الواضح في علوم القرآن

مصطفى ديب البغا

مقدمة

مقدّمة الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا، أنزل القرآن الكريم كاملا وشاملا، ومن أيّ تناقض أو ارتياب سالما، قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف: 1]. وجعل التّدبّر في آياته مقصدا، والوصول إلى إتقان تلاوته ولذّة قراءته هدفا وموئلا، فقال سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]. والصّلاة والسّلام على رسول الله، بعثه الله رحمة للعالمين، وأيّده بقرآنه المعجزة وكلامه المبين، ورضي الله عن أصحابه والتّابعين، ومن اتّبع سبيلهم، فاتّبع هدي القرآن وصراطه المستقيم، إلى يوم الدّين. وبعد: فإنّ القرآن الكريم عظيم الفضل رفيع المنزلة في حياة المسلمين جميعا، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وتتجلّى مكانته السّامقة في حفظه من كلّ تحريف أو تبديل، وفي إعجازه لجميع بني البشر أن يأتوا بأقصر سورة من مثله، ولو كان بعضهم لبعض عونا وظهيرا. وهو شرف وفخار للرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ولأمّته الماجدة المتمسّكة بمبادئ

الكتاب العزيز وأحكامه قولا وعملا، قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: 44]. ومن آياته وسوره الكريمات تستمدّ الأمّة المسلمة عقيدتها الحنيفية، وعبادتها الصحيحة، وأخلاقها الكريمة، وأحكامها القويمة: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]. وفي ثنايا صفحات القرآن المباركة، تتجلّى تجارب الأمم، وتاريخ الإنسانية، وحياة الأنبياء، فيتطلّع المسلمون إلى حاضر سعيد ومستقبل رغيد، على بصيرة وعلم بالماضي الحافل بالعظات والعبر، وعلى هدي من النّداءات الإلهية الحانية، تدعوهم صباح مساء إلى العزّة والمجد في حاضرهم ومستقبلهم. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]. وكلّ هذه الحقائق المرتبطة بأهمية القرآن، منوطة بمعرفة علومه ومرهونة بفهم تنزّلاته، وطرائق جمعه وكتابته وحفظه، وكيفيّة رسمه، ووجوه إعجازه، ومناهج تفسيره وفهمه، والتعرّف على أحكام تجويده، وأساليب بيانه. إنّ التلاوة لكتاب الله، المسبوقة بهذه الثقافة القرآنية، لا بدّ أن تصل إلى غاياتها في الثّواب والخشوع، والفهم والعمل. وقد كان هدفنا في جميع أبواب الكتاب وفصوله، أن يبقى القرآن الكريم في بؤرة الضّوء شاهدا ومشهودا، وأمام السمع والبصر والوجدان مقروءا ومتلوّا. وقد توخينا فيما كتبناه أو اخترناه العبارة الواضحة، والأسلوب السهل، وأبعدنا كلّ البعد عن المناقشات اللّفظية، والخلافات الشّكلية التي لا ينبني عليها كبير فائدة، والتي من شأنها أن تبعد القارئ عن جوّ التّدبّر والفهم، والاعتزاز بقدسيّة وحفظ الكتاب العزيز. وقد أضفنا بابا تطبيقيا يحتوي على فصلين:

الأول: سبعة نصوص تطبيقية مدروسة لمعظم البحوث المتقدمة. والثاني: نصوص تطبيقية للدراسة، وأسئلة وتطبيقات على جميع موضوعات الكتاب، للأخذ بيد القارئ والدارس إلى تذوق فنون علوم القرآن بشكل عملي ومنهجي. اللهمّ تقبّل منا هذا العمل، واكتبه يا ربنا في صحائف أعمالنا، واختم لنا بالحسنى يا رحمن يا رحيم. دمشق في 1/ 12/ 1416 هـ 7/ 5/ 1996 م المؤلفان الدكتور مصطفى البغا محيي الدين مستو

مدخل تمهيدي تعريف"علوم القرآن" وموضوعه وفائدته وتاريخه

مدخل تمهيدي تعريف «علوم القرآن» وموضوعه وفائدته وتاريخه 1 - تعريف «علوم القرآن» هو مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وترتيبه، وجمعه وكتابته، وقراءاته، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وإعجازه، وأساليبه ودفع الشبه عنه ... إلخ ذلك. ويتضح من هذا التعريف أن (علوم القرآن) علم عربي إسلامي في نشأته وتكوينه، بدأ مع نزول القرآن الكريم، وما زال ينضج ويتكامل حتى قيام الساعة. 2 - موضوعه القرآن الكريم من أية ناحية من النواحي المذكورة في التعريف. 3 - فائدته الثقافة العالية العامة في القرآن الكريم، والتسلّح بالمعارف القيّمة فيه، استعدادا لحسن الدفاع عن حمى الكتاب العزيز، وتسهيل خوض غمار تفسير القرآن الكريم، وهو من هذه الناحية كمثل علوم الحديث (المصطلح) لمن أراد أن يدرس علم الحديث. 4 - تاريخ علوم القرآن أ- عهد ما قبل التدوين: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه ما عرفه العلماء من بعد، ولكن معرفتهم لم تدوّن، ولم تجمع في كتاب،

لعدم حاجتهم إلى ذلك، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم ينزل عليه الوحي فيرتّله على مسامعهم، ويكشف لهم عن معانيه وأسراره بوحي من ربّه، وكان الصحابة عربا خلّصا، يتّصفون بقوة الذاكرة وتذوّق البيان وتقدير الأساليب، فأدركوا من علوم القرآن ما لم ندركه نحن، وكانت الأمية متفشية بينهم ووسائل الكتابة بدائية وغير ميسّرة لديهم، ومع ذلك فقد نشطوا في نشر الإسلام وتعاليمه والقرآن وعلومه تلقينا ومشافهة. ب- عهد التمهيد لكتابة علوم القرآن: إنّ ما تمّ في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من جمع القرآن في مصحف إمام، ونسخ عدة نسخ منه لإرسالها إلى الأقطار الإسلامية- والذي نفصّل فيه القول في الباب الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى- كان الأساس لما يسمّى «علم رسم القرآن». وفي عهد عليّ رضي الله عنه وضع الأساس لما يسمّى «علم النحو» بعد أن أمر عليّ رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض القواعد، لحماية لغة القرآن من العجمة وتفشي اللحن بين الناس. وفي العهد الأمويّ ساهم عدد من الصحابة والتابعين في وضع الأساس لما يسمّى «علم التفسير» و «علم أسباب النزول» و «علم الناسخ والمنسوخ» و «علم غريب القرآن». ج- عهد التدوين: وفي هذا العهد ألّفت الكتب في أنواع علوم القرآن، واتّجهت الهمم أول الأمر إلى التفسير باعتباره أمّ العلوم القرآنية، ومن أوائل من كتب في التفسير شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح. وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين، ثم تلاهم الطبري المتوفى سنة (310 هـ). وفي علوم القرآن الأخرى كتب علي بن المديني- شيخ البخاري- المتوفى سنة (234 هـ) كتابا في «أسباب النزول» وأبو عبيد القاسم بن سلّام المتوفى سنة

(224 هـ) كتب في «الناسخ والمنسوخ» وكلاهما من علماء القرن الثالث. وأبو بكر السجستاني المتوفى (330 هـ) كتب في «غريب القرآن» وهو من القرن الرابع، وعليّ بن سعيد الحوفي صنف في «إعراب القرآن» وهو من علماء القرن الخامس. وفي هذا القرن الخامس ظهر اصطلاح «علوم القرآن» وأول من كتب فيه هو علي بن سعيد الحوفي المتوفى سنة 430 هـ واسم كتابه: «البرهان في علوم القرآن» ويقع في ثلاثين مجلدا، والموجود منه الآن في دار الكتب المصرية (15) مجلدا. وفي القرن السادس ألّف ابن الجوزي المتوفى سنة (597 هـ) كتابين هما: «فنون الأفنان في علوم القرآن» و «المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن». وفي القرن السابع ألّف علم الدين السخاوي المتوفى سنة (641 هـ) كتابا سمّاه «جمال القراء». وألّف أبو شامة المتوفى سنة (665 هـ) كتابا سمّاه «المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز». وفي القرن الثامن كتب بدر الدين الزركشي المتوفى سنة (794 هـ) كتابا وافيا سماه «البرهان في علوم القرآن». وألّف تقي الدين أحمد بن تيمية الحرّاني المتوفى سنة (728 هـ) رسالة في أصول التفسير، وهي مشتملة على بعض موضوعات علوم القرآن. وفي القرن التاسع: ألّف محمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة (873 هـ) كتابا في علوم القرآن، وألّف جلال الدين البلقيني المتوفى سنة (824 هـ) كتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم». وفي القرن العاشر ألّف جلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911 هـ) كتابه المشهور «الإتقان في علوم القرآن» وهو من أجمع الكتب في موضوعه، لأنه استفاد من مؤلفات السابقين وزاد عليها «1».

_ (1) مناهل العرفان؛ للزرقاني (1/ 5 - 32).

وفي عصر النهضة الحديثة أثرت المكتبة العربية وازدانت بمؤلفات عديدة في الموضوعات القرآنية وفي علوم القرآن بالذات ونستطيع أن نعدّ منها على سبيل المثال لا الحصر: «التبيان في علوم القرآن» للشيخ طاهر الجزائري. «منهج الفرقان في علوم القرآن» للشيخ محمد علي سلامة. «مناهل العرفان في علوم القرآن» للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني. «مباحث في علوم القرآن» للدكتور صبحي الصالح. «من روائع القرآن» للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. «مباحث في علوم القرآن» للأستاذ مناع القطان.

الباب الأول معنى القرآن وفضله واحترامه

الباب الأوّل معنى القرآن وفضله واحترامه أولا: معنى القرآن لغة، وأسماؤه. ثانيا: تعريف القرآن الكريم اصطلاحا. ثالثا: فضل القرآن الكريم وأهميته في حياة المسلمين. رابعا: فضل تلاوة القرآن الكريم. خامسا: احترام القرآن الكريم.

أولا: معنى القرآن لغة وأسماؤه

أولا: معنى القرآن لغة وأسماؤه «القرآن» هو أول أسماء الكتاب العزيز وأشهرها، وأصحّ الأقوال في شرح معناه اللغوي أنه مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 17 - 18] ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل اسما لكلام الله المنزل على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه. وقد قيل: إن اسم القرآن مشتق من القرء بمعنى الجمع؛ لأنه جمع ثمرات الكتب السماوية السابقة، والرأي الأوّل أصح. وذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه إلى أن لفظ القرآن ليس مشتقا ولا مهموزا، وأنه قد ارتجل وجعل علما للكتاب المنزل، كما أطلق اسم التوراة على كتاب موسى، والإنجيل على كتاب عيسى عليهما السلام. ومن أسماء القرآن: الفرقان، ويعني أنه الكلام الذي يفرّق بين الحق والباطل. قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] ومن أسمائه المشهورة: الكتاب، والذكر، والتنزيل. قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران: 3] وقال سبحانه: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء: 50] وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 192]. ويقف الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه القيم «النبأ العظيم» عند أشهر اسمين وهما «القرآن» و «الكتاب» ليستجلي الحكمة الربانية في ذلك، فيقول: روعي في

تسميته «قرآنا» كونه متلوّا بالألسنة، كما روعي في تسميته «كتابا» كونه مدوّنا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه. وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا، أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفّاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيّها بقي القرآن في حرز حريز، إنجازا لوعد الله الذي تكفّل بحفظه حيث يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند «1».

_ (1) النبأ العظيم، للدكتور عبد الله دراز (ص 12).

ثانيا: تعريف القرآن الكريم اصطلاحا

ثانيا: تعريف القرآن الكريم اصطلاحا القرآن هو اللفظ العربي المعجز، الموحى به إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام، وهو المنقول بالتواتر، المكتوب في المصحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس. شرح عناصر التعريف: أ- المعجز: القرآن هو معجزة الرسول الكبرى، وقد أعجز العرب وهم أهل الفصاحة بما تضمّنه من فصاحة وبلاغة، وأنباء الغيب، وأخبار الأمم السابقة، وما حواه القرآن من إعجاز علمي وتشريع محكم دقيق صالح لكل زمان ومكان، ومن الثابت أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحدّى قومه بالقرآن وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88]. وتحدّاهم بعد ذلك أن يأتوا بعشر سور، قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13]. ولما عجزوا أيضا هذه المرة تحدّاهم أن يأتوا بأقصر سورة من مثله، قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 23]. ولا شكّ أن هذا الإعجاز هو المقصد الأوّل من إنزال القرآن إثباتا لرسالة ونبوّة

ب - الموحى به

محمد عليه الصلاة والسلام، ويأتي الكلام عن وجوه الإعجاز مفصلا في الباب الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ب- الموحى به: والقرآن الكريم بجميع ألفاظه ومعانيه منزل من الله تعالى على محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195]. وقال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 4]. وهذا أهم عنصر في تعريف القرآن، وتحديد ماهيته، وتعيين مصدره، وواسطة نقله. ولذلك لا بد من دراسة علمية وافية وموجزة عن كلمة الوحي وبيان معناها اللغوي والاصطلاحي. 1 - معنى الوحي لغة وشرعا: لغة: يقال وحيت إليه وأوحيت: إذا كلّمته بما تخفيه عن غيره. والوحي: الإشارة السريعة، ويكون ذلك على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرّد وبإشارة ببعض الجوارح. فمادة الكلمة إذا تدل على معنيين أصليين هما الخفاء والسرعة، ولذا قيل في معناه: الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجّه إليه بحيث يخفى على غيره. وهذا المعنى اللغوي للوحي يشمل: 1 - الإلهام الغريزي: كالوحي إلى النحل؛ قال الله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل: 68]. 2 - الإلهام الفطري؛ كالوحي إلى أمّ موسى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص: 7]. 3 - وسوسة الشيطان وتزيينه الشر في نفس الإنسان: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام: 121].

2 - أنواع الوحي

4 - الإشارة السريعة على سبيل الرمز، كإيحاء زكريا عليه السلام لقومه: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11]. 5 - وما يلقيه الله إلى ملائكته من أمر ليفعلوه: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 126]. ووحي الله إلى أنبيائه قد روعي فيه المعنيان الأصليان لكلمة الوحي وهما: الخفاء والسرعة، وهذا معنى المصدر. ويطلق الوحي على متعلّقه وهو ما وقع به الوحي، أي اسم المفعول: وهو ما أنزله الله تعالى على أنبيائه وما عرّفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم، ومنهم من أعطاه كتابا، أي تشريعا، ومنهم من لم يعطه. شرعا: أما التعريف الشرعي للوحي إلى الأنبياء فقد عرفوه بأنه: إعلام الله تعالى لنبيّ من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه. أو: هو كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه. وهو تعريف له بمعنى اسم المفعول، أي: للموحى به. وعرّفه الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد، فقال: «عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثّل لسمعه أو بغير صوت. ويفرّق بينه وبين الإلهام، بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس فتنساق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والسرور». وهو تعريف للوحي بمعنى المصدر، وبدايته تشمل ما يسمّونه بحديث النفس أو الكشف، ولكن التفريق بين الوحي وبين الإلهام في عجز التعريف ينفي هذا ويفسر معنى الوحي الشرعي: على ما يتلقاه النبيّ من خارج نفسه نازلا عليها من السماء، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6]. 2 - أنواع الوحي: للوحي أنواع ثلاثة، ذكرها الله تعالى في الآية الكريمة: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ

3 - حالات الوحي

يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]. فالوحي أولا: إلقاء المعنى في القلب، وقد يعبّر عنه بالنّفث في الرّوع قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن روح القدس نفث في روعي: إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» «1» وهو- بالضم- القلب والخلد والخاطر. وثانيا: الكلام من وراء حجاب، وهو أن يسمع كلام الله من حيث لا يراه، كما سمع موسى عليه السلام نداء ربه من وراء الشجرة قال تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [القصص: 30]. وثالثا: هو ما يلقيه ملك الوحي المرسل من الله تعالى إلى رسول الله، فيراه متمثلا بصورة رجل أو غير متمثل، ويسمعه منه أو يعيه بقلبه. وهذا النوع الثالث أشهر الأنواع وأكثرها وقوعا، ووحي القرآن كلّه من هذا القبيل، وهو المسمّى: (الوحي الجلي) قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 193 - 195]. 3 - حالات الوحي: كان جبريل عليه السلام يأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حالات متنوعة: 1 - فتارة يظهر للرسول في صورته الحقيقية الملكية، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] قال: رأى جبريل في

_ (1) رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 27) بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، والبغوي في شرح السنة (4/ 304) وفي إسناده رجل مجهول.

صورته، له ستمائة جناح «1». 2 - وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الصحابة ويستمعون إليه، كما في حديث عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاري: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ... » وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في آخر الحديث: «إنّه جبريل جاء يعلّمكم دينكم» «2» . وكان كثيرا ما يأتي في صورة (دحية الكلبيّ) الصحابي الجليل، وكان دحية من أجمل الصحابة. 3 - وتارة يهبط الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفية فلا يرى، ولكن يظهر أثر التّغيّر والانفعال على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيغطّ غطيط «3» النائم، ويثقل ثقلا شديدا حتى قد يتصبّب جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد. وقد يكون وقع الوحي على رسول الله كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه، وذلك أشدّ أنواعه، وربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه دويّ النحل، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل «4» . لكنهم لا يفهمون كلاما، أما هو فإنه يسمع ويعي ما يوحى إليه، ويعلم علما ضروريا أن هذا هو وحي الله دون لبس ولا خفاء، فإذا انجلى عنه الوحي وجد ما أوحي إليه حاضرا في ذاكرته، منقوشا في حافظته كأنما كتب في قلبه الشريف كتابة. روى البخاري في صحيحه: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟

_ (1) رواه البخاري في التفسير (4575) ومسلم في الإيمان (174). (2) رواه مسلم في أول كتاب الإيمان (8) وانظر شرحه في كتابنا «الوافي في شرح الأربعين النووية». (3) هو تردد نفس النائم حتى يسمعه من حوله. (4) رواه أحمد (1/ 24).

4 - شبه الجاحدين والمنكرين للوحي

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس- وهو أشدّه علي- فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» «1» قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا. 4 - شبه الجاحدين والمنكرين للوحي: وقد حرص هؤلاء الجاحدون قديما وحديثا أن يفسّروا حادثة الوحي بنظريات غامضة ومنحرفة، وتهدف في النهاية إلى إنكار رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فنجدهم يفسّرون ظاهرة الوحي بالإلهام النفسي تارة، وبالإشراق الروحي تارة أخرى، ويعميهم الحقد فيتجرّءون على القول بأنه ضرب من الصّرع والجنون كان ينتابه، وواضح أنّها شبه واهية لا تثبت أمام الوقائع النّيّرة والمنطق السليم والحكم العادل النزيه، والذي يهمنا أن نرد عليه هنا ونكشف زيفه هو ما يسمّيه الملحدون في هذا العصر ب (الوحي النفسي): 1 - إن حالة الإلهام النفسي، أو الإشراق الروحي، لا تستدعي الخوف والرعب وتغيّر اللون، لأن الصفاء النفسي والتدرّج في التفكير والتأمل لا ينسجم مع حالة الخوف والاضطراب، بل هما حالتان متناقضتان تماما، وخوف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثابت في حديث بدء الوحي وفيه: «فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي «2»» «1». وقد ذكرنا في حالات الوحي ما كان يعتري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تغير واضطراب وتصبّب العرق من جبينه وهو على مرأى من أهله وأصحابه.

_ (1) رواه البخاري في بدء الوحي (2). (2) رواه البخاري في بدء الوحي (3).

2 - واقتضت حكمة الله تعالى أن يحتجب الملك عن رسول الله «1» مدة بعد رؤيته له في غار حراء، فاستبدّ به القلق، وخاف أن يكون الله تعالى قد قلاه لسوء صدر منه، وراحت نفسه تحدّثه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها ... إلى أن رأى جبريل وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض يناديه، ويقول: يا محمد أنت رسول الله حقّا وأنا جبريل «2». وهذا الانقطاع الذي حصل في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجعل القول بأن الوحي إلهام نفسيّ كلاما باطلا وضربا من الجنون. 3 - إن جانبا عظيما من القرآن الكريم احتوى على أنباء من سبق من الأمم والجماعات، وقصص الأنبياء، وذكر الأحداث التاريخية بوقائعها الصحيحة الدقيقة. وهذه الأخبار لا يمكن أن يقول عاقل بأنها إلهام نفسي أو إشراق روحي، لأنها لا تعتمد إلا على التلقي والتعليم؛ قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3] وقال سبحانه: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]. 4 - واحتوى القرآن كذلك على حقائق علمية، ونظريات طبيعية وفلكية تثبت الأيام بعد تقدّم العلم صحتها وأسبقيتها، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53]. وتضمّن القرآن في بيان العقائد أمورا تفصيلية عن بدء الخلق ونهايته وعن الحياة الآخرة وما فيها من الموقف

_ (1) انظر فترة الوحي في كتاب التعبير من صحيح البخاري (باب أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي) رقم (6581) وفتح الباري (12/ 359 - 361). (2) رواه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما في فتح الباري (12/ 360).

والحساب والجنة والنار، ويضاف إلى ذلك كله ما تضمّنه القرآن من أحكام قاطعة عن أخبار المستقبل، وما يجري من أحداث تقع وفق سنن الله الاجتماعية في القوة والضعف والعزة والذلة. والذي ينطق بهذا رجل أميّ لم يعرف الكتابة ولم يقرأ في كتاب، ومع ذلك يتحدّى بما جاء به جميع الناس في كل أرض وفي كل زمان. إن التفسير المنصف لما جاء به هو الإيمان بهذا الاتصال الذي حدث بين الأرض والسماء عن طريق الوحي لتبليغ هداية الله؛ قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3 - 4]. يقول الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم): هذا الرأي هو الذي يروّجه الملحدون اليوم باسم (الوحي النفسي) زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تفصيله، فقد صوّروا النبيّ عليه الصلاة والسلام رجلا ذا خيال واسع وإحساس عميق فهو إذا شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرا على حواسه حتى يخيّل إليه أنه يرى ويسمع شخصا يكلّمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته فهو إذا الجنون أو أضغاث الأحلام، على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة (الوحي النفسي) حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقّفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذا قد علّمه بشر. فأيّ جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثا معادا يضاهون به قول جهّال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة متّسخة، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه القلوب المتحضّرة في العصر الحديث مستمدّا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجّرة في عصور الجاهلية الأولى، قال تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118].

ج - المتعبد بتلاوته

وبعد هذه العجالة في بيان معنى الوحي، وردّ شبه الجاحدين له، نعود إلى شرح عناصر التعريف للقرآن الكريم. ج- المتعبّد بتلاوته: وهذا يعني أن قراءة آيات القرآن الكريم عبادة، يتقرّب بها المؤمن من خالقه، ويكتب له بها الأجر الجزيل والثواب العظيم، كما سيأتي عند الكلام عن فضل قراءة القرآن. ومما يدلّ على أهمية التلاوة في مجال العبادة: أنّ الصّلاة لا تصحّ إلا بقراءة آيات من القرآن، ولا يغني عنه شيء من الأذكار والدعاء، قال الله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20]. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «1». د- المنقول بالتواتر: ومعنى التواتر هو نقل الجمع عن الجمع بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ومن المسلّم به تاريخيا: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلقّوا القرآن مشافهة من فم رسول الله وحفظه أكثرهم، ونقلوه إلى جيل التابعين، وهكذا بقي القرآن ينتقل من جيل إلى جيل آخر حتى وصلنا، وهذا يجعلنا نجزم بأن القرآن نقل إلينا بالتواتر، نقلته جموع المسلمين عن جموعهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بحيث قطع بصدق وضبط كل طبقة منهم واستحالة اتّفاقهم على الكذب، وفي أبحاثنا القادمة سندرس بالتفصيل كيف نقلت الأجيال المسلمة هذا القرآن بالحفظ في الصدور والكتابة في السطور، مما يثلج صدر المسلم ويزيده يقينا بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9].

_ (1) رواه البخاري في صفة الصلاة (723) ومسلم في الصلاة (394) وأبو داود في الصلاة (822) والترمذي في الصلاة (247) والنسائي في الافتتاح (2/ 137 - 138).

وهذه العناصر الأربعة من عناصر تعريف القرآن، تحدّد حقيقة القرآن، وتميّزه عن غيره من الحديث النبوي، أو الحديث القدسي، أو القراءات الشاذة، أو الترجمة الحرفية، أو غير الحرفية للقرآن، لأن الحديث ليس بمعجز، والقراءات الشاذة غير متواترة، والترجمة ليست هي اللفظ المنزل.

ثالثا: فضل القرآن وأهميته في حياة المسلمين وضرورة العمل به وأثره في العالم

ثالثا: فضل القرآن وأهميته في حياة المسلمين وضرورة العمل به وأثره في العالم 1 - فضل القرآن الكريم القرآن هو كتاب الله الخالد، وحجته البالغة على الناس جميعا، ختم الله به الكتب السماوية، وأنزله هداية ورحمة للعالمين، وضمّنه منهاجا كاملا وشريعة تامّة لحياة المسلمين، قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء: 9]. والقرآن معجزة باقية ما بقي على الأرض حياة أو أحياء، أيّد الله تعالى به رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم وتحدّى الإنس والجنّ على أن يأتوا بسورة من مثله، فكان عجز البلغاء والفصحاء قديما وحديثا أكبر دليل على سماويّة هذا الكتاب وأنه كلام ربّ العالمين، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88]. ونقتصر في بيان فضل القرآن على وصف الله تعالى، ووصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له، وشهادة أحد أعداء الإسلام بفضله. (1) - الله عزّ وجلّ يصف القرآن الكريم وصف الله القرآن بأوصاف عديدة هي أسماء له، تدلّ على عظيم فضله وعلوّ منزلته: 1 - وصفه الله بأنه روح، والروح بها الحياة، قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا

(2) النبي العظيم يصف القرآن

إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52]. 2 - ووصفه بأنّه نور، والنور به الإبصار، قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ [المائدة: 15 - 16]. 3 - ووصفه بأنه الهادي إلى أفضل طريق إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]. 4 - ووصفه بأنه شفاء ورشاد، قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت: 44]. 5 - وهو كتاب الحق الذي لا يعرض له الباطل قط، قال تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء: 105] وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41 - 42]. (2) النبيّ العظيم يصف القرآن ووصف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القرآن الكريم، فكان وصفا حافلا بمزايا القرآن، جامعا لفضائله؛ روى الترمذيّ عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة. فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق (لا يبلى) على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته حتى قالوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن: 1 - 2]. ومن قال به صدق

(3) الوليد بن المغيرة يصف القرآن

ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» «1». (3) الوليد بن المغيرة يصف القرآن وهذا الوليد بن المغيرة، وهو كافر يظهر العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصف القرآن الكريم وصفا دقيقا وصادقا يشهد بفضل كلام الله وعظمته وتميزه عن كلام المخلوقين؛ أخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الوليد بن المغيرة المخزوميّ، وهو أحد رؤساء قريش، جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليه القرآن. فكأنّه رقّ له، وقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة- يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم- فو الله ما هو بشعر، ولا سحر، ولا بهمز من الجنون، وإنّ قوله لمن كلام الله. فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبون قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال: يا عمّ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قريشا أنك تنكر له. فقال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ. والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا. والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه. فقال أبو جهل: والله ما يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قولا. قال: فدعني أفكر، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فخرج على قومه بهذا القول الآثم، فأنزل الله فيه قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ

_ (1) رواه الترمذي في فضائل القرآن (2906).

2 - أهمية القرآن في حياة المسلمين

وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر: 18 - 24] «1» 2 - أهمية القرآن في حياة المسلمين تكمن أهمية القرآن الكبرى فيما اشتمل عليه من هداية إلى العقائد الصحيحة، والعبادات الحقة، والأخلاق الكريمة، والتشريعات العادلة، وما اشتمل عليه من تعاليم بناء المجتمع الفاضل، وتنظيم الدولة القوية. وإنّ المسلمين لو جدّدوا إيمانهم بأهمية هذا الكتاب الكريم، وكانوا جادّين في الالتزام والطاعة لما فيه من أوامر وتوجيهات إلهية حكيمة، فإنهم يجدون ما يحتاجون إليه من حياة روحية طاهرة، وقوة سياسية وحربية، وثروة وحضارة، ونعم لا تعدّ ولا تحصى؛ قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى «2» آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]. وإذا أراد المسلمون الخير والصلاح والعزّة لأنفسهم وأمتهم، فعليهم اتّباع هدي نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام رضي الله عنهم في حفظ القرآن وفهمه والعمل بما فيه؛ لأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها. 3 - أثر القرآن في العالم من المعلوم أن لهذا القرآن ما يشبه السحر في تأثيره على النفوس والقلوب، ومن الثابت تاريخيا أن هذا التأثير كان له فعله في أنفس المؤمنين خاصّة، وفي أنفس المشركين عامة، والآن بعد تعاقب الشهور والسنين والقرون لا تزال للقرآن جدّته،

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 507) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في الدلائل (2/ 198). «صبأ»: ترك دينه. «لتعرض ما قبله»: لتحصل على شيء مما عنده من المال. (2) يخبر تعالى عن قلّة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، وكيف أهلكهم الله عقابا لكفرهم، وانظر تمام أخبارهم في تفسير ابن كثير (2/ 282 - 296).

ولا يزال له تأثيره، بل زادت قوّته قوة وحجّته حجة، فملايين المسلمين يطبقون أحكام القرآن ويطيعون أوامره بشكل اختياري ومن غير أي إجبار أو إكراه، وملايين الألسنة تتلوه صباح مساء، وإذا عات العالم تبثّ آياته من أقصى الأرض إلى أقصاها، والمطابع تدفع كلّ يوم آلاف النسخ إلى جميع أنحاء العالم، وفي كلّ عام نجد القرآن الكريم ينير بآياته مساحة جديدة من الأرض، وينشر الإسلام في أناس لم يكونوا في عداد المسلمين من قبل. ومع ذلك فإنّ المسلم يجد هذا الأثر جزئيا بالمقارنة مع ما يطمح إليه من وصول هداية القرآن للناس جميعا، وتخليص العالم من شرور المدنية المادية الحديثة، وإنقاذهم من واقع حياتهم المليء بالرذائل والأهواء والتفنّن في إثارة الشهوات. وهذا متوقف ولا شك على عودة المسلمين إلى قرآنهم عودة صادقة، ليسترشدوا بآياته، ويلتزموا بأحكامه، ويتعظوا بعبره ودروسه. وعندها يمكن للمسلمين أن يكونوا دعاة إصلاح وسلام صادقين وناجحين، كما صدق ونجح أسلافهم من قبل، ويوم يتحقّق ذلك يفرح المؤمنون بنصر الله.

رابعا: فضل تلاوة القرآن، وآداب التلاوة، وحكم التغني بالقرآن

رابعا: فضل تلاوة القرآن، وآداب التلاوة، وحكم التغني بالقرآن 1 - فضل تلاوة القرآن تلاوة القرآن سنة من سنن الإسلام والإكثار منها مستحبّ، لأنها وسيلة إلى فهم كتاب الله والعمل به، وفضلها ثابت في القرآن الكريم والسنة الشريفة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29 - 30]. وروى مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» «1». وروى أبو داود والنسائي والترمذي، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق، ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرأ» «2». والتلاوة مع إخلاص النية عبادة يؤجر عليها المسلم، وتقرّبه من خالقه؛ روى الترمذيّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول

_ (1) رواه مسلم في صلاة المسافرين (804). (2) رواه أبو داود في الصلاة (1464) والنسائي في الكبرى (8056) والترمذي في فضائل القرآن (2915).

(الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» «1». وروى البخاريّ ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران» «2». وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحافظون على تلاوة القرآن، ومنهم من كان يختم في اليوم والليلة، ومنهم من كان يختم في أكثر؛ روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ القرآن في شهر». قلت: إني أجد قوة، قال: «اقرأه في عشر». قلت: إني أجد قوة، قال: «اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» «3». وأما القدر الذي ينبغي للمسلم أن يقرأه ليختم القرآن: فيختلف باختلاف الأشخاص، يقول النووي في كتابه «الأذكار»: «المختار أن ذلك مختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، وكذلك من كان مشغولا بنشر العلم أو فصل الحكومات أو غير ذلك من مهمّات الدين والمصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، ولا فوات كماله، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حدّ الملل أو الهذرمة في القراءة» «4».

_ (1) رواه الترمذي في فضائل القرآن (2910). (2) رواه البخاري في التفسير (4653) ومسلم في صلاة المسافرين (798). (3) رواه البخاري في فضائل القرآن (4767) ومسلم في الصيام (1159) (184). (4) الأذكار النووية (ص 188) طبعة دار ابن كثير الثالثة- 1412 هـ- تحقيق محيي الدين مستو، والهذرمة: السرعة في الكلام والمشي، ويقال للتخليط: هذرمة.

2 - آداب التلاوة

2 - آداب التلاوة القرآن الكريم كلام الله تعالى، ولتلاوة كلام الله آداب يجب مراعاتها والمحافظة عليها، وهي: 1 - إخلاص النية لله، والتجرّد عن الأهواء والرغبات والأغراض الدنيوية الزائلة، لأن بعض هذه الأشياء إن وجد كان حجابا كثيفا بين القارئ أو السامع وبين كلام الله تعالى. 2 - تحسين الهيئة واستقبال القبلة، والتّطهّر والتّطيب، وتنظيف الفم بالسّواك، وترك العبث أو الالتفات. 3 - استحضار القلب، والتّأهّب لقراءة القرآن كأنما يسمع من الله سبحانه. 4 - الاستعاذة: عند ابتداء القراءة؛ لقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98]. ثم البسملة في مطلع كل سورة سوى سورة «براءة». 5 - الخشوع والتدبّر في معاني القرآن، والوقوف على كل عبرة ومعنى والتأثر بكل وعد ووعيد؛ قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]. وقال سبحانه: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 109]. 6 - تحسين الصوت بالقرآن، وتجويده وترتيله ترتيلا حسنا؛ قال تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4]. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» «1». 7 - الاجتماع للقراءة، وتوسيع المجلس ليتمكن القرّاء من الجلوس فيه؛ لما

_ (1) رواه أبو داود في الصلاة (1468) والنسائي في الافتتاح (2/ 179) وابن ماجة في إقامة الصلاة (1342).

3 - التغني بالقرآن

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» «1». 8 - ويجب على السامع للقرآن أن ينصت ويفكّر في آياته، سواء أكان يسمعه من قارئ أو من مذياع ... قال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 203]. 3 - التغني بالقرآن ذكرنا فيما سبق أن من آداب التلاوة: تحسين الصوت وتجويد التلاوة، ونزيد هنا هذا الأمر وضوحا فنقول: إنّ تحسين الصوت وتزيينه بالقرآن مستحب ولو بالألحان العربية المعروفة، ولكن بشرط مراعاة آداب القرآن وملاحظة الأحكام المنصوص عليها في علم التجويد، وعدم الإخلال بأيّ حكم من أحكام القرآن، ويؤيّد هذا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي موسى الأشعري: «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» «2» أي أوتيت صوتا حسنا. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قارئا نديّ الصوت ويجيد تلاوة القرآن، وقد قال عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» «3» يعني ابن مسعود. وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ في

_ (1) رواه مسلم في الذكر (2699) وأبو داود في الصلاة (1455) والترمذي في فضائل القرآن (2945) وابن ماجة في المقدمة (225). ومعنى «السكينة»: الطمأنينة والراحة والرضا، و «غشيتهم»: عمّتهم وتخللت نفوسهم، و «حفّتهم»: أحاطت بهم وحرستهم. (2) رواه البخاري في فضائل القرآن (4761) ومسلم في صلاة المسافرين (793) (125). (3) رواه أحمد في المسند (1/ 445) وابن ماجة في المقدمة (138).

العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه «1» . متفق عليه. وفي أبي داود والبخاري تعليقا، أن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم، ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» «2». أما المبالغة في التجويد إلى حد الإفراط والتكلّف فحرام؛ لأن فيها زيادة حرف أو إخفاء حرف، ويوضح الماوردي في كتابه «الحاوي» هذا الحكم فيقول: «القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن عن صفته بإدخال حركات فيه، وإخراج حركات منه، أو قصر ممدود، أو مدّ مقصور، أو تمطيط يخفى فيه اللفظ فيلتبس به المعنى، فهو حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع، وإن لم يخرجه اللحن عن لفظه وقرأ به على ترتيله كان مباحا؛ لأنه زاد بألحانه في تحسينه». وقد نبّه العلماء على ما ابتدعه الناس من قراءة القرآن بنغم شجيّ يتردّد فيه الصوت تردّد الوقع الموسيقى، وعبّر الرافعي في كتابه «إعجاز القرآن» عن ذلك بقوله: «ومما ابتدع في القراءة والأداء هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرءون به على ما يشبه الإيقاع، وهو الغناء! .. ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم (الترعيد): وهو أن يرعد القارئ صوته، كأنه يرعد من البرد أو الألم ... و (الترقيص): وهو أن يروم السكوت على الساكن ثم ينقر مع الحركة كأنّه في عدو أو هرولة، و (التّطريب) وهو أن يترنّم بالقرآن ويتنغم به فيمدّ في غير مواضع المد، ويزيد في المد إن أصاب موضعه، و (التحزين) وهو أن يأتي القراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع،

_ (1) رواه البخاري في صفة الصلاة (735) ومسلم في الصلاة (464). (2) رواه أبو داود (1468) والبخاري تعليقا (6/ 2743).

ثم (الترديد) وهو ردّ الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه. وإنما كانت القراءة تحقيقا: وهو إعطاء كل حرف حقّه على مقتضى ما قرّره العلماء مع ترتيل وتؤدة، أو حدرا: وهو إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة، أو تدويرا: وهو التّوسّط بين التحقيق والحدر» «1». وقد أخرج الطبراني والبيهقي، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق، فإنه سيجيء أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانية لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم» «2».

_ (1) إعجاز القرآن للرافعي (ص 59). (2) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 169) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه راو لم يسمّ وبقية أيضا، ورواه البيهقي في الشعب (2649 و 2650).

خامسا: احترام القرآن معناه ومظاهره - البدع المتعلقة بذلك

خامسا: احترام القرآن معناه ومظاهره- البدع المتعلقة بذلك 1 - احترام القرآن: معناه: لا ريب أن الاحترام الحقيقي للقرآن الكريم إنما يكون بالإكثار من تلاوته، وإتقان حفظه، والعمل بما جاء في آياته، وما طواه في صفحاته من امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ووقوف عند حدوده، وتأدّب بآدابه، واتخاذه ميزانا في القبول والرفض، والأخذ والترك، والحب والبغض، وأن يكون القرآن هو الغاية في العلم والأدب والعقيدة والعمل، والمنهج والسلوك. ومن المؤكد أن الغرض من نزول القرآن الكريم على محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم هو هداية الناس إلى الحق «1»، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ قال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15 - 16]. مظاهره: وإلى جانب هذا الاحترام الحقيقي لا بد من مراعاة مظاهر التعظيم والتوقير لكتاب الله تعالى ومنها: وجوب الطهارة عند مسّ القرآن، قال تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:

_ (1) ولذلك فلا يجوز استعمال آيات القرآن وحكمه إلا في مجال الهداية والدعوة إلى الحق، لا في الأغراض الخاصة أو المزاح.

2 - البدع المتعلقة باحترام القرآن والتحذير منها

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمسّ القرآن إلا طاهر» «1» ، ووجوب حفظ كتاب الله في غلاف خاص مناسب جميل، والحرص على نظافته، ووضعه في مكان لائق، وعدم إلقائه على الأرض. وقد أفتى العلماء بكفر من رمى به في قاذورة، وبحرمة بيعه لمن يخشى منه عدم احترامه. وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن السفر به إلى أرض العدو، إذا خيف وقوع المصحف في أيديهم «2». وقد ورد عن سلفنا الصالح ما يدلّ على تعظيمهم لكتاب الله وإجلالهم له بأقوالهم وأفعالهم؛ قال قتادة رضي الله عنه: ما أكلت الكرّاث منذ قرأت القرآن. وقال يزيد بن أبي مالك: إنّ أفواهكم طرق من طرق القرآن فطهّروها ونظّفوها ما استطعتم. وقال الراوي الذي يحدث عنه: فما أكل البصل منذ قرأ القرآن. وقال مجاهد: إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن حتى يذهب تثاؤبك. وقال النووي: ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه؛ لأن القيام يستحب للعلماء والأخيار، فالمصحف أولى. 2 - البدع المتعلقة باحترام القرآن والتحذير منها: أ- تقبيل المصحف: نتساءل في بحث احترام القرآن عن تقبيل المصحف، هل هو فعل مأثور ومشروع، أم بدعة مستحدثة؟ ونجد جوابا لهذا التساؤل في قول ضعيف أن التقبيل بدعة، ولكننا نتبيّن من التحقيق في ذلك أنه روي عن عمر بن الخطاب رضي الله

_ (1) ذكره الهيثمي في المجمع (1/ 276) وقال: رواه الطبراني في الكبير والصغير ورجاله موثقون. (2) رواه البخاري في الجهاد (2828) ومسلم في الإمارة (1869) وابن ماجة في الجهاد (2879).

ب - تعليق المصحف بالأعناق

عنه، أنه كان يأخذ المصحف كلّ غداة ويقبّله ويقول: عهد ربّي ومنشور ربّي عزّ وجلّ. وكان عثمان رضي الله عنه يقبّل المصحف ويمسحه على وجهه. وهذا يدل على أنّ التقبيل للمصحف مع العمل بآياته وأحكامه مستحسن، اقتداء بعمر وعثمان رضي الله عنهما؛ لما رواه أبو داود من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» «1». وأما التقبيل للمصحف مع ترك العمل به، فهو مخالفة ظاهرة لسنّة الخلفاء الراشدين، واحترام سطحيّ وظاهريّ لا يقام له وزن ولا قيمة. ب- تعليق المصحف بالأعناق: إذا علّق المؤمن أو المؤمنة المصحف الشريف أو آيات من القرآن تعظيما له أو بنية الحفظ أو الاستشفاء به فهو جائز. وأما إذا علّقه بنية الزينة، أو لعادة جرت (موضة) أو غير ذلك مما يوهم الاستعمال، أو يكون لغير التعظيم فلا يخلو من كراهة أو حرمة، وهذا كلّه مع ملاحظة أن يكون القرآن مخطوطا بشكل ظاهر ويقرأ بأدنى تأمل، أما ما اعتاده الناس في أيامنا هذه من حمل مصحف صغير الحجم جدا، فقد نصّ الفقهاء على كراهة ذلك، ففي الدر المختار: «ويكره تصغير مصحف وكتابته بقلم دقيق». وكذا ما يفعله بعض النساء أو بعض طالبات المدارس خاصة من وضع مصحف صغير في علبة مذهبة وتعليقه على نحورهن، مظهرات صدورهن في الأسواق أمام الرجال، فهذا حرام قطعا، لإضافتهن على ما تقدم تكشيف العورات، ولا يقبل منهن هذا الاحترام الزائف للقرآن، ولا عذر لهن في أنهن يفعلن ذلك ليتميزن عن غيرهن من غير المسلمات؛ لأن المرأة المسلمة والفتاة المؤمنة يميزها سترها ودينها وخلقها.

_ (1) رواه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود في السنة (4607) والترمذي في العلم (2676) وابن ماجة في المقدمة (43).

ج - الاستخارة بالقرآن

ج- الاستخارة بالقرآن: ومن الناس من يعبّر عن احترامه للقرآن بتصرّف غريب، وهو أخذ الفأل من القرآن، فإن وجد آية تأمر بفعل شيء فعل، كأن يسافر أو يتزوج، وإن وجد آية تنهى عن فعل شيء، ترك الفعل، ويفهم أنه نهي عنه، وذكر فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين في كتاب «بلاغة القرآن» أنه حكى بعض المؤرخين أن بعض العلماء أراد السفر في البحر ففتح المصحف وقابله قول الله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدخان: 24] فترك السفر، وغرق المركب في البحر براكبيه. وهذا الذي حدث مجرّد مصادفة، والقرآن لم ينزله الله تعالى لأخذ الفأل منه، بل أنزله ليكون شفاء لما في الصدور. ومن الناس من يستخير بالقرآن بطريقة أخرى، وهي أن يأخذ المصحف ويفتحه عفوا ثم ينظر إلى أولى سطر في الصحيفة الأولى، وبعضهم يعدّ سبع ورقات ثم سبعة أسطر ثم سبع كلمات، ثم يقرأ، فإن وجد آية تأمر بفعل شيء فعل، وإن وجد آية تنهى عن فعل شيء ترك الفعل، وهذه الاستخارة لا أصل لها في الشرع ولم تنقل عن أحد من الأئمة أو العلماء، وهي مبنية على المصادفة والمخاطرة، والقرآن إنما أنزل كتاب هداية كما ذكرنا من قبل. وقد شرع النبيّ عليه الصلاة والسلام صلاة الاستخارة ودعاءها، ففي البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب. اللهمّ إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي

ويسّره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضّني به» قال: ويسمّي حاجته «1». وينظر المسلم بعد صلاة الاستخارة ودعائها إلى انشراح صدره، فإن لم ير شيئا كرّر الصلاة والدعاء سبعا، لحديث ابن السني: «إذا هممت بأمر فاستخر ربّك فيه سبع مرات» «2» وقد كان الصحابة يكرّرونها. وحرام على المسلم أن يلجأ إلى غير هذا الطريق القويم، كأن يلجأ إلى الاستخارة بمثل هذه البدع المتقدمة، والتي ليس فيها أي احترام لكتاب الله، وحرام عليه أن يلجأ إلى منجم أو عرّاف، وجمود منه أن يطلب من غيره أن يستخير له ويترك إحياء سنة الاستخارة الشرعية الميسرة بنفسه.

_ (1) رواه البخاري في أبواب صلاة التطوع (1109) وفي التوحيد (6955). (2) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (603) وإسناده ضعيف جدا، وانظره في الأذكار للنووي برقم (305).

سادسا: أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه، والمداواة به

سادسا: أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه، والمداواة به 1 - أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه: تعليم القرآن فرض كفاية، وحفظه واجب على الأمة، حتى لا ينقطع عدد التواتر فيه حفظا، ولا يتطرّق إليه التبديل والتحريف؛ روى البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» «1». وقد اختلفت أنظار الفقهاء في أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه: فذهب الجمهور- منهم مالك والشافعي- إلى جواز أخذ الأجرة على ذلك، واستدلّوا بما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» «2» ، ويؤيّده ما رواه البخاري وغيره أن النبيّ عليه الصلاة والسلام جعل تعليم الرجل لامرأته القرآن مهرا لها فقال له: «زوّجناكها بما معك من القرآن» «3». وذهب الحنفية إلى تحريم أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه، واستدلوا بما أخرجه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت قال: علّمت ناسا من أهل الصّفة الكتاب والقرآن، فأهدى إليّ رجل منهم قوسا، فقلت: ليست لي بمال، فأرمي

_ (1) رواه أحمد (1/ 58) والبخاري في فضائل القرآن (4741) وأبو داود في الصلاة (1452) والترمذي في فضائل القرآن (2907). (2) رواه البخاري في الطب (5405). (3) رواه البخاري في النكاح (4842).

عليها في سبيل الله، فأتيته فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إليّ قوسا ممن كنت أعلّمه الكتاب والقرآن، وليست لي بمال فأرمي عليها في سبيل الله؟ فقال: «إن كنت تحبّ أن تطوّق طوقا من نار فاقبلها» «1». وما رواه الإمام أحمد والبزار: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به» «2». وفي حاشية العلامة ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار): (أن أصول المذهب تقتضي أن الإجارة على الطاعات غير صحيحة؛ لأنّ كلّ طاعة يختص بها المسلم لا يصح الاستئجار عليها؛ ولأن كل قربة تقع من العامل إنما تقع عنه لا عن غيره، فلو لم يكن أهلا لأدائها لا تقع منه، فلا يصح له أن يأخذ عليها أجرا من غيره). ولكن المتأخرين من الحنفية أفتوا بجواز أخذ الأجرة على بعض الطاعات للضرورة، فأجازوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن، خوفا من ضياعه، ومثله تعليم الفقه وغيره من العلوم الشرعية حتى لا يبقى الناس جهّالا في دينهم، وكذا أجازوا أخذ الأجرة على الأذان، والإمامة، والخطابة، والتدريس، والوعظ، خوفا من تعطيلها. أما قراءة القرآن على المقابر وفي الولائم والمآتم، فإنه لا يصحّ الاستئجار عليها إذ لا ضرورة تدعو إليها. والذي ترتاح إليه نفس المؤمن عدم اتخاذ قراءة القرآن وسيلة للتكسب أو للتسول، وعدم قراءته من غير اتعاظ أو خشية، كما يحصل في بعض مجالس الولائم والمآتم، حيث يتأوّه الناس أو يطربون لصوت القارئ، دون تدبّر أو فهم

_ (1) رواه أبو داود في الإجارة (3416) وابن ماجة في التجارات (2158). (2) رواه أحمد في المسند (3/ 428) وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 167) وقال: رواه أحمد والبزار بنحوه ورجال أحمد ثقات.

2 - المداواة بالقرآن

لمعنى القرآن، فهذا ولا شكّ حرام لا يجوز إقراره أو السكوت عليه. 2 - المداواة بالقرآن: المداواة بالقرآن أو ما يسمّى بالرقية، وهي قراءة القرآن على المريض بقصد الاستشفاء جائزة، وأخذ الأجرة عليها جائز أيضا، فقد روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذات «1». وفي رواية أخرى: كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث، فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه، لأنها كانت أعظم بركة من يدي «1». وأخرج البخاريّ ومسلم، وغيرهما، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: كنّا في مسير لنا، فنزلنا منزلا، فجاءت جارية، فقالت: إنّ سيّد الحيّ سليم. وإنّ نفرنا غيّب، فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنّا نأبنه برقية، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية؟ أو: كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأمّ الكتاب. قلنا: لا تحدثوا شيئا حتى نأتي- أو نسأل- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «وما كان يدريه أنها رقية، اقسموا واضربوا لي بسهم» «3». [سليم: السليم اللديغ، سمي به تفاؤلا له بالسلامة. وإن نفرنا غيّب: النفر هاهنا الرجال خاصة، والغيّب: الغائبون عن الحيّ. نأبنه: أي نتهمه]. واحتجّ الشافعية وغيرهم بهذا الحديث على جواز أخذ العوض في مقابل قراءة القرآن كما سبق، ولا فرق عندهم بين قراءته للتعليم، وقراءته للطب.

_ (1) رواه البخاري في الطب (5403) ومسلم في السلام (2192) وأبو داود في الطب (3902) والترمذي في الدعوات (3399). (3) رواه البخاري في الطب (5404) ومسلم في السلام (2201).

أما الحنفية فقد أجابوا عن هذا الحديث، بأن الرقية ليست تلاوة فقط، بل المقصود منها الطبّ، وأخذ الأجرة على الطبّ جائز عندهم.

الباب الثاني نزول القرآن الكريم

الباب الثاني نزول القرآن الكريم الفصل الأول: نزول القرآن منجما والحكمة من ذلك. الفصل الثاني: أول ما نزل وآخر ما نزل منه. الفصل الثالث: نزوله وفقا للأسباب والحكمة من ذلك. الفصل الرابع: المكي والمدني وخصائص كل منهما.

الفصل الأول نزول القرآن الكريم منجما

الفصل الأول نزول القرآن الكريم منجما تمهيد: البحث في نزول القرآن بحث مهمّ وجليل، لأن العلم به أساس للإيمان بالقرآن وأنه كلام الله المنزل، وأساس للتصديق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. أ- تنزلات القرآن الكريم: للقرآن الكريم تنزلات ثلاثة: الأول: تنزله إلى اللوح المحفوظ، ودليل ذلك قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21 - 22]. الثاني: تنزله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ودليله قول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: 3]. وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]. وأخرج النسائي والحاكم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «1».

_ (1) رواه النسائي في الكبرى (7991) والحاكم في المستدرك (2/ 223) وصححه، ووافقه الذهبي.

ب - نزول القرآن منجما

وأخرج النسائي والحاكم من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1» [الإسراء: 105 - 106]. الثالث: تنزل القرآن من بيت العزة في السماء الدنيا على قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام منجما، قال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 193 - 195]. ب- نزول القرآن منجما: تتابع نزول القرآن منجما، فكانت تنزل الآية أو الآيتان أو الآيات في أوقات مختلفة، ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106]. ويضاف إلى هذا الدليل القرآني الصريح، أنه قد ثبت ثبوتا قاطعا في السنة والسيرة النبوية أن القرآن لم ينزل على رسول الله جملة واحدة، وإنما نزل مفرّقا خلال مدة بعثته المباركة والتي قدرت بثلاثة وعشرين عاما تقريبا، قال السيوطي في «الإتقان»: الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها: أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات وعشرا، وأكثر وأقلّ، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة «2»، وصحّ نزول عشر آيات من أول المؤمنون جملة «3»، وصحّ نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95] وحدها «4»، وهي

_ (1) رواه النسائي في الكبرى (7990) والحاكم في المستدرك (2/ 222) وصححه، ووافقه الذهبي. (2) رواه البخاري في المغازي، باب: حديث الإفك (3910). (3) رواه أحمد (1/ 34) والترمذي في التفسير (3172) والنسائي في الكبرى (1/ 450). (4) رواه أحمد (1/ 34) والترمذي (4316).

