الوجل والتوثق بالعمل لابن أبي الدنيا

ابن أبي الدنيا

الرجاء والخوف

§الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ

1 - حَدَّثَنَا أَبُو الْحَارِثِ سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: قَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ: «§مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ، وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ، مَا أَدْرِي مَا حَسْبُ رَجَاءِ امْرِئٍ عَرَضَ لَهُ بَلَاءٌ لَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ لِمَا يَرْجُو، وَلَا أَدْرِي مَا حَسْبُ خَوْفِ امْرِئٍ عَرَضَتْ لَهُ شَهْوَةٌ لَمْ يَدَعْهَا لِمَا يَخْشَى»

حسن الظن يعني: حسن العمل

§حُسْنُ الظَّنِّ يَعْنِي: حُسْنَ الْعَمَلِ

2 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكُوفِيِّ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ -[28]-: " إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ حَسَنَةٌ، يَقُولُ: إِنِّي §لَحَسَنُ الظَّنِّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ "

التخويف

§التَّخْوِيفُ

3 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَأَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ مُخَادِشٍ الْحَسَنَ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُحَدِّثُونَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ؟ فَقَالَ: «أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِنَّكَ وَاللَّهِ §إِنْ تَصْحَبْ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ»

الاجتهاد في العمل

§الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ

4 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ الزَّاهِدُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَطَرٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " يَا إِخْوَتَاهُ §اجْتَهِدُوا فِي الْعَمَلِ، فَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا تَرْجُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ كَانَتْ لَنَا دَرَجَاتٌ، وَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ شَدِيدًا كَمَا نَخَافُ وَنُحَاذِرُ لَمْ نَقُلْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] نَقُولُ: قَدْ عَمِلْنَا، فَلَمْ يَكُنْ يَنْفَعُنَا ذَلِكَ "

الجد والحذر

§الْجِدُّ وَالْحَذَرُ

5 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلِرَجُلٍ آخَرَ مِنْ قُرَيْشٍ: «§الْجِدَّ الْجِدَّ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ، فَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَلَى مَا تَرْجُونَ كَانَ مَا قَدَّمْتُمْ فَضْلًا، وَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ»

الرجاء لا التجرؤ

§الرَّجَاءُ لَا التَّجَرُّؤُ

6 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمُنْعِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: «يَا بُنَيَّ §ارْجُ اللَّهَ رَجَاءً لَا يُجَرِّئُكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَخَفِ اللَّهَ خَوْفًا لَا يُؤَيِّسُكَ مِنْ رَحْمَتِهِ»

حديث أنطونس السائح ومواعظه وأمثاله

§حَدِيثُ أَنْطُونِسَ السَّائِحِ وَمَوَاعِظُهُ وَأَمْثَالُهُ

موضوع كتاب أنطونيوس السائح قال أبو بكر بن أبي الدنيا: ثم إنا وجدنا فيما وضع الأولون من حكمهم وضربوا من أمثالهم كتابا فيه حكم وأمثال تحدو ذا اللب على رفض العاجلة وتحثه على الأخذ بالوثيقة في العمل للآجلة وهو الكتاب الذي ينسب إلى أنطونس السائح فقال فيما

§مَوْضُوعُ كِتَابِ أَنْطُونْيُوسَ السَّائِحِ 7 - قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثُمَّ إِنَّا وَجَدْنَا فِيمَا وَضَعَ الْأَوَّلُونَ مِنْ حِكَمِهِمْ وَضَرَبُوا مِنْ أَمْثَالِهِمْ كِتَابًا فِيهِ حِكَمٌ وَأَمْثَالٌ تَحْدُو ذَا اللُّبِّ عَلَى رَفْضِ الْعَاجِلَةِ وَتَحُثُّهُ عَلَى الْأَخْذِ بِالْوَثِيقَةِ فِي الْعَمَلِ لِلْآجِلَةِ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى أَنْطُونِسَ السَّائِحِ فَقَالَ فِيمَا يَذْكُرُونَ.

وصية ملك كان ملك بعد زمان المسيح عليه السلام يقال له أنطونس عاش ثلاثمائة سنة وعشرين سنة، فلما حضرته الوفاة بعث إلى ثلاثة نفر من عظماء أهل ملته وأفاضلهم فقال لهم: فقد نزل بي ما ترون، وأنتم رءوس أهل مملكتكم وأفاضلهم، ولا أعرف أحدا أولى بتدبير رعيتكم

§وَصِيَّةُ مَلِكٍ كَانَ مَلِكٌ بَعْدَ زَمَانِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُقَالُ لَهُ أَنْطُونِسُ عَاشَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَعَثَ إِلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ مِلَّتِهِ وَأَفَاضِلِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: فَقَدْ نَزَلَ بِي مَا تَرَوْنَ، وَأَنْتُمْ رُءُوسُ أَهْلِ مَمْلَكَتِكُمْ وَأَفَاضِلُهُمْ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَوْلَى بِتَدْبِيرِ رَعِيَّتِكُمْ مِنْكُمْ، وَقَدْ كَتَبْتُ لَكُمْ عَهْدًا جَعَلْتُهُ إِلَى سِتَّةِ نَفَرٍ مِنْكُمْ مِنْ أَخْيَارِكُمْ لِيَخْتَارُوا رَجُلًا مِنْهُمْ لِتَدْبِيرِ

مُلْكِكُمْ، وَالذَّبِّ عَنْ رَعِيَّتِكُمْ، فَسَلِّمُوا ذَلِكَ لِمَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مَلَؤُكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالِاخْتِلَافَ، فَتُهْلِكُونَ أَنْفُسَكُمْ وَرَعِيَّتَكُمْ، قَالُوا: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْنَا بِطُولِ مُدَّتِكَ، وَيَمْنَعُ رَعِيَّتَكَ فَقْدَ سِيَاسَتِكَ قَالَ: دَعُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَأَقْبِلُوا عَلَى مَا وَصَفْتُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ الَّذِي فِيهِ قِوَامُ أَمْرِكُمْ، وَصَلَاحُ دِينِكُمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدُّ مِنْهُ، فَلَمْ تَمُرَّ بِهِمْ لَيْلَةٌ حَتَّى هَلَكَ "

اختلاف على الملك فدب أولئك الثلاثة نفر إلى الستة الذين جعل إليهم اختيار الملك، فصار كل رجلين من الستة يدعوان إلى رجل من الثلاثة، فلما رأى ذلك حكماؤهم وأهل الرأي منهم قالوا: يا معشر الستة الذين جعل إليهم الاختيار، قد افترقت كلمتكم، واختلف رأيكم،

§اخْتِلَافٌ عَلَى الْمُلْكِ فَدَبَّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَى السِّتَّةِ الَّذِينَ جَعَلَ إِلَيْهِمُ اخْتِيَارَ الْمَلِكِ، فَصَارَ كُلُّ رَجُلَيْنِ مِنَ السِّتَّةِ يَدْعُوَانِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ حُكَمَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الرَّأْيِ مِنْهُمْ قَالُوا: يَا مَعْشَرَ السِّتَّةِ الَّذِينَ جُعِلَ إِلَيْهِمُ الِاخْتِيَارُ، قَدِ افْتَرَقَتْ كَلِمَتُكُمْ، وَاخْتَلَفَ رَأْيُكُمْ، وَبِحَضْرَتِكُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِكُمْ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ فِي حُكْمِهِ، وَمِمَّنْ يُرْجَى الْيُمْنُ وَالْبَرَكَةُ فِي اخْتِيَارِهِ، فَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْكُمْ سَلَّمْتُمْ هَذَا الْأَمْرَ لَهُ

مشاورة أنطونيوس السائح وكان في جبل بحضرتهم رجل سائح يقال له أنطونس في غار معروف مكانه، قد تخلى من الدنيا وأهلها، فاجتمعت كلمتهم بالرضا بمن أشار إليه السائح من الثلاثة نفر، فوكلوا بالمملكة رجلا من الستة، وانطلق الثلاثة نفر إلى ذلك السائح، فاقتصوا

§مُشَاوَرَةُ أَنْطُونْيُوسَ السَّائِحِ وَكَانَ فِي جَبَلٍ بِحَضْرَتِهِمْ رَجُلٌ سَائِحٌ يُقَالُ لَهُ أَنْطُونِسُ فِي غَارٍ مَعْرُوفٍ مَكَانُهُ، قَدْ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ بِالرِّضَا بِمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ السَّائِحُ مِنَ الثَّلَاثَةِ نَفَرٍ

