أصول الفقه للدكتور محمد الحبش، العمليات الاستشهادية، مقدمة لبعض رسائل الماجستير والدكتوراه، منها: الجهاد في الشريعة والتاريخ، والعلميات المصرفية الإسلامية.

ب- الكتب الجامعية المقررة في جامعة دمشق وغيرها للتدريس

ب- الكتب الجامعية المقررة في جامعة دمشق وغيرها للتدريس: 1 - أصول الفقه الإسلامي، عدة طبعات. 2 - طرق تدريس التربية الإسلامية، عدة طبعات. 3 - تاريخ الأديان - عدة طبعات. 4 - أصول المحاكمات المدنية والشرعية، عدة طبعات. 5 - العقود المسماة في القانون المدني والفقه الإسلامي، عدة طبعات. 6 - فقه القضاء والدعوى والإثبات - جامعة الشارقة. 7 - القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي - جامعة الكويت - نشر جامعة الكويت 1999 م. ج- سلسلة أعلام المسلمين: إمام الحرمين الجويني، القاضي البيضاوي، الإمام الطبري، العز بن عبد السلام، ابن كثير الدمشقي. د- سلسلة حياة الصحابة الكرام الذين لم يشتهروا -ثلاثة أعداد- تحت الطبع، دار المكتبي. هـ- المراجع العلمية: 1 - وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية -رسالة دكتوراه- نشر دار البيان، ومكتبة المؤيد. 2 - التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقه في المملكة العربية السعودية -دار الفكر- طبعة ثانية منقحة، ومقارنة مع القوانين في سورية والإمارات والسعودية. 3 - مرجع العلوم الإسلامية - دار المعرفة. 4 - تاريخ القضاء في الإسلام - دار الفكر.

و- الكتب الفكرية

5 - تعريف عام بالعلوم الشرعية - دار طلاس. 6 - إحياء الأرض الموات -مركز النشر العلمي- جدة. 7 - حقوق الإنسان في الإسلام، دراسة مقارنة طبع 1997 م -دار ابن كثير- دمشق. 8 - الفرائض والمواريث والوصايا -دار ابن كثير ودار الكلم الطيب - دمشق 2001 م. 9 - شخصييات إسلامية -دار المكتبي- دمشق 1999 م. 10 - سلسلة دراسات إسلامية، صدر منها 30 عددًا، دار المكتبي - دمشق. 11 - النظريات الفقهية - دار القلم (دمشق 1414 هـ / 1993 م). و- الكتب الفكرية: 1 - وظيفة الدين في الحياة، وحاجة الناس إليه - دار القلم. 2 - الاعتدال في التدين، فكرًا وسلوكًا ومنهجًا - دار اليمامة. 3 - الإسلام في الماضي والحاضر، تعريف عام بالإسلام - دار القلم. 4 - الإسلام والشباب - دار القلم. 5 - التكريم الإلهي للإنسان - دار القلم. 6 - التدرج في التشريع والتطبيق -نشر الهيئة الاستشارية العليا- الكويت 1999 م. 7 - حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة -بالاشتراك- كتاب الأمة - قطر- الدوحة - المحرم 1423 هـ.

ز- البحوث والمقالات

ز- البحوث والمقالات: 1 - ستون بحثًا منشورًا في مجلات محكمة، وفي مؤتمرات، وندوات. 2 - بحوث فقهية وفكرية للموسوعات الفقهية والفكرية في دمشق، وعمان، والكويت، وبيروت، ومكة، والرياض، وجدة. 3 - ثلاث مئة مقال منشور في المجلات الفكرية الشهرية في عدد من العواصم والمدن.

مصادر البحث

مصادر البحث 1 - الإباحة عند الأصوليين والفقهاء، الأستاذ محمد سلام مدكور. دار النهضة العربية - القاهرة - الطبعة الثانية - 1965 م. 2 - أبحاث في علم أصول الفقه، الدكتور أحمد الحجي الكردي. مذكرات للسنة الثانية في كلية الشريعة - الأمالي الجامعية - 1972 م. 3 - الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية، للعلامة المحدث عبد الرؤوف المناوي (1031 هـ). طبع إدارة الطباعة المنيرية. 4 - أبو حنيفة، المرحوم الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة (1394 هـ / 1974 م). دار الفكر العربي - القاهرة - الطبعة الثانية (1366 هـ - 1947 م). 5 - أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، للدكتور محمد ديب البغا. نشر وتوزيع دار الإمام البخاري بدمشق. 6 - أثر اختلاف القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، الدكتور مصطفى الخن. مؤسسة الرسالة - بيروت - 1972 م.

7 - الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الأندلسي (456 هـ). مطبعة الإمام بمصر. 8 - الإحكام في أصول الأحكام، علي بن أبي علي الآمدي (631 هـ). مؤسسة الحلبي - القاهرة - 1967 م. 9 - أدب القضاء، ابن أبي الدم الحموي - تحقيق الدكتور محمد الزحيلي. مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق (1359 هـ -1975 م). 10 - إرشاد الفحول، محمد علي الشوكاني (1255 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر (1356 هـ -1937 م). 11 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر (463 هـ). مطبعة نهضة مصر، القاهرة. 12 - الأشباه والنظائر، للإمام جلال الدين السيوطي (911 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة (1378 هـ -1959 م). 13 - الأشباه والنظائر، ابن نجيم الحنفي (970 هـ). نشر مؤسسة الحلبي بالقاهرة (1387 هـ -1968 م). 14 - الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني (852 هـ). المطبعة الشرفية - مصر (1325 هـ - 1957 م). 15 - أصول التشريع الإسلامي، الشيخ علي حسب اللَّه. دار المعارف بمصر - طبعة ثالثة (1389 هـ -1969 م). 16 - أصول الحديث، الدكتور محمد عجاج الخطيب. دار الفكر الحديث - لبنان - الطبعة الأولى (1386 هـ -1967 م).

17 - أصول السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (490 هـ). تصوير دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت (1393 هـ -1973 م). 18 - الأصول العامة لوحدة الدين الحق، للدكتور وهبة الزحيلي. الطبعة الأولى 1972 م - نشر المكتبة العباسية بدمشق. 19 - أصول الفقه، الأستاذ الشيخ محمد زكريا البرديسي. دار النهضة العربية بمصر - الطبعة الثالثة (1389 هـ -1969 م). 20 - أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف. انظر علم أصول الفقه. 21 - أصول الفقه، للشيخ المرحوم محمد أبو زهرة (1394 هـ / 1974 م). مطبعة مخيمر، القاهرة. 22 - أصول الفقه، الشيخ محمد أبو النور زهير. مطبعة دار التأليف بمصر. 23 - أصول الفقه، الشيخ محمد الخضري (1345 هـ / 1927 م). المكتبة التجارية الكبرى بمصر - الطبعة الخامسة (1385 هـ -1965 م). 24 - أصول الفقه الإسلامي، شاكر الحنبلي. مطبعة الجامعة السورية- الطبعة الأولى (1368 هـ -1948 م). 25 - أصول الفقه الإسلامي، الشيخ زكي الدين شعبان. دار النهضة العربية - القاهرة -1967 - 1968 م. 26 - أصول الفقه لغير الحنفية، مجموعة من أساتذة كلية الشريعة، بالأزهر.

مطبعة لجنة البيان - القاهرة (1382 هـ -1963 م). 27 - أصول القانون، الدكتور عبد الرزاق السنهوري والدكتور حشمت أبو ستيت. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة - 1938 م. 28 - الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي (790 هـ). مطبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 29 - الأعلام، خير الدين الزركلي. الطبعة الثانية - دمشق. 30 - أعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية (751 هـ). طبع دار الكتب الحديثة - القاهرة. 31 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ). تصوير دار الشعب - القاهرة (1388 هـ -1968 م) طبعة دار الفكر- دمشق. 32 - الإنصاف في بيان سبب الاختلاف - شاه ولي الدهلوي (1176 هـ). المطبعة السلفية - القاهرة - 1385 هـ. 33 - الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف، ابن السيد البطليوسي (521 هـ). تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية - دار الفكر بدمشق (1394 هـ - 1174 م). 34 - البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد اللَّه بن يوسف الجويني (478 هـ) تحقيق الدكتور عبد

العظيم الديب. الطبعة الأولى 1399 هـ - على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني - أمير دولة قطر. 35 - تاج التراجم في طبقات الحنفية، قاسم بن قُطلوبغا (869 هـ). تصوير مكتبة المثنى - بغداد. 36 - تاريخ التشريع الإسلامي، محمد يوسف البربري، محمد علي السايس، عبد اللطيف السبكي. مطبعة الشرق الإسلامية - القاهرة - الطبعة الثانية (1357 هـ -1939 م). 37 - تاريخ التشريع الإسلامي، الشيخ محمد الخضري. المكتبة التجارية الكبرى بمصر - الطبعة السابعة -1960 م. 38 - التبصرة في أصول الفقه، للشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (476 هـ)، شرح وتحقيق الدكتور محمد حسن هيتو. طبع دار الفكر بدمشق (1400 هـ -1980 م). 39 - تخريج الفروع على الأصول، محمود بن أحمد الزنجاني (656 هـ). تحقيق محمد أديب صالح - طبع جامعة دمشق. 40 - الترغيب والترهيب، الحافظ المنذري (656 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر - الطبعة الثالثة - (1388 هـ - 1968 م). 41 - تسهيل الوصول إلى علم الأصول، محمد عبد الرحمن عيد المحلاوي (1920 م). مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر - 1341 هـ. 42 - التعريفات، السيد الشريف الجرجاني (816 هـ).

مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر (1357 هـ-1938 م). 43 - تفسير القرآن الكريم، الحافظ ابن كثير (774 هـ). طبع عيسى البابي الحلبي- القاهرة. 44 - تفسير النصوص، الدكتور محمد أديب صالح. طبع جامعة دمشق - الطبعة الأولى - 1964 م. 45 - تقريرات الشربيني على جمع الجوامع، للشيخ عبد الرحمن الشربيني (996 هـ). انظر حاشية العطار. 46 - التلويح على التوضيح على التنقيح، مسعود بن عمر التفتازاني (792 هـ). المطبعة الخيرية بمصر - طبعة أولى - 1322 هـ. 47 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، لعبد الرحيم بن الحسن الإسنوي الشافعي (777 هـ). طبع دار الإشاعة الإسلامية بمكة المكرمة سنة 1387 هـ. 48 - تنقيح الأصول، عبيد اللَّه بن مسعود البخاري، صدر الشريعة (747 هـ). انظر: التلويح. 49 - تنقيح الفصول إلى علم الأصول، أحمد بن إدريس القرافي المالكي (684 هـ). مطبوع في مقدمة الذخيرة، للقرافي - مطبعة كلية الشريعة بالأزهر (1381 هـ -1961 م). 50 - تيسير التحرير لأمير بادشاه، شرح التحرير للكمال بن الهمام (861 هـ).

مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر - 1351 هـ. 51 - التوضيح على التنقيح، عبيد اللَّه بن مسعود، صدر الشريعة (747 هـ). طبعة محمد علي صبيح، وانظر التلويح على التوضيح على التنقيح. 52 - البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير الدمشقي (774 هـ). تصوير مكتبة المعارف والنصر - بيروت - طبعة أولى. 53 - الجامع الصحيح، للترمذي، مع شرحه: تحفة الأحوذي، المباركفوري. مطبعة المدني القاهرة - طبعة ثانية (1384 هـ -1964 م). 54 - جماع العلم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ). مطبوع على هامش كتاب الأم، للإمام الشافعي. 55 - جمع الجوامع، لابن السبكي (771 هـ)، وعليه شرح جلال الدين المحلي (864 هـ). مطبوع مع حاشية العطار، وحاشية البناني. 56 - حاشية الباجوري على متن السلم في فن المنطق، إبراهيم الباجوري. المطبعة الحميدية بمصر- 1313 هـ. 57 - حاشية البناني على جمع الجوامع. مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. - حاشية ابن عابدين، انظر: رد المحتار على الدر المختار. 58 - حاشية العطار على جمع الجوامع، للشيخ حسن العطار، مطبعة مصطفى محمد بمصر - 1358 هـ.

59 - حاشية الفنري على التلويح. انظر: التلويح للتفتازاني. 60 - حجة اللَّه البالغة، ولي اللَّه بن عبد الرحيم الدهلوي (1176 هـ). دار الكتب الحديثة بالقاهرة. 61 - الحدود في الأصول، أبو الوليد الباجي (474 هـ). تحقيق الدكتور نزيه حماد، نشر مؤسسة الزعبي - بيروت (1392 هـ- 1973 م). 62 - حصول المأمول من علم الأصول، محمد صديق حسن خان بهادر. طبع القسطنطينية -1296 هـ. 63 - رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين، المعروف بابن عابدين (1252 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة الطبعة الثانية (1386 هـ - 1966 م). 64 - رسائل ابن عابدين، محمد بن أمين، المعروف بابن عابدين (1252 هـ). مطبعة محمد هاشم الكتبي -1225 هـ. 65 - الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ). تحقيق أحمد محمد شاكر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر - الطبعة الأولى (1358 هـ - 1940 م). 66 - رفع الملام عن الأئمة الأعلام، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (728 هـ). طبع مكتبة القاهرة بمصر.

67 - رياض الصالحين، شرف الدين النووي (676 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة. 68 - روضة الناظر وجنة المناظر، موفق الدين عبد اللَّه بن قدامة (620 هـ). المطبعة السلفية بمصر. 69 - السنة ومكانتها في التشريع، المرحوم الدكتور مصطفى السباعي (1384 هـ / 1964 م). مكتبة دار العروبة - القاهرة - الطبعة الأولى (1380 هـ - 1961 م). - سنن الترمذي. انظر الجامع الصحيح. 70 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (275 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر - الطبعة الأولى (1371 هـ - 1952 م). 71 - سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني (273 هـ). مطبعة عيسى الحلبي - القاهرة - طبعة أولى - 1372 هـ -1952 م. 72 - سنن النسائي، أحمد بن شعيب (303 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. 73 - السيرة النبوية، ابن هشام (218 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبى بمصر - الطبعة الثانية (1375 هـ - 1955 م). 74 - الشافعي، الشيخ محمد أبو زهرة (1974 م). طبع دار الكتاب العربي - القاهرة.

75 - الإمام الشافعي، عبد الحليم الجندي. دار الكتاب العربي - القاهرة. 76 - شرح تنقيح الفصول، للإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي (684 هـ) تحقيق طه عبد الرؤوف سعد. الطبعة الأولى سنة (1393 هـ -1973 م)، نشر مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر. 77 - شرح قانون الأحوال الشخصية، المرحوم الدكتور مصطفى السباعي (1384 هـ / 1964 م). مطابع دار الفكر بدمشق - الطبعة السادسة (1382 هـ -1963 م). 78 - شرح الكوكب المنير، للعلامة محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي، المعروف بابن النجار (972 هـ). تحقيق الدكتور محمد الزحيلي، الدكتور نزيه حماد. نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث بكلية الشريعة بمكة المكرمة، طبع دار الفكر بدمشق سنة (1400 هـ -1980 م) طبعة العبيكان - الرياض. 79 - شرح المنار، ابن ملك، على المنار للنسفي (790 هـ). طبع دار الطباعة العامرة - القاهرة سنة 1307 هـ. 80 - صحيح البخاري مع حاشية السندي، محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ). المطبعة العثمانية بمصر - طبعة أولى. 81 - صحيح مسلم بشرح النووي، مسلم بن الحجاج القشيري (261 هـ). المطبعة المصرية - القاهرة - طبعة أولى (1349 هـ / 1930 م).

82 - ضوابط المصلحة، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية (1397 هـ -1977 م). 83 - طبقات الشافعية الكبرى، عبد الوهاب السبكي (771 هـ). تحقيق الطناحي وحلو - مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر (1383 هـ - 1963 م). 84 - طبقات الفقهاء، أبو إسحاق الشيرازي (476 هـ). دار التراث العربي - بيروت - 1970 م. 85 - العرف والعادة، الشيخ أحمد فهمي أبو سنة. مطبعة الأزهر- القاهرة - 1947 م. 86 - علم أصول الفقه، المرحوم عبد الوهاب خلاف (1956 م). مطبعة النصر - القاهرة - الطبعة السادسة (1376 هـ -1956 م). 87 - غاية الوصول شرح لب الأصول، زكريا الأنصاري (926 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر (1360 هـ -1941 م). 88 - فتح القدير شرح الهداية للمرغيناني (593 هـ)، الكمال بن الهمام (861 هـ). مطبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 89 - الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير، وهما للجلال السيوطي (911 هـ). جمع يوسف النبهاني (1350 هـ) - مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. 90 - الفتح المبين في طبقات الأصوليين، للشيخ عبد الرحمن مصطفى المراغي. الطبعة الثانية - بيروت سنة (1394 هـ-1974 م).

91 - الفروق، للقرافي المالكي (684 هـ)، ومعه تهذيب الفروق، محمد علي بن حسين المالكي. مطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر - طبعة أولى - 1346 هـ. 92 - فصول في أصول التشريع الإسلامي، جاد المولى سليمان. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر-1949 م. 93 - الفقه الإسلامي في أسلوبه الجديد، الدكتور وهبة الزحيلي. مطبعة جامعة دمشق -1967 م. 94 - فقه السيرة، الشيخ محمد الغزالي. دار الكتب الحديثة - القاهرة - الطبعة السادسة - 1965 م. 95 - فقه القرآن والسنة، القصاص، المرحوم محمود شلتوت. مكتبة الأنجلو المصرية (1365 هـ -1946 م). 96 - الفقه المقارن، الدكتور حسن الخطيب. مطبعة دار التأليف - القاهرة (1376 هـ -1957 م). - الفقه المقارن، الزفزاف، انظر مذكرات في الفقه المقارن. 97 - الفهرست، ابن النديم محمد بن إسحاق، أبو الفرج (385 هـ). تصوير مكتبة الخياط. 98 - فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، محمد بن نظام الدين الأنصاري (1180 هـ). مطبوع على هامش المستصفى. 99 - القاموس المحيط، مجد الدين الفيروزبادي (817 هـ). مطبعة المكتبة التجارية - القاهرة.

100 - قواعد الأحكام في مصالح الأنام، لعز الدين بن عبد السلام (660 هـ). طبع دار الشروق للطباعة - سنة (1388 هـ -1968 م). 101 - القواعد والفوائد الأصولية، ابن اللحام الحنبلي (803 هـ). مطبعة السنة المحمدية - القاهرة (1375 هـ - 1956 م). 102 - كشاف اصطلاحات الفنون (موسوعة الاصطلاحات)، محمد علي التهانوي (1158 هـ). تصوير مكتبة كلكتا - 1862 م. 103 - كشف الأسرار، عبد العزيز البخاري (730 هـ). على أصول البزدوني (482 هـ). تصوير عن طبعة 1307 هـ. 104 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس، إسماعيل بن محمد العجلوني (1162 هـ). طبع مكتبة التراث الإسلامي - حلب. 105 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، ملا كاتب جلبي (1067 هـ). طبعة أولى - 1310 هـ. 106 - اللمع في أصول الفقه، أبو إسحاق الشيرازي (476 هـ). مطبعة صبيح بمصر. 107 - مباحث الحكم عند الأصوليين، الأستاذ محمد سلام مدكور. دار النهضة العربية بمصر. 108 - مباحث الكتاب والسنة، الدكتور محمد فوزي فيض اللَّه.

مذكرات لطلاب كلية الشريعة بدمشق (1964 هـ -1965 م). 109 - مباحث الكتاب والسنة من علم الأصول، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. المطبعة التعاونية - دمشق (1394 هـ - 1974 م). 110 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي (807 هـ). مطبعة المقدسي بمصر. 111 - المجموع شرح المهذب، للإمام الحافظ أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (676 هـ). مطبعة الإمام بمصر - نشر زكريا يوسف. 112 - محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء، الأستاذ الشيخ علي الخفيف. طبع معهد الدراسات العربية - القاهرة. 113 - محاضرات في أصول الفقه، لأستاذنا الشيخ عثمان مرزوق. لطلاب السنة الثانية في دبلوم الفقه المقارن بالأزهر - 1966 - 1967 م. 114 - محاضرات عن الإمام الشافعي، لأستاذنا الشيخ جاد الرب رمضان. لطلاب دبلوم الفقه المقارن في كلية الشريعة والقانون بالأزهر- 1966 - 1967 م. 115 - المختارات الفتحية في تاريخ التشريع وأصول الفقه، أحمد أبو الفتح. مطبعة النهضة بمصر - الطبعة الثالثة (1340 هـ -1922 م).

116 - مختصر الطوفي (مختصر روضة الناظر)، للعلامة سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري الحنبلي (716 هـ). طبع مؤسسة النور للطباعة بالرياض - سنة 1383 هـ (طُبع باسم: البلبل). 117 - مختصر المنتهى (مختصر ابن الحاجب)، ابن الحاجب الأصولي المالكي (646 هـ). طبع مصر 1326 هـ. 118 - المدخل إلى علم أصول الفقه، الدكتور محمد معروف الدواليبي. مطبعة جامعة دمشق - الطبعة الثالثة (1378 هـ -1959 م). 119 - المدخل إلى مذهب أحمد، ابن بدران الحنبلي (1346 هـ / 1927 م). المطبعة المنيرية بمصر. 120 - المدخل الفقهي العام، الأستاذ مصطفى الزرقا. مطبعة جامعة دمشق - الطبعة السابعة (1381 هـ -1961 م). 121 - المدخل للفقه الإسلامي، الدكتور محمد الزحيلي. محاضرات لطلاب السنة الثالثة في كلية الشريعة بدمشق (1396 هـ - 1976 م)، وطبع الكتاب بعنوان: النظريات الفقهية، دار القلم، دمشق (1414 هـ / 1994 م). 122 - مذكرات في الفقه المقارن، لأستاذنا المرحوم الشيخ محمد الزفزاف. لطلاب دبلوم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة القاهرة - 1966 - 1967 م.

123 - مرآة الأصول في شرح مرقاة الوصول، منلا خسرو. طبع 1296 هـ. 124 - المستدرك على الصحيحين، أبو عبد اللَّه الحاكم (405 هـ). تصوير طبع حيدرآباد بالهند. 125 - المستصفى للإمام حجة الإسلام محمد محمد الغزالي (505 هـ). المطبعة الأميرية - بولاق - مصر - 1322 هـ. 126 - مسلم الثبوت، محب الدين بن عبد الشكور (1119 هـ). انظر: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت. 127 - المسودة في علم أصول الفقه، آل تيمية. مطبعة المدني - القاهرة. 128 - مصادر التشريع الإسلامي، الدكتور محمد أديب صالح. المطبعة التعاونية - دمشق - طبعة أولى -1967 - 1968 م. 129 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد الفيومي (770 هـ). المطبعة الأميرية - القاهرة - الطبعة السادسة - 1926 م. 130 - معالم السنن، للخطابي البستي (388 هـ). مطبعة السنة المحمدية - مع مختصر أبي داود. 131 - معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسن أحمد بن فارس (395 هـ). طبع دار الفكر بدمشق (1399 هـ -1979 م). 132 - المغني، عبد اللَّه بن قدامة المقدسي الحنبلي (620 هـ). طبع مكتبة الجمهورية - القاهرة.

133 - مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، محمد الشربيني الخطيب (997 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة (1377 هـ -1958 م). 134 - مغيث الخلق في بيان الأحق، إمام الحرمين الجويني (478 هـ). طبع القاهرة. 135 - مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، التلمساني المالكي (771 هـ). نشر مكتبة الخانجي بمصر -1962 م - تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. 136 - مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور. نشر المكتبة التونسية للتوزيع، تونس. 137 - المقدمة، ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (808 هـ). طبع المكتبة التجارية بالقاهرة. 138 - مقدمة في أصول التفسير، تقي الدين أحمد بن تيمية (728 هـ). تحقيق الدكتور عدنان زرزور- دار القرآن الكريم - الطبعة الأولى. 139 - مناقب الشافعي، البيهقي (458 هـ)، تحقيق سيد أحمد صقر. دار التراث - القاهرة - طبعة أولى - 1970 م. 140 - مناقب الشافعي، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (606 هـ). المطبعة العلامية بمصر. 141 - مناهج العقول، محمد بن الحسن البدخشي، شرح منهاج

الوصول. مطبوع مع نهاية السول. 142 - منهاج الوصول إلى علم الأصول، البيضاوي (685 هـ). طبع مصر- 1326 هـ. 143 - منهج التربية الإسلامية، الأستاذ محمد قطب. دار القلم - القاهرة. 144 - منهج النقد في علوم الحديث، الدكتور نور الدين العتر. دار الفكر - دمشق. 145 - الموافقات في أصول الأحكام، الشاطبي (790 هـ). مطبعة المدني بمصر - نشر مكتبة صبيح وأولاده. 146 - نسمات الأسحار، محمد أمين، المعروف بابن عابدين (1252 هـ). طبع مصر - 1328 هـ. 147 - نهاية السول، للإمام عبد الرحيم الإسنوي (777 هـ)، شرح منهاج الأصول. مطبعة صبيح بمصر. 148 - الميزان الكبرى، عبد الوهاب الشعراني (973 هـ). المطبعة البهية - 1302 هـ - الطبعة الرابعة. 149 - نيل الأوطار، محمد علي الشوكاني (1250 هـ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - الطبعة الثالثة (1372 هـ - 1953 م). 150 - وسائل الإثبات في المعاملات المدنية والأحوال الشخصية،

الدكتور محمد الزحيلي. رسالة دكتوراه - نشر مكتبة دار البيان بدمشق (1400 هـ - 1980 م). 151 - الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، الدكتور وهبة الزحيلي. المطبعة العلمية بدمشق - الطبعة الثانية (1388 هـ -1969 م).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْوَجِيز فِي أصُول الْفِقْه الإسلامي «الدلالات - الإجتهاد والتقليد وَالْفَتْوَى - التَّعَارُض وَالتَّرْجِيح»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار الْخَيْر الطّبعَة الثّانِيَة 1427 هـ - 2006 م دَار الْخَيْر للطباعة والنشر والتوزيع للمراسلة: دمشق - سوريا - حلبوني - جادة الشَّيْخ تَاج هَاتِف الْمكتب: 2245822/ 011 - تلفاكس: 2222694/ 011 هَاتِف المكتبة: 2228074/ 011 ص. ب: 13492 E-mail: [email protected] دَار الْخَيْر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان - فردان - جنوب سيّار الدَّرك - بِنَاء الشَّامي هَاتِف: 810571/ 01 - تلفاكس: 865697/ 01 ص. ب: 5630/ 113 - الرَّمْز البريدي: 2060/ 1103

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد للَّه الذي تتم بنعمته الصالحات، وتفضَّل بالنعم الكثيرة التي لا تحصى، القائل: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} [إبراهيم: 34]. والصلاة والسلام على الرسول خاتم النبيين، وعلى آله المطهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فقد أكرمنا اللَّه تعالى بإتمام هذا الكتاب في أصول الفقه الإسلامي، بشكل موجز ومبسط، وعرضنا في الجزء الأول منه بابًا تمهيديًّا عن المدخل إلى علم أصول الفقه، والباب الأول في مصادر التشريع الإسلامي، والباب الثاني في الأحكام الشرعية. وجاء الجزء الثاني في ثلاثة أبواب أيضًا، مكملة لما سبق، فالباب الثالث في تفسير النصوص أو دلالات الألفاظ، والباب الرابع الاجتهاد والتقليد، والباب الخامس في التعارض والترجيح. والتزمت في الجزء الثاني المنهج الذي سرت عليه في الجزء الأول في التنظيم والتقسيم والموضوعية، والجمع بين القواعد والضوابط والأحكام الفقهية، وتجنب الموضوعات الأصولية الجزئية، مع العرض المبسط، وتنظيم الآراء والأقوال المختلفة في المسألة، وبيان أصحاب كل رأي مع دليله، ومناقشة الأدلة بإيجاز، مع ما يترتب على الاختلاف من فروع فقهية، والاعتماد بشكل مباشر على المراجع الأصيلة في الموضوع، والاستفادة من

الكتب المعاصرة، وتثبيت ذلك في الهوامش؛ لإرشاد من يريد التوسع في البحث. وإن بحث تفسير النصوص أو دلالات الألفاظ الواردة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وسائر النصوص التشريعية، هي أهم موضوعات هذا الجزء، وهي ذات صلة مباشرة بالقرآن الكريم والسنة النبوية؛ لبيان مرادها، وفهم معتاها، واستنباط الأحكام منها، مما يشعر القارئ بالصلة المباشرة مع كلام اللَّه تعالى المعجز، ومع البيان النبوي الفصيح، وكذلك التعامل مع سائر النصوص التشريعية، مما سيلحظه القارئ، ثم جاء بحث التعارض والترجيح وكأنه مكمل لذلك، ولكنه يعتمد على الاجتهاد، وتوفر شروط المجتهد لبيان التعارض والترجيح. ونسأل اللَّه تعالى أن يتقبله عنده، وأن ينفع به، وأن يجعله في صحائف أعمالنا، وأن يرزقنا خيره، ويجنبنا شره وخطاه، وما ذاك إلا بتوفيق اللَّه وعونه وتسديده، وعلى اللَّه الاعتماد، وإليه الرجعى والمآب، والحمد للَّه رب العالمين. الشارقة في 12/ 6 / 1424 هـ 10/ 8 / 2003 م الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الشارقة - دولة الإمارات العربية المتحدة

الباب الثالث تفسير النصوص أو دلالات الألفاظ

الباب الثالث تفسير النصوص أو دلالات الألفاظ مقدمة: التفسير والدلالات: المراد من تفسير النصوص: معرفة معنى النص التشريعي الذي ورد فيه الشرع أو التشريع، والنص الشرعي هو القرآن والسنة، والنص التشريعي في العصر الحاضر هو جميع التشريعات التي تصدر عن الجهات المختصة في الدولة، سواء كانت تشريعية اصطلاحًا أو قوانين، وهي التي تصدر عن مجلس الأمة، أو المجلس النيابي، أو مجلس الشعب، أو مجلس الشورى، أو مجلس الشيوخ، أم إدارية تصدر عن الوزارات كالمراسيم، أو عن الإدارات كالقرارات وغيرها. وبحث علماء الأصول هذه الأمور بعدة عناوين، كالدلالات، أي: دلالة الألفاظ على المعاني، أو طرق الاستنباط من النصوص. وإن قواعد تفسير النصوص أو الدلالات، أو طرق الاستنباط، واحدة بين العلماء في أصولها، وقد تختلف المصطلحات، أو التقسيمات، وهذه القواعد تطبق على نصوص الشرع، وعلى نصوص القوانين والمراسيم والقرارات، ولذلك يحتاجها المختص في الشريعة، والمختص في القانون، ولذلك نقدمها لطلبة الشريعة وطلبة القانون، ونذكر الأمثلة من الجانبين، ولهذا قررت جميع كليات القانون والحقوق تدريس علم أصول الفقه؛

المنطلقات الأساسية في تفسير النصوص

للاستفادة منه، والاستعانة به علميًّا في فهم النصوص التشريعية وتطبيقها. وظهرت عند علماء الأصول مدرستان، أو اتجاهان في تفسير النصوص. الأولى: مدرسة المتكلمين، وتمثل الجمهور، ويتبعها غالبًا علماء المالكية والشافعية والحنابلة. والثانية: مدرسة الحنفية، ويتبعها أغلب علماء الحنفية. ولكل مدرسة اصطلاحاتها الخاصة أحيانًا، وقد تتفق الاصطلاحات، وقد تختلف، والاختلاف غالبًا ظاهري وصوري وشكلي ونظري؛ لأنه لا يترتب عليه في ذاته ثمرة، أو اختلاف في الحكم الشرعي، وإنما قد يختلف الحكم الشرعي لأسباب أخرى (¬1)، ونحاول أن نجمع بين الطريقتين، ونبين الدلالات بالتسلسل، وذلك في الفصول التالية. المنطلقات الأساسية في تفسير النصوص: قبل تفسير النص، والسعي لمعرفة دلالاته، واستنباط الحكم منه، يجب اتباع الأمور التالية؛ ليكون العمل صحيحًا ومقبولًا، وهي: 1 - ثبوت النص وصحته: يجب التأكد من ثبوت النص وصحته، وهذا ينطبق في الشرع في ثبوت أحاديث الآحاد فقط؛ لأن نص القرآن الكريم ثابت قطعًا؛ لأنه منقول بالتواتر والإجماع، ومحفوظ من قبل اللَّه تعالى في الصدور والمصاحف، ولأَنَّ السنة المتواترة ثابتة أيضًا بالقطع؛ لأن العلماء رووها جمعًا عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، وحفظت في الصدور وكتب السنة، أما أحاديث الآحاد ففيها الصحيح والحسن والضعيف، ولا تؤخذ الأحكام إلا من الصحيح والحسن. كما يجب على المختص بالقانون أن يتأكد من صحة صدوره، ووجوده؛ لدراسته وبيان الحكم منه. ¬

_ (¬1) مناهج الأصوليين، خليفة بابكر ص 20 وما بعدها، 59.

2 - جمع النصوص في الموضوع الواحد

2 - جمع النصوص في الموضوع الواحد: يجب جمع النصوص ذات الموضوع الواحد في القرآن والسنة، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، ويقيد بعضه بعضًا كما سنرى، والسنة بيان وتوضيح وشرح للقرآن في بيان معانيه وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه، وتفسير مجمله، كما سنرى. وينطبق ذلك على القانون فيجب جمع النصوص القانونية ذات العلاقة في الموضوع الواحد، فقد يكون بعضها أعلى من بعض، وقد يكون بعضها ناسخًا والآخر منسوخًا، فالمتأخر ينسخ المتقدم، فيجب الجمع بين النصوص، والمقارنة بينها. 3 - فهم النصوص وَفْق اللغة: يجب فهم النصوص وفق أساليب اللغة التي صدرت بها، والالتزام في النصوص الشرعية، والقانونية العربية، بطرق دلالة اللفة العربية فيها، وبحسب مفرداتها وتراكيبها، وقواعدها وأساليبها، من الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والواضح والمبهم، أو حسب الوضوح والخفاء، وغير ذلك مما قرره علماء الأصول بعنوان الدلالات، أو القواعد الأصولية اللغوية، أو مباحث الكتاب والسنة، (باعتبارهما النصوص التي هي مصدر الأحكام الشرعية) وذلك كما قررها علماء اللغة أنفسهم، ومن ذلك معاني الحروف التي تتعلق بها الأحكام كالباء، والواو، والفاء، وثمَّ، وغيرها. وهذا يوجب معرفة اللغة وإتقانها التي صدر فيها النص، ومعرفة قواعدها وأساليبها وصيغها. 4 - سبب النزول أو الورود: يجب فهم النص في ضوء سبب نزوله أو وروده، لكن بدون حصر النص بالسبب فقط، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن معرفة السبب تساعد فقط في توضيح المعنى المراد مما يزيده وضوحًا وجلاءً، وتبين الحكمة الباعثة على تشريع الحكم منه، وهذا يوجب معرفة الظروف، أو أسباب النزول أو أسباب الورود التي جمعها العلماء، وبعد التأكد من ثبوتها وصحتها. وفي القانون قد يصدر التشريع لأسباب خاصة يجب أخذها بالاعتبار

5 - سياق اللفظ في النص

لتلقي الضوء على فهمه، وتحديد المراد منه. 5 - سياق اللفظ في النص: يجب فهم اللفظ بحسب سياقه في النص، ومراعاة ما قبله وما بعده، لتحديد دلالة اللفظ ومعناه، وبيان المراد منه، مع مراعاة القرائن اللفظية السابقة أو اللاحقة في النص، فإن قرينة السياق تساعد على دلالة المراد من الكلام، كالصفة التي تقع في سياق المدح فهي مدح، وإن كانت في أصلها قدحًا، والصفة التي تقع في سياق الذم فهي قدح، وإن كان أصلها مدحًا، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]، فمعناها الذليل المهان؛ لوقوع ذلك في سياق الذم، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -؛ "ثكلتك أمك يا معاذ" فاللفظ دعاء عليه، ولكن السياق يدل على الدعاء له، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تربت يداه" أي: لصقت بالتراب، وهو إهانة، ولكن السياق يدل على التكريم، ومن القرائن اللفظية قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] بعد قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فاللفظ أمر يدل على الوجوب، ولكن القرينة صرفته للندب والإرشاد، فلا يصح بتر اللفظ عن سياقه. 6 - الواقع والظروف: يجب فهم النص في ضوء الواقع والمرحلة التي نزل فيها، والظروف التي أحاطت به، وذلك يساعد على إنزال الأحكام على الواقع الحقيقي؛ لأنه قد يتغير الواقع، فيجب تغيير الحكم، وهو المراد من قاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان" والمكان والأعراف والأحوال. وفي القانون قد يصدر التشريع لظروف معينة محالة حرب أو استنفار، أو مجاعة، أو ضائقة، أو للتشجيع على التعليم ومحو الأمية، أو ترشيد الاستهلاك، أو شيوع الزواج من أجنبيات ... ، فيكون الواقع والظروف القائمة عند صدور التشريع مؤثرًا على تطبيق الأحكام والقرارات. 7 - المقاصد العامة: يجب فهم النص في ضوء المقاصد العامة للشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح العباد في جلب المنافع لهم ودرء المفاسد عنهم، وذلك في كل نص جزئي ليتفق مع المبادئ العامة في الشرع.

مباحث الدلالات أو تفسير النصوص

وكذلك في القوانين يجب فهمها بحسب المبادئ الأساسية للدولة، والأهداف العامة لها، حتى لا يقع تناقض بين الجزء والكل، والفرع والأصل (¬1). مباحث الدلالات أو تفسير النصوص: ونعرض مباحث دلالة الألفاظ أو تفسير النصوص في الفصول التالية: الفصل الأول: كيفية استعمال اللفظ للمعنى. الفصل الثاني: صيغ التكليف. الفصل الثالث: دلالة اللفظ لغة على المعنى باعتبار الشمول وعدمه. الفصل الرابع: وضوح الألفاظ وخفاؤها. الفضل الخامس: طرق دلالة اللفظ على المعنى. الفصل السادس: حروف المعاني. الفصل السابع: النسخ. ¬

_ (¬1) انظر كتب أصول الفقه عامة، ومنها: تفسير النصوص للأستاذ الدكتور محمد أديب صالح (رسالة دكتوراة)، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، للأستاذ الدكتور محمد فتحي الدريني، مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام، للأستاذ الدكتور خليفة بابكر الحسن، الضوابط المنهجية للاستدلال بالنصوص الشرعية، بحث في مجلة الشريعة والقانون بجامعة الإمارات، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية للدكتور مصطفى سعيد الخن.

الفصل الأول كيفية استعمال اللفظ للمعنى

الفصل الأول كيفية استعمال اللفظ للمعنى إن الألفاظ المركبة من حروف لها دلالات، ولكن تتنوع كيفية دلالة اللفظ على المعنى في اللغة. فالأصل أن يدل اللفظ على المعنى بحسب الحقيقة، ويقابلها المجاز، وقد يدل اللفظ على المعنى بأسلوب صريح، ويقابله الكناية. ولذلك تنقسم دلالة اللفظ باعتبار استعماله في المعنى إلى أربعة أنواع: الأول: الحقيقة، ويقابلها المجاز. والثاني: الصريح، ويقابله الكناية. ونعرض كلًّا منهما في مبحث. المبحث الأول الحقيقة والمجاز تعريف الحقيقة: الحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له لغة، وذلك أن المتكلم يصدر عنه اللفظ، ويريد المعنى الذي وضعه أهل اللغة، كلفظ الشمس للكوكب الذي يضيء النهار، والقمر للكوكب الذي ينير الليل، والإنسان للحيوان الناطق (¬1). أنواع الحقيقة: تنقسم الحقيقة اللفظية إلى ثلاثة أنواع: الأول: الحقيقة اللغوية: وهي الأصل، وهي التي وضعها واضع اللغة للفظ، كالأمثلة السابقة. الثاني: الحقيقة الشرعية: وهي اللفظ المستعمل في المعنى المراد له ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 341)، الفصول (1/ 46)، أصول السرخسي (1/ 175)، كشف الأسرار (1/ 61).

شرعًا، والواضع لها هو الشرع، كالصلاة للعبادة المخصوصة، والزكاة للجزء المطلوب من الغني ليخرجه من ماله، وهكذا الحج، والشفعة، والجهاد. والغالب أن يكون هناك علاقة بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي، فالصلاة لغة الدعاء، وهذا المعنى وارد في المعنى الشرعي الذي يشتمل على الدعاء، والزكاة لغة النماء والزيادة، وهذا المعنى مقصود في المعنى الشرعي، ويصبح المعنى الشرعي مجازًا في اللغة عند استعماله شرعًا. الثالث: الحقيقة العرفية: وهي التي لم يتعين واضعها، وإنما توافَقَ الناس عامة على استعمالها للدلالة على شيء معين، وقد تكون عامة مثل لفظ الدابة، فهي في اللغة لكل ما يدب على الأرض، ولكن خصها العرف بالمخلوق الذي له حافر، أو بما يمشي على أربع، وقد تكون خاصة، وهي المصطلحات التي تطلقها كل طائفة من أصحاب العلوم والفنون والحرف والمهن والبلدان على معنى معين يخصهم، ويتعارفون به، وتسمى حقيقة اصطلاحية، كالولد فهو في اللغة لكل مولود ذكر أو أنثى، فخصه العرف في بعض البلاد بالذكر، وفي بعض البلاد يطلقونه على الرجل، والصبي في اللغة هو الولد الذكر الذي لم يبلغ، ويتعارفون عليه في بعض البلاد على الرجل الخادم الذي يخدم في البيت والمطبخ، ولفظ الاستحسان عند علماء الأصول، والعقد عند الفقهاء، وكلمة التمييز يختلف المراد منها في اللغة والفقه عن القضاء (¬1). والأصل أن يستعمل اللفظ في المعنى اللغوي والحقيقة اللغوية إلا إذا وردت قرينة تصرفه إلى المعنى الشرعي أو العرفي؛ لأن الحقيقة اللغوية هي الأصل، والأصل عدم النقل إلى غيره. ومن القرائن استعمال الشارع للألفاظ الواردة في نصوصه، فإن المراد هو الحقيقة الشرعية؛ لأن الشرع استعملها بحسب مراده إلى أن ترد قرينة معاكسة تصرفه إلى المعنى اللغوي، فالزكاة هي الركن الثالث في الإسلام، وحيثما وردت في القرآن والسنة فهذا هو المراد، وقد يراد معناها اللغوي في مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14]، وقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) ¬

_ (¬1) مثل كلمة مدرسة التي استعملناها سابقًا، وهي غير المدرسة في وزارة التربية، ومثل الكلية والجزئية والابتدائية والاستئناف والتمييز في المحاكم، ومثل لفظ مستشار في الطب فهو غير المستشار في القضاء، ولفظ مدرس يختلف المراد منه من وزارة التربية إلى الجامعة، ولقب أستاذ مساعد يختلف المراد منه من دولة إلى أخرى.

تعريف المجاز

فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} [الشمس: 7، 9]. وكذلك الحال في النصوص القانونية عامة كانت أم خاصة بفئة، فالمراد من اللفظ المعنى القانوني أو الاصطلاحي إلا إذا دلت قرينة أن المراد بها الحقيقة اللغوية، كلفظ "الفائدة" فالمراد منها الربا، إلا إذا جاءت في عقد عمل مثلًا فالمراد منها الحقيقة اللغوية، وهي ما يعود على شخص من منفعة. وإذا تعارضت الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية فتقدم الحقيقة العرفية عند أهل ذلك العرف، كمن حلف ألا ياكل لحمًا، فأكل سمكًا، فإنه لا يحنث؛ لأن السمك لا يسمى لحمًا في عرف أكثر البلاد (¬1). تعريف المجاز: المجاز: هو اللفظ المستعمل فيما لم يوضع له لغة، فالمتكلم يستعمل المجاز ويريد به معنى غير موضوع له، لقرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي، لكن يوجد علاقة بين الحقيقة والمجاز، فيقال عن المرأة الجميلة: شمس، وعن الطفل الوسيم: قمر، ويقال عن الرجل الشجاع: أسد. والأصل في الكلام الحقيقة، والمجاز عارض، وإذا احتمل اللفظ المعنى الحقيقي والمجازي حمل على الحقيقة؛ لأن المجاز خلاف الأصل. والمجاز له أنواع كثيرة مذكورة في كتب اللغة وكتب أصول الفقه، وكل مجاز له حقيقة، وليس كل حقيقة لها مجاز، فاسماء الأعلام كزيد وعمرو لا يدخلها المجاز؛ لأنها وضعت للفرق بين الذوات، لا للفرق بين الصفات. وذهبت جماهير العلماء إلى وقوع المجاز في نصوص القرآن والسنة (¬2)، ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 341)، الفصول للجصاص (1/ 46)، أصول السرخسي (1/ 170)، كشف الأسرار (1/ 61)، فواتح الرحموت (1/ 211)، نهاية السول (1/ 315)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 292)، أصول الأحكام، كبيسي ص 300، الدلالات وطرق الاستنباط ص 183، 186. (¬2) نفى بعض العلماء وجود المجاز في القرآن والسنة، لأنه دليل عجز عن استعمال الحقيقة، وأنه من قبيل الكذب، لأنه قد ينكر شخص حقيقته وهو صادق، وأنه يخل بالتفاهم ويؤدي =

حكم الحقيقة والمجاز

بدليل وقوعه فعلًا، كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19]، فالأصبع لا تدخل في الأذن، والمراد بعض الأصبع، وهو مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة البعض، لقرينة عدم إدخال الأصبع في الأذن لاستحالته، فتبين أن المراد هو البعض، وقصد منه المبالغة في شدة حرصهم على عدم سماع الحق، وإصرارهم على إدخال الأصبع لذلك. ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا فله سلبه" (¬1)، فلفظ قتيل مجاز مرسل، لأنه بمعنى مقتول، والمقتول لا يقتل، فالمراد ليس حقيقة القتل، بل المراد المشرف على القتل، فهو قتيل باعتبار ما سيكون. ولأن المجاز فيه بلاغة، ولذلك قال علماء اللغة: المجاز أبلغ من الحقيقة، وإن المجاز شطر الحسن، ولأن القرآن والسنة جاءا بلغة العرب وأسلوبهم، والمجاز موجود في اللغة العربية (¬2). حكم الحقيقة والمجاز: إذا ورد اللفظ بمعناه الحقيقي فيثبت له المعنى الذي وضع له، سواء كان اللفظ أمرًا أو نهيًا، عامًّا أم خاصًّا. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33]، فهذا نهي عن حقيقة القتل، وهو إزهاق الروح، وهو خاص به، ولكن النهي ¬

_ = إلى اللبس لاحتمال خفاء القرينة، وهذا قول ضعيف، ورده العلماء بأدلة جازمة انظر: المستصفى (1/ 342)، فواتح الرحموت (1/ 211، 212)، أصول السرخسي (1/ 172)، نهاية السول (1/ 334)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 292)، أصول الأحكام ص 302. (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري (3/ 1144) ومسلم (12/ 51) وأبو داود (2/ 64). (¬2) فواتح الرحموت (1/ 212)، العضد على ابن الحاجب (1/ 170)، الإحكام للآمدي (1/ 25)، نهاية السول (1/ 266)، المعتمد (1/ 31)، أصول السرخسي (1/ 170)، الفصول (1/ 46)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 294)، أصول الأحكام ص 302، الدلالات وطرق الاستنباط ص 187.

الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد

موجه إلى جميع المخاطبين، فكان عامًّا. ومن أحكام الحقيقة أنها ترجح على المجاز؛ لأنها لا تفتقر إلى قرينة، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة، أما المجاز فإنه يفتقر إلى القرينة، وهو بدل عن الحقيقة. ومن أحكامها امتناع نفي المعنى عن اللفظ، فلا يقال للأب: ليس بأب، وإنما يقال للجد: ليس باب، لأن الجد مجاز بمعنى الأب، فيجوز نفيه. وإذا ورد المجاز في النص فيثبت له المعنى الذي قصد منه، خاصًّا كان أو عامًّا، وأنه يجوز نفي المعنى الحقيقي عند مسمى المجاز، فلو قيل عن رجل: هذا أسد، فيصح أن يقال: ليس بأسد، والمجاز خلف للحقيقة أو فرع لها؛ لأنه لا يثبت إلا عند تعذر العمل بالحقيقة، ولهذا يحتاج إلى قرينة، ففي مجال وجوب الوضوء قال تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]، فالغائط حقيقة في اللغة هو المكان المنخفض، ثم أطلق مجازًا على قضاء الحاجة، وهو المعنى المراد هنا، أي الحدث الأصغر الذي يوجب الوضوء للصلاة (¬1). الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد: اختلف علماء الأصول في جواز إطلاق اللفظ الواحد على مدلوله الحقيقي ومدلوله المجازي في وقت واحد، واعتبار كل معنى منهما مُتَعَلَّقًا للحكم. فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز ذلك بشرط أن لا يكون المعنيان متضادين، ويكون إطلاقه عليهما معًا مجازًا، بدليل أن المتكلم قد يقصد الأمرين معًا، مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، فإنه حقيقة في ولد الصلب، ومجاز في ولد الابن، والآية تشمل الأمرين، ومثل قوله تعالى في أسباب الوضوء: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 43]، فيراد منه اللمس باليد، واللمس بالجماع، فيحمل عليهما، ويجب الوضوء منهما، لأن اللمس حقيقة في لمس اليد، ومجاز في ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (2/ 40، 70)، نهاية السول (1/ 278) أصول السرخسي (1/ 171)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 295)، أصول الأحكام ص 304، الدلالات وطرق الاستنباط ص 199.

عموم المجاز

الجماع، ومثل لفظ "نكح" في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، يصح أن يراد منه العقد، والجماع؛ لأنه لا تدافع بينهما، باعتبار أن النكاح حقيقة في الأول، مجاز في الآخر عند الشافعية، وعكسه عند الحنفية، ومثله قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} [الحج: 77]، فإنه حقيقة في الوجوب، ومجاز في الندب، والآية تشمل الأمرين، ومنه قولهم: "القلم أحد اللسانين" ويراد من اللسان الجارحة المخصوصة، وهو حقيقة، والآلة التي يكتب بها، وهو مجاز، واستعمل اللفظ الواحد في الأمرين (¬1). وقال الحنفية وبعض العلماء كالباقلاني: يمنع إطلاق اللفظ على المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في وقت واحد، بحيث يعتبر كل منهما مقصودًا في الحكم، للتعارض بين الأمرين، فهما متناقضان، لأن الحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له بمجرد إطلاقه، والمجاز استعمال اللفظ فيما لم يوضع له، ويحتاج إلى قرينة تدل عليه، فلا يكون مطلقًا ومقيدًا ودالًّا على الأمرين في حالة واحدة، ولذلك قال الحنفية: إذا أوصى لأولاده، وله أولاد، فيشمل الأولاد من الصلب حصرًا؛ لأنه الحقيقة، ولا يشمل أولاد الأولاد؛ لأنه مجاز إلا إذا لم يكن له أولاد، فتصرف الوصية لأولاد الأولاد حملًا للفظ على الاستعمال حتى لا يهمل (¬2). عموم المجاز: إذا استعمل المجاز في الكلام هل يعم الأفراد الذين يدخلون تحته أم لا؟ اختلف العلماء فيه على قولين: ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (1/ 216)، الفصول (1/ 46، 47، 48)، جمع الجوامع مع البناني (1/ 298)، العضد على ابن الحاجب (2/ 113)، المسودة ص 166، العدة (2/ 702)، شرح الكوكب المنير (3/ 195) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 305)، أصول الأحكام ص 304. (¬2) كشف الأسرار (2/ 45)، فواتح الرحموت (1/ 216)، شرح الكوكب المنير (3/ 195) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 305)، أصول الأحكام ص 305.

القول الأول: إن المجاز لا عموم له؛ لأنه لا يحمل اللفظ على المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، فهو من باب الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولا يتوسع بها، وهو قول بعض العلماء من الشافعية (¬1). القول الثاني: إن المجاز له عموم إذا توفر الموجب لعمومه كالألف واللام، والإضافة، والوقوع فيه سياق النفي، كما سيرد في صيغ العموم؛ لأن المجاز نوع من الكلام، فكان كالحقيقة في إرادة العموم، ولوقوع المقتضي لذلك، وعدم المانع منه لغة وشرعًا، وهو قول الجمهور (¬2). وترتب على ذلك اختلاف في الأحكام، ففي الحديث "لا تبيعوا الصاع بالصاعين" (¬3)، فالصاع مجاز في المكيلات، أي لا تبيعوا ملء الصاع بملء الصاعين. فعلى القول الأول فإن النهي خاص بالمطعومات؛ لأن النهي عن الزيادة فيها ثابت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" (¬4). وعلى القول الثاني فإن النهي عام؛ لأن لفظ "الصاع" معرف بلام الجنس، فيستغرق جميع ما يحل به من المطعوم وغيره، وبالتالي يجري الربا في غير المطعوم لعموم المجاز. ومن حلف ألا يضع قدمه في دار فلان، فهو مجاز للدخول، ولا يراد مجرد وضع القدم، فيشمل المجاز الدخول ماشيًا، أو منتعلًا، أو راكبًا (¬5). ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (2/ 40)، فواتح الرحموت (1/ 215)، أصول السرخسي (1/ 175)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 301)، الدلالات ص 202. (¬2) كشف الأسرار (2/ 41)، فواتح الرحموت (1/ 215)، أصول السرخسي (1/ 174)، أصول الأحكام ص 306، الدلالات ص 202. (¬3) هذا الحديث رواه البيهقي (5/ 315) وانظر: جامع الأصول (1/ 454). (¬4) هذا الحديث رواه البيهقي (5/ 315) وانظر: جامع الأصول (1/ 470). (¬5) المراجع السابقة هامش 3 من الصفحة السابقة.

المبحث الثاني الصريح والكناية

المبحث الثاني الصريح والكناية إن تبادر المعنى من اللفظ إما أن يكون صريحًا، أو كناية، سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازًا. تعريف الصريح: اللفظ الصريح: هو ما ظهر المراد منه ظهورًا بينًا لكثرة الاستعمال فيه، حقيقة كان أو مجازًا. ومثاله في الحقيقة: إذا قال رجل لزوجته: "أنت طالق" فهو صريح أن مراده هو الطلاق بالحقيقة الشرعية، ومثله: بعت، واشتريت، وتزوجت، وأجرت. ومثاله في المجاز: قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فإنه صريح أن المراد منها أهلها، وهو مجاز (¬1). حكم الصريح: إن اللفظ الصريح يثبت الحكم الشرعي منه بمجرد التلفظ به، دون توقف على النية، وذلك كصيغ العقود السابقة، وصيغ الفسوخ كقوله: أنت طالق، وفسخت العقد (¬2). تعريف الكناية: الكناية: هي ما استتر المعنى المراد من اللفظ بالاستعمال، سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازًا. مثالها في الحقيقة: قول القائل: وكلت فلانًا في الخصومة، ويريد بذلك التوكيل في رفع الدعوى والمنازعة أمام القضاء، دون الإقرار بدعوى الخصم. ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 187)، فواتح الرحموت (1/ 226)، التلويح على التوضيح (1/ 72)، أصول الأحكام ص 307، الدلالات ص 205. (¬2) المراجع السابقة، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 308).

حكم الكناية

ومثالها في المجاز: قول الرجل لزوجته: اعتدِّي، فهو حقيقة في الأمر بالعدّ والحساب، أي تعداد الأيام، والمراد منه مجازًا هو الطلاق، فاللفظ كناية عن الطلاق؛ لأنه سبب العدة، فهو مجاز مرسل من إطلاق السبب وإرادة المسبب (¬1). حكم الكناية: إن الحكم الشرعي لا يثبت في الكناية إلا بالنية، أو بالقرينة التي تدل على تعيين المراد؛ لأن المراد مستتر، والأصل في الكلام أن يراد منه المعنى الصريح، فإذا قال رجل لامرأته: أنت عليَّ حرام، فلفظ "حرام" كناية عن الطلاق، فلا يقع إلا إذا نواه، وهكذا بقية ألفاظ الطلاق بالكناية، كقوله: الحقي بأهلك. وبما أن الكناية أقل درجة من الصريح، فلا يثبت الحكم بها إلا بالنية من جهة، ولا يثبت بها القذف مثلًا من جهة ثانية، لأنها تتوقف على النية بإرادة معناها، والنية ترجع إلى القاذف، وهو ينكرها، والحدود تدرأ بالشبهات (¬2). ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (2/ 203)، فواتح الرحموت (1/ 226)، أصول السرخسي (1/ 188)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 310)، أصول الأحكام ص 307، الدلالات ص 206. (¬2) القذف بالكناية كقول الشخص لآخر: أنا أبي معروف، فالصريح هو إثبات نسب المتكلم، والكناية أن الآخر غير معروف الأب، أو قال: أنا لست بزان، فالصريح أنه يدفع عن نفسه الزنا، والكناية: أنه تعريض بالآخر بالزنا، وهذا يتوقف على النية، والإرادة حكم خفي فهو في حكم العدم. انظر: المنهاج ومغني المحتاج (ج 3/ 367، 370)، المهذب (5/ 402) وما بعدها، المجموع (22/ 107)، المحلي وقليوبي (4/ 28)، الروضة (8/ 311)، الحاوي (14/ 113) وما بعدها، الأنوار (2/ 308).=

الفصل الثاني صيغ التكليف

الفصل الثاني صيغ التكليف إن الألفاظ والكلمات هي الوسيلة التي يعبر بها المشرع للتكليف بالأحكام، وتنقسم الألفاظ باعتبار صيغتها التي تدل على الحكم إلى خمسة أنواع، وهي: الأمر، والنهي، والمطلق، والمقيد، وحروف المعاني. وإن أهم صيغ التكليف، وأكثرها شيوعًا وانتشارًا هي صيغة الأمر، وصيغة النهي، وتتمثل صيغة الأمر بوزن "افعل" الذي يدل على طلب الفعل، وقد يكون طلبًا جازمًا، وقد يكون غير جازم، وهذان يشملان الواجب والمندوب، وتتمثل صيغة النهي بوزن "لا تفعل" الذي يدل على طلب الترك، إما بشكل جازم، أو غير جازم، وهذا يشمل الحرام والمكروه، لذلك اهتم الأصوليون بالأمر والنهي؛ لأن التكليف يتعلق بهما في الأصل لمعرفة الحلال والحرام، ويتبعهما صيغة المطلق وهو الاقتصار على اللفظ دون زيادة عليه، والمقيد وهو إضافة زيادة على اللفظ؛ لأن كلًّا من الأمر أو النهي قد يكون مطلقًا، وقد يكون مقيدًا، ويلحق بهما حروف المعاني (¬1). ونؤجل الكلام على حروف المعاني، ونعرض في هذا الفصل الصيغ الأربع الأخرى، ونخصص كل واحدة في مبحث. وإن الأمر والنهي، والمطلق والمقيد، من أقسام اللفظ الخاص الذي وضع لمعنى واحد منفرد، ويقابله العام، الذي يدل على متعدد غير محصور دفعة بوضع واحد، مثل كلمة الرجال، كما يقابله المشترك الذي يدل على معنيين فأكثر في آن واحد، لكن مع تعدد الوضع مثل لفظ العين، كما سنبينه لاحقًا. ¬

_ (¬1) أصول الأحكام ص 309.

المبحث الأول الأمر

المبحث الأول الأمر تعريفه وصيغته: الأمر: هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء (¬1)، فالأمر طلب لأداء الفعل والقيام به في المستقبل بعد الأمر، ويكون من جهة من له سلطة الأمر. والمطلوب تحصيل المأمور به سواء كان الأمر بصيغة الأمر، مثل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، أو كان بصيغة المضارع المقترن بلام الأمر؛ كقوله سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، أو كان بالجملة الخبرية التي يقصد منها الطلب، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، فالمقصود الأمر بالإرضاع وطلبه من الوالدات، ومثل قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، فالمقصود أمر المؤمنين بألا يمكنوا الكافرين من التسلط عليهم، أو كان بالمصدر النائب عن فعل الأمر، كقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، أي: فاضربوا رقابهم. وكل ما وضع للطلب حقيقة مما كان على وزن افعل، فهو أمر، ويشترط في الأمر إرادة النطق بالصيغة، وإلا فلا يعتبر طلبًا (¬2). ¬

_ (¬1) هذا التعريف للآمدي في الإحكام (1/ 137)، وانظر: البحر المحيط (2/ 348)، أصول السرخسي (1/ 11)، كشف الأسرار (1/ 101)، فواتح الرحموت (1/ 367)، شرح الكوكب المنير (3/ 10)، تيسير التحرير (1/ 336)، إرشاد الفحول ص 91، المحصول (1/ 19)، المستصفى (1/ 411)، العضد على ابن الحاجب (2/ 77)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 218)، أصول الأحكام ص 310، نهاية السول (2/ 11). (¬2) ترد صيغة افعل لمعان كثيرة، انظر: البحر المحيط (2/ 352، 356)، أصول السرخسي (1/ 14)، التوضيح على التنقيح (2/ 51)، كشف الأسرار (1/ 107)، المعتمد (1/ 49)، فواتح الرحموت (1/ 372)، نهاية السول (2/ 14)، العدة (1/ 219)، مختصر البعلي ص 98، العضد والتفتازاني على ابن الحاجب (2/ 78)، إرشاد الفحول ص 92، الإحكام =

دلالة الأمر وموجبه

دلالة الأمر وموجَبه: قال جمهور العلماء: إن الأمر يدل على وجوب المأمور به، ولا يصرف عن الوجوب إلى غيره إلا بقرينة تدل على ذلك؛ لأن العرب تستعمل الأمر للطلب الجازم، وهو ما جاء في النصوص الشرعية، فإن قصد به غير ذلك فهو على سبيل المجاز، وإلا فالأصل أنه للوجوب شرعًا (¬1). الدلالات المجازية للأمر: ويدل الأمر عند وجود القرينة على أحد الأمور التالية، بحسب القرينة التي تصرفه من الوجوب إلى غيره، ويكون مجازًا، فمن ذلك: 1 - الندب والاستحباب، مثل قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فالأمر بالمكاتبة مندوبة بقرينة أن المالك حر التصرف في ملكه. 2 - الإرشاد مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، فالأمر بكتابة الدين يدل على مجرد الإرشاد للأحسن وللاحتياط، للقرينة في الآية التالية: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، أي: عند الثقة بالمَدين الأمين فلا حاجة للكتابة؛ لأن اللَّه أمره بأداء الأمانة ولو بدون كتابة. 3 - الإباحة: مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187]، فإنها للإباحة بقرينة أن الأكل أو الشرب تستدعيه الفطرة عند كل مخلوق حي، ومثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، فالأمر بالانتشار والسعي بعد صلاة الجمعة يفيد الإباحة، والقرينة إما عامة، وهي عدم مؤاخذة أو تأثيم من بقي في المسجد بعد الصلاة، وإما خاصة، بأن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة عند بعض المذاهب، أو يعيد الأمر إلى ما كان قبله عند آخرين، والانتشار قبل الصلاة مباح، ثم حظر بسبب صلاة ¬

_ = للآمدي (2/ 144)، شرح تنقيح الفصول ص 127، تفسير النصوص (1/ 241)، المسودة ص 13، علم أصول الفقه ص 194. (¬1) المراجع السابقة.

دلالة الأمر على المرة أو التكرار

الجمعة، ثم عاد إلى أصله، كما سيأتي. 4 - التأديب: كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أم سلمة: "يا غلام! سمّ اللَّه، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يَليك" (¬1)، فالأمر هنا للتأديب بقرينة الحال، وسبب الورود الذي ذكره عمر رضي اللَّه عنه. 5 - الإنذار: مثل قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30]، فهذا إنذار للكفار لكي يتمتعوا في الدنيا وليس لهم نصيب في الآخرة. 6 - الدعاء: كقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147]، فهذا دعاء للَّه تعالى، وهو كثير في القرآن الكريم والسنة الشريفة (¬2). دلالة الأمر على المرة أو التكرار: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن صيغة الأمر موضوعة للطلب على سبيل الإلزام، وأن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، ولكنه يحتمل التكرار إذا وجدت قرينة أحاطت به، فيكون التكرار مستفادًا من القرينة، كأن يكون الأمر معلقًا على شرط هو علة للمأمور به، كقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، فيجب تكرار الطهارة كلما وقعت الجنابة، ومثل قوله تعالى: ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. (¬2) عدد بعض العلماء دلالات الأمر المجازية، وأوصلها إلى ستة وعشرين معنى، منها ما سبق، ويضاف لها: الامتنان، والإكرام، والامتهان، والتكوين، والتعجيز، والإهانة، والتسوية، والتمني، والاحتقار، والخبر، والاعتبار، والتعجب، والتكذيب، والمشورة، وإرادة الامتثال، والإذن، والإنعام، والتفويض، انظر: البحر المحيط (2/ 357)، شرح الكوكب المنير (3/ 43)، نهاية السول (2/ 22)، البناني على جمع الجوامع (1/ 376)، المحصول (2/ 62، 66)، المعتمد (1/ 57)، الإحكام للآمدي (2/ 144)، كشف الأسرار (1/ 107) وما بعدها، أصول السرخسي (1/ 15)، فواتح الرحموت (1/ 373)، شرح تنقيح الفصول ص 127، المسودة ص 5، العدة (1/ 229)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 102، علم أصول الفقه ص 195، إرشاد الفحول ص 94، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 219).

دلالة الأمر على الفور أو التراخي

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فيتكرر الوضوء لأنه شرط للصلاة المتكررة، وقد يكون الأمر مرتبطًا بثبوت وصفط هو علة للمأمور به، كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فيجب تكرار الصلاة كلما أصبحت الشمس في كبد السماء، وقد يكون الأمر مرتبطًا بسبب فيتكرر كلما تكرر السبب، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فيتكرر الجلد كلما تكرر سببه وهو الزنا، لأن الشرع علَّق الحكم على وجود علته أو سببه. فإن لم توجد قرينة فلا يدل الأمر على التكرار، لإجماع أهل العربية على أن هيئة الأمر لا تدل إلا على مجرد الطلب في المستقبل (¬1). دلالة الأمر على الفور أو التراخي: المقصود من كون الأمر للفور أن يبادر المكلف لامتثال الأمر وتنفيذه دون تأخير، مع وجود الإمكان، فإن تأخر عن الأداء كان مؤاخذًا. والمقصود بالتراخي أنه يجوز للمكلف أن يمتثل الأمر حالًا، ويجوز له التأخير إلى وقت آخر. فإن ورد الأمر مقيدًا بوقت فيجب الالتزام بامتثاله في ذلك الوقت كصيام رمضان، وإن كان الوقت موسعًا فيصح في أوله وأوسطه وآخره، وإذا ورد الأمر مقيدًا بجواز التأخير فهو على التراخي باتفاق، ولكن اختلف العلماء إذا ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 25)، تيسير التحرير (1/ 351)، الإحكام للآمدي (2/ 155)، نهاية السول (2/ 43)، البحر المحيط (2/ 385)، الإحكام لابن حزم (1/ 319)، شرح تنقيح الفصول ص 130، المستصفى (2/ 2)، فواتح الرحموت (1/ 380)، العضد على ابن الحاجب (2/ 81)، التلويح على التوضيح (2/ 69)، مختصر البعلي ص 10، نزهة الخاطر (2/ 78)، شرح الكوكب المنير (3/ 45)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 224)، أصول الأحكام ص 314، المسودة ص 20، المدخل إلى مذهب أحمد ص 102، المحصول (2/ 57)، علم أصول الفقه ص 195.

الأمر بالشيء نهي عن ضده

ورد الأمر غير مقيد بوقت معين، فهل يدل على الفور أم على التراخي؟ اختلفوا على ثلاثة أقوال، وذهب الجمهور إلى أن الأمر بمجرده لا يقتضي فورًا ولا تراخيًا؛ لأن الأمر نفسه يدل على مجرد طلب الفعل، ومتى أتى به المكلف عدَّ ممتثلًا سواء كان إتيانه له فورًا أم متراخيًا، وإن الفورية والتراخي تعلم بدليل آخر أو بقرينة، وليس من الأمر ذاته، كقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، فهو صريح في الفورية والمبادرة إلى فعل الخير المطلوب، أما الأمر المطلق فقد ورد في الشرع مع الفور، وورد مع التأخير، ولأن الأمر نفسه يصح تقييده بالفور وبالتراخي، مما يدل على أنه غير دال بمطلقه على واحد منهما، فيكون الأمر حقيقة في القدر المشترك، وهو طلب الإتيان به (¬1). وظهر اختلاف بين الفقهاء في التطبيق، في كون الأمر للفور أو للتراخي، حتى في المذهب الواحد يختلف الحكم من فرع إلى آخر، والسبب في الحقيقة في وجود القرائن والأدلة الأخرى التي ترجح هذا أو ذاك. فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فأداء الحج على الفور عند المالكية والحنابلة، وعلى التراخي عند الحنفية والشافعية، وقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فأداء الزكاة على الفور عند المالكية والشافعية والحنابلة، وعلى التراخي عند الحنفية، لكن يجب الإسراع بها إذا غلب على ظن المزكي أنه يموت قبل الأداء، فيفوت الواجب عليه. الأمر بالشيء نهي عن ضده: إن الأمر بالشيء هو نهي عن ضده، لأن المأمور واجب، والواجب لا يتم إلا بترك ضده، لأنه لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فالأمر بإقامة ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 254)، تيسير التحرير (1/ 356)، أصول السرخسي (1/ 26)، المعتمد (1/ 120)، البحر المحيط (2/ 396)، المستصفى (2/ 9)، الإحكام للآمدي (1/ 165)، المحصول (2/ 189)، شرح تنقيح الفصول ص 128، نهاية السول (2/ 55)، المسودة ص 24، 25، مختصر البعلي ص 101، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 224)، شرح الكوكب المنير (3/ 48)، علم أصول الفقه ص 195.

الأمر المقيد

الصلاة نهي عن ضدها، وهو كل ما يتنافى مع الصلاة، فهو نهي عن الأكل، أو الشرب، أو كلام الناس، في الصلاة. ويشترط لكون الأمر نهيًا عن ضده أن يكون الأمر معينًا، فإن كان غير معين أي مخيرًا، كالكفارة في اليمين، فلا يكون الأمر نهيًا عن ضده؛ لجواز أن يفعل الأمر الآخر، كما يشترط أن يكون وقت الأمر مضيقًا، فإن كان موسعًا، فلا يكون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، كالأمر بصلاة الظهر عند الدلوك، فهو ليس نهيًا عن الأكل وغيره في هذا الوقت، فيجوز الأكل والشرب ثم الصلاة (¬1). الأمر المقيد: إذا ورد الأمر مقيدًا بوقت، أو صفة، أو شرط، أو عدد، فإن دلالته تتحدد بهذا القيد. فالأمر المقيد بوقت يتنوع بحسب كون الوقت معينًا كالصيام والصلاة، أو غير معين ككفارة اليمين، وصلة الأرحام، والوقت المعين إما أن يكون وقته مضيقًا كالصيام في رمضان، وإما أن يكون موسعًا كالصلوات الخمس، وسبق بيان ذلك في أنواع الواجب باعتبار ارتباطه بالوقت. والأمر المقيد بعدد فيجب التقيد به كثر العدد أم قل، وبدون زيادة أو نقصان، مثل الصلاة ركعتين خلف المقام، وإطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين، وجلد الزاني غير المحصن مائة جلدة، وجلد القاذف ثمانين جلدة، ودلالة العدد في النص على المعدود قطعية ولا مجال للاجتهاد فيها. والأمر المقيد بالصفة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة 38]، والأمر المقيد بالشرط، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، فإن دل الدليل الخارجي على تأثير الصفة أو الشرط فحكم الأمر المعلق عليه هو التكرار، فكلما تحقق وصف السرقة وجب ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 94)، نهاية السول (2/ 65)، المستصفى (2/ 11)، أصول السرخسي (1/ 45)، شرح تنقيح الفصول ص 129، 144، العضد على ابن الحاجب (2/ 92)، إرشاد الفحول ص 106، شرح الكوكب المنير (3/ 51)، المسودة ص 49.

الأمر بعد الحظر

القطع، وكلما حصلت الجنابة وجب الغسل، لأن الشروط اللغوية تعتبر بمثابة السبب كما مرَّ في مبحث الشرط، وكذا الأوصاف، والحكم يتكرر بتكرر سببه أو تحقق وصفه. فإن دليل الدليل الخارجي أن الوصف ليس له تأثير فلا يرتبط الحكم به، كوصف السائمة في الغنم لا يعتبر وصفًا مؤثِّرًا عند المالكية، وتجب الزكاة على الغنم السائمة والمعلوفة، بينما اعتبر المالكية الوصف في الربيبة (وهي بنت الزوجة) {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} صفًّا مؤثرًا، فلا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في رعاية زوج أمها. وإذا لم يرد دليل على أن الوصف أو الشرط للتكرار فلا يتكرر الأمر المقيد بهما، كما لا يتكرر الأمر المطلق، كما سبق، وهذا رأي الجمهور، وفيه آراء أخرى (¬1). الأمر بعد الحظر: قد يحظر الشرع أمرًا ويحرمه، ثم يأمر به، كتحريم الصيد أثناء الإحرام للحج أو للعمرة، قال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وقوله تعالى؛ {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ثم أمر اللَّه بالاصطياد بعد التحلل، قال تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وحرم اللَّه البيع عند النداء لصلاة الجمعة، فقال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ثم أمر بالانتشار وابتغاء الرزق، ومنه البيع بعد الصلاة، فقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا" (¬2). وقد اختلف الأصوليون في دلالة هذا الأمر بعد الحظر على عدة أقوال، ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 122)، شرح تنقيح الفصول ص 131، أصول السرخسي (1/ 21)، مختصر البعلي ص 103، اللمع ص 10، شرح الكوكب المنير (3/ 68)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 106، البحر المحيط (2/ 388). (¬2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومالك وأحمد والحاكم.

أهمها ثلاثة آراء، وهي: 1 - إن الأمر بعد الحظر للإباحة، بدليل أن معظم الأوامر التي وردت بعض الحظر ثبت لها حكم الإباحة كالأمثلة السابقة، وهو رأي الشافعي والحنابلة وبعض المالكية. 2 - إن الأمر بعد الحظر للوجوب؛ لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب سواء ورد بعد حظر أم لا، لقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، فالقتال واجب باتفاق، وهذا قول الحنفية والشافعية والمالكية، ورد أصحاب القول الأول أن الوجوب هنا لدليل خارجي. 3 - إن الأمر بعد الحظر يرجع إلى الحكم الذي كان قبل الحظر من وجوب أو غيره، والأمر هنا إنما هو لمجرد رفع الحظر الذي سبق، بدليل أن المتتبع للأوامر بعد الحظر يجدها أنها عادت إلى أصل الحكم قبل ورود الحظر، كالبيع، والصيد، والادخار، والقتال؛ لأن الحظر إنما ورد لمصلحة اقتضت ذلك، وهو رأي الكمال بن الهمام. وهذه المسألة نظرية لا يترتب عليها حكم عملي، وإن الراجح هو اعتبار الأدلة الخارجية التي تحدد الحكم (¬1). ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 435)، كشف الأسرار (1/ 120، 121)، تيسير التحرير (1/ 345)، فواتح الرحموت (1/ 379)، نهاية السول (2/ 40)، الإحكام للآمدي (2/ 178)، العضد على ابن الحاجب (2/ 91)، البحر المحيط (2/ 378)، المسودة ص 16، شرح تنقيح الفصول ص 139، مختصر البعلي ص 100، شرح الكوكب المنير (3/ 58) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 222).

المبحث الثاني النهي

المبحث الثاني النهي تعريف النهي وصيغته: النهي: هو طلب الكف عن فعل على جهة الاستعلاء، فالنهي يدل على طلب الامتناع عن فعل من الأفعال بالقول الصادر من جهة تملك ذلك، والنهي يقابل الأمر في كل حاله في النصوص (¬1). وصيغة النهي الحقيقية لا تفعل، وهي الفعل المضارع المسبوق بلا الناهية، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]. وهناك صيغ أخرى للنهي، سبق بيانها في أساليب التحريم، كلفظ النهي في قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور" (¬2)، ولفظ التحريم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير} [المائدة: 3]، ولفظ نفي الحل، كقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]، وصيغة الأمر الدال على الترك، كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 24)، كشف الأسرار (1/ 256)، تيسير التحرير (1/ 374)، المعتمد (1/ 181)، الإحكام، للآمدي (2/ 187)، نهاية السول (2/ 63)، البحر المحيط (2/ 426)، شرح تنقيح الفصول ص 168، مختصر البعلي ص 103، العضد على ابن الحاجب (2/ 95)، فواتح الرحموت (1/ 395)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 105، المسودة ص 80، العدة (2/ 425)، المحصول (2/ 469)، علم أصول الفقه ص 196. (¬2) هذا الحديث أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد.

دلالة النهي وموجبه

الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، وترتيب العقوبة على الفاعل، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]، وغير ذلك من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وجاءت بها السنة النبوية من صيغ تدل على النهي عن الفعل وطلب تركه (¬1). دلالة النهي وموجَبه: إن دلالة النهي حقيقة، وهي موجَبه الأصلي، أنها للتحريم، أي لطلب الترك طلبًا جازمًا، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، فالقتل حرام، ونحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، فالزنا حرام، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} فنكاح المشركة حرام، وفي هذه الحالة لا تحتاج الصيغة إلى قرينة، لأن النهي موضوع لغة للدلالة على طلب الترك على وجه الحتم. ويرد النهي في معان كثيرة، وتكون من قبيل المجاز، وتحتاج إلى قرينة، فمن ذلك: 1 - الكراهة، نحو قوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، فترك الطيبات مكروه، وقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، فإنفاق الرديء مكروه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُمْسِكَنَّ أحدُكم ذكرَه بيمينِه وهو يَبول" (¬2)، فهذا المسك مكروه. 2 - الدعاء، كقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، فهذا النهي يفيد الدعاء للَّه تعالى، ومثله قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. ¬

_ (¬1) المراجع السابقة هامش 1. (¬2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وابن حبان عن أبي قتادة رضي اللَّه عنه مرفوعًا.

دلالة النهي على الفور والتكرار

3 - الإرشاد، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، فالنهي هنا فلإرشاد والتوجيه. 4 - التحقير، كقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131]، فالمقصود بيان حقارة متع الحياة الدنيا إلى جانب ما عند اللَّه من الثواب والأجر. 5 - بيان العاقبة، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، فالمقصود من النهي بيان عاقبة الظالمين. 6 - التأييس، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)} [التحريم: 7]، فالمقصود جعل الكافرين في يأس من رحمة اللَّه لهم، وليس المقصود نهيهم عن الاعتذار. 7 - التهديد، كقول الرئيس لمرؤوسه: لا تطع أمري، فالمقصود تهديده. 8 - الالتماس، كقول الشخص لمن يساويه: لا تفعل، فهو التماس لعدم الفعل. 9 - الشفقة، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تتخذوا الدواب كراسي" (¬1)، فالمقصود الإشفاق على الحيوان (¬2). دلالة النهي على الفور والتكرار: يرى جماهير العلماء أن النهي يقتضي بحقيقته الفور بأن يمتنع المنهي عن المنهي عنه بمجرد صدور النهي، كما يقتضي النهي بحقيقة الدوام، أي ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه أحمد والدارمي. (¬2) المستصفى (1/ 418)، المحصول (2/ 469)، نهاية السول (2/ 62)، فواتح الرحموت (1/ 395)، تيسير التحرير (1/ 375)، البحر المحيط (2/ 428)، الإحكام للآمدي (2/ 187)، التوضيح على التنقيح (2/ 51)، كشف الأسرار (1/ 256)، إرشاد الفحول ص 109، العدة (2/ 426)، تفسير النصوص (2/ 378)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 233)، شرح تنقيح الفصول ص 168، المدخل إلى مذهب أحمد ص 105، علم أصول الفقه ص 196.

دلالة النهي على الفساد أو البطلان

الاستمرار على ترك المنهي عنه؛ لأن فاعل المنهي عنه في أي وقت من الأوقات بعد ورود النهي فاعل لما طلب منه الكف عنه، ولا يعتبر ممتثلًا، ويعد مخالفًا لغة وعرفًا، ويستدل بذلك العلماء بلا نكير، وحكاه بعضهم إجماعًا، فإذا نهى الشارع عن شيء وجبت المبادرة فورًا إلى تركه، وإلى الامتناع عن فعله في جميع الأوقات، حتى يتحقق الامتثال للنهي، ولتجنب المفسدة والضرر الذي كان باعثًا على طلب الكف عنه. وهذا خلاف الأمر؛ لأن الأمر له حد ينتهي إليه، فيقع الامتثال فيه بالمرة، وأما الانتهاء عن المنهي عنه فلا يتحقق إلا باستيعابه في العمر، وعند الاستمرار به يتحقق الكف. ويستثنى من ذلك إذا وردت قرينة تصرف النهي عن الفورية أو الدوام، كالنهي عن شيء في وقت معين، أو إذا كان النهي مقيدًا بصفة أو شرط، فتكون دلالة النهي بحسب القيد، كالنهي عن صوم يوم النحر، فلا يشمل غيره، ولا يقتضي الفورية، ونهي الحائض عن الصلاة لأجل الحيض، وغير ذلك من القرائن التي أشرنا إليها، فإنها تصرف دلالة النهي إلى المعنى المراد منها مجازًا (¬1). دلالة النهي على الفساد أو البطلان: أشرنا سابقًا في مبحث الصحيح وغير الصحيح إلى الفرق بين الفساد والبطلان عند الحنفية، خلافًا للجمهور الذين لا يفرقون بين الفاسد والباطل، وأنهما مترادفان، ومع ذلك يختلف العلماء في أثر النهي في المنهي عنه، مع التفريق بين العبادات والمعاملات، والأمور الحسيّة، والتصرفات الشرعية، وكون النهي ورد على ذات المنهي عنه، أو على صفة من صفاته، أو على ¬

_ (¬1) تيسير التحرير (1/ 376)، المسودة ص 81، مختصر البعلي ص 105، فواتح الرحموت (1/ 406)، البحر المحيط (2/ 2430)، نهاية السول (2/ 63)، العدة (2/ 428)، شرح الكوكب المنير (3/ 96)، شرح تنقيح الفصول ص 168، وما بعدها، المدخل إلى مذهب أحمد ص 105، المحصول (2/ 470، 475)، العضد على ابن الحاجب (2/ 98)، مختصر البعلي ص 105، البناني على جمع الجوامع (1/ 390)، تفسير النصوص (2/ 382)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 235)، علم أصول الفقه ص 196. =

1 - الأمور الحسية

أمر مجاور له، وكون الوصف المنهي عنه لازمًا للموصوف أو غير لازم، وهذا بيان مختصر لذلك. 1 - الأمور الحسية: وهي التي تدرك بالحس، أو لها وجود حسي فقط كالزنى والقتل وشرب الخمر والكفر والغيبة، فلا يتوقف حصولها على الشرع، وتتفق العقول على قبحها، فهذه الأمور اتفق العلماء على أن النهي عنها يدل على الفساد والبطلان، لأن النهي عن فعلها دليل على قبحها في ذاتها، إلا إذا قام دليل على كونها قبيحة لمعنى لا في ذاتها، وإنما لمعنى آخر، كالنهي عن وطء الحائض، فالقرينة اللفظية دلت على أن النهي لما يترتب عليها من الأذى، لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، ولذلك تترتب بعض الأحكام على وطء الحائض، كالحل للزوج الأول في المطلق ثلاثًا، والنسب، وتكميل المهر، والإحصان، وغيره. 2 - التصرفات الشرعية والنهي عن المحل: التصرفات الشرعية هي التي لا تعرف إلا عن طريق الشرع، فإذا كان النهي متوجهًا إلى المحل، سواء كان عقدًا أو عبادة، فاتفق العلماء على أن النهي يدل على الفساد والبطلان معًا، بمعنى أن التصرف (عبادة أو عقدًا) يعتبر معدومًا ولا يترتب عليه أثر، كالنهي عن بيع الجنين في بطن أمه، والنهي عن بيع الميتة، والنهي عن بيع الزرع قبل وجوده، والنهي عن بيع ما ليس عنده، لأن المحل معدوم، والعقد لا يقوم إلا بالمحل، والنهي عن الصلاة والصيام والحج إذا فقد ركن من أركانها، أو شرط من شروطها. 3 - التصرفات الشرعية والنهي عن أمر مقارن غير لازم: إذا كان النهي مقترنًا بما يدل على أنه كان لأمر مقارن للعمل، ولكنه غير لازم له، لأنه قد ينفك عنه، ولا يرتبط به باستمرار، كالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، أو بالثوب المغصوب، أو المسروق، أو بماء مغصوب، والذبح بسكين مغصوبة، والنهي عن البيع وقت الأذان لصلاة الجمعة ونحوه، فالنهي ليس واردًا على ذات الشيء، ولا إلى صفة من صفاته بل إلى

أمر خارج عنه، وهنا اختلف العلماء على دلالة النهي على قولين: القول الأول: هذا النهي لا يفيد بطلان العمل، ولا فساده، ويبقى صحيحًا في الواقع، وتترتب عليه آثاره المقصودة منه، ولكنه حرام (أي فيه إثم) عند الأكثرين، ومكروه تحريمًا عند الحنفية، لمخالفته توجيه المشرع. واستدلوا على ذلك بأن النهي لا يرجع إلى المنهي عنه كالصلاة والذبح، ولأن النهي غير لازم للتصرف الشرعي كالصلاة والذبح، فالجلوس في الدار المغصوبة في غير الصلاة ممنوعة، واستخدام السكين المغصوبة حرام في الذبح وغيره، والانشغال عن صلاة الجمعة حرام سواء كان بالبيع أو بغيره، فالنهي لا يرجع إلى المنهي عنه بذاته فلا يؤثر فيه، كما سبق الكلام على النهي عن الوطء في الحيض، ولذلك يصح البيع وقت النداء، وينتج آثاره، وإن أثم فاعله، وهذا قول الجمهور. القول الثاني: وهو قول الحنابلة والظاهرية، فقالوا: إن النهي هنا يقتضي بطلان المنهي عنه، وعدم ترتيب الآثار عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬1)، ولاستدلال الصحابة رضوان اللَّه عليهم ببطلان التصرفات المنهي عنها مطلقًا، ولو لوصف غير لازم، فابن عمر رضي اللَّه عنهما استدل على فساد نكاح المشركات وبطلانه بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221]، واستدل الصحابة على فساد عقود الربا بقول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل ... الحديث" (¬2)، وفساد نكاح المُحْرِم بالنهي عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنكح المُحْرِم، ولا يُنكح" (¬3)، ولأن نهي الشرع عن تلك الأمور يقتضي عقلًا اشتراط خلوها مما ارتبط بها، وإلا لم تكن مشروعة. ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه البخاري معلقًا، ورواه في كتاب "خلق أفعال العباد" ورواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. (¬2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومالك والشافعي والبيهقي عن عبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنهما مرفوعًا بألفاظ مختلفة. (¬3) هذا الحديث رواه مسلم وأصحاب السنن ومالك وأحمد والدارمي وغيره.

4 - التصرفات الشرعية مع النهي عن وصف لازم لها

4 - التصرفات الشرعية مع النهي عن وصف لازم لها: أي إن الوصف لا ينفك عنها، لارتباطهما الوثيق، كالنهي عن صوم أيام العيد، والبيع المشتمل على الربا أو على شرط فاسد، والنهي عن بيع المجهول، أو كون الثمن خمرًا، فاختلف العلماء في هذه الصور على قولين: القول الأول: إن هذا النهي يقتضي شرعًا -لا لغة- فساد المنهي عنه أو بطلانه، وهما بمعنى واحد، وأنه لا يترتب عليه أثر، سواء كان المنهي عنه عبادة أو معاملة، وهذا رأي الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة. والظاهرية، واستدلوا بأدلة الحنابلة والظاهرية السابقة في الحديث، وعمل الصحابة، والمعقول. القول الثاني: وهو رأي الحنفية الذين يفرقون بين الفاسد الذي تترتب عليه بعض الآثار، والباطل الذي لا تترتب عليه الآثار، وقالوا: إن النهي (هنا) يقتضي فساد الوصف فقط، ويبقى أصل العمل مشروعًا، ويرتبون عليه بعض الآثار؛ لأن أصل العمل مشروع وهو الصوم، والبيع، وأن المخالفة راجعة إلى وصف مكمل للعمل مع سلامة حقيقته بوجود ركنه (وهو الإيجاب والقبول) ومحله المعقود عليه، وتتحقق فيه مصلحة على وجه ما، فيكون فاسدًا لا باطلًا، ويمكن إزالة سبب الفساد بعدئذ، ولذلك عرفوا الفاسد بأنه مشروع بأصله لا بوصفه، وأن النهي عن الوصف يفيد المعصية فقط مع صحة التصرف في المعاملات لا في العبادات (¬1). ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 24)، المحصول (2/ 486)، نهاية السول (2/ 63)، الإحكام للآمدي (2/ 188)، البحر المحيط (2/ 439)، تيسير التحرير (1/ 376)، أصول السرخسي (1/ 80، 82)، فواتح الرحموت (1/ 396)، التوضيح على التنقيح (2/ 223)، كشف الأسرار (1/ 257، 258)، العضد على ابن الحاجب (2/ 95)، المعتمد (1/ 184)، المسودة ص 80، 83، مختصر البعلي ص 104، شرح الكوكب المنير (3/ 84) وما بعدها، العدة (2/ 432)، إرشاد الفحول ص 110، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 236) وما بعدها، أصول الأحكام ص 318.

فائدة: ميزات الأمر عن النهي

فائدة: ميزات الأمر عن النهي: بيَّن الزركشي رحمه اللَّه تعالى ما يمتاز به الأمر عن النهي، فقال: "فيما يمتاز به الأمر والنهي هو أن الأمر المطلق يقتضي فعل مرة على الأصح، والنهي يقتضي التكرار على الدوام. والنهي لا يتصف بالفور والتراخي مع الإطلاق، والأمر يتصف بذلك على الأصح. والنهي لا يقتضي إذا فات وقته المعين بخلاف الأمر. والنهي بعد الأمر بمنزلة النهي ابتداء قطعًا على الطريقة المشهورة، وفي الأمر خلاف. وفي تكرار النهي يقتضي التأكيد بخلاف تكرار الأمر على أحد الوجهين. والأمر يقتضي الصحة بالإجماع، والنهي يدل على فساد المنهي عنه على أحد الوجهين. والنهي المعلق على شرط يقتضي التكرار بخلاف الأمر المعلق على شرط على الأصح. قال ابن فورك: ويفترقان في أن النهي عن الشيء ليس أمرًا بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان على طريق الإيجاب، وفي أنه إذا نهي عن أشياء بلفظ التخيير لم 4 يجز له فعل واحد منها، كقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)} [الإنسان: 24] " (¬1). ¬

_ (¬1) البحر المحيط (2/ 456).

المبحث الثالث المطلق

المبحث الثالث المطلق تعريف المطلق: المطلق لغة: مأخوذ من معنى الانفكاك من القيد، وفي الاصطلاح: هو اللفظ الخاص الذي يتناول واحدًا غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه، فالمطلق لفظ يدل على فرد شائع، أو أفراد شائعة، وليس مقيدًا بصفة من الصفات، مثل رجل، ورجال، وكتاب، وامرأة، وطالب، وليس المقصود من اللفظ العموم، أو الاستغراق كالإنسان، وإنما المقصود الحقيقة بحسب حضورها في الذهن، والمطلق مساوٍ للنكرة ما لم يدخلها عموم، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فيتناول لفظ "الرقبة" واحدًا غير معين من جنس الرقاب، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي" (¬1)، فلفظ "الولي" يتناول واحدًا غير معين من جنس الأولياء، ويقابل المطلقَ المقيدُ، كما سيأتي (¬2). حكم المطلق: إن المطلق يجري على إطلاقه، ويتناول كل فرد شائع في جنسه على طريق البدلية، ويبقى كذلك حتى يرد دليل يخرجه عن الشيوع بقيد يحد من إطلاقه، فالمثال السابق {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، يدل على إجزاء المؤمنة والكافرة، والولي مطلق فيشترط واحد من الأولياء، ومثل قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23]، يشمل أم الزوجة سواء دخل بها ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والدارمي والحاكم عن عدد من الصحابة. (¬2) شرح الكوكب المنير (3/ 392)، المحصول (2/ 521)، الإحكام للآمدي (3/ 3)، كشف الأسرار (2/ 286)، حاشية البناني على جمع الجوامع (2/ 44)، فواتح الرحموت (1/ 360)، العضد على ابن الحاجب (2/ 155)، شرح تنقيح الفصول ص 266، المسودة ص 147، إرشاد الفحول ص 164، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 208)، أصول الأحكام ص 293.

الزوج أم لم يدخل، وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، يدل على جواز التزوج على أي مهر، دون تقييد بمقدار معين، مما يطلق عليه اسم المال، سواء كان قليلًا أو كثيرًا. ويرد المطلق في سياق الخبر كالحديث السابق، وفي سياق الأمر كتحرير الرقبة. فإن ورد الأمر مطلقًا، كقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} [النساء: 11]، ثم دل الدليل على تقييده، حمل المطلق على المقيد، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص عندما استشاره في الوصية فقال له: "الثلث، والثلث كثير" (¬1)، فتقيدت الوصية شرعًا بالثلث (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬2) المراجع السابقة ص 141 هـ 2.

المبحث الرابع المقيد

المبحث الرابع المقيد قد يرد اللفظ مقترنًا بوصف أو شرط أو إشارة ونحوها، فيكون مدلوله مقتصرًا على بعض أنواعه، وهذا هو المقيد، وقد يرد اللفظ مطلقًا في نص، ثم يستعمل في نص آخر مقيدًا، ففي هذه الحالة يدرس العلماء حمل المطلق على المقيد، أو عدم حمله، حسب الحالات والصور، ويترتب على التقييد أحكام، وعلى حمل المطلق على المقيد أو عدم حمله أحكام، وهو موضوع هذا المبحث. تعريف المقيد: المقيد: هو اللفظ الخاص الذي تناول فردًا معينًا بالوضع أو بقيد خارجي يخرجه عن الشيوع. مثال الأول قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فزيد علم يدل على شخص معين. ومثال الثاني قوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]، فالآية أوجبت صوم شهرين، ثم قيدتهما بالتتابع بوصف {مُتَتَابِعَيْنِ} وقيدتهما بالوقت {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، وهكذا مثل: هذا الرجل، والمرأة العفيفة، والطالب الممتاز، فاللفظ خاص قُيّد بما يقلل شيوعه، لذلك فإن المقيد هو لفظ مطلق لحقه قيد من القيود فأخرجه عن الإطلاق إلى التقييد، وتتفاوت المراتب في تقييد المطلق باعتبار قلة القيود أو كثرتها، فما كثرت قيوده أعلى رتبة مما قلت قيوده. وقد يجتمع الإطلاق والتقييد في لفظ واحد باعتبارين، فيكون اللفظ مطلقًا من وجه، ومقيدًا من وجه، كقوله تعالى: {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، فهي مقيدة من حيث الدِّين بالإيمان، فتتعين المؤمنة للكفارة، وهي مطلقة فيما سوى الإيمان كالذكورة والأنوثة وكمال الخلقة والطول والبياض ..

حكم المقيد

وأضدادها (¬1). والتقييد تارة يكون في الأمر كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صُمْ شهرين متتابعين" (¬2)، وتارة يكون في الخبر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (¬3). حكم المقيد: إذا ورد النص مقيدًا فيجب العمل به مقيدًا، ولا يصح أن يهمل القيد، إلا إذا دلَّ دليل على إلغاء القيد. ومثال الحكم الأصلي قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4]، فقد ورد الأمر بالصوم مقيدًا بتتابع الشهرين، وبكونه قبل العودة إلى التماس والاستمتاع بالزوجة التي ظاهر منها، فيجب العمل على التقيد بهذين القيدين، ولا يجزئ تفريق الصيام، ولا كونه بعد التماس، ومثله تحريم الدم المسفوح في قوله تعالى: {إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فالدم المحرم مقيد بكونه مسفوحًا، أما الدم الجامد كالكبد والطحال فليس بمحرم. ومثال الاستثناء في إلغاء القيد قوله تعالى في بيان المحرمات في النكاح من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فاشتراط كون الربائب في الحجور أي في رعاية الزوج وتربيته لا يعمل به؛ لأنه ذكر في الآية بناء على العرف الغالب من الأحوال، وهو كون الربيبة (وهي بنت الزوجة) غالبًا مع أمها في بيت الزوج، والنتيجة أن الربيبة محرمة ولو كانت في ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (1/ 360)، كشف الأسرار (2/ 286)، الإحكام للآمدي (3/ 4)، شرح الكوكب المنير (3/ 393)، ابن الحاجب (2/ 155)، شرح تنقيح الفصول ص 266، إرشاد الفحول ص 164، روضة الناظر ص 260، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 209)، أصول الأحكام ص 294. (¬2) هذا جزء من حديث من أفسد صومه بالجماع في رمضان، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود ومالك وأحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬3) هذا الحديث أخرجه البيهقي وابن حبان عن عائشة وابن عباس رضي اللَّه عنهم مرفوعًا، وعن عمر رضي اللَّه عنه موقوفًا.

حمل المطلق على المقيد

غير بيت الزوج (¬1). حمل المطلق على المقيد: معناه بيان المقيد للمطلق، أو تقييد المطلق بالمقيد، وذلك إذا ورد نصان أحدهما مطلق والثاني مقيد، فاتفق العلماء على جواز حمل المطلق على المقيد في حالات، ومنعه في حالات، ولكن عند حمل المطلق على المقيد اختلفوا في صوره وشروطه. والإطلاق والتقييد إما أن يكونا في سبب الحكم أو في الحكم، فهاتان حالتان أساسيتان، وإذا كان في الحكم فله أربع صور، وهذا هو التفصيل. الحالة الأولى: الإطلاق والتقييد في سبب الحكم: مثاله: حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: "فرض رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين"، وفي رواية أخرى لم يذكر فيها "من المسلمين" (¬2). فالحكم واحد في النصين، وهو وجوب زكاة الفطر، ولكن وقع الإطلاق والتقييد في سبب الحكم، وهو الشخص الذي ينفق عليه المزكي كالخادم، ففي النص الأول ورد مقيدًا "من المسلمين" وفي النص الثاني ورد مطلقًا عن هذا القيد، واختلف العلماء في حمل المطلق على المقيد هنا على قولين: القول الأول: لا يحمل المطلق على المقيد، ويعمل بكل من النصين، فيجب على المسلم أداء زكاة الفطر على من ينفق عليه المتصدق، ولو كان غير مسلم كالزوجة والخادم، عملًا بالنص الثاني المطلق، كما يجب عليه أداء زكاة الفطر على من ينفق عليه إن كان مسلمًا عملًا بالنص الأول، فالمطلق سبب لوحده، والمقيد سبب لوحده، لإمكان العمل بكل منهما، وعدم تحقق التنافي، ويمكن أن يكون للحكم أسباب كثيرة، كثبوت الملك بسبب الإرث والوصية والبيع والهبة وإحياء الموات. ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 209)، أصول الأحكام ص 295. (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد.

الحالة الثانية: الإطلاق والتقييد في نفس الحكم

القول الثاني: يحمل المطلق على المقيد في النصين، ولا تجب زكاة الفطر إلا على من ينفق عليه المتصدق إذا كان من المسلمين، فإن كانت الزوجة أو الخادم غير مُسْلِمَيْن فلا تجب زكاة الفطر، ويكون الإسلام شرطًا فيها؛ لأن الإطلاق والتقييد في شيء واحد، فلا يقبل أن يكون مطلقًا ومقيدًا في آن واحد للتنافي بينهما، ويجعل أحدهما أصلًا ويبنى الآخر عليه، بأن يكون المقيد أصلًا ليكون للقيد فائدة، ويبنى المطلق عليه. وهذا هو الراجح؛ لأن الخطاب للمسلمين، وأن زكاة الفطر عبادة فلا تجب بسبب غير المسلم، ولأن العقل واللغة يؤيدان ذلك (¬1). الحالة الثانية: الإطلاق والتقييد في نفس الحكم: وهذه الحالة فيها تفصيل، فإما أن يتحد الحكمان والسببان في النصين، وإما أن يختلف الحكمان ويختلف السببان، وإما أن يتحد الحكمان ويختلف السببان، وإما أن يختلف الحكمان ويتحد السببان، فلها أربع صور (¬2)، وهي: الصورة الأولى: اتحاد الإطلاق والتقييد في الحكم والسبب: اتفق العلماء في هذه الصورة على حمل المطلق على المقيد؛ لأن المقيد فيه زيادة مفيدة، ولا تتنافى مع النص المطلق، ومن عمل بالمقيد عمل بالمطلق، ولا عكس، فكان الجمع أولى، ولأنه لا يصح أن يختلف المطلق والمقيد مع اتحاد السبب والحكم. ¬

_ (¬1) ومثاله أيضًا إطلاق كلمة الغنم في حديث ابن عمر رضي اللَّه عنه مرفوعًا: "وفي الغنم في أربعين شاةً شاة" رواه أبو داود، ووردت مقيدة في حديث أنس رضي اللَّه عنه مرفوعًا: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة" رواه البخاري وأبو داود والنسائي، والسائمة التي ترعى وتكتفي بالرعي في أكثر العام، فاتحد سبب وجوب زكاة الغنم وهو أربعون شاة، واتحد الحكم وهو وجوب شاة، وحمل الجمهور المطلق على المقيد، واشترطوا في الزكاة السوم، خلافًا للمالكية، فلم يشترطوا ذلك انظر: أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 211، 212). (¬2) وفصل بعض العلماء بين الإثبات والنفي، وبين الأمر والنهي، انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 396) وما بعدها.

الصورة الثانية: الاختلاف في الحكم والسبب

مثاله: قوله تعالى في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، وفي آية أخرى في التيمم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، فالسبب واحد وهو إرادة الصلاة، والحكم واحد وهو وجوب المسح، والآية الأولى فيها إطلاق للممسوح به وهو التراب مطلقًا (طاهرًا أو نجسًا)، والآية الثانية مقيدة بالصعيد الطيب (أي التراب الطاهر) فيحمل المطلق على المقيد، ويجب مسح الوجه والكفين بالتراب الطاهر، لا النجس (¬1). الصورة الثانية: الاختلاف في الحكم والسبب: إذا ورد نصان أحدهما مطلق، والآخر مقيد، ولكن بينهما اختلاف في السبب، وفي الحكم، فلا يحمل المطلق على المقيد باتفاق العلماء؛ لعدم الصلة بينهما، فلا يحمل أحدهما على الآخر قطعًا. مثاله: قوله تعالى في قطع يد السارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله تعالى في الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، فالسبب مختلف في الآيتين: السرقة، وإرادة الصلاة ورفع الحدث، والحكم مختلف، ففي الأولى قطع يد السارق، وفي الثانية: غسل اليد، فلا يحمل المطلق على المقيد، وخاصة أن السنة الشريفة حددت موضع قطع يد السارق من الرسغ (نهاية الكف). ومثاله: قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ¬

_ (¬1) ومثال آخر: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، وقوله سبحانه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فالسبب واحد وهو وجود الضرر في الدم، والحكم متحد وهو حرمة تناول الدم، والنص الأول مطلق "والدم" والنص الثاني مقيد "دمًا مسفوحًا" فيحمل المطلق على المقيد، ويكون الدم المحرم هو المسفوح، أما الباقي في العروق واللحم فهو مباح معفو عنه، وكذلك الدم الجامد وهو الكبد والطحال فهما حلالان. انظر: أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 213)، أصول الأحكام ص 294.

الصورة الثالثة: الاختلاف في الحكم، واتحاد السبب

شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، وقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]، فالسبب مختلف، وهو القتل، والحنث في اليمين، والحكم مختلف: شهرين، ثلاثة أيام، وورد الصيام الأول مقيدًا بالتتابع، والثاني مطلقًا عن التتابع، فلا يحمل المطلق على المقيد، إلا أن الحنفية اشترطوا التتابع في صيام كفارة اليمين بقراءة ابن مسعود الشاذة: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}. الصورة الثالثة: الاختلاف في الحكم، واتحاد السبب: وذلك بأن يكون سبب الحكم في المطلق هو سبب الحكم في المقيد، ولكن الحكم في المقيد غير الحكم في المطلق، فاتفق أكثر العلماء على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، ويعمل بكل منهما على حدة، إلا إذا قام دليل آخر يدل على الحمل؛ لأنه لا تنافي في الجمع بينهما عند الدليل كالسنة مثلًا. مثاله: قوله تعالى في الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، فالسبب متحد وهو الحدث وإرادة الوضوء، والحكم مختلف، وهو الغسل في الوضوء، والمسح في التيمم، ولفظ الأيدي مقيد بالمرافق في الوضوء، ومطلق في التيمم، فلا يحمل المطلق على المقيد، ويعمل بكل منهما، ويبقى مسح الأيدي في التيمم مطلقًا. لكن لجأ الفقهاء إلى السنة، فقال الحنفية والشافعية: يجب مسح الأيدي في التيمم إلى المرافق؛ لما روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" (¬1)، فيجب مسح اليدين في التيمم إلى المرفقين. وقال المالكية والحنابلة: الواجب مسح الكفين فقط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر عمار بن ياسر بالتيمم للوجه والكفين" (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الدارقطني والحاكم وصححه والبيهقي. (¬2) هذا الحديث رواه الترمذي وصححه، والدارقطني.

الصورة الرابعة: الاتحاد في الحكم، والاختلاف في السبب

الصورة الرابعة: الاتحاد في الحكم، والاختلاف في السبب: فالحكم في النصين واحد، ولكن سبب كل منهما مختلف، مثل قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقوله تعالى في كفارة القتل الخطأ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، فالحكم واحد وهو الكفارة بعتق رقبة، والسبب في الأولى إرادة العودة إلى الاستمتاع بالزوجة، وفي الثانية القتل الخطأ، والرقبة في الأولى مطلقة فتصح الرقبة المؤمنة والكافرة، وفي الثانية مقيدة فيشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، وفي هذه الصورة اختلف العلماء على قولين. القول الأول: لا يحمل المطلق على المقيد؛ لأنه لا تعارض بينهما، ولأن اختلاف السبب يمنع وجود التعارض، وقد تكون الحكمة في القتل الخطأ التغليظ على القاتل لزجره فيجب عليه رقبة مؤمنة، والحكمة في الظهار التخفيف والتيسير والحفاظ على الزوجية وخفة مفسدته إذا قورن بالقتل، فيكفي المظاهر أن يعتق رقبة مطلقة، وهذا يتناسب مع اختلاف العقوبات عند اختلاف الجنايات، وهو الواقع في الشرع والقانون، والحكمة والعقل، وهذا قول الحنفية وأكثر المالكية. القول الثاني: يحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة، ويجب عتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل الخطأ وكفارة الظهار؛ لأن اتحاد الحكم في النصين يقتضي حمل المطلق على المقيد، حتى يتم الانسجام بين النصوص الواردة في شيء واحد؛ لأن القرآن كله كالكلمة الواحدة في بناء بعضه على بعض، فإذا اشترط الإيمان في كفارة القتل الخطأ كان ذلك كالنص على اشتراطه في كفارة الظهار، ولأن الآخذ بالقيد في كفارة الظهار يكون مطبقًا للدليل في النصين معًا، فيجب المصير إليه، وهذا قول الشافعية والحنابلة وبعض المالكية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في حمل المطلق على المقيد وعدمه في الحالات والصور السابقة في: نهاية السول (2/ 140)، المحصول (2/ 214)، الإحكام للآمدي (3/ 4)، المستصفى =

تنبيه

تنبيه: هذه القواعد والأحكام تطبق على النصوص الشرعية، وعلى النصوص التشريعية في كل بلد على حدة، بحيث يمثل القانون وحدة متكاملة في نصوصه، كما تمثل القوانين ذات الصلة مجموعة متكاملة، ويجب أن تفهم نصوصها بحسب الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والأمر والنهي، والمطلق والمقيد، وحمل المطلق على المقيد بقيوده وشروطه؛ لأن هذه القواعد تضبط دلالات الألفاظ، وتبين المنهج السديد لمعرفة الأحكام منها. وهذه الصيغ (الأمر والنهي، والمطلق والمقيد) هي أنواع للفظ الخاص ويقابله العام والمشترك، وهما موضوع الفصل التالي. ¬

_ = (2/ 185)، البناني على جمع الجوامع (2/ 57)، كشف الأسرار (2/ 287)، فواتح الرحموت (1/ 361)، التلويح على التوضيح (1/ 63)، المعتمد (1/ 312)، شرح الكوكب المنير (3/ 395)، العدة (2/ 636)، روضة الناظر ص 366، إرشاد الفحول ص 166، العضد على ابن الحاجب (2/ 156)، شرح تنقيح الفصول ص 269، أصول السرخسي (1/ 267)، علم أصول الفقه ص 192.

الفصل الثالث دلالة اللفظ لغة علي المعنى باعتبار الشمول وعدمه

الفصل الثالث دلالة اللفظ لغة علي المعنى باعتبار الشمول وعدمه يوضع اللفظ في اللغة للدلالة على الأشخاص والأشياء، فإن وضع للدلالة على معنى واحد منفرد، أو على جمع محصور، فهو اللفظ الخاص، وإن وضع لمعنى متعدد بوضع واحد على جميع أفراد، على سبيل الشمول والاستغراق، فهو العام، وإن وضع لمتعدد بوضع متعدد فهو المشترك. ولذلك ينقسم اللفظ باعتبار دلالته لغة على المعنى باعتبار الشمول وعدمه، والوضع الواحد والمتعدد إلى ثلاثة أقسام، هي: العام، والخاص، والمشترك. واللفظ العام كثيرًا ما يراد منه الخاص، ويسمى تخصيص العام، كما قد يطلق العام ويراد به الخاص والعكس، واتفق العلماء على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة (¬1). وهذا ما ندرسه في هذا الفصل، ونقسمه إلى ثلاثة مباحث: العام، الخاص، المشترك. ¬

_ (¬1) نهاية السول (2/ 68).

المبحث الأول العام

المبحث الأول العام تعريف العام: العامة لغة من العموم وهو الشمول والإحاطة، سواء كان باللفظ كالرجال، أو بغيره، كقولهم: عم الخير إذا أحاط وشمل. والعام اصطلاحًا: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، مثل الرجال، فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له من الأفراد الذكور، ولفظ "كل عقد" في قول الفقهاء: "كل عقد يشترط لانعقاده أهلية المتعاقدين" فهو لفظ عام يدل على شمول كل ما يصدق عليه أنه عقد من غير حصر في عقد معين، أو عقود معينة (¬1)، وغير ذلك من ألفاظ العموم التي سنذكرها. ألفاظ العموم وصيغه: وضع العرب ألفاظًا كثيرة، وصيغًا متعددة تفيد العموم، وهي بحسب الاستقراء ما يلي: 1 - المفرد المعرف بأل الاستغراقية (أل الجنس)، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ...} [النور: 2]، فإن لفظ {السارق} ولفظ {الزاني} يفيد العموم، ويشمل كل سارق، وكل زان، ومثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ¬

_ (¬1) هذا تعريف الرازي في المحصول (2/ 513)، وانظر تعريفات أخرى في: نهاية السول (2/ 68)، المستصفى (2/ 32)، المعتمد (1/ 203)، الإحكام للآمدي (2/ 195)، أصول السرخسي (1/ 125)، فواتح الرحموت (1/ 255)، العضد على ابن الحاجب (2/ 99)، المعتمد (1/ 203)، التوضيح على التنقيح (1/ 193)، شرح تنقيح الفصول ص 38، تيسير التحرير (1/ 190)، الروضة (2/ 220)، العدة (1/ 140)، المسودة ص 574، شرح الكوكب المنير (3/ 101)، إرشاد الفحول ص 112، أصول الأحكام ص 272، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 243)، علم أصول الفقه ص 181.

وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فإن يشمل كل بيع وكل ربا، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَطْل الغني ظلمٌ" (¬1)، يعم كل غني. فإذا قام دليل على أن (أل) للعهد، أو لتعريف الماهية، فإن المفرد المعرف بها لا يكون عامًّا، كقوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]، فكلمة الرسول للعهد، وكما في قولهم: الفرس خير من الحمار، أي: جنس الفرس، فالتفضيل باعتبار الجنس، لا باعتبار استغراق الأفراد. 2 - المفرد المعرف بالإضافة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - عن البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" (¬2)، فلظ "ميتته" تفيد العموم، فيحل كل أنواع ميتات البحر. 3 - الجمع المعرف بأل، مثل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7]، فلفظ (الوالدات) يشمل كل والدة، ولفظ (الوالدان) يشمل كل أب وأم. 4 - الجمع المعرف بالإضافة، كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، فلفظ {أَوْلَادِكُمْ} يفيد العموم، ومثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، فكلمة {أَمْوَالِهِمْ}، تفيد العموم. 5 - النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، مثال الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضررَ ولا ضرار" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لوارث" (¬4)، ومثال الثاني قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، ومثال الثالث قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فكلمة: ضرر، وصية، قوم، ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬2) هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬3) هذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس وعبادة، والحاكم والدارقطني والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعًا. (¬4) هذا جزء من حديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد والبيهقي عن عمرو بن خارجة وغيره مرفوعًا.

فاسق، تفيد العموم. 6 - الأسماء الموصولة، مثل: من، ما، الذين، اللاتي، وأولات، كما في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4]، وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. 7 - أسماء الشرط، مثل من، ما، أي، أيُّما، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272]، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" (¬1). 8 - أسماء الاستفهام، مثل: من، وما، ومتى، وماذا، وأين، كما في قوله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)} [الأنبياء: 59]، {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31]، {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214]، {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 37]. 9 - ألفاظ الجموع، مثل: كل، وجميع، ونحوهما، ومعشر، وعامة، وكافة، وقاطبة، ونحوها، مثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)} [القمر: 44]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (¬2). والأصل في التشريع والأحكام العموم، ولذلك ورد الخطاب كثيرًا موجهًا ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي اللَّه عنها مرفوعًا. (¬2) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد (2/ 463) بهذا اللفظ، ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي بلفظ آخر. =

حكم اللفظ العام

إلى الناس، الذين آمنوا (¬1)، وكذلك النصوص القانونية تأتي بصيغ العموم لتكون عامة تشمل الجميع. ومعيار العموم صحة الاستثناء فيه من غير عدد، فإن قبل اللفظ الاستثناء منه كان عامًّا (¬2). حكم اللفظ العام: اتفق العلماء على أن كل لفظ من ألفاظ العموم السابقة موضوع لغة لاستغراق جميع ما يصدق عليه من الأفراد، وهو الشمول والاستغراق. وقال العلماء: إذا ورد العام في نص شرعي دل على ثبوت الحكم المنصوص عليه لكل ما يصدق عليه من الأفراد إلا إذا قام دليل تخصيص على الحكم ببعضها، وهو قول جماهير العلماء، ويسمى مذهبهم مذهب أرباب العموم، واستدلوا على ذلك بادلة من القرآن، والسنة، والإجماع، والمعقول. 1 - القرآن: قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91]، فدلت كلمة {بَشَرٍ} وكلمة {شَيْءٍ} على العموم والشمول، بدليل الرد عليهم بإنزال الكتاب على موسى - عليه السلام -. 2 - السنة: ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يوجه أصحابه إلى الأقطار، ويأمرهم بالعمل بما عرفوا من الكتاب والسنة من عموم، ولا يأمرهم بالبحث عن ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 155)، كشف الأسرار (2/ 5)، التلويح على التوضيح (1/ 163)، نهاية السول (2/ 78)، المحصول (2/ 517)، الإحكام للآمدي (2/ 197)، المعتمد (6/ 201)، العضد على ابن الحاجب (2/ 102)، شرح تنقيح الفصول ص 199، المسودة ص 100، الروضة (2/ 222)، شرح الكوكب المنير (3/ 119) وما بعدها، إرشاد الفحول ص 117، علم أصول الفقه ص 182، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 245)، أصول الأحكام ص 273. (¬2) نهاية السول (2/ 82)، البناني على جمع الجوامع (1/ 417)، شرح الكوكب المنير (3/ 153)، مختصر البعلي ص 109.

دلالة العام

مخصص، أو الانتظار حتى يرد المخصص. 3 - الإجماع: ثبت عن الصحابة وأهل اللغة الاحتجاج بالعمومات، وإجراء ألفاظ القرآن والسنة على عمومها حتى يقوم دليل التخصيص، وشاع ذلك من غير نكير، فكان إجماعًا، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، تشمل كل الزناة، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، يشمل كل متوفًّى عنها زوجها. 4 - المعقول: إن العموم هو المتبادر إلى الذهن من صيغته، والتبادر دليل الوضع الحقيقي، وهو ما يعقله الناس، وتمس الحاجة إلى التعبير عنه، والعمل به (¬1). دلالة العام: اختلف العلماء في صفة دلالة العام الذي لم يخصص على استغراقه لجميع أفراده هل هي قطعية أم ظنية؟ اختلفوا على قولين: القول الأول: وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، فقالوا: إن دلالة العام على جميع أفراده ظنيّةٌ على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص كان ظني الدلالة أيضًا على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، فهو ظني الدلالة قبل التخصيص وبعده. واحتجوا على ذلك بأن كل عام يحتمل التخصيص، مع شيوع التخصيص ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 132)، فواتح الرحموت (1/ 160)، تيسير التحرير (1/ 195، 229)، المستصفى (2/ 24، 26)، نهاية السول (2/ 82)، الإحكام للآمدي (2/ 200)، المعتمد (1/ 209)، الرسالة للشافعي ص 51، 53، الإحكام لابن حزم (1/ 338)، العضد على ابن الحاجب (2/ 102)، المسودة ص 89، 100، شرح الكوكب المنير (3/ 108)، مختصر البعلي ص 106، إرشاد الفحول ص 115، علم أصول الفقه ص 183، تفسير النصوص (2/ 19)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 248).

أثر الاختلاف في دلالة العام

فيه، حتى كرر العلماء عبارتهم: "ما من عام إلا وقد خصص" فلا يخلو منه إلا القليل بقرينة مثل قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، وهذا يورث الشبهة والاحتمال في دلالته، فتكون ظنية. وأضافوا أنه يجوز إخراج بعض أفراد العام بالاستثناء ونحوه، فلو كان دلالته قطعية لم يصح ذلك، بخلاف النص الخاص على فرد، فلا يصح استثناؤه؛ لأنه نصّ عليه، فكانت دلالة الخاص قطعية، وهو كاف للتفريق بين دلالة العام الظنية، ودلالة الخاص القطعية، ولهذا يُؤكد العام بكل وأجمعين لدفع احتمال التخصيص، فالاحتمال وارد في العام فكان ظنيًّا واحتاج إلى تأكيد. القول الثاني: وهو قول الحنفية والمعتزلة، ومنقول عن الشافعي، فقالوا: إن دلالة العام قطعية إذا لم يخص، فإذا خص منه البعض صارت دلالته على ما بقي بعد التخصيص ظنية. واستدلوا على ذلك أن اللفظ العام موضوع لغة للعموم، فكان العموم ملازمًا له عند إطلاقه، حتى يقوم الدليل على خلافه، كالخاص يثبت مسماه قطعًا حتى يقوم على غيره، فالاحتمال على التخصيص لا ينافي القطعية، ولذلك فهم الصحابة رضوان اللَّه عليهم العموم من الألفاظ القرآنية، كما سبق في الفقرة السابقة، فتكون الدلالة قطعية (¬1). أثر الاختلاف في دلالة العام: ترتب على الاختلاف السابق بين العلماء الاختلاف في مسألتين أصوليتين، وهما: ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 132)، كشف الأسرار (1/ 91)، فواتح الرحموت (1/ 265)، نهاية السول (2/ 82)، العطار والمحلي على جمع الجوامع (1/ 407)، المسودة ص 109، مختصر البعلي ص 106، شرح الكوكب المنير (3/ 114)، علم أصول الفقه ص 183، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 249)، أصول الأحكام ص 275.