حكم نزول القرآن منجما

بعض آية «1» ... وكان هذا التنجيم في نزول القرآن سببا في اعتراض اليهود والمشركين وتساؤلهم: لماذا لم ينزل القرآن كما نزلت التوراة جملة واحدة؟ وقد أنزل الله عزّ وجلّ آية كريمة تسجّل هذا الاعتراض وتردّ عليه، وهي قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32]. حكم نزول القرآن منجما: نستطيع أن نتعرّف على حكم نزول القرآن منجّما من الآيتين الكريمتين: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ... [الإسراء: 106] وكَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] اللتين ورد فيهما الردّ على اعتراض المشركين واليهود بالحجة الدامغة، كما أن هناك أسرارا لهذا التنجيم تدرك بالعقل والاجتهاد، وهذه الحكم والأسرار هي: 1 - تثبيت فؤاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وهذا ما صرّحت به الآية كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وكان النبيّ عليه الصلاة والسلام بحاجة لهذا التثبيت وهو يواجه من الناس القسوة والنفور، ويجد من الكثيرين في مكة الغلظة والجفاء والإصرار على الكفر، مع رغبته الصادقة في هدايتهم إلى الحق، فكان الوحي يتنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين وقت وآخر فيشحذ من همته ويزيد من صبره وتحمله، بل كان ينزل القرآن في أحلك الأوقات وأقسى الحالات شدة، وإذا بالآيات تدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى متابعة الطريق بكل صبر وثبات، وتقصّ عليه ما لقي الأنبياء من أتباعهم من قسوة وعناد، قال تعالى:

_ (1) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (1/ 137) تقديم وتعليق د. مصطفى ديب البغا- طبعة دار ابن كثير ودار العلوم الإنسانية 1414 هـ.

2 - تيسير حفظ القرآن وتسهيل فهمه

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا [الأنعام: 33 - 34]. قال أبو شامة: «فإن قيل: ما السرّ في نزول القرآن منجما؟ وهلّا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولّى الله جوابه فقال تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدّد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشدّ عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه جبريل» «1». 2 - تيسير حفظ القرآن وتسهيل فهمه: وذلك لأن القرآن نزل على أمة تغلب فيها الأمية، فلا تعرف القراءة والكتابة، وإنما سجلها ذاكرتها؛ قال تعالى في إثبات ذلك: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]. فكان من رحمة الله بهذه الأمة أن يسّر لها حفظ القرآن وسهّل عليهم فهم آياته التي تنزل مفرقة خلال فترات متقطعة من الزمن فيحفظونها ويفهمونها. وكأن القرآن بنزوله منجما رسم للصحابة الكرام منهجا تعليميا طبقوه في حياتهم وتوارثه عنهم التابعون وهو التعلّم التدريجي. أخرج البيهقي في (شعب الإيمان) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تعلموا القرآن خمس

_ (1) الإتقان في علوم القرآن (1/ 134) طبعة دار ابن كثير 1414 هـ، وأبو شامة: هو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي فقيه شافعي، له كتاب «المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز» توفي سنة (665 هـ).

3 - التدرج في التشريع

آيات خمس آيات «1». وأخرج ابن عساكر عن أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات «2». 3 - التدرج في التشريع: قضت إرادة الله أن يتم الإصلاح الاجتماعي بصورة تدريجية؛ لأنه ليس من الممكن أن ينقلب المجتمع الجاهلي الفاسد بين عشية وضحاها إلى مجتمع صالح، فكانت آيات القرآن تراعي الانقلاب التدريجي، وتراعي بناء الأسس الثابتة لهذا التغيير، فنزلت أولا الآيات المتعلقة بالعقيدة ودلائلها، والآيات الداعية إلى محاسن الأخلاق، حتى إذا آمن الناس وزكت نفوسهم نزلت آيات الحلال والحرام في تدرج حكيم. ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى «3». 4 - مسايرة الحوادث: وإيجاد الحلول المناسبة للحوادث الطارئة، لتكون آيات القرآن أوقع في النفس وألصق بالحياة؛ ومن ذلك: لما توفي عبد الله بن أبيّ- رأس المنافقين- دعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قال عمر: أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ يعدّد أيامه. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) رواه البيهقي في الشعب (1959). (2) ذكره السيوطي في الإتقان (1/ 137) وعزاه لابن عساكر. (3) رواه البخاري في فضائل القرآن (4707) والمفصل: من أول سورة (ق) إلى آخر القرآن. وانظر فتح الباري (9/ 43).

5 - الدلالة القاطعة على أن القرآن كلام الله وحده

يبتسم، ثم قال له: «إني قد خيّرت، قد قيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر لزدت عليها». ثم صلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه، قال عمر: فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله ورسوله أعلم، فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ... [التوبة: 84] فما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منافق بعد حتى قبضه الله عزّ وجلّ «1». وحين تخلّف نفر من المؤمنين الصادقين في غزوة تبوك، وأقاموا بالمدينة، ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديهم عذرا، هجرهم وقاطعهم، حتى ضاقوا ذرعا بالحياة، ثم نزل القرآن بقبول توبتهم، فكان درسا في عدم التخلف عن الجهاد لا يمكن أن ينساه أو يتجاهله أي مسلم، قال تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 117 - 118] «2». 5 - الدلالة القاطعة على أن القرآن كلام الله وحده: لقد عرفت أن هذا القرآن نزل مفرقا على رسول الله في مدة ثلاثة وعشرين عاما، تنزل منه الآية أو الآيات في فترات زمنية مختلفة، ومع ذلك فإنك تجده من أوله إلى آخره محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قويّ الاتصال، آخذا بعضه

_ (1) رواه البخاري في التفسير (4394) و (4395). (2) رواه البخاري في المغازي (4156) والتفسير (4399 - 4410).

6 - توثيق وقائع السيرة النبوية

برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، وكأنه عقد فريد نظمت حباته بشكل دقيق وفريد بما لم يعهد له مثيل من كلام البشر لا من قبل ولا من بعد. قال تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]. وهذا التناسق وعدم الاختلاف في أسلوب القرآن أكبر دليل على أنه كلام الله العليم الحكيم؛ إذ لو كان من كلام المخلوقين لظهر فيه الاختلاف من سنة إلى أخرى؛ قال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82]. وحتى أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رغم أنها في ذروة الفصاحة والبلاغة بعد القرآن، فإنها لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة فيه وحدة وترابط كالقرآن، أو ما يدانيه في الاتساق والانسجام. 6 - توثيق وقائع السيرة النبوية: والدلالة من خلال الآيات القرآنية المنجمة على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النّبيّين، وتشكّل السيرة النبوية من خلال الحوادث، وضمّها إلى قصص الأنبياء، وسير المرسلين، وحياة الأمم السابقين «1»، وتوثيق ذلك إلى درجة التواتر، ورسم القواعد التي تبنى وفقها السيرة النبوية بوصفها المقدمة للتاريخ الإسلامي منذ جيل الصحابة وحتى عصرنا الحاضر.

_ (1) للتوسع في توضيح هذه الحكمة انظر كتاب «مدخل إلى تفسير القرآن» للدكتور عدنان زرزور (ص 97).

الفصل الثاني أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن

الفصل الثاني أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن يعتمد في هذا البحث على النقل والتوقيف، ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة، ويفيدنا في تمييز الناسخ من المنسوخ، ومعرفة تاريخ التشريع الإسلامي، ومراقبة سيره التدريجي، ويظهر مدى عناية سلفنا الصالح بالقرآن ومعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل منه. 1 - أول ما نزل: اختلف في تعيين أول ما نزل من القرآن، لورود أربعة أقوال في ذلك: القول الأول: أن أول ما نزل هو صدر سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] ... إلى قوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5]. وهذا أصح الأقوال ويستند إلى حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلنى فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم

القول الثاني

أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق ... حتى بلغ: ما لم يعلم) فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترجف بوادره» «1». القول الثاني: أن أوّل ما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ويستند هذا القول إلى حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أيّ القرآن أنزل قبل؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أو اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. فقال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت، فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو- يعني جبريل- جالس على عرش بين السماء والأرض فأخذتني رجفة فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ «2». والمعروف أن هذه الآية نزلت بعد فترة الوحي، فكانت أول ما نزل على الرسول بعدها. فلعل جابرا سمع من الرسول حديثه عن أول ما نزل عليه من القرآن بعد فترة الوحي فاعتبر ذلك أول ما نزل على الإطلاق. وأنه- رضي الله عنه- استخرج ذلك باجتهاده، وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روته عائشة «3».

_ (1) رواه البخاري في بدء الوحي (3) ومسلم في الإيمان (160). ومعنى: الرؤيا الصادقة: هي التي يجري في اليقظة ما يوافقها. فلق الصبح: ضياؤه ونوره. الخلاء: الانفراد. فيتحنّث: يتعبد. فجأه: أتاه فجأة. الجهد: المشقة وغاية الوسع. بوادره: جمع بادرة، وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب وتتحرك عند شدة الفزع. (2) رواه البخاري في التفسير (4640) ومسلم في الإيمان (161). (3) انظر الإتقان (1/ 78 - 79) ففيه خمس أجوبة على حديث جابر رضي الله عنهما، وما ذكرناه أحسنها، كما ذكر السيوطي رحمه الله تعالى.

القول الثالث

القول الثالث: أن أول ما نزل هو الفاتحة، ويستند هذا القول إلى حديث مرسل رواه البيهقي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لخديجة ولم يذكر في السند اسم الصحابي: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا» فقالت: معاذ الله، ما كان ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له. وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة. فانطلقا، فقصّا عليه، فقال: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد! يا محمد! فأنطلق هاربا في الأفق» فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد! قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى بلغ: وَلَا الضَّالِّينَ «1». فلا يقوى على معارضة حديث عائشة رضي الله عنها السابق في بدء الوحي، ولم يقل بهذا الرأي إلا قلة من العلماء، منهم الزمخشري صاحب (الكشاف). القول الرابع: أن أول ما نزل (بسم الله الرحمن الرحيم). ويستند هذا القول إلى ما أخرجه الواحدي بسنده عن عكرمة والحسن قالا: أوّل ما نزل من القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) وأول سورة (سورة اقرأ) «2» . وهذا الحديث مرسل أيضا، فليست له قوة الحديث الصحيح، ويضاف إلى ذلك أن البسملة تجيء في أول كل سورة إلا ما استثني، ومعنى ذلك أنها نزلت صدرا لسورة اقرأ.

_ (1) دلائل النبوة للبيهقي (2/ 158 - 159) ونقله الحافظ ابن كثير عن البيهقي في البداية والنهاية (3/ 9) وقال: وهو مرسل، وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل. (2) أسباب النزول للواحدي (ص 10) والإتقان؛ للسيوطي (1/ 80).

2 - آخر ما نزل

ومما ذكرناه تعقيبا على الأقوال الثلاثة المتأخرة يترجح القول الأول، وهو أنّ أوّل ما نزل صدر سورة (اقرأ). 2 - آخر ما نزل: أما آخر ما نزل من القرآن، ففيه أقوال كثيرة أصحّها وأشهرها أنّه قول الله تعالى في سورة البقرة: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281]. فقد أخرج النسائي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن «1» وعاش النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد نزولها تسع ليال. ومن الأقوال التي وردت «2»: أن آخر ما نزل قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وهي خاتمة سورة النساء. أو أن آخر ما نزل هو سورة الفتح: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. أو أن آخر ما نزل سورة المائدة، وفيها قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3]. وأصح ما يجاب به عن هذه الأقوال؛ أنها أواخر نسبية: فآية الكلالة آخر ما نزل في المواريث، وأن سورة المائدة آخر ما نزل في الحلال والحرام، وقد اتفق العلماء على أن آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... [المائدة: 3] نزلت يوم عرفة من حجة الوداع «3». وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى لما نزلت هذه

_ (1) رواه النسائي في التفسير من السنن الكبرى (11057) و (11058). (2) وهذه الأقوال ليس فيها قول مرفوع إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هي مستندة إلى اجتهادات الصحابة. وانظرها في الإتقان (1/ 86 - 91) طبعة دار ابن كثير الثانية 1414 هـ. (3) انظر الإتقان (1/ 91).

الآية، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. قال: «صدقت» «1» . فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أما سورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] فإنها آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام، ويؤيده ما روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم قال حين نزلت: «نعيت إليّ نفسي» «2» وكذلك فهم بعض كبار الصحابة. وأما آية وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] فهي آخر ما نزل مطلقا على الأرجح «3»، ويؤيده ما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يمكث بعدها إلا تسع ليال أو سبعة أيام، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى.

_ (1) رواه ابن أبي شيبة وابن جرير الطبري، كما في الدر المنثور (3/ 18). (2) رواه أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس؛ كما في الدر المنثور (8/ 660). (3) انظر فضائل القرآن؛ لأبي عبيد (ص 370) طبعة دار ابن كثير الأولى 1416 هـ.

الفصل الثالث نزول القرآن وفقا للأسباب والحكمة من ذلك

الفصل الثالث نزول القرآن وفقا للأسباب والحكمة من ذلك وهذا المبحث من مباحث علوم القرآن مهم جدا لعلاقته بالتفسير والفهم لآيات الكتاب العزيز وأحكامه، لأنه يعتمد على فهم قسم من القرآن نزل لأسباب معينة؛ إجابة لسؤال، أو بيانا لحكم يتعلق بحادثة من الحوادث التي وقعت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام. وتنقسم آيات القرآن إزاء هذا الموضوع إلى قسمين: قسم نزل ابتداء، أي بدون سبب من الأسباب، وموضوع هذا القسم غالبا: الحديث عن الأمم الغابرة وما حلّ بها، أو عن وصف الجنة والنار. وقسم نزل عقب حادثة أو سؤال، ومعظم موضوعات هذا القسم: التشريع والأحكام والأخلاق. 1 - حكمة ارتباط الآيات بأسباب النزول: علمنا مما سبق أن معظم الآيات المرتبطة بأسباب النزول إنما كان في التشريع والأحكام والأخلاق، والهدف منها التدرج في تحويل حياة الناس إلى الأفضل وهدايتهم إلى الأقوم، وإبعادهم عن كل ما هو سيئ وقبيح في حياتهم الجاهلية، ولذلك فإن آيات الأحكام والأخلاق لم تنزل ابتداء في فراغ، ولم تكن بعيدة عن أسبابها وظروفها العملية، حتى لا تكون نظرية وسطحية، ولا ريب أن القرآن سلك طريقا تربويا مؤثّرا حين قدّم للناس أحكامه وتوجيهاته الأخلاقية متصلة بالوقائع والأحداث، أو جوابا للأسئلة وحلا للإشكالات، حتى تمتزج الأحكام مع الوقائع

2 - أمثلة لأسباب النزول

وتغرس الأخلاق في تربة التطبيق العملي فور نزولها، ويكون ذلك أدعى لحفظها وبيان قيمتها./ 2 - أمثلة لأسباب النزول: 1 - أخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمرّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] «1». 2 - أخرج الحاكم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، أنه جاء عبد الله بن أم مكتوم- وهو ضرير- فقال: يا رسول الله، أرشدني، وعند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعض عظماء المشركين، فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخرين، فنزل قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى [عبس: 1 - 4] «2». 3 - وأخرج الحاكم والترمذيّ عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى:

_ (1) رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (6867). (2) رواه الترمذي في التفسير (3331) والحاكم في المستدرك (2/ 514) وقال الذهبي: وأرسله جماعة عن هشام، وهو الصواب.

3 - أهمية معرفة أسباب النزول

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ [آل عمران: 195] «1». 3 - أهمية معرفة أسباب النزول: تظهر أهمية معرفة أسباب النزول في توضيح معاني الآيات، ومعرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، كما أن هناك أبحاثا في أصول الفقه استندت على معرفة سبب النزول، أو أفادت منها، مثل: (خصوص السبب) و (عموم اللفظ). وقد ذهب الواحدي في كتابه (أسباب النزول) «2» إلى أن: أسباب النزول أول ما يجب الوقوف عليه، وأول ما تصرف العناية إليه، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. ونذكر هنا مثالين للدلالة على أهمية العلم بأسباب النزول: المثال الأول: قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 115]. إذ قد يفهم من الآية أن يتوجه المصلي في صلاته إلى أي جهة يشاء، وأنه لا يجب عليه أن يولّي وجهه شطر المسجد الحرام، ويستوي في ذلك المسافر والمقيم. ولكننا عند ما نعرف سبب النزول لهذه الآية يظهر لنا أنها تقتصر على أحوال معينة، وليست حكما عاما يعفي من التوجّه إلى المسجد الحرام؛ فقد روى البخاري ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها نزلت في صلاة المسافر النفل على الراحلة أينما توجّهت «3».

_ (1) رواه الترمذي في التفسير (3026). والحاكم في المستدرك (2/ 300) وصححه، ووافقه الذهبي. (2) أسباب النزول؛ للواحدي تحقيق: الدكتور مصطفى البغا، (ص 7). (3) رواه البخاري في الوتر (954) ومسلم في صلاة المسافرين (700).

4 - طريقة معرفة أسباب النزول

المثال الثاني: قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158]. من المعروف أن السعي بين الصفا والمروة جزء من شعائر الحج واجب الأداء، وعبارة (لا جناح) في الآية الكريمة لا تفيد الوجوب، وقد أشكل هذا على عروة بن الزبير فسأل خالته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فأفهمته أن نفي الجناح في الآية ليس نفيا للفرضية، إنما هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين- وهم في مطلع عصر الإيمان- من أن السعي بين الصفا والمروة كان من عمل الجاهلية، فلقد كان على الصفا صنم يقال له: إساف، وكان على المروة صنم يقال له: نائلة، وكان المشركون في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة ويتمسحون بالصنمين. ولقد حطّم الصنمان بعد فتح مكة، لكن المسلمين تحرّجوا في الطواف بينهما فنزلت الآية «1». 4 - طريقة معرفة أسباب النزول: إن الطريقة الوحيدة لمعرفة أسباب النزول مقصورة على النقل الصحيح، ولا يحل القول فيها إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها: أ- فإن رويت أسباب النزول عن الصحابة فهي مقبولة، لأن أقوال الصحابة فيما لا مجال للاجتهاد فيه حكمها حكم المرفوع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن البعيد كل البعد أن يكون الصحابي قد قال ذلك من تلقاء نفسه. ب- وإن رويت أسباب النزول عن تابعي فحكمه أنه لا يقبل إلا إذا صحّ واعتضد بمرسل آخر، وكان الراوي له من أئمة التفسير الآخذين من الصحابة؛ كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير.

_ (1) رواه البخاري في الحج (1561) ومسلم في الحج (1277).

5 - اهتمام العلماء بالكتابة في أسباب النزول

5 - اهتمام العلماء بالكتابة في أسباب النزول: اهتم العلماء الباحثون في علوم القرآن بمعرفة سبب النزول، ولمسوا شدة الحاجة إليه في تفسير القرآن، فأفرده جماعة منهم بالكتابة والتأليف، ومن أشهرهم: 1 - المحدث علي بن المديني شيخ الإمام البخاري المتوفى عام (234 هـ)، مخطوط. 2 - أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري المتوفى عام (468 هـ)، مطبوع «1». 3 - الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى عام (852 هـ)، مخطوط. 4 - الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى عام (911 هـ)، والذي قال عن نفسه: وقد ألّفت فيه- أي في أسباب النزول- كتابا حافلا لم يؤلف مثله في هذا النوع سميته: (لباب النقول في أسباب النزول)، مطبوع.

_ (1) وله طبعة أنيقة بعناية الدكتور مصطفى البغا، وطبع دار ابن كثير.

الفصل الرابع المكي والمدني وخصائص كل منهما

الفصل الرّابع المكي والمدني وخصائص كل منهما من المعلوم أن القرآن الكريم قد بدأ نزوله في مكة، واستمر مدة ثلاثة وعشرين عاما تقريبا، وهذه المدة تنقسم إلى قسمين: مدة إقامة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكة قبل الهجرة، ومدة إقامته في المدينة بعد الهجرة، ومن هنا تنوّع القرآن في مجموعه إلى مكي ومدني، وقد عني العلماء والرواة من سلفنا الصالح بتمييز هذين القسمين عن بعضهما واستخراج خصائص كل منهما، وذلك للفوائد التشريعية والتاريخية التي سنذكرها في هذا البحث. 1 - تحديد المكي والمدني: للعلماء في تحديد المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات: 1 - أن المكّي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، ويدخل في مكة ضواحيها، فيعتبر مكيّا ما أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمنى وعرفات والحديبية، كما يدخل في المدينة ضواحيها، فيعتبر مدنيا ما أنزل على النبيّ ببدر وأحد وسلع. وهذا الاعتبار الاصطلاحي مبني على مكان النزول فقط، فلا يفيد الحصر، لوجود آيات في القرآن أنزلت على الرسول في غير مكة والمدينة وفي غير ضواحيهما. 2 - أنّ المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، ويقال هنا: إن ما صدّر في القرآن بلفظ (يا أيها الناس) أو بصيغة

2 - الطريقة الموصلة إلى معرفة المكي والمدني

(يا بني آدم) فهو مكي؛ لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة، فخوطبوا بيا أيها الناس أو يا بني آدم، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. أما ما صدر من القرآن بعبارة (يا أيها الذين آمنوا) فهو مدني؛ لأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة، وإن كان غيرهم داخلا فيهم. ويعترض على هذا القول: أ- بأنه غير ضابط، ولا يفيد الحصر، لأن في القرآن ما نزل خطابا لغير الفريقين؛ مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب: 1]. ب- وهذا التقسيم غير مطّرد، لوجود آيات مدنية صدّرت بصيغة (يا أيها الناس) ووجود آيات مكية صدّرت ب (يا أيها الذين آمنوا). ج- وهذا التقسيم لن يفيدنا شيئا في دراسة تاريخ القرآن الكريم؛ لما فيه من استبعاد الجانب الزمني. 3 - أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بمكة. وهذا الاصطلاح هو أصوب وأشهر الاصطلاحات الثلاثة وأولاها بالقبول، لأنه يأخذ في اعتباره تاريخ النزول، ولهذا أهمية في معرفة الناسخ والمنسوخ واستنباط الأحكام. وعليه فآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] مدنية، مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع. وكذلك آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] فإنها مدنية، مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم. 2 - الطريقة الموصلة إلى معرفة المكي والمدني: إن الطريقة الوحيدة إلى معرفة المكي والمدني هي الرواية الصحيحية عن الصحابة والتابعين، لأنه لم يرد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيان للمكي والمدني، ولم يكن

3 - خصائص كل من المكي والمدني

المسلمون في زمانه بحاجة إلى هذا البيان، إذ هم يشهدون نزول الوحي ومكانه وزمانه وأسباب نزوله. ومن الثابت أن الصحابة رضوان الله عليهم قد اعتنوا بالقرآن عناية فائقة، فكانوا يحفظون مشاهداتهم لنزول الوحي ويؤرّخون كلّ آية بوقت ومكان نزولها؛ روى البخاريّ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله تعال إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه «1». وذكر السيوطي في (الإتقان) نقلا عن كتاب (الحلية) بالسند: أن رجلا سأل عكرمة رضي الله عنه عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع «1». 3 - خصائص كلّ من المكي والمدني: ذكرنا في الفقرة السابقة أن الطريقة لمعرفة المكي والمدني هي النقل والسماع، ويضاف إلى ذلك أن العلماء توصلوا إلى بعض الضوابط أو الخصائص لمعرفة المكي والمدني، وذلك نتيجة النظر في أساليب القرآن الكريم وموضوعاته. أ- خصائص القرآن المكي والمدني اللفظية أو الأسلوبية: 1 - كل سورة فيها لفظ (كلا) فهي مكية. 2 - كل سورة افتتحت بالأحرف المقطعة (حروف التهجي) فهي مكية، ويستثنى من ذلك سورة البقرة وسورة آل عمران، فهما مدنيتان بالإجماع، وفي سورة الرعد خلاف. 3 - كل سورة فيها النداء ب (يا أيها الناس) أو ب (يا بني آدم) فهي غالبا

_ (1) الإتقان في علوم القرآن (1/ 27).

ب - خصائص القرآن المكي والمدني الموضوعية

مكية، وكل سورة فيها النداء ب (يا أيها الذين آمنوا) فهي مدنية غالبا. 4 - السور ذات الآيات القصار (المفصل) غالبا مكية. ب- خصائص القرآن المكي والمدني الموضوعية: وهي خصائص مستمدة من طبيعة المرحلتين اللتين عاشهما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مكة والمدينة، حيث كان في مكة يعاني صدود الكافرين ومقاومتهم، وفي المدينة يبني الدولة الإسلامية ويقاوم مكر اليهود وتآمر المنافقين. أولا: في القرآن المكي: 1 - ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة، ويستثنى من ذلك سورة البقرة. 2 - تأكيد وحدانية الله وقدرته على بعث الأجساد بعد الموت والحساب، والسخرية من المشركين وآلهتهم وتهديدهم بالعذاب المقيم في النار. 3 - ذكر قصة آدم وإبليس، ويستثنى من ذلك سورة البقرة. 4 - تثبيت فؤاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودعوته إلى الصبر وتحمّل أذى المشركين. ثانيا: في القرآن المدني: 1 - ذكر الحدود والفرائض والأحكام التي تنظّم حياة الفرد والمجتمع. 2 - الأمر بالجهاد أو الإذن به أو الحديث عن أحكامه. 3 - ذكر المنافقين وبيان أحوالهم وكشف مؤامراتهم في المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة. 4 - البحث في شئون الحكم والشورى وضرورة الرجوع فيهما إلى الكتاب والسنة. 5 - الكلام عن أهل الكتاب وجدالهم ودعوتهم ومعاملتهم. وهكذا أصبح بالإمكان التمييز بين المكي والمدني عن طريق النظر والاجتهاد،

4 - فوائد معرفة المكي والمدني

ودون الرجوع إلى طريق النقل لمعرفة رأي العلماء والمفسرين في ذلك، ويكفي أن تقرأ في سورة البقرة- وتطّلع على ما تجمّع فيها من أحكام الصيام والحج والقصاص والنكاح والطلاق وغيرها، وما في آياتها الطويلة من لين وهدوء؛ لتعلم أنها سورة مدنية. ويكفي أن تقرأ في سورة الصّافّات؛ فتجد فيها النقاش والحجاج مع المشركين، وإظهار الأدلة على وجود الله تعالى، وما ينبعث من آياتها القصيرة من معاني الشّدّة والتّهديد ما يزلزل القلوب؛ فتعلم أنها سورة مكية. 4 - فوائد معرفة المكّي والمدني: 1 - من فوائد معرفة المكي والمدني تمييز الناسخ من المنسوخ، لنأخذ بالحكم الناسخ ونترك الحكم المنسوخ، وتوضيح ذلك أنه إذا وردت آيات من القرآن في موضوع واحد، وكان الحكم في إحدى هذه الآيات مخالفا للحكم في غيرها، ثم عرفنا أن بعضها مكّي وبعضها مدني، فإننا نحكم بأن المدني ناسخ للمكّي نظرا لتأخّر القرآن المدني عن المكّي. 2 - ومن فوائد هذا العلم معرفة تاريخ التشريع الإسلامي، وتدرّج المشرع الحكيم في نقل الناس إلى المنهج الإسلامي المتكامل. 3 - الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالما من أي تغيير أو تحريف، ويدلّ على ذلك اهتمام المسلمين بالقرآن وتاريخ نزوله، وتسجيل دقائق نزوله الزمانية والمكانية، ونقلها بكل أمانة وضبط. 4 - ومن فوائده أنه يبصّر المؤمن والمفسّر بمعنى الآية، ومثال ذلك: أن من يقرأ سورة: (قل يا أيها الكافرون) ويعلم أنها مكية، ونزلت عند ما قال بعض زعماء المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلّم: نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة أخرى «1»، فإن هذا العلم بمكان النزول وزمانه وسببه يحجز عن الخطأ في تفسيرها وفهمها.

_ (1) رواه ابن جرير الطبري كما في الدر المنثور (8/ 654).

5 - عدد السور المكية والمدنية المتفق عليها والمختلف فيها

5 - عدد السور المكية والمدنية المتفق عليها والمختلف فيها: نقل السيوطي في كتابه (الإتقان) أقوالا كثيرة في تعيين السور المكية والمدنية، نختار منها ما نقله عن أبي الحسن الحصّار في كتابه (الناسخ والمنسوخ): حيث يقول: المدني باتفاق/ 20 سورة المختلف فيه/ 12 سورة وما عدا ذلك مكي باتفاق/ 82 سورة 114 المدني باتفاق: 1 - سورة البقرة 2 - آل عمران 3 - النساء 4 - المائدة 5 - الأنفال 6 - التوبة 7 - النور 8 - الأحزاب 9 - محمد 10 - الفتح 11 - الحجرات 12 - الحديد 13 - المجادلة 14 - الحشر 15 - الممتحنة 16 - الجمعة 17 - المنافقين 18 - الطلاق 19 - التحريم 20 - النصر. المختلف فيه: 1 - الفاتحة 2 - الرعد 3 - الرحمن 4 - الصف 5 - التغابن 6 - التطفيف 7 - القدر 8 - لم يكن 9 - إذا زلزلت 10 - الإخلاص 11 و 12 المعوذتين. والمكي بالاتفاق: ما عدا ذلك وهو اثنتان وثمانون سورة.

الباب الثالث جمع القرآن وكتابته

الباب الثالث جمع القرآن وكتابته الفصل الأول: حفظ القرآن وكتابته في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ترتيبه، أسماء سوره. الفصل الثاني: جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر. الفصل الثالث: جمع القرآن وكتابته في عهد عثمان. الفصل الرابع: رسم القرآن والمراحل التحسينية التي تدرّج فيها، حكم كتابته بالرسم الحالي. الفصل الخامس: أثر هذه الجهود في حفظ كتاب الله سبحانه من التحريف والتبديل.

تمهيد

تمهيد تطلق كلمة جمع القرآن ويراد بها معنيان: المعنى الأول: حفظه واستظهاره، فهو جمع في القلوب والصدور. وهو بهذا المعنى قد أوتيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الجميع، قال الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 16 - 18]. وعلى هذا المعنى، فقد جمعه أيضا كثير من الصحابة رضي الله عنهم، ومنه ما رواه ابن أبي داود: قال عليّ رضي الله عنه: لما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آليت أن لا آخذ عليّ ردائي إلا لصلاة جمعة - وفي رواية: إلا لصلاة- حتى أجمع القرآن فجمعه «1». المعنى الثاني: كتابته كله حروفا وكلمات وآيات وسورا، وهو جمع في الصحائف والسطور، وهو بهذا المعنى قد حدث ثلاث مرات. قال الحاكم في (المستدرك): جمع القرآن ثلاث مرات: أحدهما بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «2»، والثانية بحضرة أبي بكر رضي الله عنه، والجمع الثالث في زمن عثمان رضي الله عنه «3».

_ (1) الإتقان، للسيوطي (1/ 183) ومعنى: فجمعه: أي حفظه في صدره. (2) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 299) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نؤلّف القرآن من الرّقاع. (3) انظر الإتقان للسيوطي (1/ 181 - 189).

وهذه المرات الثلاث، التي جمع فيها القرآن بهذا المعنى، كانت كيفياتها مختلفة: * ففي المرة الأولى: اقتصر الجمع على كتابة الآيات وترتيبها، ووضعها في مكانها الخاص من سورها، وفق إشارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتوقيفه، دون أن تكون كل سورة مجموعة في صحيفة واحدة، أو يكون كل آيات القرآن وسوره في صحائف مجتمعة. أخرج الحاكم بسند على شرط الشيخين، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نؤلف القرآن من الرقاع «1». ومراد زيد رضي الله عنه من التأليف هنا ما ذكرنا، قال البيهقي: يشبه أن يكون المراد تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. * وأما المرة الثانية: فقد تعدّى الجمع فيها معنى الكتابة فقط؛ إلى جمع الآيات من كل سورة مرتبة في صحيفة واحدة أو أكثر، وضم تلك الصحف بعضها إلى بعض، ولو لم تكن مرتبة السور. * وأما المرة الثالثة: فقد كان الجمع عبارة عن نسخ القرآن وكتابته مجتمعا كله في صحائف، مرتب السور والآيات، مع كتابة عدد من هذه الصحف. وسنبين لك فيما يلي من بحث ما كان من حفظ القرآن وكتابته في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما.

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 299) وقد تقدّم قريبا. والرّقاع: جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو رقّ أو كاغد (قرطاس).

الفصل الأول حفظ القرآن وكتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ترتيبه - أسماء سورة

الفصل الأول حفظ القرآن وكتابته في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترتيبه- أسماء سوره 1 - حفظ القرآن في الصدور: (1) حفظ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينتظر نزول الوحي بلهفة وشوق، وكانت همّته بادئ الأمر تنصرف إلى حفظ كلام الله المنزل وفهمه، ثم يقرؤه على الناس على مكث، ليحفظوه ويستظهروه في صدورهم، لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، وقد بعثه الله في أمة تغلب عليها الأميّة، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2]. وقد بلغ من حرص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حفظ القرآن: أنه كان يردّده أثناء نزول الوحي عليه مخافة أن تفوته كلمة أو ينسى حرفا، حتى طمأنه ربّه عزّ وجلّ وتكفّل له بحفظه في صدره وعدم نسيانه بعد سماعه من الوحي، قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 16 - 19]. وقال تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114]. وقال سبحانه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6]. ومن هنا نستطيع أن نعلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان أوّل جامع للقرآن في صدره الشريف وسيّد الحفّاظ، ومرجع الصحابة في حفظهم للقرآن وفهمهم له، وكان

(2) حفظ الصحابة للقرآن

يحيي بالقرآن ليله ويزيّن به صلاته. وكان جبريل يعارضه (يدارسه) إياه في كل عام مرة في رمضان، وعارضه إياه في العام الأخير مرتين. قالت عائشة وفاطمة رضي الله عنهما: سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ جبريل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي» «1». (2) حفظ الصحابة للقرآن: وأما الصحابة الذين كان يتنزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعلمهم ومشاهدتهم، فكان لهم الأسوة الحسنة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإسراع إلى حفظ القرآن واستظهار آياته، وقد ساعدهم نزول القرآن منجّما على الحفظ كما علمت، وأن الأمة العربية قوية الذاكرة بالسجية، يساعدها على ذلك بيئة صافية بسيطة، كما أن الأميّ يحاول أن يعوّض بالحفظ ما فاته بالقراءة والكتابة. والنصوص الواردة في كتب السير والسنن تدلّ على أن الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ القرآن، ويحفّظونه أزواجهم وأولادهم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يذكي فيهم روح العناية بالقرآن، فيبعث إلى القبائل من أصحابه من يعلّمهم ويقرئهم القرآن. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: كان الرجل إذا هاجر دفعه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى رجل منا يعلّمه القرآن «2». وكان يسمع لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخفّضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا «3». وبذلك كله نستطيع أن نؤكّد أن حفّاظ القرآن من الصحابة في حياة النبي جمع غفير، ويكفي دليلا على ذلك أن الذين قتلوا في بئر معونة من الصحابة كان

_ (1) رواه أحمد (6/ 282) والبخاري في المناقب (3426). (2) مناهل العرفان؛ للزرقاني (1/ 313). (3) المصدر السابق (1/ 234).

2 - كتابة القرآن في السطور

يقال لهم القرّاء وكانوا سبعين رجلا. قال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القرّاء، وقتل في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببئر معونة مثل هذا العدد «1». وذكر أبو عبيد في كتاب (القراءات) القرّاء من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فعدّ من المهاجرين: الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعدا، وابن مسعود، وحذيفة، وسالما، وأبا هريرة، وعبد الله بن السائب، والعبادلة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة. ومن الأنصار: عبادة بن الصامت، ومعاذا- الذي يكنى أبا حليمة- ومجمع بن جارية، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وصرّح بأن بعضهم إنما كمّله بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «2». وذكر الحافظ الذهبي في (طبقات القرّاء) أن هذا العدد من القرّاء هم الذين عرضوه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتّصلت بنا أسانيدهم، وأما من جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم فكثير «3». والاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأمة، يقول ابن الجوزي شيخ القرّاء في عصره: إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف- الكتب- أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة. وقد ورد في صفة هذه الأمة: أناجيلهم صدورهم، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتاب، ولا يقرءونه كلّه إلا نظرا لا عن ظهر قلب. 2 - كتابة القرآن في السطور: لم يكتف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بحفظ القرآن في صدره الشريف وفي صدور أصحابه، وإنما كان يأمر بكتابة ما ينزل من الآيات في السطور، واتّخذ كتّابا للوحي من

_ (1) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (1/ 224). (2) البرهان؛ للزركشي (1/ 242). (3) معرفة القراء الكبار؛ للذهبي (1/ 42) ط. مؤسسة الرسالة- 1404 هـ-.

أجلّاء الصحابة «1»، تنزل الآية أو الآيات، فيأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بكتابتها ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، وكان بعض الصحابة يكتبون ابتداء من أنفسهم، وكانت الوسائل المتوفرة بدائية وتحتاج إلى مشقة، ومع ذلك كتبوا على العسب واللّخاف والرّقاع وعظام الأضلاع والأكتاف. فقد روي أنه لما نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [النساء: 95] قال ابن أم مكتوم وعبد الله بن جحش: يا رسول الله! إنا أعميان، فهل لنا رخصة؟ فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95]. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتوني بالكتف والدّواة» وأمر زيدا أن يكتبها فكتبها. فقال زيد: كأني أنظر إلى موضعها عند صدع الكتف. رواه البخاري «2»، واقتصر على عبد الله بن أمّ مكتوم، ولم يذكر عبد الله بن جحش. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب، فقال: «ضعوا هذا في السّورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا» «3». وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه» «4». وعن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نؤلّف القرآن من الرّقاع. وكان المكتوب يوضع في بيت رسول الله، ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام مجتمعة في مصحف عام.

_ (1) بلغ عددهم عند بعض العلماء ستة وعشرين كاتبا، وعند بعضهم أربعين. (2) فضائل القرآن، باب: كاتب النبي صلّى الله عليه وسلّم رقم (4704). (3) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 221) وصححه ووافقه الذهبي. (4) رواه مسلم في الزهد (3004) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

3 - ترتيب آيات القرآن الكريم

ومما يدلّ على اهتمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابة المصحف وقت نزوله: إفراده بهذه الرعاية، خوف التباسه بالحديث النبويّ، فنهى أصحابه أن يكتبوا ما عدا القرآن أوّل الأمر، ففي صحيح مسلم: قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» «1». وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقرآن محفوظ في صدور أصحابه، ومكتوب منثورا بين الرّقاع ونحوها، وكان الجمع بين الطريقتين في عهد النبي المبارك الميمون مصداقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9]. 3 - ترتيب آيات القرآن الكريم: ترتيب الآيات «2» في القرآن على الشكل الذي نراه اليوم في المصاحف توقيفي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيه، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، منهم الزركشيّ في (البرهان) «3». وأبو جعفر بن الزبير في كتابه (المناسبات) إذ يقول: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلّى الله عليه وسلّم وأمره من غير خلاف بين المسلمين «4». وجزم السيوطي بذلك فقال: الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك. فكان جبريل ينزل بالآيات على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرشده إلى موضعها من السورة، فيقرؤها النبيّ على أصحابه، ثم يأمر كتّاب الوحي بكتابتها في موضعها الذي حدّده له جبريل «3».

_ (1) رواه مسلم في الزهد (3004). (2) الآيات جمع آية: وهي في الاصطلاح: طائفة ذات مطلع ومقطع مندرجة في سورة من القرآن. (3) البرهان، للزركشي (1/ 262) والإتقان (189). (4) الإتقان (1/ 189 - 190).

4 - أسماء سور القرآن وترتيبها

واستند الإجماع المنقول في هذا الموضوع إلى نصوص كثيرة وثابتة نختار منها: * ما رواه الإمام أحمد، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ شخص ببصره، ثم صوّبه، ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة» «1»: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل: 90]. * وما أخرجه البخاريّ عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [البقرة: 234] نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها «2»؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا من مكانه «3». 4 - أسماء سور القرآن وترتيبها: أ- أسماء السور: لقد ثبت لنا من نصوص السنة، وانعقاد الإجماع أن ترتيب الآيات في السورة «4» توقيفي، وهذا يجعلنا نجزم بأن تسمية سور القرآن- والبالغ عددها 114 «5» سورة- توقيفي أيضا، إذ لا يمكننا تصور وقوع الترتيب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

_ (1) رواه أحمد (4/ 218). (2) أي: لماذا تثبتها بالكتابة؟ أو تتركها مكتوبة؟ مع أنها منسوخة. (3) رواه البخاري في التفسير (4256). (4) ومعنى السورة في الاصطلاح: طائفة مستقلّة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. (5) قال الزمخشري في كتابه (الكشاف) عن فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ما نصه: منها- أي الفوائد-: أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف، كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا.

إلا بعد ذكر اسم السورة وتحديد الموضع الذي توضع فيه الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت آخر آية على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ .. [البقرة: 281] قال له جبريل: «يا محمد، ضعها على رأس ثمانين ومائتي آية من سورة البقرة» «1». وأحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بيان فضل أكثر سور القرآن كثيرة وبعضها ثابت في كتب الصحاح وغيرها؛ أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلّي في المسجد فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي. فقال: «ألم يقل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]. ثم قال: لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد. ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ... هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» «2». وأخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكلّ شيء سناما، وإنّ سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيّدة آي القرآن:

_ ومنها أن القارئ إذا أتمّ سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله. ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها، فيعظم عنده ما حفظه، ومنه حديث أنس رضي الله عنه «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا» رواه أحمد (3/ 120) ومن ثمّ كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل. باختصار من كتاب «مناهل العرفان» (1/ 344 - 345) . (1) رواه النسائي في التفسير من السنن الكبرى (11057) و (11058). (2) رواه أحمد (3/ 450) والبخاري في التفسير (4204).

ب - ترتيب السور

آية الكرسيّ» «1». ب- ترتيب السور: وأما ترتيب السور فتوقيفيّ أيضا، تولّاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، وقد علم هذا الترتيب في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو نفس الترتيب الموجود في مصاحفنا اليوم، وهو ترتيب مصحف عثمان الذي تلقّاه الصحابة جميعا بالموافقة والقبول. قال ابن الحصّار: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف «2».

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (1/ 560) وابن حبّان (780) الإحسان وإسناده ضعيف. (2) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (1/ 184).

الفصل الثاني جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه

الفصل الثاني جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه أخرج البخاري في صحيحه: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شابّ عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه «1».

_ (1) رواه البخاري في فضائل القرآن (4701).

تمهيد

استحر: كثر وانتشر. العسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل، واللّخاف: جمع لخفة وهي الحجارة البيضاء الرقيقة. هذا الحديث يوجز لنا عمل أبي بكر رضي الله عنه، وما كان له من أسباب، وما آل إليه أمر القرآن في عهده، وما تمّ له من خدمة، وسنبين لك ذلك مفصلا. تمهيد: علمنا سابقا أن القرآن كله كان مكتوبا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لم ينقض عهد النبوة السعيد إلا وهو مجموع على النحو الذي علمنا، بيد أنه لم يجمع في مصحف واحد، أو صحائف مجتمعة، بل كان متفرّقا منشورا بين الرقاع وغيرها. روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قبض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن القرآن جمع في شيء «1». قال الخطّابيّ: إنما لم يجمع صلّى الله عليه وسلّم القرآن في المصحف لما كان يترقّبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته، ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك، وفاء وعده الصّادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصّدّيق بمشورة عمر «2». وكلام الخطّابيّ هذا يبيّن لنا سرّ عدم جمع القرآن بالكيفية التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه، ويضاف إلى ما ذكره: أن الأسباب التي اقتضت جمعه على تلك الكيفية، فيما بعد، لم توجد على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. 1 - كيفية جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن: إن الذي أمر به أبو بكر رضي الله عنه وتمّ تنفيذه: هو جمع ما تفرّق من

_ (1) الإتقان (1/ 181). (2) المصدر السابق (1/ 181).

2 - سبب القيام بهذا الجمع

الرقاع وغيرها، مما كتب عليه القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم نسخ ما كتب فيها إلى صفحات مجتمعة، مع مراعاة ترتيب الآيات في السور، حسب توقيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لتكون هذه الصفحات محفوظة في دار الخلافة، مرجعا للمسلمين في معرفة آيات القرآن وسوره، وحفظا لكتاب الله تعالى من الضياع، أو الزيادة أو النقصان. 2 - سبب القيام بهذا الجمع: إنّ السبب الحامل على هذا العمل الذي أمر به أبو بكر رضي الله عنه: هو ما كان من مقتل عدد من قرّاء القرآن وحفّاظه في موقعة اليمامة، التي دارت فيها رحى الحرب بين المسلمين وأهل الردة، من أتباع مسيلمة الكذّاب. وكان عدد هؤلاء الحفّاظ ينوف على السبعين، من أجلّهم سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه. ولقد هال ذلك المسلمين وأفزعهم، وخافوا على القرآن كتاب الله المنزل من الضياع بموت الحفّاظ ومقتلهم، وكان أشدّهم خوفا وأكثرهم ارتياعا عمر الفاروق رضي الله عنه، الذي هرع إلى أبي بكر رضي الله عنه محذّرا ومنبّها، وأشار عليه أن يتدارك دين الله تعالى، ويأمر بجمع القرآن، ويحفظه بين دفتين، قبل أن يموت أشياخ القرآن والحفّاظ، فيضيع على الناس شيء من كتاب الله عزّ وجلّ. 3 - قرار أبي بكر رضي الله عنه وتنفيذه: تردّد أبو بكر رضي الله عنه بادئ الأمر في اقتراح عمر رضي الله عنه، لما كان يأخذ به نفسه من الوقوف عند حدود ما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان يقول: كيف أفعل شيئا ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! ولكن عمر رضي الله عنه ما زال يراجعه في ذلك، ويبيّن له وجه المصلحة بهذا العمل، وأنه يراد به خير الأمة وحفظ الدين، حتى شرح الله تعالى صدره لذلك، وتجلّت له الحكمة وتبيّن وجه المصلحة.

4 - منهج زيد رضي الله عنه في الجمع

وما أن اقتنع رضي الله عنه بصواب الفكرة حتى اهتمّ لها اهتماما بالغا وسعى لتحقيقها، فأخذ يجيل النظر ويعمل الفكر، فيمن يصلح للقيام بهذا الأمر الجليل، فاهتدى بنور الله تعالى، ووقع اختياره على زيد بن ثابت رضي الله عنه، لما اجتمع فيه من مواهب، واختصّ به من مزايا، لها كبير أثر في هذا الأمر الخطير، لم تجتمع في غيره من الصحابة. فهو من حفّاظ القرآن، ومن كتّاب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وممن شهد العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته صلّى الله عليه وسلّم. وهو إلى جانب ذلك كان معروفا بخصوبة العقل وشدّة الورع وعظم الأمانة، وكمال الخلق واستقامة الدّين. كلّ هذه الصفات وغيرها رجّحت لدى أبي بكر رضي الله عنه أنه أولى من يقوم بهذا العمل، وأكّد ذلك عنده أنه استشار فيه عمر رضي الله عنه فوافقه على اختياره. أرسل أبو بكر إلى زيد- رضي الله عنهما- ولما حضر عرض عليه الأمر، وبيّن له الأسباب الداعية إليه، وإشارة عمر في الموضوع، وما كان منه من تردّد ثم اقتناعه بذلك، وأنه وقع الاختيار عليه للقيام بهذه المهمة، لما يعهد فيه من صفات. ولكن زيدا رضي الله عنه لم يكن أقلّ تردّدا من أبي بكر رضي الله عنه بادئ الأمر، وهاب الموقف واستثقل المسئولية، ولكن أبا بكر ما زال به حتى أقنعه بصواب ما ندب إليه، فاطمأنت نفسه وسكن قلبه وشرح الله صدره، فشرع بالعمل العظيم، يشرف عليه ويعاونه كبار الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم أجمعين، واستمرّ العمل حتى تمّ لهم ما أرادوا، وأتمّ الله تعالى عليهم نعمته وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم. 4 - منهج زيد رضي الله عنه في الجمع: لقد اتبع زيد في جمعه القرآن منهجا قويما وطريقة دقيقة محكمة، وضعها له أبو بكر، وساعده على تنفيذها صاحب الرأي عمر، رضوان الله عليهم أجمعين.

أخرج ابن أبي داود: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر وزيد رضي الله عنهما: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه «1». وأخرج أيضا: عن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر فقال: من كان تلقّى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في المصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان «2». قال ابن حجر: المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة. وكلام السخاوي في (جمال القرّاء) يفيد: أن المراد بهما رجلان عدلان، فإنه قال: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «3». والذي يدلّ على ما أفاده كلام السخاوي ما أخرجه ابن أشتة «4» في (المصاحف) عن الليث بن سعد «5» قال: أوّل من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل. ويتلخّص لدينا أن الطريقة التي اتّبعت في الجمع كانت تقوم على أمرين: الأمر الأول: معتمده فيما يجمع من آيات، فقد اعتمد رضي الله عنه على

_ (1) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (1/ 184). (2) المصدر السابق (1/ 184) والعسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل العريض. (3) الإتقان (1/ 184). (4) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن أشتة، نحوي محقق ثقة، اشتغل كثيرا بعلوم القرآن. (5) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء، إمام أهل مصر في عصره، حديثا وفقها، أصله من خراسان ووفاته في القاهرة سنة (175 هـ). قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.

مصدرين يأخذ منهما آيات الله تعالى: * المصدر الأول: ما كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من آيات على الرقاع ونحوها. * المصدر الثاني: ما كان محفوظا في صدور الرجال من قرّاء الصحابة وحفّاظهم. الأمر الثاني: الاستيثاق مما يجمع من الآيات، وقد كان هذا الاستيثاق قائما على أساسين: * الأساس الأول: أنه كان رضي الله عنه لا يقبل شيئا محفوظا إلا إذا دعّم بالكتابة، فمن جاءه بآية يحفظها لم يثبتها حتى يأتيه بها هو أو غيره مكتوبة. * الأساس الثاني: أنه كان لا يقبل ما كان مكتوبا إلا إذا شهد شاهدان أنه كتب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على تلك الرقعة هكذا. وإذا علمنا أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه كان حافظا لكتاب الله تعالى وأحد كتّاب الوحي، وكذلك كان مساعده في الجمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أدركنا مدى الدّقة والحيطة والحذر، ومدى التّحرّي الشامل، الذي أخذ المسلمون به أنفسهم، في كتابة آيات الله تعالى وتبليغها، حيث لم يكن أحدهم ليكتفي بما حفظ في قلبه، ولا بما كتب بيده، ولا بما سمع بأذنه، حتى يضمّ إلى ذلك وثائق أخرى، زيادة في الوثوق، ومبالغة في الاحتياط، وإبعادا للشك والارتياب. ولقد كانت هذه الشدة في المنهج نابعة عن الشعور بعظم المسئولية وخطورة العمل، الذي عبّر عنه زيد رضي الله عنه بقوله: فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. وهذه الدّقة وهذا الحذر هو الذي يفسر لنا قول زيد رضي الله عنه: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها عند غيره

5 - مكان هذه الصحف

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة «1». فالمراد أنه لم يجدها مكتوبة عند غيره، وليس المراد أنه لم يجدها محفوظة عند غيره، وإلا فقد كان هو وكثير من الصحابة يحفظونها، وإنما أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، ولذلك تأخّر في إثباتها حتى وجدها مكتوبة عند أبي خزيمة رضي الله عنه. بل إنه توقّف في بادئ الأمر عن كتابتها لأنه لم يشهد لديه شاهدان على كتابتها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسب منهجه، ثم كتبها أخيرا بعد أن توفّر لديه ذلك. 5 - مكان هذه الصحف: لقد استغرق عمل زيد رضي الله عنه سنة كاملة، وكان الانتهاء أواخر السنة الثانية عشرة للهجرة، وما أن انتهى رضي الله عنه من عمله وأبرز تلك الصحف حتى استقبلها الناس بما تستحق من عناية فائقة، فحفظها أبو بكر رضي الله عنه عنده بقية حياته، ثم كانت عند خليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدة خلافته، ثم انتقلت إلى دار حفصة أم المؤمنين بنت عمر رضي الله عنهما، عملا بوصية أبيها أمير المؤمنين، حيث لم يكن الخليفة الجديد معروفا بعد، بل كان الأمر شورى بين ستة اختارهم عمر رضي الله عنه كما هو معروف. هذا إلى جانب ما كانت عليه حفصة رضي الله عنها من مكانة تجعلها أهلا لهذه المكرمة، فهي فوق أنها زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حافظة لكتاب الله تعالى، تقوم به آناء الليل وتتلوه أطراف النهار. ثم كانت هذه الصحف مرجعا لعمل عثمان رضي الله عنه الذي ستعرفه فيما بعد. 6 - مزايا هذه الصحف: لقد امتازت الصحف التي جمعها زيد رضي الله عنه بأمور أهمها:

_ (1) الحديث بطوله سبق صفحة (84).