، فَوَكَّلُوا بِالْمَمْلَكَةِ رَجُلًا مِنَ السِّتَّةِ، وَانْطَلَقَ الثَّلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَى ذَلِكَ السَّائِحِ، فَاقْتَصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمْ، وَأَعْلَمُوهُ رِضَاهُمْ بِمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمُ السَّائِحُ: مَا أَرَانِي انْتَفَعْتُ بِاعْتِزَالِي عَنِ النَّاسِ، وَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي مَنْزِلٍ غَشِيَهُ الذُّبَابُ فِيهِ، فَتَحَوَّلَ مِنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ يَرْجُو فِيهِ السَّلَامَةَ فَغَشِيَهُ فِيهِ الْأَسَدُ، فَقَالَ: لَقَدْ كَانَ السَّبُعُ الَّذِي تَنَحَّيْتُ عَنْهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مِنَ السَّبُعِ الَّذِي غَشِيَنِي فِي مَنْزِلِي، وَمَا هَذَا لِي بَمَنْزِلٍ، قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ دَعَانا إِلَيْهِ أَفَاضِلُ أَهْلِ مَمْلَكَتِكَ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ، وَالرُّشْدِ، وَالْيُمْنِ فِي رَأْيِكَ، وَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُشِيرَ إِلَى أَفْضَلِنَا فِي نَفْسِكَ فَتُوَلِّيَهُ هَذَا الْأَمْرَ قَالَ: وَمَا عِلْمِي بِأَفْضَلِكُمْ؟ وَأَنْتُمْ جَمِيعًا تَطْلُبُونَ أَمْرًا وَاحِدًا أَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، فَطَمِعَ بَعْضُهُمْ إِنْ هُوَ أَظْهَرَ الْكَرَاهِيَةَ لِلْمَلِكِ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ

، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَغَيْرُ مُشَاحٍ صَاحِبَيَّ هَذَيْنِ، وَإِنَّ السَّلَامَةَ لَدَيَّ لَفِي اعْتِزَالِ هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ السَّائِحُ: مَا أَظُنُّ صَاحِبَيْكَ يَكْرَهَانِ اعْتِزَالَكَ عَنْهُمَا فَأُشِيرُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَأَتْرُكُكَ قَالَ: بَلْ تَخْتَارُ لِأُمَّتِكَ مَنْ بَدَا لَكَ. قَالَ لَهُ السَّائِحُ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ نَزَعْتَ عَنْ قَوْلِكَ، وَصِرْتُمُ الْآنَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَأَعِظُكُمْ، وَأَضْرِبُ لَكُمْ أَمْثَالَ الدُّنْيَا، وَأَمْثَالَكُمْ فِيهَا، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ وَالْخِيَارُ لِأَنْفُسِكُمْ.

اغتنام العمر والتوثق بالعمل فأخبروني: هل عرفتم مداكم من الملك، وغايتكم من العمر؟ قالوا: لا ندري، لعل ذلك لا يكون إلا طرفة عين قال: فلم تخاطرون بهذه الغرة؟ قالوا: رجاء طول المدة قال: كم أتت عليكم من سنة؟ قالوا: أصغرنا ابن خمس وثلاثين سنة،

§اغْتِنَامُ الْعُمُرِ وَالتَّوَثُّقُ بِالْعَمَلِ فَأَخْبِرُونِي: هَلْ عَرَفْتُمْ مَدَاكُمْ مِنَ الْمُلْكِ، وَغَايَتَكُمْ مِنَ الْعُمُرِ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي، لَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ: فَلِمَ تُخَاطِرُونَ بِهَذِهِ الْغِرَّةِ؟ قَالُوا: رَجَاءَ طُولِ الْمُدَّةِ قَالَ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكُمْ مِنْ سَنَةٍ؟ قَالُوا: أَصْغَرُنَا ابْنُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَأَكْبَرُنَا ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ: فَاجْعَلُوا أَطْوَلَ مَا تَرْجُونَ مِنَ الْعُمُرِ مِثْلَ سِنِّكُمُ الَّتِي عَمَّرْتُمْ، قَالُوا: لَسْنَا نَطْمَعُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا خَيْرَ فِي الْعُمُرِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: أَفَلَا تَبْتَغُونَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِكُمْ مَا تَرْجُونَ مِنْ مُلْكٍ لَا يَبْلَى، وَنَعِيمٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَلَذَّةٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَحَيَاةٍ لَا يُكَدِّرُهَا الْمَوْتُ، وَلَا تُنَغِّصُهَا الْأَحْزَانُ، وَلَا الْهُمُومُ، وَلَا الْأَسْقَامُ؟

قَالُوا: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ نُصِيبَ ذَلِكَ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ قَالَ: قَدْ كَانَ مَنْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ مِنَ الْقُرُونِ الْأُولَى يَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا تَرْجُونَ، وَيُؤَمِّلُونَ مَا تُؤَمِّلُونَ، وَيُضَيِّعُونَ الْعَمَلَ، حَتَّى نَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِمَنْ صَدَّقَ بِمَا أَصَابَ الْقُرُونَ الْأُولَى أَنْ يَطْمَعَ فِي رَجَاءٍ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَيُوشِكُ مَنْ سَلَكَ الْمَفَازَةَ بِغَيْرِ مَاءٍ أَنْ يَهْلِكَ عَطَشًا، أَرَاكُمْ تَتَّكِلُونَ عَلَى الرَّجَاءِ فِي هَلَاكِ أَبْدَانِكُمْ، وَلَا تَتَّكِلُونَ عَلَيْهِ فِي صَلَاحِ مَعَايِشِكُمْ، تُؤَثِّثُونَ لِدَارٍ قَدْ عَرَفْتُمْ مُزَايَلَتَهَا، وَتَتْرُكُونَ التَّأْثِيثَ لِدَارِ مُقَامِكُمْ، ثُمَّ قَدْ رَأَيْتُمْ مَدَائِنَكُمُ الَّتِي ابْتَنَيْتُمُوهَا، وَاعْتَدَتُّمْ فِيهَا الْأَثَاثَ وَالرِّبَاعَ، لَوْ قِيلَ لَكُمْ: إِنَّهُ سَيَنْزِلُ عَلَيْكُمْ مَلِكٌ بِجُيُوشِهِ وَجُنُودِهِ فَيَعُمُّ أَهْلَهَا بِالْقَتْلِ، وَبُنْيَانَهَا بِالْهَدْمِ، هَلْ كُنْتُمْ تَطِيبُونَ نَفْسًا بِالْمُقَامِ فِيهَا، وَالْبُنْيَانِ بِهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْآدَمَيِّينَ لَصَائِرٌ إِلَى هَذَا وَلَكِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى مَدِينَةٍ آمِنَةٍ سَلِيمَةٍ لَا يُؤْذِيكُمْ فِيهَا جَبَّارٌ، وَلَا يَغْشُمُكُمْ فِيهَا وَالٍ، وَلَا تَعْدِمُكُمْ فِيهَا الثِّمَارُ، قَالُوا: قَدْ عَرَفْنَا الَّذِي أَرَدْتَ، فَكَيْفَ وَقَدِ اشْرَأَبَّتْ أَنْفُسُنَا بِحُبِّ الدُّنْيَا؟ قَالَ: مَعَ الْأَسْفَارِ الْبَعِيدَةِ تَكُونُ الْأَرْبَاحُ الْكَثِيرَةُ، فَيَا عَجَبًا لِلْجَاهِلِ

وَالْعَالِمِ، كَيْفَ اسْتَوَيَا فِي هَلَاكِ أَنْفُسِهِمَا؟ أَلَا إِنَّ الَّذِي يَسْرِقُ وَلَا يَعْرِفُ عُقُوبَةَ السَّارِقِ أَعْذَرُ مِنَ السَّارِقِ الْعَارِفِ بِعُقُوبَتِهِ، وَيَا عَجَبًا لِلْحَازِمِ كَيْفَ لَا يَبْذُلُ مَالَهُ دُونَ نَفْسِهِ فَيَنْجُوَ بِهَا، فَإِنِّي أَرَى هَذَا الْعَالَمَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ، كَأَنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِمَا يَأْتِيهِمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ، قَالُوا: مَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمِلَّةِ يُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَالَ: مِنْ ذَلِكَ اشْتَدَّ عَجَبِي مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى التَّصْدِيقِ وَمُخَالَفَتِهِمْ فِي الْفِعْلِ، كَأَنَّهُمْ يَرْجُونَ الثَّوَابَ بِغَيْرِ أَعْمَالٍ

التفكر في هلاك العالم قالوا: أخبرنا كيف أول معرفتك للأمور من قبل الفكر؟ قال: تفكرت في هلاك العالم فإذا ذاك من قبل أربعة أشياء جعلت فيهن اللذات، وهي أبواب مركبة في الجسد، منها ثلاثة في الرأس، وواحد في البطن، فأما أبواب الرأس فالعينان، والمنخران،

§التَّفَكُّرُ فِي هَلَاكِ الْعَالَمِ قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ أَوَّلُ مَعْرِفَتِكَ لِلْأُمُورِ مِنْ قِبَلِ الْفِكْرِ؟ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِي هَلَاكِ الْعَالَمِ فَإِذَا ذَاكَ مِنْ قِبَلِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ جُعِلَتْ فِيهِنَّ اللَّذَّاتُ، وَهِيَ أَبْوَابٌ مُرَكَّبَةٌ فِي الْجَسَدِ، مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فِي الرَّأْسِ، وَوَاحِدٌ فِي الْبَطْنِ، فَأَمَّا أَبْوَابُ الرَّأْسِ فَالْعَيْنَانِ، وَالْمِنْخَرَانِ، وَالْحَنَكُ، وَأَمَّا بَابُ الْبَطْنِ فَالْفَرْجُ، فَالْتَمَسْتُ خِفَّةَ الْمَئُونَةِ عَلَيَّ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الَّتِي مِنْ قِبَلِهَا دَخَلَ الْبَلَاءُ عَلَى الْعَالَمِ فَوَجَدْتُ أَيْسَرَهَا مَئُونَةً بَابَ الْمِنْخَرَيْنِ، لِذَّتُهُ يَسِيرَةٌ، مَوْجُودَةٌ فِي الزَّهْرِ وَالنَّوْرِ وَالرَّيْحَانِ، ثُمَّ الْتَمَسْتُ الْخِفَّةَ لِمَئُونَةِ بَابِ الْحَنَكِ فَإِذَا هُوَ طَرِيقٌ لِلْجَسَدِ، وَغِذَاءٌ

لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِمَا يُلْقَى فِيهِ، فَإِذَا تِلْكَ الْمَئُونَةُ إِذَا صَارَتْ فِي الْوِعَاءِ اسْتَوَتْ فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَرَفَضْتُ مَا عَسِرَ فَصِرْتُ فِيمَا قَطَعْتُ عَنْ نَفْسِي مِنْ مَئُونَةِ الْوِعَاءِ وَلَذَّةِ الْحَنَكِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ كَانَ يَتَّخِذُ الرَّمَادَ مِنَ الْخَلَنْجِ وَالصَّنْدَلِ وَالْعِيدَانِ الْمُرْتَفِعَةِ، فَلَمَّا ثَقُلَ عَلَيْهِ مَئُونَةُ ذَلِكَ اتَّخَذَ الرَّمَادَ مِنَ الزُّبْلِ وَالْحَطَبِ الرَّخِيصِ، فَرَحَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَنَظَرْتُ فِي مَئُونَةِ الْفَرْجِ فَإِذَا هُوَ وَالْعَيْنَانِ مَوْصُولَانِ بِالْقَلْبِ، وَإِذَا بَابُ الْعَيْنِ يَسْقِي الشَّهْوَةَ، وَهُمَا مُعِينَانِ عَلَى هَلَاكِ الْجَسَدِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ، فَهَمَمْتُ بِإِلْقَائِهِمَا عَنِّي وَقُلْتُ: هَلَاكُهُمَا واطِّرَاحُهُمَا أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ هَلَاكِ جَسَدِي، وَأَشْفَقْتُ أَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْجَسَدِ فَرَوَّيْتُ وَفَكَّرْتُ، فَلَمْ أَجِدْ لَهُمَا شَيْئًا أَفْضَلَ مِنَ الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ، وَكَانَ مَا بَغَضَّ إِلَيَّ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فِكْرِي فِي مُقَامِي مَعَ مَنْ لَا يَعْقِلُ إِلَّا أَمْرَ دُنْيَاهُ فَاسْتَوْحَشْتُ مِنَ الْمُقَامِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَتَنَحَّيْتُ عَنْهُمْ إِلَى هَذَا الْمَنْزِلِ، فَقُطِعَتْ عَنِّي أَبْوَابُ الْخَطِيئَةِ، وَحَسَمْتُ نَفْسِي لَذَّاتٍ أَرْبَعًا، وَقَطَعْتُهُنَّ بِخِصَالٍ أَرْبَعٍ

قطع اللذات قالوا: وما اللذات؟ وبماذا قطعتهن؟ قال: اللذات: المال، والبنون، والأزواج، والسلطان، فقطعتهن بالهموم، والأحزان، والخوف، وبذكر الموت المنغص للذات، وقطعت ذلك أجمع بالعزلة وترك الاهتمام بأمور الدنيا، فلا أحزن على أحد هلك فيها، ولا

§قَطْعُ اللَّذَّاتِ قَالُوا: وَمَا اللَّذَّاتُ؟ وَبِمَاذَا قَطَعْتَهُنَّ؟

قَالَ: اللَّذَّاتُ: الْمَالُ، وَالْبَنُونَ، وَالْأَزْوَاجُ، وَالسُّلْطَانُ، فَقَطَعْتُهُنَّ بِالْهُمُومِ، وَالْأَحْزَانِ، وَالْخَوْفِ، وَبِذِكْرِ الْمَوْتِ الْمُنَغِّصِ لِلَّذَّاتِ، وَقَطَعْتُ ذَلِكَ أَجْمَعَ بِالْعُزْلَةِ وَتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا، فَلَا أَحْزَنُ عَلَى أَحَدٍ هَلَكَ فِيهَا، وَلَا أَخَافُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ , فَمَا خَيْرٌ فِي لَذَّةٍ وَهَذَا الْمَوْتُ يَقْفُوهَا؟ وَأَيُّ دَارٍ شَرٌّ مِنْ دَارِ الْفَجَائِعِ جِوَارًا؟ كُونُوا كَرَجُلٍ يُسَافِرُ يَلْتَمِسُ الْفَضْلَ، فَغَشَى مَدِينَتَهُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْعَدُوُّ، فَأَصَابُوا أَهْلَهَا بِالْبَلَاءِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَسَلِمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي مَخْرَجِهِ، وَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا صَرَفَ عَنْهُ، فَأَنَا مُعْتَزِلٌ فِي مَنْزِلِي هَذَا عَنِ أَهْلِ الْخَطَايَا أَتَذَكَّرُ الْمَوْتِ الَّذِي يَكْرَهُهُ النَّاسُ، وَأَجِدُ لِذِكْرِهِ حَلَاوَةً لِلِقَاءِ رَبِّي، وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، كَيْفَ يَنْتَفِعُونَ بِلَذَّاتِهَا مَعَ هُمُومِهَا، وَأْحَزَانِهَا، وَمَا تُجَرِّعُهُمْ مِنْ مَرَارَتِهَا بَعْدَ حَلَاوَتِهَا.

قصة صاحب الحية واشتد عجبي من أهل العقول ما يمنعهم من النظر في سلامة أبدانهم؟ فإنهم يريدون أن يهلكوا أنفسهم كما هلك صاحب الحية، قالوا: أخبرنا كيف كان مثل صاحب الحية؟ قال: زعموا أنه كان في دار رجل من الناس حية ساكنة في جحر قد عرفوا مكانها، وكانت تلك

§قِصَّةُ صَاحِبِ الْحَيَّةِ وَاشْتَدَّ عَجَبِي مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّظَرِ فِي سَلَامَةِ أَبْدَانِهِمْ؟ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُهْلِكُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا هَلَكَ صَاحِبُ الْحَيَّةِ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ كَانَ مَثَلُ صَاحِبِ الْحَيَّةِ؟ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ حَيَّةٌ سَاكِنَةٌ فِي جُحْرٍ قَدْ

عَرَفُوا مَكَانَهَا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْحَيَّةُ تَبِيضُ كُلَّ يَوْمٍ بَيْضَةً مِنْ ذَهَبٍ وَزْنُهَا مِثْقَالٌ، فَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ مُغْتَبِطٌ مَسْرُورٌ بِمَكَانِ تِلْكَ الْحَيَّةِ، يَأْخُذُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جُحْرِهَا بَيْضَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَكْتُمُوا أَمْرَهَا، فَكَانَتْ كَذَلِكَ لِأَشْهُرٍ، ثُمَّ إِنَّ الْحَيَّةَ خَرَجَتْ مِنْ جُحْرِهَا فَأَتَتْ عَنْزًا لِأَهْلِ الدَّارِ حَلُوبًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا فَنَهَشَتْهَا فَهَلَكَتِ الْعَنْزُ. فَجَزِعَ لِذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَهْلُهُ، وَقَالُوا: الَّذِي نَصِيبُ مِنَ الْحَيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْعَنْزِ، وَاللَّهُ يُخْلِفُ ذَلِكَ مِنْهَا. فَلَمَّا أَنْ كَانَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ عَدَتْ عَلَى حِمَارٍ لَهُ كَانَ يَرْكَبُهُ فَنَهَشَتْهُ فَقَتَلَتْهُ، فَجَزِعَ لِذَلِكَ الرَّجُلُ، وَقَالَ: أَرَى هَذِهِ الْحَيَّةَ لَا تَزَالُ تُدْخِلُ عَلَيْنَا آفَةً، وَسَنَصْبِرُ لِهَذِهِ الْآفَاتِ مَا لَمْ تَعْدُ الْبَهَائِمَ. ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ عَامَانِ لَا تُؤْذِيهِمُ فَهُمْ مَسْرُورُونَ بِجِوَارِهَا، مُغْتَبِطُونَ بِمَكَانِهَا، إِذْ عَدَتْ عَلَى عَبْدٍ كَانَ لِلرَّجُلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ غَيْرُهُ فَنَهَشَتْهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَاسْتَغَاثَ الْعَبْدُ بِمَوْلَاهُ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى تَفَسَّخَ لَحْمُهُ، فَجَزِعَ الرَّجُلُ وَقَالَ: أَرَى سُمَّ هَذِهِ الْحَيَّةِ قَاتِلًا لِمَنْ لَسَعَتْهُ، مَا آمَنُ أَنْ تَلْسَعُ بَعْضَ أَهْلِي. فَمَكَثَ مَهْمُومًا، حَزِينًا خَائِفًا أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ سُمُّ هَذِهِ الْحَيَّةِ فِي مَالِي، وَأَنَا أُصِيبُ مِنْهَا أَفْضَلَ مِمَّا رُزِئْتُ بِهِ، فَتَعَزَّى بِذَلِكَ عَلَى خَوْفٍ وَوَجَلٍ مِنْ شَرِّ جِوَارِهَا

، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى نَهَشَتِ ابْنَ الرَّجُلِ، فَارْتَاعَ وَالِدُهُ لِذَلِكَ، وَدَعَا بِالْخُوَاءِ وَالتِّرْيَاقِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا، وَهَلَكَ الْغُلَامُ، فَاشْتَدَّ جَزَعُ وَالِدَيْهِ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمَا مَا أَنْسَاهُمَا كُلَّ لَذَّةٍ أَصَابَاهَا مِنَ الْحَيَّةِ، فَقَالَا: لَا خَيْرَ لَنَا فِي جِوَارِ هَذِهِ الْحَيَّةِ، وَإِنَّ الرَّأْيَ لَفِي قَتْلِهَا وَالِاعْتِزَالِ عَنْهَا، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْحَيَّةُ ذَلِكَ تَغَيَّبَتْ عَنْهُمْ أَيَّامًا لَا يَرَوْنَهَا وَلَا يُصِيبُونَ مِنْ بَيْضِهَا شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا تَاقَتْ أَنْفُسُهُمَا إِلَى مَا كَانَا يُصِيبَانِ مِنْهَا، وَأَقْبَلَا عَلَى جُحْرِهَا بِالْبَخُورِ، وَجَعَلَا يَقُولَانِ: ارْجِعِي إِلَى مَا كُنْتِ عَلَيْهِ وَلَا تَضُرِّينَا وَلَا نَضُرُّكِ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْحَيَّةُ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَتِهِمَا رَجَعَتْ، فَتَجَدَّدَ لَهُمَا سُرُورٌ عَلَى غُصَّتِهِمَا بِوَلَدِهِمَا، وَكَانَتْ كَذَلِكَ عَامَيْنِ لَا يُنْكِرُونَ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ دَبَّتِ الْحَيَّةُ إِلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَهِيَ نَائِمَةٌ مَعَهُ فَنَهَشَتْهَا، فَصَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَثَارَ زَوْجُهَا يُعَالِجُهَا بِالتِّرْيَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِلَاجِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، وَهَلَكَتِ الْمَرْأَةُ، فَبَقِيَ الرَّجُلُ فَرِيدًا، وَحِيدًا، كَئِيبًا، مُسْتَوْحِشًا، وَأَظْهَرَ أَمْرَ الْحَيَّةِ لِإِخْوَانِهِ وَأَهْلِ وُدِّهِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِهَا، وَقَالُوا: لَقَدْ فَرَّطْتَ فِي أَمْرِهَا حِينَ تَبَيَّنَ لَكَ غَدْرُهَا وَسُوءُ جِوَارِهَا، وَلَقَدْ كُنْتَ فِي ذَلِكَ مُخَاطِرًا بِنَفْسِكَ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَقَدْ أَزْمَعَ عَلَى قَتْلِهَا، لَا يَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَرْصُدُهَا إِذْ طَلَعَ فِي جُحْرِهَا فَوَجَدَ فِيهَا دُرَّةً صَافِيَةً وَزْنُهَا مِثْقَالٌ، فَلَزِمَهُ الطَّمَعُ، وَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَغَرَّهُ، حَتَّى عَادَ لَهُ سُرُورٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ سُرُورِهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: لَقَدْ غَيَّرَ الدَّهْرُ طَبِيعَةَ هَذِهِ الْحَيَّةِ، وَلَا أَحْسَبُ سُمَّهَا إِلَّا قَدْ تَغَيَّرَ كَمَا تَغَيَّرَ بَيْضُهَا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَعَاهَدُ جُحْرَهَا بِالْكَنْسِ، وَالْبَخُورِ، وَرَشِّ الْمَاءِ، وَالرَّيْحَانِ، وَكَرُمَتْ عَلَيْهِ الْحَيَّةُ، وَالْتَذَّ الرَّجُلُ بِذَلِكَ الدُّرِّ الْتِذَاذًا شَدِيدًا، وَأَعْجَبَهُ، وَنَسِيَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَيَّةِ فِيمَا مَضَى، وَعَمَدَ إِلَى

مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ فَعَمِلَ بِهِ حُقًّا، فَجَعَلَ ذَلِكَ الدُّرَّ فِيهِ، وَجَعَلَ مَوْضِعَ ذَلِكَ الْحُقِّ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ إِذْ دَبَّتِ الْحَيَّةُ فَنَهَشَتْهُ، فَجَعَلَ يَغُوثُ بِصَوْتٍ عَالٍ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ جِيرَانُهُ، وَأَقَارِبُهُ، وَأَهْلُ وُدِّهِ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ بِاللَّوْمِ لَهُ فِيمَا فَرَّطَ مِنْ قَتْلِ الْحَيَّةِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمُ الْحُقَّ فَأَرَاهُمْ مَا فِيهِ، وَاعْتَذَرَ مِمَّا عَجَّزُوا فِيهِ رَأْيَهُ، فَقَالُوا: مَا أَقَلَّ غَنَاءَ هَذَا عَنْكَ الْيَوْمَ، إِذْ صَارَ لِغَيْرِكَ، وَهَلَكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ إِخْوَانُهُ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، هُوَ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَقَدْ أَشَرْنَا عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ. وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِأَهْلِ الْعُقُولِ يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ الَّذِي ضُرِبَتْ هَذِهِ الْأَمْثَالُ لَهُ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِالْمَعْرِفَةِ، كَأَنَّهُمْ يَرْجُونَ الثَّوَابَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالْقَوْلِ وَالْمُخَالَفَةِ بِالْعَمَلِ

قصة صاحب الكرم ويل لأصحاب المعرفة الذين لو قصرت عنهم عقولهم لكان أعذر لهم، ويل لهم، ويل لهم، لو قد أصابهم ما أصاب صاحب الكرم. قالوا: وكيف كان مثل صاحب الكرم؟ قال أنطونس: زعموا أنه كان رجل له كرم واسع، كثير العنب، متصل الشجر، مثمر، فاستأجر لكسح

§قِصَّةُ صَاحِبِ الْكَرْمِ وَيْلٌ لِأَصْحَابِ الْمَعْرِفَةِ الَّذِينَ لَوْ قَصُرَتْ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ لَكَانَ أَعْذَرَ لَهُمْ، وَيْلٌ لَهُمْ، وَيْلٌ لَهُمْ، لَوْ قَدْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ صَاحِبَ الْكَرْمِ. قَالُوا: وَكَيْفَ كَانَ مَثَلُ صَاحِبِ الْكَرْمِ؟

قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ لَهُ كَرْمٌ وَاسِعٌ، كَثِيرُ الْعِنَبِ، مُتَّصِلُ الشَّجَرِ، مُثْمِرٌ، فَاسْتَأْجَرَ لِكَسْحِ الْكَرْمِ وَحِفْظِهِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، وَوَكَّلَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِنَاحِيَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَأَمَرَهُ بِحِفْظِ نَاحِيَتِهِ وَكَسْحِهَا، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِنَ الْعِنَبِ مَا شِئْتُمْ، وَكُفُّوا عَنْ هَذِهِ الثِّمَارِ فَلَا تَقْرَبُوهَا فَتَحِلَّ بِكُمْ عُقُوبَتِي، وَاعْلَمُوا أَنِّي مُتَفَقِّدٌ عَمَلَكُمْ وَنَاظِرٌ فِيهِ، فَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَدِّيَ لِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَتُوجِبُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْعُقُوبَةَ. فَأَقْبَلَ أَحَدُهُمْ عَلَى حِفْظِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْكَرْمِ وَكَسْحِهِ وَنَزْعِ الْعُشْبِ مِنْهُ، وَقَنَعَ بِأَكْلِ الْعِنَبِ، وَكَفَّ عَنْ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا. وَأَقْبَلَ الثَّانِي عَلَى مِثْلِ صَنِيعِ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ حِينًا، ثُمَّ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَكْلِ الثِّمَارِ فَتَنَاوَلَهَا. وَأَقْبَلَ الثَّالِثُ عَلَى أَكْلِ الثِّمَارِ، وَتَرَكَ الْعَمَلَ، فَضَاعَتْ نَاحِيَتُهُ وَفَسَدَتْ. وَقَدِمَ صَاحِبُ الْكَرْمِ لِيَنْظُرَ إِلَى كَرْمِهِ، وَيَتَفَقَّدَ مَا عَمِلَ أُجَرَاؤُهُ، فَبَدَأَ بِالنَّظَرِ فِي عَمَلِ الْأَوَّلِ فَرَأَى عَمَلًا حَسَنًا، وَتَوْقِيرًا، وَكَفًّا عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، فَحَمِدَهُ وَأَعْطَاهُ فَوْقَ أَجْرِهِ، فَانْقَلَبَ رَاضِيًا، مُغْتَبِطًا، مَسْرُورًا. وَنَظَرَ فِي عَمَلِ الثَّانِي فَرَأَى عَمَلًا حَسَنًا، وَرَأَى فِي الثِّمَارِ فَسَادًا قَبِيحًا، فَقَالَ: مَا هَذَا الْفَسَادُ الَّذِي أَرَى؟ قَالَ: أَكَلْتُ مِنْ هَذِهِ الثِّمَارِ قَالَ: أَوَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ رَجَوْتُ عَفْوَكَ إِلَيَّ وَإِحْسَانَكَ قَالَ: ذَاكَ لَوْ لَمْ أَكُنْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِي الْكَفِّ عَنْ أَكْلِ الثِّمَارِ، وَلَكِنِّي لَسْتُ أَعْتَدِي عَلَيْكَ فِي الْعُقُوبَةِ إِلَّا بِمَا أَذْنَبْتَ. وَنَظَرَ فِي عَمَلِ الثَّالِثِ فَإِذَا هُوَ قَدْ أَضَاعَ الْكَرْمَ، وَأَكَلَ الثِّمَارَ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ مَا هَذَا؟ قَالَ: هُوَ مَا تَرَى قَالَ: أَرَى عَمَلًا قَبِيحًا، وَفَسَادًا