1 - التخصيص بالدليل الظني

1 - التخصيص بالدليل الظني: قال أصحاب القول الأول: يجوز تخصيص العام الظني بالدليل الظني كخبر الآحاد والقياس، مثاله: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، فإنه مخصص بما رواه أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا خالتها" (¬1)، وقوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث القاتل" (¬2)، وبقوله: "لا يرث الكافر من المسلم، ولا المسلم من الكافر" (¬3)، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}] المائدة: 38]، مخصص بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا" (¬4)، والأمثلة كثيرة. وقال الحنفية ومن معهم: لا يجوز خصيص العام ابتداء بدليل ظني كخبر الآحاد والقياس، واستدلوا بقول عمر رضي اللَّه عنه في قصة فاطمة بنت قيس، التي طلقها زوجها ثلاثًا، فروت أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فقال عمر: "لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة" (¬5)، فلم يجعل حديثها مخصصًا لعموم قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]، والأمثلة كثيرة (¬6). 2 - تعارض العام والخاص: قال أصحاب القول الأول: لا يتحقق التعارض بين العام والخاص، ويعمل بالخاص فيما دلَّ عليه، ويُعمل بالعام فيما وراء ذلك؛ لأن الخاص ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه مسلم، وورد معناه عند البخاري وأصحاب السنن. (¬2) هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي والدارقطني بهذا اللفظ، ورواه غيرهم بلفظ آخر. (¬3) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومالك والشافعي وأحمد والدارمي والبيهقي. (¬4) هذا الحديث رواه البخاري وغيره بألفاظ مختلفة. (¬5) هذا الحديث رواه مسلم. (¬6) من ذلك إذا ترك المسلم التسمية على الذبيحة، وقتل المسلم بالكافر.

قطعي الدلالة -كما سنرى- والعام ظني الدلالة، ولا تعارض بينهما؛ لأن شرط تحقق التعارض بين الدليلين أن يكونا في قوة واحدة، كالقطعيَّين، والظنيَّين. وقال أصحاب القول الثاني: يتحقق التعارض بين العام الذي لم يخصص، وبين الخاص؛ لأنهما قطعيان، ويكون التعارض في القدر الذي دل عليه الخاص فقط لتساويهما في القطعية، ويجب اللجوء إلى دفع التعارض إما بالتوقف، وإما بالتخصيص، وإما بالنسخ من المتأخر للمتقدم. ومثاله: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]، فالنص عام يشمل كل من رمى محصنة سواء كان زوجًا لها أم لا، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)} [النور: 6]، فالنص خاص بالأزواج الذين يرمون زوجاتهم. فقال الجمهور: لا تعارض، ويعمل بالخاص فيما دل عليه، ويعمل بالعام فيما وراء ذلك، أي: يخصصون العام، ويقضون بالخاص على العام؛ لأن دلالة الخاص قطعية، ودلالة العام ظنية. وقال الحنفية ومن معهم بالتعارض بين الآيتين، وأن الثانية متراخية (متأخرة) عن الأولى، فينسخ الخاص العام في قدر ما تناولاه، وهو النسخ الجزئي عندهم. ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فهي عامة في كل متوفًّى عنها زوجها، سواء كانت حاملًا أم لا، مع قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فعدة الحامل بوضع الحمل، ولا تعارض بينهما عند الجمهور، ويعمل بكل منهما، وعند الحنفية يتحقق التعارض، والآية الثانية متراخية عن الأولى فتكون ناسخة لها في الحامل المتوفى عنها زوجها. ومن ذلك الاختلاف في اشتراط النصاب في زكاة الزروع؛ لورود حديث عام بعدم الاشتراط، وحديث خاص باشتراطه (¬1)، فخصص الجمهور العام ¬

_ (¬1) الحديثان صحيحان رواهما البخاري ومسلم وأصحاب السنن.

أنواع العام

بالخاص، واشترطوا النصاب لعدم التعارض، وقال الحنفية بالتعارض وتقديم النص العام لرجحانه، ولم يشترطوا النصاب (¬1). أنواع العام: يرد العام في النصوص الشرعية على ثلاثة أنواع، ولكل نوع دلالة، وهي: 1 - العام الذي يراد به العموم قطعًا: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه، وهو قليل كالعام في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 284]، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، فهذه الآيات تقرر سننًا إلهية لا تتبدل ولا تتغير، ودلالة العام فيها قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل التخصيص، ويبقى العام شاملًا لجميع أفراده على الدوام. 2 - العام الذي يراد به الخصوص قطعًا: وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه، وتبين أن المراد منه بعض أفراده، مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فالناس في هذا النص عام، ولكن يراد به خصوص المستطيعين، لقرينة قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ} كما أن ليس كل مستطيع مطالبًا بالحج؛ لأن العقل يقضي بخروج المجنون، والمراد المكلَّفون فقط، فالمكلف هو البالغ العاقل، ومثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120]، فأهل المدينة والأعراب لفظان عامان، ويراد بكل منهما خصوص المكلفين؛ لأن العقل يقضي بخروج العجزة، فذلك عام يراد به الخصوص قطعًا. ¬

_ (¬1) انظر المراجع السابقة ص 154 هامش 1، فالاختلاف هنا أثر لاختلاف العلماء في دلالة العام.

3 - العام المطلق

3 - العام المطلق: وهو العام الذي أطلق عن قرينة تنفي احتمال تخصيصه، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم، ومثال ذلك أكثر النصوص التي وردت فيها صيغ العموم، مطلقة عن قرائن لفظية أو عقلية أو عرفية تعين العموم أو الخصوص، مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنه ظاهر في العموم حتى يقوم الدليل على تخصيصه، ويسمى أيضًا العام المخصوص. والفرق بين هذه الأنواع متوقف على القرينة وعدمها، كما أن النوع الثالث يراد به الأكثر، ويحتمل خروج الأقل، أما النوع الثاني فالمراد منه الأقل، ويخرج الأكثر، والنوع الثالث يحتاج إلى تخصيص باللفظ غالبًا كالشرط والاستثناء والغاية، والنوع الثاني يحتاج إلى دليل معنوي يمنع إرادة الجميع (¬1). ¬

_ (¬1) الرسالة للشافعي ص 53، إرشاد الفحول ص 40، 137، علم أصول الفقه ص 185، شرح الكوكب المنير (3/ 166)، تفسير النصوص (2/ 105)، العطار على جمع الجوامع (2/ 5)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 250، 9282)، المستصفى (1/ 265).

المبحث الثاني الخاص والتخصيص

المبحث الثاني الخاص والتخصيص تعريف الخاص: اللفظ الخاص: هو اللفظ الذي وضع في اللغة للدلالة على فرد واحد. ويكون الوضع للدلالة على معنى واحد إما بالشخص، كأسماء الأعلام، خالد، محمد، أو موضوعًا للواحد بالنوع مثل رجل، فرس، أو موضوعًا لأفراد متعددة محصورة، كالأعداد: ثلاثة، وعشرة، وثمانين، ومائة، وقوم، ورهط، وفريق، أو موضوعًا للجنس كإنسان، أو لواحد بالمعاني كالعلم والجهل. والنظر في اللفظ الخاص الموضوع للنوع أو الجنس هو للحقيقة المجردة التي وضع لها اللفظ، فإن دل على التعدد لا من حيث الحقيقة بل من حيث الواقع ونفس الأمر، فهو عام مثل لفظ السموات، وكذلك لفظ الأعداد فهو باعتبار المجموع واحد موضوع لشيء معين، فكان خاصًّا. أنواع الخاص: اللفظ الخاص قد يرد مطلقًا من أي قيد، وقد يرد مقيدًا بقيد، وقد يكون على صيغة الأمر في طلب الفعل مثل {اتَّقِ اللَّهَ} وقد يكون على صيغة النهي عن الفعل، مثل: {وَلَا تَجَسَّسُوا}، ولذلك يشمل الخاص: الأمر، والنهي، والمطلق، والمقيد، التي سبق بيانها، ولذلك يبدأ كثير من علماء الأصول بدراستها في الخاص (¬1). ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 24)، كشف الأسرار (1/ 30)، التوضيح على التنقيح (1/ 168)، المعتمد (1/ 251)، الإحكام للآمدي (1/ 196)، الإحكام لابن حزم (1/ 362)، المسودة ص 571، مختصر البعلي ص 105، الروضة (2/ 221)، شرح الكوكب المنير (3/ 104)، إرشاد الفحول ص 141، علم أصول الفقه ص 191، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 204)، أصول الأحكام ص 270.

حكم الخاص

حكم الخاص: اتفق العلماء على أن الخاص يدل على معناه الذي وضع له حقيقة دلالة قطعية، ويثبت الحكم للمدلول على سيبل القطع، ما لم يدل دليل على صرفه عن معناه وإرادة معنى آخر. مثل لفظ عشرة في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، ولفظ ثلاثة في قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، يدل كل من العددين على معناه قطعًا، ولا يحتمل زيادة ولا نقصًا، لأن كلًّا منهما لفظ خاص، لا يمكن حمله على ما هو أقل أو أكثر، فدلالته على ذلك قطعية، ومثله لفظ أربعين في قوله - صلى الله عليه وسلم - في زكاة الغنم: "في كل أربعين شاةً شاةٌ" (¬1). ومثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43]، فكل منهما أمر، والأمر من الخاص، فيدل قطعًا على وجوب الصلاة، ووجوب الزكاة؛ لأن الأمر يفيد الوجوب كلما سبق ما لم يرد دليل يصرفه عنه. ومثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ} [الاسراء: 33]، يدل على تحريم القتل قطعًا؛ لأن صيغة النهي من الخاص، والنهي يفيد التحريم ما لم يرد ما يدل على خلافه، كما سبق. وكذلك إذا ورد النص مطلقًا فإنه يفيد ثبوت الحكم على الإطلاق قطعًا ما لم يوجد دليل يقيده، وإن ورد النص مقيدًا فإنه يفيد تقييد الحكم قطعًا ما لم يوجد دليل على خلافه، كما سبق. واتخذ بعض الفقهاء من دلالة الخاص القطعية سندًا لتأييد آرائهم في بعض المسائل الخلافية، كلفظ الثلاثة في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، على أن القرء هو الحيض، (عند الحنفية والحنابلة) لتتحقق الثلاثة قطعًا، فإن اعتبر القرء طهرًا (كما هو عند المالكية والشافعية) كانت العدة أقل من ثلاثة، أو أكثر من ثلاثة، وغير ذلك من ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث طويل رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما في كتاب الصدقة.

تخصيص العام

الأمثلة (¬1). تخصيص العام: المراد من التخصيص أن يصرف العام عن عمومه، ويراد منه بعض ما يشمله من أفراد بدليل اقتضى ذلك، فهو قصر اللفظ العام على بعض أفراده، أو صرف العام عن عمومه، وإرادة بعض أفراده ابتداء. وهو كثير في نصوص الكتاب والسنة، مثل قصر لفظ {النَّاسِ} في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فهو مقصور عقلًا على المكلفين دون الصبيان والمجانين، ومثل تخصيص قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (¬2). فلا ميراث لأولاد الأنبياء (¬3). حكم التخصيص وشروطه: اتفق جمهور العلماء على جواز تخصيص العام، ولكن اختلفوا في شروط المخصص على قولين: القول الأول: وهو قول جمهور غير الحنفية أنه يشترط ألا يتأخر ورود المخصص عن وقت العمل بالعام، فإن تأخر كان ناسخًا لا مخصصًا، ولم يشترطوا الاستقلال أو عدمه، ولا الاتصال أو الانفصال. القول الثاني: وهو قول الحنفية، فقالوا: يشترط أن يكون دليل ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 80) وما بعدها، علم أصول الفقه ص 191، 192، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 205)، أصول الأحكام ص 270. (¬2) سبق بيان هذا الحديث ص 52. (¬3) كشف الأسرار (1/ 306)، فواتح الرحموت (1/ 301)، المعتمد (1/ 294)، الفصول في الأصول (1/ 142)، المستصفى (2/ 99)، نهاية السول (2/ 102)، شرح الكوكب المنير (3/ 267، 269)، العضد على ابن الحاجب (2/ 129)، إرشاد الفحول ص 123، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 254)، أصول الأحكام ص 279.

المخصصات عند الجمهور

التخصيص مستقلًا عن النص العام، ومقارنًا له، أما غير المستقل كالشرط والاستفهام فيسمى قصرًا لا تخصيصًا، وأما غير المقارن للعام فيسمى نسخًا ضمنيًّا. ونتج عن الاختلاف السابق في الشروط الاختلافُ في المخصصات عند الجمهور، وعند الحنفية، ونعرض المخصصات حسب كل قول على حدة، ولكن غالب الاختلاف لفظي واصطلاحي، فما يسمى تخصيصًا أحيانًا عند الجمهور يسمى قصرًا، أو نسخًا ضمنيًّا أو جزئيًّا (¬1). المخصصات عند الجمهور: تنقسم المخصصات عند الجمهور إلى قسمين: مخصِّص مستقل، ومخصص غير مستقل، والمراد من المستقل ما لا يكون جزءًا من النص العام الذي ورد به اللفظ، ويسمى أيضًا مخصصًا منفصلًا، وغير المستقل هو ما لا يستقل بنفسه، بل يكون جزءًا من النص المشتمل على العام كالاستثناء والصفة والشرط، ويسمى مخصصًا متصلًا. أولًا: المخصصات المستقلة عند الجمهور: المخصصات المستقلة عند الجمهور ستة، لكن الحنابلة تركوا واحدًا (¬2)، وهي: 1 - الحس أو المشاهدة، أو الإدراك بالحواس: وهو أن يرد نص شرعي عام يعلم السامع بإحدى حواسه أن المراد اختصاصه ببعض ما يشتمل عليه، فيكون ذلك تخصيصًا لعمومه، مثل قوله تعالى عن بلقيس ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، ولكن ¬

_ (¬1) إن تخصيص العام -مهما اختلفت أسماؤه- مهم جدًّا وضروري في فهم المراد من النصوص الشرعية والقانونية وفي كلام الناس، لما يترتب على التعميم من أخطاء فاحشة، ونتائج غريبة، فكثير من الناس يتمسك بنص أو كلام، أو يسمع خبرًا، ويعممه خطأ، ويسيء فهمه وتحديد المراد منه، ويخرجه عن غايته وهدفه. (¬2) ترك الحنابلة التخصيص بالعرف، وأضافوا أربعة أخرى، وهي: المفهوم، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقياس النص الخاص (العدة 2/ 559).

2 - العقل

البصر يشهد أن ما كان في يد سليمان لم يكن عندها، ومثل قوله تعالى عن الريح: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، والحسّ يشهد أنها لم تدمر السموات والأرض، أشياء كثيرة كالكواكب، وهذه الآية من العام الذي أريد به الخصوص؛ لأنها مقيدة بآية أخرى بأن التدمير خاص بما أتت عليه، فقال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 - 42]. 2 - العقل: إن العقل يؤكد أن النصوص العامة الواردة بالتكاليف الشرعية مختصة بالمكلفين، دون الصبيان والمجانين، مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، فالنص يتناول بعمومه جميع الناس، ولكن العقل يخرج الصبي والمجنون، فكان مخصصًا للعموم. ومنع الشافعي رحمه اللَّه تعالى تسمية العقل مخصصًا؛ لأن ما خصصه لا تصح إرادته أصلًا في الحكم، وهذا خلاف لفظي. ويطبق ذلك على النصوص القانونية التي تخاطب الكافة، ولكن العقل يخصص عمومها بإخراج من ليس أهلًا للتكليف. 3 - العرف والعادة: العرف إما قولي، وإما عملي، فالعرف القولي اتفق العلماء على أنه يخصص النص العام، مثل لفظ (الدراهم) التي وردت في أحاديث كثيرة، والعرف يخصصها بالدراهم التي تعتبر هي النقد الغالب عند ورود النص، أو عند وقوع العقد بين الناس، ومثل لفظ (الدواب) فإنه اسم جنس عام يشمل كل ما يدب على الأرض، وخصصه العرف بالبهائم دون الإنسان والطير. وأما العرف العملي فإنه يخصص العام في ألفاظ الناس في عقودهم وتصرفاتهم باتفاق العلماء، كمن حلف ألا يأكل الرؤوس، فيكون خاصًّا برأس الغنم في البلد الذي اعتاد أهله أن يأكلوا رأس الغنم، فإن أكل رأس حيوان آخر فلا يحنث، وكذلك لفظ اللحم، ويخصصه العرف في غير السمك.

4 - الإجماع

لكن اختلاف العلماء في تخصيص العام بالعرف العملي في نصوص الشارع، كأن يرد نص بتحريم الطعام، وكان من عادة الناس أكل البُرّ، فتقتصر الحرمة على البرّ؛ لأنه هو الغالب من الطعام في البلد، فذهب الحنفية وجمهور المالكية إلى التخصيص به (¬1)، ومنعه الجمهور، والراجح أنه لا يكون مخصصًا؛ لأن نص الشارع عام وحجة، والعادة أو العرف لا يعارض النص، إلا إذا اقترن العرف بأصل شرعي كالسُّنة التقريرية أو الإجماع السكوتي. 4 - الإجماع: يجوز تخصيص العام بالإجماع، لأن الإجماع يفيد القطع، والعام يفيد الظن عند الجمهور، فإن اجتمعا، قدم الإجماع (¬2). مثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وأجمع العلماء على أنه لا جمعة على المرأة، فيكون ذلك تخصيصًا للعام. 5 - النص القرآني أو النبوي: ¬

_ (¬1) خصص الإمام مالك العام في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، بالعرف العملي الذي كان سائدًا في قريش أن المرأة الحسيبة الشريفة القدر لا ترضع ولدها عادة، فقال: هذا العام مخصوص بالمرأة غير الشريفة القدر (الفروق 1/ 173، تهذيب الفروق 1/ 187). (¬2) يقول ابن بدران رحمه اللَّه تعالى وابن النجار الفتوحي: "والحق أن التخصيص يكون بدليل الإجماع، لا بالإجماع نفسه" (المدخل إلى مذهب أحمد ص 114، شرح الكوكب المنير 3/ 369) وأرى أن التخصيص يكون بالدليل والاجماع معًا؛ لأن الدليل قد يكون ظنيًّا ومحتملًا، وقد لا يصل إلينا، فعند الإجماع تحدد المراد والاستدلال منه، وانظر: نهاية السول (2/ 144)، المستصفى (2/ 102)، شرح تنقيح الفصول ص 202، المعتمد (1/ 276)، المحصول (3/ 124)، العضد على ابن الحاجب (2/ 150)، فواتح الرحموت (1/ 316) وما بعدها، العدة (2/ 578)، مختصر البعلي ص 123، المسودة ص 126، إرشاد الفحول ص 160، الفصول في الأصول (1/ 142)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 254).

يجوز تخصيص العام بنص خاص ورد في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، سواء كان النص المخصص متصلًا بالعام أو منفصلًا عنه. فمن تخصيص العام بنص خاص متصل به قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وجاء عقبه مباشرة قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والربا نوع من البيع، فصار النص الأول العام مخصوصًا فيما عدا الربا. ومن تخصيص العام بنص خاص منفصل ومستقل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فالمطلقات لفظ عام يشمل الحوامل وغيرهن، ثم خص منه الحوامل بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وخص منه المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فصار لفظ المطلقات العام مخصصًا بالمدخول بها غير الحامل. ومن تخصيص العام في القرآن بنص متواتر من السنة، قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصية لوارث" (¬1). ومن تخصيص العام في القرآن بنص خبر آحاد من السنة قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، مع قوله - صلى الله عليه وسلم - عن البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬2)، ويسميه الحنفية نسخًا ضمنيا. واتفق العلماء على تخصيص عموم النص القرآني بالنص القرآني، وبالسنة المتواترة، وبالعكس، وتخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة، وخبر الآحاد بخبر الآحاد، ولكن اختلفوا في تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، فأجازه الجمهور مطلقًا، وفصل الحنفية، فقالوا: إن دلالة العام قطعية، فلا يصح تخصيصها بخبر الآحاد الظني، إلا إذا دخل النصَ القرآني العامَ تخصيص، فتصبح دلالته ظنية، فيجوز تخصيصه عندئذ بخبر الآحاد الظني. ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث رواه أصحاب السنن وغيرهم عن عدد من الصحابة. (¬2) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي ومالك والشافعي وأحمد.

6 - قول الصحابي

6 - قول الصحابي: قال الحنابلة (ويوافقهم الحنفية) بتخصيص النص العام بقول الصحابي؛ لأنه لا يترك ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعمل بخلافه إلا لدليل ثبت عنده يصلح للتخصيص. وقال الجمهور: لا يجوز التخصيص بقول الصحابي، لأنه قد يخالف المسموع لدليل في ظنه، وظنه ليس حجة على غيره، وهذا يرجع إلى الاختلاف في حجية قول الصحابي، كما سبق بيانه في المصادر المختلف فيها (¬1). المخصصات المستقلة عند الحنابلة: ترك الحنابلة من المخصصات المستقلة السابقة التخصيص بالعرف، وأضافوا أربعة جديدة، وهي: 1 - المفهوم: وهو نوعان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، وسيأتي بيانهما والعمل بهما. أما مفهوم الموافقة، فإنه مخصص اتفاقًا، مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليُّ الواجد يُحل عِرضَه وعقوِبته" (¬2)، فهو عام، ويخصصه مفهوم الموافقة في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، ومفهوم الموافقة عدم الإيذاء بالضرب أو الحبس أو غيره، فلا يحبس الوالد بدين ولده. وأما مفهوم المخالفة (ضد النطق) فهو مخصص عند أكثر الحنابلة، ومثاله قوله ¬

_ (¬1) انظر المخصصات في المستصفى (2/ 99)، فواتح الرحموت (1/ 282)، العدة (2/ 559) وما بعدها، العضد على ابن الحاجب (2/ 147)، شرح الكوكب المنير (3/ 277)، وما بعدها، المسودة ص 125، المدخل إلى مذهب أحمد ص 114، إرشاد الفحول ص 156، الرسالة ص 53، نهاية السول (2/ 121)، المحصول (3/ 111)، علم أصول الفقه ص 187، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 254)، أصول الأحكام ص 279، الفصول في الأصول (1/ 142، 211). (¬2) هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقي وابن حبان وأحمد عن الشريد بن سويد مرفوعًا، ورواه البخاري معلقًا، ورواه مرفوعًا بلفظ "مطل الغني ظلم".

2 - فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -

- صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" (¬1)، ومفهوم المخالفة إذا لم يبلغ قلتين، فإنه يخصص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه، أو لونه" (¬2)، فلفظ "الماء الطهور" عام يشمل القلتين، والأقل، والحديث الأول خصّه بما دون القلتين، فإنه ينجس بملاقاة النجاسة وإن لم يتغير، ويبقى الحديث الثاني على ما زاد على القلتين فلا ينجس إلا بالتغيير (¬3). 2 - فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا ورد نص عام، ووقع فعل من النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالف عموم اللفظ، كان ذلك تخصيصًا للعام. مثاله: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، فيشمل كل النساء فوق اثنتين، ولكنه مخصص بفعله - صلى الله عليه وسلم - فإنه أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين، فدل على أن الآية قصد بها الاثنتان فما فوق. ومثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فهو عام بعدم القرب باللمس والجماع، وخصّص هذا العام بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يباشر زوجته وهي حائض دون جماع (¬4)، فدل على أن المراد من العام هو الجماع ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي وابن حبان والدارمي والدارقطني وابن خزيمة عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما مرفوعًا. (¬2) هذا الحديث رواه ابن ماجه عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه مرفوعًا، ورواه البيهقي والطبراني، كما رواه الدارقطني، عن ثوبان، وروى شطره الأول أبو داود والنسائي والطحاوي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬3) العدة (2/ 578)، مختصر البعلي ص 123، شرح الكوكب المنير (3/ 366)، الروضة (2/ 247)، العدة (2/ 559)، وانظر: نهاية السول (2/ 153)، المحصول (3/ 13)، المستصفى (2/ 105)، الإحكام للأموي (2/ 328)، العضد على ابن الحاجب (2/ 150)، تيسير التحرير (1/ 316)، شرح تنقيح الفصول ص 215، إرشاد الفحول ص 160، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 260). (¬4) ثبت ذلك في أحاديث كثيرة عن عائشة وميمونة رضي اللَّه عنهما، رواها مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والدارمي.

3 - تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -

فقط (¬1). 3 - تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا ورد نص عام، ثم أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا على خلاف العموم، مع قدرته على المنع من خلافه، فيكون إقراره مخصصًا للعام؛ لأن إقراره الفعل كصريح إذنه؛ لأنه لا يقر أحدًا على الخطأ؛ لعصمته، وإلا لوجب إنكاره، وفيه تفصيل عند العلماء (¬2). 4 - القياس: إذا ورد القياس على نص خاص، فالقياس يقدم على عموم النص، أي: يخصص عموم النص، مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فهو عام في جواز كل بيع، ثم ورد النص النبوي بتحريم الربا في البُرِّ، والعلة هي الكيل، فقاس العلماء الأرز على البر في تحريم الربا، فيكون هذا القياس مخصصًا لعموم إحلال البيع (¬3). ثانيًا: المخصصات غير المستقلة عند الجمهور: ¬

_ (¬1) العدة (2/ 574)، الروضة (2/ 248)، شرح الكوكب المنير (3/ 371)، وانظر: الإحكام للآمدي (2/ 329)، العضد على ابن الحاجب (2/ 149، 151)، المحصول (3/ 125)، المسودة ص 125. (¬2) العدة (2/ 573)، المسودة ص 126، مختصر البعلي ص 123، شرح الكوكب المنير (3/ 373)، وانظر: المستصفى (2/ 109)، المحصول (3/ 127)، الإحكام للآمدي (3/ 331)، نهاية السول (2/ 156)، شرح تنقيح الفصول ص 210، العضد على ابن الحاجب (1/ 151)، إرشاد الفحول ص 159، فواتح الرحموت (1/ 354)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 261). (¬3) العدة (2/ 559)، المسودة ص 119، الروضة (2/ 249)، شرح الكوكب المنير (3/ 377)، مختصر البعلي ص 124، وانظر: شرح تنقيح الفصول ص 203، المحصول (3/ 148)، المستصفى (2/ 122)، العضد على ابن الحاجب (2/ 153)، فواتح الرحموت (1/ 357)، تيسير التحرير (1/ 321)، أصول السرخسي (1/ 142)، إرشاد الفحول ص 159، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 262). =

1 - الاستثناء المتصل

المخصص غير المستقل هو ما لا يستقل بنفسه، بل يكون جزءًا من النص المشتمل على العام،، يسمى مخصصًا متصلًا، وهو خمسة أنواع، وهي: 1 - الاستثناء المتصل: الاستثناء هو إخراج شيء من الكلام، ولولا الاستثناء لدخل ذلك الشيء فيه لغة، ويكون بإلا وهي الغالب، أو بإحدى أخواتها، وهي: غير، وسوى، وحاشا، وعدا، ولا يكون، ولا سيما، وغيرها. ويشترط في الاستثناء أن يكون متصلًا حسب العادة، وأن يصدر الاستثناء والمستثنى منه من تكلم واحد، وألا يستغرق الاستثناء المستثنى منه، والاستثناء كثير في النصوص، ويقع به التخصيص عند الجمهور. مثاله: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 156]، فلفظ {مَنْ كَفَرَ} يشمل الكفر الخفي في القلب، والكفر الظاهر الذي يصدر من اللسان، فجاء الاستثناء مخصصًا العام، وقصد الكفر الحرام بأنه الصادر عن رضا واختيار من القلب، وأخرج ما يقع باللسان نتيجة الإكراه. ومثاله من السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن حرم مكة المكرمة: "إن هذا البلد حرمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة ... ولا يقطع شجره إلا الإذخر" (¬1)، فيحرم قطع شجر الحرم، ثم خصص بما عدا الإذخر، فيجوز قطعه. 2 - الشرط: سبق تعريف الشرط، وأنه: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، وسبق بيان أنواع الشرط: الشرعي، والعقلي، والعادي، واللغوي، والمقصود في التخصيص الشرط اللغوي فقط، فإن جاء ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

3 - الصفة

بعد العام خصصه في حالة توفر الشرط دون سواه، وهو كثير في النصوص، ويقع به التخصيص. مثاله: قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]، فإن استحقاق الزوج نصف تركة الزوجة مخصص بعدم وجود الولد للزوجة بالشرط، ولولا الشرط لاستحق الزوج النصف في جميع الأحوال. 3 - الصفة: والمراد منها الصفة المعنوية عامة، فتشمل النعت النحوي، والمضاف، وكل تعليق بلفظ آخر ليس شرطًا ولا عددًا ولا غاية، ويشمل الظرف، والجار والمجرور، إلا إذا خرج الوصف مخرج الغالب فيطرح مفهومه، وكذا إذا جاء الوصف لمدح أو ذم أو ترحم، أو توكيد، أو تفصيل، فلا يعتبر مخصصًا، والصفة المعنوية كثيرة جدًّا في النصوص، ويقع التخصيص بها، فتقصر اللفظ العام على بعض أفراده، وهو الذي تتحقق فيه الصفة، ويخرج من العام ما لم يتصف بالصفة. مثاله: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فالنص أباح الزواج من الإماء المؤمنات في حال العجز عن مهر الحرائر، ولا يصح الزواج بالإماء غير المؤمنات. ومثاله من السنة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "في الغنم السائمة زكاة" أو قوله: "في سائمة الغنم زكاة" (¬1)، فالصفة خصصت العام "الغنم" وأوجبت الزكاة في السائمة دون غيرها. 4 - الغاية: وهي أن يأتي بعد اللفظ العام حرف من أحرف الغاية، كاللام، وإلى، وحتى، فتفيد تخصيص الحكم بما قبلها فقط؛ لأنها غاية للحكم ونهاية له، ولا يشمل الحكم ما بعدها؛ لأنه يناقض المعنى، وهي كثيرة في النصوص، ¬

_ (¬1) هذا الحديث سبق بيانه ص 44 هامش.

5 - بدل البعض

ويقع بها التخصيص. مثالها: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، فالغاية قصرت وجوب القتال على حالة عدم إعطاء الجزية، وأخرجت من أعطى الجزية عن وجوب قتاله. ومثالها: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فالغاية {إِلَى الْمَرَافِقِ} قصرت وجوب الغسل في الوضوء إلى المرفق فقط. 5 - بدل البعض: وهو ما يأتي بعد الكلام فيخصص العام ويقصره على بعض أفراده الذين يشملهم البدل، ويخرج ما عداهم. مثاله: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فالبدل {مَنِ اسْتَطَاعَ} قصر العام {النَّاسِ} على المستطيع، وخرج العاجز عن حكم العام، فلا يجب عليه الحج. وكقول القائل: أكرم العرب قريشٌ، فمن كان من غير قريش فلا يدخل في الحكم (¬1). المخصصات عند الحنفية: التخصيص عند الحنفية هو إرادة بعض ما يتناوله العام من الأفراد بدليل مستقل مقارن للعام، فيشترطون أن يكون المخصص مستقلًا ومقارنًا، كما سبق، أما غير المستقل كالشرط والاستثناء فيسمى عندهم قصرًا للعام لا تخصيصًا، وأن غير المقارن للعام، وهو المتأخر عنه فيسمى نسخًا ضمنيًّا أو جزئيًّا. ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 163)، نهاية السول (2/ 113)، الإحكام للآمدي (2/ 288)، تيسير التحرير (1/ 283)، كشف الأسرار (1/ 121)، المحصول (3/ 38)، العضد على ابن الحاجب (2/ 132)، شرح تنقيح الفصول ص 237، 256، التلويح على التوضيح (2/ 284)، المعتمد (1/ 260)، العدة (2/ 659، 673)، الروضة (2/ 252)، مختصر البعلي ص 117، إرشاد الفحول ص 153، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 262)، أصول الأحكام ص 282، فواتح الرحموت (1/ 316) وما بعدها، (344).

حكم العام بعد التخصيص

وينحصر التخصيص عند الحنفية في ثلاثة أنواع، وهي: العقل، والعرف والعادة، والنص المستقل المقترن بالعام، وتقدم بيانها وأمثلتها، وأما التخصيص بالحس عند الجمهور فهو عند الحنفية ملحق بالكلام المستقل المتصل. ويلحق عند الحنفية بالكلام المستقل المتصل، والذي هو قصر للعام، لا التخصيص له، أمران: الأول: نقص المعنى عن بعض الأفراد، كان يقول شخص: كل مملوك لي حر، فإنه لا يدخل فيه العبد المكاتب؛ لنقصان الملك فيه؛ لأنه مملوك بالرقبة دون اليد، فله التكسب بمفرده، وهو أحق بكسبه. والثاني: زيادة المعنى في بعض الأفراد، كان يحلف شخص: ألا ياكل فاكهة، ولم ينو فاكهة معينة، فإنه لا يحنث بأكل العنب والرطب والرمان عند أبي حنيفة؛ لما في هذه الأنواع من التغذي، وهو معنى زائد على التفكه، أي: التلذذ والتنعم (¬1). حكم العام بعد التخصيص: اتفق الحنفية والجمهور على أن العام المخصَّص ظني الدلالة على ما بقي، ولذلك يجوز تخصيصه ثانية بظني باتفاق. وذهب جمهور العلماء إلى أن العام بعد تخصيصه حقيقة فيما بقي مطلقًا؛ لأن اللفظ كان متناولًا للجميع حقيقة، فيبقى التناول على البعض كذلك، ولا يضره إخراج بعض منه، ولأن تناول العام المخصص للباقي يسبق إلى الفهم من غير قرينة، وهذا دليل الحقيقة، وذهب بعض العلماء إلى أن العام إذا خصّ صار مجازًا في الباقي؛ لأن العام موضوع للجميع، فإن أريد به البعض، فذلك غير ما وضع له، فيكون مجازًا (¬2). ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (1/ 316، 346)، التلويح على التوضيح (2/ 31)، كشف الأسرار (1/ 306)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 263)، أصول الأحكام ص 287. (¬2) كشف الأسرار (1/ 304)، فواتح الرحموت (1/ 311)، أصول السرخي (1/ 144)، الفصول في الأصول (1/ 245)، المستصفى (2/ 54)، الإحكام للآمدي (2/ 227)، =

العام الوارد على سبب خاص

العام الوارد على سبب خاص: إذا ورد حكم عام على سبب خاص من سؤال سائل، أو وقوع حادثة، فيبقى على عمومه عند أكثر العلماء، ولا يقتصر على السبب، نظرًا لظاهر اللفظ العام، وهو ما عبروا عنه بالقاعدة الأصولية "العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب"؛ لأن الحجة في اللفظ، وهو يقتضي العموم، والسبب لا يصلح معارضًا له، ولأن المقصود في ورود العام جوابًا لسؤال، أو بيانًا لواقعة، هو بيان القاعدة العامة التي تشمل السبب وغيره، ولأن الصحابة رضوان اللَّه عليهم ومَنْ بعدهم استدلوا على التعميم في الآيات والأحاديث الواردة على سببب خاص، ولم ينكر عليهم أحد، كآية اللعان العامة التي نزلت في سبب خاص في هلال بن أمية (¬1)، وآية الظهار التي نزلت في أوس بن الصامت (¬2)، وأحكام القذف التي نزلت في قصة عائشة رضي اللَّه عنها في حديث الإفك (¬3)، والأمثلة على ذلك كثيرة من السنة أيضًا، فمن ذلك: 1 - مر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بشاة ميتة لميمونة، فقال: "هَلّا أخذتُم إهابَها (جلدها) " فقالوا: إنها ميتة، فقال عليه الصلاة والسلام: "أيُّما إهاب دُبغَ فقد طهر" (¬4)، فالسبب خاص بشاة ميمونة، واللفظ عام يشمل كل جلد. 2 - سأل عبد اللَّه من بني مدلج فقال: يا رسول اللَّه، إنا نركب البحر، ¬

_ = المحصول (3/ 18)، نهاية السول (2/ 105)، العضد على ابن الحاجب (2/ 106)، شرح تنقيح الفصول ص 226، المسودة ص 115، العدة (2/ 533)، الروضة (2/ 239)، مختصر البعلي ص 109، إرشاد الفحول ص 135، شرح الكوكب المنير (3/ 160)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 264). (¬1) هذا الحديث أخرجها البخاري ومسلم وأصحاب السنن والبيهقي والحاكم عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (¬2) هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن وأحمد والحاكم عن خولة بنت مالك وعائشة وسلمة بن صخر وغيرهم رضي اللَّه عنهم. (¬3) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد. (¬4) هذا الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن وأحمد.

مسائل فرعية في العام والخاص

ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" (¬1)، فالحديث جواب لسؤال مع الحاجة، والجواب عام "الطهور ماؤه" فيشمل السائل وغيره، وحالة الحاجة وعدمها، والوضوء وغيره. 3 - سئل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عمن يجامع امرأته في نهار رمضان، فقال عليه الصلاة والسلام: "أعتق رقبة ... صم شهرين متتابعين" (¬2)، فالسؤال عن واحد، والجواب عام في كل واطئ في نهار رمضان، والكفارة تعم الجميع (¬3). مسائل فرعية في العام والخاص: ذكر علماء الأصول عدة مسائل فرعية تتعلق بالعام والخاص، نذكر أهمها: 1 - خطاب الرسول خطاب لأمته: إذا ورد خطاب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} [المزمل: 1]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1]، فإنه عام للأمة عند الأكثر بالعرف الشرعي، لا باللغة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - له منصب الاقتداء والتأسي، والمسلمون مأمورون باتباعه إلا إذا دلّ الدليل الخاص تخصيصه بذلك، والدليل على الأمرين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ثم قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب 50]، فالآية ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي ومالك والشافعي وأحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وسبق. (¬2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) المستصفى (2/ 114)، نهاية السول (2/ 158)، المحصول (3/ 188)، الإحكام للآمدي (2/ 238)، أصول السرخسي (1/ 272)، فواتح الرحموت (1/ 290)، العضد على ابن الحاجب (2/ 110)، شرح تنقيح الفصول ص 216، شرح الكوكب المنير (3/ 177)، المسودة ص 130، الرسالة ص 206، 231، مختصر البعلي ص 110، الروضة (2/ 233)، إرشاد الفحول ص 134، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 273)، علم أصول الفقه ص 189.

2 - فعل النبي لا يعم أقسامه

تدل على أن الحكم في أول الآية عام للمؤمنين؛ لأن الاستثناء والقيد جاء عند هبة المرأة نفسها {خَالِصَةً لَكَ}، فيدل على أن السابق عام، والأخير خاص بالنص، ومثل قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، فلو لم يكن الحكم عامًّا لما كان لهذا التعليل معنى، وأنه للمؤمنين جميعًا. وقال بعض العلماء: إن الخطاب الخاص للنبي لا يعم الأمة باللغة واللفظ، وإنما بدليل آخر مستقل، أو بالقياس، فيشمل، والنتيجة واحدة (¬1). 2 - فعل النبي لا يعم أقسامه: إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا فإن فعله لا يعم جميع أنواع الفعل وجهاته، إلا إذا وجد دليل آخر. فمن ذلك ما رواه ابن عمر رضي اللَّه عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى داخل الكعبة" (¬2)، فهذا يحتمل الفرض والنفل، ولا يتصور أنه فرض ونفل معًا، فلا يستدل به على جواز الفرض والنفل داخل الكعبة، إلا بدليل آخر (¬3). 3 - الخطاب لواحد لا يعم الأمة لغة: إذا ورد خطاب خاص بواحد من الأمة فإنه يختص به، ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج اللفظ، لأن الخاص خاص به لغة، وإنما يعم بحسب ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (2/ 253)، العضد على ابن الحاجب (2/ 118)، فواتح الرحموت (1/ 281، 293)، تيسير التحرير (1/ 249)، نهاية السول (2/ 88)، المستصفى (2/ 64)، المحصول (2/ 620)، مختصر البعلي ص 114، العدة (1/ 324)، إرشاد الفحول ص 129، "أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 277)، شرح الكوكب المنير (3/ 218). (¬2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه ومالك. (¬3) المستصفى (2/ 64)، الإحكام للآمدي (2/ 252)، المحصول (2/ 653)، فواتح الرحموت (1/ 293)، تيسير التحرير (1/ 247)، التلويح على التوضيح (1/ 271)، العضد على ابن الحاجب (2/ 118)، شرح الكوكب المنير (3/ 213)، إرشاد الفحول ص 125، مختصر البعلي ص 111.

4 - عدم العمل بالعام قبل البحث عن مخصص

العرف الشرعي؛ لأن الأمة كلها سواء في المطالبة بالأحكام الشرعية؛ لعموم الرسالة، ولأن الصحابة رضي اللَّه عنهم استدلوا بأقضية النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة. وقال الحنابلة وبعض الشافعية: إنه يعم، ويتناول المخاطب وغيره؛ لأنه لو اختص به لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوثًا للجميع، وهو خلاف لفظي؛ لأن التعليل الثاني تعليل شرعي، والفريق الأول موافق عليه شرعًا لا لغة (¬1). 4 - عدم العمل بالعام قبل البحث عن مخصص: قال جمهور العلماء: لا يجوز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص، بأن يغلب على الظن عدم وجود المخصص؛ لأنه ما من عام إلا وخصص، كما سبق، فيحترز عن الخطأ المحتمل بالتعميم قبل البحث، فإن لم يوجد المخصص بعد البحث، فيجوز التمسك بالعام في إثبات الحكم (¬2). وهذا الخلاف لا وجود له اليوم في النصوص الشرعية؛ لأنه تمت دراستها والبحث عنها كلها، وإنما يفيد في النصوص القانونية المعاصرة. ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (1/ 280)، تيسير التحرير (1/ 252)، العطار على جمع الجوامع (1/ 429)، الإحكام للآمدي (2/ 263)، العضد على ابن الحاجب (2/ 123)، ثرح الكوكب المنير (3/ 223)، مختصر البعلي ص 114، إرشاد الفحول ص 130، العدة (1/ 318، 331)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 278). (¬2) إرشاد الفحول ص 129، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي ص 265.

المبحث الثالث المشترك

المبحث الثالث المشترك تعريفه: المشترك: هو اللفظ الموضوع للدلالة على معنيين فأكثر، أي: لا بدَّ من تعدد الوضع وتعدد المعنى، بأن يوضع اللفظ مرتين فأكثر لمعنيين فأكثر. مثاله: لفظ العين فإنه وضع في اللغة للعين الباصرة، وعين الماء، والجاسوس، والشمس، والذهب، والنقد من المال (المال الناض) والشيء المعين، ولا يراد جميع ذلك بمطلق اللفظ، وإنما يراد واحد منها بانفراده عند الإطلاق، لأنه وضع لكل منها على حدة، فيدل على ما وضع له على سبيل البدل. ومثاله: لفظ القرء، فإنه وضع في اللغة للطهر، وللحيض، ولفظ السَّنة: للسَّنة القمرية والسَّنة الشمسية، ولفظ اليد لليمنى واليسرى، واليد إلى الكف، وإلى المرفق، وإلى الإبط، والمشترك قد يكون اسمًا، وقد يكون فعلًا كصيغة الأمر التي يراها البعض أنها مشترك للوجوب والندب، وقد يكون في الحرف، مثل الواو للعطف وللحال (¬1). أسباب وجود الاشتراك: الاشتراك في اللغة العربية يدل على غناها في تعدد وجوه دلالة الألفاظ على المعنى، والسعة في أساليب الخطاب، والمرونة في إطلاق اللفظ على المعنى لمناسبة، ويرجع ذلك لأسباب عدة، أهمها: ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 71)، الإحكام، للآمدي (2/ 242)، أصول السرخسي (1/ 126)، تيسير التحرير (1/ 235)، كشف الأسرار (1/ 27)، البحر المحيط (2/ 122)، العضد على ابن الحاجب (2/ 111، 112)، شرح الكوكب المنير (3/ 189)، مختصر البعلي ص 110، المسودة ص 168، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 283)، أصول الأحكام ص 288، علم أصول الفقه ص 177.

1 - تعدد القبائل

1 - تعدد القبائل: قد يختلف الوضع اللغوي للفظ بين القبائل، فتضع كل قبيلة عربية لفظًا لمعنى معين، وتضع أخرى اللفظ نفسه لمعنى آخر، وقد لا يكون بين المعنيين مناسبة، وينقل اللفظ مستعملًا في المعنيين باعتبار أن اللغات اصطلاحية على الأكثر. 2 - تطور الاستعمال: قد يكون اللفظ لمعنى، ثم يتطور إطلاق اللفظ على معان أخرى لمعنى يجمع بينها، ثم يغفل الناس عن المعنى المشترك، فتصبح الكلمة للمعاني التي استعملوها كمشترك لفظي للمعاني، مثل لفظ (قرء)، فقد وضع لغة للوقت المعلوم لأمر خاص، ثم استعمل في الحيض، لأن له مدة معلومة، وأطلق على الطهر، لأن له وقتًا معلومًا، ثم صار اللفظ مشتركًا وضعًا للطهر والحيض، فكان مشتركًا، واستعمل في القرآن لوقت العدة الذي تمكث فيه المرأة بدون زواج بعد طلاقها. 3 - الحقيقة والمجاز: يوضع اللفظ في اللغة لمعنى حقيقي أصلي، ثم يستعمل في معنى مجازي، ويشتهر المجاز، ويُنسى مع الزمن أنه مجاز، فينقل على أنه حقيقة، فيصبح اللفظ مشتركًا للأمرين، مثل لفظ النكاح، فيطلق على العقد، وعلى الوطء، واختلف العلماء أيهما الحقيقة وأيهما المجاز. 4 - المعنى الحقيقي والعرفي: الأصل أن يستعمل اللفظ لمعناه الحقيقي، ثم ينقل من معناه الحقيقي الأصلي إلى معنى عرفي اصطلاحي، فيكون حقيقة لغوية في الأول، وحقيقة عرفية اصطلاحية في الثاني، ويصبح مشتركًا بينهما، وأمثلته كثيرة في المعاني العرفية الاصطلاحية الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والحج، والطلاق، والعدة، والصوم، وغيرها (¬1). ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 39)، البحر المحيط (2/ 128، 152)، علم أصول الفقه ص 178، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 284)، أصول الأحكام ص 289.

الفرق بين المشترك والعام والخاص

الفرق بين المشترك والعام والخاص: المشترك: لفظ وضع لمعان متعددة بأوضاع متعددة، كاليد، والعين، والقرء، والسَّنة. أما العام: فهو لفظ وضع لمعنى واحد، وهذا المعنى الواحد يشمل عددًا غير محصورين، وإن كانوا في الواقع محصورين، فإنه بحسب الوضع اللغوي لا يدل على عدد محصور من هذه الأفراد، وإنما يشملهم جميعًا، كلفظ الطلبة فإنه يدل على أعداد غير محصورين ويشملهم جميعًا. أما الخاص: فهو لفظ وضع لمعنى معين ويتحقق في فرد واحد، أو في أفراد محصورين، مثل لفظ محمد، أو لفظ عشرة، أو لفظ الطالب الأول (¬1). حكم المشترك: يتحدد حكم المشترك في ثلاثة أمور أساسية، وهي: الأمر الأول: الأصل عدم الإشتراك: إن الأصل العام والقاعدة والمبدأ في اللغة عدم الاشتراك، وإن الاشتراك خلاف الأصل، فإذا تردد اللفظ بين احتمال الانفراد بالمعنى واحتمال الاشتراك، كان الراجح والغالب هو الانفراد، وأن احتمال الاشتراك موجود، فإن ورد لفظ في القرآن أو السنة يحتمل الاشتراك وعدمه ترجح عدم الاشتراك. الأمر الثاني: الترجيح بالقرينة: إذا تحقق الاشتراك في النص فيجب البحث عن القرينة لترجيح أحد معاني المشترك؛ لتحديد المعنى المراد؛ لأن الشارع ما أراد باللفظ إلا أحد معانيه، وعلى المجتهد الاستدلال بالقرائن والأدلة على تعيين هذا المراد. والقرينة قسمان: قرينة لفظية: وهي التي تصاحب اللفظ، وهي كثيرة. ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 177، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 204).

وقرينة حالية: والمراد منها ما كانت عليه العرب عند ورود النص من شأن معين. وقد يختلف العلماء في القرينة، وقد يرافق النصَّ عدةُ قرائن، ويرجح بعضهم معنى لقرينة، ويرجح آخرون معنى آخر لقرينة ثانية. فإن كان اللفظ له معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي شرعي، ترجح المعنى الشرعي، وكان هو المراد، كألفاظ الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والطلاق، والقذف، والزنا، والخلافة، والشهادة، ولا يراد المعنى اللغوي إلا إذا وجدت قرينة تدل على أنه المقصود. فالصلاة لغة: الدعاء، وشرعًا: العبادة المعروفة التي تبدأ بتكبيرة الإحرام وتنتهي بالسلام، والمعنى الثاني هو المراد في الأمر بالصلاة، وأن الصلاة أحد أركان الإسلام، ويقال مثل ذلك عن الصيام، والزكاة، والحج، وغيره. ولفظ القرء له معنيان في اللغة: الطهر والحيض، ورجح المالكية والشافعية معنى الطهر، وأنه المراد في العدة، بقرينة لفظية وهي "ثلاثة" وهي عدد مؤنث ينبغي أن يكون بعكس المعدود، فدل على أن المعدود مذكر وهو الطهر، بينما رجَّح الحنفية والحنابلة معنى الحيض، وأنه المقصود في العدة بقرينة أخرى، وهي أن لفظ ثلاثة خاص، والخاص يدل على مدلوله دلالة قطعية بأن تكون العدة ثلاثة قروء قطعًا بدون زيادة ولا نقصان، وهذا يتحقق في حالة الحيض، ولا يتحدد في حالة الطهر، لأن العدة في الطهر قد تنقص عن الثلاثة وقد تزيد. ومثال القرينة الحالية للترجيح قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فالمحيض لفظ مشترك لغة ويطلق على الزمان والمكان، ورجح العلماء أن المراد به المكان للقرينة الحالية، وهي أن العرب ما كانوا يعتزلون النساء في زمن الحيض. ومن القرائن اللفظية قولنا: قتل القاضي عينًا للعدو، فيفهم أن المراد من لفظ العين الجاسوس الخائن. ومثال على الاستثناء بأن القرينة اللفظية ترجح إرادة المعنى اللغوي، قوله

الأمر الثالث: المشترك المطلق

تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]، فإن لفظ الصلاة يراد به الدعاء، وهو المعنى اللغوي بقرينة لفظية هي نسبة الصلاة إلى الملائكة، فيراد منها الاستغفار، ونسبة الصلاة إلى اللَّه تعالى، فيراد منها الرحمة، ولا يقصد منها المعنى الشرعي وهي العبادة المعروفة، كما سبق. الأمر الثالث: المشترك المطلق: وهو إذا ورد لفظ مشترك ولم يوجد قرينة ترجح أحد معانيه، فاتفق العلماء على أنه يجوز حمل اللفظ المشترك على أحد معانيه، أو أحد معنييه، ويكون حقيقة؛ لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له، وأما إرادة المتكلم باللفظ المشترك استعماله في كل معانيه فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول، وهو قول جمهور الأصوليين، أن المشترك يحمل على جميع معانيه، كالقول: إن العين مخلوقة، ونريد جميع معانيها، سواء كان المشترك واردًا في النفي أو في الإثبات، واستدلوا على ذلك بوقوعه في نصوص الشرع. مثاله: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، فلفظ "الصلاة" مشترك بين المغفرة والاستغفار، واستعمل فيهما دفعة واحدة، لأن النص أسندها إلى اللَّه وإلى الملائكة، والصلاة من اللَّه المغفرة، ومن الملائكة الاستغفار. ومثاله: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]، ولفظ "السجود" مشترك بين وضع الجبهة على الأرض، والخضوع والانقياد للقدرة الإلهية، والأول اختياري يصدر من بعض الناس، والثاني قهري حاصل من غيرهم، وكلاهما مراد في الآية، ونسب إلى الناس وغيرهم. ويسمى هذا القواط عموم المشترك، أي: يطلق ويراد منه جميع معانيه، وهذا ما يربطه بالعام.

فائدة: المؤول

القول الثاني: وهو قول الحنفية وبعض العلماء، أن المشترك لا يصح أن يستعمل في كل معانيه في إطلاق واحد، سواء في النفي أو الإثبات، ويجب التوقف حتى يقوم الدليل على تعيين معنى من معاني المشترك؛ لأن المشترك لم يوضع لكل معانيه بوضع واحد، وإنما وضع لكل معنى من معانيه بوضع خاص، فلا يراد مجموع معانيه حقيقة، وتكون إرادة جميع المعاني مخالفة لهذا الوضع الخاص، ولذلك قالوا: إن المشترك لا يفيد العموم. وقالوا: إن الصلاة في الآية الأولى استعملت في قدر مشترك بين المغفرة والاستغفار، وأن السجود في الآية الثانية معناه غاية الخضوع والانقياد، فهو مشترك معنوي لا لفظي. وهناك أقوال أخرى تفصل بين النفي والإثبات، وبين المفرد والجمع، وغير ذلك (¬1). فائدة: المؤول: يضيف بعض العلماء إلى العام والخاص والمشترك قسم المؤول، ويفردونه بالبحث، ولا حاجة لإفراده؛ لأنه أحد فروع المشترك، فالمؤول هو نفس المشترك الذي ترجح أحد معانيه بالقرائن والاجتهاد، ويكون الترجيح بدليل ظني. ويقابل المؤولَ المفسرُ هو الذي يأتي على اللفظ المجمل فيبين المراد منه بيانًا كاملًا بدليل قطعي ممن صدر عنه اللفظ المجمل، فإن لم يأت بيان من المشرع للمجمل بقي غير معروف الدلالة، لذلك كان المشترك أقوى وأوضح من المجمل؛ لأنه يمكن معرفة المراد من المشترك عند التأمل بالاجتهاد، أما المجمل فلا يمكن معرفة المراد منه بدون البيان، لكن إذا حصل بيان ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 71)، الإحكام للآمدي (2/ 242)، المحلي على جمع الجوامع (1/ 294)، كشف الأسرار (1/ 39)، تيسير التحرير (1/ 235)، أصول السرخسي (1/ 126، 162)، المعتمد (1/ 224)، العضد على ابن الحاجب (2/ 112)، المسودة ص 166، مختصر البعلي ص 110، شرح الكوكب المنير (3/ 189)، العدة (2/ 703)، أصول الفقه الإسلامي (1/ 285)، أصول الأحكام ص 290.

للمجمل صار مفسرًا بالنص (أي من المشرع نفسه)، أما المشترك فيترجح أحد معانيه بالاجتهاد ويصير مؤولًا، وسيأتي مزيد شرح وبيان لذلك لاحقًا.

الفصل الرابع وضوح الألفاظ وخفاؤها

الفصل الرابع وضوح الألفاظ وخفاؤها إن التشريع يرد بألفاظ وكلمات موجَّهة للمخاطب أو للمكلفين، مهما كان مصدره سماويًّا أو أرضيًّا، وسواء كان السماوي من التنزيل اللفظي (القرآن الكريم) أو التنزيل المعنوي (السنة النبوية) أو التشريع الوضعي الذي يشمل الدستور (وهو النظام الأساسي للدولة) والقوانين والأنظمة واللوائح والقرارات والتعميمات وغيرها. وهذه الألفاظ قد تكون واضحة المعنى والدلالة للسامع والقارئ، وقد تكون خافية المعنى، ومبهمة الدلالة، وهنا يأتي دور المفسرين والشراح الذين يسعون لمعرفة مراد المشرع من النص، وتحديد الحكم المطلوب تنفيذه. ووضع علم أصول الفقه قواعد وضوابط ليسير عليها المفسر والعالم والمجتهد والفقيه والشراح لمعرفة المراد من النص. لذلك ينقسم اللفظ باعتبار ظهور معناه وخفائه إلى قسمين: واضح الدلالة، ومبهم الدلالة، والضابط في ذلك حاجة كل منهما في فهم المراد منه، أو تطبيقه على الوقائع، إلى أمر خارج عنه، أو عدم حاجته، وبعبارة أخرى: دلالة اللفظ بنفسه على المراد منه، أو دلالته بأمر خارجي. ونبحث كلَّ قسم في مبحث مستقل.

المبحث الأول اللفظ الواضح الدلالة

المبحث الأول اللفظ الواضح الدلالة الواضح: هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي، ويفهم الحكم المراد منه من الصيغة. وحكمه: أنه يجب العمل بالحكم الذي دل عليه اللفظ أو الصيغة، ويجب تطبيقه على الوقائع، ولا يصح تأويل ما يحتمل التأويل منه إلا بدليل (¬1)، كما سيأتي. أنواع الواضح الدلالة: إن وضوح الألفاظ في الدلالة على المعنى المراد متفاوت، وليست الألفاظ على درجة واحدة في وضوح الحكم، فبعضها أوضح من بعض، ولذلك قسم العلماء الألفاظ باعتبار درجة الوضوح في دلالتها على المعنى إلى أنواع. واختلف العلماء في هذا التقسيم إلى مدرستين، أو مسلكين: طريقة الحنفية، وطريقة الجمهور (وهم المتكلمون). أولًا: طريقة الحنفية في تقسيم الواضح: قسم الحنفية الواضح بحسب مراتب الوضوح في الألفاظ إلى أربع درجات متفاوتة، وهي: الظاهر، والنَّص، والمفَسَّر، والمُحْكَم، فأوضحها المُحْكم، ثم المفسَّر، ثم النَّصّ ثم الظاهر، وتظهر ثمرة التقسيم عند التعارض، فيقدم النص على الظاهر، والمفسَّر عليهما، والمُحْكم على الكل. وأساس التفاوت بين هذه المراتب أو الدرجات وقوع أحد الأسباب التالية فيه، وهي احتمال التأويل والتخصيص، واحتمال النسخ، واحتمال كون اللفظ مسوقًا بالذات لإفادة معناه والمراد منه، أو كونه غير مسوق أصليًّا منه (¬2). ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه، خلاف ص 161، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 312)، تفسير النصوص (1/ 139)، أصول الأحكام ص 235. (¬2) أصول السرخسي (1/ 163)، الفصول في الأصول، الجصاص (1/ 40، 50، 59)، المراجع السابقة. =

1 - الظاهر

فإن كان اللفظ لا يحتمل التأويل والتخصيص، ولا النسخ فهو المُحْكم، وهو أعلى درجات الوضوح، وإن كان لا يحتمل التأويل والتخصيص، ويدل على معناه دلالة قطعية، لكنه يقبل النسخ فهو المفَسَّر، وإن كان اللفظ يحتمل التأويل والتخصيص، ويقبل النسخ، ولكنه مسوق بالذات لإفادة معناه والمراد منه فهو النصّ، وإن كان اللفظ يحتمل التأويل والتخصيص، ويقبل النسخ، وليس مقصودًا بالسّياق فهو الظاهر، وهو أقل المراتب وضوحًا. ويكون الفرق بين المحكم والمفسر أن الأول لا يحتمل النسخ، والثاني يحتمله في عهد الرسالة، والفرق بين المفسر والنص أن الأول يُبين المراد منه بنفس الصيغة، والثاني يكون المراد منه بمعنى من المتكلم، والفرق بين النص والظاهر أن الأول سيق الكلام له أصالة وبالذات لإفادة ما دلّ عليه النص، والثاني لم يكن المعنى مقصودًا بالسيّاق. وهذا تعريف لكل نوع، مع المثال له. 1 - الظاهر: الظاهر لغة: خلاف الباطن، وهو الواضح المنكشف، وفي الاصطلاح الأصولي عند الحنفية: هو اللفظ الذي يدل على معناه بصيغته من غير توقف على قرينة خارجية، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق، ويحتمل التأويل والتخصيص والنسخ (¬1). مثاله: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فظاهر اللفظ يدل على حل البيع، وحرمة الربا، وهذا ما يتبادر إلى الذهن ولا يحتاج إلى قرينة، ولكنه غير مقصود أصالة من سياق الآية التي سيقت للرد على القائلين: "إنّما البيع مثل الربا"، فردَّ اللَّه تعالى عليهم وكذبهم بأنه أحل ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 163)، تيسير التحرير (1/ 136)، فتح الغفار (1/ 112)، فواتح الرحموت (2/ 19)، إرشاد الفحول ص 157، التلويح على التوضيح (1/ 124)، كشف الأسرار (1/ 46)، الفصول في الأصول (1/ 50)، علم أصول الفقه ص 162، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 317)، أصول الأحكام ص 237.

البيع وحرم الربا، فهما مختلفان، وسيقت الآية لنفي المماثلة، وكلٌّ من البيع والربا لفظ عام يحتمل التخصيص، ويجوز نسخه في عهد الرسالة. ومثاله: قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فتدل بالظاهر علي إباحة النكاح، وهذا المعنى يتبادر فهمه من لفظ {فَانْكِحُوا} من غير توقفط على قرينة، ولكن هذا المعنى غير مقصود أصالة من سياق الآية، لأنها سيقت أصالة لبيان إباحة تعدد الزوجات، وقصره على أربع أو واحدة، ولفظ "ما" عام يحتمل التخصيص. ومثاله: قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وهذا يدل على وجوب طاعة الرسول في كل ما أمر به، أو نهى عنه؛ لأنه يتبادر فهمه من الآية من غير قرينة، ولكنه ليس هو المقصود أصالة من السياق؛ لأن سياق الآية في توزيع الفيء، فأمر اللَّه تعالى بأخذ ما أعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفيء حين القسمة، والانتهاء عما نهاهم عنه. ومثاله من السنُّة: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "هو الطَّهورُ ماؤُهُ، الحلُّ مَيْتَتُه" (¬1)، فدل اللفظ ظاهرًا على حكم ميتة البحر وأنها مباح حلال، ولكن ذلك ليس مقصودًا أصالة من السياق؛ لأن السؤال كان خاصًّا عن ماء البحر. حكم الظاهر: يجب العمل بمعناه الذي ظهر منه، وتبادر إلى الذهن، قطعًا ويقينًا، سواء كان اللفظ عامًّا أو خاصًّا؛ لأن الأصل لغة وشرعًا عدم صرف اللفظ عن ظاهره، إلا إذا قام دليل يقتضي العدول عن ذلك المعنى، والعمل بغيره، سواء بالتأويل وإرادة معنى آخر، أو بالتخصيص، أو بالنسخ، لتخصيص عموم حل البيع بالنهي عن الربا، وبيع الإنسان ما ليس عنده، وبيع الغرر (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه مالك (الموطأ ص 40) والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن أبي، هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬2) التلويح على التوضيح (1/ 124)، تيسير التحرير (1/ 136)، علم أصول الفقه ص 163، تفسير النصوص (1/ 146)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي =

2 - النص

2 - النَّصُّ: النص في اللغة: رفع الشيء، من نصَّ الحديثَ ينصُّه نصًّا: رفعه، وكل ما أُظهر فقد نُصّ، قالوا: وكل شيء أظهرته فقد نصصته، والنصُّ: الإظهار، ولذلك عرّف بعض الأصوليين النص حسب المعنى اللغوي، فقال السرخسي رحمه اللَّه تعالى: "أمّا النَّص فما يزداد وضوحًا بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم، ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهرًا، بدون تلك القرينة" (¬1). والنص في اصطلاح الأصوليين من الحنفية: هو اللفظُ الذي يدلّ بنفس صيغته على معناه المقصود منه أصالة من سياقه، ويحتمل التأويل والتخصيص، احتمالًا أقل من احتمال الظاهر، ويقبل النسخ في عهد الرسالة (¬2). مثاله: قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فالآية نص في نفي المماثلة بين البيع والربا في الحل والحرمة، لأن الكلام سيق لبيان هذا الحكم أصالة، فازداد وضوحًا، ردًّا على من قال: "إنّما البيع مثل الربا" فالآية تدل على حل البيع وحرمة الربا ظاهرًا كما سبق، وعلى التفرقة بينهما ونفي التماثل نصًّا؛ لأن هذا هو المعنى الذي سيق الكلام لأجله. ومثاله: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فهو نص في إباحة التعدد، وقصره على أربع؛ لأنه معنى متبادر فهمه من ¬

_ = (1/ 318)، أصول الأحكام ص 238. (¬1) أصول السرخسي (1/ 164)، وانظر: لسان العرب، مادة: نصص. (¬2) الفصول في الأصول (1/ 59) هامش، كشف الأسرار (1/ 48)، علم أصول الفقه ص 163، تفسير النصوص (1/ 149)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 318)، أصول الأحكام ص 238. تنبيه: يطلق عامة الأصوليين والفقهاء اصطلاح النَّص على النصوص الواردة في القرآن والسنة، مهما كانت درجة وضوحه، وذلك في مقابل الإجماع والقياس وسائر مصادر التشريع، كما سبق في المصادر، وهذا ما يستعمله أيضًا علماء القانون، فيقولون: نص القانون، انظر: علم أصول الفقه ص 168 هامش، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 320)، أصول الأحكام ص 238.

اللفظ وهو المعنى الذي سيق الكلام لأجله بقرينة سياقية بعده في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] فدلت على أن هذا المعنى هو المقصود، ودلت ظاهرًا على إباحة النكاح -كما سبق- لأنه ليس مقصودًا من السياق. ومثاله: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فهو نص على وجوب طاعة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في قسمة الفيء إعطاءً ومنعًا؛ لأنه هو المقصود من السياق. حكم النَّص: إن حكم النص هو حكم الظاهر، وهو وجوب العمل بالمعنى المتبادر منه، المقصود أصالة، ولكنه يحتمل التأويل إن كان خاصًّا، ويحتمل التخصيص إن كان عامًّا، ويحتمل النسخ، ولكن هذه الاحتمالات أقل منها في الظاهر (¬1). مثاله: قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فهو نص في وجوب العدة على المطلقة بثلاثة قروء، ولفظ "المطلقات" عام يشمل المدخول بها، وغير المدخول بها، ثم جاءت الآية الأخرى تخصص هذا العموم، فقال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فصارت الآية الأولى مخصصة بالمدخول بها، ولا تشمل المطلقة غير المدخول بها التي تطبق عليها الآية الثانية. ومثاله: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، فهذا نص في تحريم الميتة والدم، ولكن لفظ "الدم" مطلق، وجاءت آية أخرى فقيدته بالمسفوح، قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]. الفرق بين الظاهر والنص: إن حكم الظاهر وحكم النص واحد، وهو وجوب العمل بهما، وكل من الظاهر والنص واضح الدلالة علي معناه، فلا يتوقف فهم المراد من كل ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 164، تفسير النصوص (1/ 153)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 321)، أصول الأحكام ص 239.

3 - المفسر

منهما على أمر خارجي، ويحتمل كل منهما التأويل والتخصيص والنسخ، وسيأتي معنى التأويل بعد قليل. ويختلفان بأن الظاهر ليس مقصودًا من السياق، والنص مقصود أصالة من السياق، وإن النص أكثر وضوحًا وبيانًا من الظاهر، فمرتبة الظهور في النص أعلى منها في الظاهر، ولذلك يقدم النص على الظاهر، ويكون أولى منه عند المقارنة والمقابلة (¬1). 3 - المُفَسَّر: المفسر في اصطلاح الحنفية: هو اللفظ الذي يدل على الحكم دلالة واضحة، ولا يحتمل التأويل أو التخصيص، ولكنه يقبل النسخ في عهد الرسالة، فهو أكثر وضوحًا من الظاهر والنص (¬2). مثاله: قوله تعالى في حد القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وقوله سبحانه في حد الزنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فإن كلا من كلمة "أربعة" "وثمانين" "ومائة" لفظ مفَسَّر؛ لأنه يدل على عدد معين، والعدد المعين لا يحتمل الزيادة ولا النقص، أي: لا يحتمل التأويل. وهكذا سائر الأعداد الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية فإنها ألفاظ مفسَّرة، فلا تحتمل التأويل أو التخصيص، كأعداد الشهود، وعدد المساكين في الكفارة، وعدد الأيام في الكفارة، وحصص الورثة في آيات المواريث، وغيرها، وكذلك نصوص القانون التي تحدد العقوبة، أو الحق، أو الدَّيْن. ومثاله: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فلفظ ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 164، تفسير النصوص (1/ 153)، (156)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 320). (¬2) أصول السرخسي (1/ 165)، علم أصول الفقه ع 166، تفسير النصوص (1/ 165)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 321)، أصول الأحكام ص 239، الحاوي الكبير للماوردي (20/ 113).

"المشركين" عامٌّ، ونصٌّ، ويحتمل التخصيص، فجاء لفظ "كافَّة" مفسَّرًا، ومنع تخصيص العام، وهكذا كل لفظ عامّ إذا لحقه ما يمنع من تخصيصه صار مفسَّرًا؛ كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)} [ص: 73]. وكذلك كل لفظ مجمل إذا لحقه نص من الشارع يبين تفسيره، ويزيل إجماله، يصبح مفسَّرًا، ولا يحتمل التأويل أو التخصيص، كقوله تعالى في القتل الخطأ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، فلفظ "دية" مجمل، فجاءت السنة فبيَّنت المقدار والحدود وأنواع الدية، ومثله لفظ الصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو الصيام، فهو مجمل، وجاءت السنة وبيَّنت كل ذلك فأصبحت مفسَّرة تدل على معناها دلالة واضحة لا تحتمل التأويل أو التخصيص، وكذا سائر الألفاظ التي وردت مجملة ثم بيّنها القرآن أو السنة، ولو كان متصلًا بها، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)} [المعارج: 19]، ثم فسر القرآن الكريم الهلوع، فقال تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 - 21]، ولذلك كانت السنة مبيّنة للقرآن كما سبق في بحث السّنة. حكم المفسَّر: إن حكم المفسر هو وجوب العمل به قطعًا كما بيّنه القرآن والسنة، أو كما ورد تفسيره أو تفصيله، ولا يحتمل أن يصرف عن معناه المُبَيَّن بالتأويل وغيره، مع بقاء احتمال النسخ فقط في زمن النبوة ونزول الوحي بالشروط التي ترد في باب النسخ. ولا يكون البيان والتفسير المذكور هنا إلا من المشرع نفسه، فيكون بيانًا تفسيريًّا قطعيًّا، ملحقًا بالأصل، أما تفسير العلماء والمفسّرين والمجتهدين وشراح القانون فلا يدخل في ذلك، ولا ينفي احتمال التأويل (¬1). ¬

_ (¬1) إن كلًّا من التفسير والتأويل يبين المراد من النص، ولكن التفسير يبين المراد بدليل قطعي من الشارع نفسه، فهو المفسَّر هنا، والتأويل يبين المراد بدليل ظني بالاجتهاد، ويحتمل أن يراد غيره. انظر: علم أصول الفقه ص 167 - 168، تفسير النصوص (1/ 169)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 322)، أصول الأحكام ص 240، الحاوي الكبير (20/ 113).=

4 - المحكم

4 - المُحْكَم: المحْكم في اللغة مأخوذ من أحكم بمعنى أتقن، يقال: بناء محكم: أي: مأمون الانقضاض. والمحْكم في اصطلاح أصوليي الحنفية: هو اللفظ الذي دلّ بصيغته على معناه دلالة واضحة قطعية، فهو مقصود أصالة، وسيق الكلام لأجله، ولا يحتمل تأويلًا إن كان خاصًّا، ولا يحتمل تخصيصًا إن كان عامًّا، ولا يحتمل نسخًا، فهو في غاية الوضوح في إفادة المعنى (¬1). أمثلة: المحكم واقع في النصوص الشرعية التي تتضمن الأحكام الأساسية في الدِّين، مثل أصول الإيمان، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، ومثل أمهات الفضائل وقواعد الأخلاق التي يقرها العقل السليم، ولا تختلف باختلاف الأحوال كالعدل والصدق والوفاء بالعهد وبر الوالدين، وصلة الرحم، ويكون ضدّهما من الرذائل كالظلم والكذب ونقض العهد وعقوق الوالدين، وقطع الرحم. كما يشمل المحْكم الأحكام الجزئية التي وقع التصريح بتأييدها ودوامها، كقوله تعالى في تحريم نكاح زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى في القاذف: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم نكاح المتعة: "إنِّي كنْتُ أذِنْتُ لكم في الاستمتاعِ من النساء، وإن اللَّه حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمنْ كان عنده منهن شيء فليخلِ سبيلَه، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد: "الجهادُ ماضٍ منذُ بعثَني اللَّه ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 165)، كشف الأسرار (1/ 51)، علم أصول الفقه ص 168، تفسير النصوص (1/ 171)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 323)، أصول الأحكام ص 240، ويرى بعض العلماء أن المحْكم يقابل المتشابه، وفيه ثمانية آراء في تفسيره وتعريفه، انظر: الحاوي للماوردي (20/ 125). (¬2) هذا الحديث أخرجه مسلم وأحمد عن سبرة الجهي مرفوعًا.

أنواع المحكم

إلى أن يقاتلَ آخرُ أمتى الدَّجَّال، لا يبطلُه جَوْرُ جائر، ولا عَدْل عادل، والإيمان بالأقدار" (¬1). أنواع المحكم: ويكون المحكم في القوانين في الألفاظ التي تتضمن المعاني والأحكام الواضحة في العدالة، وجلية التطابق مع قواعد القانون وأصوله، ولا تختلف باختلاف الأحوال (¬2). أنواع المحكم: المحكم نوعان: 1 - المحكم لذاته: وهو ما كان إحكامه من ذات النص، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، والأمثلة السابقة، فقد جاء الإحكام من ذات النص. 2 - المحكم لغيره: وهو ما صار محكمًا بسبب من خارج النص، وهو كل النصوص التي انقطع احتمال نسخها بسبب انقطاع الوحي بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذه الحالة فإن الإحكام يشمل أنواع الواضح الأربعة: الظاهر، والنص، والمفسر، والمحْكم (¬3). حكم المحكم: إن حكم المحكم هو وجوب العمل به قطعًا دون تردد؛ لأنه لا يحتمل غير معناه، ولا يشمل النسخ والإبطال مطلقًا، ولذلك كانت دلالته على الحكم أقوى أنواع الواضح: الظاهر والنَّص والمفَسَّر (¬4). ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه أبو داود عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬2) أصول الأحكام ص 241. (¬3) كشف الأسرار (1/ 51)، تفسير النصوص (1/ 174)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 323). (¬4) علم أصول الفقه ص 168، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 324)، أصول الأحكام ص 240.

التعارض والترجيح بين أنواع الواضح

التعارض والترجيح بين أنواع الواضح: سبق أن قلنا: إن الواضح على مراتب ودرجات، ويظهر أثر ذلك عند التعارض وتقديم الأكثر وضوحًا؛ لأنه الأقوى، فيقدم المُحْكم، ثم المفسَّر، ثم النص، ثم الظاهر، وهذه أمثلة لذلك. 1 - تعارض الظاهر والنص: بيَّن اللَّه تعالى المُحَرَّمات من النساء، ثم قال بعدها: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وهذا ظاهر فيم حل ما زاد عن الأربع، وقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] وهذا نص على اقتصار الحل على أربع زوجات، وتحريم الزيادة على ذلك؛ لأن النص سيق أصالة لإفادة هذا الحكم، فحصل التعارض، فيرجح النص؛ لأنه أقوى وأكثر وضوحًا، وفيه جمع بين الآيتين بحمل الظاهر في الأولى على احتماله الآخر الموافق للنص، وهذا هو المقرر شرعًا أنه لا يجوز للمسلم أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات (¬1). 2 - تعارض النَّص مع المفسر: وذلك بين روايتين لحديث واحد، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المُسْتَحاضَةُ تتوضَّأُ عِنْدَ كلِّ صَلاة" (¬2)، فهذا نص في إيجاب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، ولو في وقت واحد، ولكن ذلك يحتمل التأويل، وهو أن يكون المراد من قوله: "لكل صلاة" وقت كل صلاة؛ لأن اللام تستعار للوقت، للظهر أي لوقته، وجاءت الرواية الثانية بقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت حُبَيْش رضي اللَّه عنها: "توضئي لوقتِ كلِّ صلاةٍ" (¬3) فيدل على طلب الوضوء لوقت كل ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 49)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 324)، علم أصول الفقه ص 168. وانظر أمثلة أخرى مع أحكام المذاهب فيها في: تفسير النصوص (1/ 179) وما بعدها. (¬2) هذه الرواية أخرجها أبو داود والترمذي، وقال: حسن، وابن ماجه. (¬3) هذه الرواية ذكرها صاحب كتاب الهداية في الفقه، فتح القدير (1/ 125)، وقال الزيلعي: غريب جدًّا (نصب الراية 1/ 204).

3 - تعارض المفسر مع المحكم

صلاة، ولو لأكثر من صلاة فيه، وهو مفسّر لا يحتمل التأويل، فتعارضت الروايتان، فترجح الثانية لأنها مفسّر، فهي أقوى وأوضح من النصّ (¬1). 3 - تعارض المفَسّر مع المُحْكم: قال تعالى في قبول الشهادة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، فهذا نص مُفَسَّر يدل على قبول شهادة العدول، ومنهم المقذوف إذا تاب؛ لأنه عَدْل بعد التوبة، ولكنه يحتمل النسخ، وقال تعالى في المحدود في القذف: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، وهذا يدل على عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، واقترن بلفظ "أبدًا" مما يدل على عدم احتمال النسخ، فهو محكم، فيترجح الحكم الثاني المحْكم على الحكم الأول، وهو المفسر، فلا تقبل شهادة المحدود في القذف، وإن تاب، عند الحنفية (¬2). 4 - تعارض النَّص مع المُحْكم: قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، فهذا نص في إباحة ما عدا المحرمات المذكورة قبله، وذلك يشمل زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، فهذا نص مُحْكم لا يحتمل التأويل والتبديل والنسخ لكلمة "أبدًا"، ويفيد تحريم الزواج بإحدى زوجاته - صلى الله عليه وسلم - من بعده أبدًا، فحصل التعارض، فيقدم المحْكم؛ لأنه أقوى وأوضح من النص (¬3). ¬

_ (¬1) هذا المثال على افتراض صحة الرواية الثانية، وأنها في قوة الأولى، ولكن العلماء أكدوا صحة الأولى، وشككوا جدًّا في الثانية، ولذلك اعتمد الحنفية في دليل الحكم على جهة النظر وليس عليها، انظر تفصيل ذلك مع أمثلة أخرى في تفسير النصوص (1/ 187) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 325)، علم أصول الفقه ص 169. (¬2) علم أصول الفقه ص 169، تفسير النصوص (6/ 193) وما بعدها، أصول الفقه، الزحيلي (1/ 325). (¬3) المستصفى (1/ 384)، البرهان (1/ 416)، حاشية البناني (2/ 53)، شرح تنقيح الفصول ص 37، شرح الكوكب المنير (3/ 459)، اللمع ص 27، شرح العضد (2/ 168)، الإحكام، الآمدي (3/ 52)، روضة الناظر ص 27، إرشاد الفحول =

5 - تعارض الظاهر مع المحكم

5 - تعارض الظاهر مع المُحْكم: قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، فهذا لفظ محكم يفيد تحريم الزواج من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعده، وقال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، فهو ظاهر في إباحة جميع النساء، فتعارض الحكمان، فيقدم المحكم؛ لأنه أقوى وأوضح من الظاهر (¬1). ثانيًا: طريقة الجمهور في تقسيم الواضح: قسم الجمهور اللفظ الواضح بحسب درجة الوضوح للدلالة على المعنى إلى قسمين فقط، وهما: الظاهر، والنَّص، ويشملهما المبيَّن وهو اللفظ الدال على المعنى وليس مُجْملًا. وأساس التفريق عند الجمهور بين الظاهر والنص هو قبول الاحتمال أو عدمه، فالظاهر ما يقبل الاحتمال، وتكون دلالته ظنية، والنص ما لا يقبل الاحتمال، وتكون دلالته على معناه بدرجة القطع، فالظاهر عند الجمهور يقابل الظاهر والنص عند الحنفية، والنصُّ عند الجمهور يقابل المفسر عند الحنفية، كما يقابل المحكم عندهم؛ لانتهاء فترة النسخ بوفاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وانقطاع الوحي (¬2). 1 - الظاهر: الظاهر عند الجمهور المتكلمين هو: اللفظ الذي يدل على معناه المتبادر للذهن من الصيغة نفسها، ولكنه يحتمل التأويل، ويدل على معناه دلالة ظنية راجحة، سواء كانت هذه الدلالة ناشئة من الوضع اللغوي؛ كدلالة العام على جميع أفراده، أو من العرف؛ كدلالة الصلاة في الشرع على الأقوال والأفعال المخصوصة، وهذا يشمل كلًّا من الظاهر والنص عند الحنفية، أي: سواء ¬

_ = ص 175، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 326)، تفسير النصوص (1/ 198، 203، 213). (¬1) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 326). (¬2) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 326).

سيق اللفظ أصالة، أو كان غير مقصود أصالة من سياق الكلام. فإن صُرف اللفظ عن المعنى الظاهر، وأريد به المعنى المرجوح لدليل أو قرينة، سمي مؤولًا. وأمثلة الظاهر كثيرة، منها: أ- صيغة الأمر: فإن مطلق صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، مؤولة في الندب والإباحة وغيرها، كما سبق في الأمر، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، وقوله تعالى في نفس الآية: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، فالأمر بالكتابة عند المداينة، والأمر بالإشهاد عند البيع، ظاهر الوجوب، ولكنه مؤول -عند جمهور الفقهاء- للندب، فهو مؤول، للقرينة التي وردت في الآية التالية، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]، أي: فلا حاجة للكتابة في الدَّين، والإشهاد في البيع. ب- صيغة النهي: فإن مطلق صيغة النهي ظاهرة في التحريم، مؤولة في الكراهة وغيرها، كما سبق في النهي، كنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في سبعة مواطن: في المزْبلة، والمجْزَرة، والمقْبَرة، وقارعة الطريق، وفي الحمَّام، وفي أعطانِ الإبل، وفوقَ ظهر بيت اللَّه (¬1)، فالنهي عن الصلاة في هذه المواطن ظاهر في التحريم، ولكنه مؤول للكراهة، لقرائن كثيرة ذكرها الفقهاء. جـ- دلالة العام: إن حمل مطلق صيغة العام ظاهر في العموم، فإن أريد به الخصوص فهو مؤول، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صيامَ لمنْ لم يُبَيِّت النيّةَ من الليل" (¬2). فلفظة "صيام" زكرة في سياق النفي، وتفيد العموم، فهو ظاهر يشمل كل أفراد الصيام من فرض، ونفل، وقضاء، ومنذور، واتفق الفقهاء على وجوب ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه. (¬2) هذا الحديث ورد بألفاظ متعددة، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وابن خزيمة وابن حبان وصححاه مرفوعًا، والدارقطني والبيهقي وغيرهم.

2 - النص

النية في الفرض والقضاء والنذر، لظاهر الحديث، وأخرجوا صيام النفل من العموم، لدليل آخر، فكانت دلالة الأول على النفل مؤولة. حكم الظاهر: يجب العمل بمدلول الظاهر، ولا يجوز العدول عنه إلا بتأويل صحيح، من قرينة أو دليل (¬1). 2 - النَّص: النصّ عند الجمهور المتكلمين هو: اللفظ الذي يدلّ على معناه، ولا يحتمل التأويل، وتكون دلالته على المعنى دلالة قطعية، ولا يدل على غيره أصلًا، كأسماء الأعلام: محمد، وعلي، وحسن، فإن كل اسم يدل على ذات مُشَخَّصة، أو عَلَم، فهو كالمفَسَّر عند الحنفية (¬2). وأمثلة النص بالمعنى القطعي للنصّ قليلة ونادرة في نصوص القرآن والسنة، ولا يوجد إلا في ألفاظ معدودة، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أنيْسُ! أُغْدُ إلى امرأةِ هذا، فإنْ اعترفت فارجمها" (¬3)، ولعل القرائن الحالية أو المقالية هي التي أدت إلى إبعاد الاحتمال عن اللفظ حتى تجعله نصًّا (¬4). حكم النص: يجب العمل بمدلوله قطعًا، ولا يُعدل عنه إلا بنسخ، وقد انتهت فترة النسخ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المراجع السابقة في تعريف الظاهر عند الجمهور الواردة عند التقديم لطريقة الجمهور في تقسيم الواضح، تفسير النصوص (1/ 213) وما بعدها. (¬2) المُحْكم عند الجمهور المتكلمين يشمل كلًّا من الظاهر والنص عندهم، وهو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة سواء كانت ظنية أم قطعية، انظر: أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 327). (¬3) هذا الحديث متفق عليه، فرواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد. (¬4) أصول الفقه، أبو زهرة ص 115، تفسير النصوص (1/ 203) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 327). (¬5) تفسير النصوص (1/ 213)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 327).

ملحق: التأويل

ملحق: التأويل: يتفرع عن بحث مراتب الواضح التأويل؛ لأن مراتب الوضوح متفاوتة، وبعضها يحتمل التأويل، كما يرد التأويل في غير الواضح، وهو الخفي الذي يحتاج إلى تأويل، وهذا ما نعرضه هنا. تعريف التأويل: التأويل لغة: التفسير، والمرجع، والمصير، من آل الشيء يؤول إلى كذا إذا صار إليه ورجع (¬1). والتأويل في اصطلاح الأصوليين: هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله بدليل يصيره راجحًا (¬2). فالظاهر أو النص عند الحنفية يدل على معناه، ولكنه يحتمل تأويلًا آخر، وكذلك الظاهر عند المتكلمين يدل على معناه الظاهر، ولكنه يحتمل التأويل. والأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره، وتكون دلالته على المعنى راجحًا، وغيره مرجوحًا، لكن إذا جاء دليل شرعي من نص أو قياس، أو من روح التشريع أو مبادئه العامة يصرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى معنى آخر غير ظاهر، مع احتمال اللفظ لهذا التأويل، فيصبح المعنى المرجوح غير الظاهر راجحًا بالدليل الذي يعضده. ومن أمثلة التأويل: تقييد المطْلق، وتخصيص العام وصرفه عن عمومه، وسبق بيان الأمثلة في بحث المطلق، وتخصيص العام، ونذكِّر ببعضها. ¬

_ (¬1) لسان العرب (11/ 32) مادة أولو المعجم الوسيط (1/ 33)، مادة أول. (¬2) انظر تعريف التأويل في المستصفى (1/ 387)، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني عليه (2/ 53)، شرح الكوكب المنير (3/ 460)، الإحكام، الآمدي (3/ 52)، شرح العضد (2/ 169)، كشف الأسرار (1/ 44)، تيسير التحرير (1/ 144)، البرهان (1/ 511)، التعريفات للجرجاني ص 28، الحدود للباجي ص 48، إرشاد الفحول ص 176، علم أصول الفقه ص 164، تفسير النصوص (1/ 356، 366)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 313).

التأويل الصحيح والباطل

مثاله: قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالآية ظاهر في إحلال كل بيع، ونص في نفي المماثلة، فجاء تخصيص عموم البيع بالأحاديث التي نهت عن بيع الغَرَرِ، وعن بيع الإنسان ما ليس عنده، وعن بَيْع الثمر قبل أن يَبْدو صلاحُها، فهذا من تأويل الظاهر. ومثاله: قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فلفظ "المطلقات" عام يشمل كل مطلقة لتكون عدتها ثلاثة قروء، ئم وردت آية تخصص هذا العموم، فقال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فدلت الآية أن عدة المطلقة الحامل تنتهي بوضع الحمل، وهكذا كل تخصيص ورد في القرآن والسنة. ومثاله: قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، فلفظ "الدم" مطلق، ثم قال تعالى: {إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فقيدت الدمَ بالدمِ المسفوح دون غيره، وهكذا كل تقييد قضى به التوفيق بين نصوص القرآن، والسنة. التأويل والتفسير: سبقت الإشارة لبيان الفرق بين التأويل والتفسير في بحث "المفَسّر" وأن التفسير بيان للمعنى المراد من الكلام على سبيل القطع، والتأويل بيان للمعنى المراد من الكلام على سبيل الظن، ولهذا يحرم التفسير بالرأي دون التأويل. وهناك فرق آخر أن التأويل أكثر ما يستعمل في المعاني، وأكثره في الجمل، وأن التفسير أكثر ما يستعمل في الألفاظ، وأكثره في المفردات (¬1). التأويل الصحيح والباطل: إن التأويل الصحيح المقبول هو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه، مع احتماله له، وبدليل يعضده، كما سيأتي في شروطه. ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (3/ 460)، تفسير الطبري (1/ 77)، علم أصول الفقه ص 167، تفسير النصوص (1/ 366)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 314)، مرجع العلوم الإسلامية، لنا ص 158.

مجال التأويل

أما إذا لم يُبْنَ التأويل على دليل شرعي صحيح، بل بُني على الأهواء والأغراض والانتصار لبعض الآراء كان تأويلًا باطلًا، وكان عبثًا بنصوص الشرع أو القانون، وكذلك إذا عارض التأويلُ نصًّا صريحًا، أو كان تأويلًا إلى ما لا يحتمله اللفظ.، فهو تأويل باطل مردود، أو تأويل فاسد. ولذلك فإن النصوص الشرعية أو القانونية بعضها يقبل التأويل، وهو النص والظاهر، وبعضها لا يقبل التأويل، وهو النص الصريح الذي لا يحتمل غيره، فإن أوّله شخص فتأويله باطل (¬1). مجال التأويل: إن التأويل خلاف للأصل، فالأصل عند جمهور الأمة أن أخذ الأحكام من النصوص يتم بدون التأويل، وأنه يجب العمل بالظاهر والنّص -كما سبق- ولا يجوز العدول عنهما إلا بدليل يقتضي ذلك، فالأصل أن يبقى العام على عمومه حتى يرد ما يخصصه، وأن يعمل بالمطلق على إطلاقه حتى يقوم الدليل على تقييده، وأن الأمر يدل على الوجوب حتى يقوم الدليل على صرفه إلى غيره، وأن النهي يفيد التحريم حتى يرد الدليل على صرفه إلى غيره (¬2). ولذلك فإن المجال الذي يمكن أن يدخله التأويل قسمان، وهما: 1 - أغلب نصوص الأحكام التكليفية، وهذه لا خلاف في جواز تأويلها؛ لأن عوامل الاحتمال فيها متوفرة، ولا ضرر فيها إذا قام بالتأويل المجتهد الذي تتوفر فيه الشروط، فيستعين في تأويلها باللغة ومفهومات الشريعة، وقواعد الاستنباط والاستدلال، ليتمكن من معرفة الأحكام الشرعية منها. وكثير من أنواع التأويل يجري في ميدان الاستنباط، كحمل الحقيقة على المجاز، وحمل المشترك على أحد معنييه أو أحد معانيه، وحمل المطلق على المقيد، وحمل العام على الخاص، وحمل الأمر على غير الوجوب، وحمل النهي على غير التحريم، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 164، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 314)، إرشاد الفحول ص 177، شرح الكوكب المنير (3/ 461). (¬2) تفسير النصوص (1/ 374).

شروط التأويل

2 - نصوص أصول الدين، كالعقائد، وصفات الباري عزَّ وجلَّ وما ورد في الآيات أن له يدًا، وعينًا، وكرسيًّا، وفواتح السور، مثل "الَمَ، حم، قَ"، وهذا القسم اختلف العلماء في تأويله، فرأى بعضهم تأويله، وخالف جمهور العلماء والمفسرين والأصوليين فيه (¬1)، وهو ما نشير إليه في بحث "المتشابه". شروط التأويل: يشترط لصحة التأويل حتى يكون مقبولًا أربعة شروط، وهي: 1 - أن يكون اللفظ قابلًا للتأويل، كالظاهر والنص عند الحنفية، دون المفسّر والمحكم، ومثل الظاهر عند المتكلمين، ومرت الأمثلة لذلك، كصرف العام عن عمومه وإرادة بعض أفراده بدليل فهو تأويل صحيح؛ لأن المطلق يحتمل التقييد، ومثل صرف المعنى الحقيقي إلى المجاز بقرينة مقبولة فهو تأويل صحيح؛ لأنه صرف اللفظ إلى معنى يحتمله بدليل؛ لأن التأويل في هذه الحالات يكون موافقًا لوضع اللغة، أو عرف الاستعمال، أو عرف الشرع، أو حكمة التشريِع وأصوله العامة، وإلا كان تأويلًا غير صحيح، وهذا مما تختلف فيه الآراء. ¬

_ (¬1) اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، الأول: مذهب المشبِّهة، وهو عدم التأويل مطلقًا، وإجراء الألفاظ على ظاهرها، ولا يؤول شيء منها، وشبهوا الخالق بالمخلوقين، والثاني: مذهب السَّلف، وهو أن لها تأويلًا، ولكن نمسك عنه، مع تنزيه اللَّه تعالى عن التشبيه والتعطيل، والثالث: مذهب المؤَوِّلة، أو الخلف، وهو رأي ابن عباس وعلي وابن مسعود وأم سلمة من الصحابة رضي اللَّه عنهم، مع تصريحهم بالتقديس للَّه تعالى، والتنزيه عن صفات المخلوقين، والتبري من التحديد والتشبيه، فأوّلوا مثلًا اليد بالقوة، والعين بالعلم، وقال كثير من المفسرين والفقهاء والعلماء بهذا الرأي، وعاد أكثرهم إلى مذهب السلف بالتسليم والتفويض. انظر: إرشاد الفحول ص 176 - 177، البحر المحيط (3/ 440)، سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 468)، (21/ 500)، تفسير النصوص (1/ 372، 378) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 314)، شرح الكوكب المنير (3/ 461).

مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل أربعينَ شاةً شاةٌ" (¬1)، فصرف الحنفية الشاة الواجب دفعها زكاة عن الأربعين من الغنم السائمة غير المعلوفة إلى قيمتها؛ لأن الغرض من إيجاب الزكاة، وحكمة التشريع فيها دفع حاجة الفقراء، وقد تدفع حاجة الفقير بقيمة الشاة أكثر، فيرادُ بالشاةِ شاة، أو ما يعادلها من كل مال متقوَّم، لكن الجمهور اعتبروه تأويلًا بعيدًا ولم يأخذوا به. ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ اشْتَرى شاةً مُصَرَّاةً فهو بالخيار بين أن يُمْسِكَها وبَيْنَ أن يَرُدَّها وصاعًا من تمر" (¬2) فالظاهر أن المشتري إذا أراد ردّ الشاة المصرّاة فيجب أن يعوِّض البائع بصاع من تمْرٍ عما احتلب من لبنها، فأوّل الحنفية الصاع من تمر إلى قيمته، ليكون تعويضًا عما أتلفه من لبن الشاة، وهذا يتفق مع الأصول العامة في كون التعويض وضمان المتلفات بمثل ما أُتلف أو بقيمته، والغرض تعويض البائع عما خسره من لبن شاته. ومثاله: تأويل الجمهور لفرض الأم في الميراث بالثُّلُث إلى ثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين، في إحدى المسألتين الغرَّاويتين، منعًا من زيادة نصيبها في الإرث عن نصيب الأب. ومثاله: في القانون الجنائي: لفظ الليل الذي جعله القانون في جريمة السرقة وفي جريمة إتلاف المزروعات ظرفًا مشدّدًا للعقوبة، فظاهر اللفظ أن الليل من غروب الشمس إلى شروقها، فأوّلت بعض المحاكم ذلك إلى أن المراد بالليل إذا خيَّم الظلام، وربما لا يكون ذلك أثر غروب الشمس مباشرة؛ لأن ذلك لا يتفق وحكمة الشارع في جعل الليل ظرفًا مشددًا؛ لأن الغرض تشديد العقوبة على من يغتنم الظلام فرصة لارتكاب جريمته، ولكن محكمة النقص المصرية رفضت هذا التأويل (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري وأبو داود من حديث طويل عن أبي بكر رضي اللَّه عنه. (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم ومالك والشافعي وأبو داود والبيهقي وبقية أصحاب السنن بألفاظ متعددة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬3) إرشاد الفحول ص 177، علم أصول الفقه ص 165، تفسير النصوص (1/ 380، 387، 408)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 314)، أصول الأحكام =

2 - أن يستند التأويل إلى دليل صحيح يدل على صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره، وأن يكون هذا الدليل راجحًا على ظهور اللفظ في مدلوله؛ لأنه سبق أن الأصل في نصوص الشرع أن نعمل فيها بالظاهر إلا إذا قام دليل العدول عنه إلى غيره، فالأصل أن يبقى العام على عموهه، ولا يُقتصر فيه على بعض أفراده إلا بدليل، والأصل أن يبقى المطلق على إطلاقه ولا يُعْدل عنه إلى التقييد إلا بدليل، والأصل أن الأمر للوجوب ولا يُصرف إلى الندب أو الإرشاد أو الإباحة إلا بدليل، والأصل أن النهي للتحريم ولا يُعدل عنه إلى الكراهة مثلًا إلا بدليل، فلا بدَّ في التأويل من دليل صحيح. والدليل للتأويل تتفاوت درجاته حسب درجة إمكانية التأويل، فإن قرب التأويل كفى أدنى مرجح، نحو قوله سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، أي: إذا عزمتم على القيام لأداء الصلاة؛ لأن الشارع لا يطلب الوضوء من المكلف بعد الشروع في الصلاة، لأن الوضوء شرط لصحة الصلاة، والشرط يوجد قبل المشروط، وإن كان التأويل بعيدًا افتقر إلى دليل أقوى ليرجَّح على الظاهر والنص، وستأتي أمثلة التأويل البعيد، وإن تعذر الحمل لعدم الدليل رُدَّ التأويل وجوبًا، وكان مردودًا وباطلًا أو فاسدًا، كما سبق. 3 - أن يكون اللفظ الذي يُراد تأويلُهُ يحتمل المعنى الذي يؤوّل إليه، ولو احتمالًا مرجوحًا، وهذا يختلف باختلاف وجهات النظر، كما سيأتي في التأويل البعيد والاختلاف فيه. 4 - أن تتوفر في الناظر في التأويل الأهلية الكافية في الاجتهاد، ليوافق تأويلُه وضع اللغة، أو عرف الاستعمال، أو العرف الشرعي (¬1). ¬

_ = ص 245. وقارن ما قاله ابن النجار رحمه اللَّه تعالى في مناقشة الحنفية في تأويل الشاة في: شرح الكوكب المنير (3/ 465). (¬1) شرح الكوكب المنير (3/ 461)، إرشاد الفحول ص 177، تفسير النصوص (1/ 380) وما بعدها، (389) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 314).

أنواع التأويل

أنواع التأويل: ينقسم التأويل باعتبار قربه للفهم وبعده عنه، وبحسب نظرة العلماء له إلى نوعين: 1 - التأويل القريب إلى الفهم: وهو ما يكفي في إثباته لأدنى دليل، كالمثال السابق في تأويل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] من المعنى الظاهر للقيام إلى معنى قريب منه، وهو العزم على أداء الصلاة وإرادة الدخول فيها. ومثل تأويل الشافعي رحمه اللَّه تعالى قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، فقال: "إلا وجْهَها وكفيها" فتأول الشافعي "ما ظهر منها" بالوجه والكفين، ورجَّح تأويله بحديث عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسماء بنت أبي بكر: "يا أسماءُ! إنَّ المرأةَ إذا بلغتِ المحيضَ، لم يَصْلُح أن يُرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى كفِّهِ ووجهِهِ" (¬1)، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء (¬2). 2 - التأويل البعيد عن الفهم: هذا مجال لاختلاف العلماء، فبعضهم يعتبره قريبًا، وأكثرهم يعتبره بعيدًا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان الثقفي، وقد أسلم وعنده عشر نسوة: "أخْتر" وفي لفظ: "أمْسِك منْهن ارْبعًا وفَارِق سائرَهن" (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لفيروز الدَّيْلمي، وقد أسلم وعنده. زوجتان أختان: "اخْتَر" وفي لفظ: "أَمْسِك أيتَهما شئتَ، وفارق الأخرى" (¬4)، والحديثان ظاهران في استدامة الزواج السابق، أو استصحابه، لكن الحنفية أوّلوا الأمر بالإمساك على ابتداء نكاح إن كان الزواج في عقد واحد، واستبقاء الأولى منهن إن كان الزواج في أكثر من ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه أبو داود، وقال: هذا مرسل (2/ 382). (¬2) تفسير النصوص (1/ 389)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 316). (¬3) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي. (¬4) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي.

عقد، أي ابْتَدِئ زواجَ أربع منهن، أو ابتدئ زواج إحدى الأختين. وقال الجمهور: هذا تأويل بعيد؛ لأن الفرقة لو وقعت بسبب الدخول بالإسلام لم يخيّرهما، وقد خيّر كلًّا منهما، والمتبادر عن السماع من الإمساك الاستدامة، والسؤال وقع عنها فهو ظاهر من اللفظ، دون التجديد، ولو كان المراد من الحديثين التجديد، لبيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن غيلان وفيروز حديثًا عهد بالإسلام، وليس لهما معرفة بالأحكام الشرعية، ولم يبين لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - شروط النكاح مع الحاجة إليه لقرب عهدهما بالإسلام، ولم ينقل عن أحد ممن أسلم على أكثر من أربع أو على أختين أنه جدَّد النكاح، وإن ابتداء النكاح يحتاج إلى رضا الزوجات، ويصير التقدير: فارق الكل، وابتدئ بعد ذلك مَنْ شئت، فيَضيعُ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "اختر" لأنه قد لا يرضين أو بعضهن، والأمر للوجوب، فكيف يجب عليهما ابتداؤه، وليس بواجب في الأصل؟ وفي الحديث الثاني مانع آخر للتأويل، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيتهما شئت" وفي تقدير نكاحهما على الترتيب تعيين الأولى، وهو يتنافى مع تخييره (¬1). ومن التأويل البعيد ما قاله الحنفية في قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، فقالوا: المراد إطعامُ طعامِ ستين مسكينًا، إما لستين مسكينًا، أولمسكين واحد ستين طعامًا؟ لأن المقصود دفع الحاجة، ودفع حاجة ستين كحاجة واحد ستين يومًا. واعتبر الجمهور ذلك تأويلًا بعيدًا؛ لأنه عدول عن العدد، وهو ستون مسكينًا، وعدول عن لفظ "إطعام" الذي يقتضي توزيع الكفارة لهذا العدد، فالعدد مقصود لفضل الجماعة وبركتهم وتضافرهم على الدعاء للمحسن. ومن التأويل البعيد ما ذهب إليه بعضهم بوجوب مسح الرجلين في الوضوء لا غسلهما في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، واحتجوا بقراءة الجر "وأرجلِكم" عطفًا على "رؤوسِكم" وهي قراءة صحيحة سَبْعية. ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (3/ 462) وما بعدها، تفسير النصوص (1/ 391، 398)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 315).

الاعتدال في التأويل

وردّ الجماهير هذا التأويل البعيد لما ثبت في الصحاح مداومة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غسل الرجلين، ولم يثبت المسح عنه من وجه صحيح، وأمرَ بالغسل في أحاديث كثيرة، وثبتت به آثار عن الصحابة، وأن المسح في اللغة يستعمل بمعنى الغسل، وقراءة النصب "وأرجلَكم" صريحة في عطف الأرجل على الأيدي، فتحص في قراءة الخفض على المجاورة، وغير ذلك من الأدلة (¬1). الاعتدال في التأويل: وقع في التأويل إفراط وتفريط، فذهب الظاهرية إلى غلق باب التأويل كله، والأخذ بالظاهر دائمًا، مما يؤدي إلى البعد عن روح الشريعة، والخروج عن أصولها العامة، والجمود على النصوص، وإظهارها متخلفة وقاصرة. وذهبت فئة إلى فتح باب التأويل على مصراعيه، فأخرجوا النصوص عن ظاهرها ومعناها، حتى أوّلوها تأويلًا باطنًا مما وصل بهم إلى الزلل والعبث بالنصوص ومتابعة الآهواء. وذهب جماهير العلماء إلى الاعتدال، والأخذ بالتأويل بحذر واحتياط، واقتصاره على التأويل الصحيح الذي دل عليه دليل، ولا يأباه اللفظ، ولا يعارض نصًّا صريحًا، ووضعوا له الشروط لقبوله، وهذا هو الحق والصواب (¬2). ¬

_ (¬1) انظر أمثلة أخرى للتأويل البعيد في: شرح الكوكب المنير (1/ 465) وما بعدها، علم أصول الفقه ص 166، تفسير النصوص (1/ 391) وما بعدها، (429، 402)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 315). (¬2) علم أصول الفقه ص 166، تفسير النصوص (1/ 430، 438، 448)، وانظر أثر الاختلاف في الحكم على التأويل في: تفسير النصوص (1/ 397) وما بعدها.

المبحث الثاني اللفظ المبهم [اللفظ غير الواضح الدلالة]

المبحث الثاني اللفظ المُبْهَمُ [اللفظ غير الواضح الدلالة] تعريف: المبهم لغة: الخَفِيُّ والمُشْكِل، من قولهم: أَبْهَمَ الأمرُ: خَفي وأشكل، وأبهم الأمرَ: أخفاه وأشكله، والمبهم في الاصطلاح: هو اللفظ الذي خفيت دلالته على الحكم خفاءً لذاته، أو لعارض، ولذلك يتوقف فهم المراد منه على شيء خارجي غيره، وقد يزول الخفاء بالاجتهاد فيفهم المراد، وقد يتعذر زواله إلا ببيان من الشارع (¬1). أقسامه: إن درجة الإبهام في الألفاظ متفاوتة، فبعضها أكثر خفاءً وإشكالًا من بعض، فهي على مراتب في الخفاء، ولذلك ينقسم المبهم إلى أنواع. ولكن اختلف علماء الأصول في هذا التقسيم، فقسم الحنفية اللفظ المبهم -غير واضح الدلالة- إلى أربعة مراتب، بعضها أشد خفاء من بعض، وهي: الخفي، والمُشْكِل، والمُجْمَل، والمُتَشابه، وأشدها خفاء: المتشابه، ثم المجمل، ثم المشكل، ثم الخفي (¬2). وقسم الجمهور (المتكلمون) المبهم إلى نوعين: المُجْمَل، والمتشابه، وهو رأي الأكثرين، ويرى بعض المتكلمين أن المبهم هو المجْمل فقط، وأن المتشابه نوع ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (1/ 74) مادة: بهم، تفسير النصوص (1/ 229)، علم أصول الفقه ص 169، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 312)، أصول الأحكام ص 242. (¬2) أصول السرخسي (1/ 165)، كشف الأسرار (1/ 52)، تفسير النصوص (1/ 229)، علم أصول الفقه ص 169، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 312)، أصول الأحكام ص 242.

أولا: طريقة الى حنفية في تقسيم المبهم

من أنواعه، وقيل غير ذلك (¬1). ونعرض طريقة الحنفية، ثم طريقة الجمهور بشيء من التفصيل. أولًا: طريقة الى حنفية في تقسيم المبهم: قسم الحنفية المبهم بحسب مراتب الخفاء إلى أربعة أنواع وهي: الخفي، والمشكل، والمجْمل، والمتشابه. والأساس في هذا التقسيم أن خفاء اللفظ إما أن يرجع إلى ذات اللفظ، أو لعارض، فإن كان الخفاء لعارض من غير اللفظ، وأمكن معرفة المراد منه بالبحث والاجتهاد فهو الخفي، وإن رجع الخفاء لنفس اللفظ فينظر: فإن أمكن معرفة المراد من اللفظ بالعقل (بالاجتهاد) فهو: المشْكل، وإن أمكن معرفة المراد منه بالنقل (بالنصوص الشرعية أو من المشرع القانوني) لا بالعقل فهو: المجْمل، وإن لم يمكن إدراك المعنى أصلًا لا بالعقل ولا بالنقل فهو: المتشابه، فالخفاء في الأول من غير الصيغة، وفي الأنواع الثلاثة الأخرى فهو بعارض من الصيغة نفسها (¬2)، وهذا بيان مختصر لكل منها مع أمثلته وحكمه. 1 - الخفي: الخفي لغة: مأخوذ من خفي، أي: استتر، والخفاء هو عدم الظهور والستر والكتمان، وفي الاصطلاح الأصولي عند الحنفية: هو اللفظ الظاهر في دلالته على معناه، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء، ويحتاج إلى نظر واجتهاد، بالرجوع إلى النصوص الأخرى، وعلل الأحكام، ومقاصد الشريعة (¬3). ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 345)، المحصول (2/ 221)، الإحكام للآمدي (3/ 8)، شرح تنقيح الفصول ص 37، 274، شرح الكوكب المنير (3/ 413)، إرشاد الفحول ص 167، شرح العضد (2/ 58)، تفسير النصوص (1/ 326)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 312، 245). (¬2) علم أصول الفقه ص 169، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 336). (¬3) المعجم الوسيط (1/ 247) مادة: خفي، القاموس المحيط، مادة: خفي، أصول =

فاللفظ يدل دلالة ظاهرة على معناه، ولكن عرض له عارض من غير الصيغة، فصار فيه غموض وخفاء في انطباقه على بعض أفراده، فيعتبر خفيًّا بالنسبة إلى هذا البعض من الأفراد، ولذلك كان أقل أنواع المبهم خفاء، ويقابله الظاهر في مراتب الوضوح. مثاله: قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فلفظ "السارق" له معنى ظاهر في مدلوله، وهو من يأخذ مال غيره خفية من حرز مثله (¬1)، لكن في دلالته على بعض الأفراد نوع غموض وخفاء، مثل الطَّرَّار (النَّشّال) الذي يأخذ مال غيره في غفلة من صاحبه بنوع من المهارة والخفة ومسارقة الأعين، فهو يغاير السارق بوصف زائد فيه، وله اسم خاص، مما أورث شبهة وخفاء في انطباق حكم السارق عليه، واحتاج إلى بحث واجتهاد. وبعد الاجتهاد قال الجمهور: إن علة قطع السارق أكثر توفرًا في النَّشال؛ فإنه سارق وزيادة؛ لأن السارق يسارق الأعين النائمة، والنشَّال يسارق الأعين المتيقظة، فقالوا: ينطبق عليه حكم السارق، وتقطع يده بالأَوْلى، ويثبت وجوب القطع فيه بعبارة النص؛ لأنه سارق ماهر (¬2). ومثله النبَّاش الذي يسرق أكفان الموتى من قبورهم، فهو يغاير السارق؛ لأنه يأخذ مالًا غير مرغوب فيه عادة، ومن القبر، وبحث العلماء في ذلك، واختلفوا، فقال جمهور الحنفية: إنَّ النَّباش ينقص فيه معنى السرقة، ولا ينطبق عليه اسم السارق؛ لأن المال غير مرغوب فيه عادة، والقبر ليس حرزًا ¬

_ = السرخسي (1/ 167)، كشف الأسرار (1/ 51)، علم أصول الفقه ص 170، تفسير النصوص (1/ 230)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 336)، أصول الأحكام ص 242. (¬1) الحرز: ما يحفظ فيه المال عادة وعرفًا الصندوق والمنزل والحظيرة، انظر: المهذب (5/ 422)، مغني المحتاج (4/ 163)، الروضة (10/ 121). (¬2) ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى إلى عدم قطع يد النشال، لأنه لا ينطبق عليه تعريف السارق، وله اسم خاص، ولا يأخذ المال خفية، بل خلسة لعدم التيقظ من صاحب المال، لذلك يعاقب النشال بالتعزير لا بالحد (أصول الأحكام ص 242).

لما فيه، فلا تقطع يد النباش، وإنما يُعزَّر، وقال الأئمة الثلاثة وأبو يوسف: إنّه يعدُّ سارقًا وتقطع يده (¬1). ومثاله من السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَرِثُ القاتلُ شيئًا" (¬2)، فلفظ "القاتل" واضح الدلالة، ودلالته ظاهرة في القتل عمدًا، وأما دلالته على القاتل خطأ، ففيها شيء من الخفاء والغموض، بسبب وصف الخطأ، وأن الحرمان من الميراث عقوبة مالية، فهل لي يعاقب المخطئ في القتل بحرمان الميراث كالعامد؟ ومثل ذلك القتل بالتسبب والدفاع الشرعي، وهذا يحتاج إلى بحث واجتهاد. اختلف الأئمة في ذلك فقال المالكية: لا يُحرم من الميراث إلا القاتل عمدًا، دون غيره الذين لا يقصدون القتل، وقال الشافعية بالحرمان من الميراث لكل قاتل ولو خطأ، أو بالتسبب أو بالدفاع الشرعي، حتى لو كان القاتل غير مكلف، وفصّل الحنفية والحنابلة، لكنهم قالوا بحرمان القاتل خطأ من الميراث (¬3). ومثل ذلك: البائع إذا أخذ من المشتري نقودًا على أن يأخذ منها ثمن المبيع، ويرد الباقي، فاختفى، فهل يَصْدُق عليه أنه سارق أو خائن الأمانة؟ وهكذا كل لفظ يدل دلالة ظاهرة على معناه، ولكن وُجد خفاء أو اشتباه في انطباق معناه على بعض الأفراد، فإنه يعتبر خفيًّا بالنسبة إلى هذه الأفراد (¬4). وأمثلة الخفي في القوانين كثيرة، منها عدد من الجرائم التي يشتبه أمرها ¬

_ (¬1) المهذب (5/ 425)، والمراجع السابقة في تعريف الخفي، وانظر: علم أصول الفقه ص 178، تفسير النصوص (1/ 236)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 336)، أصول الأحكام ص 242. (¬2) هذا الحديث ورد بألفاظ أخرى "ليس للقاتل ميراث" "ليس للقاتل شيء" القاتل لا يرث" عن عدد من الصحابة، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني والدارمي (نيل الأوطار 6/ 84 - 85). (¬3) انظر تفصيل ذلك وآراء الأئمة والمذاهب في كتابنا: الفرائض والمواريث والوصايا ص 86 وما بعدها، تفسير الصوص (1/ 242)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 337)، أصول الأحكام ص 243. (¬4) علم أصول الفقه ص 171.

2 - المشكل

في اعتبارها جنحة أم جناية، وفي انطباق أحد اللفظين عليها لتطبيق أحكامه فيها، ومن ذلك ما جاء في تعريف السرقة في قانون العقوبات المصري بأنها "اختلاس المنقول المملوك للغير" فوقع الاشتباه في اعتبار التيار الكهربائي منقولًا، فهذا خفاء حتى بينته محكمة النقض، فاعتبرته منقولًا، وأن السرقة تتناول اختلاس الكهرباء، وتدارك ذلك القانون العراقي فأضاف في نصه: "ويعتبر منقولًا لتطبيق أحكام السرقة ... القوى الكهربائية والمائية وكل طاقة أو قوة محرزة أخرى" (¬1). حكم الخفي: هو وجوب النظر على المجتهد والقاضي والبحث لإزالة الخفاء، والتأمل في العارض الذي سبَّب الخفاء، وهذا ما تختلف فيه الأنظار، فإن ترجح أن اللفظ يتناول هذه المسألة، لزيادة في معناه، وبما يتفق مع مقاصد الشريعة، أعطاه المجتهد حكمه، وطبقه عليه كالنّشال بالنسبة للسارق، وإن ترجح نقصان المسألة عن معنى اللفظ الشرعي لم يُلحقه بظاهر اللفظ، ولم يطبِّق عليه حكمه، وكان له حكم آخر (¬2). 2 - المُشْكل: هو اللفظ الذي خفي معناه، ولا يدل بصيغته على المراد منه، ولا بدَّ من قرينة تبين المراد منه، فمنشأ الإشكال ذات الصيغة واللفظ، ولذلك فإنه لا يدرك معناه إلا بالتأمل وبقرينة خارجية تبين المراد منه، وتكون هذه القرينة غالبًا في متناول البحث (¬3). ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 171، أصول الأحكام ص 244، تفسير النصوص (1/ 251)، وانظر أمثلة قانونية أخرى في: تفسير النصوص (1/ 250). (¬2) علم أصول الفقه ص 171، تفسير النصوص (1/ 249)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 338)، أصول الأحكام ص 244. (¬3) أصول السرخسي (1/ 168)، كشف الأسرار (1/ 52)، علم أصول الفقه ص 171، تفسير النصوص (1/ 253)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلى (1/ 338)، أصول الأحكام ص 244، والمشكل يقابل النَّص في مراتب الوضوح.

ويختلف المشكل عن الخفي أن الإبهام في المشكل منشؤه من نفس اللفظ، ولا يمكن فهم معناه المراد إلا بقرينة، أما الخفي فإن الإبهام فيه من طريق خارج عن اللفظ، ويعرف المراد منه من غير قرينة، فالمشكل أشد إبهامًا من الخفي، لكن يتفق المشكل والخفي في أن كلًّا منهما يحتاج إلى بحث وتأمل. ومن أمثلة المشْكل: اللفظ المشترك فإنه موضوع لغة -كما سبق- لأكثر من معنى واحد، فإن ورد في التشريع بدون دلالة على أحد المعاني التي وضع لها، كان ذلك مشكلًا. مثاله: لفظ "قروء" في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإن لفظ "القرء" مشترك في اللغة بين الطهر والحيض، فوقع الإبهام والإشكال في تحديد المراد منه في الآية، لانقضاء عدة المطلقة، وهل تناقضي بثلاثة أطهار أم بثلاث حيضات؟ فاقتضى الأمر البحث عن قرينة خارجية تعيّن الحكم، أو عن دليل يرجح أحد المعنيين؛ لأن النتيجة تختلف جزئيًّا باعتبار الطهر أو الحيض. وبعد البحث والتأمل في القرائن والأدلة الأخرى رجح المالكية والشافعية أن يكون القرء طهرًا بقرينة تأنيث العدد، وهو ثلاثة، فيكون المعدود مذكرًا، وهو الطهر، ولأن تفسير القرء بالطهر أقرب إلى الاشتقاق؛ لأن معناه الجمع، وفي الطهر يتجمع الدم في الرحم، أما في الحيض فيلقى الدم من الرحم، ولأن اعتبار الأطهار يجعل العدة على المرأة أقل مدة، فهو أخف، وهو يتفق مع مقاصد الشريعة. ورجح الحنفية والحنابلة أن القرء هو الحيض، لحديث: "عِدَّةُ الأمةِ حَيْضتان" (¬1)، فنصَّ على الحيض، ولا فرق بين الأمة والحرة فيما تقع به العدة، ولحديث: "المُسْتَحاضة تدَعُ الصلاةَ أيامَ أقرائها" (¬2) أي أيام حيضها، ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة رضي اللَّه عنها مرفوعًا. (¬2) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن جذ عدي بن ثابت، وهو حديث ضعيف، ورواه الطبراني عن عائشة وسودة رضي اللَّه عنهما، ورواه الدارقطني عن أم سلمة رضي اللَّه عنها. =

فالقرء هو الحيض، ولأن العدة شرعت لتعرف براءة الرحم، وذلك يعرف بالحيض (¬1). ومثاله: عبارة "الذي بيده عقدة النكاح" في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فهل المراد من الذي بيده عقدة النكاح الزوج ليعفو عن حصته، أو الولي ليعفو عن حصة المطلَّقة؟ وبعد التأمل والبحث والاجتهاد رأى كثير من الصحابة والتابعين وجمهور الأئمة أن المراد هو الزوج (أي الرجل أو المرأة)؛ لأن كلًّا منهما صاحب حق في نصف المهر، والعفو لا يتصور إلا ممن له الحق في المهر لغيره، ويصبح المعنى إلا أن يعفو الرجل المطلِّق عن حقه وهو نصف المهر، فيكون المهر كله للمرأة، وإما أن تعفو المرأة عن حقها ولا تأخذ شيئًا من المهر. وقال المالكية: المراد هو الولي، ويثبت الحق للمرأة البالغة العاقلة أن تعفو عن حصتها، وإن كانت قاصرة قام الولي مقامها في ذلك، وقيدوا كلمة "يعفون" للمرأة إن كانت أهلًا، وإلا فهو الولي (¬2). ومن أمثلة المشكل في القانون: لفظ "الليل" الذي اعتبره القانون المصري ظرفًا مشددًا لعقوبة السرقة، كما سبق، وهل يراد منه معناه الفلكي من غروب الشمس إلى شروقها، أم الفترة التي يتحقق فيها الظلام بالفعل؟ واختلف القضاء في ذلك، فذهبت محكمة الدرجة الأولى إلى المعنى الثاني، فقامت محكمة النقض برد الحكم، وفسرت المراد بالمعنى الأول، وهو الفترة الزمنية المحصورة من الغروب إلى الشروق، ثم نص القانون العراقي على ما قررته محكمة النقض (¬3). ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 172، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 339)، أصول الأحكام ص 245، وانظر أمثلة أخرى في: تفسير النصوص (1/ 256 - 272). (¬2) تفسير النصوص (1/ 263)، أصول الفقه الإسلامي (1/ 340). (¬3) علم أصول الفقه ص 165 - 166، تفسير النصوص (1/ 274)، أصول الأحكام ص 245، وانظر أمثلة قانونية أخرى في: تفسير النصوص (1/ 275). =

3 - المجمل

حكم المشكل: إن حكم المشكل هو وجوب البحث والتأمل والاجتهاد لتحديد المعنى المراد من اللفظ، ثم العمل بما توصل إليه البحث (¬1). 3 - المُجْمَل: المُجْمَل لغة: المجموع، من أَجْمَلَ الشيء: جمعه بعد تفرق، قال الفيومي: "وأجملت الشيء إجمالًا: جمعته من غير تفصيل، والمجمل لغة: المبْهم، مأخوذ من الإجمال وهو الإبهام وعدم التفصيل، وأجمله: أبهمه" (¬2). والمجمل في اصطلاح الأصوليين من الحنفية: هو اللفظ الذي خفي المراد منه بسبب في نفس اللفظ، ولا يفهم المراد منه إلا بالاستفسار ممن أصدره؛ لأنه لا توجد قرائن لفظية أو حالية تبيّنه، فإن بيّنه قائله أصبح مفسرًا (¬3)، وهو ما يقرره علماء الأصول في بحث البيان. وسبب الإجمال إما لكون اللفظ مشتركًا مع عدم القرينة التي ترجح أحد معاني المشترك، فتزاحم المعاني المتساوية فيها كلفظ عين للعين الباصرة والعين الجارية، والجاسوس، والذهب، ولفظ الموالي للسادة والعبيد، وإما لغرابة اللفظ لغة، مثل لفظ "الهَلُوع" في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 173، تفسير النصوص (1/ 273)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 340)، أصول الأحكام ص 245. (¬2) المصباح المنير (1/ 134)، وانظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 481)، المعجم الوسيط (1/ 136) مادة: جَمَل. (¬3) كشف الأسرار (1/ 54)، التلويح على التوضيح (1/ 126)، أصول السرخسي (1/ 168)، وانظر: شرح العضد (2/ 158)، شرح الكوكب المنير (3/ 413)، المستصفى (1/ 345)، المحصول (3/ 231)، نهاية السول (1/ 189)، البرهان (1/ 419)، الإحكام للآمدي (3/ 8)، شرح تنقيح الفصول ص 37، 274، الحدود للباجي ص 45، العدة (1/ 142)، روضة الناظر ص 180، التعريفات للجرجاني ص 108، إرشاد الفحول ص 167، علم أصول الفقه ص 173، تفسير النصوص (1/ 276)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 340)، أصول الأحكام ص 246.