7 - أسبقية وفضل

1 - أنها جمعت القرآن بجميع آياته وسوره، على أدقّ وجه من البحث والتحرّي، وأسلم طريقة في التثبت العلمي. 2 - أنه اقتصر فيها على ما لم تنسخ تلاوته، ولذلك لم يثبت فيها آية الرجم، لأنها نسخت تلاوتها. 3 - أنها ظفرت بإجماع الأمّة عليها وتواتر ما فيها، حيث أعلن زيد رضي الله عنه عمله على رءوس الأشهاد، والصحابة متوافرون، وأقرّ الجميع ولم يعترض أحد. 7 - أسبقية وفضل: لقد كان هذا العمل الجليل منقبة من مناقب أبي بكر رضي الله عنه، وخدمة عظيمة من جملة خدماته لدين الله تعالى، فقد كان جمع القرآن في صحف مجتمعة على ذلك النمط الذي عرفت، وتلك المزايا التي علمت، عملا جديدا لم يسبق إليه أحد قبل أبي بكر رضي الله عنه. أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) بسند حسن عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أوّل من جمع كتاب الله «1». وقد شارك أبا بكر في هذه الأسبقية للفضل عمر بن الخطاب باقتراحه، وزيد بن ثابت بعمله وتنفيذه، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

_ (1) الإتقان (1/ 183).

الفصل الثالث جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه

الفصل الثالث جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه مجمل ما جدّ في عهد عثمان رضي الله عنه: إن الذي قام به عثمان رضي الله عنه وأمر به، هو كتابة عدد من النسخ عن ذلك المصحف الإمام، الذي جمع على عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأجمع عليه المسلمون واعتمده الخلفاء الراشدون المهديّون، مع مراعاة ترتيب السور في هذه النسخ، إلى جانب ما كان في الأصل من ترتيب الآيات، وأن يكون الرسم صالحا لوجوه القراءات وأحرف القرآن السبعة التي نزل بها، ثم إرسال تلك النسخ إلى الأمصار والأقطار، ليجتمع الناس عليها، وتكون مرجعا في قراءة القرآن لفظا وأداء، وتحسم مادة النزاع والشقاق ولا تبقى للعجمة واللهجات المختلفة سبيل إلى اختلاف الناس في كتاب الله تعالى. أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من

1 - أسباب عمل عثمان رضي الله عنه

القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق «1». هذا الحديث الصحيح يجمل لنا ما قام به عثمان رضي الله عنه من خدمة لكتاب الله عزّ وجلّ، وما كان له من أسباب، وما انتهى إليه من نتائج، وإليك تفصيل ذلك. 1 - أسباب عمل عثمان رضي الله عنه: أ- من المعلوم أن الفتوحات الإسلامية أيام عثمان رضي الله عنه كانت قد اتسعت، وتفرّق المسلمون في البلدان والأمصار، ونبت جيل مسلم جديد يحتاج إلى دراسة القرآن، وكان أهل كل إقليم يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة، الذين تلقوا القرآن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلهجاته المختلفة وأحرفه السبعة التي نزل عليها، وكان من الطبيعي أن يوجد بينهم اختلاف في طرق الأداء ووجوه القراءة. وبسبب تباعد الديار وبعد عهد الناس بالنبوة، كاد هذا الاختلاف في أوجه القراءات يحدث بينهم شقاقا ونزاعا، يظهر حين التقاء الناس وخاصة في المغازي أو المواسم، إذ إن الأحرف السبعة لم تكن معروفة لدى أهل تلك الأمصار. ب- وساعد على هذا الاختلاف وجود عديد من المصاحف الخاصة- إلى جانب تلك الصحف التي وضعت عند حفصة رضي الله عنها- كان بعض الصحابة قد كتبها لنفسه ثم اشتهرت بين الناس، ومن أشهرها: مصحف أبيّ بن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود، ولذلك نجد أن هذا الاختلاف والنزاع قد شمل كلّ الأمصار حتى المدينة نفسها.

_ (1) رواه البخاري في فضائل القرآن (4702).

قرار عثمان رضي الله عنه وتنفيذه

أخرج ابن أبي داود في (المصاحف) من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافة عثمان، جعل المعلّم يعلّم قراءة الرجل، والمعلم يعلّم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلّمين حتى كفّر بعضهم بعضا، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون، فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا «1». وقد تحقّق توقّع عثمان رضي الله عنه، فقد كانت الأمصار أشدّ اختلافا، حتى أفزع اختلافهم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه- كما رأيت في حديث البخاري- فجاء محذّرا عثمان رضي الله عنه أن يتدارك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى. فهذه الأسباب وتلك العوامل هي التي كانت الحامل لعثمان رضي الله عنه على أن يقوم بما قام به من خدمة لكتاب الله عزّ وجلّ. قرار عثمان رضي الله عنه وتنفيذه: لما تضافرت الأسباب لدى عثمان رضي الله عنه، ورأى ما رأى من اختلاف الناس في كتاب الله تعالى، وجاءه حذيفة رضي الله عنه يخبره باختلاف من نأى عنه من الناس في قراءة القرآن وما ينذر به هذا الاختلاف من خطر، أسرع رضي الله عنه لتدارك الموقف، فجمع كبار الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم في الأمر، فأجمعوا أمرهم على استنساخ عدد من المصاحف يرسل بها إلى الأمصار، وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها، وألا يعتمدوا على سواها. وشرع عثمان رضي الله عنه بتنفيذ هذا القرار الذي توصّل إليه مع كبار الصحابة فألّف لجنة من خيرة الصحابة حفظا لكتاب الله تعالى وإتقانا له وضبطا، وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن

_ (1) الإتقان (1/ 187 - 188).

2 - منهج اللجنة في كتابة النسخ وقيمة هذا المنهج

الحارث بن هشام، رضي الله عنهم، وعهد إليهم بكتابة المصاحف. وفور اتّخاذ القرار وتعيين اللجنة التي كلّفت بالعمل، أرسل رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها يطلب منها أن ترسل إليه بالصحف التي كانت عندها، والتي جمعت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، لتكون هي العمدة والمرجع في استنساخ كتاب الله تعالى، إذ إنها جمعت وكتبت على النهج الذي كتب به القرآن بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولقد لبّت حفصة رضي الله عنها الطلب، طاعة لأمير المؤمنين، ومشاركة في خدمة كتاب الله تعالى التي لا تدانيها خدمة، فأرسلت بالصّحف، واستلمتها اللجنة الرباعية الموقرة، وبقيت عندها الإمام والمرشد، حتى إذا انتهت من عملها، أعيدت الصحف إلى صاحبة الحق فيها، وبقيت عندها حتى توفيت، رضي الله عنها وأرضاها. 2 - منهج اللجنة في كتابة النسخ وقيمة هذا المنهج: لقد اتبعت اللجنة الرباعية منهجا يعتمد الأسس التالية: 1 - أن الصحف التي كتبت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، والتي قام بكتابتها زيد بن ثابت رضي الله عنه- رئيس اللجنة الرباعية- هي المرجع والأساس في استنساخ هذه المصاحف. وبهذا يعلم أن هذه المصاحف، بترتيبها ورسمها، إنما كانت على النهج الذي كتب به القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما قطع به كافة العلماء والباحثين، لأن زيدا رضي الله عنه كان أشهر الصحابة ضبطا للقرآن وحفظا. 2 - أن المعتمد في الكتابة والرسم، حال اختلاف أعضاء اللجنة، إنما هو طريقة قريش في كتابتها ورسمها، لأن القرآن نزل بلغتها ولهجتها، ويفهم هذا من قول عثمان رضي الله عنه للرهط الثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في

3 - مزايا مصاحف عثمان رضي الله عنه

شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. والمراد: إذا اختلفتم في الرسم والإملاء واللهجة. 3 - أن أعضاء اللجنة الرباعية كانوا، بالإضافة إلى الأساسين السابقين، لا يكتبون شيئا إلا بعد أن يعرض على الصحابة، ويقرّوا أنه على النحو الذي قرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه قرآن محقّق، وقد استقرّ في العرضة الأخيرة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينسخ. 3 - مزايا مصاحف عثمان رضي الله عنه: لقد أنهت اللجنة عملها، فجاء على خير مثال، واتّصفت مصاحفها التي نسختها بعديد من المزايا، أهمها: 1 - الاقتصار على ما ثبت بالتواتر من أوجه القراءات، دون ما كانت روايته آحادا، ولذلك لم يكتبوا مثل (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) بزيادة كلمة (صالحة) لأن هذه الكلمة لم تتواتر. 2 - تجريدها من كل ما كان في بعض المصاحف الخاصّة من تفسيرات وشروح أو ذكر أسباب نزول وغير ذلك. 3 - إهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقرّ في العرضة الأخيرة، كما هو الشأن في الأصل المعتمد، وهو ما كتبه زيد رضي الله عنه على عهد أبي بكر رضي الله عنه. 4 - ترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن، والذي كان بتوقيف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بينما لم تكن صحف أبي بكر رضي الله عنه مرتبة السور، بل كانت مرتبة الآيات فقط. 5 - أن رسمها كان بطريقة تجمع الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، وتصلح لأوجه القراءات المختلفة، وكان يساعد على ذلك أنها لم تكن مشكولة

4 - تحريق الصحف والمصاحف المخالفة

ولا منقوطة، فقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] يصلح للقراءتين المتواترتين (فتبينوا) و (فتثبتوا)، وكذلك قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: 259] تصلح لأن تقرأ (ننشزها) و (ننشرها) كما هو ثابت. وإذا لم تكن كل نسخة من النسخ جامعة لهذه المزية، فقد كانت النسخ بمجموعها تحقق هذا الغرض. وبيان ذلك: أنه إذا لم يكن الرسم للكلمة صالحا لأوجه القراءات فقد كانوا يكتبونها في بعض النسخ برسم يدلّ على قراءة، وفي بعض آخر برسم آخر يدلّ على القراءة الثانية. ومثال ذلك: قوله تعالى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 132] فقد ثبتت قراءتها بالهمز (وأوصى) كما ثبتت بالتضعيف (ووصى) ولذا كتبت في نسخة بالهمز، وفي أخرى بالتضعيف. ومثلها أيضا: قوله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ [التوبة: 100] فقد ثبتت قراءتها أيضا (من تحتها) بإضافة (من). ولم يكونوا في مثل هذه الحالات ليكتبوا الرسمين في نسخة واحدة، حتى لا يتوهم أن اللفظ مكرر، أو أن الثاني تصحيح للأول. 4 - تحريق الصحف والمصاحف المخالفة: وما أن انتهت اللجنة من عملها حتى سارع عثمان رضي الله عنه إلى الأمر بكل مصحف أو صحيفة، سوى صحف حفصة رضي الله عنها، أن يجمع ويحرق دون أن يبقي على شيء منه، سواء أكان ذلك في المدينة أم في غيرها من الأمصار. وقد تمّ ذلك الأمر، ولم يعارض فيه أحد، إلا ما كان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في بادئ الأمر، ثم عاد إلى التزام أمر الخليفة رضي الله عنهما. وكان الغرض من ذلك: أن يقطع مادة النزاع، ويحصر اعتماد المسلمين على الجادّة القويمة في كتاب الله عزّ وجلّ.

5 - عدد النسخ ومصيرها

وأما صحف حفصة رضي الله عنها، فإنها قد أعيدت إليها بعد تحقيق الغرض منها، ولم تكن في جملة ما أحرق من المصاحف، إذ لا داعي لذلك ولا محذور من بقائها طالما أنها هي العمدة والأصل وليس بينها وبين ما نسخ كبير اختلاف، إلا ما كان من ترتيب السور، وذلك أمر لا خوف منه. وبقيت تلك الصحف عند حفصة رضي الله عنها حتى توفيت، فأخذها مروان بن الحكم وأحرقها، وقال مدافعا عن تصرّفه: إنما فعلت هذا، لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف الإمام، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب «1». وكان مروان قد حاول أخذها من حفصة رضي الله عنها ليحرقها عام 65 هـ فأبت عليه ذلك. 5 - عدد النسخ ومصيرها: لقد اختلف في عدد النسخ التي كتبتها اللجنة: فقد قيل إنها خمسة، وقيل إنها أربعة، وقيل إنها سبعة، وأيا ما كان الأمر: فقد ترك عثمان رضي الله عنه واحدة منها لتكون مرجعا لديه في دار الخلافة، وفي المدينة مهبط الوحي ومنزل القرآن وموئل الإسلام، وأرسل بباقيها إلى الأمصار، كل نسخة إلى ناحية، كالكوفة والبصرة والشام، وقيل أيضا: إلى مكة واليمن والبحرين. ولقد بقيت إحدى هذه النسخ في دمشق، بمسجد بني أمية الكبير حتى القرن الثامن الهجري، حيث يقول ابن كثير في كتابه فضائل القرآن: أما الصحف العثمانية الأئمة، فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقيّ المقصورة المعمورة بذكر الله «2».

_ (1) كتاب المصاحف، لابن أبي داود (ص 24). (2) فضائل القرآن، للحافظ ابن كثير (ص 49) طبعة المنار 1348 هـ.

6 - قيمة عمل عثمان رضي الله عنه

6 - قيمة عمل عثمان رضي الله عنه: لقد كان عمل عثمان رضي الله عنه عملا جليلا، ذا قيمة علمية رفيعة، ومكانة دينية سامية، وحقيقة تاريخية لا تقبل الريب، وقد وقع من قلوب الناس موقع القبول والاستحسان، لأنه لم يكن عملا فرديا أو تصرّفا شخصيا، بل كان عملا جماعيا بمشورة كبار الصحابة وموافقتهم، بل بمعاونتهم وتأييدهم وشكرهم، وعلى ملأ من الناس ومشاهدتهم وإقرارهم. أخرج ابن أبي داود بسند صحيح، عن سويد بن غفلة قال: قال عليّ: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا على ملأ منا، قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا. قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع النّاس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت «1». وفي رواية عن سويد قال: سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان، وقولكم حرّاق مصاحف، فو الله ما حرّقها إلا على ملأ منا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2». وعنه رضي الله عنه قال: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان. فرضي الله عنهم وأرضاهم «3». 7 - كتابة وحفظ: لقد علمنا في كل ما سبق أن الأمة الإسلامية اعتمدت في تناقل كتاب الله تعالى وقراءته أمرين اثنين: الحفظ والكتابة، يسيران جنبا إلى جنب. فيتلقونه رسما من

_ (1) كتاب المصاحف، لابن أبي داود (ص 30) والإتقان، للسيوطي (1/ 188). (2) كتاب المصاحف؛ لابن أبي داود (ص 19). (3) كتاب المصاحف؛ لابن أبي داود (ص 30).

الصحف والسطور، ومشافهة من الأفواه والصدور، ولم يستغنوا في يوم من الأيام بأحد الطريقين عن الآخر. وهكذا نجد عثمان رضي الله عنه يزيد هذا المعنى رسوخا في أذهان المسلمين، فحتى لا يعتمدوا على الكتابة ويتكلوا على النسخ فحسب، راح يرسل مع النسخ إلى الأمصار، كبار الصحابة من القراء، فقد كان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ البصري. وما أن توزّعت المصاحف الجديدة على البلدان الإسلامية، حتى أحرق كلّ مسلم ما كان عنده من قبل، وأقبل الناس يعكفون على هذه الأصول الوثيقة المعتمدة، نسخا وكتابة وحفظا، بالتلقي والمشافهة، مما يزيدنا يقينا أن المصحف الذي بين أيدينا اليوم، هو القرآن الذي نزل على قلب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. لا سيما وقد علمت أن إحدى نسخ المصحف الإمام بقيت حتى القرن الثامن الهجري، وأن لدى المكتبات الإسلامية اليوم، مصاحف تعود إلى ما قبل هذا التاريخ. وهكذا فتاريخ هذا الكتاب سلسلة متصلة، لا تفقد حلقة من حلقاتها، فتثير بفقدانها الظنون والشكوك، وصدق الله العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41 - 42].

الفصل الرابع رسم القرآن والمراحل التحسينية التي تحرج فيها

الفصل الرّابع رسم القرآن والمراحل التحسينية التي تحرج فيها 1 - الرسم العثماني: لقد اتبعت اللجنة الرباعية في كتابة المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه طريقة خاصّة في رسم كلمات القرآن وحروفه، اعتمدوا فيها غالبا على الرسم الذي كتبت به الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، والتي كانت توافق ما كتب على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد اصطلح العلماء على تسمية الطريقة التي اتبعتها هذه اللجنة (رسم المصحف) وكثيرا ما ينسبون هذا الرسم إلى عثمان رضي الله عنه، لأنه جرى في عهده وبأمر منه وبموافقته، فيقولون: (رسم عثمان) أو (الرسم العثماني) وأحيانا يقولون (المصحف العثماني) ولقد كان هذا الرسم يتصف بصفتين: الصفة الأولى: أن له إملاء خاصا به من حيث كيفية كتابة بعض الحروف والكلمات، كالهمزة مثلا في كتابة (مائة) والأحرف اليائية والواوية كما في كلمات (الزكوة، والصلاة، والحيوة) وما شابه ذلك من الحذف أو الزيادة لبعض الحروف «1». وكان هذا الإملاء يتفق في جملته مع الرسم القرشي في ذلك الوقت، ودليل ذلك قول عثمان رضي الله عنه للثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم.

_ (1) لمعرفة هذا الإملاء الخاص مفصّلا، يراجع كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي: (2/ 1162 - 1163).

2 - المراحل التحسينية التي تدرج فيها الرسم

ولقد ظهر أثر ذلك عند ما اختلفوا في كيفية رسم كلمة (التابوت) في قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 248] فقد قال زيد (التابوة) بالتاء المربوطة وقالوا (التابوت) بالمبسوطة، فترافعوا إلى عثمان فقال: اكتبوا (التابوت) - أي بالمبسوطة- فإنما أنزل القرآن على لسان قريش. الصفة الثانية: أن هذه المصاحف كان رسمها مجرّدا عن الشكل الذي يوضح إعرابه، وعن النقط الذي يميز الأحرف المعجمة (كالزاي، والذال، والغين، والجيم، والخاء) عن المهملة (كالراء، والدال، والحاء) وغيرها. ولقد كان المسلمون يهتدون إلى النطق السليم بالقرآن في ذاك الوقت بوسيلتين: الأولى: سليقة اللسان العربي الأصيل الذي كانوا يتمتعون به، فلم يكن اللحن ليعرف سبيلا إلى لسانهم، كما لم يكن المعنى ليستعجم على أذهانهم. الثانية: التلقّي والمشافهة، وقد علمنا أن المسلمين كانوا يعتمدون في أخذ القرآن وحفظه وضبطه على الكتابة والتلقي مشافهة من أفواه الرجال، وكانوا لا يكتفون بأحد الطريقين عن الآخر، فكان التلقي والمشافهة وسيلة لوضوح الكتابة، وعاصما من اللبس في الكلمات التي تحتمل برسمها عددا من وجوه القراءة والأداء. وبهاتين الوسيلتين- السليقة والمشافهة- لم يكن عدم شكل رسم القرآن ونقطه عائقا في طريق قراءته قراءة سليمة، وفهم مضمونه ومعناه فهما صحيحا. 2 - المراحل التحسينية التي تدرج فيها الرسم: لقد طرأ على الرسم العثماني تحسينات اقتضتها ظروف وملابسات، وكانت هذه التحسينات على مراحل تدريجية، حسب الضرورة وإلحاح المقتضيات، وإليك بيان ذلك:

1 - التحسين الذي يبيّن إعراب الكلمات ويمنع اللحن فيها: فقد علمنا أن الرسم القرآني كان خاليا عن الشكل الذي يبيّن إعراب الكلمات نصبا أو رفعا، وجرا أو جزما، وأن العربيّ كان بسليقته يهتدي إلى قراءتها على وجه الصواب، لأنه لا يمكن- وهو فطريّ اللسان- أن يرفع المفعول وينصب الفاعل، وغير ذلك. ولكن لما اتّسعت الفتوحات، وأقبل المسلمون غير العرب على تعلم القرآن وقراءته واختلط العرب بغيرهم وكاد لسانهم أن يستعجم، وفشا اللحن في اللغة العربية على الألسنة وكاد أن يصل إلى القرآن، فخشي المسلمون أن ينتشر ذلك ويكثر ويمتد إلى كتاب الله تعالى، فيقع التحريف في أدائه ومعناه، فأسرعوا إلى تدارك الأمر قبل أن يستفحل، ووضعوا علامات يعرف بها إعراب كلماته. وكان السابق لهذا الفضل، والمباشر لهذا التحسين لأول مرة هو أبو الأسود الدؤلي الذي وضع قواعد النحو بإشارة من عليّ رضي الله عنه. والذي فعله أبو الأسود: هو أنه جعل علامات الإعراب نقطا على أواخر الحروف فقد جعل علامة النصب نقطة فوق الحرف، وعلامة الرفع نقطة وسطه، وعلامة الجر نقطة تحته، وعلامة السكون نقطتين. وكان السبب المباشر لقيامه بهذا العمل، هو أنه سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بكسر اللام من (رسوله) فقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، وقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا. وكان زياد بن أبيه، قد طلب منه أن يعمل شيئا يكون إماما، ويعرف به كتاب الله عزّ وجلّ فاستعفاه من ذلك، ولكن لما سمع ما سمع، رجع إلى زياد وأخبره أنه عازم على فعل ما طلب منه، واستعانه بكاتب يفعل ما يقوله له، وقال للكاتب لما بدأ العمل: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت، ففعل ذلك «1».

_ (1) كتاب النقط؛ لأبي عمرو الداني (ص 124 - 125).

2 - التحسين الذي يميز الحروف: قد علمنا أن القرآن، كما أنه لم يكن رسمه يبيّن إعرابه، كذلك لم يكن ليميّز حروفه المعجمة من المهملة. ولم يكن العرب ليخطئوا في قراءته بحكم فطرتهم وسليقتهم، إذ لم يكن من المعقول أن يقرأ العربي قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ باستبدال ذال بدل الدال في لفظ (الحمد) أو استبدال غين بدل العين في لفظ (العالمين) لأن كلّا من الكلمتين لا يصبح لها معنى بهذه الحالة في اللغة العربية. وكذلك لا يعقل أن يستبدل حرف الدال في قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ بالذال، لأنها لا تناسب سياق الكلام في تلك الحالة أيضا. ولكن ما ذكرنا من دخول الأعاجم في الإسلام، وإقبالهم على تعلّم القرآن، كان له أثر في خطأ الناس في القراءة؛ لأن هؤلاء لا يعرفون ما هو من العربية وما هو ليس منها، كما أنهم قد لا يدركون المعنى ومناسبته للسياق لأول وهلة. ولذا سارع المسلمون كما ذكرنا إلى إدخال التحسين على الرسم القرآني، وقد علمنا أن التحسين الذي طرأ إنما اقتصر فقط على بيان إعراب الكلمات، وبقيت الحروف غير مميزة بعضها عن بعض، فربما التبس على القارئ الحرف المعجم كالذال وغيره، بالحرف المهمل كالدال وغيره، ولذلك وجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى تحسين جديد، يجرونه على الرسم القرآني، غير ما قام به أبو الأسود يميزون به بين الحرف، ليحصنوا كتاب الله تعالى من عجمة اللسان. ولقد قام بهذا العمل لأول مرة نصر بن عاصم تلميذ أبي الأسود الدؤلي، بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، فوضع علامات تميّز الحروف المشتبهة بعضها عن بعض. وكانت هذه العلامات نقطا على الحرف، التزم فيها ألّا تزيد عن ثلاث نقط في أي حرف «1».

_ (1) كتاب النقط؛ لأبي عمرو الداني (ص 125).

وعندها اضطر لأن يستبدل النقط السابق، الذي كان علامة الإعراب، بعلامات أخرى، حتى لا تلتبس الكلمات، فكان الشكل المعروف الآن والمتداول، والذي جعل علامات الإعراب الفتحة والكسرة والضمة والسكون. 3 - تحسينات متعددة ومتلاحقة: إن تحسين الرسم القرآني أخذ يتدرج في أطوار متلاحقة، لا يمكن ضبط كل منها بتاريخ دقيق، أو نسبته إلى شخص معين، وعلى كل حال فالمتفق عليه: أن التحسين قد سار بخطوات متقاربة وسريعة، حتى قارب الكمال على أيام الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام. وما زالت الخطوات التحسينية مطّردة على مر الأزمان إلى يومنا هذا، ابتغاء تحقيق المزيد من ضبط رسم القرآن وتسهيل قراءته، فوضعت أسماء السور، وعدد الآيات، والرموز التي تشير إلى رءوس الآية، وعلامات الوقف، وغير ذلك «1». 4 - التحسين في الإملاء: من خلال ما سبق تبيّن لك: أن التحسينات التي طرأت على الرسم العثماني، إنما كانت أمورا تتعلّق بكيفية أداء القرآن وتلاوته، على النهج الذي نزل به، وقرأه به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك أصحابه من بعده رضوان الله عليهم، حتى سلم القرآن من أي تحريف أو تبديل، يمكن أن يتناول لفظه أو معناه. وعليه فالتحسينات إنما تناولت الصفة الثانية من صفات الرسم العثماني، وهي كونه بدون شكل أو نقط، وما أشبه ذلك. وأما ما يتعلّق بالصفة الأولى، وهي الإملاء الخاص بكتابة الكلمات والحروف، فهذا مما بقي على حاله، ولم يطرأ عليه أي تغيير أو تبديل أو تحسين أو تحوير، وظلّت المصاحف تكتب على الرسم الذي كتبت به الصحف الأولى، والمصحف العثماني الإمام. وهو المتبع في طباعة المصاحف بدءا بالطبعة الأولى في البندقية سنة

_ (1) انظر مناهل العرفان؛ للزرقاني (1/ 400 - 402).

3 - حكم كتابة القرآن بالرسم الحالي

1530 م، ثم طبعة بترسبورغ بروسيا سنة 1787 م، ثم طبعة الآستانة سنة 1877 م، وما تبع ذلك من آلاف الطبعات والأحجام «1». 3 - حكم كتابة القرآن بالرسم الحالي: لقد اختلف علماء المسلمين في حكم كتابة المصحف بالرسم العثماني، هل هي واجبة أم لا؟ وبالتالي: هل تجوز كتابته بالرسم المتعارف الآن أو لا؟ * فذهب فريق من العلماء إلى أن هذا الرسم، الذي كتب به المصحف الإمام، رسم توقيفي، لا تجوز مخالفته. ونسبوا التوقيف فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستدلوا لهذا: بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان له كتّاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم، وأقرّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على كتابتهم، ومضى عهده والقرآن مكتوب على هذا النحو، لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل. ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه، فجمع القرآن في الصّحف بهذا الرسم، ثم حذا حذوه عثمان رضي الله عنه، فاستنسخ المصاحف على تلك الكتابة، وأقرّ الصحابة رضي الله عنهم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، ثم انتهى الأمر إلى التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم، ولم يخالف أحد منهم في هذا الرسم، وعليه فيجب التزامه ولا تجوز مخالفته. * وذهب فريق آخر إلى أن الرسم العثماني اصطلاحي لا توقيفي، فلا يجب التزامه ولا مانع من مخالفته، إذا اصطلح الناس على رسم خاصّ للإملاء وشاع بينهم. واحتجّوا لذلك بأنه: لم يرو في القرآن ولا في السنة ولا إجماع الأمة ما يدلّ على وجوب التزام ذلك، بل السّنّة دلّت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر بكتابته، ولم يبيّن لهم وجها معيّنا لرسمه، ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف التي كتبها الصحابة لأنفسهم. * والرأي الثالث، الذي ذهب إليه جمهور العلماء، هو أنّ الرسم العثماني

_ (1) انظر مباحث في علوم القرآن؛ للدكتور صبحي الصالح (ص 99 - 100).

ليس توقيفيا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه اصطلاح ارتضاه عثمان رضي الله عنه، وأجمع عليه الصحابة، وتلقّته الأمة بالقبول، فيجب التزامه والأخذ به، ولا تجوز مخالفته. وهذا الرأي هو المنقول عن الأئمة والمذاهب المعتبرة. روى أبو عمرو الداني، في كتابه (المقنع) عن أشهب قال: سئل مالك رحمه الله تعالى: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى. قال أبو عمرو: ولا مخالف له من علماء الأمة. ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: تحرم مخالفة خطّ مصحف عثمان في واو، أو ألف، أو ياء، أو غير ذلك «1». ونقل عن كتب فقه الشافعية والحنفية: أنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني، لأن رسمه سنة متبعة. والظاهر أن هذا الرأي هو الأرجح من الآراء، لما فيه من اعتدال، إلى جانب زيادة احتياط لكتاب الله عزّ وجلّ، والحفاظ عليه ضمان لصيانة القرآن من التغيير أو التبديل حتى في الشكل. علما بأن الاصطلاح الإملائي عرضة للتغيير والتبديل، بل إن قواعد الإملاء في العصر الواحد، قد تختلف وجهات النظر فيها وتتفاوت في بعض الكلمات من بلد لآخر، فإذا أبيح كتابة القرآن بالاصطلاح الإملائي لكل عصر، أدّى ذلك إلى التغيير في خطّ المصحف من عصر لآخر، وهذا مما يتنافى مع قداسة القرآن وعظمته في نفوس المؤمنين، ومما قد يؤدّي إلى اختلاف المسلمين في كتاب الله تعالى، ويجرّ إلى فتنة أشبه بالفتنة التي حدثت أيام عثمان رضي الله عنه، وحملته على استنساخ المصاحف. وحجة تيسير قراءة القرآن على الدارسين والعامة لا تبرّر التغيير الذي يمكن أن يؤدي إلى التهاون في تحري الدقة في كتابة القرآن، ثم يجر إلى الفتنة والاختلاف.

_ (1) المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار؛ لأبي عمرو الداني (ص 9) تحقيق: محمد أحمد دهمان- ط دار الفكر 1403 هـ.

على أنه يمكن تحقيق ذلك التيسير، باعتياد قراءة القرآن في المصاحف على ذوي الاختصاص، لا سيما وقد علم أنه لا بدّ في أخذ القرآن وحفظه وتعلمه من الاعتماد على المشافهة إلى جانب الكتابة، وأنه لا يكتفى بأحدهما عن الآخر، بل ربما كان الاعتماد على المشافهة أكثر من الكتابة وأولى. هذا إلى جانب تعلّم فنّ التجويد والانتباه إلى الإشارات التحسينية التي وضعها العلماء على الكلمات، لمعرفة الفوارق الإملائية في الرسم. على أنه يمكن أن ينبّه في ذيل كل صفحة من صفحات المصحف، إلى ما يوجد فيها من كلمات تخالف في رسمها وإملائها الرسم المتعارف والإملاء المألوف. وأخيرا يمكننا أن نقول: إنه لا بأس بمخالفة الرسم العثماني والكتابة بالإملاء المتعارف، إذا كنا نكتب آيات القرآن في مجالات التعليم والتدريس، كأن يكتب على السبورة مثلا أو على لوح للصغار أو ما إلى ذلك من أشياء، لا يقصد بها كتابة مصحف أو جزء منه، بل المقصود أن يذاكر الطلاب هذه الآيات ويستظهرونها على الوجه الأكمل والأداء الصحيح. وقد نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ما يفيد جواز ما قلناه، والترخيص فيه، بل الدعوة إليه «1».

_ (1) انظر مناهل العرفان للزرقاني (1/ 378).

الفصل الخامس أثر الجهود السابقة في حفظ كتاب الله من التحريف والتبديل

الفصل الخامس أثر الجهود السابقة في حفظ كتاب الله من التحريف والتبديل حفظ القرآن شكلا ومضمونا: لقد كان لتلك الجهود المتلاحقة، في خدمة كتاب الله تعالى شكلا ومضمونا، منذ عهد النبوة إلى يومنا هذا، كبير أثر في حفظه سليما من كل زيغ، وبقي كما أراد الله تعالى له أن يبقى، لم تمتد إليه الأيدي تحريفا أو تبديلا، لا في لفظه ولا في معناه، بل بقي محافظا على روحه وجسمه، يأخذه المسلمون كابرا عن كابر، أداء وحفظا وكتابة، والعقد بينهم وبين مصدره الأول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الذي تلقّاه من وحي الله تعالى، لم ينقطع، والكلّ حذر من أن يدخل على كتاب الله عزّ وجلّ شيء ليس منه، أو أن يخرج منه شيء من ذاته أو وصفه. اهتمام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصحابة من بعده: فهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسابق الملك في حفظه وقراءته وهو يوحى إليه حتى ينهى عن ذلك لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] ثم يأمر بما نزل أن يكتب لفوره، وينهى أن يكتب عنه شيء غير القرآن بادئ الأمر، ويقبل الصحابة على حفظه واستظهاره، واستنساخه وكتابته، ويتّخذ الكثير منهم مصحفا لنفسه خاصّا به، يرجع إليه لتثبيت حفظه وضبطه، ولا يمضي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه، إلا والقرآن- كما علمت- محفوظ بكامله في الصدور، ومكتوب بأجمعه في السطور.

اهتمام الأمة وتشددها في كتاب الله عز وجل

ولم تمض سنتان على وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى كان عمل أبي بكر رضي الله عنه، الذي جمع القرآن في صحف مجتمعة بين دفتين، وحفظ بذلك على الأمة كتابها المنزل، من أن يضيع منه شيء بذهاب الحفظة من الرجال والضابطين من القراء. ولم يمض على وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسة عشر عاما حتى كان عمل عثمان رضي الله عنه، ذاك العمل المبارك الميمون، الذي جمع الأمّة على كتاب الله تعالى، كتابة وأداء، وقطع من بينها دابر الاختلاف والنزاع في قرآنها، وصان كلام الله المحكم من أي خطأ أو زلل. اهتمام الأمة وتشدّدها في كتاب الله عزّ وجلّ: وكل ذلك يجري والمسلمون يقفون ذلك الموقف المتشدّد من كتاب الله تعالى، خشية أن يزاد فيه شيء أو ينقص، أو يظن منه ما هو دخيل عليه، فلا يقبلون أن يزاد فيما بين دفتي المصحف ما ليس بقرآن حتى ولو كان رموزا وعلامات، يسترشد بها لقراءة كتاب الله عزّ وجلّ. فهذا ابن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل يقول: جرّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء «1». وإنما قال ذلك خشية أن يظنّ الناس ما ليس بقرآن قرآنا. ولم يمض على وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس وأربعون سنة حتى كان ذلك العمل العظيم، الذي تناول رسم القرآن شكلا ونقطا وتحسينا يساعد على الأداء الصحيح، ويحفظ كتاب الله تعالى من أن يناله تحريف أو تبديل في لفظه أو معناه، حين اضطرت الظروف إلى ذلك، وكثرت العجمة، وفشا اللحن، وأصبح النقط والشكل عندها أمرا لا مناص منه، بل هو شيء مستحبّ ومندوب إليه بعد أن كان مكروها

_ (1) فضائل القرآن؛ لأبي عبيد (ص 392).

دراسات وعلوم تصون القرآن

ومرغوبا عنه، كل ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة في حفظ كتاب الله. قال النووي رحمه الله تعالى: نقط المصحف وشكله مستحبّ، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف «1». دراسات وعلوم تصون القرآن: وهكذا تجد أن الجهود لا تفتأ تبذل لصون كتاب الله تعالى، وحسبك في هذا المجال أن علم النحو لم يقعّد ولم يدوّن إلا خدمة لضبط القرآن وحفظه من التحريف أو التبديل، بل إن علوما عربية أخرى قامت في جلّها خدمة للقرآن أو نبعت من مضمونه. ومن جملة الجهود التي بذلت، وكان لها أثر في حفظ كتاب الله تعالى، ما قام به العلماء من الأمة من إحصاء عدد آيات القرآن وكلماته وحروفه. بل وصل الحذر والحيطة بهم أن أحصوا ما فيه من شدّات وغيرها من الحركات، وما فيه من كل حرف من الحروف، إلى غير ذلك مما فيه صون له وتحصين. أضف إلى ذلك كلّه تلك التفاسير وكتب الفقه والحديث وغيرها من العلوم الإسلامية، التي تنبث فيها آيات القرآن، بحيث يعجز أهل الأرض عن جمعها، لو أرادوا أن يحرّفوا شيئا من القرآن أو يبدلوه. المعجزة الإلهية: هذا إلى جانب ما رأيت من تشدّد الجمهور من العلماء والأئمة في المحافظة على رسم القرآن على الكتبة الأولى وعدم تجويزهم كتابته بما يخالف ذلك الرسم، حتى يحفظ كتاب الله تعالى من التغيير والتبديل حتى ولو في الشكل والمظهر، فضلا عن المضمون والجوهر، وهكذا فقد بقي القرآن كما كان، وكما أنزل على

_ (1) التبيان في آداب حملة القرآن؛ للنووي (ص 97) طبعة مؤسسة علوم القرآن، ودار التراث 1403 هـ.

قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يحفظه المسلمون عربا وعجما، كبارا وصغارا، نساء ورجالا، ويكتبونه في مشارق الأرض ومغاربها، بلسان عربيّ مبين، لم ينقص منه حرف ولم يزد عليه، ولم يداخله خطأ أو زيف، ولو اجتمع قرّاء القرآن من جميع أنحاء العالم، أو جمعت نسخه من أرجاء الأرض، لما وجد اختلاف في حرف واحد منه رسما أو أداء. وهكذا فقد تحقّقت معجزة الوحي الإلهي إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9].

الباب الرابع الأحرف السبعة والقراءات

الباب الرّابع الأحرف السبعة والقراءات الفصل الأول: ما ورد في الأحرف السبعة من الأحاديث، وسبب وروده، ومعنى الأحرف السبعة والمقصود بها، ومصيرها. الفصل الثاني: الفرق بين الأحرف السبعة والقراءات. الفصل الثالث: الفرق بين القراءات المتواترة والشاذة، وضابط القراءات المتواترة.

الفصل الأول ما ورد في الأحرف السبعة من الأحاديث، وسبب وروده، ومعنى الأحرف السبعة، والمقصود بها، ومصيرها

الفصل الأول ما ورد في الأحرف السبعة من الأحاديث، وسبب وروده، ومعنى الأحرف السبعة، والمقصود بها، ومصيرها 1 - ما ورد في الأحرف السبعة من الأحاديث: ورد في الأحرف السبعة أكثر من عشرة أحاديث نقتصر منها على ثلاثة هي: الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكدت أساوره في الصّلاة، فانتظرته حتى سلّم ثم لببته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت له: كذبت فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام» فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا أنزلت». ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» «1» متّفق عليه. الثاني: عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان على أضاة بني غفار «2» فأتاه جبريل عليه السلام فقال: «إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على حرف، فقال: أسال الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية

_ (1) رواه البخاري في فضائل القرآن (4706) ومسلم في صلاة المسافرين (818). (2) «أضاة بني غفار»: مستنقع للماء، وهو اسم موضع بالمدينة المنورة، ينسب إلى بني غفار، لأنهم نزلوا عنده.

2 - أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف

فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» «1» رواه مسلم. الثالث: وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل عليه السلام على حرف واحد، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» «2». وحديث إنزال القرآن على سبعة أحرف متواتر، وقد نصّ الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلّام على تواتره «3»، وتتبع الحافظ ابن الجزري طرقه، وذكر الصحابة الذين رووه، وهم: عمر بن الخطاب، وهشام بن حكيم، وعبد الرحمن بن عوف، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وحذيفة بن اليمان، وأبو بكرة، وعمرو بن العاص، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب، وعمر بن أبي سلمة، وأبو جهيم، وأبو طلحة الأنصاري، وأم أيوب الأنصارية «3». رضي الله عنهم. 2 - أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف: أ- التخفيف على هذه الأمة المسلمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها؛ شرفا لها، وتوسعة ورحمة، وخصوصية لفضلها.

_ (1) رواه مسلم في صلاة المسافرين (820). (2) رواه البخاري في بدء الخلق (3047) ومسلم في صلاة المسافرين (819) (272). (3) النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (ص 21).

3 - معنى الأحرف السبعة والمقصود بها

ب- الإجابة لقصد نبيها محمد صلّى الله عليه وسلّم أفضل الخلق وحبيب الحقّ، حيث أتاه جبريل فقال: «إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أسأل الله معافاته ومعونته، إن أمتي لا تطيق ذلك» ولم يزل يردّد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف. روي عن ابن مسعود، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الكتاب الأوّل نزل من باب واحد وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف» «1». وقد أوضح الحافظ ابن الجزري الحكمة الكامنة في ذلك بقوله: «إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصّين بهم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى جميع الخلق، أحمرها وأسودها عربيها وعجميها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولا بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة، ومن لم يقرأ كتابا، كما أشار إليه صلّى الله عليه وسلّم، فلو كلّفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم، لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلّف المتكلف وتأبى الطباع» «2». ج- التدرّج بالأمة، لتجتمع في لهجاتها على لغة واحدة هي لغة قريش. 3 - معنى الأحرف السبعة والمقصود بها: المراد بالأحرف السبعة سبعة أوجه في الاختلاف ورسم القراءة واحد، وهو ما ذهب إليه أبو الفضل الرازي وابن قتيبة، وابن الطيّب، واستحسنه ابن الجزري، وهذه الأوجه هي: الأول: اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث مثل:

_ (1) رواه الطبري في تفسيره (1/ 53). (2) النشر في القراءات العشر؛ لابن الجزري (ص 22).

والمقصود من هذه الأحرف السبعة

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: 8] قرئ «لأمانتهم». الثاني: اختلاف تصريف الأفعال، من ماض ومضارع وأمر، مثل: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19] قرئ «ربّنا بعّد». الثالث: اختلاف وجوه الإعراب، مثل وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] قرئ «ولا يضارّ». الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة، مثل وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: 3] قرئ «والذكر والأنثى» بنقص «ما خلق». الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير، مثل وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] قرئ «وجاءت سكرة الحقّ بالموت». السادس: الاختلاف بالإبدال، مثل وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: 259] قرئ «ننشرها» بالراء. السابع: اختلاف اللغات- اللهجات- كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإظهار والإدغام، مثل وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [طه: 9] تقرأ بالفتح والإمالة في «أتي» ولفظ «موسي» «1». والمقصود من هذه الأحرف السبعة: 1 - أن جبريل نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها حرفا حرفا، وأنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ بها جميعا، وأقرأ الناس عليها، وقرءوا بها، فلا يسبقن إلى الذهن أن الأحرف السبعة راجعة إلى لغات الناس واختيارهم في ذلك كما يشاءون.

_ (1) اختاره الزرقاني في كتابه «مناهل العرفان» وساق أدلة ظاهرة في ترجيحه، وقد أضاف الدكتور صبحي الصالح- يرحمه الله- وجها آخر هو: الاختلاف في الحروف، إما بتغير المعنى دون الصورة، مثل (يعلمون وتعلمون) وإما بتغير الصورة دون المعنى، مثل (الصراط والسراط) وعدّ الاختلاف في تصريف الأفعال، والاختلاف في الإعراب عند الرازي، وجها واحدا. انظر مباحث في علوم القرآن.

4 - مصير الأحرف السبعة

2 - إن الحرف الواحد والأحرف السبعة للقرآن الكريم هي تنزيل من لدن حكيم حميد، وليس فيه لرسولنا صلّى الله عليه وسلّم إلا البلاغ المبين، وقد فعل صلّى الله عليه وسلّم وأدى الأمانة، وبلّغ الرسالة، على أكمل وجه. 3 - ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه، مهما كثر ذلك التعدّد والتنوع في أداء اللفظ الواحد، ومهما تعددت القراءات وطرقها في الكلمة الواحدة. 4 - لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة ليست قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع ذلك ابن مجاهد في القرن الرابع؛ ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده واعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءاتهم «1». 4 - مصير الأحرف السبعة: إن الأحرف السبعة باقية إلى يومنا هذا، وستبقى ما بقي القرآن؛ لأنها لا ترجع إلى الاختلاف في الألفاظ مع اتحاد المعاني، ولا اختلاف اللغات، وإنما ترجع إلى أمور بسيطة يحتملها جميعا رسم القرآن الكريم على كتبته الأصلية دون إعجام وحركات، ويرجّح ابن الجزري صواب هذا الرأي، لأن الأحاديث الواردة تشهد له وتدلّ عليه، فيقول: «والمصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على جبريل عليه السلام، متضمنة لها، لم تترك حرفا منها» «2».

_ (1) النشر في القراءات العشر نقلا من جواب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (ص 39). (2) النشر في القراءات العشر؛ لابن الجزري (ص 31).

الفصل الثاني الفرق بين الأحرف والقراءات

الفصل الثاني الفرق بين الأحرف والقراءات تمهيد: يحسن بنا قبل أن نذكر الفرق بين الأحرف والقراءات، أن نحدّد مصدر القراءات، وطريقة تلقيها وأخذها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونذكر من اشتهر بالقراءة من الصحابة والتابعين، وذلك في الفقرات التالية: 1 - مصدر القراءات: كالأحرف السبعة: قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمر ربه، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ على أصحابه ما نزل عليه من القرآن فربما قرأ ألفاظا منه بوجوه عديدة من النطق والأداء، مما يتعلق بأوجه في الإعراب جائزة أو بمد أو قصر، أو تخفيف وتثقيل أو نقل أو إبدال ونحو ذلك مما يتفق على وجه واحد من الكتابة في الجملة، ويختلف اختلافا ما في النطق والأداء، فكان يجيز للصحابة رضوان الله تعالى عليهم أن يقرءوا بأيّ هذه الوجوه شاءوا. ولم تكن هذه الوجوه من القراءات محصورة في سبع أو عشر قراءات، بل ربما بلغت أوجه القراءات في مجموعها أكثر من ذلك. 2 - إن المعول عليه في القرآن الكريم إنما هو التلقي والحفظ ثقة عن ثقة وإمام عن إمام إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد يقع خطأ في نسخ المصحف كما تقع أخطاء في طبعه، ولأن الأصل في القرآن أنه لا يكون منقوطا ولا مشكولا ليسع القراءات فلا بد من أخذ القراءة عن إمام. 3 - وقد اختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أخذ القرآن عنه صلّى الله عليه وسلّم، فمنهم

من أخذه عنه بحرف واحد، ومنهم من أخذه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرّقوا في البلاد، وهم على هذه الحال، فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم. 4 - وقد بعث عثمان رضي الله عنه بالمصاحف- حين كتبها زيد بن ثابت بأمره- إلى الأمصار والآفاق العديدة، وأرسل مع كل مصحف من توافق قراءته في الأكثر الأغلب، وهذه القراءات قد تخالف الذائع الشائع في القطر الآخر عن طريق المبعوث الآخر بالمصحف الآخر. 5 - كان المشتهرون من الصحابة بإقراء القرآن عثمان، وعليّ، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وسائر أولئك الذين أرسلهم عثمان رضي الله عنه وعنهم بالمصاحف إلى الآفاق الإسلامية. وكان المشتهرون من التابعين بإقراء القرآن سعيد بن المسيب، وعروة، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، وأخوه عطاء وآخرون. 6 - في آخر عهد التابعين انتبه كثير من علماء القرآن إلى ما أخذ يتسلل إلى الناس من اضطراب السلائق، ومظاهر العجمة وبوادر اللحن، فتجرد قوم منهم ونهضوا بأمر القراءات يضبطونها ويحصرونها ويعنون بأسانيدها كما فعلوا مثل ذلك في الحديث وعلم التفسير. وقد اشتهر ممن نهض بذلك أئمة سبعة حازوا ثقة العلماء والقراء في مختلف الأمصار وإليهم تنسب القراءات السبعة «1». وهم: نافع بن نعيم المدني المتوفى سنة (169 هـ)، وعاصم بن أبي النجود الأسدي، المتوفى سنة (127 هـ)، وحمزة بن حبيب الزيات الكوفي، المتوفى سنة

_ (1) كان أول من حصرهم هكذا الإمام أحمد بن موسى بن عباس حين أخذ على نفسه ألا يروي القرآن إلا على من اشتهر بالضبط والأمانة وطول العمر في ملازمة القراءة، واتفاق الأئمة على الأخذ عنه والتلقي منه.

الفرق بين الأحرف والقراءات

(156 هـ)، وابن عامر: عبد الله بن عامر اليحصبي الدمشقي، المتوفى سنة (118 هـ)، وابن كثير: عبد الله بن كثير الداري، المتوفى بمكة سنة (120 هـ)، وابن العلاء: أبو عمرو، زبّان بن العلاء البصري، المتوفى بالكوفة سنة (154 هـ)، والكسائي: أبو الحسن، علي بن حمزة الكسائي النحوي، المتوفى بالري سنة (189 هـ). وقد اعتمد علماء آخرون ثلاثة قراء آخرين، فأصبح الأئمة عشرة إليهم تنسب القراءات العشرة. وأولئك الثلاثة هم: أبو جعفر المدني، المتوفى بالمدينة سنة (132 هـ)، وابن إسحاق الحضرمي، المتوفى بالبصرة سنة (205 هـ)، وخلف بن هشام، المتوفى ببغداد سنة (229 هـ). الفرق بين الأحرف والقراءات: 1 - إن الأحرف ألفاظ متعدّدة تجمع على مصحف واحد، أما القراءات فلفظ واحد قد يقرأ على أوجه من القراءات. 2 - الحكمة من تعدّد الأحرف التيسير على الأمة، أما القراءات فقد تفيد كلّ قراءة فائدة زائدة ليست في الأخرى، كما في قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] قرئ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فالأولى معناها: ينقطع حيضهن، والثانية معناها: يغتسلن. وهي باقية ما بقي القرآن الكريم.

الفصل الثالث القراءات المتواترة والشاذة - ضابط القراءات المتواترة

الفصل الثالث القراءات المتواترة والشاذة- ضابط القراءات المتواترة 1 - أنواع القراءات: أنواع القراءات من حيث السند ستة: 1 - المتواتر: وهو ما رواه جمع عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم. مثاله: ما اتفقت الطرق في نقله عن السبعة وهذا هو الغالب في القراءات. 2 - المشهور: هو ما صحّ سنده، بأن رواه العدل الضابط عن مثله، وهكذا، ووافق العربية ووافق أحد المصاحف العثمانية، سواء كان من الأئمة السبعة أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين. وهذان النوعان يقرأ بهما مع وجوب اعتقادهما ولا يجوز إنكار شيء منهما. 3 - ما صح سنده: وخالف الرسم أو العربية، ولم يشتهر الاشتهار المذكور. مثاله قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] قرئ (من أنفسكم) بفتح الفاء. وهذا النوع لا يقرأ به ولا يجب اعتقاده. 4 - الشّاذّ: وهو ما لم يصح سنده، مثاله قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس: 92] ورد بطريق غير صحيح أنه قرئ (فاليوم ننحيك) بالحاء المهملة بدل الجيم.

2 - الفرق بين القراءات المتواترة والشاذة

5 - الموضوع: وهو ما ينسب إلى قائله من غير أصل، مثاله قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] افتري على أبي حنيفة أنه قرأ: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وكيف يخشى الخالق المخلوق؟ ولماذا؟ 6 - ما يشبه المدرج من أنواع الحديث: وهو ما زيد من القراءات على وجه التفسير، مثاله قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة: 89] قرأ ابن مسعود (ثلاثة أيام متتابعات). 2 - الفرق بين القراءات المتواترة والشاذة: (1) إن القراءات المتواترة صحيحة النسبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنقل الجمع الكثير عن الجمع الكثير حتى يبلغ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (2) يجب اعتقاد القراءات المتواترة بحيث يكفر جاحدها جملة، معاذ الله. (3) هذه القراءات هي التي يقرأ بها القرآن الكريم ويتعبد به في الصلاة وخارج الصلاة. (4) هذه القراءات يستعان بها على فهم القرآن الكريم وإدراك مراميه. أما القراءات الشاذة فعلى عكس ذلك. أ- فهي مما لا تصحّ نسبة القراءة بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ب- ويحرم اعتقادها، بل قد يكفر معتقدها إذا علم بطلان سندها. ج- لا يقرأ بها في الصلاة أو خارج الصلاة، ولا يتعبد الله تعالى بتلاوتها. د- لا يستعان بها على فهم القرآن، ولكن من المهم أن يعرف توجيهها، قال بعضهم: توجيه القراءات الشّاذّة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة «1». 3 - ضابط قبول القراءات: ضابط قبول القراءة أمور ثلاثة:

_ (1) انظر الإتقان للسيوطي (1/ 257).

1 - موافقة أحد المصاحف العثمانية: المنسوبة إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه لأمره بكتابتها، ولو تقديرا بغير صراحة. فيدخل فيها مثل قراءة ابن عامر في قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ [البقرة: 116] فإنه قرأ بحذف الواو أولها: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه. ويدخل فيها قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قراءة من قرأ ملك يوم الدين بدون ألف، فالرسم يحتمل ذلك تقديرا، فإن الألف قد تحذف في الكتابة. 2 - موافقة اللغة العربية ولو بوجه من وجوه اللغة سواء كان أفصح أم فصيحا، مجتمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضرّ مثله. فيدخل فيها قراءة أبي عمرو في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [البقرة: 54] فإنه قرأ بسكون الهمزة في بارِئِكُمْ. قال الحافظ أبو عمرو الداني: والإسكان أصح في النقل وأكثر في الأداء. ثم قال: وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها «1». 3 - صحة السند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله، وهكذا حتى ينتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن، غير معدودة عندهم من الغلط، أو مما شذّ به بعضهم «2». ويعتبر الإمام ابن الجزري: أن ما اشتهر واستفاض من القراءات موافقا لرسم

_ (1) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/ 237). (2) المصدر السابق (1/ 239).

