الوجيز النفيس في معرفة التدليس

عبد القادر المحمدي

المقدمة

المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله واله وصحبه ومن والاه، وبعد: الحقيقة أننا لم نختر هذا المصطلح (التدليس) إلا لأننا رأينا بعض الباحثين وطلبة الحديث المتعلمين، في جامعاتنا ومعاهدنا -اليوم -يحتاجون إلى مختصر موجز يوضح لهم عبارات العلماء، ويجمع لهم الأقوال بشكل ميسر، ولما رأينا من بعضهم أنه اختلط عليه التدليس والمرسل الخفي وعنعنة المدلس وغيره، ملتبساً على بعضهم إطلاق الحكم على الراوي كونه يدلس، وكونه من رواة الصحيحين، فلا يميزون بين أقسام التدليس وطبقاته، فوقع في خَلَدنا أن نكتب هذه الصفحات، ونجمع كلام أئمتنا، ونوضح عباراتهم ونبين ما أبهم على طلبتنا، غير زاعمين أننا جئنا بما لم يأت به الأوائل، وإنما جل عملنا هو جمع الأقوال وتحريرها وتبيان مختصر لتلك الأقوال، ولا اخفي أنني تنشّمت منها فوائد وفرائد، من مراجعة المصادر القديمة والحديثة، ومقابلة الأقوال، ومدارسة الترجيحات، فإن أصبنا فمن الله وحده ومنه التوفيق، وإن كانت الثانية فمن أنفسنا والشيطان. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ما أصبنا ويغفر لنا ما أخطأنا، وان يجعل بحثنا هذا الذي اسميناه: (الوجيز النفيس في معرفة التدليس)،وجيزا ميسرا، نفيسا، آمين. المبحث الأول: التدليس لغة واصطلاحاً. المطلب الأول: حدّه ... التدليس: مشتق من الدَّلَسِ، وهو في أصل معناه الظلام (¬1)،ثم استعمل التدليس في اللغة بمعنى إخفاء العيب في المبيع ونحوه (¬2)؛ وإنما استعملت هذه اللفظة في مصطلح المحدثين بالمعنى الآتي شرحه؛ لأن المدلس - مهما كان نوع تدليسه - كأنه قد أظلم شيئاً من أمر الحديث على الناظر بتغطية وجه الصواب فيه (¬3). ... وأما في الاصطلاح، فلم أقف على تعريف يجمع كل الأقسام، وإنما ُيعّرف دوماً ¬

_ (¬1) ينظر لسان العرب، ابن منظور 1/ 1002مادة (دلس). (¬2) ينظر لسان العرب 1/ 1002،وظفر الأماني، اللكنوي ص 373. (¬3) ينظر النكت على ابن الصلاح، ابن حجر العسقلاني ص 242.

المطلب الثاني: أقسام التدليس

بشر أنواعه تدليس الإسناد، ولعل الجامع بين تلك الأقسام هو إخفاء العيب، فلعل أقرب المعاني إلى ذلك ما قاله الطيبي في خلاصته وهو أن الحديث المدلس: (ما أخفي عيبه) (¬1). المطلب الثاني: أقسام التدليس قسم علماءُ المصطلح التدليسَ على عدة أقسام، واختلفوا في ذلك، فمنهم من عدها ستة ومنهم من عدها أقل من ذلك أو أكثر، واليك التفصيل: أولاً: عند أبي عبد الله الحاكم النيسابوري: عدها ستة أقسام أذكرها باختصار (¬2): 1 - من دلس عن الثقات الذين هم في الثقة مثل المحدث أو فوقه أو دونه الا أنهم لم يخرجوا من عداد الذين تقبل أخبارهم فمنهم من التابعين أبو سفيان طلحة بن نافع وقتادة ........ 2 - قوم يدلسون الحديث فيقولون قال فلان، فإذا وقع إليهم من ينقر سماعاتهم ويلح ويراجع ذكروا فيه سماعاتهم. 3 - قوم دلسوا على أقوام مجهولين لا يدرى من هم ومن أين هم. 4 - قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغيروا أساميهم وكناهم كي لا يُعرفوا. 5 - قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير وربما فاتهم الشيء عنهم فيدلسونه. 6 - قوم رووا عن شيوخ لم يَرَوْهم قط، ولم يسمعوا منهم، وإنما قالوا: قال فلان، فحُمل ذلك منهم على السماع وليس عندهم عنهم سماع عال ولا نازل. ثانياً: عند الحافظ ابن الصلاح (¬3):وقسّمه على قسمين رئيسين، هما: 1 - تدليس الإسناد. 2 - تدليس الشيوخ. ثالثاً: عند الحافظ العراقي: ذهب الحافظ العراقي في تعليقه على الحافظ ابن الصلاح إلى إنّ التدليس ثلاثة أقسام، فزاد عليه: تدليس التسوية، فقال:"القسم الثالث من أقسام التدليس الذي لم يذكره ¬

_ (¬1) الخلاصة ص74،وينظر ظفر الأماني، اللكنوي ص 373. (¬2) معرفة علوم الحديث ص 105 - 108. (¬3) مقدمة علوم الحديث ص 66.

ابن الصلاح وهو تدليس التسوية ". (¬1):،ونقل عنه الحافظ في النكت القول " ترك المصنف قسماً ثالثاً من أنواع التدليس وهو شر الأقسام .. " (¬2). وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال:"فيه مشاحة .... والتسوية على تقدير تسليم تسميتها تدليساً هي من قبيل القسم الأول " (¬3). فالذي جرى عليه أهل علماء المصطلح بعدُ هو تقسيم الحافظ ابن الصلاح وأنّ الأنواع التي ذكرت في أقسام التدليس تدخل جميعها تحت هذين القسمين، كالخطيب البغدادي (¬4) والإمام النووي (¬5) وابن كثير (¬6) والطيبي (¬7) وابن حجر (¬8) والسخاوي (¬9) والسيوطي (¬10) وغيرهم. وهو ما سنعتمده في بحثنا هذا إن شاء الله تعالى. يقول الإمام البلقيني: الأقسام الستة الذي ذكرها الحاكم داخلة تحت القسمين السابقين: فالقسم الأول والثاني والثالث والخامس والسادس داخلة تحت القسم الأول -أي تدليس الإسناد-.والرابع: عين القسم الثاني – أي الشيوخ-" (¬11). وقال البقاعي معلقاً على تقسيم الحافظ العراقي:"إن أراد أصل التدليس فليس إلا ما ذكر ابن الصلاح من كونها اثنين باعتبار إسقاط الراوي أو ذكره وتعمية وصفه، وإن أراد الأنواع فهي أكثر من ثلاثة بما يأتي من تدليس القطع وتدليس العطف" (¬12). وقال أيضاً:" التحقيق أنه ليس ¬

_ (¬1) شرح ألفية الحديث، العراقي ص 80. (¬2) النكت على ابن الصلاح، ابن حجر ص243 (¬3) المصدر نفسه. (¬4) الكفاية ص360. (¬5) تقريب النواوي بشرحه تدريب الراوي 1/ 223. (¬6) شرح الفية الحديث، العراقي ص 80.،وينظر النكت على ابن الصلاح، ابن حجر ص242. (¬7) الخلاصة في أصول الحديث ص 74. (¬8) النكت على ابن الصلاح ص242. (¬9) فتح المغيث 1/ 169. (¬10) تدريب الراوي1/ 169 (¬11) محاسن الاصطلاح ص 168. (¬12) توضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 375.

المبحث الثاني: تدليس الإسناد

إلا قسمين: تدليس الإسناد وتدليس التسوية، ويتفرع عن الأول: تدليس العطف وتدليس الحذف. وأما تدليس التسوية فيدخل في القسمين ..... " (¬1). وقد قسم اللكنوي التدليس إلى تسعة أقسام ونبه على أن بعض الأقسام تدخل في القسم الأول تدليس الإسناد. (¬2) المبحث الثاني: تدليس الإسناد المطلب الأول: تعريفه هو المراد بالتدليس عند الإطلاق، وهو أهم صوره وأشهرها وأكثرها وجوداً، وهو أن يروي غير الصحابي عمن سمع منه - أو عمن حصل له من اللقاء به ما يظن معه حصول السماع - ما لم يسمعه منه من حديثه، حاذفاً الواسطة، قاصداً إيهام السماع بإحدى طرق الإيهام. وهو بتعبير آخر: أن يروي الشيخ حديثاً فيسمعه بعض تلامذته عنه، لا منه، أي يسمعه بواسطة وليس من الشيخ مباشرة، ثم بعد ذلك يرويه عن ذلك الشيخ موهماً سماعه إياه منه بحذف الواسطة والتعبير بإحدى الطرق الموهمة للسماع، وهذا النوع من التدليس فيه إخفاء الانقطاع. وعرف ابن الصلاح تدليس الإسناد بقوله:"أن يروي الراوي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه منه أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه" (¬3). وكذا عرفه الخطيب البغداي في كفايته (¬4) والنووي (¬5) وابن كثير (¬6)،وابن جماعة (¬7) غيرهم. وعرفه الحافظ العراقي بقوله:"وهو أن يسقط اسم شيخه الذي سمع منه ويرتقي إلى شيخ شيخه أو من فوقه فيسند ذلك إليه بلفظ لا يقتضي اتصال بل بلفظ موهم له كقوله عن فلان أو أن فلانا أو قال فلان موهما بذلك أنه سمعه ممن رواه عنه وإنما يكون تدليسا إذا كان المدلس قد ¬

_ (¬1) توضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 376. (¬2) ظفر الأماني في مختصر الجرجاني ص380. (¬3) المقدمة ص66. (¬4) الكفاية ص361. (¬5) تقريب النواوي بشرحه تدريب الراوي 1/ 1/222. (¬6) اختصار علوم الحديث بشرحه الباعث الحثيث ص46. (¬7) المنهل الروي ص 72.