هَلُوعًا} [المعارج: 19]، ثم بيّنه اللَّه تعالى بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 - 21] (¬1)، وإما أن يكون الإجمال من نقل اللفظ من معناه الظاهر في اللغة إلى معنى شرعي جديد، ثم بيّن الشرع المعنى المراد منه فصار مفسرًا، مثل ألفاظ الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وهذا النوع الأخير أكثر أنواع الإجمال وجودًا؛ لأن كثيرًا من المسمَّيات أعطاها الشرع معنى جديدًا، ولذلك يقول الفقهاء: معناه لغة كذا، وشرعًا كذا. والمجْمَل بهذا المعنى لم يعد موجودًا في القرآن والسنة، فقد بيَّن القرآن نفسه المراد من بعض الألفاظ المجملة، ثم بيّنت السنة الباقي، ولم ينتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى إلا وقد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وبيّن الشرعَ، وترك الأمة على بَيْضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مبلِّغًا عن ربه، ومبيِّنًا لشرعه، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ولكن المجمل موجود في كتب العلماء وكلام الناس عامة، وفي النصوص التشريعية الوضعية في القوانين واللوائح والأنظمة والقرارات، وأنها تحتاج إلى إزالة الإبهام فيها والإجمال ممن صدرت عنه، لإصدار قانون تفسيري يزيل الإبهام، أو بإصدار لائحة تنفيذية لبيان الإجمال، ولذلك تبدأ القوانين غالبًا ببيان بعض التعبيرات الواردة فيها لتُفَسَّر النصوص على ضوئها، وتبقى كلمات أخرى كثيرة مجملة. ¬

_ (¬1) ومثل ذلك كلمة "القارعة" التي بينها القرآن بعدها مباشرة بقوله تعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 1 - 5]، ويرى جمهور العلماء أن لفظ "الربا" بينته السنة وفسرته، بينما يرى بعض أصوليي الحنفية إلى اعتبار لفظ الربا من المجمل الذي لم تفسره السنة بيانًا كافيًا فانتقل إلى حيز الإشكال، فهو مشكل يحتاج إلى بحث واجتهاد من العلماء، انظر تفصيل ذلك في تفسير النصوص (1/ 299) وما بعدها، والمراجع الواردة فيها، علم أصول الفقه ص 175، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 342).

4 - المتشابه

فمن ذلك كلمة "الرجوع" في قانون الوصية المصري، ثم صدر قانون بتفسيرها وأن المراد منها الرجوع القولي للموصي، وكلمة الأحوال الشخصية وتحديد المراد منها، وما يدخل فيها، وما لا يدخل، ثم فسرها قانون خاص، وكلمة التعويضات التي يستحقها الموظف عند استدعائه لخدمة العلم في سورية، ففيها إبهام، وحصل خلاف شديد في تطبيقها حتى أصدر مجلس الدولة بيانًا للمراد منها (¬1). حكم المجمل: إن حكم المجْمَل هو التوقف في تعيين المراد منه حتى يصدر بيان رسمي من المصدر نفسه، وهذا ما حصل عند نزول بعض الآيات المجملة فتوقف الصحابة فيها حتى نزل الوحي ببيانها إما في القرآن نفسه، وإما في السنة؛ لأنه لا يوجد في صيغة اللفظ ولا في القرائن الخارجية عنه ما يبين المراد، فيتعين الرجوع إلى صاحب الكلام للاستفسار منه، وللبيان، مع الاعتقاد فيه. وإذا صدر من المشرع بيان للمجمل، ولكنه بيان غير واف بإزالة الإجمال، صار به المجمل من المشكل، وفتح الباب للبحث والاجتهاد لإزالة الإشكال (¬2). 4 - المُتَشابه: وهو آخر أقسام المبهم عند الحنفية، وهو أشدها خفاءً وإبهامًا، ولشدة خفائه جعلوه في مقابل المحْكم، الذي هو أكثر الألفاظ وضوحًا. والمتشابه في اللغة مأخوذ من: اشتبهت الأمورُ وتشابهت، أي: التبست لإشباه بعضها بعضًا، واشتبه الأمر: اختلط (¬3). والمتشابه في الاصطلاح: هو اللفظ الذي لا تدل صيغته على المراد منه، ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 174، تفسير النصوص (1/ 307)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 321)؛ أصول الأحكام ص 247. (¬2) أصول السرخسي (1/ 168)، التلويح على التوضيح (1/ 127)، شرح الكوكب المنير (3/ 414)، روضة الناظر ص 181، علم أصول الفقه ص 175، تفسير النصوص (1/ 298)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 341)، أصول الأحكام ص 248. (¬3) المعجم الوسيط (1/ 471)، لسان العرب مادة: شبه.

ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره (¬1). والمتشابه بهذا المعنى لا يوجد في آيات الأحكام أو أحاديث الأحكام، ولا يرد في نصوص القوانين؛ لأنه يتنافى مع التكليف المطلوب من المكلف، أو القاعدة القانونية المطلوب من الناس العمل بها، ولذلك فهو قليل الأثر في الجانب العملي، وقد يرد في مباحث علم الكلام وأصول الاعتقاد. ومن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور، مثل: الَمَ، حمَ، عَسَقَ، صَ، قَ، نَ، فهذه الحروف لا تدل بنفسها على المعنى المراد منها، ولم يرد لها تفسير في كتاب أو سنة. ومن المتشابه صفات اللَّه تعالى التي يوهم ظاهرها مشابهة اللَّه لخلقه مما يتنافى مع جلال اللَّه تعالى، لقوله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فنفى التشابه، وأثبت السمع والبصر، ومثل ما جاء من نسبة العَيْن واليَد والوَجْه والمكان للَّه تعالى، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، ونسبة المجيء إلى اللَّه تعالى ¬

_ (¬1) يرى كثير من العلماء أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الْأَلْبَابِـ (7)} [آل عمران: 7]، فاللَّه يعلم المتشابه وكذلك الراسخون في العلم، والراجح الوقوف عند قوله: إلا اللَّه، ثم الاستئناف وابتداء كلام جديد: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ...} انظر تفصيل ذلك في كتب التفسير لهذه الآية، ومن كتب الأصول: المستصفى (1/ 363)، الإحكام للآمدي (3/ 100)، كشف الأسرار (1/ 55) وما بعدها، أصول السرخسي (1/ 170)، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني (2/ 61)، شرح الكوكب المنير (3/ 415)، روضة الناظر ص 181، إرشاد الفحول ص 169، علم أصول الفقه ص 175، تفسير النصوص (1/ 317)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 342)، أصول الأحكام ص 249.

1 - طريقة السلف

في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، والنزول الوارد في الحديث الصحيح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلة إلى سماء الدُّنْيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخر، يقول: مَنْ يَدْعُوني فأستجيبَ له؟ مَنْ يسألُني فأعْطِيَه؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُني فأغفرَ له؟ " (¬1) وغير ذلك (¬2). حكم المتشابه: اختلف المفسرون وعلماء الكلام والتوحيد في معرفة حكم المتشابه على طريقتين، وهما: 1 - طريقة السلف: وهي طريقة عامة أهل السنة والجماعة، وأيَّدها جماهير العلماء، وذلك بالامتناع عن تأويل الألفاظ المتشابهة، والاعتقاد بها كما جاءت، وترك الاشتغال بمحاولة معرفة معناها، والتسليم بما يريد الشارع، فاللَّه أعلم بمراده منها، ولا يترتب عليها حكم، وهذه الطريقة أسلم في الاعتقاد، وسدًّا لباب التأويل الذي لا يؤمن جانبه، وتختلف فيه الأنظار. 2 - طريقة الخلف: وهي رأي بعض العلماء والفرق الكلامية، وذلك بتأويل المتشابه بما يوافق اللغة، ويصرفه عن ظاهره؛ لأن ظاهر هذه الآيات مستحيل على اللَّه؛ لأنه ليس كمثله شيء، فاللَّه لا يدَ له ولا عين ولا وجه ولا مكان، وكل ما يستحيل إرادته ظاهرًا فيجب أن يؤول ويصرف عن هذا الظاهر، ويراد به معنى يحتمله اللفظ ولو بطريق المجاز، وبذلك نُنَزّه الخالق عن التشبيه بخلقه، فاليدُ هي القدرة والقوة، والعين هي ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري في (صحيحه 1/ 384 رقم 1094). (¬2) أصول السرخسي (1/ 170)، كشف الأسرار (1/ 56)، المستصفى (1/ 363)، الإحكام للآمدي (3/ 101)، جمع الجوامع والمحلي والبناني عليه (2/ 61)، شرح الكوكب المنير (3/ 412) وما بعدها، إرشاد الفحول ص 169، علم أصول الفقه ص 175 - 176، تفسير النصوص (1/ 312 - 321)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 343)، أصول الأحكام ص 249، الحاوي الكبير للماوردي (20/ 125).

ثانيا: طريقة الجمهور في تقسيم المبهم

الرعاية والعناية، والوجه هو ذات اللَّه تعالى، واستوى على العرش أي: استولى على وجه التمكن، وهكذا. ومنشأ الخلاف: هو اختلافهم في قوله تعالى في المتشابه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] فالسلفُ جعلوا الوقف في الآية عند لفظ الجلالة: "إلا اللَّه" فلا يعلم تأويل المتشابه إلا اللَّه، ثم الراسخون في العلم يؤمنون به، ويفوضون علمه له، ولا يبحثون في تأويله، والخلف رأوا الوقف بعد قوله: {إلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فالراسخون في العلم يعلمون تأويله بإرادة معنى يحتمله اللفظ، ويتفق مع تنزيه اللَّه تعالى عن مشابهة خلقه، وهذه الطريقة يسلكها المعلم والواعظ لتقريب المعاني للأذهان (¬1). ولا يترتب على هذا الاختلاف أثر عملي، لأنه غير موجود في الأحكام الشرعية، ولا صلة له بعلم أصول الفقه، وإنما تسرب له من علم الكلام، وإنما ذكره علماء الأصول تتميمًا لتقسيم المبْهم فيما يدرك معناه ويحتمل التأويل وفيما لا يدرك معناه ولا يحتمل التأويل لخفائه في ذاته (¬2). ثانيًا: طريقة الجمهور في تقسيم المبهم: اختلف المتكلمون من علماء الأصول في المبهم، فاعتبره بعضهم شيئًا ¬

_ (¬1) المراجع السابقة. (¬2) يرى الشيخ عبد الوهاب خلاف -رحمه اللَّه تعالى- عدم وجود المتشابه في القرآن وأن ما سبق بيانه هو المشْتَبه، أي: المحتمل الذي يجري فيه التأويل والاختلاف، وأنه مقابل المحْكم، وأن المشتبه لا يدل بنفسه على المراد منه، ولكن أحاطه الشارع بقرائن لبيانه؛ لأن اللَّه تعالى أنزل القرآن للتدبر والذكر، فلا يمكن أن يكون فيه ما لا سبيل إلى فهمه مطلقًا، فالأحرف في أوائل السور للدلالة على الأعجاز في القرآن المكون من حروف العرب، ويعجزون عن الإتيان بمثله، وبقية الآيات مجالها البحث والاجتهاد لإزالة الاحتمال وتعيين المراد، بينما نبه الأستاذ الدكتور حمد الكبيسي إلى وجوب التفريق بين المتشابه والمشتبه الوارد في الحديث: "وبينهما أمور مشتبهات" فالمشتبه ينكشف معناه بالتتبع، والمتشابه لا يعرفه إلا اللَّه تعالى في قول، أو يعرفه اللَّه تعالى والراسخون في العلم في قول آخر، وفي الموضوع كلام كثير للعلماء. انظر: علم أصول الفقه ص 176 - 177، أصول الأحكام ص 250، تفسير النصوص (1/ 322).

1 - المجمل

واحدًا، وهو المجمل أو المتشابه بمعنى واحد، وله أوجه متعددة، وقال آخرون: إنَّ المبهم هو المجمل، وإن المتشابه نوع منه، فكل متشابه مجمل، ولا عكس، وقال فريق ثالث: ينقسم المبهم إلى المجمل والمتشابه، فهما نوعان (¬1)، وهو ما نسير عليه ونبيِّنه. أقسام المبهم: ينقسم المبهم في رأي الجمهور (المتكلمين) إلى نوعين، وهما المجمل والمتشابه. 1 - المجمل: هو ما له دلالة على أحد أمرين، لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة له (¬2)، ثم يتم البحث والاجتهاد والنظر لترجيح أحد المعاني، وهذا المجمل يشمل عند الحنفية أنواع المبهم الثلاثة الأولى: الخفي، والمشكل، والمجمل، فالمجمل عند الجمهور أعم مما هو عند الحنفية، وإن بيان المجمل عند المتكلمين لا ينحصر بيانه من قِبَل المتكلم نفسه، بل يمكن أن يكون بالقرائن أو بالاجتهاد. صور المجمل وأمثلته: أ- المشترك: وهو أن يكون اللفظ موضوعًا لغة لشيئين حقيقة، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فالقرء حقيقة في الحيض، وحقيقة في الطهر، فاحتاج معرفة المراد من الآية إلى البيان، والترجيح. ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 345)، المحصول (3/ 231)، نهاية السول (1/ 143)، البرهان (1/ 149)، الإحكام للآمدي (1/ 8)، شرح العضد (2/ 158)، شرح تنقيح الفصول ص 37، 274، الحدود للباجي ص 45، العدة (1/ 142)، روضة الناظر ص 180، إرشاد الفحول ص 167، المعتمد (1/ 317)، الإحكام لابن حزم (3/ 385)، تفسير النصوص (1/ 326)، أصوال الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 345). (¬2) هذا تعريف الآمدي، الإحكام، له (1/ 8).

وقد يكون الاشتراك إما بين لفظين مختلفين كالعين: للباصرة والذهب والشمس، ولفظ المختار، للدلالة على الفاعل أي: من يختار، وعلى المفعول، أي: لمن يقع عليه الاختيار، وإما بين لفظين ضدين كالقرء للطهر والحيض، وإما أن يقع الاشتراك في اللفظ المركب، كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فالذي بيده عقدة النكاح متردِّد بين الزوج والولي. ب- الألفاظ الشرعية: وهي الكلمات العربية ذات المعنى الظاهر، ثم خرجت في عرف الشرع إلى معان جديدة، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها. جـ- الأفعال: قد يكون الإجمال في الأفعال التي صدرت عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وتحتمل أمرين، فتكون مجملة حتى يرد دليل على حملها على أحد المعنيين، فقد ثبت أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جمع في السفر، فهذا مجمل؛ لأنه يحتمل السفر الطويل، والسفر القصير، ومن ذلك أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر مَنْ أفْطر في رمضان بالكفارة، فهذا مجمل؛ لأنه يحتمل أنه أفطر بجماع، أو أفطر بأكل، فلا يحمل على أحد الأمرين إلا بدليل. د- المجاز: إذا كان اللفظ تنتفي حقيقته، ويحتمل مجازات متكافئة، فلا يرجح مجاز على غيره إلا بدليل، كأن يكون أحد المجازات أقرب إلى الحقيقة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتاب" (¬1)، وقوله: "لا صيامَ لمن لم يُبَيِّت الصيامَ من الليل" (¬2)، فالحديث الأول يخبر عن نفي الصلاة عند انتفاء الفاتحة، والثاني يخبر عن نفي ذات الصوم عند عدم تبييت النية، وهذه الحقيقة غير مرادة للشارع، فتعين الحمل على المجاز، وهو نفي الصحة أو نفي الكمال، ونفي الصحة أرجح؛ لكونه أقرب للحقيقة، فلا تصح الصلاة بدون الفاتحة، ولا يصح الصوم بدون تبييت النية. وقد يكون أحد المجازات أظهر في العرف، كحديث "رُفِعَ ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه. (¬2) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والبيهقي بأسانيد مختلفة عن عائشة وحفصة رضي اللَّه عنهما.

حكم المجمل عند المتكلمين

عن أمتي الخطأُ والنسيانُ وما استُكْرِهوا عليه" (¬1) فحقيقة اللفظ ارتفاع نفس الخطأ، وهو باطل؛ لوقوعه بالفعل، فلا يرتفع، فيحمل على المجاز، وهو نفي الحكم، أو نفي الإثم، ورجح العلماء نفي الإثم؛ لكونه أظهر عرفًا. وقد يكون أحد المجازات أعظم مقصودًا، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 103] فالحقيقة تحريم نفس الميتة، لكنه باطل؛ لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالأفعال المقدور عليها للمكلفين، والعين ليست من أفعالهم، فتصرف إلى المجاز، وهو تحريم الأكل أو اللمس، ويرجح الأكل؛ لكونه أعظم مقصود عرفًا (¬2). حكم المجمل عند المتكلمين: قال ابن النّجار الفتوحي رحمه اللَّه تعالى: "وحكمُه أي: الإجمال: التوقفُ على البيان الخارجي، فلا يجوز العمل بأحد مُحْتَملاته إلا بدليل خارج عن لفظه؛ لعدم دلالة لفظه على المراد منه، وامتناع التكليف بما لا دليل عليه" (¬3)، ولذلك يتوقف العالم والمجتهد أمام اللفظ المجمل، ثم يبحث عن دليل شرعي أو لغوي لترجيح المعنى المراد، ويبني عليه الحكم. 2 - المتشابه: المتشابه: هو ما اشتبه معناه، ولم يتضح المراد منه، واستأثر اللَّه بعلمه، ولم يُطْلِع عليه أحدًا من خلقه، كالحروف في أوائل بعض السور، مثل: ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه ابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، وغيرهم (التلخيص الحبير 1/ 281). (¬2) الإحكام، للآمدي (3/ 9) وما بعدها، المستصفى (1/ 363)، جمع الجوامع والمحلي والبناني (2/ 62)، المحصول (3/ 227) وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص 280، شرح الكوكب المنير (3/ 415) وما بعدها، روضة الناظر ص 181، إرشاد الفحول ص 169، تفسير النصوص (1/ 328)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 345)، الحاوي للماوردي (20/ 113). (¬3) شرح الكوكب المنير، له (3/ 414)، وانظر المراجع المشار إليها في هامشه، والمراجع السابقة في الهامش السابق.

ملحق: البيان

الَمَصَ، الَمَرَ، حمَ، المَ، وغير ذلك، وهو كالمتشابه عند الحنفية. وحكمه: اعتقاد حقيقته، وترك طلب المراد منه؛ لتعذر العلم به، ويأتي في محاولة تفسيره طريقةُ الخلف، وطريقة السلف اللتان سبق بيانهما (¬1). ملحق: البيان: رأينا في تعريف المبهم وأقسامه عند الحنفية، وعند الجمهور، وخاصة المجمل عند الجميع: أنه يحتاج إلى بحث واجتهاد لبيان معناه، وتحديد المراد منه. وإن البيان لا يقتصر على بيان المبهم والمجمل، بل يرد على العام، والمجاز، والمشترك، والفعل المتردد بين أمرين، ومطلق الفعل، وغير ذلك (¬2). وهذا يقتضي أن نتحدث عن البيان، وتعريفه، وحكمه، وطرقه، وأنواعه، وتحديد المبيَّن له، ودراسة مسألة تأخير البيان عن وقت الحاجة، وتأخير تبليغ الوحي، وذلك في النقاط التالية. تعريف البيان: البيان لغة: الحجة، والمنطق الفصيح، والكلام الذي يكشف عن حقيقة حال، أو يحمل في طياته بلاغًا، والبيان: علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة من تشبيه، ومجاز، وكناية، والبيان اسم مصدر (¬3). والبيان في الاصطلاح الأصولي: هو إظهار المعنى للمخاطب، أو هو: إخراج المعنى من الإبهام إلى الوضوح، وقيل: هو إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيز التجلي (¬4)، فاللفظ مبهم، ولا يعرف المراد منه، فيأتي ¬

_ (¬1) أصول الفقه، أبو زهرة ص 128، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 345)، الحاوي للماوردي (20/ 126) وما بعدها. (¬2) كثيرًا ما يرد في النصوص التشريعية الوضعية كالقوانين واللوائح والقرارات نصوص غامضة ومتهمة، ثم يصدر بيان يوضح ذلك، ويسمى: النص التفسيري أو التوضيحي، أو اللائحة التنفيذية. (¬3) المعجم الوسيط (1/ 80) مادة: بين. (¬4) الرسالة ص 21، المستصفى (1/ 364)، المحصول (3/ 226)، الإحكام للآمدي =

حكم البيان

البيان ليظهره ويوضحه، ويجعله جليًّا (¬1). حكم البيان: البيان مشروع، وقد ورد في نصوص كثيرة في القرآن الكريم، كما مرَّ، وكما سنرى، وقام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ببيان القرآن، والأحكام التي صدرت عنه، وكانت إحدى مهماته ووظائفه الأساسية البيان لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وهو ما فعله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بطرق متعددة، كما ستأتي أمثلته. قال ابن النجار الفتوحي رحمه اللَّه تعالى: "ويجبُ البيان لما أُريدَ فهمه من دلائل الأحكام، يعني إذا أريد بالخطاب إفهام المخاطَب به ليعملَ به وجب أن يُبيَّن ذلك على حسب ما يُراد بذلك الخطاب؛ لأن الفهم شرط للتكليف" (¬2)، فيجب البيان في التكاليف التي تحتاج له، ليصح التكليف بها، وهو شرط من شروط التكليف التي عرضناها في بحث المحكوم عليه، من باب الحكم الشرعي. طرق البيان: إن طرق البيان متعددة، ويأتي المبيِّن بأساليب كثيرة أهمها: ¬

_ = (3/ 25)، البرهان (1/ 159)، نهاية السول (2/ 148)، كشف الأسرار (3/ 104)، فواتح الرحموت 2/ 42، أصول السرخسي (2/ 26)، تيسير التحرير (3/ 171)، الفصول في الأصول للجصاص (2/ 47)، الإحكام لابن حزم (1/ 38)، شرح العضد (2/ 162)، شرح تنقيح الفصول ص 274، شرح الكوكب المنير (3/ 438)، المسودة ص 572، العدة (1/ 102)، روضة الناظر ص 184، المحلي على جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 67)، التعريفات للجرجاني ص 26، الحدود للباجي ص 41، إرشاد الفحول ص 167، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 328). (¬1) يطلق البيان على التبيين الذي هو مصدر بيَّن، وهو فعل المبيِّن، ويطلق البيان على ما حصل به التبيين وهو الدليل، ويطلق على متعلَّق التبيين وهو المدلول المبيَّن، ويطلق البيان على محل التبيين، انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 438). (¬2) شرح الكوكب المنير (3/ 441)، وانظر: نهاية السول (2/ 160)، المعتمد (1/ 358)، المحصول (3/ 331)، المحلي على جمع الجوامع والبناني (2/ 67)، شرح تنقيح الفصول ص 285.

1 - القول

1 - القول: يحصل البيان بالقول باتفاق العلماء، والقول إما أن يكون من اللَّه تعالى، أو من رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإما من العلماء والمجتهدين كما سيأتي في الاجتهاد والقياس. فالقول من اللَّه تعالى، كقوله عزَّ وجلَّ: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69]، فإنه مبيِّن لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وذلك على القول المشهور أن المراد بالبقرة بقرةٌ معينة، فبين اللَّه تعالى أوصافها. والقول من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كقوله عليه الصلاة والسلام: "فيما سقت السماء أو كان عَثَريا العُشْر، وما سُقي بالنَّضْح نصفُ العُشْر" (¬1) فهذا مبيِّن لقوله سبحانه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، والأمثلة على ذلك كثيرة في السنّة البيانية للقرآن الكريم، فالسُّنة تبين مجمل القرآن، وهذا كثير في الصلاة والصوم والحج والبيع، وغالب الأحكام التي فصلتها السنة (¬2). ومن البيان بالقول التنبيه على المعاني والعلل التي تبين الأحكام، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في بيع الرطب بالتمر: "أينقصُ الرطبُ إذا جفَّ" (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد والدارمي عن ابن عمر وجابر رضي اللَّه عنهم. والعَثَري: الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر، والنضح: إخراج الماء بالجهد والعمل. (¬2) شرح الكوكب المنير (3/ 441)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 328)، إرشاد الفحول ص 167، الفصول في الأصول (2/ 60). ويجوز التدرج بالبيان، فيقال: اقتلوا المشركين، ثم يقال: إذا انسلخ الأشهر الحرم، ثم يقال: الحربيين، ثم يقال: إذا كانوا رجالًا، فهذا تخصيص بعد تخصيص، وهو واقع في القرآن والسنة، ولا مانع منه عقلًا، انظر: المستصفى (1/ 381)، الإحكام للآمدي (3/ 49)، نهاية السول (2/ 161)، شرح العضد (2/ 167)، شرح الكوكب المنير (3/ 454)، وهذا يقع كثيرًا في القوانين والأنظمة الوضعية، فيصدر تشريع عام، ثم يخصص، ثم يخصص. (¬3) هذا الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه.

2 - الفعل

رضي اللَّه عنه في قِبلة الصائم: "أرأيتَ لو تمضمضتَ بماء وأنت صائم" (¬1)، مما استدل به الشرع عقليًّا لبيان العلة، أو مأخذ الحكم، أو فائدة ما (¬2). 2 - الفعل: المراد به فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحصل بيان الحكم بالفعل عند معظم العلماء، ودليله أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بيَّن الصلاة والحج بالفعل، ثم قال: "صَلُّوا كما رأيتُموني أصلي" (¬3)، وقال: "خُذُوا عني مناسِككم" (¬4)، فدلَّ هذا القول على أن فعله بيان لقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، الفعل مشاهَد، والمشاهدة أدلُّ، فهو أولى من القول بالبيان، لحديث: "ليْسَ الخبرُ كالمعاينة" (¬5). والفعل يشمل الأداء العملي، ويشمل الكتابة، والإشارة، ومثال الكتابة الكتب التي كتبها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ككتابه لعمرو بن حزم لأهل اليمن في الفرائض والسنن والدِّيات (¬6)، وكتابه لأبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه في مقادير الزكاة (¬7)، ومثال الإشارة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وأشار بأصابعه العشرة، وقبض الإبهام في الثالثة، يعني تسعة ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم والبيهقي عن عمر وجابر رضي اللَّه عنهما. (¬2) المحصول (3/ 267)، نهاية السول (2/ 151)، شرح الكوكب المنير (3/ 447)، شرح تنقيح الفصول ص 279، إرشاد الفحول ص 167، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 330). (¬3) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك بن الحوَيْرث رضي اللَّه عنه. (¬4) هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي من حديث جابر رضي اللَّه عنه. (¬5) هذا الحديث أخرجه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما مرفوعًا، وابن حبان والطبراني. (¬6) هذا الحديث أخرجه مالك، وأبو داود في "المراسيل" والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي وأحمد وابن خزيمة، قال الحاكم: إسناده صحيح وهو من قواعد الإسلام، وقال أحمد: كتاب عمرو صحيح. (¬7) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن أنس عن أبي بكر رضي اللَّه عنهما. =

3 - الإقرار على الفعل

وعشرين (¬1)، والأمثلة كثيرة من السنة الفعلية (¬2). 3 - الإقرار على الفعل: يحصل البيان بإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعل أحد الصحابة، أو بعض الصحابة؛ لأن الإقرار دليل ومستقل، فيصح أن يكون بيانًا لغيره، كسائر الأدلة (¬3)، وسبقت أمثلته في السنة التقديرية. والقاعدة التي تشمل الحالات الثلاث السابقة هي "كل مُقَيَّد من جهة الشرع فهو بيان" سواء كان تقييد المطلق ورد في القرآن الكريم أو في السنة بأنواعها، حتى لو كان تركًا، كأن يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلًا أمر به، أو سبق له فعله، فيكون تركه مُبيِّنًا لعدم وجوبه، كتركه الإشهاد في البيوع (¬4) مع قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، فدل أن الإشهاد في البيع غير واجب، وتركه لصلاة التراويح بعد أن صلاها في رمضان، خشية أن تفرض عليه (¬5)، فدل على عدم وجوب صلاة التراويح، أو كان سكوتًا بعد السؤال عن حكم الواقعة، فيدل على أم الحكم حتى ينزل البيان من السماء، كسؤال زوجة سعد بن الربيع عن ميراث ابنتيها بعد قتل أبيهما سعد ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي اللَّه عنه، وأخرجه النسائي وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه مرفوعًا. (¬2) المحصول (3/ 262، 264)، البرهان (1/ 164)، الإحكام لابن حزم (1/ 72، 74)، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 162)، اللمع للشيرازي ص 29، شرح تنقيح الفصول ص 278 وما بعدها، العدة (1/ 114، 124)، شرح الكوكب المنير (3/ 444 - 442)، مختصر الطوفي ص 119، إرشاد الفحول ص 172، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 328 - 335). (¬3) المستصفى (1/ 367)، الإحكام لابن حزم (1/ 72)، اللمع ص 29، المسودة ص 573، شرح الكوكب المنير (3/ 445)، مختصر الطوفي ص 119، العدة (1/ 127). (¬4) وذلك في قصة شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - الفرس من الأعرابي الذي أنكر البيع بعد ذلك، ثم شهد بذلك خزيمة رضي اللَّه عنه، وقال فيه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شهد له خزيمة فهو حسبه" أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والبيهقي. (¬5) أخرج ذلك البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ومالك عن عائشة رضي اللَّه عنها.

4 - إجماع الصحابة

وأخذ العم المال، فقال لها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبي حتى يقضي اللَّه فيك" ثم نزلت آية الميراث (¬1)، وله أمثلة أخرى، أو كان تنبيهًا للعلة ومأخذ الحكم (¬2)، كما سبق، قبل قليل. 4 - إجماع الصحابة: قد يكون البيان باتفاق العلماء بإجماع الصحابة لإيضاح مدلول الكتاب أو السنة، كإجماع الصحابة على أن التقاء الختانين، ولو بدون إنزال، موجِبٌ للغسل، فإنه بيان لقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. 5 - الاجتهاد: وهو بيان العلماء بالاجتهاد عن طريق القول أو الفعل أو التقرير لبيان المعنى إما من طريق قياس فرع على أصل، أو من طريق أمارة تدل عليه، وهذا يشمل مختلف، مناهج الاجتهاد في القياس والاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع وغيرها (¬3). والفرق بين البيان بالقول والفعل والبيان بالاجتهاد أن البيان بالقول أو الفعل صادر من المشرّع نفسه، والبيان بالاجتهاد صادر من العلماء والمجتهدين، وهذا له مثيل اليوم في القانون، إما بصدور تفسيره وبيانه من الجهة التي أصدرت القانون، أو الجهة المخولة رسميًّا بالبيان والتفسير كمجلس الدولة، ومحكمة النقض، وإما من القضاة والشرّاح والمحامين. طرق معرفة بيان الفعل للمجمل: يعلم كون الفعل بيانًا للمجمل وغيره بأحد الأمور التالية: ¬

_ (¬1) أخرج ذلك أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن جابر رضي اللَّه عنه، وقال الترمذي: حديث صحيح. (¬2) شرح الكوكب المنير (3/ 445) وما بعدها، مختصر الطوفي ص 119، شرح تنقيح الفصول ص 279، المحصول (3/ 267، 268)، نهاية السول (2/ 151)، المسودة ص 573. (¬3) الرسالة ص 26، البحر المحيط للزركشي (3/ 480)، إرشاد الفحول ص 167، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 329، 330).

مراتب البيان

1 - أن يصرح الصادر عنه الفعل بذلك، فيقول عن فعله: هذا بيان للمجمل كذا، كما سبق في بيان الصلاة والحج. 2 - أن يُعلم ذلك بالضرورة والواقع من قصد الفاعل أن غرضه البيان، وذلك كالسُنّة العملية في العبادات والمعاملات والجهاد وغيره. 3 - الدليل العقلي: وهو أن يصدر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل من صدر عنه المجمل فعلًا يصلح أن يكون بيانًا له، ولا يفعل شيئًا آخر، فيعلم المشاهد للفعل أن ذلك بيان له، حتى لا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز (¬1)، كما سيأتي. مراتب البيان: قد يكون البيان للمجمل من مرتبة واحدة كبيان القرآن للمجمل في القرآن، وبيان السنة لمجمل في السنة، وبيان القرآن بالأحاديث المتواترة. وقد يكون بيان الشيء بأضعف منه، وأقل منه مرتبة ودرجة، كبيان القرآن بأحاديث الآحاد. ويرى بعض علماء الأصول: أن البيان الفعلي أقوى من البيان القولي، لأن المشاهدة أدل على المقصود من القول، وأسرع إلى الفهم، وأثبت في الذهن، وأعون على التصور، والقول أقوى في الدلالة على الحكم، أما الفعل فهو أدَلّ على الكيفية، ففعل الصلاة أدل من وصفها بالقول؛ لأن فيه مشاهدة، وأما استفادة وجوبها، أو ندبها، أو غيرهما، فالقول أقوى؛ لصراحته، والفعل له صورة واحدة، أما القول فله أساليب متعددة وصيغ مختلفة، وفيه حقيقة ومجاز وقرائن (¬2). البيان القولي والفعلي معًا: ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 329). (¬2) المعتمد (1/ 339)، مناهج العقول للبدخشي (2/ 150)، شرح الكوكب المنير (3/ 444، 449)، نهاية السول (2/ 151)، شرح العضد (2/ 163). =

قد يرد بعد المجمل بيان بالقول وبيان بالفعل، وكل منهما يصلح للبيان، ففي الجمع والتقديم تفصيل: أ- إذا صدر القول والفعل من الشارع بعد مجمل، وصلح كل منهما أن يكون بيانًا، واتفقا في الغرض أي: في الدلالة بدون تناف، وعُلِمَ السابق منهما، فالسابقُ يعتبر بيانًا للمجمل، والمتأخر يعتبر تأكيدًا، حتى ولو كان المتأخر دون المتقدم في القوة؛ لأن التأكيد بشيء مستقل يصح بما هو دون المؤَكَّد، كالجمل التي يذكر بعضها بعد بعض للتأكيد، فيحصل التأكيد بالثانية، وإن كانت أضعف من الأولى، أما في المفردات فيلزم كون المؤكِّد أقوى، مثل جاءني القوم كلُّهم، لكن التأكيد بغير المستقل فيشترط فيه كون المؤكِّد أقوى؛ لأن الشيء لا يؤكد بما هو دونه. وإن جهل الأسبق من القول أو الفعل، فيقدَّرُ أحدهما بيانًا، والآخر تأكيدًا، ولا يُقال على واحد بعينه بأنه المبيِّن. ب- إذا صدر القول والفعل من الشارع بعد مجمل، وصلح كل منهما أن يكون بيانًا، لكن اختلفا في الدلالة، فيعتبر القول هو البيان مطلقًا عند الجمهور، سواء كان متقدمًا أم متأخرًا لأن القول يدل على البيان بنفسه، بخلاف الفعل، فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه، والدَّال بنفسه أقوى من الدال بغيره، وقال أبو الحسين البصري رحمه اللَّه تعالى: المتقدم منهما هو البيان، كما في صورة اتفاقهما. مثاله: قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فالحج له طواف وسعي، فإذا نوى الحاج القرآن، أي: الحج والعمرة، فصارت الآية مجملة، فهل يُجزي طواف واحد وسعي واحد لهما، أم لا بدَّ من طوافين وسعيين؟ ورد في المسألة حديث قولي، وحديث فعلي. فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أحرمَ بالحج والعمرةِ، أجزأه طوافٌ واحدٌ، وسعي واحد، حتى يحلَّ منهما" (¬1). ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه ابن ماجه.

تأخير البيان عن وقت الحاجة

وعن علي رضي اللَّه عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، فطاف طوافين، وسعى سعيين" (¬1). وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه جمع بين حجته وعمرته معًا، وقال: سبيلُهما واحد، فطاف بهما طوافين، وسعى بهما سعيين، وقال: "هكذا رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت" (¬2). فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بطواف واحد بيانًا للمجمل في الآية، سواء كان القول قبل فعله في الحديث الثاني بطوافه مرتين، أم بعده؛ لأن القول يدل على البيان بنفسه، بخلاف الفعل، ويحمل الطواف الثاني على الندب (¬3). تأخير البيان عن وقت الحاجة: إذا ورد لفظ مجمل أو عام، أو مجاز، أو مشترك، أو فعل متردِّد بين أمرين، أو لفظ مطلق، واحتاج كل منها إلى بيان، فهل يصح تأخير البيان؟ في المسألة تفصيل: 1 - التأخير عن وقت الفعل: وذلك بأن يتأخر البيان عن وقت الأداء الفعلي بالتكليف، فلا يتمكَّن المكلف من معرفة ما تضمنه الخطاب، ويُكلف بالواجب فيه فورًا، فهنا لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة الحتمية باتفاق العلماء، لامتناع الإتيان بالشيء مع عدم العلم به، فهو تكليف بما لا يطاق، وهو ممنوع شرعًا (¬4). ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الدارقطني، ورواه النسائي عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه وعن جده علي رضي اللَّه عنه. (¬2) هذا الحديث رواه الدارقطني. (¬3) المحصول (3/ 272)، شرح تنقيح الفصول ص 279، 281، الإحكام للآمدي (3/ 28)، المعتمد (1/ 339)، جمع الجوامع والمحلي والبناني عليه (2/ 68)، تيسير التحرير (3/ 176)، شرح العضد (2/ 163)، نهاية السول (2/ 151)، فواتح الرحموت (2/ 46)، مناهج العقول (2/ 150)، المسودة ص 126، إرشاد الفحول ص 173، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 330). (¬4) قال بعض العلماء بجواز التكليف بما لا يطاق جوازًا عقليًّا، ولكنه لم يقع في الشرع، ولذلك =

2 - تأخير البيان عن وقت ورود الخطاب

2 - تأخير البيان عن وقت ورود الخطاب: وذلك بأن يتأخر البيان عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل، كالواجبات غير الفورية، فقد اختلف فيه علماء الأصول على تسعة أقوال، أهمها اثنان، فقال الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة بأنه جائز وواقع فعلًا، وقال الحنفية والظاهرية: لا يجوز تأخير البيان، ويجب أن يكون البيان متصلًا، أو في حكم المتصل، احترازًا من الانقطاع بعطاس ونحوه. وأرى أن المسألة الآن لا فائدة منها، ولا ثمرة لها، ولا طائل لمناقشتها، وهي تاريخية في زمن البعثة، وذكر الجمهور أدلة كثيرة لهم منها: الوقوع الفعلي لكثير من الآيات التي نزلت ثم بيّنها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد، ومنها الآيات والمصطلحات الشرعية التي نزلت في القرآن، ثم بينها القرآن الكريم فيما بعد كالصلاة والزكاة والحج والسرقة وقسمة الفيء والأنفال، وحكم الأسرى، وغير ذلك، واستدل الفريق الثاني بدليل عقلي وهو أن التأخير يلزم منه إما التحكم إذا كان إلى مدة معينة، وإما التكليف مع عدم الفهم إن كان التأخير للأبد، وردَّ الجمهور عليهم أن جواز التأخير إلى مدة معينة عند اللَّه، وهو وقت التكليف الفعلي، ولا حاجة للتطويل في ذلك (¬1). وفي التشريعات القانونية اليوم يصدر التشريع الأساسي في أمر، ويحدِّد مدة لبدء تطبيقه، ويُصْدر في هذه المدة لوائح تنفيذية وتفسيرية له، ولا يطبق إلا بعد بيانه. ¬

_ = كان تأخير البيان عن وقت الحاجة بالفعل غير جائز بالاتفاق، انظر: إرشاد الفحول ص 174، الفصول في الأصول (2/ 48) هامش. (¬1) من أراد الاطلاع على هذه المسألة والاطلاع على الآراء والأدلة فينظر: المعتمد (1/ 342)، المستصفى (1/ 368)، الإحكام للآمدي (3/ 32)، المحصول (3/ 279)، كشف الأسرار (3/ 108)، تيسير التحرير (3/ 174)، الإحكام لابن حزم (1/ 75)، نهاية السول (2/ 156)، فواتج الرحموت (2/ 49)، شرح العضد (2/ 164)، شرح الكوكب المنير (3/ 451)، البرهان (1/ 166)، المسودة ص 181، العدة (3/ 724)، مختصر الطوفي ص 119، روضة الناظر ص 185، الفصول في الأصول (2/ 47)، إرشاد الفحول ص 173، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 334).

تأخير تبليغ الوحي إلى وقت الحاجة

تأخير تبليغ الوحي إلى وقت الحاجة: يتعلق بالمسألة السابقة مسألة تأخير تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أوحي إليه لوقت الحاجة، فقال جمهور العلماء بجواز تأخير تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم إلى وقت الحاجة كالمسألة السابقة، وأما المانعون هناك فقد اختلفوا هنا فقال أكثرهم بجوازه موافقين رأي الجمهور؛ لأن صيغة الأمر في التبليغ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، لا يقتضي الفور ولا التراخي، وقال بعضهم: لا يجوز له تأخير التبليغ لما أوحي إليه من قرآن أو غيره؛ لأن ظاهر الأمر في الآية الوجوب وفورية التبليغ، وردَّ الجماهير عليهم بأن مطلق الأمر لا يقتضي الفور، وهذا الأمر لتبليغ ما أُنْزل من لفظ القرآن، وأن الآية نزلت لتقوية عزيمته عليه الصلاة والسلام، والمضي في تبليغ رسالته مع عدم الالتفات إلى أباطيل المشركين وادعاءاتهم (¬1). المبيَّن له: إن البيان يكون أولًا للمكلَّف عامة لأداء التكليف، والقيام به، والالتزام فيه، ويكون البيان للعلماء خاصة للفتوى بالحكم وتعليمه للناس، ولو لم يعملوا به، كأحكام الحيض يتعلمها العلماء والمفتون، ثم يبينونها للنِّساء، ويفتونهنَّ بها، وكذلك أحكام القضاء والزكاة والحج يبينها العلماء وإن لم يكلفوا بها لعدم توفر سببها أو شرطها عندهم، وكذلك يكون البيان للمجتهدين على وجه أخص ليستنبطوا الأحكام بالقياس والاستحسان والاستصلاح وغير ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) انظر هذه المسألة في: المستصفى (1/ 368)، الإحكام للآمدي (3/ 32)، الإحكام لابن حزم (1/ 75)، المحصول (3/ 280)، البرهان (1/ 166)، التمهيد للإسنوي ص 130، كشف الأسرار (3/ 108)، تيسير التحرير (3/ 174)، نهاية السول (2/ 156)، شرح تنقيح الفصول ص 282، شرح العضد (2/ 164)، فواتح الرحموت (2/ 49)، روضة الناظر ص 185، مختصر الطوفي ص 119، العدة (3/ 725)، جمع الجوامع والبناني (2/ 69)، شرح الكوكب المنير (3/ 453)، إرشاد الفحول ص 174، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 334). (¬2) نهاية السول (2/ 157)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 335).

الفصل الخامس طرق دلالة اللفظ علي المعنى

الفصل الخامس طرق دلالة اللفظ علي المعنى أنزل اللَّه تعالى القرآن عربيًّا، وجاءت السنة النبوية باللغة العربية، وإن الفهم الصحيح للأحكام الشرعية من القرآن والسنة يتوقف على مراعاة الأساليب في اللغة العربية وطرق الدلالة فيها، سواء كانت ألفاظًا مفردة، أم جملًا مركبة، ولذلك اتجه علماء أصول الفقه إلى استقراء الأساليب العربية وعباراتها ومفرداتها، واستعانوا بما قرره علماء اللغة فيها، ووصلوا إلى وضع القواعد والضوابط التي توصل إلى فهم الأحكام من النصوص الشرعية فهمًا صحيحًا، وبما يتطابق مع ما يفهمه العربي منها، ويحقق تفسير النصوص، ومعرفة دلالات الألفاظ بشكل سليم، وسبق بيان بعضها، ونستكمل في هذا الفصل بعضًا آخر. وهذه القواعد والضوابط مستمدة من الأساليب العربية، ومما قرره أئمة اللغة العربية، وليس لها صبغة دينية، فهي موضوعة لفهم الألفاظ والعبارات فهمًا صحيحًا، سواء وردت في نصوص شرعية أو في قوانين وضعية صادرة باللغة العربية التي تنطق بها الأمة، وتتخاطب بها، وتُكَلّف بواسطتها، لتقدر على فهم المراد وتطبيقه مع مراعاة العرف الشرعي للألفاظ، أو المعنى المقصود للمصطلحات القانونية. ولذلك فإن إفادة اللفظ للعموم أو الخصوص، ودلالة المطلق والمقيد، واحتمال التأويل وعدمه، ودلالة اللفظ على المعنى، ومعاني الحروف، وأن الأمر يقتضي الوجوب، والنهي يفيد التحريم، والحقيقة والمجاز والقرائن، وغير ذلك، كلها تستعمل في فهم النصوص الشرعية، وفهم نصوص القوانين المختلفة الموضوعة باللغة العربية في الدولة، ولذلك تدرس هذه المسائل في كليات الشريعة وكليات القانون والحقوق على حد سواء؛ لتساعد على التفسير الصحيح للنص التشريعي الذي يجب العمل بما يفهم منه مهما كانت طريقة الدلالة على المعنى

والحكم (¬1). ولكن علماء أصول الفقه انقسموا إلى مدرستين أو طريقتين عند وضع القواعد لكيفية دلالة اللفظ على المعنى، وهما: طريقة الحنفية، وطريقة الجمهور أو المتكلمين مما سنعرضه في هذا الفصل، وأكثرها اختلافات لفظية أو اصطلاحية، واقتصر أثر الخلاف تقريبًا على نتيجة مهمة، أو قاعدة تسمى: مفهوم المخالفة، لنخصها بشيء من التفصيل، وذلك في ثلاثة مباحث، وبعد بيان معنى دلالة اللفظ على المعنى. دلالة اللفظ على المعنى: الدلالة لغة: الإرشاد، والدلالة: ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه، وجمعها: دلائل، ودلالات، والدلالة: معنى عارض للشيء بالقياس إلى غيره (¬2). والدلالة اصطلاحًا: كون اللفظ يلزم من فهمه فهم شيء آخر، وهي إما لفظية أو غير لفظية. والدلالة غير اللفظية: قد تكون بالوضع اللغوي، كدلالة الذراع على المقدار المعين، وقد تكون عقلية، كدلالة وجود المسبب على وجود السبب، كوجود القتيل دليل على القاتل، وقد تكون شرعية كدلالة غروب الشمس على وجوب الصلاة، وبحث الدلالات لا يتعرض للدلالة غير اللفظية، وإنما ينحصر في الدلالة اللفظية. والدلالة اللفظية تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: 1 - الدلالة العقلية، كدلالة المقدمتين الصغرى والكبرى على النتيجة بالعقل، مثل: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فالعقل يستدل أن كل إنسان جسم، ومثل دلالة اللفظ على وجود المتكلم وعلى حياته، ودلالة الأثر على المؤثر، ومنه دلالة العالَم على موجده، وهو اللَّه سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 140، تفسير النصوص (1/ 463)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 127. (¬2) المعجم الوسيط (1/ 294) مادة: دلل، والدلالة والدلالات بفتح الدال وكسرها.

2 - الدلالة الطبيعية، كدلالة اللفظ الخارج عند السعال على وجع الصدر، ودلالة لفظ: آخ، على وجود الألم، ودلالة الحمرة على الخجل، والصفرة على الوجل، ودلالة الأعراض الخاصة بكل مرض عليه مما يعرفه الطبيب والخبير. 3 - الدلالة الوضعية للفظ، وهي التي يقصدها العلماء، أي: وضع اللفظ للمعنى في اللغة أو في الاصطلاح، كدلالة السبب على المسبب، كالدلوك على وجوب الصلاة، وكدلالة المشروط على وجود الشرط، كالصلاة على الطهارة. وتنقسم دلالة اللفظ الوضعية على المعنى إلى ثلاثة أنواع، وهي: 1 - دلالة المطابقة: وهي دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وضع له، كدلالة لفظ: الإنسان على الحيوان الناطق، وسُمّيت مطابقة لأن اللفظ طابق معناه، وكدلالة لفظ البيع على الإيجاب والقبول. 2 - دلالة التضمن: وهي دلالة اللفظ على جزء المعنى الذي وُضع له، كدلالة لفظ: الإنسان على الحيوان فقط، أو على الناطق فقط، وسميت تضمنًا لتضمنها إياه، وكدلالة لفظ البيع على الإيجاب فقط، أو القبول فقط، وكما يقال: سقط البيت، ويراد سقفه، وانكسر خالد، ويراد رجله. 3 - دلالة الالتزام: وهي دلالة اللفظ على معنى لازم له في الذهن، كدلالة لفظ: الأسد على الشجاعة، فالشجاعة معنى لازم لا ينفك عن لفظ الأسد عند سماعه، فينتقل الذهن إليه، ومثل دلالة لفظ السُّكّر على الحلاوة، ولفظ الشمس على الضوء، ولفظ البيع على انتقال ملكية المبيع إلى المشتري، وملك الثمن إلى البائع، ودلالة الالتزام دلالة عقلية، وأما دلالة المطابقة والتضمن فلفظيتان، وقيل: الثلاث لفظية (¬1). ¬

_ (¬1) نهاية السول (1/ 225)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 359)، أصول الأحكام ص 251، تفسير النصوص (1/ 591) هامش، حاشية الباجوري على متن السلم في فن المنطق ص 39، روضة الناظر ص 8، شرح الكوكب المنير (1/ 125) وما بعدها.

المبحث الأول منهج الحنفية في طرق دلالة اللفظ على المعنى

المبحث الأول منهج الحنفية في طرق دلالة اللفظ على المعنى قسم الحنفية طرق دلالة اللفظ على الحكم إلى أربعة أقسام، وهي: دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ودلالة النص، ودلالة الاقتضاء. والمراد من اللفظ هنا ما يفهم منه المعنى، سواء كان ظاهرًا، أو نَصًّا، أو مُفَسّرًا، أو مُحْكمًا، ويحصر الحنفية طرق الدلالة بالمفهوم الذي دل عليه اللفظ في محل النطق، أما ما يكون وراء المنطوق فلا يعتدون به، وهو ما يعرف بمفهوم المخالفة، فلا يدخلونه بالتقسيم والدلالة والأحكام، كما سنرى. ووجه الضبط عند الحنفية في هذه الطرق الأربعة: أن دلالة اللفظ على الحكم إما أن تكون ثابتة باللفظ نفسه، أو لا تكون ثابتة باللفظ نفسه، والدلالة التي تثبت باللفظ نفسه إما أن تكون مقصودة منه فهي العبارة ويسمونها عبارة النص، فإن كانت غير مقصودة فهي الإشارة، ويسمونها إشارة النص، وإن كانت الدلالة لم تثبت باللفظ نفسه، فإما أن تكون مفهومة من اللغة، ويسمونها دلالة النص، أو تكون مفهومة من الشرع، ويسمونها دلالة الاقتضاء (¬1). والحكم الثابت بالدلالات الأربع السابقة ثابت بظاهر النص، وليس بالقياس والرأي، فالنص التشريعي بذاته دلَّ عليه بإحدى الطرق السابقة، وهذا بيان لكل منها عند الحنفية. 1 - عبارة النص: هي: المعنى الذي يتبادر فهمه من الصيغة، ويكون مقصودًا أصالة أو تبعًا، ويطلق عليه المعنى الحرفي للنص. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 67)، أصول السرخسي (1/ 236)، علم أصول الفقه ص 143، تفسير النصوص (1/ 467)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 348)، أصول الأحكام ص 253، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 127.

وأمثلة ذلك كثيرة لا تحصى؛ لأن ذلك هو ما يريده الشارع من صياغته وألفاظه وأسلوبه، وأنه قصد به حكمًا خاصًّا، فكل نص تشريعي له معنى يدل عليه، لكن قد يكون مقصودًا أصالة، أو تبعًا (¬1)، ولذلك أمثلة. المثال الأول: قال اللَّه تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فهذه العبارة في الآية تدل دلالة ظاهرة على معنيين، أحدهما: التفرقة بين البيع والربا، وهذا مقصود من السياق أصالة؛ لأن الآية نزلت للرد على الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والثاني: أن حكم البيع الإباحة، وحكم الربا التحريم، وهذا المعنى مقصود من السياق تبعًا؛ لأن نفي المماثلة استتبع بيان حكم كل منهما، وأن اختلاف الحكمين يدل على عدم المماثلة، ولو أراد الشارع المعنى المقصود أصالة فقط لقال: وليس البيع مثل الربا (¬2). المثال الثاني: قال اللَّه تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، فهذه الآية دلت بعبارتها على ثلاثة أحكام، الأول: إباحة النكاح، وهو مقصود من سياق الآية تبعًا؛ لأن الآية نزلت في الأوصياء الذين يتحرجون من قبول الوصاية على اليتامى خوف الجور في أموالهم، وأكلها ظلمًا، مع أنهم لا يتحرجون من تعدد الزوجات بغير حصر، مع عدم العدل بينهم، فجاء الحكم الثاني: بتحديد عدد الزوجات على اثنتين أو ثلاث، أو أربع، وهذا مقصود من السياق أصالة، ثم الحكم الثالث: وجوب الاقتصار على واحدة عند خوف الجور عند التعدد، وهذا مقصود من السياق أصالة؛ لأن الآية سيقت لإفادة الحكم الثاني والثالث أصالة، واستتبع ذلك بيان إباحة النكاح، ولو اقتصرت ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه 144، تفسير النصوص (1/ 469)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 349)، أصول الأحكام ص 253، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 128. (¬2) كشف الأسرار (1/ 68)، علم أصول الفقه ص 144، تفسير النصوص (1/ 475)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 349)، أصول الأحكام ص 253، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 128.

2 - إشارة النص

العبارة على المعنى المقصود أصالة من السياق لقال: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في عدد الزوجات، بأن يكون اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فإن خفتم ألا تعدلوا عند التعدد فاقتصروا على واحدة (¬1) وأكثر آيات القرآن وأحاديث السنة تدل على الأحكام بطريق عبارة النص في العبادات والمعاملات والأخلاق، وكذلك فإن الأمثلة القانونية كثيرة للدلالة على عبارة النص، وتشمل كل نص قانوني ورد لحكم خاص قصده المشرع، وصاغ ألفاظه وعباراته لتدل عليه دلالة واضحة (¬2). 2 - إشارة النص: هي: المعنى الذي لا يتبادر فهمه من ألفاظه، ولا يقصد من سياقه أصالة ولا تبعًا، ولكنه معنى لازم للمعنى المتبادر من ألفاظه، فالدلالة بالإشارة ثبتت من اللفظ أو النص لغة، ولكنها بطريق الالتزام للمعنى المتبادر من جهة، وأنها لم يُسق الكلام لأجلها من جهة ثانية، وهذا التلازم أو الاستدلال بالإشارة قد يكون ظاهرًا ويفهم بأدنى تامل، وقد يكون خفيًّا يحتاج إلى دقة ونظر وتأمل، ولذلك يختلف فيه العلماء لإدراكه وفهمه، ويحتاج إلى أهل الاختصاص أو الاجتهاد ممن يكون عالمًا باللسان العربي وأسرار اللغة، ولا عبرة بالاستدلال بالإشارة ما لم يكن صاحبها من أهل الاختصاص (¬3). مثاله: قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فالآية تدل بعبارتها على وجوب نفقة الوالدات المرضعات وكسوتهن على الأب دون الأم، وهذا ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 144، تفسير النصوص (1/ 471)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 349)، أصول الأحكام ص 253، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 128. (¬2) تفسير النصوص (1/ 471)، والمراجع القانونية في هامشها، أصول الأحكام ص 254، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 350). (¬3) أصول السرخسي (1/ 237)، كشف الأسرار (1/ 68)، تيسير التحرير (1/ 91)، فواتح الرحموت (1/ 413)، إرشاد الفحول ص 178، علم أصول الفقه ص 145، تفسير النصوص (1/ 478)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 350)، أصول الأحكام ص 254، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 129.

هو المتبادر من الألفاظ، والمقصود من السياق، ويلزم منه أي يفهم من إشارته أن الأب لا يشاركه أحد في الإنفاق على أولاده؛ لأن الولد له لا لغيره، وتدل العبارة بالإشارة، أي يلزم منها، أن نسب الولد إلى أبيه لا يشاركه فيه أحد؛ لأن اللَّه تعالى أضاف الولد إليه بحرف اللام التي هي للاختصاص، والمقصود الاختصاص بالنسب، وهذا مفهوم من إشارة النص (¬1). ومثاله: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ثم قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فالنص القرآني يدل بالعبارة على إباحة الأكل والشرب والجماع في جميع الليل إلى طلوع الفجر، ويفهم منه بالإشارة أن من أصبح جنبًا بعد الفجر فصومه صحيح؛ لأن اللَّه تعالى أباح الجماع إلى قبيل طلوع الفجر، فيلزم منه أن يطلع الفجر وهو جنب، وهذا المعنى غير مقصود بالسياق، لكنه لازم للمعنى السابق (¬2). ومثاله: قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} ثم قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 7 - 8]، فالآية دلت بالعبارة على استحقاق الفقراء المهاجرين نصيبًا من الفيء الذي يأخذه المسلمون من العدو بلا قتال؛ لأن ذلك يفهم من العبارة، وسيقت الآية لبيان هذا الحكم، ويدل اللفظ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} بالإشارة إلى أن المهاجرين من مكة قد زالت عنهم ملكية أموالهم التي خلّفوها بمكلة، لاستيلاء المشركين عليها؛ لأن اللَّه تعالى سمَّاهم فقراء، والفقير: هو من لا يملك المال، لا من غاب عن المال، ويعتبر ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 146، تفسير النصوص (1/ 482)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 351)، أصول الأحكام ص 255، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 131، وسيرد مثل ذلك تمامًا عند المتكلمين (الجمهور) انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 476)، والمراجع المشار إليها في هامشها. (¬2) تفسير النصوص (1/ 481)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 351)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 130.

الشخص غنيًّا لملكه المال سواء قَربت يده منه أو بعدت (¬1). والأمثلة القانونية كثيرة في قانون العقوبات، وقانون الأحوال الشخصية، والقانون المدني، وغيره (¬2). العبارة والإشارة: إن دلالة كل من العبارة والإشارة على المعنى قطعية، ويثبت الحكم بكل منهما قطعًا إلا إذا وجد احتمال ناشئ عن دليل، فتكون الدلالة ظنية. ولكن الثابت بالعبارة يدل عليه النص صراحة، وسيق الكلام لأجله، فالحكم فيها مقصود أولًا وبالذات، والثابت بالإشارة هو ما يلزم من حكم العبارة، أي: بالدلالة الالتزامية، والحكم لم يسق الكلام لأجله، ولما كانت هذه الدلالة الالتزامية تحتاج إلى تأمل وبحث لذلك يقع فيها الاختلاف بين العلماء. ويترتب على النتيجة الأخيرة أنه إذا وقع تعارض بين دلالة العبارة ودلالة الإشارة، قُدِّم الحكم الثابت بالعبارة؛ لأنه أقوى، ومقصودٌ بذاته، من الحكم الثابت بالإشارة (¬3). ومن أمثلة التعارض ما دلت عليه كل من الآيتين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93]، فالآية الأولى دلت بعبارة النص على وجوب القصاص من القاتل المعتدي عمدًا، والآية الثانية دلت بإشارة النص على عده القصاص من القاتل المعتدي؛ لأنها جعلت جزاءه الخلود في جهنم، والغضب عليه من اللَّه تعالى، والعذاب ¬

_ (¬1) علم أصول ص 146، تفسير النصوص (1/ 479)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 352)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 129. (¬2) علم أصول الفقه ص 147، تفسير النصوص (1/ 513)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 355). (¬3) تفسير النصوص (1/ 494)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 352، 358).

3 - دلالة النص

العظيم المعَدَّ له، اقتصرت الآية على ذلك في مقام البيان لعقوبته، وأن ذلك يفيد الحصر، فيلزم منه أنه لا عقوبة على القاتل العامد في الدنيا. واتفق العلماء على أن الحكم الثابت بالعبارة من الآية الأولى، وهو القصاص من القاتل عمدًا، مقدّم على الحكم الثابت بالإشارة من الآية الثانية، ويعاقب القاتل عمدًا عدوانًا في الدنيا بالقصاص منه. ومن أمثلة التعارض بين العبارة والإشارة ما دلت عليه آية الرضاعة في قوله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فهذه الآية دلت بالإشارة أن الأب مقدم في استحقاقه النفقة من مال ابنه على من سواه ممن لهم حق النفقة من الأقارب بما في ذلك الأم في حالة قدرة الابن على نفقة واحد فقط، في قدم الأب على الأم، لكن ثبت أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَنْ أحقُّ الناس بحُسْن صَحابتي يا رسولَ اللَّه؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أمُّك" وكررها ثلاثًا، ثم قال: "أبوك" (¬1)، فهذا النص يدل بالعبارة على تقديم الأم على الأب بالنفقة، والثابت بعبارة النص أقوى، ويقدم على الثابت بإشارة النص، فتكون الأم أولى من الأب في النفقة (¬2). 3 - دلالة النَّص: هي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة الحكم التي يمكن فهمها عن طريق اللغة. فإذا كان اللفظ يدل بعبارته على حكم في واقعة لعلة بُني عليها هذا الحكم، ثم وُجدت واقعة أخرى تساوي الواقعة الأولى بعلتها التي تتبادر إلى الفهم بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى الاجتهاد، فإنه يفهم لغة أن اللفظ يتناول الواقعتين، سواء كانت الواقعة الثانية المسكوت عنها مساوية للأولى المنطوق بها في العلة، أو أولى منها لقوة العلة فيها (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) تفسير النصوص (1/ 501)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 358). (¬3) أصول السرخسي (1/ 241)، كشف الأسرار (1/ 73)، علم أصول الفقه ص 148، =

وسميت بدلالة النص لأن الحكم الثابت بها لا يفهم من اللفظ، كما في العبارة أو الإشارة، وإنما يفهم من طريق علة الحكم الأولوي أو المساوي (¬1). مثال دلالة النص الأولوي: قوله تعالى عند الوصية بالوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، فالآية دلت بالعبارة الصريحة على تحريم التأفف، وعلته ما فيه من الأذى، وتدل الآية بدلالة النص على تحريم الضرب والشتم والحبس وغيره؛ لأنه أشد إيذاءً؛ ولأن المتبادر لغةً من النهي عن التأفف النهي عما هو أكثر إيذاء للوالدين، ويكون الحكم في المسكوت عنه (المفهوم بالدلالة) أولى من الحكم المنطوق به (المفهوم من العبارة)، وهذا يفهمه كل عارف باللغة. ومثال دلالة النص المساوي: قوله تعالى في رعاية مال الأيتام والتحذير من أكله بدون حق: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فالآية تدل بالعبارة على تحريم أكل أموال اليتامى ظلمًا، وعلة ذلك تتبادر بمجرد معرفة اللغة، وهي تبديد هذه الأموال وتضييعها عليهم، فتدل الآية من طريق دلالة النص على تحريم إحراق أموال اليتامى وإتلافها بأي وسيلة، فيكون الإتلاف أو الإحراق حرامًا كالأكل؛ لمساواته له في علة الحكم (¬2). ¬

_ = تفسير النصوص (1/ 516)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 353)، أصول الأحكام ص 256، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 132. (¬1) تسمى هذه الدلالة فحوى الخطاب، أي: مقصده ومرماه، ويعتبرها الشافعي وغيره من القياس الجلي، وتسمى عندهم مفهوم الموافقة فإن كان أولى فهو فحوى الخطاب، وإن كان مساويًا فهو لحن الخطاب، انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 154، 482)، حاشية البناني (1/ 241)، إرشاد الفحول ص 178، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 353)، وسيأتي تفصيل ذلك في منهج المتكلمين في دلالة اللفظ. (¬2) أصول السرخسي (1/ 242)، شرح الكوكب المنير (3/ 482)، تفسير النصوص (1/ 518، 520)، علم أصول الفقه ص 148، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 352)، وما بعدها، أصول الأحكام ص 257، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 133.

4 - دلالة الاقتضاء

والأمثلة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فاللفظ يدل بالعبارة على وجوب العدة على المطلقة، لعلة تعرّف براءة الرحم، ويفهم منها بالإشارة لكل من يعرف اللغة وجوب العدة على كل حالة فسخ للزواج عن طريق القاضي وغيره لوجود علة وجوب العدة، ومثله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا؛ لأنه زان مُحْصَن، وليس لكونه ماعزًا، فيثبت الرجم لكل زان محصن بدلالة النص، وأوجب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الكفارة بسبب الجماع في نهار رمضان على الأعرابي، تجب الكفارة بدلالة النص على كل من فعل ذلك في رمضان، ومن ذلك أن اللَّه وصف بعض أهل الكتاب بالائتمان على القنطار، فيفهم بدلالة النص بالأولى على ائتمانهم على الأقل، ووصف بعض أهل الكتاب بعدم الائتمان على الدينار، فيفهم بدلالة النص عدم ائتمانهم على الأكثر (¬1). والأمثلة في العقوبات الشرعية والقوانين كثيرة، فيشترك الدَّرْء مع المحاربين بالعقوبة، وإذا استفاد الجاني من الظرف المخفف على جناية القتل فيستفيد بالأولى من الظرف المخفف على ما دونها من جنسها، وأن القانون الجنائي (الفرنسي الأصل) أعطى الزوج حق وقف العقوبة على زوجته الزانية، فيدل ذلك أنه يحق له وقف الدعوى عليها بالأولى (¬2). 4 - دلالة الاقتضاء: هي دلالة الكلام على مسكوت عنه ويتوقف صدق الكلام أو صحته شرعًا على تقديره، فالمعنى من النص لا يستقيم إلا بتقديره الاقتضاء؛ لأن صحة الكلام واستقامة معناه يقتضي التقدير فيه، وكذلك صدق الكلام ومطابقته للواقع يقتضي التقدير فيه بما هو خارج عنه، فالدلالة على المعنى المقدر ¬

_ (¬1) انظر: تفسير النصوص (1/ 519) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 354)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 134. (¬2) علم أصول الفقه ص 149، أصول الأحكام ص 258، تفسير النصوص (1/ 534، 544).

يسمى اقتضاء؛ لأن استقامة الكلام تقتضيه وتستدعيه، والباعث على التقدير والزيادة هو المقتضي، والشيء المقدَّر المزيد هو المقتضَى، والدلالة هو الاقتضاء، وما ثبت بالتقدير والزيادة هو حكم المقتضَى (¬1). مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ عن أمّتي الخطأُ والنسيانُ وما استُكرِهُوا عليه" (¬2)، فالحديث يدل بلفظه وعبارته على رفع الفعل الذي يقع من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خطأ أو نسيانًا أو إكراهًا بعد وقوعه، وهذا يتنافى مع الواقع؛ لأن هذه الأمور موجودة في هذه الأمة، والفعل بعد وقوعه لا يُرفع، فهو محال، مما يقتضي تقدير شيء محذوف من الكلام حتى يكون صحيحًا، وهو الإثم أو الحكم، وتكون دلالة النص بالاقتضاء رفع إثم الخطأ والنسيان والإكراه، أو رفع حكمه وعدم ترتب أثره عليه، وبهذا التقدير يتفق الكلام مع الواقع، فالإثم محذوف، واقتضى تقديره لصحة معنى النص، فهو ثابت بدلالة الاقتضاء. ومثله حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬3) أي: ثوابها، وحديث: "لا صيام لمن لم يُبَيِّتِ الصِّيام من الليل" (¬4) أي: لا صحة للصيام. ومثله قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، أي: زواجهن، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، أي: أكلها والانتفاع بها؛ لأن الذات لا يتعلق بها التحريم، وإنما يتعلق التحريم بفعل المكلف، فيقدر المقتضَى في كل نص بما يناسبه، ويكون التقدير ثابتًا بطريق الاقتضاء. وقد يتوقف التقدير لصحة الكلام على العقل، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 248)، كشف الأسرار (1/ 75)، تيسير التحرير (1/ 92)، فواتح الرحموت (1/ 413)، شرح العضد (2/ 172)، إرشاد الفحول ص 178، علم أصول الفقه ص 150، تفسير النصوص (1/ 547)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 355)، أصول الأحكام ص 258، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 136. (¬2) هذا الحديث أخرجه ابن ماجه والدارقطني والحاكم وغيرهم. (¬3) هذا الحديث سيأتي تخريجه وعزوه ص 166. (¬4) هذا الحديث سبق بيانه ص 99، 125.

الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]، فالكلام لا يصح من الناحية العقلية؛ لأن القرية لا تُسأل، ولا تتكلم، فاقتضى التقدير: واسأل أهل القرية (¬1). حكم الدلالات الأربع وترتيبها: إن الدلالات الأربع السابقة عند الحنفية تدل على الحكم الشرعي على وجه القطع واليقين، إلا إذا وجد ما يصرفها إلى الظن كالتخصيص أو التأويل؛ لأن الحكم الثابت بها يثبت بنفس اللفظ، أو العلة المفهومة منه لغة، أو مما تقتضيه ضرورة صدق الكلام وصحة معناه. وإن هذه الدلالات مرتبة بحسب قوتها، فعبارة النص هي الأقوى، ثم الإشارة، ثم الدلالة، ثم الاقتضاء، وإذا وقع تعارض بينها يرجح الأقوى فالأقوى (¬2)، كما مرت بعض الأمثلة. ¬

_ (¬1) المراجع السابقة في الهامش 1 الصفحة السابقة، وسيرد مثل ذلك تمامًا عند المتكلمين (الجمهور)، انظر: شرح الكوكب المنير (1/ 474) وما بعدها، والمراجع المشار إليها في هامشها. (¬2) علم أصول الفقه ص 152، تفسير النصوص (1/ 581)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 357).

المبحث الثاني منهج المتكلمين (الجمهور) في طرق دلالة اللفظ على المعنى

المبحث الثاني منهج المتكلمين (الجمهور) في طرق دلالة اللفظ على المعنى التزم علماء الأصول من المتكلمين (الجمهور) منهجًا خاصًّا في تقسيم دلالة اللفظ، أو دلالة الخطاب الوارد في القرآن والسنة على الحكم الشرعي، ويعتمد هذا المنهج على ارتباط الدلالة بصريح اللفظ ومحل النطق، أو عدم ارتباطه به وعدم النطق. وتنقسم دلالة اللفظ إلى قسمين: 1 - المنطوق: وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: إن دلالة المنطوق هي دلالة اللفظ على حكم ذكر في الكلام، ونطق به، سواء كان ذلك بالمطابقة، أو التضمن، أو الالتزام، وتسمى الدلالة اللفظية، وتشمل دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ودلالة الاقتضاء عند الحنفية، وأمثلة دلالة المنطوق كثيرة جدًّا، وهي معظِم أحكام الشرع المأخوذة مباشرة من القرآن والسنة، كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالآية تدل بمنطوقها على جواز البيع وتحريم الربا، وقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، فالآية تدل بمنطوقها على النهي عن التأفف وتحريمه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنكح المرأة على عمّتها" (¬1) يدل على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها في النكاح. 2 - المفهوم: هو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، أي إن اللفظ دل على حكم شيء لم يذكر في الكلام، ولم ينطق به، بأن يثبت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ويسمى الدلالة المعنوية أو الدلالة الالتزامية، وتدل على الحكم من باب دلالة الالتزام، وهو نوعان: مفهوم موافقة، وهو دلالة النص عند الحنفية، ويسمى كما سنرى فحوى الخطاب، ومفهوم مخالفة، ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة ومالك وأحمد.

أنواع المنطوق

وهو ما انفرد به الجمهور، ووقع فيه خلافهم مع الحنفية، وسنفرده بالدراسة. وأمثلة مفهوم الموافقة كثيرة، وسبق مثلها عند الحنفية، مثل دلالة قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، على تحريم الضرب وغيره للوالدين، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فالآية تدل بمنطوقها على تحريم أكل أموال اليتامى، وتدل بمفهوم الموافقة على تحريم الإتلاف والإحراق؛ لأن ذلك مساوٍ للأكل في الاعتداء على مال اليتيم (¬1). فالدلالات عند المتكلمين ستة، وهي أربعة في المنطوق (دلالة المنطوق الصريح، دلالة الاقتضاء، دلالة الإيماء، دلالة الإشارة) واثنتان في المفهوم (مفهوم الموافقة، مفهوم المخالفة). فيضيف الجمهور المتكلمون دلالة الإيماء، ودلالة مفهوم المخالفة، والأول عبارة عن تفصيل وتوسع، والثاني إضافة وزيادة، ولذلك فإن منهج المتكلمين ومنهج الحنفية متفقان في الأعم الأغلب، والأمثلة واحدة، والاختلاف في الاصطلاح والتسمية، والنتائج في الأحكام واحدة، ويبقى الاختلاف فعلًا في مفهوم المخالفة الذي سنخصص له المبحث الثالث. أنواع المنطوق: إن المعنى المستفاد من اللفظ من حيث النطق به نوعان، وهما: 1 - المنطوق الصريح: وهو الذي وضع اللفظ فيه لمعنى، فتكون دلالته ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 186)، الإحكام للآمدي (3/ 64)، جمع الجوامع والمحلي والبناني عليه (1/ 235)، شرح العضد (2/ 171)، تيسير التحرير (1/ 92) وما بعدها، فواتح الرحموت (1/ 413)، شرح الكوكب المنير (3/ 473)، مناهج العقول (1/ 309، 311)، إرشاد الفحول ص 178، تفسير النصوص (1/ 591) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 360)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 138، أصول الأحكام ص 261.

أنواع دلالة المنطوق غير الصريح

صريحة على ذلك المعنى، سواء كانت الدلالة بالمطابقة الكاملة، أو بالتضمن التي تدل على جزء المعنى، وسواء كان اللفظ حقيقة أو مجازًا. 2 - المنطوق غير الصريح: وهو المعنى الذي يلزم من اللفظ، بأن يدل اللفظ على ذلك المعنى في غير ما وضع له، وتكون الدلالة بالالتزام، وتسمى دلالة الالتزام. أنواع دلالة المنطوق غير الصريح: تنقسم دلالة الالتزام (المنطوق غير الصريح) إلى ثلاثة أنواع، وهي: 1 - دلالة الاقتضاء: وهي مقصودة للمتكلم، ويتوقف عليها صدق اللفظ، أو يتوقف عليها صحته عقلًا، أو يتوقف عليها صحته شرعًا، وسميت كذلك لاقتضائها شيئًا زائدًا على اللفظ. ومثال ما يتوقف عليه صدق الكلام تقدير رفع الإثم أو المؤاخذة والعقاب في حديث "رُفِع عن أمتي الخطأ والنسيانُ وما استكرهوا عليه" (¬1) فإن ذات الخطأ والنسيان لم يرتفعا، فيتضمن الحديث ما يتوقف عليه صدقه من الإثم أو المؤاخذة ونحوه. ومثال ما يتوقف عليه صحة اللفظ عقلًا قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} [يوسف: 82]، فالآية تتضمن سؤال أهل القرية وأهل العير، وإلا لم يصح ذلك عقلًا؛ لأن القرية والعير لا يُسألان، ومثله قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء: 63]، أي: فضرب فانفلق، وقوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} [البقرة: 184]، أي: فأفطر فعدة من أيام أخر. ¬

_ (¬1) هذا الحديث سبق بيانه في المبحث السابق.

2 - دلالة الإشارة

ومثال ما يتوقف عليه صحة اللفظ شرعًا قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]، فالآية تدل بعبارتها على فقر المهاجرين مع أنهم كانوا أصحاب دور وأموال في مكة، وهذا الإطلاق لا يكون صحيحًا إلا إذا قدَّرنا زوال ملكهم عما تركوه في مكة، وأنه صار مملوكًا للكفار بالاستيلاء عليه، فتقدير زوال الملك يستدل به بطريق الاقتضاء لتصحيح الكلام شرعًا. ومثله أن يقول شخص لآخر: تصدَّق بمتاعك هذا عني بمائة دينار، فالصدقة لا تصح إلا مما يملكه الشخص، فلا يصح هذا الكلام إلا إذا ملك المتاع، فيتوقف صحته شرعًا على تقدير شيء، وهو بَيْع المتاع للمتكلم، وكأنه يقول: بعني متاعَك بمائة، ثم تصدَّق به نيابة عني، فيكون البيع ثابتًا بدلالة اللفظ بطريق الاقتضاء. ومثله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أي حرّم عليكمْ زواجُ أمهاكم، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أي: أكل لحمها، وهو كثير (¬1). 2 - دلالة الإشارة: وهي غير مقصودة للمتكلم، وهي: دلالة اللفظ على لازم غير مقصود، ولا يتوقف عليها صدق الكلام أو صحته، فيقال: أشار النص إلى الحكم. ومثاله: قوله تعالى عن الطفل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فإن ذلك يدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 186)، الإحكام للآمدي (3/ 64)، المحلي والبناني (1/ 239)، تيسير التحرير (1/ 291)، كشف الأسرار (1/ 75)، شرح العضد (2/ 172)، فواتح الرحموت (1/ 413)، شرح الكوكب المنير (3/ 475)، المحصول (1/ 318)، نهاية السول (1/ 313)، أصول السرخسي (1/ 248)، تفسير النصوص (1/ 595)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 360)، أصول الأحكام ص 262، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 140.

3 - دلالة الإيماء أو التنبيه

ومثله: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، فإنه يلزم من ذلك جواز الإصباح جنبًا، وصحة صوم الجنب. ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم - عن النساء: "تَمْكُثُ إحداهُنَّ شَطْرَ عُمُرِها لا تُصَلّي" (¬1)، فهذا الحديث سيق لبيان نقصان الدِّين، فلزم منه أن يكون أكثر مدة الحيض خمسة عشر يومًا، لأنه ذكر الشطر مبالغة في بيان نقصان الدِّين (¬2). 3 - دلالة الإيماء أو التنبيه: هي أن يقترن مقصود المتكلم في اللفظ بوصف يدل على أنه علة الحكم، فالإيماء أو التنبيه من اللفظ يدل على أمر لازم مقصود للمتكلم، ولا يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلًا أو شرعًا، ولولا تلك الدلالة لكان اقتران اللفظ بغيره غير مقبول ولا مستساغ؛ لأنه لا ملاءمة بينه وبين ما اقترن به. وهذا الأمر يتعلق بأحد مسالك العلة في القياس، ويتمثل ذلك بصور عديدة: منها: ترتيب الحكم على الوصف بفاء التعقيب، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فالأمر بقطع اليد رتَّبه الشارع على السرقة، فكانت السرقة علة للقطع، ولولا ذلك لكان هذا الاقتران غير مقبول، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْيا أرضًا مَيْتَةً فهي له" (¬3) فرتَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مِلك الأرض الموات على إحيائها بحرف الفاء، فدل على أن الإحياء علة الملك. ومثله: قول أحد الصحابة: "سَها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة فسجد" ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد، وفي رواية البخاري: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ " قلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان دينها". (¬2) المستصفى (2/ 188)، الإحكام للآمدي (3/ 65)، أصول السرخسي (1/ 236)، كشف الأسرار (1/ 68)، جمع الجوامع والبناني (1/ 239)، شرح العضد (2/ 172)، شرح الكوكب المنير (3/ 476)، تيسير التحرير (1/ 87)، فواتح الرحموت (1/ 407، 413)، إرشاد الفحول ص 187، المدخل إلى مذهب أحمد ص 124، تفسير النصوص (1/ 605)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 261)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 142. (¬3) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وأحمد والدارقطني من رواية سعيد بن زيد رضي اللَّه عنه وعروة بن الزبير رحمه اللَّه تعالى. =

أنواع المفهوم

فالسهو سبب للسجود، "زنا ماعز فرجمه" فالزنا علة وسبب الرجم. ومنها: الحكم الذي يبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - جوابًا عن سؤال أو على واقعة، كقول الأعرابي: "هَلَكْتُ، يا رسولَ اللَّه، واقعتُ أهْلي في رمضان" فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أعتق رقبة" (¬1) فالكفارة ترتبت على وقاع الرجل أهله في نهار رمضان، فهذا يدل بطريق الإيماء والتنبيه على أن الوقاع كان علة لوجوب الكفارة، فالأعرابي عرض واقعته لبيان حكمها الشرعي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك الحكم في معرض الجواب له. ومنها: تقدير الشارع وصفًا يدل على التعليل، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل عن بيع الرطب بالتمر: "أيَنْقُصُ الرَّطبُ إذا يَبسِ؟ " قالوا: نعم، فنهى عنه، فكان تقدير نقصان الرطب، بالجفاف تعليلًا لتحريمه، وغير ذلك ممّا بيّنه علماء الأصول في مباحث العلة في القياس (¬2). أنواع المفهوم: سبق تعريف المفهوم بأنه: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، أي: إن اللفظ دل على حكم لم يذكر في الكلام، ولم ينطق به، بأن يثبت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه. والمفهوم نوعان: ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن ومالك وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) المستصفى (2/ 292)، الإحكام للآمدي (3/ 267)، المعتمد (2/ 776)، شرح العضد (2/ 234)، المحصول (2/ 197)، تيسير التحرير (4/ 39)، التلويح على التوضيح (2/ 563)، شرح الكوكب المنير (3/ 477)، (4/ 125) وما بعدها، فواتح الرحموت (2/ 296)، نهاية السول (3/ 44)، روضة الناظر ص 297، إرشاد الفحول ص 212، تفسير النصوص (1/ 601)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 360)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 141.

1 - مفهوم الموافقة

1 - مفهوم الموافقة: هو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه، نفيًا وإثباتًا، لاشتراكهما في معنى يُدرك من اللفظ بمجرد معرفة اللغة، دون الحاجة إلى بحث واجتهاد، وسمي مفهوم موافقة، لأن المسكوت عنه موافق للمنطوق في الحكم، ويسمى دَلالة النص عند الحنفية، وسبقت أمثلته. ثم إن كانت العلة في المسكوت عنه أولى بالحكم من العلة في المنطوق سمي المفهوم: فَحْوى الخطاب، كتحريم الضرب للوالدين المستفاد من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فهو أولى من تحريم التأفف. وإن كانت العلة في المسكوت عنه مساوية للحكم في المنطوق، سمي المفهوم: لَحْن الخطاب، كتحريم إحراق مال اليتامى المساوي لتحريم الأكل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فالإحراق مساوٍ للأكل (¬1). 2 - مفهوم المخالفة: هو دلالة اللفظ على نفي الحكم الثابت للمنطوق عن المسكوت، لانتفاء قيد من قيود المنطوق، ويسمى:. دليل الخطاب؛ لأن دليله من جنس الخطاب، أو لأن الخطاب دلَّ عليه، أو لمخالفته منظوم الخطاب ومنطوقه. مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الغَنَمِ السَّائِمةِ زكاةٌ" (¬2) فيدل بمنطوقه على وجوب الزكاة في الغنم إذا كانت سائمة ترعى في البراري، ويدل بمفهوم المخالفة ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 191)، جمع الجوامع والبناني (1/ 240)، الإحكام للآمدي (3/ 66)، شرح العضد (2/ 171)، تيسير التحرير (1/ 91)، فواتح الرحموت (1/ 413)، مناهج العقول (1/ 311)، شرح الكوكب المنير (3/ 481)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 128، تفسير النصوص (1/ 607)، شرح تنقيح الفصول ص 54، المسودة ص 350، العدة (1/ 152)، كشف الأسرار (2/ 252)، أصول الفقه، الزحيلي (1/ 362)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 143. (¬2) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والدارمي والطبراني عن أنس وابن عمر رضي اللَّه عنهم بألفاظ متعددة.

على عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة في البيوت (¬1)، وستأتي أمثلة أخرى. واعتبر المتكلمون (الجمهور) مفهوم المخالفة أحد الدلالات للألفاظ لاستنباط الأحكام عن طريقه، بينما منعه الحنفية نهائيًّا في النصوص الشرعية، ولم يعتدوا به، ولم يستنبطوا الأحكام عن طريقه، ويسمونه المخصوص بالذكر، ويرفضون الأخذ به، ويسمون مفاهيم المخالفة استدلالات فاسدة، ولذلك وقع اختلاف كبير بين المتكلمين والحنفية في هذا الخصوص، مع كثرة الأنواع في مفهوم المخالفة، ولذلك نفرده في المبحث التالي. ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 191)، الإحكام للآمدي (3/ 69)، البرهان (1/ 449)، فواتح الرحموت (1/ 414)، تيسير التحرير (1/ 98)، شرح العضد (2/ 173)، مناهج العقول (1/ 312)، شرح الكوكب المنير (3/ 489)، العدة (1/ 155)، شرح تنقيح الفصول ص 53، الحدود للباجي ص 50، التعريفات للجرجاني ص 118، روضة الناظر ص 264، إرشاد الفحول ص 179، تفسير النصوص (1/ 609)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 362)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 144.

المبحث الثالث مفهوم المخالفة

المبحث الثالث مفهوم المخالفة سبق بيان تعريف مفهوم المخالفة الذي يعتبره المتكلمون أحد الدلالات، ويضعون شروطًا له، ويعدّدون أنواعه، وخالفهم الحنفية فيه، وترتب على ذلك الاختلاف في الأحكام الفقهية المستنبطة عن طريقه، مع اختلاف بين المتكلمين أنفسهم في بعض الأنواع، أو بعض الأمثلة. أنواع مفهوم المخالفة: إن مفهوم المخالفة له أنواع كثيرة، أهمها ستة، وأولها مفهوم الصفة، ويعتبر رأس المفاهيم، والخمسة ترجع في المعنى إلى الصفة، كما قاله الجويني رحمه اللَّه تعالى (¬1)، وهي: 1 - مفهوم الصفة: هو دلالة اللفظ المقيد بصفة على نقيض هذا الحكم للمسكوت الذي انتفى عنه ذلك الوصف (¬2)، وليس المراد بالصفةِ الصفةَ النحوية، وهي النعت فحسب، بل يشمل ما في معناها كالتقييد بالزمان والمكان والإضافة والحال. مثاله: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ ¬

_ (¬1) قال الجويني رحمه اللَّه تعالى: "ولو عبَّر معبر عن جميع المفاهيم بالصفة لكان ذلك منقدحًا؛ لأن المعدود والمحدود موصوفان بعدّهما وحدّهما، وكذا سائر المفاهيم" البرهان، له (1/ 454). (¬2) تفسير النصوص (1/ 610)، وانظر تعريف مفهوم الصفة في: الإحكام للآمدي (3/ 73)، جمع الجوامع والمحلي والبناني (1/ 253)، نهاية السول (1/ 319)، تيسير التحرير (1/ 100)، شرح العضد (2/ 175)، شرح تنقيح الفصول ص 270، شرح الكوكب المنير (3/ 500)، البحر المحيط (4/ 30)، العدة (2/ 453)، المسودة ص 351، 360، التبصرة ص 218، روضة الناظر ص 274، إرشاد الفحول ص 180، علم أصول الفقه ص 154، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 362)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 172، أصول الأحكام ص 263.

الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فتدل الآية بمنطوقها على أن المسلم إذا لم يملك مهر الحرة، فيحل له الزواج بالإماء المؤمنات، وتدل بمفهوم المخالفة على أنه يحرم عليه الزواج بالإماء الكافرات؛ لأن الحل مقيد بوصف الإيمان، فينتفي الحل بانتفاء هذا الوصف. ومثاله: قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، فكل منهما ظرف زمان وهو قيد فيهما، فيُشرع الحج في أشهره دون غيرها، وتجب الجمعة يوم الجمعة دون غيره، وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، فهذا ظرف مكان، ومثله قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، فهو حال كالصفة، فتحرم المباشرة حال الاعتكاف، وتحل عند عدم الاعتكاف. ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم - "في الغَنَمِ السَّائمةِ زَكاةٌ" (¬1)، فيدل المنطوق على وجوب الزكاة في السائمة التي ترعى في البوادي والجبال، ويدل بمفهوم المخالفة على عدم الزكاة في الغنم المعلوفة في البيوت، ومثله قول جابر رضي اللَّه عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بالشُّفْعةِ في في كل ما لم يُقْسَم" (¬2)، فيدل بمفهوم المخالفة على عدم مشروعية الشفعة فيما يقبل القسمة، وهو ما صرح به جابر راوي الحديث بقوله: "فإذا وَقَعَتِ الحدودُ وصُرِّفت الطُرُق فلا شُفْعة" واستدل بهذا الحديث من حصر الشفعة عند الخلطة أي: الشركة، لا بالجوار، ومثله حديث: "من باعَ نخلًا مُؤَبَّرة فثمرتُها للبائع إلا أنْ يَشْترط المُبْتاع " (¬3)، فيدل بمنطوقه أن ثمرة النخل المؤبرة يستحقها البائع، ويدل بمفهومه أن ثمرة النخل الذي بيع قبل التأبير لا يستحقها البائع، بل المشتري، ومثله حديث "مَطْلُ الغني ظُلمْ يُحِلُّ عِرْضَه وعقوبتَه" (¬4)، فيدل بمنطوقه على أن مماطلة المدين الغني القادر على الدفع ¬

_ (¬1) هذا الحديث سبق بيانه في المبحث السابق. (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري وأحمد عن جابر رضي اللَّه عنه. (¬3) هذا الحديث أخرجه البخاري وابن ماجه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وأخرجه أبو =

2 - مفهوم الشرط

تُحل عقوبته والكلام في حقه، ويدل بمفهومه على أن مطل المدين المعْسِر لا يُحل عرضه وعقوبته. حجية مفهوم الصفة: إن مفهوم المخالفة للصفة حجة عند الشافعية والحنابلة وبعض المالكية أي: إن اللفظ المقترن بصفة يدل على نفي الحكم عند انتفاء تلك الصفة، وخالف في ذلك الحنفية وأكثر المعتزلة وبعض المالكية، وقالوا: إن التقييد بالصفة الخاصة لا يدل على نفي الحكم عند انتفاء تلك الصفة (¬1)، والراجح الأول؛ لأنه يتفق مع الاستعمال اللغوي في وضع الصفة في الكلام، وإلا كانت بدون فائدة. 2 - مفهوم الشرط: هو دلالة اللفظ المعلق فيه الحكم على شرط على ثبوت نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك الشرط، والمراد به الشرط اللغوي، مثل إن، وإذا، وليس الشرط الأصولي القسيم للسبب والمانع. مثاله: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فيدل بمنطوقة على وجوب النفقة للمطلقة البائن إذا كانت حاملًا، ويدل بمفهوم المخالفة على عدم وجوب النفقة للمطلقة البائن (المبتوتة) غير الحامل، ومثله قوله تعالى؛ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ ¬

_ = داود والنسائي وابن ماجه وأحمد والحاكم بلفظ آخر عن عمرو بن الشريد رضي اللَّه عنه. (¬1) المستصفى (2/ 192)، الإحكام للآمدي (3/ 72)، شرح العضد (2/ 175)، نهاية السول (1/ 319)، البحر المحيط (4/ 37)، تيسير التحرير (1/ 100)، البرهان (1/ 467)، المعتمد (1/ 162)، فواتح الرحموت (1/ 414)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 255)، شرح تنقيح الفصول ص 270، شرح الكوكب المنير (3/ 500، 503)، العدة (2/ 453، 455)، المسودة ص 351، 360، روضة الناظر ص 274، إرشاد الفحول ص 180، علم أصول الفقه ص 154، تفسير النصوص (1/ 611)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 362)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 172، أصول الأحكام ص 263.

هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، فإنه يدل بمنطوقه على حل أخذ الزوج من مال زوجته ومهرها إن طابت نفسها بذلك، ويدل بمفهوم المخالفة على حرمة أخذ شيء من مال المرأة إذا لم تطب نفسها به، فالرضا شرط في الحل، ومثله ما سبق في مفهوم الصفة في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، أنه يحرم الزواج بالإماء المؤمنات عند القدرة (الطَّوْل)؛ لأن الآية اشترطت عدم القدرة للحل. ومثله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الواهبُ أحقُّ بهبتِه ما لم يُثَبْ منها" (¬1)، أي: يعوض، فإنه يدل على حق الواهب بالرجوع في هبته إذا لم يُعوّض عنها، ويدل بمفهوم المخالفة على منع الواهب من الرجوع في هبته إن عُوّض عنها. حجية مفهوم الشرط: إن مفهوم الشرط عند أكثر المالكية والشافعية والحنابلة حجة، حتى قال الحنابلة: إنه أقوى من الصفة؛ لأن التقييد بالشرط يدل على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، ولأن الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط، وقال الحنفية وأكثر المعتزلة وبعض المالكية: إن التقييد بالشرط لا يدل على انتفاء المشروط بانتفاء الشرط، وإنما ذلك منفي بالأصل، وهو عدم المشروط حال عدم الشرط (¬2)، والراجح قول الجمهور حتى يكون لذكر الشرط فائدة ودلالة في الأسلوب. ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الحاكم وصححه، والدارقطني وابن ماجه والطبراني عن أبي هريرة وابن عباس، وابن عمر رضي اللَّه عنهم، وفيه ضعف. (¬2) المستصفى (1/ 205)، المعتمد (1/ 152)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 251)، نهاية السول (1/ 322)، الإحكام للآمدي (3/ 88)، تيسير التحرير (1/ 100)، شرح العضد (2/ 180)، شرح تنقيح الفصول ص 270، شرح الكوكب المنير (3/ 505)، المسودة ص 357، روضة الناظر ص 273، فواتح الرحموت (1/ 421)، إرشاد الفحول ص 181، تفسير النصوص (1/ 613)، علم أصول الفقه ص 155، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 363)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 172، أصول الأحكام ص 263.

3 - مفهوم الغاية

3 - مفهوم الغاية: هو دلالة اللفظ الدال على حكم مقيد بغاية على ثبوت نقيض الحكم بعد هذه الغاية، وللغاية لفظان: إلى، حتى، والغاية انتهاء الشيء وتمامه، وحكم الغاية أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها. مثاله: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فتدل الآية بمنطوقها على إباحة تناول الطعام والشراب في الليل إلى الفجر، وتدل بالمفهوم المخالف على تحريم ذلك بعد الغاية، وهي طلوع الفجر، وتدل على جواز تناول المفطرات بدخول الليل بعد الإمساك عنها طوال النهار، وتدل بالمنطوق على وجوب الصيام بياض النهار، وتدل بالمفهوم المخالف على عدم وجوب الصيام في الليل. ومثاله: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فتدل الآية على تحريم إتيان النساء زمن الحيض، وقبل الاغتسال، وتدل بمفهوم المخالفة على جواز الإتيان بعد الحيض والاغتسال. ومثاله: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فتدل بالمنطوق على تحريم المطلقة ثلاثًا على زوجها حتى تتزوج بآخر، وتدل بمفهوم المخالفة على أنها إذا نكحت زوجًا آخر حلَّت لزوجها الأول. ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا زكاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الحَوْلُ" (¬1)، فالحديث يدل بمنطوقه على عدم وجوب الزكاة قبل مرور سنة على تملك النصاب فيه، ويدل بمفهوم المخالفة على وجوب الزكاة عند حَوَلان الحَوْل على تملك النصاب. حجية مفهوم الغاية: قال جمهور العلماء من الفقهاء والمتكلمين: إن مفهوم الغاية حجة يجب الحمل بها، فإذا قُيّدَ الحكم بغاية دل على نفي الحكم فيما بعد الغاية، ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه مالك وأبو داود والترمذي والدارقطني عن علي وابن عمر وأنس وعائشة مرفوعًا وموقوفًا، وقال الترمذي والدارقطني: "الموقوف أصح" وعمل به جماهير الفقهاء.

4 - مفهوم العدد

وأضافوا: إن دلالة مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الصفة، وأقوى من مفهوم الشرط من جهة الدلالة؛ لأن العلماء أجمعوا على التسمية بحروف الغاية، وغاية الشيء نهايته، فلو ثبت الحكم السابق للغاية على ما بعدها لم يُفِدْ تسميتها غاية. وقال أكثر الحنفية وبعض الفقهاء وبعض المتكلمين بمنع مفهوم الغاية، وأنه لا يدل على الحكم (¬1)، والراجح القول الأول؛ لاتفاقه مع أسلوب اللغة العربية. 4 - مفهوم العدد: هو دلالة النص الذي قيد فيه الحكم بعدد مخصوص على ثبوت حكم للمسكوت مخالف لحكم المنطوق؛ لانتفاء ذلك القيد (¬2). مثاله: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فالجلد تقيّد في الآية الأولى بمئة، وفي الثانية بثمانين، فيدل بالمنطوق أن العقوبة مائة في الأولى، وثمانين في الثانية، ويدل بمفهوم المخالفة على أن الزائد عليها لا يجب. ومثله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغَ الماءُ قُلَّتينِ لم يَحْمل خَبَثًا" وفي رواية: "لم يَنْجُس" (¬3)، فيدل بالمنطوق أن الماء الكثير لا ينجس إذا أصابته نجاسة إلا ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 208)، المعتمد (1/ 156)، الإحكام للآمدي (3/ 92)، تيسير التحرير (1/ 100)، فواتح الرحموت (1/ 432)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 251)، شرج العضد (2/ 181)، شرح الكوكب المنير (3/ 506)، المسودة ص 358، روضة الناظر ص 273، مختصر الطوفي ص 126، اللمع ص 26، إرشاد الفحول ص 182، علم أصل الفقه ص 154، تفسير النصوص (1/ 615)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 364)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 173، أصول الأحكام ص 263. (¬2) تفسير النصوص (1/ 617)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 173، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 365)، إرشاد الفحول ص 181. (¬3) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، والقلتان تساويان 270 لترًا.

5 - مفهوم اللقب

إذا تغير طعمه أو لونه أو رائحته، ويدل بمفهوم المخالفة على أن الماء القليل، وهو دون القلتين يتنجس بملاقاة النجاسة. حجية مفهوم العدد: يرى جمهور الفقهاء والمتكلمين على أن الحكم المتعلق بعدد يدل بمجرده على إثبات العدد، ويدل في ذات الوقت على نفي الزائد، وقال الحنفية والمعتزلة بعدم دلالة العدد في النّص على نفي الحكم عن غيره، ومحل الخلاف في عدد لم يُقصد به التكثير كالألف والسبعين، وما يستعمل في لغة العرب للمبالغة، كما سيأتي في شروط مفهوم المخالفة، والراجح القول الأول؛ لأن حكم المنطوق تعلق بعدد مخصوص، وحتى لا يخلو التحديد من فائدة، ولذلك قال الشوكاني رحمه اللَّه تعالى: "والحق ما ذهب إليه الأولون، والعمل به معلوم من لغة العرب، ومن الشرع" (¬1). 5 - مفهوم اللقب: المراد من اللقب هو الاسم الذي يعبر به عن الذات، سواء كان عَلَمًا، أو اسم جنس، أو نوع، وتعريفه: تخصيص اسم بحكم، بأن يدل المنطوق على نفي الحكم عما عداه. مثاله: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الربا: "الذَّهبُ بالذهب، والفضةُ بالفضة" (¬2)، ومثال اسم النوع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الغَنَم زكاةٌ" (¬3). ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول ص 182، وانظر: المعتمد (1/ 157)، الإحكام للآمدي (3/ 94)، تيسير التحرير (1/ 100)، فواتح الرحموت (1/ 432)، شرح الكوكب المنير (3/ 94)، العدة (2/ 448، 450)، روضة الناظر ص 274، مختصر الطوفي ص 127، المدخل إلى مذهب أحمد ص 128، علم أصول الفقه ص 155، تفسير النصوص (1/ 617)، أصول الفقه الإسلامي (1/ 365)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 173، أصول الأحكام ص 263. (¬2) هذا طرف من حديث أخرجه مسلم والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه. (¬3) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي بكر رضي اللَّه عنه.

6 - مفهوم الحصر

حجية مفهوم اللقب: ذهب جمهور المتكلمين والحنفية إلى عدم الاحتجاج بمفهوم اللقب، ففى الأمثلة السابقة لا يستدل على عدم تعلق الرسالة بغير محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعدم تعلُّق الربا بغير الذهب والفضة، وعدم وجوب الزكاة على غير الغنم؛ لأن ذكر اللقب لا يفيد تقييدًا ولا تخصيصًا ولا احترازًا عما سواه. وذهب بعض العلماء إلى حجية مفهوم اللقب أي: أن ينتفي الحكم المتعلق باللقب عن غيره، ويثبت للغير نقيض الحكم المذكور (¬1)، والراجح قول الجمهور؛ لأن النطق بالحكم الخاص أو لنوع لا ينفي الحكم عن غيره. 6 - مفهوم الحصر: هو انتقاء الحكم المحصور عن غير ما حصر فيه، وثبوت نقيضه له، ويتم الحصر بحرف "إنما"، وحصر المبتدأ في الخبر بكونه معرفًا باللام، أو الإضافة. مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2)، فيدل بمنطوقه على حصر قبول الأعمال في المنوي، ويدل بمفهومه على عدم اعتبار العمل غير المنوي، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِفْتاحُ الصَّلاة الطُهُور، وتحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التسليم" (¬3) فيدل بمنطوقه على حصر صحة الصلاة بالطهارة، ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 204)، المعتمد (1/ 159)، الإحكام للآمدي (3/ 95)، البرهان (1/ 453)، البناني على جمع الجوامع (1/ 252)، نهاية السول (1/ 318)، تيسير التحرير (1/ 101، 131)، فواتح الرحموت (1/ 432)، شرح العضد (2/ 182)، شرح الكوكب المنير (3/ 509)، شرح تنقيح الفصول ص 271، مختصر الطوفي ص 127، إرشاد الفحول ص 182، علم أصول الفقه ص 155، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 265)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 173، أصول الأحكام ص 263. (¬2) هذا الحديث مشهور، ومتفق عليه في الصحاح والسنن وغيرها عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. (¬3) هذا حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي عن علي كرّم اللَّه وجهه. =

وحصر التحريم بالتكبير، وحصر التحليل بالتسليم، ويدل بمفهوم المخالفة على عدم هذه الأحكام عند عدم وجود الطهارة والتكبير والتسليم، ومثل: صديقي عمرو، فإنه يفيد الحصر؛ لأن المراد الجنس، فيدل بمفهوم المخالفة على نفي الصداقة عن غير عمرو. حجية مفهوم الحصر: ذهب بعض العلماء إلى حجية مفهوم الحصر، وأن اللفظ يدل على الحصر بالمذكور دون غيره، وقال بعض الفقهاء والأصوليين بعدم حجيته؛ لأن اللفظ لا يدل على الحصر (¬1)، والراجح الأول؛ لأن أدوات الحصر قد وضعت في اللغة لإثبات النفي والإثبات، فيدل المنطوق على إثبات الحكم للمنطوق، ونفيه عن المسكوت عنه. شروط العمل بمفهوم المخالفة: اشترط الجمهور القائلون بالاحتجاج في مفهوم المخالفة شروطًا، بعضها راجع للمسكوت عنه، وبعضها راجع للمذكور المنطوق، وهذه الشروط تقلل من العمل بمفهوم المخالفة، وتقرب الآراء مع المخالفين القائلين بعدم حجية مفهوم المخالفة، وأهم هذه الشروط هي (¬2): 1 - ألا يدل على المسكوت دليل خاص. فيعمل بمنطوق الدليل الخاص، مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ¬

_ (¬1) الإحكام (3/ 91)، البرهان (1/ 454)، البحر المحيط (4/ 50)، شرح تنقيح الفصول ص 271، إرشاد الفحول ص 182، أصول الفقه الإسلامي (1/ 366)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 174. (¬2) الإحكام للآمدي (3/ 100)، البرهان (1/ 477)، تيسير التحرير (1/ 99)، فواتح الرحموت (1/ 414)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 246)، شرح العضد (2/ 175)، المسودة ص 362، شرح الكوكب المنير (3/ 489)، مناهج العقول (1/ 315)، إرشاد الفحول ص 180، تفسير النصوص (1/ 672)، علم أصول الفقه ص 159، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 372)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 178، أصول الأحكام ص 265.

وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، فيدل المفهوم عدم قتل الذكر بالأنثى قصاصًا، ثم جاء نص خاص يدل على وجوب القصاص بين الرجل والمرأة في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، فهذا يشمل القصاص بين النفس والنفس مطلقًا، وأيدت السنة ذلك، ومثل قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، فتدل الآية بمفهوم المخالفة على عدم قصر الصلاة حالة الأمن، وهذا ملغى بالحديث الذي أجاز رخصة القصر مطلقًا، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقةٌ تصَدَّق اللَّهُ بها عليكم فاقبلُوا صَدَقتَه" (¬1) فإنه يدل على حكم المسكوت، وهو قصر الصلاة حالة الأمن (¬2). 2 - ألا يعارض مفهومَ المخالفة ما هو أرجح منه في الدلالة، كدلالة النَّص ودلالة التنبيه أو الإيماء، ودلالة مفهوم الموافقة أو القياس الجلي، فيسقط مفهوم المخالفة، ويقدم الاستدلال بهذه الدلالات، كما سبق بيانه عند شرحها. 3 - ألا يكون للقيد الذي قيد به النص فائدة أخرى غير نفي الحكم عن المسكوت عنه خلافًا للمنطوق، مثل الترغيب، أو الترهيب، أو التنفير، أو التفخيم، أو تأكيد الحال، أو الامتنان، أو نحو ذلك. ومثال التنفير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، فلا مفهوم للأضعاف بجواز الربا القليل؛ لأنه جاء للتنفير من الحالة التي كانت في الجاهلية، وتطبق اليوم باسم الفائدة المركبة، فالقيد بالأضعاف للتنفير؛ بدليل قوله تعالى في تحريم الربا القليل ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن عمر ويعلى بن أمية رضي اللَّه عنهما. (¬2) ومثله حديث: "إنما الماءُ من الماء" الذي رواه مسلم وأحمد، ويدل بمفهومه على عدم الغسل إذا وقع جماع ولم يتم إنزال، ثم عارضه حديث عائشة رضي اللَّه عنها "إذا مسَّ الختانُ الختانَ فقد وَجَبَ الغسلُ" الذي رواه مسلم والترمذي وأحمد فدل على وجوب الغسل عند التقاء الختانين سواء أنزل أم لم ينزل، فيقدم على مفهوم المخالفة في الحديث الأول.

والكثير: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. ومثال الترغيب والحث على الامتثال قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ لامرأةٍ تُؤْمنُ باللَّه واليومِ الآخِر أن تَحُدُّ فوقَ ثلاثةِ أيامِ إلا على زَوْجها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا" (¬1) فقيد "تؤمن باللَّه واليوم الآخر" قُصِد منه التفخيم وتأكيد الحال للحث على الامتثال لأمر اللَّه ورسوله؛ لأنه مدعاة لامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فلا يستدل منه على إباحة الإحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام لغير المؤمنة. ومثال إفادة التكثير والمبالغة قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، فإن قيد العدد بسبعين لا مفهوم له، فالزائد على السبعين لا يحقق فائدة؛ لأنه ذكر على سبيل المبالغة في الاستغفار، وأنه مع المبالغة لا فائدة لمن يُستغفر لهم. ومثال الامتنان قوله تعالى عن البحر: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، فقوله "طريًّا" للامتنان على نعم اللَّه الموجودة في البحر، فلا يدل على منع أكل ما ليس بطري. 4 - ألا يكون ذكر القيد في النص قد خرج مَخْرج الأعم الأغلب أو لمراعاة الواقع، كما في قوله تعالى في تحريم بنات الزوجة (الربائب): {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فإن الغالب أن تكون الربيبة في حجر زوج أمها، فجاء القيد به، ولا يؤخذ منه مفهوم المخالفة، فالربيبة محرمة سواء كانت في الحجر أم لا، ولكن يعمل بمفهوم المخالفة في القيد الثاني "اللاتي دخلتم بهن" فلا تحرم الربيبة إلا إذا تمَّ الدخول بالزوجة، فإن لم يدخل بها فلا تحرم بنتها، ولذلك قالوا: "الدخول بالأمهات يحرِّم البنات". ومثله قوله تعالى في الخلع: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أم حبيبة وأم سلمة وحفصة وزينب بنت جحش رضي اللَّه عنهن.

أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، فإن الغالب أن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق، ومثله قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فالخلع في الغالب لا يكون إلا عند الخوف من ترك أوامر اللَّه، فتفتدي الزوجة نفسها بمال تعطيه للزوج مقابل حصولها على الطلاق. 5 - أن يكون الكلام الذي ذكر فيه القيد مستقلًا، فإن ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له، كقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، فإن عبارة "في المساجد" لا مفهوم لها؛ لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقًا، سواء كان في المسجد أو خرج منه لعذر شرعي. آراء الأصوليين في الاحتجاج بمفهوم المخالفة: اتفق علماء الأصول على أمرين في الاحتجاج بمفهوم المخالفة، وهي: 1 - اتفق العلماء -إلا قلة قليلة- على عدم الاحتجاج بمفهوم اللقب، فإذا قال اللَّه تعالى: "محمد رسول اللَّه" لا يفهم منه ألا يكون غيره رسولًا، وإذا عدد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الأصناف الستة التي يجري فيها الربا، لا يفهم منه أن الربا لا يجري في غيرها، ولذلك اتفقوا على قياس العملة الورقية على النقدين، وقاسوا على الأربعة الأخرى غيرها مع اختلاف في العلة، ولا يحتج بمفهوم اللقب سواء كان في نص شرعي أو في كلام الناس. 2 - اتفق العلماء على الاحتجاج بمفهوم المخالفة في غير النصوص الشرعية، من كلام الناس كالعقود، وشروط الواقف، والموصي، وغيره، وكذا في كلام العلماء والمؤلفين، نزولًا على حكم العرف والعادة، فلا يقيد الناس كلامهم بقيد إلا الفائدة، ولذلك قال العلماء: إن مفاهيم الكتب حجة. 3 - إن الشروط التي وضعها الجمهور لمفهوم المخالفة لبناء الأحكام على مقتضاه، والأمثلة التي ذكروها، تلتقي مع المخالفين لمفهوم المخالفة، وتصبح وجهات النظر متقاربة، وتصبح ثمرة الخلاف محدودة في الفروع والجزئيات. واختلف علماء الأصول في الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيما عدا الحالات

ملحق: دور القياس في تفسير النصوص

الثلاث السابقة، فذهب الجمهور إلى الاحتجاج بمفهوم المخالفة عند القيد بشرط، أو صفة، أو عدد، أو غاية، أو حصر، ويكون مفهوم المخالفة حجة على ثبوت نقيض الحكم المنطوق للمفهوم عند عدم القيد، والنصُّ يدل بمنطوقه على حكم، وبمفهومه المخالف على نقيض الحكم الأول، واستدلوا بأن ذلك متبادر للأذهان، ويتفق مع المنطق البياني، وأساليب العربية، حتى لا يكون القيد عبثًا لا فائدة له، مع أن كلام الشرع منزه عن العبث. وذهب الحنفية ومن معهم إلى عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة، واعتبروه من الاستدلالات الفاسدة، وأن النص الشرعي يدل على حكم المنطوق فقط، ويجب البحث عن حكم المسكوت عنه عند فقد القيد، بدليل أن دلالة المفهوم ليس مطردًا في أساليب اللغة، وورد مثله كثيرًا في الشرع فيما ذكره الجمهور في الشروط، مع اختلاف القائلين بمفهوم المخالفة في كثير من أمثلته، واحتمال الخطأ والغلط في استنباط المفهوم، وهو ممتنع شرعًا. واستدل كل فريق بأدلة أخرى، ونكتفي بما سبق؛ لأنه يحقق المقصود، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتب الأصول والفقه (¬1). ملحق: دور القياس في تفسير النصوص: إن النصوص سواء كانت شرعية أم قانونية لا يمكن أن تغطي جميع الصور والحالات والوقائع والأحداث، التي تقع في الحياة، كما أن التشريع لا يمكن أن يتناول الوقائع والأحداث التي تقع في المستقبل، ويتفتق عنها الذهن، ويخترعها التطور والعقل، سواء كان في المعاملات أو في المخالفات والجنايات أو في الضرائب وغيرها. وإن النصوص -سواء كانت شرعية أم قانونية- إنما شرعت لتحقيق ¬

_ (¬1) المراجع الأصولية السابقة في مفهوم المخالفة، وخاصة: شرح الكوكب المنير (3/ 487) وما بعدها، تفسير النصوص (1/ 670) وما بعدها، إرشاد الفحول ص 181 وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 367) وما بعدها، أصول الأحكام ص 264، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 174.

مصالح الناس، وبنيت على عللٍ مطّردة، وليست عبثًا لغير علة، إلا ما ورد فيه نص خاص لحالة خاصة بدليل مقبول. لذلك فتح الشرع والعقل باب الاجتهاد، وشرع القياس، ليتم تطبيق النصوص السابقة علي جميع الحالات والصور والوقائع المستجدة التي تماثل ما تمَّ النص عليه، هذا ما يقتضيه العقل، والمنطق، والعدل، بأن تكون الحالات المتشابهة لها أحكام واحدة. وهنا يأتي دور العلماء والفقهاء والأئمة والمجتهدين والمفسرين وشراح القوانين والقضاة والمحامين لبيان علة الحكم، ودلالة النص، ومن ثمَّ تعدّيه إلى الحالات المتماثلة ليشمل النّص الجميع، ويتم القياس عمليًّا (¬1)، وذلك بمعناه العام الذي يشمل مختلف صنوف الاجتهاد فيما لا نص فيه. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، وسبق بيان بعضها في باب القياس، وفي الدلالات وتفسير النصوص، وإن وقع اختلاف في الاجتهاد والتطبيق فلا ضَيْر فيه، فالاختلاف واقع حتمًا، وعلامة صحة، وليس علة مرض. فمن ذلك الاستدلال بدلالة النص، أي ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة يفهمها كل عارف باللغة، وذلك أن القارئ أو السامع يفهم من روح النص ومعقوله أنه يدل على محل النطق، وعلى كل واقعة تشابهه وتساويه في العلة، كمن يسمع قوله تعالى في الوصية بالوالدين: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، فيدرك أنه يحرم الضرب بالأولى، ومن يسمع قوله تعالى عند الوصية بالتيامى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فيدرك من النص حرمة أكل مال اليتيم، ويفهم فورًا أنه يحرم إتلافه وحرقه وغصبه والاعتداء عليه. ¬

_ (¬1) نذكّر بتعريف القياس بأنه إلحاق واقعة لا نص على حكمها بموافقة ورد نص. بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم، علم أصول الفقه، خلاف ص 52.

والقاضي يحرص على تطبيق النص الشرعي أو القانوني على الحالة التي ورد النص فيها، ويدرك بداهة أنه يجب تطبيق النص على جميع الصور والحالات التي تستجد أو تطرأ أو تقع مشابهة لما ورد في النص، ويطبق نفس الحكم المدني، أو نفس العقوبة على جميع الحالات المتماثلة. ومن الأمثلة القانونية أن القانون المدني نص على حجية الورقة الموقَّع عليها بالإمضاء؛ لأن توقيع الموقع يذل على شخصه، وقاس الشراح والقضاة عليها الورقة المبصومة بالأصبع، وأنها حجة على باصمها؛ للاشتراك في العلة، ثم تعدلت النصوص وأضيفت البصمة بالنص. ونص قانون العقوبات على منع المحاكمة في السرقة بين الأصول والفروع وبين الزوجين إلا بناء على طلب المجني عليه؛ لعلة القرابة والزوجية بين الجاني والمجني عليه، وقاس الشراح والقضاة على السرقة النصب واغتصاب المال بالتهديد وإصدار شيك بدون رصيد بين الأصول والفروع وبين الزوجين، لوجود نفس العلة بين الجناة والمجني عليهم (¬1). وإذا أخذنا القياس بمعناه الواسع الشامل فإنه يشمل جميع الاجتهادات والمصادر التبعية أو الاختلافات الفقهية وآراء المجتهدين والفقهاء والعلماء، ويشمل آراء شراح القوانين واجتهادات القضاة والمحاكم، وحتى اجتهادات محكمة النقض واللوائح التي تفسر وتشرح الأنظمة والقوانين الصادرة من المجالس التشريعية. ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه ص 53.

الفصل السادس حروف المعاني

الفصل السادس حروف المعاني مقدمة: إن الحروف في اللغة العربية ثلاثة أقسام: الأول: حروف المباني، وهي التي تُبنى منها الكلمة، مثل الباء، والكاف، والراء في كلمة بكر، والكاف، والتاء، والباء في كلمة كتب، فهذه الحروف تتركب منها الكلمة ولا تدخل في علم أصول الفقه. الثاني: حروف المعاني، وهي التي وُضعت لمعان تتميز بها عن حروف المباني، وهذه الحروف لا تدل على معنى في ذاتها، بل تدل على معنى في غيرها، كحرف العطف، وحرف الجر، وهذه هي المقصودة في هذا الفصل، وتدرس في أصول الفقه؛ لصلتها الوثيقة بالاجتهاد لاستنباط الحكم بواسطتها لمعرفة الأحكام الشرعية، وتوقف فهم العبارات على فهم معنى الحرف، وتدرس في علم النحو، والفقه، وأصول الفقه (¬1). الثالث: الحروف المشبهة بالفعل، وهي التي تدخل على الجملة الاسمية، فتنصب المبتدأ وترفع الخبر، وهي إنَّ، وأنَّ، وكأن، ولكن، ولعل، وغيرها، وتدرس في علم النحو. أصناف حروف المعاني: تتوزع حروف المعاني على عدة أصناف (¬2)، أهمها: ¬

_ (¬1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وإنما احتاج الأصولي إليها لأنها من جملة كلام العرب، وتختلف الأحكام الفقهية بحسب اختلاف معانيها" البحر المحيط (2/ 253). (¬2) إن حروف المعاني ثلاثة أقسام، الأول: ما لا يكون إلا حرفًا، مثل: من وإلى وحتى وفي والباء واللام ورب وواو القسم وتائه، والثاني: ما يكون حرفًا واسمًا مثل: على وعن والكاف ومذ ومنذ، والثالث: ما يكون حرفًا يجر ما بعده، وقد ينصبه بالفعلية، مثل: خلا وحاشا وعدا، وتفصيل ذلك في كتب اللغة والنحو وتنقسم حروف المعاني إلى ما هو على =

1 - حروف الإضافة والجر

1 - حروف الإضافة والجر: وهي التي تفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء، ولها دلالة على المعنى، مثل الباء في قولنا: مررت بزيد، فإن الباء تدل على الإلصاق .. ، وهكذا، وسميت حروف جر لأنها تجر ما قبلها إلى ما بعدها، سواء كان الجار فعلًا، أو اسمًا، كما سيأتي تفصيل ذلك. 2 - حروف العطف: وهي التي تجمع المعطوف والمعطوف عليه في حكم، ولكل منها معنى إضافي خاص، كما سيأتي. ويبحث علماء الأصول مع حروف المعاني بعض الظروف وكلمات الشرط، وهي أسماء، تشبيهًا للظروف والشروط بالحروف في بناء المعاني عليها، وعدم استقلالها في ذاتها، ويضعونها تحت عنوان: معاني الحروف، مع كونها أسماء من باب التجوز والتغليب (¬1). ولذلك نعرض في هذا الفصل حروف العطف، وحروف الجر، وأسماء الظرف، وأدوات الشرط، وذلك في أربعة مباحث. ¬

_ = حرف واحد، وعلى حرفين، وما هو على أكثر من ذلك، انظر: الإتقان في علوم القرآن (2/ 255)، مغني اللبيب (1/ 391)، رصف المباني ص 410، معترك الأقران (3/ 446)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 376). (¬1) الإحكام للآمدي (1/ 63)، البرهان في علوم القرآن (4/ 435)، المعتم (1/ 38)، أصول السرخسي (1/ 200)، كشف الأسرار (2/ 109)، فواتح الرحموت (1/ 229)، العضد على ابن الحاجب (1/ 189)، شرح الكوكب المنير (1/ 227)، البحر المحيط (2/ 253)، الفصول في الأصول (1/ 83)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 375)، أصول الأحكام ص 325.