ملاحظة

القرآن الكريم واللغة العربية ولو بوجه من الوجوه، هو في قوة المتواتر في القطع بقرآنيته، وإن كان غير متواتر في نفسه «1». ملاحظة: إنما اكتفى القراء في ضابط القراءة المشهورة بصحة السند مع موافقة الرسم والعربية ولم يشترطوا التواتر مع أنه لا بد منه في تحقيق القرآنية لأسباب ثلاثة: (1) إن هذا ضابط لا تعريف، والتواتر قد لوحظ في تعريف القرآن. والضابط ليس لبيان الماهية. (2) التيسير على الطالب في تمييز القراءات المقبولة من غيرها، فإنه يسهل عليه بمجرد رعايته لهذا الضابط أن يميز القراءات المقبولة من غير المقبولة. (3) إن هذه الأركان الثلاثة تكاد تكون مساوية للتواتر في إفادة العلم القاطع بالقراءات المقبولة. بيان هذه المساواة: أن ما بين دفتي المصحف متواتر ومجمع عليه من الأمة في أفضل عهودها وهو عهد الصحابة، فإذا صحّ سند القراءة ووافقت قواعد اللغة العربية ثم جاءت موافقة لخط هذا المصحف المتواتر، كانت هذه الموافقة قرينة على إفادة هذه الرواية للعلم القاطع وإن كانت آحادا «2».

_ (1) المصدر السابق (1/ 241). (2) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/ 240 - 241). ومناهل العرفان في علوم القرآن (1/ 420).

الباب الخامس المحكم والمتشابه والمبهم

الباب الخامس المحكم والمتشابه والمبهم الفصل الأول: تعريفات. الفصل الثاني: الآيات المتشابهة والحكمة منها. الفصل الثالث: افتتاحيات السور.

الفصل الأول تعريفات (المحكم والمتشابه والمبهم)

الفصل الأول تعريفات (المحكم والمتشابه والمبهم) تمهيد: قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [آل عمران: 7]. هذه الآية الكريمة من كتاب الله تعالى هي البداية والنهاية لفرع من علوم القرآن نجده يبدأ منها وينتهي عندها. فقد احتوت كلماتها على المحكم، ويقابله المتشابه، والراسخون في العلم يقابلهم الذين في قلوبهم زيغ، ومن هنا كانت البداية في تعريف كل من المحكم والمتشابه، لننتهي إلى فهم الآية وتفسيرها. أولا: تعريف المحكم: المحكم في اللغة: يستعمل بمعنى المتقن والممنوع. يقال: أحكم الأمر: أتقنه. ويقال: أحكم الرأي: أتقنه ومنعه من الفساد. والحكمة: ما يحيط بحنكي الفرس من لجامه، لتمنعه من الحركة والاضطراب. والقرآن الكريم: بهذا المعنى اللغوي محكم كلّه، أي: متقن ممتنع عن النقص والخلل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].

ثانيا: تعريف المتشابه

والمحكم في الاصطلاح: هو الذي يدلّ على معناه بوضوح لا خفاء فيه، أو هو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل «1»، أو هو ما كانت دلالته راجحة، وهو الظاهر والنص. والظاهر في اللغة: الواضح. وفي الاصطلاح: هو الذي ظهر المراد منه بنفسه؛ من غير توقّف على أمر خارجي؛ مثل قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275] فكلمة أحلّ وحرّم تدلّان على أن البيع حلال والربا حرام دون حاجة إلى قرينة خارجية. والظاهر لا يراد منه المقصود الأصلي من سياق الآية؛ وهو نفي المماثلة بين البيع والربا، ردا على المشركين الذين قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275]. والنص: هو ما دل بنفس لفظه وصيغته على المعنى، من غير توقّف على أمر خارجي، مثل آية وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275]. إذ هي نص في التفرقة بين البيع والربا. وهذا المعنى هو المقصود الأصلي من سياق الآية. ونستنتج من هذا أنّ النصّ أظهر في دلالته من الظاهر على معناه، وعند التعارض بينهما نرجّح النصّ على الظاهر. ثانيا: تعريف المتشابه: المتشابه في اللغة: المتماثل، يقال: أمور متشابهة، أي متماثلة يشبه بعضها بعضا، ويقال شابهه وأشبهه: أي ماثله إلى درجة الالتباس. قال الله تعالى في وصف رزق أهل الجنة: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة: 25] أي: متماثلا في الشكل والحجم، ومختلفا في الطعم. وقال الله تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [البقرة: 70] أي: تماثل والتبس، فلا ندري أي بقرة نذبح.

_ (1) والمحكم عند الأصوليين ما لا يتطرق إليه نسخ.

أنواع المتشابه

والقرآن الكريم بهذا المعنى اللغوي: محكم جلّه، وبعضه متشابه، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7]. والمتشابه في الاصطلاح: ما كانت دلالته غير واضحة. وقال بعضهم: المتشابه ما لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى بيان، فتارة يبين بكذا، وتارة بكذا، لحصول الاختلاف في تأويله. أنواع المتشابه: المتشابه على ثلاثة أضرب (أنواع): 1 - ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج الدابة وكيفيته، ونحو ذلك. 2 - وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة. 3 - وضرب متردّد بين الأمرين، يجوز أن يختصّ بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ رضي الله عنه: «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» . وقوله لابن عبّاس مثل ذلك «1». ثالثا: تعريف المبهم: المبهم في اللغة: المشتبه. يقال: أبهم الأمر؛ اشتبه، كاستبهم. والمبهم اصطلاحا: ما لا سبيل إلى معرفته إلا بتبيين المبهم عبارة أو إشارة. وللإبهام أسباب:

_ (1) انظر مفردات الراغب الأصفهاني (ص 444).

1 - أن يكون أبهم في موضع استغناء ببيانه في سياق الآية، كقوله تعالى: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار: 15] بيّنه بقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: 17]. 2 - أن يتعيّن لاشتهاره، كقوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] ولم يقل حواء، لأنه ليس غيرها. 3 - قصد الستر عليه، ليكون أبلغ في استعطافه، كقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ [البقرة: 108] والمراد بالسائلين هو رافع بن حريملة، ووهب بن زيد. 4 - ألّا يكون في تعيينه كبير فائدة، كقوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ [البقرة: 259] المراد به عزير، الذي مرّ على بيت المقدس. 5 - التنبيه على التعميم، وهو غير خاص، بخلاف ما لو عيّن، كقوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 100] قال عكرمة: أقمت أربع عشرة سنة أسأل عنه حتى عرفته، هو ضمرة بن العيص، وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا، فلما نزلت آية الهجرة خرج منها فمات بالتنعيم «1». 6 - تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم، كقوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور: 22]، والمراد أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. 7 - تحقيره بالوصف الناقص، كقوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] المراد به العاصي بن وائل السهمي.

_ (1) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (2/ 1089).

الفرق بين المتشابه والمبهم

الفرق بين المتشابه والمبهم: 1 - المتشابه ما يحتمل أوجها عديدة من التفسير ولا سبيل إلى معرفة حقيقته معرفة يقين. 2 - أما المبهم فيمكن معرفة حقيقته، ولكن لا سبيل إلى معرفته إلا بتبيين من المبهم عبارة أو إشارة.

الفصل الثاني الآيات المتشابهة، والحكمة منها

الفصل الثاني الآيات المتشابهة، والحكمة منها مدخل: سبق تعريف المتشابه اصطلاحا بأنه: ما احتمل أوجها من التأويل فيحتاج إلى بيان. ومنشأ التشابه يعود إلى خفاء مراد الشارع من كلامه، والخفاء يعود إلى أسباب ثلاثة: 1 - خفاء في اللفظ، مثل: فواتح السور، أو في المفرد بسبب اشتراكه بين عدّة معان، مثل العين: تأتي للجارحة، ونبع الماء، والذهب، والفضة، وغير ذلك. 2 - خفاء في المعنى، مثل: ما جاء في القرآن الكريم والسّنّة الشريفة وصفا لله تعالى أو لأهوال القيامة، أو لنعيم الجنة، وعذاب النار، فإنّ العقل البشري لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق، ولا بأهوال القيامة، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب النار، وكيف السبيل إلى أن يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه وما لم يكن فينا مثله ولا جنسه؟ 3 - خفاء في اللفظ والمعنى معا، مثل قول الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189] فقد كان العرب في الجاهلية إذا أحرموا وأرادوا دخول بيوتهم- وكانوا من أهل البيوت لا من أهل الخيام- نقبوا نقبا في ظهور بيوتهم يدخلون ويخرجون منه، وإن كانوا من أهل الأخبية خرجوا من خلف الأخبية، فنزل: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [البقرة: 189]. فمنشأ الخفاء في

اللفظ الاختصار، كأنّ المعنى: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم محرمين. ومنشأ الخفاء في المعنى: أنه لا بد من معرفة عادة العرب في الجاهلية، وإلا لتعذّر فهمه. فقد ظهر لنا بأنّ الخفاء الراجع إلى السبب الأول والثالث مما يمكن إزالته، وفهم المراد فيه. وما كان الخفاء فيه راجعا إلى السبب الثاني فذلك مما لا يمكن إزالته، ولا سبيل لتعيين المراد فيه. فالآيات المتشابهة تعود إلى التشابه والخفاء من جهة المعنى. نماذج من الآيات المتشابهة: قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7]. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 85]. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48]. وقال سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] .. وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ .. [الأنعام: 3]. وقال جل جلاله: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: 210]. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام: 158]. وقال سبحانه: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50] وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ

موقف العلماء منها

عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54 - 55]. تلك آيات من المتشابه من جهة المعاني في القرآن الكريم، ولا سبيل إلى معرفة حقيقة المراد بها. موقف العلماء منها: وللعلماء في تلك الآيات وأمثالها: موقف واحد من حيث الابتداء، ثم يختلفون بعد ذلك: 1 - الموقف الواحد: يتمثل في حمل المتشابه من الآيات على المحكم منها، أي: حمل الآيات التي تشير إلى تعيين جهة لله تعالى، أو مكان له سبحانه، أو تعيين معية حقيقية منه للعباد، أو إثبات النقلة والمجيء الحسّي لله تعالى، على المحكم من الآيات، من مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. كما يحمل على قوله سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 1 - 4]. فيقولون: ليس ظواهر هذه الآيات مرادة لله تعالى، بل يجب تنزيهه سبحانه عن تلك الظواهر المستحيلة عليه. 2 - موضع الاختلاف بعد ذلك: أ- من كان في خير القرون الثلاثة ومن بعدهم بقليل، ويلحق بهم من يقول بقولهم إلى يومنا هذا، ويسمّون السلف أو (المفوّضة): يقولون: نفوّض معاني هذه المتشابهات إلى الله تعالى، فيقولون في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ننزه الله تعالى عن الجلوس واتخاذ حيّز ومكان. ثم نفوّض المراد بذلك إلى الله تعالى. ب- من كان في أواخر القرن الرابع وما بعد، ويلحق بهم من يقول بقولهم إلى

يومنا هذا، ويسمّون الخلف أو (المؤوّلة)، يقولون: نؤوّل معاني هذه المتشابهات بالاستعانة بآيات أخرى وأساليب البيان، فيقولون في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] ننزّه الله تعالى عن الجلوس واتّخاذ حيّز ومكان، ثم نرى أن المراد بها إثبات الملك والسلطان التام لله تعالى، فإذا ملك أكبر المخلوقات- العرش- ملك ما دونه. والذي دفع الخلف إلى هذا التأويل وأمثاله هو اختلاط فكرة اليهود المجسّمة لله تعالى بأفكار بعض الزائغين من المسلمين، وتعلّق بعض آخر بظواهر النصوص، وفهمها فهما مستقلا عن غيرها، علما أنها تمثّل جميعها وحدة كاملة. قال الله تعالى في حق اليهود وأمثالهم: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]. ج- وذكر الإمام السيوطي مذهبا ثالثا سوى مذهبي السلف والخلف، وهو مذهب المتوسطين، فقال: وتوسّط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر، أو بعيدا توقّفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، كما في قوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له «1». قلت: وعلى هذا يتفق السلف والخلف والمتوسطون على مرادات واحدة في بعض الآيات المتشابهات، ففي قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 26 - 27] يبقى ذاته سبحانه. وفي قوله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النحل: 26] يقولون: أتى عذاب الله تعالى المستحقين له.

_ (1) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (1/ 651).

وفي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] يقولون: هو إله معبود بحق من أهل السماء والأرض. وفي قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ... [الواقعة: 85] يقولون: ملائكة الله تعالى ... وأمثالها. 3 - الفرق بين السلف والخلف: تبيّن أن السلف والخلف متّفقون على التأويل الإجمالي في آيات الصفات المتشابهة، ثم يفوّض السلف معانيها إلى الله تعالى. أما الخلف فيعمدون إلى تأويلها تفصيلا، اعتمادا على النصوص الأخرى وبيان لغة العرب. 4 - الرأي الراجح: الرأي الراجح هو رأي السلف، لأدلة منها: 1 - إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصحابته رضوان الله تعالى عليهم، وقفوا عند الآيات المتشابهات، ولم يؤوّلوها بأيّ تأويل قريب أو بعيد. 2 - إن المتشابه هو ما لا يوقف على المراد منه، فيكون التفويض هو الحقّ، قال الله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7]. والواو في (والراسخون) لابتداء الكلام واستئنافه. 3 - قال صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله تعالى عنها: « ... فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم ... » «1».

_ (1) رواه البخاري في التفسير (4274).

4 - أخرج الدارمي عن سليمان بن يسار: أن رجلا يقال له ابن صبيغ «1» قدم المدينة المنوّرة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمّى رأسه. وجاء في رواية أخرى فضربه حتى ترك في ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له أن يعود إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين «2». والدّبرة بفتحات ثلاث هي قرحة الدابة، والمراد هنا أنّه صيّر في ظهره من الضرب جرحا داميا كأنه قرحة في دابة. ورضي الله تعالى عن عمر فإن هذا الأثر يدلّ على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن، يكثر الكلام فيها، ويسأل الناس عنها، فأغلقه رضي الله عنه بتأديبه. 5 - سئل مالك- وقبله أم سلمة رضي الله عنها- عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5]. فغضب واحمرّ وجهه ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني «3». فأخرجوه من المسجد. قال الزرقاني: يريد رحمه الله تعالى أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدلّ عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا، لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله تعالى بالدليل القاطع، مثل قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]

_ (1) حقق الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن اسمه صبيغ بن شريك. والله أعلم. (2) رواه الدارمي في المقدمة (1/ 58). (3) رواه الإمام أحمد (4/ 12) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 150) وانظر الدر المنثور (3/ 91) تفسير سورة الأعراف، الآية 54، والإتقان (1/ 650).

الحكمة من ذكر المتشابه

والكيف مجهول: أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه ولا سلطان لنا به. والسؤال عنه بدعة؛ أي الاستفتاء عن تعيين هذا المراد على اعتقاد أنه ما شرعه الله بدعة، لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم اتباع المتشابهات. وما جزاء المبتدع إلا أن يطرد ويبعد عن الناس خوف أن يفتنهم لأنه رجل سوء، وذلك قوله: وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني. انتهى «1». الحكمة من ذكر المتشابه: 1 - رحمة الله بالإنسان، فقد أخفى سبحانه وقت الساعة (يوم القيامة) ليبقى الناس في كدح واستعداد، وليبتعدوا عن الخوف الذي يفتك بنفوسهم، ويقعدهم عن العمل. 2 - الابتلاء والاختبار، في إيمان البشر بالغيب ثقة بخبر الصادق، وتميّز المؤمنين المهديين عن الكفرة وأهل الزيغ والضلال 3 - إقامة الدليل على عجز الإنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه، إذا ما قورن علمه بعلم الله تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76]. 4 - كلما كان التشابه موجودا، كان الوصول إلى الحق أشق، وزيادة المشقة تقتضي زيادة الأجر والثواب. 5 - اشتمال القرآن الكريم على المحكم والمتشابه، يضطر الناظر فيه إلى البحث عن الأدلة، فيخلص الراسخ في العلم من ظلمة التقليد، ويتميز الخواص عن العوامّ، وتبرز مكانة العقل وأهمية إعماله في فهم آيات كتاب الله خاصة، وفي فهم دلائل قدرة الله في الكون عامة.

_ (1) مناهل العرفان؛ للزرقاني (2/ 184).

الفصل الثالث افتتاحيات السور

الفصل الثالث افتتاحيات السور افتتح الله تعالى السور في كتابه العزيز بعشرة أنواع لا يخرج شيء من السور عنها: 1 - الاستفتاح بالثناء عليه عزّ وجلّ، نحو الْحَمْدُ لِلَّهِ- تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وذلك في ست سور. 2 - الاستفتاح بحروف التهجي، نحو: (الم- المص- كهيعص-) وذلك في تسع وعشرين سورة. 3 - الاستفتاح بالنداء، نحو: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ، وذلك في عشر سور. 4 - الاستفتاح بالجمل الخبرية نحو: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وذلك في إحدى وثلاثين سورة. 5 - الاستفتاح بالقسم، نحو: وَالصَّافَّاتِ، وَالذَّارِياتِ وذلك في خمس عشرة سورة. 6 - الاستفتاح بالشرط، نحو: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وذلك في سبع سور. 7 - الاستفتاح بالأمر، نحو: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ- اقرأ وذلك في ست سور. 8 - الاستفتاح بالاستفهام، نحو: عَمَّ يَتَساءَلُونَ ... وذلك في ست سور.

معاني الأحرف المقطعة أوائل السور (حروف التهجي)

9 - الاستفتاح بالدعاء، نحو: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ... وذلك في ثلاث سور. 10 - الاستفتاح بالتعليل، نحو: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ... وذلك في سورة واحدة. معاني الأحرف المقطعة أوائل السور (حروف التهجي): اختلف العلماء في معاني تلك الأحرف على قولين: القول الأول: إن هذا علم مستور استأثر الله تعالى به؛ قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: في كلّ كتاب سر، وسرّه في القرآن أوائل السور. وقال عليّ رضي الله عنه: إن لكلّ كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه. وقال الشّعبيّ: إنها من المتشابه نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عزّ وجلّ. القول الثاني: إن المراد منها معلوم، وذكروا فيه واحدا وعشرين وجها، فمنها البعيد ومنها القريب، ونختار ثلاثة أوجه منها: أحدها: روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه سبحانه، فالألف من (الله) واللام من (اللطيف) والميم من (المجيد). أو الألف من (آلائه). واللام من (لطفه). والميم من (مجده). قال ابن فارس: وهذا وجه جيّد، وله في كلام العرب شاهد: قلنا لها قفي فقالت قاف. فعبّر عن قولها وقفت ب ق. وقال زهير:

الحكمة من افتتاحيات السور

بالخير خيرات وإن شرا فا ... ولا أريد الشرّ إلا أن تا أراد: وإن شرا فشرّ، وأراد: إلا أن تشاء. وفي الحديث «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» وهو أن يقول في «اقتل» اق، وكما قال صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالسيف شا» معناه: شافيا. ثانيها: إن الله تعالى أقسم بهذه الحروف، بأن هذا القرآن الذي يقرؤه محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الكتاب المنزل لا شكّ فيه، وذلك يدلّ على جلالة قدر هذه الحروف، إذ كانت مادة البيان، وما في كتب الله تعالى المنزلة باللغات المختلفة، وهي أصول كلام الأمم بها يتعارفون، وقد أقسم الله تعالى ب (الفجر) و (الطور)، فكذلك شأن هذه الحروف في القسم بها. ثالثها: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، وقال بعضهم فيما حكى الله تعالى عنهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26]. فأنزل الله تعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجّبهم سببا لاستماعهم، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب، وتلين الأفئدة. الحكمة من افتتاحيات السّور: 1 - إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتحدّى المشركين بالقرآن الكريم مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلّت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم: إن هذا القرآن إنما تركّب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها، فلو كان هذا القرآن من قبل البشر لوجب أن يقدروا على الإتيان بمثله. 2 - إن الله تعالى افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه للدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة، لا على معنى واحد، فتكون هذه الحروف جامعة لأن تكون افتتاحا، وأن يكون كلّ واحد منها مأخوذا من اسم من أسماء الله تعالى، وأن يكون

الله تعالى قد وضعها هذا الموضع فسمّي بها. 3 - إنها مأخوذة من صفات الله في إنعامه وإفضاله ومجده، للدلالة عليها والتعريف بها.

الباب السادس النسخ

الباب السادس النسخ الفصل الأول: معنى النسخ، وجوازه. الفصل الثاني: وقوع النسخ في القرآن، وأنواع النسخ.

الفصل الأول النسخ (معناه - جوازه - أهميته)

الفصل الأول النسخ (معناه- جوازه- أهميته) 1 - معنى النسخ 1 - في اللغة: يطلق النسخ في اللغة ويراد به معنيان: أ- النقل: أي نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه، ومنه: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم بقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] أي ننقل أعمالكم إلى الصحف، ومن الصحف إلى غيرها. ب- الإزالة: بمعنى رفع الشيء وإعدامه، ومنه: نسخت الشمس الظل إذا أزالته، ونسخت الريح آثار القدم أي أعدمته. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم بقوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: 52] أي يزيل ويعدم وساوس الشيطان وتزييفه. 2 - في الاصطلاح: عرف الأصوليون والفقهاء النسخ بقولهم: رفع الشارع حكما شرعيا بدليل شرعي متراخ عنه. أي رفع استمرار العمل بالحكم السابق، والعمل بالحكم الثابت آخرا. هذا التعريف يتناول النسخ الواقع في الكتاب وفي السنة، وظاهره يفيد أن النسخ لا يتوجه إلا إلى الحكم فقط، ولا يتوجه إلى نسخ التلاوة. ومرادنا هنا النسخ في القرآن وهو: رفع الحكم الثابت بالنص القرآني، أو رفع تلاوة النص والحكم الثابت به معا.

2 - جواز النسخ

وعلى هذا يكون معنى نسخ تلاوة النص: نسخ حكم من أحكامه، وهو رفع الإثابة على ترتيله وصحة الصلاة به، وغير ذلك من وجوه الأحكام للنص القرآني. 2 - جواز النسخ: أجمع المسلمون على جواز النسخ مطلقا. واستدلّوا على ذلك بالنقل والعقل: أ- أما النقل: فمنه قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106] ننسها: نمحها من القلوب فهي صريحة بجواز النسخ، بل هي قد نزلت ردّا على الذين طعنوا في الشريعة الإسلامية بوقوع النسخ فيها. وقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل: 101] والتبديل هو رفع لأصل وإثبات لبدل، وهذا هو معنى النسخ. والآية صريحة في جواز ذلك، بل هي تنكر على من يتهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالكذب بسبب وقوع ذلك في شرعه. وفي الكتاب والسنة نصوص كثيرة تدلّ على جواز النسخ. ب- وأما العقل: فهو أن العقل لا يمنع جوازه بل يقتضيه. وذلك لأن الله تعالى يشرّع الأحكام لتحقيق مصالح العباد، ومصالح العباد قد تختلف باختلاف الأزمان، وليس مما يمنعه العقل أن يعلم الله تعالى المصلحة في عمل في زمن من الأزمان ويعلم عدم المصلحة فيه في زمن آخر، وعلم الله تعالى في الحالتين قديم، فيأمر به في الزمن الأول وينهى عنه في الزمن الآخر، وهو سبحانه وتعالى أعلم بمصالح العباد. 3 - أهميته: ومما يدلّ على أهمية هذا العلم من علوم الكتاب العزيز، وعظيم شأنه؛ اعتناء

العلماء به وتأليفهم فيه، نذكر منهم «1»: 1 - قتادة بن دعامة السدوسي، وهو تابعي متوفى سنة (188 هـ). 2 - أبو عبيد القاسم بن سلّام، المتوفى سنة (223 هـ). 3 - أبو داود السجستاني، المتوفى سنة (275 هـ). 4 - مكي بن أبي طالب، المتوفى سنة (313 هـ). 5 - أبو جعفر النحّاس، المتوفى سنة (338 هـ). 6 - هبة الله بن سلام، المتوفى سنة (410 هـ) «2». 7 - ابن العربي، صاحب كتاب «أحكام القرآن» المتوفى سنة (546 هـ). 8 - ابن الجوزي المتوفى سنة (597 هـ).

_ (1) انظر البرهان؛ للزركشي (2/ 28). (2) وله طبعة أنيقة بتعليق الدكتور مصطفى البغا، نشر دار اليمامة.

الفصل الثاني (وقوع النسخ في القرآن - أنواعه)

الفصل الثاني (وقوع النسخ في القرآن- أنواعه) 1 - وقوع النسخ في القرآن الكريم: لقد ثبت عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين القول بوقوع النسخ في القرآن الكريم، ولذلك قالوا: لا يجوز لأحد أن يفسّر كتاب الله تعالى إلا بعد أن يعرف الناسخ منه والمنسوخ، ولم يقبلوا قول من جهل النسخ فيه أو أنكره، بل شدّدوا النكير عليه. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أبيّ، وأقضانا عليّ، وإنا لندع من قول أبيّ، وذاك أن أبيّا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال الله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106] «1». فهذا الحديث يدلّ على أن عمر رضي الله عنه استدلّ بالآية على وقوع النسخ في القرآن، وأنه ينكر على أبيّ رضي الله عنه عدم تركه شيئا سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروي أن عليّا رضي الله عنه مرّ على قاض فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال عليّ رضي الله عنه: هلكت وأهلكت «2». وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] قال: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره وحرامه وحلاله «2».

_ (1) رواه البخاري في التفسير (4211). (2) البرهان (2/ 29).

فهذه النقول وغيرها الكثير تثبت القول بوقوع النسخ في القرآن الكريم، وإليك بعض «1» الأمثلة التي وقع فيها النسخ فعلا: 1 - قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 180]. فالآية تفيد وجوب الوصية على من حضرته الوفاة وله من يوصى له من الوالدين أو الأقربين. والجمهور على أن حكم هذه الآية منسوخ بآيات المواريث التي بيّنت لكل من الوالدين والأقربين حقّه ونصيبه من الميراث «2». 2 - قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء: 15]. فالآية تدلّ على أن عقوبة من ثبت زناها الحبس في البيوت حتى الموت، وقد كان الحكم كذلك في ابتداء الإسلام، حتى نسخ بوجوب الجلد بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2]. والجلد الثابت في الآية بالنسبة للبكر رجلا كان أو امرأة، وأما المحصن من كل منهما فالعقوبة هي الرجم والتي ثبتت بأدلة أخرى «3». 3 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة: 12].

_ (1) إذا أردت مزيدا من الأمثلة فانظر الإتقان: (2/ 708) وما بعدها فقد ذكر واحدا وعشرين مثالا، وانظر مناهل العرفان فقد أتى بها وعلّق عليها: (2/ 151) وما بعدها. (2) انظر تفسير ابن كثير (1/ 211). (3) انظر البخاري: المحاربين، باب: رجم المحصن، مسلم: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى.

2 - أنواع النسخ في القرآن

فقد كان واجبا على الواجد أن يتصدّق بصدقة قبل أن يخاطب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [المجادلة: 13]. ويروى عن عليّ رضي الله عنه أنه ما عمل بها غيره، وأنها لم تكن إلا ساعة من نهار. 2 - أنواع النسخ في القرآن: والمراد أنواع النسخ من حيث رفع الحكم أو التلاوة أو رفعهما معا، وهو على هذا ثلاثة أنواع: النوع الأول: نسخ التلاوة والحكم معا، وذلك بأن يبطل العمل بالحكم الثابت بالنص، إلى جانب حذف النص من القرآن، وعدم إعطائه حكم التلاوة من حيث صحة الصلاة به والتعبد بتلاوته، وبالتالي عدم إثباته في المصحف حين جمع القرآن. ومثال هذا النوع: ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: «عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهنّ فيما يقرأ من القرآن» «1». فمن الواضح في هذا المثال أن الحكم، وهو التحريم بعشر رضعات معلومات، منسوخ. وكذلك هذه الآية منسوخة التلاوة، ولذا لم يكتبها الصحابة رضي الله عنهم في المصحف حين جمعوا القرآن. والمراد بقولها «وهن مما يقرأ من القرآن» أن التلاوة قد نسخت ولم يبلغ ذلك كلّ الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتوفي وبعض الناس يقرؤها. النوع الثاني: نسخ الحكم فقط وبقاء التلاوة، أي إنه يبطل العمل بالحكم

_ (1) مسلم: الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات (1452).

الثابت بالنص، مع بقاء النص مما يتلى من القرآن ويتعبّد بتلاوته، ويثبت بين دفتي المصحف. ومثال هذا النوع: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240]. فإن هذه الآية مثبتة في المصحف، وتلاوتها متواترة على أنها قرآن يتعبد بتلاوتها وتصحّ بها الصلاة، مع أن الحكم الثابت بها، وهو وجوب التربّص حولا كاملا لمن توفي عنها زوجها، منسوخ بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234]. فقد أوجبت على المتوفى عنها زوجها أن تعتدّ أربعة أشهر وعشرة أيام، وقد ثبت أنها متأخرة بالنزول عن الأولى، فدلّ ذلك على أن حكم الأولى منسوخ، وإن بقيت تلاوتها. النوع الثالث: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، أي إن الحكم الثابت بالنص يبقى العمل به ثابتا ومستمرا، وإنما يجرّد النص عما يثبت للقرآن المتلو من أحكام، كالتعبّد بتلاوته وصحة الصلاة به وغير ذلك، ولا يثبت في المصحف. ومثال هذا النوع: ما رواه البخاري ومسلم «1» وغيرهما عن عمر بن الخطاب وصحّحه ابن حبّان، عن أبيّ بن كعب، رضي الله عنهما، أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم». والمراد بالشيخ والشيخة الثّيّب من الرجال والنساء، وهذا الحكم، وهو رجم الثّيّب من الرجال والنساء إذا زنى ثابت ومحكم ومعمول به. علما بأن هذه الآية لم

_ (1) رواه البخاري في المحاربين (6441) دون ذكر لفظ الآية المنسوخة. وقد وردت عند مالك في الموطأ (2/ 824) والحاكم في المستدرك (4/ 360).

فائدة

يبق لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء، ولا تجوز بها الصلاة، ولا يتعبّد بتلاوتها. فائدة: بالغ بعض الكتّاب ممن تصدوا لدراسة الناسخ والمنسوخ، فعدّوا أيّ زيادة للبيان أو التقييد تجيء في إحدى الآيات؛ ناسخة للآية التي ورد فيها الحكم بلفظ العموم أو الإطلاق، ورفض علماء الأصول اعتداد هذا نسخا، واعتبروا بيان العموم أو تقييد المطلق من قبيل التفصيلات التي توضّح الحكم. ويذكر الزركشي أمثلة عن مغالاة بعض العلماء في القول بفكرة النسخ، فيقول: ومن ظريف ما حكي في كتاب هبة الله بن سلّام الضرير: أنه قال في قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8]. منسوخ من هذه الجملة وَأَسِيراً والمراد بذلك أسير المشركين، فقرئ الكتاب عليه وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت: أخطأت يا أبت! في هذا الكتاب! فقال لها: وكيف يا بنية؟! قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعا «1»! والحقّ أنّ النسخ لا بد فيه من نقل صحيح وصريح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت آية كذا. أو يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به، مع علم التاريخ؛ ليعرف المتقدم والمتأخر. والأصل في الآيات القرآنية كلها الإحكام لا النسخ، وقد حصر العلماء القول بالنسخ في آيات معدودة، حدّدها السيوطي بتسع عشرة آية «2».

_ (1) البرهان (2/ 29). (2) الإتقان للسيوطي (2/ 708 - 712).

الباب السابع إعجاز القرآن

الباب السابع إعجاز القرآن الفصل الأول- تمهيد. - تعريفه. - دليله. الفصل الثاني- وجوه إعجاز القرآن: 1 - الوجه العام ومظاهره: أولا: الإخبار عن المغيبات. ثانيا: سمو تشريعه وشموله. ثالثا: الإعجاز العلمي. 2 - الوجه الخاص (الإعجاز البلاغي)، ومظاهره: أولا- الخصائص المتعلقة بأسلوب القرآن. ثانيا- الكلمة القرآنية. ثالثا- الجملة القرآنية وصياغتها. رابعا- جلال الربوبية في آياته. خامسا- التصوير الفني في القرآن. الفصل الثالث- أشهر الذين كتبوا في الإعجاز.

الفصل الأول إعجاز القرآن (تعريفه - دليله)

الفصل الأول إعجاز القرآن (تعريفه- دليله) تمهيد: بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وجعله خاتم النبيين والمرسلين، وأيّده بمعجزات باهرة كان أعظمها وأدومها معجزة القرآن الكريم، تلك المعجزة الخالدة التي كانت معجزة العقل البشري في أرقى تطورات نضجه ونموه، فبينما كان تأييد الله عزّ وجلّ لرسله السابقين بآيات كونية تبهر الأبصار، ولا سبيل للعقل في معارضتها- كمعجزة اليد والعصا لموسى عليه السلام، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى عليه السلام- كانت معجزة محمد صلّى الله عليه وسلّم في عصر مشرف على العلم معجزة عقلية، تحاجّ العقل البشري وتتحداه إلى الأبد، معجزة لها صلة بوظيفة النبوة وأهداف الوحي ومعنى الشريعة، معجزة تدخل في صميم كتاب الرسالة نفسها، وهي هذا الكتاب الذي تطّلع عليه الأجيال في كل زمن، ويتلونه في كل عصر، فيلمسون فيه البرهان العظيم على إعجازه، حيث يرون أن العقل الإنساني- على تقدمه- لم يعجز عن معارضته لأنه آية كونية لا قبل له بها، وإنما لعجز وقصور ذاتي في العقل نفسه، فيكون هذا دليلا واعترافا على أنه وحي الله تعالى، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم صادق في رسالته، لأنه هو الذي بلّغه إلينا عن ربه. وهذا المعنى هو ما أشار إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ما من الأنبياء نبي إلا

1 - تعريفه

أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1». وإنما يكون أكثر الأنبياء تابعا لأن معجزته تشاهد بالبصيرة، ومعجزات غيره تشاهد بالبصر، وما يشاهد بالبصيرة باق يشاهده كلّ من جاء باستمرار. ولما كان القرآن المعجزة الخالدة الكبرى؛ كان الحديث عن إعجاز القرآن من أهم الأبحاث المتعلقة بالقرآن وآدابه وعلومه، وهو لبها وجوهرها، وأساسها وعمدتها، على أن الحديث عن الإعجاز ضرب من الإعجاز، لا يصل الباحث فيه إلى سرّ منه، حتى يجد وراءه جوانب أخرى يكشف عن سرّ إعجازها الزمن، فهو كما يقول الرافعي: وما أشبه القرآن الكريم- في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه- بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة وتعاوروه من كل ناحية، وأخلقوا جوانبه بحثا وتفتيشا، ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقا جديدا، ومراما بعيدا، وصعبا شديدا، وإنما بلغوا منه- إذ بلغوا- نزرا تهيأت لضعفه أسبابه، وقليلا عرف لقلته حسابه، وبقي ما وراء ذلك من الأمر المتعذر الذي وقفت عنده الأعذار، والابتغاء المعجز الذي انحط عنده قدر الإنسان، لأنه مما سمت به الأقدار «2». وصدق الله العظيم إذ يقول: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41 - 42]. 1 - تعريفه: الإعجاز- لغة- إثبات العجز، وهو الضعف والقصور عن فعل الشيء، وهو

_ (1) رواه البخاري في فضائل القرآن (4696). (2) إعجاز القرآن للرافعي (ص 157).

2 - دليل الإعجاز في القرآن

ضد القدرة، ومنه المعجزة، وهي- اصطلاحا- أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة. والإعجاز هو: ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولتها، على شدة الإنسان واتصال عنايته في ذلك، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه. وإعجاز القرآن: معناه: إظهار صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة- وهي القرآن- وعجز الأجيال بعدهم عن ذلك. وذلك أن القرآن قد سما في علوه إلى شأو بعيد بحيث تعجز القدرة البشرية عن الإتيان بمثله، سواء كان هذا العلو في بلاغته، أو تشريعه، أو مغيباته. 2 - دليل الإعجاز في القرآن: قام محمد بن عبد الله- صلوات الله وسلامه عليه- يعرض دعوته على الناس، ويخبرهم أنه رسول الله إليهم جميعا، ولما سألوه أن يأتيهم بمعجزة تدلّ على صدق دعوته، وتبرهن على صحة رسالته، أجابهم بما أخبره به الله تعالى، وأبان لهم أن معجزته الواضحة، وآيته الساطعة، ودليله الصادق، الذي يقوم مقام معجزات من سبقه من الأنبياء هو ما يتلوه عليهم من قرآن: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 50 - 51] ويتجلّى دليل الإعجاز بالمظاهر التالية: 1 - تحدي المشركين العرب أن يعارضوه. لما طلب هؤلاء المعجزة، وجاءهم ذاك الجواب من رب العزة لم يذعنوا للحق

الذي عرفوه: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] ولم يكتفوا بذلك بل مالوا إلى العناد والمكابرة، غافلين عن العاقبة التي ستكشف حالهم، وقالوا: قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 30]. وهنا حان الوقت لتحطيم هذا العناد وكشف هذه المواربة، وأخذ القرآن يتحداهم بدعواهم نفسها: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطور: 33 - 34] فوجهم هؤلاء أمام هذا التحدي الصارم الذي لم يتوقّعوه، وسقط في أيديهم. ثم أخذ القرآن يبكّت عليهم دعواهم، وينوّع لهم في أشكال من التحدي: يقرّعهم تارة ويحمّسهم أخرى، ويبالغ في تحديهم وإثبات عجزهم: فيتدرج من التحدي بالإتيان بمثل القرآن، إلى التحدي بعشر سور مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 13 - 14]. ثم يتدرج فيتحدّاهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 38]. بل إن لم تكن مثله فلتكن شبيهة به، قريبة منه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 23]. كل ذلك مع السماح لهم أن يستعينوا بمن شاءوا وأرادوا ممن يتصورون لديهم العون، ويتوقعون منهم النصرة. ثم يصل التحدّي غايته، ويبلغ منتهاه، ليدفعهم بالحقيقة التي لا مرية فيها،

ويقطع عليهم الطريق ويسد في وجههم السبل، فيسجل عليهم العجز ولو اجتمع لذلك الجن والإنس: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88]. بل يصل الأمر إلى صراحة في التحدي لا يمكن أن يجرؤ عليها بشر ذو عقل- لو كان هو الذي يقول ذلك- فينفي عنهم القدرة على سبيل التأييد: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 24]. 2 - عجزهم عن المعارضة واضطراب موقفهم: كان هذا التحدي والعرب في ذروة مجدهم فصاحة وبلاغة، ومعرفة بفنون القول وأساليب الكلام، فكان مقتضى ذلك- وهم أكثر ما يكونون حرصا على إطفاء نوره وإخفاء أمره- أن يهبوا لمعارضته، ويدفعوا بذلك خطره عنهم، ويمحوا الخزي الذي ألصقه بهم- لو كان ذلك في مقدورهم- كيف لا، وهم الذين قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا؟ ولكن شيئا من هذا لم يحصل، ولم ينقل عن واحد منهم أنه استجاب لتحدي القرآن في محاولة ما، أو حدّث نفسه بشيء من ذلك. وإنما الذي حصل هو أنهم تعدوا هذا وعدلوا إلى مسالك شائكة، وانتهجوا أساليب ملتوية، فما أن قرع القرآن أسماعهم بهذا التحدي الصارخ حتى اضطربوا في قولهم، وحاروا في أمرهم، ولجؤوا إلى وصفه بالشعر تارة، وبالسحر أخرى، وبالكهانة مرة، وبالجنون حينا، وغير ذلك مما اضطربوا فيه وتلجلجوا وسجله عليهم القرآن: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5]. وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: 30]. أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36]. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الحاقة: 41 - 43].

ولما كانت أباطيلهم هذه بادية العوار- كما فندها القرآن- ظاهرة في إعلان ضعفهم وعجزهم عن مقارعة الحجة بالحجة، وهروبا صريحا من التحدي، لم يجدوا بدا من سلوك الطريق الصعب، واللجوء إلى القوة، ولو كلفتهم الغالي والنفيس، وحكمت السيوف في أعناقهم، وأفقدتهم الأزواج والأولاد، وأباحت دماءهم وأموالهم. وكل هذا قد حصل، وآثروه- وهم أكثر الناس حمية وأنفة- على أن يتصدوا لمعارضة القرآن، وما ذلك إلا لأنهم علموا أنه ليس بمقدورهم الإتيان بمثله، وإلا لبادروا إليه ولكان أهون عليهم وأقل كلفة. وإذا ثبت أنه ليس في مقدورهم ثبت- من باب أولى- أنه ليس في مقدور غيرهم، وبالتالي ثبت أنه ليس من كلام البشر. هذا ولقد استمرّ هذا التحدّي يقرع آذان الأدباء والشعراء والبلغاء- على اختلاف نحلهم ومذاهبهم- في كل عصر وقرن، واستمر هذا الوجوم أمام شموخ القرآن في إعجازه، ولم يجرؤ أحد- ممن عنده أثارة من علم أو فهم- على أن يتصدى لهذا الشموخ، وهذا دليل مادي ملموس من أقوى دلائل الإعجاز في القرآن، وما ورد من محاولات سخيفة في معارضته فإنما هو هذيان نجلّ المقام عن ذكره. 3 - سماعه حجة: من دلائل الإعجاز في القرآن أن الله سبحانه وتعالى جعل سماعه حجّة، قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة: 6] فلولا أن سماعه حجة لما وقف أمنه على سماعه، ولا يكون حجة إلا إذا كان معجزة. 4 - تأثيره النفسي: لعل من أقوى دلائل الإعجاز في القرآن هو ذاك التأثير الذي يبعثه في النفوس،

فإنه لا يكاد يطرق السمع حتى يخلص إلى القلب، وتجد منه النفس لذة وحلاوة، لا تجدهما في غيره من الكلام، يستوي في ذلك أصحاب القلوب القاسية وذوو الأفئدة الخاشعة، فلقد سحر القرآن العرب منذ اللحظة الأولى، فآمن منهم من شرح الله صدره للإسلام، وكفر منهم من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة. ولا أدل على هذا التأثير النفسي الذي يؤكد إعجاز القرآن من ذلك القول الذي كان يتواصى به المشركون، وحكاه عنهم القرآن: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26]. ورغم ذلك فقد كانوا ينشدون إلى بيت محمد بن عبد الله- صلوات الله وسلامه عليه- ليستمعوا لهذا القرآن الذي أخذ بمجامع قلوبهم وسحر عقولهم، ولا غرابة وهو الكلام المنزل الذي يقول الله تعالى فيه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] وقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23]. والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة جدا، وليس غريبا عنك قول الوليد بن المغيرة فيه: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. وقول عتبة بن ربيعة: إني سمعت قولا، والله ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. فقال له القوم: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم «1»، وما إسلام عمر «2» رضي الله عنه وأمثاله عنك ببعيد.

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (2/ 506) وانظر السيرة النبوية لابن هشام (1/ 72، 78) والإتقان؛ للسيوطي (2/ 1004). (2) انظر قصة إسلام عمر في أسد الغابة (4/ 54) وشرح المواهب (1/ 317).

الفصل الثاني وجوه الإعجاز في القرآن

الفصل الثاني وجوه الإعجاز في القرآن لقد كثر القول بين العلماء في وجوه الإعجاز في القرآن وتنوّع هذه الوجوه وتعددها، وأيا كان ذلك القول فالقرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى، فهو معجز في ألفاظه وأسلوبه، ومعجز في بيانه ونظمه، ومعجز بعلومه ومعارفه، ومعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان. والباحث المنصف الذي يطلب الحق إذا نظر في القرآن- من أي النواحي أحبّ- وجد الإعجاز فيه واضحا جليا. ويمكننا أن نبحث في إعجاز القرآن من وجهين: وجه عام ووجه خاص. 1 - الوجه العام وهو الإعجاز الذي يدركه العقلاء من الناس كلهم، عربيهم وأعجميهم، وتكامل بتكامل القرآن، ويكون أكثر وضوحا وبيانا إذا أخذ القرآن بمجمله، بمجمل ما فيه من إخبار بالغيب، وما اشتمل عليه من تشريع دقيق صالح لكل زمان ومكان، وما أشار إليه من علوم كونية في خلق الكون والإنسان. ويتجلى هذا الوجه من الإعجاز بالمظاهر التالية: أولا- الإخبار عن المغيبات: ويتحقق هذا الوجه من الإعجاز بناحيتين: أ- الإخبار عن الماضي: من مظاهر الإعجاز في القرآن إخباره عن الماضي

السحيق من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى مبعثه صلّى الله عليه وسلّم، فقد أتى بكثير من الأخبار التاريخية التي ضاعت صورتها الحقيقية في أخلاط التاريخ القديم للأمم، وكثير من هذه القصص وتلك الأخبار لم يكن يعرفه العرب، ولم يوجد إلا بعض منه في الكتب السماوية السابقة على اختلاف فيما بينها، فأتى القرآن وتحدّث بدقة عن ذلك، وحكى هذه الأخبار حكاية من شاهدها وحضرها، ولم يوجد في التاريخ شيء يصح الاعتماد عليه- أو لا يصح- يخالف ما جاء في القرآن من هذه الأخبار. بل قد جاءت دلائل الآثار الأرضية- بعد قرون من نزوله- فصدقت حقائقها- التي توصل إليها علماء الآثار- الصور الخبرية التي جاءت في القرآن الكريم. ومثال ذلك: كشف علم التاريخ حديثا أن بني إسرائيل- في دور من أدوار حلولهم مصر القديمة- استحسنوا العقيدة التي كانت تقول: إن العزيز ابن الله، وهذه الحقيقة التاريخية لم تكن معروفة لدى بني إسرائيل أو غيرهم عند نزول القرآن، ولكنا نجده يقررها بقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] حتى قال اليهود عند سماع هذه الآية: إن القرآن يقول لنا ما لم نقل في كتبنا ولا في عقائدنا «1». ب- الإخبار عن المستقبل: لقد أخبر القرآن الكريم عن أمور أنها ستقع فكانت كما أخبر بها، وواضح أن ذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه، وهذا النوع من الأخبار في القرآن كثير، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران: 12]. نزلت في بني قينقاع حين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يغرنّك من نفسك أنك قاتلت نفرا من قريش أغمارا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم

_ (1) انظر الدر المنثور (4/ 172).

ثانيا - سمو تشريعه وشموله

تلق مثلنا «1». وقد حصل ما وعدهم به القرآن وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغلبهم وأجلاهم. وقوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] نزلت في طائفة من الأعراب تخلّفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد، وقد دعاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقتال أهل فارس «2». ثانيا- سمو تشريعه وشموله: من وجوه الإعجاز ومظاهره البارزة في القرآن ما تضمنه هذا الكتاب من التشريع العظيم الدقيق، المتعلق بشتى مرافق الحياة الخاصة والعامة، يتناولها منذ البداية حتى النهاية، لا يدع جانبا من جوانبها إلا ويضع له من الحلول والتنظيمات ما هو فريد في بابه، لم يسبق إليه شرع قبله ولا لحق به تقنين بعده، يدل على ذلك: أن هذا التشريع- كان ولا يزال- يحسب حسابه في كل مجال يبحث فيه شأن التشريع والتقنين، ويضعه علماء هذا الفن في مقدمة المصادر التي يستفاد منها ويعتمد عليها. وهذا كله رغم تباعد الزمن ومرّ الدهور على عصر صدوره، علما بأن صاحبه- الذي ينسب إليه- لم يدرس في جامعة ولم يتخرج في كلية، كما لم يعهد عنه أنه توفر على دراسة تشريع أو اجتمع بباحث، وبعض هذا آية الإعجاز فكيف إذا اجتمع؟! ويتجلى هذا المظهر من الإعجاز التشريعي في: أ- أن القرآن يبدأ بتربية الفرد- لأنه لبنة المجتمع- ويقيم تربيته على تحرير وجدانه وتحمله التبعة، يحرر وجدانه بعقيدة التوحيد التي تخلصه من سلطان الخرافة والوهم، وتجعله يشعر بأنه مخلوق لله، يرجع إليه ويفنى كما يوجد بمشيئته: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3].

_ (1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 158) وعزاه للطبري والبيهقي. (2) انظر الدر المنثور (7/ 520).

وإذا صحت عقيدة المسلم أخذ بشرائع القرآن في الفرائض والعبادات التي يراد بها صلاح الفرد، وهي في الوقت نفسه ذات علاقة وثيقة بصلاح المجتمع، وحسب المسلم في تربيته أن يقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم الواحد لتمتزج حياته بشرع الله، ويتخيل الوازع الأعلى نصب عينيه ما بين كل صلاة وصلاة: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]. وناهيك بالزكاة التي تقتلع من النفس جذور الشح: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها .. [التوبة: 103]. والحج الذي يجمع المسلمين على صعيد واحد: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج: 28] والقيام بهذه العبادات يربي المسلم على الشعور بالتبعة الفردية التي يقررها القرآن، وينوط بها كل تكليف من تكاليف الدين: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21]. ب- ومن تربية الفرد ينتقل القرآن إلى بناء الأسرة، لأنها نواة المجتمع، فشرع الزواج استجابة لغريزة الجنس، وإبقاء على النوع الإنساني في تناسل طاهر ونظيف، وأقام الروابط بينهما على أساس من الود والرحمة، ومراعاة خصائص كل من الرجل والمرأة: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21]. ج- ثم يقرر نظام الحكم الذي يقوم على أساس الشورى والمساواة ومنع السيطرة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38]. رائده العدل: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]. وطريقه العمل بشرع الله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 49]. والعدول عن حكم الله كفر وفسوق وظلم: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: 47].

ثالثا - الإعجاز العلمي

د- ثم يأتي تقرير الأحكام التي من شأنها صيانة الكليات الخمس الضرورية للحياة الإنسانية: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. وعلى أساس هذه الصيانة رتبت العقوبات المنصوصة التي تعرف في الفقه الإسلامي بالجنايات والحدود. هـ- ثم يقرر القرآن العلاقات الدولية في حالتي الحرب والسلم بين المسلمين وجيرانهم أو معاهديهم، وهي أرفع معاملة عرفت في تاريخ الحضارة الإنسانية، قال تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61]. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة: 8]. وخلاصة القول: أن القرآن دستور تشريعي كامل، يقيم الحياة الإنسانية على أفضل صورة وأرقى مثال، وسيظل تشريعه وجها من وجوه إعجازه ما بقي الدهر، ولا يستطيع أحد أن ينكر أنه أحدث في العالم أثرا غيّر وجه التاريخ. ثالثا- الإعجاز العلمي: قبل الكلام عن الإعجاز العلمي في القرآن لا بد لنا أن نشير إلى أن القرآن الكريم كتاب عقيدة وهداية، أنزله الله عزّ وجلّ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، ولم يكن الهدف من إنزاله إيضاح حقائق علمية وقوانين كونية، ويخطئ الكثير من الناس حين يحرصون على أن يتضمن القرآن الكريم كل نظرية علمية، فتجدهم كلما ظهرت نظرية جديدة التمسوا فيها محملا في آية يتناولونها بما يوافق هذه النظرية، ويغيب عن ذهنهم أن النظريات العلمية عرضة للتبديل والتغيير، وأنهم يسيئون إلى القرآن من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا عند ما يعبثون بالقرآن وتفسيره كلما تطور البحث العلمي وتنوعت أساليبه وأشكاله. ومنشأ هذا الخطأ: أن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة، أما

ما يصل إليه البحث الإنساني- أيا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها، فمن الخطأ المنهجي- بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلل الحقائق القرآنية النهائية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري، وإذا كان هذا بالنسبة للحقائق، فما بالك بالنسبة للنظريات؟. وبعد هذه الإشارة يمكننا القول: إن الإعجاز العلمي في القرآن يتجلى بالمظاهر التالية: أ- حثه على التفكير: إن المظهر الأول للإعجاز العلمي في القرآن إنما هو حثه الإنسان على التفكير، وتسريح النظر في آفاق هذا الكون، وإجالة العقل لاستكناه حقائقه وأسراره. فالقرآن لا يشل حركة العقل وتفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليس ثمة كتاب من كتب الأديان السابقة يكفل هذا بمثل ما يكفله القرآن. وليس أدل على هذا المظهر من أن القرآن يجعل التفكير السديد، والنظر الصائب في الكون وما فيه، أعظم وسيلة من وسائل الإيمان بالله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20 - 21]. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]. ب- انسجامه مع الحقائق العلمية وتكريم العلم: ومن مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن ذاك التوافق التام بين الحقائق العلمية الثابتة، وبين آيات القرآن ومبادئه العامة، فأية مسألة من مسائل العلم، أو قاعدة من قواعده- يثبت رسوخها ويتبين يقينها- تكون محققة لما حث عليه القرآن من تفكير سليم، ولا تتعارض معه بحال من الأحوال. وهذه العلوم قد تقدمت وكثرت مسائلها وتنوعت وسائلها،

ولم يتعارض شيء ثابت منها مع آية من آيات القرآن أو فكرة من أفكاره، وهذا وحده إعجاز. أضف إلى ذلك أن القرآن يرفع مكانة العلم والعلماء ويحث على طلبه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11]. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114]. وهكذا فإن إعجاز القرآن العلمي كائن في أنه يحث المسلمين على التفكير، ويفتح لهم أبواب المعرفة، ويدعوهم إلى ولوجها والتقدم فيها، وقبول كل جديد راسخ من العلوم. ج- الإشارة إلى بعض الحقائق العلمية: رغم ما ذكرناه من حقيقة الإعجاز العلمي في القرآن فإننا مع ذلك نلمح فيه إشارات إلى حقائق علمية، جاءت في سياق الهداية الإلهية، وتركت للعقل البشري أن يبحث فيها ويتدبر، ليجد كلّ عصر في القرآن ما يبرهن على إعجازه وأنه من عند خالق البشر. جاء في (ظلال القرآن) عند تفسير قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189]: اتجه الجواب إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري، وحدّثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم، ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم، وهي داخلة في مدلول السؤال. إن القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية، ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي، كما يحاول بعض المتحمسين له أن يتلمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم. انتهى. وإليك بعض هذه الإشارات واللطائف العلمية: 1 - قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22] فالتلقيح في النبات ذاتي وخلطي، والذاتي: ما اشتملت زهرته على عضوي التذكير والتأنيث، والخلطي: هو ما كان عضو التذكير فيه منفصلا عن عضو التأنيث كالنخيل،

2 - الوجه الخاص

فيكون التلقيح بالنقل، وما وسائل ذلك إلا الرياح- كما أثبت العلم الحديث- وقد سبق القرآن إلى هذه الإشارة. 2 - قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام: 125]. الأوكسجين ضروري لتنفس الإنسان، ويقل في طبقات الجو العليا، فكلما ارتفع الإنسان في أجواء السماء أحس بضيق الصدر وصعوبة التنفس، والآية أشارت إلى هذا تماما. 3 - قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30] وقد أثبت العلم أن الماء عنصر أساسي في الحياة. 4 - قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] تدل الآية على أن الأتقياء هم الذين يستمرون على صداقتهم، وخاصة عند الشدائد والأهوال. وهذا ما يذكره العلماء بالفلسفة وعلم النفس حديثا: من أن الصداقة لا تدوم إلا بين الفضلاء، وخاصة في المواقف الحرجة. 2 - الوجه الخاص وهو الإعجاز البلاغي الذي يختص بفهمه أولئك الذين عرفوا اللغة العربية نطقا وفهما، وتذوقوا بيانها وأساليبها في التعبير، ولا غرو فقد سحر القرآن العرب منذ اللحظة الأولى، واستحوذ عليهم بنظمه البديع وتأليفه العجيب، وسموه في البلاغة إلى الحد الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثله بل بسورة شبيهة به، رغم التحدي والتقريع، وبذلك قامت الحجة على العرب، وهم الذين يدركون هذا الوجه من الإعجاز، وبقيام الحجة عليهم تقوم على سائر الناس.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الوجه من الإعجاز كامن في صميم النسق القرآني ذاته، لا في الموضوع الذي يتحدث عنه من غيبيات أو تشريع أو علوم كونية. كما أنه قائم في كل جزء من آي القرآن وسوره، لا يتوقف على تكامل القرآن أو مجمله.

