الواضح في أصول الفقه

أبو الوفاء ابن عقيل

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الوَاضِح في أصُولِ الفِقه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان تلفاكس: 319039 - 815112 فاكس 603243 ص. ب: 117460 AL- Resalah PUBLISHERS BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039 fax: 603243 - P.O.Box: 117460 Email: [email protected]

مقدمة التحقيق

المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإن كتاب "الواضح في أصول الفقه" لأبي الوفاء عليِّ بن عقيل بن محمد البغدادي الحنبلي- رحمه الله تعالى- يُعدُّ بحقٍّ من أمهاتِ كتب الأصول على وجه العموم، وكُتُب أصول الحنابلة على وجه الخصوص، فهو يأتي من حيث القدم في المرتبة الثانية بعد كتاب "العُدَّةِ" لشيخه القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين ابن الفرَّاء، حيث استفاد ابن عقيل مما في كتاب شيخه، وأضاف إليه الكثير من غزير علمه وواسع معرفته. لقد انتهج ابنُ عقيل الاستقصاء في إيراد الأقوال، وذِكرِ الاراء والاعتراضات الواردة عليها، ومناقشتها، والاستدلال على ما يراه راجحاً بالأدلة الشرعية، والتصدي للردِّ على أقوال الطوائف المنحرفة، كَالخوارج،

والقدرية، والسالمية، وا لصالحية، والمعتزلة، وغير هم، والتوسع في تفنيد مزاعمهم، مع حرصه على استخدام العبارة السهلة، والأسلوب الواضح الميسر، كما أوضح ذلك في مقدمة كتابه حيث قال: "فإن كثيراً من أصحابنا المتفقهة سألوني تأليف كتابٍ جامعٍ لأصول الفقه، يوازي في الإيضاح والبسط وتسهيل العبارة- التي غمضت في كتب المتقدمين، ودقَّت عن أفهام المبتدئين- كتابيَّ الجامعين للمذهب والخلاف، وأَستوفي فيه الحدود والعقود، ثم أُشير إلى الأقرب منها إلى الصِّحة، وأميز المسائل النظريات بدلائل مُستوفاة، وأسئلةٍ مُستقصاةٍ، ليخرُج بهذا الإيضاح عن طريقة أهل الكلام وذوي الإعجام، إلى الطريقة الفقهية والأساليب الفروعية، فأجبتهم إلى ما سألوا، مُعتمداً على الله سبحانه في انتفاعي على النَّمطِ الذي طلبوا وأمَّلوا، مع بذل وُسْعي في ذلك واستِقْصائي فيه" لقد أثرى ابن عقيل- رحمه الله تعالى- كتابه الواضح بأمور ميزته عن كتب الأصول الأخرى، حيث جمع في أوله جملةً من أصولِ الفقه، ذكر فيها الكثير من العقود والحدود وتمهيد الأصول، وأتبع ذلك بفصولٍ في الجَدَل- على غير عادة كتب الأصول- ذكر فيها حدود الجَدَل وعقودَه وشروطه وآدابه ولوازمه، وذكر من دقائقِ هذا الفن وفوائده ما لا يوجد فى كتب الجدل المتخصصة، ثم أورد في آخر الكتاب جملة من غرائب المسائل والفصول النادرة، لقطها- كما ذكر- من الكتب والمجالس، وقيَّدها ليُنتفع بها. لقد عرض- رحمه الله- الآراء على اختلافها بتجرد وحياد، ورجَّحَ ما رآه منها راجحاً دون تعصبٍ وعِنادٍ، ونبَّه على غوامض المسائلِ ودقائقها، ووضَّحها أيما إيضاح، وشرح ما صَعُبَ ممها شرحاً مستفيضاً يُذلِّلُ صَعْبَها

ويُسَهِّلُ حَزنَها، كما في فصل "الاستدلال بفساد الشيء على صحة غيره" وغيره من الفصول. إنَّ هذه الميزات العظيمة لهذا الكتاب، والتي يندر اجتماعها لكتاب مثله، دفع المجد ابن تيمية- رحمه الله- أن يقول فيه: " لله دَرُّ الواضح لابن عقيل من كتاب، ما أغزر فوائده، وأكثر فرائده، وأزكى مسائله، وأزيد فضائله، من نقلِ مذهبٍ، وتحرير حقيقةِ مسألةٍ وتحقيق ذلك " (¬1) وقال عنه ابن بدران الدمشقي رحمه الله: "الواضح لابن عقيل، هو كتابٌ كبير في ثلاث مجلدات، أبان فيه عن علمٍ كالبحر الزاخر، وفضلٍ يُفحم من في فضله يُكابر، وهو أعظم كتابٍ في هذا الفن، حذا فيه حذو المجتهدين " (¬2) .. صلتي بالواضح لابن عقيل: لقد صَوَّرت الجزء الأول والثاني من الكتاب من دار الكتب الظاهرية بدمشق منذ ثلاثين عاماً، واعتمدتُهما مصدراً من مصادر البحث الذي قدَّمتُه لدرجة الدكتوراه: "أصول مذهب الإمام أحمد"، ونقلت منهما فى مواضع كثيرة، وقد بيَّنتُ ذلك في مقدمةِ الطبعة الأولى من "أصول مذهب الإمام أحمد"، كما أشرتُ إلى أهمية "الواضح " وقيمته العلمية بين كتب أصول الحنابلة، ودعوتُ طُلاّب العلم إلى الاهتمام بكتب الأصول المخطوطةِ للحنابلة، ومنها "الواضح"، وكنتُ حريصاً على أن يُنشر الكتاب. وبعد أن عثرتُ على الجزء الثالث من مكتبة برنستون بأمريكا، ¬

_ (¬1) "المسودة": 65 - 66. (¬2) "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ": 462.

تجددت الرغبةُ في نشر الكتاب، وبدأتُ العمل فيه، وأخَّرَ صدوره كثرةُ المشاغل، وعدمُ التَّفرُّغ لذلك، ثم تَبيَّنَ لي أن دراسة الكتاب وتحقيق جزءٍ منه موضوع رسائل دكتوراه لأصحاب الفضيلة المشايخ: الدكتور موسى بن محمد القرني، والدكتور عطاء الله فيض الله، والدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، في جامعة أم القرى، فسررتُ لذلك، وحمدتُ الله أن اتجه إلى الكتاب من لديه القدرة تحت إشراف علمي متخصص لخدمته، وقد كنت أحد المناقشين لصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس في القسم الذي تولى تحقيقه، واطلعتُ على عمل الأخوين الآخرين. وقد، بذل الإخوة جميعاً جهداً موفقاً في الكتاب، وكان حرياً بهم أن ينشروه جميعاً، أو ما كان منه محل دراستهم، أو يقوم كل منهم بنشر الجزء الذي تولى تحقيقه. ومرت السنون دون أن يصدر هذا الكتاب، مما دفعني إلى تجديد العزم، والاستعانة بالله تعالى في إكمالِ تحقيقه ونشره متعاوناً مع مؤسسة الرسالة، وإن لم يبلغ الصفة التي كنت أود أن يخرج عليها، إذ فيه العديد من الموضوعات تستدعي استكمالاً أو تعليقاً وبياناً، ولعل الله يوفق الإخوة الذين درسوا الكتاب أن يخرجوه مستكملاً لجوانب التحقيق، فهم أولى وأمكن من غيرهم، أو يهىء الله له من يخدمه من العلماء المتخصصين المتفرغين. وقد وصلتني- والكتاب تحت الطبع- نسخة مطبوعة من الجزء الأول من الكتاب أصدرها الدكتور جورج مقدسي، وكان الدكتور فؤاد سزكين قد أطلعني على مسودتها منذ سنوات عديدة، وهي على طريقة المستشرقين التي لا تضيف جديداً على طبع النَصّ كما هو. ومما أعان على تحقيق الكتاب ونشره وتوزيعه على طلاب العلم، ما

تفضل به أحد المحسنين وأهل الخير في المملكة العربية السعودية من تحمل تكاليفه، ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، فجزاه الله أحسن الجزاء، وأكرمه في دار كرامته. وليس ذلك بغريب على أهل الخير والإحسان في المملكة العربية السعودية إذ يشاركون في تيسير كتب العلوم الشرعية، ويعينون طلاب العلم إسهاماً منهم في عمل الخير، وشكراً لله على ما أنعم به عليهم. نسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب، ويجعله خالصً لوِجهه الكريم. ويجزي كل من أسهم في إخراجه ونشره. والحمَد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله واصحابه. عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف هو أبو الوفاء عليُّ بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد الظفري، البغدادى (¬1). وذكر ابن أبي يعلى أنه: علي بن محمد بن عقيل (¬2). ووضع بعض من ترجم له "محمداً" بدل "أحمد" وزادوا في نسبه: "عبد الله" فقالوا: علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن محمد بن عبد الله (¬3) وذكر الذهبي في "السير" أن اسمه: على بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله (¬4) والظفري- بفتح الظاء والفاء- نسبة إلى الظفرية، وهي محلة كبيرة شرقي بغداد (¬5). وُلد ابن عقيل- رحمه الله- في بغداد دار السلام في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وثلاثين وأربع مئة (¬6) وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئه (¬7). ¬

_ (¬1) المتتظم 9/ 212، البداية والنهاية 12/ 184، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142، المنهج الأحمد 2/ 252. (¬2) طبقات الحنابلة 2/ 259. (¬3) الوافي بالوفيات 21/ 326، ولسان الميزان 4/ 243. (¬4) سير أعلام النبلاء19/ 443. (¬5) الأنساب 4/ 102. (¬6) المنتظم 9/ 212، البداية والنهاية 12/ 184، شذرات الذهب 4/ 35. (¬7) طبقات الحنابلة 2/ 259.

وقيل: سنة ثلاثين وأربع مئة (¬1). أسْرتُه: يقول ابن عقيل عن أسرته: "فأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام وكتابة، وشِعرٍ وآداب، وكان جدي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة، وهو المنشىء لرسالة عَزْل الطائع وتولية القادر، ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جدلاً وعلماً، وبيت أمي بيت الزهري، صاحب الكلام والمدرس على مذهب أبي حنيفة" (¬2). ولابن عقيل ولدان ماتا في حياته: أحدهما: أبو الحسن عقيل، وكان في غاية الحُسن، فَهِماً، تفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع، وكان فقيهاً، فاضلاً، يقول الشِّعر، وقد توفي في حياة أبيه سنة عشر وخمس مئه (¬3)، وتجلَّد والدُه عند وفاته، وظهر من صبره ورضاه بقضاء الله سبحانه الشيء العُجاب. يقول ابن عقيل في ذلك: "مات ولدي عقيل وكان قد تفقه وناظر، وجمع أدباً حسناً، فتعزَّبتُ بقصة عمرو بن عبد وُدٍّ الذي قتله عليٌّ رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه: لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبد لكنَّ قاتِلهُ من لا يُقادُ به ... من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ فأسْلاها وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله، فنظرت إلى ¬

_ (¬1) مناقب الإمام احمد: 635. (¬2) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143، المنهج الأحمد 2/ 253. (¬3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 163 - 164.

قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القَتْلُ والمقتولُ لجلالة القاتل " (¬1). ولم يقتصر الأمر على تَصَبُّرِهِ بل كان ينهى عن إظهار الجزع أو تهييج الأحزان، يقول رحمه الله: "لما أُصبتُ بولدي عقيلٍ خرجتُ إلى المسجد إكراماً لمن قصدني من الناس والصُّدور، فجعل قارىء يقرأ: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] فبكى الناس، وضجَّ الموضعُ بالبُكاء، فقلت له: يا هذا، إن كان قصدُك بهذا تهييج الأحزان فهو نياحةٌ بالقرآن، وما نزل القرآن للنَّوح، وإنَّما نزل ليُسَكَنَ الأحزان، فأمْسِكْ " (¬2). فتأمل ورعه ودينه رحمه الله، لم يمنعه حزنه على ولده من بيان الحقِّ، وإرشادِ الخلق. الثاني: أبو منصور هِبةُ الله، حفظ القرآن، وتفقَّه، وظهر منه أشياء تدلُّ على عقلٍ ودينٍ، ثم مرض وطال مرضُه، وأنفق عليه أبوه مالاً كثيراً في مرضه، وبالغ في ذلك. يحكي ابن عقيل عن مرض ابنه ووفاته فيقول: "قال لي ابني لمّا تقارب أجله: ياسيدي قد أنفقت، وبالغت في الأدوية والطبّ والأدعية، ولله تعالى فيَّ اختيار، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تُشاكلُ قول ابن إبراهيم لإبراهيم: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إلا وقد اختاره الله تعالى للحظوة" (¬3). وتألَّم- رحمه الله- لوفاة ابنه الثاني، إلا أنه تصبر وسلم لأمر الله، واستسلم لقضائه، وكان ¬

_ (¬1) نفس المصدر 1/ 164. (¬2) المنتظم 9/ 188. (¬3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 165.

نشأته وطلبه للعلم

يقول: "لولا أن القلوب توقِنُ باجتماعٍ ثانٍ لتفطرت المرائر لفراقِ المحبِّين " (¬1). نشأته وطلبه للعلم: لقد عانى ابن عقيل- رحمه الله- في نشأته من وطأة الفقر، وقلة ذات اليد، ومرارة العِوَزِ والحاجة، حتى إنه كان ينسخ بالأجرة، يقول عن نفسه: "وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة" (¬2). كان ذلك إلى أن هيأ الله له الشيخ أبا منصور عبد الملك بن يوسف (¬3)، فتكفل برزقه، وكفاه مؤونة البحث عن الرِّزق، ليتفرغ لطلب العلم. فتفرغ ابن عقيل إثر ذلك لطلب العلم، وشرع في تحصيله والتَزوُّد منه، ومما هيأ له الجو لينهل من معين العلم، كونه نشأ في بغداد التي كانت آنذاك تعج بالعلماء والفقهاء على اختلاف مذاهبهم وتنوُّع مشاربهم. وساعده هذا على النهل من كافة العلوم، والاستفادة من شتى المعارف، مما كوَّن لديه حصيلة طيبة مُتميِّزة. وكان لما حباهُ الله به من ذهنٍ وقادٍ، وذكاءٍ مُفْرِطٍ، وهمةٍ عاليةٍ أثرٌ كبيرٌ في تحصيل العلوم، يقول عنه ابن رجب: "وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العلماء، وأذكياء بني آدم، مُفرط الذكاء، مُتَّسع الدائرة في العلوم " (¬4). ¬

_ (¬1) نفس المصدر، والمنهج الأحمد 2/ 270. (¬2) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143. (¬3) توفي سنة 460 هـ، ترجمته في المنتظم 8/ 250، وسير أعلام النبلاء 18/ 333. (¬4) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 151.

شيوخه

لقد كانت هذه الهمة، مع تلك الرغبة في ارتشاف العلم، مع حفظ الله تعالى له، حائلاً بينه وبين الالتفات إلى ما عدا ذلك من نعيم الدنيا الزائل وملاهي الحياة ومفاتنها، يقول رحمه الله: " وعصمني الله من عُنْفوان الشبيبة بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّاباً قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم " (¬1). وكان رحمه الله يرى أن طلب العلم أفضلُ ما يتقرَّبُ به العبد إلى ربِّه، بعد أداء الفرائض، يقول في مقدمة كتابه "الفنون" (¬2): "أما بعد، فإن خير ما قُطع به الوقتُ، وشُغلت به النَّفسُ، فتُقُرِّب به إلى الرَّبِّ جلَّت عظمتُه، طلبُ علمٍ أخرج من ظُلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبةٍ محمودةٍ، يُعملُ لها، وغائلةٍ مذمومةٍ، يُتجنَّبُ ما يوصلُ إليها". ويقول- رحمه الله-: " إني لا يحلُّ لي أن أُضَيعِّ ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مُذاكرةٍ ومناظرةٍ، وبصري عن مطالعةٍ اُعمِلُ فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهضُ إلا وقد خطر لي ما أُسطرُهُ" (¬3). وهذا من تقديره- رحمه الله- لقيمة الوقت، وحرصه على عدم إهداره أو إضاعته. شُيوخُه: لقد ساعد جوُّ بغداد العلمي ابن عقيل على التحصيل والإفادة من ¬

_ (¬1) المنتظم 9/ 213، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143. (¬2) 1/ 7. (¬3) المنتظم 9/ 214.

علماء عصره، وساعده على ذلك ذكاؤه المفرط، وحُبُّه للعلم، فأخذ يتنقل بين مشايخ بغداد وعلمائها على كثرتهم، فتنوعت علومه، وتعددت معارفه، وكان هذا سبباً في كثرة مشايخه. وكان أبو يعلى الفراء أول من أخذ ابن عقيل الفقه عنه، فقد ذكر أنه تفقَّه عليه فى حداثة سِنِّهِ، وبقي ملازماً له، غير مُخِلٍّ بمجالسه، حتى وفاته سنة ثمان وخمسين واربع مئة (¬1). وذكر ابن عقيل أن أول من لقَّنه القرآن، هو الشيخ أبو إسحاق إبراهيم ابق الحسين الخزاز، حيث قال: " كان الشيخ أبو إسحاق الخزاز شيخاً صالحاً بباب المراتب، وهو أول من لقنني كتاب الله بدرب الديوان بالرصافة " (¬2). ويقول ابن عقيل- رحمه الله- عن شيوخه: "شيخي في القراءة ابن شيطا، وفي الأدب والنحو: أبو القاسم بن برهان، وفي الزُّهد: أبو بكر الدّينوري، وأبومنصور ابن زيدان أحلى من رأيت، وأعذبهم كلاماً في الزُّهْد وابن الشيرازي، ومن النساء: الحرانية، وبنتُ الجنيد، وبنت الغَرَّاد المنقطعة إلى قعر بيتها، لم تصعد سطحاً قط، ولها كلامٌ في الورع، وسيدُ زُهّاد عصره وعينُ الوقت: أبو الوفاء القزويني، ومن مشايخي في آداب التصوف: أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار، ومن مشايخي في الحديث: التَّوَّزي، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم، ومن مشايخي في الشعر والترسُّل: ابن شبل، وابن الفضل، وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني، وفي الوعظ: أبو طاهر ابن العلاف صاحب ابن سمعون، وفي الأصول: ابن الوليد، وأبو القاسم ابن التَّبان ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 142 - 143. (¬2) المنتظم 9/ 98.

وفي الفقه: أبو يعلى ابن الفراء، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر ابن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، وأبو الفضل الهمذاني، وأبو بكر الخطيب، وأبو منصور بن يوسف وغيرهم" (¬1). وثمة عددٌ كبير من المشايخ الذين تلقى عنهم ابن عقيل لم يرد ذكرهم هنا، وكثرتهم إن دلَّت، فإنما تدل على شغف ابن عقيل بتحصيل أنواع العلوم، وحرصه على ألا يفوته أي نوع منها. وفيما يلي أهم مشايخ ابن عقيل الذين أخذ عنهم وأفاد منهم: 1 - ابنُ شيطا: أبو الفتح عبد الواحد بن الحسين بن أحمد بن عثمان ابن شيطا البغدادي، كان من كبار أئمة القُراء، ولد ببغداد سنة سبعين وثلاث مئة، وتوفي بها سنة خمسين واربع مئه" (¬2). 2 - ابنُ بَرهان: عبد الواحد بن علي بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم ابن بَرهان العكبري، كان من علماء العربية، عالماً بالنحو والتاريخ وأيام العرب، أخذ عنه ابن عقيل الأدب والنحو، مات سنة ستٍ وخمسين واربع مئة (¬3). 3 - أبو بكر الدينوري: ذكر ابن عقيل أنه أخذ عنه الزهد (¬4). 4 - أبو منصور ابن زيدان، وقيل: أبو بكر. ذكر ابن عقيل أنه أخذ عنه الزهد (¬5) ¬

_ (¬1) المنتظم 9/ 212 - 213 (¬2) تاريخ بغداد 11/ 16، والمنتظم 8/ 199، ومعرفة القُرّاء الكبار 1/ 333. (¬3) تاريخ بغداد 11/ 17، والمتتظم 8/ 337، والبداية والنهاية 12/ 92. (¬4) المنتظم 9/ 212. (¬5) المنتظم 9/ 212، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 143.

5 - أبو الوفاء القزويني (¬1): وقيل: أبو الحسين القزويني (¬2)، وقيل: أبو الحسن، هو علي بن عمر بن محمد بن الحسن الحربي، كان شيخاً لابن عقيل في الزهد، قال ابن عقيل: "شهدتُ جنازته، وكان يوماً لم يُر في الاسلام بعد جنازة أحمد ابن حنبل مثله" (¬3). 6 - أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار: هو محمد بن أحمد ابن عبيد، المعروف بابن صاحب الزيادة. توفي سنة ثمانٍ وستين وأربع مئة (¬4). 7 - التَّوَّزي: هو أحمد بن علي بن الحسين بن محمد بن موسى، أبو الحسين، المعروف بابن التَّوزي، كان شيخ ابن عقيل في الحديث، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة (¬5) 8 - ابنُ بِشْران: محمد بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران البغدادي، راوي السنن عن الدارقطني. أخذ عنه ابن عقيل الحديث، وكان ثقة، توفي سنة ثمان وأربعين وأربع مئه" (¬6). 9 - العُشاري: محمد بن علي بن الفتح بن محمد الحربي البغدادي، كان ثقة دَيِّناً، مكثراً من الحديث، أخذ عنه الحديث ابن عقيل وغيره، توفي سنة إحدى وخمسين وأربع مئه" (¬7). ¬

_ (¬1) المنتظم 9/ 212. (¬2) ذيل طباتات الحنابلة 1/ 143. (¬3) تاريخ بغداد 12/ 43. (¬4) المنتظم 8/ 299. (¬5) تاريخ بغداد 4/ 324، والمتتظم 9/ 212. (¬6) تاريخ بغداد 2/ 248، والمححظم 9/ 212. (¬7) تاريخ بغداد 3/ 107، وطبقات الحنابلة 2/ 191.

10 - الجوهري: الحسنُ بن علي بن محمد بن الحسن الجوهري البغدادي، كان ثقة، صالحاً، توفي سنة اثنتين- وقيل: أربع- وخمسين وأربع مئة (¬1). 11 - ابن شبل: محمد بن الحسين بن عبد الله بن أحمد بن يوسف الشِّبلي، أحد الشعراء المشهورين، كان شيخاً لابن عقيل فى الشعر، توفي سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة" (¬2). 12 - ابن الفضل: علي بن الحسين بن علي بن الفض، أبو منصور الشاعر، المعروف بِصُرَّ دُرّ. كان ممن أخذ ابن عقيل الشِّعر عنهم، توفي سنة خمسٍ وستين وأربع مئة (¬3). 13 - أبو الفضل الهمذاني: عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد الهمذانيُّ الفرضي، كان من أئمة الدين وأوعية العلم، وله اليد الطولى في العلوم الشرعية، وانتهت إليه الرئاسة في علم الفرائض والحساب، توفي سنة تسعٍ وثمانين وأربع مئة" (¬4). 14 - ابن العلاف: محمد بن علي بن محمد بن يوسف أبو طاهر، البغدادي، كانت له حلقة في جامع المهدي، ثم من بعده في جامع المنصور، توفي سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة" (¬5). 15 - أبو يعلى ابن الفراء: محمد بن الحسين بن خلف بن أحمد ابن الفراء، البغدادي، القاضي، شيخ الحنابلة في وقته. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 7/ 393، وشذرات الذهب 3/ 292. (¬2) المنتظم 8/ 328، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 142. (¬3) المنتظم 8/ 281، ووفيات الأعيان 3/ 385. (¬4) المنتظم 9/ 100، والبداية والنهاية 12/ 153. (¬5) تاريخ بغداد 3/ 103، والمنتظم 8/ 148.

كان فريد عصره، ووحيد دهره، ونسيج وحده، وهو أول من أخذ ابنُ عقيل الفقه عنه، توفي سنة ثمانٍ وخمسين وأربع مئة (¬1). 16 - أبو إسحاق الشيرازي: إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله الفيروزآبادي، الشافعي، كان مُقدَّماً في الأصول والفقه والجدل، توفي سنة ست وسبعين وأربع مئة (¬2). 17 - ابن الصباغ: عبدُ السَّيِّدِ بنُ محمد بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن: جعفر، أبو نصر، الشافعي، كان مقدماً ورعاً، تقياً، انتهت إليه رئاسة الشافعيه في وقته، توفي سنة سبعٍ وسبعين وأربع مئة (¬3). 18 - الدَّامغانيُّ: محمد بن علي بن محمد بن الحسين، أبو عبد الله الدامغاني، الحنفي، القاضي. كان عفيفاً، وافر العقل، كامل الفضل، مكرماً لأهل العلم أخذ عنه ابن عقيل الفقه. توفي سنة ثمانٍ وسبعين وأربع مئة (¬4). 19 - أبو بكر الخطيب: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد الخطيب، البغدادي، الحافظ، المحدِّث، المؤرخ، صاحب التصانيف الكثيرة. أخذ عنه ابن عقيل الحديث، توفي سنة ثلاثٍ وستين وأربع مئة (¬5). 20 - أبو إسحاق الخزاز: إبراهيم بن الحسين الخزاز، المقرىء، الزاهد، اللصالح، شيخ القراء فى وقته، توفي ببغداد سنة تسع وثمانين وأربع مئة (¬6). ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد 2/ 256، والمنتظم 8/ 253. (¬2) المنتطم 9/ 7، والبداية والنهاية 12/ 124. (¬3) المنتظم 9/ 12، ووفيات الأعيان 3/ 217، والبداية والنهاية 12/ 126. (¬4) تاريخ بغداد 3/ 109، والمنتظم 9/ 22. (¬5) المنتظم 8/ 265، والبداية والنهاية 12/ 101. (¬6) المنتظم 9/ 89، والمنهج الأحمد 2/ 203.

تلاميذه

تلاميذُه: أخذ العلم عن ابن عقيل عدد غير قليل من الفضلاء، منهم: 1 - ابن ناصر: محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي، كان حافظاً ضابطاً، ثقةً، خبيراً بالجرح والتعديل، توفي سنة خمسين وخمس مئة (¬1). 2 - المغازلي: عمر بن ظفر بن حفص المغازلي البغدادي، كان مقرئاً محدِّثاً، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة (¬2). 3 - أبو المعمَّر الأنصاري: المبارك بن أحمد بن عبد العزيز الخزرجي الأنصاري، كان ذا فهم وعلم بالحديث، توفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة (¬3). 4 - أبو سعد السمعاني: عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، العالم، الحافظ، البارع، صاحب التصانيف، أحد من أجاز لهم ابن عقيل، توفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة (¬4). 5 - عبد الحق اليوسفي: عبد الحق بن عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف اليوسفي، كان شيخاً، صالحاً، متعففاً، وهو أحد شيوخ ابن الجوزي، توفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة (¬5). ¬

_ (¬1) المنتظم 10/ 162، وذيل طبقات الحنابلة 1/ 225. (¬2) معرفة القراء الكبار 2/ 407، وشذرات الذهب 4/ 131. (¬3) المنتظم 10/ 160، وشذرات الذهب 4/ 315. (¬4) المنتظم 10/ 224، وشذرات الذهب 4/ 205. (¬5) شذرات الذهب 4/ 251.

مكانته العلمية

مكانته العلمية: برع ابن عقيل- رحمه الله- في علوم كثيرة، وبزَّ أقرانه في فنون مختلفة، وزاحم علماء عصره، وتقدم على فضلاء دهره، فحاز المكانة العالية، وبلغ المرتبة السامية، التي أهلته أن يكون مرجعاً في كثير من العلوم. وقد كان- رحمه الله- بارعاً في الفقه وأصوله، وله في ذلك استنباطاتٌ حسنةٌ، وتحريراتٌ كثيرةٌ مستحسنة، وكانت له يد طولى في الوعظ والمعارف، وكلامه في ذلك حسنٌ، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة، وإرشادات دقيقة (¬1). ونال ابن عقيل مكانة عالية عند كثير من علماء عصره على اختلاف مذاهبهم، إذ لم يكن- رحمه الله- مُقلِّداً، ولا مُتعصباً لرأي، بل كثيراً ما كان يخالف آراء المتقدمين عن دليلٍ ونظرٍ. فمع أنه تفقه على مذهب الإمام أحمد- رحمه الله- وألف فيه، فأضحت تصانيفه معتمدة في بيانه وتقريره إلا أنه نحا منحى الاجتهاد، فانفرد بمسائل كثيرة خالف فيها المذهب، لدليل ظهر له. يقول عنه ابن رجب: "وكان مع ذلك يتكلم كثيراً بلسانِ الاجتهاد والترجيح، واتِّباع الدَّليل الذي يظهرُ له، ويقول: الواجبُ اتِّباعُ الدَّليل، لا اتِّباع أحمد" (2). وقال عنه أيضاً: "وله مسائل كثيرةٌ ينفردُ بها، ويُخالف فيها المذهب" (¬2). ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 152. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 157/ 1.

وقد أثنى عليه جماعةٌ من أفاضل العلماء؛ قال ابن الجوزي: "انتهت إليه الرئاسة في الأصول والفروع، وله الخاطِرُ العاطِرُ، والفهمُ الثاقِبُ، واللَّباقَةُ، والفطنةُ البغدادية، والتبريز في المناظرة على الأقران، والتصانيفُ الكِبار" (¬1). وقال الحافظ الذهبي عنه: "الإمامُ العلامة، البحر، شيخ الحنابلة، المتكلم، صاحب التصانيف. كان يتوقد ذكاءً، وكان بحر معارفٍ، وكنز فضائلٍ، لما يكن له في زمانه نظير" (¬2). وقال ابنُ السمعاني: "كان إماماً، فقيهاً، مُبرِّزاً، مناظِراً، مُجوداً، كثير المحفوظ، مليح المحاورة، حسن العشرة، مأمون الصحبة" (¬3). وقال عنه أبو طاهر السلفي: "ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء ابن عقيل، وما كان أحدٌ يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحُسنِ إيراده، وبلاغة كلامه وقوة حجته" (¬4). ووصفه الصَّفديُّ: بأنه من أعيان الحنابلة، وكبار شيوخهم، وكان مُبرِّزاً، مناظراً، حادَّ الخاطر، بعيد الغور، جيد الفكرة، بحاثاً عن الغوامض، مقاوماً للخصوم، وصنف كتباً في الأصول والفروع والخلاف (¬5). وقال ابن رجب:"كان من أفاضل العالم، وأذكياء بني اَدم، مُفْرط الذكاء في العلوم، وكان خبيراً بالكلام، مُطلعاً على ¬

_ (¬1) مناقب الإمام أحمد: 634. (¬2) سير أعلام النبلاء19/ 443 - 445. (¬3) لسان الميزان 4/ 244. (¬4) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 147. (¬5) الوافي بالوفيات 21/ 326.

مصنفاته

مذا هب المتكلِّمين " (¬1). مُصَنفاتُه: نظراً لثقافة ابن عقيل الواسعة، فقد تعددت مُصنَّفاتُه، وتنوعت مؤلفاته، ومن أهمها: 1 - "الفُنون": وهو كتاب كبير جداً، تراوحت تقديرات المؤرخين لعدد مجلداته ما بين مئتين وثمان مئة مجلدة، ويشتمل هذا الكتاب على فوائد كثيرة، وتقريرات مفيدة، يقول عنه ابنُ رجب: "هو كتاب كبيرٌ جداً، فيه فوائد جليلة في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه مناظراتُه، ومجالسُه التي وقعت له، وخواطرُهُ، ونتائجُ فكره، قيَّدها فيه" (¬2). ولم يُعْرَف منه إلاّ قطعةٌ حقَّقها وعلق عليها الدكتور جورج مقدسي، وقام بنشرها في جزءين، طبعتها المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1970 م. 2 - "الفصول" في الفقه الحنبلي، ذكر أَبن رجب أنه عشرُ مُجلدات (¬3)، وقال غيره: سبع مُجلدات (¬4). ويُسمى "الفصول " أيضاً: "كفايةُ المُفتي"، وهو من الكتب المهمة في فقه الحنابلة. وُجِد منه قطعتان مخطوطتان، أحدهما بدار الكتب المصرية تحت رقم (13 فقه حنبلي)، والأخرى بالمكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلهْ 1/ 155. (¬2) المصدر السابق 1/ 155. (¬3) المصدر السابق 1/ 156. (¬4) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 29.

(63) فقه حنبلي. 3 - "التذكرة"، منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (87) فقه حنبلي. 4 - "الإشارة"، وهو مجلد لطيف اختصر فيه ابن عقيل كتابه الموسوم بـ " الروايتين والوجهين" (¬1). 5 - "المنثور" وهو في الفقه. 6 - "الإرشاد"، وهو في أصول الدين. 7 - "الانتصار لأهل الحديث". 8 - "نفي التشبيه". 9 - "مسألة في الحرف والصوت" (¬2)، منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (245) حديث، وهو في إثبات الحرف والصوت في كلام الله تعالى، والرَّدِّ على من أنكر ذلك، وقد نشُر في مجلة الدراسات الشرقية للمعهد الفرنسي بدمشق سنة (971 ام)، بتحقيق جورج مقدسي. 10 - "الجدل على طريقة الفُقهاء"، نُشر في مجلة الدراسات الشرقية للمعهد الفرنسي بدمشق سنة (1967) بتحقيق جورج مقدسي. 11 - "عُمْدة الأدلَّة". 12 - "المفردات". 13 - "المجالس النظريات". ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 156. (¬2) المصدر السابق 1/ 156.

صلة ابن عقيل ببعض شيوخ المعتزلة

14 - "تهذيب النفس" (¬1) وهو في الآداب والأخلاق. 15 - "رؤوس المسائل" في الفقه (¬2). 16 - "مسائل مشكلة في آيات من القرآن" (¬3). 17 - "الكفاية في أصول الدين". 18 - "تفضيل العبادات على نعيم الجنات". 19 - "الواضح في أصول الفقه"، وهو هذا الكتاب. صلة ابن عقيل ببعض شيوخ المعتزلة: على الرغم من المكانة السامية التي بلغها ابن عقيل، والمنزلة الرفيعة التي تبوَّأها، فإن بعض أصحابه من الحنابلة قد تكلَّم فيه، لتردُّده على بعض المشايخ من المعتزلة، وتلقيه عنهم علم الكلام. يقول ابن عقيل عن ذلك: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء- يعني شيوخه من المعتزلة- وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً" (¬4). وقد علَّق الحافظ الذهبي- الذي نقل هذا الكلام- عليه بقوله: "قلت: كانوا ينهونه عن مُجالسة المعتزلة، ويأبى، حتى وقع في حبائلهم، وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة" (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 156. (¬2) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: 209. (¬3) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 156. (¬4) سير أعلام النبلاء19/ 447. (¬5) سير أعلام النبلاء 19/ 447.

وقد اشتدت نِقمةُ الحنابلة عليه نتيجة تجاسُرِه على تأويل نُصوص الصفات، ودفاعه عن الحلاّج، واعتذاره له، حتى طلبوا دمه، وأهدروه، إلى أن أعلن توبته عن ارائه الاعتزالية، ورجوعه عن ترحُّمهِ على الحلاّج، فانطفأت بذلك نار الفتنة. ولم يكتفِ- رحمه الله- بإعلان التوبة، بل أخذ يُصنّف في الردِّ على المعتزلة، هاتكاً أستارهم، وكاشفاً عن عوارِهم عن علم ودراية. يقول الحافظُ ابن حجر: "نعم، كان مُعتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحَّتْ توبتُهُ، ثم صَنف فى الردِّ عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم، وأطْراهُ ابنُ الجوزي، وعَوَّلَ على كلامه في أكثر تصانيفِهِ " (¬1). ونَقل الحافظ ابن رجب قصة توبة ابن عقيل، ورجوعه عمّا كان عليه، فقال: "فمضى ابن عقيل إلى بيتِ الشريف، وصالحهُ، وكتب خطهُ: يقولُ عليُّ بن عقيل بن محمد: إني أبرأُ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعَةِ الاعتزال، وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والتَّرحُّمِ على أسلافهم، والتكثُّر بأخلاقهم، وما كنتُ عَلَّقْتُه ووُجد بخطِّي من مذاهبهم وضلالتهم، فأنا تائبٌ إلى الله تعالى من كتابته، ولاَ تحلُّ كتابتُهُ، ولا قراءتُه، ولا اعتقاده، وإنني علَّقتُ مسألة الليل في جملة ذلك، وإنَّ قوماً قالوا: هو أجسادٌ سود. وقلتُ: الصحيحُ: ما سمعتُه من الشيخ أبي علي، وأنه قال: هو عدمٌ، ولا يُسمى جسماً، ولا شيئاً أصلاً، واعتقدتُ أنا ذلك، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منهم. واعتقدتُ في الحلاّج: أنه من أهل الدين والزُّهد والكرامات، ¬

_ (¬1) لسان الميزان 4/ 243.

ونصرتُ ذلك في جزء عملتُه، وأنا تائبٌ إلى الله تعالى منه، وأنه قُتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو، ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة والمبتدعة وغير ذلك، والترحُّم عليهم، والتعظيم لهم، فإن ذلك كله حرامٌ، ولا يحلُّ لمسلمٍ فعله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عَظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام". وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان معه من الشيوخ والأتباع، ساداتي وإخواني- حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار عليَّ، لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحقَّقُ أني كنتُ مخطئاً، غيرمصيبٍ. ومتى حُفِظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار، فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك، وأشهدتُ الله وملائكته وأولي العلم على ذلك، غَيْرَ مجبر ولا مكره، وباطني وظاهري- يعلمُ الله تعالى- في ذلك سواءٌ. قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. وكتب يوم الأربعاء، عاشِر مُحرّم سنة خمسٍ وستين وأربع مئة" (¬1). هكذا تاب ابن عقيل- رحمه الله- ورجع عمّا كان عليه، والله سبحانه يقبلُ التوبة عن عباده ويعفو عن السَّيِّئات، والتوبةُ تَجُبُّ ما قبلها، ومن أَتبع السيئة بحسنةٍ محتها. وهذا ما فعلهُ ابنُ عقيل، فقد عاد بعد توبته إلى نص السنَّة، وردَّ على من مشى بُرهة في ركابهم من المبتدعة. يقول ابن قُدامة المقدسي عنه: "ثُم عاد بعد توبته إلى نصِّ السُّنة والردِّ ¬

_ (¬1) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 144 - 145، والمنتظم 8/ 275.

وفاته

على من قال بمقالته الأولى بأحسن كلام، وأبلغ نظام، وأجاب على الشُّبه التي ذُكِرت بأحسن جوابٍ، وكلامه في ذلك كثيرٌ في كتب كبارٍ وصغارٍ، أجزاءٍ مفردةٍ، وعندنا من ذلك كثير، فلعلَّ إحسانهُ يمحو إساءته، وتوبته تمحو بدعته فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عبادِه ويعفو عن السَّيِّئات" (¬1). وفاته: بعد حياةٍ حافلةٍ بطلب العلم، وتدريسه، والتصنيف فيه والسعي في سبيله، توفي ابن عقيل- رحمه الله- عن ثلاثٍ وثمانين سنة، وقد وافاه الأجل في بغداد بُكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور، وكان الإمام في جامع القصر ابن شافع، وقد حضر جنازته والصلاة عليه جمع يفوت الإحصاء، قال ابن ناصر: "حزرتهم بثلاث مئة ألفٍ" (¬2). رحم الله ابن عقيل، وغفر له، وجزاه على ما قدَّم أفضل الجزاء. وصف النسخة الخطية: تم الاعتماد في تحقيق الكتاب على نسخة وحيدة لم نقف على غيرها، وهي مؤلفة من ثلاثة أجزاء، نسخت عن أصلٍ آخر بخط المصنف، كما ورد على الصفحة الأولى من الجزء الأول: "منقول من خط المصنف مُعارض بأصله"، وكذلك في الورقة (242) عند قوله: "أبي المغيث" فعلق الناسخ في هامش النسخة بقوله: "كذا بخط ابن عقيل، والصواب: "مغيث"، وأيضاً في الورقة (253) عند ¬

_ (¬1) الرد على ابن عقيل: 2. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة 1/ 162، وسير أعلام النبلاء 19/ 447.

قوله: "مشغلاً"، علق الناسخ في الهامش بقوله: "كذا بخط ابن عقيل، والصواب: شاغلاً"، وكذلك ورد في هامش الورقة (278) ما نصه: "بلغ العرض من أول الكتاب بأصل المصنف ومنه نُقل". ولم يتبين اسم الناسخ كاملاً، فقد طمست الرطوبة بعضه، والظاهر أن اسمه: أبو بكر الجيلي، كما ورد على الصفحة الأولى من الجزء الأول، وكذلك ورد في هامش الورقة (63) ما نصه: "كتب إلى هاهنا أبو بكر الجيلي". ولم يتبين أيضاً تاريخ انتهاء الجيلي من النسخ، لأن النقص أصاب الورقات الأخيرة من الورقة (311) إلى آخر الجزء، ولكن بما أن الجيلي نسخها للعلامة عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي ابن الجوزي- كما هو موضح على الصفحة الأولى- فهو إذن قبل وفاة ابن الجوزي سنة 597 هـ. وقد تمم النقص ناسخ آخر كما ورد في آخر الجزء: "آخر الأول، يتلوه الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضدِّه من طريق اللفظ، تممه محمد بن محمود المراتبي في الثالث من ربيع الثاني سنة ثمان وعشرين وستِّ مئة وصلى الله على محمد وآله يارب يارب يارب يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اغفر لي". فهذا التاريخ يختص بالنقص الذي تممه المراتبي فقط، أما تاريخ نسخ الجيلي فقد أصابه الطمس ولم يتبق منه إلا: "نقله أبو بكر .. الجيلي في المحرم سنة اثنتين ... وخمس .... ". والجزء الأول من الكتاب محفوظ بدار الكتب الظاهرية بدمشق تحت رقم 78، ويتألف من (314) ورقة، في كل صفحة (23) سطراً. وعلى

الصفحة الأولى منه: "ملكه من فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين". والجزء الثاني أيضاً من محفوظات دار الكتب الظاهرية تحت رقم (79) ويتألف من (270) ورقة في كل صفحة (19) سطراً، وقد أصابت الرطوبة ثلاثين ورقة من أوله فأودت بالأسطر الثلاثة العليا من هذه الورقات. وعلى الصفحة الأولى منه عدة تملكات هي: "انتقل بالابتياع الشرعي من ولد شيخنا بُرهان الدين بن قندس في سادس ربيع الاَخر سنة ثمان وسبعين وثمان مئة بشهادة الشيخ أحمد العسكري فأقبض الثمن بحضرته .. ". وتحته: " ملكه من فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين". وتحته أيضا: "ملكه من فضل ربه أحمد بن يحمى بن عطوة الدرعي". وقد وقفه أحمد بن يحمى لمدرسة أبي عمر، كما ورد في أسفل الصفحة: "وقف أحمد بن يحى النجدي المحل مدرسة أبي عمر في الصالحية". وتحت العنوان تملك آخر نصه: "ملك هذا الكتاب العبد الفقير الكسير الراجي عفو ربه محمد بن الشيخ سعد الدين القادري البغدادي الحنبلي غفر الله له آمين". أما الجزء الثالث من الكتاب فهو من محفوظات مكتبة جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية تحت رقم (1842). ويقع في (223) ورقة، في كل صفحة (19) سطراً إلى (21) سطراً في بعض الصفحات،

منهج المؤلف في الكتاب

وكُتب على الورقة الأولى منه فهرساً للأبواب والفصول الواردة فيه، ولم يسلم هذا الجزء أيضاً من الطمس في كثير من المواضع، وعليه بجانب العنوان تملك: "ملكه من فضل ربه يوسف بن عبد الهادي من كتب القاضي علاء الدين". وأسفل الصفحة: "انتقل بالابتياع الشرعي من ولد شيخنا الشيخ تقي الدين ابن قندس تغمده الله بالرحمة والرضوان في سادس ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وثمان مئة وذلك بحضور الشيخ بهاء الدين أحمد العسكري، وقبض الثمن بحضوره والله أعلم". منهج المؤلف في الكتاب: قسم ابن عقيل كتابه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أورد فيه ما يتعلق بأصول الفقه، حيث استهله ببيان معنى الفقه، وبيان معنى العلم وأقسامه، وأتبع ذلك بذكر الأصول من كتابٍ وسنةٍ ودلالاتها، ثم ذكر فصولاً في جمع الحدود والعقود والحروف التي تدخل في أبواب الكتاب، وجميع ما يحتاج إليه من الألفاظ المتضمنة لمعان لا يستغني عنها من أراد العلم بأصول الفقه، ثم أورد فصولاً في النسخ، واختتم هذا القسم بذكر صفة المفتي والمستفتي. القسم الثاني: أفرده ابن عقيل للجدل- جدل الأصوليين وجدل الفقهاء- وذكر سبب ذلك بقوله: "واعلم أنني لما قدمتُ هذه الجملة من العقود، والحدود، وتمهيد الأصول، وميزتها عن مسائل الخلاف، رأيتُ أن أشفعها بذكر حدود الجدل، وعقوده، وشروطه، وآدابه، ولوازمه، فانه من أدوات الاجتهاد، وأؤخِّر مسائل الخلاف، إلحاقاً لكل شيء بشكله، وضم كل شيء إلى مثله، فجمعتُ بذلك بين قواعد هذين العلمين: أصول الفقه والجدل، وأخَرت مسائل الخلاف فيهما، فإنَ الأصول بالأصول أشبه، واليها أقرب، والخلاف بالخلاف أشبه، والله

القسم الثالث

الموفق" (¬1)، القسم الثالث: وهو مسائل الخلاف، ابتدأه بذكر الأوامر والنواهي، ثم ذكر عدة فصول في فحوى الخطاب، والاستثناء، والمجمل والمفسر، والمحكم والمتشابه، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - والنسخ، والأخبار، والإجماع، والقياس، والاجتهاد. وقد تميز كتاب الواضح بميزات عديدة، أهمها: 1 - التوسع والاستقصاء في معظم فصول الكتاب مع الحرص على الإيضاح والبسط وتسهيل العبارة، كما بين ذلك ابن عقيل في مقدمته. 2 - تضمنه لمباحث الجدل، وهو ما يقلُّ في كتب الأصول الأخرى. 3 - الاستقصاءُ في إيراد الأقوال الورادة في المسالة المراد بحثها، وذكرُ أدلة كل قولي من الأقوال، ومناقشة هذه الأدلة بتجرُّدٍ وحيادٍ، واختيار الراجح من الأقوال، وتعضيدُهُ بالدليل المعتبر. 4 - توضيح بعض العبارات والمسائل بالشواهد القرآنية والحديثية، وذكر أقوال أهل اللغة، وما روي عن العرب من الشعر والنثر في ذلك. 5 - ايراد ابن عقيل في آخر كتابه لجملةٍ طيبةٍ من غرائب المسائل والفصول، حيث قال: "مسائل تتبعتها مما كنتُ أغفلته، وفصول لقطتها من الكتب والمجالس من غرائب المسائل والفصول" (¬2). ¬

_ (¬1) الجزء الأول، الصفحة 295. (¬2) انظر الورقة 206 من الجزء الثالث من الأمل.

تحقيق الكتاب

تحقيق الكتاب: اتُّبع في تحقيق الكتاب الخطوات التالية: - نسخُ الأصل الخطي، ومُقابلته. - تفصيلُ النص، وترقيمه، وضبط ما يحتاج إلى ذلك منه. - عزو الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث والآثار. - إحالة غالب النُقول الواردة إلى مصادرها، وعزو الأبيات الشعرية إلى قائليها. - استكمالُ العبارات التي لحقها الطمس في الجزء الثاني والثالث من الأصل الخطي، وقد تطلَّب ذلك الرجوع إلى كثير من كتب أصول الفقه، وخاصة كتاب "العدة" لأبي يعلى شيخ المصنف، و"التمهيد" و"التبصرة" وغيرها، وما لم نقف عليه في تلك المصادر، أُثبت تقديره حسب المعنى وكما يقتضيه السياق، ووُضع بين حاصرتين، وأشير إلى ذلك في الحاشية. - عمل الفهارس اللازمة التي تُعين طالب العلم في الوصول إلى بُغيته بيُسر وسهولة. - هذا ونسألُ الله عز وجلَّ أن يعفو عما حصل فيه من سَهْوٍ ومن تقصير، راجين منه تعالى القبول، والله الموفق.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الوَاضِح في أصُولِ الفِقه 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان تلفاكس: 319039 - 815112 فاكس 603243 ص. ب: 117460 AL- Resalah PUBLISHERS BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039 fax: 603243 - P.O.Box: 117460 Email: [email protected]

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلواتُه على سيِّدنا محمدٍ وآلِه الطَّاهرين، أَمّا بعدُ: فإنَّ كثيراً من أصحابنا المتفقَهةِ سألوني تأليفَ كتابٍ جامعٍ لأصول الفقهِ، يوازي في الإِيضاحِ والبَسْطِ وتسهيلِ العبارةِ التي غَمُضتْ في كتب المتقدِّمين، ودَقَّتْ عن أفهام المبتدِئين، كتابيَّ الكبيرين الجامعين للمذهب والخلافِ (¬1)، وأستوفي فيه الحدودَ والعقودَ، ثم أشِير إلى الأقرب منها إلى الصِّحًة، وأُمَيز المسائلَ النًظريًاتِ بدلائلَ مُسْتَوْفاةٍ، واسئلهٍ مُسْتقْصاةٍ، ليَخْرُجَ بهذا الإِيضاحِ عن طريقةِ أهل الكلام وذوي الإِعجام إلى الطريقة الفقهيَّةِ، والأساليب الفُرُوعيًةِ، فأجَبْتُهم إَلى ما سَأَلُوا، مَعتمداً على اللهِ سبحانه في انتفاَعي على النَّمَط الذي طَلَبُوا وأَملُوا، مع بَذْلِ وُسْعِي في ذلك، واستقصائِي فيه، ولن يَخِيبَ عن دَرْك البُغْيَةِ مَنْ صَدَقَ نفسَه الطَّلَبَ، وبَلَغَ جِدَّه في الاجتهاد لدَرْك المَطْلب، ثم فَزِعَ إلى الله سبحانه فيما وراءَ جُهْدِه، طالباً للإعانة على دَرْك الإَصابةِ في قَصْده بحُسْن التوفيقِ والهدايةِ، واثقاً بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ¬

_ (¬1) لعله أراد كتابيه "الفصول" و"التذكرة"، انظر "ذيل طبقات الحنابلة" 1/ 156، و"المدخل إلى مذهب الِإمام أحمد بن حنبل" ص 418.

القسم الأول: أصول الفقه

فصل في بيان معنى قولِنا: أُصولُ الفِقْهِ فالفقهُ في الأصل اللغَويِّ: الفَهْمُ، وقيل: العلمُ، قال سبحانه: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وقولُه: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ضَعِيفًا} [هود: 91]، أي: لا نفهم، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -:"نَضَّرَ" (¬1) اللهُ امْرَأً سَمعَ مَقالَتِي فوعاها، فأَدَّاها كما سَمِعَها، فَرُبَّ حامل فِقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفْقَهُ منه" (¬2). وهو في عُرْفِ قومٍ: عبارةٌ عن فَهْم الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ بطريق النًظَرِ. وقال قومٌ: هو العِلْمُ بالأَحكام الشَرعةِ بطريق النَظَر والاستنباطِ (¬3). وأصولُه: هي ما تُبْنَى عليه الأحكام الفِقْهيَّةُ من الأدلَّةِ على ¬

_ (¬1) كتبت في الأصل فوق السطر وتحتها: "رحم". (¬2) أخر جه أحمد 4/ 80، 82، والدارمي 1/ 65، وابن ماجه (231) والحاكم 1/ 87، والطحاوىِ في "مشكل الآثار" 4/ 283، وابن عبد البر في "جا مع بيان العلم" 1/ 41، والطبراني في الكبير (1451) و (1544) من حديث جبيربن مطعم. وفي الباب عن زيد بن ثابت، وا بن مسعود، وأبي الدرداء، وأنس، وابن عمر وغيرهم. (¬3) - وقد ذكر الطوفي عدة تعريفات لمعنى الفقه اصطلاحاً، وما يرد على كل تعريف، انظر "شرح مختصر الروضة" بتحقيقنا 1/ 133 - 175.