المبحث الأول حروف العطف

المبحث الأول حروف العطف العطف في اللغة: الثني والرد والإمالة، يقال: عطف العودَ: إذا ثناه ورده، وعطف الشيء: أماله وحناه، وعطف إلى ناحية كذا: مال وتحوّل (¬1). والعطف في الكلام: أن تردَّ أحد المفردين إلى الآخر في الحكم، أو إحدى الجملتين إلى الأخرى في الحصول، ويكون العطف بأحد حروف العطف. وتشترك حروف العطف بالمعنى العام، وتختص الواو بمطلق الجمع، والفاء، وثمَّ، وحتى، بالترتيب، وأو، وأما، وأم بتعليق الحكم بأحد المذكورين، ولا، وبل، ولكن، ببيان مخالفة المعطوف للمعطوف عليه في حكمه. والواو هي أصل العطف؛ لأنها تثبت المشاركة، وتدل على مجرد الاشتراك، وأما سائر حروف العطف فتدل على معنى زائد على الاشتراك كما سبق بيانه، وسيأتي تفصيله. ونعرض في هذا المبحث أهم حروف العطف التي ترد كثيرًا في النصوص الشرعية، والنصوص التشريعية، ويتوقف الحكم على معناها. أولًا: الواو: وهي أكثر حروف العطف استعمالًا في الكلام، وهي لمطلق الجمع، عند جماهير أهل اللغة والأدب والنحو حتى ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك (¬2)، وهو رأي معظم علماء الشرع في المذاهب الأربعة (¬3)، فالواو لا تدل على ترتيب ولا على معية أي: مقارنة، بل هي لمطلق الجمع بمعنى أي جمع ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط 2/ 608. (¬2) نص بعض علماء اللغة أنها للترتيب، كثعلب وقطرب وأبي جعفر الدينوري، وردّ الجمهور بأن قصدهم أنها قد تأتي للترتيب مجازًا بقرينة، وليس في أصل الاستعمال والحقيقة. (¬3) المراجع السابقة في الهامش قبل الهامشين السابقين، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني (1/ 365)، شرح تنقيح الفصول ص 99، المسودة ص 355. =

استدلوا على ذلك بأدلة كثيرة

كان، سواء كان مرتبًا أم غير مرتب، وهو جمع أمرين وتشريكهما في الثبوت، أو النفي، مثل: قام زيد وعمرو، أي اشتركا في القيام، ولم يأت خالد وبكر، أي نفى الإتيان عنهما، دون بيان ترتيب أو معية. واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، أهمها: 1 - اللغة: نقل العلماء عن أئمة اللغة العربية، وبعد استقراء مواضع استعمال الواو، أنها لمطلق الجمع، كقولهم: جاء زيد وعمرو، فيفهم منه اجتماعهما في المجيء دون تعرض للترتيب في المجيء أو المقارنة فيه، ولو كانت للترتيب لوقع التناقض في القرآن الكريم في قصة واحدة، وقضية واحدة، ووقوع تقديم الدخول في آية، وتأخيره في آية، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]، وقال تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف: 161]، وكلام اللَّه منزه عن التناقض. وإن قول العرب: "لا تأكل السمكَ وتشربَ اللبنَ" معناه النهي عن الجمع بينهما من غير تعرض لمقارنة أو ترتيب في الوجود، سواء قدَّم هذا أم أخر ذلك. 2 - الاستعمال: تستعمل الواو فيما يستحيل فيه الترتيب، كصيغ المفاعلة، مثل: تقاتل زيد وعمرو، واختصم بكر وخالد، فالمفاعلة تقتضي وقوع الفعلين معًا، فتكون الواو حقيقة في غير الترتيب، ولا تكون حقيقة في الترتيب، لمنع الاشتراك؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة. ويستحيل استعمال الواو في المواضع التي لا يصح فيها المقارنة، مثل اشترك زيدٌ وعمرو، أو المال بين زيد وعمرو، وسيّان قيامُك وقعودك، فهنا يستحيل الترتيب في هذه الأمثلة، مما يدل على أن الواو حقيقة للجمع دون ترتيب ولا مقارنة. كما تستعمل الواو حالة التصريح بتقديم أمر على آخر، مثل: جاء زيد وعمرو قبله، فلو دلَّت الواو على الترتيب لكان زيد أولًا، ثم عمرو، ووقع تناقض في الكلام.

3 - القياس

3 - القياس: إن الواو تفيد الجمع بين شيئين مختلفين دون ترتيب بينهما قياسًا على واو الجمع وألف التثنية في الأسماء المتماثلة دون دلالة على الترتيب، مثل جاء رجلان، أو حضر الرجال، ولا يمكن جمع الرجل والمرأة في كلمة واحدة، فأتى أهل اللغة بالواو للجمع فقط، فنقول: جاء رجل وامرأة، ولا نقصد الترتيب بينهما في المجيء. 4 - عدم دخول الواو في جواب الشرط: فلو أفادت الترتيب لصح دخولها في جواب الشرط كالفاء؛ لأن جواب الشرط يعقب الشرط، وتستعمل فيه الفاء التي تدل على التعقيب، كقولك: إذا نجح الولد فأعطه مكافاة، ولا يصح أن تقول: إذا نجح الولد وأعطه مكافأة. واستدل الحنفية بذلك على عدم وجوب الترتيب في الوضوء؛ لأنها معطوفة بالواو في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، أما الشافعية فاستدلوا على وجوب الترتيب ليس بالواو بل لأن اللَّه تعالى ذكر مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين، مما يدل على ترتيب الغسل فالمسح فالغسل، فأدخل ممسوحًا بين مغسولين، ولم يستدلوا بأن الواو للترتيب، فإنها لا تفيده بمجردها (¬1). آراء أخرى في حكم الواو: 1 - قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: إن الواو للترتيب، وهو قول أبي حنيفة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، والواجب البدء في السعي بالصفا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله من الصحابة: "بِمَ نَبْدَأ؟ " فقال: "ابدَاؤُوا بما بَدَأ اللَّه به" (¬2) فكان جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبينًا أن الواو للترتيب، وردَّ الجمهور ذلك بأن الصحابة رضوان اللَّه عليهم من أهل اللغة، فلو كانت الواو للترتيب لما سألوا عن ذلك، والترتيب ثبت بالحديث، وليس من الآية. ¬

_ (¬1) المراجع السابقة. (¬2) هذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي وأحمد عن جابر رضي اللَّه عنه.

واستدلوا بما رواه مسلم أن خطيبًا أعرابيًّا قال بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُطعِ اللَّه ورسولَه فقد رَشَد، ومن يعْصِهما فقد غَوَى" فقال عليه الصلاة والسلام: "بئْسَ الخطيبُ أنت، قل: ومن يعصِ اللَّه ورسولَه فقد غوى" (¬1)، قالوا: فلو كانت الواو لمطلق الجمع لم يكن فرق بين العبارتين، وردّ الجمهور بأن إنكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما كان ليؤكد تعظيم اللَّه تعالى بالذكر، وأن معصية اللَّه والرسول متلازمان، ولا يتصور الترتيب فيهما، بدليل ورود عبارة: "ومن يعصهما" في أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه (¬2). وأكد الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي رحمهما اللَّه تعالى ذلك من بعض الأحكام الفقهية التي لا تتفق مع كون الواو لمطلق الجمع فيمن قال لزوجته قبل الدخول: أنت طالق وطالق وطالق (¬3). 2 - نُقل عن الإمام مالك رحمه اللَّه تعالى أن الواو للمعية والمقارنة، ونسب ذلك إلى الصاحبين أبي يوسف ومحمد من الحنفية، وقال النحوي ابن مالك رحمه اللَّه تعالى: "وكونها للمعية راجح"، وقال الآمدي الأصولي رحمه اللَّه تعالى: "وإن كان الأرجح في النفس هو الأول" أي: مذهب الجمهور القائلين بأن الواو لمطلق الجمع (¬4). ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه مسلم (6/ 158 رقم 870) وأبو داود (1/ 252) والنسائي (6/ 74) وأحمد (4/ 256) عن عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه: أن رجلًا. (¬2) وذلك في حديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا تشهد قال: "الحمد للَّه نستعينه ونستغفره .. ، من يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر اللَّه شيئًا" سنن أبي داود (1/ 252). (¬3) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 381). (¬4) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد ص 174، الإحكام للآمدي (1/ 64)، ونقل الزركشي رحمه اللَّه تعالى ثمانية أقوال في الواو (البحر المحيط 2/ 253 وما بعدها). وقال ابن النجار الفتوحي رحمه اللَّه تعالى: "وهي تارة تعطف الشيء على مصاحبه، كقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)} [العنكبوت: 15]، وعلى سابقه، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الحديد: 26]، وعلى لاحقه، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3]، ... ويجوز =

استعمالات الواو

استعمالات الواو: تستعمل الواو مجازًا لمعان أخرى، أهمها: 1 - بمعنى مع: كقولهم: جاء البرد والتدفئة، ونحوه من المفعول معه، أي البرد مع التدفئة. 2 - بمعنى أو: كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وقوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]، أي: مثنى أو ثلاث أو رباع. 3 - بمعنى رب: كقول الشاعر: وبَلْدةٍ ليس بها أَنيسُ ... إلا اليعافيرُ وإلا العِيْسُ (¬1) أي: ورب بلدة. وقول الشاعر: ونارٍ لو نَفَخْتَ بها أضاءَت ... ولكنْ أنتَ تنفخُ في رَمَادٍ 4 - بمعنى القسم: وتسمى واو القسم، كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2]، وهو في أوائل السور كثير. 5 - بمعنى الاستئناف: وهو كثير، كقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 1]، وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ} [مريم: 65 - 66]. 6 - الحال: تأتي الواو لحالٍ، أي بمعنى الحال، نحو: جاء زيد والشمس ¬

_ = أن يكون بين متعاطفيها تفاوت أو تراخ، نحو قوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، شرح الكوكب المنير (1/ 229، 230) وانظر: الإحكام للآمدي (1/ 63)، العضد على ابن الحاجب (1/ 189). (¬1) هذا البيت لعامر بن الحارث المعروف بـ "جران العود"، واليعافير جمع يُعْفور، والعيس: جمع أعيس، وعيساء، واليعافير والعيس هي الإبل والغنم التي اختلط سوادها ببياضها (المعجم الوسيط 2/ 610، 639، 1065).

ثانيا: الفاء

طالعة، ومثل: جاء خالد وهو يضحك (¬1). ثانيًا: الفاء: الفاء العاطفة للجمع والترتيب والتعقيب، باتفاق الأدباء، والعلماء، ويعبر عن ذلك أيضًا بالترتيب بلا مهلة، أي: إن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن، فالفاء تدل على وقوع الثاني عقب الأول بغير مهلة، لكن في كل شيء بحسبه. والدليل على أن الفاء للتعقيب أنه يجب أن يُربط جزاء الشرط بها إذا لم يكن فعلًا؛ لأن الجزاء يعقب الشرط، فيجب أن يدخل فيه لفظ يفيد التعقيب، مثل: إن قام زيد فعمرو قائم، فالجزاء، وهو قيام عمرو، يوجد عقب الشرط، وهو قيام زيد، ومثل: إن دخلتِ الدار فأنت طالق، فلا يقع الطلاق، وهو الجزاء، إلا بعد وقوع الشرط، وهو الدخول، فيقع الطلاق عقبه على الترتيب من غير تراخ. أما إن كان الجزاء فعلًا ففيه تفصيل، فإن كان فعلًا ماضيًا فلا يجوز دخول الفاء عليه، نحو: إن قام زيد قام عمرو، إلا إذا سبقَ فعلَ الجزاء الماضي (قد)، فيجب دخول الفاء نحو: إن قمتَ فقد قمتُ. وإن كان الفعل مضارعًا جاز دخول الفاء عليه، ولا يجب، نحو: إن قام زيد يقوم عمرو، إلا إذا كان فعل الجزاء المضارع مسبوقًا بالسين أو سوف، أو كان منفيًّا بلا، فيجب دخول الفاء، نحو إن نجحتَ فسوف أكرمُك، وإن سافرت فلا تغفلْ عن ذكر اللَّه. وإن كان فعل الجزاء أمرًا فيجب دخول الفاء، نحو: إن استيقظت من النوم فصلِّ الفرض. واستدل الفقهاء أيضًا على أن الفاء للتعقيب أنها تدخل على المعلول الذي يعقب العلة، نحو: جاء الشتاء فتأهب، وإنما تدخل الفاء على العلل ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (1/ 397)، البرهان في علوم القرآن (4/ 437)، الإتقان (2/ 257)، معترك الأقران (3/ 447)، شرح الكوكب المنير (1/ 431).

أنواع التعقيب

إذا كان ذلك مما يدوم ويمتد؛ لأن العلة إذا كانت دائمة كانت في حالة الدوام متراخية عن ابتداء الحكم، فيصح دخول الفاء عليها بهذا الاعتبار، وتسمى الفاء هنا فاء التعليل؛ لأنها بمعنى لام التعليل. أنواع التعقيب: إن الترتيب والتعقيب في الفاء نوعان: 1 - الترتيب والتعقيب المعنوي: مثل: قام زيد فعمرو، أي: لتعقيب المعنى في الزمان في عطف الفرد، ومثله: جاء خالد فسعيد. 2 - الترتيب والتعقيب الذكري: أي للتفصيل بعد الإجمال في عطف الجمل، أو هو عطف، مفصل على مجمل، كقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36]، وقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 14]، وقوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الأعراف: 136]، وقوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]، ومثله: توضأ فغسل وجهه، ومثله: قال فأحسن، خطب فأوجز، أعطى فأجزل. وقد يختلف العلماء في اعتبار الفاء من النوع الأول أم من الثاني، كما في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)} [البقرة: 226]، فقال الجمهور: الفاء هنا للتعقيب الذكري، ويترتب على ذلك أن الفيء في مدة التربص وبعدها، وعند مضيها يوقفه القاضي إلى أن يفيء أو يطلق، وقال الحنفية: إنها للتعقيب المعنوي، فالفيء في المدة لا غير، فإن مضت وقع الطلاق بالمضي. استعمالات الفاء: 1 - التعقيب مجازًا: كقوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)} [طه: 61]، فالافتراء في الدنيا، والسحت وهو الاستئصال إنما هو في الآخرة، لكن لما كان الاستئصال مقطوعًا بوقوعه جزاء للمفتري جعل كالواقع عقب الافتراء مجازًا، ومثله قوله

2 - بمعنى الواو

تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، فالرهن مما يتأخر عن المداينة، وتأويله أن حكم المداينة الرهينةُ، فكان التعقيب مجازًا، ومثله قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} [الأعراف: 4]، فإن مجيء البأس مقدم على الإهلاك، وتأويله أنه للترتيب الذكري، أو فيه حذف تقديره: أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، ومثله قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]. 2 - بمعنى الواو: كقول الشاعر امرئ القيس: قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ ... بسِقْط اللِّوى بَيْنَ الدَّخولِ فحَوْمَلِ 3 - السبببة: تأبي الفاء سببية، أي: ما قبلها سبب لما بعدها، وهو كثير في عطف الجمل، كقوله تعالى {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15]، وقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، وكذا في عطف الصفات، كقوله تعالى: {لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة: 52 - 54]. 4 - رابطة للجواب: تأتي الفاء رابطة للجواب في ست حالات: الأولى: أن يكون الجواب جملة اسمية، كقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام: 17]، وقوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]. الثانية: أن يكون الجواب جملة فعلية، وهي التي فعلها جامد، كقوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا} [الكهف: 39 - 40]، وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]، وقوله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. الثالثة: أن يكون فعلها إنشاء، كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} [الملك: 30]، وهنا جملة اسمية وإنشاء، وقوله: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ

ثالثا: ثم

مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]. الرابعة: أن يكون فعلها ماضيًا لفظًا ومعنى، إما حقيقة نحو قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77]، وقوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26]، وإما مجازًا كقوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90]، فهذا الفعل نُزّل منزلة ما قد وقع؛ لتحقق وقوعه. الخامسة: أن تقترن الفاء بحرف استقبال، كقوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [المائدة: 54]، وقوله: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115]. السادسة: أن تقترن الفاء بحرف له الصدر (¬1)، كقول الشاعر: فإنْ أَهْلِك فذي حَنَقٍ لظَاهُ ... عليَّ تكادُ تَلْتَهِبُ التهابًا (¬2) ثالثًا: ثُمَّ: وهي حرف عطف، وتفيد الترتيب مع التراخي، أي: تدل على وقوع الثاني بعد الأول بمهلة، فيكون بين المعطوف والمعطوف عليه مهلة في الفعل المتعلق بهما، فإن قلتَ: جاء زيد ثم عمرو، وضربت بكرًا ثم خالدًا، كان المعنى أنه وقع بينهما مهلة، وهذا عند المذاهب الأربعة (¬3). ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (1/ 173) وما بعدها، البرهان في علوم القرآن (4/ 294) وما بعدها، الإتقان (2/ 209) وما بعدها، الإحكام للآمدي (1/ 68)، المعتمد (1/ 39)، كشف الأسرار (2/ 127) وما بعدها، فواتح الرحموت (1/ 234)، المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني (1/ 348)، شرح الكوكب المنير (1/ 233) وما بعدها، البحر المحيط (2/ 261)، شرح تنقيح الفصول ص 101، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 382)، أصول الأحكام ص 329. (¬2) هذا البيت للشاعر ربيعة بن مقروم الضِّبي في قصيدة يسلي بها عن نفسه بعد إدراكه ثأره، وأنه إن مات فرب رجل ذي غيظ وغضب تكاد نار عداوته تتوقد توقدًا؛ لما لقي مني وما فعلت به. (¬3) اعترض بعضهم أن "ثم" لا تفيد التراخي؛ لقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} [طه: 82]، فإن الاهتداء لا يتراخى عن التوبة والإيمان =

1 - ثم بمعنى الواو مجازا

لكن اختلف أئمة الحنفية في المراد من التراخي، وفي ظهور أثره، فقال الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى: إن التراخي راجع إلى المتكلم، ويظهر أثره في الحكم والتكلم جميعًا، فهو بمنزلة ما لو سكت ثم استأنف قولًا، فكأنه تكلم بالمعطوف عليه، ثم سكت، ثم تكلم بما بعد ثمَّ، فصار كل منهما بمنزلة كلام منفصل عن الآخر؛ لأن ثمَّ تفيد مطلق التراخي، والمطلق ينصرف إلى المعنى الكامل فيه، فيثبت أثره في التكلم والحكم، وقال الصاحبان: أبو يوسف ومحمد رحمهما اللَّه تعالى: التراخي راجع إلى الحكم لا في التكلم، كما في كلمة "بعد"؛ لأن الكلام متصل حقيقة، فلا يجعل التكلم منفصلًا، ولا يصح الانفصال مع العطف، فيبقى الاتصال حكمًا مراعاة لحق العطف. ويظهر أثر الاختلاف في المثال، فإذا قال رجل لامرأته قبل الدخول: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار، فعند أبي حنيفة يقع طلقة واحدة، ويلغو ما بعده، كأنه سكت على اللفظ الأول، ثم استأنف، ويكون التراخي في التكلم بمنزلة الكلام المنفصل عن بعضه، ولا يقع الطلاق الثاني والثالث؛ لأن المرأة بانت بالطلاق الأول، ولم تعد محلًا للثاني والثالث، وكذا عند الصاحبين في المرأة غير المدخول بها، أما إن قال ذلك للمرأة المدخول بها فيقع الثلاث مرتبًا عند وجود الشرط لصلوح المحل بها عند الصاحبين، وعند أبي حنيفة يقع الأول عند وقوع الشرط، ويقع الثاني، والثالث حالًا لصلاح المحل (¬1). استعمالات ثمَّ: 1 - ثم بمعنى الواو مجازًا: ¬

_ = والعمل الصالح، وأجاب العلماء بأن ذلك محمول على دوام الاهتداء وثباته، فالمعنى: وقد اهتدى. (¬1) فواتح الرحموت (1/ 234)، كشف الأسرار (2/ 131)، أصول السرخسي (1/ 207)، البحر المحيط (2/ 323)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 385)، أصول الأحكام ص 330. =

2 - ثم لتفاوت الرتبة

تستعمل "ثم" بمعنى الواو مجازًا، كقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 13 - 14]، ثم قال اللَّه تعالى بعدها: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]، فالإيمان مقدم على العمل، ويبتنى عليه سائر الأعمال الصالحة، وهو شرط لصحتها وقبولها من الشخص، فدل على أن "ثم" هنا بمعنى الواو، ومثله قوله تعالى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، فهنا يتعذر العمل بحقيقة "ثم" للتراخي؛ لأن اللَّه تعالى شهيد على فعلهم قبل الرجوع إليه، كما هو شهيد عليه بعد ذلك، فتكون "ثم" بمعنى الواو. 2 - ثم لتفاوت الرتبة: إن "ثم" لترتيب الثاني على الأول في الوجود بمهلة بينهما في الزمان، وتأتي لتفاوت الرتبة بمهلة في المعنى، مع ما بينهما من قدر مشترك، كقول الشاعر: إنَّ مَنْ سَادَ ثم سَادَ أبُوه ... ثمَّ سَادَ قَبْلَ ذلك جَدُّهُ (¬1) فهذا يدل على تفاوت رتبة الابن من أبيه، أو لتفاوت رتبة سيادته من سيادة أبيه (¬2). رابعًا: أو: إن "أو" حرف عطف في اللغة، وهي لأحد الشيئين، وحقيقتها وأصلها أنها تتناول أحد ما تدخل عليه لا جميعه، وتكون للشك أو للتخيير، والشك يعني أن المتكلم شاكٌّ لا يعلم أحد الشيئين على التعيين، كقوله: جاء هذا أو ¬

_ (¬1) هذا البيت لأبي نواس الحسن بن هانئ يمدح العباس بن عبيد اللَّه بن جعفر (شرح أبيات مغني اللبيب 3/ 40). (¬2) مغني اللبيب (1/ 124)، البرهان في علوم القرآن (4/ 266)، الإحكام للآمدي (1/ 169)، أصول السرخسي (2/ 131)، كشف الأسرار (2/ 131)، فواتح الرحموت (1/ 234)، شرح تنقيح الفصول ص 101، شرح الكوكب المنير (1/ 237)، المسودة ص 356، البحر المحيط (2/ 320)، الفصول في الأصول (1/ 91)، المحلي وجمع الجوامع والبناني (1/ 344)، القواعد والفوائد الأصولية ص 138، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 384)، أصول الأحكام ص 330.

هذا، فهو شك في أيهما هو الذي جاء، والحقيقة أن الشك يحصل من محلِّ الكلام، وهو الإخبار، والمتكلم يفهم غيره بذلك، ونحو قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون: 113] (¬1). وتأتي "أو" لأحد ثلاثة معان، بحسب ما تدخل عليه في الإثبات، أو في النفي، أو في الإنشاء. فإن دخلت "أو" على الخبر حالة الإثبات فإنها تتناول أحد المذكورات لا جميعها، كقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وقوله تعالى في فدية الإحصار بالحج: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وإن دخلت "أو" حالة النفي تناولت كل واحد مما دخلت عليه، نحو قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، أي: لا هذا ولا ذاك، وتقديره: لا تطع أحدًا منهما، وهو نكرة في سياق النفي فيعم، كما سبق في صيغ العموم، وكذا إن حلف لا يفعل هذا أو هذا، حنث بفعل أحدهما، لأنه يعم الاثنين. وإن دخلت "أو" على الإنشاء فتدل على التخيير أو الإباحة (¬2)، فالتخيير نحو: خذ دينارًا أو درهمًا، تزوج هندًا أو أختها، ومنه قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] (¬3)، والإباحة نحو: جالس الفقهاء أو المحدثين، ونحو ¬

_ (¬1) الفرق بين "أو" وبين "إما" الي للشك أن الكلام مع إما لا يكون إلا مبنيًّا على الشك، بخلاف أو، فقد يبني المتكلم كلامه على اليقين، ثم يدركه الشك (شرح الكوكب المنير 1/ 263). (¬2) الفرق بين التخيير والإباحة امتناع الجمع بين المخيرات في التخيير، نحو: تزوج هندًا أو أختها، فلا يملك الجمع بينهما، والمراد منع الجمع، ويجوز الجمع في الإباحة، نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين، فيباح له أن يجلس إليهما، والمراد مغ الخلوّ، ويعرف الفرق بدلالة الحال والقرائن (شرح الكوكب المنير 1/ 264، أصول الفقه الإسلامي الزحيلي 1/ 393، أصول الأحكام ص 331) وإذا جمع الحالف في أصناف كفارة اليمين، فيكون الأول كفارة، والباقي بحكم الإباحة الأصلية، ولا يسمى كفارة. (¬3) التخيير هو استواء الطرفين، وقد يكون مطلقًا، ولا مجال فيه للاجتهاد كآية =

1 - الإبهام أو التشكيك

قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146]، فالاستثناء كان من التحريم، فأفاد الإباحة في جميِع هذه الأشياء، ومثله قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31]، فهنا لا تفيد الشك قطعًا (¬1). وإذا دخلت "أو" على مفردين فإنها تفيد ثبوت الحكم لأحدهما، نحو: جاءني زيد أو عمرو، وإذا دخلت على جملتين أفادت حصول مضمون إحداهما، نحو قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وقوله تعالي: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فتدل "أو" على أحد الفعلين (¬2). استعمالات أو: تستعمل "أو" لمعان عدة، أهمها: 1 - الإبهام أو التشكيك: تأتي "أو" للإبهام، ويعبر عنه بالتشكيك، نحو: قام زيد أو عمرو، إذا علم القائل القائم منهما، ولكنه قصد الإبهام على المخاطب، فهذا تشكيك من جهة المتكلم، وإبهام من جهة السامع. 2 - بمعنى أو: تأتي "أو" لمطلق الجمع بين أمرين كالواو، نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ ¬

_ = الكفارة، وقد يكون مأمورًا فيه بالاجتهاد، كقوله تعالى في الأسرى: {كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فالإمام مخير في الأسير تخير اجتهاد ومصلحة، لا تشهٍّ (البحر المحيط 2/ 184). (¬1) إذا استعلمت "أو" في الإنشاء فلا تؤدي معنى الشك أصلًا، لأن الإنشاء معناه إثبات الكلام ابتداء، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون "أو" في الأمر (وهو إنشاء) إما للتخيير أو الإباحة أو التسوية، أو نحو ذلك مما يناسب المقام (أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي 1/ 390). (¬2) المرجع السابق.

3 - التقسيم أو التفريق

إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147]، على رأي الكوفيين، ونحو قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، ومعناه: وأشد قسوة. 3 - التقسيم أو التفريق: تأتي "أو" للتقسيم أو للتفريق بين أمرين فأكثر، نحو: الكلمة اسم أو فعل أو حرف. 4 - بمعنى إلى: تأتي "أو" بمعنى "إلى" نحو: لألزمنَّك أو تقضيني حقي، أي: إلى أن تقضيني حقي. 5 - بمعنى إلا: تأتي "أو" بمعنى "إلا" نحو: لأقتلن الكافر أو يسلم، أي: إلا أن يسلم، ومنه قول الشاعر: وكنتُ إذا غَمَزْتُ قَناة قَوْمٍ ... كسَرْتُ كُعُوبَها أو تَسْتَقيما (¬1) أي: إلا أن تستقيم. 6 - الإضراب: تأتي "أو" بمعنى الإضراب، كحرف "بل"، نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147]، على رأي من لم يجعلها لمطلق الجمع. 7 - التفصيل والتنويع: تأتي "أو" للتفصيل بين حالات، وهو قول جمهور الفقهاء (¬2) في آية المحاربة وقطاع الطريق التي وردت في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، فالإمام (أو القاضي) ليس مخيرًا عند الجمهور، لأن الآية فصّلت العقوبات حسب الجرائم، فمن حارب وقتل وأخذ المال صُلب، ومن قتل فقط قُتل، ومن أخذ المال قُطع، ومن أخاف السبيل نُفي من ¬

_ (¬1) هذا البيت لأبي أمامة زياد بن الأعجم، ويعني أنه إذا هجا قومًا أبادهم بالهجاء وأهلكهم إلا أن يتركوا سبه وهجاءه. (¬2) وقال المالكية: إن "أو" في الآية للتخيير، فيكون الإمام مخيرًا في العقوبات المذكورة في الآية لمعاقبة المحارب بحسب ما يراه مناسبًا، انظر: البحر المحيط (2/ 184).

8 - الإيهام

الأرض، بقرينة أن الجزاء يزداد بازدياد الجناية، وينقص بنقصانها، فوزِّعت العقوبات وتنوعت على حسب الأفعال، وأيد الجمهور رأيهم بما رواه ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وادع أبا برزة هلال بن عويمر الأسلمي على ألا يعينه ولا يعين عليه، فجاءه أناس يريدون الإسلام، فقطع عليهم أصحابه الطريق، فنزل جبريل - عليه السلام - بالحد فيهم: أن من قتلَ وأخذَ المال صُلب، ومن قتل ولم يأخذ المالَ قُتل، ومن أَخذَ المال ولم يقتل قُطعت يدُه ورجلهُ من خلاف، ومن جاء مسلمًا هَدَم الإسلام ما كان منه في الشرك" وفي رواية: "ومن أخاف الطريق ولم يأخذ المال ولم يقتل نُفي" (¬1). ومثل ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]، فلا توجد فرقة تميز بين اليهودية والنصرانية، وإنما اهو إخبار عن جملة اليهود والنصارى أنهم قالوا، ثم فصَّل ما قاله كل منهم. 8 - الإيهام: قد تأتي "أو" لمجرد الإيهام وإظهار النصفة، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. 9 - أو بمعنى حتى: قد تستعار "أو" بمعنى حتى إذا وقع بعدها مضارع منصوب، نحو: لألزَمنَّك أو تعطيني، أي: حتى تعطيني، ولهذا قال النحاة: إنها بمعنى إلى؛ لأن الفعل الأول يمتد إلى وقوع الثاني، أو يمتد في جميع الأوقات إلى وقت وقوع الثاني بعده فينقطع امتداده، ومثله قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]، أي: حتى تقع توبتهم أو تعذيبهم (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الشافعي (بدائع المنن 2/ 308) والبيهقي (8/ 283) وذكره أكثر المفسرين في سبب نزول الآية. (¬2) مغني اللبيب (1/ 64)، الإتقان (2/ 175)، البرهان في علوم القرآن (4/ 209)، الإحكام للآمدي (1/ 63)، كشف الأسرار (2/ 143)، فواتح الرحموت (1/ 238)، البحر المحيط (4/ 284)، المحلي على جمع الجوامع والبناني (1/ 336)، شرح تنقيح الفصول =

خامسا: حتى العاطفة

خامسًا: حتى العاطفة: إن "حتى" العاطفة هي للغاية، أي: للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها، ويتبع ما بعدها لما قبلها في الإعراب، ويكون المعطوف بها غاية لما قبلها في الزيادة التي تشمل القوة والتعظيم، أو في النقص الذي يشمل الضعف والتحقير، لأن معناها الغاية، مثل: مات الناسُ حتى الأنبياءُ، وقدِم الحُجَّاجُ حتى المشاةُ، ومثله الجارة نحو قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر: 5]، فليلة القدر سلام إلى غاية طلوع الفجر. وهي لمجرد العطف، فلا تفيد الترتيب كالواو عند الجمهور؛ نحو: حفظتُ القرآن حتى سورةَ البقرة، سواء كانت سورة البقرة أول ما حفظت أو متوسطًا أو آخرًا. ويشترط في حتى العاطفة أن يكون المعطوف جزءًا من المعطوف عليه، نحو: قدم الحجاجُ حتى المشاة، أو كجزئه، نحو: أعجبني عليٌّ حتى حديثُهُ، فإن حديثه ليس بعضًا منه، ولكنه كالبعض، لأنه معنى من معانيه، ولا يحصل ذلك إلا بذكر الكل قبل الجزء، ولا يصح أن يقال: جاء الرجال حتى هند؛ لأن المعطوف ليس جزءًا من المعطوف عليه، ولا يقال: جاء القوم حتى الحمار، ولا جاء زيد حتى القوم، لسبق الجزء على الكل، ولا تقول: جاء زيد حتى عمرو، للمساواة بينهما، وكل ذلك يقع بعطف الواو. وقد يكون المعطوف بحتى مباينًا لمتبوعه في الجنس، لكنه موافق له في المعنى، فتقدر بعضيته، كقول الشاعر: ألقى الصَحِيفةَ كيْ يُخفِّفَ رَحْلَهُ ... والزادَ حتى نَعْلَهُ ألقاها (¬1) فالمعنى ألقى ما يثقله حتى نعله. كما يشترط في حتى العاطفة أن يكون الحكم مما ينقضي شيئًا فشيئًا حتى ¬

_ = ص 105، شرح الكوكب المنير (1/ 263)، رصف المباني ص 131، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 390)، أصول الأحكام ص 331. (¬1) هذا البيت لأبي مروان النحوي يصف راكبًا جهدت راحلته فخاف أن تنقطع به، أو كان خائفًا من عدو يطلبه، فخفف رحله بإلقاء ما كان معه من كتاب وزاد ونعْل، =

حكم حتى

ينتهي إلى المعطوف، لكن بحسب اعتبار المتكلم، لا بحسب الوجود نفسه، فقد يتعلق الحكم بالمعطوف أولًا، مثل: مات كل أب لي حتى آدم. وتتعين حتى للعطف في قول القائل: أكلتُ السمكةَ حتى رأسَها، بالنصب، كما أن حتى العاطفة لا تخرج عن معنى الغاية كما سبق. حكم حتى: قال جمهور أهل اللغة والعلماء: إنها لمجرد العطف، ولا تفيد الترتيب كالواو، وقال بعضهم: إنها تقتضي الترتيب والتعقيب كالفاء، ولعلهم أرادوا أنها بمعنى الفاء للمناسبة الظاهرة بين التعقيب والغاية، وقال آخرون: إنها تفيد الترتيب والمهلة، مثل "ثمَّ"، ولعلهم أرادوا ذلك مجازًا؛ لأن الفاء و"ثم" يرتبان أحد الفعلين على الآخر في الوجود، أما حتَّى فإنها ترتب ترتيب الغاية والنهاية. استعمالات حتى: تستعمل حتى في عدة أحوال، منها: 1 - حرف جر: تستعمل حتى حرف جر بمنزلة "إلى" في المعنى والعمل، تقول: أكلتُ السمكةَ حتى رأسِها، أي: إلى رأسها. 2 - حرف ابتداء واستئناف: تستعمل حتى حرف ابتداء، أي: حرفًا تبتدأ بعده الجمل، أي: تستأنف، ويقع بعدها جملة اسمية، وقد يذكر بعدَها خبرُها، مثل: ضربتُ القومَ حتى زيدٌ غضبانُ، وقد يحذف الخبر، مثل أكلتُ السمكةَ حتى رأسُها، بالرفع، أي: مأكولٌ. وقد يقع بعدها جملة فعلية، وتكون حتى إمّا للغاية، أو السببية والمجازاة، أو للعطف المحض، أو التشريك حسب العبارة والسياق. فإن كان صدر الكلام أي: ما قبل حتى يحتمل الامتداد، وما بعدها يصلح لانتهاء ذلك الأمر الممتد إليه، فتكون حتى للغاية، كما سبق، مثل قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، أي: يمتد القتال لغاية إعطاء الجزية، ومثل قوله

3 - التعليل

تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27]، أي: لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى يتم الاستئذان. وإن لم يحتمل صدر الكلام، وآخره الانتهاء، وكان الصدر سببًا للفعل الواقع بعد حتى، فتكون بمعنى كي مفيدة السببية والمجازاة، كقوله: أسلمتُ حتى أدخلَ الجنة، فالدخول في الإسلام لا يوجب الانتهاء إلى دخول الجنة حقيقة، وإنما مجازًا، باعتباره يكون داعيًا إلى ذلك. وإن لم يصلح الصدر سببًا للثاني فتكون حتى للعطف المحض من غير دلالة على غاية أو مجازاة، كقوله: للَّه عليَّ صومُ يوم إن لم آتك غدًا حتى أتغدى عندك، فهي للعطف المحض لتعذر الغاية والسببية. 3 - التعليل: تستعمل "حتى" للتعليل، نحو قوله: كلمته حتى يأمر لي بشيء، وزرته حتى يرضى، وعلامتها أن يصلح موضعَها حرفُ "كي"، وهي التي مرت للسببية، ومنه قولك: أَسْلِم حتى تدخل الجنة. 4 - الاستثناء: تستعمل "حتى" في الاستثناء بمعنى "إلا" وهو قليل؛ لأنه عكس الغاية، فلا يكون ما بعدها تابعًا لما قبلها، نحو: ما جاء أحد حتى خالدًا، أي: إلا خالدًا (¬1). سادسًا: لكن: لكن العاطفة حرف مخفف النون، ومعناه الاستدراك، أي: التدارك، قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وفسّره المحققون برفع التوهم الناشئ عن الكلام السابق، مثل: ما جاءني زيد لكن عمرو، وذلك إذا توهم المخاطَبُ ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (1/ 131)، رصف المعاني ص 180، البرهان في علوم القرآن (4/ 274)، الإحكام للآمدي (1/ 69)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 345)، كشف الأسرار (2/ 160)، فواتح الرحموت (1/ 240)، شرح الكوكب المنير (1/ 238)، القواعد والفوائد الأصولية ص 143، شرح تنقيح الفصول ص 102، البحر المحيط (2/ 316)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 394).=

شروط الاستدراك

عدم مجيء عمرو أيضًا، بناء على مخالطة وملابسة بينهما" (¬1). وبيَّن ابن النجار رحمه اللَّه تعالى حكمها فقال: "ومعنى الاستدراك: أن تنسب لما بعدها حكمًا مخالفًا لحكم ما قبلها، ولذلك لا بدَّ أن يتقدمها كلام مناقض لما بعدها" (¬2). شروط الاستدراك: يشترط في "لكن" لتكون للعطف والاستدراك أربعة شروط: 1 - أن يتقدمها نفي، أو نهي. 2 - أن يكون الكلام متصلًا بعضه ببعض غير منفصل ليتحقق العطف. 3 - أن يكون محل الإثبات غير محل النفي ليمكن الجمع بينهما، ولا يتناقض آخر الكلام ما أوله. 4 - ألّا تقترن بالواو، بأن يليها اسم، وهذا الاسم إما أن يكون مفردًا، وإما أن يكون جملة، بحسب ما تدخل عليه نفيًا أو إثباتًا. ففي عطف المفرد على المفرد يجب أن يكون ما قبلها منفيًا؛ لتحصل المغايرة، نحو ما جاء خالد لكن زيد، وفي عطف الجمل يجب اختلافهما في النفي والإثبات، ليحصل اختلاف الكلامين، فإن كانت الجملة الأولى مثبتة، وجب أن تكون الثانية منفية، مثل: رأيت زيدًا، لكن عمرًا لم يأت. وإن كانت الجملة الأولى منفية، وجب أن تكون الثانية مثبتة، نحو: ما ضربت زيدًا بل كلمتُ عمرًا، ويكفي أن يكون اختلاف الكلامين نفيًا وإثباتًا من جهة المعنى، سواء كانا مختلفين لفظًا كالأمثلة السابقة، أم لا، نحو: سافر خالد لكن زيد حاضر. وإن حرف "لكن" إذا عطف الجمل فهو نظير "بل" في الوقوع بعد النفي والإثبات، مع فروق بينهما كما سيأتي، وإنها في عطف المفردات نقيض "لا" ¬

_ (¬1) البحر المحيط (2/ 305). (¬2) شرح الكوكب المنير (1/ 266).

استعمالات لكن

حيث تختص "لا" بما بعد الإيجاب، و"لكن" بما بعد النفي. استعمالات لكن: 1 - الابتداء: تستعمل "لكن" قبل جملة لابتداء الكلام، وليست حرف عطف، وفي هذه الحالة تقع بعد إيجاب، ونفي، ونهي، وأمر، لكنها لا تقع بعد الاستفهام. وتكون "لكن" استئنافية ابتدائية إذا فقدت شرطًا من الشروط السابقة، بألا يتسق الكلام بالاتصال، أو ألا يكون محل الإثبات غير محل النفي، وإذا لم يتقدمها نفي أو نهي، وإذا اقترنت بالواو، كمن اشترى سيارة بمائة، فقال البائع: لا أجيز البيع، لكن أجيزه بمائتين، فأبطل الأول، واستأنف عقدًا مستأنفًا. 2 - لكنّ المشددة: إنّ [لكنّ] مشدَّدَ النون هي حرف مشبه بالفعل، تنصب الاسم وترفع الخبر، ومعناها الاستدراك أيضًا (¬1). سابعًا: بل: تأتي "بل" للعطف والإضراب، فهي إضراب عن الكلام الأول الذي قبلها، وإثبات للكلام الثاني الذي بعدها، وتستعمل في حالتي النفي والإثبات قبلها على سبيل التدارك للغلط، ويأتي بعدها المنفي والمثبت. فإن كان ما بعدها مفردًا في إثبات فتعطي حكم ما قبلها لما بعدها، نحو: جاء زيد، بل عمرو، وأكرم خالدًا، بل سعيدًا، فيثبت مجيء عمرو، وإكرام سعيد، ويكون الكلام الأول كأنه غير مذكور، قال تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 66 - 67]. ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (1/ 323)، رصف المباني ص 274، البرهان في علوم القرآن (4/ 389)، الإتقان (2/ 232)، البحر المحيط (2/ 305)، كشف الأسرار (2/ 139)، فواتح الرحموت (1/ 237)، شرح الكوكب المنير (1/ 266)، أصول الفقه الإسلامي الزحيلي (1/ 386).

الفرق بين "بل" و"لكن"

وإن كان ما بعدها مفردًا في نفي، فإنها تقرر ضد حكم ما قبلها لما بعدها، نحو: ما قام زيد بل عمرو، ولا تضرب خالدًا بل سعيدًا، فنفى قيام زيد وأثبت قيام عمرو، ونهى عن ضرب خالد، وأثبت الضرب لسعيد، ويكون الكلام الأول كأنه غير موجود على سبيل التدارك للغلط في الأول، بنفي الحكم عنه. ومعنى الإعراض عن الكلام الأول هو أنه يجعله كأنه غير مذكور، ويكون الحكم منصبًا على الثاني فقط، فلا يكون في العطف بـ "بل" إلا إخبار واحد، بخلاف "لكن". وقيل: إن "بل" للإعراض عما قبلها، أي جعله في حكم المسكوت عنه، فإذا انضم إليها "لا" صار نصًّا في نفي الأول، نحو: جاء زيد لا بل عمرو، وفي قول ثالث لبعض العلماء أن "بل" تكون ناقلة للحكم الأول لما بعدها، كما في الإثبات وما في حكمه، نحو: ما قام عمرو بل زيد، أي ما قام زيد أيضًا، ونحو: لا تضرب خالدًا، بل سعيدًا، أي لا تضرب سعيدًا أيضًا. أما إذا كان ما بعد "بل" جملة فلها معنى آخر، وهو الإضراب الإبطالي أو الانتقالي، كما سيأتي. الفرق بين "بل" و"لكن": 1 - إن "لكن" في عطف المفرد على المفرد أخص من "بل" في الاستدراك، فإن "بل" تكون بعد الإيجاب، مثل: ضربت زيدًا بل عمرًا، وبعد النفي، نحو: ما جاء خالد بل سعيد، وأما "لكن" فلا تستدرك إلا بعد النفي، نحو: ما ضربت زيدًا لكن عمرًا، ولا يصح القول: ضربت زيدًا لكن عمرًا. 2 - إن موجَب الاستدراك بحرف "لكن" هو إثبات ما بعده، وأما نفي الأول فليس من أحكامها، ويثبت ذلك بدليله، وهو النفي الموجود فيه صريحًا، بخلاف حرف "بل" فإن موجَبها وضعًا نفي الأول وإثبات الثاني. شروط الإضراب: يشترط لتكون "بل" للإضراب أن يكون صدر الكلام محتملًا للرد والرجوع عنه، فإن كان لا يحتمل صار بمنزلة العطف المحض، وتفيد إثبات

استعمال "بل"

الأمر الثاني مضمومًا إلى الأول على سبيل الجمع دون ترتيب، نحو قول الرجل لامرأته: أنت طالق واحدة، لا بل اثنتين، فإنها تطلق ثلاثًا؛ لأنه لا يملك الرجوع عما أوقعه من الطلاق (¬1). استعمال "بل": إذا وقعت "بل" قبل جملة فلا تكون عاطفة، سواء كانت الجملة اسمية أم فعلية، وإنما تكون لابتداء وإضراب، وهو نوعان: 1 - إبطال الحكم السابق: نحو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70]، ونحو قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} [الأنبياء: 26]، أي: بل هم، ونحو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} [الطور: 33]. 2 - الانتقال: وهو إضراب للانتقال من حكم إلى حكم من غير إبطال الأول، نحو قوله تعالى {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 62 - 63]، وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} [النمل: 66]، ففي هذه الأمثلة لم تبطل شيئًا مما سبق، وإنما فيه انتقال من خبر عنهم إلى خبر آخر (¬2)، والحاصل أن ¬

_ (¬1) قال زفر من الحنفية: بما أن حرف "بل" للإعراض عما قبله والإثبات لما بعده، فإذا قال شخص: لفلان علي ألف درهم بل ألفان، يلزمه ثلاثة آلاف؛ لأن كلمة "بل" لاستدراك الغلط بالرجوع عن الأول وإقامة الثاني مقامه، وبما أنه لا يصح الرجوع عن الإقرار، فيثبت الألف، ثم الألفان، قال الحنفية: وهذا مقتضى القياس، وفي الاستحسان يلزمه ألفان فقط؛ لأن كلمة "بل" وضعت لتدارك الغلط، وهنا تدارك الغلط بنفي ما أقرَّ به أولًا، لا بنفي أصل الكلام والرجوع عن الإقرار؛ لأن ذلك داخل في الكلام الثاني، فلو صح التدارك ينبغي أصل الإقرار لاجتمع النفي والإثبات في شيء واحد، وهو باطل، فيكون التدارك بإثبات الزيادة التي نفاها في الكلام الأول تقديرًا، كأنه قال: علي ألف ليس معه غيره، ثم استدرك النفي بقوله: بل ألفان، أي: غلطت في نفي الغير عنه، بل مع ذلك الألف ألف آخر، كما يقال: حججت حجة بل حجتين، وهذا بخلاف الطلاق؛ لأنه إنشاء (انظر: أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي 1/ 389). (¬2) قال النحوي ابن مالك: "إن "بل" هذه عاطفة أيضًا، لكن تعطف جملة على جملة" =

ثامنا: لا

الإضراب الانتقالي قطع للخبر لا للمخبَرِ عنه (¬1). ثامنًا: لا: بقي من حروف العطف: إما، أم، لا، ونبين معنى لا. إن "لا" تكون عاطفة، وفيها معنى النفي، ولا تعمل في لفظها شيئًا، نحو: قام زيد لا عمرو، ومنه قوله تعالى: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)} [يس: 50]، وقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} [القيامة: 31]، فالمعنى لم يصدّق ولم يصلِّ. وقال ابن الخشاب رحمه اللَّه تعالى: وهي عكس "بل"؛ لأن "بل" أضربت بها عن الأول إلى الثاني، فثبت المعنى الذي كان للأول للثاني، و"لا" بدَّلت معها بإثبات المعنى للأول فانتفى بها عن الثاني، ولهذا لم يعطف بها بعد النفي،، فلا تقول: ما جاءني زيد لا عمرو، لأنك لم تثبت للأول شيئًا فتنفيه بها عن الثاني" (¬2). استعمالات لا: 1 - المزيدة: تأتي "لا" مزيدة، كقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، [الأعراف: 12]، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]. ويشترط في زيادتها قصد تأكيد معنى النفي الذي انطوى عليه سياق الكلام، كما في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12]، فهي تأكيد للنفي المعنوي الذي تضمنه ¬

_ = وصرح بذلك ولده في شرح الألفية، انظر: تسهيل الفوائد ص 177، شرح الكوكب المنير (1/ 262). (¬1) مغني اللبيب (1/ 119)، رصف المباني ص 153، البرهان في علوم القرآن (4/ 258)، الإتقان (2/ 185)، المحلي على جمع الجوامع والبناني (1/ 343)، كشف الأسرار (2/ 135)، فواتح الرحموت (1/ 236)، شرح تنقيح الفصول ص 109، شرح الكوكب المنير (1/ 260)، الفصول في الأصول (1/ 88)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 388)، أصول الأحكام ص 333. (¬2) البحر المحيط (2/ 300).

2 - الناهية

"منعك". 2 - الناهية: تستعمل في المظنون حصوله، بخلاف "لن" فإنها تستعمل في المشكوك حصوله، ومن ثمَّ كان النفي بـ "لن" آكد، وإن "لا" لتأكيد النفي، بعكس "إن" لتأكيد الإثبات. 3 - الناصبة: إذا دخلت "لا" على الاسم النكرة لنفي الجنس، فإنها تصبح مبنية وتنصب اسمها، نحو: لا رجلَ في الدار. 4 - عمل ليس: إذا دخلت "لا" على الاسم النكرة لنفي الوحدة، فإنها تعمل عمل ليس، فترفع الاسم وتنصب الخبر، نحو: لا رجلٌ في الدار، بل رجلان. 5 - غير العاملة: إذا دخلت "لا" على المعارف، فلا تعمل شيئًا، ويلزمها التكرار، نحو: لا زيد فيها ولا عمرو، وتكون "لا" عكس "بل"؛ لأن "بل" فيها إضراب عن الأول إلى الثاني نحو: جاء زيد بل عمرو (¬1). ¬

_ (¬1) البحر المحيط (2/ 398 - 300).

المبحث الثاني حروف الجر

المبحث الثاني حروف الجر حروف الجر كثيرة، وتسمى حروف الإضافة -كما سبق- لأنها تفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء، وعملها الأساسي الجر؛ لأنها تجر فعلًا إلى اسم، أي: تنسبه له، نحو: مررت بزيد، أو تجر اسمًا إلى اسم، نحو: المال لزيد، ونعرض أهمها تباعًا، وهي: الباء، وعلى، ومن، وإلى، وفي، واللام، وحتى (¬1). أولًا: الباء: الباء للإلصاق، وهو أن يضاف الفعل إلى الاسم، فيلصق به بعدما كان لا يضاف إليه لولا دخولها، فهو تعليق الشيء بالشيء، وإيصاله به. والإلصاق إما حقيقة، نحو: أمسكتُ الحبلَ بيدي، وإما مجازًا، نحو: مررتُ بزيد، فإن المرور لم يلصق به، وإنما ألصق بمكان يقرب من زيد، ومنه قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، فهي هنا على رأي الحنفية أنها للإلصاق، أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم. والأصل أن الباء، للإلصاق، ولا تنفك عنه، وقد تتجرد له حصرًا، وقد يدخلها مع ذلك معنى آخر، فيكون مجازًا. استعمالات الباء: تستعمل الباء لمعان عدة -مع الإلصاق-، فمن ذلك: 1 - التعدية: وتسمى باء النقل؛ لأنها تنقل وتصيّر الفاعل مفعولًا، نحو قوله تعالى: ¬

_ (¬1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "حروف الجر يسميها الكوفيون: الصفات؛ لنيابتها عن الصفات، ويجوّزون دخول بعضها على بعض، أي: إن هذا الحرف بمعنى حرف كذا، ومنع البصريون ذلك، وعدلوا عنه إلى تضمين الفعل معنى فعل آخر إبقاء للفظ الحرف على حقيقته، وكأنهم رأوا التجوز في الفعل أخف من التجوز في الحرف، والكوفيون عكسوا ذلك" البحر المحيط (2/ 334)، وانظر: شرح الكوكب المنير (1/ 259).

2 - السببية

{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، وأصله ذهب نورهم. 2 - السببية: فيكون ما بعدها سببًا لما قبلها، نحو قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}، [العنكبوت: 40]، أي: بسبب ذنبه، وأدخل بعض النحويين باء الاستعانة بالسببية. 3 - التعليل: بأن تدل على علة الحكم، نحو قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}، [النساء: 160]، وقوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]، أي: لأجل دعائك. والفرق بين السببية والتعليل أن العلة موجبة لمعلولها، أما السبب فقد يكون علة، وقد يكون أمارة. 4 - المصاحبة: وهي التي تكون بمعنى "مع" أو يغني عنها وعن مصحوبها الحال، نحو قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ} [النساء: 170]، أي: مع الحق، أو محقًا، ومثل: اشتريت الفرس بسرجه، وجاء زيد بسلاحه. 5 - الظرفية: وتكون بمعني "في" للزمان، نحو قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137 - 138]، أو للمكان، نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123]، وقد تكون الظرفية مجازية، نحو: بكلامك بهجة، وجاءت بمعنى "في" في قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]، بمعنى في دعائك، على قول، ومنه: جلست بالسوق، أي: في السوق. 6 - البدلية: وهي التي يجيء موضعها "بدل"، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يسرني بها حُمُرُ

7 - المقابلة

النَّعَم" (¬1)، أي: بدلها. 7 - المقابلة: وهي التي تدخل على الثمن والعوض، نحو: اشتريت الفرس بألف، والغالب أنها تدخل على الثمن، وربما دخلت على المثمن، قال تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]، ولم يقل؛ ولا تشتروا آياتي بثمن قليل. 8 - المجاوزة: وهي التي تكثر بعد السؤال، نحو قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وتقل بعد غيره، نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25]، وقيل بأنها باء السببية هنا. 9 - الاستعلاء: تأتي الباء بمعنى "على"، نحو قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ}، [آل عمران: 75]، أي: على دينار، وحكاه الجويني رحمه اللَّه عن الشافعي رحمه اللَّه تعالى. 10 - القسم: والباء أصل حروف القسم، نحو: باللَّه لأفعلنَّ. 11 - الغاية: وهي بمعنى إليَّ، نحو قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي}، [يوسف: 100]، أي: إليَّ. 12 - التوكيد: وهي الزائدة، إما مع الفاعل، نحو: أحسن بزيد، على قول البصريين أنه فاعل، أو مع المفعول، نحو قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}، [مريم: 25]، أو مع المبتدأ، نحو: بحسبك درهم، أو مع الخبر، نحو قوله تعالى: ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن حلف الفضول، ومعناه أنني لا أحب نقضه ولو دفع لي حُمُر النعم في مقابلة ذلك (سيرة ابن هشام 1/ 145).

13 - الاستعانة

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، [الزمر: 36]، وقال المالكية: إنها للتوكيد في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، أي: امسحوا رؤوسكم كاملة، ومثالها زائدة، قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، [البقرة: 195]. 13 - الاستعانة: أي: طلب المعونة بشيء على شيء، وهي الداخلة على آلة الفعل ونحوها، نحو: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، وضربت بالسيف، ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، [البقرة: 45]. ونظرًا لكونها للاستعانة فإنها تدخل على الوسائل التي يستعان بها على المقاصد، كالأثمان في البيوع، مثل: اشتريت الثوب بعشرة دراهم، فالعشرة ثمن يصح الاستبدال به بدلالة الباء، ولأن الثمن غير مقصود لذاته في البيع، بل هو تبع للمقصود وهو المبيع، فكان الثمن بمنزلة الآلة للشيء. وقال الحنفية: إن الباء إذا دخلت في آلة المسح فتعني استيعاب الممسوح، مثل: مسحت الحائط بيدي، أو مسحت بيدي الحائط، فيستوعب الحائط بالمسح، وإذا دخلت الباء على محل المسح اقتضت استيعاب الآلة، كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، [المائدة: 6]، اي: امسحوا أيديكم برؤوسكم، أي: ألصقوها برؤوسكم، وهذا لا يقتضي استيعاب الرأس، بل يقتضي وضع آلة المسح وهي اليد على الرأس وإلصاقها، فيكون المفروض في الوضوء هو مسح بعض الرأس بمقدار اليد التي تساوي ربع لرأس (¬1). 14 - التبعيض: أي: تدل على البعض بمعنى "من" نحو قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}، ¬

_ (¬1) قال الحنفية: إن استيعاب الوجه بالمسح في التيمم لم يثبت بآية {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}، [النساء: 43]، وإنما ثبت بالسنة المشهورة في حديث عمار رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يكفيك ضربتان: ضربة للوجه، وضربة إلى الرسغين" وفي رواية: "إنما يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين" رواه الدارقطني، وقال الشافعية: إن الباء ليست للتبعيض في آية التيمم؛ لأن مسح الوجه بدل عن غسله في الوضوء، فيكون للبدل حكم المبدل مع التخفيف.

[الإنسان: 6]، أي: منها، وقال بذلك الشافعية في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، أي: بعض رؤوسكم، فيكفي مسح القليل. وأنكر الحنفية دلالة الباء على التبعيض مطلقًا؛ لأنه لا أصل لذلك في اللغة، ويؤدي ذلك إلى التكرار والترادف مع كلمة "مِن" ويؤدي للاشتراك، وهو كون اللفظ الواحد دالًا على معنيين مختلفين، والترادف والاشتراك خلاف الأصل، فهي للإلصاق حصرًا، واحتجوا بقول ابن جني وابن بَرْهان: "من زعم أن الباء للتبعيض فقد أتى على أهل اللغة بما لا يعرفون". وقال الشافعية: أن الباء إذا دخلت عمى فعل لازم، فإنها تكون للإلصاق، مثل قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، [البقرة: 17]، ونحو: مررت بخالد، وتفيد الشمول والعموم، وإن دخلت على فعل متعد، فتكون للتبعيض، كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، ولا تفيد الشمول والعموم. وردَّ الشافعية على ابن جني وابن بَرْهان بما ورد في كلام العرب من أن الباء تدل على التبعيض، وذلك أمر مشتهر أثبته أئمة اللغة كالأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك، ومنه قول الشاعر: شَربْنَ بماءَ البَحْر، ثم ترفَّعت ... متى لُجَجٍ خَضْرٍ لهنَّ نئيجُ (¬1) أي: من ماء البحر، وقول الشاعر: فلثمتُ فاها آخِذًا بقُرُونها ... شرْب النَّزيف ببَرْدِ ماءَ الحَشْرج (¬2) أي: من برد ماء، وفيه أمثلة أخرى (¬3). ¬

_ (¬1) هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي يصف سُحُبًا، والنئيج: المرّ السريع مع الصوت، ومتى لجج أي: من لجج، وهي لغة هذيل. (¬2) هذا البيت منسوب لجميل بثينة وعمر بن أبي ربيعة وعبيد بن أوس، ومعناه: قبلت شفة الحبيبة وقد كنت آخذًا بضفائرها، وكان لثمي كشرب النزيف (أي: الذاهب المنقطع ماء بئره، أو الظمآن الذي يبس لسانه من العطش) لبعض برد ماء الحشرج، والحشرج هو الحِسِي، وهو المكان المستوي السهل الذي به دقاق الحصى، ويستخرج منه الماء بطريق الاحتساء. (¬3) انظر معاني الباء في مغني اللبيب (1/ 106)، رصف المباني ص 142، البرهان في =

ثانيا: على

ثانيًا: على: " على" حرف جر للاستعلاء، أي: لوقوع الشيء على الشيء وعلوه فوقه، يقال: فلان علينا أمير؛ لأن للأمير علوًا وارتفاعًا على غيره، ويقال: زيد على السطح، أي: يعلوه. والاستعلاء إما ذاتي حسي، نحو قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، [هود: 44]، وقوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)} [المؤمنون: 22]، وإما معنوي، نحو قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا}، [المائدة: 45]، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، [آل عمران: 97]. ولما كانت "على" للاستعلاء، فإنها تدل على الإلزام والوجوب لغة؛ لأن الاستعلاء لا يكون إلا في الإلزام والإيجاب، فإذا قال الشخص: لزيد علي ألف درهم، فإنه يكون ملزمًا له بدين لا غير؛ لأن الدَّيْن يستعلي من يلزمه، ولذا يقال: ركبه الدَّيْن، فالدَّيْن يعلوه ويركبه بحسب المعنى والتقدير. استعمال على: تستعمل "على" مجازًا لمعان أخرى، أهمها: 1 - التفويض: كما في قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، [آل عمران: 159]، أي: إذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى اللَّه. 2 - المصاحبة: أي: بمعنى "مع" نحو قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، [البقرة: 177]، ¬

_ = علوم القرآن (4/ 252)، الإتقان (2/ 182)، الإحكام للآمدي (1/ 62)، البحر المحيط (2/ 266)، كشف الأسرار (2/ 167)، فواتح الرحموت (1/ 242)، أصول السرخسي (1/ 227)، الفصول في الأصول (1/ 94)، شرح تنقيح الفصول ص 104، شرح الكوكب المنير (1/ 267)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 242)، المسودة ص 356، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 397)، أصول الأحكام ص 334.

3 - المجاوزة

أي: مع حبه له، وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، [النساء: 2]، أي: مع أموالكم. 3 - المجاوزة: أي: بمعنى "عن" نحو قول الشاعر القُحَيْف العقيلي: إذَا رَضيتْ عَلَيَّ بنو قُشَيْرٍ ... لعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضاها أي: إذا رضيت عني. 4 - التعليل: أي: بمعنى "في" نحو قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، [البقرة: 185]، أي: لهدايتكم. 5 - الظرفية: أي: بمعنى "في " نحو قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، [البقرة: 102]، أي: في ملك سليمان. 6 - الاستدراك: أي: بمعنى "لكن" نحو قولك: فلان لا يدخل الجنة لسوء صنعه، على أنه لا ييئس من رحمة اللَّه، أي: لكن لا ييئس. 7 - الزيادة: أي: تكون زائدة للتأكيد، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ على يَمينٍ" (¬1)، أي: يمينًا. 8 - الإسمية: تستعمل "على" اسمًا إذا دخل عليها حرف جر، كقول الشاعر مزاحم العقيلي يصف القطا: ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والدارمي عن عدي وأبي هريرة وعبد الرحمن بن سمرة رضي اللَّه عنهم.

9 - الشرط

غَدَتْ مِن عَلَيْهِ بعدَما تَمَّ ظمْؤُها ... تصِلُّ وعن قيضٍ ببيداءَ مَجْهَلِ وتكون اسمًا عند الأخفش إذا كان مجرورها وفاعل متعلقِها ضميرين لمسمى واحد، نحو قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، [الأحزاب: 37]، وقال جماعة: إنها اسم دائمًا. 9 - الشرط: تستعمل "على" للشرط، نحو قوله تعالى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}، [الممتحنة: 12]، أي: بشرط عدم الإشراك. 10 - بمعنى الباء: تستعمل "على" بمعنى "الباء" مجازًا أي: للإلصاق، في المعاوضات المحضة، كالبيع والإجارة، لمناسبة اللزوم فيها للإلصاق بين العوض والمعوض، نحو قولك: بعتك هذا الثوب على ألف، فالمعنى بألف؛ لأن الشرط لا يمكن في المعاوضات؛ لأنها لا تقبل الشرط، وكذا في الطلاق على عوض. لكن قال أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى: "على" في الطلاق للشرط؛ لأنه يقبل الشرط، فيحمل على معناه الأصلي، فإذا قالت: طلقني ثلاثًا على ألف، فطلقها واحدة، لا يجب ثلث الألف؛ لأنها للشرط، وأجزاء الشرط لا تنقسم على أجزاء المشروط؛ لأن وقوع المشروط والشرط يحصل بالتعاقب، فلا يتقدم جزء من المشروط على الشرط، وقال الصاحبان من الحنفية: يجب عليه ثلث الألف؛ لأن "على" بمعنى الباء، فتكون الألف عوضًا، لا شرطًا (¬1). ثالثًا: في: " في" حرف جر تدل على الظرفية الزمانية أو المكانية، أي: تجعل ما ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (1/ 152)، رصف المباني ص 371، الإتقان (2/ 201)، البرهان في علوم القرآن (4/ 284)، الإحكام للآمدي (1/ 62)، البحر المحيط (2/ 305)، كشف الأسرار (2/ 173)، فواتح الرحموت (1/ 243)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 347)، شرح الكوكب المنير (1/ 247)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 399).

1 - بمعنى على للاستعلاء

تدخل عليه ظرفًا لما قبلها ووعاءً له، مثالهما قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2 - 4]، فالأولى للمكان، والثانية للزمان. وتكون الظرفية إما حقيقة إذا كان الظرف ومظروفه جسمين، نحو جلست في المسجد، وزيد في الدار، والمال في الكيس، وإما مجازًا وتقديرًا إذاكان الظرف ومظروفه معنيين، أو كان أحدهما معنى، نحو: البركة في القناعة، والإيمان في القلب، وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)} [البروج: 19]. وأما قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، [طه: 71]، فقال أكثر النحاة: إنها للظرفية؛ لأنه لما كان المصلوب متمكنًا على الجذع كتمكن الشيء في المكان، عبّر عنه بفي، وقال بعضهم: إنها بمعنى "على" أي: لأصلبنكم على جذاع النخل على طريق المجاز. استعمالات في: تستعمل "في" مجازًا في عدة استعمالات، وبمعانٍ أخرى، أهمها: 1 - بمعنى على للاستعلاء: تأتي "في" بمعنى "على"، كما في قول بعضهم في قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، [طه: 71]، أي: على جذوع، وكقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ}، [الطور: 38]، أي: عليه، وكقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ}، [الأنعام: 11]، وكقوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، [الملك: 17]، أي: على السماء. 2 - التعليل: تأتي "في" للتعليل، نحو قوله تعالىِ: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}، [يوسف: 32]، وقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، [النور: 14]، وقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}، [الأنفال: 68]. 3 - السببية:

4 - التوكيد

تأتي "في" للسببية، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في النَّفْسِ المؤمنةِ مائة" (¬1)، أي: قتل النفس سبب لوجوب هذا المقدار، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلتِ امرأةٌ النَّار في هرّة" (¬2)، أي: بسبب هرة، وقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ}، [النور: 14]، أي: بسببه، وقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ}، [الأنفال: 68]. 4 - التوكيد: تأتي "في" زائدة للتوكيد، نحو قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا}، [هود: 41]، أي: اركبوها، لأن الركوب يستعمل بدون "في" فهي مزيدة توكيدًا. 5 - التعويض: تأتي "في" زائدة عوضًا عن أخرى محذوفة؛ كقوله: رغبتُ فيمن رغبتُ، أي: فيه. 6 - معنى الباء: تأتي "في" بمعنى "الباء" نحو قوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}، [الشورى: 11]، أي يكثرهم به. 7 - معنى إلى: تأتي "في" بمعنى "إلى"، نحول قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}، [إبرهيم: 9]، أي: إلى أفواههم غيظًا. 8 - معنى من: تأتي "في" بمعنى "مِنْ" الجارة، كقول امرئ القيس: ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال أي: من ثلاثة أحوال. 9 - معنى مع للمقارنة: ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث أخرجه مالك وأحمد وصححه والدارقطني والبيهقي وابن حبان والحاكم وصححه. (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا.

رابعا: من

إذا نسبت "في" إلى الفعل فتكون بمعنى "مع" للمقارنة، كقوله: أنت طالق في دخولك الدار، "أي: مع دخولك؛ لأن الفعل لا يصلح ظرفًا للطلاق على معنى أن: يكون شاغلًا له (¬1)؛ لأن الفعل عرض لا يبقى، فتعذر العمل بحقيقة "في" فيُجعل مستعارًا لمعنى المقارنة؛ لأن الظرف في معنى المقارنة (¬2). وفرع الحنفية على معنى "في" بعض المسائل، وفرقوا بين قول القائل: صمت هذه السنة، وقوله: صمت في هذه السنة، وبين قول القائل: أنت طالق غدًا، وقوله: أنت طالق في الغد، وكذا إذا أضيفت "في" إلى المكان مثل: أنت طالق في الدار أو في الظل أو الشمس، فتطلق المرأة في الحال حيث كانت، لأن المكان لا يصلح ظرفًا للطلاق، إذ الظرف بمنزلة الوصف له، فلا فرق فيه بين الأمكنة، بخلاف إضافة الطلاق إلى الزمان فيصح ظرفًا له (¬3). رابعًا: مِنْ: " مِنْ" حرف جر لابتداء الغاية حقيقة، والغاية هي النهاية، سواء في المكان اتفاقًا، وعلامتها أن تقارنها "إلى" نحو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}، [الإسراء: 1]، أم في الزمان عند كثيرين، نحو قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، [التوبة: 108]، وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ}، [الإسراء: 79]، وقوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، [الروم: 4]. ¬

_ (¬1) يقول النحويون: إن أكثر حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وهو موجود في كتبهم، الفصول في الأصول (1/ 95). (¬2) مغني اللبيب (1/ 182)، رصف المباني ص 388، البرهان في علوم القرآن (4/ 304)، الإتقان (2/ 211)، الإحكام للآمدي (1/ 62)، البحر المحيط (2/ 296)، كشف الأسرار (2/ 182)، فواتح الرحموت (1/ 147)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 348)، شرح الكوكب المنير (1/ 251)، شرح تنقيح الفصول ص 103، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 405). (¬3) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 406).

1 - التبعيض

استعمالات مِن: تستعمل "مِن" مجازًا في معان عدة، أهمها: 1 - التبعيض: كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، [التوبة: 103]، أي: بعض أموالهم، ومثل: أكلت مِن الخبز، وأخذت من الدراهم، وتعرف بصلاحية إقامة البعض مقامها، وضابطها أن يصلح فيه بعض مضافًا إلى بعض، نحو قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}، [البقرة: 253]، وقوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ}، [غافر: 78]، وقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، [آل عمران: 92]. 2 - بيان الجنس: تكون "من" لتبيين الجنس، وضابطها أن يتقدمها عام، ويتأخر عنها خاص، مثل: ثوب من صوف، وخاتم من حديد، وقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}، [الحج: 30]. 3 - التأكيد: تأتي "من" زائدة للتاكيد، مثل: ما جاءني من أحد، وقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، [نوح: 4]، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، [الأعراف: 59]، والمعنى: يغفر لكم ذنوبكم، وما لكم إله غيره. 4 - التعليل: تستعمل "من" للتعليل، نحو قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ}، [البقرة: 19]، أي: لأجل الصواعق. 5 - البدل: تستعمل "من" للبدل، نحو قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ}، [التوبة: 38]، أي: بدل الآخرة، وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف: 60]، أي: بدلكم. 6 - انتهاء الغاية: تستعمل "من" لانتهاء الغاية مثل "إلى" فتكون لابتداء الغاية من الفاعل، ولانتهاء غاية الفعل من المفعول، نحو: رأيت الهلال من داري من خلال

7 - تنصيص العموم

السحاب، أي: من مكاني إلى خلال السحاب، فابتداء الرؤية من الدار، وانتهاؤها في خلال السحاب، وقال بعض النحاة: إنها لابتداء الغاية في حق الفاعل أيضًا بتقدير: رأيت الهلال من داري ظاهرًا من خلال السحاب. 7 - تنصيص العموم: وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو ما جاءني من رجل، وعند عدم دخولها يحتمل نفس الجنس ونفي الوحدة، فتقول: ما جاء رجل، ويصح أن تقول: بل رجلان، فإن دخلت "مِن" صار النفي للجنس، وامتنع أن تقول: بل رجلان. 8 - الفصل: تستعمل "من" للفصل بين أمرين، نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وتُعرف بدخولها على ثاني المتضادين. 9 - معنى الباء: تستعمل "من" بمعنى "الباء" نحو قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، أي: بطرف. 10 - معنى في: تستعمل "من" بمعنى "في" نحو قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40]، أي: في الأرض، وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92]، أي: في قوم، بدليل قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92]. 11 - معنى عند: تستعمل "من" بمعنى "عند" نحو قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10]، أي: عند اللَّه، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يَنْفَعُ ذا الجَدّ منك الجَدُّ" (¬1). ¬

_ (¬1) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، عن المغيرة =

12 - معنى على

12 - معنى على: تستعمل "مِن" بمعنى "على" نحو قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77]، أي: على القوم. 13 - معنى عن: تستعمل "مِن" بمعنى "عن" نحو قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، أي: عن ذكر اللَّه (¬1). خامسًا: إلى: " إلى" حرف جر، وتستعمل لانتهاء الغاية زمانًا ومكانًا بالاتفاق، مثل: سرت من البصرة إلى الكوفة، ومن الصباح إلى المساء. وتكون "إلى" لانتهاء الغاية إذا كان صدر الكلام يحتمل الامتداد والانتهاء إلى مكان الغاية أو زمانها. فإن لم يحتمل ذلك، فينظر: إن أمكن تعليق الكلام بمحذوف دل عليه الكلام فيقدر المحذوف، مثل: بعتُ إلى شهر، فالبيع ناجز لا يحتمل الانتهاء إلى غاية، لكن يمكن تعليقه بمحذوف دل عليه الكلام، وهو: بعتُ وأجّلت الثمن إلى شهر، وإن لم يمكن تعليق الكلام بمحذوف مفهوم ضمنًا، فيكون الأجل واردًا على صدر الكلام، مثل: أنت طالق إلى شهر، فيقع الطلاق عند مضي شهر. دخول الغاية وعدمه: اختلف العلماء في دخول المذكور بعد "إلى" فيما قبله، حتى يشمله ¬

_ = رضي اللَّه عنه مرفوعًا، والجَد: الغنى، أو الحظ، أي: لا ينفع ذا الغنى أو الحظ منه غناه، وإنما تنفعه طاعته والعمل الصالح. (¬1) مغني اللبيب (1/ 353)، رصف المباني ص 322، البرهان في علوم القرآن (4/ 415)، الإتقان (2/ 247)، الإحكام للآمدي (1/ 61)، كشف الأسرار (2/ 192)، فواتح الرحموت (1/ 244)، أصول السرخسي (1/ 222)، الفصول في الأصول (1/ 94)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 362)، شرح الكوكب المنير (1/ 241)، القواعد والفوائد الأصولية ص 150، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 401).

الحكم السابق أو لا يدخله، ووضعوا ضوابط للدخول وعدمه، والأشهر عدم دخوله (¬1)، مع تفصيل في ذلك: أ- فإن كانت الغاية قائمة بنفسها، بأن كانت موجودة قبل التكلم، وليست مفتقرة إلى الكلام السابق فإنها لا تدخل، مثل: بعث هذه الأرض من هذا الحائط إلى ذاك، وأكلت السمكة إلى رأسِها، فالغايتان لا تدخلان في البيع والأكل، ومثله قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، فإن الإسراء إلى المسجد الأقصى لم يثبت حكمه بمقتضى هذا النص، وإنما ثبت بالأحاديث المشهورة. ب- وإن لم تكن الغاية غاية بنفسها قبل التكلم، فيفرق بين حالتين: الحالة الأولى: إن لم يكن صدر الكلام متناولًا للغاية، فلا تدخل الغاية في حكم ما قبلها، مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فالصيام لا يتناول الليل، وإنما يمتد حكمه إلى الليل؛ لأنه لو دخل الليل في الصيام لأدى إلى الوصال في الصوم، وهو حرام، وتسمى هذه الغاية غاية مدّ. الحالة الثانية: إن كان صدر الكلام متناولًا للغاية، فإنها تدخل في حكم ما قبلها، ويكون المقصود من الكلام هو إسقاط ما وراء الغاية، مثل قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فاليد اسم للمجموع من طرف الأصابع إلى المنكب، والأمر بغسل اليد يتناول موضع الغاية، فيبقى داخلًا تحت صدر الكلام لتناول الاسم له، ولما ذكرت الآية {إِلَى الْمَرَافِقِ} كانت فائدة ذكر الغاية إسقاط ما وراء المرفق من حكم الغسل، فلا يمتد الحكم إلى غسل العضد، وتسمى غاية إسقاط. استعمالات إلى: ¬

_ (¬1) اختلف النحويون في الدخول حقيقة أم مجازًا، والأصل أن "إلى" لانتهاء حكم ما قبلها، والأشهر عدم الدخول إلا بدليل، بخلاف "حتى" فالأشهر دخول الغاية فيها، نحو قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]، فالاغتسال داخل، وهو شرط لإباحة الصلاة، الفصول (1/ 93).

1 - بمعنى "مع" للمصاحبة

1 - بمعنى "مع" للمصاحبة: تأتي "إلى" بمعنى "مع" نحو قوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]، أي: مع اللَّه (¬1)، ونحو قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي: مع أموالكم، والمعنى: لا تضموها إلى أموالكم في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم (¬2). 2 - ابتداء الغاية: تأتي "إلى" لابتداء الغاية، نحو: فلان خرج إلى شهر، أي: ابتداء خروجه إلى شهر، ولو قال شخص: أنت طالق إلى شهر، فلا تطلق إلا بعد شهر، لأنه يريد ابتداء الغاية (¬3). سادسًا: اللام: اللام حرف جر، وهي حقيقة للاختصاص والملك (¬4)، نحو: المال لزيد، ¬

_ (¬1) نقل ذلك الطبري عن السدلا وابن جريج واعتمده، وقال: "وإنما حَسُن أن يقال: "إلى الله" بمعنى "مع اللَّه" لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضمّ إليه، جعلوا مكان "مع" "إلى" أحيانًا (تفسير الطبري 3/ 284) وقال الحسن وأبو عبيدة: "إلى" هنا بمعنى "في" أي من أعواني في ذات اللَّه وسبيله (شرح الكوكب المنير 1/ 246). (¬2) قال المحققون: إن معنى "إلى" في الآية راجع إلى معنى الانتهاء، أي: لا ينته أكل أموالهم إلى أموالكم، وهي متعلقة بفعل محذوف دل عليه الكلام، والتقدير: لا تُضِيفوها إلى أموالكم (البحر المحيط 2/ 313). (¬3) مغني اللبيب (1/ 78)، رصف المباني ص 80، الإتقان (2/ 161)، الإحكام للآمدي (1/ 62)، المعتمد (1/ 40)، كشف الأسرار (2/ 177)، أصول السرخسي (1/ 220)، فواتح الرحموت (1/ 244)، البرهان في علوم القرآن (4/ 232)، المسودة ص 356، شرح الكوكب المنير (1/ 245)، القواعد والفوائد الأصولية ص 144، شرح تنقيح الفصول ص 102، الفصول في الأصول (1/ 93)، البحر المحيط (2/ 312)، أصول الففه الإسلامي، الزحيلي (1/ 402). (¬4) قال بعض العلماء: إن اللام للاختصاص، وقال آخرون: إنها للملك، ومن جعلها للاختصاص قال: ترد للملك مجازًا، ومن جعلها للملك قال: ترد للاختصاص مجازًا، =

1 - التعليل

ونحو قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [الأنبياء: 81]، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]، وقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12]. استعمالات اللام: 1 - التعليل: تستعمل اللام للتعليل، وهي التي يصلح موضعها "من أجل"، نحو قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105]، ونحو: زرتك لشرفك، ونحو قوله: أنتِ طالق لرضا زيد، أي: لإرضائه، فتطلق في الحال، سواء رضي زيد أم لم يرض؛ لأنه تعليل، لا تعليق، ونحو قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان: 49]. 2 - الاستحقاق: تأتي بمعنى الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو: النار للكافرين، وتكون الاختصاص كما سبق، ومعناه أنها تدل على أن بين الأول والثاني نسبة باعتبار ما دل عليه متعلقه، نحو: الجنة للمؤمنين، فهي للملك والاختصاص والاستحقاق (¬1). ¬

_ = والاختصاص معناه: أن بين الأول والثاني نسبة باعتبار ما دل عليه متعلقه، شرح الكوكب المنير (1/ 255)، البرهان في علوم القرآن (4/ 339) وقال الزركشي: "اللام حقيقة في الاختصاص، كقولك: المال لزيد، وقولهم: للملك مجاز من وضع الخاص موضع العام؛ لأن الملك اختصاص، وليس كل اختصاص ملكًا، فإذا قيل: هي للاختصاص دخل فيه الملك وغيره كقولك: الباب للمسجد، أي: مختص به، ولا يوجد حقيقة الملك، وجعلها الجرجاني حقيقة في الملك"، البحر المحيط (2/ 271). (¬1) الفرق بين الملك والاختصاص والاستحقاق أن المال إن أضيف إلى من يعقل كانت اللام للملك، وإلا فإن شهدت العادة للمال لمن لا يعقل فهي للاستحقاق كالسرج للدابة، وإن لم تشهد العادة وغيرها بذلك فهي للاختصاص كقولك: هذا ابن لزيد، فإنه ليس من لوازم الإنسان أن يكون له ولد فالملك أخص من الاستحقاق، والاستحقاق أخص من الاختصاص (البحر المحيط 2/ 271، شرح الكوكب المنير 1/ 255). =

3 - العاقبة

3 - العاقبة: تستعمل اللام للعاقبة، ويُعبر عنها بلام الصَّيْرورة (¬1)، وبلام المآل، نحو قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. 4 - التمليك: تأتي اللام للتمليك، نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، ونحو: وهبتُ لزيد دينارًا. 5 - الاختصاص: تستعمل اللام للاختصاص، نحو: الجنة للمؤمنين، ونحو قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} [الأنبياء: 81]، وقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46]. 6 - شبه الملك: نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]. 7 - توكيد النفي: تستعمل اللام لتوكيد النفي، أيَّ. نفي كان، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]، ويعبر عنها بلام الجحود، لمجيئها بعد نفي؛ لأن الجحد هو نفي ما سبق ذكره، وضابطها أنها لو سقطت تمَّ الكلام بدونها، وإنما ذكرت توكيدًا لنفي الكون. 8 - مطلق التوكيد: تستعمل اللام لمطلق التوكيد، وهي الداخلة لتقوية عامل ضعيف ¬

_ (¬1) الفرق بين لام التعليل ولام الصيرورة (العاقبة) أن لام التعليل تدخل على ما هو غرض للفاعل ويكون مرتبًا على الفعل، كقوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)} [الفرقان: 49]، ولام الصيرورة ليس فيها إلا الترتيب فقط (البحر المحيط 2/ 237).

9 - معنى إلى

بالتأخير، نحو قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، والأصل: تعبرون الرؤيا، أو لكونه فرعًا في العمل، نحو قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج: 16]، أي فعال ما يريد. 9 - معنى إلى: تستعمل اللام بمعنى "إلى" نحو قوله تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57]، وقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 5]. 10 - معنى على: تستعمل اللام بمعنى "على" نحو قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي اللَّه عنها في قصة بريرة: "واشترطي لهم الولاء" (¬1)، والمراد عليهم. 11 - معنى في: تستعمل اللام بمعنى "في" نحو قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، أي: في يوم القيامة. 12 - معنى عند: تستعمل اللام بمعنى "عند" الوقتية، وما يجرى مجراها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صومُوا لرُؤْيته، وأفطروا لرؤيته" (¬2) ومنه قوله: كتبته لخمس ليال من كذا، أي: عند انقضائها، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وقوله تعالى: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24]. 13 - معنى من: تستعمل اللام بمعنى "مِن" نحو: سمعت له صراخًا، أي: منه. 14 - معنى عن: ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري والترمذي والبيهقي والشافعي في "الأم". (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والبيهقي عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس والبراء بن عازب رضي اللَّه عنهم مرفوعًا. =

سابعا: حتى

تستعمل اللام بمعنى "عن" كقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، أي: قالوا عنهم ذلك (¬1). سابعًا: حتى: سبق الكلام على حرف "حتى" العاطفة، وقلنا: إنها تكون أيضًا حرف جر، نحو: أكلت السمكةَ حتى رأسِها، وقوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر: 5]، فهي حرف جر بمنزلة "إلى" في المعنى والعمل (¬2)، وسبق بيان معانيها واستعمالاتها الحقيقية والمجازية. ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (1/ 228)، رصف المباني ص 218، الإتقان (2/ 224)، البرهان في علوم القرآن (4/ 339)، الإحكام للآمدي (1/ 62)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 350)، شرح تنقيح الفصول ص 103، شرح الكوكب المنير (1/ 255)، البحر المحيط (2/ 271). (¬2) البحر المحيط (2/ 315)، شرح الكوكب المنير (1/ 238، 240)، والمراجع المذكورة سابقًا في "حتى" العاطفة.

المبحث الثالث أسماء الظرف

المبحث الثالث أسماء الظرف إن أسماء الظرف ألحقت بحروف المعاني لأنها لا تفيد معانيها إلا بإلحاقها بأسماء أخر كالحروف، ويدرسها علماء الأصول في الدلالات لتعلق المسائل والأحكام الفقهية بها، ونقتصر على أربعة أسماء منها، وهي: مع، قبل، بعد، عند. أولًا: مع: " مع" اسم للمقارنة بين شيئين، ولا ينفك عن المقارنة، نحو: جاء خالد مع عمرو، أي: معًا، وقد تجيء بمعنى "بعد" كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)} [الشرح: 5]، أي: بعد العسر يسر (¬1). ثانيًا: قبل: " قبل" ظرف يفيد التقديم، مثل جاء زيد قبل خالد، فالقبلية صفة لزيد، أي صفة معنوية، لا بمعنى النعت اللغوي. وإن قال الرجل للمرأة قبل الدخول بها: أنتِ طالق واحدةً قبل واحدة، فتقع طلقة واحدة؛ لأن القبلية صفة للطلقة الأولى، ومتى وقع الطلاق قبل الدخول فلا تبقى المرأة محلًا لإيقاع طلقة أخرى. وإن قال للمرأة غير المدخول بها: أنت طالق واحدة قبلها واحدة، فتقع طلقتان؛ لأن القبلية صفة للطلقة الثانية التي قرنها بالطلقة الأولى، وهو مما يملكه، ولأنه ليس في وسعه تقديم الثانية، بل في وسعه إيقاعها مقرونة مع الأولى، فيثبت من قصده قدر ما وسعه (¬2). ¬

_ (¬1) الفصول (1/ 93)، فواتح الرحموت (1/ 250)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 408). (¬2) فواتح الرحموت (1/ 250)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 408).

ثالثا: بعد

ثالثًا: بعد: "بعد" ظرف يقع للترتيب والتأخير، قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56]، وهي عكس "قبل"، وتحتمل "بعد" الفور والتراخي. وحكم "بعد" في الطلاق ضد حكم "قبل"، فلو قال رجل لزوجته غير المدخول بها: أنت طالق واحدة بعد واحدة، فتقع طلقتان، كما في قوله: قبلها واحدة؛ لأن البعدية تصير صفة للطلقة الأولى، ويمكنه الجمع بين التطليقتين. ولو قال لغير المدخول بها: أنت طالق واحدة بعدها واحدة، تقع طلقة واحدة، كما في قوله: قبل واحدة؛ لأن البعدية صفة للثانية، فلم تجد محلًا لإيقاعها، فصارت لغوًا. وكانت الأمثلة للقبلية والبعدية لغير المدخول بها؛ لأنها إذا وقع عليها الطلاق فلا يملك الرجل عليها طلقة ثانية؛ لأنها تبين بالأولى، لكن يملك أن يطلقها اثنتين وثلاثًا دفعة واحدة، أما المدخول بها فيقع الجميع؛ لأنها لا تبين في الطلقة الأولى، ويملك الرجل أن يطلقها طلاقًا آخر ما دامت في العدة. وقد تجيء "بعد" بمعنى "مع" نحو قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} [القلم: 13]، يعني: مع ذلك (¬1). رابعًا: عند: " عند" ظرف للحضرة وللإقرار بالعين، فلو قال: لزيد عندي ألف دينار، فهو إقرار بالعين، وليس فيها دلالة على الضمان، بل ذلك مشعر بالأمانة، أي: الألف وديعة لا دَيْن في الذِّمة؛ لأن الحضرة تدل على الحفظ دون اللزوم، ولذلك يقبل قول الوديع المقر إذا تلفت، أو قال: رددتها، مع اليمين؛ لأن يده يد أمانة، لا ضمان. فائدة: قال الحنفية: إن أسماء الظروف تدل على الظرف مع تفاوت معانيها، ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (1/ 250)، الفصول (1/ 92)، البحر المحيط (2/ 312)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 408).

فإذا قال الشخص لامرأته: أنت طالق كل يوم، فتطلق طلقة واحدة؛ لأن كل الأيام ظرف واحد للطلاق، فلا يقع إلا تطليقة واحدة، أما إن قال: في كل يوم، أو مع كل يوم، أو عند كل يوم، فتطلق ثلاثًا؛ لأن إثبات اسم الظرف يجعل كل يوم بانفراده ظرفًا على حدة، فيتجدد عند كل يوم طلاق، حتى يبلغ أقصاه وهو ثلاث (¬1). ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (1/ 250)، البحر المحيط (2/ 306)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 409).

المبحث الرابع حروف الشرط

المبحث الرابع حروف الشرط إن حروف الشرط كلمات وألفاظ، وسميت حروفًا باعتبار أن الأصل فيها كلمة "إن" وهو حرف اختص بمعنى الشرط، وليس له معنى سواه، بخلاف سائر ألفاظ الشرط، فإنها تستعمل في معان أخرى سوى الشرط. وأعرض هنا أربعة حروف، وهي: إنْ، إذا، متى، كيف. أولًا: إِنْ: إن موضوعة حقيقة للشرط، أي: لتعليق حصول مضمون جملة بحصول جملة أخرى فقط، من غير اعتبار ظرفية ونحوها، كما في: إذا، ومتى، مثالها قوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. والغالب استعمال "إنْ" فيما يمكن وقوعه، وهو الأمر المعدوم ولكنه على خطر الوجود، أي: إنه متردد بين الوجود وعدمه، نحو: إن قام زيد قمت، ونحو: إن زرتني أكرمتك، ولا تستعمل فيما هو قطعي الوجود أو قطعي الانتفاء، نحو: إن جاء غد أكرمتك. وقد تأتي أحيانًا في الأمر المحقق الوجود، نحو: إن مات زيد زرتك، ومنه قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، ومنه قول الشاعر: كم شَامِتٍ بي إنْ ... هلكتُ وقائلٍ للَّه درُّه ولكن إذا استعملت فيما لا بد من وقوعه، فلا بدَّ أن يكون زمن وقوعه مبهمًا، كالأمثلة السابقة، ومثله قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ} [آل عمران: 158]. ولا تدخل "إن" على المستحيل إلا لنكتة، نحو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} [الزخرف: 81]. وتجئ "إن" للنفي إن تلاها "إلا" نحو قوله تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إلا فِي} [الملك: 20]، أو إن تلاها "لمّا" نحو قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4]، أو إن تلاها غيرهما، نحو قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ

ثانيا: إذا

بِهَذَا} [يونس: 68]. ويتفرع على استعمال "إن" للشرط والتعليق أن الرجل إن قال لامرأته: إن لم أطلقك فأنت طالق، فلا تطلق إلا في آخر حياة الزوج أو حياتها هي؛ لأن عدم الطلاق، وهو الشرط الذي علق عليه الطلاق، لا يتحقق إلا قبيل الوفاة، حيث يتحقق عجزه عن إيقاع الطلاق عليها، فيتحقق شرطه، وإذا كان مدخولًا بها فيعتبر طلاقه فِرارًا، فلها الميراث عند الجمهور، خلافا للشافعية الذين لا يقولون بطلاق الفِرار (¬1). ثانيًا: إذا: إذا ظرف لما يستقبل غالبًا من الزمن، وتضاف إلى جملة فعلية في معنى الاستقبال، متضمنة لمعنى الشرط غالبًا، نحو: إذا جاء زيد فقم إليه، ولكن لا يثبت لها سائر أحكام الشرط، فلا يجزم بها المضارع. ولا تكون إلا في المحقق، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلا إِيَّاهُ}، [الإسراء: 67]، فإن مس الضر في البحر محقق (¬2)، وبذلك تشترك "إذا" مع "إن" في عدم الدخول على المستحيل، ولكن تنفرد "إن" بالمشكوك فيه والموهوم، وتنفرد "إذا" بالمجزوم به، مع اختلاف بين العلماء في دخولها على المظنون. وإن "إذا" تدخل في أمر مقطوع فيه، فإما أن يكون متحققًا في الحال، كقول الشاعر: وإذا تكونُ كريهةٌ ادْعَى لها ... وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدْعى جُندبُ (¬3) وإما أن تدخل في أمر منتظر مقطوع بتحققه في المستقبل، نحو قوله تعالى: {إِذَا ¬

_ (¬1) البحر المحيط (2/ 2781)، فواتح الرحموت (1/ 248)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 410). (¬2) لما لم يكن الضرر محققًا في غير البحر استعمل القرآن الكريم "إن" التي تستعمل في المشكوك فيه، نحو قوله تعالى: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ}، [فصلت: 49]. (¬3) الحيس: تمر يخلط بالسمن، وحاس الحيسَ: اتخذه.

1 - المفاجأة

السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الانفطار: 1]، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية المعنى. استعمالات إذا: 1 - المفاجأة: تأتي "إذا" حرفًا لمفاجأة، وهي التي يقع بعدها المبتدأ، وهذا هو الفرق بينها وبين الشرطية التي يقع بعدها الفعل، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}، [الروم: 25]، ومثال المفاجأة أيضًا قوله تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)} [طه: 20]، ولا تحتاج "إذا" المفاجأة إلى جواب، ومعناها الحال، ومعنى المفاجأة حضور الشيء معك في وصف من أوصافك الفعلية، وكلما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى. 2 - لمجرد الوقت: تستعمل "إذا" لمجرد الوقت من غير أن تكون ظرفًا مختصة بأحد الأزمنة، ومجردة عن الشرط، وذلك إذا كان الوقت لماض أو لحال، ومثال الماضي قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ}، [التوبة: 92]، وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}، [الجمعة: 11]، ومثالها للحال بعد القسم قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل: 1]، وقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]، فإن "إذا" هنا مجردة عن الشرط، ولذلك لا تحتاج إلى جواب. وقال نحاة الكوفة: تستعمل "إذا" للوقت والشرط على السو اء، فإن كانت للشرط فيجازى بها على اعتبار سقوط الوقت عنها كأنها حرف شرط، وتصير مثل "إن"، وإن كانت للوقت فلا يجازى بها، وهو اختيار الإمام أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى، وفي حالة الشرط تكون بمعنى تعليق حصول مضمون جملة بحصول مضمون ما دخلت عليه، ويجزم بها الفعل المضارع، ويكون استعمالها في أمر على خطر الوجود، ومثاله قول الشاعر: واستَغْنِ ما أَغْناكَ ربُّك بالغِنى ... وإذا تُصبْك خَصَاصَةٌ فتجمَّلِ (¬1) ¬

_ (¬1) أي: إن لم يصبك فقر ومسكنة فأظهر الغنى من نفسك بالتزين وتكلف الجميل.

ثالثا: متى

وأخذ الصاحبان من الحنفية وسائر العلماء بقول البصريين، ولذلك وقع الاختلاف في حكم القائل: إذا لم أطلقك فأنت طالق، فقال أبو حنيفة: لا يقع الطلاق حتى يموت أحدهما، لأن "إذا" للشرط، مثل قوله: إن لم أطلقك، وقال الصاحبان والشافعية: يقع الطلاق بمجرد الفراغ ومضي زمن يطلق فيه ولم يطلق، كما في قوله: "متى لم أطلقك"، وإن "إذا" هنا للوقت وتنفك عن الشرط (¬1). ثالثًا: متى: " متى" اسم للوقت المبهم، أي: إنها للظرق خاصة، فإذا استعملت في الشرط فلا يسقط معنى الظرفية، بعكس "إذا"، فإن "متى" لازمة للظرفية لا تتجرد عنها. ولا خلاف في أن "متى" شرط يجزم به الفعل المضارع، مثل: متى تخرجْ أخرجْ، ومتى تَذْهبْ أذهبْ، ومنه قول الشاعر: متى تأتِهِ تعشُو إلى ضَوْء نارهِ ... تجِدْ خَيْرَ نارٍ عِنْدها خيرُ مُوْقِدِ والأصل أن "متى" في اللغة تفيد التكرار، واصطلح أكثر الفقهاء على أنها للمرة الواحدة، نحو: إذا فعلت، ولذلك قال عامة الفقهاء: إذا قال لامرأته: إن فعلت كذا فأنت، طالق، أنه على المرة الواحدة، وكذا: إذا فعلت، بخلاف: "كلما" فإنها للتكرار، أما لو قال: متى خرجت، أو متى ما خرجت، أو مهما خرجت، فإنها لا تفيد التكرار. وإذا قال الرجل لزوجته: متى لم أطلقك فأنت طالق، فإنه يقع الطلاق بمضي مدة بعد السكوت؛ لأنه حينئذ يتحقق معنى ظرفية "متى"، وهو وجود وقت لم يصدر فيه الطلاق. وإذا قال: طلّقي نفسكِ متى شئتِ، فإنها مخيّرة في إيقاع الطلاق حسب ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (1/ 92)، رصف المباني ص 61، الإتقان في علوم القرآن (2/ 147)، فواتح الرحموت (1/ 248)، البحر المحيط (2/ 278، 306)، شرح الكوكب المنير (1/ 272)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 410)، المهذب (4/ 334) ط محققة.

رابعا: كيف

مشيئتها، سواء في مجلس الخيار، أو فيما وراءه؛ لأن "متى" تعم الأزمنة كلها باعتبار إبهامها (¬1). رابعًا: كيف: كيف للاستفهام، وهو السؤال عن الحال الخاصة من عدة أحوال، وتحمل على الحقيقة إذا استقام المعنى مع صدر الكلام بأن يصح تعلق الكيفية بصدر الكلام، مثل: أنت طالق كيف شئت، فإن الطلاق له عدة أحوال، بأن يكون رجعيًّا أو بائنًا، ولذلك تبقى هذه الكيفية مفوضة للزوجة في المجلس؛ لأن كلمة "كيف" إنما تدل على تفويض الأحوال والصفات دون الأصل عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين يبقى التفويض لها بأصل الطلاق أيضًا في أي وقت، وعند الشافعية قولان. وإن لم يستقم المعنى مع صدر الكلام بأن لم يصح تعلق الكيفية به، فيبطل معنى "كيف" مثل: أنتَ حرٌّ كيف شئت، فيعتق العبد حالًا عند أبي حنيفة؛ لأن العتق لا كيفية له، وقال الصاحبان: لا يعتق العبد ما لم يشأ في المجلس. وإذا وقع بعد "كيف" مفرد كانت في موضع الخبر، نحو: كيف زيدٌ، وإن وقع بعدها جملة فعند سيبويه أنها في موضع نصب على الظرف؛ لأنها في تقدير الظرف، وتقديرها: على أي حال، وهي في تأويل الجار والمجرور، واسم الظرف يطلق عليها مجازًا، وعند غيره إنها في موضع نصب على الحال (¬2). إلى هنا ننتهي من حروف المعاني التي تدل على أمور عدة، ويترتب عليها آثار في تفسير النصوص واستنباط الأحكام الفقهية. ¬

_ (¬1) البحر المحيط (8/ 312)، المهذب (4/ 336) ط محققة، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 413). (¬2) البحر المحيط (2/ 310)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 413).

الفصل السابع النسخ

الفصل السابع النسخ مقدمة: قبل التحدث في النسخ لا بدّ من الإشارة إلى بعض الأمور المهمة التي تتعلق به، وهي: 1 - إن بحث النسخ يدخل في قسم الدَّلالات، أو دلالات الألفاظ، أو تفسير النصوص، التي تتعلق بمباحث الكتاب والسنة لبيان الأحكام منها، ويسمى النسخ بيان التبديل، وفيه جمع بين النَّصين المتعارضين، فيكون المتأخر ناسخًا للمتقدم، ولذلك اعتبره الشافعي رحمه اللَّه تعالى من بيان الأحكام، وكان أول من حرّر الكلام فيه في كتابه القيم المشهور "الرسالة" في الأصول. 2 - إن بحث النسخ -اليوم- هو بحث تاريخي بحت؛ لأنه يتعلق بزمن النبوة حصرًا، ووقت نزول الوحي الإلهي، ثم انتهى النسخ في الشريعة بانقطاع الوحي، وانتهاء النبوة، واستقرت الأحكام الواردة في القرآن والسنة، وأصبحت مُحْكَمة، ولا يمكن النسخ بعد ذلك مطلقًا. 3 - إن فائدة دراسة النسخ بعد عصر النبوة تنحصر في أمرين: أ- إن معرفة الناسخ والمنسوخ شرط من شروط الاجتهاد حتى يعرف المجتهد الآيات والأحاديث المنسوخة التي انتهى العمل بها، وألغيت الأحكام الواردة فيها، وأنها تذكر لمجرد العلم، وللتحرز من الاعتماد عليها. ب- إن المبادئ الأساسية الشرعية للنسخ مقررة في جميع الأنظمة والقوانين التي يصدرها الإمام بمقتضى السياسة الشرعية، وبما يعتمد على المصالح، والأعراف، وما تصدره الدول اليوم من قرارات ومراسيم وأنظمة وقوانين، فإنها تخضع للنسخ والإلغاء والإبطال بصدور ما يخالفها. تعريف النسخ: النسخ لغة: له معنيان:

الأول: النسخ: هو النقل والتحويل، كقوله: نسخت الكتاب، أي: نقلته، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، [الجاثية: 29]، ومنه التناسخ في المواريث، فإنه نقل الميراث من وارث إلى آخر. والثاني: النسخ: هو الإبطال والإزالة، ومنه: نَسخَتِ الشمس الظل، ونسخت الريح آثار القدم، أي: أزالته ورفعته، ومنه تناسخ القرون والأزمنة، أي: إزالتها ورفعها، وأكثر العلماء على أن النسخ حقيقة في الإزالة والإبطال، مجاز في النقل والتحويل، وقيل غير ذلك (¬1). والنسخ في الاصطلاح له تعريفات كثيرة، أشهرها: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر (¬2). والمراد ارتفاع دوام الحكم، أي: ارتفاع تعلق الحكم بفعل المكلف، بأن يرتفع أمده المحدد له، لا رفعه حقيقة، لأنه أمر واقع، وتقييده بالشرعي ليخرج الحكم العقلي كالمباح الثابت بالبراءة الأصلية عند من يقول به، فإنَّ رفع الحكم العقلي وما ثبت بالبراءة الأصلية لا يسمى نسخًا، بل هو ابتداء حكم شرعي، ولا يكون النسخ إلا بدليل شرعي، وهو خطاب الشارع، فلا يحصل النسخ بالعقل وكلام البشر، وإذا انتهى الحكم الشرعي بطريق عقلي كالموت، والغفلة، والعجز، فلا يكون نسخًا، وتقييده بالمتأخر؛ ليخرج المقترن بالحكم كالاستثناء، والتقييد بالشرط والغاية، فلا يسمى نسخًا، بل هو بيان لإتمام ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (2/ 917) مادة: نسخ، القاموس المحيط، مادة: نسخ، المصباح المنير (2/ 827) مادة: نسخ. (¬2) هذا تعريف ابن الحاجب وابن النجار (العضد على ابن الحاجب 2/ 185، شرح الكوكب المنير 3/ 526) وانظر: المستصفى (1/ 107)، المعتمد (1/ 396)، الإحكام للآمدي (3/ 104)، المحصول (3/ 423)، فواتح الرحموت (2/ 53)، أصول السرخسي (2/ 54)، الفصول (2/ 197)، كشف الأسرار (3/ 155)، شرح تنقيح الفصول ص 301، العدة (3/ 778)، المسودة ص 195، روضة الناظر ص 69، نهاية السول (2/ 162)، البحر المحيط (4/ 63)، إرشاد الفحول (2/ 533) ط دار السلام، محققة، الحاوي للمادوردي (20/ 130)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 931).

وقوع النسخ وأدلة مشروعيته

المعنى بعد ثبوته أو تقييد له بمدة أو شرط، فهو تخصيص، في حين أن النسخ رفع الشيء بعد ثبوته. ومن هنا يظهر الفرق بين النسخ والتخصيص؛ لأن التخصيص إخراج بعض ما تناوله اللفظ مما لا يكون مندرجًا تحت إرادة المتكلم ابتداء، أي: إن الحكم يتعلق ببعض أفراد العام من أول الأمر، في حين أن النسخ يتعلق ابتداء بجميع الأفراد، ثم يرتفع هذا الحكم بالناسخ. ويظهر الفرق بين النسخ والتقييد؛ لأن التقييد للمطلق يقلِّل شيوعه بقيد يُضيِّق دائرته، ويظل النص المطلق دليلًا على الحكم، ولا يرفع، في حين أن النسخ إنهاء للعمل بالحكم السابق (¬1). وقوع النسخ وأدلة مشروعيته: اتفق العلماء على جواز النسخ في الشريعة، وأنه جائز عقلًا، وواقع فعلًا (¬2) في كثير من الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها: ¬

_ (¬1) توهم بعضهم أن النسخ يستلزم البداء وهو الظهور بعد الخفاء، والعلم بعد الجهل، والبداء منفي عن اللَّه تعالى، ويختلف عن النسخ، فإن اللَّه لا يخفى عليه شيء، ويعلم من الأزل أن الحكم المنسوخ صالح لزمن، ومحقق للمصلحة في وقت دون آخر، فالنسخ تحديد لنهاية الحكم لمصلحة يعلمها اللَّه مسبقًا، انظر: البحر المحيط (4/ 70)، شرح الكوكب المنير (3/ 536)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 940)، الإحكام للآمدي (3/ 109)، الإحكام لابن حزم (4/ 44)، البناني على جمع الجوامع (2/ 88)، المعتمد (2/ 88)، العدة (3/ 774)، البرهان (2/ 1301). (¬2) نقل كثير من العلماء أن أبا مسلم الأصفهاني (محمد بن بحر المفسر المعتزلي 322 هـ) أنكر النسخ في الشريعة، ولكن المحققين من العلماء أكدوا أن الخلاف لفظي واصطلاحي؛ لأنه سمّاه تخصيصًا؛ لأنه قصر للحكم على بعض الأزمان، فهو تخصيص في الأزمان، كالتخصيص في الأشخاص والأعيان، انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 533) هامش 3، التبصرة للشيرازي ص 251 هامش تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو، البناني والمحلي على جمع الجوامع (2/ 88)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 952).

1 - الكتاب

1 - الكتاب: قال اللَّه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]. فالآية صريحة بأن اللَّه تعالى ينسخ بعض الآيات، ويأتي بخير منها أو مثلها، وأن اللَّه يعلم ذلك ابتداء، وأنه يقدر على النسخ، وسيأتي مزيد من المثلة في نسخ القرآن بالقرآن في عدة آيات: في نسخ القبلة، والوصية للوالدين والأقربين، والعدد الذي يجب الثبوت أمامه في القتال، وعدة المتوفى عنها زوجها، وتقديم الصدقة قبل المناجاة، ومنع القتال في الشهر الحرام، وغيرها (¬1). 2 - السنة: روى بريدة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنتُ نهيتُكُم عن زيارةِ القبورِ فَزُورُها"، وفي رواية الترمذي زيادة: "فإنَّها تذكِّركم الآخرة" (¬2)، فالحديث صريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور سابقًا، ثم أمر به، ورغب فيه، ونسخ حكم النهي السابق، وسترد أحاديث أخرى من السنة، كالنهي عن ادّخار لحوم الأضاحي، ثم السماح به، ونسخ وجوب صوم عاشوراء بصوم رمضان، وغيره. 3 - الإجماع: أجمع الصحابة والسلف على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع السابقة، في غير أصول العقيدة والأخلاق، كتحريم الشحوم، وكل ذلك ظفر على اليهود بسبب ظلمهم وأكلهم أموال الناس بالباطل بالربا وغيره، ودل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، ¬

_ (¬1) ذهب جمهور العلماء إلى أن النسخ في القرآن الكريم وقع في بضع عشرة آية فقط، واختار السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الإتقان في علوم القرآن" أنها عشرون آية، وعدَّدها. (¬2) هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن حبان والبغوي والحاكم، ورواه ابن ماجه عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه مرفوعًا.

4 - المعقول

[الأنعام: 145]، والقتل للتوبة، وقطع الثوب للنجاسة، وغير ذلك (¬1). كما أجمع الصحابة على دلالات الآيات الكريمة التي جاء فيها نسخ، وكذلك أجمعوا على دلالة الأحاديث التي ورد فيها نسخ، كنسخ التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة، ونسخ الوصية للوالدين والأقربين بآيات الميراث، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآية التي بعدها التي تعفو عن ذلك، ونسخ وجوب تربص المرأة المتوفى عنها زوجها حولًا كاملًا بعدة الوفاة الواردة في آية أخرى، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. 4 - المعقول: إن القول بالنسخ، وتغيير الأحكام حسب الأزمان والأحوال، يتفق مع العقل الصحيح، وإن وقوعه، لا يترتب عليه مستحيل، وإن نسخ الأحكام الشرعية تابع لمشيئة اللَّه تعالى، واللَّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقد اتفق العلماء على أن الأحكام الشرعية نزلت لتحقيق مصالح العباد، ومن المقرر عقلًا، وملاحظٍ واقعًا، أن مصالح الناس تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأقوام، وإن مراعاة هذه المصالح يتفق مع نسخ الأحكام التي تكون صالحة لقوم، أو لزمن، وغير صالحة لقوم آخرين، أو لزمن لاحق. ويلخص مشروعية النسخ أنه جائز عقلًا، وواقع شرعًا، وورد في الكتاب الكريم والسنة الشريفة (¬2)، وأنه واقع ملموس في تاريخ الدولة الإسلامية في السياسة الشرعية والأمور التنظيمية، ويُرى بالعين، ويُسمع بالأذن اليوم في الأنظمة والقوانين واللوائح والمقررات وغيرها، وهذا ما ¬

_ (¬1) البحر المحيط (4/ 76)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 932، 951). (¬2) انظر تحقيق ذلك في: المحصول (3/ 440)، البناني والمحلي على جمع الجوامع (2/ 88)، العضد على ابن الحاجب (2/ 188)، نهاية السول للإسنوي (2/ 167)، المسوّدة ص 195، شرح تنقيح الفصول ص 303، شوح الكوكب المنير (3/ 533، 535)، إرشاد الفحول (2/ 536) ط دار السلام، محققة، كشف السرار (3/ 877)، المستصفى (1/ 72)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 947)، أصول الإحكام ص 350، البحر المحيط (4/ 72)، الفصول في الأصول (2/ 215).

حكمة وقوع النسخ وأمثلته

حكاه العلماء المحققون، والشراح المعاصرون. وسيتأكد ذلك من بيان حكمة النسخ والأمثلة على وقوع النسخ في القرآن والسنة. حكمة وقوع النسخ وأمثلته: قبل بيان حكمة النسخ وأمثلته لا بدَّ من التنبيه إلى أن النسخ لا يقع فيما يعرف نفعه بالعقل في المعاش والمعاد كاصول الاعتقاد كالإيمان، والتوحيد، وأحكام العقيدة كمعرفة اللَّه تعالى، وطاعته، وتعظيمه، ورحمته، وأصول الفضائل كالصدق والأمانة والكرم وشيم الأخلاق، وحسن المعاملة، وإنما ينحصر النسخ في الأحكام التي يتوقف معرفتها، وبيان منفعتها على الدليل السمعي في الشرع، فيمكن طريان النسخ والتبديل عليها، مثل كيفية الطاعات الفعلية، والعبادات الحقيقية، وأحكام المعاملات باختلاف أنواعها، فيمكن طريان النسخ والتبديل عليها لحكمة ظاهرة (¬1) تأخذ إحدى الصور التالية: أولًا: مراعاة مصالح الناس: إن المقصد الرئيسي للشريعة هو تحقيق مصالح العباد، وهذه المصالح يتوقف تحقيقها على مراعاة العناصر المؤثرة فيها كاختلاف العادات، والأزمان، والبلدان، ولذلك تتغير مصلحة الناس، وهذا يقتضي تغيير الحكم الذي يحقق هذه المصلحة، وقد تشرع الأحكام لأسباب معينة، ومصالح موقوتة، ثم تزول تلك الأسباب والمصالح، فيقتضي ذلك تغيير الأحكام وتبديلها، وإلا أصبحت إما خالية من المصلحة، وإما معارضة للمصلحة ومنافية لها، وهذا ما بينته الآية الكريمة في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، [البقرة: 106]، أي: خير منها للمكلفين رحمة بهم، وقد يكون ذلك بالأثقل، لما يستلزمه من تكثير الثواب، وما يترتب عليه من فوائد. ¬

_ (¬1) البحر المحيط (4/ 77)، الحاوي (20/ 130)، إرشاد الفحول (2/ 538) ط محققة، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 938)، أصول الأحكام ص 351.

1 - نسخ الشرائع السابقة

وأمثلة ذلك كثيرة، منها: 1 - نسخ الشرائع السابقة: إن شرائع الأنبياء السابقين جاءت لتحقيق مصالح الناس بحسب زمانهم وأحوالهم، ولمّا تطور الزمان، ونضجت البشرية، وسهل الاتصال بين الأقوام والأمم، وجاءت الدعوة الواحدة لمختلف الشعوب والقبائل، فاقتضى الحال أن تكون الشريعة الخاتمة عامة وشاملة وخالدة، ولذلك اتفق العلماء على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - نسخت الشرائع السابقة، ولذلك كانت الآيات تنزل لمخاطبة الناس بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ثم تقرر ذلك بشكل قطعي وجازم في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، [آل عمران: 85]، والأدلة على ذلك كثيرة، أما الجزئيات والفروع الثابتة في الشرائع السابقة فقد اختلف العلماء في نسخها بشريعتنا، أو عدم نسخها (¬1)، وسبق بيان ذلك في مصدر شرع من قبلنا. 2 - زيارة القبور: سبق بيان حديث بُرَيْدة رضي اللَّه عنه، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع الناس من زيارة القبور لقرب عهدهم بالجاهلية، وعبادة الأصنام، وتقديس الآباء، واتخاذ الأجداد أصنامًا، فخشي على ضعاف الإيمان أن يتسرب شيء من ذلك إلى نفوسهم، فحرم الزيارة، ولما قوي الإيمان، واستقر في النفوس، وزالت الوثنية، وهدمت الأصنام، نسخ التحريم، وأعلن الجواز، فقال عليه الصلاة والسلام: "كنتُ نهيْتُكم عن زيارةِ القُبُورِ فزُورُوها، فإنَّها تذكركم الآخرة" (¬2). 3 - ادّخار لحوم الأضاحي: نزل على المسلمين وفود وضيوف إلى المدينة في عيد الأضحى، ¬

_ (¬1) انظر: الفصول (3/ 19) وما بعدها. (¬2) هذا الحديث سبق بيانه ص 169 هـ 3.

4 - زواج المتعة

واقتضت المصلحة الشرعية إكرام الضيوف، والتوسعة عليهم، وإدخال السرور إلى قلوبهم، فمنع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على أهل المدينة أن يدّخروا شيئًا من لحوم الأضاحي؛ ليتم توزيعها كاملة، فيعم النفع بها، ولما تغيرت الأحوال أعلن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نسخ ذلك، ونص على بيان العلة، فقال عليه الصلاة والسلام: "كنتُ نهيْتُكم عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحي من أجلِ الدّافّة (الوفود والضيوف) ألا فكلوا وادّخروا" (¬1)، واقتضت المصلحة نسخ المنع، وإباحة الادخار والاستفادة من الأضحية، وكان النهي لسبب، فلما زال السبب ارتفع النهي. 4 - زواج المتعة: كان زواج المتعة شائعًا في الجاهلية، ومرّ المسلمون في أول الدعوة في المدينة المنورة بظروف شديدة وقاسية في الجهاد والغزوات والسرايا، فسكت الشرع الحنيف في مبدأ الأمر على زواج المتعة، وأذن به في بعض الغزوات، ئم نسخه باستقرار نظام الزواج الذي يقرر الحقوق الكاملة للمرأة، بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وبيَّن ذلك عليٌّ رضي اللَّه عنه قال: "إن رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نهَى عن نكاحِ المتعةِ يوْمَ خَيْبَر، وعن لحومِ الحُمُر الإنسية" (¬2). 5 - عدة المرأة المتوفى عنها زوجها: كانت عدة المرأة المتوفى عنها زوجها في الجاهلية سنة كاملة، فأمر اللَّه المسلمين أن يوصُوا لأزواجهم نفقة طوال العدة لمدة سنة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، ثم نسخ اللَّه تعالى ذلك وجعل عدة المرأة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، ومالك وأحمد والحاكم عن عائشة رضي اللَّه عنها، وعن علي كرم اللَّه وجهه، وعن غيرهما مرفوعًا بألفاظ متقاربة. (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والبيهقي، وفيه قصة ردّ علي رضي اللَّه عنه على ابن عباس رضي اللَّه عنهما الذي كان يرخص في متعة النساء، فقال له علي كرم اللَّه وجهه: "إنك امرؤ تائه" وانظر: التلخيص الحبير 3/ 154.

ثانيا: التدرج في التشريع

أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، وذلك تخفيفًا على الأرملة، وانتقالًا من عادة الجاهلية إلى الحكم الشرعي الخالد. ثانيًا: التدرج في التشريع: كان التدرج في التشريع أحد خصائص الشريعة الغراء؛ لمراعاة واقع الحياة، وطبيعة النفوس، وما ألفته من عادات وقيم ومبادئ وأحكام، وأخذًا بمبدأ التدرج في التربية الذي تلتزم به جميع مناهج التربية في العالم، ولأخذ الناس من السهل إلى الصعب، ومن الخفيف إلى الأشد، وغير ذلك من حِكم التدرج (¬1). ومبدأ التدرج يقتضي تشريع أحكام معينة تتناسب مع الناس والظروف والأنفس والأحوال، ورفع الحرج، ومراعاة الطبيعة البشرية، ثم الانتقال بعدها إلى الأحكام الدائمة الخالدة التي تصلح للبقاء واختلاف الزمان، وهذا ما وقع كثيرًا في الأحكام الشرعية (¬2)، فمن ذلك: 1 - العبادات: شرعت الصلاة في أول الأمر صلاتين في الغداة والعشي حتى نهاية العام العاشر للبعثة، ثم فرضت الصلوات الخمس، وفرض الصيام في يوم عاشوراء، ثم نسخ وفرض صيام شهر رمضان كاملًا، وكانت الزكاة اختيارية في أول الأمر، ثم فرضت في السنة الثانية للهجرة، وكانت العمرة هي المطلوبة في عام الحديبية، ثم فرض الحج في السنة التاسعة للهجرة على القول الراجح. 2 - الخمر: جاء تحريم الخمر متدرجًا على أربع مراحل، فاعتبر أولًا مقابلًا للرزق الحسن، ثم تقرر أن إثمه أكبر من نفعه، ثم حُرّم قبل الصلاة، ثم نزل التحريم الكامل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]. 3 - الربا: ورد تحريم الربا على أربع مراحل أيضًا، فوصفه اللَّه بأنه لا نماء ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في كتابنا: التدرج في التشريع والتطبيق في الشريعة الإسلامية ص 37 وما بعدها. (¬2) انظر المزيد من الأمثلة العملية للتدرج في التشريع في المرجع السابق ص 53 وما بعدها.