عاصر المروي عنه أو لقيه ولم يسمع منه أو سمع منه ولم يسمع منه ذلك الحديث الذي دلسه عنه " (¬1). وعلق الحافظ العراقي على تعريف ابن الصلاح بقوله:"إن الذي ذكره المصنف في حد التدليس هو المشهور عن أهل الحديث" (¬2). وزاد ابن جماعة في تعريفه:"ثم قد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر" (¬3). وسار عامة أهل المصطلح على هذا التعريف فجعلوا ما يرويه الراوي عمن "سمع منه" أو "عاصره" ما لم يسمعه منه موهماًَ أنه سمعه منه، بمرتبة واحدة وعدوه تدليساً. وذهب ابن القطان، وابن عبد البر، والعلائي، وابن حجر، والسخاوي، والسيوطي، وغيرهم إلى التفريق بينهما -كما سيأتي-واعترض الحافظ ابن حجر عليه (التعريف) بكونه (غير مانع)،إذ قال في معرض الاعتراض على تعريف ابن الصلاح للتدليس: ((وقوله:"عمن عاصره" ليس من التدليس في شيء، وانما هو: المرسل الخفي .... وقد ذكر ابن القطان في أواخر "البيان" (¬4) له تعريف التدليس بعبارة غير معترضة قال:"ونعني به أن يروي المحدث عمن قد سمع منه ما لم يسمعه منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه، والفرق بينه وبين الإرسال، هو أن الإرسال: روايته عمن لم يسمع منه ولما كان في حديثه ما سمع منه جاءت روايته عنه بما لم يسمعه منه كأنها إيهام لسماعه ذلك الشيء فلذلك سمي تدليساً "،وهو صريح في التفرقة بين التدليس والإرسال، وأن التدليس مختص بالرواية عمن له عنه سماع بخلاف الإرسال -والله أعلم - وابن القطان في ذلك متابع لابي بكر البزار (¬5)،وقد حكى شيخنا كلامهما ثم قال:"إن الذي ذكره المصنف في حد التدليس هو المشهور عن أهل الحديث وإنه إنما حكى البزار وابن القطان لئلا يغتر به" (¬6). قلت - والقائل ابن حجر-لا غرو هنا بل كلامهما هو الصواب، على ما يظهر لي في التفرقة بين التدليس والمرسل الخفي، وإن كانا مشتركين في الحكم هذا ما يقتضيه النظر وأما كون المشهور عن أهل الحديث خلاف ما قالاه ففيه ¬

_ (¬1) شرح الفية الحديث، العراقي ص80. (¬2) التقييد والإيضاح ص 97 - (¬3) المنهل الروي ص 72. (¬4) هو ابن القطان الفاسي في كتابه "بيان الوهم والإيهام"،وينظر شرح الألفية للعراقي ص80،وفتح المغيث للسخاوي1/ 170. (¬5) ينظر شرح الألفية للعراقي ص80،وفتح المغيث للسخاوي1/ 170. (¬6) شرح الألفية للعراقي ص 80.

نظر؛ فكلام الخطيب في باب التدليس من "الكفاية" يؤيد ما قاله ابن القطان، قال الخطيب:"التدليس متضمن للإرسال لا محالة، لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط وهو الموهن لأمره فوجب كون التدليس متضمناً للإرسال، والإرسال لا يتضمن التدليس لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه، ولهذا لم يذم العلماء من أرسل وذموا من دلس (¬1) " أ. هـ كلام الحافظ. (¬2) وتمام كلام الخطيب:" والتدليس يشتمل على ثلاثة أحوال تقتضي ذم المدلس وتوهينه فأحدها ما ذكرناه من إيهامه السماع ممن لم يسمع منه وذلك مقارب الإخبار بالسماع ممن لم يسمع منه" (¬3). قال الحافظ: ((قلت: والذي يظهر من تصرفات الحذاق منهم أن التدليس مختص باللقي، فقد أطبقوا على أن رواية المخضرمين مثل: قيس بن أبي حازم وأبي عثمان النهدي وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبيل المرسل لا من قبيل المدلس. وقد قال الخطيب في باب المرسل من كتابه الكفاية: لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس وهو: رواية الراوي عن من لم يعاصره أو لم يلقه، ثم مثل للأول بسعيد بن المسيب وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وللثاني بسفيان الثوري وغيره عن الزهري. ثم قال: والحكم في الجميع عندنا واحد)). انتهى. فقد (بين) الخطيب في ذلك أن من روى عمن لم يثبت لقيه ولو عاصره مرسل لا مدلس. والتحقيق فيه التفصيل وهو: أن من ذكر التدليس أو الإرسال إذا ذكر بالصيغة الموهمة عمن لقيه، فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي. أو عمن لم يدركه، فهو مطلق الإرسال ". أي: إن الحافظ فرق بين المعاصرة واللقاء في ذلك، وعد الأولى تدليسا والثانية إرسالا خفياً، قال السخاوي:" فخرج باللقاء المرسل الخفي فهما وإن اشتركا في الانقطاع فالمرسل يختص بمن روى عمن عاصره ولم يعرف أنه لقيه كما حققه شيخنا تبعاً لغيره على ما سيأتي في بابه قال وهو الصواب لإطباق أهل العلم بالحديث " (¬4). وقال السيوطي:"والفرق بينه وبين الإرسال أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه، قال العراقي: والقول الأول هو المشهور وقيده شيخ الإسلام (¬5) بقسم اللقاء وجعل قسم المعاصرة إرسالاً خفياً." (¬6). وقال العلائي:"قال ابن عبد البر: اختلفوا في حديث الرجل عمن لم يلقه، مثل مالك عن سعيد بن المسيب والثوري عن إبراهيم النخعي فقالت فرقة: هذا تدليس، لأنهما لو شاءا لسميا من حدثهما كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما، قالوا: وسكوت المحدث عمن حدثه مع علمه به دلسة، قال أبوعمر-يريد ابن عبد البر- فإن كان هذا تدليساً فما أعلم أحداً من العلماء سلم منه في قديم الدهر ولا حديثة اللهم إلا شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان فإنهما ليس يوجد لهما شيء من هذا لا سيما شعبة. وقالت طائفة ليس هذا بتدليس وإنما هذا إرسال، وكما جاز أن يرسل سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو لم يسمع منهم ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليساً، كذلك مالك في سعيد بن المسيب انتهى كلامه. والقول الأول ضعيف؛ لأن التدليس أصله التغطية والتلبيس وإنما يجيء ذلك فيما أطلقه الراوي عن شيخه بلفظ موهم للاتصال وهو لم يسمعه منه فأما إطلاقه الرواية عمن يعلم أنه لم يلقه أو لم يدركه أصلاً فلا تدليس في هذا يوهم الاتصال وذلك ظاهر وعليه جمهور العلماء والله أعلم " (¬7). وقد اختلف أهل المصطلح في هذا (المرسل الخفي) اختلافاً واسعاً، وكلُّ له أدلته، ولا مجال للزيادة ههنا، وإنما أقول: إن الحافظ ابن حجر رحمه الله لم يخترع هذا المصطلح من قبل نفسه بل سُبق إليه كما مر، وإنما الخلاف وقع في تنزيل المصطلح تطبيقياً، لأن الحافظ ابن حجر محدث وأصولي، فأراد أن يضبط الألفاظ على طريقة المناطقة، لأنه رأى أن القول في التدليس: هو رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن عاصره بينهم عمومٌ ¬

_ (¬1) الكفاية ص375. (¬2) النكت على ابن الصلاح ص 242.وقد جعل المحققان عبارة:" ولهذا لم يذم العلماء من أرسل وذموا من دلس" من كلام الحافظ ابن حجر، والصواب انه من كلام الخطيب كما هو في الكفاية. (¬3) الكفاية ص375. (¬4) فتح المغيث 1/ 183. (¬5) يريد ابن حجر. (¬6) تدريب الراوي 1/ 224. (¬7) جامع التحصيل ص97.

المطلب الثاني: أنواع تدليس الإسناد

مطلقٌ (¬1)،على أنّ المتقدمين يطلقون التدليس أو الإرسال، وغيرهما من المصطلحات باعتبارات لغوية حسب، والله أعلم. المطلب الثاني: أنواع تدليس الإسناد: النوع الأول: تدليس التسوية: وهو أن يروي مدلس حديثاًً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة فيسند المدلس الذي سمع من الثقة ويذكر شيخه الثقة الأول، ويسقط الضعيف الذي في السند بين ثقتين ويجعل الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظ محتمل فيستوي الإسناد كله ثقات (¬2). قال الحافظ العلائي:"وهو مذموم جداً من وجوه كثيرة منها أنه غش وتغطية لحال الحديث الضعيف وتلبيس على من أراد الاحتجاج به. ومنها أنه يروي عن شيخه ما لم يتحمله عنه لأنه لم يسمع منه الحديث إلا بتوسط الضعيف ولم يروه شيخه بدونه. ومنها أنه يصرف على شيخه بتدليس لم يأذن له فيه، وربما ألحق بشيخه وصمة التدليس إذا تتحقق عليه أنه رواه عن الواسطة الضعيف ثم يوجد ساقط في هذه الرواية فيظن أن شيخه الذي أسقطه ودلس الحديث وليس كذلك" (¬3). وقد لا يفعل ذلك لنفسه بل يفعله لشيخه أو بعض من فوقه؛ أي إنه لا يحذف شيخه بل يحذف بعض من فوقه، فكأن هذا الذي فُعل له ذلك هو الذي دلس وهو في الحقيقة غير مدلس (¬4). ونقل السيوطي عن الحافظ ابن حجر القول: إن:" ابن القطان إنما سماه تسوية بدون لفظ التدليس، فيقول: سواه فلان، وهذه تسوية، والقدماء يسمونه تجويداً، فيقولون: جوده فلان، أي ذكر من فيه من الأجواد ... قال: والتحقيق أن يقال متى قيل تدليس التسوية: فلا بد أن يكون كل من الثقات الذين حذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل تسوية بدون لفظ التدليس لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه، كما فعل مالك فإنه لم يقع في التدليس أصلاً، ووقع في هذا فإنه يروي عن ثور عن ابن عباس وثور لم يلقه وإنما روى عن عكرمة عنه فأسقط عكرمة لأنه غير حجة عنده، وعلى هذا يفارق المنقطع بأن ¬

_ (¬1) ينظر فتح المغيث 1/ 224. (¬2) ينظر جامع التحصيل ص97، الكفاية، الخطيب ص 375.،وفتح المغيث، السخاوي 1/ 182،وتدريب الراوي1/ 255،وظفر الأماني ص 377. (¬3) جامع التحصيل ص97. (¬4) تدريب الراوي1/ 226،وينظر فتح المغيث، السخاوي 1/ 183.