اختلافِ أنواعِها، ومراتِبها: كالكتاب ومراتب أدلَّتِه؛ من نصٍّ، وظاهرٍ، وعمومٍ، ودليلِ خِطابه، وفَحْوى خَطابهِ، وَالسُّنةِ ومراتبها، والقياسِ، وقولِ الصَّحابىِّ- علَى الخلاف- واستصحاب الحالِ مع انقسامِه، فهذه أصولٌ تَنْبَنِي عليها الأحكامُ (¬1). ولا ينصرفٌ إطلاقُ الفقهِ إلى العلم جملةً، بدليل علمِ النحْوِ، والطب، واللغة، والهَنْدَسةِ، والحِساب؛ فإن العلماءَ المبرزين فيها لا يَقَعُ عليهم اسمُ الفقهاءِ، ولا علىَ علومِهم اسمُ الفقهِ (¬2)، وكذلك العلماءُ بأصولِ الدين، العارفون بالجواهر، والأعراضِ، والأجناسِ، والأنواع، والخاصةِ، والفَصْلِ، والاستدلالِ بالشاهدِ على الغائبِ، لا يقعُ علَيهم اسمُ فقهاءَ؛ لعدم علمِهم بأحكام الشرْع، ولا تسمَّى علومُهم أصولاً للفقه. وإن كانت الأدلة التي ذكرنا بالأصولِ تَنْبَنِي على العلوم التي يُبْنى عليها إثباتُ أصولِ الدين؟ من حَدَثِ العالمِ، وإثباتِ الضَانعِ، وأنه واحدٌ، وما يَجبُ له، ويجوزُ عليه، وما لا يجوزُ عليه، وبعْثَةِ الرُّسُلِ وصِدْقِهم، إلى أمثال ذلك، ولكنْ لمَّا كانت أخص بكَونها أصولًا للدِّين؛ لم يُطْلَقْ عليها ما انْبَنى على ما دونها من الأصولِ، كما لا يقالُ في اللغه أصولُ الذينِ، وإن كانتِ الأحكامُ الشرعيةُ مبنيةً على الألفاظ اللغوية. ¬

_ (¬1) وهو ما قاله شيخه أبو يعلى، انظر "العدة"1/ 70، و "شرح مختصر الروضة" 1/ 125 - 126، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 41. (¬2) انظر "شرح الكوكب المنير" 1/ 42.

لكنَّ العلماءَ علَّقوا الأسماءَ على الأقرب والأخصَ دونَ الأبعدِ والأعمِّ، كما فعلوا ذلك في الأنساب، والدَّلائَلِ، فلم يُحيلُوا بدَلالة الإِجماعِ على الإِعجازِ الذي هو دليلُ صدقِ النُّبُوَّةِ، لكن احالوا بحُجَّةِ الإِجماعِ على قولِ الصادق؛ لأنها أقربُ، دونَ دَلالةِ صدق الصَّادقِ؛ لأنها أبعدُ. فمَنْ قال: إنه الفهْمُ، تعلقَ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفْقهُ منه"، ولا شَكَّ أن الحاملَ سَبَقَ المحمولَ إليه بالعلمِ بما نَقَلَهُ، لكنَّ الأفقهَ خبَرَ منه بجودةِ فهمِه ما لم يَخبُرْه. واعتلَّ من قال: إنه العلمُ- وهو المعوَّلُ (¬1) عليه عند علمائِنا- بأن الفهمَ قد اشتركَ فيه العامِّيُّ والمجتهدُ، وانفردَ أهلُ الاجتهادِ بكونهم علماءَ، وليس كلُّ فَهِمٍ عالماً، وكل عالمٍ فَهِم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المعمول".

* العلم وتحديده وأقسامه

فصل في العلمِ وتحديدِه وأقسامِه إذ حَدًدْنا الفقهَ بعلم الأحكامِ الشرعيَّةِ، فلابُدَّ أن نُوَضحَ عن حقيقةِ العلمِ الذي حدَّدْنا به الفقهَ حسبَ ما أوضحْنا من حقيقة الفقهِ، وقد اخْتبَطتْ فيها أقوالُ العلماءِ على اختلاف مقالاتِهم وآرائِهم. والكُل معترَضٌ بطريقين: أَحدهما: بالخلاف فيما انْبَنى عليه التَّحديد. والثاني: بطريق التَّحقيقِ، وأن في القَوْلِ فيه والتَحديدِ له قصوراً عنه، وإِجمالًا (¬1) لا يَصْفو معه كشف حقيقتِه. فقال قوم: معرفةُ المعلومِ على ما هو به (¬2). وقال قومٌ: معرفةُ الشَيءِ على ماهو به (¬3). فمَنْ قال: معرفة المعلوم. اعْتُرِضَ قولُه بأنه صَرفَ من اللفظة قبلَ بيانِ معناها، وقولُنا: معلوَم، مصرف من عَلِمَ، كمضروبٍ من ¬

_ (¬1) في الأصل: (إجمال). (¬2) وهو ما اختاره الشيرازي في "شرح اللمع في أصول الفقه" 1/ 84. (¬3) أورد القاضي أبو يعلى عدة تعريفات للعلم، وذكر ما يرد على كل منها. انظر "العدة" 1/ 76 - 79.

ضَرَبَ، ومن لا يعرفُ الأصلَ لا يعرفُ المصرَّفَ منه، وما هذا إِلا بمثابةِ من حَدَّ السوادَ بما سَودَ الجسمَ، ونحن لم نَعْلَمْ سواداً، فكيف نعرفهُ بما صُرفَ منه؟! ومن قال: معرفةُ الشيءِ. معترَض بأنه يَخرجُ منه العلمُ بالمعدومِ، فإنه علمٌ، وليس بمعرفةٍ بشيءٍ، وإن بناه على ذلك الأصلِ، فهو فاسدٌ بالأدلة القاطعةِ في أصول الدِّينِ. ولو كان ذاتاً في العدَم، لكان مُستغنِياً بذاته عن القديمِ، وهذا نفسُ القولِ بقِدَم العالَمَ، وموافقةٌ لأصحابِ الهوى، فهَذان حدَّان متقاربان معترَضان. وقال قوم: تَبَيُّنُ المعلوم على ماهو به (¬1). والحدُ للحقيقةِ ينتظمُها شاهداً وغائباً، واللهُ سبحانه يَتعالى عن أن يوصفَ بأنه متبيِّنٌ، لِمَا في طبعِ هذه الكلمةِ وجوهرها من العثورِ على الشَّيءِ بعد خفائِه، والظهورِ بعد استبهامِه، وهو بالعثورِ بعد الخفاءِ أخصُّ منه بالمعرفة المطلقةِ. وقال قومٌ: اعتقادُ الشَيءِ على ما هو به مع سكونِ النفسِ إلى معتقَدهِ (¬2). واعْتُرضَ بأن ما تعتقدُه العامةُ من الجهالاتِ، وتَسْكُنُ إليه من التقاليدِ ليست علوماً، وسكونها إلى ما تعتقدهُ تَبْعُدُ إزالتهُ بالتشكيك فيه بأنواعِ الحُججِ والبراهينِ، فضلًا عن الإزاحةِ عنه، وقولهُم: الشَيء. قد أفسَدْناه واعْتَرَضْناه بما دل على إفساد مقالةِ أهلِ المعدومَ. ¬

_ (¬1) انظر "البرهان في أصول الفقه" للجويني 1/ 115. (¬2) أورد أبو إسحاق الشيرازي هذا القول ونسبه للمعتزلة، وذكر الاعتراضات التي ترد عليه. انظر "شرح اللمع" 1/ 84 - 86.

وقال قوم: إدراكُ المعلوم أو الشَيءِ على ما هو به. وإدراك، لفظ عام يَشترك بين دَرْكِ الحواس والعلومِ، والحدُ بالمشترَكِ لا يجوزُ، وإنما يُحَدُّ الشيءُ بخصيصة. وقال قوم: الإِحاطةُ بالمعلوم. وهو معترَض بأن الإِحاطةَ تشتَرِكُ أيضاً، يقالُ: أحطتُ به رؤيةً وسَماعاً. وقال الشيخُ أبو القاسمِ بنُ بَرْهانَ (¬1): هو قضاءٌ جازم في النًفْس. والقضاءُ بالحكم أخص منه بالعلمِ. واحسَنُ ما وجدتُه لبعضِ العلماءِ أنْ قال: هو وِجْدانُ النفس الناطقةِ لامورِ بحقائقِها (¬2). وقال بعضُ المتأخًرين: العلمُ هو ما أَوجبَ لمن قامَ به كونَه عالماً (¬3). وهذا أبعدُ من الكلِّ؛ لما فيه من الِإحالةِ على كون العالِم بما قامَ به عالماً، ونحن لم نعلمْ ما قامَ به، وعن ذلك سُئِلَ، وكونُه عالماً اسمٌ، لكنْ لحقيقةٍ بَعْدُ ما عَلِمْناها، وما ذلك إلا بمثابةِ مَنْ سُئِل عن السوادِ فقالَ: هيئةٌ يصيرُ بها الجسمُ اسودَ (¬4)، وأسودُ مشتقٌّ من ¬

_ (¬1) عبد الواحد بن علي بن برهان، أبو القاسم العكبري، شيخ العربية والنحو والأنساب، توفي سنة (456) هـ. "سير أعلام النبلاء" 18/ 124. (¬2) ذكر الطوفي هذا التعريف الذي اختاره ابن عقيل، وأورد عليه اعتراضين. انظر "شرح مختصر الروضة" 1/ 169 - 170. (¬3) ذكره الجويني، وصرح بنسبته لأبي الحسن الأشعري. انظر "البرهان" 1/ 115. (¬4) في الأصل: "أسوداً".

سوادٍ، فقد أحالَ على اسمٍ ما عَقَلْنا بعدُ الحقيقةَ التي لأجلها سُمِّيَ أَسودَ، ويُفضي إلى الدَّوْرِ، فيُعَرِّفُ السَّوادَ بالأسود، والأسود بالسَّوادِ، وما عَرَفْنا الحقيقةَ التي صَدَرَ عنها إلا بتميينر. وقال بعض المتاخَرين من المحقَقين (¬1): لا حَدَّ له عندى، وإنما هذه كلُّهارسومٌ (¬2). فإن قيل: فالحدود كلها تعطي حد الشَيءِ بنفسِه، فإن المعرفةَ هي العلمُ، والتَّبَينَ هو العلمُ، والإِدراكَ هو العلم، فمن قال: العلم المعرفةُ، كمن قال: العلمُ العلمُ. قيل: أَجمعَ العلماءُ على أنه لا يجوز حَدُّ المحدودِ بغيرِه، بل لا يُحَدُّ إلا بنفسِه؟ فالسائل عن حَدِّ الشَّيءِ لا يسألُ إلا لجهالتِه بحقيقةِ ما سألَ عنه، فلو أتَيْنا عند سؤالِه عن حقيقةِ الشيءِ بالغيرِ، جَهَّلْناه بحقيقتهِ، إذ أَشَعَرْناه بغيره، وبَعَّدْناه عن مقصودِه، ولو أعدنا عليه ما سألَ عنه، بأنْ يقولَ لنا: ما العلمُ؟ فنقولَ: العلمُ، لَمَا افَدْناه، فقد نطقَ باسم ما عرفَ حقيقته، فإذا أعدنا عليه اللَّفظةَ لم أَفِدْه شيئاً، فإذا بطلَ الأمران، لم يَبْقَ أن يكونَ الجوابُ إلا الفَزَعَ إلى الأوجزِ عبارةً، وأخصِّ خصيصةً؛ لنكشفَ عن حقيقتهِ بإيجازِها، وتخصُّصِها، وكشفِها عن جوهريَّتهِ وطبيعتِهِ، فنكون بذلك مقرِّبين إلى فهمِه معنى ما سألَ عنه، لا عادلين إلى غيرِه، ولا معيدين لِمَا سألَ عنه، بل موضِّحين كاشفِين عن حقيقةِ ما سألَ عنه. ¬

_ (¬1) في الأصل:"المحقين". (¬2) وهو ما قاله الغزالي في "المستصفى" 1/ 16 - 17.

- تعريف الحد

يوضًحُ هذا: أن أهلَ العلمِ أجمعُوا على أن للحدِّ حقيقةً، وهو قولُهم: حدُّ الحدِّ، فقالوا: هو قول وجيزٌ يُنْبِىءُ عن حقيقةِ الشيءِ. وقال بعضُهم: الجامعُ لجنسِ ما فَرَّقَه التَّفصيلُ. وقال قوم: هو الجامعُ المانعُ. وقال قوم: قولٌ وجيزٌ محيطٌ بالمحدودِ، دالٌّ على جنسِهِ. وقيل: قولٌ وجيزٌ يدورُ على المحدودِ بالانعكاسِ، كقولك: كلُّ جسمٍ فهو جَوْهَرٌ آخِذٌ في الجهاتِ، وكلُّ جوهرٍ آخذٍ في الجهات فهو (¬1) جسم. وقيل: الحدُّ ما أحاطَ بالمحدودِ، فمَنَعَ أن يَدْخُلَ فيه ما ليس منه، أويَخْرُج عنه ما هو منه (¬2). وقيل: الحدُ هو الجوابُ في سؤالِ ما هو؟ وأصلُه: المنعُ في اللغة، ومنه سُمَّيَ البوَّابُ حَدّاداً لمنعِه، وسُميَ الإِحدادُ في العِدَّةِ لمنع المرأةِ به التَّطَيُّبَ ودواعيَ الجماع، وسُمِّىَ الحديدُ حديداً لمنع السِّلاحِ (¬3)، كما قال سبحانه: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80]،وسمي الحدُّ المشروعُ حدًّا لمنعِه من ارتكابِ الجرائمِ، وحدودُ الدار والملكِ هو المانعُ من دخولِ ملكِ غيرهِ فيه، فهو مشترَكٌ بين هندسيٍّ، وفلسفيٍّ، وفقهيٍّ، وأصلُه: الجَمْعُ والمَنْعُ، وإن اختلفت ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "فهم". (¬2) انظر فيما قيل في الحد "العدة" 1/ 74 - 75، وشرح اللمع " 1/ 81 - 82. (¬3) عبارة أبي يعلى في "العدة" 1/ 75: "لأنه يمنع من وصول السلاخ الى المتحصن به".

أنواعً المنعِ، فإذا كان للمنع تخصُّصٌ بحقيقةِ الشَّيءِ، فلا يُنكرُ أن يًحَدَّ الشيءً بنفسِه؟ إذ كان هو المخلِّصَ له عن غيرهِ، المانعَ من الشركةِ والاشتباهِ، وهو خلاصةُ الحقيقةِ والخصيصةِ. وقال قومٌ من الأصوليِّين: لا حاجةَ بنا إلى الحدودِ، ولا معنى لها، لأن في الأسماءِ غَناءً عنها؛ لأنها أعلامٌ على المسمَّياتِ. وهذا باطلٌ؛ لأن في الحدودِ أكبرَ المنافعِ التي لا يُوجَدُ مثلُها في الأسماءِ، فمن ذلك: أن الاسمَ قد يُستعملُ على (¬1) جهةِ الاستعارةِ والمجازِ، فإذا جاءَ الحدُّ بَيَّنَ الاستعارةَ والمجازَ من الحقيقةِ، فتَعْظمُ المنفعةُ؛ لأن كثيراً منه قد يَلْتَبِسُ وُيشكِلً، فيُحتاجُ فيه إلى نظرٍ واستدلالٍ. ومن ذلك: أنه قد يَتَبَيَّنُ المحدودُ من طريقٍ آخَرَ، وهو أن فيه ذكرَ العِلَّةِ والسَّبب الذي لأجله استَحَق الاسمَ والصفةَ، فيظهرُ معناه بظهورِ عِلَّتهِ، مثل قَولِنا: حكيمٌ: هو اسمٌ، فإذا طُلِبَ الحدُّ، ظهرَتْ حقيقةُ الحكمةِ، فكانت كاشفةً للعِفَةِ، مثلُ قولِهم: هي صفةٌ للمرءِ (¬2) توجبُ إتقانَ الأفعالِ الصادرةِ عنه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن". (¬2) غير واضحة في الأصل، ولعل صوابها ما قدرناه.

- ما يجب صيانة الحد عنه

<رأس>فصل فيما يجبُ صيانةُ الحَدِّ عنه واعلم أنه لا يجوزُ أن تأتيَ في الحدِّ بالمشترَكِ، كقولِك في العلمِ: إدراكٌ، فيدخلَ فيه سائرُ دَرْكِ الحواسِّ، ولا بما لو أسْقَطْتَه لم يَختلَّ الحدُّ؟ لأنه هو الحَشْو، والحدُّ خُلاصةٌ لا تحتملُ الحَشْوَ، مع كونه مَشروطاً بإيجازِ اللَّفْظِ، وذلك مثلُ قولك في حدِّ الإنسانِ: الكاتبُ المتقلِّدُ السَّيْفَ، وفي العلم: الذي لا يتطرقُ عليه شكٌ ولا شُبْهَةٌ، فهذه زيادةٌ في الحد تُنقصُ المحدودَ، فخرجَ بعضُ الناس عن الحَدِّ، وتخرجُ بعضُ العلوم وهي: الاستدلاليَّةُ، وُيخصُّ الحدُّ بعلم الضرورةِ، وعلمِ القديمِ (¬1) سبحانه. وليس ذلك في كلِّ زيادةٍ؛ لأنك لو اتَيْتَ بالزِّيادةِ من الأعم، مثل قولِك: جسمٌ منتصبُ القامَةِ ضَحّاكٌ بكاءٌ؛ فإنه لا يَنقصُ، إذ ليس بعضُ الناسِ ليس بجسمٍ، بخلاف قولِك: كاتبٌ؛ لأن بعضَ الناسِ ليس بكاتبٍ، ولو قال: الكاتبُ بالقُوةِ، لم يَفْسُدْ، لكنَه يطولُ، فيخرجُ عن الِإيجازِ. ولا يجوزُ فيه الإِبهامُ، مثلُ قولِك: وما جرى هذا المَجْرى أو مَجْرى ذلك، وما كان كذلك، حتى تَتبينَ من أيَ وجهٍ يكونُ. ¬

_ (¬1) القديم ليس من أسماء الله الحسنى، إنما هو من التسميات التي جرت على ألسنة المتكلمين والفلاسفة، فالقديم في لغة العرب: هو المتقدم على غيره، ولم يستعملوه فيما لم يسبقه عدم، والصواب أن يستعاض عنه بما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]،. فاتباع ما جاءت به الشريعة أولى من اتباع ألفاظ أهل الكلام. خاصة فيما يتعلق بصفات الله سبحانه "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 77.

- القضايا الشرعية

ولا يجوزُ أن تأتيَ بالجنسِ الأعلى وأنت تقدرُ على الأدنى، مثل، قولِك في حَدِّ الإنسانِ: جَوهرٌ أو جسم، وأنت تقدرُ أن تقولَ: حيّ، ولا باللَّفظِ الأطولِ وأنت تقدرُ على الأقصرِ، مثلُ قولِك: يمشي على رجلَيْنِ، ويَبطِشُ باليَدَيْنِ، ولا بالأعمِّ وأنت تقدرُ على الأخَصِّ، مثلُ قولِك: جسم. وأنتَ تَقْدِرُ على: حَيٌّ. فصل فإذا ثَبتَ حَدُّ العِلم، وبَيانُ معنى الحد، فما الأحكام التي تميَّز بها حَد الفِقه في قولنا: العلم بالأحكام الشرعية؟ فهي القضايا الشرعية، وذلك هو: الِإباحة، والحَظْر، والإِيجاب، والنَّدب، والكَراهة، والتَّنْزيه، وقد أدخل قوم فيها: الشَّك، والوقف. ولا يَسْتَحِقُّ بِمَعْرفةِ هذه الأحكام والعلمِ بها اسمَ الفقيه، إلا مَن عَلمها بطريقِ النَّظرِ في أدلَّةِ الشَّرع، وأَسند كُل حُكم إلى دليله، واسْتَثارَه بمُثير. فصل والعلم الذي حَدَّدناه في الجُملة يَنقسم قِسمين: قَديمٍ، ومُحدَثٍ. فالقديم: عِلمُ الله سُبحانه، صِفة من صِفاته، ولازِم من لَوازِم ذاتِه، دَلَّ على إثباتِهِ إتقانُ أَفْعَاله، ونَصُّ كِتابه، وهو علمٌ واحِد يتعلق بالمعلومات على حَقائقها، لا يَتعدَّد بتعددِ المعلومات، ولا يَتجددُ بتجُدِد المُحدَثات (¬1)، ولا يُوصَفُ بكسْبِىٍّ ولا ضرورِي. ¬

_ (¬1) لعله يقصد: أن علم الله لا يزيد عند تجدد الحوادث، كما هو الشأن في المخلوق، لأن علم الله أزلي.

والقسم الثاني: العِلمُ المُحدَث، وهو ضَربان: ضروري، ومكتسب: فالضروري: ما لَزِم نفسَ المخلوقِ لزوماً لا يمكن دَفعه والخروج عنه، وقولنا: نفس المخلوق. تحرز عن العِلم القديم، وهو ضربان: بديهي لا يحتاج إلى مًقدمات، ولا سِياقات نَظرية، كالعلم بنَفسه وأحوالها. وما يحصل بوسائط ومُقدمات، كعلم الهَنْدسة ومَسائِلها. وأما الاستدلا فيُ الكَسْبي: فهو العِلم المكتَسَب بالنَظر والاستِدلال، كالاستدلال بالشاهد على الغَائب، والصَّنعة على الصانع، فهذا الضرب من العلم هو الذي حَدَّدنا به الفقه، فقُلنا: العِلم بالأحكام الشرعية. ومع ذِكْرنا للنَظَر فلا بد أن نُحَقِّقه، وكذلك الاستِدلال. فالنظر الذي هو طَريق العلم الاستدلالي، هو التأمل في حالِ المنظور، كالنَّظر في دلائل العِبر. والاستدلالُ: طَلبُ مَدلوله، وذلك إنما يَقع بالفِكر والبَحث (¬1). والعلم الاستدلالي يَتَطرق عليه الشك والشبْهة. واعلم: أن علم الاكتِساب كُلَه مَردود إلى علم الاضطِرار، وقد يكون مَردوداً بمقدماتٍ أو مَراتبَ؛ فمِن ذلك أنّه قد يكون عشر مُقدمات ¬

_ (¬1) انظر أقسام العلم عند أبي يعلى في "العُدة" 1/ 80 - 82، والشيرازي في "شرخ اللمع" 1/ 86 - 87.

في عَشر (¬1) مَراتب، فَتُرَد العاشرة إلى التاسعة، والتاسعة إلى الثامنة، والثامنة إلى السابعة، ثم على ذلك إلى الأولى. مثاله: الاجتهاد مَردو إلى الإِجماع، والإِجماع مَردود إلى النُبوة، والنبوة مَردودة إلى المعجزة، والمعجزةُ مَردودة إلى أحدِ أمرين: إما حكمة الله عزً وجل التي دل عليها إتقانُ صَنائِعِه وشرائِعِهِ، فعندها تحصل الثقةُ بأنه لا يُؤيد بمعجزةٍ كذاباً، ولا يزينُ قبيحاً، ولا يصد عن حق، ولا يَحول بين المكلف وبينه، وإذا لم يجد الإِعجاز هذا المُستَنَد، لم تحصل دلالتهُ على صدقِ مَن قام على يَدَيْه. أو إلى حُكمه وإرادته المطلقة ومشيئته لملكه (¬2) على اختلاف المذهبين: مذهب أهل السنة، ومذهبِ المعتزلة. فتتم العشرُة على مذهبهم بردِّ حُكمه إلى غِناه عن القَبيح مع علمه به، وغناه عن القبيح مع علمه به مردود إلى دِلالةِ أفعالِهِ، ودِلالة أفعالِهِ مَردودة إلى التغير، والتغير ضرورةٌ. ومِن شرفِ العلم أنه يَدَّعيه من لا يُحسنه، ويفرح إذا نُسب إليه. وقولنا: علم كَسبي، نسبةً إلى اكتساب المكتَسِب، وكذلك: علم نَظري، منسوبٌ إلى النظر الذي هو التأمل، مثل قولك: رجل فارسي ومَكّي؛ إذا نسبتَه إلى فارس ومكة. فكذلك قولنا: علم ضروري، نسبته إلى الضرورة، وهو هجومه على النَّفس بغير استدعاء من المضطر إليه، ولا اختيار لدخوله عليه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عشرة". (¬2) في الأصل: "لملكته".

- طرق العلوم

فصل وطرق العلوم سِتَة لا سابع لها، منها: العلومُ الحاصِلةُ بالمعلومات عن دَرْكِ الحواس، وهي خمس: حاسَّة البَصر، والسمع، والشم والذوق، اللَّمس، والسادس من الطرق؛ ضَربان: هاجمٌ على النفس، وهو الضروري. ومُستحضَر لها بالكسب، وهو الاستدلال (¬1) بالمحسوس على غير المحسوس، وكل منها يُدرِك الشيءَ وضده إذا كان له ضد، كحاسة البَصر تُدرك السواد والبياض وهما ضِدان، وحاسَّة الشم تُدرِك الطيب والخبيث، وحاسةُ اللَّمس تدرِك الناعِم والجَريش (¬2)، والحار والبارد، وحاسةُ الذَوق تدرِك الحُلو والحامض. وما يحصل بطريق دلالة الحال من خَجل الخَجِل، ووَجَل الوَجِل، وبِرِّ البارِّ، وعُقوق العاق وما شاكل ذلك. وأما ما يحصل من غير طريق لكن يدخل على النفس هاجماً كوجود الرِّي، والعَطش، والجوع، والشَبع، وما يجده الِإنسانُ من نفسه، من صِحته وسقمه، ولَذته وألمه، قد (¬3) قدمنا ذكره في الحصر، وهو السادس من الطرق. فصل وهذه العلومُ الحاصلة عن الطرق التي ذكرناها غيرُ مُتولدة من هذه ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاستدلالىِ". (¬2) الجريش: الشيء الخشن، ومنه الدقيق الذي فيه غِلَظ. "اللسان ": (جرش). (¬3) في الأصل: "وقد".

الطرق، وإنما هي حاصلة من اللهِ فعلَاَ عقيبَ وجود الطرق التي ذكرناها، التي بَعضها كَسْبي؛ كالتأمل والاعتبار، والبحوث، والأفكار، وبعضها تدخل دخول غَلَبة؛ مثل العلم الحاصل عن أخبار التواتر، وما يدخل على العيان، وسائر الحواس، فيُحدِث الله العلمَ عقيبه كما يُحدث الموتَ عقيب الجراح، والجزعَ عند رُؤية الأسد، والمسرة عند تَجددِ الظَّفر، وقُدوم الغائب، وإيلادِ الوَلد، إذ كان القول بالتولد (¬1) قولًا يُضاهي قول أهلَ الطَّبع (¬2) الذي قامَ بفساده دليل العقل، وكذبه الشرع. وذلك هو المانعُ لنا من القول بخلقِ الأفعالِ مضافةً إلى غيرِ اللهِ سُبحانه، وكما قامت الدلالةُ بفَساد قولِ أهلِ الطبْع، قامت بفسادِ القولِ بإثباتِ شريكٍ في الخلق. وإنما أنِس كثير من المُسْتَأْنِسِين بالحواس المحطوطِين عن درجة النظر بجَري العادات، فأضافوا إلى غيرالله ما لا يكون إلا من الله؛ كالولدَ يوجد عند الجماع، والزَرعِ يوجد عن فعل الزرّاع، والموت يوجد عند جَرح الجارح، وذلك أثر وجد عنده وعقيبه لا عَنه، وكذلك وجود الكون عند وجود الجوهر لا مَحالة، وليس بمتولدٍ عنه بما ثبت لله تعالى من دلالة الوحدة في الصنع، وهذا أصل كبير. ¬

_ (¬1) بسط ابن حزم القول في معنى التولد، والخلاف فيه في كتابه "الفِصل" 5/ 181 - 182. (¬2) هم الدهريون الطبيعيون الدين يقولون بالمحسوس ولا يقولون بالمعقول. انظر "الملل والنحل " 2/ 3 - 4.

- تعريف العقل

فصل والعقل: ضرب من العلوم الضرورية، وبه قال جمهور المتكلّمين (¬1). وقال قوم: قوة غريزيةٌ يُفْصَل بها بين الحُسن والقُبح. وقال قوم: يُفصل بها بين حَقائق المعلومات. وقال قوم: هو مادَّة وطَبيعة. وقال قوم: هو جَوهرٌ بَسيطٌ (¬2). والجمهور من المتكلمين على ما ذكرنا، وأنه من العلوم الضرورية، وإنما ذكرناه حيث أفضنا في ذكرِ العلوم ومُتعلقاتها وطرقها وهو من جُمْلَتِها، وله بما ذكرنا تَعَلُّق من نَفي حكمَه بتحسين وتَقبيح وبيان ما ينتهي إليه. فالدلالة على فَساد القول بكونه جوهراً، أن الجواهر من حيث كونُها جواهرَ جنسٌ واحد، فلو كان العقل جَوهراً لاستغنى العاقل بوجود نَفسه عن عقلٍ لكونه جوهراً في نفسه، فلما لم يكن عاقلًا بجوهرِ ذاته ونَفسه، كان من المحال كوُنه عاقلًا بجوهر آخر هو من جنسه. وأيضاً فإنه لو كان جَوهراً لصحَّ قيامه بنفسه إذ هذا خصيصة الجوهر، ولما لم يصح قيامُهُ بنفسه عُلِمَ أنه مَحمول لغيره، وهذا نعتُ العَرَض. ¬

_ (¬1) وهو اختيار شيخه أبي يعلى، انظر "العدة" 1/ 38. (¬2) انظر الاختلاف في تعريف العقل في "العدة" 1/ 83 - 88، و"شرح اللمع" 1/ 90 - 91، و"البرهان" 1/ 111.

ولأنه لو كان جوهراً، ويصحُّ أن يقومَ بنفِسِهِ، لصَحَّ أن يحيا ويعقل ويكلَّف، فإذا ثبت أنه عَرَضٌ، فالدلالة على أنه ليس بعَرضٍ غيرُ العلم؛ أنه لو كان عَرَضاً غيرَ العلم، لصح وجود سائرِ العلومِ مع عدمِهِ حتى يكونَ العالمُ بدقائقِ الأمور غيرَ عاقلٍ، أو وجودُه مع عدم سائرِ العلوم، حتى يكون الكاملُ العقلِ غيرَ عالم بنفسه، ولا بالمدرَكَات، ولا بشيء من الضروراتِ، إذ لا دليل يوجب تضمُّن أحدِهما للآخر، وذلك نهاية الإِحالة، أوَ لا ترى أن سائرَ أنواع الأعراضِ يجوز أن يكون كل واحدٍ منها في المحل، ولا يكون بُدّا من حصول اتِّصافِ المحل بالعَرَض الآخر، بل إذا حَمَلَ الجسمُ عَرضاً من جنسٍ امتنع من حمله لأخرَ من جنسه مما يُضاده، فلما كان في مَسألتنا لا يصح أن يكون عالماً مَن ليس له عَقلٌ، ولا عاقلاً من ليس له عِلم، عُلِمَ أنه نوع من العلوم لا غير. وأيضاً فإنه لو كان ليس من العلوم، لم يَخلُ أن يكون مثلَها أو ضِدَّها وخِلافَها، أو خلافَها وليسَ بضدٍ لها. ومحالٌ كونه مثلها لأنها مختلفة، والشيء لا يشبه أشياء مختلفة، ولأنه لو كان مثلها لاستغنى بها عن وجوده؛ لأن المِثل يَسُدُّ مَسَد المِثل، كالجوهر يَسدُّ مَسدَّ الجوهر، وَلَوجَبَ أن تكونَ العلوم عقلاً إذ لا يُشابه العقل ما ليسَ بعقلٍ. وَيستحيل أن يكون ضِدَّها وخلافَها؛ لأن ذلك يُفضي باستحالةِ اجتماعهما-أعني العقل والعلم- وذلك باطل باتفاق. بل لا يصح أن يكون عالماً إلا من كان عاقلاً. ومُحالٌ كَوُنه خِلافَها وليس بضدٍ لها؛ لأنه لو كان ذلك كذلك لجاز وجودُ كلِّ واحدٍ منهما (¬1) مع ضدٍّ صاحبه ¬

_ (¬1) في الأصل: "منها".

ووجود أحدهما مع ضدِّ الآخر، حتى يكون العَقل موجوداً مع ضِدِّ العلم وهو الجهلُ بالضروريات والمشاهدات، إذ العلم بالضروريات والدقائق موجود مع ضِدِّ العقل من الخيال والاختلال، وذلك معلوم فساده في العقل، فثبت أنه لا يجوز أن يكون جنساً مخالفاً لسائر العلوم. فإذا ثبت هذا وأنه علم، فلا يجوز أن يكونَ كل العلوم ضَروريِّها وكسبيِّها؛ لأننا قد علمنا عُقلاءَ عِدةً خالين من العلوم الكَسبية النَظرية، ولا يجوز أن يكون كل العلوم؛ لأنه لو كان كذلك لكانَ كلُّ مَن فقد العلمَ بالمُدرَكات بعدمِ إدراكه لها غيرَ عاقل. ولا يجوز أن يكونَ هو علمَ العالم بوجود نفسه وما عنده من لذةٍ وألم، وصِحة وسقم؛ لأنه لو كان كذلك لكان الأطفالُ والبهائمُ والمجانينُ عُقلاءَ لعلمهم بذلك من نفوسهم. فلم يَبق إلا ما ذكرنا، وأنه بعض العلوم الضرورية، وهو علم بوجوب واجباتٍ، واستحالةِ مُستحيلاتٍ، وجَواز جائزاتٍ (¬1)، فهذه العلوم التي يَختص بها العقلاء. وبيان هذه الجمل، مثل العلم بأن الضَدين لا يَجتمعان، وأن الائنين أكثرُ من واحد؛ وأن المعلوم لا يَخرج عن أن يكون مَوجوداً أو غيرَ موجودٍ، وأن الموجودَ لا يَنفك عن أن يكون عن أولٍ أو لا عَن أولٍ، ومن ذلك حُصول العلم عن الأَخبار المتواترة، فمن حَصَلت له هذه العلوم عُدَ عاقلًا. ¬

_ (¬1) "المنخول": 44.

- معنى الفهم

فصل والفَهم: العِلم بمعنى القول عند سَماعه، ولذلك لم يوصف البارىء به؛ لأنه لم يَزل عالماً، وقد يُفهم الخطأ كما يُفهم الصواب، وُيفهم الكذب كما يُفهم الصدق. ولا سَبيل إلى النقض على المخالفين في الحق إلا بعد فَهم باطلهم، كما لا سبيل إلى اتباع مذهب أهل الحق، إلا بعد فهمه من أنهم (¬1) على الحق. فصل وإذا ثبت أنه (¬2) من بعض العلوم، فلا يَقبلُ الزيادةَ والنقصانَ؛ لأن العلم الكَسبي لا يقبل الزيادة، والضّروري أولى أن لا يقبل الزيادة، وما ورد في ذلك، فإنما هو من باب قولهم: فُلانٌ أعلم من فلان. بمعنى أن معلوماته أكثر، كذلك أعقل؟ بمعنى أأن، تجاربه أكثر. والتجارب قد تَجوزَ فيها قوم، فقالوا: هي (¬3) عقلٌ ثانٍ، وقالوا في المشورة: عَقلُ غَيرك مُنضمٌ إلى عَقلك. فهذا مَجاز، والحقيقة لا تَقبل التزايد، كقولنا: حَياة، وإرادة، وعِلم، وأمر، وقيامٌ بالنفس، وحصولٌ في المكان، فهذا كله لا يَقبل التزايد. وكذلك العِلم والعَقل بعض العلوم، فلم يقبل ما لا تقبله العلوم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنفسهم ". (¬2) أي العقل. (¬3) في الأصل: "هو".

- هل التحسين والتقبيح من قضايا العقل؟

فصل واختَلف أهلُ العلم في التَّحسين، والتَّقبيح، والِإباحة، والحَظْر، هل هي من قضاياه؟. فذهب أصحابُ الحديث وأهلُ السنة والفُقهاءُ إلى أن لا تَحسين ولا تَقبيح، ولا إباحة ولا حظر، إلا من قِبَل الشرع، وذهبَ كثير من المتكلّمين إلى، أن التَّحسين والتَّقبيح من قضايا العقل (¬1)، وإليه ذهبَ أبو الحَسن التَّميمي (¬2) - من أصحابنا- على ما حُكي عنه، والمُعوَّل على تَقبيح الشرعِ وتَحسينِهِ. والعَقل محكومٌ عليه لا حاكم في هذه القضايا. والدلالة على ذلك بحَسَب هذا الكتاب، وأنه أصولُ فِقه لا أصول الدين، أنَّ القائلين بتَقبيح العقَل- كالبَراهمة (¬3) - قبحوا إيلام الحيوان وإتعابه، وحَسنوا منه ما لا يمكن دفع الأضرّ عنه والألم إلا به، وهو الأقل الذي يضطر إليه لدفع الأكثر، كالفَصد، والحِجامة، وقَطع المُتآكلِ، وأجمعوا على تَقبيح ما استغني عنه. ¬

_ (¬1) سيورد المؤلف في الصفحة (200) من هذا الجزء فصلَاً كاملًا في الفرق بين مذهب أهل السنة والمتكلمين في ذلك. وانظر "شرح مختصر الروضة" 1/ 402 - 409. (¬2) عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث، فقيه حنبلي، صنف كتاب "الأصول" و"الفرائض"، توفي سنة 371 هـ، "طبقات الحنابلة" 2/ 139. (¬3) قوم من أهل الهند سُمّوا بذلك نسبة إلى رجل منهم يدعى: براهم، وهم ينكرون بعثة الرسل والنبوات أصلاً. "الملل والنحل": 506.

- محل العقل

ثم إن الشرع أباحَ الِإيلام لا مَوقوفاً على هذا، إذ لا ضرورة إلى الِإيلام بل هو غني عنه، وأجمعنا على أن الشارع يؤلم من غير حاجةٍ، وأن ذلك حَسن، فبطل تحسين العَقل وتقبيحه. فصل ومحله القلب (¬1)، لقوله تعالى: ({أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ} [الحج: 46]، وقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ} [الحج: 46]، وقال عُمر في ابنِ عباس: لَه لِسانٌ سَؤولٌ، وقَلبٌ عَقول (¬2). وإضافَة العَرب الشيءَ إلى الشَيءِ إما لكونه هُوَ هُو، أو مَكانَه، وليس القلبُ عقلاً بإجماع، لم يَبْقَ إلا أنه مَحلُّ العَقل، بإضافَة الشيء إلى محله، ومن خَلَقَ العقلَ أعلمُ بمحله {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]، فلا الْتِفات إلى قولِ من يَقُول: [إن محلَّه في الرأس] (¬3). ¬

_ (¬1) أي: محل العقل. قال أبو يعلى في "العدة" 1/ 89: "ذكره أبو الحسن التميمي في كتاب العقل". (¬2) أورده ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 1323، في ترجمة ابن عباس. (¬3) ورد هنا في الأصل طمس بمقدار أربع كلمات، وقد أثبتناها اقتباساً مما ذكره أبو يعلى في "العدة" 1/ 84 - 89. وقد أُقحم في الأصل بعد هذا ما نصه: "وحكم العلة والقياس قضاء الشرِع المستنبط، فيمتاز عن أحكام الشرع الثابتة بالظواهر والنظر بهذا الوصف" يشرد العبارة في مكانها الصحيح في الفصل التالي.

- الأحكام الشرعية

فصل ولما حَدَّدنا الفِقهَ بعلم الأحكام الشرعية، فلا بُدَّ بَعد بيان العلوم وطُرُقِها أن تُحَدَّ الأحكامُ جُملةً، ثم يُحَدَّ كل واحدٍ على حِدته. فالأحكام: القَضايا، فهي ها هنا قضايا الشرعِ. وحكمُ العِلَّة والقِياس: قضاءُ الشرع المُسْتَنْبَط، فيمتازعن أحكام الشرع الثابتة بالظواهر والنظر بهذا الوصف. فمنها: الإباحة (¬1): إطلاق الشرع. وقيل: إذنُ الشرع بالمباح المأذونِ فيه شَرعاً. وقيل: إتمام مالَه فِعله، وكلُّ مُباحٍ حَسن. وقيل: ما لا ثوابَ في فعله ولاعِقابَ على تركه. الأولُ أصح؛ لأنه لا يدخل عليه فِعل الصبيان والمجانين، إذ لا يوصَفُ الشرع بأنه أطلقَ أو اذنَ في أفعالهم. والتحديد بنَفي العِقاب يَبطُل بفِعْلِ الصغار والمجانين، فإنه لا ثوابَ فيه، ولا عقابَ عليه، وليسَ بموصوفٍ بالِإباحة، وكذلك خَطا العقلاء وما يصدر عنهم غفلةً، ومعَ نزع ذهولٍ، وحالَ الإِغماء. والحَظْرُ: مَنع الشرع، فالمحظور (¬2): ما مَنعَ منه الشرع، وأصله: المنع، ومنه سُمي المُحتَظِر: مُحتظراً؛ إذ جَعلَ حول إبلهِ أو مَتاعه ¬

_ (¬1) "العدة" 1/ 167، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 386، وانظر الصفحة (131) من هذا الجزء. (¬2) انظر المحظور وما ذكر من أسمائه في "المحصول" (1/ 101 - 102، وانظر الصفحة (132) من هذا الجزء.

- الواجب

- في الجملة- مانعاً من العَوْسَج (¬1). وسُميت الحَظيرةُ بذلك من المَنع. وقيل: ما في فِعله عقاب. والواجب في أصل اللغه (¬2): الساقِط، من قولهم: وَجبَ الحائط، ووَجبتِ الشمس. والِإيجابُ: الإِسقاط، وهو الإِلزام، وها هنا هو إلزام الشرع. وقد قيل: ما في فِعله ثَوابٌ، وعلى تركه عِقاب. ولا يُحتاج إلى ذِكر الثواب، بل إذا رُسِم برَسْم كفى قولُنا: ما في تركه عِقاب. وقيل: ما لا يجوز تركه (¬3). والحَدُّ هو الأول (¬4)، وهذه رسومٌ بِمُتَعلّقات وأحكام، فالثواب والعقاب أحكام الواجب. والإِيجاب شَيء وأحكامه شئٌ آخر، والتَّحديد بمثل هذا يأباه المُحقِّقون، حيث أبَوْا أن يَحدّوا الأمرَ بما كانَ المُمْتَثِل له طائعاً، والمُتَأبِّي عنه عاصياً، فإن هذه أحكام ومُتعلقات، وإنما حَدّوه باستدعاء الأعلى من الأدنى فِعلاً. والفَرضُ في أصل اللغة: التأثير، مِن فرْضَة القَوس، وفُرْضَة ¬

_ (¬1) وهو شجر من شجر الشوك. "اللسان": (عَسَج). (¬2) انظر تحقيق معنى الواجب لغة في: "شرح مختصر الروضة" 1/ 266 - 267. (¬3) انظر بقية تعريفات الواجب في "العدة" 1/ 159 - 160، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 345 - 349. والصفحة (124) من هذا الجزء. (¬4) أي القول: بأنه إلزام الشرع.

- الندب

النهر (¬1)، وهو ها هنا عِبارة عما ثَبت إيجابُه بنَصٍ أو دليلِ قَطع (¬2). والنَّدبُ، قيل: هُو الحثّ على الفِعل في الأصل. وها هنا: هو الحثُّ على طاعةِ الله، ولا يَجوز أن يكونَ الحثُّ حَداً للندب، وهو آكَدُ من الاسْتِدْعاءِ، ومُجرد الاستدعاء يَقتضي الإِيجاب، فكيفَ يَقتض ي الحثُّ ما دونه، وهو النَّدب؟. وقيل (¬3): ما في فعله ثواب، ولَيس في تركه عقاب. ومن جعله أمراً حقيقة، قال: هو استدعاء أو اقتضاءُ الأعلى الأدنى بالفعل على وَجه الأولى، أو على وجه لا ياثم بتركه. وقيل (3): الاستدعاءُ يَتضمن التَخيير بينَ الفِعل والترك لا إلى بَدل. وأصله في الفُغة: الدُعاء. قال الشاعر: لا يَسْألونَ أَخاهُم حينَ يَنْدُبُهمْ ... للنائِباتِ على ما قَالَ بُرهانا (¬4) وُيريد (¬5): حين يدعوهم. وهو بالحث أنصع تحديداً من الدعاء ¬

_ (¬1) فُرضة القوس: الحَزّ يقع عليه الوتر (أي: المحل الذي يشد به الوتر في طرفي القوس)، وفُرضة النهر: مشرب الماء منه، وثلمته التي منها يُستقى. "اللسان ": (فرض). (¬2) انظر الصفحة (125) من هذا الجزء. (¬3) في الأصل: "ويسأل". (¬4) البيت لقُرَيط بن أنيف من قصيدة يهجو بها قومه ويمدح بني مازن. وهو في "الحماسة" لأبي تمام 1/ 57، وفيه: "في النائبات" بدل: "للنائبات". (¬5) في الأصل: "ويريدون".

- المشكوك

والاقتضاء، لكن لا بد من تَقييده بالتَّخيير بين الفِعل والترك (¬1). وأما الكَراهةُ، والمَكْروهُ: فإنه استِدعاءُ التركِ على وجهٍ لا مَأْثَم في فِعله، وهو مِن مَرتبة النَهي المُطلق الحاظر بمنزلة الندب من الإيجاب (¬2). والمَشكوك: قيل: ليس بحكمٍ، وقيل: حُكم (¬3)، كما قال أبو حنيفة، وأحمد في رِوايةٍ في الجِمار (¬4)، والصحيح عندي أنه ليسَ بمذهب، وإنما هو مُترددٌ في النَفس بين أمرين لا يَرْجَحُ إلى أحدهما، وها هنا يكون التَردد بين حُكمين، والمُتَردد في طريق الطلب، والشاك في الجِمار، يَنبغي أن لا يكون له مَذهبٌ فيه. و"الوَقف": قيل: مَذهب. لأنه يُفتي به، ويدعو إليه، وُيناظِر عليه، ويجب على القائل به إقامةُ الدليلِ عليه. وقيل: الوقوف ليس بمذهب (¬5)، وإنما هو جُنوحٌ عن التَّمذهُب، ¬

_ (¬1) سيورد المؤلف بحث الندب باوسع مما هنا في الصفحة (126) من هذا الجزء. (¬2) وانظر أيضاً في تعريف المكروه: "شرح اللمع" 1/ 107، و "البرهان" 1/ 310 - 312، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 413 - 419. (¬3) "شرح الكوكب المنير" 1/ 344. (¬4) أي الشك في وقوع الجمار في مكان الرمي. قال المرداوي في "الِإنصاف" 4/ 33: "يشترط أن يعلم حصول الحصى في المرمَى على الصحيح من المذهب، وقيل: يكفي ظنه، جزم به جماعة من الأصحاب، وذكر ابن البنا رواية في الخصال: أنه يجزئه مع الشك أيضاً، وهو وجه أيضاً في المذهب وغيره" (¬5) "المستصفى" 1/ 165.

- الدليل

والأول أصح. فصل ولما قَدَّمنا ذكر الأصول التي تَنبني عليها هذه الأحكام وَجب بَيانها، وهي الأَدلة التي تَستند إليها. فالدليل: هو المُرْشِدُ إلى المطلوب (¬1). والدالُ: هو الناصِبُ (¬2) للدلالة. والمُستَدِلُّ: هو الدالُّ، وقيل: الدالُّ هو الدليل. والمُستَدِل: هو الناصب للدليل. والاستدلال: طَلبُ المدلول (¬3). وقال قوم: الدليل هو الفاعل للدلالة. وليسَ بصحيحٍ؛ لأن اللهَ سُبحانه خَلقَ الدلائل، ولا يُطلق عليه اسم دَليل. وقال قوم: الدليل: ما نُظر فيه، فأَوجب النَظرُ فيه العِلمَ، فهو الدليل، وما أوجبَ النظرُ فيه ظَناً- والظنُّ: تَغليبُ أحد المجوَّزَين، وقيل: العِلَّةُ لأحدِ المُجوَّزَين أو المُترددَين في النًفس مِن غير قَطعٍ- فهو الأمارة، وفرقوا بين (¬4) الأمارة والدلالة بموجباتها، فما أفضى بالناظر ¬

_ (¬1) وهذا تعريفه لغة، أما في الاصطلاح: فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. انظر: "شرح الكوكب المنير" 1/ 51 - 52. (¬2) في الأصل:" الباحث". وانظر "الكافية" للجويني: 46. (¬3) هكذا ذكره المؤلف ها هنا، وسياتي في الصفحة (447): الاستدلال: طلب الدلالة. (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "ومن قوانين".

ذكر الأصول من كتاب وسنة ودلالاتها

فيه إلى الظن فهو أمارة، وما أفضى به إلى العلم فهو دلالة. فالأول من الأصول- وهي الأدلة التي انْبنَتْ (¬1) عليها أحكام الفقه- هو: الكِتاب. ودلالته ستة أقسام: ثَلاثة من طَريق النُّطق، وثَلاثةٌ من جهة المعقول من اللَّفظ، فالتي (¬2) من جِهة النطق: نَصٌ، وظاهِرٌ، وعُموم. والمعقول: فَحوى الخِطاب، ودَليل الخِطاب، ومَعنى الخطاب. فالنص: ما بَلغ من البَيان غايته، مأخوذٌ (¬3) مق مِنَصَّةِ العَروس (¬4). وقيل: ما لا يَحتَمِل التَّأويل. وقيل: ما استَوى ظاهِرُه وباطنه. وقيل: ما عُرِف مَعناه من لَفظِه (¬5). والظاهر: ما ترددَ بين (¬6) أمرين. وقيل: ما احتمَل أمرين، وهو في أحدهِما أظهر (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل: "أثبت". (¬2) في الأصل: "فالنص". (¬3) في الأصل: "فمأخوذ". (¬4) المِنصَّة: ما تُظهر عليه العروس لتُرى: "اللسان": (نصص). (¬5) "العدة" 1/ 137، "البرهان" 1/ 412، "المستصفى" 1/ 157، وسيكرر المؤلف هذه التعريفات في الصفحة (91). (¬6) في الأصل: "من". (¬7) قال الطوفي في (شرح مختصر الووضة) 1/ 558: ينبغي أن يقال: "هو في أحدهما أرجح دلالة"، لئلا يصير تعريفاً للظاهر بنفسه.

- النص وحكمه

والعموم: ما شَمل شَيئين فَصاعِداً شمولًا واحداً. وقيل: ما عَمَّ شيئين على وجهٍ واحدٍ. ولايجوز أن يقال في حَد عموم: عَمَّ؛ لأنه مصرَّفٌ من اسمٍ بَعدُ ما علمناه، وقد أفسدنا ذلك في قولِ من قال في عِلم: مَعرفة المعلوم (¬1). فصل فالنصُّ: كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، وكقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]. وحُكمه أنْ يُصارَ إليه ويُعملَ به، ولا يُترك إلا بنصٍّ يُعارِضه. فصل وأما الظاهر: فهو كل لَفظٍ تَردَّدَ بين أمرين، هو في أحدهما أظهر. فهو في الألفاظ بمنزلة الظنَ المتردد في النَفس بين أمرين، وهو في أحدهما أظهر. وهو ضَربان: ظاهرٌ بوضع اللغة، وظاهرٌ بوضع الشرع. فالظاهر بوضع اللغة؛ كالأمر يَحتمل النَّدب والإِيجاب، لكنه في الإِيجاب أظهر (¬2)، والنهي يحتمل التَنزيهَ والحظْرَ، وهو في الحَظر أظهر، وكسائر الألفاظ المحتملة لمعنَيين وهو في أحدهما أظهر. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (10). (¬2) مثل له القاضي أبو يعلى في "العدة" 1/ 141 بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}.

- العموم

وحُكمه أن يُحمل على أظهر مُحتَمليه، ولا يُصار إلى غيره إلا بدليل. وأما الظاهرُ بِوَضْعِ الشرع؛ كالأسماء المنقولة من اللُّغة إلى الشرع، على قولِ من أثْبَتَ نَقلها، كالصلاةِ في الأصل اسم للدعاء، ونُقلت في الشرع إلى هذه الأفعال المخصوصة، والحجِ اسمٌ للقَصد، وفي الشرع: اسمُ هذه المناسك والأفعالِ المعروفة، وغير ذلك من الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع. وحكمه أن يُحمل على ما نُقِل إليه في الشرع، ولا يُحمل على غيره إلا بدليل. وقال قوم: ليسَ في الأسماء شيءٌ منقول، بل كل اسم زِيدَ عليه مَعاني مع بَقائِه على أصله (¬1)، كما زيدت الطهارة إلى الصلاة، ولم تَصِر زيادةً على الصلاة بل مَضمومة إليها مَزيدة عليها. فعلى هذا القول لا تُحمل على غير موضوعها من اللُّغه إلا بدلالة (¬2). فصل فاما العموم؛ فألفاظه أربعة (¬3): أسماء الجموع؛ كالمسلمين والمشركين والأبرارِ والفُجارِ. والاسم المُفرد إذا عُرِّف بالألف واللام؛ كالرجل والمرأة، ¬

_ (¬1) وهو ما قاله القاضي أبو يعلى في "العدة" 1/ 190. (¬2) انظر الصفحة (100) من هذا الجزء والصفحة (11) من الجزء الثاني. (¬3) انظر "شرح اللمع" 1/ 309 - 318.