مظاهر الإعجاز البلاغي

مظاهر الإعجاز البلاغي يتجلى هذا الجانب من الإعجاز بمظاهر عدة نوجزها فيما يلي: أولا- الخصائص المتعلقة بأسلوب القرآن إن المظهر الأول من مظاهر الإعجاز البلاغي هو أن القرآن يجري على نسق خاص في أسلوبه، لا يستطيع أحد أن يجاريه فيه. وهذه الخصائص هي: أ- نظمه البديع: فالقرآن يجري على نسق بديع، خارج عن المعروف والمألوف من نظام كلام العرب، فهو لا تنطبق عليه قوافي الشعر، كما أنه ليس على سنن أسجاع النثر. ب- المحافظة على جمال اللفظ وروعة التعبير: إن التعبير القرآني يختار أجمل الألفاظ لأبهى تعبير، ويظل جاريا على مستوى رفيع من هذا الجمال اللفظي، ورقة الصياغة، وروعة التعبير، مهما تنوعت أبحاثه، واختلفت موضوعاته، وهذا مما يخرج عن طوق البشر. ج- صياغته الموافقة لحال المخاطبين: إن ألفاظ القرآن وعباراته مصوغة بشكل غريب، وعلى هيئة عجيبة، بحيث تصلح أن تكون خطابا لمختلف المستويات من الناس، وبحيث يأخذ كل قارئ منها ما يقدر على فهمه واستيعابه، ويراها مقدرة على مقياس عقله ووفق حاجته. د- التجديد في الأسلوب: الخاصة الرابعة، هي تصريف بعض المعاني وتكرارها بقوالب مختلفة من التعبير والأسلوب البياني، بشكل يضفي عليها الجدة، ويلبسها ثوبا من التجسيم والتخييل غير الذي كانت تلبسه، بحيث تظهر وكأنها معنى جديد.

ثانيا - الكلمة القرآنية

ثانيا- الكلمة القرآنية تمتاز الكلمة التي تتألف منها الجمل القرآنية بالميزات التالية: أ- جمال توقيعها في السمع: فليس في القرآن لفظ ينبو عن السمع، أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، فالكلمة القرآنية في الذروة من الفصاحة، وهي تحمل المعنى في طياتها، واقرأ إن شئت قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها [النازعات: 27 - 29] وانظر إلى كلمة (أغطش) كيف أنها تقدم لك المعنى في تلافيف حروفها قبل أن تقدمه في معناها اللغوي المحفوظ، وفي الوقت نفسه هي منسجمة مع ما قبلها وما بعدها من الألفاظ، لا ثقل فيها ولا إغراب، وكذلك بقية ألفاظ الآية، فكلها توقع على السمع موسيقا رائعة في منتهى الجمال. ب- اتساقها مع المعنى، وكأن القارئ يشم منها رائحة المعنى المطلوب، أو يلحظ فيها إشراقا يصور المعنى أمام العين. اقرأ قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 17 - 18] ثم انظر كيف أنك تشم رائحة النهار من كلمة (تنفس). ج- اتساع دلالتها، لما لا تتسع له دلالات الكلمات الأخرى من المعاني والمدلولات عادة، بحيث يعبر بكلمة واحدة عن معنى لا يستطاع التعبير عنه إلا ببضع كلمات أو جمل. وخذ مثالا على ذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ [الواقعة: 71 - 73]. أراد الله تعالى أن يحدثنا في هذه الآية عن مظاهر نعمته علينا، ومن جملتها النار، فنبهنا إلى مختلف فوائدها لحياتنا على اختلاف أطوارها، فعبر عن ذلك بكلمة (المقوين) التي تحمل كل المعاني التي يمكن أن يعبر بها عن فوائد النار، فهي: جمع مقو، وهو المسافر، والجائع، والمستمتع، والنار إنما يستفيد

ثالثا - الجملة القرآنية وصياغتها

منها المسافر، كما يحتاجها الجائع لتحضير طعامه، وهي إلى جانب ذلك كله من أسباب المتعة والرفاهية. وهذه الميزات الثلاث قلما يتخلف اجتماعها في كلمات القرآن، بينما لا تجتمع في غيره إلا نادرا، وما ذاك إلا لأن القرآن من كلام رب العالمين. ثالثا- الجملة القرآنية وصياغتها ويتجلى مظهر الإعجاز فيها بما يلي: أ- التلاؤم والاتساق بين كلماتها، وتلاحق حركاتها وسكناتها، بنظم بديع يستريح له السمع والصوت والنطق. واقرأ إن شئت قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 11 - 12] وتأمل تناسق الكلمات في كل جملة، وتأمل أيضا تآلف الحروف وتعاطف الحركات والسكنات والمدود، وانظر كيف أن كلا منها كأنما صب في مقدار، وأنه قدر بعلم اللطيف الخبير. ب- الدلالة بأقصر عبارة على أوسع معنى تام متكامل، دون اختصار مخلّ أو ضعف في الدلالة. واقرأ في هذا قوله تعالى في سورة الكهف: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها [الكهف: 77] فكان الإتيان بالضمير هنا يؤدي المعنى، كأن يقال: استطعماهم، ولكن الإتيان بالاسم الظاهر- وهو أهلها- يفيد معنى أعم وأوسع؛ لأنه جمع مضاف يفيد العموم، فيدل على أنهما استطعما جميع أهل القرية، بخلاف (استطعماهم) فإنه يحتمل أن الاستطعام كان لمن أتياهم، وهم سكان أول القرية. ج- إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحس الملموس، ثم بث الروح والحركة في هذا المظهر نفسه، بحيث يجد القارئ إقناع العقل وإمتاع العاطفة، بما يفي بحاجة النفس البشرية تفكيرا ووجدانا في تكافؤ واتزان، فلا تطغى

رابعا - جلال الربوبية وكبرياء الألوهية في آياته

قوة التفكير على قوة الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير، وهكذا تجد وأنت تقرأ القرآن أن العقل يفهم والخيال يتصور، وذلك خلاف المألوف والمعروف لدى قراءة أي كلام أو كتاب آخر. واقرأ- على سبيل المثال- قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ «1» (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 8 - 9]. وانظر كيف تضع في خيالك إنسانا يلتف حول عنقه غل عريض، مرتفع إلى ذقنه، جعل رأسه صاعدا إلى الأعلى لا يتحرك، فتلك هي الصورة الساخرة للتكبر. ثم انظر حاله وهو في مكان مغلق، وقد غشى الظلام على بصره، فهو لا يملك حراكا نحو أي اتجاه، وتلك هي صورة من لم ينفع معه هدي، وظل في ضلاله. رابعا- جلال الربوبية وكبرياء الألوهية في آياته من أجلى مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم ما يوجد في كثير من آياته من جلال الربوبية وكبرياء الألوهية، بقطع النظر عن المعنى الذي يؤديه اللفظ. وهذا مما لا يقوى على اختلاقه أي إنسان، في أي صنف من أصناف المعاني والكلام. وبيان ذلك: أن الكلام مرآة لطبيعة المتكلم، تتجلى فيما يكتب أو يقول، وتزداد وضوحا كلما تنوعت أبحاثه ومواضيعه. وإذا كان في مقدور الإنسان أن يظهر بصورة طبيعية أخرى، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى حد التناقض، بحيث ينطبع بخصائص البشرية تارة، وبخصائص الألوهية أخرى. وإذا كان هذا غير ممكن، فلا يمكن لإنسان ما أن يصوغ كلاما ينشر من حوله عظمة الربوبية وكبرياء الألوهية في صياغة لا تكلف فيها ولا تمثيل، كما هو ظاهر في كلام الله عزّ وجلّ. واقرأ- على سبيل المثال- قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: 14 - 15].

_ (1) مقمحون: رافعو رءوسهم، يقال: أقمح الغل الأسير إذا ترك رأسه مرفوعا.

خامسا - التصوير الفني في القرآن

واقرأ- أيضا- قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون: 64 - 67]. وانظر- بعد ذلك- إلى هذا الكلام الذي يتنزل من عرش الربوبية، ويغمر النفس بالرهبة والجلال، هل يمكن لبشر أن يصطنعه اصطناعا، وأن ينطبق به تمثيلا، أو يتحلى به تزويرا؟! خامسا- التصوير الفني في القرآن تمهيد: إن القرآن الكريم حين يخاطب العقلاء، إنما يخاطب فيهم عقولهم، كما يثير فيهم مشاعرهم وأحاسيسهم، بأسلوبه الفذ، وبيانه المعجز، وموسيقاه الساحرة، فيجعل المخاطب يتخيل المعنى المجرد صورة ناطقة يتحسس فيها الحركة والحياة. وإذا كان التصوير تثبيتا للظل الصامت، أو مجموعة خطوط وألوان متجمعة، تضع أمام الرائي لوحة قد تثير في ذهنه معنى من المعاني، أو تنقل إلى مخيلته مشهدا من المشاهد، فإن التصوير القرآني أوسع من هذا بكثير: فهو تحويل الحروف الصوتية الجامدة إلى ريشة تنبع من رأسها الأصباغ والألوان المختلفة، حسب الحاجة والطلب، لتحيل- بدورها- المعاني المعتادة إلى صور يتأملها الخيال، ويدركها الشعور، وتكاد العين أن تستوعبها قبل أن يستوعبها العقل. وهو- كما يقول صاحب كتاب التصوير الفني في القرآن- تصوير باللون، وتصوير بالحركة،

1 - مظاهر التصوير الفني في القرآن ووسائله

وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكذلك: هو تصوير حي، منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة. 1 - مظاهر التصوير الفني في القرآن ووسائله: أ- مظاهره: إن المتتبع لنصوص كتاب الله تعالى، والممارس لتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، ليلمس التصوير القرآني يتدرج في مظاهر متعددة، وهي: 1 - إخراج مدلول اللفظ من دائرة المعنى الذهني المجرد إلى الصورة المحسوسة والمتخيلة: فهو يعبر عن المعنى الذهني بالصورة المحسوسة المتخيلة، فيكون الخطاب أوقع في النفس، وأقوى في التأثير، وأدعى إلى القبول؛ إذ يجعل الحس يتأثر عن طريق الخيال بالصورة ما شاء له التأثر؛ فيستقر المعنى في النهاية في أعماق النفس. وخذ مثالا على ذلك: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وانظر كيف ترسم في الخيال صورة لتفتح أبواب السماء، وأخرى لولوج الجمل- وهو ذكر الجمل أو الحبل الغليظ- في سم الخياط، ويترك الحس يتأثر- عن طريق الخيال- بالصورتين ما شاء له التأثر، ليستقر في النهاية معنى استحالة قبول هؤلاء المكذبين المستكبرين عن آيات الله تعالى. ويدخل في هذا المظهر تصوير الحالات النفسية والمعنوية: فالتصوير القرآني كما أنه يخرج المعاني الذهنية بصورة حسية، كذلك يخرج الحالات النفسية والمعنوية صورا شاخصة أو متحركة، ويعدل بها عن التعبير

المجرد إلى الرسم المصور. ومثال ذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج: 11] إذ تصور لنا ذلك التردد- الذي يحار فيه ويتبلبل ذلك الإنسان الذي لم ترسخ العقيدة في قلبه؛ ولم تتضح صورة الإيمان في نفسه- بصورة إنسان يقوم ليؤدي عبادة على أرض لا تستقر عليها أقدامه، وإلى جنبه واد عميق يخشى السقوط فيه، فهو قلق مضطرب. 2 - التخييل الحسي: وهو تلك الحركة التي يضفيها التصوير القرآني على اللوحة الصامتة فيبث فيها الحياة، ويحولها إلى منظر حي متحرك، فهو لا يكاد يعبر بالصورة المحسة والمتخيلة- عن المعنى الذهني أو الحالة النفسية- حتى يرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة النابضة، والحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني حركة يرتفع بها نبض الحياة، وإذا الحالة النفسية لوحة متحركة أو مشهد حي. ومن أمثلة ذلك: أ- قوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5]. فانظر كيف استحالت الأرض الجامدة كائنا حيا، بلمسة واحدة، في لفظة واحدة (اهتزت) وكأنها ذاك الكائن الحي الذي أخمد الظمأ أنفاسه، حتى إذا مس الماء أحشاءه عادت إليه الحياة وانبعث فيه النشاط. ب- قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] فالحياة تخلع- في هذه الآية- على الصبح وكأنه أصبح كائنا حيا يتنفس، فتتنفس معه الحياة، وتشرق بإشراقة من ثغره، ويدب النشاط في الأحياء على وجه الأرض والسماء.

ب - وسائله

3 - التجسيم والتضخيم: إن من مظاهر التصوير القرآني تجسيم المعنويات وتضخيمها، وإبرازها وكأنها أجسام أو محسوسات- على العموم- تتضاخم وتتعاظم- حسبما يقتضي الجو والمشهد- حتى تملأ النفس شعورا وإحساسا. ومن أمثلة ذلك: أ- قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ [الأنعام: 31]. فانظر: كيف تجسم الأعمال السيئة وكأنها أحمال مثقلة، تنوء بحملها ظهور أولئك الفاسقين يوم القيامة. ب- قوله تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5] ففيه تضخيم وتفظيع لافترائهم على الله تعالى بقولهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الكهف: 4]. ب- وسائله: يتحقق التصوير الفني في القرآن بوسائل متعددة منها القريبة ومنها البعيدة: 1 - الوسائل القريبة: وهي تلك القواعد التي استخلصت واستنبطت من أسلوب التصوير القرآني، ووضع عليها العلماء علم البيان من استعارة وتشبيه، ومجاز مرسل وتمثيل. واقرأ إن شئت قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] وقوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ [الملك: 7] وقوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً [الكهف: 99] وانظر إلى ما فيها من استعارات وتمثيل. واقرأ قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ

كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد: 14] وانظر إلى ما فيها من روعة التشبيه. وقوله تعالى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7]. وأما المجاز المرسل فاقرأه في مثل قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً [غافر: 13] وإنما الذي ينزل سبب الرزق وهو المطر، وفي قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [المطففين: 22] والنعيم معنى يحل في مكان يكون فيه الأبرار، وفي قوله تعالى: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] والمولود لا يكون فاجرا إلا باعتبار ما سيكون. 2 - الوسائل البعيدة: وهي ذاك التناسق الفني الذي يبلغ الذورة في التصوير، بتخير الألفاظ ونظمها في نسق خاص يبلغ في الفصاحة أرقى درجاتها، وينشأ عنه إيقاع موسيقي رفيع، مع تسلسل معنوي بين الأغراض في سياق الآيات، فتخرج الكلمة والجملة في قالب من اللفظ وطريقة الأداء يبث في الإحساس والخيال صورة مجسمة حية للمعنى. على أنه ليس بمقدور الفكر الإنساني: أن يقف على القاعدة التي يتم بها تصوير اللفظ القرآني للمعنى، ليتخذها ضابطا في صياغة الكلام، بل كل ما في الإمكان أن يعلم ويحس: أن اللفظ القرآني يصور المعنى ويلصق صورته وشكله بالإحساس، بتأثير من تناسق حروفه وحركاته، وتركيب مفرداته وجمله. والأمثلة على ذلك القرآن كله: واقرأ إن شئت- على سبيل المثال- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] ليتصور في خيالك ذلك الجسم المتثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل وكأنه القناطير المقنطرة من الأثقال، كل ذلك يرسمه في خيالك هذا اللفظ المختار (اثاقلتم).

2 - نماذج تصويرية من القرآن الكريم

- واقرأ أيضا قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء: 72] لترتسم صورة التباطؤ في جرس العبارة كلها، وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل ببطء إلى نهايتها. - واقرأ كذلك أول ما نزل من القرآن من سورة العلق، لترى ذلك التناسق بين المعاني والأهداف، وذلك الجرس الموسيقى الأخّاذ إذ يقول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 - 5]. 2 - نماذج تصويرية من القرآن الكريم: 1 - قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام: 35]. كان يكبر على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به، فنزلت هذه الآية توضح له: أنه لا جدوى من أن يضيق صدره بكفرهم، وإلا فليجهد نفسه وليبذل قصارى ما في وسعه ليأتيهم بما يحملهم على تصديقه، ويدخل الإيمان في قلوبهم إن استطاع. هذه المعاني صوّرتها الآية بمشهد ترسم فيه تألمه صلّى الله عليه وسلّم من إعراضهم في صورة شيء يضخم ويكبر حجمه، حتى يثقل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حمله، ويضيق به ذرعا، ويسعى للخلاص منه، كما ترسم فيه الجهد الذي لن يأتي بطائل، بصورة من ينبعث نحو كل جهة في قلق وبحث، ليتخلص من عبء عالق به. وهكذا فقد عبرت عن المعنى الذهني بصورة محسوس متخيل تنبعث فيه الحركة والحياة، مع شيء من التجسيم والتفخيم. 2 - قال الله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي

نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 154]. تقرأ هذه الآية فترى التعبير القرآني يشخص الغضب- وهو أمر معنوي- بصورة حي مسلط على موسى عليه السلام، يدفعه ويحركه، حتى إذا سكت عنه وتركه لشأنه عاد إلى نفسه، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه. قال الزمخشري عند الكلام عن هذه الآية: هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك. 3 - قال الله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7]. ترسم لنا هذه الآية- إعراض الكفرة عن الحق إعراضا كليا، وعدم جدوى دعوتهم إليه- صورة مظلمة صلدة لمنافذ الحق إلى النفس البشرية- وهي القلب والسمع- فلا نلمس بصيص نور أو هداية فيها، وهذه الصورة المظلمة لهذه المنافذ ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة، حركة الختم على القلوب والأسماع، والتغشية على العيون والأبصار. 4 - قال الله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94]. يأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يجهر بالحق الذي جاء به، وإنك لتلمح من النص تلك الصورة التي تجسم ما أمر بتبليغه بمادة قوية صلبة، بينما يجسم الباطل الذي يقابله بمادة هشة سريعة العطب، قابلة للشق والكسر، ثم يعطي المشهد تلك الحركة التي ترسم في المخيلة: أنها ترى حركة تصدع هذه المادة الهشة، وتسمع صوته. 5 - قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ

عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1 - 2]. إنك تقرأ في هذا النص مشهدا حافلا بالصور المعبرة: صورة تلك المرأة التي يشدها إلى رضيعها الحنان والشفقة، وإذا بها ذاهلة عنه، تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي. وصورة التي تبذل قصارى جهدها ليثبت الجنين في أحشائها، فإذا بها تسقطه لما انتابها من هول مروع، وصورة الناس الذين لم يعاقروا خمرا ولم يذوقوا مسكرا، وهم يترنحون بخطواتهم، ويتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة من هول الموقف. إنه مشهد مزدحم بتلك الرسوم المتماوجة، تكاد العين تبصره، بينما الخيال يتملاه.

الفصل الثالث أشهر الذين كتبوا في الإعجاز

الفصل الثالث أشهر الذين كتبوا في الإعجاز لقد كثر الكاتبون في إعجاز القرآن من العلماء وأئمة البيان قديما وحديثا، فمنهم من تعرّض لهذا الموضوع في غضون الكلام عن علوم القرآن، ومنهم من أفرده بالبحث. ومن أشهر من أفرده بالبحث: 1 - الجاحظ: عمرو بن بحر، المتوفى سنة (225 هـ). وهو أول من تكلّم عن بعض المباحث المتعلّقة بالإعجاز، وأفرد له كتابا سمّاه (نظم القرآن) وقد تكلّم فيه عما يهيئ للكلام عن الإعجاز في القرآن، وحاول فيه توكيد القول في الفصاحة والكشف عنها، بقدر ما كان معلوما من هذا الفن، وهذا الكتاب لم يصل إلينا، ولعلّه هو ما أشار إليه في كتابه (الحيوان) بقوله: ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن، لتعرف بها ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها في الإيجاز والجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. فمنها: قوله تعالى حين وصف خمر أهل الجنة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة: 19]. وهاتان الكلمتان جمعتا عيوب خمر أهل الدنيا. وقوله عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 33] جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعاني. 2 - أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتوفى سنة (306 هـ) وضع كتابه (إعجاز القرآن) وهو أول كتاب وضع لشرح الإعجاز وبسط القول فيه على طريقتهم في التأليف، ولا يبعد أن يكون قد استفاد مما كتبه الجاحظ وبنى عليه،

وعلى كل فهذا الكتاب أيضا لم يصل إلينا، وإنما وصل إلينا ما ينبئ عنه في (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني، الذي بلغنا عنه أنه شرح هذا الكتاب شرحا كبيرا سماه (المعتضد) وشرحا آخر أصغر منه. 3 - أبو عيسى علي بن عيسى بن علي الرّمّاني النحوي اللغوي المفسر المتوفى سنة (384 هـ) فقد ألّف كتابا في إعجاز القرآن. وقد طبعت هذا الكتاب دار المعارف بالقاهرة مع رسائل أخرى في هذا الفن، بتحقيق الأستاذ محمد خلف الله أحمد، والدكتور محمد زغلول سلام. 4 - وممن ألّفوا وكتبوا في الإعجاز أيضا على وجوه مختلفة من البلاغة والكلام وما إليهما الإمام الخطّابي المتوفى سنة (388 هـ). كتب في هذا كتابه (بيان إعجاز القرآن) وهو مطبوع مع رسالة الرّمّاني المذكورة سابقا. 5 - أبو بكر محمد بن الطيب الباقلّاني المتوفى سنة (403 هـ). وضع كتابه المشهور (إعجاز القرآن) الذي أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على حدة، وقد جمع فيه كثيرا من المباحث البلاغية القرآنية، وسلك فيه أقرب الوسائل إلى كشف جوانب الإعجاز القرآني وتذوّقه، ووفّى بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والأصول، حتى عدّوه الكتاب وحده في هذا الفن، قال فيه أبو بكر بن العربي: لم يصنّف مثل كتابه. وهو كتاب مطبوع ومتداول، ومن طبعاته طبعة على هامش (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي، طبع المكتبة التجارية في القاهرة، وله طبعات مستقلة، منها طبعة دار المعارف بالقاهرة، بتحقيق العلامة السيد أحمد صقر- رحمه الله-. 6 - عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني المتوفى سنة (471 هـ). وهو واضع أصول البلاغة، وضع كتابه (دلائل الإعجاز) والظاهر أنه بنى على ما أتى به الواسطي، ولكنه فاقه في أنه كان ذوّاقة للأسلوب القرآني، حتى

أوشك أن يسبق عصره في بعض لمحاته الموفّقة، التي نفذ بها إلى إدراك الجمال الفني في كتاب الله تعالى. وكان أنفذ حسّا وأكثر توفيقا من كل من كتبوا في هذا الباب على وجه العموم حتى في العصر الحديث. 7 - ومن أشهر من كتب في هذا الموضوع حديثا: أ- مصطفى صادق الرافعي (1297 - 1356 هـ) ألّف في هذا كتابه (إعجاز القرآن). وهو- كما قال مؤلفه- كان هذا الكتاب مبحثا من مباحث كتابنا الكبير (تاريخ آداب العرب). ثم أفردناه ليكون كتابا بنفسه تعمّ به المنفعة ويسهل على الناس تناوله. وهو خير ما كتب حديثا في هذا الموضوع، وقد عني فيه مؤلفه عناية خاصّة بالنظم الموسيقى في القرآن، وفيه كلمات رائعة ولمحات موفقة في فهم كتاب الله عز وجل، حتى قال فيه أحد المقرّظين له: يجب على كل مسلم عنده نسخة من القرآن أن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب. ب- سيد قطب المتوفى سنة (1965 م) وهو من خير من ألّف وكتب في هذا الباب حديثا، ومؤلفاته من أروع ما كتب، فقد عالج رحمه الله تعالى نواحي خاصة من إعجاز القرآن، فأبدع فيها وأجاد، ومن خير آثاره في ذلك: (التصوير الفني في القرآن) ففيه تخريجات ذكية، واستنباطات سديدة، وأفكار ناضجة، في استلهام الجمال الفني القرآني بأسلوب مشرق جذّاب. ومثله كتاب: (مشاهد يوم القيامة في القرآن). هذا إلى جانب تفسيره: (في ضلال القرآن) وما فيه من لمسات ونفحات تشير إلى عظمة كتاب الله تعالى وسر إعجازه وروعة بيانه.

الباب الثامن من أساليب القرآن الكريم

الباب الثامن من أساليب القرآن الكريم الفصل الأول: القصّة في القرآن. الفصل الثاني: الأمثال في القرآن. الفصل الثالث: المجاز في القرآن. الفصل الرابع: القسم في القرآن.

الفصل الأول القصة في القرآن الكريم

الفصل الأول القصة في القرآن الكريم 1 - تعريف القصة في القرآن: جاء في المصباح المنير: قصصت الخبر قصّا: حدثت به على وجهه، والاسم القصص، وقد جاء في القرآن الكريم: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62] وكذلك: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111]. والقصة: الأمر والخبر والشأن، جاء في المصباح: والقصّة: الشأن والأمر، يقال: ما قصّتك؟ أي: ما شأنك. وفي القاموس المحيط: والقصّة- بالكسر- الأمر والتي تكتب. وعلى هذا: فما جاء من أخبار قصّها علينا القرآن يمكن أن يطلق عليها لفظ: القصة. 2 - القيمة التاريخية للقصة القرآنية: ليست القصّة في القرآن كتلك القصص الحرة الطليقة الصادرة من نفوس بشرية، تجعل أمامها أهدافا خاصة، ثم لا تبالي أن تستمدّ ما تقوله من خيال غير صادق، أو أن تعرض حوادث لم تقع، أو تدور حول بطل لا وجود له أصلا، أو تخرج من جدّ إلى هزل، أو تضع الباطل إلى جانب الحق، وجلّ اهتمامها أن تظهر البراعة البيانية لمؤلفها. وإنما القصّة في القرآن حقيقة تاريخية ثابتة، تصاغ في صور بديعة من الألفاظ المنتقاة والأساليب الرائعة. وهذه حقيقة قامت الأدلة عليها بما لا يدع مجالا للشك، وذلك: أ- أن الأدلة القاطعة قامت على أن القرآن الكريم كلام الله المنزل، وأن

محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه قد بلّغ ما أنزل إليه من ربّه، وإذا كان كذلك فكلّ ما جاء في القرآن من خبر فهو صادق، وإذا كان صادقا فلا بد أن يكون مطابقا للواقع. ب- القرآن حجّة الله على خلقه جملة وتفصيلا، وإطلاقا وعموما، وهذا يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحقّ ثم لا ينبّه عليه، فكلّ ما ورد فيه على وجه الإخبار فهو حقّ موافق للواقع. ج- ما جاء في القرآن من قصص إنما هو كلام ربّ العزة، أوحى به إلى الرسول الأكرم ليكون مأخذ عبرة، أو موضع قدوة، أو مجلاة حكمة، وما كان كذلك لا يكون إلا حقّا من صميم الواقع. كل هذه الأدلة- وغيرها كثير- تبرهن على أن القصة القرآنية حقيقة تاريخية لا تحوم حولها شبهة. ولذا فقد اعتبرها المتقدّمون والمتأخرون من المؤرخين عمدة رصينة في كلّ ما كتبوه من أبحاث تاريخية، سواء كانت تتعلق بحوادث حاضرة وقت نزوله، أم تتعلّق بحوادث الأمم الغابرة. ولقد كانوا على بيّنة من أمرهم في ذلك إذ إن القرآن أصحّ مصدر عرفه التاريخ في هذا المجال، يشهد بذلك أن الباحثين- على اختلاف مذاهبهم ونحلهم- اعتمدوا القرآن أوّل وثيقة تاريخية تعرف بها أحداث الجزيرة العربية وأوضاعها في صدر الإسلام، وإذا كان كذلك فما هو عمدة في حقبة هو عمدة في كل الحقب. ويشهد لذلك أن التاريخ والمؤرخين عاجزون عن أن يأتوا برواية قريبة أو بعيدة تعارض ما جاء به القرآن من أخبار، وإذا ثبت هذا فلا يلتفت إلى الهراء الذي يطلقه البعض، مما لا تقوم عليه أثارة من دليل عقلي أو نقلي، إلا الحقد على الإسلام والكيد لدعوته. وبعد فإنا نقول: بعد ما ثبت الدليل على أن القرآن كلام الله المنزل فإن التاريخ هو الذي يستمدّ قوّته من حديث القرآن وأخباره، وليس القرآن يستمدّ قوّته من

3 - أغراض القصة في القرآن

أخبار التاريخ. وحسبنا في ذلك قول الله تعالى: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111]. 3 - أغراض القصة في القرآن: القرآن كلام الله تعالى المنزل ليأخذ بيد الناس إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، فهو كتاب هداية أولا وآخرا، وللقرآن وسائل متعدّدة لتحقيق هذه الهداية، والقصّة القرآنية إحدى هذه الوسائل، ولكي تحقّق القصّة في القرآن الغاية الأساسية له، فقد سيقت لأغراض متعدّدة، أهمها: أ- إثبات الوحي والرسالة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: من المعلوم أن محمّد بن عبد الله- صلوات الله وسلامه عليه- كان أميّا لم يعرف قراءة ولم تعهد عنه كتابة، كما سجّل ذلك القرآن إذ يقول: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48]. كما أنه لم يجالس أهل علماء الكتاب أو غيرهم ليأخذ عنهم العلم وخبر من قبله. وهذه حقيقة لم ينكرها أحد ممن عاصره أو جاء بعده، إلا ما كان من ذاك الهراء الذي ردّه القرآن بحكم البداهة إذ يقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] ولقد ردّد هذا الهراء أناس مغرضون، عوراتهم بادية، لا يؤبه بهم. وعليه: فإذا ما ثبتت هذه الحقيقة وجاء القرآن بقصص الأنبياء السابقين، وأحوال الناس الغابرين، في دقّة وتفصيل، على نحو يتفق مع ما هو معلوم لدى أهل الكتاب من هذه القصص ويفوقه صحة ووضوحا، إذا كان كل هذا: فقد ثبت بالدليل القاطع أن محمّد بن عبد الله- صلوات الله وسلامه عليه- ما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

ب - بيان وحدة الوحي الإلهي

هذا وإن القرآن الكريم كثيرا ما ينصّ على هذا الغرض في مقدمات بعض القصص أو في ذيولها، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى في مقدمة قصّة يوسف عليه السلام: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3]. وقوله تعالى بعد قصة نوح عليه السلام: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49]. ب- بيان وحدة الوحي الإلهي: من الأغراض الهامة للقصّة القرآنية التنبيه على أن الدين السماوي الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين واحد، وأنّ جميع الشرائع المنزلة- بأصالتها- لا تعارض فيها ولا اختلاف. وتحقيقا لهذا الغرض نجد القرآن الكريم يورد قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة، وربما تكرّر مجيء هذه القصص على هذا النحو «1»، كلّ ذلك بغرض تأييد هذه الحقيقة وتثبيتها في الأذهان وتوكيدها في النفوس، ولذا نجد القرآن يصرّح بهذا الغرض أحيانا. ومثال ذلك ما جاء في سورة الأنبياء- بعد ذكر قصص عدد منهم- من قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]. ج- العبرة والموعظة: ومن أغراض القصّة القرآنية أن تشدّ الناس إلى غابر الأزمان، ليلقوا نظرة على من سبقهم من الأمم، ويستعرضوا في مخيلتهم شريطا: يصوّر لهم موقف أولئك الأجيال وما آل إليه حالهم، فيأخذوا العبرة من واقعهم، ويتعظوا من عاقبة أمرهم، ويروا بعقولهم ويتحسّسوا بمشاعرهم نتيجة العناد والاستكبار عن الحقّ الذي يتولّاه الله بعنايته، ويدفع عنه ببالغ بطشه وجبروته، فيضع هؤلاء المخاطبون في حسابهم

_ (1) اقرأ في هذا سورة الأعراف وهود والأنبياء وغيرها.

د - تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة وبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين

أنهم إن سلكوا سبيلهم سيصلون حتما إلى تلك النهاية الخاسرة والعاقبة الأليمة، وبالتالي ربما حملهم كلّ ذلك على قبول الحقّ والإذعان إليه. وعلى سبيل المثال: * اقرأ ما جاء في سورة القمر من تلك القصص السريعة المتتالية التي تكشف: عن جبروت الله تعالى وبالغ قدرته وشدّة انتقامه، وما أنزله بكلّ أمة باغية من أنواع الدمار والهلاك، ثم انظر إلى ما جاء عقبها من التنبيه والتحذير بقوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 43 - 45]. * واقرأ أيضا ما جاء في سورة هود والعنكبوت وغيرها من السور التي ذكر فيها عاقبة المستكبرين والمكذبين، ثم انظر إلى هذا القرار العادل الذي يلفت الانتباه إلى مصير كل من تنكّب الطريق: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40] د- تثبيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مجال الدعوة وبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين: ولعل هذا الغرض من أهم أغراض القصّة القرآنية، وتحقيقا له فقد ورد كثير من قصص الأنبياء مع أقوامهم مجتمعة تارة، ومنفردة أخرى، ويتكرّر فيها العرض أحيانا. واقرأ في ذلك ما جاء في سورة هود والعنكبوت، ففي كل منهما بيان وجلاء لهذا الغرض من ناحيتين: 1 - بيان أن طريقة الأنبياء جميعا في الدعوة إلى الله تعالى واحدة، تتجلّى في إشفاقهم على أقوامهم وصبرهم على أذاهم، إلى جانب تشابه مواقف أولئك الأقوام في إعراضهم وسوء استقبالهم لأنبيائهم. 2 - بيان أن الله عزّ وجلّ ينصر أنبياءه ومن تبعهم في النهاية، مهما نزل بهم

4 - منهج القصة القرآنية

من أذى، وطاف حولهم من البلاء، ويهلك أولئك المكذبين مهما تفنّنوا في الإيذاء أو ابتكروا من ألوان الصّدّ والعناد. وواضح أن ذكر مثل هذه القصص من شأنه أن يزيد في ثبات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على طريق الدعوة إلى الله تعالى، وفي صبره على تحمل أذى القوم، كما أنه من شأنه أن يبعث في نفسه ونفوس من اتّبعه من المؤمنين الطمأنينة والثقة بنصر الله. ولقد صرّح القرآن بهذا الغرض. ومن ذلك قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود: 120]. 4 - منهج القصّة القرآنية: قد علم- مما مرّ من الكلام عن أغراض القصّة في القرآن- أنّ الغرض الأساسي لها: هو الهداية إلى الله عزّ وجلّ، ولقد كان لخضوع القصّة القرآنية لهذا الغرض أثر بين في مادتها وطريقة عرضها، مما جعل لها منهجا خاصا بها، يقوم على أروع مظاهر الجمال الفني والإشراق البياني. ويتجلّى هذا المنهج بالمظاهر التالية: أ- التكرار: قد تأتي القصّة القرآنية لغرض من الأغراض التي سبق ذكرها، ولكنها- في الوقت نفسه- تنطوي بمجملها على أغراض أخرى متعدّدة، ويشتمل جانب منها- أو بعض الجوانب- على فوائد متعدّدة، وعظات جمة، وعبر متنوعة، وقد يقتضي غرض الدعوة الديني أن تعاد القصّة أو جانب منها أو أكثر، في موطن آخر، أو مواطن متعددة، لمناسبات خاصة بالعبرة التي تساق القصة- أو بعض جوانبها- من أجلها، فتكرّر القصة أو بعض الجوانب منها تلبية لهذا الغرض، ولهذا التكرار فائدة وجمال. 1 - فائدة التّكرار وتناسقه: على أنّ الملاحظ- غالبا- أن جسم القصّة كلّه لا يكرّر إلا نادرا، وإنما يتناول التكرار بعض الحلقات فيها، ومعظمه إشارات سريعة لموضع العبرة فيها كما ذكرنا.

2 - جمال القصة في التكرار

كما يلاحظ- أيضا- أن هذا التّكرار متناسق كل التناسق مع السياق الذي وردت فيه، مما يجعل القارئ المتأمّل لكتاب الله تعالى يشعر وكأنّه أمام قصّة أو خبر لم يكن ليسمع به من قبل، ويتنبّه إلى فوائد وعبر لم تكن لتخطر منه على بال. وخذ مثالا على ذلك: قصّة موسى عليه السلام- مع فرعون وقومه أو مع بني إسرائيل- وهي أكثر قصص القرآن تكرارا، وانظر كيف أنها في كل موطن ذكرت فيه- أو أشير إليها- أفادت موعظة خاصّة، وعبرة فريدة، اقتضاها السياق القرآني، تختلف عما أفيد منها في موطن آخر. 2 - جمال القصة في التكرار: وقصّة موسى عليه السلام نموذج للقصص القرآني- ومثلها غيرها- فمن تأمّلها بإمعان ودقة علم أن التّكرار في القرآن ليس تكرارا مطلقا، من شأنه أن يبعث الملل في نفس القارئ أو السامع، بل إنه تكرار أكسب القصّة القرآنية جمالا فنيا وروعة أسلوب. وخذ مثالا على ذلك: قصص الأنبياء، فإنّ عرض هذا الشريط من قصصهم مرّات متعدّدة بتعدد أغراضها، يخيّل للمتأمّل أنه نبيّ واحد، وأنها إنسانية واحدة، على تطاول الأزمان وتباعد الديار، كلّ نبيّ يبعث يمرّ وهو يقول كلمته الهادية يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]، فتكذّبه هذه الإنسانية الضّالّة، ثم يمضي ويجيء تاليه، فيقول نفس الكلمة، ثم يمضي، وهكذا لا يختلف الموقف ولا تختلف النتيجة من نصرة الحق ودحر الباطل. ب- العرض بالقدر الذي يحقق الغرض: تبعا للغرض الذي سيقت من أجله القصة القرآنية، نجد القرآن تارة يذكر القصة بكامل تفصيلاتها، وتارة يكتفي بذكر ملخص عنها أو إشارة إليها، وتارة يتوسط بين هذا وذاك، وربما اكتفى أحيانا بعرض حلقة من حلقاتها، أو مشهد من مشاهدها، وكل ذلك خاضع- كما قلنا- لما في حلقات القصة وجوانبها من أهمية وعظة.

ج - بث العظات والتوجيهات في سياق القصة

* فمن أمثلة ما ذكر مفصلا: قصة موسى ويوسف عليهما السلام، وكذلك قصة مريم وولادتها عيسى عليهما السلام، فإن هذه القصص قد ذكرت تفصيلا دقيقا بكل جوانبها، وقد كان هذا التفصيل مقصودا، والغرض منه- على الإجمال- إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، إلى جانب أغراض دينية أخرى ذات أهمية وشأن، كتصحيح ما ادعاه أهل الكتاب من بنوة عيسى ابن مريم لله عز وجل. * ومن أمثلة ما توسط في تفصيله أو اختصر قصة نوح وداود عليهما السلام، وكذلك قصص هود وصالح وزكريا ويحيى عليهم السلام. * ومن أمثلة ما اقتصر فيه على مشهد من المشاهد أو أكثر قصة أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، وكذلك قصة نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، إذ لم يتحدث القرآن عنها بأكثر من قوله تعالى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى [طه: 123]. ولهذا المظهر في منهج القصة القرآنية غرض بيّن؛ إذ من شأنه أن يجمع على القارئ شتات ذهنه، ويصرف انتباهه إلى المقصد الأساسي من القصة، فيستطلع الغرض الديني الذي تستهدفه، ولا يغفل عن العبرة والعظة التي سيقت من أجلهما القصة، وبالتالي تنصاع نفسه لما انطوت عليه من هداية وتوجيه. ج- بث العظات والتوجيهات في سياق القصة: إن القصة القرآنية: لا تدع القارئ يتفاعل معها وينصرف إليها بكل تفكيره، دون أن تفصل بين حلقاتها بفواصل من العظات والعبر، وتبث في جوانبها النصائح والتوجيهات، أو تحيطها بأطر من الإرشادات التي من شأنها أن تنبه القارئ إلى المقصد الأساسي من قصها، وتكون بمثابة مصابيح هداية يقف أمامها وقفة الفاحص المتأمل، الذي يسبر أغوار الحوادث والأمور، ليفيد منها في حياته وسلوكه.

وهذه اللمسات من العظات والعبر تكون

وهذه اللمسات من العظات والعبر تكون: 1 - تارة في ثنايا القصة وخلالها، وخذ مثلا على ذلك ما ذكر في سورة طه أثناء عرض قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حيث يقول الله تعالى: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه: 49 - 54]. فالقصة حوار بين موسى وفرعون حول وجود الخالق سبحانه وتعالى، ولكنها تتحول عن ذكر حوادث القصة وسردها إلى التذكير بما يتناسب مع السياق من العظات والتوجيهات، فتذكر بعظمة الله تعالى وتلفت النظر إلى مظاهر ألوهيته، وتنصب الدلائل على وجوده ووحدانيته، وتبعث في النفس الشعور بوجوب شكره على عظيم آلائه ووافر فضله، ولا تغفل أن تذكر بالموت ثم البعث والنشور والوقوف بين يدي هذا الخالق، يوم لا تغني نفس عن نفس شيئا والأمر يومئذ لله. 2 - وتارة تكون في مقدمة القصة أو قبلها، ومثال ذلك ما ذكر في سورة الحجر من قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49 - 50]. ثم سرد القصص التي تدل على الرحمة: كقصة إبراهيم عليه السلام وتبشيره بالغلام بعد كبر سنه، وكذلك القصص التي تدل على العذاب: كقصة لوط عليه السلام مع قومه وما حاق بهم من العذاب. 3 - وتارة تكون بعد ذكر القصة، ومثال ذلك ما جاء من هذه العظات والتنبيهات الرائعة في سورة يونس عليه السلام من قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما

5 - خصائص القصة القرآنية

كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 99 - 103]. هذه اللفتات المدهشة والتوجيهات الرائعة جاءت في أعقاب ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه، وموسى وهارون عليهما السلام مع فرعون ثم مع بني إسرائيل، وما كان من هؤلاء الأقوام، وما كان من عقاب من عاند، وجزاء من انصاع إلى الحق، ونصرة من دعا إلى الله عزّ وجلّ. 5 - خصائص القصة القرآنية: إن القصة في القرآن تقوم على أسس وخصائص فنية رائعة، فهي تحقق الغرض الديني عن طريق جمالها الفني، الذي يجعل ورودها إلى النفس أيسر، ووقعها في الوجدان أعمق. وأهم هذه الخصائص ما يلي: أ- العرض التصويري: إن القرآن الكريم عند ما يأتي بالقصة لا يخبر بها إخبارا مجردا، بل يعرضها بأسلوب تصويري، يتناول جميع المشاهد والمناظر المعروضة، فإذا بالقصة حادث يقع ومشهد يجري، لا قصة تروى ولا حادثا قد مضى. ألوانه وأمثلته: والتصوير في مشاهد القصة القرآنية ألوان تبدو في قوة العرض والإحياء، وفي تخييل العواطف والانفعالات، كما تبدو في رسم الشخصيات. وهذه الألوان ظاهرة في مشاهد القصص القرآني جميعا، لا ينفصل بعضها عن بعض، وقد يبرز أحدها

نموذج تحليلي

في بعض المواقف عن بعض، فيطبع المشهد باسمه. فمن أمثلة القصص التي برزت فيها قوة العرض والإحياء: قصة أصحاب الجنة، ومشهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء الكعبة، ومشهد نوح عليه السلام وابنه في الطوفان، وقصة أصحاب الكهف. ومن أمثلة ما برز فيه تصوير العواطف والانفعالات: قصة صاحب الجنتين وصاحبه الذي يحاوره، وقصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح، وقصة مريم عند ميلادها عيسى عليهما السلام. وأما أمثلة اللون الثالث وهو: رسم الشخصيات وبروزها في القصة القرآنية: فهو القصص القرآني كله، واقرأ على سبيل المثال: قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، وقصة يوسف عليه السلام، وقصة سليمان عليه السلام مع بلقيس، فكلها قصص يبرز فيها تصوير الشخصيات ورسمها على أدق ما يكون الرسم وأبرع ما يكون التصوير. نموذج تحليلي: وإليك تحليلا موجزا للعرض التصويري الذي عرضت فيه مشاهد قصة أصحاب الكهف: فالمشهد الأول: يصور لنا أصحاب الكهف وهم فتية يتشاورون في أمرهم، بعد ما اهتدوا إلى الله عزّ وجلّ بين قوم كافرين: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الكهف: 13 - 16].

والمشهد الثاني: مشهد مليء بالحركة التصويرية العجيبة، يعرض لنا حالهم وقد نفذوا ما عزموا عليه وكأننا نراهم يقينا رأي العين: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف: 17 - 18]. وأما المشهد الثالث: فإنه يعطي الصورة الحية بكل ما فيها من خلجات نفسية، ومخاوف، وإيمان وثقة، وأخذ بالأسباب للنجاة: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف: 19 - 20]. ثم يأتي المشهد الرابع: ليصوّر لنا كيف اكتشف حالهم، والناس قد تحوّلوا من كفر إلى إيمان، فإذا بهم يصبحون حديث الناس، وموضع اهتمامهم، ومثار جدلهم على مر الأزمان: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً

ب - التنويع في الاستهلال بالقصة ووضع المدخل إليها

ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 21 - 22]. ثم تأتي المناسبة للتوجيهات في ثنايا القصة وأعقابها على طريقة القرآن في قصصه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الكهف: 23 - 27] «1». ب- التنويع في الاستهلال بالقصة ووضع المدخل إليها: من أبرز الخصائص الفنية للقصة القرآنية تنوع طريقة العرض في ابتداء القصة، وذلك أن عنصر التشويق أمر أساسي في القصة، فينبغي أن يتجلى بأبهى مظاهره في مطلعها، حتى ينشدّ القارئ إلى متابعة حلقاتها، ويفتح آفاق ذهنه وجوانب نفسه إلى استطلاع أغراضها ومقاصدها. وأهم مظاهر براعة الاستهلال في القصة القرآنية هي: 1 - البداءة بأغرب مشهد يلفت النظر فيها؛ حتى لو كان هذا المشهد متأخرا في سلسلة الحوادث؛ لأن المشهد الغريب من شأنه أن يثير الانتباه أكثر من غيره، حتى إذا تفتح الذهن وأقبل على القصة، عمد البيان إلى استدراك ما فات من المشاهد، وتحين المناسبة لعرضه بشكل متناسق ومتساو مع جمال العرض وأداء الغرض. وخذ مثالا على ذلك قصة موسى عليه السلام في سورة (طه) حيث افتتحت

_ (1) انظر في تحليل بقية الأمثلة (التصوير الفني في القرآن) (ص 47 و 156) وما بعدهما.

بهذا المشهد: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً [طه: 9 - 10]. ثم يعود السياق بعد هذه البداءة ليستدرك جوانب القصة ومشاهدها. 2 - التقديم للقصة بخلاصة عنها، وذلك بأن ينتزع من مشاهد القصة أهم مظاهر العبرة فيها، فتصاغ بشكل خلاصة تجعل مدخلا للقصة وبداية لها، ثم تعرض التفصيلات بعد هذا المدخل. وهذا مظهر من مظاهر التشويق، التي تضع في مخيلة القارئ صورة مختصرة عن القصة، تبعث فيه الرغبة إلى التوسع في معرفة جوانبها. وخير مثال على ذلك قصة أصحاب الكهف إذ بدئت بتلك الخلاصة: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. ثم يبدأ التفصيل بقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف: 9 - 12]. 3 - الاستهلال بذكر الأسباب والنتائج، وما يكشف عن مغزى القصة وحكمة أحداثها؛ فتتجسد العبرة التي ينبغي أن تؤخذ منها، وتتشوق النفس لمعرفة الطريقة التي تتحقق بها الغاية المرسومة المعلومة، حتى إذا بدأ سرد القصة كان فكر القارئ متنبها لمواطن العبرة فيها. وخذ مثالا على ذلك قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة القصص، إذ استهلت بهذه الآيات: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5)

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 4 - 6]. 4 - ذكر القصة مباشرة بلا مقدمة ولا تلخيص، ويكتفى بما في ثناياها من مفاجآت خاصة بها، وذلك مثل قصة مريم عند ولادتها عيسى عليهما السلام، وقصة سليمان عليه السلام مع بلقيس، وغيرهما من القصص. 5 - العرض التمثيلي: وهو العرض الذي يقوم على إبراز المشاهد الرئيسية، والحلقات الأساسية من القصة، بشكل واضح وجلي أمام الناظر أو المتخيل، بينما يترك له بين كل مشهد وآخر من هذه المشاهد أو الحلقات فجوات يطوي فيها ما بين المشاهد من الروابط البدهية، ويفسح المجال للخيال حتى يملأها، ويستمتع بإقامة القنطرة بين المشهد السابق والمشهد اللاحق. وهذه الطريقة من العرض سمة بارزة في القصص القرآني، إذ من شأنها أن تعطي القيمة الفنية للقصة، وتضفي عليها الحيوية وتبعث فيها الحياة، بينما تقل هذه القيمة وتضعف أكثر فأكثر كلما شغل الذهن بعرض تلك الروابط البدهية، وذكر تلك التفصيلات التي غالبا ما تمل النفوس سماع الحديث عنها. ومن أمثلة هذه الخاصة الهامة: 1 - قصة نوح التي وردت في سورة هود- عليهما السلام- بقوله تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود: 36 - 38]. فالقصة تضع أمامنا مشهد نوح عليه السلام وهو يتلقى الوحي الإلهي الذي يفقده الأمل من إيمان قومه، ويخبره بحلول العقاب فيهم، ويأمره بصنع السفينة

التي ستكون سبب نجاته ومن معه من المؤمنين، ثم يسدل الستار ليرتفع ثانية عن مشهد نوح عليه السلام وهو يقوم بصنع السفينة، مقبلا على ذلك بكليته، تنفيذا لأمر الله عزّ وجلّ، بينما قومه الهلكى من حوله يهزءون ويسخرون. والفجوة التي تركها العرض بين المشهدين ليملأها الخيال: هي تلك الأحداث التي لا بد منها، من العزم على الصنع، وإحضار المواد الأولية، وإنما طويت حتى لا تفسد بذكرها العرض الفني للقصة. 2 - قصة مريم عليها السلام: التي تضعنا أمام مشهد يصور لنا تلك العذراء البتول، وقد أتاها الروح القدس في هيئة إنسان ليقول لها: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا وتجيبه مستغربة دهشة: قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فيخبرها بأنه فعل الذي لا يعجزه شيء، ويطلعها على الحكمة من ذلك: قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا. ثم يسدل الستار ليرتفع عن مشهد هذه العذراء وقد أثقلها حملها، فتنحت جانبا من القوم وهي قلقة خائفة، وإذا بالمخاض يلجئها إلى جذع نخلة تستقر تحتها لتلد النور والهداية لتلك البشرية الضائعة في ذلك الجيل: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا [مريم: 22 - 23]. ويلاحظ بين المشهدين فجوة فنية كبرى، تترك للخيال أن يتصورها كما يشاء له التصور.