شرط الساقط هنا أن يكون ضعيفاً فهو منقطع خاص " (¬1). ... وبهذا يتضح لنا الفرق بين تدليس التسوية وبين والتسوية، وقول الحافظ: إنه منقطع خاص لأن الساقط هنا يشترط أن يكون ضعيفاً، ولا يشترط ذلك في المنقطع ولذا كان المنقطع خاصا (¬2).ومثاله: ما أخرجه ابن أبي حاتم في علله قال:" سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحق ابن راهويه عن بقية، قال: حدثني أبو وهب الاسدي، قال: حدثنا نافع عن ابن عمر، قال:"لا تحمدوا إسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة رأيه". قال أبي: هذا الحديث له علة قل من يفهمها، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو عن إسحق بن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعبيد الله بن عمرو وكنيته أبو وهب وهو أسدي فكناه بقية بن الوليد، ونسبه إلى بني أسد لكيلا يفطن به حتى إذا ترك اسحق بن أبي فروة من الوسط لا يُهتدى به، وكان بقية من أفعل الناس لهذا. وأما ما قال إسحق في روايته عن بقية عن أبي وهب حدثنا نافع، فهو أن وجهه عندي أن أسحق لعله حفظ عن بقية هذا الحديث، ولم يفطن لما عمل بقية من تركه إسحق من الوسط وتكنيته عبيد الله بن عمرو فلم يفتقد لفظة بقية في قوله حدثنا نافع أو عن نافع" (¬3). النوع الثاني: تدليس العطف:"وهو أن يصرح بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخاً آخر له، لم يسمع منه ذلك المروي سواء اشتركا في الرواية عن شيخ واحد أم لا" (¬4). وهو على أصناف ثلاثة: ... الأول: عطف اسم راو على اسم راو قبله مع نية القطع، وهو أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه، ويكون المدلس قد سمع ذلك المروي من أحدهما دون الآخر، فيصرح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه، فيوهم أنه حدث عنه بالسماع أيضاً؛ وهو إنما حدث بالسماع عن الأول ثم نوى القطع فقال: (وفلان)، أي: وحدث فلانٌ. مثاله ما روى الحاكم في قال: (وفيما حدثونا أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوماً على أن لا يأخذوا منه التدليس ففطن لذلك فكان يقول في كل حديث يذكره: حدثنا حسين ومغيرة عن إبراهيم، فلما فرغ قال لهم: هل دلست لكم اليوم؟ فقالوا: لا، فقال: لم أسمع من مغيرة حرفاً مما ¬

_ (¬1) تدريب الراوي1/ 226،وينظر فتح المغيث، السخاوي 1/ 183. (¬2) ينظر أسباب اختلاف المحدثين، خلدون الأحدب 1/ 284. (¬3) العلل 2/ 154 - 155،وقد ذكره الخطيب في كفايته ص 375.والعراقي في شرحه للألفية ص84. (¬4) فتح المغيث، السخاوي 1/ 173بتصرف يسير.

قلته، إنما قلت حدثني حصين، ومغيرة غير مسموع لي) (¬1) ا. هـ. ولكن هذه القصة ذكرها الحاكم بغير سند، ويظهر أنها لم تُرو مسندة، وتناقلها أهل المصطلح هكذا بدون سند. الثاني: عطف جملة سياق حديث على جملة سياق حديث ورد قبله: ... ومثال ذلك فيما يظهر في صنيع هشيم في حديثه التالي: قال عبد الله بن أحمد:"حدثني أبي قال: حدثنا هشيم قال أخبرنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوم خيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً" (¬2)؛ثم قال:"حدثني أبي قال: حدثنا هشيم قال: وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك سمعت أبي يقول: لم يسمعه هشيم من عبيدالله" (¬3).فهشيم ساق حديثاً لشيخه الكلبي بقوله (حدثنا)، ثم عطف عليه حديثاً لشيخه عبيد الله ولكن لم يبدأه بأية صيغة؛ فهو أراد بهذا العطف عطف جملة على جملة، أي (وحدث عبيد الله) إلى آخره، لا عطف فاعل على فاعل، أعني لم يعطف عبيد الله على الكلبي. ... الثالث: أن ينفي السماع من الأول ثم يذكر الثاني من غير صيغة أداء ويوهم أنه سمع منه بخلاف الأول، وقد ادعى بعضهم أن أبا إسحاق السبيعي فعله. قال البخاري: حدثنا أبو نعيم قال حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول:"أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذا ركس". وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن (¬4). قال الحاكم في المعرفة: "قال علي: وكان زهير وإسرائيل يقولان عن أبي إسحاق: إنه كان يقول: ليس أبو عبيدة حدثنا ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستنجاء بالأحجار الثلاثة، قال ابن الشاذكوني: ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى، قال: أبو عبيدة لم يحدثني، ولكن عبد الرحمن عن فلان عن فلان، ولم يقل حدثني؛ فجاز الحديث وسار" (¬5). ... ¬

_ (¬1) معرفة علوم الحديث ص131. (¬2) العلل (2191). (¬3) العلل (2192). (¬4) صحيح البخاري (156). (¬5) معرفة علوم الحديث ص135

ولكن الحافظ ابن حجر بين في (هدي الساري) أن هذا ليس بتدليس، وكذلك فعل في شرح الحديث في (الفتح) فقال: ... "قوله: (ليس أبو عبيدة) أي ابن عبد الله بن مسعود؛ وقوله (ذكره) أي لي (ولكن عبد الرحمن بن الأسود) أي هو الذي ذكره لي بدليل قوله في الرواية الآتية المعلقة (حدثني عبد الرحمن).وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة. ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق. فمراد أبي إسحاق هنا بقوله (ليس أبو عبيدة ذكره) أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة وإنما أرويه عن عبد الرحمن ... قوله (وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه) يعني يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي عن أبي إسحاق وهو جده قال (حدثني عبد الرحمن) يعني ابن الأسود بن يزيد بالإسناد المذكور أولاً. وأراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر كما حُكِي ذلك عن سليمان الشاذكوني حيث قال: لم يسمع في التدليس بأخفى من هذا، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن، ولم يقل: ذكره لي، انتهى. وقد استدل الإسماعيلي أيضاً على صحة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن يكون يحيى القطان رواه عن زهير فقال بعد أن أخرجه من طريقه: والقطان لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان، أو بالتصريح من قوله؛ فانزاحت عن هذه الطريق علة التدليس" (¬1). أ. هـ ... ومن المهم أن أبين أن الحافظ ابن حجر قيد تدليس العطف بقيد هو اشتراك شيخي المدلس في الرواية عن شيخ واحد. (¬2) ... وخالفه في ذلك تلميذه الحافظ السخاوي، مشيراً إلى أن تقييده هذا إنما كان من أجل المثال الذي وقع له (¬3)؛وكذا الصنعاني إذ قال:"لا يقتصر أن يعطف بشيخ واحد، فربما كان العطف ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 256 - 258. (¬2) ينظر فتح المغيث السخاوي 1/ 173،وتوضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 360. (¬3) فتح المغيث السخاوي 1/ 173.

بأكثر من واحد من شيوخه " (¬1). ... النوع الثالث: تدليس القطع: " وهو أن يحذف الصيغة ويقتصر على قوله مثلاً الزهري عن أنس " (¬2).وهذا الصنيع يليق أن يسمى التدليس بحذف الصيغة، أي:"أن يسقط الراوي أداة الرواية مقتصراً على اسم الشيخ أو يأتي بها ثم يسكت ناوياً القطع" (¬3).وبمقتضى هذا التعريف فإن تدليس القطع يكون على صنفين (¬4): ... الأول: أن يقطع اتصال أداة الرواية بالراوي مقتصراً على اسمه فحسب. الثاني: أن يأتي بأداة الرواية ثم يسكت ناوياً القطع ويأتي بعد ذلك باسم الراوي. ومما يجدر التنبه له أن الإمام اللكنوي اعتبرهما –هذين الصنفين-قسماً قائماً بذاته من أقسام التدليس التسعة التي ذكرها في ظفر الأماني (¬5). ... ومن الأمثلة عليه: صنيع هشيم في حديثه الذي رواه عنه عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي قال حدثنا هشيم قال: إما المغيرة وإما الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: لم ير بأساً بمصافحة المرأة التي قد خلت من وراء الثوب؛ سمعت أبي يقول: لم يسمعه هشيم من مغيرة ولا من الحسن بن عبيد الله. (¬6) ومن أمثلته: ما كان يفعله عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي؛ قال ابن سعد في (الطبقات) فيه: (وكان يدلس تدليساً شديداً وكان يقول: " سمعتُ " و "حدثنا "،ثم يسكت ثم يقول: "هشام بن عروة، الأعمش") (¬7) ا. هـ. ... وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي ذكر عمر بن علي فأثنى عليه خيراً، وقال: (كان يدلس، سمعته يقول: حجاج سمعته، يعني: حدثنا آخر، قال أبي: هكذا كان يدلس) ا. هـ (¬8) ومما يجدر التنبيه عليه أن لحافظ ابن حجر (رحمه لله) مثّل في (النكت) لتدليس القطع أو ¬

_ (¬1) توضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 360. (¬2) طبقات المدلسين، ابن حجر العسقلاني ص 14،وينظر فتح المغيث، السخاوي 1/ 172،وتدريب الراوي، السيوطي1/ 224،وتوضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 376. (¬3) المعتصر من مصطلحات أهل الأثر للشيخ عبد الوهاب بن عبد اللطيف ص 34. (¬4) ينظر أسباب اختلاف المحدثين، خلدون الأحدب 1/ 286. (¬5) ظفر الأماني ص379 - 380. (¬6) العلل (2229). (¬7) طبقات ابن سعد7/ 291. (¬8) سؤالات عبد الله بن أحمد لأبيه3/ 14.