- طرق الدلالة بالمعقول

والمسلم والمشرك. وقال بعض العُلماء: لا يكون هذا من الفاظ العموم (¬1). والأول أصح. والأسماء المبهمة كـ"مَن" فيما يَعقل، و"ما" فيما لا يَعقل، و"اي" في الجميع، و"حيث" و"أين" في المكان، و"متى" في الزمان، والنَّفي في النكرات، كقوله: لا رَجلَ في الدار، ولا يُقتَل مُسلم، ومارأيتُ رَجلًا، وما أشبهه، فحكمُ هذا أن يُعملَ به وُيصارَ إليه ولا يُخص إلا بدليل (¬2). وأما مَعقول اللَّفظِ؛ فثَلاثة أيضاً: فَحوى الخِطاب، ودليل الخطاب، ومعنىْ الخطاب. فأما الفَحوى؛ فقد اختلِف فيه، فجعله أصحابنا وجماعة من الأصوليين من جُملة النُّطق. وقال قومٌ: هو من مَعقول اللَّفظ؛ وهو أن يَنص على الأعلى، وُينبه على الأدنى، كما نَبَّه على الائتمان على الدّينار بالائتمان على القِنْطار، ونَبَّه بنفي الائتمان على القنطار بنفي الائتمان على الدينار (¬3)، ¬

_ (¬1) لأنه يفيد الجنس لا الاستغراق، وهو قول الفخر الرازي، وأبي هاشم الجبائي، انظر: "المحصول" 2/ 367، و"المعتمد" 1/ 227. (¬2) في الأصل: "بذلك". (¬3) في قوله تعالى في سورة آل عمران الآية 75: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}.

- دليل الخطاب

ونَبه بالنهي عن التَّأفيف على ما أدنى منه من الأذايا (¬1)، وكنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعَوراء (¬2) تَنبيهاً على العمياء، فحكم هذا عندنا حكم النَص على مامضى. وأما دَليل الخِطاب: فهو تَعَلق الحكم على أحَدِ وَصْفَي الشيء، وعلى شَرطٍ أو غاية، فَيدل على أن ما عَداه بخلافه؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وكقوله عليه السلام: "في سَائمةِ الغَنمِ زَكاة" (¬3)، فَيدل على أن غيرَ الحامل لا نَفقةَ لها، وغيرَ السائمة لا زَكاة فيها، وفي ذلك خِلافٌ يأتي إن شاء اللهً في مَسائل الخلاف. وأما معنى الخِطاب: فهو القِياس، وله مَوضغ يَخًصُّه، لكن قَدمناه ¬

_ (¬1) في قوله تعالى في سورة الإسراء الأية 23: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}. (¬2) أخرج أحمد 4/ 284 و289، والدارمي 2/ 76 - 77، وأبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي 7/ 214، وابن ماجه (3144)، والبيهقي 5/ 242 و 9/ 274 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع لا تجوز في الأضحى: العوراء البيَّن عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والكسير التي لا تُنقي". (¬3) طرف من حديث أنس بن مالك في الصدقات، أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه الى البحرين:" بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله على المسلمين .. "، وفيه: "في سائمة الغنم الزكاة"، رواه أحمد 1/ 11 - 12، والبخاري (1445)، وأبو داود (1567)، والنسائي 5/ 27 - 29، وابن ماجه (1800)، والدارقطني 3/ 112 - 114، والحاكم في" مستدركه" 1/ 390 - 392، والبيهقي 4/ 85، 86.

* السنة ودلالتها

مع ذكرنا الأدلة. وحَدُه: هو جَمعٌ بَين مُشْتَبِهَيْن بالنظر لاستخراج الحكم. وقيل: هو حَمْلُ فَرع على أصل بعلةٍ جامعة، وهذا فيه نَوعُ تخصيصٍ بقياسِ العِلة. والأَجْودُ أن يمال: شَرائطه مُؤثّرة، وإجراء حُكم الأصل على الفَرع. وهو على ضُروب يأتي ذكر ها في مَكانه إن شاء الله. فصل فأما السنَّة، فدلالتها من ثلاثة أوجه: قَول، وفِعل، وإقْرار. فالقول ضَربان: مُبتدأ، وخارِج على سَبب. فالمبتدأ ينقسم إلى ما انقسم إليه الكتاب من النَّص، والظاهر، والعموم. فالنص؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "في أرَبعينَ شاةً، شاةٌ" (¬1) وما أشبهه، فحكمه أن يُصارَ (¬2) إليه وُيعملَ به، ولا يترك إلا لنص مثله. وأما الظاهر؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "حُتَيهِ، ثُم اقْرُصِيه، ثم اغسِليه بالماء" (¬3)، "صُبوا على بَولِ الأعرابي ذَنوباً مِن ماء" (¬4)، فَيُحمَلُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة تعليق (3). (¬2) في الأصل: "يضاف". (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 60 - 61، والبخاري (307)، ومسلم (291)، والترمذي (138) من حديث أسماء رضي الله عنها. (¬4) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 239، والبخاري (220) =

على الوجوب، ولا يُصرف إلى الاستحباب إلا بدليل. وأما العموم؛ كقوله: "مَن بَدَّلَ دينَهُ فاقْتُلوه" (¬1)، فيُحمل على العُموم ممن يَعقل من الرجال والنساء، إلا ما خَضه الدليل. والخارج على سبب، ضَربان: مُستَقل (¬2) دون السبب؛ كقوله - جَوابَ قَولهم: إنك تَتوضأ من بئر بُضاعة، وهي تُطرح فيها المحائِضُ، ولحومُ الكلاب، وما يُنْجي الناسُ-: "الماءُ طَهورٌ لا يُنجسه شَئ" (¬3). فحكمه أن يُصارَ إليه كما يصار إلى المبتدأ، ولا يخص ولايُقصرعلى سَببه، وقد ذهب بَعض العلماءإلى قَصْره على سَببه الذي وَرَد فيه (¬4)، وليسَ بشيء. والضرب الذي لا يَسْتقل دونَ سَببه، كما رُوي: أن أعرابياً قال: ¬

_ = و (6128)، والترمذي (147)، وأبو داود (380). وأخرجه من حديث أنس بن مالك: البخاري (219) و (221) و (6025)، ومسلم (284) و (285). (¬1) أخرجه من حديث ابن عباس: أحمد 1/ 282 و283 و322، والبخاري (3017) و (2922)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، والنسائي 7/ 104، وابن ماجه (2535)، وابن حبان (4475) و (5606)، والحاكم 3/ 538 - 539، والبيهقي 8/ 204 - 205. (¬2) في الأصل: "مستقبل". (¬3) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري: أحمد 3/ 15 و 31 و86، وأبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي 1/ 174. قولهم: "وما ينجي الناس"، أي: يلقونه من العذرة، يقال: أنجى، اذا ألقى نجوه. "النهاية" 5/ 26. (¬4) وهم بعض أصحاب الشافعي كما سيذكر المصنف في الصفحة (16) من الجزء الثاني.

- الفعل وأقسامه

جامعتُ في نَهارِ رَمضان، فقال: "اعْتِقْ رَقَبَة" (¬1)، فَنَصُّ قوله مع السبب كالجملة الواحدة، فكانه قال: إذا جامعتَ فأعتِق رَقَبة. فصل وأما الفِعل، فَضربان:. أحدهما: ما فَعله على غَيرِ وجه القُربة؛ كالمشي، والنوم، والأكل، فيدل على الجواز، وهذا يُشير إلى أصل، وأن أَفعالَه في الأصل الاقتِداءُ به، ولا تختص به إلا أن تَقومَ دِلالةُ تخصيصِ ذلك به. والثاني: ما فَعَله على وجه القُربة، فهو على ثَلاثةِ أضرب: أن يكون امتثالًا لأمبر فيُعتبر بذلك الأمر، فإن كان واجباً فهو واجب، وإن كان الأمر نَدْباً فالفِعل نَدب. والضرب الثاني: أن يكون ما فَعله بياناً لِمجملٍ فيُعتبر بالمُبَيّن، فإن كان واجباً، فهو واجب، وإن كان ندباً فهو نَدب. والثالث: أدأ يكون مُبتدأ، ففيه مذاهب: أحدها: أنه يَقتضي الوجوب ولا يُصرف إلى غيره إلا بدليل. والثاني: يَقتضي النَّدب، ولا يُصرف عنه إلا بدليل. والثالث: أنه على الوقف، ولا يُحمل على واحدٍ منهما إلا بدليل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 2/ 208 و 241 و281، والد ارمي 2/ 11، والبخاري (1936) و (1937) و (2600) و (5368) و (6087)، ومسلم (1111)، وأبو داود (2390)، والترمذي (724)، وابن ماجه (1671)، والبيهقي 4/ 221.

- الإقرار وأقسامه

فصل وأما الِإقرار؛ فضربان: إقرارٌ على قَولء، وإقرارٌ على فِعل. فالقول؛ مثل ما روي أنه سَمع رجلًا يَقول: الرجل يجد مع امرأتهِ رَجلًا، إن قَتل قَتلتموه، وإن تكلَّم جَلدتمهوه، وإن سكتَ سَكتَ على غَيظ، أم كيف يصنع (¬1)؟، فكأنَه لما سكتَ، قال ذلك. والثاني: أن (¬2) يَرى من يَفعل شيئاً، فيسكت عَنه، مثل ما روي أنه رأى قَيسَ بن قَهْدٍ يُصلي رَكعتي الفَجر بعد الصبح، فلم يُنكر عَليه (¬3)، فكأنه فعلَ هذا أو أجازه نطقاً. وقراره لأبي بكرٍ الصديق على الاجتهاد بحضرته، وقوله: إن أقررتَ أربعاً رَجَمكَ رسول الله (¬4). وهذا، وإن كان قَولاً فَقد صَدَرَ عن اجتهادِ القَلب. ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: أحمد 1/ 420 و448، ومسلم (1495)، وأبو داود (2253)، وتمامه: فقال: " اللهم افتح" وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا، فشهد الرجل أربعَ شهادات بالله: إنه لمن الصادقين، ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فذهبت لتلعن فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - "مه"، فأبت، فلعنت، فلما أدبرا قال:" لعلها أن تجيء به أسودَ جعداً"، فجاءَت به أسود جعداً. (¬2) في الأصل: "أنه". (¬3) أخرجه أحمد 5/ 447، وأبو داود (1267)، والترمذي (422)، وابن ماجه (1154) (¬4) أخرجه أحمد 1/ 8، وأورده الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 77، من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً، فجاء ماعز فاعترف =

- الإجماع

فصل وأما الِإجماع: فهو اتّفاق فُقهاء العَصر على حكم الحادثة، وقال قَومٌ: عُلماء. وذلك حَدٌ بالمشترك، فإنّ اتفاقَ النحاةِ، وأهلَ اللغة، والمفسرين ليس بِحُجة، وإن كانوا عُلماء، ولايعتد بقَولهم في حادثة (¬1). والمُجمع على كونه إجماعاً: ما اتَفَقَت فَتْواهم فيه نطقاً. واختلف العلماء في فَتوى بَعضهم أو فِعله، وسكوتِ الباقين من غيرِ نكيرٍ، مع انتِشار ذلك فيهم. فقيل: حجة وليس بإجماع. وقيل: هو إجماع (¬2). وإنما أَخرتُ ذكر الِإجماع لأن ما تَقدم يَصلح أن يكونَ دليلاً يَستند إليه الِإجماع، وإن كانَ بعضُ ما تقدمَ دون الإِجماع. والإِجماعُ في رتبة النَّص، وإن كانَ حكمه أن يُعمل به ويُصار إليه، فلا يَجوز تركه بحال، ويتأكد على النَّص بمرتبة؛ وهي (¬3) أن ¬

_ = عنده مرة، ثم جاء فاعترف عنده الثانية، فرده، ثم جاء فاعترف الثالثة، فرده، فقلت له: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك، قال: فاعترف الرابعة، فحبسه، ثم سأل عنه فقالوا: لا نعلم إلا خيراً، فأمر به فرجم. (¬1) ذكر الطوفي عدة تعريفات للِإجماع، وما يرد على كل منها: "شرح مختصر الروضة" 3/ 6 - 8. (¬2) وهو ما رجحه الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" 2/ 212، وقال: "اختاره أبو الخطاب من أصحابنا، وقطع به أبو إسحاق الشيرازي، واختاره الغزالي في "المنخول"، وصرح به أبو الحسين البصري في "المعتمد". (¬3) في الأصل: "وهو".

- قول الصحابي

النص وإن كانَ قول المعصوم في خَبره وحُكمه، لكنه يَصح أن يَرِدَ مثله بحيثُ يُعارضه ويقضي عليه بالنسخ؛ لأنه في عَصر نزول الوحي، فيقضي الأخرُ على الأول. فأما الِإجماع، فإنه مَعصوم عن الخطأ، مَحفوظٌ عن المُعارضة والنسخ، إذليس له مِثله فيَقضي عليه. وأما تَخصيصُه بالصحابة، أو بأهلِ المدينة، أو بأهل البيت، فَعلى خلافٍ بين الناس، وسَيأتي في مسائل الخِلاف من الكتاب (¬1) إن شاء الله، ونُبَيَّنُ الصحيح عندنا في ذلك. فصل وأما قَولُ الصحابي الواحد إذا لم يَنتشِر بينَ الباقين، فهل هُو حجة؟ على خلاف، فَبعضهم ذكر أنه حُجةٌ بنفسه، وبعضهم جَعله حُجةً مع قياس ضَعيف، وبعضهم قال: ليس بحجةٍ، وإنه كقولِ واحدٍ من سائر المجتهدين. وسياتي ذلك في الخلاف من الكتاب (1) إن شاء الله. وحكمه إذا قيل: حُجة، أن يُعمل به، وُيصار إليه، وهل يَجوز أن يُخَصَ به العُموم، ويُصرفَ به ظاهر السنة والكتاب؟ على خلاف بين الناس. وهو على قول من جَعله حُجة، مِمّا يَفتقر أن يَستند إلى دلالةٍ، كالقياس لا بد له من دلالةٍ وشاهدٍ يَشهد بصحته. والِإجماع أيضاً لا بُد أن يَستند إلى دلالةٍ من أحد الدلائل المتقدمة، وإذا جاءَ ¬

_ (¬1) سياتي في الجزء الأخير من الكتاب.

- استصحاب الحال

قولُ (¬1) صحابي آخر بخلافه، رُنجَحَ بينهما ترجيحُ الأدلة. فصل وأما استِصحاب الحال، فهل هو دَليلٌ أم لا؟ فالعلماءُ المحققون على القول بأنه دليل، وخالف كونَهُ دليلاً بعضُ من لا يُعتمد (¬2). وهو ضَربان: استِصحابُ حالِ العَقلِ في إبراءِ الذمة، وإخلاءُ الساحةِ من حقٍ لم تَقم به دِلالةُ الشرع، وهو دليل يَفزع إليه المجتهدُ عند عدم الأدلة. وصورته: قولُ المستدل في مَسالةِ نَفي وُجوب الديةِ الكاملةِ في قَتل الكِتابي (¬3): الأصلُ براءةُ ذِمةِ هذا القاتل من الزائد على الدية، فمُدعي الزيادةَ على هذا المقدار عليه الدليل. والضرب الثاني: استصحابُ حالِ الإجماعِ، وفيه خلافٌ بين العُلماءِ، فبعضهم لا يجعلُهُ دليلاً، وبعضهم جعلَه دليلاً، فمن لم يجعلْهُ دليلاً اعتمد على أن الخِلاف المسوغ مَنعَ مِن بقاء الاجماع، ¬

_ (¬1) في الأصل: "جاء على قول "ولعل "على" زائدة. (¬2) نسب الطوفي القول بعدم حُجيته إلى الأحناف وأبي الحسين البصري وبعض المتكلمين. انظر "شرح مختصر الروضة" 3/ 148. (¬3) اختلف في مقدار ديته؛ فهي ثلث دية الحر المسلم عند الشافعي وإحدى الروايتين لأحمد، وهي نصف دية المسلم عند مالك، ومثل دية المسلم عند أبى حنيفة. "العدة" 4/ 1269.

إذا لا يسُوغُ (¬1) اجتهاد مع الإجماع، ولا سُلطان للإِجماع مع حدوث التَسويغ، فالبَقاء على حالٍ قد استحالت لا وجه له. ومثاله: قول من ذَهب إلى المنع من الخُروج عن الصلاة لرؤية الماء (¬2): الأصلُ انعقاد صَلاته بالإجماع، فلا يزول عن القول بصحتها إلا بدليل. فليس بتمسكٍ صحيح، لأن الإجماع انعقد على انعقاد صلاةٍ لم يرَ فيها الماء، فلا يَبقى إجماع لموضع الخِلاف (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا تشريع". (¬2) هو قول الثافعي، انظر "الأم " 1/ 141. (¬3) انظر تفصيل ذلك في "العدة" 4/ 1262. وسيورد المصنف ما أورده هنا في الصفحة (68) من الجزء الثاني.

* فصول: في بيان حدود ورسوم وحصور لا يستغنى عن بيانها، لحصولها مبددة في الكتاب، واستناد الأبواب والفصول إليها، واعتمادنا في هذا الكتاب عليها

فصول في بيان حدود، ورسوم، وخصور، لا يُستَغنى عن بيانها، لحصولها مُبددة في الكتاب، واستناد الأبواب والفصول إليها، واعتمادنا في هذا الكتاب عليها. فصل في النظر: وهو الأصل في تَحصيل هذا الأمر، والطريق إليه. وهو: اسم مشترك يَقع على الرؤية بالبصَر، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، وعلى الانتظارِ للمنتَظِر، والتَّوقع له {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]. وهو ها هنا: التأفُل والتفكُر والاعتبار بمعرفة الحق من الباطل، والفَصل بين الحجة والشُبهة، وهو فِكرة القلب، وتأمله، ونَظرهُ المطلوب به علمُ هذه الأمور، وغلبةُ الظنَ لبعضها، وقد يصيب الناظرُ فيها وقَد يُخطىءُ، وكِلاهما نظرٌ منه، وقد ينظر في شُبهٍ وفي دَليل، وقد يَصل بنظره إلى العِلم تارةً إذا سَلَكَ فيه المسلكَ الصحيحَ ورتّبه على واجبه ومقتضاه، وقد لا يَصل إليه إذا قَصَّر وغَلِط وخَلط فيه، أو نظر فيما هو شبهة وليس بدليل.

- الغرض

فصل وللنظر آلة، وغَرض: فالاَلة: هي المطلوب من أجل غيره. والغَرضُ: هو المطلوب من أجله في نَفسه. فالغرضُ، كالمعرفةِ باللهِ ورسولِه، فإنَّ حاجةَ المكلًفِ إلى ذلك مُناسبة، إذ كانَت المعرفة بالله ورسوله فَريضة واجبة، ولا يوصَل إليها إلا بالبُرهان، والبُرهان آلة يُتوصل به إلى حصول المعرفة. والغَرض في الجدل- بعد النظر المختص بالِإنسان- هو إظهارُ الحق من الباطل، وتَحديدُ السؤال والجواب هو الآلةُ لذلك، وكذلك تَحديدُ الإِلزامِ والانفصالِ، وكذلك تحديدَ القِياس والبرهان، وكذلك علم الاتفاق والاختلاف. والغرض في النحو: مَعرفة الصواب في تَصرّف الكلام والإِعراب، وتحصيلُ الشواهدِ آلةٌ لذلك، وكذلك الأصولُ المتفقُ عليَها، وكذلك القياسُ في النحو آلة. والغَرض في الفقه: إصابةُ الحق في الفُتيا، ومعرفةُ الأصول من الكتاب والسُنة والِإجماع آلة. وكذلك الغَرض في علمِ الكلام: إصابةُ الحقِّ في أصل الديانات (¬1)، وذلك خَمسةُ أَضْرُبٍ: مَعرفةُ اَلله تعالى، ثم مَعرفة ما يَجوز عليه مما لايجوز عليه، ثم مَعرفةُ الرسولِ، ثم معرفة ما يَجوز عليه مما لا يجوز، ثم معرفةُ أصل الفُتيا من الإجماع، والاجتهاد بِحُجَّةِ ¬

_ (¬1) هذه العبارة من المؤلف موهمة، ففيها مدح لعلم الكلام وإظهار الجانب الحسن =

- تعدية الحكم

العقل آلة لجميع ذلك. وكذلك الجدَلُ آلة، وكل آلةٍ للجدل (¬1) آلة لعلم الكلام؛ من تَحديد السؤال والجواب، والِإلزام، والانفصال، والقياس، والبُر هان، والاتفاق، والاختلاف. والغَرض في الجملة على ضَربين: إصابة نِفعٍ، وإزالةُ ضَرَر، وكلُّ لَذَّة ليسَ عليها تَبِعة في دُنيا ولا اَخرة؛ فهي غرض، وكل سَلامة من أَلمٍ (¬2) هي غَرض، إلا أن يؤدي إلى نفعٍ هو أوفر وأعظم، أو ألمٍ هو أشد وأكبر. فصل وقد يَظفَر الطالبُ- وهو الناظر- بدليلٍ هو آلة لحكيمٍ، ثم يكون على نَظره لطلب آلةٍ أُخرى في طَيِّ تلك الآلة تكون لغرض اَخر، وهو حكم تَعديةٍ للحكم. مثال ذلك: ظَفرهُ بالنصِّ على تَحريم التَفاضل في (¬3) الأعيان الستة (¬4)، فَقد ظَفِر ببادِرة النُطق بتحريم التفاضل فيها، وينظر نَظراً ثانياً ¬

_ = منه، ولم يزل العلماء من أئمة السلف يذمون هذا العلم ويحذرون من الاشتغال به، والحق واضح في كتاب الله وسنة رسوله، فهمه السلف الصالح، دونما حاجة إلى علم الكلام. (¬1) في الأصل: "الجدل"، ولعل ما أثبتناه أولى. (¬2) في الأصل: "المرء". (¬3) في الأصل: "من". (¬4) وهي المذكورة في الحديث: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". أخرجه من حديث عبادة بن الصامت: الدارمي 2/ 259، ومسلم =

في عِلة ذلك الحكم لِيُعَدي إلى غَير الأعيان حكمَ الأعيان، فيكون طَلبه الثاني لعلّةِ الحكم، وتكون تَعديته بحسَب العِلّة، فإن كانَ الكيلَ عَدَّى إلى كل مَكيل، وإن كانَ الطُّعْمَ عَدَّى إلى كل مَطعوم، وإن كانَ القوتَ عَدَّى إلى كل مُقتات، وإن لم يَظهر له ما يَصلح أن يكونَ علَّته وَقف على المنصوص عليه، كوقوف أصحاب الشافعى رحمة الله عليه على الثَّمَنيَّةِ في الذهب والفِضةِ، فلم يَتعدَّواَ بالنص مَوزوناً غيرَهما مع ثبوت صِحة العِلَّة الواقفَةِ عِندهم، وأنه يكفي في التعليل إفادةُ العِلّة، وأنه ثبت مُعلَّلًا بعلةٍ تقف على المحل، والكلام في ذلك يأتي شافياً في مَسائل الخِلاف (¬1) إن شاء الله. فصل وتَتفاوت (¬2) أذهانُ المجتهدين في التَّعدية والجُمود على محلِّ النص، فقد يُقْدِم على التَّعدية مُقْدِم لقُصوره عن الخَصيصة التي توجب وقوفَ الحكم على مَوضعِ النص، وقد يَجمُدُ عن التعدية مُقَصر لَم يَنكشف له وجه التَّعدية والِإلحاق، وهذه مَزَلّة، قدام، وبيان مَقادير الرجال في إلحاق الأشباه بالأشباه، وقطع المُتَّحِدات عن التعدية والإِلحاق. ¬

_ = (1587) (80) و (81)، وأبو داود (3349)، والنسائي 7/ 274 وه 27، وابن ماجه (2254). ومن حديث أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم 3/ 1211 (82). (¬1) في الجزء الأخير من الكتاب. (¬2) في الأصل: "وتَتَقارب".

مثال ذلك: قَطْعُ اصحاب أبي حَنيفة النَّبيذَ عن الخمر (¬1) ومرادَ الخمرِ بالتحريم عنها مع استوائَهما في الاشْتِداد والإِطراب (¬2). ومثلُ قَطْع أصحابنا وأصحاب الشافعي للجماعِ في نَهار رمضان عن الأكلِ في إيجابَ التكفير (¬3)، مع استوائهما في الهَتك بالمقصود المَرغوب. ومثلُ قَطْعِ أصحاب مالكٍ وأصحابِنا جِماعَ الناسي في رمضان عن أَكله وشربِه، مع تَساويَ إسقاط الحَرَج والمُؤاخَذة فيهما (¬4). ومثلُ قَطْعِ أصحابِ أبي حَنيفةَ كَفارةَ الطهار، بنَفي اعتبار الإيمان في رَقبتها عن كَفارة القَتل، مع تساويهما في مِقدار الصوم وتتابُعهِ فيهما (¬5). وقَطْعِ أصحاب أبىِ حَنيفة وأصحابنا- فىِ إحدى الروايتين- قَتلَ العمدِ عن قَتلِ الخَطأ فىِ إيجاب الكفَارة رَأساً (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: "التمر"، وانظر "الدرر الحكام في شرح غرر الأحكام" 2/ 87. (¬2) لأن الخمر عند الحنفية هي التي من عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف الزبد، بخلاف نبيذ التمر والزبيب وإن غلا واشتد وسكن "الدرر الحكام في شرخ غرر الأحكام" 2/ 87. (¬3) "المغني" لابن قدامة 4/ 365 - 366، و"الأم" 2/ 82. (¬4) لا ينطبق ما ذكره المصنف على مذهب الإمام مالك لأنه يوجب القضاء على من أكل أو شرب أو جامع ناسياً في نهار رمضان بخلاف الحنابلة، حيث يوجبون القضاء على المجامع ناسياً دون الآكل والشارب. انظر "المدونة" 1/ 208، و "الكافي" 1/ 341، و" المغني" 4/ 374. (¬5) "الدرر الحكام في شرح غرر الأحكام" 1/ 394، و"المغني" 11/ 81. (¬6) "المغني" 12/ 13 و 21.

أنواع النظر

وما ذاك كله إلا لتفاوتهم في قوة النظر في الإلحاق والقَطع. فصل فالنظرُ الأول: في فَهم مخارج كلامِ الشارع. والنظرُ الثاني: في استخراج العِلَل إن كانت، وإسقاط التعليل إن لم يكن. والنظر الثالث: في الجَمْع والقَطع. فالأول؛ مثل ما رَوى أصحابُ أبي حنيفةَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا رِبا في دَارِ الحَرب" (¬1)، وادَّعَوا أن المُرادَ به نَفيُ حُصولِ الرِّبا. وفَهِم أصحابُنا، وأصحابُ الشافعي نَفيَ الحكم نَهياً لا رَفعاً إلحاقاً بقوله: "لا جَلَبَ ولا جَنَب ولا شِغَار" (¬2). وقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} ¬

_ (¬1) أورده الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 44، وقال: قلت: غريب، وأسند البيهقي في "المعرفة في كتاب السير" عن الشافعي، قال: قال أبو يوسف: إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ربا بين أهل الحرب"، أظنه قال: "وأهل الِإسلام"، قال الشافعي: وهذا ليس بثابت، ولا حجة فيه. (¬2) أخرجه أحمد 4/ 429 و439 و443، والنسائي 6/ 111 و228، وأبو داود (2581)، والترمذي (1123)، والبيهقي 10/ 21 من حديث عمران بن حصين. وقوله: "لا جلب": الجلب يكون في شيئين: أحدُهما: في الزكاة وهو أن يَقْدَم المصَدق على أهل الزكاة فينزل موضعاً، ثم يرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنهي عن ذلك، وأَمِر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم. الثاني: أن يكون في السباق: وهو أن يَتْبَع الرجلُ =

[البقرة: 197]، وكأن المفهوم من مُراده: لا تَرفُثوا، ولا تَفسُقوا، ولا تجلبُوا ولا تجنبوا في حال السِّباق، ولا تشاغروا في باب النكاح، وكذلك: لا تُرْبوا في دارِ الحرب، وإنما خَضَها بالنهي لِئلا يَظنوا أنها دار إباحةٍ تُبيح المحظور من الرِّبا، وتَوهم أولئك: لا ربا، بمعنى دار إباحة، فلا يَحرم فيها الربا (¬1). ومثال ذلك الثاني (¬2): استخرافي أصحابنا والشافعيةِ التعليلَ من النَّهي عن شُربِ الخمرِ، وإيجاب العُقوبَةِ عليها بأنها ذات شِدَّة مُطرِبة، وتَعديتُهم بهذه العلّة للحكم إلى ما قامت به الشَدة وهي الأنْبذة (¬3). والنظر الثالث؛ في الجَمع والقَطع، وقد بانَ في الفصل الأول (¬4)، ¬

_ = فرسه فيزجره ويَجْلِب عليه ويصيح حثاً له على الجري، فنهي عن ذلك. "النهاية" 1/ 281. و"الجَنَب": أيضاً يكون في شيئين: الأول: في الزكاة: وهو بمعنى الجَلَب، أو أن يجنب رب المال بماله ويبعده عن موضعه حتى يحتاج العامل إلى الِإبعاد في اتباعه. والثاني: في السباق: وهو أن يَجْنُبَ الرجلُ فرساً إلى فرسه الذي يسابق عليه، فاذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب. "النهاية" 1/ 103. و"الشغار": هو النكاح المعروف في الجاهلية وهو: أن يقول الرجل لآخر: زوجني ابنتك أو أختك على أن أزوجك ابنتي أو أختي، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى. (¬1) انظر تفصيل ذلك في "حاشية ابن عابدين" 5/ 186، و"المغني" 6/ 98 - 99. (¬2) أي النظر في استخراج العلل، وإسقاط التعليل. (¬3) "المغني" 12/ 512 - 513، و"الأم" 6/ 130. (¬4) انظر الصفحة: (49).

مثَلُ إلحاقِ الطعام بالمَنصوصات أو إلحاق المكيلات بها من حيث فى مَكيلات، وقَطع الطعام عنها، أو إلحاق المُقتات بها، وقَطع المكيلات والمَطعومات عن المُقتاتات. فصل والنظر الذي نحن فيه يُثمر العِلمَ إذا كان صَحيحاً واقعاً مَوقعه، مُستَوفاة شُروطه، لا من طَريق التولد، لكن من جهة جَرْي العَادة، بأن اللهَ يُحدث العِلم عَقيبه، على ما بَيَّنا مِن فَساد القَول بالتولد (¬1). فصل ولا نقول: إن النظرَ الفاسدَ يتضمنُ الجهلَ والشلك ولا يُثمرهما، وإنما يفعل الجاهل والشاكّ الجهلَ والشكَّ مبتدئاً به، لا عَن شيءٍ تَضمنه هو طريقٌ له. والدّلالة على ذلك أنه لو كان الفَاسد من النظر، أو النَّظر في الشبهة طَريقاً للجهل لم يَقع بَعده الشكّ والظنّ. ولو كان طريقاً للشكِّ والظنِّ لم يقعِ الجهلُ بل كان يَقعُ ما هو طريقٌ إليه خاصةً. ألا ترى أنَ النظرَ الصَّحيحَ لما كان طريقاً للعلم، لم يقع عقيبه أو بَعده الجهلُ، ولا غَيرٌ من أغيارِ العلمِ في الجملة. وأيضاً فإن العالم قَد يَنظرُ في الشبهةِ كما يَنظرُ فيها الجاهلُ، ولا يقع له الجهل، ولا يَخرج عن العِلم، وقد يَقصدُ إلى إفسادِ النَّظر فيقعُ فاسداً، كما يَقع ممن لايَقصد، فلا يتولَّد له جَهل ولاشكٌ، ولايخرج به عن كونه عالماً بحال المنظور فيه، فتبيانُ صحيحِ النظر في الأدلة طريقٌ للعلم، ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة: (20 - 21).

- الدلالة على صحة النظر

وفاسدُ النظر في الشبهة ليسَ بطريقٍ للجهل والشك والظنِّ وغَلبةِ الظن. فصل والدلالةُ على صِحةِ النظرِ، وكونِهِ طَريقاً إلى العلم بحال المنظورِ فيه، قَولُه تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وَجميعُ آياتِ الحثِّ على النظر في دَلائل العِبَر، مثل قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} [العنكبوت: 20]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]، وَمُحالٌ ان يُحيلَنا على النظر حَثاً لنا على إثبات ما وَراءَ المشاهدات، وليسَ بطريق العلم. وأيضاً: فإن حُصول العلم بحالِ المنظور فيه عقيبَ صحيحِ النَّظر، دلالة على أنه طريق، إذ لو لم يكن طَريقاً لم يحصل عَقيبه. وأيضاً: فإنه لا يَخلو أن يكون النَظر صَحيحاً أو فاسداً، فإن كانَ صَحيحاً فهو ما نَقوله، وإن كانَ فاسداً فلا يَخلو أن يكون فَساده مَعلوماً ضرورةً، فيجب أن يَشترك في ذَلك العُقلاء، إذ الضرورات من العلوم لا يَختلف فيها كل من تَتَجه نحوه العلوم الضرورية. أو يكون مَعلوماً بطريق الاستدلال والنظر، فقد صح لنا مَعرفةُ شيءٍ من المعلومات بالنظر، فما بالكم جَحدتم أن يكون النظر طَريقاً؛! وهذا إثبات لما نَفَيتُموه، وكُل أمر لا يمكن نَفيه إلا بإثباته واجب لا مَحالة. فإن قيل: أتعلمون صحةَ النظر ضرورةً أم بدليل، فإن كان ضرورةً وَجب أن نَشْرَكَكُم في العلم وكل مَنْ خالفكم، وذلك باطل، وإن كانَ

- حكم النظر

بنَظرٍ فبماذا ثَبت صحة النظر الثاني؟ قيل: نَعلمه بحدوث العلم لنا بحال المنظور فيه عند صحيح النظر، وذاك أمرٌ بَيِّنٌ لكَ أيها السائل عند سؤالك لنا عن دَليلِ كلَ مَسألة تسألنا عنها، فنريك كيف دليل تلك المسألة، وكيف صَحَّ حصولُ العلم، فكلُّ نظرٍ حصلَ عنده علمٌ، فإنما حَصل لأنه نَظرٌ صحيحٌ، وطريقٌ إليه، وكلُّ ما لَيست هذه حاله فليسَ بصحيح. وجواب ثانٍ: وهو أنّا نَعلم صِحة النظرِ بضربِ من النظرِ، داخل في جُملة النًظر، وهو النظر الذي به عَلمنا فسادَ قول من قال: لا أعلم شيئاً إلا بدَرْك الحاسًة، أو بالضرورة المبتدأة في النفس، وبالتًقليد، ولا وَجه سِوى ذلك إلا النَّظر، وهذا ليس بنَقضٍ لما أصلْناه، ومثلة نقضٌ لمذهبِهم إذ (¬1) استدلوا على فسادِ النظرِ بضَربٍ من النظر. فصل وهذا النظر واجبٌ بما قَدمناه من الأدلة السمعيةِ، وهي صالحة للِإيجاب حَسب ما صلحت لإِثبات صِحة النظر، ولأن الله- سبحانه- قد أوجب عَلينا اعتقادَ الحق واجتنابَ الباطل، فيما اختلف فيه أهل الِإسلام من الأحكام، وقد ثبتَ أنه لا يُعلم ذلك ضرورةً، لاختلافِ العقلاء فيه، والضّرورات يَتفق عليها العقلاء. فلا يُفزع إلا إلى العِلم بصحةِ الصحيح وفسادِ الفاسد، ولا طَريق إلى ذلك إلا النظر، وما لا يَحصل الواجبُ إلا به فَواجبٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا".

- فصل في بيان ما يحتاج إليه النظر الذي هو طريق العلم بالمنظور فيه

فصل في بيان ما يَحتاج إليه النظرُ الذي هو طريقُ العلمِ بالمنظورِ فيه. فأولُ ما يقال في هذا: إن النظر لا يكونُ طريقاً للعلم حتى يكونَ صحيحاً، ولا يكونُ صحيحاً حتى يكون واقعاً على وَجهين يحتاج إليهما، أحدهما يرجع إلى النَّظر نفسِهِ، والآخر يَرجع إلى صِفةِ فاعِلهِ. فالوجه الذي يَرجع إليه؛ هو أن يكون نظراً في دليلٍ ليس بشُبهة (¬1)، وأن يكونَ نظراً في حكم غيرِ مَعلومٍ للناظرِ بضرورةٍ أو دَليلٍ؛ لأن ما حَصل مَعلوماً من أحد الوَجهين لم يَصحَّ طلبُ العلمِ به. وَيسوغ أن ينظر في طَريق الأدلة عليه، وهل هي أدلة أم لا. ولكن ليسَ ذلك من طلبِ العلمِ بالمدلولِ عليه في شَيء. وأما ما يَرجع إلى الفاعل للنظر، فأمران: أحدهما: أن يَكون كاملَ العَقلِ (¬2)، وقَد سبق مِنا ذكر العقل وما هو (¬3)، وليس من كماله أن يكونَ موجباً وحاظِراً، ومُحَسناً ومُقبحاً كما يقول من خَالفَنا، وإن كانَ لأصحابنا فيه خلاف. والأمر الآخر: أن يكونَ عالماً بحصول الدليل، وبالوجه الذي ¬

_ (¬1) "شرح اللمع" 1/ 94 - 95. (¬2) في "شرح اللمع" 1/ 94: "أن يكون الناظر كامل الأدلة". (¬3) انظر الصفحة (22).

- فصل في بيان الوجوه التي من قبلها يحصل خطأ الناظر في نظره لتجتنب

بحصوله عليه صارَدليلًا ومتعلقاً بمدلوله، غيرَظانً ولا مُتوهمٍ لذلك (¬1)، فإنه إن لم يَعلم هذين الأمرين لم يصل بنظره إلى العِلم. فصل في بيان الوجوه التي مِنْ قِبَلها يَحصل خَطأ الناظرِ في نظره لتُجتَنب. اعلم أن الخَطأ يَدخل علي النَاظرِ من وجهين: أحدهما: أن ينظرَ في شبهةٍ ليست دليلًا، فلا يصلُ إلى العلم. والآخر: أن يَنظر نظراً فاسداً، وفسادُ النظر يكون بوجوه: منها: أن لا يَستوفِيَه، ولا يَستقصيَ فيه، ولا يَستكمِلَة، وإن كان نَظراً في دليل. ومنها: أنِ يَعدِل عن التَّرتيب الصحيح في نظره، فَئقَدَّم ما حَقه أن يُؤخَّر، وئؤخَّر ما مِن حَقِّه أن يُقَدم (¬2). ومنها: أن يَجهل بعضَ صِفاتِ الدليلِ التي لا يَتم كوُنه دليلًا على الحكم إلا بحصولها، وحصولِهِ عليها، وحصولِ علم المستدلِّ بها. ومنها: أن يَضم إلى وَصف الدليل وَصفاً يُفسده، نحو أن يقول: إنما يدل خَبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحريم الخَمر؛ لأنه خَبرٌ عن تحريم ¬

_ (¬1) في "شرح اللمع": 1/ 95: "أن يستوقي الدليل بشروطه ... لأنه متى لم يستوف الدليل بشروطه، بل تعلق بطرف الدليل أخطأ الحكم ولم يصل إلى المقصود". (¬2) "شرح اللمع" 1/ 95.

- القول في أحوال الأمور المنظور فيها والمستدل بها على الأحكام

الخمر. فإن ذلك يُؤدي إلى أن يكون خبرهُ عن تَحريم المَيْتةِ والدَّم ليسَ بدالٍّ على تَحريمها؛ لأنه ليس بخبرٍ عن تحريم الخَمر، ولو لمَ يَدل خَبره عن الميتة والدم على كونهما حَرامَين، لما دلَّ خبره (¬1) عن كونِ الخَمر حَراماً على كونهِ حراماً، ولبطلت دلالةُ جميعِ أخباره عن سائر الأحكام. فهذه الزيادةُ وأمثالُها في أدلة العقلِ والسمعِ مُفسدةٌ للاستدلال (¬2)، وجَهلُ الناظرِ ببعض صفات الدليل التي يحتاج إلى عِلمها نُقصان مِنه، ومُفسدٌ للنظرِ فيه، وصورة ذلك أن يسمعِ المكلًفُ خَبرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تَحريم الخمر، ولا يعلمَ مع ذلك أنه خبر لرسولِ الله، فلا يَعلم- لجهله قَصدَ الله سُبحانه- كونه دَليلًا. وكذلك لو شاهدَ ما يظهر على يده من إحياء الميت، وقَلب العصا ثُعباناً، وفَلقِ البَحر، ولم يعلم أنه من فِعل الله سُبحانه مقصودَاً به إلى تَصديقه، لم يَعلم كونه دلالة على ثبوته في أمثال هذا. وهذه جملة ما يُدخِل الخَطأ والتخليطَ على الناظر. فصل في القول في أحوال الأمور المنظور فيها، والمُستَدلِّ [بها] (¬3) على الأحكام. وهي على ضَربين: ¬

_ (¬1) في الأصل: "خبر". (¬2) في الأصل: "الاستدلال". (¬3) ليست في الأصل.

منظور فيها يوصِلُ النظرُ الصحيحُ فيها إلى العلمِ بحقيقةِ المنظورِ فيه (¬1)، وما هذه حالُه مَوصوف بأنه دليل على قَولِ جميع مُثبتي النظر، وباتفاق الأصوليين والفقهاء. وقد دخل في ذلك جميعُ أدلة العقول المتوصل بها إلى العلم بحقائقِ الأشياءِ وأحكامِها، وسائر القضايا العقلية، ودخل فيه جميعُ أدلةِ السمْعِ الموجبة للعلم والقَطع من نصوصِ الكتاب والسنةِ، ومَفهومِها ولحنها، وإجماع الامة، والمتواتر من الأخبار، وافعالِ الرسول عليه الصلاة والسلام الَواقعةِ موقعَ البيان، وكل طريق من طُرق السمع يوصل النظر فيه إلى العلم بحكم الشرع دون غَلبة الظن. والضرب الآخر: امرٌ يوصِل النظر فيه إلى الظن وغالب الظن، ويوصَفُ هذا الضرب بأنه أمارةٌ على الحكم (¬2)، وُيخَص بهذه التسمية للفَرق بينه وبين ما يُؤدي النظر فيه إلى العِلم والقطع. وهذا تواضع وليس من مُوجب اللغة؛ لأن أهلها لا يُفرقون بين الأمارة والدّلالة والسمة والعلامة (¬3). ومرادنا بقولنا في هذا الضرب الذي يَقع عند (¬4) النظر فيه غالب الظن: إنه طريق للظن، أو موصل أو مؤدٍ إليه، أنه مما يَقع الظن عنده مبتدأً لا أنه طريق كالنظر في الدليل القاطع، الذي هو طريق للعلم ¬

_ (¬1) في الأصل: "منه". (¬2) "العدة" 1/ 35. (¬3) وهو ما ذكره القاضي في "العدة" 1/ 131. (¬4) في الأصل: "عنده".

- النظر فيما لا أصل له معين

بمدلوله، وإنما نَتجوَّز بقولنا: يُوصل وُيؤدي، وإنه طريق للظن (¬1). وهذا الضرب الذي يُؤدي النقر فيه (¬2) إلى الظن، ضَربان: فمنه: ما لا أصلَ له مُعين، نحو الظن والاجتهاد في جَزاء الصيد، وقِيَمِ (¬3) المِثْلِ، وأُروشِ الجنايات، وقِيمَ المُتلَفات، ونَفقات الزَوجات، والاجتهاد في عَدالة الأئمة والقُضاة والشهود وأمثال ذلك، مما لا أصل له مُعَين يُردُ إليه وُيقاسُ (¬4) عَليه، كقياس النبيذ على الخمر، والأرز في تَحريم التَّفاضل على البُر بعلةٍ جامعةٍ بينهما؛ لأن النَبيذ أصلاً هو الخَمر، والأرز أصلاً هو البُرُّ، بخلافِ ما نحن فيه. ومُحقِّقو نُفاةِ القِياس يُقِرون بصحة هذه الأمارات، ووُجوب الحكم بما يُؤدي النظرُ والاجتهادُ فيها إليه. فصل واتفق أهل العلم أجمع على أن هذه الأمارات عَقلية من حيث كان الرجوعُ فيها إلى العادات المعقولة، وإلى القِيم المعروفة، وإلى مُماثلة الصور المنظورة، وقَدر الحاجات في الأقوات، وما يُعرف به من الأحوال عَدالةُ الأئمة والقُضاة والوُلاة والشهود ظاهراً، فكل هذا عَقلي، والحكم المعلَّق عَليه شرعي، من إيجاب النَّفقة، وقِيَم الأرش، وجَزاء الصيد، والحكم بالشّهادة، وما جَرى مجرى ذلك. ¬

_ (¬1) " المسودة": 505 - 506. (¬2) في الأصل: "إليه". (¬3) في الأصل: "فهم". (¬4) في الأصل: "مقياس". وانظر "العدة" 1/ 135 - 136.

- النظر فيما له أصل معين

فصل والضربُ الآخر: نَظرٌ فيما له أصلٌ مُعين، فمنه ما يوصَف بأنه قِياس، وهو الاستدلال على ثُبوت الحكم في الفرع بعلةِ الأصل بعد ثُبوته وقيام الدلالة على تَعليله، إما بنصٍ على علته يُوجب العلم بها، وإما استثارةٍ لها، تقتضي غلبة الظن لكونها علة، ثم وجوب الحكم بأنها علة الأصل بعدَ حصول الظن لذلك. وقد تقدم تحديد القياس (¬1)، وهو نَفس حَمل الفرع على حكم الأصل (¬2) بالوجه الجامع بينهما من علةٍ أو دِلالة أو شُبهة، على خلافٍ يأتي ذكره إن شاء الله. فالقياس نَتيجةُ الاستدلالِ على العلّة والعلم بها، وسنذكر في باب أحكام العلل (¬3) - إن شاء الله- تَفصيلَ طُرق الأَدلة والأمارات على صحة العلة من التقسيم والمقابلة والطَردِ والجَرَيان- عند من رَأى ذلك دَليلاً- إلى غير ذلك. ومنه أيضاً: الاستِدلال بأصلِ مَعنىً مِن لُغةٍ أو حكمٍ ثابتٍ في الشرع على المراد، مثل قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، أنه زَمن الحَيض أو ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم صفحة (38)، وما سيأتي صفحة (433). (¬2) في "شرح مختصر الروضة" 3/ 219 "حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما". (¬3) في الجزء الثاني، الصفحة 77 وما بعدها.

- هل الاستدلال على الحكم وموضع الحكم قياس؟

الطُّهر، وهل العَفو إلى الزوج أو الوَلي؛ وذلك من باب الاجتهاد الذي يَسوغ الاختِلاف فيه، وليسَ هو من باب حَمل الفَرع على الأصل بالعِلة. فصل وقد زعم قوم أن الاستِدلالَ على الحكم ومَوضع الحكم ليس بقِياس، وأنه استِدلال، وأنه لكونه استدلالًا جازَ إثباتُ الحدود والكَفارات به، لا مِن حيث كونه قياساً (¬1). وهؤلاء قوم امتنعوا من الاسم، وأعطوا المعنى، لأنه إذا حُقَقَ عليهم خَرج كلامهم المُسمى استدلالًا قِياساً مَحضاً. ومثال ذلك: قولهم بوجوب الكفارة في رَمضان من الجنس الأَكل، لكن لاختصاصه بأنه تَناوله مقصود (¬2)، حصل به الهتك لصَوم عين رمضان، على وَجهٍ حصل به مأثمُ الإِفساد والهَتك، ولا شُبهة حصَلت قبل خُروجِ اليوم، مع كون الصوم مُسْتَحَقَاً وقت الإِفساد، ولا مَفْزَع لهم في جَميع ذلك ولا مُستند إلا إلى الوَطء، فاشبه -بهذه الخصائص- الأكلُ عامِداً الوطءَ (¬3)، فهل هذا إلّا محضُ القياسِ؟! ومَحصول هذا رَدُ الأكل إلى الوَطء بمعانٍ جامعةٍ وأوصافٍ مؤثرة. وكذلك رَدُ الأرُزِّ على البُر، والنَبيذِ على الخَمر بالمعنى، فإن ¬

_ (¬1) نسب أبو الحسين البصري ذلك إلى الحنفية في "المعتمد" 2/ 264 - 267. (¬2) هكذا وردت العبارة في الأصل، ولعل الأولى أن تكون:" قولهم بو جوب الكفارة في رمضان من الأكل، لاختصاصه بأنه تناول مقصود .. ". (¬3) في الأصل: "للوطء".

التَحريم فيها لم يجب للجنس، وإنما وَجبَ لمعنىً يشتركان فيه، ولا فَضل بين (حمل)، (¬1) الأكل على الوَطء بهذه الخصائص، وبينَ حَمل الأرُزِّ علىِ البُر بالخِصيصة الجامعة بَينهما. فقد بان هذا، وسَنُبين فيما بعد- إن شاء الله (¬2) أن المطلوب بطرق الاجتهاد في الشرعيات الظن- لثبوت الحكم- وغالب الظن، فإذا جازَ إثبات الحدود والكفارات بمثل هذا الاستدلال وهو مُوجب لغالب الظنّ دون العِلم بجواز الخِلاف والاجتهاد فيه، صَحَّ أيضاً وجازَ إثباتها بطريق القياس على العِلَّة، لأنه أقوى وأثبت من هذه الطريقة، فلا وَجهَ لفَرقِهم في ذلك بين استِدلالٍ (¬3) وقِياس يوجبان غالبَ الظنّ دون العِلم، ولا بقي فرقٌ سوى تسمية هذا قِياًساً وهذا استِدلالاً، ولا وَجه للتعويل في الفَرق على اختِلاف الاسم. وأما قَولهم: إننا نُعمِل القِياس في مَوضعِ الحدِّ والكَفارة، ولا نُعمِله في إثباتهما. فإنه قَول خِلوٌ عَن مَعنى؛ لأن موضعهما إذا لم يَكن معلوماً بطريقٍ تُوجِبُ العلم، وصَح أن نَجعل القِياس موضعاً لهما، جازَ أيضاً أن نُثبتَهما بقياسٍ لا يُوجِب العلم، ونحنُ نَستقصي ذلك في مسائل القِياسَ الخِلافية لنا ولَهم (2)، إن شاء الله. ¬

_ (¬1) زيادة يتم بها المعنى. (¬2) في الجزء الأخير من الكتاب. (¬3) في الأصل: "الاستدلال".

- ثبوت أحكام الأمارات بالسمع دون العقل

فصل وجميعُ أحكام الأمارات والعِلل الشرعية ثابتة بالسمع دونَ العَقل؛ لأن العقل لا يوجب حُكْماً من أحكام العبادات والعُقود على ما نَدُلُّ عليه من بَعدُ، إن شاء الله. فصل في شَرح ما يُعلَمُ بالعقل دون السمع، وما لا يُعلَم إلا بالسمع دون العَقل، وما يَصِحُّ أن يُعلم بهما جَميعاً. اعلم أن جميعَ أحكام الدِّينِ المعلومة لا تَنفكُّ من ثَلاثة أقسام: قسم منها: لا يَصحُّ أن يُعلم إلا بالعَقل دون السمع. القسم الثاني: لا يَصحُّ أن يُعلم بالعَقل، بل لا يُعلم إلا من جِهة السمع. القسم الثالث: يَصحّ أن يُعلم عَقلاً وسَمعاً. فأما ما لا يصحُّ أن يُعلم إلا بالعقل دون السمع؛ نَحو حُدوث (¬1) العالَم، وإثبات مُحدثِه سُبحانه، وإثبات وَحْدانِيّتِه سبحانه، وإثبات صِفاته الواجبة له (¬2)، وإثبات الرسالة وتَجويزها عليه سُبحانه، وكل ما يتعلق على هذه الجملة مما لا يصحُّ أن يُعلم التوحيدُ والنُبوةُ إلا به. والدلالة على ذلك أن السَّمع إنما هو عِبارة عن كلام الله، وما هو مَرويّ عمّن يُعلم أنه رسولُه المُخبرُ عنه، وإجماع مَن أخبر رسوله أنه ¬

_ (¬1) في الأصل:"حدث". (¬2) هذا غير صحيح، فإن الله تعالى نَبه على أن حدوث الحوادث دليل على وحدانيته سبحانه وقُدرته وإرادته، ووجود الخالق سبحانه دَل عليه السمع والعقل والفطرة، وأسماؤه وصفاته دَلّ العمل عليها إجمالاً، كما دل عليها السمع إجمالا وتفصيلاً، فهي ثابتة بالعقل والسمع، لا بالعقل وحده.