فيه ولا بركة، ثم ذكر سببًا لتحريم بعض الطيبات، ثم حرّمه إذا كان أضعافًا مضاعفة، ثم جاء التحريم النهائي لجميع أنواع الربا، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279]، وأكدت السنة ذلك. 4 - عقوبة الزنا: كان الزنا شائعًا ومنتشرًا في الجاهلية، وسعى الشرع إلى اقتلاعه بالتربية والتوجيه على سبيل التدرج، شأن الطبيب الذي يعالج المريض، ويرعى أحوال المدمن شيئًا فشيئًا، فنزل تحريم الزنا، ولم تفرض العقوبة على الزاني إلا بعد ذلك، وعلى سبيل التدرج؛ فجعل اللَّه تعالى عقوبة الزاني أولًا الحبس في البيوت ومجرد الإيذاء المعنوي، فقال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 15 - 16]، ولما تأهلت النفوس بالإيمان، وتقتل العقوبة، نسخ اللَّه تعالى ما سبق، وأنزل العقوبة الصارمة بجلد الزاني غير المحصن -أي: غير المتزوج- مائة جلدة، فقال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 2]، ونزل قوله تعالى فيما نسخت تلاوته وبقي حكمه: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وطبق ذلك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. 5 - الجهاد: عرض القرآن الكريم أمر الجهاد والقتال في أوائل سور القرآن نزولًا، في سورة المزمل المكية، فقال تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، ولم يأذن القرآن الكريم بالقتال طوال العهد المكي وأمر بالصبر على الإيذاء، والعفو عن المعتدين، والإعراض عنهم، فقال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]، وبعد الهجرة وقيام الدولة الإسلامية أذن اللَّه تعالى للمسلمين بالقتال دفاعًا عن أنفسهم، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: 39]، ثم فرض القتال إذا قاتل الكفار، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]، ثم أمر بالقتال لمجرد خوف

الفتنة، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، ثم أمر بالقتال في غير الأشهر الحرم، فقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (¬1) [التوبة: 5]، ثم نسخ ذلك، وأباح القتال في الأشهر الحرم لمن يقاتل فيها، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، ثم نسخ اللَّه ذلك فأباح القتال في جميع السنة ولجميع المشركين وإن لم يقاتلوا، فقال عزَّ وجلَّ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. 6 - الصبر في القتال: لما كثر المعتدون والمتآمرون على نقض الإسلام وإبادة المسلمين في المدينة، أمر اللَّه تعالى المؤمنين بالصبر، على يقابل الواحد منهم عشرة من الكفار، ثم نسخ اللَّه ذلك، وخفف على المؤمنين بأن يصبر الواحد لاثنين، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} [الأنفال: 65]، ثم صرح القرآن بالتخفيف في الآية بعدها فقال عزَّ وجلَّ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} [الأنفال: 66]. 7 - الوصية والميراث: كان نظام الإرث في الجاهلية مستأصلًا وجائرًا، وكان مستحكمًا في النفوس والواقع والتطبيق، فنزلت الأحكام الشرعية في ذلك بالتدرج لتلغي ما كان سائدًا، فأوجب اللَّه تعالى الوصية للوالدين والأقربين عامة، ذكورًا وإناثًا، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ¬

_ (¬1) هذه الآية تسمى آية السيف، ويقال: إنها نسخت مائة وثلاثة عشر موضعًا في القرآن التي تدعو إلى الحكمة والرفق واللين والسلم والمجادلة مع الكفار (انظر: الناسخ والمنسوخ لابن خزيمة، مع كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ص 264) وهذا غلو وغير صحيح، فآيات الدعوة وأنواع القتال غير منسوخة، ويعمل بكل منها حسب الأحوال، وانظر: الفصول (3/ 7).

ثالثا: الابتلاء والاختبار

لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، ثم قرر نصيب الرجال والنساء في التركة، فقال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7]، ثم أنزل اللَّه تعالى آيات الميراث لتنسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين من الورثة، وتفضل نصيب كل وارث، فقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 11 - 12]، وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]، وكذلك الإرث بالحلف والهجرة في أول الإسلام، ثم نسخ فيما بعد بآيات المواريث، وبقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6]، فصار الميراث بالقرابة (¬1). ثالثًا: الابتلاء والاختبار: أنزل اللَّه تعالى بعض الأحكام ثم نسخها ليبتلي المؤمنين في ذلك، ¬

_ (¬1) انظر: الفصول (3/ 13).

رابعا: حكم أخرى للنسخ

ويختبر إيمانهم في الطاعة والالتزام والاستسلام للَّه تعالى، فمن ذلك: 1 - تحويل القبلة: لما هاجر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون إلى المدينة المنورة أمرهم اللَّه تعالى بالتوجه في الصلاة نحو بيت المقدس، وهو القِبلة الأولى للمسلمين، واستمر الأمر كذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، ثم أنزل اللَّه تعالى تحويل القِبلة إلى الوسجد الحرام، ونسخ التوجه إلى بيت المقدس، فقال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. وبين اللَّه تعالى الحكمة من ذلك وهو ابتلاء المؤمنين، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. 2 - تقديم الصدقة: طلب اللَّه تعالى من المسلمين تقديم صدقة قبيل مقابلة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ابتلاءً واختبارًا لإيمانهم، ولمعرفة مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشأنه في نفوسهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)} [المجادلة: 12]. ثم نسخ اللَّه تعالى تقديم الصدقة للمناجاة، وخفف اللَّه عنهم شفقة بهم، فقال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)} [المجادلة: 13]. رابعًا: حِكم أخرى للنسخ: إن النسخ له حِكم كثيرة: منها: أن الأعمال البدنية إذا انتقلت من سلف إلى خلف صارت كالعادة عند الناس، وظنوا أنها مطلوبة لذاتها، وغفلوا عن المقصود الأصلي بها، وهو معرفة اللَّه تعالى وتمجيده عن طريق رعاية القلب والروح والمعرفة والمحبة للَّه، فيأتي النسخ ليذكر بذلك حتى لا تنشغل النفس بالصور والأشكال عن اللَّه تعالى. ومنها: أن الخلق فطروا على المَلَلِ من الشيء، فوضع لكل مِلَّة في كل

أركان النسخ

عصر شريعة جديدة لينشطوا بها. ومنها: بيان شرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرف شريعته التي نسخت ما قبلها، ولن ينسخها شيء بعدها. ومنها: البشارة للمؤمنين برفع التكليف عنهم في الجنة بدليل رفع مؤنتها وتخفيفها في الدنيا. ومنها: أن النسخ بحد ذاته رحمة من اللَّه بعباده، وتخفيف عنهم، ولو كان الناسخ أثقل؛ لما يستلزم ذلك من كثرة الثواب، فيكون يسيرًا على المؤمن لما يتصور من كثرة الثواب عليه (¬1). أركان النسخ: النسخ له أربعة أركان، وهي: الناسخ، وأداة النسخ، والمنسوخ، والمنسوخ عنه. 1 - الناسخ: هو اللَّه تعالى حقيقة؛ لأنه صاحب الحق والشأن المطلق في رفع الحكم الشرعي وفق مشيئته وإرادته، وهو الناسخ حقيقة، قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، فاللَّه هو الناسخ، وقد يطلق لفظ الناسخ مجازًا على الحكم الشرعي، فيقال: إن وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء، ويقال: هذا الحكم ناسخ لذلك، فهذا ناسخ مجازًا، والناسخ الحقيقي هو اللَّه تعالى. وقد يطلق لفظ الناسخ مجازًا على نفس النص الناسخ، فيقال: هذه الآية نسخت تلك، وآية السيف نسخت آيات السلم والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فهي ناسخة مجازًا، فهو توسُّع؛ لأن النسخ يقع بالخطاب الدال على النسخ، وقد يطلق لفظ الناسخ مجازًا على المعتقد لنسخ الحكم، فيقال: فلان ينسخ القرآن بالسنة، أي: يعتقد ذلك، والشافعي يقول: السنة ¬

_ (¬1) انظر: البحر المحيط (4/ 77) وما بعدها، إرشاد الفحول ص 185 (2/ 538 ط محققة) الفصول (3/ 7).

شروط النسخ

لا تنسخ القرآن، أي: لا يعتقد ذلك، كما سنرى. 2 - أداة النسخ: هي القول الدال على رفع الحكم الثابت، ويشترط في أداة النسخ عدة شروط، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، كما سنرى. 3 - المنسوخ: هو الحكم المرفوع الذي انتهى العمل به، وبطل حكمه، ولا يجوز العمل به، كالتوجه في الصلاة إلى بيت المقدس، فهو حكم منسوخ لا يجوز العمل به، ونسخ تقديم الصدقة بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مناجاته، وحكم التربص حولًا كاملًا في حق المتوفى عنها زوجها. وقد يكون المنسوخ لم ينته حكمه ولم يرفع، وإنما انتقل من الوجوب إلى الندب، كصوم يوم عاشوراء، والوصية للوالدين والأقربين غير الوارثين. 4 - المنسوخ منه: هو المكلَّفُ بالحكم الشرعي سابقًا، والمكلَّفُ المطالَبُ بالحكم الشرعي الناسخ الجديد، مع التعبد به (¬1). وهذه الأركان الثلاثة الأخيرة لها شروط حتى يتحقق النسخ، كما أن الركن الأول بمعناه المجازي له شروط أيضًا، ولكنها تدخل في الشروط السابقة التي سنعرضها مفصلة. شروط النسخ: يشترط لصحة وقوع النسخ عدة شروط، وهي: 1 - الحكم المنسوخ شرعي: يشترط أن يكون المنسوخ حكمًا شرعيًّا، أي: ثبت بالشرع، لا بالعقل، فما ثبت بالبراءة الأصلية، عدم التكليف، فلا يعتبر التكليف بإيجاب العبادة نسخًا عند الجمهور، وقال أكثر الحنفية: إن رفع الإباحة الأصلية نسخ؛ لأن البراءة الأصلية ثبتت، عندهم بالشرع؛ لأن الناس لم يتركوا سدى في زمان من ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 115)، الأحكام، للآمدي (3/ 110)، البحر المحيط (4/ 69)، شرح الكوكب المنير (3/ 528 - 529)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 935).

2 - قبول الحكم للنسخ

الأزمنة، فرفعها يكون نسخًا. كما أن ما ثبت بفعل الناس وعادتهم، ثم أُقِرُّوا عليه في أول الإسلام، ثم رفع، لا يكون نسخًا، وإنما هو ابتداء شرع، كاستباحة الخمر وغيره في أول الإسلام حسب العادة المألوفة السابقة، ثم جاء التحريم، فليس ذلك بنسخ (¬1). 2 - قبول الحكم للنسخ: يشترط أن يكون الحكم الشرعي قابلًا للنسخ، فإن كان لا يقبل ذلك، فلا يجوز نسخه، كالأحكام المتعلقة بأصول الدين والتوحيد والاعتقاد، وأصول العبادات، وأصول الفضائل والرذائل، كالصدق والأمانة والعدل، والكذب والخيانة والظلم وسائر الفواحش مما لا يختلف باختلاف الأحوال والأمم. والأحكام التي لا تقبل النسخ ثلاثة أنواع: أ- المؤبد صراحة: وهو ما ثبت بالنص الصريح بتأبيده، مثل قوله تعالى في أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [المائدة: 119]، وقوله تعالى في أهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجهاد ماض منذ بعثني اللَّه إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال" (¬2). ب- المؤبد دلالة: وهو شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي استقرت بانتهاء الوحي وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها مؤبدة لا تحتمل النسخ؛ لأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، ولا نبي بعده، فلا نسخ لشرعه. ب- الحكم المؤقت: إذا ثبت توقيت الحكم الشرعي لوقت معين فلا يجوز نسخه قبل مضي الوقت؛ لأن الحكم ينتهي بانتهاء وقته، ولذلك لم يقع ذلك شرعًا. ولا يدخل في ذلك ما يتبادر إلى الذهن توقيته في بعض الآيات، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 115)، البحر المحيط (4/ 78)، إرشاد الفحول ص 186 (2/ 539 ط محققة)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 955). (¬2) هذا الحديث أخرجه أبو داود عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه مرفوعًا.

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، فالمقصود تحريم القربان حين الحيض دائمًا، وإباحة الأكل والشرب في ليالي رمضان حتى الفجر، وهي ليست مؤقتة، بل ثابتة على الدوام. لكن حصل اختلاف لفظي أو ظاهري في حقيقة التأبيد، وجواز النسخ فيما لحقه تأبيد، فقال الجمهور وهم الشافعية والمالكية والحنابلة وجماعة من الحنفية: يجوز نسخ ما لحقه تأبيد؛ لأن التأبيد ظاهر في جميع الأزمان لعمومه، والمراد منه بعض الأزمان دون بعض، ولأن العادة في لفظ التأبيد هو المبالغة لا الدوام، كما تقول: لازم غريمك أبدًا، وأنت تريد لازمه إلى وقت القضاء، والمراد به لا تتركه إلى أن ينقضي وقته، ولأن المطلق يقتضي التأبيد كالمؤكد، ومع ذلك يجوز نسخه، ولأنه لما جاز انقطاع المؤبد بالاستثناء، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5]، فجاز انقطاعه بالنسخ كالمطلق. وقال أكثر الحنفية: لا يجوز نسخ ما لحقه تأبيد؛ لأنه يؤدي إلى التناقض والبداء، والشارع الى حكيم منزه عن ذلك، فلا يصح القول بنسخه، ولأن التأبيد كالتنصيص على كل وقت من أوقات الزمان بخصوصه، وهذا لا يجري فيه النسخ باتفاق، فكذلك المؤبد والمؤقت، وإرادة بعض الأزمنة في الخطاب الدائم مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة، فالتأبيد مانع من احتمال النسخ (¬1). والراجح أن التأبيد أو التأقيت إن كان حقيقيًّا فالقول الثاني هو الراجح، وإن قصد به المبالغة ومجرد المثال فالقول الأول هو الراجح. ¬

_ (¬1) المحصول (3/ 4911)، الإحكام للآمدي (3/ 134)، التبصرة ص 255، المعتمد (1/ 413)، أصول السرخسي (2/ 60)، كشف الأسرار (3/ 164)، البرهان (2/ 1298)، فواتح الرحموت (2/ 68)، شرح العضد على ابن الحاجب (2/ 192)، شرح تنقيح الفصول ص 310، المسودة ص 195، حاشية البناني على جمع الجوامع (2/ 85)، التلويح على التوضيح (2/ 23)، الحاوي (20/ 132)، شرح الكوكب المنير (3/ 539)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 954)، إرشاد الفحول ص 186 (2/ 540 ط محققة) أصول الأحكام ص 353، البحر المحيط (4/ 79)، الفصول في الأصول (2/ 208)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 100. =

3 - دليل النسخ منفصل ومتأخر

3 - دليل النسخ منفصل ومتأخر: يشترط في النسخ أن يكون الناسخ، أي: دليل النسخ، منفصلًا عن المنسوخ، ومتأخرًا عليه زمنيًّا، فإن كان الدليل متصلًا أو مقترنًا كالشرط والصفة والاستثناء، فلا يسمى نسخًا، وإنما هو تخصيص وبيان للحكم الأول، وهذا باتفاق العلماء، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فليس ذلك ناسخًا للصوم نهارًا. ويشترط لصحة النسخ تأخر الدليل الناسخ عن المنسوخ حتى يصدق عليه اسم ناسخ، فيكون المنسوخ متقدمًا على الناسخ (¬1)، وسوف نبين طرق معرفة تأخر الناسخ. 4 - دليل النسخ خطاب شرعي: يشترط لصحة النسخ أن يكون بخطاب شرعي، وهو القرآن والسنة حصرًا، ولذلك يتحدد النسخ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد موته فقد استقرت الأحكام نهائيًّا، وامتنع النسخ؛ لانقطاع الوحي. ولذلك لا يكون الإجماع ناسخًا؛ لأنه لا ينعقد إلا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويشترط فيه استناده لدليل شرعي، أي: ألا يخالف نصًّا في القرآن والسنة، وبالتالي فلا يصح النسخ به، وكذلك القياس لا يصلح ناسخًا للنص. وإن ارتفاع الحكم عن المكلف بموته لا يعتبر نسخًا، بل هو سقوط للتكليف مع بقاء الحكم الشرعي لسائر الناس، وهذا الشرط متفق عليه (¬2). 5 - قوة دليل النسخ: يشترط في الدليل الناسخ أن يكون أقوى من المنسوخ، أو مساويًا له؛ ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (3/ 563)، البحر المحيط (4/ 78)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 101، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 956)، إرشاد الفحول (2/ 539) ط محققة، أصول الأحكام ص 353. (¬2) البحر المحيط (4/ 79، 128، 131)، الفصول في الأصول (2/ 209)، إرشاد الفحول ص 186 (2/ 539، 561 ط محققة)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 956).

6 - عدم إمكان الجمع

لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، فالقرآن ينسخ القرآن، والحديث المتواتر ينسخ القرآن، والسنة ننسخ السنة، وخبر الآحاد ينسخ خبر الآحاد. فإن كان الناسخ أضعف من المنسوخ فلا ينسخه؛ لأن الضعيف لا يزيل القوي، وهذا مما قضت به العقول، ودل الإجماع عليه، فإن الصحابة لم ينسخوا نص القرآن إخبر الواحد (¬1)، وسيرد مزيد تفصيل لذلك. 6 - عدم إمكان الجمع: يشترط لوقوع النسخ عدم إمكان الجمع بين الدليلين؛ ليتحقق التعارض مع تأخر أحدهما، ولذلك يقع النسخ إذا تعذر علينا الجمع بوجه صحيح، فلو أمكن الجمع بأي وجه، ولو بضرب من التأويل الذي يحتمله اللفظ، فلا يصار إلى النسخ؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما وترك الآخر، والنسخ إنهاء للحكم وعدم إعمال للنص، ولا يحتاج إليه إلا عند تعذر الجمع والتوفيق بينهما. قال المجد بن تيمية رحمه اللَّه تعالى: "لا يتحقق النسخ إلا مع التعارض، فأما مع إمكان الجمع فلا، وقول من قال: نُسِخ صومُ يوم عاشوراء برمضان، وقال: نسخت الزكاة كل صدقة سواها، فليس يصح إذا حمل على ظاهره؛ لأن الجمع بينهما لا منافاة فيه، وإنما وافق نسخُ عاشوراء فرض رمضان، ونسخُ سائر الصدقات، فرض الزكاة، فحصل النسخ معه، لا به" (¬2). ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 124)، البرهان (2/ 1311)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (2/ 78)، نهاية السول (2/ 179)، شرح العضد على ابن الحاجب (2/ 195)، أصول السرخسي (2/ 77)، فواتح الرحموت (2/ 76)، شرح تنقيح الفصول ص 311 وما بعدها، العدة (2/ 788)، المسودة ص 201، إرشاد الفحول ص 186، 188 (2/ 540 ط محققة) البحر المحيط (4/ 79)، الإحكام لابن حزم (4/ 477)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 927)، أصول الأحكام ص 353، شرح الكوكب المنير (3/ 529)، الحاوي (20/ 137). (¬2) المسودة ص 299، وانظر: العدة (3/ 835)، شرح الكوكب المنير (3/ 530)، أصول الأحكام ص 353.

أمور لا تشترط

أمور لا تشترط: 1 - تأخر التلاوة: لا يشترط في الناسخ، أي: دليل النسخ، أن يكون متأخرًا عن المنسوخ في التلاوة؛ لأن العبرة بالنزول، لا بالترتيب في الوضع؛ لأن النزول بحسب الحكم، والترتيب للتلاوة، وذلك كالآية التي دلت على عدة المرأة المتوفى عنها زوجها بالبقاء بالبيت سنة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)} [البقرة: 240]، فإنها متأخرة في التلاوة عن الآية التي حددت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)} [البقرة: 234]، وكتابة الأولى في المصحف جاءت على خلاف ما وقع في النزول، والأمثلة الأخرى عزيزة (¬1). 2 - البدل: لا يشترط في نسخ الحكم الشرعي أن يخلفه بدل؛ لأن اللَّه تعالى يفعل ما يشاء، وقد تكون المصلحة في نسخ الحكم بدون بدله، وهو ما وقع فعلًا في الشرع، كنسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونسخ ادخار لحوم الأضاحي، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان بقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]، وكذلك نسخ وجوب الإمساك عن الطعام ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 128)، الإحكام للآمدي (3/ 181)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (2/ 94)، العضد على ابن الحاجب (2/ 196)، فواتح الرحموت (2/ 96)، الإحكام لابن حزم (4/ 465)، شرح الكوكب المنير (3/ 568)، البحر المحيط (4/ 108، 160).

أنواع النسخ

والشراب بعد النوم في ليل رمضان في نفس الآية السابقة (¬1)، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، [البقرة: 187]، ونسخ قيام الليل، ونسخ الاعتداد بحول كامل في حق المتوفى عنها زوجها، فإنه نسخ لا إلى بدل في وجه؛ لأن الاكتفاء باعتداد الزوجة أربعة أشهر وعشرًا لا يصلح بدلًا؛ لأنه يشترط في البدل أن يكون مساويًا للمبدل منه، وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، [البقرة: 106]، فالمراد نسخ لفظ الآية، وأن إسقاط الحكم المنسوخ خير من ثبوته. وقول الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "وليس ينسخ فرض أبدًا إلا أثبت مكانه فرض"، فالمراد أنه ينقل من حظر إلى إباحة، أو من إباحة إلى حظر، أو يخيّر على حسب الأحوال المفروض" (¬2). أنواع النسخ: ينقسم النسخ عدة أقسام باعتبارات متعددة، أهمها أربعة: التقسيم الأول: أنواع النسخ باعتبار البدل في الدليل الناسخ: ينقسم النسخ باعتبار البدل إلى ثلاثة أنواع، وهي: 1 - النسخ إلى الأخف: وهو نسخ الحكم الأغلظ إلى حكم أخف منه، ¬

_ (¬1) روى البخاري أنه إذا دخل وقت الفطر، فنام قبل أن يفطر، حَرُم الطعام والشراب وإتيان النساء إلى الليلة الآتية (صحيح البخاري 2/ 676 رقم 1816) وفي مكان آخر قال: "وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل اللَّه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (صحيح البخاري 4/ 1638 رقم 4238). (¬2) الرسالة ص 109، وانظر: المستصفى (1/ 119)، المعتمد (1/ 415)، البرهان (2/ 1313)، المحصول (3/ 479)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (2/ 87)، الإحكام للآمدي (3/ 135)، نهاية السول (2/ 177)، المسودة ص 198، روضة الناظر ص 82، شرح العضد (2/ 193)، فواتح الرحموت (2/ 69)، شرح الكوكب المنير (3/ 545)، شرح تنقيح الفصول ص 308، العدة (3/ 783)، إرشاد الفحول ص 187، (2/ 543 ط محققة) المدخل إلى مذهب أحمد ص 99، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 960).

مثل نسخ العدّة للمتوفى عنها زوجها من الحول الكامل إلى أربعة أشهر وعشر، ونسخ الحكم بوجوب مصابرة العشرين من المسلمين لمائتين من الكفار، والمائة لألف في الآية السابقة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} [الأنفال: 65]، إلى مصابرة المائة بمائتين، والألف من المسلمين لألفين من الكفار {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} [الأنفال: 66]، فأوجب مصابرة الضعف فقط، وهو أخف من الأول. 2 - النسخ إلى المساوي: وهو نسخ الحكم إلى حكم آخر يساويه في التخفيف والتغليظ، كنسخ استقبال بيت المقدس بالكعبة. وهذان النوعان متفق عليهما. 3 - النسخ إلى الأثقل: وهو أن ينسخ الحكم إلى حكم آخر أثقل منه على المكلف، أو أشد منه، أو أغلظ، وهذا مختلف فيه. فقال الجمهور بجوازه (¬1) كالعكس؛ لأن التكليف يرد على حسب ما يعلم اللَّه تعالى من المصالح للمكلف، وقد تكون المصلحة تارة في الأخف، وتارة في الثقل، والدليل على جوازه وقوعه فعلًا في الشرع، مثل الكف عن الكفار كان واجبًا بقوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]، ثم نسخ بإيجاب القتال، وهو أثقل، أي: أكثر مشقة، ولكنه فيه مصلحة أعظم ¬

_ (¬1) نسب بعض العلماء للشافعي بالمنع استنادًا إلى عبارته في "الرسالة": "إنَّ اللَّه فرض فرائض أثبتها، وأخرى نسخها رحمة وتخفيفًا لعباده" قال ابن برهان وغيره: وهذا الفهم ليس بصحيح؛ لأن عبارة الشافعي تطلق على اكثر من النسخ، وأنه لم يقصد ذلك، وإنما ذكره في الفرائض مما لم يلزم فأسقط، وقال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وليس في ذلك عن الشافعي شيء نقطع به، والظاهر أنه إنما أشار به إلى وجه الحكمة في النسخ، والصحيح الجواز؛ لأن النسخ للابتلاء، وقد يكون لمصلحة، تارة في النقل إلى ما هو أخف، وتارة أشق" (البحر المحيط 4/ 96).

بالشهادة والدعوة إلى الإسلام، وحماية الدين والأنفس والأعراض والأموال، ومثل نسخ الإمساك في البيوت للمرأة، والتعنيف للرجل في الزنا بالجلد والرجم (¬1)، ومثل نسخ وجوب صوم عاشوراء بصوم رمضان (¬2)، ومثل نسخ التخيير الذي كان في أول الإسلام بين الصوم والفدية بالمال بفرضية الصيام على قول (¬3)، ومثل نسخ تحليل الخمر بتحريمها، ونسخ نكاح المتعة بعد تجويزها على القول بأن ذلك نسخ. وخالف بعض الظاهرية وبعض الشافعية، وقالوا: لا يجوز النسخ إلى الأثقل والأغلظ والأشد، واستدلوا بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، بالبقرة: 106]، ولما فيه من التنفير. ويرد عليهم أن الناسخ والمنسوخ هما من اليسر، أو أن المراد اليسر في الآخرة، بيسر الحساب وتخفيفه، أو أن الأغلظ في الناسخ إنما هو بالنسبة إلى المنسوخ، وهو بالنسبة إلى غيره تخفيف ويسر، كما أن الخير في الآية الثانية ينطبق على أن الناسخ الأغلظ ثوابه أكثر، فهو خير من المنسوخ من هذه الحيثية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الفصول (3/ 7). (¬2) إن القول بوجوب صوم عاشوراء في أول الإسلام هو قول أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى، وأنه كان واجبًا، ولكن الشافعي وأحمد وغيرهما يقولون: إنه لم يكن واجبًا، وإنما كان متأكد الاستحباب (انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 550) والمراجع المشار إليها فيه كمرقاة المفاتيح (2/ 551)، المجموع شرح المهذب (6/ 363)، المغني لابن قدامة (3/ 104). (¬3) وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، [البقرة: 184]، قال سلمة بن الأكوع رضي اللَّه عنه: لما أنزلت هذه الآية كان من أراد أن يفطر يفطر ويفدي، حتى نزلت {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، [البقرة: 185]، أخرجه البخاري (4/ 1638 رقم 4236) ومسلم (8/ 20 رقم 1145). (¬4) المستصفى (1/ 120)، الإحكام للآمدي (3/ 137)، المعتمد (1/ 416)، المحصول (3/ 480)، التبصرة ص 458، الأحكام لابن حزم (4/ 466)، نهاية السول (2/ 177)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (2/ 87)، أصول السرخسي (2/ 62)، كشف الأسرار (3/ 187)، التلويح على التوضيح (2/ 36)، فواتح الرحموت (2/ 71)، شرح تنقيح =

التقسيم الثاني: أنواع النسخ باعتبار الحكم الشرعي: ينقسم النسخ باعتبار حكمه الشرعي إلى خمسة أنواع، وهي: 1 - نسخ الحكم بدون بدل، وهو ما سبق بيانه في عدم اشتراط البدل، كنسخ تقديم الصدقة بين مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو نسخ نهائي بلا بدل. 2 - نسخ الوجوب إلى الندب، كنسخ ثبات الواحد للعشرة إلى ثباته للاثنين، ولكن ثباته للعشرة يبقى مندوبًا، ونسخ وجوب قيام الليل فصار مندوبًا. 3 - نسخ الوجوب إلى الإباحة، كترك المباشرة بالليل للصائم بعد النوم، فصار مباحًا. 4 - نسخ التحريم إلى الإباحة، كنسخ تحريم زيارة القبور، وأصبحت مباحة، أو مندوبة أحيانًا، ونسخ تحريم ادّخار لحوم الأضاحي إلى إباحته. 5 - نسخ التخيير بين شيئين بإسقاط أحدهما وانحتام الآخر، كالتخيير في رمضان في أول الإسلام بين الصيام والفدية على قول ذكرناه سابقًا إلى انحتام الصوم (¬1). التقسيم الثالث: أنواع النسخ باعتبار قوة الدليل الناسخ: ينقسم النسخ باعتبار قوة الدليل الناسخ إلى ثلاثة أنواع، وهي: 1 - الناسخ والمنسوخ متساويان في القوة؛ وذلك كنسخ القرآن بالقرآن، ونسخ الحديث المتواتر بالحديث المتواتر، ونسخ خبر الآحاد بخبر الآحاد، وهذا باتفاق، وسوف نفصل ذلك في الحالات. أما الإجماع فلا يُنسخ بالإجماع، والقياس لا يُنسخ بالقياس عند جماهير العلماء. ¬

_ = الفصول ص 308، شرح العضد (2/ 193)، المسودة ص 201، روضة الناظر ص 82، شرح الكوكب المنير (3/ 549)، البحر المحيط (4/ 95)، الفصول (2/ 223)، العدة (3/ 785)، الحاوي للماوردي (20/ 135)، إرشاد الفحول ص 188 (2/ 545 ط محققة) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 961). (¬1) البحر المحيط (4/ 97)، الحاوي الكبير للماوردي (20/ 135).

2 - الناسخ أقوى من المنسوخ: يجوز نسخ الآحاد بالمتواتر، ويجوز نسخ السنة بالقرآن عند الجمهور خلافًا للشافعي رحمه اللَّه تعالى؛ لأنه ينكر نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن كما سنبين. 3 - الناسخ أضعف من المنسوخ: لا يصح النسخ بالأضعف في الجملة، أما في التفصيل فقال بعض العلماء بصحته ووقوعه، كنسخ الخبر المتواتر بالحديث المشهور عند الحنفية، ونسني القرآن بالسنة، ونسخ المتواتر بالآحاد عند الأكثرين (¬1)، وسنذكر تفصيل ذلك مع الأمثلة. التقسيم الرابع: أنواع النسخ بالنسبة للتلاوة والحكم: ينقسم نسخ القرآن بالقرآن باعتبار التلاوة والحكم بحسب كيفية وقوع النسخ، إلى ثلاثة أنواع، وهي: 1 - نسخ التلاوة والحكم: يجوز نسخ تلاوة آية ونسخ حكمها معًا، ودليله نسخ صحف إبراهيم ومن تقدم من الرسل عليهم السلام، فكانت نازلة تقرأ ويعمل بها، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)} [الشعراء: 196]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 - 19]، وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36 - 37]، ثم نسخت ولم يبق منها شيء في أيدينا لا تلاوة ولا عملًا، فيدل على انتساخ التلاوة والحكم معًا. ومثاله في شرعنا ما روته عائشة رضي اللَّه عنها قالت: "كان فيما أنزل من ¬

_ (¬1) الرسالة ص 106، المستصفى (1/ 124)، المعتمد (1/ 422)، البرهان (2/ 1307)، الإحكام للآمدي (3/ 146)، الإحكام لابن حزم (4/ 477)، المحصول (3/ 495)، البحر المحيط (4/ 108)، الفصول (2/ 323، 342)، أصول السرخسي (2/ 67)، كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 76)، شرح تنقيح الفصول ص 311، العدة (2/ 802)، المسودة ص 205، شرح الكوكب المنير (3/ 559)، نهاية السول (2/ 181)، إرشاد الفحول ص 190، (2/ 553 ط محققة)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي 2/ 963، أصول الأحكام ص 354.

القرآن: (عشر رضعات معلومات مُحَرِّمات) ثم نُسِخْنَ بخمس معلومات" (¬1)، فلم يبق هذا اللفظ في القرآن تلاوة، ونسخ حكم العشر، ولذلك يجوز للمحدث مسُّ ما نسخ لفظه، ويجوز للجنب والحائض قراءته (¬2). 2 - نسخ الحكم دون التلاوة: يجوز نسخ الحكم لإنهاء العمل به، مع بقاء الآية المنسوخة تُتلى في القرآن، وبقي اللفظ، وله حكم آيات القرآن في التلاوة، مثل آية المناجاة والصدقة بين يديها، ولم يعمل بهذه الآية المنسوخة قبل نسخها إلا علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ومثل الاعتداد في الوفاة بالحول الذي نسخ باعتداد بأربعة أشهر وعشر، ونسخ الوصية للوالدين والأقربين بآيات الميراث، ونسخ حبس المرأة في البيت وإيذاء الرجل باللسان في حد الزنا بآية الجلد والرجم. والفائدة من بقاء التلاوة لمعرفة تاريخ التشريع، والتدرج في الأحكام، وللإعجاز بنظم المنسوخ لغيره من الآيات. 3 - نسخ التلاوة دون الحكم: يجوز نسخ تلاوة كلمات أنزلت في القرآن مع بقاء حكمها الذي دلت عليه الكلمات المنسوخة، ومثاله ما رواه عمر رضي اللَّه عنه أنه قال: "إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أو يقول قائل: لا نجدُ حدَّين في كتاب اللَّه، فلقد رجم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب اللَّه، لأثبتها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) فإنا قد قرأناها" (¬3)، وفي رواية الصحيحين عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال: "كان فيما أُنزل آيةُ الرجم، فقرأناها وعقلناها، ورجم رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده" (¬4)، ولذلك أجمع العلماء على أن حد المحصن الرجم، فهذا الحكم باق، واللفظ مرتفع؛ لرجم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه مسلم (10/ 29 رقم 1452) وأبو داود (1/ 476) ومالك (الموطأ ص 376) والترمذي والدارمي. (¬2) انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب ص 44، 45، 60، شرح الكوكب المنير (3/ 557)، الحاوي للماوردي (20/ 134)، والمراجع التي سترد في النوع الثالث. (¬3) هذا الحديث أخرجه مالك والشافعي وابن ماجه (2/ 853). (¬4) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.

حالات النسخ في المصادر الشرعية

ماعزًا (¬1)، والغامدية (¬2)، واليهوديين" (¬3)، والمنسوخ يثبت بخبر الآحاد، ولا يشترط فيه التواتر (¬4). حالات النسخ في المصادر الشرعية: يقع النسخ في المصادر الشرعية، وقد يكون الناسخ والمنسوخ في مصدر واحد، كنسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، وهذا متفق عليه، وقد يكون في مصدرين كنسخ القرآن بالسنة، ونسخ السنة بالقرآن، وهما مختلف فيهما، كما سنذكره تفصيلًا، ويلحق بذلك نسخ الإجماع بالإجماع، ونسخ القياس بالقياس، وهو محل خلاف أيضًا. أولًا: نسخ القرآن بالقرآن: لا يجوز نسخ جميع القرآن باتفاق العلماء؛ لأنه معجزة الإسلام إلى الأبد، ولأن أحكامه تمثل آخر الشرائع، ولا يعقل رفع الشريعة وترك الناس بغير أحكام، قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "يمتنع نسخ جميع القرآن بالإجماع .. ، وأما نسخ بعضه فجائز" (¬5)، وقال ابن النجار الفتوحي رحمه اللَّه تعالى: "وأما نسخ جميع ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والإمام أحمد عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي اللَّه عنهما. (¬2) هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد عن بريدة رضي اللَّه عنه. (¬3) حديث رجم اليهوديين أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) المستصفى (1/ 123)، الإحكام للآمدي (3/ 141)، المحصول (3/ 483)، البحر المحيط (4/ 97، 103)، كشف الأسرار (3/ 188)، فتح الغفار (2/ 134)، فواتح الرحموت (2/ 73)، أصول السرخسي (2/ 78)، شرح العضد على ابن الحاجب (2/ 194)، التلويح على التوضيح (2/ 36)، شرح تنقيح الفضول ص 309، شرح الكوكب المنير (3/ 553)، المسودة ص 198، العدة (3/ 780)، الحاوي (20/ 134)، إرشاد الفحول ص 189 (2/ 548 ط محققة)، روضة الناظر ص 74، الفصول في الأصول (2/ 251)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 978)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 414)، فتح القدير للشوكاني (1/ 259). (¬5) البحر المحيط (4/ 102).

القرآن، فممتنع بالإجماع؛ لأنه معجزة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الأبد، قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، أي: لا يأتيه ما يبطله" (¬1). ولذلك وضع العلماء شروطًا للنسخ حتى لا يقع التغالي والتوسع في آي القرآن الكريم، وخاصة إذا أمكن الجمع والتوفيق بين الآيات، وإن كان بعض العلماء يطلقون النسخ على التخصيص أو التقييد، ولذلك كانت مواطن النسخ قليلة ومحدودة ومعدودة كما ذكرناها في أول البحث. واتفق العلماء على جواز نسخ بعض القرآن ببعض (¬2)، وهو نسخ القرآن بالقرآن، لتساويه في العلم القطعي ووجوب العمل، ولوقوعه فعلًا في القرآن، كما ذكرنا سابقًا. فمن ذلك: نسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بآيات المواريث، وهذا ما بينه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزلت آيات الميراث: "إن اللَّه أعطى كل ذي حقّ حقَّه، فلا وصية لوارث" (¬3). ومن ذلك: نسخ تحريم نكاح الزانية الوارد في قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، وثبت نسخه بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، فيحل نكاح الأيم ولو كانت زانية. ومن ذلك: نسخ الاعتداد بالحول في الوفاة بأربعة أشهر وعشر، كما سبق. ومن ذلك: نسخ وجوب ثبوت الواحد في القتال للعشرة بضرورة ثبات المسلم أمام اثنين فقط، كما سبق. ومن ذلك: نسخ تقديم الصدقة بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمناجاته بإلغائها ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (3/ 553 - 554). (¬2) سبق التنويه إلى النقل بالمنع عن أبي مسلم الأصفهاني، وأن ذلك اختلاف لفظي واصطلاحي، وأنه موافق على المبدأ. (¬3) هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن اثني عشر صحابيًّا منهم أبو أمامة الباهلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرسله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة من التابعين.

ثانيا: نسخ السنة بالسنة

نهائيًّا، كما سبق (¬1). ثانيًا: نسخ السنة بالسنة: اتفق العلماء على جواز نسخ السنة بالسنة إجمالًا، وأما التفصيل ففيه حالتان: الأولى: 1 - نسخ المتواتر بالمتواتر، 2 - نسخ المتواتر بالآحاد، 3 - ونسخ الآحاد بالمتواتر، 4 - أضاف الحنفية نسخ المتواتر بالمشهور، فجائز عقلًا، ولكن لم يقع فعلًا حتى نقل بعضهم الإجماع عليه، لعدم وجوده، ولأن التواتر هو في السند، ويكون لاحقًا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعظم السنة آحاد، والمتواتر قليل. وقال الظاهرية، ورواية عن أحمد والطوفي من الحنابلة، والباجي والقرطبي من المالكية، بوقوع نسخ المتواتر بالآحاد، واحتجوا بأن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسنة المتواترة؛ لأنه لم يثبت بالقرآن ما يدل عليه، وثبت بالسنة، وتواتر إلى جميع المسلمين، وكان الصحابة يصلون إلى بيت المقدس بالخبر المتواتر، ومن ذلك مسجد ذي القبلتين، فأتاهم رجل، وأخبرهم أن: "القبلة قد تحولت إلى الكعبة"، فاستداروا وهم في صلاتهم، وقبلوا خبر الواحد لنسخ المتواتر، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرسل الآحاد لتبليغ الأحكام، وفيها الناسخ والمنسوخ المتواتر. وقالوا: إن القرآن ينسخ بالسنة بحديث الأحاد، كما سيأتي، فإذا ثبت نسخ الكتاب بخبر الآحاد، جاز نسخ السنة المتواترة بخبر الآحاد (¬2). ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (3/ 146)، المستصفى (1/ 124)، البرهان (2/ 1307)، المحصول (3/ 495)، نهاية السول (2/ 181)، المعتمد (1/ 422)، أصول السرخسي (2/ 67)، كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 76)، شرح العضد (2/ 195)، شرح تنقيح الفصول ص 311، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 964)، أصول الأحكام ص 345. (¬2) قال الباجي والقرطبي: وقوع ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بعده، وأيده الغزالي والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني. انظر: الإحكام لابن حزم (4/ 477)، البحر المحيط (4/ 109)، شرح الكوكب المنير (3/ 561)، إرشاد الفحول (2/ 554) ط ح =

ثالثا: نسخ السنة بالقرآن

وردّ الجمهور عليهم بأن قصة مسجد ذي القبلتين هي أصلًا من أخبار الآحاد، وعلى فرض ثبوتها، فلعله انضم إليها ما يفيد العلم كقربهم من مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسماعهم ضجة الناس، وترقبهم تحول القبلة إلى البيت الحرام، وأن إرسال الآحاد للتبليغ، فيجوز فيه خبر الآحاد، وليس فيه دلالة على وقوع نسخ المتواتر بالآحاد، وأن نسخ القرآن بالسنة الآحاد فيه خلاف، ويحمل في الغالب على التخصيص، لا على النسخ. الحالة الثانية: نسخ خبر الآحاد بخبر الآحاد، وهذا جائز شرعًا، وواقع فعلًا، وسبقت أدلته، كنسخ تحريم زيارة القبور، ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في شارب الخمر: "فإن شربها الرابعة فاقتلوه" (¬1)، ثم نسخ بحديث آحاد وفيه "أنه حمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله" (¬2)، وله أمثلة أخرى (¬3). ثالثًا: نسخ السنة بالقرآن: اختلف العلماء في نسخ السنة بالقرآن على قولين: القول الأول: جواز نسخ السنة بالقرآن، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية، وكئير من الشافعية، واستدلوا على ذلك بوقوعه فعلًا في عدة أمثلة: 1 - نسخ استقبال القبلة إلى بيت المقدس المقرر بالسنة، بقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ ¬

_ = محققة، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 968). (¬1) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد (2/ 191) عن ابن عمر، ورواه أبو داود عن معاوية وابن عمر وأبي هريرة (2/ 473) ورواه الترمذي والدارمي. (¬2) هذا الحديث رواه أبو داود عن قبيصة، وفي آخره: "ورفع القتل، وكان رخصة" (سنن أبي داود 2/ 474)، وذكره الترمذي بمعناه. (¬3) المراجع السابقة في الصفحة السابقة هامش 5، وانظر: شرح الكوكب المنير (3/ 560)، البحر المحيط (4/ 108)، إرشاد الفحول (2/ 553) ط محققة، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 967)، أصول الأحكام ص 355.

الْحَرَامِ}، [البقرة: 144]، فنسخت الآية التوجه إلى بيت المقدس. 2 - نسخ ما جاء في صلح الحديبية بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة (6 هـ) من أن "إذا أتى محمدًا واحد منهم بغير إذن وليه رذه محمد إليه"، فنسخ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، فالآية نسخت ما ثبت بالسنة. 3 - إن آية تحريم الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، نسخت تحليل الخمر المفهوم من السنة، وتحريم المباشرة في ليالي الصوم الثابت في السنة نسخ بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، ووجوب صوم يوم عاشوراء الثابت بالسنة في قول نسخ بفرض صيام رمضان في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. القول الثاني: منع نسخ السنة بالقرآن، وهو قول الشافعي رحمه اللَّه تعالى، وقال: وسنة رسول اللَّه لا ينسخها إلا سنة لرسول اللَّه، ويفترض الشافعي أن سنة أخرى نسخت السنة السابقة؛ لأن وظيفة الرسول البيان لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، واحتاط الشافعي للدفاع عن السنة، وهو ناصر الحديث أو ناصر السنة، بالخوف من ترك السنة بدعوى معارضتها للقرآن بدافع الهوى والتشهي كما حصل في القرن الثاني الهجري، ويحدث الآن، علمًا بأن الشافعي رحمه اللَّه تعالى يوافق الجمهور في جميع الأحكام السابقة الثابتة في الآيات الكريمة، وانتهاء العمل بالأحكام الثابتة في الأحاديث السابقة (¬1). ولذلك يظهر أن الخلاف لفظي، واصطلاحي، والخلاف محصور في ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 124)، الإحكام للآمدي (3/ 146)، المعتمد (1/ 422)، البرهان (2/ 1307)، المحصول (3/ 495)، أصول السرخسي (2/ 76)، كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 76)، شرح العضد (2/ 195)، الإحكام لابن حزم (4/ 477)، شرح تنقيح الفصول ص 311، العدة (3/ 802)، المسودة ص 205، شرح الكوكب المنير (3/ 559، 560)، إرشاد الفحول ص 190 (2/ 559 ط محققة) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 969)، أصول الأحكام ص 356، البحر المحيط (4/ 109).

رابعا: نسخ القرآن بالسنة

الدليل الناسخ فقط، هل هو سنة ثانية، أم بالقرآن نفسه. رابعًا: نسخ القرآن بالسُّنة: القرآن الكريم متواتر، وثابت قطعًا، والسنة منها المتواتر وهو ثابت قطعًا، ومنها المشهور عند الحنفية وهو الذي كان آحادًا من الصحابة، ثم صار متواترًا بعدهم، وخبر الآحاد الذي رواه في مختلف طبقاته عدد لم يبلغ عدد التواتر، وهو ظني الثبوت. وسبقت الإشارة إلى الاختلاف في اشتراط قوة الدليل الناسخ بالسنة للمنسوخ، ومن ذلك نسخ القرآن بالسنة، وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين (¬1): القول الأول: يجوز نسخ آية من القرآن بالسنة عقلًا، ووقع ذلك شرعًا، وهو رأي جمهور العلماء، وهم الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة، والظاهرية، لاستفاضتها، ولكن الحنفية أجازوا نسخ القرآن بالسنة المتواترة أو المشهورة بين الناس، والمالكية وبعض الحنابلة حصروا ذلك بالمتواتر، وذهب ابن حزم الظاهري إلى جواز نسخ القرآن بالمتواتر وخبر الآحاد؛ لأن خبر الآحاد عنده قطعي كالمتواتر، واستدل أصحاب هذا القول بأمثلة واقعية، منها: 1 - إن حديث "لا وصية لوارث" (¬2)، نسخ آية الوصية للوالدين والأقربين في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180]. ويرد هذا الاستدلال بأن الناسخ لوجوب الوصية هو آية المواريث، وهو ¬

_ (¬1) هناك أقوال أخرى لبعض العلماء، فذهب جماعة إلى أن ذلك جائز في العقل، ثع ورد الشرع بمنعه في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]، والسنة ليست خيرًا من القرآن ولا مثله، وقال جماعة: يجوز نسخ القرآن بالسنة عقلًا، ولكنه لم يرد في الشرع، فلا يوجد آي في القرآن منسوخة بالسنة، انظر البحر المحيط (4/ 111)، شرح الكوكب المنير (3/ 562)، والمراجع المشار إليها في الهامش، الفصول في الأصول (2/ 345). (¬2) هذا الحديث سبق بيانه، وانظر: نيل الأوطار (6/ 45).

ما صرّح به الصحابي ابن عباس رضي اللَّه عنهما حيث قال: "إنَّ الذي نسخ آية الوصية آيةُ المواريث" (¬1)، وقال بعض العلماء: لا نسخ في الآية؛ لأنه يمكن الجمع بين آية الوصية والحديث، أو بين آية الو صية وآيات المواريث بحمل الوصية على غير الوارث، وكون آيات المواريث للوالدين والأقربين الوارثين. 2 - إن الأحاديث الثابتة برجم الزاني المحصن نسخت جلد الزاني المحصن الثابت بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. ويرد على ذلك أن آية الرجم "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" هي الناسخة لآية الجلد، أو أن أحاديث الرجم هي مخصصة للآية، وليست من قبيل النسخ. 3 - قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، فهذه الآية حرمت ثلاثة أمور، وأفادت إباحة أكل ما عداها، فَنُسِخ بعض هذا بالأحاديث التي "نهى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي نابٍ من السّباع، وكل ذي مِخْلَبٍ من الطير" (¬2)، فهذا نسخ للقرآن بالسنة (¬3). ويرد على ذلك أن هذا تخصيص للآية، وليس نسخًا لها. القول الثاني: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وهو رأي الشافعي وأكثر أصحابه، والمشهور عن الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى (¬4)، سواء كانت السنة متواترة أو ¬

_ (¬1) الدارمي (كتاب الوصايا باب 82) وأبو داود 2/ 103 (كتاب الوصايا، باب 5). (¬2) هذا الحديث رواه مسلم (13/ 83) وأبو داود (2/ 319) عن ابن عباس، ورواه البخاري (5/ 52) عن أبي ثعلبة الخشني رضي اللَّه عنهم. (¬3) كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 78)، أصول السرخسي (2/ 67)، المعتمد (1/ 324)، الإحكام لابن حزم (477/ 4)، البحر المحيط (4/ 111)، الفصول في الأصول (2/ 345)، إرشاد الفحول ص 191، البحر المحيط (4/ 115). (¬4) قال ابن مفلح رحمه اللَّه تعالى: "ظاهر كلام أحمد منعه" وقال ابن النجار: "وأما الجواز شرعًا فالمشهور عن أحمد رحمه اللَّه منعه" شرح الكوكب المنير (3/ 562)، وانظر: المسودة ص 202، روضة الناظر ص 84، العدة (2/ 788)، إرشاد الفحول ص 191.

مشهورة، أو خبر آحاد. قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "لا يَنْسخ كتابَ اللَّه إلا كتابهُ ... فهو المزيل المثبت لما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه" ثم قال: "وهكذا سنة رسول اللَّه: لا ينسخها إلا سنة لرسول اللَّه" (¬1). واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، أهمها: 1 - قال اللَّه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]، قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "فأخبر اللَّه أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله" (¬2)؛ لأن السنة ليست بخير من القرآن، ولا مثله، فلا تكون ناسخة له، ودلت آخر الآية أن اختصاص التبديل محصور بمن له القدرة الكاملة، وهو اللَّه تعالى، فكان النسخ بكلامه وهو القرآن، لا السنة. واعترض على ذلك أن السنة من عند اللَّه تعالى كالقرآن؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى}، [النجم: 3 - 4]. لكن القرآن معجز ومتعبد بتلاوته وهو كلام اللَّه تعالى، وليست السنة كذلك، وأن المراد بالخيرية والمثلية هو في الحكم بحسب مصلحة الناس، لا باللفظ، وقد يكون الناسخ في السنة أنفع للمكلف بكثرة الثواب وغيره. 2 - قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، فصرح القرآن أن اللَّه يبدل آية بآية، فلا تكون السنة ناسخة لآية. 3 - قال اللَّه تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، فالسنة لا تكون بديلًا عن القرآن، والتبديل لا يكون من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) الرسالة ص 106، وانظر: الإحكام للآمدي (3/ 153)، المحصول (3/ 519)، نهاية السول (2/ 181)، المستصفى (1/ 124)، الحاوي (20/ 132). (¬2) الرسالة ص 106.

4 - قال اللَّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فالسنة مبيّنة للقرآن، لا ناسخة له، ووظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - البيان فقط للقرآن، فلا يصح نسخ القرآن بالسنة. وردّ على الاستدلال بالآيات الثلاث أن ما يأتي به رسول اللَّه هو من عند اللَّه، وأن التبديل من اللَّه، ويبينه الرسول، وأن النسخ نوع من البيان؛ لأنه بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه، والسنة مبيّنة للقرآن، فلا مانع من كونها ناسخة له، وأن التبديل يكون للرسم والتلاوة، والمراد هنا نسخ الحكم الذي ورد في الآية بحكم ورد في السنة (¬1). وأرى أن الخلاف لفظي واصطلاحي، ولم يترتب عليه اختلاف في الأحكام، وأن ما يسميه الشافعي رحمه اللَّه تعالى نسخًا يسميه الحنفية وغيرهم تخصيصًا، وأن الشافعي يرى أن اللَّه ينسخ بآية أخرى، ثم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - النسخ والعمل بها. وقد استغرب بعض العلماء موقف الشافعي في ذلك، وهو المعروف بناصر السنة، أو ناصر الحديث، ثم يمنع نسخ القرآن بالسنة، ويخالف الجمهور في ذلك؟ (¬2). والمتأمل في آراء الشافعي رحمه اللَّه يدرك أنه لا ينتقص السنة، ولا يشكك بذرة فيها، ولكنه يعتقد أن القرآن كلام اللَّه تعالى لا يشبهه شيء، ولا يصل إلى مكانته كلام البشر، ولو كان صادرًا من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ويعتقد أن ¬

_ (¬1) الرسالة ص 106، الإحكام للآمدي (3/ 153)، المستصفى (1/ 124)، المحصول (3/ 519)، نهاية السول (2/ 181)، الحاوي (20/ 132)، شرح الكوكب المنير (3/ 562)، المسودة ص 202، روضة الناظر ص 84، العدة (2/ 288)، كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 78)، أصول السرخسي (2/ 67)، المعتمد (1/ 324)، البحر المحيط (4/ 111)، الإحكام لابن حزم (4/ 477)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 971)، أصول الأحكام ص 358، إرشاد الفحول ص 191. (¬2) انظر أقوال الكيا الهراسي والقاضي عبد الجبار بن أحمد وغيرهما وأقوال العلماء في الرد عليهم في البحر المحيط (4/ 112، 116)، إرشاد الفحول ص 191.

وجوه معرفة النسخ والناسخ

رسول اللَّه هو المبيّن عن ربه كلامه وأحكامه، وأنه يعرف يقينًا مراد اللَّه في كتابه، وأن بعض الآيات تنسخ أخرى ولو ضمنًا، فيبينها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في السنة، فيكون النسخ للقرآن بالقرآن، والسنة تبين ذلك وتكشفه، بدليل أنه لم يظهر أثر للاختلاف، وأن الشافعي يوافق سائر الأئمة فيما قالوا بنسخها، قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وهذا تعظيم عظيم، وأدب مع الكتاب والسنة، وفهم بموقع أحدهما من الآخر" (¬1). وجوه معرفة النسخ والناسخ: إذا ورد في النصوص الشرعية نصان متعارضان، ولم يمكن الجمع بينهما بحال، وتحققت شروط النسخ السابقة، فيكون أحدهما ناسخًا، والآخر منسوخًا؛ لأنه لا تعارض ولا تناقض في الشريعة؛ لأنه يمتنع اجتماع الأمرين المتعارضين في حال واحدة لشخص واحد. ويعرف النسخ والناسخ إما بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع، أو بأحد دلائل الأصول الأخرى، وهي: 1 - الكتاب: يعرف النسخ والناسخ بالكتاب بأحد الوجوه التالية؛ لأنه إذا تقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر، فيكون المتقدم منسوخًا، والمتأخر ناسخًا، والمراد من التقدم التقدم في التنزيل، لا في التلاوة، فإن العدة بأربعة أشهر سابقة في التلاوة على العدة بالحول، مع أنها ناسخة لها، كما سبق بيانه، وهذا له وجهان: أ- مقتضى اللفظ الصريح الذي يدل على النسخ، كقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]؛ فإنه يقتضي نسخ ما جاء في الآية قبلها {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65]، فالأولى تقتضي صراحة نسخ ثبات الواحد للعشرة، وقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187]، فإنه يقتضي صراحة نسخ الإمساك بعد الفطر، وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} ¬

_ (¬1) البحر المحيط: (4/ 115).

2 - السنة

ب- التنبيه في القرآن، بأن يذكر لفظًا يتضمن التنبيه على النسخ، كما في نسخ الإمساك للزناة في البيوت، الذي جاء ضمنًا في حد الزنا، قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} وقال تعالى بعد ذلك مباشرة: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، ثم نزل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وبيَّن ذلك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلًا" (¬1)، أي: بالحدّ في آية النور (¬2). د- الاستدلال، وذلك بأن تكون إحدى الآيتين مكية، والأخرى مدنية، فيكون المنزل في المدينة ناسخًا للمنزل بمكة، وكذلك ما ذكرناه مما كان متقدمًا في التنزيل فيكون منسوخًا بما ثبت تأخره بدليل صحيح. 2 - السنة: يعرف النسخ والناسخ بالسنة بأحد الوجوه التالية: أ- التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: هذا ناسخ أو ما في معناه، كقوله: "كنتُ نَهَيْتُكُم عن زيارةِ القُبورِ، فزُورُوها" (¬3)، فهذا يفيد أنه سبق النهي عن الزيارة، ثم أمر بها، فيكون الأمر ناسخًا للنهي المتقدم، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي من أجل الدافَّة، فكلوا وادّخروا" (¬4). ب- فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، كرجمه ماعزًا، ولم يجلده، فإنه ناسخ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيّب بالثيّب جلد مائة ورجمٌ بالحجارة" (¬5)، ومثل عدم قتله لشارب الخمر ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه مرفوعًا (نيل الأوطار 7/ 92). (¬2) يرى الحنفية أن آيات اللعان [النور: 6 - 10] نسخت حد القذف جزئيًّا عن الزوج [النور: 5 - 4]، انظر: الفصول (2/ 274)، ويرى الجمهور أن ذلك تخصيص لا نسخ. (¬3) هذا الحديث سبق بيانه. (¬4) هذا الحديث سبق بيانه. (¬5) هذا جزء من حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه، الذي مر قبل قليل.

3 - الإجماع

بعد شربه الرابعة، فإنه ناسخ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شرب الرابعة فاقتلوه" (¬1)، ومثله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أكل لحمًا ولم يتوضأ" (¬2)، فإنه نسخ قوله: "توضؤوا مما مست النار" (¬3). وقال أكثر الأصوليين: إن الفعل لا ينسخ القول، وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ بالقول، فيكون القول منسوخًا بمثله من القول، لكن الفعل بيَّن ذلك القول. 3 - الإجماع: قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر -عن الرسول- آخر مؤقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر، أو بقول من سمع الحديث، أو العامة" (¬4)، وقال العلماء: يكون الإجماع مبيّنًا لا ناسخًا، وقالوا: يستدل بالإجماع على أن معه خبرًا به وقع النسخ، لكن قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "والتحقيق أن الإجماع لا ينسخ به؛ لأنه لا ينعقد إلا بعد الرسول، وبعده يرتفع النسخ، وإنما النسخ يرفع بدليل الإجماع، وعلى هذا ينزل نص الشافعي والأصحاب" (¬5). ومثال ذلك نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان بالإجماع، ونسخ الحقوق المتعلقة بالمال بفريضة الزكاة بالإجماع. 4 - نقل الصحابي (¬6): ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه أحمد عن ابن عمرو رضي اللَّه عنه، وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن معاوية رضي اللَّه عنه، وأبو داود والترمذي بمعناه عن قبيصة، وغيرهم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه (نيل الأوطار 7/ 155). (¬2) هذا الحديث رواه مسلم والنسائي وأبو داود عن أم سلمة وجابر رضي اللَّه عنهم، وانظر: نيل الأوطار (1/ 239). (¬3) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) البحر المحيط (4/ 153). (¬5) البحر المحيط (4/ 154)، وانظر نفس المعنى في: الفصول في الأصول (2/ 290)، شرح الكوكب المنير (3/ 564). (¬6) قال الحنفية: إن رواية التابعي في ذلك كالصحابي، انظر: الفصول في الأصول =

مسائل في النسخ

إذا نقل الصحابي رواية بتقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر، فيكون المتأخر ناسخًا للمتقدم؛ لأنه لا مدخل للاجتهاد في ذلك، كما لو روى صحابي أن أحد الحكمين شرع بمكة، والآخر بالمدينة، أو أن أحدهما في غزوة بدر، والثاني في عام الفتح، أو قال: نزلت آية كذا بعد آية كذا، أو قال: كان آخر الأمرين من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كذا، كقول جابر رضي اللَّه عنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مسَّت النار" (¬1)، وكقول أبيّ بن كعب رضي اللَّه عنه: "كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام، ثم أمر بالغسل" (¬2)، فالمتأخر ينسخ المتقدم. 5 - كون أحد الحكمين شرعيًّا، والآخر حسب العادات السابقة، فيكون الحكم الشرعي ناسخًا للعادة. والخلاصة أن معرفة الناسخ تكون إما بلفظ النسخ أو ما في معناه، أو بالتاريخ المتأخر لما يعارضه (¬3). مسائل في النسخ: ورد في مباحث النسخ عدة مسائل يذكرها العلماء، ويتوسعون بها، وهي ¬

_ = (2/ 288، 298). (¬1) هذا الحديث رواه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان (نيل الأوطار 1/ 237). (¬2) هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود (نيل الأوطار 1/ 261). (¬3) لا يعتبر من طرق النسخ قول الصحابي: كان الحكم كذا ثم نسخ (عند الشافعية)، ولا بتقدم الحكم في التلاوة في المصحف، ولا بكون الراوي من أحداث الصحابة، أو كونه أسلم متأخرًا، ولا بتقدم الصحبة أو تأخرها، ولا بكون النص متفقًا مع البراءة الأصلية لاحتمال أنه نسخ بعد ذلك. انظر: الفصول (2/ 273 - 292)، البحر المحيط (4/ 152 - 160)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 995)، إرشاد الفحول ص 197 (2/ 572 ط محققة) شرح الكوكب المنير (3/ 563)، العضد (2/ 196)، الأحكام، للآمدي (3/ 181)، فواتح الرحموت (2/ 95)، المستصفى (1/ 128)، العدة (3/ 829)، الإحكام لابن حزم (4/ 459)، روضة الناظر ص 88، المعتمد (1/ 449)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 100، المسودة ص 228، المحصول (3/ 566)، الحاوي (20/ 138).

1 - النسخ قبل التمكن من الفعل أو قبل العلم به

إما مسائل تاريخية قد انتهى أمدها، ولا فائدة من عرضها ودراستها، كالنسخ قبل التمكن من الفعل، والنسخ قبل علم المكلف بالحكم، وإما أنها مسائل اصطلاحية، والاختلاف فيها لفظي واصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا يترتب عليها حكم شرعي. ونشير باختصار شديد إلى بيان بعضها: 1 - النسخ قبل التمكن من الفعل أو قبل العلم به: اتفق العلماء على جواز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به، سواء عمل به كل الناس كاستقبال بيت المقدس، أو عمل به بعضهم كتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واتفقوا على جواز النسخ بعد العلم بالفعل والتمكن منه. واختلفوا في وقوع النسخ قبل العلم بالحكم كنسخ فرض خمسين صلاة إلى خمس صلوات ليلة الإسراء والمعراج قبل علم المكلفين بالتكليف بالخمسين، فبعضهم اعتبره نسخًا، وأنه يكفي أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، وهو أحد المكلفين، ومنع ذلك غيرهم، وفصل آخرون. واختلفوا في وقوع النسخ قبل التمكن من الفعل كالمثال السابق فقد علمه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وقبل التمكن من الفعل نسخ إلى خمس صلوات، وأنكر بعضهم أن يكون ذلك نسخًا، ومثل أمر اللَّه تعالى سيدنا إبراهيم بذبح ولده، ثم نسخ ذلك عنه قبل أن يتمكن من الذبح، وفي ذلك أدلة ومناقشات لا فائدة منها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في: كشف الأسرار (3/ 169)، أصول السرخسي (2/ 62)، فواتح الرحموت (2/ 63)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3/ 132)، المعتمد (1/ 412)، المستصفى (1/ 112، 123)، المحصول (3/ 467)، شرح تنقيح الفصول ص 307، الإحكام لابن حزم (4/ 472)، نهاية السول (2/ 173)، العضد على ابن الحاجب (2/ 198)، البرهان (3/ 1303)، العدة (3/ 807)، شرح الكوكب المنير (3/ 530، 531)، إرشاد الفحول ص 186 (2/ 541 / 542 ط محققة) الفصول (2/ 233)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 68، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 957)، الحاوي، الماوردي (20/ 136). =

2 - النسخ بالزيادة على النص

2 - النسخ بالزيادة على النص: إذا وردت زيادة غير مستقلة، ومتأخرة عن النص، فتكون نسخًا عند الحنفية، وليست نسخًا عند الجمهور، وإنما يعمل بها وتضاف لما سبق دون نسخ، مثل حديث "إنما الأعمال بالنيات" (¬1)، فهو زيادة على مضمون آية الوضوء، ومثل حديث التغريب للزاني غير المحصن (¬2)، فهو زيادة على حد الجلد في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، واشتراط الطهارة في الطوات في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف بالبيت صلاة" (¬3)، فهو زيادة على قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، ومثل وصف الرقبة بالإيمان للعتق في كفارة اليمين وكفارة الظهار، فهو زيادة على النص القرآني المطلق عن التقييد بهذا الوصف {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، [المجادلة: 3، المائدة: 89]. وهذا خلاف اصطلاحي، فالجمهور يعتبرونه تخصيصًا، والحنفية يعتبرونه نسخًا مع بعض الآثار في ذلك كقبول خبر الواحد في التخصيص دون النسخ، ولكل أدلته ومناقشته (¬4). 3 - نسخ الأخبار: إذا كان الخبر يتضمن حكمًا شرعيًّا تكليفيًّا، فيجوز نسخه باتفاق؛ لأنه ¬

_ (¬1) هذا حديث مشهور، اتفق العلماء على صحته، ورواه أصحاب الصحاح والسنن. (¬2) وهو الوارد في حديث عبادة رضي اللَّه عنه "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وسبق بيانه. (¬3) هذا الحديث رواه الحاكم وصححه، والبيهقي وحسنه، والطبراني وأبو نعيم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬4) انظر: كشف الأسرار (2/ 911)، أصول السرخسي (2/ 82)، المعتمد (1/ 437)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 98، إرشاد الفحول ص 194 وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 981)، الفصول (2/ 315)، شرح الكوكب المنير (3/ 581)، العضد (2/ 201)، المحصول (3/ 542)، شرح تنقيح الفصول ص 317، نهاية السول (2/ 190)، المسودة ص 207، روضة الناظر ص 79، المستصفى (1/ 117).

4 - نسخ المنطوق والمفهوم

في معنى الأمر، أو النهي، كما لو قال أمرتكم، أو نهيتكم. أما إذا كان الخبر حقيقيًّا لبيان المخبر عنه، فقال الجمهور: لا يصح نسخه بتكليف المكلف بما ينافي الخبر، واعتقاد عكس المخبر به، فكأنه تجويز للكذب والغلط، ويؤدي إلى البَداء والجهل، وفصل آخرون في نوع الأخبار، فأجازوا نسخ بعضها دون الآخر، ولكل دليله ومناقشته، ولا فائدة عملية من ذلك (¬1). 4 - نسخ المنطوق والمفهوم: ذكرنا سابقًا أن دلالة اللفظ على الحكم إما أن تكون بمنطوقه، وتسمى دلالة المنطوق، وإما أن تكون بمفهومه، وتسمى دلالة المفهوم، والمفهوم إما أن يكون حكمه موافقًا لحكم المنطوق، ويسمى -عند المتكلمين- مفهوم الموافقة، أو فحوى الخطاب، أو تنبيه الخطاب، ويسمى عند الحنفية دلالة النص، كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فيدل بمنطوقه على تحريم التأفف، وبمفهومه على تحريم الضرب، وإما أن يكون المفهوم مخالفًا لحكم المنطوق، ويسمى مفهوم المخالفة، أو دليل الخطاب، أو لحن الخطاب. ودلالة المنطوق تغاير دلالة المفهوم، لكن بينهما تلازم، فهل يمكن نسخ أحدهما دون الآخر؟ اتفق الأصوليون على جواز نسخ حكم المنطوق والمفهوم الموافق معًا، ثم اختلفوا في جواز نسخ أحدهما دون الآخر، فقال بعضهم: يجوز نسخ أحدهما دون الآخر، وقال آخرون لا يجوز نسخ أحدهما دون الآخر، وقال ¬

_ (¬1) المعتمد (1/ 419)، أصول السرخسي (2/ 59)، إرشاد الفحول ص 188، الفصول (2/ 205)، شرح الكوكب المنير (3/ 538، 541)، فواتح الرحموت (2/ 75)، الإحكام للآمدي (3/ 144)، المعتمد (1/ 421)، العضد على ابن الحاجب (2/ 195)، الإحكام لابن حزم (3/ 144)، المسودة ع 196، العدة (3/ 825)، شرح تنقيح الفصول ص 309، المحصول (3/ 486)، نهاية السول (2/ 178)، كشف الأسرار (3/ 163)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 990).

فريق ثالث: إن نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق، وأما نسخ المنطوق فلا يستلزم نسخ المفهوم، وقال فريق رابع: إذا نسخ المنطوق نسخ مفهوم الموافقة؛ لأن الأول أصل للثاني، ولكن إذا نسخ المفهوم، فلا يلزم نسخ أصله المنطوق؛ لأن المفهوم فرع، ونسخه لا يلزم منه نسخ حكم الأصل، ولكل رأي تعليله، مما لا فائدة عملية من ذلك، فهو بحث نظري فكري مما لا طائل تحته (¬1). وبعد: فإننا نلاحظ أن مباحث النسخ مهمة، وأنها تطبق عمليًّا في الحياة في جميع الأنظمة واللوائح والقوانين، ولكن النسخ في الشرع انتهى أمده، وأغلق بابه بختم النبوة، وانقطاع الوحي، وأن بعض العلماء توسع في النسخ كثيرًا حتى اعتبر أكثر أنواع التخصيص نسخًا، وقيده آخرون وحصروه في حالات، وهو الراجح في نظري، ويجب ألا يفتح باب النسخ بمعناه الاصطلاحي أو العرفي تجاه النصوص الشرعية، ويكفي معرفة الأحكام المنسوخة حتى لا يفتى بها أو يعمل بها. ¬

_ (¬1) انظر: المعتمد (1/ 436)، الإحكام للآمدي (3/ 165)، إرشاد الفحول ص 194، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 987)، شرح الكوكب المنير (3/ 576)، فواتح الرحموت (2/ 87)، شرح العضد (2/ 200)، المحصول (3/ 539)، نهاية السول (2/ 188)، شرح تنقيح الفصول ص 315، المسودة ص 221، روضة الناظر ص 88.

الباب الرابع الاجتهاد والتقليد والإفتاء

الباب الرابع الاجتهاد والتقليد والإفتاء تمهيد: إن من المقرر شرعًا أن كل حادثة أو واقعة في الكون أو أمر في الدنيا يتعلق بالإنسان له حكم شرعي عند اللَّه تعالى، عَرَفه من عَرَفه، وجهله من جهله، وأنه يجب على علماء الأمة أن يبيِّنوا ذلك حتمًا لازمًا، وفرضًا مؤكدًا، وهذا أمر غير محدود ولا محصور، ولا ينتهي مع التقدم والتطور. وإن النصوص الواردة في القرآن والسنة لبيان الأحكام الشرعية محدودة ومحصورة، وإن أحداث الكون التي تتلعق بالإنسان في مختلف الأزمنة والأمكنة، ومع تطور الحياة، وتقدم العلوم، ورقي الأمم والحضارات، غير محدودة ولا محصورة. وإن المحدود والمحصور لا يحيط بغير المحدود وغير المحصور، وهذا يقتضي حتمًا أن يكون مع القرآن والسنة مصدر شرعي مقرر ومقبول يبين أحكام الحوادث التي لم يرد فيها نص، ويوجب حتمًا أن يوجد في الأمة من تتوفر فيه الأهلية لذلك. وهذا ما أدركه صحابة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الذين تربوا في مدرسة النبوّة، وتخرجوا على يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وعرفوا مقاصد الشريعة وأهدافها وغاياتها وأسرارها، ولذلك لما عيَّن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مُعاذَ بن جَبَل رضي اللَّه عنه على القضاء أراد اختباره، وسأله: "كَيْفَ تقضي إنْ عَرَضَ لك القضاءُ يا معاذُ؟ " فأجابَ: أقضي بكتابِ اللَّه تعالى، قالَ: "فإنْ لم تجِدْ في كتاب اللَّه؟ " قال: فبسنَّةِ رسولِ اللَّه، قال: "فإنْ لم تجدْ في سنهِ رسولِ اللَّه؟ "، قال: أجتهدُ

رأيي، ولا آلُو، أي: لا أُقصِّر، فسرّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفهم الدقيق، والجواب الحصيف، والمنهج القويم، وأقره على مبدأ الاجتهاد عند عدم النص في القرآن والسنة، وقال عليه الصلاة والإسلام: "الحمدُ للَّه الذي وَفَّق رسولَ رسولِ اللَّه، لما يُرْضي اللَّهَ ورسولَه" (¬1)، وأصبح هذا المبدأ مقررًا في الشرع، ومنهجًا للأمة والعلماء، وهو المعروف بالاجتهاد، وهو المصدر الرئيسي الثالث في الشريعة، ومنه يتفرع الإجماع وسائر المصادر. ولكن ليس كل مسلم مؤهلًا للاجتهاد، وليس كل المسلمين علماءَ وفقهاء لبذل الجهد لمعرفة حكم اللَّه تعالى، ولم يكلفهم الشرع -أصلًا- بذلك، بل قرر المبدأ الإسلامي الخالد، والعام الشامل، وهو وجوب سؤال أهل العلم والاختصاص، وهم المجتهدون والعلماء والفقهاء، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]، وقال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، ولذلك يسأل المسلمُ العادي، أو الأمي والجاهل، يسأل الفقيه العالم المجتهد عن حكم اللَّه تعالى، ويتبعه فيه ويقلده، وهو ما يعرف بالتقليد الذي يعتبر مقابلًا للاجتهاد. والسائل عن الحكم الشرعي يسمى مُسْتفتيًا، والمسؤول عن الحكم يُسمّى مفتيًا بأن يخبر عن حكم، ولذلك يلحق الإفتاء بالاجتهاد والتقليد. وهذه المبادئ والمناهج الثلاثة: الاجتهاد، والتقليد، والإفتاء، يضبطها علم أصول الفقه، ويضع مبادئها، وقواعدها، وأصولها، وأحكامها، ولذلك كانت مباحث الاجتهاد والتقليد والإفتاء من المباحث المهمة الأساسية في علم أصول الفقه، وهذا ما ندرسه في هذا الباب، وذلك في ثلاثة فصول، وهي: الفصل الأول: الاجتهاد. الفصل الثاني: التقليد. ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي والبيهقي وغيرهم، وقال الشوكاني: "وقد قيل: إنه مما تلقته الأمة بالقبول" وسبق مرارًا، وانظر: الحاوي (20/ 186).

الفصل الثالث: الإفتاء. ونسأل اللَّه التوفيق، ونستمد منه العون والتأييد، فهو نعم المولى والنصير والمجيب، وعليه الاعتماد والتكلان.

الفصل الأول الاجتهاد

الفصل الأول الاجتهاد نبذة تاريخية عن الاجتهاد: بدأ الاجتهاد الجزئي في العهد النبوي، سواء كان ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - على قول، كما سنرى، أم كان من الصحابة الذين كانوا يعْرِضون اجتهاداتهم على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فيقر الصواب الذي يتفق مع الشرع، وينكر الخطأ الذي يخالف الدِّين. ثم مر الاجتهاد في ثلاثة أطوار رئيسة، وهي: الطور الأول: بدأ الاجتهاد رويدًا رويدًا بعد وفاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وانتقاله للرفيق الأعلى، فتصدّى كبار الصحابة وعلماؤهم، وفقاؤهم وقضاتهم وولاتهم للاجتهاد، لبيان حكم اللَّه تعالى فيما يستجد من أحداث، مما ليس له حكم في الكتاب والسنة، وأدَّوْا وظيفتهم كاملة، وغَطَّوا أحكام ما وقع في عصرهم، وإن كان قليلًا إلى حد ما. ولما انتشر الإسلام، وزادت الفتوحات، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، وامتدت الدولة الإسلامية إلى عواصم الأمم الأخرى، وبلاد الحضارات السائدة، توسع الصحابة ثم التابعون غب الاجتهاد، وادهرت الركة الفقهية، وبرز الفقهاء المجتهدون من التابعين إلى أن بلغوا الذروة والقمة في القرن الثاني الهجري (¬1). ¬

_ (¬1) قال أبو بكر الجصاص رحمه اللَّه تعالى: "لا خلاف بين الصدر الأول والتابعين وأتباعهم في إجازة الاجتهاد والقياس على النظائر في أحكام الحوادث، وما نعلم أحدًا نفاه وحظره من أهل هذه الأعصار المتقدمة، إلى أن نشأ قوم ذوو جهل بالفقه وأصوله، لا معرفة لهم بطريقة السلف، ولا توقي للإقدام على الجهالة واتباع الأهواء البشعة التي خالفوا فيها الصحابة ومن بعدهم من أخلافهم" الفصول (4/ 23)، والمراجع المشار إليها في هامشه، وانظر كتب تاريخ التشريع الإسلامي، والمداخل للفقه الإسلامي.

وسار الاجتهاد بعد ذلك على وتيرة واحدة، وزخم كبير طوال قرنين تقريبًا، وبلغ الفقه الإسلامي أوجَهُ، ونما، وازدهر، واستجاب لحاجات الناس ومقتضيات تطور الحياة، وأنتج ثروة فقهية زاهرة، مع بعض الخمول أحيانًا، وتراجع بعض الفقهاء والعلماء عن مسابقة الركب، واللحاق بالمقدمة، وفي ذات الوقت بدأ يظهر التقليد للأئمة والعلماء والمذاهب في مختلف الأصقاع والبلدان (¬1)، ولكن كان أكثر العلماء والفقهاء مجتهدين، حتى المحدثون منهم، كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، وجميع القضاة، ومعظم الولاة والخلفاء، وأكثرهم يجتهد ويستنبط الأحكام من المصادر المختلفة بطرق الاجتهاد السليمة، وكانت جماهير الأمة يستفتونهم، ويأخذون عنهم، ويتبعون آراءهم وأحكامهم. الطور الثاني: وذلك ابتداء من منتصف القرن الرابع الهجري حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، أي: حوالي ألف سنة، وبدأ الاجتهاد في أول هذا الطور يتراجع، ويتجزأ، ويضطرب، ويتخلخل، ثم بدأ يتسرب إليه أنصاف العلماء ومن دونهم الذين بدؤوا يتطاولون على الاجتهاد، ويعبث بعضهم فيه، ويخرج على الأمة والناس بالأوهام والسخافات، وما يتناقض مع الشرع، ويتعارض مع قواعد أصول الفقه، ويتجاوز ضوابط الاجتهاد، وضعفت الأمة، وبدأ الانحطاط في المجتمع والدولة، مما دعا العلماء الغيورين على الدِّين أن يتصدَّوْا لهذه الآراء الواهية، وأن يقفوا أمام أدعياء العلم، وأن يعلنوا إغلاق باب الاجتهاد ليوصدوا هذا الباب أمام من ليس أهلًا للاجتهاد والنظر، ويقطعوا الطريق أمام أصحاب الأهواء من مختلف الفرق والمذاهب، وانحصر الاجتهاد غالبًا في مجتهد المذهب، ومجتهد المسائل، ومجتهد التخريج، ومجتهد الترجيح ... ، وأصبح أكثر الفقهاء والعلماء من هذه الطبقات، وإن ظهر لبعضهم اجتهادات قيمة، وآراء سديدة، وبزغ بينهم مجتهدون، ولكنهم قلة. ¬

_ (¬1) نقل الزركشي عن ابن حزم أنه قال: "والتقليد إنما ابتُدئ به بعد المائة والأربعين من الهجرة، ولم يكن في الإسلام قبل ذلك مسلم واحد فصاعدًا يقلد عالمًا بعينه لا يخالفه" البحر المحيط (6/ 292).

ونتج عن ذلك جمود الفقه الإسلامي، وركود الحركة الفقهية، وطغيان التقليد، والاقتصار على المتون، واختصار الكتب، وتدوين الشروح والحواشي والموسوعات المذهبية، أو المقارنة بين المذاهب، والتزام جماهير الأمة اتباع المذاهب المتعددة التي استقرت وشاعت، ثم اختفى بعضها وانقرض كمذهب الأوزاعي، والمذهب الظاهري، وسيطرت المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي على معظم أرجاء البلاد الإسلامية، وبقي إلى جانبهم المذهب الزيدي، والإمامي الجعفري، والإباضي. ونتج عن هذه الحالة -مع إقفال باب الاجتهاد- البقاء على وحدة الأمة الإسلامية، والحفاظ على الثروة الفقهية الموروثة من الطور الأول، وفي ذات الوقت وقف الفقه عن مجاراة الحياة، ووقف الفقهاء والعلماء وراء الراكب، وأحس الناس بعجز العلماء، وقصور الأحكام، وخاصة مع التعصب المذهبي، والالتزام بمذهب دون غيره، ورافق ذلك الضعف السياسي، وتسلط الدول الأخرى على البلاد الإسلامية شيئًا فشيئًا، فتحلّل الناس والحكام من الأحكام الشرعية جزئيًّا، والتمسوا الحلول المستوردة من القوانين والأنظمة الأجنبية، إلى أن غابت معظم الأحكام الشرعية عن معظم البلاد الإسلامية، وتسرب الغزو الفكري، والنظريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الغربية، حتى وصل الأمر إلى التشكيك بالإسلام، وفصل الدِّين والشرع عن الدولة والمجتمع، والهجوم على القرآن والسنة، والطعن أو الغمز أو اللمز صراحة أو ضمنًا بالفقه الإسلامي، وانتهى معظم المسلمين إلى الحضيض، مع تسرب ومضات خاطفة لظهور بعض المجتهد الذين يصرون على استمرار الاجتهاد (¬1). الطور الثالث: أحسَّ العلماء الغيورون بالوضع الراهن السيِّء، وتلمسوا الحلول لإنقاذ الأمة، وأيقنوا أن فتح باب الاجتهاد هو أحد الوسائل المهمة ¬

_ (¬1) أكد السيوطي رحمه اللَّه تعالى بقاء الاجتهاد واستمراره مع تفاوت حالته، وصنَّفَ كتابه القيم ليدل على ذلك بعنوانه "الردّ على مَنْ أخلدَ إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فَرْض" وهو مطوع عدة مرات.

لحل المشكلة، وعادوا إلى إحياء قواعد أصول الفقه، والاجتهاد في القضايا المعاصرة والمستجدة، وفتحت الجامعات الإسلامية، وكليات الشريعة، وظهرت كوكبة من العلماء في القرن الرابع عشر تدعو للصحوة الإسلامية والتشريعية، والعودة إلى الينابيع، وإكمال العمل الذي كان في العهود السابقة للسلف الصالح، وانشئت المجامع الفقهية، ومجمع البحوث، والمؤتمرات والندوات التي ضمت في جنباتها كبار علماء العصر الذين أدلَوْا بدلوهم، وأثبتوا أن فضل اللَّه لا ينقطع؛ ولا ينحصر بجيل وأفراد، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، لكن ولجه من هو له أهل، واندس فيه من ليس أهلًا له، بل هجم عليه غير المختصين أصلًا بالدين والشريعة، ثم بدأ الأمر يتمحص لمن يستحق أن يكون أهلًا للاجتهاد بجدارة، حتى قال الشوكاني رحمه اللَّه تعالى: "ومن حصر فضل اللَّه على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على ما تقدم عصره، فقد تجرأ على اللَّه عزَّ وجلَّ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبّدهم اللَّه بالكتاب والسنة" (¬1). وعادت دراسة أصول الفقه ليتم تطبيقها، ومنها أهلية الاجتهاد وشروطه وضوابطه، ليمارسها العلماء، ويعملوا بموجبها، ويؤكدوا صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان، وأن كل واقعة في الكون تتصل بالإنسان لها حكم شرعي يجب على العلماء والفقهاء بيانه. وهذا ما سنعرضه في هذا الفصل عن الاجتهاد وأحكامه، وذلك في المباحث التالية. ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول ص 254، وانظر: أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1033)، أصول الأحكام ص 362، وسيرد مزيد من البيان، مع المصادر والمراجع إن شاء اللَّه تعالى.

المبحث الأول تعريف الاجتهاد، ومشروعيته، وحكمه

المبحث الأول تعريف الاجتهاد، ومشروعيته، وحكمه تعريف الاجتهاد: الاجتهاد لغة: افتعال من الجُهدْ -بالضم والفتح- وهو الطاقة والمشقة، من جَهَد أي: جدَّ وطلب الأمر حتى بلغ المشقة، ووصل إلى الغاية، وهو بذل المجهود واستفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور، ويختص بما فيه كلفة ومشقة، ويخرج عنه ما لا مشقة فيه (¬1). والاجتهاد اصطلاحًا: هو استفراغ الفقيه وسعه لدَرْك حكم شرعي (¬2)، فالاستفراغ معناه بذل الوسع والطاقة، من ذي الفقه، بحيث تحسُّ نفسه بالعجز عن الزيادة للمعرفة الظنية أو القطعية فيما يسوغ فيه الاجتهاد، لتحصيل الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (1/ 286)، المصباح المنير (1/ 155)، المعجم الوسيط (1/ 142)، مادة: جَهد، أساس البلاغة ص 144، معجم مقاييس اللغة (1/ 487)، كما أن جهاد العدو من إجهاد النفس في قهر العدو، انظر: الحاوي (20/ 178). (¬2) هذا تعريف ابن النجار الفتوحي في: شرح الكوكب المنير (4/ 458)، وهو مقتبس من تعريف البيضاوي، وهو "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية" نهاية السول، شرح المنهاج (3/ 233)، وعرفه الآمدي بقوله: "هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه" ولكنه غير جامع لإخراجه العلم بالأحكام، وغير مانع لإدخاله الظن غير المعتبر، انظر: الإحكام للآمدي (4/ 62)، والاجتهاد له تعريفات كثيرة، انظر: المستصفى (2/ 350، 354)، الإحكام للآمدي (1/ 164، 4/ 62)، المحصول (3/ 7، 39)، التعريفات للجرجاني ص 8، كشف الأسرار (4/ 14)، فواتح الرحموت (2/ 362)، البحر المحيط (6/ 197)، شرح تنقيح الفصول ص 429، مختصر ابن الحاجب مع العضد (2/ 289)، الروضة ص 352، تيسير التحرير (4/ 179)، الإحكام لابن حزم (1/ 41، 2/ 155)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 179، الفصول (3/ 11)، إرشاد الفحول ص 250، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1037)، أصول الأحكام ص 365.

مشروعية الاجتهاد

والمراد من الفقيه عند الأصوليين قديمًا: المجتهد، وأما إطلاقه على من يحفظ الفروع الفقهية فهو اصطلاح عند غيرهم، وكان لفظ الفقيه والمجتهد مترادفين في العصور الأولى، ثم انفصلا، وصار الفقيه هو المجتهد عند الأصوليين، والعالم بالفقه هو الفقيه عند الفقهاء. والاجتهاد ينتج عنه الاستنباط، والاستدلال عامة، أو من دلالات النصوص، أو مما لم يرد فيه نص، وينتج عن جميع ذلك القياس والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب، وسد الذرائع، وغيرها، وسيرد تفصيل مجال الاجتهاد، أو وجوهه أو محله أو نطاقه الذي يستعمل فيه، مما يدل على اتساع دائرة الاجتهاد، وأنه أوسع من القياس، وأوسع من الرأي (¬1). مشروعية الاجتهاد: الاجتهاد مطلوب في الشرع، وهو أصل من أصول الشريعة، كما سبق في حديث معاذ، ووردت فيه أدلة كثيرة تدل على طلبه إما صراحة، وإما إشارة، سواء في القرآن والسنة والإجماع والمعقول. أولًا: الكتاب: وردت آيات كثيرة تأمر بالنظر والبحث وإعمال العقل والفكر لمعرفة أحكام اللَّه تعالى، وتدل على أن الاجتهاد أصل من أصول الشريعة إما بطريق التصريح أو الإشارة والتنبيه، فمن ذلك: 1 - قال اللَّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ¬

_ (¬1) قال بعض الفقهاء: الاجتهاد هو القياس، ونسبه ابن أبي هريرة للشافعي، قال الغزالي: "وهو خطأ"، وقال الماوردي؛ "اشتبه عليه ذلك، فالاجتهاد أعم من القياس، وإن كل واحد منهما يتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه، مع فروق بينهما" (الحاوي 20/ 178)، المستصفى (2/ 300)، ونقل الزركشي عن أبي بكر الرازي أن اسم الاجتهاد يقع في الشرع على القياس الشرعي، وما يغلب على الظن من غير علة كالاجتهاد في المياه والوقت والقبلة وتقويم المتلفات ومهر المثل والمتعة والنفقة، والاستدلال بالأصول، البحر المحيط (6/ 197) بتصرف.

[النساء: 105]، فهذه الآية تتضمن إقرار الاجتهاد بطريق القياس، والقياس نوع من الاجتهاد، ومثل ذلك الآيات الكريمة التي سبق بيانها في مشروعية القياس، فإنّها تدل على جواز الاجتهاد كقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]، وما ورد بعدها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4، النحل: 12]، وغير ذلك مما ورد فيه قوله تعالى: {يَعْقِلُونَ}. 2 - قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]، فالأمر بطاعة اللَّه والرسول هو باتباع نصوص الكتاب والسنة، والمراد بالردّ إلى اللَّه والرسول عند التنازع فيما لم يرد فيه نص هو النظر في الكتاب والسنة لمعرفة علل الأحكام، ومقاصد الشريعة، وقواعدها العامة للاستنباط والاجتهاد والاستدلال على الأحكام الشرعية، وهذا هو الاجتهاد الشرعي الذي أوجبه اللَّه تعالى لبيان الحكم لما يحدث بين الناس من قضايا لم يرد فيها نص، فيعملون بشرع اللَّه، ويتجنبون الهوى والباطل. 3 - قال اللَّه تعالى مخاطبًا رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، فكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه فيما لم يوح إليه منه بشيء، ثم يختار من آرائهم ما كان عنده أقرب للصواب في أمر الحروب، ومكائد العدو، وفي أشياء كثيرة، مما يرد في الشورى والمشاورة مما لا وحي فيه، وكان الصحابة رضوان اللَّه عليهم يظهرون آراءهم، وما يؤدي إليه اجتهادهم، ويجتهد معهم، ويختار الصواب عنده منها، كرأي الحُباب في بدر، ورأي الأنصار في عدم إعطاء عُيَيْنة بن حصن نصف ثمار المدينة يوم الأحزاب، وغير ذلك، وأمر اللَّه بالتشاور والتراضي بين الزوجين عند الفصال وإرضاع المولود، ويتم ذلك بالاجتهاد واستخراج الرأي على غالب الظن، وهو الاجتهاد (¬1). 4 - وردت آيات كثيرة يتوقف العمل بها على الاجتهاد فيها لتطبيقها، فمن ¬

_ (¬1) انظر: الفصول في الأصول (4/ 25، 26).

ثانيا: السنة

ذلك قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236]، وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، والمعروف يحتاج إلى اجتهاد وتقدير، وقال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، ولا يعرف مقدار المتعة إلا بالاجتهاد وغالب الظن؛ لاختلاف أحوال الناس في اليسار والإعسار، وقال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، ومن غاب عن الكعبة فلا تصح صلاته بالتوجه إليها إلا عن طريق الاجتهاد وغالب الظن، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، وإصلاح مال اليتيم إنما يكون بتحري الاحتياط في تمييزه وحفظه وإحرازه، ويكون ذلك بغالب الظن، ومعظم آيات الأحكام تحتاج إلى النظر والاجتهاد وإعمال الفكر والذهن لمعرفة مرادها بغالب الظن، وهذا هو الاجتهاد وما يدخل فيه (¬1). ثانيًا: السنة: وردت أحاديث كثيرة جدًّا تنص صراحة على الاجتهاد، وأحاديث أخرى قولية وفعلية تدل على الاجتهاد صراحة أو إشارة، فمن ذلك: 1 - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا حكمَ الحاكمُ فاجْتَهَدَ ثم أصابَ فلهُ أجْران، وإذا حَكَم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجرٌ" (¬2)، فالحديث صريح في تجويز الاجتهاد والدعوة إليه والترغيب فيه، قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالمٍ أهل للحكم" (¬3). 2 - قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "كيف تَصْنَعُ إنْ عَرَضَ لكَ قضاءٌ؟ "، قال: أقضي بكتاب اللَّه، قال: "فإنْ لم يكُنْ في كتابِ اللَّه؟ " قال: فبسنةِ رسولِ اللَّه، قال: "فإنْ لم يكنْ في سنّةِ رسولِ اللَّه؟ "، قال: ¬

_ (¬1) الفصول (4/ 25 - 26). (¬2) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والشافعي عن عمرو، وهذا لفظ البخاري ومسلم، ورواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة، وفي رواية الدارقطني: "فلك عشرة أجور". (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 14).

ثالثا: الإجماع

أجتهدُ في رأي، ولا آلو، أي: لا أقصِّر، فضرب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على صدر معاذ، وقال: "الحمدُ للَّه الذي وفقَ رسولَ رسولِ اللَّه لما يُرضي اللَّهَ ورسُولَه" (¬1)، والأحاديث في ذلك كثيرة (¬2). ثالثًا: الإجماع: أجمع الصحابة ومن بعدهم على مشروعية الاجتهاد، فكان الخلفاء الراشدون، وسائر الصحابة رضوان اللَّه عليهم إذا وقعت واقعة، أو حدثت قضية، رجعوا إلى كتاب اللَّه، فإن لم يجدوا فيه حكمًا، رجعوا إلى السنَّة، وسأل بعضهم الآخر، فإن لم يجدوا فيها حكم القضية، فزعوا إلى الاجتهاد حسب الأسس والأصول والقواعد والمنهج الذي دَرّبَهم عليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، حتى تواتر ذلك عن الصحابة، ولم يخالف في ذلك أحد، فكان إجماعًا (¬3)، وسار عليه سلف الأمة وخلفها حتى وقتنا الحاضر، وسيبقى كذلك حتى تقوم الساعة. رابعًا: المعقول: سبق البيان في التمهيد للاجتهاد والتقليد والإفتاء أن اللَّه تعالى له في كل حادثة أو واقعة في الكون حكم شرعي، وأن نصوص القرآن والسنة محدودة، وأن وقائع الكون غير محدودة ولا محصورة، والمحدود لا يحيط بغير المحدود، فصار الاجتهاد في معرفة الحوادث والمستجدات أمرًا محتومًا عقلًا، وواجبًا شرعًا، وهذا ما أدركه المسلمون خلفًا عن سلف مما لا يحتاج إلى مزيد بيان، فهو أمر مسلم فيه، ومفروغ منه، وأن الاجتهاد أصل في أحكام الشرع (¬4). ¬

_ (¬1) هذا الحديث سبق بيانه. (¬2) انظر كتابنا: تاريخ القضاء في الإسلام ص 24 وما بعدها، 43 وما بعدها. (¬3) انظر كتابنا: تاريخ القضاء في الإسلام، وخاصة: القضاء في العهد الراشدي ص 79، ومصادر القضاء عند الصحابة ص 117 وما بعدها. (¬4) أسهب العلامة الجصاص الرازي رحمه اللَّه تعالى في ذلك كثيرًا في كتابه: الفصول ص 23 - 80، ويدخل في ذلك جميع أدلة مشروعية القياس والرأي وسائر المصادر التي تعتمد على الاجتهاد والرأي وإعمال الذهن والعقل والبحث عن الحكم الشرعي، انظر: الحاوي (20/ 178)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1039)، وانظر الجزء الأول من كتابنا =

حكم الاجتهاد

حكم الاجتهاد: إن معرفة الحكم الشرعي لكل واقعة أو حادثة أو قضية أو مسألة واجب شرعي قطعًا، فإذا كان الحكم موجودًا في نصوص الكتاب أو السنة فبها ونعمت وحصل المقصود، وكفى اللَّه المؤمنين القتال، وإن لم يكن موجودًا ومعروفًا في النصوص فيجب على علماء الأمة ومجتهديها وفقهائها أن يجتهدوا لمعرفة الحكم الشرعي، وبيانه للناس، قال القرافي رحمه اللَّه تعالى: "مذهب مالك وجمهور العلماء: وجوب الاجتهاد، وإبطال التقليد" (¬1)، هذا في الجملة. أما في التفصيل وبالنسبة للأفراد، فإن وقعت حادثة لشخص أو لجماعة، وسئل الفقيه العالم عنها، فإن حكم الاجتهاد تعتريه الأحكام التكليفية التالية متى توفرت بالشخص شروط الاجتهاد وملكة استنباط الأحكام الشرعية كالتالي: 1 - فرض العين: إذا وقعت حادثة، وتوفرت بالشخص الشروط، فيكون الاجتهاد فرضًا عينيًّا عليه في الحالات التالية: الحالة الأولى: يكون الاجتهاد فرض عين على المجتهد في حق نفسه، عند نزول الحادثة، فإذا وصل اجتهاده إلى حكم، لزمه العمل به؛ لأن حكم المجتهد هو حكم اللَّه تعالى في المسألة التي اجتهد بها بحسب ظنه الغالب، وينبغي عليه العمل بما غلب على ظنه أنه حكم اللَّه تعالى، ولا يجوز له أن يقلد مجتهدًا آخر. الحالة الثانية: يكون الاجتهاد فرض عين على المجتهد إذا كان قاضيًا وتعين عليه الحكم في المسألة؛ ليفصل فيها، وينهي النزاع والخصومة، ويصدر حكمًا بينهما. الحالة الثالثة: يكون الاجتهاد فرض عين على المجتهد إذا سئل عن حادثة وقعت، وخاف فوتها على غير وجهها الشرعي، ولم يوجد غيره؛ لأن ترك الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي يؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو ¬

_ = هذا ص 240 وما بعدها. (¬1) إرشاد الفحول ص 266، وانظر مثل هذا الكلام عند الجصاص الرازي في الفصول (3/ 369).

2 - فرض الكفاية

ممنوع شرعًا. 2 - فرض الكفاية: يكون الاجتهاد فرض كفاية على المجتهد في حالتين: الحالة الأولى: إذا وجد عدد من المجتهدين عند وقوع الحادثة، فيكون الاجتهاد فرضًا كفائيًّا على كل منهم، فإن اجتهد أحدهم ووصل إلى الحكم، سقط الطلب عن الباقي، وإن تركه الجميع أثموا، ويتأكد فرض الكفاية على من خُصَّ بالسؤال عنها، فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض، وإلا أثموا جميعًا، ومثل ذلك إذا عرضت قضية على قاضيين مشتركين بالنظر (¬1). الحالة الثانية: إذا كان المجتهد واحدًا، وعرضت عليه قضية واقعة، ولكنها ليست على الفور، ولم يخف فوت الحادثة، ولم يوجد غيره، فيكون الاجتهاد فرضًا كفائيًّا في الحال، وله التأخير. 3 - الندب: يكون الاجتهاد مندوبًا إذا عرضت على المجتهد حادثة لم تقع، سواء سئل عنها أم لم يسأل، فيندب له الاجتهاد لبيان حكم اللَّه تعالى فيها. 4 - التحريم: يكون الاجتهاد حرامًا على المجتهد فيما لا يجوز الاجتهاد فيه، كالاجتهاد في مقابلة نص قطعي، أو سنة متواترة قطعية الدلالة، أو في مقابلة الإجماع الذي سبق الحادثة (¬2)، وتسمية هذا النوع اجتهادًا إنما هو من قبيل التجوز والمجاز؛ لأنه في ¬

_ (¬1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "لما لم يكن بدٌّ من تعرّف حكم اللَّه في الوقائع، وتعرف ذلك بالنظر غير واجب على التعيين، فلا بدَّ أن يكون وجود المجتهد من فروض الكفايات، ولا بدَّ أن يكون في كل قطر ما تقوم به الكفايات، ولذلك قالوا: إن الاجتهاد من فروض الكفايات" البحر المحيط (6/ 206). (¬2) المستصفى (2/ 375)، الإحكام للآمدي (4/ 85)، كشف الأسرار (4/ 14)، البحر المحيط (6/ 198، 206، 207)، إرشاد الفحول ص 253، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1055)، أصول الأحكام ص 372.

خلو العصر عن المجتهدين

الحقيقة أمر باطل، وليس اجتهادًا أصلًا، كما يحرم الاجتهاد على من فقد شروطه، ولم يكن له أهلًا. وسوف يتم تفصيل ما يجوز الاجتهاد فيه وما لا يجوز في مبحث قادم في مجال الاجتهاد ونطاقه ومحله. وإذا كان الاجتهاد فرضًا في الجملة، فهذا يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد، وهذا ما يبحثه الأصوليون، ولو نظريًا، ولذلك نعرض هذه المسألة هنا. خلو العصر عن المجتهدين: اختلف العلماء في فكرة خلو العصر عن المجتهدين إلى قولين: القول الأول: لا يجوز خلو زمان من مجتهد يبيِّن للناس ما نُزل إليهم ويبيِّن لهم حكم الشرع في كل ما يقع، وهو قول الحنابلة وبعض الشافعية كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والزبيدي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم. واستدلوا على ذلك بالسنة والمعقول. فمن السنّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالُ طائفةٌ من أُمّتي ظاهرين حتى تقوم الساعةُ". وفي وراية: "لا تزالُ طائفة من أُمّتي ظاهرينَ على الحقِّ لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهم حتى يأتي أمرُ اللَّه وهم كذلك" (¬1)، وهذا يدل على بقاء نفر من الأمة يظهرون حكم اللَّه تعالى، ويبينون الحق للناس، فإن خلا الزمان ممن يعرفون الحق، ويبصِّرون به غيرهم، لم يتحقق مضمون الحديث. ومن المعقول أنه لو عدم الفقهاء المجتهدون والعلماء المعلمون لم تقم الفرائض كلها، ولو عطلت الفرائض كلها لحقت النقمة بالخلق، كما جاء في الخبر: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق" (¬2). ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن المغيرة رضي اللَّه عنه، ورواه مسلم والترمذي وأبو داود عن ثوبان رضي اللَّه عنه، ورواه مسلم عن سعد رضي اللَّه عنه، ورواه الحاكم وغيره عن عمر ومعاوية رضي اللَّه عنهما. (¬2) هذا الحديث رواه مسلم (13/ 67 رقم 1924) وابن ماجه وأحمد (1/ 394، 405، 454) عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما.

المناقشة والترجيح

والعياذ باللَّه أن يتأخر الناس والعلماء ليكونوا مع الأشرار، ولذلك قال عدد من العلماء: لن تخلو الأرض من قائم للَّه بالحجّة في كل وقت ودهر وزمان، وإن كان قليلًا في كثير، وقالوا: لو أخلى اللَّه زمانًا من قائم بحجة زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة، ولو عُدِم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها، ولو عُطِّلت الفرائض كلُّها لحلت النقمة بالخلق كما جاء في الخبر السابق، وأن الخلو من مجتهد يلزم منه إجماع الأمة على الخطأ، وهو مناف للخبر: "لا تجتمع أمتي على الخطأ"، "أمتي لا تجتمع على الخطأ" (¬1). القول الثاني: يجوز خلو العصر من المجتهدين، وهو رأي أكثر العلماء، وجزم به الفخر الرازي، والغزالي من الشافعية وبقية المذاهب. واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه لا يَقْبضُ العلمَ انتزاعًا، يَنْتَزِعَهُ من العباد، ولكنْ يَقْبضُ العِلْمَ بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخَذَ الناسُ رؤساءَ جهالًا، فسُئِلُوا، فأفتَوْا بغيرِ عِلْم، فضلُّوا وأَضَلُّوا" (¬2)، فهذا يدل على خلو العلماء، وأن الناس كلَّهم جهال، لا مجتهد فيهم. المناقشة والترجيح: إن هذه المسألة -أصلًا- نظرية خيالية، وهي في آخر الزمان، ولعل أكثر العلماء لاحظوا عدم وجود المجتهدين اجتهادًا مطلقًا كالأئمة الأربعة، ولذلك قال الغزالي في "الوسيط": "قد خلا العصر عن المجتهد المطلق" وقال الرافعي: "الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم". وإن خلو العصر عن المجتهد المطلق لا يعني خلو الزمان عن المجتهدين ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، وأبو داود عن مالك الأشعري، وأحمد عن أبي بصرة الغفاري، قال الحافظ ابن حجر: "هذا حديث مشهور، له طرق كثيرة، لا يخلو واحد منها من مقال". (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنه.

من سائر الطبقات الذين يبيّنون للناس أحكام الشرع ولو بالتخريج والقياس وغيره، ولذلك أكد السيوطي رحمه اللَّه تعالى أن الاجتهاد في كل عصر فرض، ثم بيَّن أنه لا يجوز عقلًا وشرعًا إخلاء العصر من مجتهد، وأكد كلامه باستعراض أسماء العلماء في كل طبقة ممن وصل إلى رتبة ما في الاجتهاد، وهذا صحيح ومنطقي، ونلمسه في تاريخ الإسلام والمسلمين، ونشاهده في عصرنا الحاضر، وأن الحديث الذي احتج به المانعون إنّما ذلك في آخر الزمان، وأنه من أشراط الساعة، وهذا ابن دقيق العيد رحمه اللَّه تعالى يقول: "لكنْ إلى الحدّ الذي تنتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان" وقال أيضًا: "والأرض لا تخلو من قائم للَّه بالحجّة، والأمة الشريفة لا بدَّ لها من سالك إلى الحق على واضح المَحَجَّة إلى أن يأتي أمر اللَّه في أشراط الساعة الكبرى" ونقل هذا الزركشي رحمه اللَّه تعالى ثم قال: "والحقُّ أن العصر خلا عن المجتهد المطلق، لا عن مجتهد في مذهب أحد الأئمة الأربعة" (¬1). وإن تقدم العلوم، وتيسر الطباعة، ونشر أمهات الكتب اليوم يؤكد توفر أسباب الاجتهاد على من توفرت فيه شروط من التخصص والتعمق والبحث والنظر، وقد قال الشوكاني قبل حوالي مئتي سنة قبل وجود المطابع: "فإنه لا يخض على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسّره اللَّه للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوِّنت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، والسنّة المطَهَّرة قد دُوّنت، وتكلم الأئمة على التفسير والتجريح، والتصحيح والترجيح بما هو زيادة عما يحتاجه المجتهد، وقد كان السلف الصالح ... يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر، ¬

_ (¬1) البحر المحيط (6/ 208، 209)، وانظر أقوال العلماء في مسألة الخلو عن مجتهد في: شرح الكوكب المنير (4/ 564)، والمصادر التي وردت في الهوامش، وأهمها: الإحكام للآمدي (4/ 233)، تيسير التحرير (40/ 240)، أعلام الموقعين (2/ 270، 275)، مجموع الفتاوى (20/ 204)، مختصر ابن الحاجب (2/ 307)، فواتح الرحموت (2/ 399)، المسودة ص 472، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 67، 97، شرح تنقيح الفصول ص 345، الملل والنحل (1/ 205)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 191.

العلم بالاجتهاد

فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سويّ" (¬1). وبهذا يتأكد أن الاجتهاد فرض، وعلى العلماء الفقهاء المختصين أن يبذلوا أقصى جهدهم في معرفة الأحكام الشرعية للوقائع الطارئة، والمستجدات التي تواجه الناس في كل زمان. وقال الماوردي رحمه اللَّه تعالى: "أن يكون الاجتهاد أصلًا يستخرج به حكم ما لم يرد فيه نص، ولا انعقد عليه إجماع" (¬2). العلم بالاجتهاد: متى تم الاجتهاد بشروطه التي سنذكرها وجب العمل به في الحوادث والقضايا، سواء بالنسبة للمجتهد نفسه، أو لمن سأله وعلم برأيه، إلا لمجتهد آخر، وذلك لإجماع الصحابة فمن بعدهم، ويسمى الحكم الاجتهادي حكمًا شرعيًّا في الصحيح، وهو دين اللَّه وشرعه (¬3). ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول ص 254. (¬2) الحاوي (20/ 186)، وانظر: البحر المحيط (6/ 207)، إرشاد الفحول ص 253، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1070)، أصول الأحكام ص 372. (¬3) البحر المحيط (6/ 198).

المبحث الثاني أركان الاجتهاد وشروطه

المبحث الثاني أركان الاجتهاد وشروطه أركان الاجتهاد: الاجتهاد له ثلاثة أركان، وهي: 1 - نفس الاجتهاد: وهو العمل والفعل الذي يبذل فيه المجتهد وسعه لنيل حكم شرعي من الأدلة المقررة شرعًا عن طريق الاستنباط والاستدلال والقياس وغيره، مما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدلالة، أو مما لم يسبق فيه إجماع، وسبق تعريف الاجتهاد، وسيرد لاحقًا مجاله، وشروطه. 2 - المجتهد: وهو الفقيه البالغ العاقل الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد، وصار عنده ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها، وبشروطها التي سترد. 3 - المجتهد فيه: وهو الحكم الشرعي العملي أو العلمي الذي ليس فيه دليل قطعي، فالحكم هو الوصف للحادثة أو الواقعة، والشرعي لإخراج الأمور العقلية التي لا تحتمل الاجتهاد، ولأن الحق فيها واحد لا يتعدد، ولا يحتمل الاختلاف، والعملي هو الذي يقتضي عملًا بالقلب أو اللسان أو الأعضاء والجوارح مما يدخل في كسب المكلف إقدامًا أو إحجامًا، والعلمي هو ما تضمنه علم الأصول من المظنونات التي يستند العمل إليها، وعبارة "ليس فيه دليل قاطع" لتخرج الأحكام الثابتة بالدليل القطعي، مما يحرم فيه الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد ظن، والظن لا يقوي ولا يعارض القطع، وذلك كوجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام رمضان، والحج، وما اتفقت عليه الأئمة، وأجمع عليه الفقهاء من أحكام الشرع الجلية، كما سنبينه في مبحث محل الاجتهاد، أو مجاله، أو .......

شروط الاجتهاد

نطاقه (¬1). شروط الاجتهاد: تنصب معظم شروط الاجتهاد على صفات المجتهد، أما شروط الاجتهاد نفسه فستأتي ضمنًا في شروط المجتهد، وفي شروط المجتهد فيه التي سنذكرها في مجال الاجتهاد ونطاقه، ولذلك نخصص هذه الفقرة لبيان شروط المجتهد المطلق الذي كان يطلق عليه سابقًا الفقيه. يشترط في المجتهد أن تتوفر فيه الشروط التالية، حتى يسوغ له الاجتهاد، ويثاب على فعله، ويقبل قوله، ويعتد به، ويجوز اتباعه، أو تقليده، أو الأخذ به (¬2)، وهي: 1 - العلم بكتاب اللَّه تعالى: يشترط في المجتهده أن يكون عالمًا بمعاني القرآن الكريم، ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب، بل ما يتعلق فيه بالأحكام العملية، وهي التي قدَّرها العلماء بخمس مئة آية في الغالب، ولا يشترط حفظه لها عن ظهر قلب، وإنما يكفي أن يكون عالمًا بموضعها، وإمكان الرجوع إليها عند الحاجة، واستحضارها للاحتجاج بها. قال الشوكاني رحمه اللَّه تعالى: "ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح وتدبر ¬

_ (¬1) البحر المحيط (6/ 195، 227)، إرشاد الفحول ص 250، 252. (¬2) انظر شروط المجتهد في: الرسالة ص 509، المستصفى (2/ 350)، المحصول (3/ 30)، الإحكام للآمدي (4/ 162)، نهاية السول (3/ 244)، فواتح الرحموت (2/ 363)، كشف الأسرار (4/ 15)، تيسير التحرير (4/ 180)، العضد على ابن الحاجب (2/ 290)، شرح تنقيح الفصول ص 437، البحر المحيط (6/ 199)، شرح الكوكب المنير (4/ 459)، الموافقات (4/ 67)، الرد إلى من أخلد إلى الأرض ص 113، مختصر الطوفي ص 173، المدخل إلى مذهب أحمد ص 180، إرشاد الفحول ص 250، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1043)، أصول الأحكام ص 365، الحاوي (20/ 179).

2 - العلم بالسنة المتعلقة بالأحكام

كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال، قيل: ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق التضمن والالتزام" (¬1). والمراد من العلم بالآيات من الناحية اللغوية، وذلك بمعرفة معنى المفردات والمركبات، وخواصها في إرادة المعنى إما بالسليقة العربية، وإما بتعلُّم علوم العربية في الصرف والنحو والمعاني والبيان وسائر فنون البلاغة، وكذلك معرفة الآيات شرعًا بإدراك العلل والمعاني المؤثرة في الأحكام، وأوجه دلالة اللفظ على المعنى مما سبق بيانه من العبارة والإشارة والدلالة والاقتضاء، والمنطوق والمفهوم، ومعرفة أقسام اللفظ التي سبق بيانها كالعام والخاص والمشترك والمجمل والمفسر والمحكم وغيرها، وأن يعلم الناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما سيأتي في قواعد أصول الفقه، وكذلك أسباب النزول للآيات، وأسباب الورود للأحاديث، ليستعين بها في معرفة المراد من النص، وما يتعلق به من تخصيص أو تعميم (¬2). 2 - العلم بالسُّنَّة المتعلقة بالأحكام: وذلك بأن يعرف أحاديث الأحكام، لغة وشرعًا، كما سبق في القرآن، ولا يشترط حفظها، وإنما يكفيه العلم بمواقعها، والمعرفة بكيفية الرجوع إليها عند الاستنباط، ويعلم صحة الحديث وضعفه سندًا ومتنًا، ويتجنب الموضوع مطلقًا، وحدد ابن العربي أحاديث الأحكام بثلاثة آلاف، ونقل عن أحمد أنها ألف ومئتان، وشدد في رواية أنها خمس مئة ألف، وفي رواية ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول ص 250، وسبق إلى ذلك الزركشي رحمه اللَّه تعالى فقال: "ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق الضمن والالتزام" البحر المحيط (6/ 199)، وقال ابن النجار الفتوحي رحمه اللَّه تعالى مثل ذلك: "وقد ذكروا أن الآيات خمسمائة آية، وكأنهم أرادوا ما هو مقصود به الأحكام دلالة أولية بالذات، لا بطريق التضمن والالتزام، فغالب القرآن، بل كله لا يخلو شيء منه عن حكم يستنبط منه" شرح الكوكب المنير (4/ 460). (¬2) الإحكام للآمدي (4/ 164)، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 384)، نهاية السول (3/ 245)، شرح الكوكب المنير (4/ 363).

3 - العلم بالناسخ والمنسوخ

ثلاث مئة ألف، ولعله أراد أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة والتابعين. ووضح ذلك الشوكاني رحمه اللَّه تعالى فقال: "والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بدَّ أن يكون عالمًا بما اشتملت عليه مجاميع السنَّة التي صنَّفها أهل الفن، كالأمهات الست (وهي: صحيح البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) وما يلحق بها (كالموطأ وسنن الدارمي والدارقطني والبيهقي) مشرفًا على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات (كمسند أحمد، ومستدرك الحاكم) والكتب التي التزم مصنفوها الصحة (مثل صحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، ومصنف عبد الرزاق) حتى لا يلجأ المجتهد إلى القول بالرأي والقياس مع وجود النص، وهذا ما يتعلق بمتن الحديث ... وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف .. ، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل ... " (¬1)، ويمكن الاعتماد على كتب أحاديث الأحكام، وكتب تخريج أحاديث الأحكام، وما ورد فيها من عزو وتخريج وبيان للصحيح والضعيف (¬2). 3 - العلم بالناسخ والمنسوخ: يشترط في المجتهد معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنّة، وهي محصورة في آيات وأحاديث كما سبق، حتى لا يعتمد المجتهد على منسوخ متروك في القرآن والسنة، وذلك عند الاجتهاد والفتوى، وجمع ذلك في عدة كتب (¬3). 4 - معرفة مسائل الإجماع: بدأ الاجتهاد في الجيل الأول قبل الإجماع، فإن اتفقت آراء المجتهدين صار إجماعًا، ويحتل مرتبة القطع، فلا يجوز خرقُه ولا مخالفته. ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول ص 251. (¬2) انظر: المصادر والمراجع المذكورة قبل قليل. (¬3) المستصفى (2/ 352)، المحصول (3/ 35)، نهاية السول (3/ 245)، تيسير التحرير (4/ 182)، الإحكام للآمدي (4/ 163)، شرح الكوكب المنير (4/ 461)، إرشاد الفحول ص 252، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1046)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 181.