الفصل الثاني الأمثال في القرآن

الفصل الثّاني الأمثال في القرآن تمهيد: ضرب الأمثال في القرآن الكريم من أساليب الصياغة الفنية الرائعة، الدالة على إعجاز القرآن، في إبراز المعاني في قالب حسن يقربها إلى الأفهام، وفي صور حية تستقر في الأذهان. وذلك بتشبيه الغائب بالحاضر والمعقول بالمحسوس، وقياس النظير على النظير، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43]. وقال سبحانه: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]. 1 - تعريف المثل: والأمثال: جمع مثل، والمثل والمثل والمثيل: كالشبّه والشبه والشبيه، لفظا ومعنى. والمثل في القرآن الكريم: هو إبراز المعنى في صورة رائعة موجزة لها وقعها في النفس، سواء كانت تشبيها أو قولا مرسلا. ومثال التشبيه الصريح- الذي ذكر فيه الممثل له- قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يونس: 24]. ومثال التشبيه الضمني- الذي حذف فيه الممثل له- قوله تعالى:

2 - الفرق بين الأمثال والقصص

وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12]. 2 - الفرق بين الأمثال والقصص: إن بين الأمثال والقصص فارقا كبيرا، وإن كان يجمعهما قدر مشترك من تنبيه الذهن إلى أخذ العبرة وقياس الحال على الحال. وهذا الفارق هو: أن الأمثال لا يشترط في صحتها أن تكون واقعة تاريخية ثابتة، وإنما يشترط فقط إمكان وقوعها، حتى يتسنى للذهن تصورها كما لو أنها وقعت فعلا. وليس معنى هذا أننا نشترط في الأمثال عدم صحتها في نطاق الواقع التاريخي، إذ ربما ضرب المثل بقصة واقعة، وتسمى القصة عندئذ تمثيلا، لأنها وردت للتمثيل لا للإخبار عنها. 3 - أهمية الأمثال في القرآن: ومعرفة أمثال القرآن مهمة جدا، ولا بد منها للعالم المجتهد، والقارئ المعتبر، فقد أخرج البيهقي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال» «1». وقال الماوردي «2»: من أعظم علم القرآن علم أمثاله. وقد عده الشافعي مما

_ (1) الإتقان في علوم القرآن؛ للسيوطي (2/ 1041) وعزاه للبيهقي، وانظر البرهان؛ للزركشي (1/ 486). (2) وقد ذكر السيوطي أن أبا الحسن الماوردي (364 - 450 هـ) أفرد علم الأمثال بالتأليف.

4 - نماذج من أمثال القرآن مع تحليلها

يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن فقال: ثم معرفة ما ضرب فيه من الأمثال الدوالّ على طاعته، المبينة لاجتناب معصيته «1». ويوضّح عبد القاهر الجرجاني أهمية الأمثال في إبراز المعاني فيقول: «واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو أبرزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وأكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها .. فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم .. وإن كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب وللقلوب أخلب، وإن كان وعظا كان أشفى للصدر وأدعى إلى الفكر ... » «2». 4 - نماذج من أمثال القرآن مع تحليلها: 1 - قال الله تعالى في سورة البقرة: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20). وفي هذه الآيات مثالان يوضح الله بهما شأن المنافقين، الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح، ولا يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح، فهم يتحلون بظاهر من الدين ليكسبوا مغانمه ويتقوا مغارمه، ولكنهم يعودون في نهاية الأمر خائبين خاسرين.

_ (1) الإتقان؛ للسيوطي (2/ 1041). (2) دلائل الإعجاز (92 - 95).

ففي المثال الأول: يشبه الله تعالى حال المنافقين العجيبة الشأن بحال من استوقد نارا ليستضيء بها، ولكنها ما كادت تضيء له ما حوله حتى انطفأت، وعاد الظلام يلفه من جديد، وبقيت نفسه في حيرة وشك وضياع. والآية مثل ضربه الله لمن آتاه شيئا من الهدى فأضاعه، ولم يتوصل به إلى النعيم الأبدي، وإنما بقي متحيرا ضائعا لا يجد نفسه، وهذا يدخل تحت غمومه هؤلاء المنافقون. وفي المثال الثاني: يشبه الله سبحانه حالهم بحال من أصابهم مطر هاطل غزير، في ليلة مظلمة مليئة بوميض البرق وزمجرة الرعد، كلما أضاء لهم نور البرق مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون، وهم في هذه الحالة خائفون فزعون، إذا لمع البرق كادت أن تنخطف منه أبصارهم، وإذا قصف الرعد جعلوا أصابعهم في آذانهم من مخافته. وكذلك المنافقون متلبسون في ظاهرهم بالإسلام الذي هو كصيب من السماء، ولكنهم يشعرون حقيقة بقلق واضطراب، ويتأرجحون بين لقاء المؤمنين وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه بألسنتهم وما تخفيه صدورهم، بين ما يطلبونه من هدى ونور، وما يفيئون إليه من ضلال وظلام، بين ما يريدونه من فوائد الإسلام وثمراته، وما يخافونه من تبعاته ووظائفه وزواجره. ومن الواضح أن التمثيل هنا اتبع الطريقة القصصية في تفصيل صوره وأجزائه، وجاء مبنيا على تشبيه مجموع حالة بمجموع حالة أخرى، دون النظر إلى مقارنة أو تشبيه أجزاء الحالين ببعضهما. 2 - وقال تعالى في سورة الأعراف: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ

كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177). وفي هذه الآيات مثال واضح للإنسان الذي ينحرف عن الفطرة السوية، وينقض عهد الله، وينكص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها ... ذلك الإنسان آتاه الله آياته، وخلع عليه من فضله، وأعطاه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع، ولكنه انسلخ من هذا كله، وانحرف عن الهدى ليتبع الهوى، والتصق بالأرض وأغراضها فاستولى عليه الشيطان، وطرد من حمى الله، وأصبح ممسوخا كالكلب يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد. والنبأ في الآية نبأ رجل من علماء بني إسرائيل، وقيل: هو بلعام بن باعوراء من الكنعانيين، وقيل: أمية بن أبي الصلت من العرب. أوتي علم بعض كتب الله، ولكنه انسلخ منها وأعرض عنها، فاتبعه الشيطان وأضله. وقيل: إن الله تعالى ضرب هذا النبأ مثلا لكفار بني إسرائيل، إذ علموا نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، حتى إنهم كانوا يستفتحون به على المشركين، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. وقيل: إنه مثل لكل من آتاه الله من علم الله، فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعا ذليلا للشيطان. وهذا المثل منتزع من قصة واقعة، وليس مجرد فرضية مؤلفة. 3 - وقال الله تعالى في سورة إبراهيم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ

لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26). يضرب الله في هذه الآيات مثل الكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة، لتصوير سنته الجارية في الطيب والخبيث في هذه الحياة. فالكلمة الطيبة- كلمة الحق- كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة، ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل، سامقة متعالية تطل على الشر والظلم من عل، مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن. والكلمة الخبيثة- كلمة الباطل- كالشجرة الخبيثة، قد تهيج وتتعالى، ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض، وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء. وفسرت الكلمة الطيبة: بكلمة التوحيد، ودعوة الإسلام، والقرآن. والشجرة الطيبة: بالنخلة، وبشجرة في الجنة. أما الكلمة الخبيثة: فهي الشرك بالله، والدعاء إلى الكفر، وتكذيب الحق. والشجرة الخبيثة: بالحنظلة. ولعل المراد من هذه الألفاظ جميع المعاني المتقدمة. والعبرة ظاهرة ومقنعة في هذه النماذج الثلاثة، وهي قليل من كثير مما في القرآن من أمثال هادفة ورائعة.

الفصل الثالث المجاز في القرآن

الفصل الثّالث المجاز في القرآن من المعلوم أن الأصل في الكلام الحقيقة، وقد يصار إلى المجاز لنكتة بلاغية، ولا خلاف في وقوع الحقائق في القرآن، وهي: كل لفظ بقي على موضوعه ولا تقديم ولا تأخير فيه، وهذا أكثر الكلام «1». وأما المجاز فالجمهور على وقوعه في القرآن، وقد اتّفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة «1»، وهو قسمان: الأول- المجاز العقلي، وعلاقته المشابهة، وهو واقع في التركيب، وذلك: أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لمشابهته له. وأمثلة هذا القسم كثيرة في القرآن، منها: قوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ [القارعة: 9] فتسمية الأم ب (الهاوية) مجاز، أي: كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع؛ وهذا فهم سديد، خصوصا إذا وقفنا عند هذا التركيب وحده، ولم ننظر إلى ما قبله من الآيات. فإذا نظرنا ما قبله وقرأنا الآيات كلها: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ [القارعة: 8 - 11]. تجلّى لنا منها معنى آخر لطيف، فالأعمال المعنوية جسّمت ووزنت بموازين

_ (1) انظر الإتقان (2/ 753).

حسية، فإذا هي خفاف ترتفع بها كفة الموازين، فلا يقابل خفتها وارتفاعها إلا هاوية سحيقة منخفضة في الدرك الأسفل من النار الحامية، التي لا يكون للمجرم في ذلك الهول أم سواها يلجأ إليها ويعتصم بها، وساءت ملجأ ومعتصما. ومنها قوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2]. نسبت الزيادة وهي (فعل الله) إلى الآيات لكونها سببا لها. وقوله تعالى: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] نسب البناء إليه، وهو فعل العمّال، لكونه آمرا به. وقوله تعالى: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه. الثاني- المجاز اللغوي، وهو واقع في المفرد. وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا. وهو أنواع كثيرة: 1 - إطلاق اسم الكل على الجزء، نحو قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة: 19] أي: يجعلون أناملهم في آذانهم، ونكتة التعبير عن الأنامل بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة في الفرار، وفي ذلك تصوير لحالتهم النفسية وما أصابهم من الذعر والهلع وهم يولون هاربين. 2 - إطلاق اسم الجزء على الكل، نحو قوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 27] أي ذاته. وقوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 150] أي: ذواتكم، إذ الاستقبال يجب أن يكون بالصدر. 3 - إطلاق اسم الخاص على العام، نحو قوله تعالى: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16] أي: رسله.

4 - إطلاق العام على الخاص، نحو قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] أي: المؤمنين. 5 - إطلاق اسم الملزوم على اللازم، كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35] أي: أنزلنا برهانا يستدلّون به وهو يدلّهم، سمّى الدلالة كلاما، لأنها من لوازم الكلام. 6 - إطلاق اسم اللازم على الملزوم، كقوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [المائدة: 112] أي: هل يفعل، أطلق الاستطاعة على الفعل؛ لأنها لازمة له. 7 - إطلاق المسبب على السبب، مثل قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً [غافر: 13] أي مطرا يتسبب عنه الرزق. 8 - إطلاق السبب على المسبب، مثل قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود: 20] أي: لا يستطيعون القبول والعمل به؛ لأنه مسبب عن السمع. 9 - تسمية الشيء باسم ما كان عليه، قال تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء: 2] أي الذين كانوا يتامى، إذ لا يتم بعد البلوغ. 10 - تسميته باسم ما يؤول إليه، كقوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] أي: عنبا يؤول إلى خمر. 11 - إطلاق اسم الحالّ على المحلّ، نحو: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران: 107] أي في الجنة. 12 - إطلاق اسم المحل على الحالّ، نحو: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ [العلق: 17] أي أهل ناديه.

13 - تسمية الشيء باسم آلته، كقوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] أي ثناء حسنا، لأن اللسان آلته. 14 - تسمية الشيء باسم ضده، قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] والبشارة حقيقة في الخبر السار. 15 - إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه تشبيها، مثل: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الكهف: 77] وصفه بالإرادة، وهي من صفات الحيّ، تشبيها للوقوع بإرادته. 16 - إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته، قال تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ [الطلاق: 2] أي قاربن بلوغ الأجل، أي انقضاء العدة، لأن الإمساك لا يكون بعده. 17 - القلب؛ إما قلب إسناد؛ كقوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [القصص: 76] أي لتنوأ العصبة بها. أو قلب عطف، كقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ [النمل: 28] أي: فانظر ثم تولّ. 18 - إقامة صيغة مقام أخرى، وهو أنواع كثيرة «1»، منها إطلاق المصدر على الفاعل؛ كقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] ولهذا أفرده.

_ (1) انظر تتمة هذه الأنواع في كتاب الإتقان للسيوطي (2/ 761 - 772).

الفصل الرابع القسم في القرآن

الفصل الرّابع القسم في القرآن أ- تعريفه: القسم في اللغة: اليمين بالله تعالى، ومن معاني اليمين القوة. ويعرّف القسم أو اليمين بأنه: ربط النفس- بالامتناع عن شيء أو الإقدام عليه- بمعنى معظم عند الحالف حقيقة أو اعتقادا. وسمي الحلف يمينا لأن العرب كان أحدهم يأخذ بيمين صاحبه عند التحالف. ب- صيغته: الصيغة الأصلية للقسم أن يؤتى بالفعل (أقسم) أو (أحلف) متعديا بالباء إلى المقسم به. ثم يأتي المقسم عليه، وهو المسمى بجواب القسم، كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] فأجزاء صيغة القسم ثلاثة: 1 - الفعل الذي يتعدى بالباء. 2 - والمقسم به. 3 - والمقسم عليه. ولما كان القسم يكثر في الكلام اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء، ثم عوض عن الباء بالواو في الأسماء الظاهرة، كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1]، وبالتاء في لفظ الجلالة، كقوله تعالى: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] وهذا قليل، أما الواو فكثيرة. ج- أغراض القسم في القرآن: 1 - تحقيق الخبر وتوكيده، ليكون أوقع في التلقي وأرجى للقبول، كقوله

د - المقسم به في القرآن

تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس: 53]. وقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92]. 2 - بيان شرف المقسم به، وعلو قدره، حتى يعرف الناس مكانته عند الله ورفعة منزلته لديه، كالقسم بحياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72]. وكقوله تعالى مبينا شرف القرآن وقدره: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1]. 3 - توجيه النظر إلى الآيات الكونية، والمشاهد الطبيعية، للتوصل منها إلى خالقها، والتأمل فيها تأملا يبين مبلغ نعمتها، وأنها غير جديرة بالعبادة، وإنما الجدير بالعبادة هو خالقها، وذلك كالقسم بالسماء وبنائها، وبالنفس وخلقها، في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: 7] وقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النجم: 1] منبها بقوله: هوى- أي غاب وسقط- إلى أنه لا يجوز أن يعبد، لأنه مخلوق وعرضة للغيبة والزوال. ونقل السيوطي في كتابه (الإتقان) عن أبي القاسم القشيري أنه قال: القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة، أو لمنفعة. فالفضيلة، كقوله تعالى: وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 2 - 3] والمنفعة كقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين: 1] «1». د- المقسم به في القرآن: 1 - أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في خمسة مواضع: في قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم: 68] وقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] وقوله:

_ (1) الإتقان، للسيوطي (2/ 1048 - 1050).

فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40]. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات: 23]. وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقسم به في ثلاثة مواضع: في قوله: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] وقوله: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] وقوله: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: 35]. 2 - وأقسم تعالى فيما بقي من القرآن بمخلوقاته، كقوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَالصَّافَّاتِ وَالشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَالضُّحى. فإن قيل: كيف أقسم الله بالخلق، وقد ورد النهي عن القسم بغير الله؟ أجيب بأوجه: أ- أنه على حذف مضاف، أي ورب التين، ورب الشمس ... ب- إن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون. ج- إن الأقسام إنما تكون بما يعظم المقسم أو يجلّه وهو فوقه، والله تعالى ليس شيء فوقه، فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارئ وصانع. وقد نقل السيوطي عن ابن أبي الإصبع أنه قال: القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع، لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل. أما حلف العباد بغير الله فهو ضرب من الشرك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «1». وعن الحسن قال: إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله «2».

_ (1) رواه البخاري في الأيمان والنذور (6270) ومسلم في الأيمان (1646) (3). (2) الإتقان (2/ 1049) وعزاه إلى ابن أبي حاتم في تفسيره.

هـ - من روائع القسم في القرآن

هـ- من روائع القسم في القرآن: 1 - من روائع القسم في القرآن الكريم: أن جاء فاتحة للسور المكية في ست عشرة سورة، نحو: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا وَالذَّارِياتِ ذَرْواً وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً وَالْعَصْرِ ... إلخ. وإن وقوع القسم في ابتداء السور له أثره النفسي، وفي البدء به جذب لانتباه السامع، لوقوع القسم على سمعه في شيء من الرهبة، فإذا حدث ذلك صحبه تهيؤ نفسي لتلقي ما يقال، خاصة والقسم في أوائل السور يعطيها نضرة في بهجتها، ورونقا في ديباجتها، فتلمع الأقسام في قسمات السور كالغرة البارقة، لا سيما وقد أتت بما يألفه العرب ويحبّونه ويمجّدونه، ألا ترى أن القرآن أقسم بالبلد الأمين، وهي محبوبتهم مكة؟! 2 - ومن روائع القسم: القسم بالخيل في قوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً [العاديات: 1 - 5]. والخيل أعز شيء عند العرب، لأنهم أمة قتال ونضال، فحياتهم قائمة عليها، وقد أكثروا في شعرهم من أوصافها، فأقسم الله بها وهي مغيرة صبحا، والشرر يتطاير من حوافرها، ووصف الغبار الذي تثيره بعدوها وهجومها على عدوّهم، حتى تتوسط بين جموعه، وتوصل فرسانها إلى ربوعه «1». 3 - ومن لطائف القسم قوله تعالى:

_ (1) انظر التبيان في أقسام القرآن؛ لابن القيم (ص 49 - 50).

وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى: 1 - 4]. أقسم تعالى على إنعامه على رسوله وإكرامه له، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة، وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته، وتأمل مطابقة هذا القسم- وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل- المقسم عليه، وهو الوحي الذي واتاه بعد احتباسه عنه حتى قال أعداؤه: ودع محمدا ربه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه «1».

_ (1) انظر الإتقان؛ للسيوطي (2/ 1053).

الباب التاسع التفسير

الباب التاسع التفسير الفصل الأول: حقيقة التفسير، ونشأته، وتطوره. الفصل الثاني: أشهر المفسرين من الصحابة والتابعين. الفصل الثالث: أقسام التفسير. الفصل الرابع: التعريف بأشهر التفاسير والمفسرين.

الفصل الأول حقيقة التفسير ونشأته وتطوره

الفصل الأول حقيقة التفسير ونشأته وتطوره أ- حقيقته: التفسير لغة: الإيضاح والتبيين، مأخوذ من الفسر وهو الإبانة، تقول: فسّرت الحديث أي بينته وأوضحته، ومنه قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33] أي أفضل بيانا وإيضاحا. واصطلاحا: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. وقيل: علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله وسنده وأدائه وألفاظه ومعانيه المتعلقة بالألفاظ والمتعلقة بالأحكام. وقيل: علم يفهم به كتاب الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه. ب- نشأته وتطوره: 1 - نشأ هذا العلم مع نزول القرآن الكريم، فلقد كان القرآن الكريم ينزل فتكون منه آيات مفصلة، أو كلمات مجملة تفسرها كلمات مفسّرة، قال الله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ... [المائدة: 1] ثم قال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... [المائدة: 3]. وقال الله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ثم قال: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 1 - 4]. وبيان القرآن الكريم بعضه بعضا هو أولى طرق التفسير، ونماذجه كثيرة في كتاب الله تعالى.

2 - كان القرآن الكريم ينزل وفيه إجمال أحيانا فيفسره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما أوحي إليه من البيان. قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [النساء: 77] لقد تكرر ذكر الصلاة في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرة، ومع ذلك التكرار لا يكتمل عدد الصلوات المفروضة وركعاتها فضلا عن كيفية أدائها، فجاء بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم موضحا عدد الصلوات المفروضة وركعاتها وكيفية أدائها، فقد صلّى أمام الصحابة يوما ثم قال لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» «1». وقال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] الآية عامة في كل أب له أولاد يموت فيترك لهم مالا، فإن الأولاد يقتسمون إرثهم من أبيهم للذكر مثل نصيب أختيه. وجاءت السّنة تخصص من عموم هذه الآية الأنبياء؛ فلا يحق لهم جمع المال وإخلافه أهليهم، خشية التهمة في دعواتهم أنها لجمع حطام الدنيا معاذ الله، وبيانا لكونهم ربّانيين، حياتهم لله تعالى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «2». وقد بيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل ما احتاج أصحابه إلى بيانه من القرآن الكريم، سوى ما استأثر الله تعالى بعلمه. وقد نزل القرآن بلغتهم، فما كانوا يحتاجون إلى كثير بيان عند كل آية وسورة، اللهم إلا ما يكون فيها من الأحكام. وبيان السنة الشريفة للقرآن الكريم هو ثاني طرق التفسير، ونماذجه كثيرة في كتاب الله تعالى. 3 - وحين دخل الناس في دين الله أفواجا آخر حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعدها، وفي هؤلاء الداخلين عرب وعجم، علماء ببيان العرب وغير علماء به، وحاجتهم ظاهرة

_ (1) رواه مسلم في المساجد (672) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه. (2) رواه النسائي في الكبرى (6309) ولفظه «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

إلى معرفة أحكام القرآن الكريم ومعانيه، وحكمه ومراميه، وألفاظه وجمله، قام بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفسّرون من القرآن الكريم ما يحتاج إليه المسلم: بالقرآن الكريم، ثم بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم ببيان أسباب نزول الآيات والسور، وبما بلغهم، وإذا احتاج الأمر فسّروه بما يوفقهم الله تعالى إليه من اجتهاد وفهم «1»، وما يعرفونه من بيان العرب. أخرج غير واحد عن أبي عمران «2» قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه، وكثر ناصروه، وقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها؟ فأنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ما يردّ علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] «3». استعمل عمر رضي الله تعالى عنه قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول. فقال عمر: يا قدامة، إني جالدك، قال: والله لو شربت- كما يقول- ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة: 93].

_ (1) لم يكن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رتبة واحدة في العلم وفهم القرآن والفتوى. (2) هو أسلم بن يزيد التّجيبي المصري: ثقة. (تقريب التهذيب رقم 404). (3) روح المعاني للآلوسي (2: 77).

فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد. فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أنزلت عذرا للماضين، وحجة على الباقين، لأن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90]. قال عمر: صدقت «1». وبيان أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، وفهومهم للقرآن الكريم، هو ثالث طرق تفسير القرآن الكريم، ونماذجه كثيرة في تفسير كتاب الله تعالى. 4 - وجاء بعد أيام الصحابة التابعون رضوان الله عليهم جميعا، وقد تشعّبت ديار المسلمين وبعدت أوطانهم، وفيهم العرب والعجم، وأخذ اللحن يغزو خلسة وجهرة لغة العرب وبيانهم، وحاجة المسلمين في هذا العهد أشد من حاجة الصحابة إلى معرفة أحكام القرآن الكريم وحكمه، ومراميه وأغراضه، وألفاظه وجمله، فقام بعض التابعين يفسرون من القرآن ما يحتاج إليه المسلمون: بالقرآن الكريم، ثم بالسّنة، وببيان أسباب النزول، وبيان العرب، وفهم الصحابة، وإذا احتاج الأمر فسّروه بما يوفقهم الله إليه من اجتهاد وفهم. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] قال سعيد بن جبير التابعي رحمه الله تعالى: أي ألحق الله تعالى الذرية بآبائهم في الدرجات، مع استحقاقهم دون درجات الآباء في الجنة، تكريما للآباء وفضلا منه سبحانه «2».

_ (1) التفسير والمفسرون للشيخ محمد حسين الذهبي (1/ 60). (2) وهذا الفهم استفاده مما رواه عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا في معنى هذه الآية، وانظر تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/ 285).

وبيان أقوال التابعين وفهومهم للقرآن الكريم هو رابع طرق تفسير القرآن الكريم، ونماذجه كثيرة في تفسير كتاب الله تعالى. 5 - ثم جاء بعدهم من جاء من العلماء، وقد ازدادت حاجة المسلمين إلى معرفة أحكام القرآن الكريم وحكمه، ومراميه وأغراضه، وتراكيبه، فقاموا يفسّرون كتاب الله تعالى من خلال القرآن والسّنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ومن خلال اللغة ومعانيها، ومن خلال الرأي والنظر، بل ومن خلال بعض الإسرائيليات والنصرانيات أحيانا. والتفسير في كل ذلك علم يلقى على الناس شفاها، ويتلقاه الناس آذانا، وتبلغه إلى من سواه، حتى جاء دور التدوين، ودوّنت فيه العلوم، فدوّن علم تفسير كتاب الله تعالى على المذاهب والطرق التي سيأتي بيانها عند بحث مذاهب التفسير إن شاء الله تعالى. تلك هي نشأة علم التفسير وتطوره حتى جاء دور التدوين، والله أعلم.

الفصل الثاني أشهر المفسرين من الصحابة والتابعين

الفصل الثاني أشهر المفسرين من الصحابة والتابعين قال الإمام السيوطي في (الإتقان): اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، أما الخلفاء فأكثر من روي عنهم: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، والرواية عن الثلاثة قليلة، وكأن السبب في ذلك تقدم وفاتهم «1». وأشهر أولئك الصحابة بالتفسير، وأكثر من نقل عنه التفسير- وإن لم يصل إلينا- علي بن أبي طالب، ثم ابن عباس، وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهم، ولعل ذلك راجع في شأن عليّ رضي الله عنه، إلى الأسباب التالية: 1 - طول صحبته، فقد صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بدء الدعوة حتى قبض صلّى الله عليه وسلّم، ثم طول عمره بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم. 2 - كان رضي الله عنه ذا فهم وإدراك، وعلم وحكمة. 3 - تفرّغ من أعباء الخلافة حتى آلت إليه بعد الخليفة الثالث رضي الله عنهم. 4 - ظهور شدّة حاجة الناس إلى تفسير القرآن الكريم، نظرا لاتساع رقعة الإسلام، ودخول الكثير من الأعاجم في الإسلام، مما كاد يذهب بخصائص اللغة العربية.

_ (1) الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (2/ 1227).

أولا: أشهر المفسرين من الصحابة: رضوان الله تعالى عليهم

ولعل ذلك راجع في عبد الله بن عباس، وابن مسعود، كذلك إلى طول العمر والصحبة، والمخالطة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعناية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهما في أمر القرآن الكريم، ومعرفة اللغة العربية، وحاجة الناس إلى التفسير. وابن عباس وإن لم تطل صحبته لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكنه استعاض عن ذلك بملازمة كبار الصحابة يأخذ عنهم ويروي لهم. وهناك من الصحابة من تكلّم في التفسير غير العشرة المذكورين، منهم أنس، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله تعالى عنهم، ولكن ما نقل عنهم قليل جدا، ولم يكن لهم من الشهرة بالقول في القرآن ما كان للعشرة المذكورين. أولا: أشهر المفسرين من الصحابة: رضوان الله تعالى عليهم: 1 - عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه 1 - التعريف به: هو أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصهره على ابنته فاطمة، كان أول صبي أسلم على الإطلاق، وكان يقول في ذلك ذاكرا فضل الله تعالى عليه: سبقتكم إلى الإسلام طرا صغيرا ما بلغت أوان حلمي. وقد كرّم الله تعالى وجهه فلم يعبد الأوثان قط، وكان عمره حين أسلم تسع سنين، كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مكة، وأقام في بيته فترة، ونام على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الهجرة، حين همّت قريش بقتله صلّى الله عليه وسلّم، ليوهم قريشا أن رسول الله نائم على فراشه، وليرد الأمانات المودعة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابها. ثم هاجر إلى المدينة المنورة، وحين آخى بين المهاجرين والأنصار جعل عليا أخاه، وقال له: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» «1».

_ (1) رواه الترمذي في المناقب (3720) والحاكم في المستدرك (3/ 14).

2 - علمه

شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها سوى تبوك، فقد خلّفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة وقال له- لما ساءه تخليفه عن الجهاد-: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي» «1» . وكان حامل لواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بدر وفي كل مشهد. 2 - علمه: كان علي رضي الله تعالى عنه عاقلا ذا فهم وبصيرة في القضايا، وعلم وافر بالكتاب والسّنة، وقوة في البيان، دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أرسله إلى اليمن قاضيا بقوله: «اللهم ثبت لسانه واهد قلبه» «2» فكان موفقا ومسددا. وكان وزير أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهم، وكان عمر إذا عرضت له عويصة من القضايا قال: قضية ولا أبا حسن لها. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا ثبت لنا الشيء عن عليّ لم نعدل عنه إلى غيره. 3 - مكانته في التفسير: جمع رضي الله تعالى عنه إلى مهارته في القضاء والفتوى علمه بكتاب الله تعالى وفهم أسراره وخفيّ معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب. وأخرج أبو نعيم في (الحلية) عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، إن ربي وهب لي قلبا عقولا، ولسانا سئولا.

_ (1) رواه البخاري في فضائل الصحابة (3503) ومسلم في فضائل الصحابة (2404) (30). (2) رواه أحمد (1/ 411) والحاكم في المستدرك (3/ 135).

4 - رواية التفسير عنه

وعن أبي الطفيل قال: شهدت عليا يخطب وهو يقول: سلوني، فو الله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل، أم في جبل. 4 - رواية التفسير عنه: كثرت الرواية في التفسير عن علي رضي الله تعالى عنه، وقد رويت كل أقواله في بيان القرآن وتفسيره بطرق عديدة، أشهرها طرق ثلاث: أ- طريق هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي. وهذه طريق صحيحة، يخرج منها البخاري وغيره. ب- طريق ابن أبي الحسين، عن أبي الطفيل، عن علي. وهذه طريق صحيحة، يخرج منها ابن عيينة في تفسيره. ج- طريق الزهري، عن علي زين العابدين، عن أبيه الحسين، وهذه طريق صحيحة جدا، حتى عدها بعضهم أصح الأسانيد مطلقا. ولكن لم تشتهر هذه الطريق اشتهار الطريقين السابقين، نظرا لما ألصقه الضعفاء والكذابون بزين العابدين من الروايات الباطلة. 5 - وفاته: قتل رضي الله تعالى عنه شهيدا مظلوما، وقد خرج لصلاة الفجر من يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان، وقيل سبع وعشرين منه، وعمره ثلاث وستون سنة، كعمره صلّى الله عليه وسلّم حين قبض، وعمر أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما حين قبضا كذلك. قال ابن سعد في (الطبقات): ومكث علي يوم الجمعة وليلة السبت وتوفّي رحمة الله تعالى عليه وبركاته ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين، وغسّله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وكفّن في ثلاثة أثواب

2 - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

ليس فيها قميص، وصلّى عليه ابنه الحسن، فكبر عليه أربع تكبيرات، ودفن بالكوفة عند مسجد الجماعة في الرحبة مما يلي أبواب كندة قبل أن ينصرف الناس من صلاة الفجر. رضي الله تعالى عنه وأرضاه «1». 2 - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 1 - التعريف به: هو أبو عبد الرحمن بن مسعود بن غافل الهذلي، أسلم قديما حتى كان سادس ستة دخلوا الإسلام، وقرأ القرآن، وهو أول من جهر بقراءة القرآن على المشركين، قرأ سورة الرحمن على ملأ من قريش قرب الكعبة المشرّفة، فانهال عليه ملأ المشركين ضربا، وأوذي في الله من أجل ذلك، حتى إن أبا جهل قطع أذنه. وحين أمكن الله عبد الله بن مسعود من أبي جهل يوم بدر قطع أذنه ورأسه «2». كان يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أكثر شئونه، وهو صاحب طهوره وسواكه ونعله، يلبسه إياه إذا قام ويخلعه ويحمله في درعه إذا جلس، ويمشي أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بلا حجاب، حتى لقد ظنه أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لما رأى من كثرة دخوله ودخول أمه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولزومه له «3». هاجر إلى الحبشة، وفيما هو هناك بلغه هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة، فهاجر من الحبشة إليها، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في الصلاة فسلم عليه فلم يرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السلام. وقد ورد عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنا نسلم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في الصلاة قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا، فلما

_ (1) طبقات ابن سعد: (3/ 37 - 38). (2) سير أعلام النبلاء (1/ 482). (3) المصدر السابق (1/ 468).

2 - علمه

رجعنا من أرض الحبشة، أتيته فوجدته يصلي فسلمت عليه، فلم يرد عليّ حتى إذا قضى صلاته قال: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألّا تتكلموا في الصلاة» «1» فردّ عليّ السلام، فقال: «إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله تعالى، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك» «2» رواه أبو داود ، وفي لفظ لمسلم: فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: «إن في الصلاة شغلا» «2». شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا وأحدا والمشاهد كلها وما تخلف عن غزوة قط. 2 - علمه: كان من أحفظ الصحابة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رضيت لأمتي ما رضيه لها ابن أم عبد» «4». قيل لحذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: أخبرنا عن رجل قريب السمت والهدي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نأخذ عنه. فقال: لا نعلم أحدا أقرب سمتا ودلا وهديا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة، وحين أرسله عمر رضي الله تعالى عنهما إلى الكوفة معلما كتب إلى أهلها كتابا يقول فيه ... وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي «5». وقال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أن سمع منه سورة النساء إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] فقال: «حسبك» «6». وقال: «من سره أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة

_ (1) رواه البخاري في الصلاة (1199) ومسلم في المساجد (538). (2) رواه أبو داود في الصلاة (923) ومسلم في (538). (4) سير أعلام النبلاء (1/ 486). (5) رواه الطبراني ورجاله ثقات كما في المجمع (9/ 290). (6) رواه البخاري في فضائل القرآن (4763).

3 - مكانته في التفسير

ابن أم عبد» «1». 3 - مكانته في التفسير: روى ابن جرير وغيره عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وعن زر بن حبيش عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: أخذت من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد «2». وعن مسروق قال: قال عبد الله- يعني ابن مسعود-: والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته «3». وعن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: أي القراءتين تعدون أولى؟ قلنا: قراءة عبد الله- يعنون- ابن مسعود. فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه فإنه عرض عليه مرتين، فحضره فشهد ما نسخ منه وما بدل. وروى أبو نعيم عن أبي البختري: قلت لعليّ رضي الله تعالى عنه: أخبرنا عن ابن مسعود؟ قال: علم القرآن والسنة وكفى «4». 4 - رواية التفسير عنه: لقد روي عنه في تفسير القرآن الكريم أكثر مما روي عن علي رضي الله تعالى عنه؛ لطول صحبته للرسول صلّى الله عليه وسلّم وملازمته له، ودخوله عليه حين لا يدخل عليه الناس، وفراغه من أعباء الخلافة والقضاء، وقيامه على تعليم الناس القرآن والفقه،

_ (1) رواه البخاري في فضائل القرآن (4049) ومسلم في صلاة المسافرين (800). (2) رواه أحمد (1/ 389) وأبو نعيم في الحلية (1/ 125). (3) سير أعلام النبلاء (1/ 473). (4) حلية الأولياء؛ لأبي نعيم (1/ 129).

5 - وفاته

خاصة بالكوفة حين أرسله عمر رضي الله تعالى عنهما إليها. وقد رويت أقواله في بيان القرآن وتفسيره بطرق عديدة أشهرها ثلاث: أ- طريق الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، وهذه الطريق من أصح الطرق وأسلمها، وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه. ب- طريق مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود وهذه أيضا طريق صحيحة لا يعتريها الضعف، وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه أيضا. ج- طريق الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، وهذه أيضا طريق صحيحة يخرج البخاري منها. 5 - وفاته: قدم من العراق حاجّا فمرّ بالربذة، وشهد وفاة أبي ذر ودفنه، ثم قدم المدينة فمرض بها، فجاءه عثمان بن عفان عائدا، فيروى أنه قال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ فقال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر بعطائك؟ وكان قد تركه سنتين، فقال: لا حاجة لي فيه، فقال: يكون لبناتك من بعدك؟ فقال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قرأ الواقعة كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا» «1» . وحين مات صلّى عليه الزبير بن العوام لوصيته، ودفن بالبقيع سنة (32 هـ) رضي الله تعالى عنه. 3 - عبد الله بن عباس رضي الله عنهما 1 - التعريف به: هو أبو العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم

_ (1) رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 257) وابن الضريس في فضائل القرآن (ص 103).

2 - علمه

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولد والرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه محاصرون في شعب أبي طالب، ويعرف اليوم باسم العنزة، فأتي به رسول الله فحنّكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين. لازم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقرابته منه، ولأن ميمونة خالته زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان يبيت عندها حين يبيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عندها، فإذا قام من الليل قام ابن عباس يهيئ له وضوءه ويصلي خلفه، ولقد دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- بعد أن مسح على رأسه- بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «1». روى البغوي بسنده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه وقع في عينيه الماء، فقال له الطبيب: ننزع من عينيك الماء على ألّا تصلي سبعة أيام، فقال: لا، إنه من ترك الصلاة وهو يقدر عليها لقي الله وهو عليه غضبان. وقال رضي الله تعالى عنه حين عمي: إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور «2» 2 - علمه: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يلقّب بالحبر والبحر، لكثرة علمه وتبحّره فيه، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة والرئاسة والفتوى، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يحضره مجالسه مع كبار الصحابة رضوان الله عليهم، ويدنيه منه، وكان يقول له: إنك لأصبح فتياننا وجها، وأحسنهم خلقا، وأفقههم في كتاب الله تعالى. وقال عبد الله بن عمر فيه: ابن عباس أعلم أمة محمد بما أنزل على محمد.

_ (1) رواه أحمد في المسند (1/ 266) وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 365). (2) سير أعلام النبلاء (3/ 257).

3 - مكانته في التفسير

روى البيهقي بسنده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت لرجل من الأنصار: هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم اليوم كثير. فقال: يا عجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فيهم! قال: فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل- نائم في وسط النهار- فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ هلّا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: لا ... أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. قال: فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع حولي الناس يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني «1». قال عطاء: ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس ولا أكثر فقها ولا أعظم هيبة، أصحاب القرآن يسألونه، وأصحاب العربية يسألونه، وأصحاب الشعر يسألونه، فكلهم يصدر في واد واسع. 3 - مكانته في التفسير: لقد دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس أن يفقّهه الله تعالى في الدين، ويعلمه فهم القرآن وتأويله، فأصابه دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد أعطاه الله لسانا سئولا وقلبا عقولا، فكان يسأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القرآن وما نزل منه، حتى أضحى أعلم الناس بالقرآن. قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس. وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ابن عباس أعلم الناس بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) رواه البيهقي في سننه (5/ 158).

4 - رواية التفسير عنه

روى ابن كثير في تاريخه، عن أبي وائل شقيق بن سلمة: خطب ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرؤها ويفسّرها، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، ولو سمعته فارس والروم لأسلمت. قال إسحاق بن راهويه: إنما كان ذلك- أي كون ابن عباس أعلم من علم بالقرآن- أنه كان أخذ من علم التفسير، وضمّ إلى ذلك ما أخذه عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبيّ بن كعب وغيرهم من كبار الصحابة، مع دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له أن يعلمه الله الكتاب. 4 - رواية التفسير عنه: لزم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنين قليلة، وأخذ عن كبار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وطال عمره، حتى أضحى أكثر من نقل عنه تفسير القرآن الكريم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد رويت أقواله في بيان القرآن الكريم وتفسيره، بطرق عديدة أشهرها طرق ثلاث: أ- طريق معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذه هي أجود الطرق عنه، وقد اعتمد عليها البخاري فيما يعلقه عن ابن عباس، وكثيرا ما يعتمد عليها ابن جرير وغيره. ب- طريق قيس بن مسلم الكوفيّ، عن عطاء بن السائب، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وهذه طريق صحيحة على شرط الشيخين، وكثيرا ما يخرج منها الحاكم في مستدركه. ج- طريق ابن إسحاق- صاحب السيرة- عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وهذه طريق جيدة وإسنادها حسن، وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا.

5 - وفاته

5 - وفاته: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قد اختار المقام بمكة المكرمة، وقد اعتزل الفتن، فلما كانت خلافة عبد الله بن الزبير مقرها مكة المكرمة، خرج ابن عباس عنها إلى الطائف، وأقام بها حتى مات، وقد كفّ بصره، وصلّى عليه محمد ابن الحنفية، وقبره بجوار مسجد ابن عباس بالطائف. وكانت وفاته سنة (68 هـ) رحمه الله تعالى ورضي عنه «1». 4 - أبيّ بن كعب رضي الله عنه 1 - التعريف به: هو أبو المنذر أبيّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي. أسلم قبل هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة، وشهد بيعة العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار، وكان يكتب في الجاهلية قبل الإسلام، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآخى رسول صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهما. 2 - علمه: صحب أبيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مقدمه المدينة المنورة صلّى الله عليه وسلّم، وأقبل على كتاب الله تعالى يقرؤه ويفهمه ويعمل به، فكان حقّا صاحب علم وورع وزهادة. روى ابن سعد بسنده إلى أنس رضي الله تعالى عنه قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيّ بن كعب يوما فقال: «إن الله تبارك وتعالى أمرني أن أقرأ عليك، قال: الله سمّاني لك؟ قال: الله سمّاك لي» فجعل أبيّ يبكي «2».

_ (1) أسد الغابة (3/ 264). (2) طبقات ابن سعد (3/ 500) فيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ عليه (لم يكن ... ).

3 - مكانته في التفسير

قال مسروق: كان أصحاب القضاء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة: عمر، وعلي، وعبد الله، وأبيّ، وزيد، وأبو موسى، رضي الله تعالى عنهم. 3 - مكانته في التفسير: لقد أخذ أبيّ من فم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض القرآن الكريم- كما ذكرنا آنفا- وأخذ باقيه عنه قراءة وتعليما مع كرام الصحابة رضوان الله عليهم، وقد أثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قراءته. فقال: «أقرأ أمتي أبيّ بن كعب» «1». روى ابن سعد في طبقاته عنه قوله: إنا لنقرؤه في ثمان، يعني القرآن الكريم. وعن زر بن حبيش- أحد كبار القرّاء من التابعين، أخذ القرآن وتفسيره عنه- قال: في أبيّ بن كعب حدّة، فقلت له يوما: يا أبا المنذر، ألن لي من جانبك، فإني إنما أتمتع منك. وكان رضي الله تعالى عنه- قبل إسلامه- حبرا من أحبار اليهود العارفين بأسرار الكتب السابقة عن القرآن الكريم، وما ورد فيها، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أحد مراجع الصحابة والتابعين في قراءة القرآن الكريم، ومعرفة تفسيره كابن عباس وغيره، فكان بهذا عارفا بأسباب نزول الآيات ومواطنها، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يسميه: سيد المسلمين، وقد أمره عثمان رضي الله تعالى عنه أن يجمع القرآن. 4 - رواية التفسير عنه: ذكرنا أن أبيّا كان يكتب الوحي لرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمن البعيد أن يكتب آية ثم لا يسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن معناها، ويعرف سبب نزولها وموضعه، لذا فقد كان أحد المكثرين في تفسير كتاب الله تعالى.

_ (1) رواه الترمذي في المناقب (3793) وابن ماجة في المقدمة الباب رقم (11) وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 60).

5 - وفاته

وقد رويت أقواله في بيان القرآن وتفسيره بطرق عديدة أشهرها طريقان: أ- طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيّ رضي الله تعالى عنهم. وهذه طريق صحيحة، وقد ورد عن أبيّ نسخة كبيرة في التفسير، يرويها أبو جعفر الرازي بهذا الإسناد إلى أبيّ، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيرا، وأخرج الحاكم منها أيضا في مستدركه، والإمام أحمد في مسنده. ب- طريق وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبيّ بن كعب، عن أبيه، وهذه يخرج منها الإمام أحمد في مسنده، وهي على شرط الحسن. 5 - وفاته: روى ابن سعد بسنده إلى عتيّ بن ضمرة السعدي قال: قدمت المدينة في يوم ريح وغبرة، وإذا الناس يموج بعضهم في بعض، فقلت: ما لي أرى الناس يموج بعضهم في بعض؟ فقالوا: أما أنت من أهل هذا البلد؟ قلت: لا، قالوا: مات اليوم سيّد المسلمين أبيّ بن كعب. وكان ذلك في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وقد رجّح ابن سعد في طبقاته أنه كان في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه سنة ست وثلاثين من هجرة من له العزة والشرف صلّى الله عليه وسلّم، ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى ورضي عنه. ثانيا: أشهر المفسرين من التابعين رحمهم الله تعالى: اشتهر عدد كبير من التابعين بتفسير القرآن الكريم في المدينة المنورة، ومكة المكرمة والعراق. فمن كان منهم بالمدينة المنورة يعدّون تلامذة أبيّ بن كعب رضي الله عنه،

1 - سعيد بن جبير رحمه الله تعالى

اشتهر منهم: أبو العالية، ورفيع بن مهران الرياحي، ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهم. ومن كان منهم بمكة المكرمة يعدّون تلامذة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، منهم: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وطاوس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح. ومن كان منهم بالعراق يعدّون تلامذة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، منهم: علقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، وعامر الشعبي. ونقصر حديثنا على ثلاثة من التابعين، واحد من أهل مكة المكرمة، وواحد من أهل المدينة المنورة، وواحد من أهل العراق. 1 - سعيد بن جبير رحمه الله تعالى 1 - التعريف به: هو أبو عبد الله سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، ولد سنة خمس وأربعين، وسمع من جماعة من أئمة الصحابة، وحدّث عن ابن عباس، وعدي بن حاتم، وابن عمر، وعبد الله بن مغفل، وأبي هريرة، رضي الله تعالى عنهم. قرأ القرآن على ابن عباس، وعلى ابن مسعود، وكان فقيها ورعا. كان أسود حبشيا، من موالي بني والبة، أبيض الخصال. 2 - علمه: أخذ الفقه والتفسير عن أئمة الصحابة كما ذكرنا، وجمع علم أمثاله من التابعين. قال خصيف: كان من أعلم التابعين بالطّلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير.

3 - مكانته في التفسير

روي عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. 3 - مكانته في التفسير: قال سفيان الثوري: خذوا التفسير من أربعة، من سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحّاك. أخذ القراءة على ابن عباس عرضا يقرأ عليه القرآن، وسمع منه التفسير، وأكثر روايته في التفسير عنه. عن أشعث بن إسحاق قال: كان يقال لسعيد بن جبير: جهبذ العلماء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يا أهل الكوفة، تسألوني وفيكم سعيد بن جبير؟! 5 - وفاته: كان خرج مع ابن الأشعث على الحجاج، ثم اختفى وتنقّل في النواحي، ثم أتى به الحجاج، وحين دعاه الحجاج ليقتل دعا ولده، فبكى ولده، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة. وقتله الحجاج في قصة معروفة، وهو مظلوم، وذلك بواسط سنة خمس وتسعين رحمه الله تعالى «1». 2 - أبو العالية رحمه الله تعالى 1 - التعريف به: هو أبو العالية، رفيع بن مهران الرياحي، مولاهم. أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. روى عن عليّ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبيّ بن كعب

_ (1) انظر تهذيب التهذيب (4/ 13 - 14).

2 - علمه

رضي الله عنهم. تابعي مجمع على توثيقه، روى عن أصحاب الكتب الستة جميعا. 2 - علمه: حفظ القرآن وأتقنه، وكان عالما بالقراءة، قال ابن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية. وروى عن أبيّ بن كعب نسخة كبيرة في التفسير، أخرج منها ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم كثيرا منها في تفسيريهما، كما أخرج منها الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه. 3 - وفاته: توفي سنة (90 هـ) على أرجح الأقوال «1». 3 - علقمة بن قيس الكوفي رحمه الله تعالى 1 - التعريف به: هو علقمة بن قيس بن عبد الله الكوفي، ولد في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، غزا في سبيل الله خراسان، وأقام بخوارزم سنتين، ودخل مرو وأقام بها مدة، ولم يولد له. روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وحذيفة، وأبي الدرداء، وابن مسعود، وكثيرين غيرهم. 2 - علمه: لازم عبد الله بن مسعود فكان أعلم الناس به، وعبد الله هو الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رضيت لأمتي ما رضيه لها ابن أمّ عبد» وقال علي بن المديني: أعلم الناس بعبد الله علقمة، وعبيدة، والحارث. وقال أبو المثنى رياح:

_ (1) انظر تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر (3/ 284).

3 - مكانته في التفسير

إذا رأيت علقمة، فلا يضرك ألّا ترى عبد الله؛ أشبه الناس به سمتا وهديا، وإذا رأيت إبراهيم النخعي فلا يضرك ألّا ترى علقمة. قال أبو طالب عن أحمد: ثقة من أهل الخير. وقال قابوس بن أبي ظبيان: أدركت ناسا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألون علقمة ويستفتونه. 3 - مكانته في التفسير: قال رحمه الله تعالى: كنت رجلا قد أعطاني الله تعالى حسن الصوت بالقرآن، وكان ابن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا فداك أبي وأمي، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن حسن الصوت زينة القرآن» «1». قال إبراهيم- هو النخعي- كان أصحاب عبد الله الذين يقرءون الناس- أي القرآن- ويعلمونهم السنة، ويصدر الناس عن رأيهم ستة: علقمة، والأسود، وذكر الباقين. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لا أعلم شيئا إلا وعلقمة يعلمه، ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا القرآن من أربعة» «2» وذكر «ابن مسعود» في صدر الأربعة. كان حسن الصوت بالقرآن، جيد الحفظ، حتى لقد كان يقرؤه أحيانا في ليلة. 4 - وفاته: توفي بالكوفة سنة اثنتين وستين، وعمره تسعون سنة، رحمه الله تعالى «3».

_ (1) رواه البزار كما في كشف الأستار (2331). (2) رواه البخاري في فضائل القرآن (4713) ومسلم في فضائل الصحابة (2464). (3) انظر تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر (7/ 276 - 278).

الفصل الثالث أقسام التفسير

الفصل الثالث أقسام التفسير روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: التفسير أربعة: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تقره العرب بألسنتها، وتفسير تفسّره العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. وقال آخرون: التفسير ثلاثة أقسام: تفسير بالرواية، ويسمى التفسير بالمأثور. وتفسير بالدراية، ويسمى التفسير بالرأي. وتفسير الإشارة، ويسمى التفسير الإشاري. ويضيف بعضهم قسما رابعا، وهو تفسير باطني، ويسمى التفسير الباطني. (1) معنى التفسير بالمأثور: هو تفسير القرآن الكريم بما جاء في القرآن الكريم أو السنة، أو أقوال الصحابة والتابعين، مما ليس منقولا عن أهل الكتابين اليهود والنصارى. (2) معنى التفسير بالرأي: هو تفسير القرآن الكريم بالاجتهاد بعد معرفة المفسّر لكلام العرب، ومعرفة الألفاظ العربية ووجوه دلالتها، ومعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك. أ- ما يجوز من التفسير بالرأي: هو ما كان موافقا لكلام العرب، ومناحيهم في القول، مع موافقة الكتاب والسّنة، ومراعاة سائر شروط التفسير؛ من معرفة الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول وغيرها.

ويستدل لجوازه بالوجوه التالية: 1 - إن الله تعالى قد أمر بتدبر القرآن فقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29]. 2 - إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا لابن عباس رضي الله عنهما بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل «1»». 3 - إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختلفوا في تفسير آيات من القرآن مما لم يبين لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلو كان النظر والاجتهاد محظورا في فهم كتاب الله تعالى من أهله، لكان الصحابة قد وقعوا في معصية الله تعالى، كيف وقد رضي الله تعالى عنهم وأكرمهم بالصحبة؟! 4 - إن الناس قد درجوا على تفسير كتاب الله تعالى بالاجتهاد والنظر من أيام التدوين إلى أيامنا هذه، ولن تجتمع هذه الأمة على ضلالة. ب- ما لا يجوز من التفسير بالرأي: وهو ما كان غير جار على قوانين اللغة العربية، ولا موافقا للأدلة الشرعية، ولا مستوفيا لشرائط التفسير التي ذكرها المفسرون. ويستدل لمنعه بالوجوه التالية: 1 - نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير القرآن بالرأي، قال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» «2». 2 - خروج ذلك التفسير عن جادة التفسير حين لا يبالي بناسخ ومنسوخ، وأسباب نزول، وأمثال ذلك. قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما أخاف على هذه

_ (1) رواه أحمد (1/ 328 و 335) وابن حبّان في صحيحه (7055). (2) ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص 319).

(3) معنى التفسير الباطني

الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بيّن فسقه، لأن الناس لا تثق به، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله. 3 - تجنّبه وضع اللغة، فإن الخروج بالكلمة أو الجملة عن المراد بهما تعطيل لهما، والكلام إنما هو لإفهام معان معينة منها. وذلك مثل تفسير قوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22] أي منتقمون منهم، فإنه تفسير يجافي بيان العرب ونصوص القرآن. وتفسير قوله تعالى في حق أهل النار: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: 23] أي أزمانا ثم يخرجون منها، مع أن المراد لابثين فيها أحقابا بعد أحقاب لا يخرجون منها، كما نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما «1». وتفسير قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: 282] أي اتقوا الله فإنه يعلمكم دون تعلم، فإن سرد الآية يفيد اتقوا الله ويعلمكم الله بالقرآن ما ينفعكم في أمور المال وغيره. (3) معنى التفسير الباطني: هو تفسير القرآن الكريم على معان مخالفة لظاهر القرآن الكريم، مما يجافي معاني الكلمات والجمل في القرآن الكريم، دون دليل أو شبهة من دليل. وهذا نجده ظاهرا في تفاسير الباطنية الذين رفضوا الأخذ بظاهر القرآن، وقالوا: للقرآن ظاهر وباطن، والمراد منه: باطنه دون ظاهره. ومن أمثلة ضلالهم تأويل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بأن المراد بالصلاة هي العهد المألوف، وسمي صلاة لأنها صلة بين المستجيبين ويبن الإمام، وتأويل الصيام بأنه الإمساك عن كشف السر. حكم هذا النوع من التفسير:

_ (1) ويدل له الآيات العديدة التي تقرر الخلود الأبدي للكفار في النار.