- ما يعلم بالسمع دون العقل

لا يُخطىء في قَوله، ولن يصح أن نَعرف أن القولَ قولُ اللهِ ورَسولِه وخَبره ممن لا يُخطىء إلا بَعد أن نعرفَ الله؛ لأن تلك الجُملَ كلَها فرعٌ لِإثبات، اللهِ سُبحانه، ومُحالٌ أن يعلَمَ وصفَ اللهِ أو رسولَ اللهِ مَن لا يَعرفُ الله، كما أن من المُحالِ أن يَعرفَ كلامَ زيدٍ ورسولَ زيدٍ من لا يعرفُ زيداً، فوجبَ أن يكونَ العِلمُ بالله وبرسولِهِ من المعلوم عَقلًا لاسَمعاً. ولا يجوز أن يَقول قائلٌ: إنني أعرفُ اللهَ ورسولَه بسمعٍ عن قولِ الله وقولِ رسولِه. لأنه ليس لنا مُخبِرٌ نعلمُ صِدْقَهُ ضرورةً، لما ثَبت من الدلاله على أنه ليس للمُخْبِرِ طَريقٌ غيرَ الطريقِ التي تُثبت لنا العلمَ، ولا يَجوز أيضاً أن يكونَ صدقُهُم في الإِخبار عن التوحيد والنُّبوة مَعلوماً بدليلِ العَقل؛ لأنه يوجِب أن يكونَ ذلك الدليل، هو الدليل الذي به نعلم ثبوت التوحيدِ والنبوة، دون خَبر المُخبرِ عَنهما، وإنما يكون خبره عنهما تَنبيهاً عَليهما، وهي الدَلالةُ دون قولِهِ، فثبتَ أنَ العلم بهذه الجُملة وما لا يَتم ويَحصل إلا به مُدرَكٌ بقضية العقل من حيث لا مجالَ للسمع فيه. على أن المخبِرَ عن ذلك لا يَخلو أن يكونَ عالِماً بصحة ما أَخبر عنه بنظر أو بخَبر؛ فإن كانَ يَعلمُهُ بالنظر صَحَ ما قُلناه، وإن كان يَعلمُهُ بخبرِ مُخبرٍ آخر ثم كذلك الثاني، وجب إثباتُ إخبار مُخبِرين لا نِهاية لهم، وذلك مُحال. فصل وأما ما يُعلمُ بالسمْعِ من حَيثُ لا مَساغَ للعقلِ فيه، فنحوُ العلم

- ما يصح أن يعلم بالعقل تارة وبالسمع أخرى

بكون فعل التكليف حَسناً وقَبيحاً، أو حَلالَاَ وحَراماً، وطاعةً وعِصياناً، وقُربةً، واجباً ونَدباً؛ وعَقداً ماضياً نافِذاً، أو تَمليكاً صَحيحاً، وكونه (¬1) أداءً وقضاءً، ومُجزِئاً وغيرَ مُجزىءٍ، وتحريم كلِّ مُحرمٍ من فِعله على مراتبه، وسندل على ذلك في مَسائل الخلاف (¬2)، إن شاء الله. فصل فأما ما يصح أن يُعْلَمَ بالعقلِ تارةً وبالسمع أخرى؛ فهو (¬3) كل حكمٍ -وقَضية- عقلي، لا يُخِل (¬4) الجهلُ بهما بالعلم بالتوحيد والنُبوة، نحو العِلمِ بجوازِ رُؤية اللهِ سبحانه بالأَبصار (¬5)، وجوازِ الغُفران ¬

_ (¬1) في الأصل: "فكونه" (¬2) في الجزء الأخير من الكتاب. (¬3) في الأصل: "وهو". (¬4) في الأصل: "يحل" بالحاء المهملة. (¬5) رؤبة المؤمنين ربهم- سبحانه وتعالى- يوم القيامة ثابتة بالكتاب والسنة، فلا عبرة بقول من خالف في ذلك. يقول ابن أبي العز الدمشقي في "شرح الطحاوية" 1/ 207 وما بعدها: "المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومَن تبعهم من الخوارج والِإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الِإسلام المعروفون بالِإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة ... وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلها". وانظر "شرح أصول الاعتقاد" للالكائي 3/ 470 - 499، و"الشريعة" للآجري: 264 - 270.

للمذنِبِين غيرِ الكفار (¬1)، والعلم بصحة التَّعبد بالعَمل بخبر الواحد، والقِياس في الأحكام، وأمثالِ ذلك مما إذا جَهله المكلَّف صَحّ مع جَهله به أن يَعرف الله عَزَ وجلَّ ونُبوةَ رُسُله عَليهم السلام، وهذه جُملة كافية في هذا الباب، إن شاء الله. ¬

_ (¬1) انظر "شرح العقيدة الطحاوية": 451 وما بعدها.

* معنى التكليف، وقصد الفقهاء بوصف الشخص أنه مكلف

<رأس>فصل في معنى التكليف، وقصدِ الفقهاءِ بوصفِ الشخصِ أئه مُكلَّف. اعلم أن حَدَ التكليفِ: إلزام ما عَلى العَبد فيه كُلفَةٌ ومَشقَّةٌ، إما في فِعله أو تَركِه، كقول (¬1) القائل: كَلَّفتُك (¬2) عظيماً، وكلَّفتُ زَيداً أمراً شاقاً، وأمثال ذلك، والفقهاءُ يَستعملون ذلك على ثَلاثةِ معاني: فوجهٌ منها: ما قُلناه وحَدَّدناه، وهو الأصل الجامع، وهو المطالبة بالفِعل أو الاجتناب له، وذلك لازمٌ في الفَرائض العامّة، نحو التَوحيد والنُّبوة والصلاة، ومَا جَرى مجرى ذلك، لكلِّ عاقلٍ بالغ مع اختلافِ فَرائضهم في أمورٍ لا يَعم فَرضها. والوجه الثاني: أن يَقولوا للعبدِ: مُكَلفٌ ومُخاطَب، على تأويل أنَّ عليه فيما سَها ونامَ عنه ولَم يقع منه في حال السكرِ والغَلبة فرضاً (¬3) يلزمه، على تأويل أن طَلاقَه نافذٌ واقع، وحَدَّه واجبٌ، وضَمان جِنايَته في ذِمته لازمٌ، ومن ماله مأخوذٌ، وأمثال ذلك، وإنما يُخاطَب بذلك قبلَ زوالِ عقلِهِ وبَعدَه، فيقال له: إذا نَسيتَ صلاةً ونمتَ عنها في وقتٍ لو كنتَ ذاكراً لها (¬4) ويقظاناً لزمَتك، فقد وجب عليك قَضاؤها وفعل مِثلها، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقول". (¬2) في الأصل: "كلفك". (¬3) في الأصل: "فرض". (¬4) في الأصل: "الله".

كما يقال للحائض: إذا طَفرتِ فعليكِ قَضاءُ الصيام الذي لم تُخاطَبي به بسببِ عَرَضٍ أزال تَكليفَه عَنك. والوجه الثالث: أن يَقولوا: إن الطفل مُخاطَبٌ ومُكلَّف، وكذلك العَبد والمريض. يَعنون بذلك؛ أنهم إذا فَعلوا ما لا يَجب عليهم فِعله، نابَ مَنابَ ما يجب عليهم ووَقع موقعَه، ولذلك قالوا: المريض الذي يُجهدُه الصيامُ والقِيامُ إلى الصلاة ولا يَجب ذلك عليه، مخاطَبٌ بِهما إذا فَعلَهما. يعنون بذلك: أنهم إذا فَعلوا ما لا يَجب عليهم فِعله، نابَ مَناب ما يجب عليهم وَوقع مَوقِعَه. ويقولون: العبدُ مُخاطبٌ بالجُمَعِ إذا حَضرها وفَعلها. يَعنون بذلك؛ أنها نائِبةٌ مَناب ما يجب عليه وإن لم تكن مِن فَرضه. وكذلك من تَكلًف الحج باستطاعة بَدَنِه وإن لم يَجد زاداً ولا راحلةً، تكلًف الحج بمعنى أنه نائبٌ عن فَرضِهِ إذا وجد ذلك، وإن لم يكن ما فَعله من مُكلًفه، على قولِ من جَعل الاستطاعةَ: الزادَ والراحلةَ (¬1). وكذلك قولهم: إن الطفل مُكلفٌ بالصلاة (¬2) إذا فَعلها بشروطها قبل البلوغ، وفي الوَقت. يَعنون بذلك: أنها نائبة مَناب ما يجبُ عليه، وإن لم تكن من فَرضه، فيجب تَنزيل فَرائِضِهم على هذه الوجوه. فإن قيل: ليس يَنضبط الحدُّ بما ذَكرتم، فإنً إفطارَ العيد (¬3) من أيام التًشريق، والطيبَ، والاغتِسالَ، وأخذَ الزينةِ من اللِّباس للجُمع ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 5/ 7 - 9. (¬2) في الأصل: "للصلاة". (¬3) في الأصل: "العبد".

- تكليف الناسي والنائم والسكران

والأعياد، وإزالة الأنْجاس، هذه كلها من جُملة تكاليف الشرع، وهي مُساعدةٌ للطبع، ومُلائمةٌ للنفْس، فلا تَكْلِفة (¬1) فيها، فَبطلَ أن يكونَ تكليفُ الشرع مأخوذاً من الكُلفَة والمشقَة. قيل: لا يَخرج؛ لأن كل من أخرجَ الأمرَ والنهيَ عن مَشيئته المُطْلَقَة إلى دخولٍ تحت رسمٍ، فإنه (¬2) تكليف، حتى إنه يحْسُنُ أن يقول العربي: كنتُ بنِيّةِ الصوم، فَكَلَّفني صَديقي الإِفطارَ، وكنتُ على شَعث السفر فَكَلفني دخولَ الحَمام. فإلزامُ الرسم تَكليفٌ وإن وافَق الطبعَ، وإلزامُ الطبيب من جهة العِلاج أَكلَ (¬3) المُرُورَةِ وشُربَ الشَرْبَة الحُلوة، كتكليفِ الحِمية من حَيث إنه رسمٌ وحدٌّ يوجب الاتَباع. واعلم- وفقك اللهُ- انَ أفعالَ العُقلاءِ على ضَربين: ضَربٌ منها: لا يصحُّ دخوله تحتَ التكليف، وهي ما يقع منهم حالَ الغَفلةِ والسَّهوِ والنومِ والغَلبةِ بالسُّكْر، وكلِّ ما يَقع عن عُزوب العقل (¬4) والتمييز. وقال جماعة من الفُقهاء: إن العاقلَ مُكلَفٌ في هذه الأحوال تَكليفاً ما، ولربما كَشَفَ تحقيقُ الكلام بين من خالفَنا في ذلك عن عبارةٍ دونَ أن يكونَ تحتها معنى، مثل قولهم: يَلزمه عند إفاقته وتَذكُره ¬

_ (¬1) في الأصل: "يخلفه". (¬2) في الأصل: "وإنه". (¬3) في الأصل: "اتخذ". (¬4) أي: عند غياب العقل، يقال: عزب عني فلان، أي: غابَ وبَعُد. "اللسان": "عزب".

قَضاءٌ وغُرمٌ وطَلاقٌ وحَدّ. وهذا فارغ من المعنى الذي قَصدناه. والدلالة على إبطال القَول بتكليف العازِب العقل، أو الذِّكر من الساهي والذاهل، ما هو ساهٍ عنه، وذاهلٌ عنه؛ أنَ اللهَ سبحانه إنما كلَّف من كلَّفه فِعلاً، أنْ يقعَ ذلك الفعلُ منه على وَجه التَقربِ إليه والطاعةِ له، أو كلفه اجتناباً يقع منه على وَجهٍ بقصدِ التقرب، ولا يَصح أن يقعَ التقرُّبُ إليه بالفعلِ أو التَركِ إلا بَعد أن يَقَع وهو عَالمٌ به حتى يصح القَصدُ إليه دونَ غيره، والساهي لا يَصح أن يكونَ مع سهوهِ عالماً، فكيفَ يصحُ أن يكونَ بالفعلِ أو التَّركِ متقرباً؟ فثبتَ بهذا أنه غيرُ داخلٍ تحتَ التَكليف. وأيضاً لو قيل للساهي: اقصِدِ التقرُّبَ بفعلِ ما أنتَ ساهٍ عَن فعله، أو التقربَ بالاجتناب له، لوجب أن يقصدَ إلى إيقاعِ ما يَعلمُ أنه ساهٍ عنه أو اجتنابهِ، وعَلمُه بأنه ساهٍ عنه ينقض كونه ساهياً عنه، ويعودُ فيخرجُ -بهذا- العلمُ عن كونه ساهياً عنه، ولو دَفعه وخرج عنه، لاستحال كونه ساهياً عنه مع كونِه عالماً به. وأما الدلالة على إحالةِ تكليفِ النائمِ والسكران، والمغلوب على عقلِهِ بالإِغماء، فهو الدليل الذي دل على نَفي تكليف البهيمة، وَالطفل الذي لا يعقل، والمجنون، لاشتراكِ جميعهم في زوال العقل والتمييز، بل قد عُلِم أن الطفلَ والمجنون والبهيمة، أقربُ إلى العِلم والقصد إلى كثيرٍ من الأفعال من المغلوب والنائم والسكران، فإن الطفلَ والمجنونَ يَظهر من قُصودهم واتباعِ ماَ يُرام منهم بالمُداراةِ والإِشارةِ، فِعلاً لما

يُصوَّب لهم، وتَرْكاً لما يُنهون عنه بنوعِ من اللُّطف والسَّوق إلى ما يُراد، كالترغيب لهم في بعضِ الأفعالِ؛ كالأخذِ والتناولِ والحَبْو والمشي، والاجَتناب، مثل: تزهيدهم في الرضاع وقُربان الثَدي عند الفِطام. والبهائم فمعلوم تعليمُها وتَلَقّفُها كل صِناعة تَصلح لها بحسبها، كتعليم الجَوارحِ الاقتِناصَ، والكلب الاصطيادَ، والِإمساكَ علينا والاشْتِلاء إذا اشْلَيناه (¬1) والكَف إذا زَجًرناه، وحيوانِ الحرثِ والسَّقي كالبَقَر والجِمال. كلُّ ذلك تَلقُفٌ للأعمال وإثباتُ صُوَرِها في القُلوب حِفظاً وذِكراً، وهذا معدوم في حق النائم والمغلوب والسكران، فإذاً قد بانَ أنهما سَواء، فوجب تساويهما في نَفي التكليف لقيام العِلّة فيهما، وهي زوال العقل والتمييز. نعم وفي الطفل والمجنون والبهيمِ من التجنُّب والتحرُّزِ من المُضارِّ، ما ليسَ في السَّكران والنائم، فقد تحقَّق الأولى في نفي تكليف السكران والمغلوب والنائم. فإن قيل: إلا أنَّ الناسيَ يُذكًر، والغافلَ يُنَبه، والنائمَ يوقَظ، وذاكَ القَدْر من الإِيقاظِ والتنبيه الذي يَحسُنُ من غيره له لأجل تَهيُّئه لذلك وكون محله قابلًا، فلا يُنكَر أنْ يُخاطبَ هو ان يفعلَ في نَفسِهِ من الإِيقاظِ والتذكرِ ما يفعلُهُ غَيرُه فيه. قيل: هذا باطِلٌ بالصبي يُؤمَرُ وليُّه بأمرِهِ بالصلاةِ وضَربهِ، ولا يدل على أنً المعنى الذي فيه لقبول الأدب يوجبُ عليه ويكلفَ في نَفسه ما كلّفه الوليُّ في حَقه، ولأن الولًى مُتَيقظٌ لأمرِهِ، والساهي والنائمُ ¬

_ (¬1) أشليت الكلب: إذا أغريته بالصيد. "اللسان": (شلا).

- ما تعلق به من أدخل الناسي والنائم والسكران في التكليف

والناسي غيرُ مُتَيقظٍ لأمره. <رأس>فصل في ذكر ما تعفَق به مَن أدخلهم في التكليف من الفُقهاء. قالوا: كيف تُخرجونهم من التكليف، وقَد أجمعت الأمة من الفقهاء- وهم العُمدة في هذا- على أنَ أفعالَهم وتروكَهم في حكمِ أفعالِ العقلاءِ، وهم ماخوذون بها ومؤاخَذون عليها أخذَ التَكليف؛ من ذلك: إيجابُ قَضاءِ الصلواتِ على السكرانِ والنائمِ، وقَضاءِ الصوم على الذاهلِ عن نِيّته والناسي لها في وقتِها (¬1) المأخوذِ عليه، علىَ اختِلافهم فيه، ومؤاخذتُهم بغرامات ما يقعُ منهم من الجنايات، وهذا هو حُكم التكليف والدخول تحته، فبمَ ينفصلون عن هذا؟ قيل: قد بَينا أنهم في زوال العقل كالمجانين والأطفال والبهائم، وأنهم أسوأ حالًا، فامتنع التكليف. وأما وجوب الغَرامة والقَضاء، فذلك وجب بفرض مبتدأ، ولله سُبحانه أن يبتدىءَ خِطابَ العاقلِ ويلزِمَه ما شاء من العبادات، فما يُحقَق التكليف إلا عند عودتهم (2) إلى إفاقتهم (2) وعقلهم (2)، وإيجابُ ذلك في حالِ إفاقتهم (2) لا يوجب تكليفَهم (2) حالَ زوالِ عقلهم (2)، ولو أننا لم نجعل فَواتَ الصلوات وإتلافَ المالِ حالَ السُّكر والإِغماءِ سَبباً لِإيجاب ما وجب حال إفاقتهم (¬2)، لكان جائزاً صحيحاً بإجماعِنا، ¬

_ (¬1) وهو تبييتها من الليل عند المالكية والشافعية والحنابلة. انظر "المغني" 4/ 333 - 335. (¬2) جميع هذه الضمائر وردت في الأصل بالتثنية، والصواب ما أثبتنا، فهي تعود على: النائم، والناسي، والسكران، والمغمى عليه.

فَعُلم بذلك أَنَّ التكليفَ حصل بعد عَودِ العقلِ وحصولِ الإِفاقة. وقد تكون التكاليفُ بعد حُصول أسبابِ سبقت، لا من جهةِ المكلفِ ولا من فِعله رأساً، ولا كَسْبَ له فيها؛ كَإيجاب الاغتسال على الحائضِ بعد انقِطاعِ الدم، وإن كانَ جريُ الدمِ ليس من كَسبها، فأوجبَ (¬1) الغُسلَ مستنداً إلىَ ذلك، وكذلك وجوبُ قَطع القُلْفَة التي وُجدت من خَلقِ اللهِ سبحانه، فتناولَ التكليفُ إزالتَها وقَطعَها بعد البلوغِ بنفسِهِ، وقبلَ البلوغِ خِطاباً لوليّه، فَلسنا نمنعُ أمثالَ هذا، وإنما نمنعُ الخِطاب لهم (¬2) في حالِ الغَيْبة، وزَوالِ العقلِ. ولأنه قد يكونُ فِعلُ البهيمة، وقَتلُ الخطأ، وحُكم الحاكم، وفُتيا المُفتي، أسباباً لوجوب أفعالٍ على غيرِ الفاعلينَ لها، لا لأن فعلَ البَهيمةِ وفعلَ قاتل الخطإِ داخلانِ تحتَ تكليفِ العاقلةِ وصاحب البهيمةِ، لكن جاءَ الشرعُ بذلك تحكماً منه، ولم يلجئنا (¬3) ذلك أَن نقولَ بدخولِ هذه الأفعالِ تحت التكليفِ، فبطلَ أن يكونَ وجوبُ القَضاءِ لحكايةِ ما مضى من العباداتِ الواجبةِ في الأزمانِ الماضيةِ في حالِ الغَلبَة والسّكر والصَغر، وجوباً يدل على تَقدم التكليف. فأما توهّم من تَوهم أن حدَّ السكران إنما وَجب عليه بسببِ أَدْخَلَه على عقلِهِ وهو السُّكر، فإنه باطلٌ، لأن السّكر من فِعل اللهِ تعالى وليس من كَسْبِ العَبْدِ وَمقدوراتِه مباشَراً ولا مُتولداً (¬4)، فأما استحالةُ ابتدائِهِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ووجب". (¬2) في الأصل: "لهما". (¬3) في الأصل: "يلجنا". (¬4) بل الأفعال إنما تنسب إلى فاعليها سواء كانت خيراً أم شراً، والله خلق هذه الأفعال وأصحاب الأفعال، وأقدرهم على فعلهم، فهم لهم قدرة وإرادة حقيقية فهي من كسبهم.

لفعلِ السُّكر في نفسهِ فباطلٌ باتفاقٍ، وأما امتناعُ كونِهِ مولِّداً لفِعل السُّكرِ بسببِ كان منه فظاهرُ البطلانِ، لأنه لم يكن منه إلا الشرب، وشُربه للماء وسائرِ المائعاتِ من جنسِ شُربه الخمرَ العَتيق، فلو ولَّد أحدُ الشُربين لولد الآخر، لأن الشيء إذا ولدَ عند أصحاب التولُّد وَلَد مثله، ولو ساغ القولُ بأن الشرب يُولَد السُّكرَ، لساغ أن يقال: إن الأكلَ والشربَ يولدان الشَبعَ والريَّ، وأن الوَجْبةَ (¬1) تولَد الموتَ، وكل هذا باطل. وأصلُ القول بالتوليد عند أهلِ السنةِ باطل، خِلافَ المعتزلةِ (¬2) وأهلِ الطبع، فإنه لا تَوتُدَ في فعلِ اللهِ سبحانه ولا فعلِ الخلقِ، فسقط ما طلبوه، ولا يسُوغ أيضاً لأحد أن يقولَ: إن السُّكْر إنما وجب وتولَّد عن ذاتِ الشراب؛ لأنه جِسم من الأجسام، والأجسامُ لا تُولَد شيئاً، ولأنه لو تولَد السُّكر عن ذات الشراب، لكاَنَ فِعلًا لله سبحانه؛ لأنه فاعل الجِسم الذي هو الشرابُ، وإذاً لم يُحد السكرانُ لسببٍ كانَ منه وأمرٍ أدخله على نفسه. ولو قيل: إنما حُدَّ لأنه شَربَ، وانه قد أجرى اللهُ العادةَ بفعل السكرِ عندَ تَناولِهِ. لكان ذلك أولى، إلا أنه لم يكن محدوداً إلا على ¬

_ (¬1) أي السقطة مع الهَدَّة. "اللسان": (وجب). (¬2) تنسب هذه الفرقة إلى واصل بن عطاء الذي خالف الحسن البصري في القدر، وأن الفاسق في منزلة بين منزلتين لا كافر ولا مؤمن، ولما طرده الحسن البصري من مجلسه اعتزل عند سارية من سواري المسجد وانضم اليه عمرو بن عبيد، وسُموا مع من تبعهما بالمعتزلة. انظر "الملل والنحل" 1/ 43 - 85، و"الفرق بين الفرق": 114 - 202، و"نشأة الأراء والمذاهب": 200 - 209

شَيءٍ فعله مع العقل لا مع زوال العقل، لأنه يَشرب وهو عاقل مُميز. فصل ومما تَعلَّقوا به علينا في نَفي تَكليف السكران، قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، ونهيه للسكارى عن الصلاةِ وقُربانِها، إثباتُ تَكليفٍ لهم وصَرفُ خطابِ إليهم، وذلك مُبطل لما أصلتم من نَفي الخِطاب لهم والتَكليف. قيل: إذا تأملتُم الأدلّةَ التي تَقدَمت، رأيتم أنها صارفةٌ لها عن ظاهرها، ووجبَ بتلك الأدلةِ أن نتاولها على وجهٍ يوافقُ تلك الأدلةِ الصحيحةِ، والتأويلُ لها ينصرفُ إلى وجوهٍ عدة: منها: أن السكْر الذي صَحَ صرفُ الخطاب نحو صاحبهِ؛ هو السُّكر الذي يحصلُ معه نَوعُ تخليطٍ في الكلامِ، ولا يُزيل العقلً زَوالًا يمنع فَهم الخطاب، وذلك ليسَ بمانعٍ عندنا، فهو كالنُعاس بالإِضافةِ إلى النوم، ولا يَمنع شيئاً من التَكليف، ولهذا علامة نَذكُرها؛ وهي (¬1) نَشوةٌ يتحرك مَعها بتصفيق وإنشادٍ ورَقصٍ، كانَ يتماسك عنه حالَ صَحوهِ قبل النَشوة، ويراه قَبيحاً من نَفسِه وغيرِه، فهذا إذا نُبه تَنبه، وإذا فُزِّع فَزِع، وَيجتنِبُ المضارَّ ويَتطلَّبُ المنافعَ، فهذا يَحسُن أن يُقال له: يا هذا، لا تقرب المسجد ولا تَدخل في الصلاة، حتى تَتماسكَ وتَصحو عن هذه النَشوة. ويحتمل: لا تَشربوا شُرباً يؤدي بكم إلى حالٍ تدخلوا بها ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهو".

- تكليف المكره

المساجد والصلوات، مثل قول القائل: لاتَدخل الصلاةَ ذاهلًا ولا ساهياً. بمعنى: تَيقَظ وادخُلْ، ولا تَدخل الصلاةَ عَطشاناً. أي: اشرب وادخُل. كذلك ها هنا، المراد به: لا تَشرب شُرباً يؤدي بك إلى التَخليط وتَدخل الصلاة. فكأنه قال: لا تشربوا شُرباً يؤدي بكم إلى التَّخليط. وهذا كان في أوقات الشُرب قبل النَسخ. وقد قيل: لا تَقربوا الصلاةَ وأنتُم سُكارى من النوم والاستثْقال (¬1)، حتى تَستيقظوا استيقاظاً يَزول معه ثِقَل النوم، ويكمُلُ مَعه تَمييزكُم لما تَقولون، ونَشاطكم فيما تَعملون. ويحتمل أنه قال للصُحاة: لا تَقربوا الصلاةَ وقد شَرِبتم شُرباً، عساكم تجوزون تَخليطَ الأقوال في صَلاتكم (¬2). وقد قيل: إن رَجلاً تَقدم في الوَقت الذي كانت مُباحة، فَخلَّط في سورةِ الكافرين، وأقام الفاتِحة وأعمال الركعة، فَنزلت (¬3). ومن أقامَ أكثرَ أقوالِ الصلاةِ وأفعالِها لا يكونُ خارجاً عن حَيِّز التكليف (¬4). فصل واعلم أن المُكره داخلٌ تحت التَكليف، على أنَ فيه اختلافاً بينَ الناس؛ وذلك أنَّ المكره لا يَكون مُكرهاً إلا على كَسبه وما هو قادرٌ ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 5/ 96. (¬2) فصَّل الطوفي هذه المسالة في "شرح مختصر الروضة" 1/ 190 - 193. (¬3) أورده الطبري في "تفسيره" 5/ 95، وذكر أن الرجل هو علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. (¬4) في الأصل: "التكلف".

عليه؛ نحو المكره على الطَلاق والبَيعِ وكلمةِ الكُفر، وكل ذلك إذا وَقع فهو كَسبٌ لمن وَقع منه، وواقع مع عِلمه به وقَصده إليه بِعَينه، فيصحّ لذلك تَكليفه، كتكليف ما لا إكراه عليه فيه. وزعمت القَدَريًة (¬1) أنه لا يصحُ دخولُهُ تحتَ التكليف؛ لأنه لا يَصح منه غير ما أكره عليه. وهذا قولٌ باطلٌ من وجهين: أحدهما: أنه قَد يصح منه خِلاف ذلك؛ لأنه عندهم قادرٌ على ما أكره عليه وعلى ضِده وتَركه، فلو شاءَ فَعَلَ ضِده والانصرافَ عنه، ولتحمل الضرر وكفَّ عنه، فسقط ما قالوه. وغاية ما فيه أنه يشق عليه، ويتكلًف ما يُضاده ويَثقل، وهذا مما يجانسُ التَكليفَ، فأما أن يُضادّه فلا؛ لأن التكلفَ أبداً إنما هو لفعلِ ما يَثقل وَيشق. الوجه الثاني: أنه ليس كل من لا يَصح منه الانصراف عن الفِعل يمتنع تَكليفُه؛ لأن القادرَ عندنا على الفِعل من الخَلق لا يصحُ منه الانصرافُ عن الفعل في حال قدرتِهِ عليه، لوجوب وجودِها مع الفعل وإن كان ذلك يصح منه، بمعنى صحِة نيته (¬2)، وأنه لا يصح كوُنه قادراً على ضِده بدلاً منه، ومع ذلك فإن تكليفَه صَحيح. ¬

_ (¬1) هم القائلون بأن كل عبد خالق لفعله، وليس الله تعالى فيه صنع ولا تقدير. انظر "الفرق بين الفرق": 18، و"نشأة الآراء والمذاهب والفرق": 167 - 174. (¬2) في الأصل: "تبيينه".

- القول بعدم تكليف المكره

فصل وذهبَ كثير من الفقهاء إلى نَفيِ دخولِ فِعل المكرَه تحت التكليف، واعتلّوا بأنه واقع من فاعِله بغير إرادةٍ له ولا قصد إليه، فصار بمنزلةِ فعلِ النائمِ والمغلوبِ اللَّذين لا قَصد لهما، وهذا باطلٌ باتفاق الأصوليين؛ لأن مُطَلَق زَوجته وقاتلَ غيرِه عند إكراهه على ذلك، عامدٌ لما يَفعله، عالمٌ به، قاصدٌ إليه، مختار له على وقوع المكروه به من جهة مُكرِهِه، مُرجَح لأسهلِ الأمرينِ عنده على أصعبهما، وهو طلاق زوجته وقَتلُ غيره توقيةً لنفسه التي هي أعزُ عِنده من زَوجته ونفْسِ غيره. والذي يدلُّ على قَصدِه ودخولِ فِعله تحتَ التكليف؛ مَنعُ الشرعِ له من قَتل البريء المكرَه على قَتله، وإلحاق الوعيد به على إيقاع القَتل به، وبهذا النهي والوعيد والتأثيم قد بان أن اللهَ سبحانه يصحّ أن يُكلفنَا تركَ كل ما نُكره على فعلِه، حسبما كلًفنا تَرْكَ قَتلِ البريء، وإنما رَخَّص لنا قولَ كلمة الكُفر تَسهيلاً منه علينا ورفقاً بنا (¬1)، وليسَ دخولُ الرِّفق رُخصةً وسُهولةً مما يمنعُ دخولَ التكليف، كما رَخص لنا في المَرَضِ الإِفطارَ، ولم يمنع ذلك تَكليفَه لنا الانزجار عن التداوي بما حَرم علينا، وأمْرَه إيانا بالصلاةِ بحَسْبِ الطاقة. فإن قيل: فكيفَ يجتمع الإِكراهُ والقصدُ وهما ضِدان أو كالضدين، ولذلك لا يَحسن أن تَقول: ما أردتُ كلمةَ الكفر لكن ¬

_ (¬1) وذلك قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. سورة النحل، [الآية: 106].

قَصدتُ كلمة الكفرِ حال إكراهي. وما الفَرق بينَ المكره والمُختار إذا جَعلتَ المكرَه قاصداً والمختارَ قاصداً؟ قيل: هذا أمرٌ غامضٌ عند أكثر الناس، مُشتبه عليهم، ونحن نكشفه ونُخرجه إلى حَيِّز الوضوح بعون الله، فنقول: إنَّ المُكرهَ قاصدٌ دفْعَ المكروه بالفِعل والقول الذي أكره عليه، وهو غير مُطلَق الدواعي والإِرادات، بل مقصورُ الدواعي، وقد يكره على قَتل من يَودُّ وُيؤْثِر أنَه لا يقتلُهُ، وأنه لو وَجد خلسةً أو طريقاً للتخلص من قَتله لسلكه مبتدراً، وطار إليه هارباً، وطباعه تبكي على ذلك الشخص، ثم إنه يشهد ما يلحقه من الضرر، وَيزِنُه بالضرر الحاصل بالحزن على المُكرَهِ على قَتله، فَلجأ إلى دَفع أعظم الضررين، وهو إزهاق نَفسه وتعذيبها بالجراح، وقَبِل (¬1) الارتفاقَ بأيسرِهما؛ وهو مَضرتُهُ بغَمِّه وخزنه الداخِلَيْن عليه بالإِضرار بمن لا يَستحق الِإضْرار. ولنا دواخل من هذا الجنس يتحير مَعها العقلُ، مثل رَوم تناولِ الدواءِ المُر الكَريهِ ريحُهُ وطَعمُهُ وفعلُهُ في النفس، لما يَلحظه المَتداوي من الخَوْفِ على نَفسِهِ من الأمراضِ الممتدةِ الآلام، ولربما كانَت مُزهقةً للنفسِ، فهو مُريدٌ لشربهِ لا لِعَينه، لكن متحَملاً كُلفةَ الألمِ والضرَرِ اليَسير، لدفعِ الألم والضرر (¬2) الكثير، فهذا وأمثائه من بَطَ الدُبَيلة (¬3)، وقَطعِ اليدِ المتَأَكِّلةِ، تَتحير العقول مَعه بالبادرة، وتَنتهي إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "قبل"، بدون الواو. (¬2) في الأصل: "الضرر والألم الكثير". (¬3) البَط: الشق. والدبيلة: دمّل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالباً. "اللسان": (بطط) و (دبل).

- الفرق بين الإلجاء والإكراه

اختيارِ دفعَ الآعلى من الضررين بالأدنى. فصل قال المُحققون: ولا فَرق بين الِإلجاء والِإكراه من جهة اللغة. وقال قومٌ: الِإلجاءُ أبلغ، وهو أنه ما خيف مَعه القتل، والإِكراه: ما يكون مَعه الخوف فيما دون النَّفس. وقال بعض القَدَرية: الإِلجاء: ما لا يكون معه إلا داع واحدٌ إلى فعلٍ واحدٍ. والإِكراه: ما يَصح أن يكونَ معه داعٍ إلى الًفعل وإلى خِلافه وضِده. وأهلُ اللغة لا يَفصلون بين الِإلجاءِ والإِكراه، والقَهرِ والإِجبارِ، والاضطهادِ والحمل، كُل ذلك عندهم بمعنىً واحدٍ؛ وهو البعثُ على اكتساب ما يُكره وقوعُه، ولو تُركَ وسَوْمَ دَواعيه لما فَعله، بل كانَ معه في النفَسِ زاجرٌ يزجُرُه عنه، فلا وجه للافتِئات على أهلِ اللسانِ في الأسماء الموضوعةِ، وهم الأصل فيها. فأما المعنى؛ فما يُنكِرُ أحدٌ أن يكون فيما يُخَوّف به المكرَه، وهو خَوف على النفس، وعلى ما دونها من مالٍ أو عِرضٍ أو طَرفٍ أو وَلد. ومنه ما يكون مَعه داعٍ واحدٌ، ومنه ما يكون مَعه دواعي مختلفةٌ ومُتفاوتةٌ ومُتَرجِّحةٌ، فلاطائل في خِلاف ما هذا حكمه (¬1). فصل وحَدُ الِإكراه على التقريب: هو البَعث على اكتِساب ما لو لم يُبعَث ¬

_ (¬1) ورد في هامش الأصل ما نصه: "آخر الثالث من الأصل".

عليه لم يَكتسبه. وقيل: ما أباحَ الشرعُ إيقاعَ الفعل عنده، من كل ضَرر يَخاف به الِإنسانُ على النفسِ وما دونَها مما لا يُحتمل مثلُه في اطِّراد العادة، وذلك مَوقوف على ما يَرد به السمعُ، أو يَحصلُ بالاجتهادِ إن لم يَرِد به سَمع، وقد كان يجوزُ ورودُ التعبُّد بالامتناع من إيقاعه، وإن استَضرَّ في نفسِهِ وما دونَ نفسِهِ، وإنما لطف الشرع بتَجويز دفعِ الضررِ عن النفسِ وما دونَها باكتِسابِ ما أُلجىء إلى الإِتيان به. وامتنعَت المُعتَزلة من تَجويزِ سِوى ما يَصح أن يُباح وُيطلق من القَبائح ابتداءً من غَير إكراه. فأما الِإكراه فلا يُبيحُ ما يَقبُحُ (¬1) الابتداءُ به، ولاَ يُبيح إلا ما لا يَقبح الابتداءُ به، بناءً منهم على القَول بتحسينِ العقلِ وتَقبيحه، وهذا لا يَصحُّ، لأن الأمَّة أجمعت على قُبحِ كُفران النِّعمة، والكُفرِ بالمُنعِم، وقد أجمعت على أنَّ اللهَ مُنعمٌ، وأجمعوا على إباحةِ الشرعِ لكلمةِ الشِّرك والكفرِ باللهِ لأجلِ الإِكراه، سِيما في حقِّ مَن لا يَتهدَّى إلى المَعاريضِ (¬2) ولا يُحسنُها، فإنه يصرِّح بالكفرِ والشركِ من حيثُ الإِطلاقِ والِإباحةِ لأجلِ دَفعِ ضَررِ الإِكراهِ عنه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يبيح". (¬2) المعاريض: كلام يشبه بعضه بعضاً في المعاني، كالرجل تسأله: هل رأيت فلاناً؟ فيكره أن يكذب وقد رآه فيقول: إن فلاناً ليُرى. وهي التورية بالشيء عن الشيء. "اللسان": (عرض).

- الاختلاف في صحة إكراه الرجل على الزنا

فصل واختلف الناس في صِحَّةِ (¬1) الِإكراهِ على الزنى في حَق الرجلِ (¬2)، فقال قوم: لا يَصح. واعتلّوا بأنه لا يفعل إلا مع الشهوة والِإنعاظ، وقُوة الدواعي، وانشراحِ الصدرِ، وانتشارِ النَّفسِ. والإِكراه ثَمرهُ التخوفُ على النفسِ، وذلك يحصر النفسَ، ويَجمع الأعضاء عن الانبساط، وُيخمد نيران الشهوة عن التَّوثب. وقال قوم: يَصح. واعتلّوا بأن الإِنسان يجد من نفسِهِ صحةَ التركِ لفعلِ ما يَشتهيه، وإقدامِه على ما يَكره، مع فَرَطِ الشهوة لما يَتركه، وفَرط الكراهةِ لما يُقدمُ على فعله، فإذا ثبت هذا جاز أن يَحملَ نفسَه على ما يَكره، وما لولا الإِكراه لتركه، كما يتكلَف شُربَ الدواءِ المر، وقَطعِ يده المُتأكَلة، وقَد كلف اللهُ إبراهيمَ ذبحَ ولدِه -وإن كانَ التكليفُ أقلَّ حالًا من الِإكراهِ- وقتلُ الولدِ لا يُساعدُه طبع، والزنى يُساعده الطبعُ. فصل ولا خلاف بين الناسِ فىِ صحةِ إكراهِ المرأةِ على إيقاعِ الفعلِ فيها بالوَطءِ (¬3)؛ لأنها محل لإِيقاع الفعل، والذي يصح الإِكراهُ عليه إنما هو أفعالُ الجوارحِ الظاهرةِ المَشاهَدَةِ التي يتسلطُ عليها التصريفُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "حجة". (¬2) انظر تفصيل ذلك في "المغني" 12/ 348. (¬3) "المغني" 12/ 347 - 348.

في المُراداتِ مِن الافعال، فتقع أفعالُها بحسْبِ الِإلجاء إلى احدِ الدواعي. فأما الِإكراه على ما غابَ وبَطَن من القلوب، فلا، فعلى هذا لا يَصحُّ أن يُكره الإِنسانُ على اعتِقادِ مذهبٍ، أو علمٍ بمعلومٍ لم يَعلمْه، أو بظنٍ مما لم يتحصل له طريقهُ، أوَ عزمٍ على ما لا يعرف، أو الجهل، قال سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]، يعني: من اعتقد الكفر، وإنما لم يُعف عن أعمالِ القلوب ها هنا، لأن الإِكراه لم يتسلَّط عليها، ويَلحق بهذا أنَّ العلمَ والجهلَ والظنَ وغيرَ ذلك من أعمالِ القلوب كالمحبة والبُغضِ والألفةِ والإِعجاب والخَوْفِ والحَزَنِ والمسَرَّة والغَم لاَ يَتحصلُ بالاستمالةِ كما لم يتحصَلْ بالإِكراهِ، فالإِنسانُ لا يجهلُ ما عَلِمه، ولا يَعلم ما يجهلهُ بالرِّشوة والاستمالة، لكن يَتَبع في القَول، وُيقلد بالنًّطقِ من يَستميله، والقلب بحاله لا يُغيره إلّا المَعاني التي يَصلُ عملُها إليه، كالأدلةِ والبراهينِ أو الشَّبَه وما شاكل ذلك. فصل وعندي أن كُلَّ فعلٍ من أفعالِ القُلوب صَحَّ دخولُه تحت التكليف، صح الإِكراهُ عَليه، كالعلوم الاستدلالية يَصح التكليفُ لتَحصُّلها بطريقها، وهو النظر والعزم (¬1) واَلنَّدم، هذا كلّه داخلٌ (¬2) تحت التكليف، فيصحُ الِإكراهُ على تَحصيلِهِ بطريقِه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "العزوم". (¬2) في الأصل: "دخل".

- أحكام الأفعال الداخلة تحت التكليف

فصل في أحكامِ الأفعالِ الداخلةِ تحتَ التكليفِ، وما ليس بداخلٍ تحته. اعلم أنَّ احكامَ جميعِ الافعالِ لا تخرجُ عن حُكمين: عقلي وشَرعي، لا ثالثَ لهما، فأما الأحكامُ العقليةُ الثابتة لها، فهي التي يكون عليها في ذواتِها من الأحكام والصفاتِ، إما لأنْفُسِها وما هي عليه في أجناسِها التي خَلَقَها الأالله عزَ وجل عليها، أو بمعانٍ تتعلقُ بها ضَرباً من التعليق: فالأول: نحو؛ الفِعلُ، حركة وسكوناً، وإرادةً وعِلماً، ونَظراً، وأمثال ذلك. والثاني: نحو؛ كونُ الفعلِ مَقدوراً ومعلوماً، ومُدرَكاً ومُراداً ومذكوراً وأمثالُ ذلك مما يُوصفُ به، لتعلقِ العلمِ والإِرادةِ والقدرةِ والذكر بها. وكذلك وصفُها بأنها أعراضٌ، وحوادثُ، وموجودةٌ، وعينٌ ثابتةٌ، ونحوُ هذا، إنما هي أحكامٌ عقليةٌ، فلا يجوز أن يثبتَ لها حكمٌ عقلي لمعانٍ تُوجد بها، وتختصُّ بذواتِها، لكونها أعراضاً يَستحيلُ حملُها لأمثالِها من الأعراضِ، وذلك نحو استحالةِ وصفِها بأنَها مُتحركةٌ وساكنةٌ وحَية وعالمةٌ مريدةٌ، وأمثال ذلك. وعلى هذه الأحكام التي قدمنا ذكرَها أحكام عقليةٌ غيرُ شرعيةٍ، ومعنى إضافتِها إلى العَقَلِ: أنَّها مما يُعلمُ كونُ الفعلِ عليها بقَضيةِ العقل المنفردِ عن السمع، وقَبل مَجيء السمع. فكل حُكمٍ لفعلٍ عُلم من هذا الطريقِ مما ذكرناه وأضربنا عن

ذكرِهِ، فإنه حُكمٌ عقلى ليس بشرعي، ولا نعني بذلك أنه لا يصحُ أن يَرِدَ السمعُ بالإِخبار عن كونِها كذلك، وتأكيد أدلةِ العقلِ على أحكامِها، وإنما نَعني أنها مما يُعلم عقلاً وإن لم يَرد السمعُ، وقد دخل في هذه الجملةِ سائرُ أفعالِ العِبادِ المتكلَف منها (¬1) وغيرِ المتكلَف، وأفعالُ سائرِ الحيوان كلُها، لأنها لا تَنفك كلُها من الأحكامِ التي ذكرناها. فصل والضرب الثاني من أحكامها: أحكامٌ شَرعية وهي التي تختصُ بها أفعال المتكلّفين من العِباد دون غيرها، وذلك نحو كون الكسب حَسناً وقبيحاً، ومُباحاً ومحظوراً، وطاعة وعصياناً، وواجباً وندباً، وعبادةً لله سبحانه وقربةً، حلالاً وحراماً، ومكروهاً ومستحباً، وأداءً وقضاءً، ومجزئاً، وصحيحاً وفاسداً، وعقداً صحيحاً أو باطلًا أو فاسداً، فكلّ هذه الأحكامِ الثابتةِ للأفعالِ الشرعيةِ شَرعيةٌ لا سبيل إلى إثباتِ شيءٍ منها والعلم به من ناحية قَضية العقل (¬2)، وهذا هو معنى إضافتها إلى الشرعِ، لا مَعنى له سوى ذلك، غير أنه لا يمكن أن يَعرفَ أحكامَها هذه الشرعية إلا بتأملِ العقلِ، ويَستدل بعقلهِ على صحةِ السمعِ، وصدقِ موردِهِ، وتَلَقّي التوقيفِ على هذه الأحكام من جهتِهِ أو مِن جهةِ مَنْ خَبَّر عنه، ولولا وُرودُ السَّمع بها، لما عُلم بَالعَقلِ شيءٌ منها لما نُبينه وندل عليه فيما بعد إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في الأصل: "منهم". (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة (65) و (66).

فإن قيل: إذا صحَّ عندكم وُرودُ السمعِ بالِإخبارِ عن هذه الأحكامِ العقليةِ، وكونهُ طريقاً إلى العلمِ بها، أو إلى تأكيدِ العلم بها كما يصحُّ أن تُعلم عقلاً، فلمَ قلتم: هي عَقلية. دون أن تقولوا: هيَ أحكامٌ شرعية. أوتقولوا: هي عَقلية شَرعية لحصولِ العلمِ بها من الطريقين؟ قيل له: أما مَن قال: لا تُعلم أحكامُها هذه بالسمع، وإنما يجب أن تُعلمَ عقلاً، وإنما يردُ السمعُ بتأكيدِ أدلةِ العقلِ. فقد سقطَ عنه هذا الِإلزامُ؛ لأنه يجعلُ معنى هذه الِإضافةِ إلى ما يُعلمُ الحكمُ به، وإن لم يكن سُمع. وإذا لم نقل نحن ذلك، قلنا: إنما وَجه إضافتِها إلى العقلِ دون السمع أمران: أحدُهما: أنها أحكامٌ معلومةٌ بالعقلِ قبل ورودِ السمعِ، ولو لم يَرد السمعُ أصلًا، فكان إضافتُها لذلك إلى العقلِ أولى. والوجهُ الآخرُ: أنها تُعلمُ بالعقلِ لو لم يَردِ السمعُ، ولا يصحُّ أنْ تُعلمَ بالسمعِ لو لم تَثبت بالعقل، فصارت إضافتُها لأجل ذلك إلى العقلَ أولى. فأمّا قولُ المطالِب: فهَلا قُلتم: إنها عَقليةٌ شَرعيةٌ. فإنْ أراد به أنها (21)، لا تُعلم إلَّا بأمرين: العَقل والسمع، أو بكل واحدٍ منهما وإن لم يحصل الاَخر، فذلك باطلٌ، لأنها تُعلم وإن لم يَقترنا، وتُعلم بمجرد العقل لو فُقد السمع، ولا يصحِ أن تُعلم بالسمع لو فُرض عدم العقل. وإن أراد بذلك أنها تُعلم عقلَا، ويَصح أن تعلم سَمعاً أو يؤكد السمعُ الأدلةَ العقليةَ عليها، كانَ ذلك صحيحاً، ولا مُعتبرَ با العباراتِ

- أقسام أفعال المكلف

والِإطلاقات. فصل واعلم أن جَميعَ أفعالِ المكلًفِ الداخلةِ تحتَ التكليف- دون ما يقع منه حالَ الغَلبة وزوالِ التكليف- ينقسم قسمين لا ثالث لهما، ولا واسطة بينهما: أحدهما: ما للمكلّفِ فعله. والآخر: ما ليسَ للمكلًفِ فعله. ولا يجوز أن يقال: إنَ منها ما لا يقال له فعله، ولا ليس له فعله، وذلك معلومٌ بضرورةِ العقلِ، كما يُعلم بأدلتِهِ (¬1)؛ أن المعلومَ لا يخرجُ عن عدمٍ أو وُجودٍ، وأن الموجودَ لا يخرج عن قِدمٍ أو حُدوث. والذي له فعله منها حَسنٌ كله، وهو يَنقسم إلى: مُباحٍ وندبٍ وواجبٍ، وسنذكر حدودَ ذلك وحدودَ غيره مما يحتاج إليه في هذا الكتابَ- إن شاءالله- في فصل مفردٍ جامعٍ لكل ما يحتاج إليه من الحُدود (¬2). والذي ليس له فعلُهُ: هو القَبيح المحرمُ الِإقدامُ عليه. وكل مُكلَف له فِعلُ شيءٍ مما ذكرنا، فلايجوزأن يكون له بحق ¬

_ (¬1) في الأصل: "بأول فيه". (¬2) أنظر الفصل التالي.

الملكِ والاختراعِ وإنشاءِ الأعيانِ، كالذي لله سبحانه من التصرفِ فيها بحق الربوييةِ، واستحقاقِ العِبادة، وإنما يكون للمكلَف الفعلُ على وجهِ ما حده له مالكُ الأعيان، وَأذِن له فيه. ومتى قيل: إن للمكلف وغيرهِ من الخَلق شيئاً من الذوات نحو الأمةِ والعَبد والدارِ والثوب، فإنما معنى ذلك أنه له التصرف فيه، والانتِفاع به بقدَر ما أذِنَ له المالك للأعيان عزَ وجل، وما عدا ذلك ظُلم وعُدوان ومحظورٌ عليه.

الحدود والعقود والحروف التي تدخل في أبواب الكتاب

فصول في جمع الحدودِ والعقودِ والحروفِ التي تَدخلُ في أبوابِ الكتاب، وجميعِ ما يُحتاج إليه من الألفاظِ المتضمنةِ لمعانٍ لا يَستغني عنها مَن أرادَ العِلمَ بأصولِ الفقهِ. فصل حدُ الفقهِ: العِلمُ بالأحكامِ الشرعيةِ. وقيل: معرفةُ الأحكام الشرعيةِ. وأصولُه: ما انْبَنت عليها الأحكامُ الشرعيةُ؛ لأن الأصلَ ما انبنى عليه غيرُه، فأصلُ الفِقهِ: ما انبنى عليه. وقيل: ما تُفرِّعَ عنها أحكامُ الشرع (¬1). فصل وعينُ الأصول: الكتاب والسُنة والِإجْماعُ. فكتاب اللهِ: ما بَين الدفًتين من القُرآن. والأصول منه: النَّص والظاهرُ والعُمومُ والفَحوى والدليلُ والمعنى. والسنة كذلك. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (7 - 9).

- النص

فصل فالنص: ما بَلغ ببيانِه إلى الغايةِ من الكَشف، قال الراجز (¬1): وَجيدٍ كَجِيْدِ الرِّيم لَيْسَ بفاحشٍ ... إذ اهِي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّل يعني: كَشَفَتْه. وقيل: ما عُرف مَعناه من نُطقِه. وقيل: ما استَوى ظاهرُه وباطنُه. وقيل: ما لا يحتمل إلا معنى واحداً (¬2). فصل والظاهر: ما احتمل أمرين، هو في احدهما اظهر (¬3). فصل والعمومُ: ما شَمل شَيئين فَصاعداً شُمولاً واحداً. وقيل: العموم: الاشتراك للكلِّ في الصَيغةِ. والعموم: الاشتمالُ على الكُلِّ، وهو الإِحاطة. وقد قال بعض الفقهاء: ما عَمً شَيئين فَصاعداً. وليسَ بمَرْضي؛ ¬

_ (¬1) لعله أراد: "الشاعر"، فالبيت ليس برجز، وهو البيت الثالث والثلاثون من معلقة امرىء القيس المشهورة والتي أولها: قِفا لبكِ من ذكرى حبيب ومنزل. (¬2) انظر ما تقدم من تعريفاته في الصفحة (33). (¬3) نقدم في الصفحة (33).