ويشترط في المجتهد اللاحق أن يكون متمكنًا من معرفة مسائل الإجماع؛ ليكون رأيه موافقًا للإجماع، ويجتنب الاجتهاد والفتوى بخلاف ما أجمع عليه، فيكون قد خرق الإجماع، وبالتالي يكون رأيه باطلًا ومردودًا. ولا يلزم المجتهد حفظ جميع مسائل الإجماع، ولكن يشترط أن يعلم أن المسألة التي يجتهد فيها ليس فيها إجماع، وأن فتواه ليست مخالفة للإجماع، بل موافقة لمذهب عالم، أو أنها حادثة جديدة، ولم يسبق بحثها أو الإجماع فيها (¬1). ويتفرع عن ذلك أن يعرف المجتهد المسائل الخلافية التي اختلفت فيها وجهات النظر عند الاجتهاد فيها، وبيَّن الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى الحكمة من ذلك، فقال: "ولا يكون لأحد أن يقيس (يجتهد) حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم ... ، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتًا فيما اعتقد من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه، حتى يعرف أين قال ما يقول، وترك ما يترك، ولا يكون بما قال أعنى منه بما خالفه، حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك إن شاء الله" (¬2). وهذا يبين أن دراسة أسباب اختلاف الفقهاء والإحاطة بأدلتهم، وأسس وجهات نظرهم المتفاوتة يربي ملكة الاستنباط والنقد والتمحيص للأدلة، والفحص للمعاني، وينمي في الشخص أهلية الاجتهاد والنظر والاستنباط الصحيح (¬3). ¬

_ (¬1) المحصول (3/ 34)، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 384)، نهاية السول (3/ 244)، المستصفى (2/ 351)، شرح الكوكب المنير (4/ 464)، مختصر الطوفي ص 174، المدخل إلى مذهب أحمد ص 182، إرشاد الفحول ص 251، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1046)، أصول الأحكام ص 366. (¬2) الرسالة فقرة 510 - 511. (¬3) أصول الأحكام ص 367، وانظر فصل "أسباب اختلاف الفقهاء" من هذا الكتاب (1/ 77).=

5 - معرفة القياس

5 - معرفة القياس: يشترط في المجتهد أن يكون عارفًا بوجوه القياس وشرائطه المعتبرة، وأن يعرف علل الأحكام، وطرق الاستنباط من النصوص والمصالح وأصول الشرع؛ لأن القياس أحد أبواب الاجتهاد الرئيسة، مع باقي أبواب أصول الفقه كما سنرى. 6 - معرفة علوم اللغة العربية: يشترط في المجتهد أن يعرف علوم اللغة العربية من نحو وصرف ومعان وبيان، وأساليب الأدباء؛ لأن القرآن والسنة جاءا باللغة العربية، وبحسب دلالات أهل اللغة، وذلك لمعرفة مراد الشرع وقصده، بمقتضى أساليب العرب، وبالتالي فإن مبحث دلالات الألفاظ التي سبق بيانها تتوقف على معرفة كلام العرب وفهمه في الألفاظ والمفردات، والجمل والتراكيب، والحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والإطلاق والتقييد، والمجمل والمبين، والأمر والنهي، والاستثناء، ودليل الخطاب وفحواه ومفهومه، وغير ذلك؛ لأن بعض الأحكام تتوقف على ذلك توقفًا ضروريًّا، وقد يختلف الحكم بحسب حركة الإعراب بالرفع أو النصب أو الجر. ولا يشترط حفظ لغة العرب عن ظهر قلب، ولكن يكفي أن يكون قادرًا على استخراج المراد من المظان والمؤلفات، وأن يعرف قدرًا كافيًا يستطيع به فهم الخطاب العربي، وعادات العرب، ومقاصد الألفاظ والمعاني؛ لأن اللغة هي الآلة والأداة التي يستعين بها لفهم النص وتحديد المراد منه؛ لاستنباط الأحكام والعلل، والقياس عليها، ويتقرر ذلك بمعرفة اللغة نثرًا وشعرًا، ونحوًا وصرفًا وغيره. 7 - العلم بأصول الفقه: يشترط في المجتهد أن يكون عالمًا بأصول الفقه؛ لأنه الأداة الثانية بعد اللغة؛ ليكون المجتهد قادرًا على استخراج أحكام الفقه من الأدلة الشرعية، وضمن مصادر التشريع الصحيحة المقررة في علم أصول الفقه، وبناء على

قواعد الاستنباط والاستدلال التي حددها علم أصول الفقه، وسبق بيانها في الباب السابق، ولذلك أكد الفخر الرازي أن علم أصول الفقه أهم العلوم للمجتهد، وسبقه إلى ذلك الغزالي رحمه اللَّه تعالى مبينًا أن أعظم علوم الاجتهاد هي الحديث واللغة وأصول الفقه، وسبقهما إمام الحرمين الجويني رحمه اللَّه تعالى الذي قال: أهم العلوم للمجتهد أصول الفقه. ويدخل في علم أصول الفقه معرفة مقاصد الشريعة العامة التي تنير الطريق عند استنباط الأحكام، حتى لا يجمد العقل والفكر على الظاهر، وحرفية النص، وقطعه عن سائر النصوص التي تحدد أسرار الشريعة وغاياتها العامة، مما يساعد على تحديد المراد من النصوص، وترجيح أحد المعاني التي تتفق مع المقاصد دون غيرها، وسبق في الجزء الأول بيان مقاصد الشريعة، وأنها تنحصر في تحقيق مصالح الناس، بجلب النفع لهم ودرء المفاسد عنهم، وتدور على حفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال (¬1). ولا يشترط في المجتهد أن يكون عالمًا بفروع الفقه، ولا بعلم الكلام، لكن لا بدَّ من اعتقاد صحيح جازم، ولا يشترط معرفة العقيدة على طريقة المتكلمين بأدلتهم التي يحررونها، ويحصل الاجتهاد بممارسة الفقه؛ لأنه طريق لتحصيل الدربة والمعرفة والخبرة للاجتهاد (¬2). ¬

_ (¬1) الجزء الأول ص 101، وانظر: المستصفى (2/ 353)، المحصول (3/ 30)، الرسالة ص 509، الإحكام للآمدي (4/ 162)، نهاية السول (3/ 244)، فواتح الرحموت (2/ 363)، البحر المحيط (6/ 201)، تيسير التحرير (4/ 180)، الرد إلى من أخلد إلى الأرض ص 113، العضد على ابن الحاجب (2/ 290)، شرح تنقيح الفصول ص 437، مختصر البعلي ص 163، مختصر الطوفي ص 173، المدخل إلى مذهب أحمد ص 180، إرشاد الفحول ص 250، شرح الكوكب المنير (4/ 459)، الروضة ص 352، كشف الأسرار (4/ 15)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1043)، أصول الأحكام ص 367. (¬2) المستصفى (2/ 253)، الإحكام للآمدي (2/ 163)، المحصول (3/ 36)، نهاية السول (3/ 245)، كشف الأسرار (4/ 16)، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 384)، مختصر البعلي ص 164، مختصر الطوفي ص 174، شرح الكوكب =

شروط المجتهد المقيد

شروط المجتهد المقيد: إن الشروط السابقة تختص بالمجتهد المطلق، وهو نادر الحصول في العصور المتأخرة والحاضرة، أما المجتهد المقيد، أو المجتهد الجزئي في مسألة أو بجانب فقهي كالمعاملات المالية، أو الجهاد وما يتعلق به، أو الجنايات، أو الإثبات، أو القضاء، أو الميراث، فلا يشترط فيه جميع الشروط السابقة، وإنما يشترط فيه أن يكون عالمًا بذلك الجانب الذي يجتهد فيه وما يتعلق بهذا الاختصاص، وهذا ما يؤدي إلى جواز تجزؤ الاجتهاد كما سنرى. كما أن المجتهد في المذهب لا يشترط أن تتوفر فيه شروط المجتهد المطلق السابقة، وإنما يكفيه أن يكون ملمًّا بمذهبه، وقول إمام المذهب، وآراء علماء المذهب والمجتهدين فيه، وأصول المذهب التي اعتمد عليها الإمام، والأدلة الفرعية التي استدل بها الفقهاء على حكم معين، ليستطيع التخريج أو الترجيح في المذهب، وبالتالي بيان أحكام النوازل المستجدة حسب ذلك المذهب. يقول الغزالي رحمه اللَّه تعالى: "وليس الاجتهاد عندي مَنْصبًا لا يتجزأ، بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض" (¬1). ويقول الآمدي رحمه اللَّه تعالى: "أما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفًا بما يتعلق بتلك المسألة، وما لا بدَّ منه فيها، ولا يضره في ذلك جهله بما لا تعلق بها" (¬2). وهذه الشروط الخاصة للمجتهد المقيد، أو المجتهد في المذهب، هي المطلوبة الآن، مما يحصّلها الباحث والدارس المتخصص في الشريعة والفقه وأصول الفقه (¬3). ¬

_ = المنير (4/ 466)، إرشاد الفحول ص 252، المدخل إلى مذهب أحمد ص 182. (¬1) المستصفى (2/ 353). (¬2) إحكام الأحكام، له (4/ 163). (¬3) البحر المحيط (6/ 205)، شرح الكوكب المنير (4/ 467)، إرشاد الفحول =

مراتب المجتهدين

وهذا يقودنا إلى معرفة مراتب المجتهدين، وأنواع الاجتهاد. مراتب المجتهدين: المجتهد إما مستقل أو غير مستقل، وغير المستقل أربعة أقسام، فتكون مراتب المجتهدين خمسًا، وهي: 1 - المجتهد المستقل المطلق: وهو الذي توفرت فيه الشروط السابقة، وكان له قواعد لنفسه، وأصول خاصة يعتمد عليها، ويبني عليها أحكام الفقه، ويمارسها في الاجتهاد، وكان اجتهاده في عامة أبواب الفقه، ويبذل جهده في معرفة النوازل والوقائع وما يُسأل عنه، وهذا هو المجتهد المطلق المستقل. وهذا الصنف لم يعد متوفرًا، ويمتنع على الإنسان أن تتوفر فيه هذه الصفات، وخاصة مع اتساع العصر، وتنوع العلوم، وكثرة الوقائع والنوازل، والاعتماد على التخصص العام، والتخصص الفرعي الدقيق في مختلف العلوم وفي شؤون الحياة. ومن أمثلة المجتهد المطلق فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة الذين جاؤوا بعدهم واشتهروا بالاجتهاد المطلق كالإمام زيد، ومحمد الباقر، وأبي حنيفة، وجعفر الصادق، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، والليث بن سعد، والثوري، وابن جرير الطبري، وأبي ثور، وابن المنذر، وغيرهم كثير. 2 - المجتهد المطلق غير المستقل: وهو الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد كالصنف السابق، لكن لم يضع لنفسه قواعد ينفرد بها، بل التزم طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهو مجتهد مطلق منتسب، فهو لم يقلد إمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقته في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرًا منه على أهله، فوجده صوابًا، وأولى من غيره، وذلك مثل أبي يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وابن القاسم ¬

_ = ص 252، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1051)، أصول الأحكام ص 369.

3 - المجتهد المقيد

وأشهب من المالكية، والبويطي والزعفراني والمزني من الشافعية. 3 - المجتهد المقيد: ويسمى: المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج؛ لأنه مقيد في مذهب إمام معين، وعاملٌ على تقرير أصوله بالدليل، ولا يتعدى أصوله وقواعده، ويتقنها مع فقهها وأدلة مسائلها، وفي ذات الوقت فإنه يعرف القياس، ويقدر على التخريج والاستنباط على أصول إمامه، ويلحق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه (¬1)، كالحسن بن زياد الكرخي والطحاوي من الحنفية، والأبهري وابن أبي زيد من المالكية، وأبي إسحاق الشيرازي وأبي إسحاق المروزي من الشافعية، وغيرهم. ويقوم مجتهد التخريج بنشاط في أقوال إمامه، فإذا أفتى الإمام في مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين في وقتين، نقل حكم كل منهما إلى الأخرى، وصار في كل مسألة قولان بالاجتهاد والتخريج، ما لم يفرق الإمام بينهما، أو يقرب الزمن. 4 - مجتهد الترجيح: وهو فقيه النفس، الحافظ لمذهب إمامه، العارف بأدلته، القائم بتقريرها، ثم يصور ويحرّر للمسائل الجديدة، ويمهد لها ويقررها، ويزيف ما يخالفها، ويرجح بين أقوال الإمام، ووجوه الأصحاب، ولم يبلغ رتبة المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج؛ لاقتصاره على حفظ المذهب، وعدم الارتياض في الاستنباط، وعدم ممارسته، ولم يتبحر في أصول الفقه ونحوه، ولكن لا يخلو علمه عن معرفة أطرافه، مثل القدوري والمرغيناني صاحب "الهداية" من الحنفية، والقاضي عبد الوهاب والشيخ خليل من ¬

_ (¬1) قال ابن حمدان رحمه اللَّه تعالى: "وأما المجتهد في مذهب إمامه، فنظره في بعض نصوص إمامه وتقريرها، والتصرف فيها كاجتهاد إمامه في نصوص الكتاب والسنة" وقال مثل ذلك ابن الصلاح وغيره، انظر: صفة الفتوى لابن حمدان ص 20، المسودة ص 544، شرح الكوكب المنير (4/ 468).

5 - مجتهد الفتيا

المالكية، وأبي الطيب الطبري وأبي حامد الإسفراييني والرافعي والنووي من الشافعية، والقاضي أبي يعلى وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة، وغيرهم كثير في كل مذهب، ممن لم يخل منهم عصر. 5 - مجتهد الفتيا: وهو الفقيه الذي يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، ويعتمد عليه في نقل المذهب والفتوى به فيما يحكيه من كتب المذهب، ومنصوصات الإمام، وتفريعات الأصحاب المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم، فإن لم يجد حكمًا منقولًا في مذهبه، أعطى ما في معناه مما يدركه بأدنى فكر وتأمل، وأنه لا فارق بين الأمرين، وهذا النوع أكثر من أن يحصى في كل مذهب، وفي كل عصر ممن يتصدر للفتوى والتعليم (¬1)، وسوف نعود لبيانه في الفصل الثالث عن الإفتاء، وهم المسمَّون اليوم بالعلماء والفقهاء والمختصين بالشريعة، وهم القائمون على الاجتهاد الجزئي، وبيان أحكام النوازل والمستجدات، ويتولون الإفتاء وبيان الأحكام للناس. أقسام المجتهدين: تعارف العلماء من السلف في العصور الأولى على إطلاق اسم الفقيه على المجتهد، كما أطلقوا عليه لقب المفتي، وسار الأمر على هذا المنوال في القرون الثلاثة الأولى، ثم بدأ يظهر التمييز بين المجتهد والمفتي والفقيه والعالم، ولكن بقي التداخل بينهم موجودًا، لذلك قسم ابن القيم رحمه اللَّه تعالى المجتهدين أو المفتين إلى أربعة أقسام، يحسن بيانهم للمقارنة بينهم ¬

_ (¬1) انظر مراتب المجتهدين وأصنافهم وحالاتهم في: المجموع للنووي (1/ 17) روضة الطالبين للنووي (11/ 101)، المسودة ص 547، رسائل ابن عابدين (1/ 11)، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لابن حمدان ص 17، حاشية البناني على جمع الجوامع (2/ 385)، أعلام الموقعين (4/ 270)، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 113، شرح الكوكب المنير (4/ 367)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 184، البحر المحيط (6/ 211)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1079)، أصول الأحكام ص 365، 374.

وبين مراتب المجتهدين عند الأصوليين، فقال: "المفتون الذين نَصبُوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام: "أحدهم: العالم بكتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهادُه تقليدَه لغيره أحيانًا، فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام، وقد قال الشافعي رحمه اللَّه ورضي عنه في موضع من الحج: "قلته تقليدًا لعطاء". "فهذا النوع يسوغ لهم الإفتاء، ويسوغ استفتاؤهم، ويتأدى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَّه يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يجدّدُ لها دينها" (¬1)، وهم غرسُ اللَّه الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه: "لن تخلُو الأرضُ من قائمٍ للَّه بحجته". "النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها، وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه، من غير أن يكون مقلِّدًا لإمامه، لا في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه ورتَّبه وقرَّره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا، مثل القاضي أبي يعلى من الحنابلة". "النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه، مقرر به بالدليل، متقن لفتاويه، عالم بها، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة، وهذا شأن أكثر المصنفين في مذاهب أئمتهم، وهو حال أكثر علماء الطوائف". "وكثير منهم من يظن أنه لا حاجة به إلى معرفة الكتاب والسنة والعربية، ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه أبو داود، والحاكم، والبيهقي في "المعرفة" عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه مرفوعًا.

مراتب العلماء اليوم

لكونه مجتزيًا بنصوص إمامه، فهي عنده كنصوص الشارع، وقد اكتفى بها مِن كلفة التعب والمشقة، وقد كفاه الإمام استنباط الأحكام ومؤنة استخراجها من النصوص، وقد يرى إمامه ذكر حكمًا بدليله، فيكتفي هو بذلك الدليل من غير بحث عن معارض له". "وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطولة والمختصرة، وهؤلاء لا يدَّعون الاجتهاد، ولا يقرون بالتقليد" (¬1). "النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذهب من انتسبت إليه، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا الكتاب والسنة يومًا في مسألة، فعلى وجه التبرك والفضيلة، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وغيرهم من الصحابة رضي اللَّه عنهم قد أفتوا بفتيا، ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفهم، أخذوا بفتيا إمامهم، وتركوا فتاوى الصحابة، قائلين: الإمام أعلم بذلك منا، ونحن قلّدناه، فلا نتعداه ولا نخطاه، بل هو أعلم بما ذهب إليه منا". "ومن عدا هؤلاء فمتكلف متخلف، قد دنا بنفسه عن رتبة المشتغلين، وقصَّر عن درجة المحصلين، فهو مكذلك مع المكذلكين، وإن ساعد القدر واستقل بالجواب، قال: يجوز شرطه، ويصح شرطه، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي، ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، ونحو ذلك من الأجوبة التي يستحسنها كل جاهل، ويستحي منها كل فاضل" (¬2). مراتب العلماء اليوم: إذا أردنا أن نطبق هذه الأسس على علماء الشريعة اليوم، فنستطيع أن ¬

_ (¬1) انتقد ابن القيم رحمه اللَّه تعالى هذا القسم لبلوغهم درجة الاجتهاد، واستنباط الأحكام، وترجيح ما يشهد له النص، ثم يلزمون أنفسهم بمذهب إمام يعتبرونه أعلم من غيره، وأحق بالاتباع من سواه، وأن مذهبه هو الراجح، والصواب دائر معه. (¬2) أعلام الموقعين (4/ 270) وما بعدها.

نصنفهم حسب الشهادات التي يحصلون عليها في الغالب، أي: إن المتخرج من الثانوية الشرعية، أو المعاهد الدينية، يمثل النوع الرابع الذي ينقل رأي إمام مذهبه ويفتي به، ولا قدرة له ولا طاقة على الاجتهاد للمسائل الجديدة، والمتخرج من كليّات الشريعة يعتبر من النوع الثالث ممن ينقل قول إمامه مع دليله، وقد يقيس عليه، والمتخرج من تخصص الماجستير في الشريعة فهو من النوع الثاني، فهو مجتهد مقيد في مذهب إمامه، وقد يختار ويجتهد في حدود ضيقة، والمتخصص في الشريعة مع البحث والدراسة ودرجة العالِمية الدكتوراه يعتبر من النوع الأول، فهو مجتهد غير مستقل، فيرجح ويفتي، ويجتهد في مجال اختصاصه، ويختار.

المبحث الثالث أهمية الاجتهاد والحاجة إليه

المبحث الثالث أهمية الاجتهاد والحاجة إليه سبق في مطلع الباب الثالث إشارة إلى أهمية الاجتهاد، وأنه من المقرر شرعًا أن لكل حادثة أو واقعة في الكون حكمًا شرعيًّا، وأن نصوص الشرع الواردة في القرآن والسنة لبيان الأحكام محدودة، ولكن فيها إعجاز بلاغي، وشمولي، وموضوعي، وكلي لأحكام الذين عامة، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وجاءت السنة النبوية بجوامع الكلم، وبيان الأحكام الواردة في القرآن، وبيان أسس التشريع ومبادئه وقواعده، وحددت مقاصد التشريع وغاياته وأهدافه، ليأتي العلماء الفقهاء المجتهدون لمتابعة المسيرة، التي أقرها القرآن الكريم والسنة الشريفة في مشروعية الاجتهاد التي سبق بيانها. وكان الاجتهاد أحد المصادر الرئيسة الثلاثة التي أقرها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ رضي اللَّه عنه: "القرآن، والسنة، والاجتهاد". وإن النصوص الشرعية -وهي الأصل والأساس- متوقفة ومعتمدة على الوحي، وقد انقطع الوحي بوفاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وختمت الشريعة النضية، ولكنها أقرت الاجتهاد ليكون بابًا مفتوحًا أمام المجتهدين حتى تقوم الساعة؛ لتلبية حاجات الأمة في التشريع، وكشف أحكام اللَّه تعالى في كل ما يعرض للمسلمين خاصة، وللبشرية عامة، وإلا وقع النقص في التشريع، والجمود في البيان، وهو ما يأباه الذين، ويحمّل أتباعه مسؤولية التقصير في الدنيا والآخرة، ولذلك كان اتساع الاجتهاد ونشاطه وحركته وتطوره يتناسب طردًا مع حال الأمة الإسلامية في التقدم والرقي، والحضارة والثقافة، والحكم والدعوة، والتشريع والتنظيم، والعلم والتعليم، ونتيجة لذلك طرح فتح باب الاجتهاد في العصور الأولى، وشاع في عصر الجمود والتخلف والانحطاط فكرة سدّ باب الاجتهاد، ثم عادت الأمور إلى مجاريها للدعوة إلى فتح باب الاجتهاد، والحرص على ممارسته، كما سنرى بعد قليل.

مكانة الاجتهاد

مكانة الاجتهاد: تظهر أهمية الاجتهاد ومكانته من خلال النقاط التالية: 1 - الاجتهاد حكم شرعي: إن الاجتهاد -كما سبق في مشروعيته- حكم شرعي مقرر ثابت بالنصوص والإجماع، وهو مهم للغاية، ويجب ممارسته وتطبيقه والعمل به وجوبًا شرعيًّا، فيثاب فاعله، ويعاقب الأهل له بتركه، وإذا تركه الجميع أثموا، كما سبق في بيانا حكمه، فالاجتهاد -في حد ذاته- عبادة، وتعبد للَّه تعالى في وسائله وغايته، وتقرب لرضوانه في الدنيا والآخرة، ليفوز المجتهد بمكانة العلماء الثابتة شرعًا. وإن تعطيل الاجتهاد، أو ادّعاء غلقه، والعزوف عنه، يعطّل حكمًا أساسيًّا مهمًا في الشرع، كإقامة الدولة الإسلامية، والجهاد، وأركان الإسلام، وينعكس أثره السيِّء على سائر المسلمين، والأمة، والمجتمع، والدعوة، والتطور، والحياة، ومستقبل المسلمين، ومكانتهم في الأرض، وتحت الشمس، وبين الأمم، كما حصل في العصور الأخيرة. 2 - أحكام النوازل والمستجدات: إن الاجتهاد هو الوسيلة الوحيدة للمسلمين لإيجاد الأحكام والحلول للمشكلات الطارئة، والنوازل الواقعة، والمستجدات المتلاحقة، بغية معرفة حكم اللَّه تعالى فيها، وتسهيل حياة المسلمين، وتيسير ظروفهم وأحوالهم وشؤونهم، وبيان مصالحهم في ضوء الشريعة الغراء، بجلب المصالح والمنافع لهم، ودفع المضار والمفاسد، والهلاك والضرر عنهم، وحمايتهم من السيطرة التشريعية الأجنبية، أو الاستعمار التشريعي، واستيراد الأحكام من الأعداء، وإبعاد الجمود الفكري والعقلي والشرعي عن حياتهم. 3 - صلاحية الشريعة: إن الاجتهاد هو الوسيلة الوحيدة التي تؤكد صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وتبين خصائص الشريعة وسماتها وواقعيتها ومرونتها

4 - الثروة الفقهية التشريعية

وقدرتها على التطبيق، ومجاراتها لتطور الحياة، وكانت السلاح الوضاء أمام العلماء والدّعاة في الدّعوة لتطبيق شرع اللَّه وأحكامه ودينه في جميع الأعصار والأمصار، وإلا تعطلت الشريعة، وفقدت سر بقائها، وتعرض أهلها للغزو الفكري والتشريعي ليحل محل الفقه الإسلامي. 4 - الثروة الفقهية التشريعية: إن الاجتهاد في العصور الأولى، وحتى في المراحل اللاحقة، كان الوسيلة الوحيدة حيث أعطى الأمة الإسلامية ثروة فقهية زاخرة، وتراثًا غزيرًا، تضاهي بها العالم، ويندر وجود مثيلها عند أمة أخرى، وزوَّد المسلمين بملايين المؤلفات والمصنفات والموسوعات والمجلدات والكتب الفقهية التي عوّل عليها العالم أجمع في العصور الحديثة، والنهضة المعاصرة، ويستفيد منها المسلمون، ويتخيرون ما يقوى دليله، ويصلح للعصر، ثم يجتهدون فيما وراءه. ولا يزال الاجتهاد -بل يجب أن يكون- السلاح الذي يعوِّل عليه المسلمون اليوم في إغناء شعوبهم أولًا، وتزويد العالم ثانيًا، بالحلول الشرعية التي تنبثق من الأصول الشرعية، لتحقيق مصالح الناس بأفضل الوسائل، وأنجع المناهج، ويكفي أن نشير مثلًا إلى ما حققه الاجتهاد المعاصر في الاقتصاد الإسلامي، وبيان الأحكام الشرعية المؤصلة للمؤسسات المالية الإسلامية، كالمصارف، والتأمين، والسوق المالية، وسائر المعاملات المعاصرة، مما ينعم به المسلمون اليوم، وبربطهم بدينهم وعقيدتهم وتراثهم، ويحقق مصالحهم، ويدفع عنهم غائلة النظم المادية الأخرى. 5 - إعمال الفكر والعقل: إن الاجتهاد -بحد ذاته- يغذي فكر المسلمين عامة، والعلماء خاصة، ويمنحهم الإثراء العقلي، والتفتح الذهني، وتشغيل الدماغ والعقل فيما يعود بالخير والنفع على الأمة والإنسانية، ويساهم في تطوير البحث النظري والشرعي، ويوسع مدارك المتعلمين والمتفقهين على جميع المستويات، ويعمق الحوار الجاد، والمناظرات العلمية الفاعلة والنافعة للناس، وبالتالي يتجدد الفكر بدلًا من الجمود والتعطيل، والمحاكاة والتقليد الذي يساهم

6 - الارتباط بمصادر التشريع

بتهيئة النفوس للاستعمار الفكري والثقافي والتشريعي، فالاجتهاد يطرد ذلك، ويجعل العلماء والفقهاء والمجتهدين والأمة في المكان الذي يحبه اللَّه ويرضاه، ويدعو إليه ويرغب به. 6 - الارتباط بمصادر التشريع: إن الاجتهاد العملي يعمق الارتباط بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، ويُحكم الصلة بآثار الصحابة والتابعين، ويتفاعل مع فتاوى السلف والخلف، ويوثق الصلة باللغة العربية والتراث العظيم، وتاريخ التشريع الإسلامي في مختلف أطواره، فيستفيد المجتهد من كل ذلك، ثم يبدع وينتج ويستخرج الأحكام الشرعية التي تنفع الناس، ويوجد الحلول الإسلامية لمجريات الحياة. 7 - الارتباط بالواقع والحياة: إن المجتهد في قضايا عصره يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة الناس، وهموم الأمة، والنوازل التي تقع، فيكون مجتهدًا وعالمًا واقعيًّا يفهم حياته وعصره، ولا يبقى في البرج العاجي الخالي من الناس، ويقطع عنه أحلام الماضي، والتغني بالآباء والأجداد، بل يعيش مع أهل العصر، ويكشف لهم الطريق الشرعي لمعاملاتهم على ضوء الكتاب والسنة وسائر مصادر التشريع الإسلامي. وهذا يقودنا إلى دراسة الفتوى ل غلق باب الاجتهاد، ثم بيات الدعوة إلى فتحه، واستمرار الاجتهاد طوال العصور. غلق باب الاجتهاد: إن أهمية الاجتهاد، ومعرفة مكانته، وممارسته عمليًّا، يتوقف على توفر المجتهدين، وتحقق الشروط المطلوبة فيهم، حتى لا يكون الاجتهاد وسيلة للدس والتخريب، والهدم، وتحريف الدِّين، والعبث بأحكامه، والانحراف به نحو الهاوية بالاتجاه المعاكس لمشروعيته أصلًا. وهذا ما خشي منه العلماء الغيورون على دينهم فيما بعد القرن الرابع، لما رأوا من ضعف الدولة الإسلامية، وانقسامها إلى دويلات وممالك، وتشرذم كثير من العلماء مع الحكام المتنفذين، وضعف الاستقلال الفكري،

فتح باب الاجتهاد

وجمود النشاط العلمي، وشيوع المذاهب الفقهية واستقرارها، ونتج عن ذلك التعصب المذهبي، والعكوف على نصوص الأئمة والفقهاء السابقين، وإثارة الخلافات المذهبية، والمناظرات والمجادلات الضيقة، والوقوف على الفروع الفقهية والجزئيات الخلافية، مع ضعف الملكات، وغياب الحركة الاجتهادية، وضعف الوازع الديني، حتى وصل الأمر إلى ادّعاء الاجتهاد من غير أهله، والتصدي للفتوى وإبداء الآراء المخالفة لأبسط الأسس والقواعد الشرعية، ولذلك أعلن كثير من العلماء غلق باب الاجتهاد؛ لسد الطريق أمام الجهال أو أنصاف العلماء، للوقوف حصرًا على أقوال المذهب المنتشرة والسائدة، وذلك بحسن نية، ومن باب السياسة الشرعية التي تعالج حالة قائمة، أو أمرًا مؤقتًا، أو فوضى اجتهادية، وظرفًا طارئًا، وليس لها دليل شرعي صحيح، أو حجة قوية، ثم شاع ذلك وانتشر (¬1). وكان من أثر هذه الدعوة، ورفع هذا الشعار أن فترت الهمّة، وجمد النشاط، وخف الاجتهاد إلى أدنى مستواه، وانصرف معظم الفقهاء إلى تدوين الكتب المذهبية والخلافية، واختصارها في متون، ثم وضع الشروح والحواشي عليها، وجمع أقوال إمام المذهب، ولمّ شتات الوجوه وأقوال الأصحاب والأتباع، مع الالتزام المذهبي والتعصب له، وعدم قبول رأي المذهب الآخر، حتى ضاق بعض الحكام والناس من الفراغ التشريعي لتطور، الحياة ومستجدات الزمن، واستغل أعداء الإسلام هذه الحالة، فجاؤوا بتشريعاتهم ونظمهم التي فرضوها على المسلمين. فتح باب الاجتهاد: إن الأسباب التي دعت بعض العلماء إلى الفتوى بقفل باب الاجتهاد لم تكن عامة، ولم يتم الاتفاق عليها، ولم تصدر بصيغة رسمية بمنع العلماء من ¬

_ (¬1) يقول الشيخ محمد سعيد الباني رحمه اللَّه تعالى عن دعوى سد باب الاجتهاد: "دعوى فارغة، وحجة واهنة، أوهن من بيت العنكبوت؛ لأنها غير مستندة إلى دليل شرعي أو عقلي سوى التوارث" عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 62، وانظر: إرشاد الفحول ص 253، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1085)، أصول الأحكام ص 363.

الاجتهاد، بل بقي الباب مفتوحًا، وإن ولجه القليلون، ومارسه بعض الأفراد. وكانت أبواب العلم مفتوحة، والمدارس والمعاهد والجامعات والمساجد العلمية تمارس وظيفتها إلى حد ما، ومن هنا ظهر في كل مذهب، وفي كل بلد، وفي كل عصر، عدد من فقهاء المذاهب، ووصل كثير منهم إلى درجة الاجتهاد، إما لطبقة المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج، أو مجتهد الترجيح، أو مجتهد الفتيا، وأعلن كثير منهم الوصول إلى درجة الاجتهاد، ولكن الظروف والتعصب وشيوع الجمود لم تشجعه على ذلك، ولم تفتح له الأذهان، مع انتشار فتوى غلق باب الاجتهاد، وضعف الثقة بالنفس أحيانًا، وبسبب الحسد والتعصب أحيانًا أخرى. ومن رجع إلى كتب تاريخ التشريع الإسلامي عامة، وكتب طبقات الفقهاء في كل مذهب، تيقن وجود هؤلاء المجتهدين غير المستقلين، والذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد المطلق أو المجتهد المستقل (¬1). ويتأكد ذلك يقينًا بأن العصور التي عرفت بسد باب الاجتهاد هي التي ظهر فيها العلماء في كل مذهب يحققون آراءه، ويرجحون بين الروايات، ويمحصون الأدلة، ويحددون القول الراجح والمعتمد في المذهب من جهة، ثم يخرجون الآراء للقضايا المستحدثة، والأمور الطارئة قياسًا على ما ورد في المذهب، وتفريعًا لأصوله وقواعده، من أمثال الكمال بن الهمام وابن عابدين في المذهب الحنفي، والشيخ خليل والقرافي والونشريسي في ¬

_ (¬1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وأما قول الغزالي: وقد خلا العصر عن المجتهد المستقل، فقد سبقه إليه القفال شيخ الخراسانيين، فقيل: المراد مجتهد قائم بالقضاء، فإن المحققين من العلماء كانوا يرغبون عنه، ولا يلي في زمانهم غالبًا إلا من هو دون ذلك، وكيف يمكن القضاء على الأعصار، بخلوها عن مجتهد؟ والقفال نفسه كان يقول للسائل في مسألة الصبرة: تسأل عن مذهب الشافعي أم ما عندي؟ وقال هو، والشيخ أبو علي الطبري والقاضي حسين: لسنا مقلدين للشافعي، بل وافق رأينا رأيه، فهذا كلام من يدّعي رتبة الاجتهاد، ولم يختلف اثنان أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد، كما قاله ابن الرفعة" البحر المحيط (6/ 208 - 209).

المذهب المالكي، والرافعي والنووي والرملي في المذهب الشافعي، وابن قدامة وابن مفلح ويونس البهوتي في المذهب الحنبلي، والصنعاني والشوكاني في المذهب الزيدي، وغيرهم كثير، وفي سائر المذاهب، ممن كان لهم الفضل في تنقيح المذهب، وتحقيقه، ونقله، والتدليل للمعتمد فيه، والتصنيف فيه، وتعلميه، وتخريج المسائل الجديدة قياسًا على نظائرها وأشباهها، ولكنهم لم يستطيعوا مسايرة ومجاراة التقدم الدائم، أو التطور السريع، والنوازل الواقعة (¬1). وأكد العلامة السبوطي رحمه اللَّه تعالى (911 هـ) على وجود الاجتهاد طوال التاريخ الإسلامي، وأنه مستمر في جميع المراحل، وأنه ظهر في كل بلد، وفي كل مذهب، عدد من العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، والذين مارسوه فعلًا، وسمى كتابه "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"، وجمع نصوص العلماء من جميع المذاهب الفقهية القائلين بفرضية الاجتهاد وذم التقليد، ووجود المجتهدين فعلًا في كل مذهب، ومما نقله عن محيي السنة أبي محمد البغوي في كتابه "التهذيب" وهو من أجل الكتب المصنفة في الفقه، قوله: "العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ... ، وفرض الكفاية هو أن يتعلم ما يبلغ رتبة الاجتهاد ومحل الفتوى والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين، فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحد أو اثنان سقط الفرض عن الباقين، فإذا قعد الكل عن تعلمه عصَوْا جميعًا؛ لم فيه من تعطيل أحكام الشرع، قال اللَّه تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]، إلى آخر كلامه" (¬2). وسبق إلى ذلك الشهرستاني رحمه اللَّه تعالى (548 هـ) في كتابه "الملل والنحل" وبيَّن عصيان أهل العصر بأسرهم إذا قصروا في القيام بفرض ¬

_ (¬1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "والحق أن العصر خلا عن المجتهد المطلق، لا عن مجتهد في مذهب أحد الأئمة الأربعة" البحر المحيط (6/ 209). (¬2) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 4، طغ دار الكتب العلمية - بيروت - تحقيق الشيخ خليل الميس - سنة (1403 هـ / 1983 م).

الاجتهاد، وأقام الأدلة على فرضيته، ومنها الدليل العقلي القطعي، فقال: "وبالجملة نعلم قطعًا ويقينًا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعًا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يُتصور ذلك أيضًا، والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد" (¬1). وسبق الاثنين حُجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه اللَّه تعالى (505 هـ) فقال: الاجتهاد ركن عظيم في الشريعة، لا ينكره منكر، وعليه عول الصحابة، بعد أن استأثر اللَّه برسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتابعهم عليه التابعون إلى زماننا هذا، ولا يستقل به أحد، ولكن لا بدَّ من أوصاف وشرائط، مجملها أن نقول: المجتهد: هو المستقل بأحكام الشرع نصًّا واستنباطًا، وأشرنا نصًّا إلى الكتاب والسنة، وبالاستنباط إلى الأقيسة والمعاني" (¬2). ونقل السيوطي رحمه اللَّه تعالى عبارة ابن عبد السلام من أئمة المالكية في كتابه "شرح مختصر ابن الحاجب" (646 هـ) في باب القضاء، حيث يقول: "إن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وهي شرط في الفتوى والقضاء، وهي موجودة إلى الزمان الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بانقطاع العلم، ولم نصل إليه الآن، وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ، وذلك باطل". ثم علق السيوطي على ذلك فقال: "فانظر كيف صرح بأن رتبة الاجتهاد غير متعذرة، وأنها باقية إلى زمانه، وبأنه يلزم من فقدها اجتماع الأمة على الباطل، وهو محال" (¬3). وهكذا يظهر أن باب الاجتهاد ولم يفلق حقيقة، وإنما كانت الفتوى في بعض العلوم لسد الطريق أمام أصحاب الأهواء، ومن يتتبع تاريخ الفقهاء ¬

_ (¬1) الملل والنحل، له (1/ 199، 205). (¬2) المنخول، له ص 462، تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو، طغ دار الفكر- دمشق - (1390 هـ 1970 م). (¬3) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 24.

الاجتهاد في العصر الحاضر

وطبقاتهم في كل عصر، وفي كل مذهب، تأكد أن الاجتهاد لم يتوقف في أي مذهب وفي أي عصر، ولكن تتفاوت نسبته وعمقه، مع الاعتراف بوجود التقصير في عصور التخلف والانحطاط مما أدى إلى عدم مواكبة أحداث الزمن ووقائعه. الاجتهاد في العصر الحاضر: أحس المسلمون عامة، والعلماء خاصة منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري، والعشرين ميلادي، بضررورة العودة إلى رحاب الشريعة الغراء في التطبيق والحياة، وأدركوا عوامل الخمود والكسل والركود التي سبقت ذلك، فشمروا عن ساعد الجد، وطالبوا بالالتزام بالشرع الحنيف، وساهموا في فتح الكليات والجامعات والمعاهد، ودرسوا مختلف العلوم الإسلامية، وخاصة أصول الفقه، والفقه المقارن بين المذاهب، والموازنة مع القوانين الأجنبية المستوردة، وأدلوا بدلوهم تدريجيًّا في الاجتهاد، وبيان الأحكام في النوازل والمستجدات، ومارسوا الاجتهاد عمليًّا، وتعالت أصواتهم بالدعوة مجددًا إلى فتح باب الاجتهاد، وإنهاء دعوى أو فتوى غلق باب الاجتهاد، وطلبوا من العلماء الذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد أن يتولوا القيام به، ولو جزئيًّا، ليعود الأمر إلى الأصل الشرعي، وقرر معظم العلماء أن باب الاجتهاد لم يغلق أصلًا، وإنما وضعت القيود عليه خشية العبث به، ولوجود الموانع أمامه، وإذا زال المانع عاد الممنوع، وأن الأمة والعلماء مدعوّون قطعًا لتحصيل شروط الاجتهاد، ثم العمل بموجبه، وأن فضل اللَّه على عباده لم ولن ينحصر في وقت دون آخر، ولم ولن يتحدد بجيل دون آخر، وأن الخير في هذه الأمة حتى تقوم الساعة، ويجب أن تنفض عن كواهلها عوارض الكسل والخمود، لتمارس نشاطها الفقهي والاجتهاد. وإن الظروف المعاصرة تستدعي الاجتهاد وتوجبه لسببين رئيسين: السبب الأول: الصحوة الإسلامية المعاصرة، والمرافقة للتطور التقني في تدوين الكتب الشرعية في علوم القرآن، وعلوم السنة، وأصول الفقه، والموسوعات الفقهية، وإحياء التراث، وتحقيقه، ونشره، وسهولة الطباعة لأمهات الكتب في مختلف العلوم، مما يسهل على العلماء الزاد العلمي، وييسر لهم سبل الاجتهاد.

السبب الثاني: التطور المعاصر في مختلف شؤون الحياة، وكثرة المستجدات والنوازل والوقائع التي تحتاج إلى بيان الأحكام الشرعية لها، ووجود التحدي من الأنظمة والتشريعات الوافدة من الاتجاه المعاكس، والنظريات المادية، والهيمنة الفكرية، والعولمة، والغزو الثقافي والتشريعي، وظهور الاستعمار القانوني المعاصر. وذلك بالإضافة إلى الدواعي الشرعية السابقة لضرورة الاجتهاد، وحتمية وجوده، وأهميته، وأداء وظيفته. وظهر في العصر الحاضر المجامع الفقهية، والندوات، والمؤتمرات التي تجمع كبار العلماء لبحث القضايا المعاصرة، والاجتهاد الجماعي فيها، وإصدار الفتاوى بالاتفاق أو بالأغلبية لبيان الحلول الشرعية لقضايا الأمة والمجتمع والمؤسسات والشركات والأفراد، واختيار الآراء المناسبة من مختلف المذاهب بما يوافق روح العصر والتقدم والرقي والمكتشفات العلمية الحديثة. وظهر في معظم البلاد العربية والإسلامية هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث، ودار الفتوى، ومنصب المفتي العام، ودوائر الشؤون الإسلامية، بالإضافة إلى أساتذة الفقه وأصول الفقه وتاريخ التشريع والفقه المقارن في الكليات والجامعات والمعاهد العليا ممن يجيدون البحث العلمي، ويكتبون البحوث المحكمة والمعمقة، ويقدمون الدراسات والأوراق للندوات والمؤتمرات ومجامع الفقه، إضافة إلى كبار القضاة الذين يتمرسون على فصل المنازعات والاختلافات التي لم يسبق لها مثيل، فيجتهدون في إصدار الأحكام الشرعية فيها، ويستقر عليها العمل، وتصبح سوابق قضائية، وتنتقل من بلد إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، وتجمع في مدونات، وتطبع وتنشر. وهكذا يحافظ الاجتهاد في عصرنا الحاضر -كما كان في السابق- على حياة التشريع، ومرونة الفقه، وتطوره، وفعاليته، ويحافظ الاجتهاد على بقاء الفقه الإسلامي في المعاملات، ويتطلع إليه الخاصة والعامة لحل المشكلات، وإيجاد الحلول الموافقة للشرع للمعضلات التي رانت على القلوب بعد سيطرة الفكر المادي، والاستعمار التشريعي.

وإذا كان الاجتهاد المطلق، والمجتهد المستقل، يصعب حصوله اليوم، فإن سائر أنواع الاجتهاد، وسائر طبقات المجتهدين، ومراتبهم، موجودة، وإن معظم شروط الاجتهاد -اليوم- متحققة ومتوفرة، وستبقى حتى تقوم الساعة، وهو ما عبّر عنه الغزالي والشهرستاني وابن عبد السلام والسيوطي وغيرهم، وهو ما ينادي به كبار العلماء والفقهاء في هذا العصر، لتظل راية الشرع عالية خفاقة بإذن اللَّه تعالى.

المبحث الرابع مجال الاجتهاد

المبحث الرابع مجال الاجتهاد نخصص هذا المبحث لبيان مجال الاجتهاد، أو محل الاجتهاد، أو نطاق الاجتهاد، وهو الركن الثالث من أركان الاجتهاد السابقة، وهو المجتهد فبه، لبيان ما يسوغ الاجتهاد فيه. وأشرنا سابقًا إلى أن الأحكام الشرعية كلها تؤخذ من مصدرين أساسيين، وهما: النصوص الشرعية، والاجتهاد. ولكن وضعَ الفقهاءُ وعلماء الأصول قاعدة أساسية مهمة، وهي: لا اجتهاد في مورد النص، ويتبادر إلى ذهن كثير من الناس أن الاجتهاد مقابل للنص، وأنه لا اجتهاد نهائيًّا في النصوص؟! وهذا غير دقيق نهائيًّا، وغير مقصود للعلماء؛ لأن الاجتهاد يقع بالنصوص قطعًا ويقينًا بالاتفاق، ومن هنا تظهر أهمية هذا المبحث لبيان مجال الاجتهاد أو نطاقه أو محله أو المجتهد فيه. ونسارع إلى القول: إن مجال الاجتهاد واسع جدًّا جدًّا، ويكاد يغطي معظم الأحكام الشرعية، وأنه لا يخرج عن مجال الاجتهاد إلا أمران فقط، ولذلك نحدد ما يخرج عن الاجتهاد أولًا، ثم نبين ما يتناوله الاجتهاد ثانيًا. أولًا: ما لا يجوز الاجتهاد فيه: لا يجوز الاجتهاد، ولا يصح، وإن حصل وقع باطلًا، في أمرين فقط، وهما: النصوص القطعية الثبوت والدلالة، وما وقع عليه الإجماع. 1 - النصوص القطعية في الثبوت والدلالة: إن النصوص الشرعية تعني ما ثبت في القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولكن هذه النصوص بعضها قطعي الثبوت، وهو القرآن الكريم والأحاديث المتواترة، وبعضها ظني الثبوت، وهو الأحاديث المشهورة، وأحاديث الآحاد، وكل من القسمين إما أن يكون قطعي الدلالة، أي: له معنى واحد محدد متبادر إلى الذهن، وليس فيه احتمال آخر أصلًا غير المعنى السابق،

وإما أن يكون ظني الدلالة، أي: يدل على معنى ويحتمل معنى آخر، أو يدل على معنيين فأكثر. فإذا كان النص الشرعي قطعي الثبوت وقطعي الدلالة فلا مجال فيه للاجتهاد، ولا يصح فيه الاجتهاد، وتنطبق عليه القاعدة السابقة بشكل كامل وصحيح "لا اجتهاد في مورد النص"، أو "لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نصّ قطعي". وهذا ما أراده الغزالي رحمه اللَّه تعالى في تحديد المجتهد فيه، فقال: "هو كلُّ حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي" (¬1). وهذه الأحكام التي تثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة تشمل المسائل الأساسية في الدِّين، سواء كانت في مسائل الاعتقاد والتوحيد والإيمان، أو في العبادات، وسائر الأحكام العملية الأخرى، فالحكم فيها واحد قطعًا ويقينًا، حتى لا يكون الخلاف فيها مفضيًا للنزاع والخلاف وتفريق الصف، وانقسام الأمة. وهذه النصوص الذي تعني معنى واحدًا فقط، لا تقبل التأويل بصرفها عن ذلك المعنى، ولا تقبل النسخ لانتهاء مدته بانقطاع الوحي، كما سبق، ويطلق عليها علماء الأصول: المُحْكَم الذي يتحدد البحث فيه بتفسير معناه، وفهمه، بحسب مقتضى اللغة والشرع لبيان دلالته، أو معرفة علته للقياس عليه، أو استنباط مقاصده للاهتداء بها في حالات أخرى. ومن أمثلة ذلك وجوب الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وتحريم القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، وتحديد عقوباتها المقدرة لها بنصوص القرآن والسنَّة المتواترة القولية والفعلية، وكذا الكفارات المقدرة، والأعداد الواردة في الكفارات والحدود، مثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فهذان النَّصان لا يحتملان ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 354)، ونقل الشوكاني عن الفخر الرازي مثل ذلك، فقال: "المجتهد فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع" إرشاد الفحول ص 252، وانظر: علم أصول الفقه ص 216.

2 - الأحكام المجمع عليها

الاجتهاد؛ لأنهما قطعيا الثبوت، من ناحية كونهما نصًّا قرآنيًّا ثابتًا بالتواتر، كما أنهما قطعيا الدلالة؛ لأن لفظ "مئة" ولفظ "ثمانين" من الألفاظ الخاصة التي تدل على معناها دلالة قطعية، ولا تحتمل معنى آخر. 2 - الأحكام المجمع عليها: إن الإجماع في أصله اجتهاد، إما أن يقع في نصوص ظنية، ولكن يقع اتفاق جميع المجتهدين على أحكامها، فتصبح ثابتة بالإجماع، وإما أن يقع في مسائل لا نص عليها، ويتفق المجتهدون على حكم فيها، وفي هاتين الحالتين لا يصح الاجتهاد؛ لأن الإجماع جعل حجيتها قطعية، واستقرت الأحكام فيها، وخرجت عن مجال الاجتهاد ومحله، كبطلان عقد زواج المسلمة من غير المسلم، وجواز عقد الاستصناع، واعتبار الجد كالأب في الميراث، وخلافة أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، وغير ذلك. ويدخل في ذلك ما علم من الدِّين بالضرورة، مما شاع وانتشر بين المسلمين؛ لأنه إما أنه ثابت بدليل قطعي الثبوت والدلالة، أو غير ذلك، ولكن اشتهاره وانتشاره وشيوعه جعله كأنه إجماع، ولا يوجد له مخالف من المسلمين الذين يعتدّ بهم، كمشروعية البيع والزواج، وحرمة الربا وشهادة الزور وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين وسائر الكبائر (¬1). ثانيًا: ما يجوز فيه الاجتهاد: إن مجموع الأحكام التي لا يجوز فيها الاجتهاد معدودة ومحصورة، وما عدا ذلك فيجوز فيه الاجتهاد مما لا عدَّ له، ولا حصر، وتتلخص في أمرين، الأول: ما لا نصَّ فيه أصلًا، وهو كثير كثير، والثاني: ما فيه نص غير قطعي، وتفصيل ذلك فيما يجوز فيه الاجتهاد يشمل ما يلي: ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 354)، البحر المحيط (6/ 197، 198)، إرشاد الفحول ص 252، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1052)، أصول الأحكام ص 370، الفصول (4/ 11، 13)، علم أصول الفقه ص 216.

1 - النصوص القطعية الثبوت الظنية الدلالة

1 - النصوص القطعية الثبوت الظنية الدلالة: إن النصوص القطعية الثبوت تشمل كما سبق نصوص القرآن والأحاديث المتواترة، فإن كانت ظنية الدلالة بأن يحتمل النَّص أكثر من معنى واحد فإنه محل للاجتهاد فيه للبحث عن معرفة المعنى المراد من النص، وقوة دلالته على المعنى، كأن يكون النص عامًّا، أو مطلقًا، وكل منهما يدل على عدة معان، وقد تكون دلالة اللفظ بطريق العبارة أو الإشارة، أو بالمنطوق، أو بالمفهوم، أو غير ذلك مما سبق بيانه في باب الدلالات، وقد يكون العام باقيًا على عمومه، وقد يكون مخصَّصًا، مع الاختلاف في تخصيصه، وقد يكون المطلق باقيًا على إطلاقه، وقد يكون مقيدًا، والأمر الوارد بالنص القطعي يدل في الأصل على الوجوب، ولكنه قد يراد منه الندب أو الإباحة أو غيرهما، والنهي الوارد في النص القطعي يدل في الأصل على التحريم، وقد يصرف إلى الكراهة أو غيرها، وهكذا سائر مباحث الدلالات، أو تفسير النصوص السابقة، كالاختلاف في مقدار مسح الرأس في الوضوء، والاختلاف في معنى القرء، وغير ذلك مما سبق بيانه. 2 - النصوص الظنية الثبوت الظنية الدلالة: إن الأحاديث المشهورة، وأحاديث الآحاد التي ثبتت بطريق الظن، تكون محلًا للاجتهاد، وإن كانت قطعية الدلالة، كحديث نصاب الغنم والإبل في الزكاة، فهو قطعي الدلالة، لكنه يحتمل الاجتهاد فيه، للبحث في السند، وطريق الوصول، ودرجة الرواة من العدالة والضبط وغيرهما مما يؤدي حتمًا إلى الاختلاف حسب تقدير المجتهدين، وهو أحد أسباب اختلاف الفقهاء، كما سبق بيانه في الجزء الأول، فبعضهم يثبت عنده الحديث، ويطمئن إليه، ويثبت الحكم الوارد فيه، وبعضهم لا يثبت عنده الحديث، ولا يطمئن له، فيرفض الأخذ به، وهذا مجال للاجتهاد، ويؤدي إلى اختلاف المجتهدين، وهو كثير في الأحكام العملية. وهذه النصوص الظنية الثبوت كثيرًا ما تكون ظنية الدلالة، وتحتمل أكثر من معنى، فإن اتفق العلماء على صحة ثبوتها (بالطريق الظني) فيرد الاجتهاد في مضمونها ومتنها، مما يسميه الجمهور بالدراية، فقد يثبت الحديث عند

3 - ما لا نص فيه ولا إجماع

مجتهدَيْن، ولكنهما يختلفان في دلالته، كحديث: "البيّعان بالخيار ما لم يفترقا"، وقد يختلفان في عمومه وتخصيصه، وإطلاقه وتقييده، ونوع دلالته بالمنطوق والمفهوم، والعبارة والإشارة، وغير ذلك، وهو محل للاجتهاد، وقد يعتمدون على القواعد اللغوية ومقاصد الشريعة لترجيح المعنى المراد على الآخر. 3 - ما لا نص فيه ولا إجماع: إن القضايا التي لم يرد فيها نص أصلًا، ولم يقع عليها إجماع، يجب على المجتهدين أن يبحثوا عن حكمها بالأدلة العقلية التي أقرها الشرع، كالقياس، والاستحسان، والاستصلاح، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، والعرف، وغيره من أدلة الأحكام ومصادر التشريع المختلف فيها، وكلها تدخل في باب الاجتهاد، وتكون محلًا للاجتهاد، ومجالًا للمجتهد، وهذا باب واسع جدًّا، ومسائله لا تُحدّ، ولا تُعدّ، ولا تُحصى، وتتبع التطور، وكل القضايا المستجدة، والطوارئ في كل عصر حتى تقوم الساعة، ولذلك يعتبر باب الاجتهاد واسعًا، ومجاله رحبًا، ليستوعب كل ما يحتاجه المسلمون (¬1). تجزؤ الاجتهاد: يترتب على معرفة شروط الاجتهاد، وتوفرها في الشخص، وبيان المجتهد فيه ومجاله ونطاقه وما يسوغ فيه، يترتب مسألة أصولية مهمة، وخاصة في عصرنا الحاضر، وهي تجزؤ الاجتهاد. ومعنى تجزؤ الاجتهاد جريانه في بعض المسائل دون بعض، بأن يحصل للمجتهد ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة في بعض المسائل دون غيرها، فيتمكن العالم من استنباط الحكم في مسألة فقهية دون غيرها، أو في باب فقهي كالعبادات، أو الشركات، أو الجهاد، أو السياسة الشرعية، أو طرق الإثبات، أو الفرائض، ممن توفرت فيه شر وط الاجتهاد، وعرف استنباط بعض الأحكام دون بعض. واختلف العلماء في مشروعية تجزؤ الاجتهاد إلى قولين: ¬

_ (¬1) المراجع السابقة.

القول الأول: يجوز تجزؤ الاجتهاد، بأن يعرف المجتهد جميع مآخذ المسألة الواحدة من الكتاب والسنة ليجتهد بها، وهو رأي أكثر العلماء، فقال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "الصحيح جواز تجزؤ الاجتهاد، بمعنى أن يكون مجتهدًا في باب دون غيره، وعزاه الهندي للأكثرين ... ، وقال ابن دقيق العيد: وهو المختار" (¬1)، وقال ابن النجار الفتوحي رحمه اللَّه تعالى: "الاجتهاد يتجزأ عند أصحابنا والأكثر" (¬2)، وقال الغزالي: "يجوز أن يكون منتصبًا للاجتهاد في باب دون باب" (¬3). القول الثاني: عدم جواز تجزؤ الاجتهاد، وهو رأي بعض العلماء القدامى، وأيده الشوكاني، ومال إليه بعض المعاصرين (¬4). أدلة القول الأول: استدل الأكثر على مشروعية جواز تجزؤ الاجتهاد بعدة أدلة، منها: 1 - إن العالم إذا اطّلع على أدلة مسألة ما، أو باب معين، وعرف أحكامه، وجمع كل ما يتعلق به، فيجب عليه أن يجتهد، ولا يجوز له تقليد غيره؛ لأن ترك ما فهمه باجتهاده يكون تركًا للعلم، وهذا ما أراده ابن دقيق العيد فقال: "قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل له المعرفة، وإذا حصلت المعرفة بالمأخذ أمكن الاجتهاد" (¬5). ¬

_ (¬1) البحر المحيط (6/ 209). (¬2) شرح الكوكب المنير (4/ 473). (¬3) المستصفى (2/ 353). (¬4) المراجع السابقة، وانظر: المعتمد (2/ 932)، الإحكام للآمدي (4/ 164)، البناني وجمع الجوامع (2/ 386)، المحصول (3/ 37)، كشف الأسرار (4/ 17)، تيسير التحرير (4/ 182)، العضد على ابن الحاجب (2/ 290)، شرح تنقيح الفصول ص 438، الروضة ص 353، المدخل إلى مذهب أحمد ص 183، إرشاد الفحول ص 254، مختصر البعلي ص 164، مختصر الطوفي ص 174، أعلام الموقعين (4/ 275)، مجموع الفتاوى (20/ 204، 212)، علم أصول الفقه ص 220، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1075). (¬5) البحر المحيط (6/ 209)، إرشاد الفحول ص 255.

2 - يلزم من القول بمنع تجزؤ الاجتهاد أن يكون المجتهد عالمًا بجميع أحكام الشرع وأدلتها، وهذا غير صحيح، ولا مقبول، ويخالف الواقع، لأنه ليس في وسع البشر، ولم يشترط أحد في المجتهد والمفتي والفقيه أن يكون عالمًا بجميع أحكام المسائل وأدلتها، وإن الصحابة رضوان اللَّه عليهم توقفوا في كثير من الأحيان، والأئمة المجتهدون -اجتهادًا مطلقًا- لم يصلوا إلى هذه المرتبة دفعة واحدة، ولم يتوقف اجتهادهم حتى حازوا جميع العلوم، وعندما وصلوا إلى الاجتهاد المطلق توقفوا عن بعض المسائل، فقد سئل الإمام مالك عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع، وقال في ست وثلاثين منها: لا أدري، وكذلك توقف الشافعي، والإمام أحمد، وغيرهما. 3 - إذا جمع العالم الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد أدلة المسألة أو الباب، واطلع على أماراتها، كان هو وغيره سواء في تلك المسألة أو الباب، وكونه لا يعلم أمارات وأدلة باب آخر لا يؤثر على علمه السابق، ويجوز له الاجتهاد كما يجوز لغيره؛ لأنه قد عرف الحق بدليله. أدلة القول الثاني: استدل المانعون لتجزؤ الاجتهاد بأدلة، منها: 1 - إن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، والاجتهاد ملكة وأهلية معينة تتوقف على فهم روح الشريعة ومقاصدها ومبادئها العامة، كالبلاغة والشعر، فإن تحققت الأهلية استطاع صاحبها الاجتهاد في كل المسائل، ومن عجز عن بعضها عجز عن الاجتهاد في كلها. 2 - إن المسائل التي يجتهد بها الشخص قد تكون متعلقة بما يجهله، وبالتالي فإن اجتهاده الجزئي يشوبه الخلل والنقص، فلا يحصل. ويبدو ترجيح قول الجمهور، وأنه يجوز تجزؤ الاجتهاد، وهو يتفق مع الواقع، فالمجتهد المطاق الذي حاز درجة الاجتهاد الكامل لا يمكنه، ولا يتصور، أن يجتهد في كل المسائل دفعة واحدة، وأن يكون مطلعًا في وقت واحد على جميع المسائل والأحكام والأدلة، وأن المجتهد الجزئي يعلم بكل

ما يتعلق بالمسألة أو الباب، وهذا ما وقع فعلًا بعد عصر الأئمة المجتهدين، وطوال العصور اللاحقة التي تسمى عصور التقليد، فكان الاجتهاد الجزئي قائمًا، وإن التخصصات الدقيقة في عصرنا في باب فقهي، مع دراسة أصول الفقه، تخوّل صاحبها الاجتهاد الجزئي فيها، وهو الواقع الملموس في علماء العصر الذين يتعمقون في باب فقهي، ويكتبون فيه الرسائل العلمية المعمقة والشاملة. ونختم هذا الترجيح بقول ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه تعالى: "الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم، مقلدًا في غيره، أو في باب من أبوابه، كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض، وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد، أو الحج، أو غير ذلك، فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، وهل له أن يفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ ثلاثة أوجه، أصحها: الجواز، بل هو الصواب المقطوع به" (¬1). ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين (4/ 188).

المبحث الخامس الإصابة والخطأ في الاجتهاد

المبحث الخامس الإصابة والخطأ في الاجتهاد يتعلق بالاجتهاد اعتماد الإصابة حتمًا فيه، أو احتمال الخطأ، ويتقدم على ذلك معرفة القصد الذي يتوجب على المجتهد التوجه إليه، ثم نختم ذلك بحكم المخطئ في الاجتهاد، هل يعتبر آثمًا أم مأجورًا؟ أولًا: القصد في الاجتهاد: اختلفت عبارات العلماء في ذلك، وهذا بحث نظري بحت لا يترتب عليه أثر عملي، ولذلك نعرضه بإيجاز. قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "يجب على المجتهد أن يقصد باجتهاده أمرين، وهما طلب الحق عند اللَّه تعالى، وإصابة العين التي يجتهد بها"، وهذا هو المعول عليه في مذهبه؛ لأن الحق ما كان عند اللَّه حقًّا، لا عند غيره. وقال المزني رحمه اللَّه تعالى، وهو تلميذ الشافعي: يجب على المجتهد أن يقصد باجتهاده طلب الحق عند نفسه، أي: ما يستطيعه ويتوصل إليه فقط؛ لأن ما عند اللَّه لا يعلم إلا بالنُّصوص. وقال بعض أهل العراق من الفقهاء والمتكلمين: إن الذي يجب على المجتهد هو الاجتهاد فحسب، ليعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، فيجعلون عليه الاجتهاد، ولا يجعلون عليه طلب الحق بالاجتهاد؛ لأنه مكلف بالاجتهاد فقط، ويقال: إنه مذهب أبي يوسف رحمه اللَّه تعالى؛ لأن ما أخفاه اللَّه تعالى فلا طريق للناس إلى إظهاره، وفي التزامه من المجتهد أو إلزامه به تكليف بما لا يستطاع، كإحياء الأجسام، وقلب الأعيان. وفصل الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى، فقال: يجب على المجتهد في بعض الأحكام طلب الحق بالاجتهاد كالشافعية، ويجب عليه في بعض الأحكام مجرد الاجتهاد ليعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، كقول أبي يوسف. ويرد على القول الثاني أن الاجتهاد نفسه استدلال، والحكم الذي وصل

ثانيا: اعتماد الإصابة واحتمال الخطأ في الاجتهاد

إليه المجتهد هو الحق المطلوب به، فلم يجز أن يكون القصد هو الاستدلال دون الحكم المطلوب به؛ لأن الاستدلال مقصود لمعرفة الحكم، وقد وضع اللَّه تعالى أمارات توصل إلى حكم ما أخفاه، فلم يخرج عن الاستطاعة. ولعل الراجح هو قول الشافعي رحمه اللَّه تعالى؛ لأن الهدف من الاجتهاد، وتكليف المجتهد بالاجتهاد، هو لمعرفة الحق الذي يظن أنه حكم اللَّه تعالى في المسألة المجتهد فيها، وهو نتيجة الاجتهاد، وهو ما يجري عليه العمل من المجتهدين عامة (¬1). ثانيًا: اعتماد الإصابة واحتمال الخطأ في الاجتهاد: إن اعتماد الإصابة حتمًا في الاجتهاد، واحتمال الخطأ فيه، يختلف بحسب المجتهد فيه، ولذلك لا بد من التفصيل. 1 - الاجتهاد في العقليات: الأمور العقلية تشمل ما يصح للناظر درك حقيقتها بنظر العقل المحض، ولو قبل ورود الشرع، كإثبات وجود الصانع الخالق، وحدوث العالَم، وصفات اللَّه تعالى واجب الوجوب الواجبة والجائزة والمستحيلة، وبعثة الرسل، وتصديقهم بالمعجزات، كما يشمل الأمور الشرعية التي تستند إلى ثبوت أمر عقلي، كعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية اللَّه تعالى، وعدم خلق القرآن، وخلق الاستطاعة في كسب الأعمال (¬2)، وخروج الموحدين من النار، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) الحاوي (20/ 188 - 189). (¬2) قال أهل السنة: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة؛ لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم سترون ربكم عيانًا، كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته"، أخرجه البخاري ومسلم (5/ 134) وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن جرير رضي اللَّه عنه، وخالف المعتزلة في ذلك لقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]، وفسّرها أهل السنة: لا تدركه إدراك ماهية وإحاطة. وقال أهل السنة: كلام اللَّه قديم غير مخلوق؛ لأنه صفة من صفاته القديمة كذاته، والقرآن كلام من اللَّه، وليس من اللَّه شيء مخلوق، وخالف المعتزلة =

فمن اجتهد في هذه الأمور العقلية، فيجب أن يهتدي إلى الحق والصواب فيها؛ لأن الحق فيها واحد لا يتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه، وهذا رأي عامة الأصوليين، وقال بعضهم: إنه إجماع (¬1)، لأن تعدد الأقوال فيها يؤدي إلى اجتماع النقيضين أو الضدين، وهو باطل، والحق واحد، فمن أصابه أصاب الحق، ومن أخطأه فهو آثم، ثم يختلف الإثم، فإن كان الخطأ فيها يرجع إلى الإيمان باللَّه ورسوله فالمخطئ كافر (¬2)، واستدل العلماء على ذلك بقوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [صَ: 27]، وقوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]، وقوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 17]، وقال عن الكفار: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]، فاللَّه سبحانه ذمهم على معتقدهم، وتوعدهم بالعقاب عليه، ولو كانوا معذورين فيه لما كان الوعيد، ويؤكد ذلك أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - طالب الكفار من اليهود والنصارى بتصديقه واعتقاد رسالته، وذمّهم على معتقداتهم، ولو كانوا مجتهدين فيها، وأجمعت الأمة على ذم الكفار، ومطالبتهم بترك اعتقادهم، وطالبوهم باعتناق رسالة الإسلام. ¬

_ = وقالوا: القرآن مخلوق، لأنهم ينكرون الصفات الأزلية للَّه، والقرآن من الصفات، وقال بذلك الجهمية والخوارج وبعض المرجئة. وقال أهل السنة: إن اللَّه يخلق الاستطاعة على الفعل عندما ينبغي أن تكون، فيخلق القطع بالسكين حين تلامس المقطوع، وقالوا: إن أفعال العباد اختيارية واقعة بقدرة اللَّه تعالى وحدها، وقال المعتزلة؛ بقدرة العبد وحدها، وتكون الاستطاعة قبل الفعل، فالسكين تقطع باستطاعة فيها، والإيمان والكفر باستطاعة خلقت في الإنسان، وهذا من مباحث علم الكلام، فانظره في كتبهم. (¬1) قال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "والمجتهد المصيب في الأمور العقليات واحد إجماعًا" شرح الكوكب المنير (4/ 488). (¬2) قال الجاحظ وعبيد اللَّه بن الحسن العنبري من المعتزلة: لا إثم عليه؛ لأنه نظر وبذل ما في وسعه، ولو كان مخالفًا ملة الإسلام، واستشنع المعتزلة هذا القول؛ لأنه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهاداتهم العقدية (انظر: البحر المحيط 6/ 236، إرشاد الفحول ص 259).

2 - الاجتهاد في المسائل الأصولية

فإن كان الاجتهاد والخطأ في الأمور العقلية في غير الإيمان باللَّه ورسوله، فإن المخطئ آثم، وهو كافر النعمة ومبتدع وفاسق؛ لأنه عدل عن الحق وضل، كمن يقول بعدم رؤية اللَّه تعالى، وخلق القرآن، وكسب الأعمال (¬1). 2 - الاجتهاد في المسائل الأصولية: وهي المسائل الأصولية القطعية، مثل كون الإجماع، والقياس، وخبر الواحد، حجة؛ لأن أدلتها قطعية، فالاجتهاد فيها كالاجتهاد في العقليات، فالحق فيها واحد، ويجب على المجتهد أن يصيب الحق فيها، والمخالف فيها مخطئ آثم، ولكنه غير كافر عند أهل السنة، وقال المعتزلة بتكفيره؛ لأنهم يكفرون خصومَهم، ويكفِّرُ كل فريق منهم الآخر (¬2). 3 - الاجتهاد في المسائل الفقهية الفرعية: إن المسائل الفقهية الفرعية قسمان: قطعية، وظنية، ويختلف حكم الاجتهاد فيهما. أ- المسائل الفقهية القطعية: وهي المسائل الثابتة بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، والمسائل المجمع عليها، وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة، أي: بالبداهة، فلا تحتاج إلى نظر واجتهاد، كوجوب الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، وتحريم الزنا، والقتل، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، ونحوها مما هو معلوم من الدِّين قطعًا. إن حكم هذه المسائل بالنسبة للتصويب والتخطئة في الاجتهاد، وحكم المخطئ فيها من حيث التأثيم، كحكم الاجتهاد في العقليات، فليس كل مجتهد فيها مصيبًا، والحق فيها واحد لا يتعدد، وهو المعلوم للجميع، ¬

_ (¬1) أطلق الشافعي عليه اسم الكفر، فمن أصحابه من أجراه على ظاهره، ومنهم من أوّله على كفران النعم، وصححه النووي وغيره (البحر المحيط 6/ 236) وقال ابن النجار: ضال آثم (شرح الكوكب المنير 4/ 488). (¬2) البحر المحيط (6/ 239).

ب- المسائل الفقهية الظنية

والموافق له مصيب، والمخالف له مخطئ آثم، فإن كانت ثابتة قطعًا ومعلومة من الدين بالضرورة فإنكارها كفر، والمنكر كافر؛ لأن الإنكار فيهما تكذيب للشرع، وإن كانت فيما علم قطعًا بالنظر لا بالضرورة، كالأحكام المعلومة بالإجماع فمنكرها ليس بكافر، ولكنه آثم مخطئ (¬1). قال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "والقضية الجزئية التي فيها نص قاطع المصيب فيها واحد بالاتفاق، وإن دقَّ مسلك ذلك القاطع" (¬2). ب- المسائل الفقهية الظنية: وهي المسائل الفقهية التي ليس عليها دليل قاطع، وهي محل الاجتهاد، والحكم فيها أن المجتهد إن أصاب فهو مثاب وله أجران، وإن أخطأ فلا إثم عليه، وله أجر الاجتهاد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" (¬3)، ولأن المسألة الظنية ليس فيها دليل قاطع، واختلف فيها الصحابة والتابعون والأئمة، ولم ينكر واحد منهم على الآخر، وكان كل مجتهد أو فقيه أو مفت يخبر الناس بما وصل إليه اجتهاده، وأنه حكم اللَّه تعالى، ويفتيهم به، ولا يمنع أحدهم الآخر من الإفتاء بذلك، ولا يمنع العامة من تقليده، ولا يمنع القاضي من الحكم به، بينما يتشددون في تأثيم القسم الأول، ويخطئون القائلين به، كمانعي الزكاة، والخوارج وغيرهم. وهذا القسم يمثل معظم الفروع الفقهية في العبادات والمعاملات والمواريث وغيرها، كمقدار مسح الرأس، وخيار المجلس، وميراث الجد مع الإخوة، والزكاة في مال الصغير، ونفي وجوب الوتر، وقراءة الفاتحة خلف الإمام؛ لأن الأدلة فيها غامضة، ويرجع فيها للاجتهاد. ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 354، 317)، جمع الجوامع والبناني (2/ 390)، مختصر ابن الحاجب (2/ 294)، الروضة ص 359، مختصر الطوفي ص 176، 177، إرشاد الفحول ص 260، المدخل إلى مذهب أحمد ص 186، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1095). (¬2) شرح الكوكب المنير (4/ 490). (¬3) هذا الحديث سبق بيانه.

المصوبة والمخطئة في الاجتهاد

وبيَّن ابن السمعاني رحمه اللَّه تعالى الحكمة في ذلك فقال: "ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحانًا من اللَّه لعباده، ليتفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وعلى هذا يتأول ما ورد في بعض الأخبار "اختلاف أمتي رحمة" فعلى هذا النوع يحمل هذا اللفظ دون النوع الآخر، فيكون اللفظ عامًّا، والمراد خاص" (¬1). المصوبة والمخطئة في الاجتهاد: ترتب على قول العلماء في الاجتهاد في المسائل الفقهية الفروعية الظنية مسألة تصويب المجتهد، وتعني: هل كل مجتهد فيها مصيب أم أن المصيب فيها واحد، وما عداه مخطئ؟ وظهر في هذه المسألة آراء كثيرة، ونُقول متعددة، تنضوي تحت رأيين مشهورين، الأول: رأي المصوبة، والثاني: رأي المخطئة. وسبب الخلاف هو اختلاف العلماء في مسألة أخرى، وهي: هل للَّه تعالى حكم واحد معين في كل مسألة، فمن وصله من المجتهدين كان مصيبًا، ومن لم يصله كان مخطئًا؟ أم أن حكم اللَّه تعالى فيما يسوغ الاجتهاد فيه من الظنيات هو ما وصل إليه كل مجتهد، وأن كل مجتهد مصيب؟ وتمخض الأمر إلى مذهبين، وهما: مذهب المصوِّبة، ومذهب المخطئة، وهذا ما نريد بيانه باختصار مع الأدلة؛ لأن المسألة نظرية، وغيبية، وشبه خيالية، ولا يترتب عليها حكم شرعي (¬2). ¬

_ (¬1) البحر المحيط (6/ 241)، وانظر: المستصفى (2/ 354)، الإحكام للآمدي (4/ 178)، المحصول (3/ 41)، التبصرة ص 496، المنخول ص 451، نهاية السول (3/ 249)، البرهان (2/ 1316)، المعتمد (2/ 988)، فواتح الرحموت (2/ 376)، تيسير التحرير (4/ 195)، مختصر ابن الحاجب (2/ 293)، التمهيد ص 163، شرح تنقيح الفصول ص 438، 439، شرح الكوكب المنير (4/ 488)، المسودة ص 495، الروضة ص 359، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 388)، مختصر البعلي ص 164، مختصر الطوفي ص 176، إرشاد الفحول ص 259، المدخل إلى مذهب أحمد ص 186، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1091). (¬2) كتب أحد طلابنا رسالة ماجستير في الأصول بإشرافي بكلية الشريعة بجامع دمشق =

أولا: المصوبة وأدلتهم

أولًا: المصوِّبة وأدلتهم: تقول المصوِّبة: إن كل مجتهد مصيب في اجتهاده، وإنَّ كل قول من أقوال المجتهدين فيها حق، وإن كل واحد منهم مصيب، وهو رأي الأشعرية والمعتزلة والقاضي الباقلاني من المالكية وصاحبي أبي حنيفة، والقاضي سريج من الشافعية. والباعث لهم اعتقادهم أن ليس للَّه تعالى في المسألة التي لا نص فيها -قبل الاجتهاد- حكم معين من جواز، أو حظر، أو حلال، أو حرام، وأن حكم اللَّه تعالى فيها تابع لظن المجتهد. ثم اختلفت عباراتهم في البيان، فقال الأشعرية: إن الواقعة التي لا نص فيها ولا إجماع ليس فيها حكم معين، وإنما يتعين الحكم بالظن، ثم يكون حكم اللَّه فيها هو ما غلب على ظن كل مجتهد، وينتج عن قولهم: إنَّ الحقَّ يتعدد، وكل مجتهد مصيب. وقال المعتزلة: إن الواقعة التي لا نص فيها، لها حكم معين عند اللَّه، ويتوجب على المجتهد أن يطلبه، وإن لم يكلف إصابته، ويكون المجتهد مصيبًا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين ما دام قد بذل جهده في طلبه، وينتج عن قولهم: إن الحق لا يتعدد، ولكن بما أنه لا يمكن معرفته يقينًا، فكل مجتهد مصيب. واستدل المصوِّبة على قولهم بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول. 1 - الكتاب: قال اللَّه تعالى في قصة داود وسليمان عليهما السلام مع اختلافهما في الحكم: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، فالآية دلت على أن كل مجتهد مصيب، مع اختلافهما، ولو كان أحدهما مخطئًا، لما وصفه القرآن بالحكم والعلم، فتبين أن كل مجتهد مصيب. ¬

_ = بعنوان: المصوِّبة والمخطئة، وهو الأستاذ في وزارة التربية خالد الخالد، وناقشها، ثم سجل رسالة دكتوراه في الاجتهاد الجماعي.

2 - السنة

وناقش العلماء هذا الاستدلال بأن الآية دلت أن كل واحد منهما أوتي حكمًا وعلمًا، وهذا نكرة في سياق النفي، فلا تعم، ولا تدل على الصواب والحكم والعلم في حكم المسألة التي نظراها، والآية حجة عليهم؛ لأن اللَّه تعالى بين بعد ذلك مباشرة أن الحق فيما قضى به سليمان {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} مما يدل أن الحق معه فقط. 2 - السنة: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم، بأيَّهم اقتدَيْتهُم اهتديتم" (¬1)، فالحديث جعل الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدى، مع اختلافهم في الأحكام إثباتًا ونفيًا، فدلّ أن كلًّا منهم مصيب. واعترض العلماء على هذا الدليل بأن الحديث ضعيف لا يحتج به في مثل هذه المسألة المهمة، ولو فُرضت صحته، فلا عموم له؛ لأنه لا يلزم من العموم في الأشخاص العموم في الأحوال، كما يمكن حمل الحديث على الاقتداء بالصحابة في الرواية، لا في الرأي والاجتهاد، فالحديث لا يدل على محل النزاع. 3 - الإجماع: ثبت بالتواتر المعنوي أن الصحابة رضوان اللَّه عليهم اجتهدوا واختلفوا، وأجمعوا على تسويغ الخلاف بينهم، ولم ينكر أحد ذلك، ولم يخطئ بعضهم بعضًا في الاجتهاد، مع احترام الرأي الآخر، وتعظيم بعضهم لبعض، فدل ذلك على أن كل واحد مصيب فيما ذهب إليه، ولو كان المصيب واحدًا والآخر مخطئًا لأنكر عليه، وقد ثبت إنكارهم لمن خالف النص أو الإجماع، مما يدل على أن كل مجتهد مصيب. واعترض العلماء على هذا الاستدلال، وأنه ثبت أن بعضهم خطّأ، الآخر، وهذا لا يتنافى مع أدب الحوار والخلاف والاحترام، وإن الإنكار يتحتم إذا تعين المخطئ، وهذا غير معين، وكان كل مجتهد يعمل بما غلب ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله 2/ 91).

4 - المعقول

على ظنه، وهو مثاب عليه، مع تعدد الأقوال. 4 - المعقول: قرر العلماء أن كل واحد من المجتهدين ملزم باتباع ما غلب على ظنه، فهذا يدل على كونه صوابًا، وأن كل مجتهد مصيب، ولو كان الحق متعينًا في جهة واحدة أو قول واحد، لما وجب على المجتهدين ذلك، ولو كان الحق متعينًا عن اللَّه في باب الاجتهاد في كل مسألة، لنصب عليه دليلًا قطعيًّا دفعًا للإشكال، ويكون الاجتهاد المخالف لذلك فسقًا، وفاعله آثم، كالمخالف في العقليات؛ لأنه حكم بغير ما أنزل اللَّه، وهذا لا ينطبق على المجتهدين، فثبت أن كل مجتهد مصيب. واعترض العلماء على ذلك بأنه لا يُلزم الشارع بمراعاة وجه الحكمة والمصلحة في ذات التشريع، فقد تكون الحكمة مختصة بعلم اللَّه تعالى، ويدعو المجتهدين للاجتهاد فيها؛ ولأن المجتهد مكلف بالعمل بما أداه إليه اجتهاده، ولم يكلف بإصابة الحق، فلو أداه اجتهاده إلى حكم، لزمه العمل به، ولو كان خطأ في الواقع وعند الله تعالى مما لا يعلمه الإنسان. كما يترتب على قول المصوبة أن حكم اللَّه تابع لظن المجتهد، وقد يجتهد اثنان ويختلفان، فيقع اجتماع النقيضين أو الضدين، وأن هذا التناقض منسوب للَّه تعالى، وهذا غير مقبول شرعًا (¬1). ثانيًا: المخطئة وأدلتهم: تقول المخطئة: إن المصيب في الاجتهاد في المسألة واحد، وغيره مخطئ، وإن الحق لا يتعدد، لأن للَّه تعالى حكمًا معينًا في كل واقعة قبل الاجتهاد، فمن أصابه باجتهاده فهو المصيب، ومن لم يصبه فهو المخطئ، فالمصيب واحد، مع إثبات الأجرين للمصيب، والأجر الواحد للمخطئ؛ لأن المجتهد ليس مكلفًا بإصابة الدليل؛ لخفائه وغموضه، لذلك كان معذورًا بخطئه، مأجورًا عند اللَّه على اجتهاده (¬2). ¬

_ (¬1) سنذكر المصادر والمراجع لهذا الرأي وأدلته مع مصادر ومراجع الرأي الثاني فيما يأتي. (¬2) انظر دلالة الحديث ومعناه عند الماوردي رحمه اللَّه تعالى في (الحاوي 20/ 192).

هذا من الناحية النظرية، ومن الناحية العملية فالمجتهد مأمور بالعمل بما أداه إليه اجتهاده، وكذا من اتبعه وقلَّده، وأن مخالفه مصيب في العمل بما وصل إليه اجتهاده، وإن كان مخطئًا في ظن مخالفه (¬1)، وهذا قول الإمام مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة في قول، وهو التحقيق عند الحنفية، وعند معظم الفقهاء. قال الإمام أحمد: إن الحق واحد عند اللَّه، فليس كل مجتهد مصيبًا، ولكن المصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد؛ لتحريه الصواب وطلبه إياه. وقال ابن النجار الفتوحي الحنبلي: "والمسألة الظنية: الحق فيها واحد عند الله تعالى، وعليه دليل، وعلى المجتهد طلبه حتى يظن أنه وصله، فمن أصابه فمصيب، وإلا فمخطئ مثاب عند أحمد وأكثر أصحابه، وقاله الأوزاعي ومالك والشافعي ... ، وذكره أبو المعالي (الجويني) عن معظم الفقهاء" ثم قال: "ولا يأثم مجتهد في حكم شرعي اجتهادي، ويثاب عند الأربعة؛ وخالف الظاهرية وجمع" (¬2). ¬

_ (¬1) وقع اختلاف فقهي في مسألة يُظن أنها مترتبة على اختلاف بين المصوّبة والمخطئة، والواقع أنها مبنية على أدلة أخرى، وهي من اشتبهت عليه القبلة واجتهد، وصلى إلى جهة غلب على ظنه أنها جهة القبلة، ثم بان له يقين الخطأ، فقال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: يلزمه القضاء لفوات الحق، والخطأ ينفي الإثم دون القضاء، كما ينبغي التأثيم دون التضمين في باب الغرامات، وهذا يتفق مع قول المخطئة، وعند الحنفية: لا يلزمه القضاء، لتصويبه فيما مضى، وإن بان أنه خطأ، وهذا يتفق مع قول المصوبة من الحنفية (انظر: تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني، تحقيق الدكتور محمد أديب صالح ص 26، الحاوي 20/ 190). (¬2) شرح الكوكب المنبر (4/ 489، 491)، وانظر: المستصفى (2/ 357، 363)، الإحكام للآمدي (4/ 183)، الرسالة للشافعي ص 489، 496، المحصول (3/ 47، 88)، التبصرة ص 496، المنخول ص 453، نهاية السول (3/ 246)، البرهان (2/ 1319)، المعتمد (2/ 949، 956، 964)، فواتح الرحموت (2/ 380)، كشف الأسرار (4/ 16، 18، 25)، تيسير التحرير (4/ 202)، شرح تنقيح الفصول ص 438، 439، البحر المحيط (6/ 236)، شرح الكوكب المنير (4/ 489)، إرشاد الفحول ص 259، الحاوي للماوردي (20/ 189)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1096)، أصول =

1 - الكتاب

واستدل الجمهوز على قولهم بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول. 1 - الكتاب: قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78 - 79]، قال الماوردي رحمه اللَّه تعالى: "وقد نسب اللَّه تعالى نبيه داود إلى الخطأ، وسليمان إلى الإصابة" (¬1)، وتدل الآية أن اللَّه تعالى خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة، دون داود، حتى يكون التخصيص مفيدًا، فتبين أن حكم اللَّه واحد، وأن المصيب فيه واحد. لكن اعترض بعض العلماء على هذا الاستدلال بأن الدلالة على عدم فهم داود كانت بطريق المفهوم، وهو مختلف بالاحتجاج به. 2 - السنة: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصابَ فله أجران، وإن اجتهد فاخطأ فله أجر" (¬2)، وهذا يدل على أن الاجتهاد قسمان: صواب وخطأ، وأن المجتهد قد يُصيب وقد يخطئ، وأن من أصاب الحق فهو المصيب، وما عداه فهو مخطئ، فالحق واحد لمن أصابه، ولو كان الحق متعددًا لكان كل مجتهد مصيبًا، وهو خلاف الحديث. واعترض بعض العلماء على الاستدلال، بأن الحديث لا يدل على محل النزاع في كون الحق واحدًا، والمصيب واحدًا، بل يدل فقط على أن المجتهد إذا اجتهد في مسألة منصوص عليها، أو مجمع عليها، وأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. واستدل الجمهور بحديث صريح في محل النزاع، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لأمير السرية: "وإنْ طلبَ منك أهلُ حصن النزولَ على حكم اللَّه، فلا تُنْزِلْهم على حكمِ اللَّه، فإنَّك لا تدري: أتصيبُ حكمَ اللَّه فيهم أم لا" (¬3)، وتأكد ذلك مع سيدنا علي وابن عباس ¬

_ = الأحكام ص 372، علم أصول الفقه، خلاف ص 220. (¬1) الحاوي (20/ 190). (¬2) هذا الحديث سبق بيانه. (¬3) هذا الحديث رواه مسلم، والترمذي وصححه، وابن ماجه وأحمد من حديث طويل =

3 - الإجماع

رضي اللَّه عنهم في مناظرة ومجادلة الخوارج بالمعقول. 3 - الإجماع: اجتهد الصحابة رضي اللَّه عنهم في القضايا التي لا يوجد فيها نص، وأبدى المجتهدون منهم رأيهم في ذلك، وأجمعوا على إطلاق لفظ الخطأ في الاجتهاد الذي صدر منهم مما يدل على أن الحق واحد، فمن أصابه فهو مصيب، ومن أخطأه فهو مخطئ، والأمثلة من تاريخ الصحابة كثيرة، منها: قال أبو بكر رضي اللَّه عنه عندما سئل عن الكَلالة، وهم الذين لا والد لهم ولا ولد، قال: "أقول فيها برأيي، فإنْ يكنْ صوابًا فمن اللَّه، وإنْ كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسولهُ منه بريئان". وقال عمر رضي اللَّه عنه لكاتبه: "اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن يكن خطأ فمنه، وإن يكن صوابًا فمن اللَّه"، وقال للمرأة التي اعترضت عليه في تحديد المهر: "أصابت امرأة، وأخطأ عمر". وقال علي رضي اللَّه عنه في المرأة التي استدعاها عمر، فأجهضت ما في بطنها، وردّ على عثمان وعبد الرحمن بن عوف القائلين لعمر: "إنما أنت مؤدب، لا نرى عليك شيئًا"، فقال علي: "إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك، أرى عليك الدِّية". وقال ابن مسعود في المفوِّضة التي مات عنها زوجها قبل الدخول، وليس لها صداق مفروض، قال: أقول فيها برأي، فإن كان صوابًا فمن اللَّه ورسولهِ، وإنْ كان خطأ فمني ومن الشيطان، إنَّها تستحقُّ مهرَ المثل في تركة المتوفى". وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما في إنكار العَوْل في الفرائض: "من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عددًا، لم يجعل في مال واحد نصفًا ونصفًا وثلثًا، هذان نصفان ذهبا بالمال، فأين موضوع الثلث؟ " والمباهلة: الملاعنة على عادة العرب، وذكرها القرآن الكريم (¬1). ¬

_ = عن بريدة رضي اللَّه عنه، في باب الدعوة قبل القتال (نيل الأوطار 7/ 243). (¬1) نصب الراية (4/ 64)، تفسير ابن كثير (1/ 467)، المستدرك (4/ 340)، السنن =

4 - المعقول

وأخبار الصحابة كثيرة في الخطأ والصواب في الاجتهاد، وأن الحق واحد، مما يؤيد قول الجمهور القائلين بالتخطئة، وأن الحق واحد، والمصيب واحد. واعترض بعض العلماء على الاستدلال بهذه الآثار والإجماع أنها خاصة في غير الأهل للاجتهاد، أو الأهل للاجتهاد إذا قصر، أو لم يقصر، ولكنه خالف النص والإجماع والقياس الجلي. 4 - المعقول: إن القول بتعدد الحق، وتصويب المجتهدين المختلفين في النفي والإثبات، أو الحل والحرمة، أو الصحة والفساد في مسألة واحدة وزمن واحد، يؤدي إلى اجتماع النقيضين أو الضدين، ونسبته إلى الشرع، وهذا محال وباطل، فكل ما يؤدي إليه فهو باطل. واعترض بعض العلماء على هذا الاستدلال بأن التناقض الممنوع إذا كان في شخص واحد، وحالة واحدة، أما بالنسبة لشخصين أو لحالين، فليس تناقضًا، ولا ممنوعًا، فالمقيم يصلي أربعًا، ويفصل بين الصلاتين، ويصوم، فإن سافر صلى قصرًا، وجمع بين الصلاتين، وأفطر، والميتة محرَّمة في الأحوال العادية، وتحل لنفس الشخص عند الضرورة، ولا تناقض في ذلك، ومثله الاجتهاد والاختلاف فيه بين شخصين، كل منهما حكم بما أداه إليه اجتهاده بالحل أو بالحرمة، ولا تناقض في ذلك، وهو الواقع (¬1). ¬

_ = الكبرى للبيهقي (6/ 256)، الحاوي (20/ 191)، وانظر مسألة العول والآراء فيها في كتابنا: الفرائض والمواريث والوصايا ص 238 وما بعدها. (¬1) انظر هذه الآراء وأدلتها ومناقشتها في: المستصفى (4/ 352، 360)، الإحكام للآمدي (4/ 178، 182)، المحصول (3/ 41، 46، 50)، الإحكام لابن حزم (2/ 647، 658، 1159)، البرهان (2/ 1316، 1320)، المعتمد (2/ 949، 958)، كشف الأسرار (4/ 17)، فواتح الرحموت (2/ 377)، تيسير التحرير (4/ 194)، مختصر ابن الحاجب (2/ 294)، شرح تنقيح الفصول ص 438، البحر المحيط (6/ 236، 241)، شرح الكوكب المنير (4/ 491)، المسودة ص 495، 497، التبصرة ص 496، مختصر الطوفي ص 259، إرشاد الفحول ص 259، الروضة ص 362، 368، =

الترجيح

الترجيح: إن النفس تميل إلى ترجيح قول الجمهور، بأن للَّه تعالى في كل مسألة حكمًا معينًا عنده، وأن المجتهد يبحث في الأدلة والأمارات ليجتهد، ويقصد إصابة الحق، فإن أصابه فهو المصيب، وله أجران، وهذا في علم اللَّه تعالى، وإن أخطأه فهو مخطئ، وله ثواب وأجر واحد. ولكن الناظر في أدلة الفريقين يرى أن الاختلاف لفظي واصطلاحي، ويمكن التوفيق بين الرأيين، فقول الجمهور يحمل على الناحية النظرية بأن حكم اللَّه تعالى واحد في المسألة، ولا يمكن أن يكون متعددًا، ولكن لا يمكن إدراكه ومعرفته حقيقة ويقينًا، وأن أحد المجتهدين مصيب -نظريًّا وغيبيًّا عند اللَّه تعالى- وله أجران، والآخر مخطئ -نظريًّا وغيبيًّا عند اللَّه تعالى- وله أجر بالنص الصحيح، ويحمل قول المصوّبة على أن الحق يتعدد عمليًّا باعتبار أن كل مجتهد مأمور بالعمل بما أداه إليه اجتهاده، وهو يعتقد أن ذلك حكم اللَّه تعالى، مع الاختلاف بين المجتهدين، فيتعدد الحق الذي علمه المجتهدون ومن تبعهم أو قلدهم. ولذلك اتفق العلماء على أن الاجتهادات الفقهية القائمة على الأدلة الشرعية منسوبة إلى الشريعة، مع اختلافها من جهة، وقربها أو بعدها من الصواب ومطابقة مقاصد الشريعة من جهة ثانية، وكلّها تعتبر من الفقه الإسلامي الذي نتعلمه، ونستفيد منه، ونختار ما هو الأسد دليلًا، والأقرب مصلحة. ولذلك قلت: إنها مسألة نظرية، وإنها غيبية، فلا يدري أحد ما هو الحق المطلق الوحيد عند اللَّه تعالى، ولم يكلف الناس بذلك أصلًا، لأنه تكليف بما لا يطاق، ومن سعة الشريعة وسماحتها أن فتحت باب الاجتهاد، وخولت المجتهدين البحث أولا، ثم العمل بما وصل إليه اجتهادهم ثانيًا، ثم الإفتاء به للناس ثالثًا. ¬

_ = أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1096)، أصول الأحكام ص 372، الحاوي (20/ 191)، علم أصول الفقه، خلاف ص 220.

المبحث السادس طريقة الاجتهاد

المبحث السادس طريقة الاجتهاد إن المجتهد إذا عرضت له قضية أو مسألة، فإنه يسير حسب الخطوات والمراحل التالية: 1 - الرجوع إلى النصوص القطعية، فإن وجد فيها حكم المسألة بدلالة قطعية، قال به، والتزمه، وأفتى به، ولا يجوز له مطلقًا مخالفته والخروج عنه. فإن كانت الدلالة ظنية للنصوص القطعية، لكن اجتهد فيها السابقون، واتفقوا على حكم، كان إجماعًا، والتزم به، وعمل بموجبه، وأفتى به كالسابق. فإن لم يتفقوا على حكم، وكان لكل منهم رأي، فإن كان السابقون من الصحابة، أخذ بما يعتقده في قول الصحابي، من اتباع أحدهم وعدم الخروج عنهم، أو الاجتهاد مثلهم، كما هو مبين في مذهب الصحابي. وإن لم يكن المجتهدون السابقون من الصحابة، وجب على المجتهد أن يبذل وسعه وينظر في الأدلة، ويجتهد، سواء وافق رأيه رأي أحدهم، أو خالف الجميع. 2 - الرجوع إلى النصوص الظنية الثبوت، أو ظنية الثبوت والدلالة، ويعمل بالخطوات السابقة في النصوص القطعية الثبوت الظنية الدلالة. 3 - عند عدم النص، فإن اجتهد السابقون وأجمعوا على رأي، صار له حكم الإجماع، وإن اختلف الصحابة، عمل برأيه في مذهب الصحابي، وإن كان الاختلاف من غيرهم، لزمه الاجتهاد. 4 - إن منهج الاجتهاد أن يرجع إلى النصوص لعلّه يجد فيها دلالة على الواقعة المعروضة عليه بالنص، أو الظاهر، وسائر أنواع الدلالات، ويجهد نفسه في معرفة مقاصد الشريعة، واستنباط العلل؛ ليطبق ذلك على الواقعة. 5 - إن لم يجد المجتهد لذلك حكمًا من الاجتهاد في النصوص، اتجه إلى جمع كل ما يتصل بالواقعة من معان لغوية، ونصوص قرآنية، وأحاديث نبوية، وأقاويل السلف، وأوجه القياس الممكنة، واتجه بقلبه مخلصًا لمعرفة

حكم اللَّه تعالى فيها من دون تعصب أو تحمل، أو تهور أو تقصير، فما وصل إليه اجتهاده، فهو حكم اللَّه تعالى الذي يجب عليه التزامه، والعمل به، والفتوى فيه. واستحسن الشوكاني منهج الشافعي رحمه اللَّه تعالى (¬1)، الذي حكاه عنه الغزالي، ولخص فيه طريقة الاجتهاد فقال: "إذا وقعت الواقعة للمجتهد، فليعرضها على نصوص الكتاب، فإن أعوزه، عرضها على الخبر المتواتر، ثم الآحاد، فإن أعوزه لم يخففي القياس، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب، فإن وجد ظاهرًا، نظر في المخصصات من قياس وخبر، فإن لم يجد مخصصًا، حكم به، وإن لم يعثر على ظاهر من كتاب ولا سنة، نظر إلى المذاهب، فإن وجدها مجمعًا عليها، اتبع الإجماع، وإن لم يجد إجماعًا، خاض في القياس، ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الرح على مراعاة الاسم، فإن عدم قاعدة كلية، نظر في المنصوص ومواقع الإجماع، فإن وجدها في معنى واحد، ألحق به، وإلا انحدر به إلى القياس، فإن أعوزه، تمسك بالشَبَه، ولا يُعوّل على طرد" (¬2). ويعرض أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي رحمه اللَّه تعالى وجوه الاجتهاد فيقول: "واسم الاجتهاد في الشرع ينتظم ثلاثة معان: أحدها: القياس الشرعي على علة مستنبطة، أو منصوص عليها، فيردُّ بها الفرع إلى أصله، ونحكم له بحكمه، بالمعنى الجامع بينهما، وإنما صار هذا من باب الاجتهاد -وإن كان قياسًا- من قبل أن تلك العلة لما لم تكن موجبة للحكم؛ لجواز وجودها عارية منه، وكانت كالأمارة، وكان طريق إثباتها علامةً للحكم: الاجتهادَ وغالبَ الظن، لم يوجب ذلك لنا العلم بالمطلوب، فلذلك كان طريقه الاجتهاد. والضرب الثاني من الاجتهاد: هو ما يغلب في الظن من غير علة يجب ¬

_ (¬1) وقال الشافعي رحمه اللَّه تعالى في رسالته: "ولم يَجْعل اللَّه لأحدِ بعدَ رسول اللَّه أَنْ يقولَ إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهةُ العلم بعدُ: الكتابُ والسنةُ والأجماع والآثار، وما وصفت من القياس عليها" الرسالة ص 258 طبعة دار النفائس، بيروت، د. ت، وانظر بقية كلامه في الاجتهاد، والقياس، والشروط المطلوبة فيهما. (¬2) إرشاد الفحول ص 258.

بها قياس الفرع على الأصل، كالاجتهاد في تحري جهة الكعبة لمن كان غائبًا عنها، وكتقويم المتلفات، وجزاء الصيد، والحكم بمهر المثل، ونفقة المرأة والمعتدة ونحوها، فهذا الضرب من الاجتهاد كُلِّفنا فيه الحكم بما يؤدي إليه غالب الظن، من غير علة يقاس بها فرع على أصله. الضرب الثالث: الاستدلال بالأصول (¬1). ويبين الماوردي رحمه اللَّه تعالى وجوه الاجتهاد ومنهجه، ويقسمها إلى ثمانية أقسام، وهي: "أحدها: ما كان حكم الاجتهاد مستخرجًا من معنى النص، كاستخراج علة الربا من البُرِّ، فهذا صحيح غير مدفوع عنه عند جميع القائلين بالقياس. والقسم الثاني: ما كان مستخرجًا من شَبَه النّص، كالعبد في ثبوت تملكه، لتردُّدِ شَبَهه بالحر في أنه يَمْلك؛ لأنه مكلف، وشَبَهِه بالبهيمة في أنه لا يَمْلك؛ لأنه مملوك، وهذا صحيح وليس بمدفوع عنه عند من قال بالقياس، ومن لم يقل، غير أن من لم يقل بالقياس، جعله داخلًا في عموم أحد الشبهين، ومن قال بالقياس جعله ملحقًا بأحد الشبهين. القسم الثالث: ما كان مستخرجًا من عموم النص، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى: {إلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، يعم الأب والزوج، والمراد به أحدهما، وهذا صحيح يُوصل إليه بالترجيح. القسم الرابع: ما كان مستخرجًا من إجمال النص، كقوله تعالى في متعة الطلاق: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، فصح الاجتهاد في إجمال قدر المتعة باعتبار حال الزوجين. القسم الخامس: ما كان مستخرجًا من أحوال النص، كقوله تعالى في متعة الحج: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ¬

_ (¬1) الفصول (4/ 11 - 12)، ونقل ذلك الزركشي عنه بتصرف في البحر المحيط (6/ 197 - 198).

وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، فأطلق صيام الثلاثة في الحج، فاحتمل: قبل عرفة، وبعدها، وأطلق صيام السبعة إذا رجع، فاحتمل: إذا رجع في طريقه، وإذا رجع إلى بلده، فصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين. القسم السادس: ما كان مستخرجًا من دلائل النص، كقوله تعالى في نفقة الزوجات: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدَّين، بأنه أكثر ما جاءت به السنة في فدية الأذى لكل مسكين مُدَّيْن، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمدّ، بأقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء في شهر رمضان، لكل مسكين مدًّا. القسم السابع: ما كان مستخرجًا من أمارات النص، كاستخراج دلائل القبلة فيمن خفيت عليه من قوله: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} [النحل: 16]، فصح الاجتهاد في القبلة بالأمارات الدالة عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم. القسم الثامن: ما كان مستخرجًا من غير نص، ولا أصل، فقد اختلف في صحة الاجتهاد فيه بغلبة الظن على وجهين: أحدهما: لا يصح الاجتهاد بغلبة الظن حتى يقترن بأصل؛ لأنه لا يجوز أن يرجع في الشرع إلى غير أصل، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي، ولذلك أنكر الاستحسان؛ لأنه تغليب ظن بغير أصل. والوجه الثاني: يصح الاجتهاد به؛ لأن الاجتهاد في الشرع أصل، فجاز أن يستغني عن أصل، وقد اجتهد العلماء في التعزير على ما دون الحدود بآرائهم في أصله من ضرب وحبس، وفي تقديره بعشر جلدات في حال، وبعشرين في أخرى، وبثلاثين في أخرى، وليس لهم في هذه المقادير أصل مشروع. والفرق بين الاجتهاد بغلبة الظن، وبين الاستحسان: أن الاستحسان يترك به القياس، والاجتهاد بغلبة الظن يستعمل مع عدم القياس" (¬1). ¬

_ (¬1) الحاوي (20/ 187 - 188)، ومعظم الأمثلة من المذهب الشافعي، ونقلنا النصين من الفصُول والبحر بطولهما لبيان وجوه المجتهد فيه من جهة، وللاطلاع على أسلوب السلف من العلماء للتمرس عليه والاستفادة منهم، ونقل كل من الزركشي والشوكاني كلام =

مسائل أصولية في الاجتهاد

ويبين الشوكاني رحمه اللَّه تعالى وسيلة الاجتهاد وغايته، فيقول: "وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية، والحاديث النبوية، وجعل كل ذلك دأبه، ووجّه إليه همته، واستعان بالله عزَّ وجلَّ، واستمد منه التوفيق، وكان معظم همّه، ومَرْمَى قصده، الوقوفَ على الحق، والعثور على الصواب، من دون تعصب لمذهب من المذاهب، وجد فيهما ما يطلبه، فإنهما الكثير الطيب، والبحر الذي لا يُنزف، والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه، العذبَ الزلال، والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف، فاشدد يديك على هذا، فإنك إن قبلته بصدر منشرح، وقلب موفّق، وعقل قد حلت به الهداية، وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوت على دلائلها كائنًا ما كان، فإن استبعدت هذا المقال، واستعظمت هذا الكلام، وقلت كما قال كثير من الناس: إنَّ أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث، فمن نفسك أُتيت، ومن قبل تقصيرك اصبت، وعلى نفسها جنت براقش، وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية: لا تعذُلِ المشتاقَ في أشواقهِ ... حتى تكون حَشَاك في أَحْشائه لا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إلا من يكابدُهُ ... ولا الصَّبابةَ إلا من يُعانيها دَعْ عنكَ تَعْنيفي، وذُقْ طَعْم الهَوى ... فإذا هَوِيتَ فعند ذلك عَنّفِ (¬1) " وإن طريقة الاجتهاد هذه هي التي سار عليها سلف هذه الأمة ابتداء من صحابة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من الخلفاء والعلماء والقضاة والمجتهدين، وهي المنقولة عن الصديق أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ، وابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو، وغيرهم رضي اللَّه عنهم، ثم لزم التابعون منهجهم، ثم تبعهم تابعو التابعين، والأئمة المجتهدون، وسائر العلماء العاملين (¬2). مسائل أصولية في الاجتهاد: ويتعلق بطريقة الاجتهاد ثلاث مسائل مهمة، وهي: ¬

_ = الماوردي بحرفيته لأهميته (البحر المحيط 6/ 231، إرشاد الفحول ص 258). (¬1) إرشاد الفحول ص 259. (¬2) انظر أقوالهم ومنهجهم في كتابنا: تاريخ القضاء في الإسلام ص 118 - 123، 188 - 192.

المسألة الأولى: تعدد قول المجتهد

المسألة الأولى: تعدد قول المجتهد: اتفق العلماء على أنه يجوز تعدد أقوال المجتهد في وقتين، ويكون القول المتأخر تغييرًا للقول الأول، وهو ما سنعرضه في المسألة الثانية في تغير الاجتهاد. أما تعدد الأقوال لمجتهد واحد، في مسألة واحدة، في وقت واحد، وبالنسبة لشخص واحد، فلا يجوز أن يكون له قولان متعارضان؛ لأنه يؤدي إلى التناقض، ولأن اعتقاد ذلك في الوقت الواحد محال، لأنه يدخل في أحد الاحتمالات التالية: 1 - إذا كان القولان فاسدين، أو بدليلين فاسدين، وعلم المجتهد ذلك، فالقول بهما حرام، ويبطل القولان، ويكون المجتهد لا قول له في المسألة. 2 - إذا كان أحد القولين فاسدًا، أو كان دليل أحدهما باطلًا، وعلم المجتهد بذلك، فيكون ذلك حرامًا، ويبطل القول الفاسد منهما، ويثبت الصحيح. 3 - إذا كان القولان صحيحين، لدليلين صحيحين، فالقول بهما محال؛ لأنه تضاد، وإذا كان المجتهد لم يعلم بفساد الرأيين، أو الدليلين، أو أحدهما، فيعتبر غير عالم بالمسألة، وبالتالي فلا قول له فيها، ويلزمه التوقف، أو الجمع بين القولين والتخيير بينهما، وإن علم ترجيح أحدهما، أخذ به ورجحه، وتعين عليه الأخذ به. وروي عن الشافعي رحمه اللَّه تعالى أنه قال في ستة عشر موضعًا، أو في سبعة عشر، بقولين مختلفين، قال الشيخ أبو حامد رحمه اللَّه تعالى: "وهو دليل على علو شأنه"، وأجاب العلماء عن ذلك بعدة أجوبة، منها أن الشافعي ذكرهما عن طريق الحكاية لمن سبقه للدلالة على عدم وجود إجماع في المسألة، أو لبيان التخيير بين الحكمين، أو لوقوع التردد والشك، فلا ينسب القولان له، أو لتعارض الدليلين عنده، وترك الترجيح لغيره (¬1). ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (4/ 201)، المحصول (3/ 523)، المحلي على جمع الجوامع (2/ 359)، نهاية السول (3/ 184)، المعتمد (2/ 299)، تيسير التحرير 4/ 232، فواتح الرحموت (2/ 395)، مختصر ابن الحاجب (2/ 299)، البرهان (2/ 1363)، الروضة =

المسألة الثانية: تغير الاجتهاد

المسألة الثانية: تغير الاجتهاد: يجوز للمجتهد أن يكون له قولان في وقتين مختلفين، وذلك بأن يكون له اجتهاد وفيه رأي معين، ثم يجتهد في نفس المسألة فيصل إلى اجتهاد آخر ورأي جديد مخالف للأول، وهذا جائز باتفاق. وأسباب تغير الاجتهاد كثيرة، أهمها: 1 - وجود دليل جديد: إن الاجتهاد يتبع الدليل، فإذا وجد المجتهد دليلًا أقوى من دليل الاجتهاد الأول، أو أصح منه، أو أقرب دلالة، فيجب عليه الأخذ بالأقوى والأصح؛ لأنه أقرب إلى الحق والصواب. 2 - تغير الزمان: إذا كان الحكم السابق مبنيًّا على العرف، أو مصلحة الناس، ثم تغير العرف أو تغيرت مصلحة الناس، وجب تغير الحكم الشرعي، وهو المقرر في قاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" وذلك لتحقيق المصلحة، ودفع المفسدة، وأمثلة ذلك كثيرة، كالإفتاء بجواز أخذ الأجرة أو الراتب على تعليم القرآن، والقيام بالشعائر الدينية كالإمامة والخطابة؛ لتغير العرف بسبب انقطاع المكافآت والعطايا التي كانت تدفع من بيت المال للمشتغلين بهذه الوظائف، والحكم بتضمين الصنّاع لأموال الناس التي تهلك في أيديهم محافظة على الأموال من الضياع، وتحقيقًا لمصلحة المجتمع، والقول بجواز التسعير دفعًا للضرر العام وتحقيقًا لمصلحة الناس، وإفتاء الصاحبين بضرورة تزكية الشاهد المسلم خلافًا لأبي حنيفة؛ لتغير حال الناس، وقالا: هذا اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان، ومثله إفتاء الفقهاء المتأخرين بعدم جواز القضاء بعلم القاضي لتغير الزمان والحفاظ على حقوق الناس. ¬

_ = ص 376، مختصر البعلي ص 165، مختصر الطوفي ص 179، شرح تنقيح الفصول ص 419، شرح الكوكب المنير (4/ 492)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 187، إرشاد الفحول ص 263، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1112).

3 - مراعاة الضرورة وتطور الزمان

3 - مراعاة الضرورة وتطور الزمان: وذلك كالحكم بطهارة سؤر سباع الطير كالصقر والنَّسْر مراعاة للضرورة؛ لعدم إمكان الأعراب وسكان الصحارى من الاحتراز منها، وصحة بيع العقار اليوم بذكر صحيفته العقارية (السجل العقاري = الطابو) حسب التنظيمات الحاضرة. 4 - اختلاف البلدان: قد يكون لبعض البلاد أعراف خاصة، وتنظيمات معينة، ومعاملات خاصة، واهتمامات متميزة، وهي مما يجب مراعاته عند الاجتهاد ومعرفة الأحكام التي تناسب هذا البلد دون غيره. ومن هنا ظهر بعض الاختلاف في الأحكام بين أهل مكة وأهل المدينة؛ لأن مكة تعتمد على التجارة، ولا تعرف الزراعة وما يتعلق بها، وأهل المدينة يعتمدون على الزراعة، وتقل فيهم التجارة. ولهذه الأسباب مجتمعة أو متفرقة كان المجتهد يُغير اجتهاده إذا انتقل من بلد إلى آخر، كما حصل مع الإمام الشافعي عندما غيّر اجتهاده في مسائل عديدة عندما انتقل من الحجاز إلى العراق، ثم استقر في مصر، وكتب مذهبه الجديد، وخالف فيه بعض اجتهاداته التي عرفت بالمذهب القديم (¬1). ومن هنا أيضًا تتغير الفتوى للأسباب السابقة، أو لبعضها، مما يجب مراعاته، وسوف نراه في الفصل الثالث في الفتوى. ويختلف الأمر في أثر تغيير الاجتهاد من المجتهد نفسه إذا عمل بالرأي الأول، أو أفتى به غيره وعمل به، أو قضى به القاضي، كما سنرى في المسألة التالية: نقض الاجتهاد. ¬

_ (¬1) الفروق (1/ 171)، رسائل ابن عابدين (2/ 125)، أعلام الموقعين (3/ 14) وما بعدها، الموافقات (2/ 306)، شرح الكوكب المنير (3/ 509)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1113، 1116). البحر المحيط (6/ 118).

المسألة الثالثة: نقض الاجتهاد

المسألة الثالثة: نقض الاجتهاد: نقض الاجتهاد هو هدمه وإلغاؤه وإبطال العمل به، ويأخذ إحدى الصور الثلاث، بحسب موقعه، إما في العمل به والتطبيق في الحياة، وإما في الإفتاء، وإما في القضاء، سواء كان النقض من نفس المجتهد الأول، أو من غيره. والمبدأ العام في نقض الاجتهاد واحد في الصور الثلاث، وقد يختلف الأمر في الأثر المترتب على النقض من صورة إلى أخرى. والمبدأ العام في نقض الاجتهاد له شقان: الشق الأول: وجوب نقض الاجتهاد: إذا كان الاجتهاد مخالفًا لنص صريح في القرآن الكريم، أو السنة الشريفة، ولو كانت سنة آحاد صريحة، أو مخالفًا لإجماع، فإنه ينقض باتفاق العلماء والأئمة والمذاهب، سواء من نفس المجتهد أو من غيره؛ لأن هذا الاجتهاد -أصلًا- باطل؛ لمخالفة النص والإجماع، فيلغى ولا يجوز العمل به في الحياة العملية، ولا يجوز الإفتاء به، ولا القضاء به، وإن عمل به، فيجب الرد، وإذا صدر فيه حكم قضائي، نقض، وإذا أفتى به شخص، يجب الرجوع عنه وإبلاغ من أفتاه ليرجع. وأضاف الحنفية والمالكية والشافعية بأن الاجتهاد ينقض إذا خالف قياسًا جليًّا، وهو ما تكون العلة فيه صريحة في الأصل، أو تكون في الفرع أشد منها في الأصل كالضرب والتأفيف، أو تكون العلة مساوية تمامًا، ولا فرق نهائيًّا بين الأصل والفرع كالمرأة قياسًا على الرجل في الكفارة وغيرها، وخالف في ذلك الحنابلة وقالوا: لا ينقض الاجتهاد بمخالفة القياس مطلقًا، ولو كان جليًّا على الصحيح عندهم (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن النجار الحنبلي رحمه اللَّه تعالى: "ولا ينقض بمخالفة قياس، ولو جليًّا على الصحيح من المذهب، وقطع به الأكثر" شرح الكوكب المنير (3/ 505)، وانظر: الإحكام للآمدي (4/ 203)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 190. وصرح الغزالي وابن السبكي والآمدي والقرافي وغيرهم بنقض الحكم بمخالفته القياس الجلي، انظر المراجع التالية. =

الشق الثاني: عدم نقض الاجتهاد

وزاد الإمام مالك بنقض الاجتهاد إذا خالف القواعد الشرعية، وزاد بعض المتأخرين بنقض الاجتهاد وإلغائه إذا خالف المذاهب الأربعة؛ لأن ذلك بمثابة الإجماع، أو المعلوم من الدين بالضرورة، وقال ابن حجر: أو كان اجتهادًا لا دليل عليه قطعًا (¬1). وإن كان الاجتهاد معتمدًا على نص قطعي أو إجماع أو قياس جلي فإنه لا ينقض بالاتفاق؛ لأنه يعتمد على دليل لا يجوز خلافه ولا الاجتهاد ضده. الشق الثاني: عدم نقض الاجتهاد: إذا كان الاجتهاد مبنيًّا على الرأي، خارج الحالات السابقة في الشق الأول، فإنه لا ينقض باجتهاد آخر، وهذا ما نصت عليه القاعدة الفقهية الأصولية "الاجتهاد لا ينقض بمثله" وبعبارة أخرى "الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد". ومجال هذا الاجتهاد في المسائل الظنية التي لم يرد فيها دليل قاطع، ولا إجماع، أو في المسائل المستجدة، فإن الاجتهاد فيها لا ينقض باجتهاد مثله بالاتفاق؛ لأنه لو نقض الأول بالثاني لجاز أن ينقض الثاني بثالث؛ لأنه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار؛ ولأن الاجتهاد الأول ظني، ويعتمد على دليل ظني، والثاني ظني ويعتمد على دليل ظني، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر، ونقض هذا الاجتهاد يؤدي إلى نقض النقض، ويتسلسل الأمر فتضطرب الأحكام ولا يوثق بها (¬2). ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 382)، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 391)، الإحكام للآمدي (4/ 203)، شرح تنقيح الفصول ص 432، 442، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 164، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 113، درر الحكام (1/ 34)، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 115، المنثور للزركشي (1/ 93)، الفروع (6/ 456)، المغني (10/ 50)، روضة الطالبين للنووي (11/ 150)، شرح الكوكب المنير (4/ 506)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 190، القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي ص 351 - 357، 443، الفروق للقرافي (2/ 103). (¬2) فروع: يحرم على المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم أن يقلد غيره بالاتفاق؛ لأنه يعتقد أن اجتهاده خطأ، ولا يجوز له الأخذ بالخطأ أو الباطل، وكذلك قبل أن يجتهد عند الجماهير؟ لا =

آثار تغير الاجتهاد ونقض الاجتهاد وعدمه

آثار تغير الاجتهاد ونقض الاجتهاد وعدمه: إذا اجتهد مجتهد، أو حاكم، بما يخالف الدليل القطعي من نص أو إجماع أو قياس جلي، وما مرَّ في الشق الأول، فإن حكمه ينقض باتفاق العلماء، سواء كان من قبل المجتهد، أو الحاكم، أو من مجتهد آخر، أو حاكم آخر؛ لمخالفة الدليل، ولأنه يكون باطلًا، وكل ما بني على باطل فهو باطل، وتنعدم الآثار التي بنيت على الحكم الأول، وهذا له أمثلة من عمل الصحابة في حياة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاته، إذا اجتهدوا ثم وجدوا نصًّا، نقضوا اجتهادهم. وإذا كان الاجتهاد ظنيًّا، وقلنا لا ينقض باجتهاد آخر باتفاق، لكن تغير الرأي بعد ذلك، فإن الأثر العملي يختلف حسب حالة المجتهد نفسه، أو المفتي، أو القاضي. 1 - أثر تغير الاجتهاد على نفس المجتهد: إذا رأى المجتهد حكمًا معينًا، ثم تغير ظنه، فإن لم يعمل بالأول فلا شيء في ذلك، ويجب عليه العمل بالثاني، وإن عمل بالأول لزمه أن ينقض اجتهاده وما يترتب عليه، كما إذا خالع المجتهد زوجته بعد طلاقها مرتين، وأدَّاه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ، ليس بطلاق، فتزوجها بعد ذلك بمقتضى هذا الاجتهاد، ثم تغير اجتهاده وأداه إلى أن الخلع طلاق، لزمه أن يفارقها، ولا يجوز له إمساكها، عملًا بمقتضى اجتهاده الثاني؛ لأنه صار معتقدًا أن الاجتهاد الأول خطأ، والثاني صواب يجب العمل به، وهذا ليس نقضًا للاجتهاد بالاجتهاد، بل هو ترك العمل بالاجتهاد الأول. مثاله أيضًا لو رأى المجتهد أن الولي ليس شرطًا في صحة العقد للمرأة الرشيدة، فتزوجها من غير ولي، ثم تغير اجتهاده ورأى أن الولي شرط في صحة الزواج، فيلزمه مفارقة تلك المرأة، ولا يحل له البقاء على الزواج بها، وهو ترك ¬

_ = به يجب عليه أن يجتهد، وقال الأئمة الأربعة: إذا حكم الحاكم بخلاف اجتهاده، فهو باطل، ولو قلّد غيره في الحكم، ومن قضى برأي يخالف رأيه ناسيًا له نفذ، ولا إثم عليه عند أبي حنيفة وأحمد، وقال المالكية والشافعية وأبو يوسف: لا ينفذ، ويرجع عنه وينقضه، وللحي تقليد مجتهد ميت كالحي عند الجمهور، انظر هذه الأقوال بتفصيل مع أدلتها ومراجعها في (شرح الكوكب المنير 4/ 506، 507، 513، 515).

2 - أثر تغير اجتهاد الحاكم

للعمل بالاجتهاد الأول. وهذا الكلام في المثالين إذا لم يكن القاضي قد حكم بصحة النكاح في الحالتين، فإن حكم بهما القاضي، فلا يلزم الزوج مفارقة المرأة؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ويترك المخالفُ مذهبه ويلتزم بمذهب الحاكم، كما سنبين ذلك في حكم القاضي التالي. 2 - أثر تغير اجتهاد الحاكم: إذا اجتهد القاضي فيما يصح الاجتهاد فيه مما لم يرد فيه نص أو إجماع، وقضى في واقعة بما اجتهد به، ثم حصلت واقعة مماثلة للأولى، فاجتهد فيها، وتغير اجتهاده، فإنه لا ينقض الحكم السابق، وذلك تطبيقًا دقيقًا للقاعدة السابقة "الاجتهاد لا ينتقض بمثله": لأن النقض يؤدي -كما قلنا- إلى اضطراب القضاء، وعدم استقرار الأحكام، وشلل القضاء بعدم إنهاء المنازعات، وبالتالي عدم الوثوق بحكم الحاكم، وبقيت الخصومات على حالها، واستمر التشاجر والتنازع وانتشار الفساد والعدوان والظلم، وهذا يتنافى مع المصلحة التي وجد القضاء لأجلها، والحكمة التي نُضب لها الحكام. والأمثلة في تاريخ القضاء الإسلامي كثيرة منذ عهد الصحابة، كتغير اجتهاد عمر رضي اللَّه عنه في المسألة المشتركة الحجرية في الميراث، وقرر القاعدة المشهودة "تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي" (¬1)، ويؤيد ذلك ما جاء في كتاب عمر رضي اللَّه عنه لأبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه، وفيه: "لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه نفسك، أن تراجع الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ القضاء في الاسلام ص 118 - 120، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ص 482 - 485. (¬2) هذا الكتاب رواه الدارقطني (4/ 206، 208، 212) وورد في معظم كتب الفقه وغيرها، وتلقاه العلماء بالقبول، انظر: أعلام الموقعين (1/ 91)، الأحكام السلطانية للماوردي ص 71، المبسوط للسرخسي (16/ 60)، أخبار عمر ص 184، مقدمة ابن خلدون ص 221، أخبار القضاة لوكيع (1/ 70، 283)، روضة القضاة (4/ 1478)، تبصرة الحكام =

والأصل في هذه القاعدة إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم، كما نقله ابن الصباغ رحمه اللَّه تعالى، وأن أبا بكر رضي اللَّه عنه قضى في مسائل، ثم خالفه فيها عمر رضي اللَّه عنه، ولم ينقض اجتهاده، وعلته أن الاجتهاد الثاني ليس بأقوى من الأول، فيصح ما فعله بالاجتهاد الأول الذي تقوى بالقضاء والعمل، ثم يغير الحكم في المستقبل (¬1). وكذلك لا ينقض اجتهاد مجتهد باجتهاد مجتهد آخر، بل كل مجتهد عليه أن يحترم اجتهاد الآخر لعدم المرجح. وكذلك الأمر لو كان بين قاضيين، بأن قضى شافعي مثلًا بعدم الشفعة للجار، أو بطلان الزواج بغير ولي، ثم رفعت نفس القضية لقاض حنفي مثلًا يرى الشفعة للجار، أو صحة النكاح بغير ولي، فلا يجوز أن ينقض قضاء الأول، ويجب عليه تنفيذه، ويحكم في القضايا الأخرى بما يراه. وهذا مبدأ قانوني مقرر في محاكم النقض والتمييز إذا تغير اجتهادها، فإنه لا يسرى ذلك على الأحكام السابقة، ويسمى في اصطلاحهم "بعدم رجعية القوانين والقرارات" (¬2). ¬

_ = (1/ 21)، البيان والتبيين (2/ 49)، صبح الأعشى (1/ 193)، نهاية الأرب (6/ 257). (¬1) انظر تفصيل ذلك في: (أعلام الموقعين 1/ 111)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 192، القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي ص 351 وما بعدها، 443، فقه القضاء والدعوى والإثبات ص 65، 345، 347 وما بعدها، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ص 71، 482 وما بعدها. (¬2) البحر المحيط (6/ 266، 304)، شرح الكوكب المنير (4/ 505، 509، 511)، المستصفى (2/ 382)، المحصول (3/ 91)، الإحكام للآمدي (4/ 203)، البرهان (2/ 1328)، فواتح الرحموت (2/ 395)، شرح تنقيح الفصول ص 441، مختصر ابن الحاجب والعضد عليه (2/ 200)، تيسير التحرير (2/ 234)، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 164، روضة القضاة (1/ 150)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 190، إرشاد الفحول ص 263، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1114)، الفروق للقرافي (2/ 104)، علم أصول الفقه، خلاف ص 221.