المطلب الثالث: حكم تدليس الإسناد

السكوت: (مثاله ما رويناه في الكامل لأبي أحمد بن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول: (حدثنا)، ثم يسكت ينوي القطع، ثم يقول: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها) (¬1). أقول - الباحث-:لا يُعلم أحدٌ وصف الطنافسي بالتدليس غير الحافظ ابن حجر في (النكت)، بل لم يذكره ابن حجر نفسه في (طبقات المدلسين)، ولا وصفه بالتدليس في (التهذيب) ولا (التقريب)، ولكنه قال في ترجمة عمر بن علي المقدمي من (التقريب): (ثقة وكان يدلس شديداً).فهذا كله يدل على أن المقصود هو المقدمي وليس الطنافسي، والله اعلم. ولا يلزم أن يكون التدليس بإسقاط راو واحد بل قد يكون بإسقاط أكثر من راو، فالتدليس قد يقع بإسقاط المدلس أكثر من واسطة بينه وبين شيخه كما قال أحمد بن حنبل في المبارك بن فضالة: كان يرسل [عن] الحسن؛ قيل: يدلس؟ قال: نعم؛ قال: (وحدث يوماً عن الحسن بحديث فوُقِف عليه، قال: حدثنيه بعض أصحاب الحديث عن أبي حرب عن يونس) أي عن الحسن، وبناء على ما تقدم فإنه قد لا يقنع الناقد الفطن بالوقوف على راو واحد بين الراوي المدلس وشيخه في حديث من الأحاديث، لقيام القرينة على قوة احتمال أن تكون الواسطة بينهما أكثر من راو؛ وهذا أمر مهم يدخل في مسألة أحكام متابعة المدلسين والضعفاء لبعضهم في الروايات. وقد ذكر الحافظ ابن جماعة ذلك (¬2)،كما مر. المطلب الثالث: حكم تدليس الإسناد تدليس الإسناد بأنواعه مكروه جداً، وقد ذم التدليس كبار النقاد، وبالغوا في ذمه، فقال شعبة بن الحجاج:"التدليس في الحديث أشد من الزنا ولَأَنْ أسقط من السماء أحب إلي من أن أدلس" (¬3)،ونقل مُرَّةٌ عنه القول:"لَأَنْ أزني أحب إلي من أدلس" (¬4).وقال حماد بن زيد:" المدلس متشبع بما لم يُعْطَ". (¬5) ¬

_ (¬1) النكت ص 244. (¬2) المنهل الروي ص72. (¬3) الكفاية، الخطيب ص 356،وتدريب الراوي، السيوطي 1/ 223. (¬4) ينظر المصدر السابق. (¬5) معرفة علوم الحديث، الحاكم ص131،والكفاية، الخطيب ص 356،وتدريب الراوي، السيوطي 1/ 223.

وقال سليمان بن داود المنقري:" التدليس والغش والغرور والخداع والكذب يحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد ... وذكر لعبد الله بن المبارك رجل ممن كان يدلس، فقال فيه قولاً شديداً وأنشد فيه: دلس للناس أحاديثه والله لا يقبل تدليسا " (¬1). واختلف أهل العلم في قبول حديث المدلس على أقوال: 1 - عدم القبول مطلقاً: فلا تقبل روايته لما فيه من الغش والتُّهَمة، إذ عدل عن الكشف إلى الاحتمال، وهو تشبع بما لم يعط (¬2). قال الخطيب:" وقال فريق من الفقهاء وأصحاب الحديث إن خبر المدلس غير مقبول لأجل ما قدمنا ذكره من أن التدليس يتضمن الإيهام لما لا أصل له، وترك تسمية من لعله غير مرضي ولا ثقة وطلب توهم علو الإسناد وان لم يكن الأمر كذلك" (¬3).وقال السيوطي:"مكروه جدا ذمه أكثر العلماء وبالغ شعبة في ذمه فقال لأن أزني أحب إلي من أن أدلس وقال التدليس أخو الكذب، قال فريق منهم من عرف به صار مجروحا مردود الرواية وإن بين السماع" (¬4). 2 - القبولُ مطلقاً: قال الخطيب:"وقال خلق كثير من أهل العلم خبر المدلس مقبول لأنهم لم يجعلوه بمثابة الكذاب ولم يروا التدليس ناقضا للعدالة وذهب إلى ذلك جمهورُ مَنْ قَبِل المراسيل من الأحاديث وزعموا أن نهاية أمره أن يكون التدليس بمعنى الإرسال " (¬5). ... وقال التهانوي:"الأصح أن التدليس ليس بجرح " (¬6). ... وذكر العلامة ابن الوزير اليماني:"أن قبول خبر المدلس هو مذهب عامة اليزيدية والمعتزلة، وقال في تعليل قبول الزيدية له: إن التدليس ضرب من الإرسال والمرسل محتج به عندهم" (¬7). ¬

_ (¬1) معرفة علوم الحديث، الحاكم ص131. (¬2) ينظر المقدمة، ابن الصلاح ص 67،وفتح المغيث، السخاوي 1/ 173. (¬3) تدريب الراوي 1/ 223. (¬4) الكفاية ص 361. (¬5) الكفاية ص 361. (¬6) قواعد في علوم الحديث ص 138. (¬7) تنقيح الأنظار، شرح توضيح الأفكار 1/ 347.

3 - قبول الرواية من المدلس إذ عرف عنه أنه لا يدلس إلا عن ثقة: ... قال الحافظ العراقي: قال الإمام أبو بكر البزار في جزئه "معرفة من يترك حديثه أو يقبل":"إن من كان يدلس عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولاً، .. فمن كانت هذه صفته وجب أن يكون حديثه مقبولا ً وإن كان مدلساً" (¬1). ... وقال الخطيب:"وقال بعض أهل العلم: إذا دلس المحدث عمن لم يسمع منه ولم يلقه وكان ذلك الغالب على حديثه لم تقبل رواياته (¬2).وأما إذا كان تدليسه عمن قد لقيه وسمع منه فيدلس عنه رواية مالم يسمعه منه فذلك مقبول بشرط أن يكون الذي يدلس عنه ثقة" (¬3). وهو مذهب أكثر أئمة الحديث كما نص على ذلك ابن عبد البر فقال:"فمن كان لا يدلس الا عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولا وإلا فلا " (¬4). ... ونقل الخطيب عن أبي الفتح الأزدي الحافظ القول:"التدليس على ضربين: فإن كان تدليسا عن ثقة لم يحتج أن يوقف على شيء وقبل منه، ومن كان يدلس عن غير ثقة لم يقبل منه الحديث إذا أرسله حتى يقول: حدثني فلان أو سمعت، فنحن نقبل تدليس ابن عيينة ونظرائه، لأنه يحيل على ملىء ثقة ولا نقبل من الأعمش تدليسه لأنه يحيل ملىء والأعمش إذا سألته عمن هذا؟ قال: عن موسى بن طريف (¬5) وعباية بن ربعي (¬6) وابن عيينة إذا وقفته قال عن ابن جريج ومعمر ونظرائهما فهذا الفرق بين التدليسين" (¬7). ... 4 - ما رواه المدلس الثقة بلفظ مبين الاتصال، نحو سمعت وحدثنا وأخبرنا وأشباهها قبل منه، واحتج به. قال الخطيب:"وقال آخرون خبر المدلس لا يقبل إلا أن يورده على وجه مبين غير محتمل للإيهام فإن أورده على ذلك قبل" (¬8). قال الخطيب:"وهذا هو الصحيح عندنا" (¬9). ¬

_ (¬1) شرح الفية الحديث، العراقي ص 80. (¬2) وهذا ما عده الحافظ ابن حجر ومن تبعه من حذاق الصنعة إرسالا خفيا. (¬3) الكفاية ص 361. (¬4) التمهيد 1/ 17،وينظر فتح المغيث، السخاوي 1/ 174. (¬5) قال الذهبي في الميزان:6/ 545:"كذبه أبو بكر بن عياش، وقال: يحيى، والدارقطني ضعيف، وقال الجوزجاني: زائغ ". (¬6) ضعيف من غلاة الشيعة، ينظر الميزان 4/ 56. (¬7) الكفاية ص 361. (¬8) الكفاية ص 365. (¬9) ينظر المصدر السابق.

وقال الحافظ العلائي:"والصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرح فيه بالسماع، دون ما رواه بلفظ محتمل، لأن جماعة من الأئمة الكبار دلسوا، وقد اتفق الناس على الاحتجاج بهم ولم يقدح التدليس فيهم كقتادة، والأعمش، والسفيانين الثوري، وابن عيينة، وهشيم بن بشير، وخلق كثير. وأيضا فإن التدليس ليس كذبا صريحا بل هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته، وليست تلك العورة بكذب فيرد حديثه ولا على النصيحة في الصدق فيقبل منه ما قبلناه من أهل الصدق، فلذلك قلنا إنه لا يقبل من المدلس حديث حتى يقول: حدثنا وسمعت؛ هذا لفظه. والذي ينبغي أن ينزل قول من جعل التدليس مقتضيا لجرح فاعله على من أكثر التدليس عن الضعفاء وأسقط ذكرهم تغطية لحالهم، وكذلك من دلس اسم الضعيف حتى لا يعرف، ولهذا ترك جماعة من الأئمة كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وغيرهما الاحتجاج ببقية مطلقا. قال ابن حبان: سمع بقية من شعبة ومالك وغيرهما أحاديث مستقيمة، ثم سمع من أقوام كذابين عن مالك وشعبة فروى عن الثقات بالتدليس ما أخذ عن الضعفاء. ولا شك في أن مثل هذا مقتض للجرح لكن الذي استقر عليه عمل الأكثرين الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة بلفظ صريح في السماع وبهذا أجاب علي بن المديني ويحيى ابن معين وغيرهما". (¬1) قلت: وهو الذي ذهب إليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول، كما مر (¬2). أما ما كان في الصحيحين من رواية المدلسين بصيغة العنعنة، فهو محمول على ثبوت السماع عندهم فيه من جهة أخرى كما نص على ذلك الإمام النووي وغيره (¬3).وتوسع الصنعاني أيما توسع وأجاد، فلينظر (¬4). ... وقال العلامة المعلمي في بيان كون التدليس جرحاً لصاحبه أم لا؟: (ذكر أبو رية ما حكي عن شعبة في ذم التدليس وقال: "ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة، فرد روايته مطلقاً وإن أتى بلفظ الاتصال"،أقول-والقائل المعلمي-: بعد أن استحكم العرف الذي مر ¬

_ (¬1) جامع التحصيل ص98 - 101،وينظر شرح الفية الحديث، العراقي ص80. (¬2) ينظر للمزيد مقدمة ابن الصلاح ص67،واختصار علوم الحديث بشرحه الباعث الحثيث، ابن كثير ص 46،وشرح الألفية، للعراقي ص80،وفتح المغيث، السخاوي 1/ 175،وتدريب الراوي، السيوطي 1/ 329،وتوضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 352. (¬3) تقريب النواوي بشرحه تدريب الراوي 1/ 230. (¬4) توضيح الأفكار 1/ 353 - 366.

بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان: ... الضرب الأول: من بين عدم التزامه فصار معروفاً عند أصحابه والآخذين عنه أنه إذا قال: (قال فلان 000) ونحو ذلك وسمى بعض شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر من ذاك الشيخ واحتمل أن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلس أحدهم خبراً مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلس فسئل بيّن الواقع. ... الضرب الثاني: من لم يبين بل يتظاهر بالالتزام ومع ذلك يدلس عمداً. وتدليس هذا الضرب الثاني حاصله إفهام السامع خلاف الواقع، فإن كان المدلس مع ذلك متظاهراً بالثقة كان ذلك حملاً للسامع ومن يأخذ عنه على التدين بذاك الخبر عملاً وإفتاءً وقضاءً. فأما تدليس الضرب الأول فغايته أن يكون الخبر عند السامع محتملاً للاتصال وعدمه، وما يقال إن فيه إيهام الاتصال إنما هو بالنظر إلى العرف الغالب بين المحدثين، فأما بالنظر إلى عرف المدلس نفسه فما ثم إلا الاحتمال. فالضرب الثاني هو اللائق بكلمات شعبة ونحوها وبالجرح وإن صرح بالسماع" (¬1). ومما تجدر الإشارة إليه: هو أنّ المدلس إذا لم يثبت سماعه لحديث بعينه من شيخه، وكان الأمر على الاحتمال، ثم تابعه على رواية ذلك الحديث عن ذلك الراوي الذي فوقه: بعضُ الرواة، فلا يصح أن تجعل المتابعة - حينئذ - لذلك المدلِّس، لاحتمال أن تكون للواسطة التي أسقطها بينه وبين شيخه. بل قد تكون تلك الواسطة المحذوفة ذلك المتابِعَ نفسَه، أعني الراوي الذي كان يُظَن أنه متابع للمدلس، وهو في الحقيقة شيخه المحذوف؛ فإن ثبت مثل ذلك بشأن بعض روايات المدلسين، فحينئذ يكون على ذلك المحذوف مدار الروايتين. ثم إن تبين أن ذلك الشيخ قد تفرد بالحديث: حُكِم على حديثه ذاك بمقتضى ذلك السند، فإن وُجد أن ذلك الراوي ضعيفٌ ضُعّف الحديث بسببه، فصارت الرواية التي كانت تعدُّ – أول الأمر – متابعةً: دليلاً على ضعف رواية المدلس لا على قوتها. ومثال ذلك: حديث عمرو بن شعيب، قال: طاف محمد - جده - مع أبيه عبد الله بن عمرو، فلما كان سبعهما، قال محمد لعبد الله حيث يتعوذون: استعذ؛ فقال عبد الله: أعوذ بالله من الشيطان؛ فلما استلم الركن تعوذ بين الركن والباب، وألصق جبهته وصدره بالبيت، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا". ¬

_ (¬1) الأنوار الكاشفة ص161.

فهذا الحديث رواه ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو؛ أخرجه عبد الرزاق في (المصنف) (¬1).وتابع ابنَ جريج في روايته عن عمرو به: المثنى بنُ الصبّاح، عند أبي داود، (¬2)،لكن ابن جريج مدلس، وقد ثبت أنه دلس في هذا الحديث، وثبت أن الواسطة بينه وبين عمرو بن شعيب هو المثنى نفسه، إذ أخرجه، من غير تدليس، عبدُ الرزاق في (المصنف) أيضاً (¬3)،فرواه عن ابن جريج عن المثنى عن عمرو بن شعيب به. ... وبهذه الرواية يتبين أن رواية ابن جريج عن عمرو، لهذا الحديث، لا تتقوى برواية ابن المثنى عن عمرو للحديث نفسه، أعني التي عند أبي داود؛ بل تبين أنها رواية ساقطة - كرواية أبي داود، وكرواية عبد الرزاق الأخرى المتصلة – لأنها راجعة إلى رواية المثنى نفسه، وهو ضعيف بمرة ولا يحتج به (¬4). ... أما إذا روى المدلس حديثاً بالعنعنة ثم وقف على رواية صحيحة الإسناد إلى المدلس، وهو يذكر فيها واسطة بينه وبين من فوقه في الإسناد الأول، فإنه حينئذ يُعلم بذلك أن في موضع العنعنة انقطاعاً أي تدليساً؛ قال ابن القطان: "فإذا روى المدلس حديثاً بصيغة محتملة، ثم رواه بواسطة تبين انقطاع الأول عند الجميع" (¬5)؛ قال الحافظ ابن حجر –معلقاً_:" وهذا بخلاف غير المدلس، فإن غير المدلس يُحمل غالب ما يقع منه من ذلك على أنه سمعه من الشيخ الأعلى، وثبَّتَه فيه الواسطة" (¬6). ¬

_ (¬1) المصنف 5/ 75. (¬2) السنن (1899). (¬3) المصنف 5/ 74. (¬4) ينظر التهذيب 10/ 36. (¬5) النكت ص 249. (¬6) ينظر المصدر السابق.

المبحث الثالث: تدليس الشيوخ

المبحث الثالث: تدليس الشيوخ المطلب الأول: تعريفه: وهو أن يروي الراوي عن الشيخ، فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه، بما لم يشتهر به، أو بما لم يعرف به أصلاً؛ فإما أن يُجْهَل - بسبب ذلك - الشيخ المراد تعيينه، أو توافق تسميته تسمية غيره من الثقات أو الكبار أو المشاهير فيوهم ذلك أنه المراد بكلامه. ... وعرفه العراقي:"بأن يصف المدلس شيخه الذي سمع ذلك الحديث منه بوصف لا يعرف به من اسم كنيته أو نسبة إلى قبيلة أو بلد أو صنعة أو نحو، ذلك كي يوعر الطريق إلى معرفة السامع له" (¬1). وعلق الحافظ العسقلاني على هذا التعريف بقوله:"ليس قوله مما لا يعرف به قيدا، بل إذا ذكره بما يعرف به إلا أنه لم يشتهر به كان ذلك تدليساً" (¬2).وهو تعقب متجه، والله أعلم. وعرفه السيوطي بقوله:" تدليس الشيوخ بأن يسمي شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف " (¬3). وفي هذا القسم من التدليس تضييع للمروي عنه وتوعير لطريق معرفته على من يطلب الوقوف على حاله وأهليته كما قال الإمام ابن الصلاح (¬4). ... ويختلف تدليس الشيوخ باختلاف الأغراض فمنهم من يدلس شيخه لكونه ضعيفا أو متروكا حتى لا يعرف ضعفه إذا صرح باسمه ومنهم من يفعل ذلك لكونه كثير الرواية عنه كي لا يتكرر ذكره كثيرا أو لكونه متأخر الوفاة قد شاركه فيه جماعة فيدلسه للإغراب أو لكونه أصغر منه أو لشيء بينهما. ... وينبغي الاعتناء بمعرفة أسماء الرواة الذين كانوا يتعاطون هذا النوع من التدليس، فإنه يورد ريبة في كل شيخ لأحدهم غير معروف، وكذلك يورد ريبة في روايته عن حافظ ثقة شهير له أصحاب يلازمونه وتفرد عنه بالحديث ذلك المدلس، دونهم، فحينئذ يقوم الاحتمال على أن يكون المسمى بذلك الاسم راوياً آخر غير ذلك الحافظ الشهير، وقد يكون مجروحاً أو مجهولاً، ولكن ذلك المدلس دلس اسمه عمداً، غيَّره ليوافق اسم الحافظ المشهور ليوهم أنه هو شيخه في ذلك الحديث. ومن الكتب المُساعدة على كشف هذا النوع من التدليس (موضح أوهام الجمع ¬

_ (¬1) شرح الفية الحديث، العراقي ص83 وينظر المقدمة، ابن الصلاح ص68،واختصار علوم الحديث بشرحه الباعث الحثيث، ابن كثير ص47،والنكت على ابن الصلاح، ابن حجر ص244،وفتح المغيث، السخاوي 1/ 175،وتدريب الراوي، السيوطي1/ 228. (¬2) النكت ص 244. (¬3) تدريب الروي 1/ 228. (¬4) المقدمة ص68.وينظر شرح الفية الحديث، العراقي ص84.

والتفريق) للخطيب البغدادي. ومما يجدر التنبيه عليه: أن هذا النوع من التدليس لا علاقة له بالاتصال والانقطاع، فحقه أن يذكر في كتب المصطلح في أبواب أسماء الرواة وكناهم وألقابهم، ولكن جرت عادة المصنفين في هذا الفن بذكر أنواع التدليس مجتمعة في موضوع الاتصال والانقطاع غالباً؛ ولذلك - أو لغيره - يذكرون هذا النوع في أبوابها. ... ومن أهم أضرار تدليس الأسماء، ما نبه عليه ابن دقيق العيد رحمه الله: فقال: (فيه -أي تدليس اسم الشيخ الثقة- مفسدة من جهة أنه قد يخفى فيصير الراوي المدلس مجهولاً لا يُعرف فيسقط العمل بالحديث مع كونه عدلاً في نفس الأمر) (¬1). ... وعقب عليه الحافظ ابن حجر في (النكت) فقال:" وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع، لكن من مفسدته أن يوافق ما يدلَّس به شهرة راو ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه، فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح؛ وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليخفي أمره فينتقل عن رتبة من يُرَدُّ خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه. فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فمفسدته أشد؛ كما وقع لعطية العوفي في تكنيته محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد، فكان إذا حدث عنه يقول: حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه لأن عطية كان لقيه وروى عنه؛ وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ وأما ما عدا ذلك من تدليس الشيوخ، فليس فيه مفسدة تتعلق بصحة الإسناد وسقمه، بل فيه مفسدة دينية فيما إذا كان مراد المدلس إيهام تكثير الشيوخ لما فيه من التشبع ونظيره في تدليس الإسناد أن يوهم العلو وهو عنده بنزول" (¬2). ... ومن أهم أسباب تدليس الشيوخ: أن يكون الشيخ المدلَّس اسمُه: مجروحاً أو مجهولاً أو صغيراً أو قريباً أو تكون أحاديثه مشهورة متداولة قد سمعها أكثر الحاضرين في مجلس المدلس، أو مجلس غيرِه، أو يكون المدلس مكثراً عن ذلك الراوي فيغير تسميته دفعاً للتكرار. ... وبعبارة أخرى: سبب تدليس الإسناد إرادة إخفاء حقيقة الراوي وإيهام أن الحديث لراو آخر غيره؛ إما بسبب صغره أو قربه أو رغبة الناس عن حديثه أو كراهته أو الخوف من ذكره عند من يعاديه أو كذبه أو تركه أو ضعفه، وذلك أن قوماً سمعوا الحديث من ضعفاء لهم أسماء أو كنى مشهورة عرفوا بها فلو صرحوا بأسمائهم المشهورة وكناهم المعلومة لم يُشتغَل بحديثهم فأتوا ¬

_ (¬1) نقله الحافظ ابن حجر في النكت ص251،والصنعاني في توضيح الأفكار 1/ 372. (¬2) النكت على ابن الصلاح ص 251.