- الخصوص

لأن قوله: "عَم"- وعن العموم سئِلَ- ليسَ بتحديدٍ، كمن قيل له: ما السواد؟، فقال: ما سَودَ المحل الذي يَقوم به (¬1). فصل والخصوص: قول نَعني به البعضَ. وقيل: صيغة البَعض. وقيل: إفرادُ البَعضِ بالصيغةِ. وهذه حُدودٌ كلُها على قَول من يقول: للعمومِ صِيغة. فصل فالعموم: صيغةٌ للكُل، والخصوص: صيغة للبعضِ، والِإشارة إلى الدلالة على أن له صيغةٌ بحسْب المكان- إلى أن نَستوفيَه إن شاء الله في مسائل الخلاف- أن نقولَ: لا بُد في كل لغةٍ بمعنى العموم من صيغةٍ مِن قِبل ان حاجةَ أهلِ اللسانِ إلى الدَلالةِ على العُمومَ كحاجتهم إلى الدلالةِ على الخُصوص، فلو جازَ أن لا يكون للعمومَ صيغة، لجاز أن لا يكون للخصوصِ صيغةٌ، ويجيءُ مِنْ هذا ويلزمُ منه أنْ لا يكونَ لشيءٍ صيغةٌ ولا دِلالةٌ، وليس من حيث جاءت لفظةُ العمومِ على مَعنى الخصوص لقرينة، مثل قول القائل: غسلتُ ثيابي. وليسَ من عادة الناس استيعابَ جميع ثيابِهم بالغَسل، حتى يبقوا عراة، يَنبغي أن نجعلَ لفظةَ العموم غيرَ موضوعةٍ، بل الثقة بأنَ قرينةَ الصيغة تخُص، هي التي أغنت عن ذكر التخصيص، وما هو إلا بمثابة قولِ القائل: جاءني إخوتك. وإن كان منهم مَن قد مات، ثِقةً بمعرفةِ ذلك لا مِن جهة اللفظ. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (34).

- التخصيص

فصل والتخصيص: تمييز بَعضِ الجملةِ بحُكم. وقيل: إخراجُ بعضِ ما تَناوله العموم، هذا في الجملة. فصل فأما تَخصيص الصِّيغ العامةِ في الشرعِ، فهي: بَيانُ المراد باللفظ. فصل وليس من شَرط التخصيصِ أنْ يتقدمَهُ عموم، فإنه قد يَقع مُبتدأً، وُيعرفُ أنه تخصيص بالإِضافة إلى جُملة لو تناولها النطق كتناولِ هذا كانَ عُموماً أو تَعميماً، فيقال: خُصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- بقيام الليلِ (¬1)، وخُص الأبُ بالرجوع في الهِبة (¬2)، وخُصَّ الرسولُ- صلى الله عليه وسلم -بالنكاحِ بلفظِ الهِبة (¬3)، وخُصت مكةُ بالحج، فهذه التخصيصات كان مَعناها: المكلفونَ كثرة، وخوطبَ النَبي - صلى الله عليه وسلم - بقيامِ الليل، والناكحون كثرة، وخُص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنكاحِ ¬

_ (¬1) في قوله تعالى في سورة الِإسراء الآية 79: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}، وفي الآيتين الأوليين من سورة المزمل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)}. (¬2) في حديث ابن عمر وابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد من ولده". أخرجه أحمد 2/ 78 وأبو داود (3539)، وابن ماجه (2377)، والترمذي (2133)، والنسائي 6/ 265. (¬3) في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]

بلفظِ الهبةِ، والأقاربُ كثرةٌ وخُص الأبُ بالرجوع في الهِبة، والمساجدُ كثرة، وخصت الكعبةُ بالصلاةِ إليها والحج إليها. فهذا نوع من التخصيصِ غريبٌ يَخرج عن تَخصيصٍ ورد على عموم، كإخراج اهلِ الكتاب بإعطاء الجِزية من آية القَتل (¬1)، وإخراج القاتل عن الإِرث من بين الأقارب والأرحام (¬2) وما شاكلَ ذلك، فذاكً تخصيصُ عمومٍ، وهذا تخصيصٌ ميزَهُ من بين أمثال في المعاني سوى ما مُيِّز به من الفَضل الذي اقتضى التخصيصَ بالحكمِ الذي خُصصَ به. ¬

_ (¬1) وهي الآية التاسعة والعشرون من سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. (¬2) أخرج الِإمام مالك في "الموطأ" 2/ 867، والِإمام أحمد في "المسند" 1/ 49 عن عمرْ بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس للقاتل شيء".

* الكلام وأقسامه

فصل (¬1) في الكلام وهو الحروف والأصوات المنظومة للتفاهمِ عما في النفوسِ من الأغراضِ، فهذا جملة الكلام. فصل وهو علي ثَلاثة أقسام: اسمٌ، وفِعل، وحَرف، لا رابع لها. فالاسم: لفظٌ (¬2) يَدل على مَعنى في نَفسه غير مقترنٍ بزمانٍ، محصلٌ دِلالةَ الإِشارةِ دونَ الإِفادةِ، وفيه سَبعُ لغاتٍ أسْيَرهن واشْهرُهن: كَسر الألف، يقال: اِسْمٌ، واسْمٌ، واُسُمٌ، وَوِسْمٌ، ووُسْمٌ، وسِمٌ، وسمٌ (¬3). فمن قال: اسم- بكسرِ الألف- قال: هو من ذواتِ الياء من سمى يَسْمي، فالأمر فيه: اسْمُ يا هذا. ومن قال بضمِّ الألفِ، قال: هو من ذواتِ الواو، من سَمَى يَسْمو. ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) في الأصل: "كلمة". (¬3) "شرح المفصل" لابن يعيش 1/ 23 - 24.

ومن قال: وِسْم ووُسْم، قلبَ الهَمزة واواً، كما قالوا: إشاح ووِشاح، وأسماء ووَسْماء، وأجوه ووُجوه. ومن قال بحذفِ الألفِ، قال: أصله: سُمْوٌ، فاستُثقلت ضَمّةُ الواو فنُزِعت، وحُذِفت لالتقاءِ الساكنين، فبقي: سُم، قال الشاعر: لِأفضَلِها بَيتاً وأمنعِها حِمى ... وأكرَمِها أهلاً وأحسَنِها سُماً (¬1) ومن قال: سُم، بالضم، نَقل ضمة الواو (¬2) إلى السين، نحو: قُم، قال الشاعر: وعامُنا أَعجَبنا مُقَدَمُهْ ... يُدعى أَبا السمْحِ وقِرْضابٌ سُمُهْ (¬3) ومن قال: سِم. بالكسرِ، جعلَ الكسرَ خَلفاً من ألف الوصل أو الواو الساقطة، كقولهم: فِم، قال الشاعر: [و]، اللهُ أسماكَ سُماً مُباركا ... آثركَ اللهُ به إيثارَكا (¬4) ¬

_ (¬1) ورد البيت مع آخر قبله في: "المقتضب" 1/ 230، و"المنصف" 1/ 60، و"أمالي ابن الشجري" 2/ 66، و"اللسان": (سما)، وروايته فيها: فدع عنك ذكر اللهو واعمد لمدحة ... لخير مَعد كلِّها حيثما انتمى لأعظمها قدراً وأكرمها أباً ... وأحسنها وجهاً وأعلنها سُما (¬2) أي الواو من (وُسْم). (¬3) الرجز في "المنصف" 1/ 60، و "الإنصاف" لابن الأنباري: 16، و"اللسان": (سما)، ويروى بضم السين وكسرها. وبعده: مبتركاً لكل عظم يلحمُه. (¬4) الرجز لأبي خالد القناني، وهو في "ضياء السالك" 1/ 45، و"الِإنصاف": 15، و "اللسان": (سما)، ومحل الاستشهاد فيه، "سماً" بضم السين على وزن =

وتقول في اشتِقاق فِعله: سَمَيْتُه وسَمَوْتُه وأسمَيته وسَمَتُه بالتشديد، قال الشاعر: اللهُ أسماكَ الذي اسماكه واختلفوا في اشتقاقِهِ على وجهين: أحدهما: أنه مُشتق من السموّ، وهو الرِّفعة؛ لأن الاسمَ يَسمو بالمسمى، فيرفعه من غَيره، وهذا قولُ أهلِ البَصرة، فهو مُعتل من لام الفِعل من ذوات الواو أو الياء، والأصل فيه: فَعَل أو فَعِلَ، ويجمع على أسماء، بوزن أفعال، على رد لام الفعل (¬1). وتَصغيرُه: سُمَي، وقال سيبويه عن يوُنسَ (¬2): إنَ أبا عمرو (¬3) كان يقول: إنهم يَقولون في تَصغير اسم وابن: أُسَيم واُبَيْن، كقول الشاعر: تَركُ أُبَيْنيْكَ (¬4) إلى غَيرِ راع (¬5) ¬

_ = (هدى)، ويسقيم استشهاده مع الرجز السابق؛ لأن السين في "سمه" رويت بالضم والكسر. (¬1) "شرح المفصل" 1/ 23. (¬2) يونس بن حبيب، أبو عبد الرحمن الضبي، من أئمة النحويين، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وعنه أخذ سيبويه والكسائي، توفي سنة (183) هـ. "سير أعلام النبلاء" 8/ 171. (¬3) زَبّان بن العلاء بن عمار التميمي المازني، أبو عمرو البصري، شيخ القراء والعربية، توفي سنة (154) هـ. "سير أعلام النبلاء" 6/ 407. (¬4) في الأصل: "تترك أبنيك". (¬5) الرجز في "اللسان": (بنى)، وقبله: "من يك لا ساء فقد ساءني"، وهو منسوب للسفاح بن بكير اليربوعي.

- أوجه وضع الأسماء

وقال آخر: هُم أُبَينى وَهُم شُجوني والثاني: أنه مُشتق من السِّمَةِ، وهي العلامةُ؛ لما في الاسمِ من تمييز المُسمَّى من غيرِهِ، وهذا قول أهل الكوفة. فصل وأمَّا وضعها (¬1)، فعلى أوجهٍ: منها: القابٌ وأَعلام وُضعت في اللغةِ للتمييزِ بين المُسمَّيات، فهذا الوجهُ يقومُ مقامَ الِإشارةِ إلى العَين، وذلك مثلُ: زَيد وعَمرو. [و] منها: ما وضع لإِفادةِ بِنْيةٍ من صورةٍ مخصوصةٍ (¬2)؛ مثل: إنسان وفرس وسَبُع. ومنها: ما وضعَ لإِفادةِ جنسٍ؛ مثل: عِلم وقُدرة وإرادة. ومنها: ما وضعَ لإِفادةِ أمرٍ تعلقَ بالمُسمى؛ مثل أن يولد له فيُسمى أباً، ويولد لأخيه فَيسمى عَمّاً، ويولد لأُخته فيسمى خالًا، ومثل: تحت وفَوق وأمام ووَراء وتِلْقاء، فإذا كان فوق السقف، قيل: مَقر ومُستَقر. وإذا كانَ تحته قيل: ظُلَّة وسقف. ومنها: مايكون مُفيداً لمعنىً، فمنه ما يكون على وجهِ الاشتقاقِ، مثل: مَقتول ومَضْروب، وقاتِل وضارب (¬3). ¬

_ (¬1) يعني الأسماء. (¬2) في "العدة" 1/ 187: "ومنها ما وضع لإِفادة صورة وبنية مخصوصة". (¬3) وردت العبارة في "العدة" 1/ 187، كما يلي: "والاسم المفيد لمعنى يتعلق =

- الأسماء على ضربين: عام وخاص

وقد يتفقُ الاسمانِ في الصورةِ والذَلالةِ، مثل قَولنا: الوَطء بالنكاح ومِلكِ اليمين مُباح. وقد يتَّفقان في الأسماءِ ويختلفانِ بالمعنى؛ مثل: القُرء، تردَّدَ بين الحَيضِ والطُهرِ. وقد يختلفانِ في اللَّفظِ والمعنى؛ مثل قولِنا: الخَمرُ مُحرمةٌ، والخَلُ مُباح. وقد يَختلفانِ في الصورةِ ويَتفقانِ في المعنى، مثل: زَكاة وصدقة (¬1). فصل والأسماءُ على ضَربين: ما هو عام، [ومنه ما هو خاص. فالعامٌ على ضربين: منه ما هو عامٌ ليس فوقه ما هو أعمّ منه. ومنه ما هو عامٌ] بالِإضافةِ إلى ما هو أَخص منه، وإن كان خاصاً بالِإضافةِ إلى ما هو فوقَه. فالعام الذي ليس فوقَه أعم منه [مثل:] معلوم ومذكور، والخاصُ الذي هو عام في نفسِهِ، مثل قولنا: عَرَض، هو عام في جميع الأجناسِ، وهو خاص بالِإضافة إلى قولنا: معلوم ومذكور. ¬

_ = بالمسمى، قد يكون على وجه الاشتقاق، مثل قولنا: مقتول ومضروب، ومنه ما هو مشتق، مثل قولنا: قاتل وضارب،. (¬1) جميع هذه الأوجه أوردها القاضي في "العدة" 1/ 187.

- الأسماء الشرعية

والخاص الذي هو في الحقيقة خاص؛ مثل: أسماء الأعيان (¬1). فصل ولنا أسماء مُشتركة تَقَع على أضداد، مثل: جَوْن؛ فلونٌ يقع على السوادِ والبَياضِ، وقُرء؛ يَقع على الطهرِ والحَيضِ، وشَفق؛ يَقع على الحُمرةِ والبَياضِ، وعَين؛ يقع على الذهب وعَين الماءِ والباصِرةِ، وغير ذلك. ومَولى؛ يَقعُ على الأسفلِ وهو المَنعَمِ عليه بالعِتقِ، والأعلى وهُو المعتِق المُنْعِم، ولا يُصرفُ عند الِإطلاقِ إلى شَيءٍ منها بعَينه لكن بدِلالة (¬2). فصل ولنا أسماءٌ هي في اللغةِ على مَعنىً، وفي الشرعِ على غيرهِ، واختلفوا في نَقلِها، فقال قومٌ: هي مُبقاةٌ مَزيدةٌ شَرعاً. وقال قومٌ: نُقِلت عن أصلِ الوَضع (¬3). وسنذكر ذلك في مسائل الخِلاف إن شاء الله، وذلك مثل الصلاةِ؛ هي في اللغةِ: الدُّعاء، وفي الشرعِ: هذه الأفعالُ والأقوالُ المخصوصةُ. والحج: القَصدُ، وهو في الشرع: هذه المناسكُ المخصوصةُ. والزكاةُ: الزِّيادةُ والنَماءُ، وهي في الَشرعِ: صَدقةٌ مَخصوصةٌ. والصومُ: عبارة عن الإِمساكِ، وهو في الشرعِ: ¬

_ (¬1) هذا الفصل مأخوذ نصَاً من "العدة" 1/ 187 - 188، وما بين المعقوفين استدرك منه. (¬2) انظر " العدة " 1/ 188. (¬3) انظر ما تقدم في الصفحة (35)، وما سيأتي في 2/ 422.

- الفعل

إمساك عن الأكلِ والشربِ والجماعِ بقَصدٍ ونِيَّةٍ في زمنٍ مَخصوصٍ (¬1) فصل واختلف الناس في طَريق وضعِها على مَذاهبَ، ونحن نستوفيها في مسائلِ الخلافِ (¬2) -إن شاء الله-: فقال قوم: إنَ طريقَها الوحيُ والِإلهامُ لآدمَ عَليه السلامُ. وقال قوم: إنها مُواضَعَة (¬3). وقال قوم: بعضها بطريقِ الإِلهام، وبَعضها بالقياسِ، وبَعضُها بالمواضَعة. فصل وأما القسم الثاني من الكلام وهو الفِعل؛ فهو: عبارة عما دَل على زَمانٍ مَحدود. وقالوا في عَلامة الأسماء: ما كانَ عبارة عن شخص، وما حَسُنَ الجرُّ به وعَنه، وعبارة عما يَصحُّ تَصغيره وُيثَنَّى ويثَلث. وقالوا في علامةِ الأفعالِ: ما حَسُن فيه قَد، وسين، والمستقبل، ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 1/ 189. (¬2) انظر 2/ 397 وما بعدها. (¬3) أي: وضعت بمواضعة أهل اللغة ومواطأتهم على ذلك. انظر "العدة" 1/ 190 - 193.

- الحرف

مثل: سَيفعل ولسوفَ يَفعل (¬1). فصل والحرف: ما عُدمت فيه علامات الأسماءِ والأفعالِ، وقيل: هو عبارة عن شَيئينِ احدُهما مَعنىً، والآخر عِبارة. والمعنى: هو طرَف الشيءِ، مثل قولِهم: حرفُ الوادي. والثاني: قول أهل النحو: هو عبارةٌ عما أفادَ مَعنىً في غيرِهِ (¬2). فصل وقد حصر بعض أهلِ العلمِ الكلامَ، فقال: هو: أمر، وفي مَعناه: السؤال والطَّلبُ والدُّعاء والاقتضاء، يقال: سألَه، وطلبَ منه، واقتَضاه، وأَمَرَة بمعنى: استدعى منه بالقولِ فعلاً. والمفَرِّقُ الرُّتبة، وسنذكرها- إن شاء الله- في حدود هذه الأبوابِ الخاصة. قال: والنَهي، وفي مَعناه: الكفُّ والزَّجر والمَنع، يقال: نَهاه، وزَجَره، وكَفَّه عن القَبيح، ومنعه. قال: والخَبر والاستِخبار، ومن هذا القَبيل: القَسَمُ، فإنه خَبر مؤكًدٌ، والجحود خَبرٌ أيضاً بالنفي، وهو الإِنكار. قال: ومنه- أعني من الخبر- الوَعدُ والوَعيدُ، فإنه إخبارٌ عن مَنافع ¬

_ (¬1) "شرح المفصل"2/ 7 - 4. (¬2) المصدر نفسه 8/ 2.

- الأمر

أو مَضار، وسَنستوفي حدودَ ذلك- إن شاء الله- بعد الفراغِ من الجُملة التي قَسمها هذا العالِم من الكلام. قال: والأمثال والتَشبيه، وهما متقاربان. قال: والنَهي، والاستِفهام، ومثله الاستعلام، والنداء، والأسماء (¬1)، وقد قَسمناها (¬2). فصل في تحديدِ ما حَصره من جُملةِ الكَلامِ ونوعِهِ. فأما الأمر؛ فهو: استدعاء الأعلى الفِعلَ بالقولِ ممن هو دونه. ولا يَصح قولنا: ممن هو دونه، إلا بعدَ التصريح بالأعلى لتَعود الهاءُ إليه. وحذَفَ قومٌ ذكرَ الأعلى، وقالوا: ممن هو دونه، إعادة للهاءِ إلى مُقَدرٍ مُضمرٍ، ولا يَجوزُ فىِ الحدودِ إضمارٌ ولا تَقديرٌ (¬3). ولا يُحتاج في الطلب والاقتِضاء إلى ذكرِ الرتبة، وُيحتاج أنْ تُذكر الرتبةُ في السؤالِ بالعَكسِ، فيقال: استدعاء الأدنى الفِعلَ ممن هو فوقه أو أعلى منه. والدُّعاء والنداء لا يَحتاج إلى رُتبةٍ أيضاً، قال الله سبحانه: ¬

_ (¬1) انظر التفصيل في معاني الكلام في "الصاحبي" لابن فارس: 150 - 158. (¬2) تقدم في الصفحة (98) وما بعدها. (¬3) سيورد المؤلف تعريفات أخرى للأمر في أول كلامه على الأوامر في 2/ 450.

- النهي

{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10]، وهو الأعلى، وقال: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء: 10]، وهو الأعلى، وقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، وهو الأدنى، وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ} [الأعراف: 55] {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]،. والاقتِضاءُ نوعٌ من الطَّلَب، ولكنه بطلب القَضاءِ أخص. فصل والنَّهي: استِدعاءُ الأعلى التَّركَ من الدّونِ، أو ممن هو دونه (¬1). ولك أنْ تقولَ في الأمرِ والنهي: استدعاءُ الفعل بالقولِ، أو استدعاءُ التركِ بالقَولِ من الدونِ، وتَستغني عن الأعلى. وإن قلتَ: ممن دونَه. فلا بد من ذكرِ الأعلى في ذكرك الاستدعاء، لتعودَ الهاءُ إلى المذكور في الحَدِّ وهو الأعلى. وليس في قولِكَ: الدون، هَاءُ كنايةٍ تحتاج إلى عودِها إلى مذكورٍ ولا مُضمرٍ، وليس لنا في النهي ما يُوافقه من الأدنى إلّا الرَّغبةُ في التركِ، وهي إلاستِقالةُ، وسُؤالُ تَركِ فعل يسوء، أو يُؤلم، أو يَسوءُ المفعول به أو منه، ولكن لا يصرَّح به في حق اللهِ، فلا يُقال: سألتُ اللهَ أن يتركَ أَلميَ أو إيلاميَ، لكن يقال: سألتُ الله أن يُزيلَ أو يَرفَعَ، وأن يكفِيني، وأن يعصِمَني، وأن يَمنعَ عني. وأما الزَّجرُ والكَف، فلا يَليقُ إلا بالآدميِّ مَع الآدميِّ، أو من اللهِ لغَيرِه أنْ يكونَ زاجراً وكافّاً، ولا يكونُ مَزجوراً كما لا يكون مَنهياً ولا مأموراً، إذ في ذلك استدعاءُ نوعِ عُنف وشِدة، وذلك يكون من الله ¬

_ (¬1) سيورد المؤلف تعريفات أخرى للنهي عند كلامه على المناهي في 3/ 230.

- الخبر

بالعَبدِ، ولا يليق بالله من جِهة العبدِ، فيقال: زَجر الله الخلقَ ونَهاهم. ولا يُقال: زَجروه ولا نَهوه. فصل وأما الخبرُ؛ فهو في طَبعِهِ وجَوهرهِ ونعتِهِ: ما احتَمل الصدقَ والكَذبَ (¬1). ولسنا نريدُ به: مِن طريقٍ تَحقَّقَ الكذبُ فيه، فإنَّ خبر الله لا يَحتملُ الكذبَ، وهو خبر، لكن نُريد به -على ما ذكره شيخنا أبو القاسم بن بَرْهان- ما حَسن أن يُقال فيه من طريق اللغة: صدقتَ أو كذبتَ. فكل كلمةٍ حَسُن في اللُّغة أن يُقال في جَوابها: صدقتَ أو كذبتَ؛ فهي خَبر. فكلمةُ الكفرِ والتَثنيةِ والتَّثليثِ لا يَحسن في الشَرعِ ولا العَقلِ أنْ يُقال في جَوابها: صدقت، وكلمة التوحيد لا يَحسن في الشرع ولا العقل -على قَول من يَجعله مُحَسّناً (¬2) - أن نقول (¬3): كذبت. لَكن من طريق اللغة لا يَقبح، كما أنّا نقول: إن كلمة الكفرِ حَقيقة وليست حقاً، ومَن رمى، فعَمَدَ إصابة شيء، فأصابه، يُقال: أصابَ؛ منَ الِإصابةِ في طَريقةِ أهلِ الرَّمْي، ولا يُقالُ ذلك على سَبيل الصوابِ شَرعاً، كذلك: صَدقت، في باب التَثنية، وكذبت، في باب التوحيد، تحسن لُغة، ويكون وجه حُسنها أنها كلمة مَوضوعة موضعَ الوضعِ ¬

_ (¬1) "الصاحبي": 150. (¬2) يعني المعتزلة، وقد تقدم بيان المؤلف لذلك في الصفحة (26). (¬3) أي: "في جوابها".

- القسم

اللغوي، لكنَّ الخطأ والقُبحَ فيها من طَريق الشرع أو العَقل، أو هما، كما أنَّ قولَ القائل لرامي الشيء: أصابَ، فيَ حُكمِ الرماية، وإن كان مُخطئاً ومُقيماً أَو مُبطلًا من حَيث الشريعة. فصل والقَسَم من هذا القَبيل؛ لأنه خَبرٌ مُؤكَدٌ بالحَلفِ بالمُحترم (¬1) فإن (¬2) قولَ المُنكرِ: ليسَ عَليَّ شَيءٌ مما ادَّعاه، يكونُ مُخبراً بِنَفي الاستحقاق، فإذا قال: واللهِ ما يستحق على، كانَ مؤكِّداً لخَبَرِه بقَسَمه. والقَسَمُ والحَلِفُ خَبرٌ مُؤكَّد بالاسم المُحترم نفياً في القَسَم على الإِنكار، وإثباتاً أيضاً إذا حلف لإثباتِ الدَّم في القَسَامة (¬3)، أو اليمين مع الشاهدِ في المال، أو اللًّعان من الزوج لإِثبات زِنى الزوجةِ، وتصديقِ نفسِه في القَذْفِ. فصل والوَعدُ والعِدَةُ خَبرٌ أيضاً، وحَدُّه: إخبارٌ بمنافعَ لاحقةٍ بالمُخْبَرِ من ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالمحسن من"، وما أثبتناه يؤيده قول المؤلف الأتي: "والقسم والحلف خبر مؤكد بالاسم المحترم". (¬2) في الأصل: "وان". (¬3) القسامة- بالفتح-: كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفراً على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه قتيلاً بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين، أقسم الموجودون خمسين يميناً، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، وإن حلف المدَّعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير 4/ 62.

- الوعد والعدة والوعيد

جهة المُخْبِر في المستقبل، ووعد الله بالثوابِ لمن أطاعَه داخلٌ تحتَ هذا الحَد. قال أهل اللغة: الوَعدُ في الخير، والوعيد في الشرِّ، يقول، أهل اللغة في الخير: وعَدْته، وفي الشر: اوعَدْته وتَواعَدْته. فصل والوعيد في الأصل: هو إخبارٌ بمَضار محضة لاحقةٍ بالمُخبر من جهة المخبِرِ في المستقبل، ويدخل تحته وعيدُ الله للفسَّاق والكفار على مخالفته وارتكابِ نواهِيه. والتَّشبيه: إلحاق الشيءِ بنظيرهِ في الصُّورةِ أو المعنى أو هما، وبذلك يَتَبين قوة شعرِ الشاعر، وفقهِ الفقيه؛ لأن رأسَ مال الشعراء التَشبية الذي لا تنْتِجه إلا القريحة الصافية، وليس من الغَزَلِ الذي يحرِّكة العِشْق، والمدْح الذي يحرَكة فيه الإِعطاء والرِّزْق، ولا الهَجْوِ الذي يثيرُه الحسد والعدَاوة ومجازاة المسيء، ولا النَّدْب والمَراثي الذي يَهيجه الخزْن بفَقد الحميمِ، فلم يَبْقَ للتشبيهِ سوى القًريحةِ الصافيةِ، والوزنِ الصائبِ، والاطلاع على حقيقة المِثْلين والمشتبِهَيْن، وعليه يدوز القياس حيث، كان جمَعاً بين مشتبِهَيْنِ. فصل والتمني: تَطَلبٌ في النفس لمستبعَدٍ حصوله. والتَّرجي: تَطلُّب مايتوقَع أو يقرب في النفس حصولُه تقرببباً إلى

- الاستفهام

خصيصتها فصل والاستفهام: طلبُ الفَهْمِ، والاستعلام: طلب العلم. والأسماء قد سبق الكلام فيها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الصفحة (99) وما بعدها.

* فصول في بيان حروف المعاني

فصول بيان حروف المعاني اعلم- وفقك الله- أن الحرفَ واقعٌ على الطَرَف والشَفِير، كطَرَف الوادي، وحرف الإِجابة (¬1) والرَّغيف، وطَرَفُ كلِّ شيءٍ: حرفُه، ويقع على الحرفِ المكتوب من حروف المعْجَمِ، ويَقع في اللغة على الكلمةِ التامَّةِ، وعلى الكلمة غيرِ التامةِ، يقولون: ما فهمت هذا الحرفَ من كلامكم، وما أخطأ فلانٌ أو ما أصابَ في حرفٍ من كَلامه، يريدون: في كلمةٍ منه، وعندي أن هذا تَجوزٌ في الكلام، أو تَنبيه على العِلَّةِ بالحرف في الخطأ والصواب، وقد يُعبَّرُ بالحرفِ عن قراءةٍ، وطريقةٍ في القراءةِ، كقولهم: يقرأ بحرفِ أبي عمرو. فأما الحرف اللُّغوي الذي يتكلم أهلُ العربيةِ على معانِيه وأحكامه؛ فهو اللفظ المتَّصل بالأسماءِ والأفعالِ وكلِّ جُملة من القَول، والداخلُ عليها لتغيير معانِيها وفوائدِها، مثل: "من"، و"إلى"، و"بَعد"، و"حتى"، و"ما". نذكرُ جملةً منه: ¬

_ (¬1) الإجانة: إناء تغسل فيه الثياب، "اللسان": (أجن) و (ركن).

- معنى "من"

فصل في معنى"مَن" اعلم أنَ حرف "مَن" له ثلاثةُ مواضع: فتجيءُ للخبرِ، والجزاءِ، والا ستفهام. فأما مجيئُها للخبر، فنحو قولك: جاءَني مَن أحبَبْت، ورأيتُ مَن أعجبني. وأما مجيئها للشرط والجزاء، نحو قولك: مَن جاءني أكرمتُه، ومَنِ انقطعَ عنِّي عاقَبْتُه. وأما مجيئها للاستفهام، فنحو قولك: مَن عِندَك؟ ومَن كَلمك؟ ومَن تَزَوًج إليك؟ ولا يَحسُن في تفسير: جاءَني من أحببت: فَرسٌ أو بعيرٌ، ولا في جواب الاستفهام بمن عندك؟: عندي حمارٌ أوثورٌ؛ لأن "من" لما يعقل. فصل في معنى "أيُّ" اعْلَم أنهأ في أصْلِ وَضْعِها للفَصْلِ، وأن لها ثلاثةَ مواضعَ: تجيءُ للخبر، والشَرْط والجزاءِ، والاستفهام. فأما مجيئُها للخبر، نحو قولك: لأضْرِبَنَّ أيهم قامَ، ولأوَبخَنَ أيَ القومَ دخل الدار. وأما الاستفهام، نحو قولك: أيَ الناسِ رأيتَ؟ وأيهم كلمْتَ؟

- معنى "من"

وأما مجيئها للشرط والجزاء: نحو قولك: أيهم ضربْتَ اضرِبْ، وأيهم هجرتَ أهجرْ، وأيَّهم كلمْتَ اكلِّمْ. فصل في حرف "مِن " بكسر الميم وهي حرفٌ له ثلاثةُ مواضعَ: أَحدها: أنها لابتداءِ الغاية، تقول: سرتُ من الكوفةِ إلى البصرة. وهذا أصلُها على ما ذكره القومُ، وهي نَقِيضةُ "إلى"؛ لأن "إلى" تجيءُ لانتهاءِ الغايةِ، و"مِن" تجيءُ لابتدائِها. وقد تدخلُ في الكلام للتَبْعِيضِ، وتكون صلةً في الكلام وزيادةً. فأما كونُها لابتداءِ الغاية، نَحْو قولهم: جئتُ مِن الحجاز إلى العراقِ، وهذا الكتابُ مِن زيدٍ إلى عمرو، يَعْنونَ: ابتداءَ مجيئِه وصدورِه من زيدٍ، وانتهاءَهُ إلى عمرٍو. وأما مجيئُها للتَبعِيضِ، فنحو قولك: أخذتُ من مالِ فلانٍ، واستفدتُ من عِلْمِه، وأكلت مِن طعامِه. وأما كونُها صِلَةً زائدةً، فنحوُ قولك: ما جاءَني مِنْ احدٍ، وما بالربْعَ من أحدٍ (¬1). ¬

_ (¬1) زاد ابن هشام على ما ذكره المؤلف من معانيها: البدل، والظرفية، والتعليل، وبيان الجنس. "أوضح المسالك": 352 - 354.

- معنى "ما"

فصل في حرف "ما" وقد تدخلُ في الكلام للنَفْيِ والجَحْدِ، نحوُ قولِه: ما لَهُ عندِي حَقٌّ، ولا لَهً قِبَلي دَيْنٌ، وما أحْسَنَ زيدٌ -على وجهِ النفي لإِحْسانِه- وما قامَ عمرو، ونحوً ذلك. وقد تدخلُ في الكلام للتَّعَجُّبِ، نحوُ قولك: ما أحْسَنَ زيداً! وما أجْمَلَ عَمْراً! على وجهِ التعجب من حُسْنِ زيدٍ وجمالِ عمرٍو. وقال بعضُهم: تدخل الاستفهام، (نحو) (¬1): ما في الكِيسِ؟، والاستبهام: [نحو] (1): {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، في الكيس ما فيه، إبْهاماً على السائلِ لا إفهاماً له، كما تُجيبه بالِإفْهام، فتقولُ: فيه دراهمُ. وقال بعضُ أهلِ اللُّغةِ: إنها خاصةٌ لما لا يَعقِلُ (¬2)، وقال آخرون: بل هي لما يَعقِلً وما لا يَعقِلُ، وإنه قد يكون جوابُها بذِكْرِ ما يعقلُ وما لا يعقلُ، بحيثً إذا قيل له: ما عندك؟ صَلَحَ أن يقولَ: رَجلٌ، وأن يقول: فَرَسٌ، قال الله تعالى {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ...} , الآيات: [الشمس: 5 - 6] ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وزدناها للتوضيح. (¬2) "أوضح المسالك": 78 - 79.

- معنى "أم"

فصل في معنى "أم" اعْلَمْ أن لها موضعَيْنِ، احدهما: الاستفهام، نحو قولك: سَكتَ زيدٌ أمْ نطقَ؟ وقامَ أَم (¬1) قعدَ؟ وقد تكون للاستبهام، تقول: زيدٌ عندك أم عمرو، فكأنك قُلتَ: ايها عندك؟ وهذا زيدٌ أم اخوهُ؟ وقد تكونُ "أم" بمعنى (أو)، إذا ارِيدَ بهما الاستفهام، إذا قلتَ: أزيدً عندك أم عمرٌو؟، فهو كقولك: أزيدٌ عندك أو عمرٌو (¬2)؟. فصل في معنى "إلى" هي موضوعةٌ لانتهاءِ الغايةِ، نحو قولك: ركبتُ إلى زيدٍ، وجئتُ إلى عمرو، وكُل الطعامَ إلى آخِرهِ، وتكونُ في هذا الموضعِ بمعنى "حتى"، التي هي للغايةِ، وإن اريدَ به دخولُ الغايةِ في الكلام، فبدليل يوجبُ ذلك غَيْرِ "إلى"، نحوُ قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وأريد به: مَعَ المرافقِ (¬3)، بدليلٍ غيرِ الحَرْفِ (¬4)؛ ولذلك لم ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو". (¬2) "الصاحبي" لأحمد بن فارس اللغوي: 97 - 98. (¬3) وهو قول جمهور العلماء، وخالف في ذلك زفر وابن داود وبعض أصحاب مالك، فجعلوا "الى" لانتهاء الغاية، فلا يدخل المذكور بعدها. "المغني" 1/ 172 - 173. (¬4) وهو حديث جابر رضي الله عنه قال: كان النبي ي إذا توضأ، أدار الماء إلى مرفقيه. رواه الدارقطني في "السنن" 1/ 83.

- معنى الواو

يُوجِبْ قولُه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، دخولَ الليلِ مع النهارِ. فصل في معنى "الواو" اعلم بأن الواوَ حرفٌ موضوعٌ للجمع والنَسَقِ، والتًشْريكِ بين المذكورين، نحو قولك: ضربتُ زيداً وعمراً، وأكرمتُ خالداً وبَكْراً. وقد تَرِد بمعنى "أو" بدِلالَةٍ، كقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، أي: أو ثُلاثَ أو رُباعَ. وقد ذكر قومٌ من الفقهاء (¬1) أنها موضوعةٌ للتَرْتيبِ والتَعْقيب، بمَنْزِلَةِ "ثُم" و"الفاء"، ولا يُمْكِنُ دعوى ذلك، لكن وَرَدَتْ في مواضَعَ قامت الدَلالَةُ على أن فيها ترتيباً، فأما أن تكونَ الواوُ أوْجَبَتِ الترتيبَ فيها، فلا، وكيفَ يمكنُ دعوى ذلك، وقد قالَ أهلُ اللغةِ: رأيتُ زيداً وعمراً معاً، ولم يَستَجِيزُوا: رأيتُ زيداً ثم عمراً معاً، ولا استجازُوا قولَ القائل: رأيتُ زيداً فعمراً معاً؟ ومما يُوَضحُ ذلك أنه لم يأتِ في اللغةِ: اقْتَتَلَ زيدٌ ثم عمرٌو، ولا اقتتلَ زيدٌ فعمرو، لما كان الاقْتتالُ من افعالِ الاشْتِراكِ التي لا يكون الفِعلُ فيها إلا من اثنينِ، وقالوا: اقتتل زيدٌ وعمرٌو، واختصمَ خالدٌ وبكرٌ، فلو كانتِ الواوُ تُوجِبُ الترتيبَ، لما حَسُنَ ذلك فيها كما لم يَحْسُنْ في "ثم" و"الفاء". ¬

_ (¬1) نسب الجويني ذلك إلى الشافعية. انظر "البرهان" 1/ 181.

- معنى "الفاء"

والدَّلالةُ على أن "اقتتل" و"اختصم" للشركةِ، أنه لو قال قائل: اقتتل زيدٌ ثم عمرٌو، لَحَسنَ أن يُقالَ: اقتتلَ زيدٌ مع مَنْ؛ ثم عمرٌو مع من؟ كلّ ذلك لأن الشركة مقتضى قول القائل: اقتتل، سنذكرُ ذلك شافياً في مسائلِ الخِلافِ من الكتاب -إن شاء الله-، وإنما لم يَصِحَ دخولها في الأفعال المشْتَرَكةِ؟ لأنهَ لو قال قائل: اختَصمم زيد وعمرو، وكان ذلك يفِيد ترتيباً، لكان قد سبقَ الفعل من أحد المخْتَصِمَيْنِ قبل حصوله من الآخر، وذلك محالٌ؛ لأن المشَتركَ لا ينفرد به الواحد، فلا جَرَمَ لا يَسْبِق به الواحدُ، وإذا لم يَسْبِق، فلا ترتيبَ (¬1). فصل في الكلام في معنى "الفاء" وهي حرف إذا كان للنَّسقِ والعطفِ، اقتضى إيجابَ الترف:، بغير مهلةٍ ولاتراخٍ ولا فَصْلٍ، فهي منفصلةٌ عن الواوبإيجابِ العطفَ بنوع ترتيبٍ، ومنفصلة عن "ثم" و "بعد" بكونها لا فَصل توجِبُ، ولامهْلةً ولا تَراخِي، بل توجبُ التعقيبَ في الترتيبِ. فإذأ قلتَ: ضربت زيداً فعمراً، أردتَ ترتيبَ ضرب عَمرٍو على ضرب زيد (¬2)، لكنْ عَقِيبَه بلا فصلٍ. وكذلك دخلتِ الفاءُ للشرطِ والجزاءِ، لأنه اَدْخَل لتعجيل الجزاءِ، ¬

_ (¬1) "شرح المفصل " 8/ 90 - 94. (¬2) في الأصل: "أردت ترتيب ضرب زيد على ضرب عمرو".

- معنى "ثم"

وإنما جُعِلَ الجزاءُ معجلًا، لأنه إن كان مجازاةً على إساءةٍ، كان أرْدَعَ عنها، وإن كانَ على حَسَنَةٍ، كان التعجيلُ أدعى إليها، فقالوا: لا تَسوني فأسوءَك. وقد تكونُ جوابَ جملةٍ من الكلام، نحْوَ قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وإذا دخلتَ مكةَ، فطُفْ بالبيتِ. وقد تكون جوابَ الأمرِ، نحْوَ قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]،وليس هو في هذه المواضعِ للتعقيب. فصل في معنى"ثُم" وهي مُوجِبَةٌ للترتيب، لكنْ بمهلةٍ وفصلٍ، فإذا قال: اضرب زيداً ثم عمراً، أرادَ به الترتيبَ بنوع فصلٍ متأخرٍ، لا بتعقيب. وقد تَرِدُ بمعنى الواو، قال الله سبحانه: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، بمعنى: واللهُ شهيدٌ على فعلِهم حالَ فعلهم، لا مُرَتَباً على فعلِهمِ، ويحتملُ أن تكونَ على أصلِها للتَّراخي بكون شهودِ الباري متراخياً عن وفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه (¬1) {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، لا عن أفعالهم، فإنه قال: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنه".

- معنى "بعد"

شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ}، والباري لا يشهدُ فعلَهم قبل فعلِهم نَظراً، بل عِلْماً (¬1). فصل في القول في معنى "بَعْدَ" وهي حرفٌ يفيدُ الترتيبَ، ولايفيدُه على مهلةٍ، بل يَصْلُحُ ما بعدها أن يكونَ بمهلةٍ وغيرِ مهلة، فتَقول: جاءَني زيدٌ بعدَ. عمرٍو بيومٍ، وتقول: بلَحْظَةٍ، وعَقِيبَهُ (¬2). فصل القول في معنى "حتى" ولها ثلاثةُ مواضعَ، وأصلها في اللغة للغايةِ، وهي حرفٌ جارٌّ، تقول: أكلتُ السمكةَ حتى رَأْسِها، وضَربتُ القومَ حتى زَيدٍ، مَعناه: حتى انتهيتُ إلى رأسِها، وإلى زيدٍ. وقد تكون بمعنى الواو (¬3)، إذا قلتَ: كلَّمْتُ القومَ حتي زيداً كلمتُه (¬4)، تريدُ به: كلمتُه. والثالثة: حتى رأسُها، فيكونُ معناهُ الابتداءُ: حتى رأسُها أكلْتُه. ¬

_ (¬1) "الصاحبي": 119 - 120. (¬2) "الصاحبي": 118. (¬3) واشترط البصريون لذلك أن يكون الثاني من الأول. انظر "الصاحبي": 122. (¬4) كذا في الأصل، ولعلها زائدة.

- معنى "متى"

فصل القول في معنى "متى" ومتى ظرفُ زمانٍ وسؤالٌ عنه، تقول: متى قامَ زيدٌ؟ ومتى قامتِ الحربُ؟ أو متى تقومُ؟ والجواب عنه: غَداً، أو تقول: قامَ، أو قامَتْ أمسِ. [وتكونُ للجزاء، كقول الشاعر:] (¬1) مَتى تَأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوءِ نارِهِ ... تَجِدْ خَيرَ نارٍ عِنْدَها خَيرُ مُوقِدِ (¬2) فصل في معنى "أين" اعلم أن "أين" سؤالٌ عن المكانِ، وهي عندهم ظرفُ مكانٍ، وجوابُها يَقَعُ به، فإذا قلتَ: أينَ زيدٌ؟ أو أين أبوك؟ كان جوابه: في المسجدِ، أو السَّوقِ (¬3). فصل القول في معنى "حيث" وهي حرفٌ للمكانِ أيضاً، فهي ظرفٌ من ظروفِ المكان، كأينَ، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين ليس في الأصل. (¬2) البيت. للحطيئة جرول بن أوس بن مالك، من قصيدة طويلة يمدح بها بغيض ابن عامر بن شماس التميمي، وهي في "ديوانه": 161، و"شرح المفصل" 7/ 45. (¬3) وتكون شرطا لمكان نحو: "أين لقيت زيدا فكلمه " بمعنى: في أي مكان "الصاحبي": 114.

- معنى "إذ" و"إذا"

تقول: حيثُ وجدتَ زيداً فأكرِمْهُ، وحيثُ صَلَحَ مِنَ البلادِ فاسكَنْهُ. فصل في معنى "إذ" و"إذا" واعلم أنهما ظرفانِ للزمان، تقول: جاءَ زيدٌ إذْ طلَعَ الفجرُ، وجاء المطرُ إذْ غَربَتِ الشمس، وتقول: إذا جاءَ زيدٌ فأكرِمْه، وإذا قَدِمَ الحاجُّ فأنْزِلْهم (¬1). ¬

_ (¬1) "الصاحبي": 110 - 113.

* بيان حروف الصفات التي يقوم بعضها مقام بعض، ويبدل بعضها ببعض

فصل في بيان حروف الصِّفاتِ التي يقومُ بعضُها مَقامَ بعضٍ، ويُبْدَلُ بعضُها ببعضٍ. من ذلك قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، بدلأ من: على جُذوعِ النخل. وقوله في الباء: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، بمعنى: فاسأل عنه خبيراً. واللام بمعنى "على": {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات: 2]، يعني: عليه بالقول، وقوله: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52]، بمعنى: عليهم اللَعْنَةُ. و"إلى" بدلاً من "مع": {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي: مَعَ أموالِكم، {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]، أي: مَعَ الله، هذا قولُ أكثرِ العلماء، ووجدتُ عن علي بن عيسى الرُّمَّاني (¬1) أنها على حقيقتِها؛ فإنَ معنى قولِه: مَن ¬

_ (¬1) علي بن عيسى بن علي، أبو الحسن الرمانى من كبار النحاة، له كتاب "شرح أصول ابن السراج" و"شرح سيبويه"، توفي ببغداد سنة (384) هـ. "سير أعلام النبلاء"16/ 533.

أنْصاري في الجهادِ في اللهِ صابراً إلى أن يصلَ إلى ثواب الله؟ وأقامَ اسمَ الله مَقامَ ثوابه سبحانه (¬1)، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} الأكل ها هنا: الأخذ، تقول العرب: ما لي لا يُؤكَل: لا يؤخَذ، فكأنه يقول: لا تَشوبوا بالأخذِ أموالَهم إلى اموالكم. وقد جاء في أشعار العَرب ذلك، قال الشاعر: فإنْ تَسْأَلوني بِالنَساء فإنني ... عَليمٌ بأدواءِ النساءِ طَبيب (¬2) والمراد بالنساء: عن النساءِ، فأقامَ الباءَ مَقامَ "عن". وقد جاء في كلامِهم حيث قالو: سَقَطَ فلانٌ لِفِيه، أي: على فِيه. وقال الشاعر: فخَر صَريعاً لِلْيَديْنِ ولِلفَمِ (¬3) والمرادُ به: على اليَدَيْنِ وعلى الفَمَ. ¬

_ (¬1) "الصاحبي": 104، وتفسير الطبري 3/ 284. (¬2) البيت لِعَلقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس، المعروف بعلقمة الفحل، شاعر جاهلي. انظر "الشعر والشعراء" 1/ 218، و "البيان والتبيين" 3/ 329. (¬3) عجز بيت نسب إلى عدة شعراء، فقد نسب إلى ربيعة بن مكدم، وروايته: فهتكت بالرمح الطويل إهابه ... فهوى صريعاً لليدين وللفم ونسب إلى عكبر بن حديد: "ضممت إليه بالسنان قميصه ... "، كما نسب إلى جابر بن حيى التغلبي، وصدره: "تناوله بالرمح ثم انثنى له .. ". "المغني" لابن هشام: 781، "شرح اختيارات المفضل": 955، "الأمالي" 2/ 272.

وقالت العرب في معنى "إلى" مكانَ "مع ": الذَّوْدُ (¬1) إلى الذَوْدِ إبل، أي: مَعَ الذَّوْد. وقد وُضِعَتِ اللامُ موضعَ "إلى"، قال سبحانه: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]، يعني: إليها. وقد ابدِلَت "على" ب "مِنْ "، قال سبحانه: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا (¬2) عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2]، يعني: مِنَ الناسِ، {الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} [المائدة: 107]، أي: استحقَّ مِنْهم. و"مِنْ" قَد تَردُ مكان الباء، قال سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، مكان: بأمرِ الله، وكذلك قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]، أي: بكلِّ أمر. وقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28]، يعني: منها، و: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]، يعني: يَشرب منها عبادُ الله، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]، أي: انْزِلَ من (¬3) علمِ اللهِ. {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الأنبياء: 77]، أي: على القوم (¬4). ¬

_ (¬1) الذود: ما بين الثنْتين إلى التسع من الِإبل. "اللسان": (ذود). (¬2) في الأصل: "كالوا"، وهو خطأ. (¬3) في الأصل: "في"، وهو خطأ؛ لأن التمثيل هنا لِإقامة الباء مقام "من". (¬4) التمثيل هنا لِإقامة "من" مقام "على".

{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]، أي: من عبادِه (¬1). و"على" بمعنى "عند"، قال سبحانه: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14]، أي: عندي (¬2). ¬

_ (¬1) التمثيل هنا لِإقامة "عن" مقام "من". (¬2) نقل المؤلف هذا الفصل من "العدة" لشيخه أبي يعلى 1/ 208 - 212.

* فصل في الوجوب

فصل في الوجوب (¬1) وأصلُه في اللًّغةِ: السقوطُ، يُقالُ: وَجَبَ الحائِطُ، إذا سَقَطَ (¬2). وهو معنى قوله سبحانه: {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، وقولِهم: وَجَبَت الشمسُ. وهو في الشرع: عبارة عن الإِلْزام واللًّزُومِ، فالإِلزامُ: إيجابٌ، واللًّزوم: وجوبٌ، واللَّازِم (¬3): واجبٌ، وقَيل: ما في تَرْكِه عِقاث، وهذا رَسْمٌ، وهو على معناه في اللًّغة، لأنه إذا لزمه، فقد سَقَطَ عليه سقوطاً لا يُمْكِنُه الخروجُ عنه ولا الانْفِكاكُ مِنه (¬4)، وقيل: ما وجَبَ اللوْمُ والذَّمُّ على تركه من حيثُ هو تَرْكٌ له، وهذا حَدُّ القاضي أبي بكر (¬5) ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم من تعريف المؤلف للواجب في الصفحة: (29). (¬2) في الأصل: "مكان" بدل: "إذا سقط"، وهو خطأ. (¬3) في الأصل:"والكلام". (¬4) في الأصل:"فيه". (¬5) نسبه إليه الرازي في "المحصول" 1/ 1/117. والقاضي أبو بكر: هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر ابن الباقلاني -نسبه إلى بيع الباقلاء- الأصولي المتكلم صاحب التصانيف، توفي سنة 403 هـ. "سير أعلام النبلاء" 17/ 190.

* الفرض

فصل والفَرْضُ: غيرُ الواجبِ، وهو أمرٌ زائدٌ على الواجبِ على مذهبِ أصحابِنا، وكثيرٍ من أهل العراق. وقال قومٌ: هو الواجبُ، وإنما هما اسمان لمعنىً واحدٍ، مثلُ قولِنا: نَدْبٌ ومُسْتَحَبٌّ، ولازم، وفرض. وهو عند من أثْبَتَهُ غَيْراً للواجب ثابتٌ بأعلى دليلٍ، وله أعلى منازلِ الوجوب، وهو ماثَبَتَ بنصِّ قُرآنٍ، أو خَبَرِ تَواتُرٍ، أو إجماعٍ. وإذا تأملَ المجتهدُ آيَ الكتاب، وَجَدَ أن الفرضَ بمعنى الواجب، قال سبحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197]، {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]، يعني: أوْجَبْتم، {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38]، أي: أوجبَ، وفَرَضَ الحاكمُ، أي: أوجبَ (¬1). وسنذكر ذلك في مسائل الخلاف (¬2) -إن شاء الله-. فصل والفَرْضُ: مأخوذٌ من التَأثِيرِ، ومنه سُمَيَتْ فُرْضَةُ النَهر، وحَزَةُ الوَتَر من القَوْسِ، فله مَزِيةُ اسمٍ على الواجب؛ لأنه مزيدٌ بالأثَرِ على السُّقوطِ. ¬

_ (¬1) ذكر القاضي أبو يعلى مسالة الفرق بين الفرض والواجب بإسهاب في "العدة" 2/ 376، 384. (¬2) انظر 3/ 163.