كَثِيرًا، وَسَأَبْلُغُ مِنْ عُقُوبَتِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ. فَلَمَّا عَرَضَ أَمْرَ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءِ عَلَى النَّاسِ قَالُوا: الْأَوَّلُ نِعْمَ الْأَجِيرُ كَانَ، وَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْكَرْمِ وَأَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِنْ أَجْرِهِ. وَقَالُوا لِلثَّانِي: عَمِلَ الْأَحْمَقُ وَلَمْ يُتِمَّ عَمَلَهُ، لَوْ صَبَرَ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الثِّمَارِ لَأَصَابَ مِنْ صَاحِبِ الْكَرْمِ مِثْلَ مَا أَصَابَ صَاحِبُهُ. وَقَالُوا لِلثَّالِثِ: بِئْسَ الْأَجِيرُ، ضَيَّعَ مَا أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ أَكَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَهُوَ أَهْلٌ لَمَا لَقِيَ مِنْ شَرٍّ. فَهَكَذَا أَعْمَالُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْحُكَمَاءِ فِي الَّذِي يَصِيرُ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُجْزَى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ

قصة صاحب السفينة قال أنطونس: ولقد عجبت لأهل الأمل وطمعهم في طول العمر، فوجدت أعدى الناس للناس الأولاد لآبائهم، عمل آباؤهم في الاستكثار لهم، وأتعبوا أبدانهم في إصلاح معايش غيرهم بهلاك أنفسهم، وشاركهم في اللذة غيرهم، فأفردوا بالسؤال عما كدحوا كصاحب

§قِصَّةُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ قَالَ أَنْطُونِسُ: وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِأَهْلِ الْأَمَلِ وَطَمَعِهِمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ، فَوَجَدْتُ أَعْدَى النَّاسِ لِلنَّاسِ الْأَوْلَادَ لِآبَائِهِمْ، عَمِلَ آبَاؤُهُمْ فِي الِاسْتِكْثَارِ لَهُمْ، وَأَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ فِي إِصْلَاحِ مَعَايِشِ غَيْرِهِمْ بِهَلَاكِ أَنْفُسِهِمْ، وَشَارَكَهُمْ فِي اللَّذَّةِ غَيْرُهُمْ، فَأُفْرِدُوا بِالسُّؤَالِ عَمَّا كَدَحُوا كَصَاحِبِ السَّفِينَةِ. قَالُوا: وَكَيْفَ كَانَ مَثَلُ صَاحِبِ السَّفِينَةِ؟ قَالَ: زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ نَجَّارٌ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيُصِيبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، يُنْفِقُ نِصْفَهُ عَلَى أَبٍ لَهُ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَامْرَأَةٍ لَهُ وَابْنٍ وَبِنْتٍ، وَيَدَّخِرُ نِصْفَهُ، فَعَمِلَ زَمَانًا عَائِشًا بِخَيْرٍ، فَنَظَرَ يَوْمًا فِيمَا عَمِلَ وَمَا كَسَبَ فَإِذَا هُوَ قَدِ اسْتَفْضَلَ مِائَةَ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَفِي بَاطِلٍ مِنْ

عَمَلِي هَذَا، وَلَوْ عَمِلْتُ سَفِينَةً وَاسْتَقبَلْتُ تِجَارَةَ الْبَحْرِ رَجَوْتُ أَنْ أَتَمَوَّلَ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ الْقَدُومِ. فَلَمَّا عَرَضَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ عَلَى أَبِيهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَجِّمِينَ أَخْبَرَنِي أَيَّامَ وُلِدْتَ أَنَّكَ تَمُوتُ غَرَقًا. قَالَ: فَمَا أَخْبَرَكَ أَنِّي أُصِيبُ مَالًا؟ قَالَ: بَلَى، وَلِذَلِكَ نَهَيْتُكَ عَنِ التِّجَارَةِ وَالْتَمَسْتُ لَكَ عَمَلًا تَعِيشُ فِيهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ. قَالَ: أَمَّا إِذَا كَانَ فِي قَوْلِهِ أَنِّي أُصِيبُ مَالًا فَوَاللَّهِ مَا جُلُّ إِصَابَةِ الْمَالِ إِلَّا فِي التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ. قَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْهَلَاكَ. قَالَ: أَلَيْسَ يَكُونُ لِي مَالٌ، إِنْ عِشْتُ عِشْتُ بِخَيْرٍ، وَإِنْ مُتُّ تَرَكْتُ أَوْلَادِي بِخَيْرٍ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا يَكُونَنَّ وَلَدُكَ آثَرَ عِنْدَكَ مِنْ نَفْسِكَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا أَنَا بِنَازِعٍ عَنْ رَأْيِي. فَعَمِلَ سَفِينَةً وَأَجَادَ عَمَلَهَا، ثُمَّ حَمَّلَهَا مِنْ صُنُوفِ التِّجَارَاتِ، ثُمَّ رَكِبَ فِيهَا، فَغَابَ عَنْ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ قَدِمَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِقِيمَةِ مِائَةِ قِنْطَارٍ ذَهَبٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَالِدُهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَرِهَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أُحَرِّقَ سَفِينَتَكَ. قَالَ: يَا أَبَهْ، لَقَدْ أَرَدْتَ هَلَاكِي وَخَرَابَ بَيْتِي. قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّمَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ حَيَاتَكَ، وَقِوَامَ بَيْتِكَ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِالْأُمُورِ مِنْكَ، وَأَرَاكَ قَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَأَقْبِلْ عَلَى الْعَمَلِ بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشُّكْرِ لَهُ، فَإِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ غِنَى الدَّهْرِ، وَأَمِنْتَ بِإِذْنِ اللَّهِ مِنَ الْفَقْرِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِمَا جَعَلْتُ عَلَيَّ السَّلَامَةَ لِبَدَنِكَ، فَلَا تُفْجِعْنِي يَا بُنَيَّ

بِنَفْسِكَ. قَالَ: أَلَيْسَ الْحَقُّ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى أَرْجِعَ فَأَجُولَ جَوْلَةً أُصِيبُ فِيهَا أَضْعَافَ مَا قَدْ تَرَى. فَخَرَجَ فَغَابَ سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى ثُمَّ قَدِمَ بَأَضْعَافِ مَا قَدِمَ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِيهِ: كَيْفَ تَرَى؟ لَوْ أَنِّي أَطَعْتُكَ لَمْ أُصِبْ مِنْ هَذَا الْمَالُ شَيْئًا. قَالَ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، أَرَاكَ تَعْمَلُ لِغَيْرِكَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا صُرِفَ عَنْكَ فِي سَلَامَةِ بَدَنِكَ، وَسَيُجَرِّعُكَ مَا تَرَى غُصَّةً، فَتَتَمَنَّى لَوْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ هَذِهِ اللَّذَّةِ جِبَالُ الْمَشْرِقِ. قَالَ: يَا أَبَهْ، إِنَّمَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا قَوْلُ الْمُنَجِّمِ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ فِي الْغِنَى وَأَخْطَأَ فِي الْغَرَقِ. ثُمَّ أَمَرَ بِصَنْعَةِ سَفِينَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَقُمْ إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى أَجْمَعَ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُنِي مِنَ الْإِلْحَاحِ عَلَيْكَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ إِلَّا مَا قَدْ يَكُونُ مِنْ مَعْصِيَتِكَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَقَدْ رَأَيْتُ أَشْيَاءَ صَدَّقَتْ عِنْدِي قَوْلَ الْمُنَجِّمِ، وَانْسَكَبَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ، فَرَّقَ لِذَلِكَ ابْنُهُ. وَقَالَ: يَا أَبَهْ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، اصْبِرْ لِي مَرَّتَكَ هَذِهِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ رَدَّنِي اللَّهُ سَالِمًا لَا رَكِبْتُ بَحْرًا مَا عِشْتُ. قَالَ الشَّيْخُ: يَا بُنَيَّ، الْيَوْمَ وَاللَّهِ أَيْقَنْتُ بِفَقْدِكَ، وَاللَّهِ لَا تَرْجِعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تَرْجِعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. ثُمَّ تَلَهَّفَ عَلَيْهِ وَبَكَى إِلَيْهِ، وَنَاشَدَهُ اللَّهَ، فَلَمْ يَسْمَعْ مَقَالَةَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ خَرَجَ فِي سِفَينَتَيْنِ قَدْ شَحَنَهُمَا تِجَارَةً، فَلَمَّا تَوَسَّطَ الْبَحْرَ أَصَابَهُ مَوْجٌ شَدِيدٌ، فَأَصَابَتْ إِحْدَى سَفِينَتَيْهِ الْأُخْرَى فَانْصَدَعَتَا فَغَرِقَتَا، فَذَكَرَ التَّاجِرُ وَهُوَ يَسْبَحُ مَقَالَةَ