بالاسم الخامل وبالكنية المجهولة ليبهموا الأمر ولئلا يعرف ذاك الراوي وضعفه فيزهد في حديثهم. تدليس البلاد: ... ومما يلتحق بتدليس الشيوخ تدليس البلاد، قال الحافظ ابن حجر:"ويلتحق بتدليس الشيوخ، ومثاله ما إذا قال المصري: (حدثني فلان بالأندلس) وأراد موضعاً بالقرافة؛ أو قال: (بزقاق حلب) وأراد موضعاً بالقاهرة؛ أو قال البغدادي: (حدثني فلان بما وراء النهر) وأراد نهر دجلة، أو قال: (بالرقة) وأراد بستاناً على شاطئ دجلة؛ أو قال الدمشقي: (حدثني فلان بالكرك) وأراد كرك نوح، وهو بالقرب من دمشق" (¬1).وحكْمه الكراهة، لأنه يدخل في باب التشبع بغير المُعطى، وإيهام الرحلة في طلب الحديث (¬2). وهم إنما يفعلون تدليس البلاد لإيهام الرحلة أو ليكون البلد المتوهَّم قرينة تُوْهم أن شيخ ذلك المدلس، أو شيخ شيخه، هو أحد مشاهير محدثي ذلك البلد المتوهَّم، مع أنه - في الحقيقة - غيره ولكنه يشاركه في التسمية، دون البلد. وذهب العلامة اللكنوي في ظفر الأماني إلى اعتبار تدليس البلاد قسيماً لتدليس الشيوخ وليس فرعاً منه. وجعله (تدليس البلاد) مندرجاً تحت تدليس الإسناد فخالف فيه جمهور أهل المصطلح، والأصوب هو ما نص عليه الإمام ابن حجر من جعله ملحقاً بتدليس الشيوخ، وهو ما سار عليه عامة علماء المصطلح، والله أعلم (¬3). ... ومن يتأمل في أسباب تدليس البلاد: يجد أن غرض من يفعل هذا النوع من التدليس قد اتضح مما تقدم، وهو إخفاء حقيقة موضع التحمل وإيهام أنه موضع آخر؛ إما لإيهام الرحلة أو إيهام السماع من راو شهير من أهل ذلك البلد المراد توهم السماع فيه أو إيهام قدم السماع أو غير ذلك. ... من تحمل تحملاً سيئاً وحدث عن ذلك السماع وهو يظنه جيداً كافياً للرواية عنه تكُلم في سماعه، فإن أتى بما ينكر عليه ضُعف، فإن أوهم أنه سماع حسن فهو مدلس أو متساهل، وأما إن جزم بأنه حسن وهو يعلم الحال ويميز الفرق بين السماعين السيئ والجيد فهو كاذب. ¬

_ (¬1) النكت على ابن الصلاح ص262،وينظر فتح المغيث، السخاوي1/ 184،وتوضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 373. (¬2) اينظر ما سبق. (¬3) ظفر الأماني في مختصر الجرجاني ص380.

المطلب الثاني: حكم تدليس الشيوخ

المطلب الثاني: حكم تدليس الشيوخ: ... يختلف الحكم في هذا القسم باختلاف مقصد التدليس (¬1)، قال ابن الصلاح:" أمره أخف منه " (¬2) يريد أخف من الإسناد، وكذا قال العراقي (¬3).وقال البقاعي:"إنما كان دونه لأن التدليس في الشيوخ يعرفه الماهر من أهل الصنعة، وأما في الإسناد فلا يُعرف إلا من قبل المدلس بأن يعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث من ذلك الشيخ ............. ". (¬4). ... وقال الحافظ ابن كثير في حكم تدليس الشيوخ:"تارة يكره كما إذا كان أصغر سناً منه، أو نازل الرواية ونحو ذلك، وتارة يحرم كما إذا كان غير ثقة فدلسه لئلا يعرف حاله، أو أوهم أنه رجل آخر من الثقات على وفق اسمه أو كنيته " (¬5). ... وقال الحافظ ابن حجر:" وقد يفعل ذلك - تدليس الشيوخ -لضعف شيخه وهو خيانة ممن تعمده " (¬6).ونبه الحافظ على وجود مظنة المفسدة في هذا النوع، من اختلاط أسماء الضعفاء بالثقات كما حصل في كنية عطية العوفي بأبي سعيد، حتى ظن البعض ممن لا يجيد الصنعة أنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه (¬7).وقال السيوطي في التدريب:" القسم الثاني فكراهته أخف من الأول وسببها توعير طريق معرفته على السامع، كقول أبي بكر بن مجاهد أحد أئمة القراء حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله، يريد أبا بكر بن أبي داود السجستاني، وفيه تضييع للمروي عنه والمروي أيضاً، لأنه قد لا يفطن له فيحكم عليه بالجهالة. ... وتختلف الحال في كراهته بحسب غرضه، فإن كان لكون المغير اسمه ضعيفاً فيدلسه حتى لا يظهر روايته عن الضعفاء، فهو شر هذا القسم والأصح: أنه ليس بجرح. ... وجزم ابن الصباغ في العدة:" بأن من فعل ذلك؛ لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس، وإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره، يجب أن لا يقبل خبره، وإن كان هو يعتقد منه الثقة فقد غلط في ذلك؛ لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو، فإن كان لصغر سنه، فيكون ¬

_ (¬1) الكفاية ص 361. (¬2) ينظر شرح الألفية للعراقي ص 82. (¬3) مصدر سابق. (¬4) توضيح الأفكار 1/ 38. (¬5) اختصار علوم لحديث بشرحه الباعث الحثيث ص47. (¬6) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ص26. (¬7) ينظر توضيح الأفكار، الصنعاني 1/ 272.

تدليس الإجازة

ذلك رواية عن مجهول، لا يجب قبول خبره حتى يعرف من روى عنه.". (¬1). وقال الآمدي (¬2):"إن فعله لضعفه فجرح أو لضعف نسبه أو لاختلافهم في قبول روايته فلا".وقال ابن السمعاني: (¬3) إن كان بحيث لو سئل عنه لم يبينه فجرح وإلا فلا. ومنع بعضهم إطلاق اسم التدليس على هذا، روى البيهقي في المدخل عن محمد بن رافع قال: قلت لأبي عامر كان الثوري يدلس؟ قال لا. قلت أليس إذا دخل كورة يعلم أن أهلها لا يكتبون حديث رجل قال حدثني رجل وإذا عُرف الرجل بالاسم كناه وإذا عُرف بالكنية سماه؟ قال هذا تزيين ليس بتدليس أو لكونه صغيرا في السن أو متأخر الوفاة حتى شاركه من هو دونه فالأمر فيه سهل أو سمع منه كثيرا فامتنع من تكراره على صورة واحدة إيهاما لكثرة الشيوخ أو تفننا في العبارة فسهل أيضا وقد يسمح الخطيب وغيره من الرواة المصنفين بهذا ". (¬4). تدليس الإجازة: ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني نوعاًًًًً أخر للتدليس نذكره هنا تتمة للفائدة , وهو تدليس الإجازة: وهو أن يروي الراوي ما تحمله بالإجازة، بصيغة أداء توهم أنه سمعه من المجيز، أو أنه كتب به إليه، مع أنه إنما سمع منه عبارة الإجازة فقط، أو كتب إليه بالإجازة فقط، وأشار إلى المجاز به، أو عينه، دون أن يكتبه له. ومن تلك الصيغ المستعملة للإيهام (أخبرني) و (شافهني) و (كتب إلي). قال ابن حجر: "ويلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدثين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة موهماً للسماع ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئاً" (¬5). وممن وُصف بهذا النوع من التدليس أبو نعيم الأصبهاني، قال ابن حجر:"كانت له إجازة من أناس أدركهم ولم يلقهم فكان يروي عنهم بصيغة " أخبرنا "، ولا يبين كونها إجازة، لكنه كان إذا حدث عمن سمع منه يقول: "ثنا " سواء كان ذلك قراءة أو سماعاً، وهو اصطلاح له تبعه عليه بعضهم، وفيه نوع تدليس لمن لا يعرف ذلك" (¬6). ... ومن أهل العلم من لم يرض بتسمية هذا الصنيع تدليساً؛ قال العلائي عقب ذكره طبقات ¬

_ (¬1) شرح ألفية العراقي ص 83. (¬2) ينظر تدريب الراوي 1/ 231. (¬3) مصدر سابق. (¬4) تدريب الراوي1/ 231،والمنهل الروي، ابن جماعة ص 73. (¬5) طبقات المدلسين ص62،ونبه على ذلك في النكت على ابن الصلاح ص62. (¬6) طبقات المدلسين ص62.

تدليس المتون

المدلسين: "وهذا كله في تدليس الراوي ما لم يتحمله أصلاً بطريق ما؛ فأما تدليس الإجازة والمناولة والوجادة بإطلاق " أخبرنا " فلم يعده أئمة الفن في هذا الباب، كما قيل في رواية أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب، وروايةِ مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه، وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري، وشبه ذلك؛ بل هو إما محكوم عليه بالانقطاع أو يعد متصلاً؛ ومن هذا القبيل ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي عن الحافظ أبي الحسن الدارقطني أنه كان يقول فيما لم يسمع من البغوي: "قرئ على أبي القاسم البغوي حدثكم فلان" ويسوق السند إلى آخره، بخلاف ما هو سماعه فإنه يقول فيه: "قرىء على أبي القاسم وأنا أسمع"، أو "أخبرنا أبو القاسم البغوي قراءةً "، ونحو ذلك؛ فإما أن يكون له من البغوي إجازة شاملة بمروياته كلها فيكون ذلك متصلاً له، أو لا يكون كذلك فيكون وجادة؛ وهو قد تحقق صحة ذلك عنه؛ على أن التدليس في المتأخرين بعد سنة ثلاث مائة يقل جداً قال الحاكم: لا أعرف في المتأخرين من يُذكر به إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي) (¬1). تدليس المتون: وأضاف أبو المظفر السمعاني نوعاً آخر وهو تدليس المتون، قال:"وأما من يدلس في المتون فهذا مطرح الحديث مجروح العدالة وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه فكان ملحقاً بالكذابين ولم يُقبل حديثه" (¬2).وهو ما يسميه أهل المصطلح الإدراج. المبحث الرابع: طبقات المدلسين: المدلسون ليسوا بمرتبة واحدة فمنهم المقل، ومنهم المكثر، ومنهم بين ذلك، ومنهم من لم يدلس إلا نادراً، يقول العلائي:" ليعلم بعد ذلك أن هؤلاء كلهم ليسوا على حد واحد بحيث إنه يتوقف في كل ما قال فيه واحد منهم عن ولم يصرح بالسماع بل هم على طبقات " (¬3). وقسم الحافظ العلائي طبقات المدلسين إلى خمس طبقات هي (¬4): ... الطبقة الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادرا جدا بحيث إنه لا ينبغي أن يعد فيهم, كيحيى ¬

_ (¬1) جامع التحصيل ص 114. (¬2) قواطع الأدلة 2/ 323،وينظر ظفر الأماني، اللكنوي ص380. (¬3) جامع التحصيل ص 113،وطبقات المدلسين، ابن حجر ص13،وظفر الأماني، اللكنوي ص380. (¬4) جامع التحصيل ص 113،وطبقات المدلسين، ابن حجر ص13 - 16.