المبحث السابع مسائل في الاجتهاد

المبحث السابع مسائل في الاجتهاد يذكر علماء الأصول عدة مسائل في الاجتهاد، بعضها تاريخي، وبعضها نظري، وبعضها يتصل بالواقع ومستجدات الحياة، ونذكر هنا أهمها: المسألة الأولى: اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1): أجمع العلماء على أنه يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب والأقضية ونحوها، وقد وقع ذلك فعلًا، ونقل الإجماعَ سُلَيم الرازي وابن حزم (¬2) رحمهما اللَّه تعالى، ومثاله: إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة (¬3)؛ لأن هذا في أصله مباح؛ لأن لهم أن يهبوا من أموالهم ما أحبُّوا، وكذلك قوله في تلقيح النخل؛ لأنه يباح للمرء أن يلقح نخله وأن يتركها، ويضاف أمثلة أخرى كاجتهاده في موضع النزول في بدر، واجتهاده بأخذ الفداء من الأسرى، وغير ذلك. أما الاجتهاد في الأحكام الشرعية والقضايا الدينية التي لا نص فيها، فقد اختلف العلماء على قولين: القول الأول: يجوز اجتهاده عقلًا، وقد وقع ذلك فعلًا، وهو رأي أكثر الأصوليين، وهو قول الحنفية مع تقييده بقولهم: بشرط انتظار الوحي، إلا أن يخاف فوت الحادثة، وأن اجتهاده يختص بالقياس، أما الاجتهاد في الدلالة فلا مجال له؛ لأن المراد عنده - صلى الله عليه وسلم - واضح، ولا تعارض لديه. ¬

_ (¬1) يبحث العلماء ذلك بالنسبة لاجتهاد سائر الأنبياء، ولم نر حاجة لهذا التعميم. (¬2) الإحكام لابن حزم (2/ 703)، البحر المحيط (6/ 214)، إرشاد الفحول ص 255. (¬3) سيرة ابن هشام (2/ 223)، وقد عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حين استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فرفضا ذلك، وقال الأول: "عندما كنا على الشرك والوثنية لم نعطهم ذلك، أفحين أكرمنا اللَّه بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، وبه، نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، واللَّه لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم اللَّه بيننا وبينهم"، وروى ذلك البزار والطبراني وغيرهم، انظر: زاد المعاد (3/ 273)، تخريج أحاديث البزدوي ص 532، مجمع الزوائد (6/ 132). =

القول الثاني: لا يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وهو قول جمهور الأشعرية، وأكثر المعتزلة، وهو ظاهر اختيار ابن حزم رحمه اللَّه تعالى. استدل أصحاب القول الثاني بعدة أدلة، منها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، ويرد على هذا الاستدلال أن المراد به الوحي عامة والقرآن خاصة؛ لأن الاجتهاد الشرعي مأذون فيه، واستدلوا بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، لكن الآية تنص على عدم تبديل الوحي اللفظي أو المعنوي، وإن الاجتهاد نفسه مشروع بمقتضى الوحي، واستدلوا بأن الاجتهاد يفيد الظن مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمكنه الحصول على اليقين بالوحي، ولكن ذلك لا يعارض الاجتهاد، وقد يكون من اليقين المعنوي أن يجتهد فيما لم ينزل فيه وحي، واستدلوا بأنه لو جاز الاجتهاد له لما تأخر به عند الاستفتاء وفصل الخصومات لنزول الوحي، ويردّ ذلك أن الانتظار مشروع قطعًا لكل مفت وقاضٍ حتى يحصل على أقوى الأدلة، فإن لم يحصل عليها اجتهد، والاجتهاد نفسه استفراغ الوسع في البحث والطلب. واستدل الجمهور القائلون بجواز الاجتهاد بأدلة كثيرة، منها أن اللَّه تعالى خاطب نبيه كما خاطب عباده، وضرب له الأمثال، وأمره بالتدبر والاعتبار، وهو أجل المتفكرين، وأعظم المعتبرين بها، وأكثرهم خبرة بالاجتهاد والقياس، والأهم من كل ذلك وقوع الاجتهاد فعليًّا من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة عند تخييره في الأحكام، فيجتهد ويختار أحد الجائزين في الحروب وسائر الأحكام، كقتله النضر بن الحارث، وأنه استشار كثيرًا في أسرى بدر وغيرها، وقوله في عدة أحاديث: "أرأيتَ لو تَمَضْمَضتَ بماء" "أرأيتَ لو كانَ على أبيك دَيْن" واستثناء الإذخر في جواز قطعه في الحرم، وأنه قال: "ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه" وقال في حجة الوداع وسوقه الهدي: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما سقت الهدي" (¬1)، واستدلوا أيضًا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أكمل من غيره؛ لعصمته من الخطأ، فلو جاز الاجتهاد لغيره، فلأن يجوز له بالأولى، ¬

_ (¬1) هذه أحاديث صحيحة، وسبق بيانها، وانظر: شرح الكوكب المنير (4/ 478 - 380). =

وأن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص، فيكون أكثر ثوابًا، وهو ما يفعله عليه الصلاة والسلام (¬1). ولا شك في ترجيح قول الجمهور؛ لقوة أدلتهم، ولوقوع الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - عمليًّا، وأن أدلة القول الأول لم تسلم من الاعتراض والنقد، وليس فيها دلالة صريحة، وهذه المسألة أصبحت تاريخية؛ لأن الشرع استقر، وكل ما ثبت عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صار شرعًا معمولًا به. فرع: الخطأ في اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -: ويتفرع على المسألة السابقة واعتماد القول الراجح فيها بجواز الاجتهاد، وهي مسألة تاريخية محضة، يتفرع عنها مسألة نظرية أخرى، وهي: هل يخطئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده؟ فقال بعضهم: لا يخطئ؟ تنزيهًا لمقام النبوة، وقال آخرون: يخطئ فيما لا يرجع إلى التبليغ، ولكن اللَّه تعالى لا يقره على الخطأ، ويصوِّب له جبريل ما أخطأ به إن وقع حتى لا يسري الخطأ إلى الأمة وتقلده فيه، ولذلك كانت النتيجة واحدة، وأن ما استقر عليه اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده، ونقل إلى الأمة، فهو صواب قطعًا، ولا حاجة للاستدلال والتوسع في هذا الفرع (¬2). ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 355، 356)، البرهان (2/ 1356)، المعتمد (2/ 762)، الإحكام للآمدي (4/ 165)، نهاية السول (3/ 237)، التبصرة ص 521، المنخول ص 468، أصول السرخسي (2/ 91)، فواتح الرحموت (2/ 366)، تيسير التحرير (4/ 183)، الفصول (3/ 239)، مختصر ابن الحاجب (2/ 291)، شرح تنقيح الفصول ص 346، الإحكام لابن حزم (2/ 703)، الحاوي (20/ 181)، المسودة ص 506، 507، 508، مختصر البعلي ص 164، مختصر الطوفي ص 175، شرح الكوكب المنير (4/ 474)، البحر المحيط (6/ 214)، الروضة ص 356، 357، المدخل إلى مذهب أحمد ص 186، إرشاد الفحول ص 256، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1056). (¬2) المستصفى (2/ 355)، المحصول (3/ 22)، الإحكام للآمدي (4/ 216، 217)، نهاية السول (3/ 239)، أصول السرخسي (2/ 91، 95)، تيسير التحرير ت (4/ 190)، فواتح الرحموت (2/ 372)، مختصر ابن الحاجب (2/ 303)، الإحكام لابن حزم (2/ 705)، المسودة ص 509، شرح الكوكب المنير (4/ 480)، البحر المحيط (6/ 218)، أصول =

المسألة الثانية: اجتهاد الصحابة في عصر النبوة

المسألة الثانية: اجتهاد الصحابة في عصر النبوة: اتفق العلماء على جواز اجتهاد الصحابة رضي اللَّه عنهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه وقع فعلًا، ونقل عنهم بالتواتر المعنوي. ولكن اختلف العلماء في جواز اجتهادهم في عصره - صلى الله عليه وسلم - على آراء، فقال بعضهم بعدم الجواز عقلًا، وبعضهم بعدم الجواز وعدم الوقوع، وقال الجمهور بالجواز للحاضر والغائب، وفصل بعضهم بالجواز للغائب، دون الحاضر، وهي مسألة تاريخية لا فائدة فيها الآن، ولذلك لا نتوسع فيها. والراجح قول الجمهور بجواز اجتهاد الصحابة رضوان اللَّه عليهم في عصر النبي عليه الصلاة والسلام مطلقًا، وأنه وقع فعلًا، مع اليقين أن مصدر الأحكام في عصر النبوة محصور بالوحي، وبالتالي فإن اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -أولًا كان تحت مظلة الوحي، وكان اجتهاد الصحابة موقوفًا على عرضه على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بإقراره، فيصبح سنة تقريرية متفقًا عليها، أو بردّه فيكون باطلًا باتفاق. والأدلة على ذلك كثيرة، أهمها حديث معاذ السابق: "أجتهد رأيي ولا آلو" وحديث عمرو: "أجتهد وأنت حاضر" (¬1)، واجتهاد عدد من الصحابة إما بطلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإبداء آرائهم، وإما بمبادرة منهم، ثم يعرضون آراءهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى في سلب الغنيمة، وفي التيمم، والصلاة، والقضاء وغيره (¬2). المسألة الثالثة: خلو العصر عن المجتهدين: هذه مسألة نظرية، خيالية، غيبية، بحثها العلماء في العصور الأولى تفكهًا، ¬

_ = الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1062). (¬1) هذه الأحاديث سبق بيانها. (¬2) المستصفى (2/ 354)، المحصول (3/ 25، 27)، الإحكام للآمدي (4/ 175)، الحاوي (20/ 183)، الإحكام لابن حزم (2/ 698)، البحر المحيط (6/ 220)، فواتح الرحموت (2/ 274)، تيسير التحرير (4/ 193)، المسودة ص 511، شرح الكوكب المنير (4/ 481)، البرهان (2/ 1355)، إرشاد الفحول ص 256، المدخل إلى مذهب أحمد ص 186، ابن الحاجب (2/ 293)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1062). =

المسألة الرابعة: تفويض الاجتهاد لنبي أو مجتهد

وضمن القضايا الفرضية أو الافتراضية، ثم سار عليها الخلف تبعًا، وركونًا إلى البحث النظري الذي يحتمل وقوعه في آخر الزمان، وقبل قيام الساعة، ولذلك لا حاجة لبحثها، وعرضناها باختصار شديد عند الكلام على حكم الاجتهاد في المبحث الأول. المسألة الرابعة: تفويض الاجتهاد لنبي أو مجتهد: هذه المسألة فرع لمسألة التصويب والخطأ في الاجتهاد، وصورتها أن يقول اللَّه تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -أو للعالم المجتهد: احكم بما شئت، فهو صواب، وأنه حكم اللَّه تعالى في القضية. وهذه المسألة إما أن ترجع لطلب الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من العالم المجتهد، وهذا جائز لا خلاف فيه، وهو مجال الاجتهاد، وسبقت مشروعيته والعمل به، وإما أن ترجع لتفويض الحكم إلى من كان من أهل العلم، ولم يصل لدرجة الاجتهاد، ليحكم بما شاء من غير نظر واجتهاد، فهذا محل الخلاف والنظر. وأرى أن العالم إذا لم يصل إلى درجة الاجتهاد ولو جزئيًّا، لا يصح له أن يجتهد أصلًا؛ لأنه يقول بدين اللَّه بغير علم من كتاب وسنة وإجماع واجتهاد، ولا يقبل العقل والشرع أن يقال لهذا المفوض: إن ما حكمت به هو الصواب؛ لأنه لا يعلم بما يريد اللَّه عزَّ وجلَّ، ولا يدري حكم اللَّه تعالى، ولا يدري المصالح التي يهدف إليها الشرع، وأن البحث في ذلك نظري خيالي، لذلك نكتفي بهذه الإشارة دون التعرض للأقوال وأدلتها، ولذلك توقف فيها بعض الأئمة والعلماء. قال ابن السمعاني رحمه اللَّه تعالى: "هذه المسألة، وإن أوردها متكلمو الأصوليين، فليست بمعروفة عند الفقهاء، وليس فيها كثير فائدة؛ لأنها في غير الأنبياء لم توجد، ولا يتوهم وجودها في المستقبل" وأن ما يدعيه بعضهم بالتفويض لإمام معصوم، فهو منكر، حتى قال قيه الشوكاني: "إنه مجرد جهل بحت ومجازفة ظاهرة" (¬1). ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول ص 264، وانظر: المحصول (3/ 185)، الإحكام للآمدي (4/ 170، 209)، نهاية السول (3/ 176)، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 291)، =

المسألة الخامسة: مراعاة الخلاف

المسألة الخامسة: مراعاة الخلاف: يتفرع على مسألة التصويب والتخطئة في الاجتهاد مسألة مراعاة الخلاف، باعتبار أن المجتهد يدّعي الإصابة، ويقول: إنَّ قولي صحيح، ويحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب، فلا يقطع بصواب قوله، ولا بخطأ مخالفه، وهذا من باب الاحتياط والأدب واحترام قول الآخر، وهو من دقيق النظر والأخذ بالحزم، ويسمى: الخروج من الخلاف، وهو أن من يعتقد جواز الشيء يترك فعله إن كان غيره يعتقد حرامًا، وقد يستحبه إن كان غيره يوجبه. وإنما يراعى الخلاف إذا كان له دليل مقبول، أو دليل قوي، أما إذا كان الدليل ضعيفًا، أو واهيًا، أو وهمًا، فلا اعتبار به، وهذا الشرط الأول لمراعاة الخلاف. ويشترط أيضًا ألا تكون مراعاة الخلاف لرأي أو مذهب مؤدية إلى مخالفة رأي آخر، أو مذهب آخر، له دليل مقبول أو قوي. ويشترط في مراعاة الخلاف ألا يكون قد صدر فيه حكم قضائي، فحكم القاضي نافذ، ويجب تنفيذه والالتزام به. وقال الشافعية: يستحب مراعاة الخلاف، أو الخروج منه في صور كثيرة، كاستحباب الدلك في الغسل لقول مالك بوجوبه، واستجباب ترك الجمع بين الصلاتين لقول الحنفية بمنعه، واستحباب عدم القصر في مسافة العدوى (40 كم) لقول الحنفية بمنعه، واستجباب ترك صلاة المفترض خلف المتنفل والعكس، وصلاة الظهر خلف من يصلي العصر والعكس، وصلاة الفرض خلف من يصلي السنة والعكس، لعدم مشروعيتها عند الحنفية، وهكذا (¬1). ¬

_ = المعتمد (2/ 889)، تيسير التحرير (4/ 236)، فواتح الرحموت (2/ 297)، مختصر ابن الحاجب (2/ 301، 302)، شرح الكوكب المنير (4/ 519)، المسودة ص 510 وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1106). (¬1) البحر المحيط (6/ 265)، الأشباه والنظائر، للسيوطي ص 257 القاعدة 12، نشر دار الكتاب العربي -بيروت- ط 4 - سنة (1417 هـ / 1998 م).

المسألة السادسة: الاجتهاد الجماعي

المسألة السادسة: الاجتهاد الجماعي: وهو الاجتهاد الذي يصدر من عدد من العلماء الباحثين الذين وصلوا إلى درجة الاجتهاد الجزئي، وذلك بعد عرض مسألة أو قضية، ودراستها، ومناقشتها، وإبداء الرأي فيها، واتفاق الحاضرين أو أغلبهم عليها، وهو ما يقع في الندوات، والمؤتمرات، وخاصة في مجمع البحوث الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، والمجامع الفقهية التي ظهرت في القرن الرابع عشر الهجري، وتضم نخبة من علماء العصر من مختلف البلدان والمذاهب الفقهية، مع الاستعانة بأهل الاختصاص الفني والعلمي في المسائل المدروسة كالاستعانة بالأطباء والمخبريين في الأمور الصحية وبيان أحكامها الشرعية، والاستعانة بالمحامين والقضاة وشراح القانون في القضايا التشريعية المعاصرة، والاستعانة بالمحاسبين والاقتصاديين في الأمور المالية والاقتصادية والمصارف والشركات عامة، وشركات التأمين، وغير ذلك. ويمتاز الاجتهاد الجماعي عن الاجتهاد الفردي أنه يمثل رأي عدد، وهو أقرب للصواب من رأي الفرد، وأنه يتم بعد مناقشات ومحاورات ومداخلات واستعراض لمختلف الأدلة، كما يدلي فيه أصحاب الاختصاصات العلمية بحقائق الأمور ليبدي الفقهاء الرأي الشرعي فيها. وأصبح الاجتهاد الجماعي ضرورة ملحة، وحاجة أكيدة في عصرنا؛ لكثرة المستجدات والمكتشفات، وتعقد الأمور، وتشعب العلوم وتفرعها وتداخلها وتشابكها، حتى صار من المستحيل على عالم أن يتبحر ويتعمق في مختلف العلوم. لذلك صار الاجتهاد التخصصي والمؤسسي عملًا جماعيًّا مهمًا وضروريًّا، ليصدر الاجتهاد من جموع العلماء والفقهاء في الشريعة مع قلة من الخبراء والمختصين في العلوم الأخرى. وهذا الاجتهاد الجماعي أكثر قبولًا على مختلف المستويات الفردية والرسمية، وأعطت الاجتهادات الجماعية رصيدًا ممتازًا فيما عرض عليها، ولكن لا تزال في أول الطريق، وتحتاج لمزيد من الرعاية والعناية والتفرغ

والمواظية والاستمرار والمتابعة لمجريات الأمور، ومستجدات العصر، وحاجات الأفراد المؤسسات والمجتمع والأمة، وعليها تعقد الآمال إن شاء اللَّه تعالى (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب الأمة: الاجتهاد الجماعي للأخ الدكتور عبد المجيد السوسوة، ويحضر تلميذنا خالد الخالد رسالة دكتوراه في ذلك.

الفصل الثاني التقليد

الفصل الثاني التقليد التقليد والاتباع مقابلان للاجتهاد، وسبق الكلام على الاجتهاد والمجتهد، وشروط الاجتهاد والمجتهد، وهنا يأتي الكلام على التقليد والاتباع. ذلك أن اللَّه تعالى خلق الناس على مستويات مختلفة، وجعل الحياة تقوم على أعمال متنوعة، ولا بدَّ لكل عمل من وجود طائفة من الناس تقوم به، فيتوزع الناس حسب الأعمال الكثيرة في الحياة، كل لما خلق له، ليتم التعاون والتكافل فيما بينهم. ومن الناس من يتجه إلى العلوم عامة، والعلم الشرعي خاصة، ولكن لا يملك كل من طلب العلم القدرة إلى الوصول إلى الكمال ودرجة الاجتهاد، وينفرد نفر من الأمة في كل عصر بالوصول إلى الذروة، ليتبوأ القمة، ويبلغ درجة الاجتهاد، ويبقى معظم المتعلمين في الدرجات الأخرى، كما يبقى جماهير الناس من المتعلمين لسائر العلوم، ولأسباب المهن والحرف، ومن غير المتعلمين، يتبعون كبار العلماء الأفذاد، والمجتهدين في الشريعة، لمعرفة الأحكام الشرعية، وسؤالهم عنها، والرجوع إليهم عند كل نازلة، أو طارئة، أو قضية، أو خلاف، أو استفتاء (¬1). والمجتهدون في كل عصر قلة، وتبقى الأكثرية في مجال التقليد أو الاتباع، وهذا يقتضي البحث عن حال المقلدين والأتباع، وهو محل هذا الفصل الذي نعرضه في عدة مباحث. ¬

_ (¬1) انظر بحثًا لطيفًا بعنوان "وجوب النظر وذم التقليد" في كتاب الفصول للجصاص الرازي (4/ 369) وما بعدها، والمراد بذم التقليد ممن تتوفر فيه شروط الاجتهاد، أما غير المجتهد فيجب عليه التقليد والاتباع كما سيأتي. =

المبحث الأول تعريف التقليد والاتباع

المبحث الأول تعريف التقليد والاتباع تعريف التقليد: التقليد لغة: وضع الشيء في العنق حال كونه محيطًا به، ويسمى ذلك الشيء قلادة، ومنه تقليد الهدي في الحج، أي: وضع القلادة في عنق ما يُهدى إلى الحرم من النَّعَم، وجمع القلادة قلائد (¬1). والتقليد اصطلاحًا: أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله، فالمقلد يعتقد صحة ما يقوله غيره، ويتبعه عليه من غير معرفة الدليل الذي أوجب القول، سواء كان ذلك قولًا أو فعلًا، عملًا أو تركًا، ويسمى المقلد عاميًّا، وهذا يشمل كل إنسان غير مجتهد في الشرع، ولو كان عالمًا وخبيرًا في علم آخر. ويخرج من التعريف المجتهد إذا عرف الدليل، ووافق اجتهاده اجتهاد مجتهد آخر، فإنه لا يسمى تقليدًا، كقولهم: أخذ الشافعي بمذهب مالك في كذا، وأخذ أحمد بمذهب الشافعي في كذا؛ لأنه عند معرفة دليله حق المعرفة يكون قد أخذ الحكم من الدليل، لا من المجتهد السابق، فيكون إطلاق الأخذ بمذهبه فيه تجوّز. وكذلك فإن الرجوع إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإلى المعلوم بالضرورة، وإلى الإجماع (¬2)، ورجوع القاضي إلى شهادة الشاهد، ليس بتقليد حقيقة؛ لقيام الحجة بذلك، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -هو نفس الحجة والدليل، ولو سمي تقليدًا، لساغ ذلك توسعة، ولا مشاحة في الاصطلاح (¬3). ¬

_ (¬1) المصباح المنير (2/ 704)، القاموس المحيط (1/ 329)، مختار الصحاح ص 548، المعجم الوسيط ص 754، مادة قَلَدَ. (¬2) قال بعض العلماء: إن الرجوع إلى قول المفتي لا يسمى تقليدًا، ولكن الراجح عند الأكثرين أنه تقليد، وقال ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى: الرجوع إلى قول الصحابي ليس بتقليد؛ لأنه حجة، انظر: المسودة ص 462، شرح الكوكب المنير (4/ 531 - 533). (¬3) المستصفى (2/ 387)، الإحكام لابن حزم (1/ 37)، التعريفات للجرجاني ص 34، المجموع للنووي (1/ 89)، الروضة لابن قدامة ص 382، البرهان (2/ 1357)، البحر =

الفرق بين التقليد والاتباع

الفرق بين التقليد والاتباع: فرّق كثير من العلماء بين التقليد الذي يأخذ فيه الشخص بقول غيره بدون معرفة دليله، وبغير حجة تظهر له، بل بمجرد الاقتناع والثقة والمحاكاة، حتى لا يعرف دليل القول، ولا معنى قوله، وإنما يسلم به، ويلتزمه فيه، ويسير على هداه. أما الاتباع فهو الأخذ بقول الآخر بعد معرفة دليله، والطريق الذي أخذ به، فيقتنع بالقول مع الدليل، ثم يتبعه، فيكون تابعًا طريق المتبوع، ولذلك فإن معظم الأصحاب لإمام المذهب هو تابعون له؛ لمعرفتهم الحكم مع الدليل، وكذلك معظم الباحثين والدارسين للفقه المذهبي يعتبرون تابعين للمذهب، وليسوا مقلدين له. ولذلك فكل من خرج عن الاجتهاد ممن ذكرناه سابقًا، ولم يبلغ درجة الاجتهاد، بل يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإجماع والمعلوم بالضرورة فهذا اتباع، وليس تقليدًا، وكذا اتباع المجتهد لقول مجتهد آخر، يسمى اتباعًا، وليس تقليدًا (¬1). تاريخ التقليد والاتباع: إن التقليد لأقوال العلماء المجتهدين ظهر منذ عصر الصحابة رضوان اللَّه عليهم، فكان معظم الصحابة غير مجتهدين، ويسألون كبار الصحابة وفقهاءهم عن الأحكام، فيأخذون بها دون الاستفسار عن الدليل. ولكن لم يكن للصحابة مذهب كامل، واستمر الأمر كذلك في عهد التابعين، إلى أن ظهر كبار الأئمة المجتهدين، وصار لهم أتباع، واستقرت مذاهبهم، وبدأ التقليد ¬

_ = المحيط (6/ 270)، فواتح الرحموت (2/ 400)، تيسير التحرير (4/ 241)، المسودة ص 553، صفة الفتوى ص 51، مختصر البعلي ص 166، مختصر الطوفي ص 183، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 120، إرشاد الفحول ص 265، المدخل إلى مذهب أحمد 193، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1120)، أصول الأحكام ص 379. (¬1) نقل الزركشي عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال: "والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا أنا إنما صرنا إلى مذهب الشافعي لا عن طريق التقليد، وإنما هو من طريق الدليل، وذلك أننا وجدناه أهدى الناس في الاجتهاد، وأكملهم آلة وهداية له، فلما كانت طريقته أسد الطرق سلكناه في الاجتهاد والنظر في الأحكام والفتاوى، لا أنا قلدناه ... " البحر المحيط (6/ 292).

تقليد المجتهد الميت

بشكل واضح في منتصف القرن الثاني الهجري، كما سبق، ثم ظهر التقليد للمذهب بمعناه الكامل في أوائل القرن الرابع الهجري، واستمر إلى اليوم. قال الشوكاني رحمه اللَّه تعالى: "إن التقليد (للمذهب) لم يحدث إلا بعد انقراض خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة، إنما كان بعد انقراض عصر الأئمة الأربعة، وإنهم كانوا على نمط مَنْ تقدمهم من السلف في هجر التقليد، وعدم الاعتداد به، وإن هذه المذاهب إنما أحدئها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين" (¬1). تقليد المجتهد الميت: اختلف العلماء في اشتراط حياة المجتهد الذي يجوز تقليده، على أربعة أقوال: أحدها: المنع مطلقًا؛ لأن الميت ليس من أهل الاجتهاد، كالفسق بعد العدالة، أو لأن الحياة هي الأصل فزالت، وزال وصفها بالاجتهاد، أو لاحتمال عدوله عن اجتهاده لو كان حيًّا وجدَّد اجتهاده. الثاني: الجواز بشرط فقد الحي، فليس للعامي تقليد الميت إن وجد مجتهدًا حيًّا؛ لأن الحي أفضل من الميت، وأعرف بالوقائع والقضايا والفتاوى، فإن لم يوجد المجتهد الحي جاز تقليد الميت. الثالث: التفصيل: وهو جواز تقليد الميت إذا كان دليله نقليًّا، وكان الناقل لرأي الميت مجتهدًا وأهلًا للمناظرة، فإن كان رأي المجتهد الميت قياسيًا، فلا يجوز؛ لاحتمال تغير القياس والاجتهاد فيه. الرابع: الجواز مطلقًا، وهو الصحيح ورأي جمهور العلماء، وفيه قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "المذاهب لا تموت بموت أربابها، ولا بفقد أصحابها"، واعتبره بعضهم إجماعًا، وذلك قياسًا على الشهادة التي يؤديها الشاهد عند الحاكم، ثم يموت، فإن شهادته لا تبطل، وقياسًا على حكم الحاكم فإنه لا ¬

_ (¬1) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، له ص 108، وانظر: إرشاد الفحول، له ص 267.

تقليد المفضول

يموت بموته، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقْتَدُوا باللَّذَيْنِ من بَعْدي: أبي بكرٍ وعُمَرَ" (¬1)، وهذا الأمر عام للاقتداء بهم أثناء حياتهم، وبعد مماتهم، وقال عليه الصلاة والسلام: "عَلَيكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ من بَعْدي: عَضُّوا عليها بالنَّواجذ" (¬2)، واحتج الأصوليون على ذلك بانعقاد الإجماع على جواز العمل بفتاوى الموتى، وأضاف بعضهم: أن ذلك للضرورة، فلو لم نجوِّز تقليد المجتهد الميت، لأدى ذلك إلى إفساد أحوال الناس، ولذلك قالوا: موت المجتهد لا يُميت قوله، فكأنه أحد الأحياء فيقلد (¬3). وهذا القول هو الراجح، فيجوز تقليد المجتهد الميت إذا ثبت النقل عنه، وكان دليله معروفًا، إلا إذا كان مبنيًّا على العرف والمصلحة فتجوز مخالفته. تقليد المفضول: يجوز تقليد المجتهد المفضول، مع وجود الأفضل عند الأكثر من المذاهب الأربعة (¬4)؛ لأن العامي أو المستفتي لا يمكنه الترجيح ومعرفة ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه الترمذي (10/ 147، 149) وابن ماجه (1/ 37) وأحمد (5/ 382) وابن حبان (ص 539) والحاكم (3/ 75) وانظر: تخريج أحاديث البزدوي ص 236، تخريج أحاديث مختصر المنهاج ص 299. (¬2) هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/ 506) والترمذي (7/ 439) وابن ماجه (1/ 15) والدارمي (1/ 44) والحاكم (1/ 95) وابن حبان (ص 56) وانظر: تخريج أحاديث البزدوي ص 238، تخريج أحاديث مختصر المنهاج ص 299. (¬3) انظر هذه الأقوال وأدلتها مفصلة في: البرهان (2/ 1352)، الإحكام لابن حزم (2/ 838)، فواتح الرحموت (2/ 407)، المحصول (3/ 97)، المسودة ص 521، 522، أعلام الموقعين (4/ 274)، البحر المحيط (6/ 297، 327)، شرح الكوكب المنير (4/ 513)، تيسير التحرير (4/ 250)، نهاية السول (3/ 257)، جمع الجوامع والبناني (2/ 396)، المجموع (1/ 90)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 191، إرشاد الفحول ص 269، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1159). (¬4) خالف بعض العلماء في ذلك، واشترط بعضهم أن يعتقده فاضلًا أو مساويًا، لا مفضولًا؛ لأنه لا يصح أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح، وقال بعضهم: يلزمه الاجتهاد ليقدم الأرجح.

تقديم الأعلم على الأورع

الفاضل والمفضول، ولو كُلِّف ذلك لكان تكليفًا بضرب من الاجتهاد، وهو لا يستطيعه، ولأن اللَّه تعالى قال: {أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، ولم توجب الآية تعيين الأفضل دون المفضول، ولأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل، واشتهر ذلك وتكرر، ولم ينكر ذلك أحد، فدل على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل (¬1). لكن قال أكثر العلماء: إنه يلزم العامي في الأصح أن يقلد الأرجح من المجتهدين متى بان له ذلك، وخالف بعضهم في ذلك، وقال النووي رحمه اللَّه تعالى: "وهذا وإن كان ظاهرًا، ففيه نظر؛ لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم" (¬2). تقديم الأعلم على الأورع: يقدم في تقليد المجتهدين الأعلم على الأورع في الأصح، لأنَّ الظن الحاصل بالأعلم أقوى، ولأنه لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع. فإن استوى المجتهدون تختر العامي في تقليد أحدِهم متى سكنت نفسه إليه واطمأنت إلى علمه (¬3). ¬

_ (¬1) البرهان (2/ 1342)، تيسير التحرير (4/ 251)، فواتح الرحموت (2/ 204)، شرح تنقيح الفصول ص 432، شرح الكوكب المنير (4/ 571)، المسودة ص 462، 464، أعلام الموقعين (4/ 330)، جمع الجوامع والبناني (2/ 395) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 154، 156، مختصر الطوفي ص 185، مختصر البعلي ص 167، المدخل إلى مذهب أحمد ص 194، إرشاد الفحول ص 271، مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، المعتمد (2/ 939)، صفة الفتوى ص 56، 69، 82. (¬2) المجموع (1/ 90)، وانظر: روضة الطالبين (11/ 104)، المستصفى (2/ 390)، الإحكام للآمدي (4/ 237)، مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، صفة الفتوى ص 56، المسودة ص 464، 537، المحصول (3/ 113)، أعلام الموقعين (4/ 331)، البرهان (2/ 1344)، المعتمد (2/ 947). (¬3) المحصول (3/ 113)، الإحكام للآمدي (4/ 237)، مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، شرح الكوكب المنير (4/ 574)، البرهان (2/ 1344)، المعتمد (2/ 940)، المستصفى (2/ 390)، المسودة ص 466، صفة الفتوى ص 69.

المبحث الثاني مجال التقليد، وحكمه، وأقسامه

المبحث الثاني مجال التقليد، وحكمه، وأقسامه مجال التقليد: إن الأمور والقضايا والمسائل التي يعتنقها الإنسان قسمان، سواء كانت نظرية أو عملية. القسم الأول: ما يعتنقه بناء على دليل ونظر وبحث يقوده إلى القناعة الذاتية. القسم الثاني: ما يأخذ به نظريًّا أو علميًّا بمجرد المحاكاة لغيره، والتشبه به، والسير على خطاه. وإن الأحكام الشرعية قسمان: القسم الأول: أصول الشرع، وتشمل ثلاثة جوانب أساسية، وهي: 1 - ما يتعلق بمسائل العقيدة، والأصول العامة فيها، وفروعها كالإيمان باللَّه تعالى، ومعرفته تعالى، وصفاته، وتوحيده، ودلائل النبوة، والإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وتسمى المسائل العقلية. 2 - الأخلاق والفصائل. 3 - ما علم من الدِّين بالضرورة من جميع التكاليف الشرعية، ويشمل الأصول الشرعية كأركان الإسلام الخمسة، وأصول العبادات والمعاملات والعقوبات والمحرمات، كحرمة الزنى وحرمة الربا، وحل البيع والنكاح، ونحوها مما هو ثابت قطعًا. القسم الثاني: الفروع وما يتعلق بالأعمال، وتسمى المسائل الشرعية والفرعية، وهي التي تشكل معظم الفقه في العبادات والمعاملات والتنظيمات والسياسة الشرعية وأحكام الأسرة والقضاء والجهاد (¬1). ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1122)، أصول الأحكام ص 379.

حكم التقليد

حكم التقليد: قال جمهور العلماء بحرمة التقليد في القسم الأول في العقائد والأصول العامة، ويجوز التقليد في الفروع والأعمال، وخالف قوم بالأمرين، وفصل فريق ثالث. أولًا: حكم التقليد في العقائد والأصول العامة: اختلف العلماء في حكم التقليد في العقائد والأصول العامة على ثلاثة أقوال، وهي: القول الأول: لا يجوز التقليد في العقائد، وهي المسائل العقلية، وفي الأصول العامة كالأخلاق وما علم من الدِّين بالضرورة، والأصول الشرعية، وهو قول جمهور العلماء والمذاهب والأئمة، وحكاه بعضهم إجماعًا عن أهل العلم، وذكره بعضهم عن عامة العلماء، وهو الصحيح، وذلك يقتضي معرفة الأمر بنظر واستدلال مهما بلغ ذلك، كل حسب قدرته وكفاءته وأهليته. واستدل الجمهور على رأيهم بأدلة، منها: 1 - إن اللَّه تعالى أمر بالتدبر والتفكر والنظر، فيكون ذلك واجبًا، وفي التقليد ترك الواجب، فلا يجوز، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ}، [آل عمران: 190 - 196] فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلٌ لمنْ قَرَأهُنَّ ولم يَتَدَبَّرْهُنَّ، وَيْلٌ له، ويلٌ

له" (¬1)، فالرسول توعّد وشدَّد على ترك النظر والتفكر في آيات اللَّه للوصول إلى معرفة اللَّه والإيمان به ومعرفة صفاته، فدل على وجوب النظر. 2 - الإجماع: أجمعت الأمة على وجوب معرفة اللَّه سبحانه وتعالى، وما يجوز له، وما لا يجوز، ولا تحصل المعرفة بالتقليد؛ لجواز كذب المُخْبِر، واحتمال خطئه، فيضلَّ المقلّد، كالمقلِّد في حدوث العالم أو في قدمه (¬2). فرع: الاعتقاد من غير دليل: يتفرع على قول الجمهور: إن من اعتقد من غير معرفة دليل، فقال أكثر الأئمة: إنّه مؤمن، ومن أهل الشفاعة، وإن قصّر عن ترك الاستدلال، وبه قال أئمة الحديث؛ لأن الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها اكتفي منهم بالإيمان العام، ولم يكلفهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أظهرهم- بمعرفة ذلك، ولم يخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته، وهو الإيمان الجملي الذي كان عند خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهو ما عليه عامة المسلمين في كل عصر (¬3). القول الثاني: يجوز التقليد في العقائد والأصول العامة، وهو قول بعض العلماء؛ لإجماع السلف على قبول الشهادتين من غير أن يقال لقائلهما: هل نظرت؟ وقالوا: إذا عرف الإنسان اللَّه، وصدَّق رسله، وسكن قلبه إلى ذلك، ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وعبد بن حُميد في تفسيره، والطبراني وابن مردويه، وتذكره كتب التفسير، انظر: تفسير ابن كثير (1/ 440)، الكشاف (1/ 487). (¬2) الإحكام للآمدي (4/ 223)، الإحكام لابن حزم (2/ 861)، نهاية السول (3/ 264)، تيسير التحرير (4/ 243)، فواتح الرحموت (2/ 401)، مختصر ابن الحاجب (2/ 305)، شرح تنقيح الفصول ص 430، 444، المحصول (3/ 125)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (2/ 402)، المسودة ص 457، 460، الروضة ص 382، مختصر البعلي ص 166، مختصر الطوفي ص 183، شرح الكوكب المنير (4/ 533)، المعتمد (2/ 941)، إرشاد الفحول ص 266، المدخل إلى مذهب أحمد ص 193، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1122)، أصول الأحكام ص 380. (¬3) إرشاد الفحول ص 266، شرح الكوكب المنير (4/ 534).

واطمأن عليه، فلا علينا من الطريق: تقليدًا كان أو نظرًا أو استدلالًا، واحتج أصحاب هذا القول بأدلة، منها: 1 - لو كان النظر واجبًا لفعله الصحابة، وأمروا به، والواقع أنهم لم يفعلوا، ولو فعلوا لنقل عنهم، كما نقل النظر في المسائل الفقهية. ويردّ على هذا الدليل بأن معرفة الصحابة بالعقائد كانت مبنية على الدليل باعتمادهم على السليقة في الفهم، ومشاهدة الوحي، وكانوا مأمورين بالنظر كغيرهم، وهو ما أفادهم الطمأنينة، وأفاد غيرهم من عامة الناس بالأدلة الكافية من الوقائع والمشاهدات التي تفيد الإيمان، ولكثرة ذلك في خلق الإنسان والكون والحياة مما يفيد الدليل على وجود اللَّه، وكمال صفاته، وسلامته من النقص. 2 - لو كان النظر في معرفة اللَّه واجبًا، لأدى إلى الدور، وهو توقف وجود الشيء على ذاته؛ لأن وجوب النظر المأمور به من اللَّه متوقف على معرفة اللَّه، ومعرفة اللَّه متوقفة على النظر. ويردَّ على ذلك أنه لا دَوْر؛ لأن وجوب النظر الشرعي متوقف على معرفة اللَّه بوجه ما، ومعرفة اللَّه متوقفة على النظر بوجه أكمل بصفات الكمال وامتناع النقص، فهما أمران. ولذلك فإن العقائد تحتاج للعلم بناء على اعتقاد جازم مطابق للواقع عن دليل، والتقليد يكون بلا دليل، فلا يقبل فيها (¬1). القول الثالث: يجب التقليد في العقائد والأصول العامة، ويحرم النظر والاجتهاد، وهو قول بعض العلماء، لأن حجج العقول باطلة، وإن النظر ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (2/ 401)، المعتمد (2/ 402)، المحصول (3/ 264)، الإحكام للآمدي (4/ 223)، شرح تنقيح الفصول ص 420، المسودة ص 457، شرح الكوكب المنير (4/ 534)، مختصر ابن الحاجب (2/ 305)، تيسير التحرير (4/ 243)، نهاية السول (3/ 264)، إرشاد الفحول ص 266، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1123). =

ثانيا: حكم التقليد في الفروع العملية

مظنة الوقوع في الشبهات، أو الضلال، أو اضطراب الآراء، أما التقليد فإنه طريق آمن، وأسلم، فيجب المصير إليه، كما ورد النهي عن النظر والجدال في آيات اللَّه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى الصحابة عن الكلام في القدر، وقال: "إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا" (¬1). وقال العلماء: هذا قول ضعيف، فالتقليد قد يوقع في الضلال كما فعل المشركون بتقليد الآباء، ويكون النهي عن الجدال بالباطل، مع الأمر بالجدال بالتي هي أحسن، والنهي عن الكلام في القدر؛ لأنه ثبت بالنص، فيكون الجدال فيه مماراة عن الحق (¬2). ثانيًا: حكم التقليد في الفروع العملية: اختلف العلماء في حكم التقليد في الفروع العملية، وهي المسائل الفقهية الجزئية على عدة أقوال، أهمها ثلاثة، وهي: القول الأول: التقليد غير جائز في الفروع العملية، ويجب فيها الاجتهاد على كل مكلف ليعمل بما أداه إليه اجتهاده، بحسب قدرته، وهو قول الظاهرية وبعض المعتزلة، وجماعة من الإمامية؛ لأن المسلم مأمور باتباع ما أنزل اللَّه في كتابه، والأخذ بقول رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز ما عدا ذلك. وهذا كلام نظري خيالي، فكلام اللَّه وكلام الرسول يحتاج إلى اجتهاد لفهم مراده ومعناه، ولا يقدر عليه كل أحد، وأن جماهير الصحابة رضي اللَّه عنهم كانوا يسألون كبار الصحابة وعلماءهم ويقتدون بهم. القول الثاني: التقليد واجب على جميع الناس بعد زمن الأئمة المجتهدين، وأن النظر والاجتهاد غير جائز، لغلق باب الاجتهاد، وعدم توفر ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) الإحكام للآمدي (4/ 223)، تيسير التحرير (4/ 243)، فواتح الرحموت (2/ 401)، البناني على جمع الجوامع (2/ 400)، نهاية السول (3/ 284)، مختصر ابن الحاجب (2/ 305)، شرح الكوكب المنير (4/ 536)، إرشاد الفحول ص 266، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1124).

1 - الكتاب

شروطه، وهذا ثبت بطلانه في الفصل السابق. القول الثالث: التفصيل بين المجتهد والعامي، فيحرم التقليد على المجتهد؛ لأنه أهل للاجتهاد والنظر، ويجب التقليد على العامي الذي لم تتوفر فيه أهلية الاجتهاد، ولو كان عالمًا، وهو رأي أكثر أتباع المذاهب الأربعة، ومعظم المحققين (¬1)، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة، أهمها: 1 - الكتاب: قال اللَّه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43]، فهذا نص عام، ويتكرر بتكرر الشرط، وعلة الأمر بالسؤال: الجهل، فيجب السؤال في كل أمر لا يُعلم. 2 - الإجماع: أجمع الصحابة والتابعون على إقرار ما يعمله العلماء في عصرهم من جواب أسئلة العوام عن حكم الحوادث والقضايا والأحكام الشرعية، وكان العوام يقلدون العلماء من غير إبداء مستند أو دليل، ولم ينكر أحد على ذلك، ولا يلزم ذلك في التوحيد والعقائد والأصول العامة؛ ليسره وقلته. 3 - المعقول: لم يرد في الشرع إيجاب الاجتهاد أو بلوغ رتبة الاجتهاد على جميع المسلمين؛ لأن ذلك يفرض تفرغ جميع الأمة لطلب العلم والوصول إلى رتبة الاجتهاد، مما يؤدي إلى خراب الدنيا، بترك المعايش والصنائع وسائر العلوم الأخرى، وهو تكليف بما لا يطاق، ولذلك كان التخصص بالعلم الشرعي أو غيره فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، ويسأل غيرُ المتخصصين العلماء المتخصصين، ويقبلون قولهم، ويقلدونهم، ولأن العامِّي إذا اجتهد فهو أقرب للخطأ؛ لعدم أهليته. ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة رحمه اللَّه تعالى: "وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعًا"، الروضة، له ص 383.

ذم التقليد

وهذا يدل على وجوب التقليد على العامي ليتعرف على الأحكام الشرعية، ثم يلتزم بها ويطبقها، ثقة بما يخبره العلماء. أما المجتهد فيحرم عليه التقليد؛ لأنه حاز رتبة الاجتهاد، وتوفرت فيه شروطه، ويعرف الأدلة، فلا يجوز له تقليد مجتهد آخر؟ لأنه مثلُه، والمجتهد مأمور بالاجتهاد، فعليه أن يبذل جهده، ويقوم بو اجبه، وإلا كان مقصرًا آثمًا (¬1). فرع: ذم التقليد: بناء على حرمة التقليد على المجتهد، ووجوب البحث والنظر عليه في الأدلة، وبناء على ترجيح حرمة التقليد في العقائد والأصول العامة، فقد ورد ذم التقليد في النصوص الشرعية، ودعا الأنبياء إلى ترك تقليد الآباء والأجداد في العقائد الفاسدة، ودعوهم للنظر في الحجج والدلائل لمعرفة الحق واليقين في الإيمان والعقيدة والدِّين. فقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلا يَخْرُصُونَ (116)} [الأنعام: 116]، فحكم بضلال أكثر الناس إذا لم يرجعوا في مذاهبهم إلى حجة تصححها. وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقال تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، وهذه منزلة المقلد. وذم اللَّه تعالى من احتج بالتقليد في العقائد، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 389)، الإحكام للآمدي (4/ 229)، المحصول (3/ 101)، المعتمد (2/ 934)، الإحكام لابن حزم (2/ 393، 838)، تيسير التحرير (4/ 246)، مختصر ابن الحاجب (2/ 306)، المسودة ص 453، 458، شرح الكوكب المنير (4/ 539)، شرح تنقيح الفصُول ص 431، نهاية السول (3/ 264)، البحر المحيط (6/ 291)، أعلام الموقعين (2/ 168، 178)، البناني على جمع الجوامع (2/ 393)، الفتاوى لابن تيمية (20/ 15، 203)، إرشاد الفحول ص 267، المدخل إلى مذهب أحمد ص 193، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1126)، أصول الأحكام ص 380.

أقسام التقليد

أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23]، وقال تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وجعل اللَّه تعالى المقلدين الذين يتركون النظر في الكون والحياة لبناء العقيدة بمنزلة الأنعام، وبمنزلة الصم البكم، فقال تعالى: {إِنْ هُمْ إلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، فإنهم لما أعرضوا عن النظر في الدلائل، وصيّروا أنفسهم بمنزلة من ليس في وسعه ذلك، مثل البهيمة، ومثل من لم يسمع ما خوطب به (¬1). وندَّد القرآن الكريم بمنطق المشركين المقلدين، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} [المائدة: 104]. ومن هذا المنطلق صرح الأئمة بعدم تقليدهم، وأمروا أصحابهم المجتهدين بالنظر والبحث والاعتماد على الأدلة، وليس على مجرد التقليد، كما سنبين في الفقرة التالية في التقليد المذموم أو المحرم. أقسام التقليد: وينتج عن التفصيل السابق عند الجمهور أن التقليد قسمان: مذموم، ومحمود. 1 - التقليد المحمود: يعتبر التقليد محمودًا في الفروع، وذلك لصنفين: الصنف الأول: تقليد العاجز عن الاجتهاد، ممن لا تتوفر فيه شروطه، فإنه لا يقدر على التوصل إلى الحكم الشرعي بنفسه، ولم يبق أمامه إلا اتباع من يرشده إلى الحق من أهل النظر والاجتهاد إلى ما يجب عليه من التكاليف. ¬

_ (¬1) الفصول (3/ 379)، شرح الكوكب المنير (4/ 536، 537).

2 - التقليد المذموم أو المحرم

الصنف الثاني: تقليد العالم إذا علم أن الذي يقلده لا يخطئ فيما قلده فيه، فيلزمه القبول بمجرده، وهذا يشمل أربعة أشخاص: أ- تقليد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بناء على أن قوله يسمى تقليدًا، وهو الأصح؛ لقيام الدليل على صدقه. ب- المخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صحابي، أو تابعي ثقة، وكذا كل راوٍ عدل ثقة ضابط؛ لأن تقليده اتباع لما رواه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. جـ- المجمعون على حكم، فتقليدهم واجب فيما أجمعوا عليه؛ لأنه اتباع للإجماع. د- تقليد الصحايي في رأيه واجتهاده على أحد القولين الذي يعتبر قول الصحابي دليلًا شرعيًّا، وهو رأي الجمهور (¬1). 2 - التقليد المذموم أو المحرم: وهذا يتضمن أربعة أنواع، وهي: أ- التقليد الذي يتضمن الإعراض عما أنزل اللَّه، مما لا يجوز الالتفات إليه، كتقليد الآباء والرؤساء والزعماء والطواغيت. ب- التقليد الذي يتعارض مع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو مع الإجماع، أو مع ما علم من الدِّين بالضرورة، أو يتعارض مع قول الصحابي في القول الأكثر. جـ- التقليد بعد ظهور الحجة، وإقامة الدليل على خلاف قول المقلَّد. د- تقليد من يعلم المقلد أنه ليس أهلًا لأن يؤخذ قوله، كأنصاف العلماء، وعلماء السلطان الذين يفتون بما يهوى، وبما يملي. وهذه الأنواع الأربعة هي التي يحمل عليها ما ورد في القرآن والسنة من ذم التقليد، وعليها يحمل كل ما نقل عن العلماء في ذم التقليد، وهو كثير ¬

_ (¬1) البحر المحيط (6/ 276، 277، 285، 288)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1129)، إرشاد الفحول ص 265، شرح الكوكب المنير (4/ 531، 532، 534، 539)، وما بعدها.

ثابت عن الأئمة الأربعة في النهي عن تقليدهم، وذم من أخذ بأقوالهم بغير دليل ولا حجة. ونقل عن مالك رحمه اللَّه تعالى أنه قال: أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافقه فاتركوه. قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى تلدغه ولا يدري، وروى المزني عن الشافعي في أول مختصره أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره. وقال الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى: لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا، وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. وقال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلناه. وقال السيوطي: ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد ويحضون عليه، وينهون عن التقليد ويذمونه ويكرهونه، وقد صنف جماعة في ذم التقليد كالمزني، وابن حزم، وابن عبد البر، وأبي شامة، وابن قيم الجوزية، وصاحب القاموس المحيط. وقال القرافي: مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: البحر المحيط (6/ 276، 283)، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 42، أعلام الموقعين (2/ 181)، الرسالة للشافعي ص 42، إرشاد الفحول (ص 267، 268).

المبحث الثالث أحكام تتعلق بالتقليد

المبحث الثالث أحكام تتعلق بالتقليد يتعلق بالتقليد عدة أحكام، أهمها: أولًا: الالتزام بمذهب معين: إن طريق العامي، وغير المتاهل للاجتهاد، لمعرفة الأحكام الشرعية هو التقليد، وعليه أن يسأل أهل العلم عما يحتاج إلى معرفته من أحكام شرعية. وبعد استقرار المذاهب الأربعة بين الناس، وقيام أتباع المذاهب ببيان الأحكام الشرعية حسب مذهب كل منهم، فهل يجب على الإنسان الالتزام بمذهب فقهي معين؟ يكاد أن يتفق العلماء على أن المستفتي إذا سأل عن مسألة وعرف حكمها وعمل به، فليس له أن يرجع عنه، ليأخذ بغيره في نفس الواقعة؛ لما فيه من استقرار التعامل، وحسم باب النزاع في معاملات الناس، فإن لم يعمل به جاز له الرجوع. وإذا عمل الشخص بواقعة بمذهب إمام، ومفت معين، فلا يلزمه الالتزام به أو بمذهبه، ويجوز له أن يسأل غيره، وبالتالي يعمل في الواقعة الأخرى من مذهب آخر؛ ولا يلزمه الاستمرار على مذهب معين، ويجوز له الانتقال منه إلى مذهب آخر، لأن اللَّه تعالى أوجب الالتزام بقول اللَّه تعالى وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يوجب التزام قول آخر، ولا واجب إلا ما أوجبه اللَّه ورسوله، ولم يوجب اللَّه والرسول التزام مذهب معين، وليس التزام مذهب نذرًا حتى يجب الوفاء به، وكل ما أوجبه اللَّه تعالى أنه طلب سؤال أهل العلم والاختصاص، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولأن المستفتين المقلدين في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يلتزموا بمذهب معين، أو إمام معين، أو عالم معين، بل يسألون من يتهيأ لهم دون تقييد بواحد دون آخر، ولأن الالتزام بمذهب دون غيره يؤدي إلى الحرج والمشقة، وإن تعدد العلماء والمختصين نعمة وفضيلة

ثانيا: مخالفة المذهب

ورحمة للأمة، وهذا قول جمهور الفقهاء والأصوليين (¬1). ثانيًا: مخالفة المذهب: إذا التزم شخص بمذهب معين، فيجوز له -في الأصح- مخالفة مذهب إمامه في بعض الجزئيات لحاجة أو لدليل؛ لأن التزامه بالمذهب غير متعين وغيرم ملزَم؛ لأنه لا واجب إلا ما أوجبه اللَّه ورسوله، ولم يثبت أن اللَّه ورسوله أوجب على أحد أن يتمذهب بمذهب أحد الأئمة أو أحد العلماء (¬2). ثالثًا: تقليد غير الأئمة الأربعة: إن مذاهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم اللَّه تعالى قد لقيت القبول والانتشار، ثم عكف العلماء عليها بالدراسة والتمحيص والاستدلال والتخريج، وشاعت هذه المذاهب، واستقرت في معظم بلاد العالم الإسلامي. وبقي في الكتب والمصادر أقوالٌ لأئمة مجتهدين كأعيان الصحابة وكبار التابعين، أو كالمذاهب المنقرضة كمذهب الليث والأوزاعي وابن جرير الطبري والظاهرية، مع مذاهب الجعفرية والزيدية والإباضية، فهل يجوز الأخذ والإفتاء من غير المذاهب الأربعة؟ قال أكثر المتقدمين والمتأخرين: لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة، ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول ص 272، المدخل إلى مذهب أحمد ص 193، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1137)، البحر المحيط (6/ 319)، أصول الأحكام ص 381، المجموع للنووي (1/ 90 - 91)، روضة الطالبين (11/ 117)، المسودة ص 465، أعلام الموقعين (4/ 331)، شرح الكوكب المنير (4/ 574)، شرح تنقيح الفصول ص 432، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 200)، تيسير التحرير (4/ 253)، مختصر البعلي ص 71، صفة الفتوى ص 71. (¬2) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1138)، إرشاد الفحول ص 272، شرح الكوكب المنير (4/ 577)، روضة الطالبين (11/ 108)، شرح تنفيح الفصول ص 432، مختصر ابن الحاجب (2/ 209)، الإحكام للآمدي (4/ 238)، تيسير التحرير (4/ 253)، فواتح الرحموت (2/ 406)، القواعد للعز بن عبد السلام (2/ 158)، البحر المحيط (6/ 320).

لأنها غير مدونة، ولا مضبوطة، ولم تثبت صحتها، ويشك في نقلها، بخلاف المذاهب الأربعة فإنها منقحة، ومضبوطة، ومدوّنة، واعتنى بها الأصحاب في كل مذهب في النقل والتدليل والتصحيح والترجيح والتدقيق، واستقرت فيها الأحكام، لذلك تطمئن النفس إلى الأخذ بها؛ لقربها من الحق، وبعدها عن الخطأ. قال إمام الحرمين رحمه اللَّه تعالى: "أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي اللَّه عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا فنظروا، وبوّبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل؛ لأنهم أوضحوا طرق النظر، وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها". وقال ابن الصلاح رحمه اللَّه تعالى: "يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لأن مذاهب الأربعة قد انتشرت، وعلم تقييد مطلقها، وتخصيص عامها، ونشرت فروعها، بخلاف مذاهب غيرهم". قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي اللَّه عنهم وغيرهم من الأولين، وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم، لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم، وضبط أصوله وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناهلين لمذاهب الصحابة والتابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالك وأبي حنيفة وغيرهما" (¬1). ونقل السيوطي رحمه اللَّه تعالى عن بعض العلماء أن القاضي الذي يحكم بخلاف المذاهب الأربعة ينتقض حكمه؛ لأنه بمثابة مخالفة الإجماع. وقال الشيخ سليمان البجيرمي الشافعي: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة في إفتاء أو قضاء. وأجاز بعض العلماء تقليد غير الأئمة الأربعة في غير الإفتاء، وتوسط العز بن عبد السلام رحمه اللَّه تعالى، وقال: إن المدار على ثبوت المذهب ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 91).

رابعا: التلفيق وتتبع الرخص

عند المقلد، وغلبة الظن على صحته عنده، فحيث ثبت عنده مذهب من المذاهب صح له أن يقلده، ولو كان صاحب المذهب من غير الأئمة الأربعة (¬1). وأرى ترجيح القول الأول في الأصل والغالب لما لقيته المذاهب الأربعة من الرعاية والعناية، وأنها استوعبت الأدلة من القرآن والسنة بشكل صحيح وكامل، بالإضافة لاعتمادها على سائر المصادر التشريعية، لكن لا مانع للجان التشريع، ومجامع الفقه، وعند الاجتهاد الجماعي أن تختار قولًا من غير المذاهب الأربعة باعتبار دليله، ووجهة نظره، ومراعاة للمصلحة أو لتطور الظروف، واختلاف الأحوال، وإن لم يتوثق النقل الصحيح الكامل؛ لأن العبرة للدليل، وبشرط تبني هذا الرأي من أولي الأمر، كأنه مباح أمر به الحاكم فصار واجبًا في التطبيق والالتزام، كتولي القضاء للمرأة، واعتبار الطلاق الثلاث طلقة في هذا العصر، والأخذ بالوصية الواجبة، وغير ذلك، وهو ما يقع العمل به عند وضع القوانين والأنظمة المستمدة من الشريعة واختيار بعض الآراء فيها للمصلحة ومقتضيات الزمن والعصر وحالة المسلمين. رابعًا: التلفيق وتتبع الرخص: نتج عن تقليد المذاهب مسألة التلفيق بينها، وذلك أن يأخذ الشخص في قضية واحدة ذات أركان، أو جزئيات، بقولين أو أكثر، كل قول من مذهب، لينتج حقيقة مركبة لا يقرها أحد الأئمة، أو لا تتفق مع أي مذهب بمفرده، سواء عمل في الواقعة بالقولين معًا، أو عمل بأحدهما مع بقاء أثر الثاني، فكل مذهب يقرر بطلان تلك الحقيقة الملفقة. مثاله: أن يكتفي المصلي في وضوئه بمسح بعض الرأس حسب المذهب الشافعي، ثم يلمس امرأة أجنبية، فيريد أن يقلد أبا حنيفة أو مالكًا بعدم نقض الوضوء باللمس، ثم يريد الصلاة، فهذا الوضوء حينئذ لم يقل به هؤلاء الأئمة، فالشافعي يبطله لنقضه باللمس، وأبو حنيفة يبطله لعدم مسح ¬

_ (¬1) حاشية البجيرمي على شرح الإقناع للخطيب (1/ 51)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1139)، البحر المحيط (6/ 291، 318).

ربع الرأس، ومالك لا يقره لعدم مسح جميع الرأس. ومثاله: أن يتزوج رجل امرأة بلا ولي حسب رأي الحنفية، وبلا شهود حسب رأي المالكية. ومثاله: أن يطلق شخص زوجته ثلاثًا، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل حسب رأي الشافعية، ثم يصيبها الصبي، ثم يطلقها مع عدم العدة حسب الرأي الإمام أحمد وذلك لتحل لزوجها الأول. فهذا التلفيق ممنوع؛ لأنه أشبه باللعب، ويناقض اتفاق العلماء بمنع إحداث قول ثالث إذا افترق العلماء على قولين، وهذا فرع أيضًا عن نظرية التقليد. أما التلفيق بأخذ رأي مذهب مثلًا في الوضوء، ثم الأخذ برأي مذهب آخر في وضوء آخر، فلا مانع، أو الأخذ برأي مذهب آخر في جزئية في الوضوء لكنها لا تتنافى مع المذهب الأول، كمن توضأ كاملًا مع السنن حسب المذهب الشافعي ومسح جميع رأسه، ودلك الأعضاء، ثم لمس امرأة أجنبية، فيجوز له أن يصلي بذلك الوضوء باعتبار أنه لم ينقض حسب المذهب الحنفي والمالكي، وهذا فرع عن المسألة الثانية في جواز مخالفة الشخص لمذهبه. لكن يشترط في التلفيق الجائز، أو تقليد مذهب آخر في نفس المسألة، شرطان: 1 - ألا يؤدي ذلك للتهرب من الأحكام. 2 - ألا يؤدي ذلك لتتبع الرخص. فالشرط الأول: كمن يلفق في الأخذ في مسألة من مذهبين للتهرب من الزكاة مثلًا، أو لتحليل الحرام. والشرط الثاني: يؤدي إلى إسقاط التكاليف في كل مسألة مختلف فيها، ويدل على قلة الورع في الدِّين، وعدم الهمة لأداء الأعمال لاكتساب الأجر والثواب. وإن تتبع الرخص: يعني أن يأخذ الشخص من كل مذهب ما هو أهون عليه، وأيسر مما يطرأ من المسائل. واختلف العلماء في حكم تتبع الرخص، فقال المالكية والحنابلة في

خامسا: دعوى الإلهام

الأصح والغزالي والسبكي والشاطبي وغيرهم: يمتنع تتبع الرخص في المذاهب؛ لأنه اتباع لأهواء النفس، وميل للهوى، وقال ابن عبد البر وابن حزم: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط التكاليف، وقال الحنفية في الراجح، وأكثر أصحاب الشافعي وبعض المالكية كالقرافي: يجوز تتبع رخص المذاهب؛ لعدم وجود مانع في الشرع، وأنه سلوك للأخف، لكن القرافي قيّد ذلك بألا يترتب عليه باطل عند جميع من قلدهم، وقيد غيره ذلك بألا يكون الشخص قد باشر التصرف وفق القول الأول. وقال بعض العلماء بفسق من تتبع الرخص، وقال آخرون: لا يفسق. وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد (الخليفة) فرفع إليَّ كتابًا لأنظر فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق .. ، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بحرق ذلك الكتاب (¬1). والراجح أنه لا مانع من الأخذ بالرخص من المذاهب عند الحاجة للفرد، أو للجماعة في التشريع وعند وضع الأنظمة من اللجان المختصة، أما التزام ذلك وتتبعه للفرد فإنّه يدل على رقة الدِّين، وضعف اليقين، وقلة الورع، ويخشى على صاحبه من التفلت والتهرب من أحكام الشرع وتكاليفه، وخاصة في حقوق العباد والمعاملات والمحظورات. خامسًا: دعوى الإلهام: يزعم بعض الناس أن العلم إلهام من اللَّه تعالى، ويزعمون أن اللَّه تعالى يلهمهم، ويلقي في قلوبهم أحكامًا ليعملوا بها، ويفتوا الناس بها. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 108)، المسودة ص 218، مختصر البعلي ص 168، أعلام الموقعين (4/ 283)، المستصفى (2/ 391)، الموافقات (4/ 93، 96)، إرشاد الفحول ص 272، المدخل إلى مذهب أحمد ص 195، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1152)، أصول الأحكام ص 382، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 400)، الموافقات (4/ 131)، وما بعدها، تيسير التحرير (4/ 254)، فواتح الرحموت (2/ 406)، شرح الكوكب المنير (4/ 577)، البحر المحيط (6/ 325).

وهذه دعوى باطلة، وحذّر العلماء منها؛ لأنها سبيل لإلغاء الأحكام الثابتة بالنصوص، أو الزيادة عليها، أو فتح للتهرب من الشريعة والزيادة عليها (¬1). قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "على العالم ألا يقول إلا من جهة العلم، وجهةُ العلم: الخبر اللازم بالقياس بالدلائل على الصواب، حتى لا يكون صاحب العلم أبدًا متبعًا خبرًا وطالب خبر بالقياس، كما يكون متَّبع البيت بالعيان، وطالب قصده بالاستدلال بالأعلام مجتهدًا، ولو قال بلا خبر لازم ولا قياس، كان أقرب من الإثم من الذي قال وهو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم لازمًا". ثم قال: "ولم يجعل اللَّه لأحد بعد رسول اللَّه أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بَعْدُ الكتابُ والسنة والإجماع والآثار، وما وصفتُ من القياس عليها، ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب اللَّه ... " (¬2). ونقل الزركشي عن القفال رحمهما اللَّه تعالى قوله: "ولو ثبتت العلوم بالإلهام، لم يكن للنظر معنى، ولم يكن في شيء من العالم دلالة ولا عبرة" (¬3). وقد يكون الإلهام مجرد إيحاء للقيام بعمل أو الامتناع عنه، وهذا لا غبار عليه، ويتقيد بقول بعض الصوفية: "ما وقع في القلب من عمل الخير فهو إلهام، أو الشر فهو وسواس"، فهنا يعلم الشخص الخير أو الشر من المصادر والأدلة، ثم يقع الخاطر في القلب بفعل الخير، فهذا إلهام محمود، وإن وقع بفعل الشر فهو من الشيطان، والوسواس، وهو حرام (¬4). ¬

_ (¬1) الفصول في الأصول (3/ 382). (¬2) الرسالة ص 257 - 258 فقرة 1466 - 1469 تحقيق الدكتور عبد الفتاح كبارة، طبع دار النفائس، بيروت - (1419 هـ 1999 م). (¬3) البحر المحيط (6/ 103). (¬4) البحر المحيط (6/ 103).

الفصل الثالث الإفتاء

الفصل الثالث الإفتاء تعريفه وصلته بالاجتهاد والتقليد: الإفتاء لغة: الإبانة، وأفتاه في الأمر: أبان الحكم له، وأفتى الرجلُ في المسألة، واستفتيته فيها فأفتاني إفتاء (¬1). والإفتاء اصطلاحًا: الإخبار عن الحكم الشرعي، أو إجابة السائل عن الحكم الشرعي لتصرف ما. والإفتاء بيان لحكم اللَّه تعالى في أمور الدِّين، ويصدر عن العالم بشرع اللَّه تعالى، وهذا العالم إما أن يكون مجتهدًا لبيان الأحكام من أدلتها، وإما فقيهًا في اصطلاح الأوائل، وهو المجتهد، وإما متبعًا لمذهب بأن يعرف أحكام الفقه في المذهب مع أدلتها، وإما أن يكون متفقهًا، وهو من درس الفقه في مذهب ما، وعرف أحكامه، ثم يبيّنها للناس، وهم المستفتون أو المقلدون. ومن هنا تظهر الصلة بين الإفتاء والاجتهاد والتقليد، وكأن المفتين غالبًا واسطة بين المجتهدين والمقلدين، أو الافتاء حلقة الوصل غالبًا بين الاجتهاد والتقليد، ولذلك نعرضه بعد ما سبق بيان الاجتهاد والتقليد. والفارق بين الاجتهاد والإفتاء هو أن الإفتاء أخص من الاجتهاد، فإن الاجتهاد استنباط الأحكام وبيانها، سواء كانت بسؤال أو بدون سؤال، أما الإفتاء فلا يكون إلا في واقعة يُسأل المفتي عن حكمها (¬2). والإفتاء له مكانة رفيعة في الشرع، لأنه أهم وسيلة لبيان حكم اللَّه تعالى ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (2/ 673). (¬2) المجموع (1/ 70)، المسودة ص 555، أعلام الموقعين (4/ 220)، صفة الفتوى ص 29، روضة الناظر ص 384، مختصر الطوفي ص 185، مختصر البعلي ص 167، شرح الكوكب المنير (4/ 544)، البحر المحيط (6/ 305)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 194، إرشاد الفحول ص 265، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1156).

في كل أمور الحياة، ولجميع الناس، فهو أمانة جسيمة، ومسؤولية خطيرة في الدنيا والآخرة، وكثيرًا ما يشبه القضاء في بيان الحق الشرعي للمتخاصمين أو المتنازعين أو المختلفين، وينتهي الأمر (¬1). والأصل في الإفتاء أنه من عمل العلماء بصفتهم العلمية، وأنه أهم وظيفة دينية عامة وغير رسمية، وقاموا بها ابتداء من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم صحابته إلى اليوم، وستبقى حتى تقوم الساعة، ثم قام أولياء الأمور بتعيين المفتي العام في الدولة، وتعيين مفتين موظفين رسميًا للقيام بأمور الفتوى، سواء وردت من أصحاب السلطة، أو الإدارات والمؤسسات، والوزارات، أو من عامة الشعب، وقد تكون الفتوى الرسمية جماعية من هيئة كبار العلماء لتأمين الدقة والحياد والموضوعية والتعمق، دون أن يؤثر ذلك على سائر العلماء في القيام بالفتوى على أوسع نطاق شعبي. ¬

_ (¬1) يختلف الإفتاء عن القضاء أن الإفتاء إخبار بالحكم الشرعي بدون إلزام للمستفتي وغيره، أما القضاء فهو إخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام للطرفين وغيرهم، انظر: التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، لنا ص 47، 60.

المبحث الأول أركان الإفتاء وشروطه

المبحث الأول أركان الإفتاء وشروطه للإفتاء أربعة أركان، وهي: المفتي، والمستفتى، والمستفتى فيه، والحكم الذي هو الفتوى، ولكل ركن شروطه. الركن الأول: المفتي: تطور تعريف المفتي في التاريخ الإسلامي، واختلفت شروطه من عصر لآخر حسب حالة الاجتهاد: أ- المفتي: هو المجتهد، وهذا في العصور الأولى حتى منتصف القرن الرابع الهجري، ويشترط فيه شروط المجتهد التي سبق بيانها. ب- المفتي: هو الفقيه، أي: العالم المختص بالفقه، وكان يراد به في العصور الأولى المجتهد المطلق حصرًا، فالفقيه يرادف المجتهد في ذلك الوقت (¬1). ج- المفتي: هو المجتهد غير المطلق، ويشمل كل من كان من أهل الاستدلال والاستنباط، ومن كان من أهل التخريج والترجيح، وهذا بعد القرن الرابع الهجري. د- المفتي: هو المتفقه، أي: الذي درس الفقه على أحد المذاهب الفقهية، وعرف أحكامه، وصار الناس يقصدونه لمعرفة أحكام الشرع، ويسألونه عن أمور الدين، وقد يعين رسميًّا من قبل الدولة في وظيفة الإفتاء. وهذا المعنى الأخير هو المراد في هذا العصر، ويكون إطلاق المفتي على متفقه المذاهب من باب المجاز، والحقيقة العرفية الموافقة للعرف ¬

_ (¬1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "المفتي هو الفقيه ... ؛ لأن من قامت به صفة جاز أن يشتق لها منها اسم فاعل، قال الصيرفي: وموضوع هذا الاسم لمن قام للناس بأمر دينهم، وعَلم جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك في السنن، والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها" البحر المحيط (6/ 304).

شروط المفتي

واصطلاح الحكومات (¬1). شروط المفتي: يشترط في المفتي البلوغ والعقل، وهذا أمر واضح، ولا يشترط فيه الذكورة، فيجوز استفتاء الرجل والمرأة، وقال جمهور العلماء: لا تشترط الحياة في المفتي، فيجوز تقليد الميت والعمل برأيه، وسبق بيان ذلك في الاجتهاد؛ لأن الآراء لا تموت بموت أصحابها، لكن لا بد من اشتراط صحة النقل عنهم ومعرفة دليلهم. وقال أهل العصر الأول: يشترط الاجتهاد في المفتي، بأن يكون مجتهدًا، ثم اختلف المتأخرون في ذلك على عدة آراء بالجواز والمنع والتفصيل، والراجح عدم اشتراط الاجتهاد في عصرنا الحاضر، ويكفي أن يكون المفتي عالمًا بأحكام الفقه في مذهب ليفتي به، أما الأمور المستجدة، والقضايا الطارئة فيكفي فيها المجتهد المقيد، أو يكفي الاجتهاد الجزئي لما رجحناه سابقًا من جواز تجزؤ الاجتهاد، ومع ذلك يستحب للمفتي في القضايا المستجدة أن يشاور العلماء، ليكون الاجتهاد جماعيًّا، والفتوى شورى، كما يجب على المفتي في الأمور الجديدة أن يستعين بأهل الخبرة والاختصاص في ذات القضية ليكشفوا له حقيقتها، ويعرف جوهر المسألة ليقول الحكم الشرعي المناسب لها، كما يقدم في الفتوى قول المفتي المجتهد على قول غيره؛ لأنه أكثر خبرة ومعرفة في بيان الحكم الشرعي المناسب. ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 390)، المجموع للنووي (1/ 69)، مختصر ابن الحاجب (2/ 307)، الإحكام للآمدي (4/ 232)، الإحكام لابن حزم (4/ 280)، شرح تنقيح الفصول ص 442، جمع الجوامع والبناني (2/ 397)، نهاية السول (3/ 265)، البرهان (2/ 1333)، المعتمد (2/ 929)، فواتح الرحموت (2/ 403)، تيسير التحرير (2/ 403)، للروضة ص 384، مجموع الفتاوى (20/ 208)، مختصر البعلي ص 167، روضة الطالبين (11/ 109)، الفروع لابن مفلح (6/ 428)، صفة الفتوى ص 13، المسودة ص 464، 472، 555، أعلام الموقعين (4/ 280)، شرح الكوكب المنير (4/ 541)، إرشاد الفحول ص 271، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1156).

1 - العلم

وأهم شروط المفتي أمران: العلم، والعدالة (¬1). 1 - العلم: يجب أن يكون المفتي عالمًا بالأحكام الشرعية، وإلا أفتى الناس بجهل، أو بغير علم فيَضِلَّ ويُضل (¬2). ويمكن اليوم أن يتوفر شرط العلم بالحصول على إجازة في الشريعة، أي: في الفقه وأصول الفقه، وما يلحق ذلك من العلوم الفقهية، كالقواعد الفقهية، والنظريات الفقهية، والفقه المقارن. ولا يجوز للدولة تعيين المفتي إذا لم يكن مختصًا بالشريعة، وحاصلًا اليوم على شهادة جامعية في ذلك، ولا يجوز للشخص أن يقبل التعيين بوظيفة مفت إذا لم يتوفر فيه ذلك، ويأثم هو، ومن عيّنه. ويجب على العامي، وكل شخص غير مختص بالشريعة، أن يسأل المفتي الذي توفر فيه شرط العلم عما يعرض له من المسائل، كما يجب عليه أن يسأل العالمَ المفتي عن كل عمل يحتاجه ويخصه، كالصلاة للجميع، وأحكام الزكاة للأغنياء، وأحكام الحج لمن استطاع إليه سبيلًا، وأحكام البيوع والمعاملات للتجار ... ، وغير ذلك مما سنفصله في الركن الثاني. ويجوز للمستفتي أن يسأل من تصدى للإفتاء بذاته، أو من عينته الدولة بوظيفة الإفتاء العام أو المحلي، ومن يكون منتصبًا للإفتاء (¬3). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة، وقال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وإنما يُسأل من عُرف علمه وعدالته، بأن يراه منتصبًا لذلك، والناس متقفون على سؤاله والرجوع إليه، ولا يجوز لمن عُرف بضد ذلك إجماعًا" البحر المحيط (6/ 309). (¬2) قال العلماء: يلزم ولي الأمر منع من لم يعرف بالعلم، أو جُهل حاله، من الفتيا، وقالوا: يحجر على المفتي الماجن، انظر: المجموع للنووي (1/ 69، 70)، روضة الطالبين (11/ 108)، أعلام الموقعين (4/ 203، 276)، شرح الكوكب المنير (4/ 544)، صفة الفتوى ص 6، 24. (¬3) قال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "إن للعامي أيضًا استفتاء من رآه منتصبًا للإفتاء والتدريس، معظّمًا عند الناس، فإنه كونه كذلك يدل على علمه، وأنه أهل للإفتاء" شرح الكوكب المنير =

وإن لم يوجد في البلد إلا مفت واحد، تعين سؤاله والرجوع إليه، أما إن تعدد العلماء والمفتون وتفاوتوا في العلم والفضل، فاختلف الأصوليون في ذلك على قولين: القول الأول: التخيير في سؤال أحد العلماء، وهو قول الأكثرين والفقهاء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية وأكثر الحنابلة، وقالوا: "يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل في العلم"، قال الرافعي رحمه اللَّه تعالى: "وهو الأصح عند عامة الأصحاب، وقال: إنه الأصح" (¬1). واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]، فالآية مطلقة، ولم تفرق بين العالم والأعلم، مع تفاوت درجتهم في العلم والمعرفة عادة. وكان الصحابة رضوان اللَّه عليهم يستفتون أي عالم من الصحابة مع تفاوتهم في الفضل والعلم والاجتهاد، ولم ينكر عليهم أحد، فكان ذلك إجماعًا. قال الآمدي رحمه اللَّه تعالى: "إن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "عَليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهْديِّين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم عليّ، وأفرضُكم زَيْد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" (¬3)، وكان ¬

_ = (4/ 542)، ولكن اليوم يعرف بالشهادة الجامعية التي يحملها، وانظر: البحر المحيط (6/ 309). (¬1) البحر المحيط (6/ 311). (¬2) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي. (¬3) هذا جزء من حديث رواه الترمذي عن أنس مرفوعًا، وقال: "حسن صحيح" وهو حديث مشهور، وأوله "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر اللَّه عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة" المقاصد الحسنة ص 47، 42، الفتح الكبير (1/ 172)، وفي رواية البخاري: "أقضانا علي" ولفظ =

2 - العدالة

فيهم العوام، ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير، ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول، والاستفتاء له، مع وجود الأفضل، ولو كان ذلك غير جائز، لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه"، ثم قال الآمدي: "ولولا إجماع الصحابة لكان مذهب الخصم أولى" (¬1). واستدلّ الجمهور على ذلك أيضًا بالمعقول، وهو أن الترجيح بين العلماء يتعذر للعامي، وهو تكليف له بما لا يطيق. القول الثاني: وجوب استفتاء الأفضل في العلم والورع والدِّين، وهو مذهب أحمد، وبعض الشافعية كابن سريج والقفال وأبي إسحاق الإسفراييني والكيا الهرَّاسي، واختاره الغزالي. واستدلوا على ذلك بأن أقوال المجتهدين أو المفتين بالنسبة لعامة الناس كالأدلة والأمارات المتعارضة بالنسبة للمجتهد، فيجب على العامي الترجيح، ويكون بالفضل والعلم، فالأعلم أقوى، ويعرفه الناس إما بالاجتهاد والتجربة، أو بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه، والسؤال والبحث والتحري على قدر الاستطاعة. وأرى أن القول الثاني أقوى دلالة، وأكثر ورعًا، وهو ما تطمئن له النفس، ولكن الواقع يخالف ذلك، وأنه يعسر تطبيقه، ولا يوجد ضابط له، وفيه مشقة على الناس، ويمكن التوفيق في عصرنا بتعيين الأعلم والأفضل لمنصب الإفتاء، وجعل الفتوى بيد هيئة وجماعة لا ينفرد بها أحد، وتكون هي المرجع الرسمي والمعتمد للفتوى. 2 - العدالة: اتفق العلماء على اشتراك العدالة في المفتي، وهي هيئة في النفس تحمل ¬

_ = ابن ماجه وأحمد: "أقضاهم علي بن أبي طالب". (¬1) الإحكام، للآمدي (4/ 233) وما بعدها.

شروط فرعية للمفتي

صاحبها على فعل الأوامر، واجتناب النواهي، وملازمة التقوى والمروءة، وبتعبير آخر: أن يكون ملتزمًا بأحكام الشرع، يطبقها على نفسه؛ ليكون قدوة لغيره، ولذلك لا تقبل الفتوى من الفاسق، ويجب على المستفتي البحث والسؤال عن عدالة المفتي بسؤال عدل أو عدلين، أو بالاستفاضة والشهرة بين الناس، ولا تصح الفتيا من مستور الحال؛ لأن العدل يُوَفّق غالبًا إلى اختيار الصواب، ويثق الناس به، ويطمئن القلب له، ويكون قدوة حسنة لغيره؛ لأنه في مركز الصدارة والقيادة في بيان الشرع، بخلاف الفاسق فإنه مذموم، ويتطرق الشك إلى أقواله، ويخشى من عدم دقته والتزامه بالحق والدليل الأقوى، وكذا لا تصح الفتيا من مستور الحال، والفاسق يفتي نفسه فقط (¬1). شروط فرعية للمفتي: يشترط في المفتي أيضًا قبل إصدار الفتوى الشروط الفرعية التالية: 1 - معرفة الواقعة: يشترط في المفتي أن تكون لديه معرفة دقيقة بالواقعة التي تعرض عليه، وذلك بالاستفسار عنها، ومعرفة تفاصيلها، ودوافعها، والأهداف التي قصدها الفاعل من فعله، وما ينتج عنها من نتائج، والظروف التي أحاطت بها. 2 - معرفة المستفتي: يشترط في المفتي أن يتعرف بالمستفتي، وحالتة النفسية، وحالته الدينية من تدين أو فسق، وحالته المالية من غنى أو فقر، وغير ذلك؛ لما يترتب على ذلك من أثر في الفتوى كالكفارة، والنفقة، والآداب والواجبات. ¬

_ (¬1) البرهان (2/ 1341)، المعتمد (2/ 939)، المجموع (1/ 89، 90)، تيسير التحرير (4/ 248)، فواتح الرحموت (2/ 403)، البحر المحيط (6/ 117، 309، 311)، مختصر ابن الحاجب (2/ 307)، جمع الجوامع والبناني (2/ 297)، المحصول (3/ 112)، روضة الطالبين (11/ 104)، المسودة ص 464، شرح الكوكب المنير (4/ 542، 571)، البحر المحيط (6/ 305)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 194، إرشاد الفحول ص 271، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1159) وما بعدها.

3 - معرفة الأحوال

3 - معرفة الأحوال: يشترط في المفتي أن يتعرف على أعراف الناس، واختلاف مصالحهم، وتعدد حاجاتهم، وتغيرها في الزمان والمكان، لما يترتب على ذلك من أثر في الفتوى، وخاصة في الأيمان والإقرار؛ فإنها تكون حسب الأعراف. 4 - انطباق الحكم على الواقعة: يشترط في المفتي أن يعرف مدى انطباق الحكم على الواقعة بذاتها أو عدم انطباقه؛ لأن النُّصوص الشرعية جاءت مطلقة وعامة، ولم تنص على حكم كل جزئية، ولكل واقعة معينة خصوصية تختلف عن غيرها (¬1). وهذه الشروط الفرعية تجعل الفتوى -غالبًا- شخصية، وتختلف من شخص لآخر، ومن زمن لآخر، ومن صورة لأخرى، ولا يصح تعميمها جزافًا، كمن يتناول دواء ما وصفه طبيب لمريض ما، وقد لا يصلح لغيره، أو قد يضر غيره بحسب حالته وظروفه. الإحالة على مفت آخر: إذا كان في المسألة المستفتى بها رأيان، وكان المسؤول يعتقد بصحة القول الأشد، فلا يجوز أن يحيله على مفت آخر يرى القول الأخف؛ لأن المفتي المسؤول إذا غلب على ظنه شيء فهو حكم اللَّه تعالى في حقه وحق من سأله وقلّده، وكما لا يجوز له العدول عنه لا يجوز له أمر المقلد السائل بذلك. ويرى الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى التصريح بجواز إرشاده إلى آخر معتبر، وإن كان يخالف مذهبه (¬2). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 70، 77)، شرح الكوكب المنير (4/ 550)، وسيرد المزيد من الواجبات والآداب في المبحث الثالث: آداب الفتوى، وقال الإمام أحمد: "الدنيا داء، والسلطان داء أو دواء، والعالم طبيب، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فاحذره" شرح الكوكب المنير (4/ 550). (¬2) قال ابن حمدان رحمه اللَّه تعالى: "فمن أفَتى، وليس على صفة من الصفات المذكورة، من غير ضرورة، فهو عاص آثم" صفة الفتوى ص 24، وانظر: البحر =

الركن الثاني: المستفتي

الركن الثاني: المستفتي: قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "المستفتي: من ليس بفقيه"، أي: كل شخص لا يعرف حكمًا شرعيًّا في مسألة أو قضية فأكثر، ويسأل غيره عن حكمها، ثم قال الزركشي: "ثم إن قلنا بتجزؤ الاجتهاد، فقد يكون الشخص مفتيًا بالنسبة إلى أمر، مستفتيًا بالنسبة إلى الآخر، وإن قلنا بالمنع، فالمفتي: من كان عالمًا بجميع الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل، والمستفتي من لا يعرف جميعها" (¬1). وقال الشوكاني رحمه اللَّه تعالى: "المستفتي من ليس بمجتهد، أو ليس بفقيه" (¬2)، فالمستفتي كل من يسأل عن حكم شرعي في مسألة أو قضية ليعرفه، وبالتالي ليعمل به. ويشترط في المستفتي أن يكون صادقًا في سؤاله، بأن يعرضه بحسب الواقعة التي وقعت تمامًا، ولا يتزيد، أو يحرف، أو يعطي صورة أخرى؛ ليتهرب من الأحكام؛ لأن جواب المفتي وفتواه تكون حصرًا حسب الصورة التي عُرضت عليه، وعلى مسؤولية المستفتي ونيَّته، ولذلك وضع العلماء القاعدة الفقهية: "السؤال معافى في الجواب" وقالوا: "الفتوى على قدر المستفتي" فإن غيَّر وبدَّل كان كاذبًا أولًا، ومسؤولًا عن الفتوى والحكم ثانيًا، ولا ينجيه من المسؤولية أن المفتي أعطاه الحكم؛ لأن المفتي يبيّن الحكم حسب الصورة التي عُرضت عليه، وبحسب الظاهر، ولا يعلم الغيب، والله يتولى السرائر. وإذا علم المستفتي بالحكم، وكان المفتي قد أفتاه بقول مجمع عليه، فيجب على المستفتي الالتزام به، ولا يخير في قبوله أو رفضه، وإن كان الحكم مختلفًا فيه خُيّر المستفتي بين أن يقبل حكم المفتي، أو حكم غيره (¬3). وإن غلب على ظن المستفتي أن جواب المفتي مشكوك فيه، أو مخالف ¬

_ = المحيط (6/ 317)، شرح الكوكب المنير (4/ 560، 589). (¬1) البحر المحيط (6/ 306)، وانظر: المجموع (1/ 89)، إرشاد الفحول ص 271. (¬2) إرشاد الفحول ص 265. (¬3) البحر المحيط (6/ 316)، المجموع (1/ 93).

الركن الثالث: المستفتى فيه

للنصوص، أو للإجماع، أو ما عُلم من الدِّين بالضرورة، أو اتفاق المذاهب، فلا يجوز للمستفتي العمل به، ولا يبرئه أمام اللَّه تعالى أن يدّعي الاعتماد على هذا الحكم الباطل، ولذلك حذَّر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقال: "استفت نفسك، وإن أفتاك الناس وأفتوك" (¬1). الركن الثالث: المستفتى فيه: وهو المسألة التي تقع، أو تحيط بالشخص، وتكون في الأصل ظنية اجتهادية، أما القضايا العلمية المعتمدة على الأدلة الظاهرة فيتعلمها المسلم حكمًا، ومع ذلك فالمستفتى فيه يشمل الأمرين، والمفتي يخبر بالأحكام الثابتة بالأدلة، وبالأحكام الاجتهادية، ويجب على المستفتي اتباع قول المفتي؛ لأنه هو حكم الشرع لما سأل عنه. ويشترط في المستفتى فيه أن يكون قد وقع فعلًا، ولا مجال للفتوى عن الأمور التي لم تقع، أو الافتراضية، أو الأشياء التي لا فائدة منها، كالأسئلة الآن عن حكم الرق والعبيد والعتق وما يتعلق به (¬2). وقال ابن عمر رضي اللَّه عنه: "لا تسألوا عما لم يكن، فإن عمر نهى عن ذلك"، وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن الصحابة: "ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم" (¬3)، واحتج الشافعي رحمه اللَّه تعالى على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]، وثبتت كراهية السؤال عما لم يقع (¬4). قال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "إذا سئل عما لم يقع، فإنه لا يلزمه ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى وأبو نعيم عن وابصة مرفوعًا (كشف الخفا 1/ 136). (¬2) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1157)، شرح الكوكب المنير (4/ 585). (¬3) هذان الأثران رواهما الدارمي (1/ 50، 51). (¬4) الأم (5/ 113)، الرسالة ص 151 هامش، شرح الكوكب المنير (4/ 585).

الركن الرابع: المفتى به

الجواب عنه، وما لا يحتمله سائل فإنه لا يلزمه إجابته، ولا ما لا ينفعه فإنه لا يلزمه أن يجيبه" (¬1). الركن الرابع: المفتى به: وهو الفتوى، أو الحكم الشرعي للمسألة المستفتى فيها، وتجمع الفتوى على فتاوى، وفتاوي، وتعتبر الفتاوى هي أحكام الشرع والدِّين، وهي جواب السؤال الوارد من المستفتي. تعدد الفتوى: وقد يتعدد الحكم الشرعي أو الفتوى في مسألة ما، كما لو سأل المستفتي مجتهدين، أو عالمين، أو مفتيين، أو فقيهين كل منها من مذهب، فيختلف الجواب، فكيف يعمل المستفتي؟ اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال، أهمها اثنان: القول الأول: الأخذ بالأوثق والأفقه والأعلم، وعلى المستفتي التحري والبحث في طلبه؛ لأنه يستطيع التوصل إلى ذلك، ولا يشق عليه، ولأن الأفضل أهدى إلى أسرار الشرع، وهو قول بعض الشافعية، ولأنه لا يصح أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. القول الثاني: التخير، وهو الأصح، وهو قول الأكثر، فيعمل المستفتي بقول من شاء، لإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل، واستدلالًا بإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصحابة في صلاة الظهر في غزوة بني قريظة في الطريق، أو بعد وصول المكان (¬2). ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (4/ 584) بتصرف. (¬2) وقيل: يأخذ بالأغلظ، وقل: يأخذ بالأيسر والأخف، وقيل: يأخذ بقول الأول؛ لأنه لزمه حين سأله، وقيل: يجتهد في قول من يأخذ منهما، وقيل: يأخذ بقولهما إن أمكن الجمع، انظر: البحر المحيط (6/ 117، 216، 313) وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1166)، مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، جمع الجوامع والبناني عليه (2/ 395)، الروضة ص 385، شرح الكوكب المنير =

ويشترط في الحكم المفتى به شروط بحسب المفتي: فإن كان المفتي مجتهدًا فيشترط في الفتوى أن تكون معتمدة على أحد مصادر التشريع الإسلامي من القرآن والسنة والإجماع والقياس وسائر المصادر، وفي هذه الحالة يجوز للمستفتي أن يطالب العالم المجتهد المفتي بدليل الجواب؛ لأجل احتياطه لنفسه، ويلزم العالم أن يذكر الدليل إن كان مقطوعًا به؛ لسهولة العلم بصحته، فإن كان استنباطًا أو تخريجًا أو اجتهادًا، فلا يلزمه ذكره؛ لأنه يحتاج إلى اجتهاد لإدراكه، والسائل أو العامي لا يستطيع ذلك غالبًا (¬1). وإن كان المفتي من أهل الفقه، وممن يتبع مذهبًا معينًا، فيشترط في فتواه أن تكون موافقة للقول المعتمد في المذهب؛ لأنه يبين له رأي المذهب، وينحصر ذلك بالقول الراجح، ويسميه الفقهاء: القول المفتى به (¬2). فإن خالف الصفتي المقلد مذهب إمامه، فقال أكثر العلماء: لا تصح فتواه، ولذلك قال ابن حمدان رحمه اللَّه تعالى: "مخالفة المفتي نص إمامه كمخالفة نص الشارع" (¬3)، وأيد ذلك الغزالي رحمه اللَّه تعالى معللًا أن المفتي في ظئه أن إمامه أرجح، فإنه خالفه، فقد أفتى بالقول المرجوح، وهو لا يجوز، وهو ما نقله النووي عن ابن الصلاح (¬4). وقال بعض العلماء: لا يشترط الالتزام في الفتوى بالقول الراجح، ويجوز للمفتي أن يفتي بقول مرجوح (¬5). ¬

_ = (4/ 571، 585)، إرشاد الفحول ص 272، المجموع (1/ 92). (¬1) البحر المحيط (6/ 311). (¬2) روضة الطالبين (11/ 111). (¬3) صفة الفتوى ص 31، ومثل ذلك نفله النووي عن ابن الصلاح في المجموع (1/ 76). (¬4) انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 509)، روضة الطالبين (11/ 107)، المجموع (1/ 76). (¬5) شرح الكوكب المنير (4/ 508)، جمع الجوامع مع البناني (2/ 391)، المدخل إلى =

وإن كانت الفتوى مخالفة للشرع، أو لأحد مصادر التشريع، كانت باطلة ومردودة، ولا يسوغ العمل بها، كالفتاوى المخالفة للنصوص الشرعية، أو للإجماع، أو لما علم من الدِّين بالضرورة، أو مخالفة لآراء المذاهب المعتمدة. ¬

_ = مذهب أحمد ص 191، مجموع الفتاوى (20/ 220)، أعلام الموقعين (4/ 299)، المسودة ص 538.

المبحث الثاني حكم الإفتاء والاستفتاء

المبحث الثاني حكم الإفتاء والاستفتاء المراد من الحكم هنا الوصف الشرعي من حيث الوجوب والندب والإباحة والحرمة والكراهة، وهذا يتناول المستفتي والمفتي. حكم الاستفتاء: الاستفتاء هو طلب الفتوى لمعرفة الحكم الشرعي في واقعة أو قضية أو مسألة، وهذا واجب على المستفتي، فإذا وقعت معه واقعة، أو قضية، أو مسألة فيجب عليه أن يسأل عنها ليعرف حكم اللَّه تعالى فيما أصابه، وما يتعلق به؛ ليعمل بموجبه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، .. والعالم أو المفتي هو الذي يبين حكم اللَّه تعالى الذي فيه الحياة الرغيدة والسعيدة. وأمر اللَّه تعالى بالسؤال لمعرفة حكم اللَّه تعالى للعمل به، والالتزام فيه، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]، فالعامي يسأل العالم (¬1). حكم الإفتاء: الأصل أن الإفتاء واجب على العالم أو المجتهد إذا سئل عن حكم شرعي في مسألة واقعة، وإلا تعرض للإثم الكبير، والوعيد الشديد، الوارد في الحديث الشريف أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سُئل عن علمٍ فكتمه، ألجم بلجام من نار يوم القيامة" (¬2). ثم تعتري حكمَ الإفتاء الأحكامُ الشرعية الأخرى: ¬

_ (¬1) الروضة (11/ 103)، إرشاد الفحول ص 271. (¬2) هذا الحديث أخرجه ابن ماجه (1/ 97) عن أنس رضي اللَّه عنه، وفيه ضعف، وأخرجه الحاكم وصححه (1/ 102) من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما.

1 - الوجوب العيني

1 - الوجوب العيني: إذا كان الشخص أهلًا للفتيا شرعًا، وسئل عن الحكم الشرعي في قضية أو مسألة، ولم يكن في البلد غيره، وجب عليه الإفتاء، ولزمه الجواب قطعًا؛ لأنه تعيَّن عليه بيان الحكم الشرعي، فهو فرض عين عليه. 2 - الندب: إذا كان في البلد أكثر من شخص أهل للفتيا، وسئل أحدهم عن واقعة، فتكون الفتيا في حقه سنة ومندوبة عند جماهير العلماء، وله ردُّها دون إثم. وقال بعض العلماء: ليس له ردُّها، ولو كان في البلد غيره، بل تجب عليه؛ لأنه بالسؤال تعين عليه الجواب. وقال النووي رحمه اللَّه تعالى: إن الفتوى في حقهما فرض كفاية، فإن لم يقم بها أحد، أثم الجميع. 3 - الحرمة: إذا سئل شخص عن حكم شرعي لمسألة أو قضية، ولم يكن أهلًا للفتيا، ولا يعرف الأحكام الشرعية، حرم عليه الجواب؛ لأنه يفتي بغير علم، فيضلَّ، ويُضلَّ، وكذا إذا كان عالمًا وفقيهًا، ولكنه لم يعرف الحكم في المسألة، فيجب عليه التوقف للسؤال والبحث، ويحرم عليه الجواب الفوري (¬1). ¬

_ (¬1) تيسير التحرير (4/ 242)، المسودة ص 512، شرح الكوكب المنير (4/ 583)، المجموع 1/ 75، صفة الفتوى ص 6، مختصر البعلي ص 168، الفروع (6/ 433)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1156).

المبحث الثالث آداب الفتوى

المبحث الثالث آداب الفتوى ذكر العلماء عدة آداب للفتوى، بعضها في أدب المفتي، وبعضها في إصدار الفتوى، وبعضها في أدب المستفتي، وبعض هذه الآداب تصل إلى درجة الوجوب أو التحريم. قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "إن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقِّع عن اللَّه تعالى، وقال ابن المُنْكَدر: العالم بين اللَّه وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم، وتوقف كثير من السلف وفضلاء الخلف عن الفتيا في أشياء كثيرة، فقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وفي رواية: ما منهم من يحدّث يحديث إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي اللَّه عنهم: من أفتى عن كل ما يسأل، فهو مجنون، وقال الشعبي والحسن وأبو الحَصين من التابعين: إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه لجمع لها أهل بدر، وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان: إذا غفل العالم لا أدري، أصيبت مقاتله، وعن سفيان بن عيينة وسحنون: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، وسئل الشافعي عن مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أنَّ الفضل في السكوت أو في الجواب، وقال الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكثره أن يقول: لا أدري، وسئل مالك عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري، وكان يقول: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه، ثم يجيب، وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، وقال الشافعي: ما رأيت أحدًا جمع اللَّه تعالى

آداب المفتي

فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا، وقال أبو حنيفة: لولا الفَرَقُ من اللَّه تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليَّ الوزر" (¬1). وقال ابن النجار رحمه اللَّه: "وكان السلف يهابونها، ويشددون ويتدافعونها، وأنكر أحمد وغيره من تهجم في الجواب" (¬2). آداب المفتي: ينبغي للمفتي أن يتحلى بآداب كثيرة، بعضها يرجع إلى نفسه، وبعضها يرجع إلى معاملة المستفتي، وبعضها يرجع إلى إصدار الفتوى ذاتها، وأهم الآداب هي: أولًا: آداب المفتي في نفسه: 1 - أن يقصد المفتي بعمله وجه اللَّه تعالى، والتقرب إليه في بيان حكم اللَّه تعالى ودينه وشرعه، ولا يفتي طمعًا في منصب، أو مغنم، أو جاه، أو خوفًا من حاكم أو سلطان، ويخلص النية للَّه تعالى (¬3). 2 - أن يتصف المفتي بالتقوى؛ لأنه أمين على دين اللَّه وشرعه، ومبلغ عن اللَّه تعالى؛ لأنه من ورثة الأنبياء، فيجب أن يتخلق بأخلاقهم، وأن يتجنب أسباب الفسق وخوارم المروءة. 3 - أن يتصف المفتي بالعلم والحلم والوقار والسكينة؛ لأنه موقع عن رب العالمين، ويتمثل فيه الشرع القويم، ويتجنب الرياء والسمعة في عمله. 4 - أن يكون المفتي ظاهر الورع، مشهورًا بالديانة الظاهرة، وحسن ¬

_ (¬1) المجموع للنووي (1/ 67 - 68)، مع تصرف بسيط. (¬2) شرح الكوكب المنير (4/ 588)، وانظر؛ صفة الفتوى ص 7، صحيح البخاري بحاشية السندي (4/ 175)، سنن الدارمي (1/ 52) وما بعدها، تيسير التحرير (4/ 242). (¬3) قال الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى: "لا ينبغي أن يفتي حتى يكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن له نور، ولا على كلامه نور، وحلم ووقار وسكينة، قويًّا على ما هو فيه، وعلى معرفته، والكفاية، وإلا مضغه الناس، ومعرفة بالناس" شرح الكوكب المنيز (4/ 550)، أعلام الموقعين (4/ 254) وما بعدها.

السريرة الباطنة، قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "وكان مالك رحمه اللَّه يعمل بما لا يلزمه الناس، ويقول: لا يكون عالمًا حتى يعمل بخاصة نفسه بما لا يُلزمه الناس، مما لو تركه لم يأثم، وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة" (¬1). 5 - أن يكون المفتي فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظًا لما يعرض عليه، بعيدًا عن الغفلة خشية الوقوع في مكائد المستفتين وشباكهم. 6 - ينبغي ألا يفتي حال تغير خُلُقه، وانشغال قلبه بما يمنعه من التأمل، كالغضب والجوع والعطش والحزن والفرح الغالب، والنعاس، والملل، والضجر من حر أو برد، والمرض، ومدافعة الحدث، وكل ما يشغل القلب، ويمنع الاعتدال (¬2). 7 - أن يتصف المفتي بالرفق في تفهم سؤال المستفتي، وأن يكون واسع الصدر معه، وأن يصبر عليه، فلا يضيق ذرعًا بجهل السائل، ولا بإلحاحه، أو تطويله، أو تطويل السؤال وتكراره (¬3). 8 - أن يكون المفتي مستقل الإرادة في الفتوى، فلا يخشى بها الناس، فيغير الحكم طمعًا في ترغيب، أو خوفًا من ترهيب، وأن يتجنب الفتاوى التي تملى عليه صراحة أو دلالة، فلا يكون مفتيًا للسلطة الحاكمة بحسب أهوائها، أو ما يتناسب مع توجهاتها واتجاهاتها، وخاصة في هذا الزمان، فإن أكثر الحكام لا يطبقون شرع اللَّه، ويتحايلون عليه، ويحاولون أن يلبسوا أعمالهم عباءة الشرع والدين باستصدار الفتاوى، والحصول على موافقة المفتي وأعوانه. قال الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى: "إذا هاب الرجل شيئًا، لا ينبغي أن يُحمل على أن يقوله" (¬4). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 69). (¬2) شرح الكوكب المنير (4/ 547). (¬3) روضة الطالبين (11/ 109). (¬4) صفة الفتوى ص 31، شرح الكوكب المنير (4/ 588).

ثانيا: آداب تعيين المفتي

ثانيًا: آداب تعيين المفتي: 1 - إذا كان المفش معينًا للفتوى فيجب على الإمام اختيار من يصلح للفتوى، بأن يسأل علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق بهم (¬1). 2 - ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، ويتتبع فتاويهم؛ ليقر من يصلح للفتيا، ويمنع أو يعزل من لا يصلح بالنهي، والتوعد بالعقوبة، ثم بالحجر عليه إن لزم (¬2)، قال ربيعة: "بعض من يفتي أحق بالسجن من السّرّاق" (¬3). 3 - الأصل المختار للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك، وهذا شأن معظم العلماء المفتين غير المعينين بوظيفة الفتوى، قديمًا وحاضرًا، فيكون عمله للَّه تعالى، محتسبًا الأجر عنده. 4 - يجوز لمن تعين في وظيفة الفتوى أن يأخذ رزقًا (راتبًا شهريًّا) من بيت المال (خزينة الدولة اليوم) لقاء تعيينه وتفرغه وحبس نفسه لمصلحة عامة شأن بقية الموظفين (¬4)، وقيد النووي رحمه اللَّه تعالى ذلك بألا تكون الفتيا متعينة عليه لعدم وجود أحد غيره، وله كفاية في ماله، فقال: "فيحرم على الصحيح" وكذلك إذا كان موظفًا في غير الإفتاء كالإمام والخطيب، وله رزق (راتب) على ذلك، لم يجز له أخذ أجرة على الفتوى أصلًا (¬5). ¬

_ (¬1) قال الإمام مالك رحمه اللَّه تعالى: "ما أفتيت حتى سألت من هو أعلم مني: هل يراني موضعًا لذلك؟ " وقال مالك: "لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه" المجموع (1/ 69). (¬2) الفروع (6/ 425)، الأنوار (2/ 398)، صفة الفتوى ص 6، 24، روضة الطالبين (11/ 108)، المجموع (1/ 69، 70)، إعلام الموقعين (4/ 203، 276). (¬3) صفة الفتوى ص 11، شرح الكوكب المنير (4/ 544)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 195. (¬4) قال الخطيب البغدادي رحمه اللَّه تعالى: "وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه من الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال؛ لأن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة" المجموع (1/ 77). (¬5) المجموع (1/ 77).

ثالثا: آداب إصدار الفتوى

وإذا لم يكن له رزق (راتب)، فقال الشافعية: ليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه على الأصح كالحاكم القاضي، وقال الحنابلة: يجوز لمن تعينت عليه الفتيا، وليس له كفاية، أن يأخذ رزقًا من المستفتي على الصحيح؛ لأنه إن لم يأخذ أفضى ذلك إلى ضرر يلحقه في عائلته إنه كانوا، وإلى الحَرَج المنفي شرعًا، وإن لم يفت حصل ضرر للمستفتي فتعين الجواز (¬1). وقال الصيمري والخطيب البغدادي من الشافعية وأكثر الحنابلة: لو اتفق أهل بلد مع عالم ليتفرغ لهم للفتوى، جاز له أخذ الرزق (الراتب) من أموالهم، وفي قول: لا يجوز له ذلك (¬2). 5 - يجوز للمفتي قبول الهدية عامة، إلا إذا قصد المستفتي بهديته أن يفتيه بما يريد فتحرم وتصير رشوة، كالهدية للقاضي (¬3). ثالثًا: آداب إصدار الفتوى: 1 - يجب على المفتي اتباع الحكم المفتى به بالدليل، وذلك بذكر حجته إذا كان نصًّا واضحًا مختصرًا، وخاصة إذا كان المستفتي فقيهًا عالمًا، لا عاميًّا، وبشكل أخص إذا كانت الفتوى عامة، وتعلق وتنشر على الناس. 2 - يجب على المفتي الالتزام بالأحكام المجمع عليها، ويحرص على بيان الأحكام المتفق عليها بين المذاهب. 3 - إذا كانت الفتوى مختلفًا فيها بين المذاهب، وكان المفتي مذهبيًّا، فيجب عليه اعتماد القول المعتمد الراجح في المذهب، كما سبق، ويجب أن يكون اعتماده على الكتب الموثوقة في المذهب التي تنص على القول الراجح المعتمد، ويتجنب الأقوال الضعيفة المرجوحة، أما إن كان مجتهدًا فيفتي ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 77)، شرح الكوكب المنير (4/ 547، 548)، أعلام الموقعين (4/ 294)، المسودة ص 544، 545، الفروع (6/ 440)، صفة الفتوى ص 35، روضة الطالبين (11/ 111). (¬2) المجموع (1/ 77)، شرح الكوكب المنير (4/ 548)، والمراجع السابقة. (¬3) المجموع (1/ 77)، شرح الكوكب المنير (4/ 549)، روضة الطالبين (11/ 111).

باجتهاده دون تقيد بمذهب، وهذا قليل الآن (¬1). 4 - يجب على المفتي أن يحرص في الفتوى على موافقة الشرع، وتحقيق المقاصد الشرعية، والمصالح العامة، ويتجنب الفتوى حسب أهواء الناس ورغباتهم، أو حسب أهواء الحكام وميولهم، ويجب أن يتحرى المصلحة العامة، ويتحرز ما يؤدي إلى فتنة، أو يلحق أذى بالناس، أو يؤدي إلى التنازع أو تفريق الصفوف، وعليه الامتناع عن الفتوى إن علم أن المستفتي يريد بالفتوى اتباع الهوى، وليس الحق، وأنه يريد استغلالها للترويج لأمر غير مشروع. وإذا أصدر الحاكم حكمًا يوافق الشرع وله دليل شرعي معتبر، ويراه المفتي حقًّا، فلا مانع من تأييده. 5 - يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه ووجب منعه، ومن التساهل أن لا يتثبت، ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، إلا إذا تقدمت في السابق، فلا بأس من المبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يريد نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره (¬2). 6 - إذا تكرر الاستفتاء في حادثة، وتذكر المفتي الأولى ودليلها الشرعي، أو حكمها في المذهب المنتسب إليه، أفتى بذلك مباشرة، وإن لم يذكر الدليل والحكم المذهبي، فيجب تجديد النظر والبحث، على الأصح (¬3). ¬

_ (¬1) البحر المحيط (6/ 296)، روضة الطالبين (11/ 111). (¬2) قال النووي رحمه اللَّه تعالى: "وأما من صح قصده، فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد" المجموع (1/ 76)، وانظر: المجموع (1/ 78)، صفة الفتوى ص 31، روضة الطالبين (11/ 110)، أعلام الموقعين (4/ 282)، سنن الدارمي (1/ 57، 60). (¬3) المجموع (1/ 78)، شرح الكوكب المنير (4/ 553)، أعلام الموقعين (4/ 295)، =

7 - يجوز للمفتي التشديد والتفليظ في الفتوى لمصلحة، وإن كان لا يرى ذلك، لكن فيه تأويل، زجرًا للمستفتي، كما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه سئل عن توبة القاتل؟ فقال: لا توبة له، وسأله آخر، فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينيه إرادة القتل، فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكينًا قد قتل، فلم أقنطه (¬1). 8 - يجب على المفتي أن تكون فتواه صريحة جازمة واضحة محددة، فلا يقتصر على ذكر الخلاف، أو القولين فيها؛ لأن مقصود المستفتي بيان ما يعمل به، فينبغي الجزم بما هو الراجح، فإن لم يعرفه، توقف حتى يظهر له، ولأن الفتوى غير الواضحة لا تفيد المستفتي، ولا تحقق الغرض من الفتوى، فيجب أن يجزم بما هو الراجح (¬2). 9 - أن يتجنب المفتي الخوض في المسائل الكلامية، بل يمنع المستفتي وسائر العامة من الخوض في ذلك، ليقتصروا على الإيمان جملة، وعلى أركانه، وكذا في آيات الصفات والأخبار المتشابهة، فإن الفتوى لا تغني فيها ولا تفيد، وكذا تجنب الفتوى فيما لا وجود له كالرق والعتق والعبيد، والكلام عن اختلاف الصحابة والسلف واقتتالهم، فلا جدوى من ذلك، والأصل في الفتوى السؤال عما يوجب عملًا، ويبعد عن محرم وشر وضرر، ولا يدخل فيها الأمور النظرية (¬3). 10 - يستحسن كتابة السؤال، ثم بيان الجواب له، والبدء بالفتوى ¬

_ = صفة الفتوى ص 37، المسودة ص 467، 522، 542، شرح تنقيح الفصول ص 442، مختصر ابن الحاجب (2/ 307)، البحر المحيط (6/ 302)، جمع الجوامع والبناني (2/ 394)، المحصول (3/ 95)، الإحكام للآمدي (4/ 233)، نهاية السول (3/ 265)، تيسير التحرير (4/ 231)، المعتمد (2/ 932)، فواتح الرحموت (2/ 394)، مختصر البعلي ص 167. (¬1) المجموع (1/ 83). (¬2) المجموع (1/ 79)، روضة الطالبين (11/ 113). (¬3) المجموع (1/ 87).

آداب المستفتي

بالحمدلة، والقول: اللَّه الموفق، أو حسبنا اللَّه، أو حسبي اللَّه، والاختتام بقوله: "واللَّه أعلم" أو "وباللَّه التوفيق" ثم يكتب اسمه وتوقيعه، وإن كانت شفهية فإنه يستعيذ باللَّه من الشيطان الرجيم، ويُسمي اللَّه تعالى، ويحمده، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، ويقول: رب اشرح لي صدري (¬1). آداب المستفتي: 1 - يجب على المستفتي الاستفتاء إذا نزلت به حادثة ليعلم حكم اللَّه تعالى فيها، ويلتزم به، وإن لم يجد ببلده من يستفتيه، وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت المسافة؛ لأن ذلك يتعلق بالدِّين، والحلال والحرام. 2 - يجب على المستفتي قطعًا البحث عمن تتوفر فيه أهلية الفتوى لإفتائه، وعليه أن يسأل أهل العلم الشرعي حصرًا، وخاصة الملتزمين بالتقوى؛ لأن التحري في أمر الدين واجب، ويسأل من عرف علمه وعدالته. 3 - يجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه، وله أن يبعث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له، وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره به ثقة أنه خطه، أو كان يعرف خطه، ولم يتشكك فيه، وأن يكون كاتب السؤال ممن يحسن السؤال، ويحدد الغرض منه، مع وضوح الخط واللفظ. 4 - ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي، وأن يظهر له الاحترام والإجلال في كلامه وكتابه، وألا يسيء في ألفاظه وكلامه ومخاطبته، ولا يسأله وهو مشغول، أو في حالة ضجر أو همّ، أو نحو ذلك مما يشغل القلب، ولا يدع الدعاء لمن يستفتيه. 5 - إذا استفتى في مسألة أو قضية، ثم حدثت تلك القضية، فيلزم المستفتي تكرير السؤال في الصحيح عند الحنابلة؛ لاحتمال تغير نظر المفتي، وعند الشافعية وجهان، والأصح منهما لا يلزمه تجديد السؤال؛ لأنه عرف الحكم الأول، والأصل استمرار المفتي عليه (¬2). ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 80)، روضة الطالبين (11/ 113 - 114). (¬2) شرح الكوكب المنير (4/ 555)، المجموع (1/ 93)، روضة الطالبين =

فرع: الضمان وعدمه على المفتي

فرع: الضمان وعدمه على المفتي: إذا سئل المفتي عن واقعة، وأفتى بحسب اجتهاده، مبتغيًا وجه اللَّه تعالى، وقاصدًا طاعة اللَّه وطاعة رسوله، ثم أخطأ في الفتوى، وبذل جهده فيها، ولم يقصر أو يعتد، فلا ضمان عليه ولا عقوبة، وإن لم يكن أهلًا للفتوى، أو قصر، أو تعمد، فعليه الضمان والعقوبة، كالجاني والشاهد والقاضي في الخطأ أو العمد، ويبحثه الفقهاء في باب الضمان والإتلاف والقضاء. ¬

_ = (11/ 103، 105)، المسودة ص 467، 468، 522، البرهان (2/ 143)، أعلام الموقعين (2/ 330)، صفة الفتوى ص 82، فواتح الرحموت (2/ 394)، تيسير التحرير (2/ 232)، جمع الجوامع والبناني (2/ 395)، شرح تنقيح الفصول ص 432، إرشاد الفحول ص 271.

الباب الخامس التعارض والترجيح في الأدلة

الباب الخامس التعارض والترجيح في الأدلة مقدمات: 1 - إن مبحث التعارض والترجيح مهم جدًّا؛ لأنه يفرض نفسه عمليًّا في الحياة في مختلف شؤونها، وكذلك يفرض نفسه على العالم والفقيه والمجتهد والقاضي، ولذلك لا بدّ من دراسته وبيانه للاستعانة به في الوصول إلى الغاية الصحيحة، والهدف المنشود، دون أن يكون عائقًا في ذلك، أو عقبة في الطريق، فيجب الترجيح عند التعارض بين الأدلة، للعمل بالأقوى، ويجب تحديد قواعد الترجيح وضوابطه للعمل بها. 2 - إن مبحث التعارض والترجيح يرد في الفقه عامة، وفي البينات خاصة، وأمام القاضي بشكل أخص، ولذلك يفرد الفقهاء في كتب القضاء والدعوى والبينات بحثًا مستقلًا للتعارض الذي يقع بين الفروع، ويظهر بشكل ملموس في القواعد الفقهية عند تطبيق القاعدة على الفروع، ثم الاستثناءات الواردة عليها، وكذلك بحث التعارض بين البينات نظريًا في الفقه، وعمليًّا أمام القاضي، لبيان السبيل السديد في معرفة الحق، وبيان الواقع للفصل فيه (¬1). 3 - إن مبحث التعارض والترجيح أحد بحوث أصول الفقه الإسلامي، ¬

_ (¬1) انظر رسالتنا: وسائل الإثبات، الفصل الخامس من الباب الثاني في التعارض والترجيح في البينات (2/ 801)، وأن عددًا من العلماء صنفوا كتبًا مستقلة في تعارض البينات.

ويرد نظريًّا بين الأدلة الكلية، وهي مصادر التشريع العامة، كما يرد في جزئيات الأدلة الكلية، وفي فصول الدليل الواحد، وهو يواجه المجتهد أولًا عند الاستنباط والاستدلال، ثم يواجه الأصولي في التأليف والتصنيف، وفي تقعيد أصول الفقه وبيان مبادئه وقواعده التي يعتمد عليها في الاستدلال ثانيًا، وعند المقارنة ثالثًا، وهو محل البحث هنا فقط. 4 - تطور مبحث التعارض والترجيح في العصور الأخيرة لاعتماده في الدراسات المقارنة أو الموازنة بين المذاهب الفقهية، واستعراض أدلتها، وتعارضها مع أدلة المذاهب الأخرى، ثم العمل على الترجيح بين الأقوال والأوجه في المذهب الواحد، ثم يبين الباحث المذاهب المختلفة (¬1). 5 - اختلف منهج علماء الأصول في مكان دراسة التعارض والترجيح، فعرضه جمهور الحنفية وبعض الحنابلة والبيضاوي من الشافعية بعد مباحث الأدلة أو المصادر، وقبل الكلام على الاجتهاد والتقليد؛ لأن التعارض والترجيح وثيق الصلة بالأدلة، فلا يمكن إثبات الأحكام بالأدلة الظنية إلا بالترجيح بينها. وذهب جمهور الشافعية والمالكية والحنابلة إلى ذكر التعارض والترجيح بعد الاجتهاد والتقليد؛ لأنها من عمل المجتهد، فالمجتهد هو الذي يدرك التعارض بين الأدلة، ثم يعمل على ترجيح أحدها. ورجحنا منهج الجمهور؛ لتوقف معرفة التعارض بين الأدلة ثم الترجيح بينها على الاجتهاد، وأن هذا من عمل المجتهد حصرًا؛ لأنه يعرف التفاوت بين الأدلة، ويصنفها حسب مراتبها في القوة، ويحدد مجال التعارض، ثم يعمد إلى بيان الراجح منها ليعتمد عليه في الاستدلال والاستنباط. 6 - نسارع إلى القول فورًا: إنه لا يوجد تعارض حقيقي فيما بين الأدلة الكلية، ولا تعارض فيما بين الأدلة الجزئية والفرعية، وإن التعارض هو في ¬

_ (¬1) انظر آراء العلماء في مشروعية الترجيح بين المذاهب وعدمه في: البرهان (2/ 1156)، المنخول ص 427، المسودة ص 309، الموافقات (4/ 176) وما بعدها، شرح الكوكب المنير (4/ 622)، مختصر الطوفي ص 187، المدخل إلى مذهب أحمد 197.