* الندب

وعن أحمدَ روايتان: هل هو اسمٌ للواجب في الجُمْلَةِ، أم لواجبٍ ثَبَتَ بدليلٍ قَطْعِي (¬1)؟ على روايتين، وسنذكَرُ ذلك في الخلافِ من الكتاب (¬2) -إن شاء الله-. فصل والنَّدْبُ: حَث بترغيبٍ لا بترهيبٍ. وقيل: اقتضاءٌ من الأعلى للأدنى بالفعل على وجهٍ يُقابَلُ فاعلُه بالثواب على فعلِه، ولا يُقابَلُ بالعقاب على تركهِ، وهذا وأمثاله رُسُومٌ وتعريفاَتٌ لا أنَه تحديد بشروطِ الحَدَ. وقيل: استدعاءُ الأعلى للفعلِ ممن هو دونَهُ على وَجْهِ التَخييرِ بين الفعلَ والتركِ. وقيل: المندوبُ: ما في فعلِه ثوابٌ، وليس في تركهِ عِقابٌ. وهذهِ التعاريفُ كُلُّها لو عُدِمَتْ، لَمَا زالَ معنى النَدْب، فهي دلائلُ، وهو في نفسِهِ على مقتضى اللغة: الدُعاءُ؛ ولذلك قالَ شاعرهم: لايَسْألونَ أخاهُم حين يَنْدُبُهُم ... للنَائِباتِ على ما قَالَ بُرْهَانا (¬3) ويقولُ القائلُ منهم: نَدبتُ فُلاناً لكذا؛ إذا دعاهُ له. وصار في الشَرْع اسماً لدعاءٍ إلى عَمَلٍ مخصوصٍ، وهو الطَاعةُ ¬

_ (¬1) ذكر المؤلف أنه عبارة عما ثبت (يجابه بنص أو دليل قطع. انظر الصفحة (30). (¬2) في الجزء الأخير من الكتاب. (¬3) تقدم في الصفحة (30).

* فصل في الحقيقة

للهِ، وما تُعُبِّدَ بهِ المُكَلَّفُ. والندْبَةُ: دُعاء المَيتِ بتَفَجعٍ، ولذلك جُعِلَ في آخرِه الهاءُ لِإخراجِ كآبَةِ الحُزْنِ من قَعْرِ الصَدْرِ، والهاءُ من حروفِ الصدرِ، فالأصلُ في الندب: الدعاءُ (¬1). وقال بعضهم: المندوب: كلّ فعلٍ وقعَ عَقِيبَ استدعائِهِ بالقولِ بأدنى مراتِبِ الاستدعاءِ من الأعلى للأدنى. فصل في الحقيقة الحقيقةُ: القولُ الدالُّ بصيغةِ اللَّفظِ، وقيل: هو القولُ الذي يدلُّ بأصلِ الوَضْع، ومثال ذلك: الحمارُ، قولٌ يدلُّ على النَّهَّاقِ، والفَرس؛ قولٌ يدلُّ على الصَّهَّالِ، والإِنسان، يُذكَر على النَّاطِقِ بأصلِ الوضعِ وصيغةِ اللفظ، فإن قيل للبَلِيدِ من الناس: حمار، لَمْ يدلَّ بصيغةِ اللفظِ، ولا بأصلِ الوضعِ، لكن بالاستعارةِ لدَلالةِ حالٍ، فشارك الأصلَ بنوْعِ شركةٍ، وهي البَلادةُ. فصل والمجازُ: القولُ الذي يدل بتقدير الأصلِ دونَ تحقيقهِ، ومثال ذلك: سل القريةَ، هذا مجازٌ؛ لأنه يدلّ بتقديرِ الأصلِ، وهو قولك: سلْ أهلَ القريةِ. ¬

_ (¬1) تقدم تعريف المؤلف للندب في الصفحة (30).

- الفصل بين الحقيقة والمجاز

فصل ولكلِّ مجازٍ حقيقةٌ، فذكرُ الأصل في هذا القولِ هو الحقيقةُ، والمجاز كلُه يُعَبرُ عن أصلِه، وأصلُه هو حقيقتُه، ومن الكلام المعبرِ عن أصلِه ما لا يَحْسُنُ أن يُقالَ: إنه مجاز؛ لأنه كَثُرَ فظهًر معناه، كظهورِهِ بالأصلِ، وذلك مثلُ قولِنا في اللهِ سبحانه: إنه العَدْلُ، لا يقالُ: إنه ليس عدلاً في الحقيقةِ؛ إذ قد صارَ يدل بصيغةِ اللَّفظِ، وإن كان ذلك على جهةِ الفَرْعِ، وإنما الأصلُ أنَّ اللهَ تعالى العادلُ، والعَدْلُ مَصدَرٌ وليس بوصفٍ. فصل في الفصلِ بين الحقيقةِ والمَجازِ اعلم أنَ المجازَ إنما يظهرُ معناهُ برَدِّهِ إلى أصلِه، والحقيقةُ ليست كذلك، بل معناها ظاهر في لفظِها من غيرِ رَدِّها إلى غَيْرهِا (¬1). فصل ولا يخلو استعمالُ المجازِ من أن يكونَ للبلاغةِ، أو للتَّوَسُعِ في العبارةِ، أو لتقريب الدَلالةِ، فلذلك عُدِلَ عن التحقيقِ إلى المجازِ، وإنما قيل للقولَ: حقيقة؛ لأنه دُلَّ به على المعنى على التحقيقِ بجَعْلِ كلَ حقيقةٍ في موضعِهاوعلى حَقَها (¬2). ¬

_ (¬1) توسع الشيرازي في ذكر العلامات التي تعرف بها الحقيقة من المجاز. انظر "شرح اللمع" 1/ 122 - 124. (¬2) المصدر نفسه 1/ 116 - 117.

* الصدق والكذب

فصل في الصِّدْقِ الذي هو أحدُ مُحْتَمَلَي الخبرِ. هو الخبرُ عن الشيءِ على ما هو به، وهو نَقِيضُ الكَذِبِ. والكَذِبُ: هو الخبرُ عن الشيءِ على خِلافِ ما هو به. وأصلُ الصِّدق: القُوًّةُ والصَّلابةُ، وقيل: هو في أصلِ اللغةِ: ثَباتُ الشيءِ، ومنه قولُهم: صادقُ الحَمْلَةِ، إذا حَمَلَ في الحَرْب، ولم يَرْجِعْ، ومنه قولهم: رُمْح صَدْق، إذا كان صُلْباً. وصَداقُ المرأةِ: ما ثبتَ عليه العَقْدُ، وإنما خص به عِوَض النكاحِ دونَ البَيْعِ وغيرِهِ لقُوّةِ عِوَضِ النكاحِ وثبوتِه: إما تَسْمِيَةً، وإما حُكْماً مع السكوتِ عنه، وعندَ قومٍ مع الرضَى بإسقاطِه. والصَديق: هو الثابتُ المَوَدَّةِ. والصَدْق: الِإخبار عما ثبتَ مُخبَره. والصَدَقَةُ: تُثَبتُ المالَ وتحفظُه، كما أن الزَكاة تنَفَيهِ وتُرَيعُه. فصل والكَذِبُ مُختَلَفٌ في قُبْحِه، هل هو لِنفسِه أم بِحَسَبِ المكان (¬1)؟ فقال الأكثرونَ: قَبِيح بحَسَب مراسِمِ الشَرْع، ولهذا حَسُنَ عند العلماءِ حيثُ أجازَه الشرعُ لإِصَلاح ذاتِ البَيْنَ (¬2)، وللزوجةِ في ¬

_ (¬1) انظر في ذلك "المسودة": 233. (¬2) وذلك فيما روي عن أم كلثوم بنت عقبة -رضي اللُه عنها- أنها قالت: =

مكانٍ (¬1)، وحَسنَهُ بل أوجبَه إذا سئلَ عن أبيه أو نَبيهِ لَيًقْتَلَ، فكذَبَ دفعاً عن أبيهِ ونَبيِّهِ القتلَ بالكذبِ، فإنه يُثابُ وَيحْسُنُ- كذبه، فبَطَلَ أن يكونَ لنفسِه. فصل ومهما أمْكَنَ بسَعَةِ العلمِ التَعريضُ، ففي المعَاريضِ مَنْدوحَةٌ عن الكذِبِ (¬2)، فلا يَحل الكذب مهما اتسعَ عِلْمُه لمعاريضِ الكَلِمِ. ¬

_ = سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً"، رواه البخاري (2692) في الصلح، ومسلم (2605) في البر والصلة، وأبو داود (4921) في الأدب، والترمذي (1939) في البر والصلة. (¬1) فيما رواه الترمذي (1940) في البر والصلة من حديث أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها-، فيه: "الكذب كله على ابن آدم إلا في ثلاث خصال: رجل كذب امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب، فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما"، وهو عند أحمد في "المسند" 6/ 454 (¬2) روى البخاري في "الأدب المفرد": 305 من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله قال: صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة، فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعراً، وقال: إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب. وله شاهد من حديث عمر بن الخطاب عند الطبري في "تهذيب الآثار" 1/ 121، والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 199، وذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" 10/ 594، ونسبه للطبراني في "الكبير" وقال: رجاله ثقات. والمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء، قال ابن حجر: الأولى أن يقال: كلام له وجهان، يطلق أحدهما والمراد لازمه. انظر ما تقدم في الصفحة (82).

* المحال

وقد تَعاطَى قومٌ وقالُوا: هو قَبيحٌ وإن دفعَ به قتلَ أبيهِ ونَبيِّه، وإن اصلَحَ (¬1) به، لكنَه دفعَ به ما هو اقَبحُ منه، وهذا بعيدٌ، لأنه تَعَطَى أن يُقالَ: أكلُ الميتة حالَ الضًرورَةِ حَرامٌ، لكن يُدْفَعُ بها ما هو أشد حَظْراً منها، وهو قتلُ النَّفْسِ بتركِ الأكلِ. فصل والمُحالُ أبعدُ من الكذب، فإن الكذبَ: الخَبَرُ عن الشيءِ على [خلافِ] (¬2) ما هو به مَعَ جوَازِ أن يكونَ على ما هو به، مثل قولِ القائلِ: زيدٌ في الدارِ وليس فيها، والمُحالُ قولُه: زيدٌ في الدَّارِ وفي السوقِ الآنَ، فهذا محال لأنه خبرٌ بما يخالِفُ خَبَرُهُ مخْبَرَهُ، وبما لا يُمْكِنُ أن يكونَ على ما أخْبَرَ به. فصل في الِإباحَةِ والِإباحَةُ (¬3): مُجَرَّدُ الِإذْنِ، ولذلك سُمَّيَ الآذِنُ في أكل طعامهِ: مبيحاً. وقيل: إطلاقٌ في الفِعْلِ. وقيل: ما لا عقابَ على تاركِه، ولا ثوابَ لفاعِلِه، وقيل: ما لا لائمةَ على فاعِله. ¬

_ (¬1) في الأصل "صلح"، وما أثبتناه هو المناسب. (¬2) ليست في الأصل، ولا بد من زيادتها ليستقيم المعنى. (¬3) انظر ما تقدم في الصفحة (28).

* الحظر

ورُتْبَةُ المبيحِ تخصّصُه، فيقالُ: اذِنَ المتخصصُ بالشيءِ لغيرِ المتخصِّصَ به. فصل والحَظْر (¬1) في الأصل: المَنْعُ، مأخوذٌ من الحَظِيرَةِ، والمُحْتَظِر: الجاعلُ العَوْسَجَ حول إبلِه أو رَحْلِه، وما حظره الشرعُ: هو ما منعَهُ، وحَظْرُ الشرعِ: مَنْعُه، وكل محظورٍ ممنوع، وهو نَقيضُ الإِباحةِ؛ لأنها إطلاقٌ وإذنٌ، وهذا منع وكفٌّ. فصل والطَّاعةُ: الموافقة للأمرِ على مذهب أهل السنَّةِ، والموافقةُ للِإرادَةِ على مذهبِ المُعْتَزِلَةِ (¬2). وهي على ضَربَيْنِ: فريضةٌ، ونافلة: فالفريضةُ: ما استُحِقَّ على تَرْكِها الوَعِيدُ والذمُّ ما لم تُتَلافَى بالتوبةِ والقضاءِ والعَزْم على الأداءِ عندَ العَجْزِ، وأخْصَرُ من هذا أن نقول: ما لم يَحْصُلِ اَلتلافِي. فصل فأما النافلةُ فأصلُها في اللغه: الزيادةُ، ومنه سُمِّيَ النَفَل: ما زيدَ على سَهْمِ الفارس والرَّاجِلِ (¬3). وقوله: ({نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]: زيادةً في عملِك. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (28). (¬2) كما صرح به القاضي في "العدة" 1/ 163. (¬3) "اللسان": (نفل).

* المعصية

وهي في الشرعِ: ما في فعلِه ثوابٌ، ولا يلامُ تارِكُه، وقيل: ما رُغبَ فيه مما لا يَقْبحُ تركُه. فصل والطاعةُ والانقيادُ والاتَباعُ نظائرُ، فإنها: الاستجابةُ بسهولةٍ، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]،، انفعلنا بسهولةٍ غيرَ مُعْتاصِين (¬1) ولا بمعالجةٍ، نظيرَ قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، فمِن ها هنا جاءَتْ استعارةُ قولِه: (طَائِعِينَ) هو، وإن كَانتا مفعولَيْنِ غيرَ مكَلَّفَتَيْنِ، لكنْ كان تَأتَيهما وتكوُنُهما في السرعةِ والتَأتَي كفعلِ الطائع من المكلفين المنقادِ لأمرِ الله سبحانه. والطاعة بالأمرِ أَخَص، تقول: أمرَه فأطاعَه، وسألَه فاستجابَ له، ولا يقالُ: أطاعَه في حق الأعلى للأدنى. فصل والمعصيةُ: نقيضُ الطاعةِ، وهي الاباءُ عن فعلِ المأمورِ به. وقيل: مخالفةُ الأمرِ على مذهب أهل السُّنَةِ، وعلى مذهب المعتزِلةِ: مخالفة الإِرادةِ (¬2). وتَصريفُ ذلك: الطاعة، والمطاوعةُ، والانْطِياعُ، والطَوْعُ، والطَواعِيَةُ، ومنه الاستطاعة؛ وهي ما تنطاعُ به الأفعال، ومنه التَطوُع؛ ¬

_ (¬1) في الأصل:"معتاص" وما أثبتناه هو المناسب للسياق، والمعتاص: كل متشدد عليك فيما تريده منه."اللسان": (عوص). (¬2) "العدة" 1/ 163.

* الإذن

وهو ما يفعلُه الإنسانُ من غيرِ حَمْلٍ عليهِ ولا إلْزامٍ. فصل وهل يُسمَى النَظَرُ والتأمُلُ في دَلائِلِ العِبَرِ طاعةً؟ قال قومٌ: يَصِحُّ أن يقالَ: طاعةٌ. وهذا لا يَصِحُّ؛ لأن الطاعةَ إنما هي موافقةُ الأمرِ، وما دام في طُرُقِ النَظَرِ، وطالباً مُعْتَرِفاً (¬1)، فليس بعارِفٍ، فلا يصحُ منه الطاعةُ، ولا التقربُ إلى من لا يَعْرِفُ، وهو في حالِ النظرِ لم يعرفْ بَعْدُ من يُطِيعُه، ولا من يأمرُه قَبْلَ الطاعةِ، وهذا عندي فيه تفصيل: فالنظرُ الأوَلُ على هذا، فأما النظرُ الثاني والثالث فيما بَعْدَ العِرْفانِ، فيَصِحُ الأمرُ به حيث ثَبَتَ الأَمْرُ. فصل في الِإذن والِإذنُ: هو الِإطلاقُ في الفعلَ. قال العلماءُ: وأصلُه في الاشتقاقِ من الأذُنِ، كأنه التوسعةُ في الفِعْلِ بالقولِ الذي يُسمَعُ بالأذُنِ، ومنه الأذانُ: إنما هو الدعاءُ إلى الصلاةِ الذي يُسمَعُ بالأذُن. والعربُ تقول: آذَنَني، بمعنى: أعْلَمَني، كأنه يقول: أسمَعَنِي ¬

_ (¬1) أي: سائلَاَ، يقال: اعترف القومَ: سألهم، وقيل: سألهم عن خبر ليعرفه. "اللسان": (عرف).

* الحفظ

بأَذُني، أو سَمِعْتُه بأُذُني، ولا سَمْعَ إلا بالأذنِ. ومنه قولهم: المأذون، وله أحكامٌ في، الفقه. ونظيرُ إلِإذنِ: الِإباحةُ. فصل في الحفظ والحِفْظُ: هو العَقْلُ (¬1) الذي يُمْكِنُ معه التَأْدِيَةُ. وهو في الحقيقةِ: الذِّكر الذي يُمْكِنُ معه الحِكايَةُ (¬2). فصل في الفَهْمِ والفَهْمُ (¬3): العلمُ بمعنى القولِ عند سماعِه، ولذلك لا يُوصَفُ به الله تعالى، لأنه لم يَزَلْ عالماً به، وقد يُفْهَمُ الخطأً كما يفهمُ الصوابُ، ويفهمُ الكَذِبُ كما يُفهمُ الصدْقُ، ألا ترى أنه يُفهمُ قولُ الدَهْرِيِّ (¬4): الأجسامُ قديمةٌ، كما يُفهمُ قولُ الموَحِّدِ: إن الأجسامَ مُحدَثَةٌ، وكذلك يفهمُ كُلُّ باطلٍ، ولولا فهمه، لما عُلِمَ أنه باطلٌ. ¬

_ (¬1) كتبت في الأصل: "العقد"، والصحيح ما: أثبتناه. (¬2) في "التعريفات ": 79: "ضبط الصور المدركة". (¬3) انظر ما تقدم من تعريف المؤلف للفقه في الصفحة (7 - 8). (¬4) نسبة إلى الدهرية، وهم القائلون ببقاء الدهر وقدمه، وتناسخ الأرواح، وإنكار الثواب والعقاب. "الملل والنحل " 3/ 2.

* فصل في العقد

فصل في العَقْدِ هو في أصلِ اللغة عبارةٌ عن: ارتباطِ طرفينِ أحدهما بالآخرِ، ومنه: عَقْدُ ما بين طَرَفَي الحَبْلِ، أو عَقْدُ ما بين حَبْلَيْنِ (¬1). وهو في الفقهِ: عبارةٌ عن ارتباطِ عَهْدَيْنِ وعِدَتَيْنِ فيما وقعَ العهد به بين متعاهدَيْنِ أو متعاقدَيْنِ-وهما المتلافظانِ- بما قَصداه من صِلَهٍ ما بين شخصينِ بنكاحٍ، أو بَيْعٍ، أو شَركَةٍ، أو إجارةٍ. فالإِيجاب: قولُ الباذلِ، والقَبول: قول القابل (¬2)، والقَبُولُ (¬3) عِنوانُ الرضى، واللزومُ حكمُ ما تأكَدَ منها، والجوازُ حَكم ما تُرِكَ (¬4) منها. فصل واللزومُ: وصفٌ للعقد، وهو عِبارة عن وقوعِه على وجه لا يُمكن لواحدٍ (¬5) منهما الخروجُ عنه، ولا فَسْخُه، وذلك كعقدِ النَكاحِ، والبيعِ المُطْلَقِ بعد التَفَرقِ، والإِجارةِ، والخُلْعِ. ¬

_ (¬1) "اللسان": (عقد). (¬2) في الأصل: "القائل". (¬3) في الأصل: "القول"، ولعل ما أثبتناه هو المناسب. (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "رك". (¬5) في الأصل: "واحد".

فصل والجوازُ: وَصفٌ في العَقْدِ، وهو ان، يقعَ على وجهٍ لكل واحد منهما الخروجُ عن حكمِه؛ كالشَرِكةِ والمضَارَبةِ، والوَكالَةِ في أصل الوَضْعِ، والبيعِ مع خيارِ الشَّرْطِ، والكِتابةِ في جانب العَبْدِ. والوصفانِ لُطْفانِ من اللهِ سبحانه للتخليصِ من الإِضْرارِ والضرَرِ. فصل وقد يقعُ العَقْدُ بوصفِ اللُّزُوم، فيَعْتَرِضُ سببُ الجوازِ للتخلُّصِ؛ كالعثورِ على عَيْبِ (¬1) في المبِيع والَمَنْكُوحَةِ (¬2)، فيملِكُ المستضِرُّ بالعيب فسخَ العقدِ. وقد يَعْتَرِضُ اللزومُ بَعدَ الجوازِ (¬3) بانقضاء مُدةِ الاستدراكِ في خِيارِ الثلاثِ (¬4)، والتفرُّقِ عن المَجْلِسِ، أو بحصولِ الرضى بإسقاطِ حَقِّ الاستدراكِ، وهو التصريحُ بالإِلزامِ. فصل ويدخلُ في ذلك عقدُ الذَمَّةِ والهُدْنَةَ بين أُمةٍ وأُمةٍ أو نائِبيهما، وهو على ما ذكرنا من الحدً والشروطِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "نعت". (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "المنكوكة". (¬3) في الأصل: "الجواب". (¬4) وذلك في البيع مع خيار الشرط.

فصل ومن جُمْلَةِ ذلك عَقْدٌ بينَ العبدِ وبين اللهِ سبحانه، وهو النَّذْرُ، فالوفاءُ به لازمٌ، إما بوجودِ الشرطِ، إن كان مشروطاً بأمرٍ قد يحصلُ، أو كان مُطْلَقاً، فيلْزَمُ بإطلاقِ العقدِ. فصل ومن جملةِ ذلك عقدُ الِإحرام، والصلاةِ، والصِّيامِ، وذلك يَلْزَمُ الوفاءُ به بالشروعِ فيه (¬1)، وهو كالَنَّذْرِ عند قومٍ، وهو جائزٌ كالعقودِ الجائزةِ عند قومٍ. فصل ولنا من جملةِ هذا عقدٌ يُعرفُ بعقدِ الباب، وعقدِ المذْهَبِ، وحَدُّه: أنه الأصلُ الذي يَنْبَني عليه الخبرُ، وهو عَلى ثلاثةِ أضْرُبٍ: كُلِّي، وشَرْطي، وما كان عليه عِلَّةٌ، ولكل واحدٍ مثالٌ من أصولِ الذَين والفِقْهِ. فأما من أصولِ الدين، فمثلُ قولِك: كلُّ مُتَغَيِّرٍ أو مُنْفَعِلٍ فَمُحدَثٌ، وكقولك: كلُّ كبيرةٍ موجبةٌ لفِسْقِ فاعِلها، وكقولِك: كلُّ صغيرةٍ مفعولةٍ مع عَدَم اجتناب الكبيرة فغيرُ مُكَفَّرَةٍ، وكلُّ فعلٍ حَسَنٍ لا يَتقدَّمُه أو يصاحِبُه إَيمانٌ فَمُحْبَطٌ، فهذا مثالُ الضَّرْبِ الأوَّلِ من ¬

_ (¬1) الكلام هنا في النفل من الصلاة والصيام، وليس في الفرض، بخلاف الحج والعمرة. وانظر تفصيل المسالة في "المسودة": 60، و "شرح مختصر الروضة" 1/ 354، وشرح الكوكب المتير 1/ 407 - 411.

أصولَ الدِّين. ومثالُه من الفقهِ أن نقولَ: عقد الباب، من مذهبنا أنَ كل مُسْكرٍ حرام، وكل مُسَوغٍ الاجتهادُ فيهِ لا يفسق معتَقِدُه، وَلا فاعِله المعتقِدُ إباحتَه، أو المستفتي في فعلِه مَنْ يعتقِدُ إباحتَه. ومثال الثاني: وهو الشَرطِيُّ من العقودِ من جهةِ الأصول: إذا كان الله سبحانَه شَرَطَ أن لا يعذَبَ حتى يبعثَ، الرسلَ لنفي الحُجةِ حينَ قالَ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، كان مِنْ مقتضى شرطِه سبحانَه أن لا يعَذَبَ الأطفالَ والمجانينَ، إذ لا رِسالَة إليهم، ولا خِطابَ لهم، وقد صَرحَ به في آيةٍ أخرى: {أن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 - 173] فما شرَطَهُ الباري لئلاَّ يقالَ: لايفعله، ولا يجوزُ أن يفعلَه، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] يَقطع حجةَ المتعلقينَ في التكاليفِ بالَأقدارِ؛ لأنَ اللهَ سبحانَه إذا تَرَكَ عن نفسِه حجَّةً بعد الرسلِ لايَبْقَى ما يكون حجَّةً عليه، ولاحجةَ لمكلفٍ بعد الرسلِ، كذلك لا تَبِعَةَ على صَبِيٍّ ومجنونٍ مع عَدَمِ الرسالةِ إليه. ومثاله من عقودِ الباب في المذاهب، الفقهيةِ: إذا كان التحريم للجَمْعِ بينَ الأختَيْنِ في عقَدِ النَكاح هوا ممَّا يَتجدد من قَطِيعَةِ الرَّحمِ بالتغايرِ على الفِراشِ، وجبَ أن يَحرُم الجمع بين الأختينِ في الوطِء بملْكِ اليمين، لِما يورِث من قطيعةِ الرحمِ، وإذا كان تحريمُ الخمرِ، لِمَا يَعْقب من العداوةِ والبغضاءِ والصَّدَ عن ذكرِ الله، وعن الصلاةِ،

وكان ذلك موجوداً في السكْرِ من النَبِيذِ، وجبَ تحريمُ النَبيذِ. ومثال الثالث من الأصول (¬1)، وهو التَعْلِيليُّ، كقولِك: إنما لم يُعاقِب اللهُ من لم تَبْلُغْه الدعوةُ؛ لأنه لم يَتَجِهْ نحوه خِطاب على أصل أهل اَلسنة، مع كونِهم ذَوِي عقولٍ تنهاهُم عن عبادةِ الصُوَرِ والحجارةِ المُشكَلَةِ، لعلةٍ هي عدمُ البلاغ بدليلِ قوله: {مَ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، أوجبَ هذا التعليلُ من طريق الأوْلى أن لا يُعاقَبَ أطفالُ المشركينَ لما ثَبَتَ من أنهم غيرُ سامِعِينَ للخِطابِ، ولا تَوَجهَ نحوَهم، ولا معهم عقولى تمنعُهم. ومثال الثالثِ من أصولِ الفقهِ: إنما حُرِمَ القاتلُ الِإرثَ عقوبةً له حيثُ اتُهِم في تَعجلِ حَقَه، فيجبُ على من عللَ بذلك أن لايَحْرِمَ الطفلَ، والمعروفَ بالجنونِ بقتلِهما نَسِيبَهما وموروثَهما؛ لأنه لا قَصْدَ له، فيَسْتَحِق العقوبةَ بفعلِه. فصل ويجبُ على من عَقَدَ عقداً أن لا يُناقِضَ فيه، ويحرُسَ ذلك الأصلَ من المناقضةِ كما يحرُسُ العِلَلَ، ومتى انخَرمَ خرجَ أن يكونَ عقداً. ¬

_ (¬1) يعني: من أصول الدين.

* النفي والإثبات

فصل في النَّفْيِ والنفيُ: هو الخبرُ الذي يدل على أنَّ المُخْبَرَ به ليس بشيءٍ، أو ليس بموجودٍ، وكلُّ خبرٍ فلا يخلو أن يكون نَفْياً، أو إثْباتاً، أو إبْهاماً، فالنفي ما قَدَّمْنا، والإِثباتُ نقيضُه، وهو الخبرُ الذي يدل على أن المخبرَ به موجود، أو أن المخبرَ به شيءٌ، وأما الإِبهامُ: فهو الخبرُ الذي لا يدلُّ على وجودِ المخبرِ به ولاعدمِه. والمثْبَتُ: هو المخبر بوجودِه، أو بكونِه شيئاً. والمَنْفى: هو المخبر بِعَدَمِه، أو بكونِه ليس بشيءٍ. فعلى هذا: من أثْبَتَ الحَرَكَةَ [فقد أخبر بوجودِه]، (¬1)، ومن نفاها، قد أخبرَ بعدمِها (¬2)، ومن أخبرَ بتحريمِ النَبيذِ، أو إيجاب الشُّفْعَةِ بالجوارِ، فقد أخبر بوجودِ الحُكْمَيْنِ؛ أعني: تحريمَ النبيذ، ووجودَ إيجابِ انتزاعِ العَقَارِ بالجِوارِ. والدَّلالةُ على أن النفيَ يتعفَق بالعدَم قولهم: الضِّدانِ يتنافيانِ، والإِثباتُ نَقيضُ النفي، كما أن الوجودَ نقيض العَدَمِ. والدلالة على أن الإِثباتَ في الصَفةِ متعلق بالمصدرِ قولُهم: ذَمَمْتُه لأنه ظالمٌ، ومدحتُه لأنه مُومِنٌ أو مُحْسِن، والتعلقُ في ذلك كُله في الذَمَ بالظُلْمِ، وفي المَدْحِ بالإِيمانِ والإِحسانِ، وفي العِقابِ بالكُفْرِ، ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يستقيم بها المعنى. (¬2) في الأصل: "بنفيها".

وفي الثَواب بالإِيمانِ، فاعتُبرَ ابداً الشيءُ الذي لَهُ ومن أجلِه كان المخبرُ عنهَ على الصَفةِ، فإن كانَ معنىً غيرُ المخبَرِ عنهُ، فالذمُ متعلقٌ به، وكذلك الحمدُ، وعليه قِياسُ الإِثباتِ والنَفيِ، وإن كان ليس بمعنىً غيرِ المخبَرِ عنه في الحقيقةِ، كقولك: لأنه موجودٌ، ولأنه باقٍ، إذ ليس يفيدُ تقديرَ معانٍ، فكل ذلك متعلق بالمخبَرِ عنه. فصل وقد يُثْبَتُ الشيءُ من وجهٍ، وُينْفَى من وجهٍ آخَرَ، كمايُعلمُ من وَجهٍ، ويجهلُ من وجهٍ آخَرَ، ذلك كقولِك: السعَفَة مُتَحركةٌ. فهذا إثبات للحركةِ، ثمِ تقولُ: ولم يحرِّكْها مُحرك. فهذا نفى للحركةِ، لأنه لو لم يحركْها مُحرَكٌ كانت حركَتُها معدومةً لا مَحالةَ، فقد دل على أن المخبَرَ به في القولِ الأول موجود، ودل في الثاني على أن المخبرَ به معدوم، وهذانِ الخبرانِ متناقضانِ، إلا أن تناقضَهما لمَا كان لا يُعرفُ إلا من طريقِ الاستدلالِ، جازَ أن يجمَعَ بينهما مَنْ لم يستدل فيعلمَ أنهما يتناقضانِ. فصل ولنا سَلْبٌ، وبينَهُ وبينَ النَفْيِ فَرْق: وهو أن النفيَ دَلالة على عَدَم المخبرِ به، والسلْب دلالةٌ على أن المخبَرَ به على نَقيضِ الصَفَةِ بالإِنكارِ، موجوداً كان المخبَرُ به أو معدوماً. مثالُ ذلك من الأصولِ، قولُك: ليسَ جوْهَرُ الجمادِ مثلَ جَوْهَرِ الحيوانِ، فهذا هو السلْبُ، وليس بالنَفيِ؛ لأنه لم يدل على عدمٍ، وإنما دل على أن المُخبَرَ به على نقيضِ الصَفةِ، فقلتَ: ليس مثلَه،

* الصواب

وهذه صفةٌ لا تَختص بالوجودِ دونَ العدم، ولا بالعدم دون الوجودِ، وإنما تدلُّ على النقيضِ في القولِ والفعَلِ (¬1) بطريق الإِنكارِ. والفرقُ بين الإِيجاب والِإثباتِ: أن الإِثباتَ دَلالةٌ على أن المخبَرَ به موجودٌ، والإِيجاب دً لالةٌ على أن المخبَرَ به على صفةٍ بطريقِ الِإقرارِ (¬2)، وليس يدلُّ على وجودِ المخبرِ به ولا عَدمِه لا مَحالَةَ؛ لأنه قد يكونُ إيهاماً وغيرَ إيهامٍ. فصل في الصَّوابِ وهو العدولُ إلى الحقِّ، ويكونُ في القولِ والفعلِ، كما أن الحُسْنَ يكونُ في القولِ والفعلِ، وكذلك الحق في القولِ والفعلِ، والصوابُ لا يكونُ إلا حَسناً. فأمَّا الإِصابةُ، فقد تكونُ حَسَنةً، وتكونُ قبيحةً على ما قَررْنا (¬3) في رَمْيِ الكافرِ المسلمَ، ورمي المسلمِ الكافرَ، أو رميِ الابنِ أباه، إصابتُه له قبيحةٌ، وإصابةُ المسَلمِ للكافرِ حَسَنَةٌ، وجميعاً إصابةٌ، فهذا في الفعل. فأما في الاجتهادِ والبحْثِ، فلو بَحَثَ إنسانٌ عن شيِءٍ فوجدَه وكان ذلك الشيءُ بدْعَةً وضَرَراً لغيرِه، كان عِصْياناً، ولم يَمْنعْ عصيانُه أن يكونَ وجودُه لَذلك إصابةً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "العقل". (¬2) في الأصل: "الإفراد". (¬3) انظر الصفحة (105).

* الخطأ

قال بعض الأصوليِّين: وقد يكونُ صوابٌ أصوبَ من صوابِ، كما يكونُ صلاح أصلحَ من صلاحٍ، وطاعةٌ أفضلَ من طاعةٍ، قال عَلي بن عيسى في كتابِه: وهذا يجوزُ على طريقِ المبالغةِ، كما يقالُ: فلانٌ أصدقُ من فلانٍ، أو أصدق العالمينَ. فصل في الخطأ والخطأ: نقيض الصواب؛ وهو الدَّفعُ عن الحقِّ، وهو الذهابُ عن الحقِّ، وهو الضلالُ عن الحَقِّ. فصل في الضَّرُورَةِ والضرُورَةُ: هي الفعل الذي لا يُمْكِنُ التخلصُ منه. والمُضْطرُّ: هو المفعولُ به ما لا يمكنه التخلصُ منه. والضَرُورَةُ والاضْطِرارُ واحدٌ، وهما غيرُ الِإلْجاءِ وخلافُه؛ وذلك أن الإِلجاءَ: أن يُحمَلَ على أن يَفعَلَ، والضَّرورَة: أن يُفْعَل فيه شيءٌ لا يمكنه الانصراف عنه. واشتقاقُ الضرورةِ من الضُرِّ، والضرُّ: ما فيه ألمٌ، وقد يُقال: اضْطَرة إلى أن يفعلَ، كما يقال: ألْجَاهُ إلى أن يَفعلَ، غيرَ أن الأظهرَ في الاضْطِرارِ أنه خِلافُ الاكتساب، ألا ترى أنه يقالُ: أباضْطِرارٍ عرفتَ هذا، أم باكتسابٍ؟ ولا يَقع الَإِلجاءُ هذا الموقعَ، وإذا تقاربتِ

* الضد والنقيض

المعاني تداخلت الألفاظُ، فوقعَ بعضُها مَوقعَ بعضٍ، ونابَ بعضُها عن بعضٍ. وأكثرُ ما تستعملُ الضرورةُ في العلمِ، وهي في الفعل كلِّه تَصِح، فكَوْنُ الإِنسانِ ضرورة، وشَهْوتُه ضرورةٌ، وخَواطِرُه ضرورةٌ وأكثرُ أحوالِه ضرورةٌ؛ لأن أكثرَ أحوالِه ما يُفعل فيه، وأقلُّها ما يَفْعَلُ ويَكْتَسِبُ كحركتِه، وسكونِه، وجمعِهِ، وتفريقِه، وإرادتِه، وكراهتِه، واعتقادِه، وندمِه، وإصْرارِه، وما يَجْرِي هذا المَجْرَى، فاكتسابٌ كلُه. وكأنَ الأصلَ في الضرورةِ أن يُفعلَ في الشيءِ ما يَضُرة، ولا يَتهَيأ له الانصرافُ عنه، ثم كَثُرَ حتى صارَ في كلِّ ما يُفعلُ فيه مما لا يَتهيأ له الانصرافُ عنه، ضَرَّهُ أو نَفَعَهُ، وقد يضْطَرُّ الِإنسانُ نَفسَهُ إلى أمرٍ، كالذي يُلقي نفسَه من سطحٍ، فيَضْطَر نفسَهُ إلى الهُبوطِ. فصل في الضِّدَّ وهو: المنافي للنَّقيض مع المنافاةِ لِمَا نافاهُ، وشرح ذلك: أنَّ المنافاةَ قد تكونُ بين الشيئَيْنِ، ولا مُضادَّةَ بينهما، كالإِرادةِ تنافي الموتَ، ولا تُنافِي ما نافَى الموتَ من الحياةِ والمعرفةِ وغيرِ ذلك، وإنما قيلَ: مُنافاة، ولم يُقَلْ: مُضادَّة؛ لأن المضادَّةَ نهايةُ المُبايَنَةِ، والمنافاةُ إنما يُرادُ بها الدَّلالةُ على أنه لا يَصِحُّ وجودُهما معاً. وأما النقيضُ فهو أعمُّ من الضد، فكلُّ ضدَّ نَقيضٌ وليسَ كُلُّ نقيضٍ ضداً، إذِ الصِّدقُ نقيضُ الكذبِ، وليس بضدٍّ، وكذلك المتحركُ نقيضُ الساكنِ، وليس بضا، وكذلك المنافاةُ أعمُّ من

المضادَّةِ، والنَقيضانِ قد يجتمعانِ في الوجودِ (¬1)، ولا يَصِح أن يجتمِعَ الضدانِ في الوجود، وذلك كقولك: زَيدٌ متحرِّكٌ، ليس زيدٌ متحرِّكاَ، فهذان القولانِ نقيضانِ، وقد اجتمعا في الوجودِ، والضدان يتعاقبانِ في الوجودِ. وعندي أن ذلك لأنَّ الضدَّيْنِ لا يقومُ كل واحدٍ منهما إلا بمَحَل، ولا يتبيينُ التضاد إلا بالمَحَل الواحدِ، ولا اجتماعَ للحَرَكةِ والسَكونِ، ولا للبياضِ والسَّوادِ في محلٍّ واحدٍ، والنَقيضُ (¬2) في اللفظ الواحد لا يَجتمع مع النقيض، وإنما قولُ القائلِ: زيدٌ متحركٌ [ليس]، (¬3) متحركاً، نقيضانِ، لكنْ في زمانَيْنِ، والنطقُ لم يَجْمَعْهما (¬4)، وإنما يَعْقُبُ أحدُهما الاَخَرَ، وإنما الذي بَقِي من المُفارَقَةِ أن القولَيْنِ نقيضانِ، وجُمِعَا لزيدٍ جَمْعاً لا يُجْمَعُ مثلُه في الضِّدَّيْنِ، فقيلَ: زيدٌ متحركٌ، ليس زيدٌ متحرِّكاً، والضدانِ لا يجتمعانِ وجوداً في المحلِّ. ¬

_ (¬1) كلام المؤلف هنا ليس على إطلاقه، وهو خلاف المعروف من أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وربما يتضح بقوله بعد قليل: "وإنما قول القائل: زيد متحرك، ليس متحركاً، نقيضان، لكن في زمانين، والنطق لم يجمعهما، وإنما يعقب أحدهما الآخر .. ". (¬2) كتبت في الأصل: "والنقيضان" ولعل ما كتبناه هو المتناسب مع السياق. (¬3) زيادة على الأصل يقتضيها النص. (¬4) في الأصل:" يجمعها"، وما قدرناه أنسب.

فصل واعلم أن لنا ما يُضادُ شَرْطَ الشيءِ وليس بمضادٍّ له، كالِإرادةِ تُضاد الكراهةَ من حيثُ إنها لا تجتمعُ معها في المحَلِّ، والكراهةُ لا تجتمعُ مع المَوْتِ، ولا الِإرادةُ تجتمعُ مع اْلموتِ، ولا يقالُ: إن الِإرادةَ ضدُ الموتِ، ولا الكراهة ضدُ الموت، لكنَ الموتَ يُضادُ ما لا يصحُ وجودُ الإِرادة والكراهةِ إلا مَعَهُ، وهو الحياةُ. وكذلك العِلْمُ لا يجتمعُ مع الموتِ، لا لكونِ الموتِ ضداً له، لكنْ لكونِه ضد الشَرْطِ وهي الحياةُ، فافْهَمْ ذلك. فصل في مثالِ ذلك من الفِقْهِ إن الحَظْرَ في باب الاستمتاعِ يُضادُ الإِباحةَ لا الملكَ، والإِباحةُ لا تجتمعُ مع عِتْقٍ ولا طلاقٍ لا من حيثُ مضادَّتُهما لها، لكنْ لِمضادةِ الشرطِ لها، وهو الملكُ. فصل وقال بعضُ أهلِ العلم بالأصولِ: وما ادفَعُ قولَ القائلِ: إنَ الموتَ يُضادُّ الإِرادةَ. والذي نختارُه هو الأولُ؛ لأنه ينبغي أن يكونَ المضادُ للشيء مضادَّاً لِمَا ضادَّهُ، كالسوادِ لمَا ضادَّ البياضَ، ضادَ جميِعَ ما يُضادُّ البياضَ من سائرِ الألوانِ، وقد علمنا أن الكراهةَ تضادُّ الموت، والموتُ يضادُّ الحياةَ، فينبغي أن تكونَ الكراهةُ تضادُّ الحياةَ، كما نقولُ في

* الفسق

حركةٍ يَمْنَةً، وحركةٍ يَسْرَةً، والسكونِ، فإن كان هذا لا يجبُ في بعضِ الأضْدادِ، لم يَجِبْ أيضاً في كلِّ الأضدادِ المُساوَقَةُ. ومما يَدُلُّ على ذلك أن الأضدادَ إنما تتضادُ على المحل الواحدِ إذا كان من شأنِها أن تَحِلَّ في مَحَلٍّ، يدل على ذلك أن بياضَ زيدٍ لا يُضادُ سوادَ عمرو، وُيضادُه ما كان من جِنْسِ ذلك البياضِ يَحُلُ في زيدٍ، وإذا ثبتَ هذا قلنا: إن المضادَّةَ بينَ الإِرادةِ والكراهةِ حاصلةٌ من حيثُ تعاقَبَتْ على المَحَلِّ، ومتى وُجدَ أحدهُما في المَحَلِّ-وهو الحَي-، انتفى الآخَرُ عن ذلك المَحَلِّ، فأما إذا وُجدَ الموتُ انتفتِ الحياةُ، وهي ضِدُّه، وكان امتناعُ حلولِ الإِرادةِ لاَ لحلولِ ضدِّها - وهي الكراهةُ-، لكنْ لعدم شَرطِها، وهي الحياةُ، فخرجَ المحل عن كونِه قابلاً لكراهةٍ وإرادةٍ، فصَارَ كعَدَم المحلِّ رأساً، لا يقالُ: إنه ضد لأعْراضِ الجسمِ. فصل في الفِسْقِ الفِسْقُ: هوالخروجُ، يقال: فَسَقَتِ الحيَّةُ: إذا خَرَجَتْ. وسُمِّيَتِ الفَأْرَةُ: الفُويسِقَةَ (¬1)، وسُمَيَ به العاصي بكبيرةٍ، أو بمداومةٍ [على]، صغيرةٍ، لخروجهِ عن أمرِ الله وشرعِه، قال سبحانه: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]، يعني: خرجَ. فهذا حَدُّ الفِسْقِ أصلًا في اللغةِ. وهو في الفقهِ بحكمِ الرَّسْمِ: عبارةٌ عن فِعْلِ كبيرةٍ، أو مُداوَمةٍ ¬

_ (¬1) لخروجها من جحرها على الناس. "اللسان": (فسق).

على صغيرةٍ، وقد اختلفَ الناسُ في ذلك، فقال قوم: إن الله سُبحانَه لم يَنصِبْ على الكبيرةِ عَلَماً ولا دَلالةً، لِيَقَعَ الاجتنابُ لكلِّ معصيةٍ. وقال صاحبنا (¬1) رحمةُ اللهِ عليهِ: عليها امارَةٌ، فكل معصيةٍ أوجبت حَدَاً في الدنيا، كالزِّنى، والسرقةِ، والشًّرْب، والقَذْفِ، وقَطْعِ الطريقِ، أو وَعيداً في الآخرةِ كالربا، والتَوَلي عن الجَهادِ إذا الْتَقَى الصَّفَّانِ، فهو كبيرة (¬2). والصغائر: ما عدا ذلك. وحَصَرَها قومٌ بأربعينَ (¬3)، وأدخلوا فيها عُقُوقَ الوالدَيْنِ، وشهادةَ الزورِ، والانتسابَ إلى غَيْرِ العَشِيرةِ، واسْتِرْقاقَ الحُرِّ. وحَصَرَها قومٌ بعَشرَةٍ، فقالوا: الشِّرْكُ، والقَذْفُ في اللِّسانِ، والسَّرقةُ، والقتل في اليَدِ، والشًّربُ، وأكل الرِّبا، وأكل مالِ اليتيم في البَطْنِ، والزِّنى، واللِّواطُ في الفَرْجِ، والفِرارُ من الزَّحْفِ في القَدَمِ. والدَلالة على معرفتِنا لها: أن الله سبحانَه قد سمَّى كبائرَ، وشرطَ إحْبَاطَ كلِّ سيئَةٍ غَيْرِها باجتنابِها، فدلَّ ذلك على أن لنا غَيْرَها، وشَرَعَ عقوباتٍ، وجاءَ بوعيدٍ على معاصٍ مخصوصةٍ، فالاستدلال بعِظَم العُقوبةِ على عِظَمِ الجريمةِ استدلالٌ صحيحٌ، فنستدلًّ على الأكثرِ ¬

_ (¬1) يعني الِإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. (¬2) قال ابن أبي العِزَ في "شرح العقيدة الطحَاوِيةِ" 2/ 525 بعد أن ذكر عدة أقوال في الكبيرة: "وقيل: إنها ما يترتب عليها حَد، أو توعُد بالنار، أو اللعنةِ، أو الغضب، وهذا أمثلً الأقوال" وذكر أنه قولٌ مأثورٌ عن الإمام أحمد. (¬3) وحصرهَا الِإمام الذهبي في كتابه "الكبائر" بسبعين، وعد منها ابن حجر الهيتمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" سبعاً وستين وأربع مئة كبيرة.

* العدل

مَاثَماً عندَ اللهِ على الأكثر عُقُوبَةً بوَضْعِ الله، كما نستدلُّ على الفَضْلِ في أعمالِ الطَاعاتِ بما يَرِدُ من مَقَاديرِ المجازاةِ عليها، وشِدةِ الحَثِّ على فِعْلِها، ومَجِيءِ الوَعِيدِ على تركِها. فصل والعَدْلُ: هو الاسْتِقامةُ في الفِعْل. وقيل: هو العُدُولُ إلى الحق. وقيل: هو الوَضْعُ للشيءِ في حَقِّه. وقيل: سُميَ العدلُ بهذا؛ لأن العَدْلَ: هو الذي لا يَمِيلُ، وهو مأخوذُ من التَّعديلِ الذي يَنْفِي المَيْلَ. فصل والجَوْرُ: هو المَيْلُ عن الحق، ومنه قولُه سُبْحانَه: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9]، وتقولُ العَرَبُ: جارَ السهْمُ: إذا مالَ. ونَقائضُ تلكَ الحدودِ المُقَدمَةِ في العَدْلِ ها هنا أن نَقُولَ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ حقِّهِ، نَقِيض قولك في العدلِ: هو وَضْعُ الشيءِ في حَقَهِ، ومن نقائضِ العدلِ في حدودِ الجَوْرِ أن نقولَ: هو المجازفةُ في الفِعْلِ حتى يَميلَ عن الحق، وهذا الحَدُّ نَقِيضُ قولِك في حد العَدْلِ: هو المُضِى في الفِعْلِ حتى لا يَمِيلَ عنِ الحق.

* الظلم

فصل في الظُّلْمَ والظلمُ: هو الانْتِقَاصُ، قالَ سبحانه: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]، وتقولُ العربُ: مَن أشْبَهَ أباهُ فما ظَلَمَ، أي: ما انتقصَ من حقِّ الشَبَهِ، ومن قال: إنه وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِه (¬1)، فما خرجَ بهذا عن الانْتِقَاصِ. وقد غَلَبَ استعمالُ الناسِ الظلمَ في انتقاصِ حقوق الآدمِيِّينَ، وانتقاصِ الحقِّ الذي يجبُ به الذّمُ شَرعاً، ولو كانَ الظُّلْمُ ما كان انتقاصاً من حَقِّ آدميٍّ، لَمَا كانَ الكُفْرُ ظُلْماً، وقد قال سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، لأنه انتقاصُ أكْبَرِ الحقوقِ، وهو شُكْرُ المُنْعِمِ اَلأولِ، ومِن نِعَمِهِ يكونُ إنعامُ مَنْ بَعْدَهُ في الإِنعام، كحَنينِ الوالدِ، وإكرامِ الصَّديقِ، فإنه المُمِدُّ بتَحْنِينِ القُلوبِ وتَليِينِها. فصل واعْلَمْ أنَّ العدلَ والإِنصافَ نَظَائِرُ، والجَوْرَ والظلمَ نظائرُ، ويتميَّزُ أحدُ القَبيلَيْنِ من الاَخرِ عندَنا بالشَّرْع، كما يتميَّزُ السواد من البياض بالبَصَرِ، وعند من أثبتَ العَقْلَ مُحَسِّناً ومُقَبِّحاً (¬2) يقول: إن المِيزَةَ بينهما بالعَقْلِ، كما أن المِيزَةَ بين البياضِ والسَّوادِ بالبصرِ. ¬

_ (¬1) هو قول القاضي أبي يعلى في "العدة" 1/ 169. (¬2) يعني المعتزلة كما تقدم.

فصل في حروف المُباحَثاتِ (¬1) وهي تسعةٌ في الأصلِ، ومدارُ البيانِ فيها على "ما هو"- وهو البَحْثُ عن "الماهِيةِ" (¬2) -، ثم "هَلْ"، و"امْ"، و"ما"، و"مَنْ"، و"أيُّ"، و"أيْنَ"، و"مَتَى"، و"كَيْفَ"، و"كَمْ"، وهي على مَعانٍ مُتَفَرقَةٍ (¬3). فصل في الماهِيةِ (2) وهو المَعْنى الذي يدل عليه القولُ بِدَلالةِ الإِشَارةِ. وأصلُ الماهيةِ (2): هو المعنى المنسوبُ إلى "ما" التي يُستَخبر بها، فيقال: ما هو؟، و"ما" هي التي سَألَ بها من جَهِلَ اللهَ سبحانَه، وهو فِرْعَوْنُ (¬4)، وعَدَلَ عنها إلى ما يَلِيقُ بالله من تَعْرِيفِهِ بافعالهِ- إذ لا ¬

_ (¬1) وتسمى أيضاً: "أدوات السؤال". (¬2) في الأصل: "المايية"، وانظر "التعريفات" ص 171. (¬3) جاءت في الأصل: "متفقة"، ونرى أن صوابها: "متفرقة". (¬4) يعني قوله تعالى في سورة الشعراء، [آلاَية: 23]: {قال فرعون وما رب العالمين}.

- هل

ماهِيَّةَ له- موسى الكَلِيمُ الكريمُ عَليه السلائم (¬1). وكل علَم قِياسيٍّ، فَمدارُ البيانِ فيه على "ما هو؟ ". فصل في "هَلْ" وقد تَرِدُ بمعنى الألِفِ (¬2)، تقول: هل زيدٌ في الدارِ؟ مكانَ قولِك: أزيدٌ في الدارِ؟ وقولُك: هَلْ قامَ زيدٌ؟ بدلًا من قولِك: أقامَ زيدٌ (¬3)؟. فصل في "أمْ" وأما "أم" فلا يُبْحَث بها ويستخرج إلَّا بعدَ كلامٍ قد تقدمَ، مثل قولِك: زيدٌ قامَ أم عمرٌ و؟ بكرٌ دخلَ أم خالدٌ (¬4)؟ ولا يُبتداب "أم" بخلافِ "هل" و"الألف"، أعني: ألِفَ الاستفهامَ. فصل في الألف والألف يُستأنَفُ الاستخبارُ بها، فتقول: أزيدٌ قامَ؟ أعمرو في ¬

_ (¬1) بقوله: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} سورة الشعراء، [الاَية: 24] وما بعدها. (¬2) أي ألف الاستفهام. (¬3) "شرح المفصل" 8/ 150 - 155. (¬4) المصدر نفسه 8/ 97 - 98.