بن سعيد الأنصاري (¬1) وهشام بن عروة (¬2) وموسى بن عقبة (¬3). ... الطبقة الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وخرجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع وذلك إما لإمامته أو لقلة تدليسه في جنب ما روى أو لأنه لا يدلس إلا عن ثقة, كالزهري (¬4) وسليمان الأعمش (¬5) وإبراهيم النخعي (¬6) وإسماعيل بن أبي خالد (¬7) وسليمان التيمي (¬8) وحميد الطويل (¬9) والحكم بن عتيبة (¬10) ويحيى بن أبي كثير (¬11) وابن جريج (¬12) والثوري (¬13) وابن عيينة (¬14) وشريك (¬15) وهشيم (¬16).قال العلائي:"ففي الصحيحين وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع، وبعض الأئمة حمل ذلك على أن الشيخين اطلعا على سماع الواحد لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ عن ونحوها من شيخه، وفيه تطويل، الظاهر أن ذلك لبعض ما تقدم آنفا من الأسباب، قال البخاري: لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور وذكر مشايخ كثير لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا ما أقل تدليسه" (¬17). ... ¬

_ (¬1) تنظر ترجمته في التهذيب 11/ 221 - 224. (¬2) تنظر ترجمته في الميزان 4/ 301،والتهذيب 11/ 48. (¬3) تنظر ترجمته في الميزان 4/ 214،والتهذيب 10/ 360. (¬4) تنظر ترجمته في التهذيب 9/ 449. (¬5) تنظر ترجمته في لميزان 2/ 224،والتهذيب 4/ 222. (¬6) تنظر ترجمته في الميزان 1/ 74،والتهذيب 1/ 158. (¬7) ينظر ترجمته في التهذيب 1/ 291. (¬8) ينظر التهذيب 4/ 175،ومما يجدر التنبيه عليه أن الحافظ ابن حجر ذكر في تقريب أهل التدليس ص 37 سلمة بن تمام الشقري بدلا عن التيمي وترجمته في الميزان 4/ 188،والتهذيب 4/ 142. (¬9) الميزان 1/ 610،والتهذيب 2/ 38. (¬10) التهذيب 2/ 432. (¬11) ينظر الميزان 4/ 402،والتهذيب 11/ 268. (¬12) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي فقيه الحجاز مشهور بالعلم والثبت كثير الحديث ينظر الجرح والتعديل 5/ 356 وتهذيب الكمال 18/ 117 والتبيين ص139 وطبقات المحدثين ص41. (¬13) ينظر الميزان 2/ 169،والتهذيب 4/ 111. (¬14) ينظر الميزان 2/ 170،والتهذيب 4/ 117. (¬15) ينظر الميزان 2/ 270،والتهذيب 4/ 333. (¬16) هو ابن بشير، ينظر ترجمته في الميزان 4/ 306،والتهذيب 11/ 59. (¬17) جامع التحصيل ص 113.

الطبقة الثالثة: من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا بهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع وقَبِلَهم آخرون مطلقا كالطبقة التي قبلها: كالحسن (¬1) وقتادة (¬2) وأبي إسحاق السبيعي (¬3) وأبي الزبير المكي (¬4) وأبي سفيان طلحة بن نافع (¬5) وعبد الملك بن عمير (¬6). ... الطبقة الرابعة: من إتُّفِقَ على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لغلبة تدليسهم وكثرته عن الضعفاء والمجهولين: ... كابن إسحاق (¬7) وبقية (¬8) وحجاج بن أرطاة (¬9) وجابر الجعفي (¬10) والوليد بن مسلم (¬11)،وسويد بن سعيد (¬12). ... الطبقة الخامسة: من قد ضُعِّفَ بأمر التدليس فرد حديثهم به لا وجه له إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجا به كأبي جناب (¬13)،وأبي سعد البقال (¬14). ... وقد سار الحافظ ابن حجر على نهج العلائي في تقسيمه الرواة الموصوفون بالتدليس على خمس مراتب في كتابه طبقات المدلسين، وزاد على ما ذكره الحافظ العلائي في تحصيله عددا من الرواة (¬15) وهذه المراتب هي: الأولى: من لم يوصف بذلك إلا نادرا كيحيى بن سعيد الأنصاري (¬16). الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة (¬17). الثالثة: من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة بشيء من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقا ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي (¬18). الرابعة: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد (¬19). الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع الا أن يوثق من كان ضعفه يسيرا كابن لهيعة. أقول: وهذا التقسيم المذكور قد حرره الحافظ العلائي –كما مر – وقد أفرد أسماء المدلسين بالتصنيف علماء عدة؛ فمن القدماء الحسين بن علي الكرابيسي (¬20) صاحب الإمام الشافعي ثم النسائي (¬21) ثم الدارقطني ثم نظم الحافظ شمس الدين الذهبي في ذلك قصيدة ذكرت أسماء المدلسين (¬22) وزاد عليه تلميذه الحافظ أبو محمود أحمد بن المقدسي (¬23) من تصنيف العلائي شيئا كثيرا مما فات الذهبي ذكره، ثم ذيل حافظ العصر أبو الفضل بن الحسين الحافظ العراقي في هوامش كتاب العلائي أسماء وقعت له زائدة، ثم ضمها ولده العلامة قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة الحافظ ابن الحافظ (¬24) إلى من ذكرهم العلائي وجعله تصنيفا مستقلا، وزاد من تتبعه شيئا يسيرا جدا، وأفرد ¬

_ (¬1) ذكر مصنفوا الطبقات في هذا الفن ثلاثة كلهم اسمه حسن: وهم الحسن البصري وترجمته الميزان 1/ 527،والتهذيب 2/ 263.،والحسن بن ذكوان وترجمته في الميزان 1/ 489، التهذيب 2/ 276. والحسن بن مسعود الدمشقي، الميزان 1/ 523. والحسن إذا أطلقت إنما يراد بها البصري –كما هو مقرر عند أهل الصنعة-. (¬2) هو السدوسي، ينظر الميزان 3/ 385،والتهذيب 8/ 351 .. (¬3) ينظر الميزان 3/ 270،والتهذيب 8/ 63. (¬4) ينظر الميزان 4/ 37،والتهذيب 9/ 440. (¬5) ينظر الميزان 2/ 342،والتهذيب 5/ 26. (¬6) ينظر الميزان 2/ 660،والتهذيب 6/ 411. (¬7) هو ابن يسار صاحب المغازي. ينظر الميزان 3/ 468،والتهذيب 9/ 38. (¬8) هو بن الوليد، ينظر الميزان 1/ 331،والتهذيب 1/ 473. (¬9) ينظر الميزان 1/ 458،والتهذيب 2/ 196. (¬10) ينظر الميزان 1/ 379،والتهذيب2/ 46. (¬11) جامع التحصيل ص 113. (¬12) ينظر الميزان 2/ 248،والتهذيب 4/ 272. (¬13) ينظر الميزان 7/ 171،والتهذيب 11/ 177. (¬14) ينظر الميزان 3/ 157،والتهذيب 4/ 79. (¬15) طبقات المدلسين ص 12 - 13. (¬16) تقدمت ترجمته. (¬17) تقدمت ترجمته. (¬18) تقدمت ترجمته. (¬19) تقدمت ترجمته. (¬20) قال الأزدي: ساقط لا يرجه اليه، تنظر ترجمته في الميزان 2/ 300. (¬21) كذا ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 1/ 460،والحافظ في النكت ص 261،والطبقات ص 13،ولم أقف عليه لحد الآن، وقد فات الدكتور فاروق حمادة ذكره في مصنفات النسائي. (¬22) ذكرها تقي الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، وكذا أشار إليها سبط بن العجمي في كتابه التبيين لأسماء المدلسين ص30،وذكر أن شيخه المقدسي ذكر له هذه القصيدة ولم يرها. (¬23) ينظر التبيين لأسماء المدلسين، سبط بن العجمي ص30. (¬24) هوالحافظ الإمام الفقيه الأصولي المفنن أبو زرعة أحمد بن الحافظ الكبير أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين اعتنى به والده فأسمعه الكثير من أصحاب الفخر وغيرهم واستملى على أبيه ولازم البلقيني والبرهان الابناسي وابن الملقن والضياء القزويني وغيرهم وبرع في الفنون وكان إماما محدثا حافظا فقيها محققا أصوليا صالحا صنف التصانيف مات سنة ست وعشرين وثمانمائة ينظر طبقات الحفاظ، السيوطي ص28.