الْمُنَجِّمِ، وَتَلَهَّفَ عَلَى عِصْيَانِهِ وَالِدَهُ، وَهَلَكَ هُوَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ بَعْدَ سِبَاحَةِ يَوْمٍ، فَنَبَذَهُمُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ مِنْ مَنْزِلِ أَبِيهِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ، فَلَمْ تَمُرَّ بِهِمْ أَيَّامٌ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الشَّيْخِ الْخَبَرُ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وَنَحِلَ وَكَمِدَ حَتَّى هَلَكَ أَيْضًا، وَقُسِّمَ الْمِيرَاثُ عَلَى امْرَأَةِ التَّاجِرِ، وَابْنِهِ، وَابْنَتِهِ، فَتَزَوَّجَ ابْنُهُ، وَتَزَوَّجَتِ امْرَأَتُهُ وَابْنَتُهُ، فَصَارَ مَا جَمَعَ إِلَى زَوْجِ امْرَأَتِهِ، وَزَوْجِ ابْنَتِهِ، وَامْرَأَةِ ابْنِهِ، وَكُلُّ مَا يَجْمَعُ الْأَشْقِيَاءُ إِلَى ذَلِكَ يَصِيرُ.

قصة صاحب الحوت ولقد عجبت للمدخر عن نفسه، والمؤثر لغيره، فويحك، قابل همومك بخفة المال، وتبلغ بالكفاف تبلغ المنزل، وادخر الفضل لنفسك، ولا تؤثر غيرك فتلق ما لقي صاحب الحوت. قالوا: وما الذي لقي صاحب الحوت؟ قال أنطونس: زعموا أن صياد سمك أصاب في صيده

§قِصَّةُ صَاحِبِ الْحُوتِ وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِلْمُدَّخِرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمُؤْثِرِ لِغَيْرِهِ، فَوَيْحَكَ، قَابِلْ هُمُومَكَ بِخِفَّةِ الْمَالِ، وَتَبَلَّغْ بِالْكَفَافِ تَبْلُغِ الْمَنْزِلَ، وَادَّخِرِ الْفَضْلَ لِنَفْسِكَ، وَلَا تُؤْثَرْ غَيْرَكَ فَتَلْقَ مَا لَقِيَ صَاحِبُ الْحُوتِ. قَالُوا: وَمَا الَّذِي لَقِيَ صَاحِبُ الْحُوتِ؟ قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ صَيَّادَ سَمَكٍ أَصَابَ فِي صَيْدِهِ حُوتًا عَظِيمًا سَمِينًا، فَقَالَ: لَيْسَ مِثْلُ هَذَا يُبَاعُ، وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِأَكْلِهِ مِنِّي فَانْقَلَبَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُهْدِيَهُ إِلَى جَارٍ لَهُ مِنَ الْحُكَمَاءِ، فَلَمَّا أَتَاهُ بِهِ دَعَا لِلصَّيَّادِ بِعِوَضٍ مِنْهُ، فَأَبَى الصَّيَّادُ أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَكِيمُ: فَمَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا، لَعَلَّ لَكَ حَاجَةً تُحِبُّ قَضَاءَهَا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُوثِرَكَ بِهِ. قَالَ: قَدْ قِبْلَتُهُ، ثُمَّ أَمَرَ خَادِمًا لَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا الْحُوتِ إِلَى جَارِنَا هَذَا الْمُقْعَدِ الْمِسْكِينِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الصَّيَّادُ ضَرَبَ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ: يَا وَيْلَهُ مِمَّا حَرَمَ نَفْسَهُ مِنْ أَكْلِ هَذَا الْحُوتِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى أَعْدَى النَّاسِ لَهُ. قَالَ لَهُ

الْحَكِيمُ: إِنَّ هَذِهِ الْأُثْرَةَ الَّتِي آثَرْتُ بِهَا الْمُقْعَدَ إِنَّمَا هِيَ ذَخِيرَةٌ لِي وَضَعْتُهَا عِنْدَهُ لِيَوْمِ فَاقَتِي. قَالَ: وَمَتَى ذَاكَ الْيَوْمُ؟ قَالَ: يَوْمَ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى ذَخَائِرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. فَتَعَجَّبَ الصَّيَّادُ لِذَلِكَ وَنَدِمَ.

قصة هلاك اليهودي والنصراني ولقد عجبت لهذا الشغل الذي غر أهل العقل والجهل حتى هلكوا جميعا بالرجاء والطمع، كما هلك اليهودي والنصراني. قالوا: أخبرنا كيف كان ذلك؟ . قال أنطونس: اصطحب رجلان يهودي ونصراني إلى أرض يبتاعان الجوهر، فسارا في عمران من الأرض

§قِصَّةُ هَلَاكِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِهَذَا الشُّغْلِ الَّذِي غَرَّ أَهْلَ الْعَقْلِ وَالْجَهْلِ حَتَّى هَلَكُوا جَمِيعًا بِالرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، كَمَا هَلَكَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ. قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ . قَالَ أَنْطُونِسُ: اصْطَحَبَ رَجُلَانِ يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ إِلَى أَرْضٍ يَبْتَاعَانِ الْجَوْهَرَ، فَسَارَا فِي عُمْرَانٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاتِّصَالٍ مِنَ الْمِيَاهِ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى بِئْرٍ، وَمِنْ وَرَاءِ تِلْكَ الْبِئْرِ مَفَازَةٌ مَسِيرَتُهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِرْبَةٌ، فَمَلَأَ الْيَهُودِيُّ قِرْبَتَهُ، وَأَرَادَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَمْلَأَ قِرْبَتَهُ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: تَكْفِينَا قِرْبَتُنَا هَذِهِ، وَلَا تُثْقِلُ دَوَابَّنَا، فَقَالَ لَهُ النَّصْرَانِيُّ: أَنَا أَعْلَمُ بِالطَّرِيقِ. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَشْرَبَ الْمَاءَ كُلَّمَا عَطِشْتَ. قَالَ: لَا، فَتَرَكَ النَّصْرَانِيُّ قِرْبَتَهُ فَارِغَةً وَسَارَ مَعَ صَاحِبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَحْتَاجُ إِلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَا الْمَفَازَةَ أَصَابَهُمَا سَمُومٌ شَدِيدَةٌ أَنْفَدَ مَا كَانَ فِي الْقِرْبَةِ، فَقَعَدَا فِي الطَّرِيقِ يَتَلَاوَمَانِ وَيَقُولُ النَّصْرَانِيُّ لِلْيَهُودِيِّ: مَا أَهْلَكْنَا إِلَّا رَأْيُكَ الْقَبِيحُ، وَمَا صَنَعْتَ ذَلِكَ إِلَّا لِعَدَاوَةِ مَا بَيْنَنَا فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ قَالَ الْيَهُودِيُّ: أَتَرَانِي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَكَ وَأَقْتُلَ نَفْسِي؟ قَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَبْعَدَكَ اللَّهُ كَمَا لَمْ تَرْحَمْنِي. قَالَ الْيَهُودِيُّ: وَيْحَكَ، إِنَّمَا نَهَيْتُكَ عَنْ حَمْلِ الْمَاءِ لِضَعْفِ حِمَارِكَ، وَكَرِهْتُ لَكَ الْمَشْيَ. قَالَ

النَّصْرَانِيُّ: لَعَمْرِي لَلْمَشْيُ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَمَا فَعَلْتَ هَذَا إِلَّا لِعَدَاوَتِكُمُ الْقَدِيمَةِ، وَإِنَّمَا يَحْزُنُنِي أَنْ نَمُوتَ فَنُدْفَنَ جَمِيعًا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَيَمُرَّ بِنَا مِنَ الْقِسِّيسِينَ مِنْ يُصَلِّي عَلَيْنَا. قَالَ الْيَهُودِيُّ: وَيْحَكَ، وَلِمَ يَشُقُّ عَلَيْكَ أَنْ نُدْفَنَ جَمِيعًا وَيُصَلِّيَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْنَا؟ قَالَ النَّصْرَانِيُّ: لِأَنَّكَ قَتَلْتَ نَفْسَكَ وَصَاحِبَكَ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَيْكَ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَخْرُجُ أَنْفُسُهُمَا إِذْ مَرَّ بِهِمَا رَجُلٌ مَاشٍ يَسُوقُ حِمَارًا عَلَيْهِ قِرْبَتَانِ مِنْ مَاءٍ، فَلَمَّا رَأَيَاهُ ابْتَدَرَا فَقَالَا: احْتَسِبْ عَلَيْنَا بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ عَافَاكَ اللَّهُ قَالَ: هَذَا طَرِيقٌ لَيْسَ فِيهِ حِسْبَةٌ. قَالَا لَهُ: أَخْبِرْنَا مَا دِينُكَ؟ قَالَ: دِينِي دِينِكُمَا. قَالَا: فَإِنَّ أَحَدَنَا يَهُودِيٌّ وَالْآخَرَ نَصْرَانِيٌّ. قَالَ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمُسْلِمُ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِي كِتَابِهِ، وَاتَّكَلَ عَلَى الْغِرَّةِ فِي الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، لَقِيَ مَا لَقِيتُمَا، وَوَلَّى عَنْهُمَا وَلَمْ يَسْقِهِمَا. فَقَالَا: هَذَا رَجُلٌ حَازِمٌ. فَقَالَ: مَا أَقَلَّ مَا يُغْنِي عَنْكُمَا حَزْمِي، وَعَمَّنْ فَرَّطَ فِي الْأَخْذِ بِالْوَثِيقَةِ، وَاتَّكَلَ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، وَقَدْ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَزْمِ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، كَمَا يَأْخُذُ بِهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَلَا يَتَّكِلَ عَلَى الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ بِغَيْرِ اتِّبَاعٍ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَالتَّرْكِ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ

قصة صاحب الدير ولقد عجبت لأهل الأعمال السيئة واستتارهم من العباد بقبيح أعمالهم، ولا يستترون ممن يلي عقوبتهم، ولا يراقبونه وهو الذي يثيب على الحسن، ويجزي بالسيء، كيف أمنوا أن يصيبهم ما أصاب صاحب الدير. قالوا: وما الذي أصاب صاحب الدير؟ قال أنطونس:

§قِصَّةُ صَاحِبِ الدَّيْرِ وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَاسْتِتَارِهِمْ مِنَ الْعِبَادِ بِقَبِيحِ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَسْتَتِرُونَ مِمَّنْ يَلِي عُقُوبَتَهُمْ، وَلَا يُرَاقِبُونَهُ وَهُوَ الَّذِي يُثِيبُ عَلَى الْحَسَنِ، وَيَجْزِي بِالسَّيِّءِ، كَيْفَ أَمِنُوا أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ صَاحِبَ الدَّيْرِ

قَالُوا: وَمَا الَّذِي أَصَابَ صَاحِبَ الدَّيْرِ؟ قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَبِيعُ الْعَسَلَ، وَالسَّمْنَ، وَالزَّيْتَ، وَالْخَمْرَ، وَكَانَ يَشْتَرِيهِ طَيِّبًا نَقِيًّا، وَيَبِيعُهُ غَالِيًا مَغْشُوشًا، وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ عَظِيمَةٍ جَمِيلَةٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَرَاهُ إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: لَوْ كُنْتَ أُسْقُفًا، فَمَا صَلُحَتْ لِحْيَتُكَ إِلَّا لِلْأَسَاقِفَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ لَهُ وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ الرَّهْبَانِيَّةُ لِرَجَاءِ مَنْزِلَةٍ يُصِيبُهَا، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِي لِحْيَتِي، وَلَا يَعْلَمُونَ عَمَلِي، وَلَوْ أَنِّي تَرَهَّبْتُ لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ مَالًا وَمَنْزِلَةً، فَجَزِعَتْ لِذَلِكَ امْرَأَتُهُ جَزَعًا شَدِيدًا، وَقَالَتْ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تُؤَيِّمَنِي وَتُيَتِّمَ أَوْلَادِي. قَالَ: وَيْحَكِ، لَمْ أَرُدْ ذَلِكَ لِنِيَّةٍ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ رَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ لِي مَنْزِلَةٌ، وَأَنَالَ فَضِيلَةً فِي أَهْلِ مِلَّتِي. قَالَتْ: أَخَافُ أَنْ تُدَاخِلَكَ حَلَاوَةُ الْعِبَادَةِ إِذَا صِرْتَ مَعَ الرُّهْبَانِ، فَتَلِجَ وَتَتْرُكَنِي، فَحَلَفَ لَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى تَعَلُّمِ الْإِنْجِيلِ وَالْمَزَامِيرِ وَأَشْيَاءَ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى دَيْرٍ عَظِيمٍ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّهْبَانِ فَنَزَلَهُ، فَلَمْ يُقِمْ فِيهِ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى أَعْجَبَ الرُّهْبَانَ مَا رَأَوْا مِنْ جَمَالِهِ وَنُبلِ لِحْيَتِهِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى رِئَاسَتِهِ، وَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ هِمَّتَهُ، وَأَمْكَنَتْهُ الْأُمُورُ مِنْ أَمْوَالِ الدَّيْرِ وَخَزَانَتِهِ لَاطَفَ عُظَمَاءَ النَّاسِ وَأَشْرَافَهُمْ، فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، وَصَغُرَتْ مَنْزِلَةُ الرُّهْبَانِ فِي عَيْنِهِ فَأَذَلَّهُمْ، وَنَقَصَ أَرْزَاقَهُمْ، وَغَيَّرَ مَرَاتِبَهُمْ، وَعَمَدَ إِلَى أَهْلِ الْعِبَادَةِ مِنْهُمْ فَوَلَّاهُمْ غَلَّاتِ الدَّيْرِ وَخَزَانَتِهِ، وَتَفَرَّغَ يُنَعِّمُ نَفْسَهُ، وَالْتَذَّ بِالنِّسَاءِ، وَشَرِبَ الْخَمْرَ، وَأَكَلَ الطَّيِّبَ، وَلَبِسَ

اللَّيِّنَ، فَلَمَّا رَأَى الرُّهْبَانُ ذَلِكَ غَاظَهُمْ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ سَنَّاطٌ كَانَ يَحْسُدُهُ عَلَى نُبْلِ لِحْيَتِهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا الْفَاسِقَ يُذِلَّكُمْ، وَيَسْتَعِينُ بِكُمْ عَلَى فِسْقِهِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِكُمْ، قَالُوا: قَدِ اعْتَزَلْنَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَتَفَرَّغْنَا لِلْعِبَادَةِ فَابْتُلِينَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِالشُّغُلِ، وَالْهَمِّ، وَالْحَزَنِ. قَالَ السَّنَّاطُ: هَذَا مَا عَمِلَ بِكُمْ سُوءُ رَأْيِكُمْ، وَحُسْنُ نَظَرِكُمْ فِي طُولِ اللِّحَى، وَمَنْ قَلَّدَ أَمْرَهُ أَهْلَ اللِّحَى وَالرِّيَاءِ، وَتَرَكَ أَهْلَ الْعَفَافِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ فَلْيَصْبِرْ لِمَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ، فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى أَنْ يَعِظُوهُ، فَأَتَاهُ السَّنَّاطُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ أَسْرَفْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَقَدْ ظَهَرَ لِأَصْحَابِكَ مَا تَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَاحْذَرْ عُقُوبَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ رُبَّمَا عَجَّلَهَا فِي الدُّنْيَا لِلْعَبْدِ قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَقَالَ لَهُمُ الرَّاهِبُ: أَلَيْسَ إِنَّ الْخَطِيئَةَ قَدْ أَحَاطَتْ بِبَنِي آدَمَ حَتَّى نَالَتِ

الْأَنْبِيَاءَ؟ فَقَدْ أَخْطَأَ دَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا. قَالَ السَّنَّاطُ: أَرَاكَ عَالِمًا بِخَطَايَا الْأَنْبِيَاءِ، جَاهِلًا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ، إِنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُدَ نَظْرَةً وَاحِدَةً، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَإِنَّمَا سَهَا سُلَيْمَانُ عَنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَأَخَّرَ وَقْتَهَا لِلَذَّةٍ فِي الْخَيْلِ، فَتَابَ وَاسْتَغْفَرَ وَضَرَبَ أَعْنَاقَهَا وَعَرْقَبَهَا، وَإِنَّمَا تَرَكَ يَحْيَى صَلَاةً وَاحِدَةً مِنْ نَوَافِلِ اللَّيْلِ، اتَّهَمَ بِذَلِكَ كَثْرَةَ طَعَامِهِ، فَمَا مَلَأَ بَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ، قَالَ صَاحِبُ الدَّيْرِ: أَرْجُو التَّوْبَةَ، قَالَ السَّنَّاطُ: رُبَّمَا عَاجَلَ الْمَوْتُ صَاحِبَ الْخَطِيئَةِ عَنِ التَّوْبَةِ. فَأَقَامَ صَاحِبُ الدَّيْرِ عَلَى خَطِيئَتِهِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِي هَلَاكِهِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ اللُّصُوصِ، كَانَ لَهُ أَصْحَابٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي الْقُرَى فَبَعَثَ رَأْسُ اللُّصُوصِ أَصْحَابَهُ يُبَيِّتُونَ الْقَرْيَةَ الَّتِي فِيهَا امْرَأَةُ الرَّاهِبِ صَاحِبِ الدَّيْرِ، فَلَمَّا بَيَّتُوهُمْ وَجَدُوا الرَّاهِبَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي لِحَافٍ، فَأَتَوْا بِهِ رَأْسَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاهِبًا لَعَذَرْنَاهُ، وَلَكِنَّمَا نُقِيمُ فِيهِ حَدَّ اللَّهِ فِيمَنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ ثُمَّ رَكِبَهُنَّ

، فَسَأَلَ عَنْ عُقُوبَتِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقِيلَ عُقُوبَتُهُ أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَأُلْقِيَ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ، وَكَفَى اللَّهُ الرُّهْبَانَ مَؤُنَتَهُ، وَعَجَّلَهُ لِلنَّارِ فِي الدُّنْيَا، لِعَبَادَتِهِ الَّتِي نَوَاهَا لِلدُّنْيَا.