الظاهر، وبحسب ما يتبادر إلى الذهن، ثم يزول بعد النظر والتأمل والبحث؛ لأن مصدر الأدلة الكلية والجزئية هو اللَّه سبحانه وتعالى؛ ولأن التعارض مبدئيًّا يعني التناقض والاختلاف والاضطراب، وهذا يستحيل أن يصدر من إنسان عاقل، فكيف يصدر من العليم الخبير الحكيم؛ وهذا ما بيّنه القرآن الكريم بقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، لكن معظم الأدلة ظنية، فيقع بينها التعارض ظاهرًا (¬1). 7 - ورد في الكتب اصطلاح التعارض، واصطلاح التعادل، وذهب بعض العلماء إلى التفريق بينهما تبعًا للغة، فالتعادل لغة: التساوي، وعِدْل الشيء مثله من جنسه أو مقداره، أما التعارض فهو التمانع، ومنه تعارض البينات؛ لأن كل واحد تعترض الأخرى، وتمنع نفوذها (¬2). بينما ذهب جماهير علماء الأصول إلى استعمال التعادل في معنى التعارض؛ لأنه لا تعارض إلا بعد التعادل، وإذا تعارضت الأدلة، ولم يظهر -مبدئيًّا- لأحدهما مزية على الآخر، فقد حصل التعادل بينها، أي: التكافؤ والتساوي (¬3)، وسوف نسير مع رأي الجمهور بعدم التفريق بين التعادل والتعارض، واعتبارهما مترادفين. ونتناول بحث التعارض والترجيح في ثلاثة فصول، وهي: ¬

_ (¬1) تيسير التحرير (3/ 161)، مجموع الفتاوى (20/ 9)، اللمع ص 70، شرح الكوكب المنير (4/ 599)، الإحكام للآمدي (4/ 162، 239)، مختصر ابن الحاجب (2/ 289، 309)، الروضة ص 352، 372، 386، المدخل إلى مذهب أحمد ص 196، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1171). (¬2) المصباح المنير (2/ 542، 551)، القاموس المحيط (2/ 334، 4/ 14)، معجم مقاييس اللغة (4/ 247، 272). (¬3) انظر: المحصول (5/ 505)، جمع الجوامع والبناني (2/ 357)، نهاية السول (3/ 183)، فواتح الرحموت (2/ 189)، البحر المحيط (6/ 108، 109، 112)، إرشاد الفحول ص 273، التلويح على التوضيح (3/ 38)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1171)، منهج التوفيق والترجيح ص 46، وسيأتي المزيد من المصادر والمراجع =

الفصل الأول: التعارض بين الأدلة. الفصل الثاني: الترجيح بين الأدلة. الفصل الثالث: طرق الترجيح. وفي ذلك إتمام لبحث التعارض والترجيح، وبه يكتمل البناء، وينتهي هذا الكتاب، ونسأل اللَّه العون والسداد والتوفيق.

الفصل الأول التعارض بين الأدلة

الفصل الأول التعارض بين الأدلة تعريف التعارض: التعارض لغة: التقابل والتمانع والتعادل، من اعترض الشيءَ: صار له عارضًا، كالخشبة المعترضة في النهر، وعارضَ فلانًا: ناقضه في كلامه وقاومه، واعترض عليه: أنكر قوله أو فعله، والتعارض: مصدر من باب التفاعل الذي يقتضي فاعلين فأكثر (¬1). والتعارض في الاصطلاح له تعريفات كثيرة عند الأصوليين، وأفضلها ضبطًا واختصارًا التعريف الجامع المانع الذي ذكره الزركشي رحمه اللَّه تعالى، فقال: "هو تقابل الدليلين على سبيل الممانعة" (¬2). ونقل هذا التعريف ابن النجار رحمه اللَّه تعالى، مع تعديل بسيط يتفق مع مذهبه، ثم شرحه فقال: "وذلك إذا كان أحد الدليلين يدل على الجواز، والدليل الآخر يدل على المنع، فدليل الجواز يمنع التحريم، ودليل التحريم يمنع الجواز، فكل منهما مقابل للآخر، ومعارض له، ومانع له" (¬3)، وهذا يعني أن أحد الدليلين يقتضي حكمًا في واقعة خلاف ما يقتضيه الدليل الآخر فيها عند توفر الشروط التي سنذكرها، وهنا يأتي دور المجتهد في الترجيح لإزالة هذا التعارض (¬4). ¬

_ (¬1) المصباح المنير (2/ 552)، لسان العرب (7/ 167، 179)، المعجم الوسيط (2/ 599، 600)، الصحاح (3/ 1084، 1088). (¬2) البحر المحيط (6/ 109)، ونقله عنه الشوكاني حرفيًّا مع التصريح بذلك، لكن نسبه بعض الباحثين للشوكاني (إرشاد الفحول ص 273). (¬3) شرح الكوكب المنير (4/ 605). (¬4) المستصفى (2/ 395)، فواتح الرحموت (2/ 189)، التلويح على التوضيح (2/ 38)، تيسير التحرير (3/ 136)، شرح الكوكب المنير (4/ 605)، الروضة ص 387، إرشاد الفحول ص 273، أصول الفقه للخضري ص 394، منهج التوفيق والترجيح ص 51، =

محل التعارض

مثاله في القرآن: ورد في القرآن الكريم آية تجعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء كانت المرأة حاملًا أو غير حامل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، ووردت آية أخرى تحدد أجل انتهاء عدة الحامل بوضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها زوجها أو مطلقة، قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فوقع التعارض في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها. ومثاله في الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الرّبا في النسيئة" (¬1)، فالحديث يحصر الربا المحرَّم في ربا النسيئة (المؤجل)، ومقتضاه إباحة ربا الفضل (الزيادة بدون أجل)، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء ... ولا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل" (¬2)، وهذا يدل على تحريم ربا الفضل، فيكون الحديثان متعارضين (ظاهرًا) في ربا الفضل، فالأول يدل على إباحته، والثاني يدل على تحريمه. محل التعارض: يرى بعض الأصوليين أنه لا تعارض بين دليلين قطعيين، سواء كانا عقليين، أو نقليين، أو أحدهما عقليًّا والآخر نقليًّا؛ لأنه يؤدي إلى اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما، ولأن ترجيح أحدهما على الآخر محال، فلا مدخل للترجيح في الأدلة القطعية، وينحصر التعارض في الأدلة الظنية، سواء كانت نقلية، أو عقلية، أو أحدها عقليًّا، والآخر نقليًّا، ثم يقع الترجيح بينها. ويرى بعض الأصوليين منع التعارض بين دليلين عامين بلا مرجح (¬3). ¬

_ = أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1173)، علم أصول الفقه ص 229. (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري (2/ 762 رقم 2069) بلفظ "لا ربا إلا في النسيئة" ومسلم (11/ 25 رقم 1596) باللفظ المذكور، وبألفاظ عدة، منها "الربا في النسيئة" "ألا إنما الربا في النسيئة" "لا ربا فيما كان يدًا بيد". (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري (2/ 761 رقم 2066) ومسلم (11/ 9 رقم 1584) والترمذي (4/ 438) وأحمد (6/ 400) وغيرهم، وله ألفاظ متعددة. (¬3) شرح الكوكب المنير (4/ 605، 607، 627)، إرشاد الفحول ص 247، 275.

شروط التعارض

ويرى آخرون أن التعارض يقع بين الدليلين القطعيين، وبين الدليلين العامين في الألفاظ، لكن لا تعارض بين الفعلين إذا لم يقم دليل على تكراره بالنسبة للناس جميعًا، كان يصوم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم سبت مثلًا، ثم يفطر يوم سبت آخر، فلا تعارض بين هذين الفعلين، لأنه لا عموم للأفعال (¬1). وأرجح القول الأخير؛ لأن التعارض في الأصل ظاهري بين جميع الأدلة، وأن استعراض مباحث التعارض والترجيح يبيّن وجود تعارض بين جميع الأدلة، وأن العلماء يبيّنون شروط التعارض، فإن توفرت، لزم الترجيح بينها، وأن دراسة الشروط نفسها تبين وجود تعارض ظاهري، وعند فقدان الشرط يرتفع التعارض ويقع الترجيح، وهذا هو عمل المجتهد والعالم، وهو ما يُعرض حقيقة في باب التعارض والترجيح. شروط التعارض: يشترط لتحقق التعارض شروط، فإن فقد شرط منها حصل الترجيح حكمًا، وهذه الشروط هي: 1 - اتحاد القوة: يشترط في التعارض بين الدليلين أن يكونا في قوة واحدة، بأن يكونا قطعيين كآيتين، أو خبرين متواترتين، أو آية وخبر متواتر، أو يكونا ظنيين كخبري آحاد، أو قياس وقياس. فإن كان أحدهما قطعيًّا والآخر ظنيًّا فلا تعارض؛ لأن القطعي يقدم على ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 137، 393)، الإحكام للآمدي (4/ 241)، المحصول (5/ 532)، البرهان (2/ 1143)، فواتح الرحموت (2/ 189)، تيسير التحرير (3/ 136)، كشف الأسرار (4/ 77)، التلويح على التوضيح (3/ 39)، جمع الجوامع والبناني (2/ 357، 361)، البحر المحيط (6/ 108)، شرح تنقيح الفصول ص 420، مختصر ابن الحاجب (2/ 310)، المسودة ص 448، الروضة ص 387، المدخل إلى مذهب أحمد ص 197، شرح الكوكب المنير (4/ 605)، إرشاد الفحول ص 274، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1175).

2 - الاتحاد في الموضوع والمحل والزمان

الظني، ولأن الظني ينتفي بالقطع، كآية وخبر آحاد، فلا تعارض في الثبوت، ولكن يقع التعارض من حيث الدلالة، ومثل خبر متواتر وخبر آحاد، فلا تعارض بينهما، ويقدم القطعي حتمًا وهو المتواتر، باتفاق (¬1)، ولا يتحقق التعارض بين نص وإجماع، فيقدم الإجماع لتحديد الدلالة، ولا تعارض بين نص وقياس، فيقدم النص، ولا تعارض بين إجماع وقياس، فيقدم الإجماع، ولا تعارض بين حديث صحيح مع حديث ضعيف أو مردود؛ لأن الحديث الضعيف أو المردود ليس حجة أصلًا ولا دليلًا (¬2). 2 - الاتحاد في الموضوع والمحل والزمان: يشترط لتحقق التعارض أن يتحد الدليلان في موضوع واحد، فإن اختلف الموضوع، وكان أحدهما حلالًا والآخر حرامًا، فلا تعارض. وأن يتحد الدليلان في المحل، وهو محل الحكم بالنفي والإثبات لشخص واحد، فإن اختلف المحل، فلا تعارض، كالحكم على المدين الموسر، والإنظار وعدم المطالبة من المدين المعسر، أو المتوفى عنها زوجها والمطلقة. وأن يتحد الدليلان في الزمان، ليقع التعارض، فإن اختلف الزمان في الصلاتين، أو في الصومين، فلا تعارض، وإن تقدم أحد الدليلين، وتأخر الآخر، فلا تعارض؛ لكون المتأخر ناسخًا ¬

_ (¬1) إذا تعارض الظاهر من الكتاب والسنة، فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: يقدم الكتاب؛ لأنه أشرف، ولحديث معاذ رضي اللَّه عنه: "أقضى بكتاب اللَّه، فإن لم أجد فبسنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " وقال آخرون: تقدم السنة؛ لأنها المفسرة للكتاب والمبينة له، ونقل ذلك عن الإمام أحمد رحمه اللَّه أنه كان يقدّم السنة على الكتاب بطريق البيان، لا بطريق ترجيح نوع السنة على نوع الكتاب، وقال فريق ثالث: يقع التعارض، ورجحه الجويني. البحر المحيط (6/ 109)، البرهان (2/ 1185)، جمع الجوامع (2/ 373)، تيسير التحرير (3/ 162)، شرح الكوكب المنير (4/ 60). (¬2) قال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: يتم ترتيب الأدلة عامة بتقديم الإجماع، فالكتاب كالسنة المتواترة، ثم آحاد السنة على مراتبها: الصحيح فالحسن فالضعيف، فقول الصحابي، فالقياس (شرح الكوكب المنير (4/ 600) وما بعدها) وهذا أمر مختلف فيه.

حكم التعارض

للمتقدم (¬1). حكم التعارض: إذا وجد تعارض بين الأدلة في نظر المجتهد، فيجب عليه البحث في دفعه ورفعه؛ لأنه لا يوجد تعارض حقيقي في الأدلة الشرعية الصحيحة، ولا يعقل وجوده؛ لأنها من عند اللَّه تعالى الذي أحكم كل شيء خلقه، وإنما جاءت الأحكام الشرعية على أساس واحد، ومنهج قويم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم. فإذا وجد نصان -مثلًا- ظاهرهما التعارض، وجب الاجتهاد في صرفهما عن هذا الظاهر، والوقوف على حقيقة المراد منهما، تنزيهًا للشارع العليم الحكيم عن التناقض في تشريعه. وإذا ظهر تعارض -مثلًا بين مصدرين من المصادر، فيقدم الأولى حسب الترتيب المتفق عليه، أو المقرر في كل مذهب، واتفق العلماء في الأدلة المتفق عليها على تقديم الإجماع (¬2)، فالكتاب، فالسنة، فالقياس، وقذم الجمهور قول الصحابي على القياس، وقدّم الحنفية الاستحسان على القياس، وقدَّم المالكية الاستصلاح على القياس، ثم تأتي سائر المصادر الاجتهادية المختلف فيها. وفي المصدر الواحد يتم الترتيب أيضًا، فالإجماع النطقي المتواتر ¬

_ (¬1) البحر المحيط (6/ 109)، المستصفى (2/ 137، 393)، البرهان (2/ 1143)، الإحكام للآمدي (4/ 241)، المحصول (5/ 532)، كشف الأسرار (4/ 77)، فواتح الرحموت (2/ 189)، تيسير التحرير (3/ 136)، جمع الجوامع والبناني (2/ 357، 361)، المسودة ص 448، الروضة ص 387، شرح الكوكب المنير (4/ 607)، إرشاد الفحول ص 274، المدخل إلى مذهب أحمد ص 197، علم أصول الفقه ص 230. (¬2) يقدم الإجماع على باقي الأدلة لوجهين، أحدهما: كونه قاطعًا معصومًا من الخطأ معتمدًا على دليل شرعي، والثاني كونه آمنًا من النسخ والتأويل، بخلاف باقي الأدلة (شرح الكوكب المنير 4/ 600).

طرق دفع التعارض

أعلاها، ثم يليه الإجماع النطقي الثابت بالآحاد، ثم يليه الإجماع السكوتي المتواتر، ثم الإجماع السكوتي التابت بالآحاد، فهذه الأنواع الأربعة كلها مقدّمة -عند القائلين بها- على باقي الأدلة، ويقدم الإجماع السابق على اللاحق كإجماع الصحابة يقدم على إجماع التابعين، وهكذا، وفي السنة يقدم المتواتر على الآحاد، وفي أخبار الآحاد يقدم الصحيح على الحسن، وكذا في القياس كما سيأتي في فصل طرق الترجيح (¬1). طرق دفع التعارض: اتفق العلماء على وجوب دفع التعارض بين الأدلة إن وجد، ولكنهم اختلفوا في الطريق للوصول إلى هذا الهدف على طريقتين: طريقة الحنفية، وطريقة الجمهور (¬2)، وقد يكون الاختلاف أحيانًا لفظيًّا واصطلاحيًّا مع الاتفاق على الحكم والنتيجة. أولًا: طريقة الحنفية: قال الحنفية: إن التعارض إما أن يقع بين النصوص الشرعية، وإما أن يقع بين غيرها من الأدلة، وفي كل حالة منهج خاص. الحالة الأولى: التعارض بين نصين: إذا وقع التعارض بين نصين شرعيين، فيسلك المجتهد الترتيب الآتي في المراحل الأربع، مبتدئًا بالنسخ، ثم بأحد طرق الترجيح، فإن لم يمكن فالجمع بينهما، فإن تعذر فالتساقط، وذلك حسب المنهج التالي: ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 392)، البرهان (2/ 1169)، الإحكام للآمدي (4/ 240، 257)، فواتح الرحموت (2/ 191)، تيسير التحرير (3/ 161)، جمع الجوامع والبناني (2/ 372)، مختصر ابن الحاجب (2/ 312، 314)، البحر المحيط (6/ 111)، الروضة ص 386، مجموع الفتاوى (19/ 201، 267، 22/ 368)، التعريفات للجرجاني ص 30، شرح الكوكب المنير (4/ 601) وما بعدها، المدخل إلى مذهب أحمد ص 196، مختصر البعلي ص 186، مختصر الطوفي ص 186، علم أصول الفقه ص 230، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1176). (¬2) وهناك رأي ثالث يفصل حسب الحالات، ويقول بالتوقف أو التخيير، كما سيأتي.

1 - النسخ

1 - النسخ: إذا ورد نصّان متعارضان، بحث المجتهد أولًا عن تاريخ النصين، فإذا علم تقدم أحدهما وتأخر الثاني، حكم بأن المتأخر ينسخ المتقدم، مع التذكير بشرط التعارض، وهو أن يكون النصّان متساويين في القوة كآيتين، أو آية وسنة متواترة (أو مشهورة عند الحنفية)، أو خبرين من أخبار الآحاد. مثاله: الآيتان السابقتان في عدة الوفاة وعدة الحامل، ففي الأولى قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فتدل بعمومها "أزواجًا" أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء كانت حاملًا، أو غير حامل، وفي الثانية قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وتدل أيضًا أن المرأة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها زوجها، أو مطلقة، فحصل التعارض بين الآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها. وثبت عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أن الآية الثانية متأخرة عن الأولى (¬1)، فتكون ناسخة في القدر الذي حصل فيه التعارض، فتصبح عدة المتوفى عنها زوجها منتهية بوضع الحمل (¬2). 2 - الترجيح: إذا تعارض النصان، ولم يعلم المجتهد تاريخهما، رجح أحدهما على الآخر، إن أمكن، بأحد طرق الترجيح التي ستأتي، كترجيح المحكم على ¬

_ (¬1) قال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: "من شاء باهلته أن سورة النساء الصغرى (الطلاق) نزلت بعد سورة النساء الكبرى (البقرة) "، وفي رواية: "من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء الصغرى بعد الأربعة أشهر وعشرًا" (صحيح البخاري 4/ 1646، 1865، 5/ 2036، سنن أبي داود 1/ 539، وانظر: نصب الراية 3/ 256). (¬2) اتفق الفقهاء في المذاهب الأربعة على عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، ولكن الحنفية اعتمدوا على النسخ، وقال الجمهور: بأن الآية الثانية خصصت الأولى، وبقي الاختلاف اصطلاحيًّا.

3 - الجمع والتوفيق

المفسر، وترجيح العبارة على الإشارة، وترجيح الحظر على الإباحة، وترجيح أحد خبري الآحاد بضبط الراوي أو عدالته، أو فقهه، أو نحو ذلك كما سيأتي. واستدل الحنفية في تقديم الترجيح على الجمع بين النصين بأن الراجح ملحق بالمتيقن، فيعمل به، وأن العمل بالراجح واجب، وتركه خلاف المعقول والإجماع، وأن ترجيح أحد الدليلين على الآخر يمنع المعارضة أصلًا؛ لأن الترجيح مبني على التعارض، والتعارض مبني على التماثل، وعند الترجيح فلا تماثل، ولا تعارض، وإنما يعمل بالأقوى ويترك الأضعف؛ لأنه في حكم العدم بالنسبة إلى القوى، فكأنه فقد شرط التعارض أصلًا (¬1). واعترض عليهم بأن العمل بالراجح الحقيقي واجب عقلًا، ولا يصح تركه، أما التعارض الظاهري فلا ترجيح، وإنما يعتبر الدليلان معًا، وأن التعارض من حيث الظاهر فقط، وقد تحقق التعارض بين الأقوى والأضعف ظاهرًا، فإذا زال التعارض الظاهري، بقي معنا دليلان صحيحان، فيجب العمل بهما معًا، ولا يجوز العمل بأحدهما، وإهمال الآخر. وبناء على قول الحنفية قدّم أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى حديث: "استنزهوا من البول" (¬2)، على ما ورد من شرب العُرَنيّين أبوال الإبل (¬3)، لمرجح التحريم والحظر على الإباحة، ولأن دفع الضرر أولى من جلب المنفعة. 3 - الجمع والتوفيق: إذا تعذر الترجيح بين النصين، لجأ المجتهد إلى الجمع، أي: للتوفيق بين النصين؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمالهما، أو إعمال أحدهما وإهمال الآخر. وطرق الجمع عند الحنفية كثيرة بحسب طبيعة النصين، كالجمع بين العامين بالتنويع، والجمع بين النصين المطلقين بالتقييد، والجمع بين ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (2/ 189)، التلويح على التوضيح (3/ 39) ط الخشاب، وسائل الإثبات (2/ 806). (¬2) هذا الحديث رواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) هذا الحديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه.

الخاصين بالتبعيض، والجمع بين العام والخاص بالتخصيص، وهو ما سبق بيانه في مباحث الدلالات. مثال الجمع بين العامين بالتنويع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بخير الشُهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ أمتي القرن الذي بُعثت فيه، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونهم، ثم يَخلفُ قومٌ يَشْهدون قبل أن يُسْتشهدوا" (¬2)، فالحديث الأول يجيز قبول الشهادة قبل الطلب والسؤال، سواء في حقوق اللَّه، أو في حقوق العباد، ويثني على ذلك بالفضل الكبير، والحديث الثاني لا يجيزها أصلًا قبل الطلب؛ لأنها وردت في مَعرض الذَّم والقدح، مما يدل على استنكارها ورفضها، ويجمع بين الحديثين بحمل الأول على نوع من الحقوق، وهي حقوق اللَّه تعالى فقط، وتكون الشهادة حِسْبَة، ويحمل الحديث الثاني على نوع آخر، وهي حقوق العباد. ومثال الجمع بين النصين المطلقين بالتقييد أن يقول شخص: أعط فقيرًا، ويقول مرة أخرى: لا تعطِ خالدًا، فيقيد الأمر بالمتعفف، والنهي بالمتسول. ومثال الجمع بين الخاصين بالتبعيض أن يقول شخص: أعطِ خالدًا، ويقول مرة أخرى: لا تعطِ خالدًا، فيحمل الأمر على إعطائه حال الاستقامة، والنهي على منع الإعطاء حال الانحراف. ومثال الجمع بين العام والخاص بالتخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنه نص عام على وجوب العدة على كل مطلقة، سواء وقع الطلاق قبل الدخول بها أو بعده، ولكنه خصص بالمطلقات قبل الدخول بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه مسلم (12/ 7 رقم 1719) وأبو داود (2/ 116) والترمذي (6/ 580) ومالك (2/ 720) نشر فؤاد عبد الباقي، طبع الحلبي، القاهرة. (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري (2/ 938 رقم 2508) ومسلم (16/ 84، 88 رقم 2535) وأبو داود (2/ 518) والترمذي (6/ 587) والنسائي (7/ 17) والبيهقي (10/ 160) وابن حبان (موارد الظمآن ص 563).

4 - تساقط الدليلين

ويبقى العام معمولًا به فيما وراء الخاص. وإن كان أحد النصين مطلقًا، والآخر مقيدًا، حُمل المطلق على المقيد، كما سبق في بابه، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. مع قوله تعالى: {إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فاللفظ المطلق "الدم" محمول على المقيد "دمًا مسفوحًا"، ويكون الدم المحرم هو الدم المسفوح فقط. 4 - تساقط الدليلين: إذا تعارض الدليلان، وتعذر النسخ والترجيح والجمع، فيحكم بتساقط الدليلين لتعارضهما، ثم يلجأ المجتهد إلى الاستدلال بما دونهما في الرتبة، فإذا تعارضت آيتان ترك الاستدلال بهما إلى السنة، وإذا تعارض حديثان عدل عنهما إلى الاستدلال بقول الصحابي عند من يحتج به، أو إلى القياس والاستحسان؛ لتعذر العمل بالأعلى بسبب تعارضه مع غيره، ولأن العمل بأحد المتعارضين ترجيح من غير مرجح، فكأن الواقعة لم يرد فيها نص، فإن لم يوجد دليل أدنى وجب العمل بالأصل العام في ذلك الشيء، كأنه لم يرد فيه دليل أصلًا على الحكم. مثال العمل بالأدنى: ما ورد في السنة من حديثين متعارضين في صلاة الكسوف، أحدهما رواه النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى صلاةَ الكسُوف كما تصلُّون، رَكْعة وسجدتين" (¬1)، والثاني روته عائشة رضي اللَّه عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "صلّى الكسوف ركعتين بأربعةِ ركوعات، وأربعِ سجدات" (¬2)، فالتعارض في كيفية صلاة الكسوف في كل ركعة بركوعين مع قيامين أو بركوع واحد مع قيام واحد كبقية الصلوات، ولا مرجح عند الحنفية لأحد الحديثين على الآخر، فتركوا العمل بهما، وأخذوا بالقياس، وهو قياس صلاة الكسوف على بقية الصلوات. ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه النسائي (3/ 117) وأخذ الحنفية بذلك (نصب الراية 2/ 227). (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري (1/ 356 رقم 1002) ومسلم (6/ 205 رقم 903) وأبو داود (1/ 270) والنسائي (3/ 108).

الحالة الثانية: التعارض بين دليلين غير نصين

ومثال العمل بالأصل ما ورد في الآثار في حكم سؤر الحمار، فعن ابن عمر أنه نجس، وعن ابن عباس أنه طاهر، ولا مرجح لقول أحدهما، فترك الحنفية العمل بالأثرين، وعملوا بمقتضى الأصل في الماء، وهو أنه طاهر. الحالة الثانية: التعارض بين دليلين غير نصين: وذلك كما لو ورد التعارض بين قياسين، فيجب على المجتهد أن يرجح بينهما بأحد مرجحات القياس التي ستأتي، كالترجيح بالعلة المنصوصة على العلة المستنبطة بطريق المناسبة مثلًا، فإن لم يكن هناك مرجح، لزم المجتهد أن يتحرى بما يشهد له قلبه، وتطمئن به نفسه (¬1)، وقال الشافعي وأحمد: يتخير (¬2). ثانيًا: طريقة الجمهور في دفع التعارض: إذا تعارض دليلان، فذهب الشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية إلى التعريف بين التعارض في النصوص والتعارض في الأقيسة. الحالة الأولى: التعارض بين النصوص عند الجمهور: إذا تعارض نصان -بحسب الظاهر- عند المجتهد، فيجب عليه البحث والاجتهاد لدفع التعارض، وللوقوف على حقيقة المراد منهما تنزيهًا للشارع الحكيم عن التناقض في تشريعه، وذلك وفق المنهج التالي: 1 - الجمع بين النصين: إذا تعارض نصان بحسب الظاهر، فيعمل المجتهد للجمع، أي: للتوفيق بين النصين بوجه مقبول شرعًا، قبل الترجيح لأحدهما؛ لأنَّ العمل بالدليلين ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (4/ 76)، تيسير التحرير (3/ 136)، فواتح الرحموت على مسلم الثبوت (2/ 189)، التلويح على التوضيح (2/ 40، 44)، إرشاد الفحول ص 275، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1176)، علم أصول الفقه ص 230؛ منهج التوفيق ص 119. (¬2) فصل ذلك الزركشي فقال: "إن كان بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير، وإن كان في الإباحة كالتحريم فالتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية" وفي ذلك آراء كثيرة سنذكرها في طريقة الجمهور، انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 612)، إرشاد الفحول ص 275، البحر المحيط (6/ 115).

ولو من بعض الوجوه خير من العمل بأحدهما وإهمال الآخر؛ لأن الأصل في الدليلين إعمالهما، وعند الجمع بين الدليلين يزول التعارض الظاهري، وكان هذا بيانًا للمراد من النصين؛ لأنه لا تعارض في الحقيقة بينهما، حتى لو كان أحد الدليلين من السنة، والآخر من الكتاب على الأصح. ويمكن الجمع بين الدليلين والعمل بهما معًا بطرق كثيرة، كأن يكون أحدهما عامًّا والآخر خاصًّا، أو أحدهما مطلقًا والآخر مقيدًا، أو أحدهما حقيقة والآخر مجازًا، وسبق بيان ذلك في الدلالات، وكما سبق كثير من الأمثلة في طريقة الحنفية في الجمع بين النصوص. ويمكن الجمع بين الدليلين والعمل بهما معًا بالتبعيض، وذلك في حالات ثلاث: أ- أن يكون حكم كل من الدليلين المتعارضين قابلًا للتبعيض، فالعمل بهما متعذر، فيعمل بهما من بعض الوجوه، فيكون قد عمل بكل واحد في بعض الحكم، كوضع اليد من اثنين على دار، فتقسم بينهما. ب- أن يكون حكم كل واحد من الدليلين متعددًا، بأن يحتمل أحكامًا كثيرة، فيعمل بالدليلين، بأن يثبت بكل واحد منهما بعض الأحكام، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ لجارِ المسْجد إلا في المسجد" (¬1)، فإنه معارض لتقريره - صلى الله عليه وسلم - لمنْ صلى في غير المسجد مع كونه جارًا (¬2)، فهذان الحديثان يشتملان على أحكام متعددة، فالحديث الأول يحتمل نفي الصحة ونفي الكمال ونفي الفضيلة، والحديث الثاني يحتمل ذلك أيضًا، فيحمل الأول على نفي الكمال، والثاني يحمل على الصحة. جـ- أن يكون حكم كل من الدليلين عامًّا، أي: متعلقًا بأفراد كثيرة، ¬

_ (¬1) هذا حديث ضعيف، وقيل: صح من قول علي رضي اللَّه عنه (أسنى المطالب ص 257). (¬2) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجلين لم يصليا معه: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكم نافلة" وفي ذلك أحاديث أخرى، روأها أبو داود (1/ 136) والنسائي (2/ 85، 86، 87) وأحمد (4/ 161).

2 - الترجيح بين الدليلين

فيجمع بينهما بأن يعمل بهما معًا بتوزيعها على الأفراد، فيتعلق حكم أحدهما بالبعض، ويتعلق حكم الآخر بالبعض الآخر، مثاله الحديث السابق "خيرُ الشهود" مع حديث "يشهدون قبل أن يُسْتشهدوا" ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، مع قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فتحمل الأولى على بعض الأفراد، وهن المتوفى عنهن أزواجهن غير الحاملات، وتحمل الثانية على الحاملات. ومثله قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]، مع قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى آخر آيات المواريث، [النساء: 11 - 12، 176]، فالآية الأولى توجب الوصية للوالدين والأقارب بالمعروف، والآية الثانية توجب للوالدين والأقارب حقًّا من التركة بوصية اللَّه تعالى، لا بوصية المورث، فهما متعارضتات ظاهرًا، ويمكن التوفيق بينهما بالجمع بأن يراد بآية سورة البقرة الوالدان والأقربون الذين منعوا من الإرث بسبب كاختلاف الدين، أو حجبوا باقرب كالإخوة بالأبناء، والجد بالأب، والآية الثانية يراد بها الوالدان والأقربون الوارثون فعلًا. 2 - الترجيح بين الدليلين: إذا تعذر الجمع بين الدليلين فذهب الجمهور إلى العمل لترجيح أحد الدليلين على الآخر بأحد المرجحات التي سنذكرها، أو سبق بيانها عند الحنفية، ويعمل المجتهد بما اقتضاه الدليل الراجح. 3 - النسخ: إذا تعذر الجمع بين الدليلين، أو ترجيح أحدهما، لجأ المجتهد إلى طريقة النسخ، إذا كان مدلولهما قابلًا للنسخ، وعلم تقدم أحدهما، وتأخر الآخر، فيكون المتاخر ناسخًا للمتقدم، كما سبق في مبحث النسخ. 4 - تساقط الدليلين: إذا تعذرت الوجوه السابقة في دفع التعارض من الجمع أو الترجيح أو

الحالة الثانية: التعارض في الأقيسة

النسخ، صار الدليلان متعارضين، فيترك العمل بهما معًا، ويبحث المجتهد عن دليل آخر، وكأن الواقعة لا نص فيها، قال الشيخ عبد الرحمن خلاف رحمه اللَّه تعالى: "وهذه صورة فرضية لا وجود لها" (¬1). الحالة الثانية: التعارض في الأقيسة: اتفق الجمهور مع الحنفية في طريقة دفع التعارض بين الأقيسة المتعارضة، بأن يرجح المجتهد أحد الأقيسة بأحد الترجيحات التي سنذكرها لاحقًا، أو سبقت الإشارة إليها عند الحنفية، كالترجيح بالعلة المنصوصة على العلة المستنبطة بالمناسبة وغيرها (¬2). حالة تعذر دفع التعارض: إذا تعذر دفع التعارض بين الأدلة النصية، أو الأقيسة المتعارضة، ويسمى التعادل في نفس الأمر (¬3)، فقد اختلف الجمهور في بيان الحل للمجتهد الذي عجز عن الترجيح، وتحير، ولم يجد دليلًا آخر، وذلك على عدة آراء، أهمها: الأول: القول بالتخير بأن يختار المجتهد العمل بأحد النصين أو أحد القياسين، والثاني: القول بالتساقط كالبينتين إذا تعارضتا مع طلب الحكم من موضع آخر كالرجوع إلى العموم، أو البراءة الأصلية، والثالث: التفصيل، فإن كان التعارض بين حديثين، تساقطا، ولا يعمل بواحد منهما، أو بين ¬

_ (¬1) علم أصول الفقه، له ص 232. (¬2) المستصفى (2/ 395)، المحصول (5/ 506، 542)، جمع الجوامع والبناني (2/ 310، 361) وما بعدها، نهاية السول (3/ 191)، شرح تنقيح الفصول ص 421، العدة (3/ 1047)، شرح الكوكب المنير (4/ 609)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 197، الإحكام لابن حزم (1/ 151)، البحر المحيط (6/ 111)، علم أصول الفقه ص 230، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1182)، منهج التوفيق والترجيح ص 113، وسائل الإثبات (2/ 808). (¬3) التعادل إما أن يكون في ذهن المجتهد، ويسمى التعادل الذهني، وحكمه الوقف أو التساقط أو الرجوع إلى غيرهما، وإما أن يكون في نفس الأمر، كما هنا (البحر المحيط 6/ 115).

قياسين فيتخير، والرابع: الوقف، كما لو حصل ذلك في التعادل الذهني؛ الخامس: الأخذ بالأغلظ، السادس: بالتوزيع والقسمة، والسابع: التخيير في الواجبات، والتساقط عند تعارض الإباحة أو التحريم مع الرجوع إلى البراءة الأصلية، والثامن: يقلد عالمًا أكبر، والتاسع: يصبح الأمر كالحكم قبل ورود الشرع (¬1)، وسيأتي مزيد من الأمثلة. ¬

_ (¬1) انظر: البحر المحيط (6/ 115)، شرح الكوكب المنير (4/ 612)، المعتمد (2/ 853)، المحصول (5/ 507، 517، 546)، جمع الجوامع والبناني (2/ 359، 362)، الروضة ص 372، البرهان (2/ 1183)، المسودة ص 449، نهاية السول (3/ 183، 194)، المستصفى (2/ 393)، فواتح الرحموت (2/ 189، 193، 195)، تيسير التحرير (3/ 137)، كشف الأسرار (4/ 76)، شرح تنقيح الفصول ص 417، إرشاد الفحول ص 275، قواعد الأحكام (2/ 52).

الفصل الثاني الترجيح بين الأدلة

الفصل الثاني الترجيح بين الأدلة تعريف الترجيح: الترجيح لغة: الثقل والميل والتفضيل والتقوية، يقال: رجح الشيء رجحانًا ورجوحًا ورجاحة: ثقل، ورجحت إحدى الكفتين الأخرى: مالت بالموزون، ورجحه أرجحه: فضّله وقواه، واستعمال الرجحان حقيقة إنما هو في الأعيان الجوهرية، ثم استعمل في المعاني مجازًا (¬1). والترجيح في الاصطلاح: اختلف العلماء في تعريفه نتيجة لاختلافهم في تكييفه، هل هو فعل المجتهد؟ أم أنه وصف قائم بالدليل الراجح؟ أم كلاهما؟ فعرفه الزركشي رحمه اللَّه تعالى بأنه: "تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى بما ليس ظاهرًا" (¬2)، وهذا الحد باعتبار الترجيح من عمل المرجح المجتهد، ومع ذلك أغفل ذكر المجتهد، وأن ترجيح غير المجتهد لا يعتد به عند الأصوليين، والترجيح هو بيان التقوية، أي: بيان القوة الكامنة في الدليل، واقتصر على الأمارة ليحصر الترجيح في الأدلة الظنية دون القطعية، مع أننا رجحنا أن التعارض يقع في الأدلة القطعية والظنية، ويحتاج للترجيح، وقيد الترجيح حالة "ما ليس ظاهرًا" في الأمارة، فإن كانت القوة ظاهرة فلا يحتاج للترجيح، ويخرج من التعريف الأخبار والظواهر لاختصاص اسم الأمارة بالمعاني، لكنها تدخل بالتعريف من حيث الغاية، ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (1/ 329)، الصحاح (1/ 364). (¬2) البحر المحيط (6/ 130)، وتبع في ذلك الرازي في المحصول (5/ 529)، ثم نقل الزركشي تعريف الكيا الهراسي بأن الترجيح هو "إظهار زيادة لأحد المثلين على الآخر وضعًا لا أصلًا" البحر المحيط (6/ 130)؛ لأنه إذا أفردت الزيادة على الوزن لم يقع بها شيء، كما أن البيضاوي حاول تجنب الاعتراضات على التعريفات السابقة فقال: الترجيح: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى ليعمل بها" نهاية السول (3/ 189)، وقال ابن النجار مثل ذلك: "تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى لدليل" شرح الكوكب المنير (4/ 616).

كما أن التعريف لم يبين الغاية من الترجيح، وهو العمل بالراجح. وعرف ابن الحاجب رحمه اللَّه تعالى الترجيح بأنه "اقتران الأمارة بما تقوى به على ما يعارضها" وعرفه الآمدي رحمه اللَّه تعالى بمثل ذلك، وأضاف الغاية من الترجيح "بما يوجب العمل به وإهمال الآخر" (¬1)، فهذا التعريف باعتبار الترجيح وصفًا قائمًا بالدليل الراجح، ولكنه أغفل فعل المجتهد الذي يبيَّن أن الدليل مقترن بما يقويه، فالاقتران وصف للدليل، وحصر الترجيح في الأدلة الظنية. وعرف أكثر الحنفية الترجيح بأنه "إظهار زيادة لأحد المتماثلين على الآخر بما لا يستقل" (¬2)، وهذا التعريف يفيد أن الترجيح من فعل المكلف، وأنه لوصف قائم بالدليل، وأن الترجيح يقع في الأدلة القطعية والظنية، لكنه لم يحدد من يقوم بالإظهار والبيان، وهو المجتهد، أو الشارع نفسه، ولم يذكر ثمرة الترجيح، وهي العمل بالدليل الراجح. وأقترح تعريفًا موجزًا بأنه "بيان المجتهد لقوة أحد الدليلين المتعارضين ليعمل به"، وهذا يبين القائم بالترجيح وهو المجتهد، وأنه يعتمد على وصف قائم بالدليل وهو القوة، ويشمل جميع الأدلة المتعارضة لينسجم مع وقوع التعارض عمليًّا بين جميع الأدلة ليعمل المجتهد ذهنه فيها، ويرجح ويختار، ثم يبين التعريف الغاية من الترجيح، وهي العمل بالراجح (¬3). ¬

_ (¬1) مختصر ابن الحاجب (2/ 309)، الإحكام للآمدي (4/ 239)، وعرف ابن مفلح رحمه اللَّه تعالى الترجيح بنفس تعريف ابن الحاجب (شرح الكوكب المنير 4/ 616) ثم أكد ذلك ابن النجار رحمه اللَّه تعالى، فقال: "فالترجيح فعل المرجح الناظر في الدليل" شرح الكوكب المنير (4/ 618). (¬2) فواتح الرحموت (2/ 204)، أصول السرخسي (2/ 249)، كشف الأسرار (4/ 77)، التلويح على التوضيح (3/ 38)، فتح الغفار (3/ 52). (¬3) انظر في تعريف الترجيح: التعريفات للجرجاني ص 31، جمع الجوامع والبناني (2/ 361)، المعتمد (2/ 844)، البرهان (2/ 1142)، المنخول ص 426، المدخل إلى مذهب أحمد ص 196، إرشاد الفحول ص 273، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1185)، منهج التوفيق والترجيح ص 336، وسائل الإثبات (2/ 809). =

فوائد: صلة الترجيح بالتعارض

فوائد: صلة الترجيح بالتعارض: يظهر من التعريفات السابقة الأمور التالية: 1 - لا يكون الترجيح إلا مع وجود التعارض، فإن انتفى التعارض، انتفى الترجيح؛ لأنه فرعه، ولذلك يقع الترجيح مرتبًا على وجود التعارض، ويتأخر عنه في البحث. 2 - لا يوجد تعارض بالحقيقة في حجج الشرع، ولهذا يتأخر باب التعارض والترجيح إلى آخر الأبواب؛ لأنه احتياطي. 3 - قال أبو بكر الخلال رحمه اللَّه تعالى، وهو من أئمة الحنابلة المتقدمين: "لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان، ليس مع أحدهما ترجيح يُقدم به، فأحدُ المتعارضين باطل، إما لكذب الناقل، أو خطئه بوجه ما من النقليات، أو خطأ في النظريات، أو لبطلان حكمه بالنسخ" (¬1). ولكن هذا الكلام ليس على إطلاقه؛ لأنه يوجد تعارض كثير وصحيح ظاهرًا في الشرع، ويمكن الجمع بينها، كما سبق، وهذا ما أكده إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه اللَّه تعالى فقال: "لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده شيء منه فليأتني به لأؤلف بينهما" وكان من أحسن الناس كلامًا في ذلك (¬2)، ولذلك صنف العلماء كتب مختلف الحديث، للجمع بينها. الوصف الشرعي للترجيح: إن الترجيح واجب على المجتهد؛ لأنه مطلوب منه بيان الأحكام من أدلتها، فإذا تعارض عليه دليلان، فيجب البحث عن الراجح منهما؛ لأن التعارض في الأدلة الشرعية ظاهري، وبحسب ما يتبادر إلى الذهن، وبحسب ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (4/ 617)، وانظر: مختصر الطوفي ص 187، المسودة ص 306، الروضة ص 387، الموافقات (4/ 201)، نهاية السول (3/ 189)، فواتح الرحموت (2/ 189)، المعتمد (2/ 845)، الإحكام لابن حزم (1/ 151)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 197. (¬2) شرح الكوكب المنير (4/ 618).

شروط الترجيح

الظاهر، ولا يوجد تعارض حقيقي، كما سبق، فيعمل المجتهد على اتباع منهج التعارض وطريقته التي سبق بيانها كالجمع، والترجيح، والنسخ، فإن عجز، تساقط الدليلان، وعمل بأحد السبل الذي سبق ذكرها. قال الطوفي رحمه اللَّه تعالى: "وقد عملت الصحابة بالترجيح مجمعين عليه، والترجيح دأَب العقل والشرع حيث احتاجا إليه" (¬1)، وقال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "ويجب تقديم الراجح من الأدلة على المرجوح" (¬2). شروط الترجيح: تكاد أن تكون شروط الترجيح متفقة مع شروط التعارض التي تواجه المجتهد ليعمل على ترجيح أحد الدليلين، مع بعض الشروط الأخرى التي تتوفر أثناء النظر في الترجيح، وكثير من هذه الشروط مختلف فيها بين المذاهب والعلماء، وقد وضعها بعضهم لتتناسب مع تصوره ونظرته للتعارض والترجيح، وأهمها: 1 - التساوي في الثبوت: وذلك بأن يكون الدليلان ثابتين بدرجة واحدة، من حيث القطعية والظنية، كآيتين، فهما متواترتان في الثبوت، وآية وحديث متواتر، ولذلك فلا تعارض بين الكتاب وخبر الآحاد من حيث الثبوت، وإن حصل بينهما تعارض ظاهري من حيث الدلالة. 2 - التساوي في القوة: وذلك بأن يكون الدليلان في قوة واحدة، كالمتواترين، أو خبرين من أخبار الآحاد، ولذلك فلا تعارض بين المتواتر وخبر الآحاد، ويقدم المتواتر باتفاق، ولا تعارض بين حديث صحيح وآخر شاذ أو منكر؛ لأن الحديث الشاذ أو المنكر لا يعتبر معارضًا للحديث الصحيح، حتى ولو تعددت طرق الشاذ أو المنكر، أو كثر رواته مع كونه ضعيفًا. ¬

_ (¬1) مختصر الطوفي ص 186 مع الاختصار والتصرف، وانظر: الإحكام للآمدي (4/ 239)، المستصفى (2/ 394)، كشف الأسرار (4/ 76)، فواتح الرحموت (2/ 204)، شرح الكوكب المنير (4/ 621). (¬2) شرح الكوكب المنير (4/ 627).

3 - الاتفاق في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة

3 - الاتفاق في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة: فإذا اختلف الحكم بحسب الوقت أو المحل أو الجهة، فلا تعارض، ولا ترجيح، فلا تعارض بين النهي عن البيع مثلًا في وقت النداء للجمعة، مع الإذن به في وقت آخر، ولا تعارض بين النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة والترغيب بها في وقت آخر، وكذا النهي عن صيام التطوع للمرأة المتزوجة إلا بإذن زوجها والترغيب به لغير المتزوجة، وهكذا. 4 - عدم إمكان الجمع بين الدليلين: إذا ورد دليلان متعارضان فيشترط للترجيح بينهما عند جمهور الأصوليين عدم إمكان الجمع بينهما؛ لأنه يجب -حسب طريقة الجمهور تقديم الجمع بين الدليلين على الترجيح، كما سبق؛ لأن في الجمع عملًا بكلا الدليلين، وفي الترجيح يعمل بأحدهما ويهمل الآخر، وإعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما وإهمال الآخر، حسب القاعدة الفقهية: "إعمال الكلام خير من إهماله". وقال الحنفية: لا يشترط ذلك، ويجب تقديم الترجيح على الجمع؛ لأن العمل بالراجح أولى عقلًا؛ ولأن الدليل المرجوح يفقد حجيته عند معارضته للدليل الراجح، فلم يبق دليلًا معتبرًا حتى يجمع بينه وبين الدليل الراجح، وهو ما سبق بيانه. 5 - عدم النسخ: يشترط في الترجيح ألا يكون أحد الدليلين ناسخًا للآخر؛ لأنه إذا تحقق النسخ، فلا مجال للترجيح، ويعمل بالناسخ ويترك المنسوخ، وهذا شرط عند بعض العلماء. وقال آخرون: إن التعارض حاصل بين الدليلين، ويطلب من المجتهد البحث عن الترجيح بينهما، فإن تأكد من تاريخ النصين، وسبق أحدهما، وتأخر الآخر، رجح الناسخ على المنسوخ، وزال التعارض. 6 - استقلال المرجح وعدمه: اشترط الحنفية أن يكون المرجح لأحد الدليلين وصفًا قائمًا بالدليل، كأن يكون الراوي أفقه من الآخر، أو تكون دلالة الراجح بالمنطوق والآخر

حكم الترجيح

بالمفهوم، فإن كان المرجح مستقلًا، فلا يرجح به، كحديث آخر، وكثرة الأدلة، أو كثرة الرواة؛ لأن الرجحان في نظر الحنفية وصف للدليل، والمستقل ليس وصفًا له، ولأن المستقل إن كان فوق الدليل المراد ترجيحه، فيؤخذ به فقط، ولا حاجة للترجيح، وإن كان مثله، فلا ترجيح بالعدد. ولم يشترط الجمهور هذا الشرط، وأجازوا الترجيح بالوصف القائم بالدليل، أو بالدليل المستقل؛ لأن المستقل أقوى من غير المستقل، والترجيح بالمستقل فيه كثرة للنظائر، وهذا بحد ذاته يعتبر وصفًا للدليل، ولذلك يجوز الترجيح عند الجمهور بكثرة الأدلة، وكثرة الرواية، وبالقياس مع أحد الدليلين، أو بقربه من القواعد (¬1)، وسيرد المزيد من ذلك مع الأمثلة عند عرض طرق الترجيح. حكم الترجيح: أي: الأثر الذي يترتب على القيام بالترجيح، واتفقت المذاهب الأربعة، وجماهير الأصول أن حكم الترجيح هو العمل بالدليل الراجح (¬2)، وذكر ¬

_ (¬1) المحصول (5/ 540)، نهاية السول (3/ 189)، جمع الجوامع والبناني (2/ 361)، كشف الأسرار (4/ 78)، فواتح الرحموت (2/ 205)، البحر المحيط (6/ 131) وما بعدها، (137)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1185، 1186). (¬2) أنكر بعض الظاهرية العمل بالراجح، وأنه يلزم عند التعارض التخيير، أو التوقف، أو العمل بالمرجوح، لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، فأمر بالاعتبار مطلقًا، ولا وجه لوجوب العمل بالراجح دون المرجوح، فالعمل بالمرجوح ضرب من الاعتبار، وأن الأمر بالحكم بالظاهر، والمرجوح ظاهر فجاز العمل به، والأدلة الراجحة والمرجوحة سواء في وجوب الطاعة والاستعمال؛ لأنها كلها من عند اللَّه، واعترض العلماء على هذه الاستدلالات وأنها باطلة، ونسب هذا القول لأبي عبد اللَّه الحسين البصري المعتزلي، ولكن إمام الحرمين أنكر ذلك وقال: لم أجده في مصنفاته، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: لا يجوز العمل بالمرجح المظنون، وإنما أقبل الترجيح بالمقطوع به، لتقديم الظن على القياس، لا بالأوصاف ولا الأحوال ولا بكثرة الأدلة ونحوها، فلا يجب العمل به، فإن الأصل امتناع العمل بالظن، وردَّ العلماء قوله أيضًا بأدلة كثيرة (انظر آراء الجماهير وأدلتهم والمخالفين والرد عليهم في: الإحكام للآمدي (4/ 239)، المحصول (5/ 529)، المستصفى (2/ 394)، جمع الجوامع والبناني (2/ 361)، نهاية السول (3/ 189)، =

1 - السنة

بعض العلماء الإجماع عليه (¬1)، وقال الشوكاني رحمه اللَّه تعالى: "هذا متفق عليه، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به، ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح" (¬2)، وقال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "ثم اعلم أن العمل بالراجح فيما له مرجح هو قول جماهير العلماء، سواء كان المرجح معلومًا أو مظنونًا، حتى إن المنكرين للقياس عملوا بالترجيح في ظواهر الأخبار" (¬3)، ولهذا جاء في تعريف الترجيح النصُّ على العمل به، وهو الهدف والغاية من الترجيح. واستدل الجمهور على وجوب العمل بالدليل الراجح وترك الموجوع بالسنة والإجماع والمعقول. 1 - السنة: أرسل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيًا السنة العاشرة للهجرة، وسأله: "كيف تقضي إذا عَرَضَ لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب اللَّه تعالى، قال: "فإنْ لم تجدْ في كتاب اللَّه؟ "، قال: فبسنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإنْ لم تجدْ في سنَّة رسول اللَّه، ولا في كتاب اللَّه؟ "، قال: أجتهدُ رأيي، ولا آلُو، أي: لا أقصر" فضرب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صدره، وقال: "الحمد للَّه الذي وفق رسولَ رسولِ اللَّه لما يُرضي اللَّه" (¬4). ¬

_ = فواتح الرحموت (2/ 420) تيسير التحرير (2/ 153)، كشف الأسرار (4/ 76)، العضد على ابن الحاجب (2/ 309)، البرهان (2/ 1140)، شرح تنقيح الأصول ص 420، المسودة ص 309، العدة (3/ 1019)، شرح الكوكب المنير (4/ 619)، مختصر الطوفي ص 186، إرشاد الفحول ص 273، 276، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1186)، منهج التوفيق والترجيح ص 346، المدخل إلى مذهب أحمد ص 197. (¬1) البرهان (2/ 1142)، المستصفى (2/ 394)، المحصول (5/ 529)، فواتح الرحموت (2/ 204). (¬2) إرشاد الفحول ص 276. (¬3) شرح الكوكب المنير (4/ 619)، وقال الرازي: "الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح، وأنكره بعضهم" المحصول (2/ 529). (¬4) هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/ 272) والترمذي (4/ 556) والنسائي (8/ 308) =

2 - الإجماع

2 - الإجماع: أجمع الصحابة ومن بعدهم على وجوب العمل بالدليل الراجح، حتى ولو كان من الأدلة الظنية في وقائع مختلفة، إذا اقترن به ما يتقوى به على معارضه، وستأتي أمثلة كثيرة عند عرض طرق الترجيح بين النصوص. فمن ذلك أن الصحابة رضوان اللَّه عليهم قدَّموا خبر عائشة رضي اللَّه عنها في التقاء الختانين "إذا التقَى الختَانانِ وجبَ الغسلُ، فعلتُه أنا ورسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلنا" (¬1)، على حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الماءُ من الماء" (¬2)، أي: إنما الغسل عند نزول المني، ووجه الترجيح أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بفعله من الرجال، ولكون عائشة أعرف بذلك منهم. ولذلك قدم الصحابة خبر عائشة رضي اللَّه عنها: "أنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصبحُ جُنُبًا وهو صائم" (¬3)، على حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أصبحَ جُنُبًا فلا صومَ له" (¬4)؛ لأن عائشة أعرف بحال النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك أن أبا بكر رضي اللَّه عنه قبل خبر المغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنه في ميراث الجدة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس (¬5)، ورجحه على قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنها بمنزلة الأم فتقوم مقامها، كالجد يقوم مقام الأب. ¬

_ = وسبق بيانه مرارًا. (¬1) هذا الحديث رواه مسلم (4/ 40) وعنون به البخاري (1/ 110) رواه الشافعي (بدائع المنن 1/ 36) والترمذي (1/ 362) والبيهقي (1/ 163). (¬2) هذا الحديث رواه مسلم (4/ 36) والبيهقي بلفظ "الماء من الماء" (1/ 165). (¬3) هذا الحديث رواه البخاري (2/ 679) ومسلم (7/ 220) ورواه البخاري ومسلم أيضًا من رواية أم سلمة رضي اللَّه عنها، ورواه أحمد بلفظ: "كان يصبح جنبًا ثم يصوم" (6/ 34، 36، 38). (¬4) هذا الحديث رواه أحمد (2/ 248، 286، 314). (¬5) هذا الحديث أخرجه أبو داود (2/ 109) والترمذي وصححه (6/ 277) وابن ماجه (2/ 909) ومالك (الموطأ ص 317) وأحمد (5/ 327) والبيهقي (6/ 384) والدارمي (2/ 815).

3 - المعقول

ومن ذلك أن عمر رضي اللَّه عنه عمل بخبر أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه في الاستئذان عندما وافقه أبو سعيد الخدري رضي اللَّه عنه وقوّى روايته (¬1). وكان علي رضي اللَّه عنه يقوّي خبر أبي بكر رضي اللَّه عنه ويعمل به، ولم يحلفه، مع أنه حلَّف غيره لقبول خبره. والأمثلة على ذلك كثيرة، وأن الصحابة كانوا في اجتهاداتهم يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما. 3 - المعقول: إن العقل يوجب العمل بالراجح في الحوادث والأخبار والأدلة، وإذا لم يُعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح، وهو ترجيح للمرجوح على الراجح، وذلك ممتنع عقلًا، وإن العمل بالراجح متعين عرفًا، وتتقبله النفوس، فيجب العمل به شرعًا؛ لأن الأصل تنزيل الأمور الشرعية منزلة التصرفات العقلية، لكونها أسرع للقبول والتسليم والانقياد، لما ورد في الأثر: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن" (¬2)، وهذا ما تتقبله الطباع السليمة. فإذا ظهر الترجيح لأحد الدليلين، أو لإحدى البينات، كان العمل بالراجح هو الواجب، قال الطوفي رحمه اللَّه تعالى: "لأن العمل بالأرجح متعين عقلًا وشرعًا، وقد عملت الصحابة بالترجيح مجمعين عليه، والترجيح دأب العقل والشرع، حيث احتاجا له" (¬3). ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه البخاري (5/ 2305) ومسلم (14/ 130) بلفظ "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع". (¬2) هذا الحديث موقوف على ابن مسعود رضي اللَّه عنه، رواه أحمد (1/ 379) وسبق بيانه. (¬3) مختصر الطوفي (ص 186) مع الاختصار والتصرف، وانظر: الإحكام، للآمدي (4/ 239)، المستصفى (2/ 394)، كشف الأسرار (4/ 76)، فواتح الرحموت (2/ 204)، شرح الكوكب المنير (4/ 619، 621)، إرشاد الفحول ص 274، علم أصول الفقه ص 230، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1186)، منهج التوفيق والترجيح ص 347.

وهذا ما يجري عليه العمل في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والعلمية والتشريعية والقضائية والسياسية وغيرها.

الفصل الثالث طرق الترجيح

الفصل الثالث طرق الترجيح رأينا أنه كثيرًا ما يقع التعارض -ظاهرًا- بين الأدلة، وأنه يجب على المجتهد أن يرفع هذا التعارض، ويعمل على إزالته، ثم يجب عليه وعلى الكافة العمل بالراجح. ولكن الترجيح لا يكون حسب الهوى، أو بدون علم واجتهاد، لذلك بيَّن العلماء طرق الترجيح، وهي الوسائل التي يستعملها المجتهد عمليًّا لإزالة الترجيح. وإن كثيرًا من طرق الترجيح متفق عليها بين علماء الأصول وعلماء الفقه، وعلماء السُّنة في الترجيح بين مختلف الحديث، ولكنهم يختلفون في ترتيبها، أو وصفها. وإن طرق الترجيح لا تدخل تحت الحصر؛ لأنها تابعة لبحث المجتهد، وحالة التعارض، والعوامل المحيطة بالتعارض والترجيح معًا. ولسهولة الضبط والدراسة والتنظيم فإننا نقسم طرق الترجيح إلى ثلاثة أقسام، وهي: الترجيح بين النُّصوص، والترجيح بين الأقيسة، والترجيح بين نصّ وقياس. قال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "ويكون الترجيح بين دليلين منقولين كنصّين، وبين معقولين كقياسين، وبين منقول ومعقول، كنصّ وقياس، فهذه ثلاثة أقسام" (¬1). القسم الأول: الترجيح بين النصوص: المراد من النصوص هي النصوص الشرعية، وهي القرآن والسنة، وقد ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (4/ 627)، وانظر: المستصفى (2/ 397)، البرهان (2/ 1162، 1184)، المحصول (5/ 535)، فواتح الرحموت (2/ 208)، تيسير التحرير (3/ 169)، كشف الأسرار (4/ 79)، التلويح على التوضيح (3/ 61)، ابن الحاجب والعضد (2/ 310)، شرح تنقيح الفصول ص 423، نهاية السول (3/ 203)، المسودة ص 305، الروضة ص 387، مختصر البعلي ص 169، العدة (3/ 1019)، مختصر الطوفي ص 188، إرشاد الفحول ص 275، المدخل إلى مذهب أحمد ص 198، جمع الجوامع والبناني (2/ 365)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1188)، وسائل الإثبات (2/ 810)، منهج التوفيق والترجيح ص 331، 354، علم أصول الفقه ص 231. =

يقع التعارض الظاهري قليلًا بين نصوص القرآن الكريم في آيتين مثلًا، ويتم الجمع حصرًا بينهما عن طريق الدلالات في العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والحقيقة والمجاز، والناسخ والمنسوخ، وسبق بيان ذلك تفصيلًا في باب الدلالات، أو دلالات الألفاظ، أو تفسير النصوص، وسنشير إليها فيما بعد. وتستخدم هذه الطريقة في التعارض الظاهري بين الأحاديث، ويتم الجمع بينها بالطرق السابقة، ويضاف لها طرق الترجيح الخاص بالأخبار أو الروايات. وطرق الترجيح بين الأخبار أو الروايات قد يكون باعتبار السند، وقد يكون باعتبار المتن، وقد يكون باعتبار مدلول اللفظ وهو الحكم، وقد يكون باعتبار أمر خارج (¬1)، فهذه أربعة أنواع (¬2). ¬

_ (¬1) بيَّن ابن النجار رحمه اللَّه تعالى باختصار شديد أساس الترجيح في السند، فقال: "أما وقوعه في السند فلكونه طريق ثبوته، وأما وقوعه في المتن فباعتبار مرتبة دلالته، وأما وقوعه في مدلول اللفظ وأمر خارج فلما يترتب على اللفظ، وما ينضم إليه من أمر خارج من أحد الأحكام الخمسة المدلول عليها بها شرح الكوكب المنير (4/ 624). (¬2) صنف الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى كتابًا في "اختلاف الحديث" وهو أول كتاب من نوعه، وبيّن فيه عدم وجود اختلاف حقيقي بين الأحاديث، وعرض ما ظاهره الاختلاف وجمع بينها، ثم عرض في كتابه الرسالة نماذج كثيرة منها، وكشف الغطاء عن ذلك فقال: "ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول القول عامًّا يُريد به العام، وعامًّا يريد به الخاص، ويُسأل عن الشيء فيجيب على قدر المسألة، ويؤدي عنه المخبر الخبر مبعّضًا، والخبر مختصرًا، والخبر يأتي ببعض معناه دون بعض، ويحدّث الرجل عنه الحديث قد أدرك جوابه، ولم يدرك المسألة على حقيقة الجواب لمعرفة السبب الذي يخرج عليه الجواب، ويَسنّ في الشيء سنة وفيما يخالفه أخرى، فلا يخلص بعض السامعين من اختلاف الحالتين اللتين سنَّ فيهما، ويسن سنة في نص معناه، فيحفظهما حافظ آخر في معنى، يخالفه في معنى، ويجامعه في معنى سنه غيرها لاختلاف الحالين، فيحفظ غيره تلك السنة، فإذا أدى كل ما حفظ رآه بعض السامعين اختلافًا، وليس فيه شيء، ويسن بلفظ، مخرجه عام، جملة بتحريم شيء أو تحليله، وليس في غيره خلاف الجملة، فيستدل على أنه لم يُرد بما حرم ما أحل، ولا بما أحل ما حرّم" ثم قال: "ولم نجد عنه شيئًا مختلفًا فكشفناه إلا وجدنا له وجهًا يحتمل به ألا يكون مختلفًا، وأن يكون داخلًا في الوجوه التي وصفت" ثم قال: "ولم نجد مختلفين إلا ولهما مخرج، أو على =

النوع الأول: الترجيح باعتبار السند

النوع الأول: الترجيح باعتبار السند: السند هو الطريق الذي وصل به الحديث الشريف إلى الأمة بالإخبار عن المتن وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره وصفته. ويقع الترجيح باعتبار السند بوجوه كثيرة، وضابطها ما كان أكثر إفادة للظن فهو الراجح، ويكون ذلك بأربعة أشياء: الراوي، والرواية، والمروي، والمروي عنه. أولًا: ترجيح السند باعتبار الراوي: إن الترجيح باعتبار الراوي له طرق عديدة، يفصلها علماء الحديث والمصطلح، وعلماء الأصول والفقه، نعرضها باختصار شديد. 1 - الترجيح لعدالة الراوي المتفق عليها: إذا ورد حديثان صحيحان متعارضان، وكان راوي أحدهما متفقًا على عدالته، والآخر مختلفًا في عدالته، فيرجح الحديث الذي اتفق على عدالة راويه على الحديث الآخر. 2 - الترجيح بكثرة الرواة: يرجح الحديث الذي رواته أكثر على ما رواته أقل؛ لقوة الظن به عند الجمهور، خلافًا للحنفية الذين لا يرجحون بكثرة الرواة ما لم تصل حد الشهرة، واستدلوا بأدلة غير مقنعة حتى قال كثير من محققي الحنفية، ومنهم صاحب مسلم الثبوت الحنفي: "ولا يخفى على الفطن ضعف هذه الوجوه" (¬1)، وذلك لأن العدد الكثير أبعد عن الخطأ من العدد القليل، وفي ذلك أدلة شرعية، ¬

_ = أحدهما دلالة إما موافقة كتاب اللَّه أو غيره من السنة أو بعض الدلائل" وقال ابن خزيمة رحمه اللَّه تعالى: "لا أعرف أنه روي عن الرسول حديثان بإسنادين صحيحين متضادين، ومن كان عنده فليأت به حتى أؤلف بينهما" انظر: البحر المحيط (6/ 148، 149)، الرسالة ص 55، 63، 270، ط دار النفائس. (¬1) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (2/ 210)، وانظر: فتح الغفار بشرح المنار (3/ 53)، تيسير التحرير (3/ 169)، التلويح على التوضيح (3/ 61)، كشف الظنون (4/ 79).

3 - الترجيح بوصف في الراوي

وعملية (¬1). 3 - الترجيح بوصف في الراوي: إذا كان أحد الراويين راجحًا على الآخر في وصف يغلب على الظن صدقه فيرجح، كالأزيد ثقة، أو فطنة، أو ورعًا، أو علمًا، أو ضبطًا، أو لغة، أو نحوًا، أو غير ذلك، فإن تساويا في الوصف، فيرجح الأشهر بأحد الأوصاف المذكورة، ولا ترجح رواية الذكر على رواية الأنثى عند الجماهير. 4 - الترجيح لقرينة في الراوي: إذا اقترن مع الراوي قرينة تؤكد روايته، فيرجح على غيره، كالأحسن سياقًا، واعتماد الراوي على حفظه دون الكتابة، وعمل الراوي بروايته، والمباشرة لما رواه من فعل، وصاحب القصة، أو قلة الوسائط وهو علو الإسناد، أو المشافه بالرواية، أو الأقرب عند سماعها، أو كان من أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين والأقرب فالأقرب، ورواية متقدم الإسلام على متأخره في قول، وفي قول عكسه، والأكثر صحبة، ومشهور النسب، ومن سمع بالغًا، وكثرة المزكين في قول (¬2). ثانيًا: ترجيح السند باعتبار الرواية: أي: الترجيح بنفس الرواية، أي: بطبيعة الرواية، وذلك من عدة وجوه: 1 - يُرجح الحديث المتواتر في سنده وروايته على الحديث المشهور (عند الحنفية)، ويقدم المتواتر والمشهور على خبر الآحاد؛ لأن المتواتر يفيد اليقين، ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (4/ 628)، وما بعدها، المستصفى (2/ 397)، الإحكام للآمدي (4/ 242)، البرهان (2/ 1162)، نهاية السول (3/ 202)، المحصول (5/ 535، 553)، العضد على ابن الحاجب (2/ 310)، البحر المحيط (6/ 150)، المسودة ص 305، الروضة ص 387، مختصر البعلي ص 169، العدة (3/ 1019)، مختصر الطوفي ص 187، المحلي على جمع الجوامع (2/ 361)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 197، إرشاد الفحول ص 276، وسائل الإثبات (2/ 811)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1188)، منهج التوفيق والترجيح ص 354. (¬2) المراجع السابقة.

والمشهور قريب منه (عند الحنفية)، أما حديث الآحاد فيفيد الظن. 2 - يرجح الحديث المسند على الحديث المرسل عند جماهير العلماء؛ لأن فيه مزيّة الإسناد لتحقق المعرفة برواته، أما المرسل فقد يكون في روايته مجهول، وهو مختلف في حجيته، أما المسند فمتفق على حجيته. 3 - ويرجح مرسل التابعي على مرسل غيره؛ لأن الظاهر أن التابعي رواه عن صحابي، والصحابة كلهم عدول. 4 - يرجح الحديث المسند الأعلى إسنادًا (كما سبق في القربنة) لقلة عدد الطبقات إلى منتهاه، ويُرجح الحديث المسند بالعنعنة على المسند إلى كتاب أحد المحدثين، ويُرجح الحديث المسند إلى أحد كتب المحدثين على الحديث الثابت بكتاب مشهور وبدون سند. 5 - يرجح الحديث المسند إلى الصحاح على غيره، كصحيح البخاري ثم صحيح مسلم، على كتب السنن والمسانيد وكتب الصحاح الأخرى. 6 - ويرجح ما صُحّح من الكتب على ما لم يصحح. 7 - يرجح الحديث المرفوع المتصل على الموقوف والمقطوع. 8 - يرجح المتفق على رفعه ووصله على الحديث المختلف فيه. 9 - ترجح الرواية التي تتفق ألفاظها ومعناها، على رواية مختلفة أو مضطربة، وهكذا، والأمثلة كثيرة في كتب السنة والحديث وأصول الفقه (¬1). ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (4/ 247، 248)، المحصول (5/ 553)، فواتح الرحموت (2/ 207)، تيسير التحرير (3/ 163)، مختصر ابن الحاجب (2/ 311)، المسودة ص 310، شرح الكوكب المنير (4/ 648)، الروضة ص 390، مجموع الفتاوى (13/ 116)، مختصر الطوفي ص 187، مختصر البعلي ص 170، البحر المحيط (6/ 157)، نهاية السول (3/ 203) وما بعدها، شرح تنقيح الفصول ص 423، إرشاد الفحول ص 178، المدخل إلى مذهب أحمد ص 197، شرح النووي على صحيح مسلم (1/ 20)، مقدمة ابن الصلاح ص 14، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1190)، منهج التوفيق والترجيح ص 398.

ثالثا: الترجيح باعتبار المروي وكيفية الرواية

ثالثًا: الترجيح باعتبار المروي وكيفية الرواية: وذلك من وجوه، أهمها: 1 - يرجح الحديث المسموع من النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنقول من كتاب؛ لأن السماع فيه دقة، ويبعد عن احتمال التصحيف والغلط، وكذا يرجح الحديث المسموع على المحتمل سماعه أو عدم سماعه. 2 - يرجح الحديث المسموع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله، على المروي من صحابي حاكيًا عما جرى في مجلسه أو زمانه أو سكت عنه، فيرجح قوله - صلى الله عليه وسلم - على فعله، وفعله على تقريره. 3 - يرجح الحديث المؤدى بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على المروي بمعناه، وكذلك يرجح الخبر الذي اتفقت رواته على أنه من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. 4 - يرجح حديث الآحاد -عند الحنفية والحنابلة- الذي لا تعم به البلوى على حديث آحاد آخر تعم به البلوى؛ لتوفر الدواعي على نقله ولم ينقله إلا آحاد. 5 - يرجح الخبر الذي حكى الراوي سبب وروده عدى ما لم يحكه؛ لزيادة الاهتمام من الحاكي. 6 - يرجح الخبر الذي أسند بلفظ حدثنا أو أخبرنا على من أسنده بلفظ أنبأنا، وقيل: يرجح لفظ حدثنا على لفظ أخبرنا. 7 - يرجح الحديث المتفق على رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المختلف في رفعه، وعلى المتفق على وقفه (¬1). ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 395)، الإحكام للآمدي (4/ 248)، المحصول (2/ 563)، تيسير التحرير (3/ 148، 165)، فواتح الرحموت (2/ 202)، المعتمد (1/ 390)، الإحكام لابن حزم (1/ 171، 432)، مختصر ابن الحاجب (2/ 311)، شرح تنقيح الفصول ص 422، التلويح على التوضيح (3/ 52)، شرح الكوكب المنير (4/ 653)، البحر المحيط (6/ 159)، المسودة ص 309، العدة (3/ 1029)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 199، إرشاد الفحول ص 279، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1191)، منهج التوفيق والترجيح ص 428.

رابعا: الترجيح باعتبار المروي عنه

رابعًا: الترجيح باعتبار المروي عنه: وفيه وجوه، منها: 1 - يرجح الخبر الذي لم يتردد فيه الأصل في رواية الفرع، على الرواية التي يتردد الأصل في رواية الفرع عنه، وكذا كل خبر لم يقع فيه إنكار لرواية المروي عنه الحديث على الخبر الذي وقع فيه إنكار. 2 - يرجح الخبر الذي وقع فيه إنكار من الأصل على الفرع إنكار نسيان، على ما فيه إنكار تكذيب وجحود. 3 - يرجح الخبر الذي سمعه الراوي شفاهًا من المروي عنه، عن الخبر الذي سمعه من وراء حجاب، فالمشافهة تقدم على رواية الآخر. 4 - يرجح الحديث الذي يرويه الراوي عن حفظه وكتابه، عما يرويه عن أحدهما. 5 - يرجح الحديث الذي رواه بسماعه من لفظ الشيخ، على الحديث المسموع بالقراءة على الشيخ. 6 - يرجح الحديث الذي يرويه بالسماع على ما يرويه بالإجازة (¬1). قال عضد الدين: "الترجيح بحسب المروي عنه: هو ألا يثبت إنكارُه لروايته على ما ثبت إنكاره لروايته، وهذا يحتمل وجهين: ما لم يقع لراويه إنكار له، وما لم يقع للناس إنكار لروايته" (¬2). النوع الثاني: الترجيح باعتبار المتن: المراد من المتن هو اللفظ الثابت بالنصوص، وهي الكتاب والسنة، ويلحق بها الإجماع، ويشمل ذلك الترجيح بحسب اللفظ، وهو المراد هنا، ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (4/ 249)، المحصول (2/ 564)، فواتح الرحموت (2/ 206)، تيسير التحرير (3/ 161، 165)، التلويح على التوضيح (3/ 53)، جمع الجوامع والبناني (2/ 365)، العضد على ابن الحاجب (2/ 312)، شرح الكوكب المنير (4/ 657)، إرشاد الفحول ص 278، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1191). (¬2) العضد على ابن الحاجب (2/ 312).

والترجيح بحسب المدلول والحكم، وهو النوع الثالث. وإن وجوه الترجيح باعتبار لفظ المتن كثيرة، كالأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، وغيرها. ونذكر أهمها: 1 - يرجح اللفظ الفصيح على الركيك إن قبل، وقيل: يرجح الأفصح على الفصيح، والصحيح أنه لا يرجح؛ لأن البليغ يتكلم بهما. 2 - يرجح النهي على الأمر؛ لشدة إلطلب في النهي واقتضائه للدوام؛ ولأن دفع المفاسد في النهي، مقدم على جلب المصالح بالأمر. 3 - يرجح الخبر الذي فيه أمر على الخبر الذي فيه مبيح؛ لاحتمال الضرر بتقديم المبيح، فيؤخذ بالاحتياط، ولأن العامل بالأمر عامل بالمبيح أيضًا ضمنًا، ولا عكس. 4 - تُرجح الحقيقة على المجاز؛ لأنها الأصل، وعدم حاجتها لقرينة، وهي التي تتبادر للذهن، ولذلك قالوا: الأصل في الكلام الحقيقة. 5 - يرجح اللفظ الخاص على اللفظ العام، فالخاص يقضي على العام، والخاص أقوى في الدلالة، وأخص بالمطلوب، وأقرب إلى التعيين، وذلك إذا كان العموم والخصوص مطلقًا، فإن كان وجهيًا، ووجد ما يرجح أحدهما على الآخر بأمر خارج عنهما، عُمل بخصوصه، وإن لم يوجد، كان المجتهد مخيرًا بالعمل بأيهما شاء عند الشافعية، أو بما تطمئن به نفسه عند الحنفية، ولا يعمل بالخاص منهما؛ لأن الخصوص ثابت لكل منهما، فهو عام من وجه، خاص من وجه آخر، فلا يعمل بأحدهما دون الآخر؛ لما في ذلك من التحكم، وهو العمل بدون دليل. 6 - يُقدّم العام الذي لم يُخصص على العام الذي خُصّ؛ لأن دخول التخصيص يضعف اللفظ ويصير به مجازًا. 7 - يتقدم العام المطلق على العام الوارد على سبب؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، والثاني يوهنه ويحطه عن رتبة العموم المطلق. 8 - الجمع المعرف يقدم على الجمع المنكر؛ لأن الأول لا يدخله

النوع الثالث: الترجيح بحسب المدلول أو الحكم

الإبهام، بخلاف الثاني. 9 - اللفظ المشتمل على الحقيقة الشرعية أو العرفية يقدم على المشتمل على الحقيقة اللغوية التي صار لها حكم شرعي. 10 - يُرجح القول على الفعل؛ لأن القول أبلغ في البيان من الفعل. 11 - يُرجح اللفظ المقرون بالتأكيد كالتكرار على الآخر الذي لم يؤكد؛ لأن التأكيد يبعد احتمال المجاز والتأويل، وهكذا، ويرجح مجاز على مجاز آخر لأسباب، وغير ذلك (¬1). النوع الثالث: الترجيح بحسب المدلول أو الحكم: إن الترجيح بين النصوص المنقولة يتم بحسب ما دلّ عليه اللفظ من الأحكام الخمسة، وهي: الإباحة، والكراهة، والتحريم، والندب، والوجوب، ويتم الترجيح في ذلك بوجوه عدة، أهمها: 1 - يُرجح الحظر على الإباحة والكراهة والمندوب والوجوب، عند جماهير العلماء (¬2)؛ لأن فعل المحظور يستلزم مفسدة، بخلاف غيرها، فالإباحة لا يتعلق بفعلها ولا بتركها مصلحة ولا مفسدة، وفي الكراهة كذلك؛ لتغليب الحرام على الحلال؛ لأنه أحوط، ولأن الندب لتحصيل مصلحة، والحظر لدفع مفسدة، ودفع المفسدة أهم من تحصيل المصلحة في نظر العقلاء، ويرجح الحظر على الوجوب (¬3)؛ لأن إفضاء الحرمة إلى ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (4/ 250)، جمع الجوامع (2/ 368)، مختصر ابن الحاجب (2/ 312)، البحر المحيط (6/ 165)، شرح الكوكب المنير (4/ 659)، مختصر البعلي ص 170، نهاية السول (1/ 369)، فواتح الرحموت (2/ 205)، تيسير التحرير (3/ 157)، المحصول (5/ 574)، إرشاد الفحول ص 278، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1192)، منهج التوفيق والترجيح ص 429. (¬2) هناك أقوال أخرى بتقديم المبيح على المحرم؛ لأنه تقوى بالأصل وهو الإباحة، وفي قول: يستويان ويسقطان. (¬3) قال الرازي والإسنوي: يتعارض الحظر والوجوب، ولا يعمل بأحدهما إلا بمرجح، لكن جزم الآمدي وابن الحاجب بترجيح الحظر، المراجع الآتية.

مقصودها أتم لحصوله بالترك، وللاعتناء بدفع المفاسد، ولأن الاحتياط في ترك الفعل عند الحظر يوجب الأخذ بالتحريم. 2 - يرجح الإثبات على النفي عند الشافعية والحنابلة وجمهور الفقهاء؛ لأن معه زيادة علم، وقال بعض العلماء: يقدم النفي على الإثبات لاعتضاد النافي بالأصل، وأيده الآمدي، وقيل: هما سواء، فيتعارضان، ويطلب الترجيح من وجه آخر. 3 - يُرجح الخبر النافي للحد والعقاب على الموجب لهما؛ لأن العقاب ضرر، والضرر منفي في الإسلام، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات. 4 - الحكم المثبت للحكم الوضعي أولى من الحكم المثبت للحكم التكليفي؛ لأن الوضعي لا يتوقف على أهلية المخاطب وفهمه وتمكّنه، وقال آخرون: يقدم الحكم التكليفي على الوضعي؛ لأن التكليفي أكثر مثوبة، وهي مقصودة للشارع. 5 - الحكم الأخف يرجح على الحكم الأثقل، لأن الشريعة قائمة على التخفيف بنصوص كثيرة، وقيل: يقدم الأثقل؛ لأنه أشقّ وأكثر ثوابًا. وهناك ترجيحات كثيرة تتعلق بالمدلول والحكم، كالخبر المثبت للطلاق مقدم على النافي له؛ لأن الأصل عدم التغيير، والخبر الذي يوجب حكمين أولى من الخبر الذي يوجب حكمًا واحدًا؛ لاشتمال الأول على زيادة علم ينفيها الثاني (¬1). ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (4/ 259)، المعتمد (2/ 848)، المحصول (5/ 587)، جمع الجوامع والبناني (2/ 367)، تيسير التحرير (3/ 144)، فواتح الرحموت (2/ 206)، مختصر ابن الحاجب (2/ 315)، البحر المحيط (6/ 169)، شرح الكوكب المنير (4/ 679)، مجموع الفتاوى (20/ 262)، المسودة ص 312، العدة (30/ 1041)، الروضة ص 391، نهاية السول (3/ 216)، التلويح على التوضيح (3/ 46، 52)، مختصر الطوفي ص 188، إرشاد الفحول ص 279، 283، شرح تنقيح الفصول ص 418، المدخل إلى مذهب أحمد ص 199، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1194)، منهج التوفيق والترجيح ص 458، علم أصول الفقه ص 232.

النوع الرابع: الترجيح بين النصوص بأمر خارج

النوع الرابع: الترجيح بين النصوص بأمر خارج: وهو الترجيح بين الدليلين بدليل آخر خارج عنهما، أي: لا يتعلق بالسند ولا بالمتن، وإنما بوجود دليل آخر خارج عن الدليلين المتعارضين، وفيه وجوه كثيرة، أهمها: 1 - يرجح أحد الدليلين بموافقة دليل آخر له من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس، أو عقل، أو حسّ؛ لأنه يفيد ظنًّا أقوى من معارضه الذي لم يوافقه دليل آخر، فيعمل بالأقوى لكونه أقرب إلى القطع، وهذا ما يعمله العقلاء، ويجري عليه العرف، ولأن في مخالفة الدليلين محذورًا أكثر من مخالفة الدليل الواحد، وهذا عند الجمهور. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما اللَّه تعالى: لا يُرجح بذلك، وإنما يتساقط الدليلان، ويترك العمل بهما، فلا ترجيح عندهم بكثرة الأدلة، قياسًا على عدم الترجيح عندهم في الشهادة بكثرة العدد، ولأنه يؤدي إلى ترجيح القياس على الخبر عند تعارضهما؛ لأن القياس يوافقه قياس آخر. وردَّ الجمهور عليهم هذا الرأي والاستدلال بوجود القول في ترجيح الشهادة بكثرة العدد عند بعض الفقهاء، وأن القياس المخالف للخبر ليس دليلًا أصلًا؛ لأن من شروط صحة القياس عدم معارضته للنص، والراجح قول الجمهور؛ لحصول القوة بالدليل الآخر، وهو ما يفعله الحنفية في فروعهم. 2 - يرجح الدليل الذي عمل به الخلفاء الراشدون، أو أهل المدينة، وإن لم يكن عمل أهل المدينة حجة عند الجمهور، ولكنه يُقوى به؛ لأن الظاهر بقاؤهم على ما كان في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وللحث على اتباع الخلفاء الراشدين رضي اللَّه عنهم، ولأن الظاهر أنهم لم يتركوا النص الآخر إلا لحجة عندهم. 3 - يرجح الدليل الذي عمل به أكثر السلف؛ لأن الأكثر يُوفق للصواب ما لا يوفق له الأقل، وكذلك إذا عمل بالدليل بعض الأمة، فيرجح؛ لأنه يكون أغلب على الظن قبوله. 4 - يرجح الدليل الذي ذكر فيه الحكم الشرعي معلّلًا بعلة على الحكم

المذكور بدون علة؛ لأن الأول أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع، والنفس له أقبل بسبب تعقل المعنى، وكذا إذا علّل حكمان، وكانت علة أحدهما أرجح، فيرجح على الثاني، كما سيأتي في الأقيسة. 5 - يرجح الدليل الموافق للقياس على الدليل المخالف للقياس، والمراد بالقياس هنا القواعد العامة والمبادئ المستقرة في الشرع، فيكون الدليل المعقول المعنى أغلب شرعًا، فالإلحاق بالغالب أولى من الإلحاق بالنادر. 6 - يقدم الدليل الذي يكون أقرب للاحتياط وبراءة الذمة؛ لأنه يتفق مع تحصيل المصالح ودفع المضار. 7 - يرجح الدليل الذي يكون تأويله أرجح من الدليل الذي يكون تأويله أقل؛ لأن في الأول مزية بذلك. 8 - يُرجح الدليل الذي فسّره الراوي بفعله أو قوله على الدليل الذي لم يفسره راويه؛ لأن تفسير الأول يفيد ظنًّا أوثق؛ لأنه أعرف بما رواه، كحديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما في حديث خيار المجلس: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬1)، فيبن ابن عمر أن المراد بالتفرق بالأبدان (¬2)، فاشتمل على فائدة زائدة. 9 - يرجح الخبر الذي ذكر الراوي سببه على الخبر الذي لم يبين راويه سببه؛ لأن ذكر السبب يدل على زيادة اهتمام الراوي بروايته. 10 - يرجح الخبر المؤرخ بتاريخ مضيّق، كأول شهر كذا من سنة كذا على الخبر المؤرخ بتاريخ موسّع؛ لأن الأول يدل على زيادة اهتمام راويه به، وأن الثاني يحتمل كونه قبل الشهر المذكور في المضيق أو بعده، فيقدم ذو التاريخ المضيّق. ¬

_ (¬1) هذا الحديث رواه البخاري (2/ 732، 743) ومسلم (10/ 173) والترمذي (4/ 448). (¬2) قال الترمذي رحمه اللَّه تعالى: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق ... ، وقال بعض أهل العلم ... الفرقة بالكلام، والقول الأول أصح؛ لأن ابن عمر هو الراوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعلم بمعنى ما روى عنه" جامع الترمذي مع تحفة الأحوذي (4/ 450).

القسم الثاني: الترجيح بين الأقيسة

11 - يرجح الدليل الذي قصد به بيان الحكم المختلف فيه على الآخر؛ لأن الأول يكون أمس بالمقصود، أو أقرب إليه، مثل قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، وقوله تعالى: {إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فالأولى تحرم الجمع بين الأختين في الوطء بعقد النكاح وبملك اليمين، والثانية أفادت عموم الوطء بملك اليمين، فالأولى قصد بها تحريم الجمع بين الأختين، والثانية لم يقصد بها بيان الجمع (¬1). القسم الثاني: الترجيح بين الأقيسة: وهي الأدلة المعقولة سواء كانت أقيسة أو استدلالات، ويكون الترجيح من وجوه كثيرة، وتصنف إلى أربعة، وهي الترجيح من جهة الأصل، والترجيح من جهة الفرع، والترجيح بحسب العلة، والترجيح من جهة أمر خارج. أولًا: الترجيح من جهة الأصل: المراد من الأصل هو الحكم المنصوص عليه، ويقاس عليه غيره، فإذا وجد قياسان، فينظر إلى الأصل المقيس عليه، فإن وجد فيه ما يرجّحه بكون دليل أصله أقوى، ترجح على القياس الثاني، وذلك أنواع كثيرة، أهمها: 1 - حكم الأصل قطعي: فإنه يرجح على القياس الذي يكون حكم أصله ظنيًّا؛ لأن القطعي لا يتطرق إليه الخلل، فيقدم على الظني، مثل لعان الأخرس، فيقاس على يمينه أو على شهادته، والأرجح قياسه على اليمين التي تصح من الأخرس بالإجماع، وأما شهادته ففيها خلاف بين الفقهاء ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (4/ 264)، البرهان (2/ 1178)، جمع الجوامع والبناني (2/ 370)، نهاية السول (3/ 212)، تيسير التحرير (3/ 166)، أصول السرخسي (3/ 212)، المحصول (5/ 541)، المستصفى (2/ 396)، فواتح الرحموت (2/ 206)، المسودة ص 311، الروضة ص 390، العدة (3/ 1046)، مختصر البعلي ص 171، شرح الكوكب المنير (4/ 695)، البحر المحيط (6/ 175)، إرشاد الفحول ص 279، المدخل إلى مذهب أحمد ص 199، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1199)، منهج التوفيق والترجيح ص 528. =

ثانيا: الترجيح من جهة الفرع

فيجيزها المالكية، ويمنعها الجمهور. 2 - قوة دليل الأصل: يرجح القياس الذي يكون دليله أقوى؛ لأن صحته أغلب في الظن. 3 - ثبوت العلة بالإجماع أو بالنص: قال أكثر العلماء: يرجح ما ثبتت عليته بالإجماع على ما ثبتت عليته بالنص، لقبول النص للتأويل والتخصيص والنسخ بخلاف الإجماع، وقال بعضهم بالعكس؛ لأن الإجماع فرع عن النص؛ لأنه ثبت به واعتمد عليه، والأصل يقدم على الفرع، وهذا قول الحنابلة والأرموي والبيضاوي من الشافعية. 4 - الدليل الخاص على التعليل: يرجح ما دل دليل خاص على تعليله وجواز القياس عليه، دون غيره؛ لأن الأول أبعد في الاحتمال بوروده بمعنى التعبد واقتصار الأصل عليه. 5 - الأصل الذي لا يدخله النسخ: يرجح الأصل الذي لم يدخله النسخ بالاتفاق على ما هو مختلف في نسخه؛ لأن الأصل في الشرع عدم النسخ فيرجح على ما يحتمله. 6 - يرجح القياس الخاص بالمسألة على القياس العام بحسب القواعد (¬1). ثانيًا: الترجيح من جهة الفرع: الفرع هو المسألة أو القضية التي لم يثبت حكمها بنص، وإنما يؤخذ حكمها بقياس على الأصل المنصوص عليه، وإذا وجد قياسان متعارضان فيرجح أحدهما على الآخر بحسب الفرع بوجوه، منها: ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 399)، الإحكام للآمدي (4/ 268)، المعتمد (2/ 847)، المحصول (5/ 617)، تيسير التحرير (4/ 90)، مختصر ابن الحاجب (2/ 317)، جمع الجوامع والبناني (2/ 373)، شرح الكوكب المنير (4/ 714)، نهاية السول (4/ 269)، البرهان (2/ 1285)، إرشاد الفحول ص 282، المدخل إلى مذهب أحمد ص 200، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1201)، المغني (10/ 171)، وسائل الإثبات (1/ 130)، البحر المحيط (6/ 186)، علم أصول الفقه ص 232.

ثالثا: الترجيح بحسب العلة

1 - يرجح القياس الذي شارك فبه الفرع أصله في عين الحكم وعين العلة على القياس الذي شارك فيه الفرع أصله في جنس الحكم وجنس العلة، أو بأحدهما؛ لأن تعدية الحكم في الأول أغلب على الظن وأقرب. 2 - يرجح القياس الذي يكون فرعه متأخرًا في الوجود عن أصله على القياس الذي يكون فرعه متقدمًا؛ لسلامة الأول عن الاضطراب، وبعده عن الخلاف بين العلماء كما في الثاني. 3 - يرجح القياس الذي يقطع فيه بوجود العلة في فرعه على القياس الذي يكون وجود العلة مظنونًا في الفرع؛ لأن الأول أغلب عن الظن. 4 - يرجح القياس الذي يكون حكم الفرع فيه ثابتًا بالنص جملة لا تفصيلًا، على قياس غيره؛ لأن الأول أغلب على الظن. 5 - يرجح القياس الذي يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع على قياس يكون فيه نفي الفارق مظنونًا فيه (¬1). ثالثًا: الترجيح بحسب العلة: العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل الشرعي على كونها معرّفة لحكم شرعي، وتتوفر هذه العلة في الفرع، فيشترك الأصل والفرع فيها، فيكون حكم الأصل حكمًا للفرع لهذا الاشتراط. وإن المسالك التي تثبت به العلة كثيرة، كما أن العلل لها أوصاف عديدة، وبناء على ذلك يمكن الترجيح بين الأقيسة بحسب العلة في وجوه كثيرة، أهمها: 1 - يرجح القياس الذي تكون علته قطعية بالنص أو الإجماع عليها على القياس الذي تكون علته ظنية. 2 - يرجح القياس الذي يكون فيه ظن غالب في مسلك العلّة، أو يكون ¬

_ (¬1) المحصول (5/ 495)، جمع الجوامع والبناني (2/ 374، 376)، نهاية السول (3/ 221)، شرح تنقيح الفصول ص 426، شرح الكوكب المنير (4/ 720)، إرشاد الفحول ص 281، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1202).

رابعا: الترجيح بين الأقيسة بأمر خارج

دليل العقة قطعيًّا، أو يكون دليل العلة مظنونًا على القياس الذي ما يكون مسلك العلة بظن أقل، أو دليل العلة غير قطعي، أو ظن أقل؛ لأن الأول راجح، وهكذا في بقية مسالك العلة. 3 - يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة كالسفر، على القياس المعلل بوصف إقناعي اعتباري كالمشقة. 4 - يرجح القياس الذي تكون علته منضبطة ومطّردة على القياس الذي تكون علته مضطربة أو منقوضة، لوجود الخلاف في الثانية. 5 - يرجح القياس المعلل بعلة متعدية، على القياس المعلل بعلة قاصرة؛ لأن الأول أكثر فائدة. 6 - يرجح القياس المعلل بعلة مؤثرة باعثة على تشريع الحكم على القياس المعلل بعلة بمعنى الأمارة. 7 - يرجح القياس المعلل بعلة ظاهرة على آخر معلل بعلة خفية. وهكذا تقدم الأقيسة التي تكون علتها أكثر تعدية وعمومًا وفائدة على غيرها مما هو أقل تعدية وأخص (¬1). رابعًا: الترجيح بين الأقيسة بأمر خارج: إن الأمور الخارجة التي يترجح بها قياس على آخر هي نفسها التي تُرجح فيها النصوص مما ذكرناه سابقًا، ونبينها باختصار، وهي: 1 - موافقة أصول العلة: يرجح القياس التي يشهد لعلته أصول كثيرة على القياس الذي يشهد لعلته أصل واحد؛ لأن موافقة العلة لعدة أصول دليل ¬

_ (¬1) المستصفى (2/ 399)، الإحكام للآمدي (4/ 268)، مختصر ابن الحاجب (2/ 317)، جمع الجوامع (2/ 372)، البرهان (2/ 1285)، نهاية السول (3/ 226)، شرح تنقيح الفصول ص 425، فواتح الرحموت (2/ 324)، تيسير التحرير (4/ 87)، فتح الغفار (3/ 54)، مختصر البعلي ص 172، مختصر الطوفي ص 190، إرشاد الفحول ص 282، المدخل إلى مذهب أحمد ص 200، البحر المحيط (6/ 181)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1203).

فروع

على قوة اعتبارها في نظر الشرع، مثل الترجيح بكثرة الأدلة. 2 - موافقة أصول في الحكم: يرجح القياس الذي يكون حكمه دلّت عليه أدلة كثيرة، أو كان جنس الحكم ثابتًا في أصول متعددة على القياس الذي يكون حكمه قد دلَّ عليه دليل واحد، أو كان ثابتًا في قياس واحد. 3 - الاطِّراد في ال فروع: يرجح القياس المطّرد في جميع الفروع على القياس الذي يثبت حكمه في بعضها. 4 - انضمام علة لعلة: يرجح القياس الذي انضمت إلى علته علة أخرى؛ لأنه يزداد قوة على ما لم ينضم لعلته علة أخرى. 5 - يرجع القياس الذي وافقه قول صحابي عند القائلين بحجيته، أو خبر ضعيف في قول الإمام أحمد، أو موافقة مرسل غير صحابي (¬1). القسم الثالث: الترجيح بين نصّ وقياس: إذا وجد تعارض بين نص منقول في الكتاب والسنة، وقياس، فيرجح النص المنقول الخاص الذي دل على المطلوب بنطقه؛ لأن النص أصل بالنسبة للقياس، ومقدمات النص للاستنباط والاستدلال أقل من مقدمات القياس، فيكون أقل خللًا. وإذا لم يدل النص المنقول بنطقه على المطلوب، فتكون دلالته ظنية وعلى درجات، فقد يكون الظن الحاصل منه أقوى من الظن الحاصل من القياس، أو مساويًا له، أو أضعف منه، ويكون الترجيح بحسب ما يقع للمجتهد، فيرجح الظن الأقوى (¬2). فروع: 1 - يقع التعارض بين التعريفات المفيدة لمعان مفردة تصوّريّة، ويرجح ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (3/ 231)، المستصفى (2/ 400)، نهاية السول (3/ 231)، البحر المحيط (6/ 193)، المنخول ص 450، شرح الكوكب المنير (4/ 741)، العدة (3/ 1050)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1206). (¬2) الإحكام للآمدي (4/ 280)، شرح الكوكب المنير (4/ 742).

بعضها على بعض إما باللفظ، فيرجح الحد بلفظ صريح على حد فيه تجوز أو استعارة أو اشتراك أو غرابة أو اضطراب، وإما بالمعنى بأن يكون المعرَّف في أحدها أعرف من الآخر، أو أعم من مدلول الآخر، أو يكون التعريف ذاتيًّا فيرجح على التعريف العرضي، ويقدم التعريف التام على الناقص، وإما بأمر خارج، وذلك بموافقة نقل شرعي أو لغوي، أو بمقارنة أمر شرعي أو لغوي، أو بموافقة عمل الخلفاء الراشدين، أو عمل أهل المدينة، أو بموافقة الأئمة الأربعة، أو عمل عالم، وكذا يُرجح التعريف الذي يكون طريق تحصيله أسهل، أو أظهر من الآخر. 2 - إن ضابط الترجيح أن يقترن أمر نقلي أو اصطلاحي كعرف وعادة، أو تقترن قرينة عقلية أو لفظية أو حاليّة، بما يفيد زيادة والظن، فيرجح على ما سواه، وتفاصيل ذلك لا تنحصر (¬1)، وقد ذكرنا أهمها. 3 - إن لم يرد دليل، أو سقط الدليلان، فقال الجمهور: يعمل المجتهد بأن الأصل الإباحة، وقيل: يتوقف، وقيل بالمنع (¬2). وبذلك ينتهي بحث التعارض والترجيح ليكون المجتهد على بينة من أمره، ونسأل اللَّه التوفيق، وحسن الختام. ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (4/ 745، 751)، إرشاد الفحول ص 283. (¬2) إرشاد الفحول ص 284.

ملحق: القواعد الأصولية

ملحق: القواعد الأصولية: ورد في مباحث أصول الفقه عدد من القواعد الأصولية التي تضاهي القواعد الفقهية، وكثيرًا ما تدمج مع القواعد الفقهية في كتب القواعد والأشباه والنظائر، وصرح ابن النجار الحنبلي رحمه اللَّه تعالى أن القواعد الفقهية نفسها تشبه الأدلة وليست بأدلة، ولذلك ذكرها في باب الاستدلال للاستنباط على ضوئها (¬1)، وأفرد ابن اللحام الحنبلي رحمه اللَّه تعالى كتابه بعنوان "القواعد والفوائد الأصولية" (¬2). ولذلك نذكر أهم هذه القواعد سردًا بدون شرح، لأن معظمها ورد ذكره وبيانه وأمثلته في الموضوعات السابقة، وأفردها العلماء بالدراسة والشرح (¬3)، ونشير إلى باب الأصول التي تتعلق به، وهي: 1 - الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد (الاجتهاد). 2 - الاجتهاد لا ينقض بمثله (الاجتهاد). 3 - إذا بطل الأصل يصار إلى البدل (القياس). 4 - إذا بطل الخصوص هل يبقى العموم؟ (الخاص والعام). 5 - إذا تعارض المانع والمقتضي قُدّم المانع (الحكم الموضعي). 6 - إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما (مقاصد الشريعة - الاستصلاح). 7 - إذا تعذر إعمال الكمال يهمل (الدلالات). ¬

_ (¬1) شرح الكوكب المنير (4/ 439). (¬2) القواعد والفوائد الأصولية، لأبي الحسن علي بن محمد بن عباس الحنبلي، الشهير بابن اللحام (803 هـ) تحقيق حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية - القاهرة - 1375 هـ / 1956 م. (¬3) انظر في شرح هذه القواعد، وبيان أصولها، وفروعها في (القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي، لنا، القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام، شرح الكوكب المنير (4/ 439)، كتب القواعد الفقهية، كتب الأشباه والنظائر).

8 - إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز (الدلالات). 9 - إذا زال المانع عاد الممنوع (الحكم الموضعي). 10 - إذا سقط الأصل سقط الفرع (القياس). 11 - إذا ضاق الأمر اتسع (العزيمة والرخصة). 12 - استعمال الناس حجة يجب العمل بها (العرف والعادة). 13 - الأصل بقاء ما كان على ما كان (الاستصحاب). 14 - الأصل في الأشياء الإباحة (الإباحة). 15 - الأصل في الكلام الحقيقة (الدلالات). 17 - (*) إعمال الكلام أولى من إهماله (الدلالات). 18 - الأمور بمقاصدها (الدلالات). 19 - إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت (العرف والعادة). 20 - التأسيس أولى من التأكيد (الدلالات). 21 - تتحمل أخف المفسدتين (الاستصلاح). 22 - التعيين بالعرف كالتعيين بالشرع (العرف والعادة). 23 - الحاجة تنزل منزلة الضرورة (مقاصد الشريعة). 24 - الحدود تدرأ بالشبهات (التعارض والترجيح). 25 - الحقيقة تترك بدلالة العادة (الدلالات). 26 - الخروج من الخلاف مستحب (التعارض والترجيح). 26 - درء المفاسد أولى من جلب المنافع (التعارض والترجيح). 28 - الرخص لا تناط بالمعاصي (العزيمة والرخصة). 29 - السؤال معاد في الجواب (الدلالات). 30 - الضرر الأشدّ يزال بالأخف (مقاصد الشريعة).

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا الترقيم بالمطبوع

31 - الضرورات تبيح المحظورات (مقاصد الشريعة). 32 - العادة محكّمة (العرف والعادة). 33 - الفرع يسقط إذا سقط الأصل (القياس). 34 - القادر على اليقين هل له الاجتهاد والأخذ بالظن (الاجتهاد). 35 - الكتاب كالخطاب (الدلالات). 36 - لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل (الدلالات + الاجتهاد). 37 - لا حجة مع التناقض (التعارض والترجيح). 38 - لا ضرر ولا ضرار (مقاصد الشريعة). 39 - لا عبرة للتوهم (الدلالات + الاجتهاد). 40 - لا عبرة للدلالة في مقابلة الصريح (الدلالات). 41 - لا مساغ للاجتهاد في مورد النص (الاجتهاد). 42 - لا ينسب إلى ساكت قول، ولكن السكوت في معرض الحاجة إلى بيانٍ بيانٌ (الدلالات). 43 - لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان (الاجتهاد). 44 - ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها (مقاصد الشريعة). 45 - ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يقم الدليل (الاستصحاب). 46 - ما ثبت للضرورة يقدر بقدرها (مقاصد الشريعة). 47 - ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس (القياس). 48 - المشروط عرفًا كالمشروط شرعًا (الحكم الوضعي - الشرط). 49 - المشقة تجلب التيسير (الرخصة والعزيمة). 50 - المطلق يجري على إطلاقه (الدلالات). 51 - المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا (الشرط).

52 - منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم (الاجتهاد). 53 - هل الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على عدمه؟ (الاستصحاب). 54 - يختار أهون الشرين (مقاصد الشريعة). 55 - يدفع أعظم الضررين (مقاصد الشريعة). 56 - يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد (مقاصد الشريعة). 57 - اليقين لا يزول بالشك (الاجتهاد). * * *

الخاتمة

الخاتمة الحمد للَّه الذي تتم بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، خاتم الأنبياء والمرسلين، المبعوث رحمة للعالمين الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأرشدنا إلى شكر النعم لتدوم، ورغبنا في الاعتراف بالفضل ليرضى المتفضل المنّان، ونصحنا بالإخلاص في العمل ليكون للَّه وحده. وبعد: فهذه تطوافة في رياض علم أصول الفقه، انتقلنا فيها من فينة إلى فينة، ومن أيكة إلى أخرى، نستظل بأغصانها الوارفة، ونقطف من ثمارها اليانعة، ونتذوق من ثمارها الشهية، ونجني من رحيقها الطيب، وشهدها النافع. وقد لمست السعادة في دراسته والبحث فيه والكتابة والتأليف، وسعدت بالحياة مع أعلامه وروّاده، وأنست بزيارة ضيوفه وزوّاره، وكدت أن أنسى نفسي في هيامه وبحاره. وأدركت يقينًا أهمية هذا العلم العظيم التي ذكرتها في مقدماته، وأنه الموئل المأمون للفقيه والمجتهد، والكوكب المنير لطالب العلم ومحبي المعرفة وعشاق الحقيقة، وأنه الساحل الآمن، والبر الأمين لاطمئنان القلب، ومسيرة العقل والفكر، فترتاح النفس إليه، وتصل إلى غايتها ومبتغاها، ويأخذ بيد الفقه والمجتهد، وطالب العلم والباحث والعالم إلى شاطئ الأمان في استنباط الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، وحسن الفهم والتأويل والتفسير لآيات اللَّه وسنة رسول اللَّه، وسائر مصادر التشريع، فيزداد الإيمان، وتقر الأنفس لشرعة الدّيّان في فقه الإسلام.

وتظهر في هذا العلم الضوابط الحكيمة التي تصون الشرع، والقواعد المحكمة في الاجتهاد والاستنباط والاستدلال لحماية العالم من الضلال والزيع، وحماية التشريع من الدّسّ، وصيانة المجتهد من الانحراف أو البعد عن الحقيقة، ليبين للناس شرع اللَّه ودينه محفوفًا بالدقة والضبط، ويرسم الطريق للمستقبل وقادمات الأيام. وكان الانتقال واضحًا سليمًا بين أبواب أصول الفقه التي تشبه أبواب الجنة، والتزمنا منهج التدرج والمنطق، فبدأ بالمقدمات عن تعريفه، وأهميته، ونشأته، وتحديد موضوعاته، وبينا أسباب الاختلاف بين الفقهاء، وعرضنا مقاصد الشريعة، ثم ولجنا مصادر التشريع ومنابع المعرفة الأصلية والتبعية، النصية والاجتهادية، حتى وقفنا عند بيان الأحكام الشرعية الكلية التكليفية والوضعية، وسار بنا المركب إلى لجّة البحر لمعرفة مباحث الدلالات وتفسير النصوص، ثم وقفنا عند الاجتهاد والتقليد والإفتاء التي تحتاج إلى تحديد التعارض الظاهري، والترجيح الواجب، وكشف طرقه المحكمة. وهنا أذكِّر بأمور: 1 - التذكير بأهمية علم أصول الفقه، وبيان مكانته في العلوم الإسلامية، وحاجة الأمة إليه في كل وقت، وخاصة في العصر الحاضر، ووجوب تعلمه والتمرس عليه والعمل بموجبه من الفقيه والمجتهد والمفتي والعالم والباحث وطالب العلم، وإعادته للحياة والتطبيق والعمل. 2 - ضرورة ربط هذا العلم بالمستجدات، وخاصة التشريعات والأنظمة التي قررت في البلاد العربية والإسلامية، والمقارنة مع القوانين والأنظمة. 3 - ضرورة الاستفادة من علم أصول الفقه في الدعوة وسائر مناحي الحياة، ومختلف العلوم الشرعية. 4 - ضرورة الإضافة والتجديد لهذا العلم بما يواكب الفكر والعصر والتقدم ضمن الأسس والقواعد السابقة، وقد ظهرت فيه بواكير طيبة.

وفي الختام أسأل اللَّه التوفيق، والإخلاص في القول، والعمل بما يحبه ويرضاه، وأن يردّ أمتنا إلى دينها وشريعتها ردًّا جميلًا، وأن يحسن ختامنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبع نهجه إلى يوم الدين. الشارقة عصر الجمعة 6/ 4 / 1424 هـ الموافق 6/ 6 / 2003 م. الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة.

أهم المصادر والمراجع المضافة على ما ورد في الجزء الأول

أهم المصادر والمراجع المضافة على ما ورد في الجزء الأول 1 - الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (911 هـ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1975 م. 2 - الأحكام السلطانية، علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي (450 هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة - (1386 هـ / 1966 م). 3 - أحكام القرآن، أحمد بن علي، أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (370 هـ) مطبعة الأوقاف الإسلامية - إستانبول - 1335 هـ. 4 - أخبار عمر، علي وناجي الطنطاوي، دار الفكر - دمشق - (1391 هـ / 1973 م). 5 - إرشاد الفحول، محمد علي الشوكاني (1250 هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر - (1356 هـ / 1937 م) طبع دار السلام - القاهرة - (1418 هـ / 1998 م)، تحقيق وتعليق الدكتور شعبان محمد إسماعيل (بحث النسخ). 6 - أصول الأحكام وطرق الاستنباط في التشريع الإسلامي، الأستاذ الدكتور حمد عبيد الكبيسي - نشر كلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي - الطبعة الثانية - (1422 هـ / 2001 م). 7 - أصول الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي- دار الفكر - دمشق- الطبعة الأولى - (1406 هـ / 1986 م).

8 - الأم، الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ)، تصوير دار الشعب - القاهرة - (1388 هـ / 1968 م) + طبعة دار الفكر - دمشق - د. ت. 9 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، مكي بن أبي طالب القيسي (437 هـ) ت الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات - دار المنارة - جدة. 10 - البحر المحيط، محمد بن بهادر بن عبد اللَّه، بدر الدين الزركشي الشافعي (794 هـ) نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت - (1413 هـ / 1992 م). 11 - بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن، عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي (ق 14 هـ) طبعة دار الأنوار- مصر - 1369 هـ. 12 - البرهان في علوم القرآن، محمد بن بهادر بن عبد اللَّه، بدر الدين الزركشي (794 هـ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة - (1377 هـ، 1958 م). 13 - البناني على جمع الجوامع، عبد الرحمن بن جاد اللَّه البناني (1198 هـ) على شرح جلال الدين المحلي (864 هـ) على جمع الجوامع لابن السبكي (771 هـ) دار إحياء الكتب العربية - القاهرة - د. ت. 14 - تاريخ القضاء في الإسلام، الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي - دار الفكر- دمشق - (1415 هـ / 1995 م). 15 - التبصرة في أصول الفقه، إبراهيم بن علي، أبو اسحاق الشيرازي الفيروزابادي (476 هـ) تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو - دار الفكر - دمشق - (1400 هـ / 1980 م). 16 - تخريج أحاديث البزدوي، قاسم بن قطلو بغا زين الدين (879 هـ) نشر مكتبة نور محمد - كراتشي. 17 - تخريج أحاديث مختصر المنهاج، الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقي (804 هـ) تحقيق صبحي السامرائي - ضمن العدد الثاني من مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي، كلية الشريعة - مكة المكرمة - 1399 هـ.

18 - التدرج في التشريع والتطبيق، الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي - نشر إدارة البحوث والدراسات - اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية - الكويت - (1420 هـ / 2000 م). 19 - تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير، أبو جعفر الطبري (310 هـ) مطبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - (1373 هـ / 1954 م). 20 - تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد أديب الصالح - طبع جامعة دمشق - ط 1 - 1964 م + طبع المكتب الإسلامي- دمشق ط 4 - (1413 هـ / 1993 م). 22 - التلويح على التوضيح على التنقيح، مسعود بن عمر التفتازاني (792 هـ) المطبعة الخيرية - مصر - طبعة أولى- 1322 هـ. 23 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، عبد الرحيم بن الحسن، جمال الدين الإسنوي (772 هـ) مؤسسة الرسالة - بيروت - تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو - (1400 هـ / 1980 م) + الطبعة الثانية بمطبعة دار الإشاعة الإسلامية-1387 هـ المصورة عن طبعة مكة 1353 هـ. 24 - التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي - دار الفكر - دمشق - الطبعة الثانية - (1423 هـ / 2002 م). 25 - جامع بيان العلم وفضله، يوسف بن عبد البر، أبو عمر القرطبي (463 هـ) مطبعة العاصمة - القاهرة - الطبعة الثانية - (1388 هـ / 1968 م). 26 - جمع الجوامع، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، تاج الدين ابن السبكي (771 هـ) وعليه شرح جلال الدين المحلي. (874 هـ)، مطبوع مع حاشية العطار، وحاشية البناني. 27 - الحاوي الكبير، علي بن محمد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي (450 هـ) تحقيق مجموعة - دار الفكر - دمشق - (1414 هـ / 1994). 28 - درر الحكام في شرح غرر الأحكام، منلا خسرو (885 هـ) المطبعة

العامرة الشرقية - مصر - 1304 هـ - وبهامشه حاشية الشرنبلالي عليه. 29 - الدلالات وطرق الاستنباط، الدكتور إبراهيم بن أحمد بن سليمان الكندي - دار قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق- ط 1 (1419 هـ / 1998 م). 30 - الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (911 هـ) - تحقيق الشيخ الدكتور خليل الميس- دار الكتب العلمية - بيروت - (1403 هـ / 1983 م). 31 - الرسالة، الإمام محمد بن إدريس الشافعي (204 هـ) تحقيق أحمد محمد شاكر، مصطفى البابي الحلبي - مصر - الطبعة الأولى - (1358 هـ / 1940 م) + طبعة دار النفائس - شرح وتعليق الدكتور عبد الفتاح كبارة - بيروت - ط 1 (1419 هـ / 1999 م). 32 - رصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد بن عبد النور المالقي (702 هـ) ت أحمد محمد الخراط، نشر مجمع اللغة العربية - دمشق - (1395 هـ / 1975 م). 33 - روضة الطالبين = الروضة، يحيى بن شرف، محيي الدين النووي (676 هـ) نشر المكتب الإسلامي - دمشق - 1388 هـ، 12 جزءًا. 34 - روضة الناظر = الروضة، عبد اللَّه بن أحمد، موفق الدين ابن قدامة المقدسي (620 هـ) ت الدكتور عبد العزيز السعيد - ط 2 في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض - (1399 هـ / 1979) + المطبعة السلفية - القاهرة - (1392 هـ / 1972 م). 35 - زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر، أبو عبد اللَّه بن قيم الجوزية (752 هـ) طبع مؤسسة الرسالة - دمشق - (1399 هـ / 1979 م). 36 - سنن الترمذي = الجامع الصحيح، محمد بن عيسى بن سورة، أبو عيسى الترمذي (279 هـ) مع شرحه "تحفة الأحوذي"، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (1353 هـ) مطبعة المدني - القاهرة -

ط 2 - (1383 هـ / 1963 م). 37 - سنن الدارقطني، الحافظ علي بن عمر الدارقطني (385 هـ) دار المحاسن للطباعة - القاهرة - (1386 هـ / 1966 م). 38 - السنن الكبرى = سنن البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي، أبو بكر البيهقي (458 هـ)، الطبعة الأولى بحيدر آباد الدكن- الهند- 1355 هـ. 39 - سيرة ابن هشام = السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام أبو محمد الحميري (218 هـ) طبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر - (1375 هـ / 1955 م) - ط 2. 40 - شرح النووي على صحيح مسلم، يحيى بن شرف، محيي الدين النووي (676 هـ) المطبعة المصرية ومكتبتها - القاهرة -1349 هـ / 1930 م. 41 - صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ) مع حاشية السندي - المطبعة العثمانية - مصر - ط 1 (1351 هـ / 1932 م) + طبعة دار القلم - دمشق - (1400 هـ-1980 م). 42 - صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي (695 هـ) - المكتب الإسلامي - دمشق - 1394 هـ. 43 - العدة في أصول الفقه، محمد بن الحسين، القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي (458 هـ) طبع مؤسسة الرسالة - بيروت - تحقيق الدكتور أحمد سير المباركي - (1400 هـ / 1980 م). 44 - العضد على ابن الحاجب = شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، عبد الرحمن بن أحمد، عضد الدين الإيجي (756 هـ) وبهامشه حاشية التفتازاني (791 هـ) وحاشية الشريف الجرجاني (816 هـ) مكتبة الكليات الأزهرية- القاهرة (1393 هـ / 1973 م). 45 - فتح الغفار بشرح المنار زين الدين بن إبراهيم بن نجيم (970 هـ) مطبعة البابي الحلبي - القاهرة - (1355 هـ / 1936 م). 46 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)، ط 3 - دار الفكر - بيروت - (1393 هـ / 1973 م).

47 - الفرائض والمواريث والوصايا، الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، دار الكلم الطيب - دمشق - ط 1 (1422 هـ / 2001 م). 48 - الفروع، محمد بن مفلح، شمس الدين المقدسي (763 هـ) ومعه تصحيح الفروع لعلي بن سليمان المرداوي (885 هـ) - دار مصر للطباعة - ط 2 - (1379 هـ / 1960 م). 49 - الفصول في الأصول، أحمد بن علي، أبو بكر الجصاص الرازي الحنفي (370 هـ) تحقيق الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي - نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت - ط 2 - (1414 هـ / 1994 م). 50 - فقه القضاء والدعوى والإثبات - الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي- نشر جامعة الشارقة (1422 هـ / 2002 م). 51 - القواعد والفوائد الأصولية، علي بن محمد بن عباس، أبو الحسن ابن اللحام (803 هـ) مطبعة السنة المحمدية - القاهرة - (1375 هـ / 1956 م). 52 - القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي، الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي - نشر مجلس النشر العلمي - جامعة الكويت -1999 م. 53 - القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)، مطبعة المعاهد - مصر - 1340 هـ. 54 - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، محمود بن عمر، جار اللَّه الزمخشري (538 هـ) طبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - (1385 هـ / 1966 م). 55 - المبسوط، محمد بن أبي سهل، شمس الدين السرخسي (483 هـ) مطبعة السعادة مصر - 1324 هـ. 56 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر، نور الدين الهيثمي (807 هـ) طبعة القدسي - القاهرة - 1352 هـ. 57 - المجموع شرح المهذب للشيرازي (476 هـ)، يحيى بن شرف،

محيي الدين النووي (676 هـ)، مطبعة التضامن الأخوي - القاهرة - 1347 هـ + طبعة دار إحياء التراث العربي للطباعة والتوزيع - القاهرة - (1415 هـ / 1995 م) + مطبعة العاصمة - نشر زكريا علي يوسف القاهرة - د. ت. 58 - مجموع الفتاوى، أحمد بن عبد الحليم، تقي الدين ابن تيمية الحراني (728 هـ) جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي - الطبعة الأولى - الرياض - 1381 هـ. 59 - المحصول في علم الأصول، محمد بن عمر، فخر الدين الرازي (606 هـ) تحقيق الدكتور طه جابر العلواني - مطابع الفرزدق - الرياض - (1399 هـ / 1979 م). 60 - مختصر البعلي - المختصر في أصول الفقه، علي بن محمد، علاء الدين البعلي الدمشقي، ابن اللحام (803 هـ) تحقيق الدكتور محمد مظهر بقا - طبع دار الفكر- دمشق - (1400 هـ / 1980 م). 61 - مختصر ابن الحاجب = مختصر المنتهى، عثمان بن عمر، جمال الدين بن الحاجب (646 هـ) ومعه شرح العضد عليه، وحاشيتا التفتازاني والشريف الجرجاني، طبع مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - (1393 هـ / 1973 م). 62 - مرجع العلوم الإسلامية، الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي - دار المعرفة - دمشق، (1412 هـ / 1991 م). 63 - مسند الإمام أحمد، أحمد بن حنبل (243 هـ) المطبعة الميمنية - القاهرة - 1313 هـ. 64 - معترك الأقران في إعجاز القرآن، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911 هـ) تحقيق علي محمد البجاوي - طبع دار الفكر العربي - القاهرة - 1973 م. 65 - المعتمد في أصول الفقه، محمد بن علي بن الطيب، أبو الحسين البصري المعتزلي (436 هـ)، طبع المعهد العلمي الفرنسي - دمشق - (1384 هـ / 1964 م) - ت محمد حميد اللَّه.

66 - المعجم الوسيط، مجموعة من الأساتذة - دار الأمواج - بيروت - الطبعة الثانية (1410 هـ / 1990 م). 67 - المغني في أصول الفقه، عمر بن محمد، جلال الدين الخبازي (691 هـ) تحقيق الدكتور محمد مظهر بقا، نشر مركز البحث العلمي - جامعة أم القرى - مكة - 1403 هـ. 68 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، جمال الدين بن هشام الأنصاري (761 هـ) تحقيق الأستاذ الدكتور مازن المبارك والأستاذ محمد علي حمد اللَّه - طبع دار الفكر - دمشق -1969 م. 69 - الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم، أبو الفتح الشهرستاني (548 هـ) تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة مصطفى البابي الحلبي - القاهرة - (1381 هـ / 1961 م). 70 - مناهج الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام، الدكتور خليفة بابكر الحسن - نشر مكتبة وهبة - القاهرة - ط 1 (1409 هـ / 1989 م). 71 - مناهج العقول شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، محمد بن الحسن البدخشي، مطبعة محمد علي صبيح - القاهرة - بهامش نهاية السول - د. ت. 72 - المنثور في القواعد، محمد بن بهادر، بدر الدين الزركشي (794 هـ) تحقيق الدكتور تيسير فائق أحمد محمود، نشر وزارة الأوقاف - الكويت - ط 2 - (1405 هـ / 1985 م). 73 - المنخول من تعليقات الأصول، محمد بن محمد، أبو حامد، حجة اللَّه الغزالي (505 هـ) تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو - دار الفكر - دمشق - (1390 هـ / 1970 م). 74 - منهج التوفيق والترجيح، الدكتور عبد المجيد محمد إسماعيل السوسوة - دار النفائس - بيروت - ط 1 (1417 هـ / 1997 م).

75 - المهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي، الشيخ أبو إسحاق الشيرازي (476) تحقيق الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي - دار القلم - دمشق - ط 1 (1412 هـ / 1992 م). 76 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، الحافظ علي بن أبي بكر، نور الدين الهيثمي (807 هـ) ت محمد عبد الرزاق حمزة - تصوير دار الكتب العلمية - بيروت - د. ت. 77 - نصب الراية لأحاديث الهداية، الحافظ عبد اللَّه بن يوسف، جمال الدين الزيلعي الحنفي (762 هـ) مطبعة دار المأمون - القاهرة - (1357 هـ / 1938 م).

§1/1