(4) معنى التفسير الإشاري

هو تفسير باطل وإثم، بل فيه الخروج عن الإسلام لمن اعتقد ذلك، معاذ الله. ويستدل لبطلانه بالوجوه التالية: أ- إنه تفسير يقوم على عقيدة التحلل من التكاليف الشرعية، والرفض للشرائع والأحكام من حيث الحقيقة والواقع. وفي هذا نقض بناء الشريعة، وحل عرى الإسلام. ب- فضلا عن كونه غريبا عن معاني الكلمات والجمل في اللغة العربية. وفي ذلك مخالفة صريحة لقول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]. ج- إنه يجعل القرآن ملهاة، يفسره كل مفسر بما شاء له ضلاله وهواه. هـ- إنه يفك عقد المسلمين، ويفرّق جماعتهم، من جراء فقدان ضوابط تفسير القرآن الكريم. (4) معنى التفسير الإشاري: هو تفسير القرآن الكريم بغير ظاهره، لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينها وبين التفسير الظاهر المراد أيضا. مثل أن يقال في قوله تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] إن المراد بفرعون هو النفس البشرية. وأن يقال في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] إن المراد بالكفار النفس. حكم هذا النوع من التفسير: هو تفسير باطل وإثم كذلك، بل يخشى الخروج عن الإسلام لمن اعتقد ذلك، معاذ الله. ولو ألحق بالتفسير الباطني لا يعدّ بعيدا، وقد عرفت الحكم في ذلك التفسير.

اللهم إلا أن يكون التفسير الإشاري قائما على الاعتراف بمعاني ظواهر النصوص على ما تقتضيه اللغة والنصوص الشرعية الأخرى، فالمرجو ألّا يكون بأس وإثم بإذن الله، ويقرب من هذا التفسير ما قاله علماء الأصول في قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] الآية نص في وجوب نفقة الزوجة على الزوج، وهي تشير إلى أن الولد ينسب إلى أبيه، والله أعلم. وقد جعل الإمام السيوطي شروط قبول التفسير الإشاري على ما يلي: 1 - ألّا يتنافى مع ما يظهر من معنى النظم الكريم. 2 - ألّا يدّعى أنه المراد وحده دون الظاهر. 3 - ألّا يكون تأويلا بعيدا سخيفا، كتفسير بعضهم قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بجعل كلمة (لمع) فعلا ماضيا، وكلمة (المحسنين) مفعولا به. 4 - ألّا يكون له معارض شرعي أو عقلي. 5 - أن يكون له شاهد شرعي يؤيده.

الفصل الرابع التعريف بأشهر التفاسير والمفسرين

الفصل الرّابع التعريف بأشهر التفاسير والمفسرين 1 - الطبري 2 - الزمخشري 3 - الفخر الرازي 4 - القرطبي 5 - ابن كثير، مع بيان طريقة كل منهم، وخصائص تفسيره. 1 - الإمام الطبري «1» 224 - 310 هـ 1 - التعريف به: هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري من أهالي طبرستان، ولد (بآمل) سنة (224 هـ)، خرج من بلده (آمل) في الثانية عشرة من عمره يطلب العلم ويجلس إلى المشايخ، وقد سمع بالعراق والشام ومصر عن خلق كثير، واستقر به مقامه بعد ذلك في بغداد. قال أبو سعيد بن يونس: كان فقيها، قدم إلى مصر قديما سنة ثلاث وستين ومائتين وكتب بها، ورجع إلى بغداد وصنّف تصانيف حسنة تدل على سعة علمه. وقال علي بن عبد الله: مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة. قال ابن جرير يوما لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن! فأجابوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه،

_ (1) انظر ترجمته في وفيات الأعيان (2/ 233 - 233) ولسان الميزان (5/ 100 - 103) والطبقات الكبرى، للسبكي (2/ 135 - 138).

2 - طريقته في التفسير

فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أحد العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله تعالى، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسّنة وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في (تاريخ الأمم والملوك) وكتاب (التفسير) الذي لم يصنّف أحد مثله، وكتاب (تهذيب الآثار) لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمّه، وكتاب حسن في القراءات سمّاه (الجامع) وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرّد بمسائل حفظت عنه. 2 - طريقته في التفسير: أ- يفسر القرآن الكريم بالمأثور من القرآن الكريم، وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقوال الصحابة والتابعين. ب- يذكر آراء الصحابة ومن بعدهم في التفسير، واستدلالهم باللغة، ويستشهد لذلك بكلام العرب. ج- إذا تعدّدت أقوال الصحابة والتابعين يتعرّض لتوجيه الأقوال. د- يعرض للقراءات في الآيات. هـ- يهتم بالمذاهب النحوية، والأحكام الفقهية، وإجماع الأئمة. ويستنبط الأحكام التي تؤخذ من الآية. 3 - خصائص تفسيره: أ- أنه تفسير بالمأثور، لذا نجده يحمل بشدة على تفسير الآيات بالاجتهاد والنظر.

4 - وفاته

ب- ينقل في تفسيره روايات صحيحة وغير صحيحة بأسانيدها فيخرج بذلك من العهدة. ج- يوجّه للرأي الذي يراه من بين الآراء في تفسيره، فلا يدع القارئ في حيرة من أمره، لا يتجه إلى رأي بعينه إذ لا دليل له. 4 - وفاته: كان عالما زاهدا ورعا فاضلا قويا في الحق فصيح اللسان، وكانت وفاته في بغداد وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال سنة (310 هـ) وقد تجاوز الثمانين بخمس أو ست سنين.

2 - الزمخشري 467 - 538 هـ

2 - الزمخشري «1» 467 - 538 هـ 1 - التعريف به: هو أبو القاسم محمود بن محمد الزمخشري الخوارزمي، ولد بزمخشر سنة (467 هـ)، رحل في طلب العلم إلى بخارى، وقدم بغداد، فسمع من أبي الخطاب بن البطر، وشيخ الإسلام أبي منصور الحارثي، وجماعة. كان واسع العلم، كثير الفضل، غاية في الذكاء، وجودة القريحة، متفننا في كل علم، معتزليا قويا في مذهبه، مجاهرا به، وداعية إليه، حنفيا، علّامة في الأدب والنحو، كان مقطوع إحدى رجليه، وقد ذكر هو سبب ذلك، قال: كنت في صباي أمسكت عصفورا وربطته بخيط في رجله، فأفلت من يدي فأدركته وقد دخل في خرق فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألّمت والدتي لذلك، وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت رجله، فلمّا وصلت إلى سنّ الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابّة فانكسرت رجلي، وعملت عليّ عملا أوجب قطعها. وقيل: إنها سقطت من برد شديد أصابه في بعض أسفاره ببعض بلاد خوارزم. أقام بمكة سنين وفيها أتمّ تفسيره الكشّاف، فلقّب جار الله تعالى، لجواره بيت الله الحرام.

_ (1) انظر ترجمته في وفيات الأعيان (2/ 509 - 513) وشذرات الذهب (4/ 121).

2 - طريقته في التفسير

صنّف كثيرا من الكتب، منها: (الكشّاف) في التفسير، و (الفائق) في غريب الحديث، و (أساس البلاغة) و (المفصّل) في النحو، و (المستقصى) في الأمثال، وله شعر جيد منه قوله: وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين فقلت هو الدرّ الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذني تساقط من عيني 2 - طريقته في التفسير: يعدّ (الكشاف) من كتب التفسير بالرأي- مع انحراف إلى الاعتزال- ويعتمد في تفسيره على لغة العرب وأساليبهم، ويعنى عناية خاصة بعلوم البلاغة، تحقيقا لوجوه إعجاز القرآن الكريم، ويؤوّل آيات التوحيد بما يوافق طريقة الاعتزال التي انزلق إليها. 3 - خصائص تفسيره: أ- خلوّه من الحشو والتطويل، وسلامته من القصص والإسرائيليات الباطلة. ب- اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم في البيان. ج- سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب. 4 - وفاته: وحين أتمّ إحدى وسبعين سنة من عمره، وبعد عودته من مكة المكرمة، توفي بجرجانية خوارزم سنة (538 هـ)، وقد أوصى أن يكتب على قبره: إلهي قد أصبحت ضيفك في الثرى ... وللضيف حق عند كلّ كريم فهب لي ذنوبي في قراي فإنّها ... عظيم ولا يقرى بغير عظيم رحمه الله تعالى وعفا عنه.

3 - الرازي 544 - 606 هـ

3 - الرازي «1» 544 - 606 هـ 1 - التعريف به: هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني الأصل، ثم الرازي ابن خطيبها، من ذرية أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، ولد في الخامس والعشرين من رمضان سنة (544 هـ) بمدينة الريّ، اشتغل أولا على والده ضياء الدين عمر، ثم على الكمال السمناني، وعلى المجد الجيلي، وغيرهم، وأتقن علوما كثيرة وبرز فيها، وتقدّم وساد، وقصده الطلبة من سائر البلاد. كان واعظا له في الوعظ اليد البيضاء، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر بمجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه، وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السّنة، فكان يلقّب بهراة شيخ الإسلام. قال الداودي فيه: المفسّر المتكلم إمام وقته في العلوم العقلية، وأحد الأئمة في العلوم الشرعية، صاحب المصنفات المشهورة، والفضائل الغزيرة المذكورة، وأحد المبعوثين على رأس المائة السادسة لتجديد الدين. وتصانيفه كثيرة في فنون عديدة، منها (التفسير الكبير) و (الأربعين في أصول الدين) و (المحصل) و (البيان والتبيين) في الرد على أهل الزيغ والطغيان، وشرح

_ (1) انظر ترجمته في وفيات الأعيان (2/ 265 - 268) وشذرات الذهب (5/ 21).

2 - طريقته في التفسير

أسماء الله الحسنى، وشرح المفصل للزمخشري، ومناقب الإمام الشافعي. وغيرها، وكل كتبه مفيدة، وله شعر جيد منه: المرء ما دام حيّا يستهان به ... ويعظم الرّزء فيه حين يفتقد ومنه: وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال وكم قد رأينا من جبال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا 2 - طريقته في التفسير: يعدّ تفسيره (مفاتيح الغيب) من أعظم تفاسير الرأي وأوسعها، يعنى بربط الآيات والسور بعضها ببعض، ويعنى باللغة والبيان، ومسائل الفقه، ويميل فيها إلى ترجيح مذهب إمامه الشافعي رحمه الله تعالى، ولكنّ أعظم عنايته بمسائل الكلام والحكمة، فهو فيها الفارس المجلّى والعلم الفرد، ويعنى أحيانا بنقل أقوال الصحابة والتابعين لتفسير الكلمات، وبيان المراد من الآيات. 3 - خصائص تفسيره: أ- العناية بتفسير الصحابة والتابعين للآيات أحيانا. ب- ذكر ما يناسب الآيات من الموضوعات. يقول: وهاهنا مسائل، ثم يوردها مسألة مسألة، وإن كان ثمّة اعتراضات أوردها ثم أجاب عليها. ج- العناية بعلوم اللغة من معاني المفردات والبلاغة بإيجاز كاف. د- الاقتصاد في ذكر الإسرائيليات والحشو من التفسير. هـ- العناية بربط الآيات والسور بعضها ببعض، وقد لا يخلو الأمر في هذا من التكلف أحيانا.

4 - وفاته

4 - وفاته: كان قد رزق سعادة في مؤلفاته، وسعادة في تلامذته، وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ من الفقهاء وغيرهم. توفي رحمه الله تعالى بمدينة هراة «1» يوم الاثنين يوم عيد الفطر سنة (606 هـ). رحمه الله تعالى.

_ (1) مدينة كبيرة في أفغانستان.

4 - القرطبي المتوفى سنة 671 هـ

4 - القرطبي «1» المتوفى سنة 671 هـ 1 - التعريف به: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي المالكي الأندلسي القرطبي، سمع من ابن رواج، ومن ابن الجميزي، وأبي العباس القرطبي شارح صحيح مسلم وغيرهم. قال الداودي: كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجّه وعبادة وتصنيف، جمع في تفسير القرآن الكريم كتابا كبيرا في خمسة عشر مجلدا سمّاه كتاب «جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي القرآن» وهو من أجلّ التفاسير وأعظمها نفعا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ، وله شرح الأسماء الحسنى في كتاب يقع في مجلدين سمّاه (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) وكتاب (التذكار في أفضل الأذكار) وضعه على طريقة (البيان) للنووي، لكن هذا أتم منه وأكثر علما، وكتاب (التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة).

_ (1) انظر ترجمته في نفح الطيب (1/ 428) والديباج (ص 317).

2 - طريقته في التفسير

وقال الذهبي عنه: إمام متقن متبحّر في العلم، له تصانيف مفيدة تدلّ على إمامته، وكثرة اطلاعه، ووفور فضله. 2 - طريقته في التفسير: يعدّ تفسيره من أجلّ كتب التفسير التي وصلت إلينا وأفضلها، جمع فيه تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسيره بالسّنة، ثم أقوال الصحابة والتابعين، وأقوال العلماء واستنباطهم لما تدل عليه الآيات، وعرض لمسائل الفقه ببيان مشرق، وينسب إلى كل فقيه رأيه، ويذكر حجته، وقد يرجّح رأيا من آراء من نقل عنهم، إلى جانب تخريج الأحاديث والعناية بالقراءات واللغات والإعراب. 3 - خصائص تفسيره: قال رحمه الله تعالى: وشرطي في هذا الكتاب، إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله، وكثيرا ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا لا يعرف الصحيح من السقيم، فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرّجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام. وأضرب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لا بدّ منه ولا غنى عنه للتبيين، واعتاض عن ذلك بتبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمّت كلّ آية- تتضمن حكما أو حكمين فما زاد- مسائل تبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير للغريب، والحكم، فإن لم تتضمن حكما ذكر ما فيها من التفسير والتأويل، وهكذا إلى آخر الكتاب.

4 - وفاته

4 - وفاته: كان طارح التكلّف يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقيّة. وكان مستقرا بمنية بني خضيب من الصعيد الأدنى، وفيها توفي ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة إحدى وسبعين وستمائة رحمه الله تعالى.

5 - إسماعيل بن كثير 701 - 774 هـ

5 - إسماعيل بن كثير «1» 701 - 774 هـ 1 - التعريف به: هو أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي الدمشقي. ولد بقرية شرقي بصرى سنة 701 هـ، ثم قدم دمشق وله نحو سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه، وتتلمذ لكثير من العلماء منهم: الحافظ المزّي، وتزوّج ابنته، وأقبل على علم الحديث، وأخذ الكثير عن ابن تيمية. وقال ابن حبيب فيه: إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل- التفسير- سمع وجمع وصنّف، وأطرب الأسماع بأقواله وشنّف، وحدّث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير. قال فيه شيخه الإمام الذهبي (في المعجم): فقيه متفنّن، ومحدّث متقن، ومفسّر نقّاد. صنّف في صغره كتاب «الأحكام على أبواب التنبيه» والتاريخ المسمّى ب «البداية والنهاية» والتفسير، واختصر (تهذيب الكمال) للمزّي، وأضاف إليه ما تأخر في «الميزان» وسمّاه «التكميل» وغيرها. ومن شعره قوله:

_ (1) انظر ترجمته مستوفاة في كتاب الفصول في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم (ص 29 - 71) تحقيق محيي الدين مستو، ود. الخطراوي- الطبعة السابعة.

2 - طريقته في التفسير

تمرّ بنا الأيام تترى وإنّما ... نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ... ولا زائل هذا المشيب المكدّر 2 - طريقته في التفسير: يفسّر القرآن الكريم بعبارة سهلة وجيزة، ويجمع آيات الموضوع الواحد، وهو يستعين على تفسير القرآن بالقرآن أولا، ثم يسرد الأحاديث المتعلّقة بالآية منسوبة إلى مخرجيها، وبيان درجة كل حديث غالبا- إلا ما كان في الصحيحين فلا يذكر له درجة لأنه صحيح كله- ثم يورد أقوال الصحابة، والتابعين أحيانا، وقلّ أن يفسّر كلمات الآيات إلا أثناء التفسير. 3 - خصائص تفسيره: أ- لا يعنى بتفسير الكلمات مستقلة كما يفعل الإمام الطبري، بل يذكرها مفسرة أثناء تفسيره. ب- لا يعرض للقراءات المختلفة أثناء التفسير كذلك. ج- يفسّر القرآن بالقرآن، ثم بالسّنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ولا يستعين بأقوال علماء العربية في تفسيره. د- ينسب الآيات- أثناء تفسيره- إلى سورها، والأحاديث إلى مخرجيها، ويشير إلى ما كان ضعيفا أو منكرا منها. هـ- لا يكاد يعرض للإسرائيليات أثناء تفسيره، فضلا عن الاستدلال بها، وتلك مزية له. ويرجّح بعض الأقوال على بعض أحيانا، وقد يعرض لبعض الخلافات الفقهية بإيجاز.

4 - وفاته

4 - وفاته: قال فيه تلميذه شهاب الدين بن حجّي: ... وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إلا واستفدت منه. وقد كفّ بصره آخر عمره، وتوفّي بدمشق في خمس من شعبان (772 هـ)، ودفن بمقبرة الصّوفية عند شيخه ابن تيمية، رحمه الله تعالى.

الباب العاشر ترجمة القرآن الكريم

الباب العاشر ترجمة القرآن الكريم الفصل الأول: الحكمة من إنزال القرآن باللغة العربية، ومعنى الترجمة لغة واصطلاحا. الفصل الثاني: الفروق بين الترجمة والتفسير. الفصل الثالث: حكم الترجمة تفصيلا. أسباب استحالة الترجمة وبيان حرمتها. حكم القراءة بما يزعم أنها ترجمة. الفصل الرابع: النتائج الخطيرة المترتبة على الترجمة. ترجمة تفسير القرآن تغني عن الترجمة المزعومة.

الفصل الأول الحكمة من إنزال القرآن باللغة العربية - معنى الترجمة

الفصل الأول الحكمة من إنزال القرآن باللغة العربية- معنى الترجمة تمهيد: البحث في إمكانية ترجمة القرآن الكريم ليس أمرا نظريا أو افتراضيا، وإنما هو موضوع واقعي شغل العلماء في كثير من البلاد الإسلامية منذ مطلع هذا القرن، ولا يزال إلى اليوم بحثا فكريا هاما وخطيرا، يحتاج إلى دراسة هادئة وواضحة، تكشف عن دوافعه ومراميه، وتوجهه الوجهة البناءة الصحيحة. وخاصة بعد أن توضّح لكل مسلم غيور على قرآنه ودعوته، أن هذه الفكرة إنما أثارها أعداء الإسلام من المستشرقين والمبشرين؛ لتمزيق أوصال العالم الإسلامي، وتشويه مبادئ الإسلام ومعانيه. وظهرت في العالم ترجمات كثيرة «1»، وبلغات متعددة شرقية وغربية، وزعم الذين قاموا بها أنهم نقلوا القرآن الكريم من اللغة العربية إلى هذه اللغات، فجاءت مليئة بالأخطاء الفاحشة، بعيدة عن تحقيق مقاصد النص العربي بعد الأرض عن السماء. ومهمتنا في هذا البحث تتركز في ذكر الحكمة من إنزال القرآن الكريم باللغة

_ (1) بلغت بإحصاء بعض الباحثين/ 120/ ترجمة في/ 35/ لغة، وانظر مناهل العرفان (2: 3).

أولا: الحكمة من إنزال القرآن الكريم باللغة العربية

العربية وفي الأمة العربية وإيضاح معنى الترجمة، وأسباب استحالتها، وبيان حكمها الشرعي، والنتائج الخطيرة المترتبة عليها، وما يغني عنها، والله ولي التوفيق. أولا: الحكمة من إنزال القرآن الكريم باللغة العربية: اصطفى الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليكون الرسول الخاتم بين يدي الساعة، واختار الله قومه العرب ليكونوا حملة الرسالة ودعاة الإسلام إلى الإنسانية جمعاء، وكانت الأمة العربية عند انبثاق فجر الإسلام تعيش جاهلية جهلاء في معتقداتها وعاداتها وحروبها، ولكنّها وصلت إلى حضارة لغوية متميزة، تجعلها أهلا لنزول الوحي الإلهي المعجز بلسانها، قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]. ومن هنا كانت معجزة الرسول الكبرى القرآن الكريم، من جنس ما اشتهر به قومه من الفصاحة والبلاغة، فجاء يتحدّاهم في نفيس بضاعتهم، وأبرز أسباب شهرتهم وتفوّقهم. ونستطيع أن نحدّد الحكمة من اختيار إنزال القرآن الكريم باللّغة العربية بأمرين: الأول: ما تتمتع به اللغة العربية من مقوّمات اللغات الحيّة وعناصر قوّتها واستمرارها، وذلك من حيث وفرة مفرداتها بالأصالة والاشتقاق، أو بالحقيقة والمجاز. أو من حيث قبولها للتطور والتقدّم الحضاري، أو من حيث مرونة أساليبها، وصلاحيتها لكلّ ما يراد منها، أو من حيث فصاحة ألفاظها وبلاغة تراكيبها. الثاني: لو تنوّع النظم المنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسب اختلاف ألسنة الأمم، لأدى هذا إلى الاختلاف والتنازع، ولتطرق التحريف إلى الكتاب المنزل، بل يقرب من المحال أن يتّحد هذا المنزل مع تعدّد اللغات، وتنوع اللهجات، وتعدّد الخصائص والدلالات، بالنسبة لاستنباط الأحكام، ورسم المنهج، ومعرفة الحدود، وإحكام جميع العبادات والتشريعات.

ثانيا: معنى الترجمة لغة وشرعا

فالحمد لله على إزالة هذا التناكر والتدابر، باختيار اللغة العربية الراقية، لتنال شرف نزول الوحي الإلهيّ بها، ولترتقي وحدها إلى تحمّل إعجازه الذي لا يتسع له غيرها، وإنها لمسئولية وفخار للأمة صاحبة اللغة واللسان، حدّدها الله سبحانه بقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف: 44]. ثانيا: معنى الترجمة لغة وشرعا: أ- للترجمة في اللغة أربعة معان: 1 - تبليغ الكلام لمن لم يبلغه، ومنه قول الشاعر: إنّ الثمانين- وبلّغتها-* قد أحوجت سمعي إلى ترجمان 2 - تفسير الكلام بلغته التي جاء بها، ومنه ما قيل في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إنه ترجمان القرآن. 3 - تفسير الكلام بلغة غير لغته. وقد جاء في لسان العرب والقاموس: أن الترجمان هو المفسر للكلام. وقال شارح القاموس ما نصّه: وقد ترجم عنه وترجمه إذا فسّر كلامه بلسان آخر. 4 - نقل الكلام من لغة إلى أخرى، قال في لسان العرب: الترجمان- بالضم والفتح- هو الذي يترجم الكلام، أي ينقله من لغة إلى أخرى. ولكون هذه المعاني الأربعة فيها بيان للشيء المراد ترجمته، جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة، فقيل: ترجم لهذا الباب بكذا أي عنون له، وترجم لفلان أي بيّن تاريخه، وترجمت حياته أي بين ما كان فيها ... إلخ. ب- أما الترجمة في العرف والاصطلاح: فهي التعبير عن معنى كلام في لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده.

تقسيم الترجمة

وقيل: هي نقل الكلام من لغة إلى أخرى عن طريق التدرج من الكلمات الجزئية إلى الجمل والمعاني الكلية. ونخرج من هذا التعريف الاصطلاحي بالملاحظات التالية: 1 - الترجمة نقل للكلام، فبينما يكون الكلام في لغة من اللغات، يتحول عن طريق الترجمة إلى لغة أخرى. 2 - يشترط في الترجمة الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده، ولذلك يتم فيها استيفاء الكلام المترجم كلمة كلمة، والملاءمة بينها وبين المعنى الأصلي للنص. 3 - انحصر معنى الترجمة عرفا واصطلاحا في المعنى الرابع من معانيها اللغوية، وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى. 4 - يفهم من الترجمة أنها كالأصل تقوم مقامه وتأخذ اسمه. تقسيم الترجمة: وتنقسم الترجمة بهذا المعنى العرفي إلى قسمين: أولهما: الترجمة الحرفية: وتكون بنقل كل كلمة عربية إلى نظائرها من اللغة المترجم إليها، مع مراعاة النظم والترتيب في الجملة، ودون النظر إلى المعنى، وتسمى الترجمة اللفظية أو المساوية. ثانيهما: الترجمة المعنوية: وتكون بأن يلم المترجم بمعنى الجملة العربية، ثم يصوغه في جملة من اللغة الأخرى، ودون أن يقيد نفسه بترتيب الكلمات أو مساواتها كما في الأصل. وتسمى الترجمة التفسيرية. وإذا كانت الترجمة الحرفية مستحيلة، لوجود الاختلافات الكبيرة بين اللغات من حيث ترتيب الجملة، وعدم توفر المفردات المتقابلة المساوية. فإن الترجمة المعنوية أيضا متعذرة ويدخلها خلل واضح، ونسوق إثبات ذلك المثالين التاليين:

المثال الأول: ما صنعه (ماكس هينج) - مترجم القرآن إلى اللغة الألمانية- في قوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] حيث ترجم كلمة الإبل بالسحاب. وهو أحد المعاني التي حملت عليها الآية، والجمهور يفسّرون الإبل بالحيوان المعروف، وهو المتبادر، ولا داعي للتأويل، والخلل واضح في هذه الترجمة سواء كانت حرفية أو معنوية. المثال الثاني: ما فعله (مارماديوك) مترجم القرآن إلى اللغة الإنكليزية في قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: 18] حيث ترجم كلمة (فيدمغه) بمعناها الأصلي وهو (فيشق رأسه) علما أن القرآن الكريم يستعملها في هذه الآية ويريد منها المعنى المجازي وهو (الغلب). ويترجم قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] بمدلولها الأصلي، وهو جمع اليد إلى العنق وإطلاقها، فيقول: لا تجعل يدك مربوطة إلى رقبتك ولا تتركها من غير ربط، ولا شك أن التشويه والمسخ ظاهر في هذه الترجمات التي ما أريد بها وجه الله ولا هداية الناس.

الفصل الثاني الفروق بين الترجمة والتفسير

الفصل الثاني الفروق بين الترجمة والتفسير لقد مر معنا أن الترجمة هي: التعبير عن معنى كلام في لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده. أما التفسير فهو لغة: الإيضاح والتبيين. واصطلاحا: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية. ومن هذين التعريفين لكل من الترجمة والتفسير، نتبين أن الترجمة سواء كانت حرفية أو معنوية- غير التفسير مطلقا- وسواء أكان بلغة الأصل، أم تفسيرا بغير لغة الأصل، وذلك من وجهين: الأول: الترجمة تعني: الإحاطة بمعنى الكلام وصبه في ألفاظ لغة أخرى، بينما التفسير يعني: تبيين وتوضيح معنى الكلام على حسب فهمه. وكأن المترجم يقول: معنى هذا الكلام هو عين معنى الآية، بينما المفسر يقول: معنى هذا الكلام هو كذا ... الثاني: وفي الترجمة اهتمام بالكلمة والأداة التعبيرية والصياغة، بينما في التفسير اهتمام بنقل المعنى القريب أو البعيد المقصود من الألفاظ. ومع وضوح هذا التفريق بين الترجمة والتفسير، فإن الخلط أو الاشتباه وقع

الفارق الأول

عند بعض الكتّاب بين الترجمة المعنوية، والتفسير بغير لغة الأصل، وقد ذكر فضيلة الأستاذ محمد عبد العظيم الزرقاني فروقا أربعة «1»؛ لمنع وقوع أي اشتباه أو خلط في هذا الأمر، وهي: الفارق الأول: أن صيغة الترجمة صيغة استقلالية يراعى فيها الاستغناء عن أصلها وحلولها محله، أما التفسير فإنه قائم أبدا على الارتباط بأصله، بأن يؤتى مثلا بالمفرد أو المركب، ثم يشرح شرحا متصلا به، ثم ينتقل إلى جزء آخر مفرد أو جملة، وهكذا من بداية التفسير إلى نهايته بحيث لا يمكن تجريد التفسير وقطع وشائج اتصاله بأصله مطلقا. الفارق الثاني: أن الترجمة لا يجوز فيها الاستطراد، أما التفسير فيجوز بل يجب فيه الاستطراد. وذلك لأن الترجمة مفروض فيها أنها صورة مطابقة لأصلها حاكية له، فمن الأمانة أن تساويه بدقة من غير زيادة ولا نقص، حتى لو كان في الأصل خطأ لوجب أن يكون الخطأ عينه في الترجمة، بخلاف التفسير فإن المفروض فيه أنه بيان لأصله وتوضيح له. وقد يقتضي هذا البيان والإيضاح أن يذهب المفسر مذاهب شتى في الاستطراد توجيها لشرحه، أو تنويرا لمن يفسر لهم، ويظهر ذلك في شرح الألفاظ اللغوية، وخاصة إذا أريد بها غير ما وضعت له، وفي المواضع التي يتوقف فهمها على ذكر مصطلحات أو سوق أدلة أو بيان حكمة. الفارق الثالث: أن الترجمة تتضمن- عرفا- دعوى الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده، أما

_ (1) ونحن نسوق هذه الفروق هنا- استكمالا للبحث- باختصار وتصرف يسير من كتاب مناهل العرفان (2: 10 - 13).

الفارق الرابع

التفسير فإنه قائم على الإيضاح كما قلنا، سواء أكان هذا الإيضاح بطريق إجمالي أو تفصيلي. متناولا كافة المعاني والمقاصد أو مقتصرا على بعضها دون بعض طوعا للظروف التي يخضع لها المفسر ومن يفسر لهم. الفارق الرابع: أن الترجمة تتضمن- عرفا- دعوى الاطمئنان إلى أن جميع المعاني والمقاصد التي نقلها المترجم، هي مدلول كلام الأصل وأنها مرادة لصاحب الأصل منه. والتفسير ليس كذلك، بل المفسر تارة يدعي الاطمئنان إذا توفرت لديه أدلته، وتارة لا يدعيه، وذلك عند ما تعوزه تلك الأدلة. ثم هو أحيانا يصرح بالاحتمال ويذكر وجوها محتملة مرجحا بعضها على بعض، وأحيانا يسكت عن التصريح أو عن الترجيح، وقد يبلغ به الأمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو جملة ويقول: ربّ الكلام أعلم بمراده، على نحو ما نحفظه للكثير من المفسرين إذا عرضوا لمتشابهات القرآن ولفواتح السور المعروفة. والدليل على أن الترجمة تتضمن دعوى الاطمئنان إلى ما حوت من معان ومقاصد: أن الناس يحلون الترجمات محل أصولها، ويستغنون بها عن تلك الأصول، بل قد ينسون هذه الأصول جملة. وهذا لا يمكن أن يقع مثله في التفسير، لأنه بيان لا يمكن أن يقوم مقام المبين، ولا يدعى فيه الاطمئنان إلى أنه واف بجميع أغراضه ومعانيه.

الفصل الثالث حكم ترجمة القرآن تفصيلا

الفصل الثالث حكم ترجمة القرآن تفصيلا وعلى ضوء ما سبق نتبين أن للترجمة أربعة معان رئيسية: ثلاثة منها ترجع إلى اللغة وحدها، والرابع تشترك فيه اللغة والعرف. ومن المناسب الآن أن نعرف حكم كل من هذه المعاني على حدة: 1 - ترجمة القرآن بمعنى تبليغ ألفاظه: وهذه جائزة شرعا «1»، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بلّغوا عني ولو آية» «2» وقال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» «3». 2 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية: وحكمها الجواز الشرعي أيضا، لقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. وقد قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه المهمة خير قيام، حتى اعتبرت السنة النبوية كلها شارحة للقرآن، وتأثر العلماء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفسروا القرآن حسب طاقتهم البشرية، حتى أصبحت المكتبات زاخرة بالتفاسير العربية للقرآن الكريم. 3 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية: أي أن تفسير القرآن بلغة غير لغته العربية، لمن لا يحسن العربية، وهذه جائزة

_ (1) المراد بالجواز هنا ما يقابل الحظر، وقد يكون الجائز واجبا أو مندوبا. (2) رواه البخاري في الأنبياء (3274) والترمذي في العلم (2669). (3) رواه البخاري في فضائل القرآن (4739) والترمذي في فضائل القرآن (2909).

أسباب استحالة الترجمة وبيان حرمتها

شرعا وتجري في حكمها مجرى التفسير العربي لمن يحسن العربية، فكلاهما جائز؛ لأنه وسيلة لفهم القرآن وبيان لمراد الله سبحانه وتعالى حسب الطاقة البشرية. 4 - ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى: أي أن يعبر عن معاني ألفاظه العربية ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعاني والمقاصد، وعرفنا سابقا أنها قد تكون (ترجمة حرفية) أو (ترجمة معنوية). وهذه الترجمة هي المقصودة من هذا البحث، وهي التي شجر فيها الخلاف واضطربت الآراء. والقول الصحيح والحق منها؛ أنها مستحيلة الوقوع عادة وعقلا، ومحرمة شرعا، وفيما يلي أسباب استحالتها وبيان حرمتها: أسباب استحالة الترجمة وبيان حرمتها أ- أما كونها مستحيلة عادة وعقلا فالاستدلال على ذلك من طريقين: 1 - لأن ترجمة القرآن بهذا المعنى تستلزم المحال، وكل ما يستلزم المحال محال. إذ لا بد في تحقيقها من الوفاء بجميع معاني القرآن الأولية والثانوية «1»، وبجميع مقاصده «2»، كما في أسلوب علوم المعاني والبيان المتعددة المرامي، الفسيحة الميدان، والتي هي أساس بلاغته وإعجازه، وكل ذلك مفقود في غير العربية. وما كان لبشر أن يحيط بها فضلا عن أن يحاكيها في كلام له.

_ (1) المعاني الأولية: ويقال لها المعاني الأصلية، وهي ما تحصل من مجرد نسبة الفعل إلى الفاعل أو المبتدأ إلى الخبر، وسمي معنى أوليا لأنه أول ما يفهم من اللفظ. أما المعاني الثانوية: فهي ما يبحث عنها في علوم البلاغة، وهي مظهر بلاغة القرآن. (2) للقرآن ثلاثة مقاصد: أ- أن يكون هداية. ب- وأن يكون معجزة لتأييد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ج- وأن يتعبد الله خلقه بتلاوة كلامه المقدس.

2 - ولأن ترجمة القرآن بهذا المعنى مثل للقرآن، وكل مثل للقرآن مستحيل، وقد ثبت أن القرآن تحدى أفصح العرب أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، فعجزوا عن المعارضة والمحاكاة، ولا شك أن غير العرب أشد عجزا وبعدا عن ذلك، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88]. ب- وأما كونها محرمة شرعا فللأمور التالية: 1 - إن طلب المستحيل العادي حرام أيا كان الطلب ولو بطريق الدعاء، وأيا كان هذا المستحيل ترجمة أو غير ترجمة، لأنه ضرب من العبث وتضييع للوقت والمجهود في غير فائدة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]. 2 - إن محاولة هذه الترجمة ادعاء لإمكان وجود مثل القرآن ... وذلك تكذيب شنيع لقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 88] إلخ الآية. 3 - إن الأمة قد أجمعت على عدم جواز رواية القرآن بالمعنى، ومعلوم أن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي تساوي روايته بالمعنى، فكلتاهما صيغة مستقلة وافية بجميع معاني الأصل ومقاصده، لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية. فالرواية بالمعنى لغتها لغة الأصل، وهذه الترجمة لغتها غير لغة الأصل. وإذا كانت رواية القرآن بالمعنى في كلام عربي ممنوعة إجماعا، فهذه الترجمة ممنوعة كذلك قياسا على هذا المجمع عليه، بل أحرى بالمنع للاختلاف بين لغتها ولغة الأصل. 4 - إن الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين متفقون على أن الأعلام لا يمكن ترجمتها، سواء كانت موضوعة لأشخاص أم لبلاد أم لحيوان أم لكتب ومؤلفات. والقرآن الكريم علم رباني أراد الله سبحانه ألفاظه دون غيرها، وأساليبه دون سواها؛

حكم القراءة بما يزعم أنه ترجمة

لتدل على هدايته، وليؤيد بها رسوله، وليتعبد بتلاوتها عباده. حكم القراءة بما يزعم أنه ترجمة اتفقت كلمة الفقهاء على منع قراءة ترجمة القرآن بأي لغة كانت إذا كانت هذه القراءة خارج الصلاة، لأن في ذلك إخراجا للقرآن عن إعجازه وبيانه وهديه، وأما القراءة بغير العربية في الصلاة ففيه مذهبان: الأول: ما ذهب إليه الشافعية والمالكية والحنابلة، فقد منعوا القراءة بترجمة القرآن في الصلاة، سواء أكان المصلي قادرا على العربية أم عاجزا «1»، وذلك لأن ترجمة القرآن في نظرهم ليست قرآنا، إذ القرآن هو هذا النظم المعجز الذي وصفه الله تعالى بكونه عربيا، وبالترجمة يزول الإعجاز؛ قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت: 44]. الثاني: ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: وهو جواز القراءة بالأعجمية عند العجز عن النطق بالعربية، وهو القول المفتى به في المذهب الحنفي. قال في (معراج الدراية): إنما جوزنا القراءة بترجمة القرآن للعاجز إذا لم يخلّ بالمعنى، لأنه قرآن باعتبار اشتماله على المعنى، فالإتيان به أولى من الترك مطلقا، إذ التكليف بحسب الوسع.

_ (1) العاجز عن تلاوة القرآن باللسان العربي لا قراءة عليه، وإنما يذكر الله بلسانه، ويلزمه أن يتعلم.

وأما ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ من صحة القراءة بالفارسية ولو للقادر على العربية، فقد صح رجوعه عنه «1»، والقول الذي يرجع عنه المجتهد لا يعد قولا في المذهب ولا قولا له.

_ (1) ورواية رجوع أبي حنيفة هذه تعزى إلى فقهاء مشهورين في المذهب الحنفي منهم نوح بن مريم، وعلي بن الجعد، وأبو بكر الرازي، وحافظ الدين النسفي، وينقل النسفي رجوع الإمام فيقول: «لا يجوز مع القدرة بغير العربية ... ولو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنونا فيداوى، أو زنديقا فيقتل».

الفصل الرابع النتائج الخطيرة المترتبة على الترجمة

الفصل الرّابع النتائج الخطيرة المترتبة على الترجمة لقد أشرنا في بداية هذا البحث إلى أن الدعوة إلى ترجمة القرآن دعوة مشبوهة ومكيدة استعمارية ظاهرة، وعرضنا فيما سبق بالحجة والدليل استحالة وقوعها عقلا، وحرمتها شرعا، وعدم جواز القراءة بها في الصلاة أو خارجها. ومع ذلك فإن بعض من خدعوا بهذه الدعوة وتحمسوا لها وقع في ذهنهم أن لترجمة القرآن الكريم فائدة هي نشر دعوة الإسلام بين الشعوب غير العربية، ومعارضة ما ينشر في أوربا- من ترجمات مليئة بالأخطاء الفاحشة صدرت عن جهالة أو على عمد- بنقل صحيح لمعاني القرآن الكريم، وردا على هؤلاء المغرر بهم نسوق النتائج الخطيرة المترتبة على الترجمة وهي أخطار ثلاثة: 1 - خطر يحيق بالقرآن الكريم: أ- إن محاولة ترجمة القرآن، تشجع الناس على انصرافهم عن كتاب ربهم، مكتفين ببدل أو أبدال يزعمونها ترجمات له، وإذا امتد الزمان بهذه الترجمات فسيذهب اسم الترجمة ويبقى اسم القرآن علما عليها. وقد جاء في ملحق لمجلة الأزهر: إن أهالي جاوه المسلمين يقرءون الترجمة الإفرنجية ويقرءونها لأولادهم وهم يعتقدون أن ما يقرءون هو القرآن الصحيح؟. ب- وعند ما نجيز الترجمة، ويصل الأمر إلى حد استغناء الناس عن القرآن، فإن هذا يعرض الأصل العربي للضياع، كما ضاع الأصل العربي للأناجيل ولم يبق إلا ترجمتها اليونانية أو ترجمة بعضها، مما أدى إلى تحريفها وتبديلها، وهكذا يكون القرآن- لا قدر الله- لو ترجم واعترف بالترجمة واعتبرت قرآنا.

2 - خطر ينزل بالأمة الإسلامية

2 - خطر ينزل بالأمة الإسلامية: أ- إن شعوب الأمة الإسلامية تجتمع حول راية القرآن، فإذا قبلنا بفكرة الترجمة، كان معنى ذلك أن نوجد لكل شعب ترجمة بلسانها، وهذا يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين ويضعف الروابط بينهم؛ والله سبحانه يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 130]. ب- إن فتح هذا الباب يوجد في العالم ترجمات كثيرة لا حصر لها، وهي بالتأكيد مختلفة فيما بينها، وينشأ عن هذا الاختلاف في الترجمات خلاف بين المسلمين أشبه باختلاف اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل، وهذا الخلاف يصدع بناء المسلمين، ويهيئ لأعدائهم فرصة، ويوقظ بينهم فتنة عمياء. 3 - خطر يحل باللغة العربية: القرآن الكريم مدّ سلطان اللغة العربية على منطقة من أوسع مناطق الدنيا واخترق بها قارات ثلاثا هي: آسية وإفريقيا وأوربا (الأندلس)، وجعل العربية هي اللغة العالمية المشتركة المنشودة، فكل مسلم يشعر أن العربية لغته لأن القرآن قد نزل بها. ونحن اليوم عند ما نقبل ترجمة القرآن إلى أي لسان، فإنما نكون قد زدنا المسلمين من غير العرب انصرافا عن اللغة العربية وعلوم القرآن، وقبلنا العزلة لأنفسنا ولغتنا، والله سبحانه وتعالى أراد لنا العزة، وأن تبقى لغة القرآن هي لغة الإسلام والمسلمين في كل الأرض. قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]. ترجمة تفسير القرآن تغني عن ترجمته المزعومة وإذا كانت أمتنا مسئولة عن تبليغ رسالة القرآن، وتوضيح مقاصده العظيمة

وهديه القويم لكل الناس، مهما اختلفت ألسنتهم وتباعدت بلادهم، مع الحرص على صيانة القرآن من أي تحريف أو وهم يتسرب إليه من الترجمة، فإن ذلك يتحقق بتكليف لجنة من العلماء الراسخين في العلم والإيمان؛ ليضعوا تفسيرا للقرآن الكريم باللغة العربية، ويقتصروا فيه على المعنى المفهوم من الآية على وجه التحقيق، ويراعوا في بيانهم لمراد الله تعالى الإيجاز، ثم تتولى طائفة من المترجمين- الموثوقين في إيمانهم وعلمهم- بنقل هذا التفسير بأمانة وبراعة إلى اللغة الأجنبية المطلوبة. وحتى يكون عملهم مقبولا وخاليا من أية شائبة لا بد من توفر الشروط التالية: 1 - أن تظهر هذه الترجمة بعنوان (ترجمة تفسير القرآن) أو (تفسير القرآن بلغة كذا ... ). 2 - التنبيه في المقدمة إلى أن هذا تفسير للقرآن وبيان لمراد الله بقدر الطاقة البشرية. 3 - إذا كانت الآية تحتمل أكثر من وجه واحد، فيجب أن يشار إلى ذلك في الهامش. 4 - أن يبقى كلام الله تعالى مطبوعا باللغة العربية وبالأحرف العربية، وموضوعا ضمن أقواس ظاهرة. 5 - أن ينبه إلى أن هذا التفسير ألفته لجنة وترجمته تحت إشراف رئاسة دينية حازمة. والقيام بهذا العمل له فوائد متعددة منها: أنه يرفع النقاب عن جمال القرآن ومحاسنه لمن لا يتقن العربية من الأعاجم، ويدفع الشبه التي لفقها أعداء الإسلام وألصقوها بالقرآن، ويبرئ ذمتنا أمام الله من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه.

الباب الحادي عشر نصوص تطبيقية ونشاطات تعليمية

الباب الحادي عشر نصوص تطبيقية ونشاطات تعليمية الفصل الأول: نصوص تطبيقية مدروسة 1 - أسباب النزول. 2 - القراءات. 3 - المحكم والمتشابه. 4 - الناسخ والمنسوخ. 5 - من قصص القرآن. 6 - من أمثال القرآن. 7 - من أقسام القرآن. الفصل الثاني: نشاطات تعليمية 1 - نصوص تطبيقية للدراسة. 2 - أسئلة وتطبيقات.

الفصل الأول نصوص تطبيقية مدروسة

الفصل الأول نصوص تطبيقية مدروسة أولا- أسباب النزول تحويل القبلة تمهيد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلّي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذّر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، واستمرّ الأمر على ذلك بضعة عشر شهرا، وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر الدعاء والابتهال أن يوجّه إلى الكعبة، التي هي قبلة إبراهيم- عليه السلام- فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجّه إلى البيت العتيق «1». قال الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

_ (1) انظر تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (1/ 236 - 237) طبعة دار ابن كثير.

1 - شرح المفردات

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 142 - 144]. 1 - شرح المفردات: «السّفهاء»: جمع سفيه، وهو الجاهل المستخفّ بالحق، والسّفه: الخفة والطيش. والمراد بهم في الآية: المنكرون تحويل القبلة من اليهود والمنافقين والمشركين. «ما ولّاهم»: ما صرفهم. «عن قبلتهم»: عن بيت المقدس. «وسطا»: عدولا خيارا. «ينقلب على عقبيه»: يرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة إلى الكعبة المشرّفة. «لكبيرة»: لشاقّة وثقيلة على النفوس. «ليضيع إيمانكم»: صلاتكم فترة توجّهكم إلى بيت المقدس، بل يقبله الله منكم. «تقلّب وجهك»: تحوّله وتردّده المرة بعد المرة، طلبا للوحي، والتجاء إلى الله تعالى. «فلنولّينك»: لنوجهنّك ولنمكننّك من استقبالها. «ترضاها»: تحبّها وتميل إليها. «فولّ»: اصرف. «شطر المسجد الحرام»: ناحيته وتلقاءه. 2 - المعنى الإجمالي: * في الآية الأولى يخبر الله تعالى بما سيقوله السفهاء من اليهود وغيرهم قبل أن يقولوه، وحكمة هذا الإخبار تخفيف أثره على نفوس المؤمنين، بعد أن يفقد

3 - سبب النزول وأهميته في تفسير الآيات

حقدهم ونقدهم عنصر المفاجأة، فلا تضطرب له نفوس المؤمنين ولا تقيم له وزنا، كما علمهم الله كيف يردّون عليهم بأن لله المشرق والمغرب، وأن لا اعتراض على أحكام الله، وهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. * وفي الآية الثانية يخبر الله عزّ وجلّ أنه جعل هذه الأمة خيارا عدولا، وكما هداهم إلى أفضل قبلة جعلهم أفضل أمة وأعدل أمة، يشهدون على الأمم يوم القيامة، ويشهد عليهم رسولهم صلّى الله عليه وسلّم. * وفي الآية الثالثة يعلم الله رسوله، أنه كان يراه وهو يقلّب وجهه في السماء انتظارا لوحي السماء يأمره بتحويل القبلة، فتتحقق رغبة في مخالفة يهود، ومحبته لقبلة أبيه إبراهيم. والذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذا حق، والله سبحانه مطلع على سرائرهم وعلانيتهم. 3 - سبب النزول وأهميته في تفسير الآيات: 1 - عن البراء رضي الله عنه؛ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى صلاة العصر، وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلّى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون. قال: أشهد بالله لقد صلّيت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل مكّة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1». 2 - وعنه رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله عزّ وجلّ: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فتوجّه نحو

_ (1) رواه البخاري في الإيمان (40) والتفسير (4216).

4 - الأحكام الشرعية، والتوجيهات المستفادة

الكعبة، وقال السّفهاء من الناس وهم اليهود: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فصلّى مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل، ثم خرج بعد ما صلّى، فمرّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنّه توجّه نحو الكعبة، فتحرّف القوم حتى توجّهوا نحو الكعبة «1». وهذان النّصّان من صحيح البخاري يعينان على فهم الآيات المتقدّمة من سورة البقرة، ويمنعان وجود أيّ إشكال أو لبس في تفسيرها. 4 - الأحكام الشرعية، والتوجيهات المستفادة: أ- الأحكام الشرعية: 1 - جواز النسخ، وهو إجماع الأمة، وقد أجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ. وجواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا بالسنة الفعلية، ثم نسخ ذلك بالقرآن. 2 - قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السّلف، معلوم بالتواتر من عادة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في توجيهه ولاته ورسله آحادا إلى الآفاق، ليعلّموا النّاس دينهم. 3 - فضل هذه الأمة المسلمة على غيرها من الأمم؛ حيث قبلت شهادتهم على من كان قبلهم من الأمم. 4 - المراد بالمسجد الحرام في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الكعبة، أي: فولّ وجهك في الصلاة جهة الكعبة. 5 - استقبال القبلة فرض من فروض الصلاة، ولا بد منه في صحة الصلاة؛

_ (1) رواه البخاري في الإيمان (395) والتفسير (4218) ومسلم في المساجد (525).

ب - التوجيهات المستفادة

إلا ما جاء في الخوف والفزع، وفي صلاة النافلة على الدّابّة أو السفينة؛ فإن القبلة في صلاة الخوف جهة أمنه، وفي صلاة النافلة على الدابة حيث توجّهت به. وأجمع العلماء على أنّ المشاهد للكعبة لا يجزيه إلا إصابة عين الكعبة في صلاته. وأما غير المشاهد للكعبة، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة. وذهب الحنفية والمالكية إلى أن الواجب استقبال جهة الكعبة «1». وقد رجّح القرطبي في تفسيره ما ذهب إليه الحنفية والمالكية، فقال: «واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين، أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف لأنه تكليف ما لا يوصل إليه، ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني: أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني من الأرض من شرق أو غرب. الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت» «2». ب- التوجيهات المستفادة: 1 - توطين نفس الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به؛ حتى لا يضرهم قول السفهاء، وهم يعترضون على تحويل القبلة.

_ (1) انظر أدلة الفريقين في تفسير آيات الأحكام، للسايس (1/ 106) طبعة دار ابن كثير ودار القادري بدمشق. (2) انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (3/ 160).