قصة الأعمى في مصيبته ولقد عجبت لأهل المصائب، كيف لا يستعينون على مصائبهم بالصبر، ويذكرون ما يؤملون من الثواب، فإنه سيأتي على صاحب المصيبة يوم يتمنى فيه ما تمنى الأعمى في مصيبته. قالوا: وما تمنى الأعمى في مصيبته؟ قال أنطونس: زعموا أن تاجرا دفن مائة

§قِصَّةُ الْأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، كَيْفَ لَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى مَصَائِبِهِمْ بِالصَّبْرِ، وَيَذْكُرُونَ مَا يُؤَمِّلُونَ مِنَ الثَّوَابِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى صَاحِبِ الْمُصِيبَةِ يَوْمٌ يَتَمَنَّى فِيهِ مَا تَمَنَّى الْأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ. قَالُوا: وَمَا تَمَنَّى الْأَعْمَى فِي مُصِيبَتِهِ؟ قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ تَاجِرًا دَفَنَ مِائَةَ دِينَارٍ فِي مَوْضِعٍ، فَبَصُرَ بِهَا جَارٌ لَهُ فَأَخْرَجَهَا، فَلَمَّا فَقَدَهَا التَّاجِرُ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، ثُمَّ طَالَ بِهِ الْعُمُرُ حَتَّى عَمِيَ وَاحْتَاجَ حَاجَةً شَدِيدَةً، فَلَمَّا حَضَرَتْ جَارَهُ الْوَفَاةُ تَخَوَّفَ الْحِسَابَ، فَأَوْصَى أَنْ تُرَدَّ الْمِائَةُ دِينَارٍ إِلَى الْأَعْمَى، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرُوهُ بِالْقَصَّةِ، فَسُرَّ الْأَعْمَى سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّهَا عَلَيَّ أَحْوَجَ مَا كُنْتُ إِلَيْهَا، فَيَا لَيْتَ كُلَّ مَالٍ كَانَ لِي يَوْمَئِذٍ قُبِضَ عَنِّي ثُمَّ رُدَّ عَلَيَّ الْيَوْمَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ أَنَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ سَيَلْقَاهُ يَوْمَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

قصة صاحب المسيل ولقد عجبت لنفاذ عقولهم، كيف لا يعملون بما يعلمون، كأنهم يريدون أن يهلكوا كما هلك صاحب المسيل. قالوا: وكيف كان ذلك؟ قال أنطونس: زعموا أن رجلا نزل بطن مسيل، فقيل له: تحول عن هذا المنزل، فإنه منزل خطر. فقال: قد عملت، ولكن يعجبني

§قِصَّةُ صَاحِبِ الْمَسِيلِ وَلَقَدْ عَجِبْتُ لِنَفَاذِ عُقُولِهِمْ، كَيْفَ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ صَاحِبُ الْمَسِيلِ. قَالُوا: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ -[53]- قَالَ أَنْطُونِسُ: زَعَمُوا أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بَطْنَ مَسِيلٍ، فَقِيلَ لَهُ: تَحَوَّلْ عَنْ هَذَا الْمَنْزِلِ، فَإِنَّهُ مَنْزِلٌ خَطِرٌ. فَقَالَ: قَدْ عَمِلْتُ، وَلَكِنْ يُعْجِبُنِي نُزْهَتُهُ وَمَرَافِقُهُ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا تَطْلُبُ الرِّفْقَ لِصَلَاحِ نَفْسِكَ، فَلَا تُخَاطِرْ بِهَا. قَالَ: مَا أُرِيدُ التَّحَوُّلَ عَنْ مَنْزِلِي. فَغَشِيَهُ السَّيْلُ وَهُوَ نَائِمٌ فَذَهَبَ بِهِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ. وَهُمْ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ، كَأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الدَّهْرِ الَّذِينَ قَالُوا: نُنْشَأُ وَنَبِيدُ، وَالْهَالِكُ مِنَّا لَا يَعُودُ.

قصة أصحاب أفرولية قال أنطونس: فلو أخذنا بالحزم كنا كأصحاب أفرولية. قيل: وكيف كان ذلك؟ قال بعث ملك أسقولية بعثا إلى أفرولية، وكان المسير إليها في البحر ستين ليلة، لا يجدون من الزاد والماء إلا ما حملوه معهم، وكان مع صاحب أسقولية كاهنان، فقال أحدهما

§قِصَّةُ أَصْحَابِ أَفْرُولِيَّةَ قَالَ أَنْطُونِسُ: فَلَوْ أَخَذْنَا بِالْحَزْمِ كُنَّا كَأَصْحَابِ أَفْرُولِيَّةَ. قِيلَ: وَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ بَعَثَ مَلِكُ أَسْقُولِيَّةَ بَعْثًا إِلَى أَفْرُولِيَّةَ، وَكَانَ الْمَسِيرُ إِلَيْهَا فِي الْبَحْرِ سِتِّينَ لَيْلَةً، لَا يَجِدُونَ مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ إِلَّا مَا حَمَلُوهُ مَعَهُمْ

، وَكَانَ مَعَ صَاحِبِ أَسْقُولِيَّةَ كَاهِنَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَمَا إِنَّ هَذَا الْجَيْشَ سَيُقِيمُونَ عَلَى أَفْرُولِيَّةَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ يَرْمُونَهَا بِالْمَجَانِيقِ، وَتُفْتَحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. قَالَ الْآخَرُ: لَا، بَلْ يُقِيمُونَ سَبْعَةً وَيَنْصَرِفُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْبَعْثِ قَوْلَهُمَا قَالُوا: مَا نَدْرِي لِلْبَدَاءَةِ نَحْمِلُ الزَّادَ أَمْ لِلْبَدَاءَةِ وَالرَّجْعَةِ؟ قَالَ فَوْجٌ مِنْهُمْ: نَقْبَلُ قَوْلَ الْكَاهِنِ الَّذِي قَالَ نَفْتَحُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، وَلَا نُعَنِّي أَنْفُسَنَا بِحَمْلِ ثَقِيلِ الزَّادِ. وَقَالَ الْفَوْجُ الْآخَرُ: إِنَّمَا هِيَ أَنْفُسُنَا، لَا نُخَاطِرُ بِهَا، فَحَمَلُوا الزَّادَ لِلْبَدَاءَةِِ وَالرَّجْعَةِ، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَفْرُولِيَّةَ، وَقَدْ أَخَذُوا بِالْحَزْمِ، وَتَحَرَّزُوا دُونَهُمْ بِحِصْنٍ دُونَ حِصْنٍ، فَأَقَامُوا عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِالْمَجَانِيقِ فَفَتَحُوا حَائِطَهَا الظَّاهِرَ، فَنَاهَضُوهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الثَّغْرَةَ إِذَا لَهَا قَصَبَةٌ أُخْرَى حَصِينَةٌ، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِدُخُولِ الْحَائِطِ الْأَوَّلِ، وَجَاءَهُمْ بَرِيدٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ أَنَّ مَلِكَهُمْ قَدْ مَاتَ، فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، فَهَلَكَ مِمَّنْ فَرَّطَ فِي حَمْلِ الزَّادِ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَصَارُوا مَثَلًا، وَكَذَلِكَ يَهْلَكُ مَنْ فَرَّطَ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ، وَيَنْجُو مَنْ تَزَوَّدَ لَهَا، وَتَحَرَّزَ مِنْ بِوَائِقِهَا، كَمَا تَحَرَّزَ أَهْلُ أَفْرُولِيَّةَ، وَكَمَا نَجَا مَنْ تَزَوَّدَ مِن أَهْلِ أَسْقُولِيَّةَ لِلرَّجْعَةِ.

الوصية الأخيرة قال النفر الستة لأنطونس: ما أحسن قولك، وأبلغ موعظتك. قال: أما إن حلاوة عظتي لا تجاوز آذانكم، ألم تعلموا أن فيما جاء به موسى في الناموس، وفيما جاء به داود من الزبور، والمسيح من الإنجيل، وفي كتب جميع الأنبياء: إنما تجزون بما كنتم

§الْوَصِيَّةُ الْأَخِيرَةُ قَالَ النَّفْرُ السِّتَّةُ لِأَنْطُونِسَ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَكَ، وَأَبْلَغَ مَوْعِظَتَكَ -[55]-. قَالَ: أَمَا إِنَّ حَلَاوَةَ عِظَتِي لَا تُجَاوِزُ آذَانَكُمْ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى فِي النَّامُوسِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ دَاوُدُ مِنَ الزَّبُورِ، وَالْمَسِيحُ مِنَ الْإِنْجِيلِ، وَفِي كُتُبِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالثَّوَابُ لِمَنْ عَمِلَ يُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ. وَالْأَجِيرُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ رَبِّ أَجْرِهِ، فَانْظُرُوا فِي أَعْمَالِكُمْ، واقْضُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ مَا لَكُمْ وَمَا عَلَيْكُمْ، وَانْصَرِفُوا عَنِّي رَاشِدِينَ. فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَاقْتَرَعُوا بَيْنَهُمْ، وَمَلَّكُوا أَحَدَهُمْ، وَرَضُوا بِهِ.

§1/1