المدلسين بالتصنيف من المتأخرين المحدث الكبير المتقن برهان الدين سبط بن عجمي (¬1) متقيداً بكتاب العلائي فزاد عليهم قليلا. قال الحافظ ابن حجر:" فجميع ما في كتاب العلائي من الأسماء ثمانية وستون نفسا، وزاد عليهم ابن العراقي ثلاثة عشر نفسا، وزاد عليه سبط اثنين وثلاثين نفسا وزدت عليهما تسعة وثلاثين نفسا فجملة ما في كتابي هذا مئة واثنان وخمسون نفسا ومن عليه رمز أحد الستة فحديثه مخرج فيه" (¬2). ولولا خشية الإطالة والإسهاب لسردت أسماء الرواة المدلسين، ولمن أراد ذلك فعليه مراجعتهم في تلك المصنفات العظيمة التي رتبت أسماءهم وعرّفت بهم، مما يغنينا عن التكرار (¬3). قلت: وقد يُعترض على هذا التقسيم، كون العلائي قد أطلق وصف التدليس على بعض الرواة ممن عرف بالإرسال فقط ولم يعرف بالتدليس، وذهب إلى تأسيس قاعدة في عدم قبول الروايات المعنعنة لهؤلاء الرواة ما لم يصرحوا بالسماع، ثم سار عليها سبط بن العجمي وابن حجر العسقلاني وجل من جاء بعدهم إلى يوم الناس هذا. وقد مر أنّ العلائي وابن حجر أصلاً للتفريق بين التدليس والمرسل الخفي، لكن دخل الدخل في تنزيل هذا التفريق على الرواة، حينما قسموا طبقات الرواة وفق ما أطلقه المتقدمون من عبارات، فمن قالوا فيه يدلس أو ذكره النسائي في المدلسين قالا عنه يدلس بمعنى (من روى عمن سمع ما لم يسمع)! والمتقدمون كما هو مقرر يطلقون التدليس على معانٍ عدة ولا يقصرونه بمعناه عندنا اليوم، ومثاله: أطلق ابن معين التدليس بمعنى رواية الراوي عمن سمع منه ما لم يسمع، فقال الدوري في تاريخه (سمعت يحيى يقول في حديث من "وسع على عياله"،قال: حدثنا أبو أسامة، عن جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، قلت ليحيى: قد رواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ¬

_ (¬1) في كتابه التبيين لأسماء المدلسين. (¬2) طبقات المدلسين ص 15. (¬3) ينظر جامع التحصيل، للعلائي، والتبين لأسماء المدلسين، سبط بن العجمي، وتعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، لأبن حجر العسقلاني، وطبقات المدلسين، له أيضاً وغيرها، وهي مطبوعة ومنتشرة بين طلبة العلم.

محمد، قال يحيى: إنما دلسه سفيان عن أبي أسامة. فقلت ليحيى: فلم يسمع سفيان من إبراهيم بن محمد بن المنتشر؟ فقال: بلى قد سمع منه؛ ولكن لم يسمع هذا سفيان بن عيينة من إبراهيم بن محمد بن المنتشر) (¬1). ومنه أيضاً: ما ذكره الدوري بقوله: (سألت يحيى عن حديث هشيم عن أبي إسحاق عن أبي قيس عن هزيل قال قال عبد الله ما أبالي ذكري مسست أو أنفي فقلت له من أبو إسحاق هذا فقال يحيى: هشيم لم يلق أبا إسحاق السبيعي ولم يلق أيضا أبا إسحاق والذي يدلس عنه الذي يقال له أبو إسحاق الكوفي) (¬2). ومنه: قول عبد الله بن أحمد بن حنبل: (قلت لأبي كم سمع هشيم من جابر الجعفي؟ قال: حديثين. قلت: فالباقي؟ قال: مدلسة) (¬3). وقد أطلقوا التدليس على من روى عمن لم يلقه، وهو ما يسميه الحافظ المرسل الخفي، ومن ذلك قول الدوري: (سمعت يحيى يقول لم يلق يحيى بن أبي كثير زيدَ بن سلام وقدم معاوية بن سلام عليهم فلم يسمع يحيى بن أبي كثير أخذ كتابه عن أخيه ولم يسمعه فدلسه عنه) (¬4). وقال ابن حبان في ترجمة سليمان بن موسى الأسدي: (وقد قيل إنه سمع جابراً وليس ذاك بشيء تلك كلها أخبار مدلسة) (¬5). فهنا أطلق ابن معين عبارة تدليس على من عاصر ولم يسمع، وأطلقها ابن حبان على من يشك في معاصرته أصلاً، وسماه تدليساً، فالمتقدمون كانوا يتجوزون في هذه العبارات ولا مشاحة فيها عندهم، فهذا مثلا (سليمان بن موسى) وصفه ابن حبان بالتدليس , ولو اطلع على هذا احدنا اليوم لوصفه بالتدليس وربما ضعف كل حديثه ما لم يصرح بسماعه، ولربما استدركه على العلائي وابن حجر؟؟ في حين أنّ ابن حبان أراد به الإرسال، وقد نص الأئمة كالبخاري وغيره على أنّه لم يسمع من جابر - رضي الله عنه - ولا غيره من الصحابة (¬6)،ولم يذكره أحد بالتدليس بتاتاً، فتأمل. ¬

_ (¬1) تاريخ الدوري 3/ 452. (¬2) تاريخ الدوري 4/ 377. (¬3) العلل 1/ 255. (¬4) تاريخ الدوري 4/ 407. (¬5) مشاهير علماء الأمصار ص 79. (¬6) ينظر العلل الكبير للترمذي، وتهذيب الكمال 12/ 93،وجامع التحصيل ص 190.

ومنه قول ابن حبان في إسماعيل بن أوسط البجلي: (والي الكوفة لا يصح له صحبة لصحابي وتلك كلها أخبار مدلسة لا أعتمد على شيء منها) (¬1). فالرجل ليس مدلساً، ولم يصفه أحد من الأئمة بالتدليس، لأنه لم يثبت له سماع أصلاً من الصحابة، وإنما حديثه من قبيل المرسل الخفي، فلا يطلب له سماع! وإنما يبحث عنه في كتب المراسيل. لذا فلا يصح أن نصف كل من وصفه الأئمة بالتدليس بأنه مدلس –عندنا- بل يجب تدقيق النظر، ومن ذلك الإمام النسائي مثلا حينما يذكر راوياً في كتابه (المدلسين)،فلا يعني به أنه (يروي عمن سمع منه ما لم يسمع)،بل قد يريد به المرسل الخفي أو من يروي عمن لم يعاصر أصلا؟ وإن تعجب فعجب قول سبط ابن العجمي:" اعلم أنه لا يدخل في المدلسين القسم الذين أرسلوا، وقد ذكر منهم العلائي في كتاب المراسيل جملة وزدت أنا جملة ذكرتهم على هوامش كتابه، لكن الفرق بين التدليس وبين الإرسال الخفي أنّ الإرسال رواية الشخص عمن لم يسمع منه. قال أبو بكر البزار: إنّ الشخص إذا روى عمن لم يدركه بلفظ موهم فان ذلك ليس بتدليس على الصحيح المشهور" (¬2). ثم تراه يذكر الحسن البصري –مثلاً- في كتابه التبيين ويقول:" من المشهورين بالتدليس " (¬3). وكذا فعل العلائي من قبله (¬4) وابن حجر من بعده (¬5)،في حين أنّ الحافظ ابن حجر لما فرق بين المرسل الخفي والتدليس مثل للمرسل الخفي بالحسن البصري، فقال:" المرسل الخفي: ولا يعرفه إلا المدقق في هذه الصناعة، ومن أمثلته أنهم اختلفوا في سماع الحسن من أبي هريرة وورد في بعض الروايات: عن الحسن حدثنا أبو هريرة " فقيل أراد حدث أهل بلدنا وهذا إذا لم يقم دليل قاطع على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة لم يجز أن يضاف إليه" (¬6). ¬

_ (¬1) مشاهير علماء الأمصار ص 163،وينظر أيضاً للمزيد الصفحات: (179و191و192و195). (¬2) التبيين في أسماء المدلسين ص 36. (¬3) المصدر نفسه. (¬4) جامع التحصيل في أحكام المراسيل ص 161. (¬5) طبقات المدلسين ص 29. (¬6) النكت على ابن الصلاح 2/ 210.

ثم قال في التقريب:" ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيرا ويدلس. قال البزار:"كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة " (¬1). واعترض عليه وعده بعض المتأخرين تناقضاً، كونه أطلق عليه التدليس وظاهر كلامه غير ذلك، والجواب عليه: أنما وصف ابن حجر له بالتدليس إنما جاء من ترجيحه أنّ الحسن البصري ثبت سماعه من أبي هريرة - رضي الله عنه - بالجملة (¬2) فما رواه عنه من قبيل التدليس إذ روى عنه ما لم يسمعه منه لذا فلا تناقض بين قوليه، والله أعلم. فالصحيح أن الحسن البصري هو ممن يرسل فقط، ولا يعرف له تدليس (¬3)،وهذا يعني إلا يطلب له سماع فيما عنعنه وإلا صار حديثه كذباً – حاشاه - وإلا كيف يطلب سماع لمن لم يسمع؟! وبناء على تفريق ابن حجر بين المرسل والمرسل الخفي والتدليس، فنرى أن تقسيم الرواة على هذه الطبقات الخمسة المذكورة فيه اضطراب وتداخل بين الأحكام، ونرى أن يقسم هؤلاء الرواة المذكورين على أقسام ثلاث فقط، حسب ما ذكره ابن حجر في معرض التعقب على ابن كلام الخطيب: (وقد قال الخطيب في باب المرسل من كتابه الكفاية:"لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس وهو: رواية الراوي عن من لم يعاصره أو لم يلقه، ثم مثل للأول بسعيد بن المسيب وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وللثاني بسفيان الثوري وغيره عن الزهري. ثم قال: والحكم في الجميع عندنا واحد" (¬4). انتهى. فقد (بين) الخطيب في ذلك أن رواية الراوي عمن لم يثبت لقيه ولو عاصره تُعَدُّ إرسالاً لا تدليساًُ. والتحقيق فيه التفصيل وهو: أن من ذكر التدليس أو الإرسال إذا ذكر بالصيغة الموهمة عمن لقيه فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي، أو عمن لم يدركه فهو مطلق الإرسال) (¬5). ¬

_ (¬1) التقريب (1227). (¬2) التهذيب 2/ 235. (¬3) وقد كتب الدكتور حاتم الشريف العوني بحثاً نفيساً: (علاقة المرسل الخفي بالتدليس دراسة تطبيقية على مرويات الحسن البصري). (¬4) الكفاية ص 384. (¬5) النكت على ابن الصلاح 2/ 2.

فلابد من التفريق بين هذه الأقسام الثلاثة، إذ القسم الأول، (وهم من عاصر ولم يلق) فهؤلاء لا يبحث فيهم عن سماع الرواة في معنعناتهم، وإنما يبحث عن أصل سماعهم، هل سمعوا أم لا؟ الحسن البصري -مثلا-. وأما القسم الثاني، فهم من ثبت تدليسهم، فهؤلاء على أنواع مختلفة، حسب اختلاف أنواع التدليس. وأما القسم الثالث، فهم لم يدركوا أصلا أي لم يعاصروا من رووا عنهم، فهؤلاء لا يبحث عن سماعهم إذ عنعنوا، وإنما يبحث عنهم في كتب المراسيل.

§1/1