5 - علوم القرآن في الآيات

2 - الردّ على المعترضين من اليهود والمشركين والمضطربين من المنافقين، عند تحويل القبلة، وبيان أن الجهات كلها ملك لله، وحيثما اتجه المسلمون في صلاتهم فثمّ وجه الله، وهو سبحانه يهديهم إلى الحقّ، ويوفقهم إلى الخير في جميع أحوالهم وأحيانهم. 3 - خير الأمور أوسطها، والمسلمون يمتازون بالتوسط في الدين، والتوسط بين الأمم، وقبلتهم في سرّة الأرض ووسطها. 4 - فضل الأمة المسلمة؛ اختارها الله للشهادة على الناس في الدنيا، ولإقامة الحجة على الأمم يوم القيامة. 5 - علوم القرآن في الآيات: 1 - للآيات سبب صحيح لنزولها، وقد ذكرناه قريبا، وأن المطّلع عليه يفهم الآيات فهما صحيحا، ويعيش الأجواء التاريخية للنص، والوقع العظيم للأمر الإلهي بتحويل القبلة، في نفوس المؤمنين، والشانئين من أعداء الإسلام والمسلمين. 2 - الآيات من سورة البقرة، وهي مدنية بالإجماع، أي نزلت بعد الهجرة، وحادثة تحويل القبلة وقعت بالمدينة بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم، كما أن الآيات صريحة في الكشف عن جدال أهل الكتاب، واعتراضات المشركين والمنافقين. وهي تقرّر أحكاما تشريعية وتعبدية، وكل ذلك من خصائص القرآن المدني كما تقدم. 3 - القراءات: - قرأ الجمهور إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ بالمد والهمز في لَرَؤُفٌ على وزن فعول. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو لرؤف على وزن (فعل) وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة: وشرّ الطّالبين فلا تكنه ... يقاتل عمّه الرّؤف الرحيم

- وقرأ الجمهور: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بالياء في يعملون، فيكون خطابا ووعيدا لأهل الكتاب، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي عما تعملون بالتاء، فيكون خطابا ووعيدا لأهل الكتاب أو أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. 4 - الآيات محكمة واضحة، لا خفاء فيها، وتظهر بوضوح تام حكم التوجّه إلى الكعبة في الصلاة، وموقف أهل الضلال من اليهود والمشركين والمنافقين من إحكام الأمر، وتحويل التوجه من بيت المقدس إلى البيت العتيق، فالآيات الثلاثة محكمة كلها، وليست من المتشابه في شيء. 5 - في الآيات دليل على وقوع النسخ في الأحكام، وقد ذكرنا إجماع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرة واحدة، كما صحّح ذلك ابن عبد البر. وقد استقر الحكم بعد سبعة عشر شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم، أي: بدءا من أول الربع الثاني من السنة الثانية للهجرة النبوية. 6 - أما الإعجاز في الآيات فظاهر كما هو في جميع سور القرآن، ومن الصور البلاغية في الآيات الثلاثة: - يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ استعارة تمثيلية، إذ مثّل الله تعالى من يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه. - لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة، والرأفة شدة الرحمة، وقدّم الأبلغ مراعاة للفاصلة، وهي الميم في قوله صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. - فَوَلِّ وَجْهَكَ أطلق الوجه وأريد به الذات، من قبيل المجاز المرسل، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

ثانيا - القراءات الله جل جلاله منور السماوات والأرض

ثانيا- القراءات الله جلّ جلاله منوّر السّماوات والأرض تمهيد: أنار الله عزّ وجلّ السموات والأرض فأنار السموات بالكواكب المضيئة، وأنار الأرض بإرسال الرسل الكرام وإنزال الشرائع والأحكام، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض نور وجهه. وسمّيت السورة (رقم 24) سورة النور، لورود هذه الآية المشتملة على إشعاع النور الإلهي، وإنارة الوجود بظهور الهداية والحق فيه. قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35]. 1 - شرح المفردات: «الله نور السموات والأرض» النور لغة: الضياء، وهو الذي يبين الأشياء بانعكاسه عنها ودخوله العيون. «كمشكاة»: المشكاة: هي الكوّة في الحائط، وتكون غير نافذة إلى الجهة الثانية، وهي أجمع للضوء الذي يكون فيها من مصباح أو غيره. «مصباح»: سراج ضخم ثاقب. «زجاجة»: قنديل من الزجاج، صاف

2 - المعنى الإجمالي

أزهر. «كوكب دري»: نجم مضيء، يشبه الدرّ في تلألئه وصفائه. «زيتونة»: من شجر الزيتون الذي بارك الله فيه، وجعل منافعه عديدة. «لا شرقية ولا غربية»: لا يسترها عن الشمس شيء، لا في حال شروقها، ولا في حال غروبها. «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار»: لصفائه وحسنه وجودته. «نور على نور»: المصباح نور، والزجاجة نور، وانعكاسه من المشكاة نور. «ويضرب الله الأمثال للناس»: يبين الله تعالى الأشياء بأشباهها ونظائرها تقريبا لها إلى الإفهام والاتعاظ. 2 - المعنى الإجمالي: الله جلّ وعلا هو منوّر السموات والأرض بالكواكب المضيئة، ومنور أهل السموات والأرض بالهداية إلى الحق، وذلك بإنزال الكتب وإرسال الرسل، ومثّل الله تعالى لصفة نوره العجيبة في الإضاءة المضاعفة، إذ تضافرت فيها المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم يبق شيء مما يقوّي النور ويزيده إشراقا إلا وجد. والله سبحانه يهدي لهذا النور الثاقب من يشاء من عباده، بأن يوفقهم للإيمان به، وفهم دلائل حقيقته. ويضرب الله الأمثال للناس، ليقرب لهم المعقول من المحسوس، وهو سبحانه بكل شيء عليم، فلا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عن علمه شيء. 3 - الأحكام والتوجيهات المستفادة: أ- الأحكام: 1 - الله منوّر السموات والأرض، ويجب أن يقال: لله تعالى نور، على جهة

ب - التوجيهات المستفادة

المدح؛ لكونه سبحانه أوجد الأشياء المنوّرة، وأوجد أنوارها، ونوّرها، ويدل على هذا المعنى قراءة زيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكّي «الله نوّر السّماوات والأرض» ومعنى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنه سبحانه صيّرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عزّ وجلّ لمن فيهما. أما ما ذهب إليه المجسمة من أن الله تعالى نور لا كالأنوار، فباطل، لأن النور ضياء، وهو عرض من الأعراض، أو جسم من الأجسام، وكلاهما مستحيل على الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. 2 - الله هادي أهل السموات والأرض: وأقرب ما ذهب إليه العلماء في هذا التأويل: أن النور سبب للظهور، والهداية لما شاركت النور في هذا المعنى صحّ إطلاق اسم النور على الهداية قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً [الأنعام: 122]، ومعنى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ذو نور السموات والأرض، والنور هو الهداية، ولا تحصل إلا لأهل السموات، والحاصل أن المراد: الله هادي أهل السموات والأرض. وهو قول ابن عباس والأكثرين. 3 - شرح كيفية التمثيل: ذهب جمهور المتكلمين، أن المشبّه هو المراد من الهدى الذي هي الآيات البينات، والمعنى أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وصارت في ذلك بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء. ب- التوجيهات المستفادة: ا- الله تعالى ظاهر في إبداع مخلوقاته، شديد الظهور في دلائل قدرته، وشدّة الظهور تولّد الخفاء، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم بإشراق نوره. 2 - أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات.

4 - علوم القرآن في الآيات

3 - الاعتناء بشجرة الزيتون، وأنها مباركة، كثيرة الارتفاق والمنافع. 4 - الاستفادة من ضرب الأمثال بالاعتبار، والنظر المؤدي للإيمان. 5 - الوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر، ولا ينظر في الأدلة الإلهية فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات. 4 - علوم القرآن في الآيات: 1 - الآية مدنية؛ لأن سورة النور مدنية باتفاق. 2 - القراءات في الآية: - قرأ ابن كثير «درّيّ» «1» بضم الدال، وتشديد الراء المكسورة، وتشديد الياء من غير همز. «توقّد» بفتح التاء والواو والدال. - وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «درّيّ» مثل ابن كثير «يوقد» بالياء مضمومة وضم الدال. - وقرأ أبو عمرو: «درّيء» بكسر الدال مهموز. «توقّد» بفتح التاء والدال. - وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر: «درّيء» بضم الدال مهموز. «توقد» بضم التاء والدال. وفي رواية أبان عن عاصم، وحفص بن عاصم: «يوقد» «2» مثل نافع الياء مضمومة.

_ (1) يحتمل قوله تعالى «درّيّ» أمرين: أحدهما: أن يكون نسبة إلى الدر، لفرط ضيائه وبهائه ونوره. ثانيهما: أن يكون (فعّيلا) من (الدرء) وهو الدفع، وهو أن يدفع بنوره أن ينظر الناظر إليه، فخففت الهمزة، فانقلبت ياء، كما تنقلب من النبيء، ثم أدغمت الياء في الياء. (2) الفاعل: المصباح أو الكوكب.

- وقرأ الكسائي «درّيء» مثل أبي عمرو بكسر الدال مهموز. «توقد» «1» بضم التاء وفتح القاف وضم الدال مثل حمزة. - وروى القفطي عن عبيد عن هارون عن أبي عمرو عن عاصم بن بهدلة، وعن أهل الكوفة: «توقّد» «2» رفعا مشددة مفتوحة التاء «1». 3 - الآية محكمة في الدلالة على أن الله تعالى نور العالم كلّه علويّه وسفليه، بمعنى منوّرة بالآيات التكوينية والتنزيلية، الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته، والهادية إلى الحق وإلى ما به صلاح المعاش والمعاد. 4 - وهي مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد، الذي أنزله إليهم، فآمنوا به، وصدقوا بما فيه؛ في قلوب المؤمنين، مثل كَمِشْكاةٍ وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وذلك هو نظير الكوة التي في الحيطان التي لا منفذ لها، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة، لأنه غير نافذ، وهو أجوف مفتوح الأعلى، فهو كالكوّة التي في الحائط، التي لا تنفذ. ثم قال: فِيها مِصْباحٌ وهو السراج، وجعل السّراج وهو المصباح مثلا لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات، ثم قال: الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ يعني أن السّراج الذي في المشكاة في القنديل، وهو الزجاجة، وذلك مثل القرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره. ثم مثّل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه، واستنارته بنور القرآن، واستضاءته بآيات ربّه المبينات، ومواعظه فيها، بالكوكب الدريّ فقال:

_ (1) انظر كتاب السبعة في القراءات ص (455 - 456)؛ لابن مجاهد. وحجة القراءات؛ لأبي زرعة (ص 499 - 500). (2) الفاعل: الزجاجة.

الزُّجاجَةُ وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ «1». 5 - والإعجاز ظاهر في الآية من حيث إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وروعة التصوير للنور الإلهي الذي يعمّ جميع الكائنات بالنور والهداية. ومن الصور البلاغية فيها: أ- التشبيه المرسل في قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ حيث جاء التشبيه بواسطة الأداة، وهي (الكاف) وهو تشبيه تمثيلي، لأن وجه الشبه منتزع من متعدد. قال الكرخيّ: ومثّل الله نوره، أي معرفته في قلب المؤمن، بنور المصباح دون نور الشمس، مع أن نورها أتم، لأن المقصود تمثيل النور في القلب، والقلب في الصدور، والصدر في البدن؛ بالمصباح، والمصباح في الزجاجة، والزجاجة في القنديل «2». ب- الطباق في قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ فالشمس والظل يتعاقبان عليها، وأن ذلك أجود لحملها وأصفى لزيتها. ج- إطلاق المصدر على اسم الفاعل في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: منورهما، للمبالغة. ومن فسّر النور بالهداية، فقد ذهب إلى أن في الجملة استعارة. د- التنكير: في قوله تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ وفيه فخامة ومبالغة، حيث النور متعدد ومتضاعف.

_ (1) تفسير الطبري (9/ 325). (2) الجدول في إعراب القرآن، للصافي (18/ 265).

ثالثا - المحكم والمتشابه القرآن وصفات من أنزله

ثالثا- المحكم والمتشابه القرآن وصفات من أنزله تمهيد: يبدأ الله تعالى هذه السورة الكريمة بحرفين من حروف الهجاء، للتحدّي والإعجاز، ثم يبيّن سبحانه موقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه رسول مهمته البلاغ، والله عزّ وجلّ بصفاته الجليلة وأسمائه الحسنى لن يتخلّى عنه، بل سيحيطه برعايته وحفظه، وهي سنته سبحانه وتعالى في الدفاع عن رسله، ومن تبعهم من المؤمنين. قال الله تعالى: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [طه: 1 - 8]. 1 - شرح المفردات: «طه»: من الحروف المقطعة التي أنزلها الله في أوائل بعض سور القرآن للتحدي والإعجاز. «لتشقى»: لتتعب، بفرط تأسفك على كفرهم، وتحسرك على عدم إيمانهم. «تذكرة»: تذكيرا وعظة. «استوى»: علا وارتفع، ولا يعلم البشر كيف ذلك، فالاستواء معلوم والكيف مجهول.

2 - المعنى الإجمالي

«ما تحت الثرى»: ما تحت التراب من شيء. «الأسماء الحسنى»: الفضلى، لدلالتها على الكمال والجلال، والتعظيم والتقديس. 2 - المعنى الإجمالي: إن الذي أنزل عليك هذا القرآن المركّب من هذين الحرفين (طه) وأمثالهما، والذي عجز قومك عن الإتيان بسورة من مثله، ما أنزله عليك يا محمد لتتعب وتنصب، في التحسّر على عناد المشركين بمكة، أو في المبالغة بالقيام للعبادة والتهجد، وإنما أنزلناه ليكون تذكيرا لمن يخاف الله تعالى، فيقبل على طاعته وعبادته، متحملا التضحيات في سبيل إيمانه، وهو كتاب منزل، يتنزل من عند إله خالق للأرضين والسموات، رحمن الدنيا والآخرة، استوى على عرشه استواء يليق بجنابه العظيم، ومالك ما في السموات والأرض ومدبرهم، العليم بالسر والجهر، لا إله في الوجود غيره، ولا معبود بحق سواه، له الأسماء الفضلى التي يعرفه العباد بها، ويعبدونه حق العبادة. 3 - الأحكام والتوجيهات المستفادة: أ- الأحكام: 1 - القرآن سبب السعادة ورفع المشقة: لم ينزله الله تعالى للنّصب والشقاء وإنما رحمة وتيسيرا في الدنيا، ونورا ودليلا إلى الجنة في الآخرة، وقد أوضح الإمام ابن جزي الكلبي في تفسيره هذا المعنى، فقال: «قيل إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قام في الصلاة حتى تورّمت قدماه، فنزلت الآية تخفيفا عنه، فالشقاء على هذا إفراط التعب في العبادة، وقيل: المراد به التأسف على كفر الكفّار، واللفظ عام في ذلك كله، والمعنى أنه سبحانه نفى عنه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة» «1».

_ (1) تفسير ابن جزي (2/ 10) طبعة دار الكتاب العربي.

ب - التوجيهات المستفادة

2 - استواء الله على العرش: من صفات الله تعالى التي نؤمن بها، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل، وتكون السلامة في التسليم، وقد سئل الإمام مالك عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة. وتأوّل الأشعرية معنى استوى: باستولى بالملك والقدرة، واستشهدوا بقول الشاعر: استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق 3 - الأسماء الحسنى: لله تعالى الأسماء التي هي أحسن الأسماء؛ لدلالتها على أحسن مسمّى وأشرف مدلول، وقد ثبت في الحديث الصحيح: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة» «1» وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حرر منه تسعة وتسعين اسما، ثم سردها «2». قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180]. فالمؤمن الحق يدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى من غير زيادة ولا نقص ولا تغيير ولا تبديل. ب- التوجيهات المستفادة: 1 - القرآن سبب السعادة والهداية، ورفع المشقة والحرج.

_ (1) رواه أحمد (2/ 267) ومسلم في الذكر والدعاء (2677) (6) والترمذي في الدعوات (3506) وابن ماجة في الدعاء (3860). (2) تلخيص الحبير، للحافظ ابن حجر (4/ 172).

4 - علوم القرآن في الآيات

2 - إثبات نزول الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن، وتكليفه بالبلاغ المبين لجميع الناس. 3 - تقرير الاستواء لله تعالى على عرشه من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل. 4 - تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عمّا كان يعتريه من تحدي المشركين وإصرارهم على كفرهم. 5 - عظيم الإكرام وحسن المعاملة من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم. 6 - وصف السموات بالعلى؛ دلالة على عظيم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها. 7 - الله ربّ كل شيء وخالق كل شيء، لا معبود بحق سواه. 4 - علوم القرآن في الآيات: 1 - هي مكية؛ لأنها من سورة «طه» وهي من السور المكية باتفاق، وفي خبر إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ مطلعها وتأثّر بآياتها، فكانت من الأسباب المباشرة في إسلامه، ففي سنن الدارقطني عن أنس بن مالك قال: خرج عمر متقلّدا بسيف، فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبئوا، فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خبّاب، وكانوا يقرءون طه فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب، فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ. فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ، وأخذ الكتاب، فقرأ طه. وذكر ابن إسحاق القصة مطولة، وفيها أنه ذهب إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم فأعلن إسلامه أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وآيات السورة قصيرة شديدة الوقع، تقرر عقيدة الألوهية والرسالة. وكل ذلك من خصائص القرآن المكي الذي نزل قبل الهجرة النبوية.

5 - الإعجاز والبلاغة

2 - في الآيات من المتشابه: أ- طه وهي من الأحرف المقطعة «1»، التي افتتح الله بها سورا من القرآن الكريم، وهي من المتشابه لخفاء لفظها. ب- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وهي من المتشابه من جهة المعنى، إذ لا سبيل للعقل البشري أن يحيط بحقيقة الاستواء، أو يعرف المراد به، وقد بيّنا أن الأحوط في صفات الله تعالى التفويض. 3 - القراءات الموجودة فيها: - طه «1» قرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الطاء والهاء. - وقرأ نافع طه بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب. - وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي طه بكسر الطاء والهاء. - وقرأ أبو عمرو في غير رواية عباس طه بفتح الطاء وكسر الهاء. - وروى عباس عن أبي عمرو طه بكسر الطاء والهاء مثل حمزة. وحفص عن عاصم طه بالتفخيم «3». 5 - الإعجاز والبلاغة: الآيات الكريمة من أوائل سورة طه في قمة الفصاحة والبيان العربي، وهي كغيرها من كلام الله المعجز، وتمتاز نهاياتها بهذه الألف المقصورة التي تجعل في الأذن جرسا خاصّا، ونغما ساحرا، وفي السيرة النبوية لابن إسحاق: أن عمر بن الخطّاب لم يملك نفسه بعد سماعها أن قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. وفيها من البلاغة:

_ (1) ذهب بعض المفسرين إلى القول بأن معنى طه يا رجل! أو يا محمد! أوطئ الأرض بقدميك أثناء الصلاة، وقد رجحنا أنها من فواتح السور، وأن المراد منها التنبيه والتحدي بالإعجاز البياني للقرآن الكريم، والله أعلم. (3) انظر كتاب «السبع في القراءات»؛ لابن مجاهد (ص 416).

- مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ فيها الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، والفائدة: أ- التفنن في الكلام وما يعطيه من الحسن والروعة. ب- التفخيم أولا في أَنْزَلْنا بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع، ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد، فضوعفت الفخامة مرتين «1».

_ (1) الكشّاف؛ للزمخشري (2/ 529) بتصرف يسير.

رابعا - الناسخ والمنسوخ الحض على القتال والثبات

رابعا- الناسخ والمنسوخ الحضّ على القتال والثبات تمهيد: فرض الله تعالى على المجاهد في سبيل الله أن يثبت لعشرة من المشركين فأقلّ، وكان هذا في أوّل الإسلام، والمسلمون عددهم قليل، والمشركون كثير، فلمّا كثروا خفّف الله عنهم، ففرض الله على الواحد أن يقف لاثنين فأقلّ. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 65 - 66]. 1 - شرح المفردات: «حرّض المؤمنين على القتال»: حثّهم وحضّهم على القتال. «بأنهم»: بسبب أنهم. «قوم لا يفقهون»: لا يدركون حكمة الحرب، ويقاتلون على غير بصيرة، أو يقاتلون حميّة واتباعا لخطوات الشيطان. 2 - المعنى الإجمالي: يا أيّها النبيّ حثّ المؤمنين حثا شديدا، حتى يقدموا برغبة ونشاط، ويثبتوا في مواجهة الأعداء، باذلين نفوسهم رخيصة في سبيل الله، ولهم البشارة من الله أن

3 - الأحكام الشرعية والتوجيهات المستفادة

العشرين الصابرين المحتسبين أجرهم عند الله يغلبون مائتين، وأن المائة الصابرة يغلبون ألفا؛ لأنهم يقاتلون عن عقيدة ثابتة ونفس مطمئنة، وأعداؤهم يقاتلون حميّة جاهلية ولأغراض شيطانية خبيثة. وثبات المسلم أمام عشرة فما دون هي مرتبة العزيمة، والمطلب الإلهي الأول، ثم رخص سبحانه للمسلم أن يثبت لاثنين، وكان التخفيف الإلهي في المطلب الثاني بسبب ضعف الأبدان وكثرة التكاليف وأعباء الجهاد في سبيل الله، مع ملاحظة أنه لا عبرة للعدد ولا للكثرة إذا لم تتوفر القوة المعنوية الناتجة عن جهاد النفس والالتزام بتعاليم الشرع. 3 - الأحكام الشرعية والتوجيهات المستفادة: أ- الأحكام الشرعية: 1 - التحريض على الجهاد: وهو من واجبات القائد، وكان من سنة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يصفّ جنوده من الصحابة في مواجهة الأعداء، ويحثهم على القتال ويذمّرهم عليه، كما قال لأصحابه يوم بدر، حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» «1». 2 - الأمر بالثبات، والبشارة بالنصر: أوجب الله على المسلمين في أول الأمر الإقدام على الجهاد مع العزيمة والشجاعة، والصبر والمصابرة، وثبات الفرد المسلم أمام العشرة، وبشرهم بالنصر والغلبة، ثم نسخ الله تعالى الأمر، وأبقى البشارة «1». وهذه المقابلة- وهي الواحد بالعشرة- فلم ينقل أن المسلمين صافّوا المشركين عليها قط «3». 3 - التخفيف من الله تعالى: فقد أوجب سبحانه الثبات لرجلين، فخفّف

_ (1) انظر تفسير القرطبي (8/ 4) وتفسير ابن كثير (2/ 403). (3) انظر أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 877).

ب - التوجيهات المستفادة

عنهم من العدد، ونقص من الصبر بقدر ما خفّف عنهم. فالثبات أمام أكثر من اثنين رخصة، وأمام اثنين هو العزيمة المحكمة التي استقر عليها الحكم، وهذا ما يفيده كلام مالك رحمه الله عند ما سئل عن الرجل يلقى عشرة؟ قال: واسع له أن ينصرف إلى معسكره إن لم تكن له قوة على قتالهم. قال ابن العربي: وهذا دليل على أنه يجوز له أن يثبت معهم «1». ب- التوجيهات المستفادة: 1 - أهمية الصبر في ساحات الجهاد واكتساب النصر. 2 - لا عبرة بالكثرة العددية في ميدان الحرب والنزال، بل العبرة بالقوة المعنوية، والإعداد المسبق، والأخذ بجميع الوسائل والأسباب. 3 - أهمية التوكل على الله تعالى وطلب النصر بعد إعداد العدد والعدد. 4 - الكفّار لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يتخذون الأسباب الكاملة المؤدية للنصر، فلا يحصدون إلا الخذلان والخيبة في الدنيا والآخرة. 4 - علوم القرآن الكريم في الآيات: 1 - الآيات مدنية، لأنها من سورة الأنفال، وهي مدنية باتفاق، كما أن فيها الحديث واضحا عن الجهاد وأحكامه عامة، وعن غزوة بدر وما وقع قبلها وبعدها من مقدمات ونتائج، فضلا عما جرى أثناءها، وكل ذلك وقع بعد الهجرة باتفاق. 2 - أسباب النزول: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا

_ (1) أحكام القرآن، لابن العربي (2/ 878).

3 - الناسخ والمنسوخ

يفرّ واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66] «1». 3 - الناسخ والمنسوخ: والمنسوخ في هاتين الآيتين الآية رقم (65) من سورة الأنفال، والناسخ لها الآية التي بعدها رقم (66)، وهو من النوع الثاني من أقسام المنسوخ، حيث يرفع الله الحكم من الآية بحكم آية أخرى، وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه، متلوّ «2». وهذا ثابت، لما رواه الإمام البخاري عن ابن عباس كما قدمناه في أسباب النزول، والقول بالنسخ في هاتين الآيتين هو المشهور عن العلماء وأكثر المفسرين «3». 4 - القراءات: 1 - وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ [الأنفال: 65] فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ .. [الأنفال: 66]. - قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر إن تكن ... فإن تكن بالتاء جميعا. - وقرأ أبو عمرو فإن تكن منكم مائة صابرة بالتاء، والأخرى- يعني: وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ- بالياء. - وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ الحرفين جميعا بالياء. وليس عن نافع خلاف أنهما بالتاء إلا ما رواه خارجة عنه أنها بالياء.

_ (1) رواه البخاري في التفسير (4376). (2) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه؛ للإمام مكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق د. عدنان زرزور (ص 67). (3) المصدر السابق (ص 300 - 301) وانظر جمال القراء وكمال الإقراء؛ للسخاوي (1/ 313).

5 - الإعجاز والبلاغة

2 - فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال: 66]. - قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (ضعفا) بضم الضاد. - وقرأ عاصم وحمزة (ضعفا) بفتح الضاد «1». 5 - الإعجاز والبلاغة: الآية في القمة من الإعجاز والفصاحة مع الوضوح التام والعذوبة والسلاسة، وهذا لا يجتمع إلا في كتاب الله العزيز وكلامه الحكيم، وفيهما من البلاغة: الاحتباك في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وهو إثبات قيد الصبر في الشرط الأول، وحذف نظيره من الشرط الثاني. وإثبات صفة الكفر في الآية الأولى، وحذفها من الثانية، ثم ختمت الآية بالصابرين للمبالغة في طلب الصبر.

_ (1) كتاب السبعة في القراءات؛ لابن مجاهد (ص 308 - 309).

خامسا - القصة في القرآن قصة أصحاب الفيل

خامسا- القصة في القرآن قصة أصحاب الفيل تمهيد: يذكّر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بحادثة مشهورة كانت إرهاصا لرسالته، ووقعت في سنة مولده، وبيّن له في سورة مكية قصيرة كيف أهلك الله أبرهة وفيله وجنوده، بالطير الأبابيل، وجعل مكرهم وتدبيرهم لهدم الكعبة في ضياع أليم وخسارة فادحة. قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 1 - 5]. 1 - شرح المفردات: «أصحاب الفيل»: الذين قصدوا تخريب الكعبة، وهم من أهل الحبشة. «أبابيل»: جماعات متفرقة، بعضها في إثر بعض. «سجّيل»: طين متحجر. «عصف»: ورق الزرع بعد الحصاد، كالتبن وقشر الحنطة.

2 - المعنى الإجمالي

2 - المعنى الإجمالي: ألم تعلم يا محمد علما يقينا كأنّه مشاهدة العين، ما صنعه الله القدير بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم الكعبة؟! ألم يهلكهم ويجعل مكرهم وسعيهم في الاعتداء على البيت العتيق في ضياع وخسار؟! وسلط عليهم أضعف جنوده، فأرسل الطير تقذفهم بحجارة صغيرة من طين متحجر، تخرق كلّ من أصابته وتقتله، فجعلهم الله كورق الشجر الذي عصفت به الريح، أو كالزرع الذي أكلت منه الدوّاب ثم راثته. 3 - الأحكام والتوجيهات المستفادة: أ- الأحكام: 1 - قدرة الله تعالى: وحكمته البالغة، في إهلاك الأحباش وهم على مقربة من البيت الحرام، وظهور قدرته سبحانه في إرسال الطير جماعات يقذفهم كلّ واحد منها بثلاثة أحجار ربانية، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يسقط على شيء من جيش أبرهة إلا دمّره وهشّمه. 2 - التوطئة لمبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والتأسيس لنبوته: قال أبو حيان في البحر المحيط (8/ 512): كان صرف ذلك العدد العظيم عام مولده السعيد صلّى الله عليه وسلّم إرهاصا بنبوته، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات، والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،، وقد ضلّل كيدهم، وأهلكهم بأضعف جنوده، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل «1». 3 - تكريم الكعبة وتأكيد حرمتها: لقد صان الله الكعبة، وصرف عنها

_ (1) البحر المحيط (8/ 512).

ب - التوجيهات المستفادة

أصحاب الفيل الذين عزموا على هدمها ومحو أثرها، فظهر التكريم الإلهي لبيته العتيق، وأكّد الرسول صلّى الله عليه وسلّم إكرامها وحرمتها، بقوله: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب» «1». 4 - الفرق بين تعدّي الأحباش على الكعبة بمحاولة هدمها وتخريبها، وتعدّي قريش بإدخال الأوثان إليها وحولها: أن الله سلّط عذابه على من قصد التخريب لأنه تعدّ على حقوق العباد، أما قريش فكان فعلهم تعدّيا على حقّ الله تعالى. وأما الحجّاج بن يوسف الثقفي، فلم يكن قاصدا تخريب الكعبة، وإنما أراد قتل عبد الله بن الزبير. ب- التوجيهات المستفادة: 1 - الاعتبار بقصة أصحاب الفيل الذين قصدوا الاعتداء على البيت الحرام فدمّرهم، وجعلهم عظة على مدى الدهر. 2 - الإنعام على قريش بردّ العدو عنهم؛ ليبادروا إلى الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم. 3 - عجائب قدرة الله تعالى في الانتقام من أعدائه. 4 - التأسيس لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بدفع العدو عن الكعبة في عام مولده الميمون. 4 - علوم القرآن في السورة: 1 - سورة الفيل مكية، وآياتها القصار، وموضوعها التذكير بقصة أصحاب الفيل، كل ذلك يؤكد أنها نزلت قبل الهجرة، وأنها من السور المتفق على أنها مكّية.

_ (1) رواه البخاري في العلم (112) ومسلم في الحج (1355).

2 - وهي قصة من قصص القرآن

2 - وهي قصة من قصص القرآن التي أورد فيها أخبارا واقعية من أحوال الماضين للاعتبار بها، وإثبات صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبر به عن ربّه، والهداية إلى الله تعالى، وقد عرض القرآن قصة أصحاب الفيل عرضا موجزا، ولكنّه كاف في تصوير الحادثة من أولها إلى منتهاها، مع الاحتفاظ بالنظم البياني المعجز، وتحقّق مواصفات القصة الفنية: من المطلع المشوّق، إلى التفصيل في طريقة إهلاك أصحاب الفيل، وختمها بتدميرهم عن آخرهم. 3 - القراءات في السورة: 1 - عَلَيْهِمْ [الفيل: 3]. - قرأ حمزة ويعقوب، ووافقهما الأعمش (عليهم). - وقرأ الباقون (عليهم). 2 - تَرْمِيهِمْ [الفيل: 4]. - قرأ يعقوب (ترميهم). - قرأ الباقون (ترميهم). 4 - الإعجاز والبلاغة: الإعجاز ظاهر في نظم الآيات، وفي توافق فواصلها في الحرف الأخير، حرف ل، وفيها من البلاغة: أ- أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ .. الاستفهام تقريري. وفيه تعجب. ب- فَعَلَ رَبُّكَ إشادة بقدرة الله تعالى، وكاف الخطاب في رَبُّكَ تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ج- فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ فيه تشبيه مرسل، إذ ذكرت الأداة، وحذف وجه الشبه.

سادسا - من أمثال القرآن الانسلاخ من آيات الله

سادسا- من أمثال القرآن الانسلاخ من آيات الله تمهيد: شبّه الله سبحانه من آتاه كتابه، وعلّمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به، واتّبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخسّها نفسا، وهمته لا تتعدّى بطنه، وأشدها شرها وحرصا «1». قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 175 - 176]. 1 - شرح المفردات: «انسلخ منها»: كفر بها، وانخلع منها. «فأتبعه الشيطان»: لحقه فأدركه واستحوذ عليه. «الغاوين»: الهالكين الحائرين. «أخلد إلى الأرض»: ركن إلى الدنيا ورغب فيها وآثرها على الآخرة. «إن تحمل عليه»: تطرده.

_ (1) الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم (ص 214 - 215).

2 - المعنى الإجمالي

«يلهث»: لهث الكلب يلهث لهثا ولهاثا؛ إذا أخرج لسانه في التنفس، واللهث طبيعة فيه. 2 - المعنى الإجمالي: اقرأ يا محمد! على قومك خبر الرجل الذي أعطيناه آياتنا تحمل الأدلة والهداية، فتركها وانخلع منها، ولحق به الشيطان فأدركه وصار له تابعا وقرينا، فكان من الضّالّين الهالكين ولو شاء الله لرفعه بالآيات إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، ولكنه مال إلى شهوات الدنيا، والتصق بملذاتها، وترك حكم عقله ووحي ربّه، واتبع هواه ورغباته، فصار مثله كالكلب في اللهث الدائم، والتبعية للشيطان، والعبودية للدنيا. فاقصص القصص واضرب الأمثال لعلّ الناس يرجعون إلى الحق الثابت الأبلج. 3 - فيم نزلت: ذكر المفسرون ثلاثة رجال نزلت في واحد منهم، وهم: - بلعام بن باعوراء، وكان على زمن موسى عليه السلام. - أبو عامر النعمان بن صيفي الراهب. - أمية بن أبي الصّلت الثقفي. والأقرب أنها نزلت في أمية بن أبي الصلت- كما نقل عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «1» - إذ هو الذي وصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، وجاء في بعض الأحاديث: «أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه» «1» ومن شعره: كلّ دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفية، زور

_ (1) انظر تفسيره ابن كثير (2/ 323).

4 - الأحكام والتوجيهات المستفادة

ورغم ذلك، فقد ناصر المشركين، ورثى قتلاهم ببدر «1». 4 - الأحكام والتوجيهات المستفادة: أ- الأحكام: 1 - ضرب المثل للخطر الناجم عن الانسلاخ من آيات الهداية والاستقامة، مع توافر العقل، ووجود العلم، وذلك بسبب العبودية للشهوات، أو تسلط شياطين الإنس والجن عليه، وقد صور الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذا النكوص الذي يصيب بعض الناس فقال: «إن مما أتخوّف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه- وكان ردء الإسلام أعزّه إلى ما شاء الله- انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك. قال- حذيفة بن اليمان رضي الله عنه-: يا نبيّ الله! أيهما أولى بالشرك: المرمي أو الرامي؟ قال: بل الرامي «2»». 2 - الرفعة عند الله تعالى والهداية بيده سبحانه، وذلك بالتوفيق إلى العمل الصالح، وسدّ منافذ الشيطان، وإقفال أبواب الشهوات والملذات، والابتعاد عن رفاق السوء، والاعتياد على الأفعال الحميدة. 3 - من أشد الآيات على أصحاب العلم: الذين لا يعملون بعلمهم، فيحرمون بركة العلم وأجر العمل، ويكون بعدهم عن الله عظيما وعقابهم أليما، إنهم علماء السوء. ب- التوجيهات المستفادة: 1 - عظم هذا الخبر الذي أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بتلاوته والتذكير بخطورته. 2 - التحذير من اتباع الهوى والركون إلى شهوات الدنيا.

_ (1) انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، للدكتور جواد علي (6/ 478 - 500). (2) ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 334) وقال: هذا إسناد جيد.

5 - علوم القرآن في الآيات

3 - من الانسلاخ ترك تلاوة القرآن والعمل بأحكامه. 4 - خطر النكوص من الخير إلى الشر في تربية النفوس والصعود بها إلى معارج الكمال والخير. 5 - الدعوة إلى إعمال العقل بالتفكر والتأمل. 6 - أهمية ضرب الأمثال في كتاب الله تعالى. 5 - علوم القرآن في الآيات: 1 - الآيات مكية، لأن سورة الأعراف من أطول السور المكية، وفيها تقرير لعقيدة التوحيد والبعث والجزاء والوحي والرسالة، كما عرضت للتفصيل في قصص الأنبياء. 2 - من أمثال القرآن الملفتة والمؤثرة، وقد عبّر ابن قتيبة عن هذا التمثيل المعجز، فقال: «كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة، وحال الرّيّ، وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذّب بآياته، فقال: إن وعظته ضلّ، وإن تركته ضلّ، فهو كالكلب إن تركته لهث، وإن طردته لهث» «1». وهكذا يسهم المثل في ظهور الحق المراد، والعظة المقصودة، لتأنس النفوس وتسرع بالقبول والانقياد. 3 - الإعجاز والبلاغة: الآيات ظاهرة الإعجاز في نظمها البيانيّ وفي فواصلها، وفي مضمونها، وأظهر ما فيها هذا التمثيل الرائع الذي يجمع بين تطابق الفكرة وجمال التصوير، وفيها من البلاغة:

_ (1) الأمثال في القرآن الكريم؛ لابن القيم (ص 218).

- التشبيه التمثيلي في قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ شبّه حال الذي يكفر بآيات الله ويلتصق بأهوائه وشهواته، بحال الكلب في دوام لهثه؛ لأنّ اللهث طبيعة خلقية في جميع حالاته. ومن المعلوم أن التشبيه التمثيلي يكون في حالة انتزاع الصورة من متعدد.

سابعا - من أقسام القرآن الاستدلال على الله الخالق المبدع

سابعا- من أقسام القرآن الاستدلال على الله الخالق المبدع تمهيد: قال الحافظ ابن القيّم في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»: «تضمنت الآيات القسم بالخالق والمخلوق، فأقسم بالسماء وبانيها، والأرض وطاحيها، والنفس ومسوّيها. وقد قيل: إن (ما) مصدرية، فيكون الإقسام بنفس فعله تعالى، فيكون قد أقسم بالمصنوع الدّالّ عليه وبصنعته الدّالّة على كمال علمه وقدرته وحكمته وتوحيده «1» ... ». قال الله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 1 - 10]. 1 - شرح المفردات: «والشمس وضحاها»: يقسم الله بالشمس وضوئها إذا أشرقت صباحا وتم ضياؤها في وقت الضحى. «والقمر إذا تلاها»: تبعها في الإضاءة بعد غروبها. «والنهار إذا جلّاها»: أظهر الشمس للراءين.

_ (1) التبيان في أقسام القرآن (ص 15).

2 - المعنى الإجمالي

«والليل إذا يغشاها»: يغطّيها ويسترها بظلمته. «والأرض وما طحاها»: بسطها ووطّأها، وجعلها صالحة للحياة والعمران والزراعة. «ونفس وما سوّاها»: جعلها متناسبة الأعضاء، وخلقها سويّة مستقيمة على الفطرة السليمة. «فألهمها فجورها وتقواها»: عرّفها معصيتها وطاعتها، وأفهمها حالهما، وما فيهما من الحسن والقبح. «قد أفلح من زكاها»: طهّرها بالطاعة وعمل البر واصطناع المعروف. «وقد خاب من دساها»: خسر من أضلها وأغواها. 2 - المعنى الإجمالي: يقسم الله تعالى بالشمس وبضوئها وحرّها في وقت الضحى، وهما مصدر الحياة والحركة للأحياء؛ كما أقسم بالقمر الذي يتلو الشمس ويستمدّ نوره بالليل منها، وبالليل والنهار، وبالسماء وما فيها من عوالم مبنية بتقدير وإحكام، وبالأرض المنبسطة للنظر مع كرويتها واستقرارها، وبالنفس التي خلقها بإحكام وسوّاها تامّة، وألهمها الفطرة السوية، وزوّدها العقل المميز، ومنحها حرية الاختيار. 3 - من المأثور: روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ رضي الله عنه: «هلّا صليت ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» «1».

_ (1) رواه البخاري في الجماعة والإمامة (673) ومسلم في الصلاة (465).

4 - الأحكام والتوجيهات المستفادة

4 - الأحكام والتوجيهات المستفادة: أ- الأحكام: 1 - يقسم الله تعالى بسبعة أشياء من مخلوقاته، وهي: الشمس والقمر، والنهار، والليل، والسماء، والأرض، والنفس. وله سبحانه أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، أما العبد المخلوق فلا يقسم إلا بالله «من كان حالفا فليحلف بالله» وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم» «1» والحكمة من الإقسام بهذه الأشياء السبعة: بيان ما فيها من عجائب الصنعة الإلهية الدّالّة على الله تعالى وما فيها من منافع للحياة والأحياء. 2 - فلاح من زكّى نفسه، وخيبة من دسّاها، وقد وردت أقوال التابعين والعلماء في إسناد الأمر للإنسان، فقال الحسن البصري وقتادة: قد أفلح من زكّى نفسه وحملها على طاعة الله، وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله. وقال ابن قتيبة: يريد: أفلح من زكّى نفسه، أي: نمّاها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة واصطناع المعروف. وقد خاب من دساها، أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي. كما رجّح الإمام ابن القيم هذا الفهم وصحّحه لثلاثة وجوه: أ- تعليق الفلاح على فعل العبد واختياره، كما هي طريقة القرآن. ب- إثبات فعل العبد وكسبه، وما يثاب وما يعاقب عليه. ج- إن العبد إذا زكّى نفسه أو دسّاها؛ فإنما يزكيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، وإنما يدسيها بعد تدسية الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه. 3 - من أدعية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:

_ (1) رواه البخاري في فضائل الصحابة (3624) ومسلم في الأيمان (1646).

ب - التوجيهات المستفادة

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها» «1». ب- التوجيهات المستفادة: 1 - بيان مظاهر القدرة الإلهية في خلق الشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والنفس. 2 - بيان ما يكون من الفلاح والخسران من تزكية النفس وإهمالها. 3 - الحض على الأعمال الصالحة، والتحذير من الشرور والمعاصي. 5 - علوم القرآن في الآيات: 1 - الآيات مكية، لأنها مطلع سورة الشمس وهي سورة مكية باتفاق، وآياتها قصار، وموضوعها ترسيخ العقيدة، وتأكيد الوحدانية، وذكر قصة ثمود وطغيانها ... وكل ذلك من خصائص القرآن المكي؛ كما سبق. 2 - القسم: وهو من أساليب القرآن الكريم، وصيغته في هذه الآيات وردت مختصرة، ففعل القسم محذوف، وعوّض عن الباء بالواو، والمقسم به فيها الله تعالى الخالق والمخلوق، فأقسم سبحانه بالسماء وبانيها، والأرض وطاحيها، والنفس ومسويها. وجواب القسم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وقد حسن حذف اللام من الجواب بسبب طول الكلام. أما الغرض من القسم، فهو تأكيد الخبر، ليكون أوقع في النفس، وأرجى

_ (1) رواه أحمد (4/ 371) ومسلم في الذكر والدعاء (2722).

3 - القراءات

للاقتناع والقبول. وبيان أهمية المقسم به وعظمة خلقه وإبداعه، ومنافعه. وكل ذلك ظاهر في آيات سورة الشمس. 3 - القراءات: - قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [1]. قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وَضُحاها بفتح أواخر آي هذه السورة. - وقرأ حمزة وَالشَّمْسِ وَضُحاها كسرا، أي إمالة. ويفتح تَلاها طَحاها. - وقرأ نافع أواخر هذه السورة بين الكسر (الإمالة) والفتح. - وقرأها اليزيدي عن أبي عمرو بين الفتح والكسر. وقال عباس: سألت أبا عمرو، فقرأ وَضُحاها وتَلاها جَلَّاها بالكسر (بالإمالة) «1». 4 - الإعجاز والبلاغة: الآيات ظاهرة الإعجاز في شكلها ومضمونها، وفي أسلوب القسم، وفواصلها الموحدة، وإيقاعها الموسيقى الموحد. وفيها من البلاغة: - بين الشَّمْسِ والْقَمَرِ وبين اللَّيْلِ والنَّهارِ وبين فُجُورَها وتَقْواها طباق. - وبين وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها واللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وبين قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها مقابلة. والطباق والمقابلة من المحسنات البديعية. - وفيها سجع مرصع، حيث اتفقت الفواصل مراعاة لرءوس الآيات.

_ (1) انظر كتاب «السبعة في القراءات» لابن مجاهد (ص 688 - 689).

الفصل الثاني نشاطات تعليمية

الفصل الثّاني نشاطات تعليمية أولا- نصوص تطبيقية للدراسة. 1 - التفسير. 2 - الإعجاز. 3 - المجاز. ثانيا- أسئلة وتطبيقات.

1 - نصوص تطبيقية للدراسة

1 - نصوص تطبيقية للدراسة أولا- التفسير قال الله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [يونس: 24 - 26]. والمطلوب: 1 - ضع للآيات عنوانا مناسبا. 2 - اشرح معنى المفردات التي تحتها خط. 3 - اكتب في حدود عشرة أسطر المعنى الإجمالي للآيات. 4 - استخرج من الآيات الأحكام والتوجيهات المستفادة. 5 - ماذا تجد في الآيات من علوم القرآن؟ 6 - اذكر ما ورد من التفسير بالمأثور عند تفسير قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ. 7 - اذكر باختصار مميزات تفسير «تفسير القرآن العظيم» للحافظ ابن كثير.

مصادر الأجوبة

مصادر الأجوبة: 1 - انظر التفسير المنير؛ للدكتور الزحيلي- طبعة دار الفكر. 2 - انظر فتح القدير؛ للشوكاني- طبعة دار ابن كثير ودار الكلم الطيب (2/ 497 - 498). 3 - انظر التفسير الواضح لمحمد محمود حجازي (11/ 44 - 45). 4 - انظر الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (8/ 326 - 332). 5 - انظر كتاب السبعة في القراءات (ص 325) والجدول في إعراب القرآن؛ للصافي (11/ 107 - 114). 6 - انظر الدر المنثور؛ للسيوطي (4/ 356 - 357) وفتح القدير؛ للشوكاني (2/ 502). 7 - انظر الواضح في علوم القرآن (ص 252) ومقدمة تفسير القرآن العظيم (1/ 6) طبعة دار ابن كثير- بدمشق.

ثانيا - الإعجاز

ثانيا- الإعجاز قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 26 - 30]. والمطلوب: 1 - ضع للآيات عنوانا مناسبا. 2 - اشرح المفردات التي تحتها خط. 3 - اكتب في حدود عشرة أسطر المعنى الإجمالي للآيات. 4 - ما الأحكام والتوجيهات المستفادة من النص؟ 5 - ماذا تجد في الآيات من إعجاز وبلاغة؟ 6 - اذكر ما ورد في تفسير ابن كثير من لطف الله بخلقه وإحسانه إليهم عند تفسير قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ .... 7 - اكتب أسماء ثلاثة علماء أبدعوا في الكشف عن الإعجاز في كتاب الله تعالى، وسمّ كتبهم. الأجوبة: 1 - تأكيد ثبوت التوحيد والقدرة الإلهية.

2 - انظر شرحها في تفسير «غريب القرآن» لابن قتيبة (ص 347). 3 - انظر «صفوة التفسير لمعاني القرآن» للشيخ حسنين محمد مخلوف (ص 524). 4 - ارجع إلى «التفسير المنير» للدكتور الزحيلي (21/ 223 - 224). 5 - في الآيات تصوير فني بليغ ومعجز في عرض صورتي إماتة الأحياء، وإحياء الموتى. وانظر كتاب «التصوير الفني» (ص 67). 6 - ابحث عن ذلك وسجله في دفترك من كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 572 - 573). 7 - عبد القاهر الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز» ومصطفى صادق الرافعي في كتابه «إعجاز القرآن»، وسيد قطب في كتابه «التصوير الفني».

ثالثا - المجاز

ثالثا- المجاز قال الله تعالى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [يوسف: 36 - 38]. والمطلوب: 1 - ضع للآيات عنوانا مناسبا. 2 - اشرح المفردات التي تحتها خط. 3 - ما معنى الحقيقة والمجاز؟ وهل في القرآن مجاز؟ واذكر الأمثلة الواردة في هذا النص من مجاز القرآن. 4 - ما حكم تأويل الرؤيا؟ وماذا يحتاج العالم في تعبير الأحلام؟ 5 - استخرج من الآيات التوجيهات المستفادة. 6 - وضح كيف اغتنم يوسف عليه السلام فرصة وجوده في السجن للدعوة إلى عقيدة التوحيد وإبطال عقيدة الشرك. 7 - اذكر اسم كتاب في مجاز القرآن، وسمّ مؤلفه.

مصادر الإجابات

مصادر الإجابات: 1 - يوسف عليه السلام يدعو إلى الدين الحق، وهو في السجن. 2 - انظر «زبدة التفسير من فتح القدير» للشيخ محمد سليمان الأشقر (ص 308). 3 - استخرج الجواب من كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي (2/ 753 - 772) بتعليق الدكتور مصطفى البغا. وكتاب «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (2/ 254 - 299). 4 و 5 - انظر «التفسير المنير» للدكتور الزحيلي (12/ 266 - 267). 6 - انظر كتاب «قصص الأنبياء» للحافظ ابن كثير (ص 257) طبعة دار ابن كثير. 7 - «مجاز القرآن» لأبي عبيدة معمر بن المثنى، مطبوع بالقاهرة سنة 1374 هـ- 1955 م.

2 - أسئلة وتطبيقات

2 - أسئلة وتطبيقات «1» س 1 - ما تعريف «علوم القرآن»؟ وما فائدته؟ وما تاريخه؟ وما أهم مصادره القديمة والحديثة؟ ج 1 - ص (8 - 11). س 2 - حدد معنى القرآن لغة واصطلاحا، واذكر أسماءه، وفضله، وأهميته في حياة المسلمين. ج 2 - ص (3 - 24) وص (25 - 29). س 3 - أثبت فضل تلاوة القرآن بأدلة من القرآن والسنة، وعدد آداب التلاوة. ج 3 - ص (30 - 33). س 4 - ما حكم التغني بالقرآن؟ واذكر الأدلة. ج 4 - ص (33 - 35). س 5 - كيف يكون الاحترام الحقيقي للقرآن؟ وما البدع المتعلقة باحترام القرآن؟ ج 5 - ص (36 - 40). س 6 - ما حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعليمه والمداواة به؟ ج 6 - ص (41 - 44). س 7 - تحدث عن تنزلات القرآن، ووضح ثلاثة من حكم نزوله منجما. ج 7 - ص (6 - 52).

_ (1) الصفحات المشار إليها في الجواب هي صفحات كتابنا الواضح في علوم القرآن.

س 8 - ما أول ما نزل من القرآن وما آخر ما نزل منه؟ ج 8 - ص (53 - 57). س 9 - ما الحكمة من ارتباط بعض الآيات بأسباب للنزول؟ وما فائدة معرفة أسباب النزول؟ واذكر مثالا. ج 9 - ص (58 - 61). س 10 - كيف نعرف المكي والمدني؟ وما فائدة ذلك؟ ج 10 - ص (63 - 67). س 11 - كيف كان يتم حفظ القرآن في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ ج 11 - ص (72 - 74). س 11 - هل ترتيب آيات القرآن وسوره توقيفي أم اجتهادي؟ وما الدليل؟ ج 11 - ص (76 - 79). س 12 - ما أسباب جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟ ومن اقترحه؟ ومن نفّذه؟ وما منهجه؟ ج 12 - ص (80 - 86). س 13 - كيف تم جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه؟ وما أسبابه؟ وما مميزاته؟ وما قيمته؟ ج 13 - ص (88 - 96). س 14 - ما صفات الرسم العثماني؟ وما المراحل التحسينية التي تدرج فيها؟ ج 14 - ص (97 - 102). س 15 - ما حكم كتابة القرآن بالرسم الحالي؟

ج 15 - ص (102 - 104). س 15 - حدد معنى الأحرف السبعة، واذكر حديثا ورد فيها. ج 15 - ص (112 - 114). س 16 - ما أسباب ورود القرآن على سبعة أحرف؟ ج 16 - ص (111 - 112). س 17 - ما مصير الأحرف السبعة؟ وما الفرق بين الأحرف والقراءات. ج 17 - ص (98 - 100). س 18 - ما أنواع القراءات؟ وما الفرق بين المتواتر والشاذ منها؟ ج 18 - ص (118 - 119). س 19 - عرف المحكم والمتشابه، واذكر مثالا لكل منهما، وعدد أنواع المتشابه. ج 19 - ص (123 - 125). س 20 - ما تعريف المبهم؟ وما أسباب الإبهام في كتاب الله تعالى؟ ج 20 - ص (125 - 126). س 21 - ما موقف العلماء من الآيات المتشابهة. مع تحديد الرأي الراجح، وبيان الحكمة من ذكرها. ج 21 - ص (130 - 134). س 22 - ما معنى الأحرف المقطعة في أوائل السور وما الحكمة في افتتاح بعض السور بها؟ ج 22 - ص (136 - 138). س 23 - اذكر معنى النسخ، وأثبت جوازه ووقوعه، وأنواع النسخ، مع التمثيل.

ج 23 - ص (140 - 147). س 24 - ما معنى الإعجاز؟ وما دليله؟ وما وجوهه؟ ج 24 - ص (150 - 164). س 25 - وضح المقصود بالإعجاز العلمي، واذكر ثلاثة أمثلة مع أدلتها. ج 25 - ص (160 - 163). س 26 - اذكر مظاهر التصوير الفني في القرآن ووسائله، مع الأمثلة. ج 26 - ص (170 - 173). س 27 - عدد أشهر الذين كتبوا في الإعجاز، واذكر أسماء كتبهم. ج 27 - ص (177 - 179). س 28 - عدد خصائص القصة في القرآن. ج 28 - ص (190 - 196). س 29 - ما النتيجة إذا سقط المجاز من القرآن؟ وما الدليل؟ واذكر أمثلة عن المجاز في كتاب الله تعالى. ج 29 - ص (203 - 206). س 30 - ما أهمية الأمثال في القرآن؟ واذكر نموذجا لمثال في كتاب الله تعالى. ج 30 - ص (198 - 200). س 31 - ما أغراض القسم في القرآن؟ ج 31 - ص (207 - 208). س 32 - لم أقسم الله بمخلوقاته؟ وهل يجوز للمسلم أن يقسم بغير الله تعالى؟ مع الدليل.

ج 32 - ص (208 - 209). س 33 - اختر بعض الأقسام من كتاب الله، وبين ما فيها من إعجاز وأغراض. ج 33 - ص (210 - 211). س 34 - ما معنى التفسير لغة واصطلاحا؟ وكيف نشأ علم التفسير؟ وكيف تطوّر؟ ج 34 - ص (213 - 217). س 35 - اذكر أشهر المفسرين من الصحابة. ج 35 - ص (218 - 219). س 36 - ماذا تعرف عن علم علي بن أبي طالب ومكانته في التفسير؟ ج 36 - ص (220). س 37 - عرف بعبد الله بن مسعود، ووضح مكانته في التفسير، ومن روى عنه. ج 37 - ص (222 - 225). س 38 - ما مكانة عبد الله بن عباس في التفسير، ومن روى عنه؟ ج 38 - ص (227 - 228). س 39 - اذكر ما تعرفه عن أبي بن كعب، وعن مكانته في التفسير. ج 39 - ص (229 - 230). س 40 - عدد أشهر المفسرين من التابعين. ج 40 - ص (231 - 232). س 41 - عرف بسعيد بن جبير، مع بيان مكانته في التفسير.

ج 41 - ص (232 - 233). س 42 - من هو علقمة بن قيس، وماذا تعرف عن علمه ومكانته في التفسير؟ ج 42 - ص (234 - 235). س 43 - عدد أقسام التفسير، وبين معنى التفسير بالرأي، مع ذكر مثال. ج 43 - ص (236 - 238). س 44 - ما معنى التفسير الباطني والإشاري؟ وما حكمهما؟ ج 44 - ص (238 - 240). س 45 - عرف بالإمام الطبري، واذكر مميزات تفسيره. ج 45 - ص (241 - 243). س 46 - عرف بالحافظ ابن كثير، واذكر طريقته في تفسيره. ج 46 - ص (252 - 253). س 47 - من هو الزمخشري؟ وما خصائص تفسيره؟ ج 47 - ص (244 - 245). س 48 - ماذا تعرف عن القرطبي؟ وعن تفسيره؟ ج 48 - ص (249 - 250). س 49 - من هو الرازي المفسر؟ وما طريقته في تفسيره؟ ج 49 - ص (246 - 247). س 50 - حدد معنى ترجمة القرآن لغة واصطلاحا، واذكر الفروق بين الترجمة والتفسير. ج 50 - ص (258 - 263). س 51 - ما حكم ترجمة القرآن تفصيلا؟ ج 51 - ص (264 - 268).

§1/1