- كيف

الدارِ؛ أدَخل الأميرُ دارَه؟ وما شاكلَ ذلك (¬1). فصل في "كَيْفَ" فأما "كيفَ هو؟ " فيقعُ سؤالًا عن الصُّورةِ والحال (¬2)، ويجوزُ أن تقولَ بدلاً منه: ما حالُه؟ ما صورتُه؟ فتجتزىء به من القولِ: كيفَ هو؟ وهذا المُوَضِّحُ لكونِ "كيف هو" إنما هو سؤالٌ عن الصورةِ والحالِ، لأنه حَسُنَ مَجِيءُ أحدِهما بدلَاَ من الآخَرِ، وهذا علامةُ صِحةِ الدَّعوى في البَدَلِ، وإذا رأيتَ الإِفصاحَ بالغرامة (¬3) يَنطبقُ على ما ادُعِيَ أنه بَدلٌ له، أو عِبارةٌ عنه، فاعلم صِحَةَ الدً عوى. فصل في "كم" وهي: حرفٌ للبَحْثِ عن العِدَّةِ (¬4)، تقول: كم عندَك رجلَاَ (¬5)؟، وكم في الكِيسِ دِرْهماً (5)؟. ويَشهدُ لذلك أنَّكَ تُقِيمُ مَقامَ هذا قولَك: ما عِدَّةُ مَنْ عندَك مِنَ الرِّجالِ؟ وما عَدَدُ ما في الكيسِ من الدراهمِ؟، ¬

_ (¬1) "شرح المفصل" 8/ 150 - 152. (¬2) المصدر نفسه 4/ 109 - 110 (¬3) كذا في الأصل، والغرامة في اللغة: ما يلزم أداؤه. (¬4) "شرح المفصل" 4/ 125 - 136. (¬5) في الأصل: "رجل" و "درهم".

- متى

فصل في "مَتَى" وأما "متى": فهو بَحثٌ عن الزمانِ (¬1)، تقول: مَتى جاءَ ابُوكَ؟ ومتى عُوفِي أخوكَ؟ ومَتى قَدِمَ الأميرُ؟ فالجواب عنه: اليومَ، أمسِ. فالسؤال عن الزمان يَنُوبُ عنه أن تقولَ: ما زَمانُه؟. فصل في "ايْنَ" فأما "اينَ هو؟ " فهو بحثٌ عنِ المكانِ، تقولُ: أين زيدٌ مِنَ السُّوقِ؟ وأينَ كنْتَ اليومَ؟ ويَحْسُنُ أن يقالَ بدلاً منه: ما مكانُه؟. فصل وكان الفرضُ في إبدال كُلِّ حرفٍ بـ "ما" بيانَ فضلِ "ما" وكثرةِ فائدتِها بدخولِها بدلًا من كلًّ حرفٍ: ما عِدتُه؟ بدلًا من: كم هو؟، وما مكانُه؟ بدلاً من: أينَ هو؟، وما زمانُه؟ بدلاً من: متى هو؟، وما عندك؟ بدلاً، مِنْ: مَنْ عندَك (¬2)؟، وما حالُه؟ بدلًا من: كيف هو؟، فقد بأنَ أنها الاصلُ في حروفِ المباحثاتِ. ¬

_ (¬1) ولها وجوه أخرى. انظر"الصاحبي" ص 145، و "شرح المفصل" 4/ 103. (¬2) في الأصل: "ممن عندك".

* فصل في التحصيل

فصل في التَحْصِيلِ وهو: حذفُ فُضُولِ الكلام. وقيل: هو الاعتمادُ على المقصودِ دونَ الحَشْوِ والتَطْوِيلِ، ولا سبيلً إلى ذلك مع التكثيرِ إلا بالتماسِ الغَرَض ما هو، ثم التماس ما يُحتاجُ إليه في الغرضِ، فحينئذٍ يقعُ التحصيلُ، ويَصِحُّ التَمييزُ. والتَحصيلُ والتَهذيبُ والتخليصُ نظائرُ، ويقالُ: هو (¬1) نَقِي الكلامِ، كثيرُ الصوابِ. فصل في الاجْتِهادِ والاجتهادُ في الأصلِ: كلُ فعلٍ فيه مشَقَةٌ، ثم صارَ عَلَماً على الطلَبِ للحق من الطريقِ المُوديَةِ إليه على احتمالِ المشقَةِ فيه. ومثال الاجتهادِ في الأحكامِ كعَبْدٍ ضَل عن سيدِهِ، فقامَ أصحابُه بالاجتهادِ في طَلَبهِ، فسلكَ كل منهم طريقاً غيرَ طريقِ الآخَرِ بحَسَبِ ما غَلَبَ على ظَنِّهِ (¬2) وجودُه له، ووقوعُه عليه، واسْتَفْرَغَ الَوُسْعَ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "هي". (¬2) في الأصل: طلبه".

واستَنْفَدَ المنوةَ بمقدارِ الطَاقةِ. فصل والاجتهادُ على ضَرْبَيْنِ: اجتها. يؤدي إلى معرفةٍ. واجتهاد يؤدي إلى غَلَبَةِ ظَنً أنه لا شيءَ أوْلى بالحادثةِ من تلك القضيةِ.

* فصل في تحقيق معنى قول الفقهاء في الفعل: إنه مكروه

فصل في تحقيقِ معنى قولِ الفقهاءِ في الفعلِ: إئهُ مكروهٌ وذلك منهم وبينَهم ينصرفُ إلى وجهَيْنِ لا ثالثَ لهما: أحدهما: أنه المنهى عن فعلِه نهيَ فضْلٍ وتَنْزيهٍ، مثل: سلوكِ ما يحفظُ المروءَةَ تنَزُّهاً عن سلوكِ ما يَقْدَحُ فيها، كالأكلِ على الطريقِ، ومَد الرِّجْلِ بين النَاسِ، وكثرةِ الضحِكِ، واستدامةِ المُزاحِ والهزءِ، وتركِ الوَقَارِ بإهمالِ التَجَملِ، ومأمورٌ على وَجْهِ النَدْب بأن يفعلَ غيرَهُ، والذي هو أوْلى وأفضلُ منه، وذلك نحوُ: كراهيةِ اَلتركِ لصلاةِ الضُحَى، وصلاةِ الليلِ، وهو التهجُّدُ وقيامُ الليلِ الذي يفعلُه العلماءُ والصلحاءُ، والنَوافلِ المأمورِ بفعلِها، فيقالُ للمكلفِ: يُكْرَهُ لك تركُ هذهِ الفضائلِ المؤديةِ بك إلى المنازلِ؛ لأن في تركِها تفويت الرغائبِ من ثوابِ اللهِ تعالى (¬1). فصل والوجهُ الآخَرُ من المَكْرُوهِ: وصفُ المختلَفِ في حكمِه بأنه مكروهٌ، نحو: وصفِنا التَوَضؤ بالماءِ المستعمل بأنه مكروة؛ لموضعِ ¬

_ (¬1) اشرح الكوكب المنير 1/ 418 - 419.

الخلافِ في جوازِ التوَضُّؤ به (¬1)، ونحو: التوَضّؤِ بسُورِ الهِرِّ مع القدرةِ على غير؛ (¬2)؛ لأنه أفضلُ، وَنَحو أكلِ لحوم السباع (¬3)، وما يَحرُمُ أكلُه، واتفِقَ على أن العدولَ عنه وأكلَ غيرِه أَوْلى. وفي الجملةِ، فهو كلُّ ما كان العدولُ إلى غيرِه أحوطَ وأوْلَى وأفضلَ. فصل وإنما يجبُ أن يقالَ في أمثالِ هذا: إنه مكروهٌ في حق من رأى أنَ ذلك لا يجوزُ، ولا يقالُ: إنه مكروهٌ على الإِطلاقِ، سِيما على قولِ من يقولُ: إن كُلَّ مجتهدٍ مصيب. فصل وليس من عادةِ الفقهاء أن يصفُوا ما أُمِرْنا به مما ليس غيرُه أفضلَ منه، ولا ما قَطَعَ الدليل على تحريمِه، بأنه مكروهٌ؛ فلذلك لا يجوزُ أن يقالَ في تركِ شيءٍ من الفرائض، ولا في المُباحِ المطْلَقِ: إنه مكروهٌ ولا يصفون أكلَ المَيْتَةِ والذمِ والخنْزير وشُرْبَ الخمرِ بأنه مكروهٌ؛ لمَّا كان مقطوعاً بتحريمِه. فصل وقد يقالُ في الفعلِ: إنه مكروهٌ، إذا كان مختلَفاً في تحليلِه ¬

_ (¬1) "المغنى" 1/ 31 - 33. (¬2) "المغنى" 1/ 70 - 72. (¬3) "المغني" 13/ 319 - 320.

وتحريمِه اختلافاً حاصلاً مُسَوَّغاً، مع عدم النص القاطعِ على أحدِ الأمرَيْنِ، بل واقعٌ به من جهةِ الاجتهادِ وغَلبةِ الظَنِّ، فيقالُ في مثلِ هذا: إنه مكروهٌ فعلُه عندَ من أدَّاهُ اجتهادُه إلى تحريمِه، فكان القولُ بذلك من فَرْضِهِ وتَجْويزِه لغيرِه القولَ بتحليلِه إذا كان ذلك جهْدَ رأيهِ، فيكونُ ذلك مكروهاً في حقِّ عالمٍ وفَرْضِه، وغيرَ مكروهٍ في حقِّ غيرِه إذا اخْتَلَفَ اجتهادُهما، لا وَجْهَ لقولِهم: إنه مكروة، سوى ما ذَكَرْنا. وقد أشارَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: "الحلالُ (¬1) بين، والحرامُ (1) بيِّن، وما بين ذلك أمور متشابهات لا يعلمُها إلا قليل" وقال: "لكل مَلِكٍ حِمىً، وحِمى اللهِ محارِمه، ومن حامَ حولَ الحِمَى، يوشِك أن يَقَعَ فيه" (¬2)، وقال: "دعْ ما يَريبُكَ لِمَا لا يَريبُك" (¬3) وقال لوابِصَةَ: ¬

_ (¬1) في الأصل: "حلال"، "وحرام"، والتصحيح من مصادر التخريج الأتي (¬2) نص الحديث عند مسلم في "صحيحه" برقم (1219) من رواية النعمان بن بشير: "الحلال بَين، والحرام بَين، وبينهما أمور مُشْتبِهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحِمى يوشِكُ أن يَرْتَعَ فيه، ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمى، وحمى الله محارِمُه". وأخرجه أحمد 4/ 267 و269، والدارمي 2/ 161، والبخاري في "صحيحه" 1/ 20 و3/ 69، وأبو داود 2/ 218، والترمذي 5/ 198، والنسائي 7/ 213، وابن ماجه (1318) و (1319). (¬3) أخرجه البخاري تعليقاً عن حسان بن أبي سنان في البيوع: باب تفسير المشبَّهات. وأخرجه من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه أحمد في "المسند" 1/ 200، والدارمي 2/ 161، والترمذي (2637) في صفة القيامة، والنسائي =

"استفتِ نفسَك وإنْ أفتاكَ المُفتُونَ، فالبِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه نفسُك، والإثْمُ ما حاكَ في صَدْرِك" (¬1). ولم يُرِدْ - صلى الله عليه وسلم - بالمتشابِهاتِ، ولا ما حاكَ في الصًدْرِ ما لا دَليلَ عليه، لكنَهُ أرادَ ما كانَ في دليلِه غُموض، والدَلالةُ على ذلك قولُه: "لا يعلمها إلًا قليلٌ"، ولو كان ما لا دليلَ عليه، لمَا أضافَهُ إلى القليلِ من العلماء، وهمُ الذينَ زالَ الاشتباهُ عنهم لانكشافِ الأدلًةِ لهم. فصل ويكرهُ للِإنسانِ الإِقدامُ على ما حاكَ في صَدْرِه، وخافَ الزلَلَ فيه، وظنً إصابةَ دليلٍ قاطعٍ عليهِ، بل يجب عليه الكَف عن ذلك اجْتِناباً. فصل فأما وصفُ الفعلِ الواقعِ بأنه مكروهٌ لله، واكتسابُ العبد له، فذلك باطل؛ لأنه تعالى الخالقُ لجميعِ أفعالِ العبادِ وأكسابِهم، والمريدُ لإِيجادِها، وقد يوصفُ بأنه كارهٌ للقبائحِ منها، على معنى أنه كارهٌ لكونِها دِيناً مَشْرُوعاً، وكارهٌ لوقوعِها مِمنْ نَزَّهَهُ عنها من الأنبياءِ والملائكةِ ومَنْ عَلِمَ أنَّه لا يَقَعُ منه، فأما على غيرِ ذلك فإنه باطلٌ. ¬

_ = 8/ 329 - 328. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وأخرجه أحمد 3/ 153 من حديث أنس رضي الله عنه. (¬1) أخرجه أحمد في "المسند" 4/ 228، والدارمي 2/ 161.

* فصل في معنى قول الفقهاء والأصوليين في الفعل: بأنه صحيح وفاسد

فصل في معنى قولِ الفقهاءِ والأصوليِّينَ في الفعلِ: بأنه صحيح، وفاسد، ونَحْوُ ذلك. فالذي يُريدُ به الأصولِيُّونَ من قولِهم: صحيحٌ. أنه فعل واقع على وجهٍ يوافقُ حكمَ الشرعِ، مِن أمرٍ به، أو إطلاقٍ فيه، ولا يَعنُون به: أنَ قضاءَه غيرُ واجبٍ، ولا أنَّ فِعْلَ مثلِه بعدَ فعلِه غيرُ لازمٍ. وكذلك: إنما يُريدونَ بالفعلِ أنه فاسد وباطل: أنه قبيحٌ، وأنه مفعولٌ على مُخَالفَةِ الشرع، ولا يُريدونَ به ما كانَ قضاؤهُ واجباَ، وفعلُ مثلِه بعدَه لازم. فصل وأما معنى القولِ: بأن الفعل باطلٌ وفاسدٌ، مثلَ قولهم: صلاة باطلةٌ وفاسدة: أن فعلَ مثلِها واجبٌ بعدَ فعلِها، وقضاؤها لازمٌ، فبانَ أن الفسادَ والبُطْلانَ عندهم: ما لم يَقَعْ موقعَ الإِجزاءِ وإسقاطِ الواجب عن الذِّمَّةِ، فالعملُ في ذلك كلِّه على قولِه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ علَيْهِ امْرُنا فهو رَد" (¬1). وردُ العَقْدِ والعبادةِ والشَّهادةِ: أن لا يَعْمَلَ عَمَله. فصل ومعنى الصحيحِ عندَ الفقهاءِ-أعني من العباداتِ-: إبْراءُ الذِّمًةِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري 5/ 221 في الصلح و 4/ 298 في البيوع تعليقاً، ومسلم (718)، وأبو داود 2/ 506، وابن ماجه (14) في المقدمة من حديث عائشة رضي الله عنها.

بفعلِها، وسقوطُ القضاءِ، ووقوعُها مَوْقع الإِجْزَاءِ؛ ولذلك قالَ كثير منهمِ: إن الصلاةَ في الدارِ المغصُوبَةِ صحيحةٌ ماضيةٌ، وإن كانت واقعةَ على غيرِحكمِ الشَرْعِ ولا أمرِه، بل معصيةٌ. وسموا الصلاةَ التي قطعَها بإطفاءِ الحريقِ، وتَنْجِيَةِ الغريقِ، وإبعادِ الضَرير عن السقوطِ في البئرِ غيرَ صحيحةٍ، بل قالوا: باطلة، وإنْ كانت طاعةً الله بنفسِها، وبالفعلِ الذي قطَعها به، لكنْ أرادوا بقولِهم: باطلة، وجوبَ قضائِها، وعدمَ الاعتدادِ [بها] (¬1)، ونَفْيَ سقوطِ ما في الذِّمَّةِ بفعلها، ويجيءُ من هذا دليل على إحدى الرِّوايتينِ لنا، وأن الفعلَ الذي هو طاعةٌ أبطلَها لمَا لم يَكُ من الطاعاتِ المشروع مثلُه فيها؛ ألا ترى أنه لو أطالَ القراءَةَ والرُّكوعَ، وكرر تسبيحاتِ الرَكوع والسجود؛، صارَ من جملةِ أفعالِها غيرَ مُبْطَلٍ بها (¬2) بالإِجماع، ثم إنًّ الفقهاءَ اختلفوا: هل يصيرُ التطويلُ واجباً، أم لا؟. فكذلك كان يجبُ أن يكونَ الغَصبُ للدارِ لمَّا كان من المَناهي التي لا تَخْتَص الصلاةَ، أن يكونَ معصيةً غيرَ قادحةٍ، وسَنَسْتقْصِي القولَ في ذلك فيما بعْدُ، إن شاءَ الله. فصل فكذلك، قولُهم: عَقْد باطل، وشهادة باطلةٌ، وحكم باطل، وقولُهم: عقد صحيحٌ، وشهادة صحيحةٌ، وحكم صحيح، فإنَّما يَعْنُونَ بصحَّتِه: نفوذَه ووقوعَ التَّمْلِيكِ به. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) أي الإِطالة والتكرار.

* فصل في الملك

ويريدونَ ببطلانِه وقولِهم: عقدٌ باطلٌ وفاسدٌ: غيرَ نافذٍ، ولا يَحْصُلُ به التمليكُ. وشهادةٌ باطلةٌ: لا يجوزُ أو لا يجبُ العملُ بها، ولا يَثْبُتُ بها الحق. وإقرار باطل، وإنكارٌ باطل في أمثالِ ذلك مِما لعلنا أن نَشْرَحَهُ من بَعْدُ. فهذه جُمَلُ المُقَدَماتِ التي لا تَتِم معرفةُ أصولِ الفِقْهِ، وأحكامُ أفعالِ المكلفينَ إلا بها، كافية إن شاءَ اللهُ. فصل في المُلْكِ الملكُ عندَ قومٍ من الأصولِيِّينَ: هو القُدْرةُ على ما للقادرِ أن يتصرَّفَ فيه، والمالِكُ: هو القادرُ على مَالِه أو تَصَرفِه. وقيل: هو القُوةُ، وهو قريب من الأولِ، ومنه قولُهم: عَجِين مملوك: إذا كان معجوناً عَجْناً قَوَاهً. وقيل: هو التسلطُ بحق، وهذا أشْبَهُ بالفِقْهِ. وقيل: هو الاختصاصُ بالتَصَرفِ، فكلُّ مختصٍّ بالتصرفِ في منافعَ أو أعْيانٍ، فهو مالكُها (¬1). ¬

_ (¬1) "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري ص 150.

فصل و"لملكُ قد يجبُ بتمليكِ مُمَلِّك، وملكٌ يجبُ لابتمليكِ مُمَلكٍ، فالأولُ كملكِ العَبْدِ، والثاني كملكِ الرَّب جَل وعَزً. والعبدُ يملِكُ بحكمِ اللهِ عز وجل، واللهُ سبحانَه مالكٌ للأعيانِ تمَلكَ خَلْقٍ وإيجادٍ؛ لأنه المخرجُ لها من العَدمِ، والعبدُ مأذونٌ له في التصرف، محظورٌ عليه بعضُ التَصرفاتِ. فصل وقال ثَعْلَبٌ (¬1): "مَالِك" أمْدَحُ من "مَلِك"؛ لأنه يدل على الاسمِ والصَفةِ (¬2). ولا يجوزُ أن يملكَ أحدُنا بالعَقْلِ، وإنما يجوز بحجةِ السمعِ، كما لا يجوزُ أن يَذْبَحَ شيئاً من البهائم بحجةِ العقل، وإنما يجوزُ بحجة السمعِ. والأصل في ذلك أنً الإِنسانَ غيرُ مالك للتصرفِ بنفسِه، بل فوقَ العقلِ آمِرٌ وناهٍ، وليس فوقَ قدرةِ الله متحجرٌ. والمعتزلة تقولُ: الأصل في ذلك: أنً الواحدَ منا لا يملك العِوَضَ على إزهاق نَفْسٍ، ولا إراقةِ دَمِ، والله يملك التَعويضَ، وهو النَعيمُ المؤبدُ، والبَقاء السًرْمَد، فيُوفِىَ التعويضَ على الإِيلامِ. ¬

_ (¬1) هو. أحمد بن يحى بن زيد بن سيار، أبو العباس الشيباني، المعروف بثعلب، من أئمة النحو واللغة، كان راوية للشعر والحديث، توفي سنة (2191) هـ "سير أعلام النبلاء" 5/ 14 - 7. (¬2) "تفسير القرطبي" 1/ 140.،

* فصل في معنى وصف الخطاب بأنه محكم ومتشابه

فصل في معنى وَصفِ الخِطابِ بأنه مُحْكَم ومُتَشابِة اعلم أن المُحْكَمَ يرجعُ إلى معنَييْنِ: أحدهما: أنه مُفَسر لمعناهُ، وكاشف له كَشْفاً يُزيلُ الإِشْكالَ، ويرفعُ وجوهَ الاحتمالِ، وهذا المعنى موجود في كلام الله عزَ وجل، وكثيرٍ من كلام خلقِه، فيجبُ وصفُ جميعِه بأنه محَكم على هذا التَأْوِيلَ. فصل والوجهُ الآخرُ: أن يكونَ معنى وصفِ الخِطابِ بأنه محكم، بمعنى: أنه محكمُ النَظْمِ والتَرتيب، على وجهٍ يُفيدُ من غيرِ تناقضٍ واختلافٍ يَدْخُلُ عليه، فكلُّ كلامٍ هذا سبيلُه، فهو محكم (¬1)، وإنِ احتملَ وجوهاً، والتبسَ معناهُ، فإنه يَخْرُجُ عن كونِه محكماً. وما فَسَدَ نَظْمُه، واختل عن وجهِه وسَنَنِه، وُصِفَ بالفسادِ لا بالتَشَابُهِ. وقد غَلَبَ على قولِ الفقهاءِ: أن المحكمَ ما كان حكمُه ثابتاً. فصل فأما المُتَشابهُ، فمعنى وصفِ الخطاب بأنه متشابة، فهو: أنه محتمِلٌ لمعانٍ مختَلِفةٍ يقعُ على جميعِها، ويتناَولُها على وَجهِ الحقيقةِ، ¬

_ (¬1) أورد ابن النجار الفتوحي معظم تعريفات المحكم في "شرح الكوكب المنير" 2/ 140 - 143.

- فصل في آيات الصفات

أو يتناولُ بعضَها حقيقةً وبعضَها مجازاً، ولا يُنْبِىءُ ظاهِرُه عما قُصِدَ به. وإنما اخِذَ له هذا الاسمُ من اشتباهِ معناهُ على السامعِ، وفَقْدِ عِلْمِه بالمرادِ به، ومنه قولُه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، يحتمِلُ زَمَنَ الحَيْضِ، وزمنَ الطهْرِ، وقولُه: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]،، يحتمِلُ الزَّوْجَ، ويحتمِلُ الوَلِيَّ احتمالًا واحداً، وقولُه عزَّ وجل: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]،، يحتملُ اللَّمْسَ باليَدِ، ويحتملُ الكنايةَ عن الوَطءِ باطِّرادِ العُرْفِ وبإضافتِه إلى النساءِ، وإلى أمثالِ ذلك مِمَّا يسوغُ التَّنازعُ فيه، والاجتهادُ لطلبِ معناه، وكذلك كلُّ الأسماءِ المشْتَرَكَةِ. فصل فأما المتشابهُ المتعقَقُ بأصولِ الدِّين، فكثيرٌ؛ مثلُ قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]، {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] , {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة: 14] {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118]، {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121]، {حم}، {الر}، {المر} {حم عسق}، {كهيعص}، {المص}، {ص}، {ق}، هذه الحروفُ في أوائلِ السوَرِ. فوَجْهُ التَّشابُهِ فيه: تردُّدُه بينَ حقائقَ مختلفةٍ، أو حقيقة ومَجازٍ،

وفي الحروفِ إعْجامٌ يزيدُ على التَشابُهِ؛ لأنه لم يُوضَعْ لشيءِ مُعَيَّنِ، فضلاَ عن شيئيْنِ، فإذا لم يُوضَعْ لشيءٍ واحدٍ، فكيف يَتَرَددُ بين الشيئَيْنِ؟. فأما التَرددُ في الوَجْهِ: فقد يُعَبَّرُ به عن الأولِ، كقوله: {وَجْهَ النَّهَارِ} [آل عمران: 72]،وبانَ انه أرادَ به الأولَ من قولِه: {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72]، وقد يُعبَّرُ به عن خِيارِ الشيءِ وأَجْوَدِهِ، كوجهِ الثوْبِ، ووجهِ الحائطِ، وهو الذي يُحَسنُ بالَاجُر المَحْكُوكِ، والغَزْلِ المُحَسَّنِ، والعملِ المُجَودِ، وبين هذا العُضْوِ المخطَطِ الجامعِ للمحاسِنِ وَالحَواس. واليدِ: بينَ الجارحةِ، والقُدرَةِ، والنَعْمَةِ. والرَّحْمَةِ: بينَ الرقَةِ، والفعلِ الدال على إرادةِ الخَيرِ، أو إرادة الخيرِ ودفعِ الضيْر. والغَضبِ: بين غَليانِ دم القلبِ طَلَباً للانتقامِ، وبينَ التَعذيبِ والانتقامِ الذي يدل على غَضَب من يَصدرُ عنه من الخَلْقِ. وعلى هذا الاشتباهِ جميعُ ما يَجيءُ من الأوصافِ، فقامت دَلاَلةُ العَقْلِ والنصَ على نَفْي مالا يليقُ به مما هو وصفُ الأجسامِ المُحْدَثَةِ، وهو الأوَّلِيَّةُ والتَّخْطِيطُ والجارحةُ، ولم يَبْقَ إلا أَحَدُ مَذهبَيْنِ: وهو نَفْسُ الذَاتِ، فيكونُ معناهُ: ويَبْقَى رَبُّكَ، وكذلك قولُه: {وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] والمرادُ به: إلأَ هُو (¬1). أو قول أصحابنا بالوقوفِ عن التفسير والتأويل (¬2). ¬

_ (¬1) هذا من تأويلات المعطلة، والصواب إثبات الوجه الله عز وجل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى. (¬2) جمهور الحنابلة وغيرهم من أئمة السلف يثبتون الصفات ويعتقدون معانيها،=

- فصل في الحروف المعجمة في أوائل السور

والنصُ الذي مَنَعَ من حَمْلِه على الجارحةِ، وعلى الأولِ، وحملِ الغَضَبِ على الاشْتِياطِ أو غَليانِ دمِ القلبِ قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ودليلُ العقلِ الذي دَل على أَنه سبحانَه ليس بِجِسْمٍ، ولا مُشْبِه للأجسامِ (¬1). فصل في الحروف المُعْجَمَةِ في أوائِل السوَرِ وهي من جملةِ المتشابِه، فقالَ قومٌ: أسماءٌ لله. وقال قومٌ: حروفٌ من أسماءٍ، مثلُ: كاف: من "كافي"، وها: من "هادي"، وصاد: من "صادق"، أو من "صَمَد". وقال قومٌ منهم: {الر}، {حم}، {ن}: الرحْمان، اسمٌ مُقَطَعُ الحروفِ. وقال قومٌ: لا يعلَمُ معناها إلا الله (¬2) ¬

_ = ويفوضون أو يتوقفون في كيفية هذه الصفات، لا عن تفسيرها كما ذكر المصنف. (¬1) ذِكرُ المصنفِ -رحمه الله- لآيات الصفات ضمن المتشابه مخالف لمنهج أئمة السلف، القائلين بأنها ليست من المتشابه، وأن الله يوصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز في ذلك القرآن والحديث، وينظر بسط المسألة في رسالة "الإكليل في المتشابه والتأويل" لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 13/ 294 - 305. (¬2) خالف المصنف هنا أئمة السلف، فالمعتمد أن الحروف المقطعة في أوائل السور ليست من المتشابه، كما يدعيه بعض الأشاعرة، فقد تكلم السلف في معانيها وكلامهم مشهور، وقد ساقه ابن تيمية في معرض الرد على هذه الدعوى في كتابه "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" -مخطوط- 2/ الورقة 248 - 249 والله سبحانه أعلم بمراده من هذه الحروف، وفيها إشارة إلى إعجاز القرآن، فقد وقع به تحدي المشركين، فعجزوا عن معارضته، وهو مركب من هذه الحروف التي تتكون منها لغة العرب، فدل عجزهم عن الإتيان بمثله على أنه من عند الله.

- فصل في بيان مناقضة من قال: إن هذه الآيات آيات صفات تمر على ظاهرها

فصل في بيان مُناقَضَةِ من قالَ من أصحابِ الحديثِ: إن هذِه الآياتِ آياتُ صفاتٍ، وإنها تُمَرُ على ظاهرِها. ووجهُ المناقضةِ منهم: أَنّهم قالوا: لا نعلمُ مامعنى "يَدٍ"، حتى قُلْنا لهم: أَجَارِحةٌ هي؟ فقالوا: لا، قلنا: فَقُدرةٌ هي؟ قالوا: لا، قلنا: فَنِعمَةٌ؟ قالوا: لا، وهذهِ الأقسامُ التي تتردَّدُ في إطلاق قولِنا: "يَدٌ"، فإذا قالوا: ليس واحداً منها، لم يَبْقَ إلا القول بأنَّا لا نعلمُ ما معناها. وسَمِعْنا هؤلاءِ القائلينَ بأعْيانِهم يقولُون بألفاظِهم، وقَرَأْنا من كُتُبِهم القول: بأنه يَجبُ القول: بأنه يجبُ حَمْلُ الكلامِ على ظاهِرهِ، أو إمرارُه على ظاهرهِ، ولس يجوزُ أن يَجْمَعَ القائل بين قولِه: لا يعلمُ تأويلَه إلا اللهُ، وبينَ قولِه: أَحْمِلُهُ على ظاهرِه، أو: حَمْلُهُ على الظاهرِ يُسقِطُ حكمَ التأويلِ؛ لأن التأويلَ صَرْفٌ له عن ظاهرِه. ثم إن الآية عندهم أنَّ الوقفَ منها على قولِه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (¬1) [آل عمران: 7]، وهذا يُعْطِي أن لظاهِرها تأويلاً غامضاً لا يعلمُه إلا اللهُ، فكيفَ يقال بعدَ ذلك: يجبُ حملُها على ظاهرِها؟ وأيُ ظاهرٍ يَتَحَقَقُ مع عدمِ العِلْمِ؟ وما لا يُعلم خَفِيّ، فإنْ قالوا: لها ظاهرٌ. فهم مطالَبُونَ بما ظهرَ من معنى الصَفَةِ، وإنْ قالوا: لا نعلمُ. ¬

_ (¬1) ولها وجه آخر في الوقف على: (والراسخون في العلم). انظر تفصيل المسألة في "تفسير القرطبي" 4/ 16 - 19.

بَطَلَ تَعَلقهم بظاهر، ودعواهم أنَ لها ظاهراً (¬1). فصل وما يوهِم أنه مختلفٌ، أو متناقِضٌ مثل قولِه {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، فإنه يُحْمَلُ على مَقام، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، يُحْمَلُ على مَقامِ آخَرَ (¬2)، وضمانُ اللهِ سبحانَه لآدمَ ان لا يَعْرَى (¬3) مشروطٌ بأن لا يَأكل من الشجرة (¬4). فصل والاشتباهُ بين الطهْرِ والحَيْضِ (¬5)، والعَفْو في الِإسْقاطِ والِإعْطاءِ، ومن أن يكونَ الذي بِيَدِهِ عُقْدَة النكاحِ هو الزَّوج أو الوَلِيُّ (¬6) يزولُ بالدليل الدالِّ على أنه في أحدِهما أوْلى، وبأحدهِما أشْبَة. ¬

_ (¬1) لا تعارض هنا كما ذكر المصنف رحمه الله، فمعنى قولهم: تحمل على ظاهرها؛ أنه الظاهر المفهوم لغة. بما يليق بجلالِ الله سبحانه وتعالى. انظر مجموم فتاوى ابن تيمية 3/ 43 وما بعدها. (¬2) ذكر الفخر الرازي عدة وجوه للجمع بين الآيتين. انظر "التفسير الكبير" 19/ 213 - 214، و"تفسير القرطبي" 10/ 59 - 61. (¬3) في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [الآية: 118] من سورة طه. (¬4) في قوله تعالى: {تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} سورة البقرة [الآية: 35]، والأعراف [الآية: 19]. (¬5) كما تقدم فى معنى "القرء" في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" سورة البقرة، [الآية: 228]. (¬6) كما تقدم أيضاً في قوله تعالى:" إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح" سورة البقرة، [الآية: 237].

* فصل في الجنس

فصل وليس ببدْع أن يكونَ الله سبحانَه في كتابه ما يَتَضحُ وينكشفُ معناهُ، ليُعمَلَ به اعتقاداً أو طاعةً، وفيه ما يَتشابَهُ لنُؤمِنَ بمتشابِهِه، ونقفَ عندَه، فيكونَ التكليفُ فيه هو الإِيمانَ به جملةً، وتركَ البحثِ عن تفصيلِه، كما كتَمَ الروحَ، والسًاعةَ، والآجالَ، وغيرَ ذلك من الغُيوبِ، وكَلَّفنَا التصديقَ به دونَ أن يُطْلِعنا على علمِه. فصل وغيرُ ممتنع أن يكونَ من الغامض الذي لا يعلمهُ إلا خواصُّ العلماءِ المجتهدينَ، والأظهرُ في الآيةِ أنَ المتشابِهَ الذي قال سبحانَه فيه: {وَمَا (¬1) يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، أن له تأويلاً عندَه، وأن الراسخينَ في العلم لَمَّا لم يعلمُوا له تأويلًا، قالوا: {آمَنَّا بِهِ}، وتَسَلوْا بقولِهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}،: ليزولَ الرَّيْبُ عنهم، لِما ثَبتَ من حِكْمةِ اللهِ عندَهم، والله أعلم. فصل في الجِنْسِ ولا بُدَّ للفقيهِ من معرفتِهِ لتَكَررِ الجنسيةِ في أبواب من الفقهِ، كالزكاةِ والرَبا. واعلم أن الجِنْسَ، هو جملةٌ متفقةٌ متماثلةٌ، والجنسُ الواحدُ: ما ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا"، وهو خطأ.

* فصل في النوع

سدَّ بعضُه مَسَّ بعضٍ، وقامَ مَقامَه، وذلك بالمشاهدة (¬1)، أو بأن لا يجوزَ على أحدِهما شئٌ إلا جازَ على الآخَرِ مِثْلُه ونَظِيرُهُ، ولذلك لم يَجُزْ أن يكونَ الله سبحانَه مِثْلاً لشيءٍ، ولا شيءٌ مِثْلًا له، إذ لو شابَه المُحْدَثَ من وجهٍ، لجازَ عليه من ذلك الوجهِ ما يجوزُ على المُحْدَثِ من ذلك الوجه. فمثالُه عند الأصولِيينَ: الجَوْهَرُ جنس واحد من حيثُ هو جوهر على الحقيقةِ، فما جوهرٌ إلَّا سَاد مسَدَّ جوهرٍ في خصائصِه من شُغْلِ الحَيز، وحَمْلِ العَرَضِ كاللوْنِ والحركةِ والسُّكونِ (¬2). فصل في النَّوْعِ وهو تحتَ الجنسِ بنوع فَضْلٍ وخاصةٍ، وإن قلتَ: هو ما انفصلَ عن الجنسِ بمعنى، كان أخصَرَ، والاختصارُ للحدِّ واجب في طريقةِ المحقَقينَ. وما لم ينفصلْ من الجنسِ بمعنىً، فهو جزءٌ فيه وليس بنوعٍ. مثالُ الأولِ- وهو ما انفصلَ عن الجنْس (¬3) بمعنى-: الجِسْمُ والخَط والسَّطْحُ، كُلُّ واحدٍ من هذه الثلَاثةِ نوع للجَوْهَر؛ لأنه قد انفصلَ بمعنىً هو التأليفُ والسَّطْحيَّةُ -وهي: طول وعرض لا عمقَ له-، وبالخَطيَّةِ -وهي: طولى لا عَرْضَ له ولا عُمْقَ-، والانقسامِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "كالمشاهدة". (¬2) 1 نظر "التعريفات" ص 69 - 71. (¬3) في الأصل: "الجوهر".

أيضاً، والجوهرُ لا يَنْقَسِمُ. ومثالُ الثاني -وهو الذي لا ينفصلُ عنه بمعنىً-: كالجزءِ الذي لا يتجزَأ، وكذلك الجزءُ من السوادِ والحُمُوضَةِ وما جرى مَجْرَى ذلك (¬1). فصل وقد جنَسَ الناسُ الأجسامَ أجناساً، فقالوا: جنسُ الحيوانِ، وجنسُ النَباتِ، وجنسُ الجَمادِ. والمحقًقونَ من أهلِ الأصولِ جَعَلُوا الكل جنساً، وقالوا: إن الجنسَ الواحدَ قد يَعْرِضُ فيه ما لا يَسُد بعضُه مَسَد بعض، كالحيوان والجمادِ؛ فإنهما وإن كانا من جنسٍ واحدٍ، فإنه لا يَسُد أحًدُهما مَسَد الاَخَرِ، أو يَرْتَفِعَ ذلك العارضُ -يعنون عارضَ الحيوانيةِ وعارضَ النباتيةِ- فإنها أعراض خَصَّصَتِ الجسم بخَصِيصَةٍ أوجبَتْ عند الفقهاءِ وبعضِ الأصوليينَ تَجنساً، حتى إن بعضَ الفقهاءِ جعلَ صناعاتِ الآدميين وآثارَهم في الأجسام مُجَنسةً، كتلفيقِ الغَزْلِ ثوباً، وتفريقِ الحِنْطةِ دقيقاً، وجَعْلِ أجزاءِ اَلأرضِ فَخاراً. فصل وسلَكَ من جَنس بالصنْعَةِ والخصائصِ الواقعةِ في الجسمِ مَسلكَ من جَعل الجوهرَ جنساً، فَخَصوا بهذا المتساويَ من الحيوانِ، فقالوا في الغَنَمِ: جِنْس، وفي البَقَرِ: جنس، وقالوا في الذَهب: جنس، ¬

_ (¬1) انظر الفرق بين الجنس والنوع في (الفروق اللغوية) ص 134.

والفِضًةِ: جنسٌ، وقد سَمَّاه الشرعُ بذلك، فجعل الفضةَ جنساً، والذهبَ جنساً، وهذا صحيحٌ، لأن آحادَ الجنس يَسُد بعضُها مَسَد بعضٍ من الحيوانِ والنباتِ، وما لم يَسُد بعضُه مَسَد بعضٍ-وإن كان جوهراً- ليس بجنسٍ؛ لاختلافِهما في الفَصْل والخَصيصَةِ، وهذه الطريقةُ ألْيَقُ بالفقهِ، والأولَى أقْرَبُ إلى مذهبِ الأوائلِ. فصل والوسَطُ من هاتينِ الطريقتينِ أن لا نقولَ: إن التَجنسَ يقِفُ على الجَوهَريةِ فقطْ، ولا جنسَ إلا الجوهرُ، ولا نقولَ ما ذهبَ إليه أبو حنيفةَ من أنَ الصنعةَ ما تجنَسُ، كتلْفِيقِ الغَزْلِ ثوباً، وتَفريقِ الحَب دقيقاً، لكن نقولُ: إن العارضَ على الجوهر والدَخِيلَ عليه، إن كانَ لازماً كالذهبيَّةِ في الجوهرِ والفضيةِ؛ صارَ به كأنَهُ جنسٌ آخَرُ، وإن كان الدَخيلُ غيرَ لازمٍ مثلَ الحركةِ والسكونِ، والحُمُوضةِ والحَلاوةِ؛ لم يَصِرْ به كالجنسِ الآخَرِ، وهذا أشبهُ بمذهب الفقهاءِ، والشرعُ يُصَدقُه [حيثُ جعلَ] (¬1) الذهبَ جنساً والفضةَ جنساً، ولم يجعلِ الصناعةَ في الذهب جنساً غيرَ جنسِ سَبائِكِه، ولا جعلَ حُموضَةَ اللَّبَنِ جنسَهُ، ولا حلاوتَةَ. فصل وأهل اللغة يقولونَ: جنسُ الرُّومِ، وجنس التُّرْكِ، وجنسُ السندِ، وجنس الزَنْجِ، وما شاكلَ ذلك، ويذهبون إلى اتَفاقِ تلك الجملة الممَيَّزَةِ من غيرِها. ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة يتم بها المعنى.

* معنى الطبع

فصل في معنى قولِهم: الطبْع وقد نطقَ بذلك أهلُ الطبْعِ (¬1)، ثم دارَ بين أهل الكلامِ، وقد تَعَدَّى إلى أهل الفقهِ، فنطقَ به الخُراسانِيُّونَ من أصحاب أبي حنيفةَ، فقالوا في مسألةِ طهارةِ الحَدَثِ: لا تَفْتَقِرُ إلى النيةِ؛ لأَن طَبْعَ الماءِ إزالةُ الحَدَثِ والنَّجَسِ، فلا يَفْتَقِرُ في كونِه رافعاً إلى النيَّةِ (¬2). وما ذلك إلا خَطَأ كبير لمَنْ كَشَفْنا له عن حقيقةِ القولِ بالطبْعِ. فصل فالطَّبْعُ عندَ القائلينَ بإثباتِه: هو الخاصةُ التى يكونُ الفعلُ بها من غيرِ جهةِ القدرةِ، وليس عندَ أهلِ الإِسلام حادث يَحدُثُ من غيرِ جهةِ القدرةِ؛ لأن الحوادثَ خلقُ الله سُبحانَه، فلم يَبْقَ لغيرِه حادث يصدرُ عنه. والخاضَةُ عندَهم على ضربَيْنِ: طبع معروث عندهم، كالحرارةِ في النارِ، والبُرُودَةِ الدائرةِ بين النَّارِ والهواءِ، والرُّطُوبةِ في الماءِ، واليُبُوسَةِ في الترابِ والحَجَرِ. وطبعٌ مُبْهَمٌ، كجَذْبِ المِغْناطِيسِ للحديدِ، وعملِ السَّقَمُونيا (¬3) في ¬

_ (¬1) تقدم التعريف بهم في الصفحة (21) الحاشية رقم (2). (¬2) انظر "المغني" 1/ 156 - 157. (¬3) نبات يسبتخرج من تجاويفه رطوبة دبقة، وتجفف وتدعى باسم نباتها أيضاً، مضادتها للمعدة والأحشاء أكثر من جميع المسهلات، تسهل المرة الصفراء =

إخراجِ الصَّفْراءِ، وإنما قلنا: من غير جِهَةِ القدرةِ؛ لأنَ ما يكونُ بالقدرةِ يقعُ بالتمييزِ؛ لأن القدرةَ لا تقومُ إلا بمَحَلٍّ فيه اختيارٌ، أو تكونُ صفةً لمختارٍ، وقد أكْذَبَ الله سبحانَه، أهلَ الطبعِ بقولِه: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} الى قوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]، ولو كانَ الماءُ يُعْطِي النباتَ الرطوباتِ بالطبعِ الذي أثْبَتُوه لأعطاها رطوبةً خاصَّة ذات طَعْمٍ خاصٍّ؛ لاستواءِ أجزاء الماءِ في نَفْسِه، فلمَّا اختلفتِ الطعوم مع اتّحادِ الماءِ والتُّرْبَةِ، علِمَ أنه لم تَأتِ النباتَ من جهةِ الطبعِ، لكنْ من جهةِ اختيارِ الصَانعِ الطَّابعِ (¬1)، ولأن الطبائع تَتَباينُ لتضَادِّها، وقد اجتمعت في الحيوانِ، ولا يَجْمَعُ المُتَنافِرَ إلا قاسِرٌ قاهِرٌ، وليس إلَّا المختارَ القادرَ سبحانَه. فصل إذا ثَبَتَ أنْ لا طَبْعَ، فلا بُدَّ أن نكشِفَ عن وجوهِ الإِضافاتِ، ونعْطِيَ كل شَيءٍ حَظهُ، حتى لايُعْطَى ما ليسَ بفاعل منزلةَ الفاعلِ، ولا تُعْطَى الآلاتُ حقَّ الأسباب، ولا يُبْخَسَ الفاعل حقَة من الفعلِ، فهذه مَهاوِي هَامِ الكَفَرةِ إلىَ هوَّةِ الإِلْحادِ، ومَزَلةُ أقدام المهْمِلينَ لأصلِ الاعتقادِ، وما يجوز لعاقلٍ أن يجَودَ الكلامَ في مسَالةِ الفَرْع لإِسقاطِ نِيًةٍ في طهارةٍ، فَيشْرِك أو يُلْحِدَ. فاعلم أن إضافةَ الفعلِ إلى الشيءِ تكون من وجوهٍ كثيرةٍ: ¬

_ = واللزوجات الردية من أقاسي البدن. "القاموس المحيط": (سقم). (¬1) "تفسير القرطبي" 9/ 281.

أحدها: إضافةُ الفعْلِ إلى وَقْتِهِ، وهو ظَرْفُ زمانِه، كقولك: نَبتَ المَرْعى في الرَّبيعِ، وأَطْلعَتِ النَّخيلُ في الفَصْلِ، وصَلَحتِ الثمرُ في الصَيفِ أو الخَرِيفِ. وإضافتُهُ إلى المكانِ، كقولك: طريق تؤدِّي بنا إلى البَحْرِ، أو إلى المَعْدنِ (¬1)، وأرض زَكِيةٌ مُنْبِتَةٌ، وأرض رُخْوةٌ أو صُلْبةٌ. فهذه (¬2) أظْرُفُ مكانٍ. وإضافتهُ إلى الآلةِ، كقولِك: آلَمَهُ السَّوطُ، وَوَحَتْهُ السكَينُ (¬3) أو السيفُ، ونَحَتَ الخَشَبةَ القَدُومُ، فهذا المفعولُ به؛ فالمحل مقطوعٌ، ومضروبٌ، ومَنْحُوتٌ. والمحلُّ المفعولُ فيه شَرْطٌ أيضاً لإِيقاعِ النَحْتِ والقَطْعِ فيه، وهو الرَابِعُ. والخامس: السبَبُ، وفيه وقعَ الخلافُ، فلا فاعِلَ للريَ ولا للشِّبَعِ، ولا إخراجِ الصفْراءِ، ولا تبريدٍ وتسخينٍ، وإحداثِ طَعْمٍ، وإنشاءِ لَوْنٍ، وايجادِ خاصةٍ، إلا الله سبحانَه. وعندَ أهلِ الطَّبْع ومن وافقَهم من المتكلمينَ من المعتزلةِ، أن السَبَ: هو الذي سموْهُ طبعاً ومُوَلِّداً، فها هنا مَزَلةُ الأقدامِ، فمن قال: إن الماءَ يُطَهرُ بطبْعٍ، وُيزيلُ بوضْعِهِ، فهو كالقائلِ بأنه يُنْبِتُ (¬4) ¬

_ (¬1) هو المكان يثبت فيه الناس؛ لأن أهله يقيمون فيه ولا يتحولون عنه شتاء ولا صيفاً. "اللسان": (عدن). (¬2) في الأصل: "فهذا". (¬3) أي قطعته بسرعة. (¬4) في الأص: "يثبت".

- الاختلاف في الطبائع

بطبعِه، ويروي بطبعهِ، وذلك فاسدٌ بما فَسَدَ به مذهبُ أهلِ الطبعِ، فلم يَبْقَ إلا أن يقالَ: الطهارةُ تقعُ عندَ إجرائِه بنية المُكَلَّفِ تَعَبداً، وقد بينَ الله سبحانَه ذلك في كثيرٍ من آيِ كتابهِ، مثلُ قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64] فصل في اختلافِهم في الطَّبائعِ على أربعةِ مذاهبَ: فمنهم من جعلَها موجِبة للفعلِ، كالاعتمادِ الذي في الحَجَرِ يُوجِبُ ذهابَه إلى جهةٍ، والفاعلُ غيرُها في الحقيقةِ. ومنهم من جعلَها فاعلةً في الحقيقةِ، وهم أهلُ الطبْعِ. ومنهم من جعَلَها مفعولًا بها، مثل: ما يفعلُ القَطْعُ بالسكِّينِ. ومنهم من جعلَها مفعولًا عندَها، وهو مذهبُ أهلِ السُّنةِ، وهو مذهبُنا (¬1). ¬

_ (¬1) القول بأن الله -سبحانه وتعالى- يفعل عند الطبائع والأسباب والقوى لا بها يفضي إلى إبطال حكمة الله في خلقه، وأنه لم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في القلب قوة يمتاز بها عن الرجل يعقل بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، فضلاً عما في هذا القول من مخالفة للكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى يقول: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالًا سقناه لبلد ميت فانزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات}، وقال تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة} وقال تعالى: =

فصل وقد أشارَ اللهُ سبحانَه إلى المذهب الأخيرِ-وهو مذهبُنا- في كثيرٍ من الأفعالِ، واكتفى بذلك بياناً للعاقلِ، وتنبيهاً له على باقِيها، فقالَ في حق عيسى: ({وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا (¬1) بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ (¬2) الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وإذا أخرجَ عيسى أن يكونَ فاعلاً، وجعلَ له الفعلَ سبحانه، فلا موجودَ إلا عن فعلِه وخَلْقِه؛ لأنه لو اختُصَّ شئ من خلقِه بفعلٍ يكونُ منه وعنه، لكانَ الأخص بذلك الأنبياءَ عليهم السلام الذين أيدَهُم بما خَصهم به من خَرْقِ العاداتِ شهادةً لهم بالصدقِ، وقال ¬

_ = {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}، وقال: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا}، وقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}، ومثل هذا في القرآن كثير، وكذلك في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: "لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني به حتى أصلي عليه، فإن الله جاعل بصلّاتي عليه بركة ورحمة"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نوراً". فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً، حصل بدون سبب، وإلا لم يحصل. جوابه أنه مقدور بالسبب، وليس مقدورأ بدون السبب. انظرا مجموع الفتاوى" 8/ 136 - 139 و 3/ 112 - 113. (¬1) هذه قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب، وقرأ الباقون: {طيراً}. "الغاية في القراءات العشر" ص 125، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 240 و256. (¬2) في الأصل: "وإذ تبرىء"، وهو غلط من الناسخ.

سبحانه {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] فلم يبقَ شيءٌ من جسمٍ ولا عَرَض يضافُ خَلْقُه إلى أحدٍ سواه، ولأنه أضافَ إلى الأشياءِ إضافاتٍ، وأضافَ إلى نفسِه مثلَها، فقال في العَسلِ: {فيه شفاءٌ للنَّاسِ} النحل: 69،، وقال: {وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، فالأحق أن يكونَ الشفاءُ حقيقةً مضافاً إلى الخالقِ سبحانه، والعسلُ يكون عنده الشِّفاءُ، والماءُ يوجَدُ عند نزولِه الإِنباتُ، والمنبتُ حقيقةً، هو الله سبحانه، فإنه سبحانه يقولُ: {فأَحيَيْنا به} [فاطرَ: 9]، {يُنْبتُ لكم به الزَّرْعَ والزَّيْتونَ} [النحل: 11]، وقال: {فأَنبتنا به} (¬1) [النمل: 60، وق: 9] يعني: انبَتْنا لكم عندَه، وقد أضافَ الله سبحانه الِإضلالَ إلى الأصنامِ (¬2) والسَّامِريِّ (¬3)، والضَّلالُ فيهم لابهم. ومن دلائلِ العقولِ، أنَّ الطبائعَ عندَهم هي الفاعلُ الأولُ، وليس فوقَه عندهم من هو أعلى، وقد وَجَدْنا هذه الطبائعَ مقهورةً مقسورةً، حيث جُمعَ المتنافرُ منها والمتضادُّ في الحيوانِ والنباتِ، وكما أن أهلَ الطبعِ أثبتوا له الفعلَ، فقد أثبتوا له المضادَّةَ والمنافاةَ، فإذا اجْتَمعَ مع أضدادهِ في هياكلِ الحيوانِ والنباتِ، عُلِمَ أن المضادةَ فيه لا من طريقِ ¬

_ (¬1) وقع في الأصل زيادة: "لكم" قبل: "به"، وهو غلط من الناسخ أيضاً. (¬2) في قوله تعالى في سورة إبراهيم، [الآية: 35 - 36]: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس}. (¬3) في قوله تعالى في سورة طه، [الأية: 85]: {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}.

الطبعِ، وإنما هو بوضعِ واضعٍ، تارةً يُفَرقُ بينها بالانحلالِ، وتارة يَجْمَعُ بينها إذا أرادَ الاجتماعَ، فهذا حسب ما يليق بهذا الكتاب، والله أعلم.

* فصل في البيان

فصل في البيانِ وهو إخراجُ المعنى، أو نقول: إظهارُ المعنى بلفظٍ غيرِ ملتبِسٍ ولا مشتبهٍ، أو نقول: منفصلًا عما يَلْتَبِسُ به ويَشْتَبِهُ (¬1). وهو في اللغة من القَطْعِ والفَصْلِ، يقال: بأنَ منه: إذا انقطعَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما ابِينَ من حَى، فهو مَيْت" (¬2)، وقال الشاعر: بأنَ الخَلِيطُ ولو طُووِعْتُ (¬3) ما بانا (¬4) ¬

_ (¬1) "العدة" 1/ 100. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 218، والدارمي 2/ 93، وأبو داود (2858)، والترمذي (1480)، والحاكم 4/ 123 - 124، والبيهقي 9/ 245 من حديث أبي واقد الليثي. ولفظه: كان الناس في الجاهلية قبل الِإسلام يجبون أسنمة الِإبل، ويقطعون أليات الغنم، فيأكلونها، ويحملون منها الودك، فلما قدم - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك، فقال: "ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميت". ورواية أبي داود مختصرة بلفظ: "ما قطع من البهيمة وهي حية، فهوميت". وأخرجه ابن ماجه (3216)، والحاكم 4/ 124 من حديث ابن عمر. ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميت". (¬3) في الأصل: "طوعت" وهو خطأ، وما أثبته هو الرواية، وهو من الفعل "طاوع". (¬4) صدر بيت لجرير، عجزه: =

* حد البيان عند الشافعي

وبانتِ المرأةُ من زَوْجِها: إذا فارقَها، وانقطعَ بالبيانِ عن كل ما يحْصُلُ به التباسٌ أو اشتباهٌ. فصل فيما حَدِّ به الشافعي -رضي الله عنه- البيانَ، واعْتُرِضَ عليه فيه. فقال: البيانُ: اسمٌ جامع لمعان مجتمِعةِ الأصولِ، متشعِّبةِ الفروع، فأقلُّ ما في تلك المعاني المتشعبةِ أن يكونَ بياناً لمن خُوطب [بها]، (¬1) ممَّن نزلَ القرآن بلسانِه، وإن كانَ بعضُها أشدَّ تأكيداً في البيانِ من بعض (¬2)، ثم جعلَه على خمسةِ أوجهٍ (¬3). ولم يفهمْ كلامَه من اعترضَه مِن المُحْدَثِينَ الذين لم يبلغوا شَاوَ أصحابِه في العِلْمِ، فقال أبو بكر بن داود (¬4): البيانُ أبْيَنُ من هذا الذي ذكرَه وفَسرَه به الشافعي. ثم قال بعدَ اعتراضِه عليه: ولم يصفِ البيانَ، لأنه ذكرَ جملة ¬

_ =وقطعوا من حبال الوصل أقرانا. والخليط: الجار. انظر "اللسان": (خلط)، و "ديوان جرير" 1/ 160، و "الخصائص" لابن جني 1/ 95. (¬1) ليست في الأصل. (¬2) انظر "الرسالة" للإِمام الشافعي ص 21. (¬3) المصدر نفسه ص 26 - 39. (¬4) هو محمد بن داود بن علي، أبو بكر الظاهري، الأديب صاحب كتاب "الزهرة" و "الوصول إلى معرفة الأصول"، توفي ببغداد سنة (297) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 109.

- فصل في نصرة كلامه والرد على من اعترضه

مجهولةً، فكان بمنزلةِ من قال: البيانُ: اسمٌ يشتملُ على أشياءَ، ثم لايُبَيَنُ عن، تلك الأشياءِ ما هي (¬1). فصل في نصرةِ كلامهِ والرُّدِّ على من اعترضَه وذلك أن الشافعي أبو هذا العلمِ وأمه، وهو أولُ من هَذَبَ أصولَ الفقهِ، ومن غزارةِ علمِه، وكثرةِ فضلهِ عَلِمَ أن البَيانَ مما لا يضبِطُه حدٌّ، حيث، كان مشتملًا على أنواع؛ فمنها: النص، والظاهرُ، والعمومُ، وتفسيرُ المجمَلِ، وتخصيصُ العموم، ودليلُ الخِطاب، وفَحْوى الخطاب، فذكرَ ذلك باسم جامع، فقال جَملة، وجميعُ ذلكَ بيانٌ وإنِ أختَلَفًت مراتبُه، وقوله: "مجتمِعة الأصولِ"، يعني: في الاسمِ الشامل، وهو البَيانُ، وقوله: "متشغبة الفروع"، يعني: بينَ نصٍّ، وظاهرٍ، وعمومٍ، وتخصيصٍ، وفحوىً، ودليلٍ، وإلى أمثالِ ذلك، فهذه شُعَبُ الاسَمِ الذي سماه جملة، هو: البيانُ. ثم قال "وإن كان بعضُها آكدَ بياناً من بعض"، وصدقَ؛ حيثُ كان البيانُ مراتبَ، وقد أشارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك حيث قال: "إنَ من البَيانِ لَسِحراً" (¬2)، ولم يقلْ: إن البيانَ سِحْرٌ، وإنما جعلَ بعضَه سحراً، ¬

_ (¬1) ذكر القاضي أبو يعلى هذا الاعتراض في "العدة" 1/ 103، ونسبه لغير أبي بكر بن داود. (¬2) أخربر" مالك 2/ 986، وأحمد 2/ 16 و59 و62 و 94، والبخاري في "صحيحه" (5146) و (5767) وفي "الأدب المفرد" (875)، وأبو داود (5007)، والترمذي (2028)، وابن حبان (5718) و (5795)، والبغوي =

ولأن النصَّ أجلاها، والعمومَ والظاهرَ دونه، ودليلَ الخطاب دونَ فحْواهُ، فهذا كلامُ من أحاطَ بالبيانِ خُبْراً، وقتلَه عِلْماً. فصل وقال أبو بكر الصيْرَفِيُّ (¬1) -وهو من بعضِ أصحاب الشافعي-: البيانُ: إخراجُ الشيءِ من حَيزِ الاحتمالِ إلى حيًزِ التًّجَلَي (¬2)، وهو اختيارُ أبي بكرٍ عبد العزيزِ (¬3) من أصحابِنا. ¬

_ = (3393) عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قدم رجلان من المشرق، فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحراً، أو إن بعض البيان سحر". وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد 1/ 269، و303 و309 و327، وأبي داود (5011)، وأبي يعلى (2332) و (2581)، وابن حبان (5780). وعن عمار بن ياسر عند أحمد 4/ 263، والدارمي 1/ 365، ومسلم (869). وعن ابن مسعود عند أحمد 1/ 397. وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي عند أبي داود (5012). (¬1) هو محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي الشافعي، أصولي، أحد أصحاب الوجوه في المذهب، من تصانيفه: "شرح الرسالة"، وكتاب في الإجماع، وكتاب في الشروط، توفي سنة (330) هـ. "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 186 - 187، وانظر مصادر ترجمته هناك. (¬2) أورد تعريف الصيرفي هذا أبو الحسين البصري في "المعتمد" 1/ 294، والقاضي أبو يعلى في "العدة" 1/ 105، والغزالي في "المنخول" ص 63، وفي عبارتهم جميعاً: من حيز الِإشكال إلى حيز التجلي. (¬3) هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد، أبو بكر البغدادي الحنبلي، المعروف بغلام الخلال، من بحور العلم، له الباع الأطول في الفقه، من =

وفي هذه العبارةِ خَلَلْ اعترضَه الأصوليون، قالوا: وذلك أن هذا أحدُ أقسام البيانِ، وهو ما كان تفسيراً لمجمَلٍ، أو تخصيصَ عموم، ويخرجُ منهَ البيانُ المبتدَأ. ومعلومٌ أن من جملةِ أنواعِ البيانِ ما كان نصاً مبتدَأً، وما كان للخطاب للمبتدإِ إشكالٌ، فيخرج منه إلى حميِ التجلي؛ فالمبتدأ من قولِ اللهَ، وقولِ رسولِه بيانٌ صحيح، وإن لم يَتَعلقْ عليه هذا الحدُ الذي ذكرَهُ الصيْرَفى. على أن قولَه: من حيزِ الاحتمالِ إلى التجلي، ليس بمقابلةٍ صحيحةٍ، بل كان يجبُ أن يقولَ: من حيز الخفاء أو الغموض إلى حيز التجلي، أو من حيز الاحتمال إلى حيز الاتحادِ بمعنىً واحدٍ، والأصح أن لا يقالَ: إخراجٌ، لأن هذا هو فعل البيانِ، وهو التَبْيِين، لكن نقولُ: خروجٌ، لا إخراجٌ. فصل وقال قومٌ من المتكلِّمين: البيانُ: هو الدَلالةُ على الشيءِ أو الحكمِ، لأن البيانَ إنما يقعُ بها، وقد ذهبَ إليه أبو الحسنِ التَمِيمِي (¬1). قال بعضُ النَاس (¬2): هذا فيه خَلَلٌ أيضاً، لأن من الدلائلِ ما لا يقعُ به البيانُ كالمجمَلِ ونحوِه. ¬

_ = تصانيفه: "المقنع"، و"الشافي "، و"الخلاف مع الشافعي"، توفي سنة (363) هـ. "سير أعلام النبلاء" 16/ 143 - 145. (¬1) هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي الحنبلي، صنف في الأصول والفروع، توفي سنة (371) هـ. "طبقات الحنابلة" 2/ 139. (¬2) هو القاضي أبو يعلى الفراء. انظر "العدة" 1/ 106.

- وجوه البيان

فصل وقال قومٌ: البيانُ هو العلمُ الذي يُبَيَّنُ به المَعْلُومُ، وإليه ذهبَ أبو بكرٍ الدقاقُ (¬1)، وهو من المُعْتَرَضاتِ أيضاً؛ لأنه صَرفَ منه "يُبَيَّنُ به" وبعدُ ما عَرَفْناهُ، وقد تقدم اعتراضُنا على من قال في حدِّ العِلْم: معرفةُ المعلومِ (¬2). فصل في وُجُوهِ البَيانِ فمنها: الأحكامُ المبتدأة. ومنها: تخصيصُ العموم الذي يُمْكِنُ استعمالُه على ظاهرِ ما ينتظمُه (¬3) الاسمُ، فيُبَينُ أن المَرادَ به بعضُ تلك الجملةِ. ومنها: صَرْفُ الكلامِ عن الحقيقةِ إلى المجازِ، وصرفُ الأمْرِ عن الوجوبِ بظاهرِه إلى النَدْبِ أو الِإباحةِ، وصرفُ الخَبَرِ إلى الأمْرِ. ومنها: بيانُ الجملةِ التي لا تَسْتَغْنِي عن البيانِ في إفادةِ الحكْمِ، وهذا هو التفسيرُ المرادُ بالجملةِ، كقولِه تعالى: {وآتُوا حَقَه يومَ ¬

_ (¬1) هو محمد بن محمد بن جعفر البغدادي، أبو بكر الدقاق، فقيه أصولي، صنف كتاباً في أصول الفقه على مذهب الشافعي، وولي القضاء بكرخ بغداد، توفي سنة (392) هـ. "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 155 - 156، و"تاريخ بغداد" 3/ 229 - 230. (¬2) انظر الصفحة (10). (¬3) وقع في الأصل: "ظاهره ما ينتظم" والسياق يقتضي ما كتبناه، وهو كذلك في "العدة" 1/ 107.

- ما يحتاج إلى البيان

حَصادِهِ} (الأنعام: 141) بينَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن المرادَ به العُشْرُ من السيح (¬1)، أو نِصْفُ العُشْرِ من سَقْيِ الكُلَفِ (¬2)، أو رُبْعُ العُشْرِ من الأثمانِ (¬3). ومنها: النَسْخُ؛ وهو رفعُ الحكمِ في الاستقبالِ بعدَ أن كان ظَننا فيه الدوامَ. فصل فأما ما يحتافي إلى البيانِ، فكل لفظٍ لا يمكنُ استعمالُ حُكْمِه من لفظِه. وسمعتُ مَنْ عُوِّلَ على قولِه (¬4) [يقول]: ما لم يمكن استعمالُ ¬

_ (¬1) أي الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وفي حديث الزكاة: "ما سقي بالسيح ففيه العشر". "اللسان": (سيح). (¬2) أخرجه البخاري (1483)، وأبو داود (1596)، وابن ماجه (1817)، والترمذي (640)، والنسائي 5/ 41، وابن خزيمة (2307) و (2308) عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، ما سُقِيَ بالنَضْح نِصف العشر". وأخرجه أحمد 3/ 341 و 353، ومسلم (981)، وأبو داود (1597)، والنسائي 5/ 41 - 42، وابن خزيمة (2309) من حديث جابربن عبد الله الأنصاري. والكُلَف: جمع كُلْفَةٍ، وهى ما تُكَلفُه على مشقَّة، مثل غُرْفَةٍ وغُرَف. (¬3) وذلك في حديث أنس بن مالك في الصدقات، وفيه: "وفي الرقَهِ ربع العشر" وقد تقدم تخريجه في الصفحة (37) تعليق (3). (¬4) يعني القاضي أبا يعلى. انظ هـ "العدة" 1/ 108.

حكمِه، ولم يَقُلْ: من لفظه. فنقضَ عليه بعضُ الأصوليينَ بقولِ القائلِ لغيرِه: اصعَدْ إلى السماءِ، أو: صَلِّ اليومَ مِئَة ألفِ رَكْعَةٍ؛ فإنه لا يمكنُ استعمالُ حكمِه، وليس يَحْتاجُ إلى بيانٍ؛ لأنه لم يَنْعَدِم (¬1) الإِمكانُ من طريقِ اللَّفظِ، لكِنْ من جهةِ عدم القدرةِ على الفعلِ، مثلَ قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فنحن وإنْ عَلِمْنا معنى الحق إلا أنًا لا نعلمُ قَدْرَ الحق ولا نوعَه، فإنه يجوزُ أن يكونَ حق المالِ شُكْراً بالأبدانِ، ويجوزُ أن يكونَ مِقْداراً دونَ مِقْدارٍ، وقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن اقاتِلَ النَّاسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها، عَصَمُوا مِنِّي دماءَهم وأموالَهم إلا بحقَها" (¬2)، وهذا مجملٌ لا يُعْلَمُ منه ما حقُها، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتقدم" والجادة ما أثبتناه. (¬2) أخرجه أحمد 2/ 314 و377 و 423 و438 - 439 وه 47 و 482 و 502 و 528 - 529، وأخرجه مسلم (21)، وأبو داود (2640)، وابن ماجه (3927)، والترمذي (2606)، والنسائي 7/ 6 و77/ 7 و77 - 78 و78 و79 من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (1399) و (6924) و (7284) د 7285)، وأبو داود (1556)، والترمذي (2607)، والنسائي 5/ 14 - 15 و5/ 6 و5 - 6 و 7/ 77 و78 و78 - 79 من حديث عمر بن الخطاب. وأخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه أحمد 3/ 199 و224 - 225، والبخاري (392)، وأبو داود (2641) و (2642)، والترمذي (2608)، والنسائي 7/ 75 - 76 و76 و 8/ 109 من حديث أنس بن مالك. وهو مروي أيضاً من حديث غيرهم من الصحابة.

* حقيقة الذمة

وقولِه أتعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، لا ندري كمِ المال؟ وما المال الذي يبتغى به؟. فصل في حقيقةِ الذفَةِ التي تَحفَظُ الأموالَ والحقوقَ. وهي العَهْذ والأمانُ ومنه سُمي أهل الذَمَّةِ، وهم المعاهَدون، وهم في ذِمةِ الله، أي: في عهدهِ، وذِمَة فلانٍ: عهدُه. فصل في بيانِ المالِ حيث عرضَ ذكرُه ها هنا، وهو: ما يتناقله الناسُ في العادةِ بالعقودِ الشرعيَّةِ -لطلبِ الأرْباحِ والأكساب التي تلزم بها الأموال والحقوق والذَمَةُ- لرغباتِهم فيه، وانتفاعِهم به، مأخوذٌ من المَيلِ من يَدٍ إلى يَدٍ، وجانب إلى جانبِ، فإنك إن اقتصرتَ على قولِك: "المرغوب والمنتفَع به"، فإن الخمورً مرغوبٌ فيها، ومنتفَعٌ بها، وليست مالَاً. فإن قيل: المال ما يقَومُ بالإتلافِ، أو: قوبِلَ بالأعْواض، بطَلَ بدم الأحرارِ ومنافعِهم، وبالأبْضاع، فلا بد من ذكرِ المناقلةِ بالمعًاوَضاتِ التي يقْصَدُ بها الأرباح، ولاَ الرغْبَةُ تكفي وصفاً له، ولا المعاوَضةُ، حتى يَنضمَّ إلى ذلك ما ذَكَرْنا من المناقَلةِ لرغبةِ الأرباحِ، واللهُ أعلمُ.

* حقيقة البضع

فصل في حقيقةِ البُضْعِ ولما جَرى ذكرُ الأبْضاعِ، وبالفقيهِ حاجة إلى معرفةِ حقيقتِها، اقتضتِ الحالُ ذكرَ حَدها وحقيقتِها، وهي: المنافعُ المستباحةُ بعَقْدِ النِّكاح دونَ عُضْوٍ مخصوص من فَرْجٍ أو غيرِه، على ما تَعْتَقِدُه المُتَفَقَهَةُ. والمُباضَعَةُ: مفاعلة من المُتْعَةِ به، والمتفقَهةُ تقولُ: منافعُ البُضْعَ. فصل فيما يقعُ به البيانُ وهو خمسةُ أشياءَ: القولُ، والكتابُ، والإِشارةُ، والفعلُ، والإقرارُ. فالقولُ: الكتابُ والسّنَةُ، ويترتَبُ عليه الإِجماعُ، والقياسُ (¬1). فالبيانُ من اللهِ تعالى يقعُ بالقولِ من جهةِ الكتاب بالآي التي عُرِفَتْ معانيها من ظاهرِها، مثل قولِه تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ثم بينَ المحرَّماتِ، وقال: {لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ثم خَصَّ من المباحاتِ بعموم هذه الآيةِ باستثناء السُّنَةِ تحريمَ الأْختِ والعَمّةِ والخالةِ، على الَأختِ وبنتِ الاختِ وبنت الأخِ. ومثل قولِه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ¬

_ (¬1) "العدة" 1/ 110 وما بعدها.

أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، ثم بين السبيل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قد جعلَ الله لهن سبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ، وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيِّبِ جلدُ مِئَةٍ والرَّجْمُ " (¬1). ومثل قولِه: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، بيَّنَ ذلك في كتابهِ الذي كتَبه لعمروبن حَزْمٍ (¬2) في الزكَواتِ والدِّياتِ (¬3)، وكتابهِ الذي لأبي بكرٍ في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 81، وأحمد 313/ 5 و317 و318 و320 و320 - 321، والدارمي 2/ 810، وملسم (1690) (12) و (13) و (14)، وأبو داود (4415) و (4416)، وابن ماجه (2550)، والترمذي (1434)، والنسائي في "الكبرى" (7142) و (7143) و (7144) و (7980) و (11093)، وابن الجارود (810)، والطحاوي في "شرح معاني الأئار"3/ 134، والبيهقي 8/ 210 وا 22 - 222 من حديث عبادة بن الصامت. (¬2) هو عمرو بن حزم بن زيد بن لَوذان، الأنصاري، يكنى أبا الضحاك، صحابي مشهور، شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على نَجْران، روى عنه كتاباً كتبه له فيه الفرائض وإلزكاة والديات، كانت وفاته بعد الخمسين. "الإصابة"4/ 621. (¬3) حديث عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائضُ والسنَنُ والدياتَ، وبعث به معه، فقرىء على أهل اليمن: أخرجه بطوله: ابن حبان (6559)، والحاكم 1/ 395 - 397، والبيهقي 4/ 89 - 90. وأخرجه مختصراً: الدارمي 2/ 188 و 189 - 190، والنسائي 8/ 57 - 58 و58 - 59، وابن خزيمة (2269)، والدارقطني 1/ 122 و 2/ 285 و 3/ 210، والبيهقي 1/ 87 - 88 و 8/ 25 و28 و73 و79 و88 و88 - 89 و 95 و97.

الصَّدقاتِ (¬1)، وكتابهِ الذي كتبَه إلى مَشْيَخَةِ جُهَيْنَةَ في جُلُودِ المَيْتَةِ قبلَ موتِه يُحرِّمُ فيه استعمالَها، وينهاهم عنها (¬2). فبانَ بهذا أن كتابَه - صلى الله عليه وسلم - يجري في البيانِ مَجْرى قولِه. وقد بَينَ الصلاةَ والحَج بفعلهِ، فقالَ للذي سألَه (¬3): "صَلِّ مَعَنا" (¬4)، وقال في الحَجِّ: "خُذُوا عَنَي" (¬5)، فصارَ قَولُه وفعلُه وكتابُه بياناً. وأما الإِشارَةُ؛ فقولُه: "الشَّهْرُ هكذا وهكذا" (¬6) وأشارَ بأصابِعهِ، وقد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في صفحة (37) تعليق (3). (¬2) أخرجه أحمد 4/ 310 - 311، وأبو داود (4127) و (4128)، وابن ماجه (3613)، والترمذي (1729)، والنسائي 7/ 175 عن عبد الله بن عكيم الجهني قال: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جهَيْنَةَ- قال: وأنا غلام شاب، قبل وفاته بشهر أو شهرين-: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَبٍ". (¬3) أي سأله عن أوقات الصلوات، كما في الحديث. (¬4) أخرجه أحمد 5/ 349، ومسلم (613)، وابن ماجه (667)، والترمذي (152)، والنسائي 1/ 258 - 259، وابن خزيمة (323) و (324) من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي. (¬5) أخرجه أحمد 3/ 301 و 318 و332 و337 و367 و378، ومسلم (1297)، وأبو داود (1970)، والنسائي 5/ 270، وابن خزيمة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحْرِ، ويقول: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حَجتي هذه". (¬6) أخرجه أحمد 2/ 28 و43 و 44 و52 و 81 و 122 و 125 و 129، والبخاري 1908) (1913) و (5302)، ومسلم (1080) (4) و (5) و (10) و (12) =

أمرَ الله زكريًا بقوله: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ (¬1) فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 10 - 11]. وقد بين أيضاً بالإِقرار؛ فإنه لمًا أقر على قول سَمِعَهُ، فلم يُنْكِر، وفعلٍ رآه، فَلم يُنكرْه، فقد بينَ جوازَ ذلك؛ لأنه لا يُقِر على باطلٍ (¬2). وقد بيَّنَ بالنًسخِ مُدةَ الحُكْمِ إلى حينِ نسخِه (¬3). ¬

_ = و (13) و (15) و (16)، وأبو داود (2319)، والنسائي 4/ 139 - 140 و 140، وابن خزيمة (1909) من حديث عبد الله بن عمر. (¬1) قوله تعالى: {من المحراب} سقط من الأصل. (¬2) انظر في الإقرار ما تقدم في صفحة (41). (¬3) انظر هذا المبحث -أعني: فيما يقع به البيان- بأوسع مما هنا في "العدة" 1/ 110 - 130.

* فصل في الترتيب

فصل في التَرْتيبِ وُيحتاجُ إليه في أفعالِ العباداتِ المرتَبةِ، وفي تراتيب الأدلةِ حالَ الاجتهادِ، كترتيبِ السنه على القياسِ، والكتابِ على الَسَنةِ. وبيانُ معناه وحدُّه اعلم أن الترتيبَ: هو وضعُ الشيءِ في حقَه. وقيل: الترتيبُ: جعلُ الشيءِ في المكانِ الذي هو أوْلى به. وقيل: الترتيبُ: تَصْييرُ الشيءِ في المرْتَبَةِ التي هيَ له. فصل وإخراجُ الشيءِ عن مَرْتَبتِه بأحدِ ستَّة أقسام: التَّقديمِ، أو التأخيرِ، أو الرَّفعِ، أو الحَطِّ، أو الأخذِ يمينَاً أو شمالاً. وتغييرُ الكلام ستَةُ أقسام: زيادة، ونقصان، وقَلْب، وإبدال، وتقديم، وتأخير، فكَلُّ واحدٍ من هذه يُزيلُ الكلامَ عن ترتيبِه، ومرتبتِه فى الأصل. والقلبُ في الأصل: جعلُ الأعلى أسْفَلَ، والأسفلِ أعلى، ثم كَثُرَ حتى استُعْمِلَ على تغييرِ الصُورةِ إلى الصورةِ.

* البدل

فصل والبَدَل، والِإبدال: رفع أحدِ الشيئين، ووضعُ الأخرِ مكانه قال سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]،، وقيل: التكفير بالشيءِ عن الشيءِ بَدَلٌ، وسميَ التيمم بدلاً عن الوضوء. ونظير التَرتيبِ: التَمييز، والتَصفيف (¬1)، والتأليف. ونقيضُ التَرتيبِ: التخليط، كما أن نقيضَ التَحصيلِ: التَحريف. فصل والإِلْزامُ: هو التَعليقُ على الخَصْم ما لا يقولُ به بدَلالَةِ ما يقول به. والإِلزامُ: هو الجمعُ بينَ مذهبينِ من جهةِ أن أحدَهما يشهَدُ بِشَبهٍ بالأخَر؛ لِيُسَويَ بينهما المسؤولُ. وقيل: الإِلزامُ: هو المطالبةُ للخَصْمِ بما لا يقولُ به على مذهبٍ يقولُ به، وذلك في الأصولِ مثلُ قولِ المسلمِ لليهودي: إنما لَزم القولُ بصِدْقِ موسى؛ لقيام المُعْجِزِ على يدهِ شاهداً له، وهو خَرْق العادةِ، وقد انخرقت العادة على يدَيْ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فلَزِمَ تصديقه فيما جاءَ به من نسخِ السبْتِ. ومن الفقهِ: قد ثبتَ وجوبُ النَيةِ للتيَمم لتحقيقِ التَعبدِ، وهذا موجودٌ في الماء، فيَلْزَمُ له النيةُ، وَيجيءُ استيفاءُ ذلك في الجَدَل (¬2) إن شاءَ الله. ¬

_ (¬1) في الأصل: "التضعيف". (¬2) في الجزء الأخير.

* الاتفاق والاختلاف

فصل في الاتًفاقِ والاختلافِ اعلم أن الاتًفاقَ والاختلافَ على ضَرْبَيْنِ: ما يرجعُ إلى الذَواتِ، وما يرجعُ إلى المذاهبِ والآراءِ والاعتقاداتِ. فالاتِّفاقُ والاختلافُ الراجعُ إلى الذواتِ: الاتَفاقُ والاختلافُ في الأجناسِ، فكلُّ جِنْسٍ، هو مخالفٌ لغيرِه من الأجناسِ، ومتَفِقٌ في نفسِه؛ إذ كان الجنسُ الجملةَ المتَفقةَ الأجزاءِ، والجزءُ من الجنسِ موافقٌ للجزءِ الأخَرِ بنفسِه، ومخالِف لغيرِه من الأجناسِ بنفسِه، والمعتبَرُ في الاتفاقِ أن يَسُد أحدُ الشيئينِ مَسَدَّ الاَخَرِ. والاتفاقُ الراجعُ إلى الآراءِ والمذاهب والاعتقاداتِ: هو الإِجماعُ على الرَّأيِ، أو المذهبِ، أو الاعتقادِ. وقيل: ذهابُ كلِّ واحدٍ من المتَفِقِينَ إلى ما ذهبَ إليه الأخَرُ. وقيل: التَواطؤ على الاعتقادِ أو الاختيارِ، أو المذهبِ. فصل والاختلافُ في الذواتِ المعتبرُ فيه: أن لا يَصِحَّ أن يَسُد أحدُهما مَسَد الآخَرِ، وقد تَعْتَرِضُ فصولٌ تُخْرِجُ الجنسَ الواحدَ أن يَسُدً بعضُه مَسَد الاَخَرِ، فالمعتبرُ في ذلك رفعُ تلك الفصولِ عن الأوهام، وهي الأعراضُ العارضةُ، كالصُّورِ، والطُّعومِ، فإذا أزَلْتَها عن الوَهمِ، سَدتْ أجزاءُ الجنسِ بعضُها مَسد بعضٍ.

* فصل فيما يدخل عليه لفظ: (أفعل) وليس مما يقبل التزايد في نفسه

فصل فيما يدخلُ عليه لفظُ: "أفْعلُ "، وليس ممَّا يقبلُ التَّزايُدَ في نفسِه. مِن ذلك قولُهم: زيدٌ أعلمُ من عَمْرٍو. حسن أحْسَنُ من حسينٍ. وقولُهم: قبيحٌ أقبحُ من قبيحٍ. وإنما نَعْنِي به أن زيداً يعلمُ معلوماتٍ أكثرَ من معلوماتِ عمرٍو؛ إذ لا يجوزُ أن يَرْجِعَ إلى عِلْم زيدٍ بأن خالداً قائمٌ، وعمرٌو أعلم به من ذلك المعلوم، ولا أن عَمْرا يعلمُ أن القَارَ اسود، وزيدٌ أعلمُ بذلك منه، إذ ليسَ في قولِنا: إن العلمَ معرفةُ المعلوم على ما هو به مايَحتمِلُ أن يزيدَ عليه علمٌ آخر، فيكون معرفة الَمعلومِ زيادةً على ما هو به، أو غيرَ ذلك. وكذلك قولنا: إن هذا الجسْمَ قائمٌ بنفسِه، لا يَحتمِل التزايدَ في أن جسماً آخَرَ اقوَمُ بنفسِه منه، ولَمَّا قالت العربُ: أجسَم، فأدخلَت عليه لَفْظَةَ: "أفعل" على أنها أرادتْ بالجسمِ المُؤلَّفَ، وأدخلتِ التَّزايدَ بلفظةِ: "أفعل" على ما يتزايدُ، وهو كَثْرة التَّأليفِ بكثرةِ الأجزاءِ المؤلَّفةِ. وقولُنا: حسَنٌ وأحْسَنُ منه، يُرادُ به: أن الأحْسَنَ ما أُمِرنْا به من الثَّناءِ والمَدْحِ لمن فعلَ الحَسَن، أُمِرْنا باوفَرَ منه وأكثرَ لمن فعلَ ما قيلَ: إنه الأحْسَنُ، ومن قيل: إنه فعلَ حَسَناً ما، لا الأحسنَ، هو الذي أنقصُ رتبةً ممَّن فعلَ الأحسنَ، وهو الذي يستحقُّ بوعدِ الله سبحانه من المدحِ والثناءِ والتعظيمِ عليه أقلَّ. فصل وأما قولُنا في أحدِ القبيحينِ: إنه أقبحُ، أنَّ ما يُقابَلُ عليه من الذمِّ

* الفرق بين مذهب أهل السنة والمتكلمين في الحسن والقبيح

والانتقام والامتهانِ أكثرُ وأوفرُ، وهذا يرجعُ إلى أصلٍ، وهو: أن التَقبيحَ إلىَ الشَّرع والتَّحسينَ إليه، فإذا رأيْنا مضاعفةَ الأجرِ، والثناءَ، والوَعْدَ والشهادةَ بالفَضلِ، لمن فعلَ حَسَناً ممًا حَسَّه، ورأيْنا ما هو دونَ ذلك في حَسَنٍ آخَرَ، عَلِمْنا أنه أبلغُ في باب الحُسْنِ، وكذلك الذمُّ. فصل في الفَرْقِ بين مذهب أهل السنه -وهم الفقهاءُ وأصحابُ الحديث- وبين مذهب المتكلمَين في كونِ الحسَنِ ما حَسَّنَه الشَرعُ، والقبيحِ ما قَبَّحَه الشَرعُ عند أهلِ السنةِ، وكونِ القبيحِ قبيحاً بمعنى يعودُ إلى النفْسِ، والحَسَنِ [حَسناً] (¬1) بمعنىً (¬2) يعودُ إلى النفس: أن أهلَ السنةِ قالوا: إن الشرعَ إذا أباحَ شيئاً، أو أمرَ به فأوجبَه أو ندبَ إليه، عَلِمنا أنه الحسَنُ، وكذلك إذا مَدَحَ عليه، ووَعَدَ بالنَعيم لفاعِله، كالصَلاة، والصَيامِ، والصَدقةِ، وبِر الوالِدْينِ، وما يُشاكِلُ ذلكَ أيضاً من ذَبْحِ الحيوانِ، وقتلِ الآباءِ في الجهادِ، ولأجْلِ (¬3) سَبِّ (¬4) النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وهذه الأمورُ تأباها العقولُ بفِطرَتِها، لكنْ لَمَّا وردَ الشرعُ بتحسينِها، حَكَمْنا بحُسْنِها. وإذا حَظَرَ شيئاً وحَرَّمَهُ، وزجرَ عنه، وتَوَعدَ (¬5) عليه بالنَّارِ، فهو ¬

_ (¬1) زيادة على الأصل لتتناسق عبارة النص وتتضح. (¬2) في الأصل: "معنى". (¬3) في الأصل: "لأجل" بدون الواو. (¬4) في الأصل: "سبب". (¬5) في الأصل: "تواعد"، والجادة ما أثبتناه.

القبيحُ، وإن كان العقلُ لا يَأْباهُ ولا يُقَبحُه، كالفِرارِ من الزَحْفِ لحِفْظِ النفسِ وخَوَرِها، وكذلك بَيْعُ درهمٍ بدرهميْنِ بطِيب قلب ورضا نفسٍ، وكذلك قَبحَ قومُ شعيبِ نَهْيَهُم (¬1) عن ذلك، فقالواَ: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ (¬2) مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]. وقال المخالفون: إنا نجدُ القَبيحَ من ذاتِ الشيءِ، فإذا كان في نفسِه على صفةٍ يَذُمها العقلُ وُينكِرها؛ فذلك هو القبيح، وذلك كالظلمِ، وعقوقِ الوالدينِ، وكُفْرانِ النَعَمِ، والفسادِ، وما يُودي إلى الفسادِ. والأحسنُ نجدُه من نفوسِنا، وكذلك الأقبحُ، فنجدُ الإِساءَةَ إلى الجارِ قبيحةً، والتَأفيفَ الدال على الضجَرِ من الوالدينِ قبيحةً، والإِساءةَ إلى الوالدين أقبحَ من الإِساءةِ إلى الجارِ، وضَرْبَ الوالدينِ أقبحَ من التأفيفِ. قالوا: و [لو] (¬3) لم يكُ في العقلِ تزايدُ ذلك، لَمَا عَقَلْنا التَنْبيهَ على المنعِ من الضرب بالنَهيِ عن التأفيفِ، فلو لم يكنْ في النفسِ مايَزِن ذلك وُينْزِلُ كل واَحدٍ منهما منزلةً تَخُصهُ لَمَا عَقَلنا بالنَهيِ عن التأفيفِ النهيَ عن الشَتْمَ والضربِ (¬4). ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل. (¬2) وردت في الأصل: "أتنهانا أن نعبد"، وهي جزء من الأية (62) من سورة هود، الواردة في قوم صالح، لا قوم شعيب. (¬3) سقطت من الأصل. (¬4) انظر ما تقدم في ص 26 - 27.

* فصل في الإشارة إلى الدلالة بحسب الكتاب

فصل في الِإشارة إلى الدَّلالةِ بحَسَب الكتابِ، ولولا أنه ليس بموضِعِه لأطَلْتُ، لكنْ نذكرُ ما يليقُ بهذا اَلكتابِ، فنقول- وبالله التوفيقُ-: إنه لا يخلو أنَّ دعواكم حُسْنَ الحَسَنِ وقُبْحَ القبيحِ بالعقلِ معنىً علمتموه ضرورة من جهة العقلِ، أو بالاستدلال. فلا تجوز دعوى الضَّرورةِ، لأننا وكثيراً (¬1) من العقلاءِ مخالفون في ذلك، وقائلون بأنَّا لا نعلمُ شيئاً من ذلك إلا بالسَّمْعِ، ولو جازَ أن يختلفَ العقلاءُ فيما هو معلومٌ ضرورةً، لاختلفوا في حُسْنِ العَدْلِ، وشُكْرِ المُنْعِمِ، فقال بعضُهم: إنه قبيحٌ، وحَسَّنَه بعضُهم، فلمَّا لم يختلفوا في حُسْنِ العدلِ وقبحِ الظُلمِ، ولم يَجْرِ وقوعُ الخلافِ في ذلك، ووقعَ الخلافُ في طريقِ التَحسينِ، فقال قومٌ: هو السمعُ، وقال قومٌ: هو العقلُ، بطَلَ دعوى العلمِ بذلك من جهةِ الضَّرورةِ. فإن قيل: الخلافُ قد يقعُ عناداً كما عانَدَتِ السوفسطَائيةُ (¬2) في جَحْدِ الحقائقِ، ودَرْكِ الحواسِّ. قيل: فهذا أمرٌ لا يَخْتَصُّنا، ولَئِنْ جازَ مثلُ ذلك في حقِّنا وانَّا نعاندُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكثير". (¬2) السفْسَطَةُ: قياس مركَبٌ من الوَهْميات، والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته، كقولنا: الجوهر موجود في الذهن، وكل موجودٍ في الذهن قائمٍ بالذهن عَرَضٌ، لينتج أن الجوهرَ عرضٌ. "التعريفات" للجرجاني ص 118 - 119، وانظر تفصيل الكلام على السفسطائية في "الفصل" لابن حزم 1/ 8، و"مجموع الفتاوي" لابن تيمية 19/ 135.

ما نجدُه من تحسينِ العقلِ، جازَ ذلك في حقِّكم من معاندةِ ما اعتقدناه من أن التحسينَ ليس إلَا من جهةِ السمعِ. ولا يجوزُ أن يكونَ من جهةِ الاستدلالِ بأدلةِ العقلِ، لأننا وإياكم في النَظَرِ والاستدلالِ سواءٌ، فلو جازَ دعوى التقصيرِ منَا في أدلَةِ العقلِ إلى أن يُفْضِيَ بنا ذلك إلى جَحْدِ القبيحِ والحَسَنِ المؤدي إليها والعلم بها دليلُ العقلِ، لجازَ أن يذهبَ بعضُ النَاظرينَ المستدلِّينَ إلى قُبْحِ العدلِ وحُسْنِ كُفْرِ المُنْعم (¬1)؛ لقصورِه في النَظرِ. وعلى انَا على ما كُنَّا نجدُه في نفوسِنا من إيلامِ الحيوانِ، وقتل الآباءِ والأولادِ، وقطعِ الأرحام؛ لأجلِ الكُفْرِ، ونكابدُ نفوسَنا في إيقاع ذلك مكابدةً نجدُها في نفوسِنَا نجدُها اليومَ بعدَ استقرارِ الشَرعٍ، ولاَ عِبْرَةَ بها؛ لأجل أن الشَرعَ حَسنَها، كذلك قبلَ الشرع، ومن هان عليه ذلك هانَ باستمرارِ العادةِ لا بتحسينِ العقولِ، كالقَصًابينَ والمُحارِبينَ الذين صارَ ذَبْحُ الحيوانِ عندَهم كتجارةٍ، أو تفصيلِ ثوبٍ، والمحاربة كَتَشْنيخ (¬2) شجرةٍ، أو رميٍ إلى هَدَفٍ، ومع ذلك فلا عِبْرةَ بما نجدُه من ذلكَ معِ تحسينِ الشرع له، والأمرِ ببعضِه، وجعلِه في الهدايا والجهادِ قُرْبةَ وطاعةً، ومعلومٌ أَن هذا من أبعدِ المنافاةِ ما بين كونِه في فِطْرَةِ العقلِ قبيحاً إلى كونِه في الشَرعِ حَسَناً وطاعةً وقُرْبةً. وأما الِإشارُة إلى النَهيِ عن التأفيفِ، فلِعِلْمِنا بأن النهيَ لأجلِ نفيِ المَضَرةِ، ولسنا نقولُ: إنَّا لا نعلمُ بالعقلِ مراتبَ الإِساءةِ، فلما ¬

_ (¬1) في الأصل: "النعم"، والأنسب ما أثبتناه. (¬2) المُشنَخُ من النخل: ما نُقَح عنه سُلًاوه -أي: شوكه-. "اللسان": (شنخ).

نَهَى عن ادناها -ونحنُ نعلمُ بالعقلِ أعلاها-، عَلِمْنا قبحَ الأدنى والأعلى بنهيهِ لا بعقولِنا، وعلمنا مقاديرَ المضارِّ بعقولِنا، وتفاوت ما بينَ الإِضْرارِ بالتضَجرِ والتَبَرّمِ، والإِضرارِ بالشَتْمِ والضربِ.

* فصل في الرأي

فصل في الرأيِ وهو مما عليه المدار في القِياسِ. اعلم أن الرايَ: هو استخراج حالِ العاقبةِ. وقيل: استخراج صوابِ العاقبةِ (¬1). وقيل: هو نهاية الفِكْرِ (¬2)، وهو لإِدراكِ العواقبِ، كالرويةِ لدَرْكِ الشاهد الحاضر، والارتياء: تَجاذب الرأْيَيْنِ. فصل في الحَقِّ وهو (¬3): اسمٌ مشترَكٌ بين الموجودِ الثَّابتِ، وبين الواجب اللَّازمِ، وبين نقيضِ الباطلِ، وهو الصوابُ في القَوْلِ والاعتقادِ. فأما الموجود: فهو من تسميةِ الباري بأنَّه حَقٌّ، من قولِه: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]، ومنه قولُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام: ¬

_ (¬1) هو تعريف القاضي أبي يعلى في "العدة" 1/ 184. (¬2) في الأصل: (الذكر)، هو الذي يناسب الموضوع. وانظر "التمهيد" لأبي الخطاب 1/ 64. (¬3) تحرفت في الأصل الى: "وهم".

"أشهدُ أنك حقٌ، وأن الساعةَ حقٌ، وأن الجَنَةَ حق، والنارَ حقٌّ، والعَرْضَ حقُ، والسِّحْرَ حقٌّ" (¬1)، والمرادُ بذلك: ثابت وكائنٌ؛ ولذلك خَلَطَ به السحرَ، وإن كان باطلاً لا حَقّاً، لا بمعنى أنه صوابٌ، لكن [بمعنى] (¬2) أنه كائن وموجودٌ، وليس بمنفيٍّ على ما قاله نُفاةُ السحر. ويحتملُ أن يكونَ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "وأن السَّاعةَ حق، والنارَ حقٌّ، والجَنَّةَ حقٌّ"، المرادُ به: ضِد الباطلِ، لا نفسُ الوجودِ؛ لأنها من المخبَراتِ والوَعْدِ، فإذا قال: هي حقٌّ، كأنه قال: إخبارُ الله بها حقٌّ، ووعدُ الله ووعيدُه حق، وقال سبحانه: {لِيَعْلَمُوا (¬3) أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف: 21]، يقال: حَقَقْت الشيءَ (¬4) وأحْقَقْتُه، فهو حَق: إذا كنتَ منه على يقينٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه ضمن دعاء في صلاة الليل مالك 1/ 215 - 216، وأحمد 1/ 298 و308 و358 و366، والدارمي 1/ 348 - 349، والبخاري في "صحيحه" (1120) و (6317) و (7385) و (7442) و (7499) وفي "الأدب المفرد" (697) وفي "خلق أفعال العباد" (628)، ومسلم (769) (199)، وأبو داود (771) و 772)، وابن ماجه (1355)، والترمذي (3418)، والنسائي في "المجتبى" 3/ 209 - 210 وفي "الكبرى" (1319) و (7703) و (7704) و (7705) وفي "عمل اليوم والليلة" (868)، وابن خزيمة (1151) و (1152)، وابن حبان (2597) من حديث ابن عباس. ولم يرد قوله: "العرض حق، والسحر حق" عندهم جميعاً، وورد عند الدارمي قوله: "والبعث حق" بدل: "والعرض حق". (¬2) زيادة يتم بها المعنى. (¬3) في الأصل: "واعلموا". (¬4) في الأصل: "بالشيء"، وقارن بـ "اللسان": (حقق).

وأما الحقُّ الواجبُ، وحَقَّ بمعنى: وَجَبَ، من قولِه سبحانه: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19]، وجَبَ ووَجَبَتْ، ونقول: حُقَّ لك أن تفعلَ، وحَقِيقٌ بك أن تفعلَ، وعليك؛ يعني: واجبٌ لك، وواجبٌ عليك. والحقُّ مصدرٌ أُقيمَ مَقامَ الصِّفَةِ، ومعناه: ذو الحقِّ، والعربُ تُسَمَّي الفاعلَ والمفعولَ بالمصدرِ تكثيراً، يقالُ: رجلٌ عَدْل ورضاً، بمعنى: عادِلٌ ومَرْضِيٌّ، كما أنشدونا: ترْعَى إذا غَفَلَت حتَى إذا ادَّكَرَتْ ..... فإنَّما هيَ إقْبالٌ وإدْبارُ (¬1) يعنون: فإنما هي مقبلةٌ مدبره (¬2)، قال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، والمرادُ به: البارُّ، أو: البِرُ بِرُّ مَنْ امنَ بالله (¬3). ¬

_ (¬1) هذا البيت من قصيدة للخنساء -واسمها: تُماضِر بنت عمرو بن الشًريد، من بني سُلَيم- ترثي بها أخاها صخراً، وهو في وصف ناقة ثكلت ولدها، وروايته في "البيان والتبيين" 3/ 201، و"الحيوان" 6/ 507، و"اللسان": (قبل): "ترتع ما غفلت .. "، وفي "ديوانها" ص 248، و"خزانة الأدب" 1/ 431 و 2/ 34: "ترتع مارتعت". (¬2) هذا أحد توجيهات ثلاث لصحة وقوع اسم المعنى خبراً عن اسم العين، والتوجيه الثاني: أن يقال: إنه مجاز عقلي بحمله على الظاهر، وهو جعلُ المعنى نفسَ العين مبالغةً، والثالث: أنه على تقدير مضاف محذوف، أي ذات إقبال. انظر "خزانة الأدب" 1/ 431. (¬3) "التفسير الكبير" للرازي 5/ 38.

* فصل في الكل

فصل والحَق: أعَم من الملكِ؛ لأنه يَعُمُّ الديونَ والأملاكَ، والملكُ يَخُصُ الأعيانَ. وَيعُم الحق الأموالَ وغيرَها؛ فإنه يدخلُ فيه الدَماءً، والفُرُوجُ، ومنافعً الأحرارِ، والعقوباتً، والعباداتً، فكل ذلك لله سبحانه وللآدَمِيِّينَ. والملكً يختصُ الأعيانَ والأموالَ خاصَةً فصل في الكُلِّ وهي كلمةٌ من بعضِ ألفاظِ العمومِ، فلا بًدَ للأصولى (¬1) من معرفتِها، وهي: الجملةُ التامةُ. وكلٌّ: أعم العموم (¬2)، فلا يدخلً إلا على الأَعم، ولا يدخلً على أخَص الخصوصِ، ولكَنَها في العمومِ على طبقاتِه، مثلً قولِك: كلُّ الناسِ، ثم تقول: كلُّ بني هاشمٍ. ونظيرُ كلٍّ: الجميعُ. فأمَّا العمومُ والاشتمالً والاستغراقُ والِإحاطةً فإنها لا تًستَعْمَلُ استعمالَ كل، وإنْ كانَ فيها معناهُ. ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "للأصول". (¬2) في الأصل: "للعموم".

* فصل في البعض

فصل والفَرْقُ بينَ إضافةِ كُلٍّ إلى الجِنْسِ، وبينَ إضافتِه إلى الواحدِ من الجنسِ؛ أنَ معنى الجزءِ في الجنسِ يجبُ للجميعِ، وفي واحدٍ يجبُ لكلِّ واحدٍ من الجميعِ؛ مثالُ ذلك قولُك: [كل] (¬1) القُيام في الدَّارِ لهم درهمٌ، فالدرهم الواحدُ مشترَكٌ بين القُيَّام كلِّهم، وإذا قلَتَ: كل قائمٍ في الدارِ فله درهمٌ. فالدراهم بعِدةِ القيامِ في الدارِ. فصل في البَعْضِ والبعضُ: هو النَاقصُ من الجملة، وهو نقيضُ الكُل، ويقال: هو الناقصُ عن الجملة التَامةِ. والجزءُ، والشَطْرُ، والثُّلْثُ، والربْعُ، وكُلُّ جزءٍ ينسبُ إلى الجملة، فهو بعضُه في الحقيقة. فصل في الذَّنْبِ وهو التَأخرُ عن الواجب، قال الزَّجاجُ (¬2): أصلُه من اشتقاق آخرِ الشيءِ. والجُرْمُ، والمعصيةُ، والخطيئةُ نظائرُ الذَنبِ. ¬

_ (¬1) زيادة يتم بها المعنى. (¬2) هو إبراهيم بن محمد بن السري، أبو إسحاق الزجاج، من أئمة النحو في زمانه، صنف كتاب: "العروض"، و"الاشتقاق"، و"معاني القرآن"، توفي سنة (311) هـ. "سير أعلام النبلاء" 14/ 360.

فصول في النسخ

فصل في حَدَ النًسْخِ وحقيقتِه (¬1) وهو في أصل اللُّغةِ: الرفْعُ والإِزالةُ، قالوا: نسخت الشَمسُ الظلَّ، ونسخت الريحُ الآثارَ، بمعنى: رَفَعَتْها. وهوعلى المعنى في الشَرع، لكنَه رفعٌ مخصوصٌ، فيقعُ بمعنى: رفعِ الحُكْم رأساً، ويقعُ على وجه التَبديلِ للحكم، قال سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]،، وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ ننْسأها (¬2) نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]،، وهذا صريحُ التَبديلِ ومعناه. فتحقيقُ حده على مذهب أصحابنا وأهلِ السنه: أنه المبدلُ لحكمٍ ثبتَ، ولولا ورودُه لكان ثابتاً. وقد اختلف الناسُ في تحديده، وخَلطَ قومٌ من الفقهاء كلامَهم بكلام القَدَرِيةِ، وأنا أذكرُ في هذا الكتابِ حدودَ أهلِ الكلام مِمَّن ¬

_ (¬1) سيورد المؤلف بحثاً مستفيضاً في النسخ في 4/ 174. (¬2) هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير، والمعنى: ما ننسخ من آية الآن، أو نؤخر نسخها، مأخوذ من النَّسَأ، وهو التأخير، وقرأ الباقون: {نُنْسِها}، والمعنى على هذه القراءة: ما ننسخه من آية، أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها، مأخوذ من النسيان. "النشر في القراءات العشر" 2/ 219 - 220.

خالفَ السُّنَةَ لتُجتنبَ، وليمتازَ الحقُّ عندنا من باطلهم، ولِئَلَا يغتر المبتدىءُ بما يجدُه في كتبهم، فإنه قد يُفضي إلى فسادٍ في الأصل لايعلمُه: فقالت القَدرِيةُ، ومَنْ تابعَهم إما قَصْداً، وإمَّا جهلًا بمذهبهم: إن حَدَّه ومعناه: أنه النص الدالُّ على أن مِثْلَ الحكمِ الثابتِ بالنص المتقدمِ زائلٌ على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً (¬1). وقال بعضُهم أيضاً: إنه الدالُّ على أن مثل الحكمٍ الثابتِ بالمنسوخِ غيرُ ثابتٍ في المستقبل، على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً بالنصِّ الأولَ (¬2). وزادَ فيه آخرون: بأنه ما دَلَّ على سقوطِ مثلِ الحكمِ الثابتِ بالنَّصِّ الأولَ، مع تراخيه عنه (¬3). وقال بعضُ الفقهاءِ: حَدُّه: أنه بيانُ مُدَّةِ انقطاعِ العبادةِ. وكلُّ هذه الحدودِ باطلةٌ ومجانِبةٌ لمعنى النَسْخِ بما نُبَيِّنُ إن شاءَ الله. فصل وإنما عَدَلت القدريَّةُ إلى تحديد النَّسخِ بهذه العباراتِ؛ ¬

_ (¬1) ذكر الطوفي هذا الحد، ونسبه للمعتزلة، ثم ذكر ما يرد عليه من اعتراضات. "شرح مختصر الروضة" 2/ 254 وما بعدها. (¬2) "شرخ اللمع" 2/ 187. (¬3) ذكر الفتوحي قريباً منه في "شرح الكوكب المنير" 3/ 526.

- فصل في تصحيح حدنا للنسخ وبيان سلامته

لاعتقادهم أنَ الله لا يَصِح أن يَنْهى عن شيءٍ أمرَ به بعدَ أمرِه به؛ لأن ذلك- على ما زعموا هم واليهودُ (¬1) - عينُ البَداءِ أو يوجبُ البَداءَ (¬2)، أو أن يكون الحَسَنُ قبيحاً، والطَاعةُ عصياناً، والمرادُ مكروهاً، وأنَّ ذلك لا يقعُ إلا عن سفيهٍ، لا عن حكيمٍ، وطَوَّلوا القولَ في ذلك بناءً على ذلك الأصلِ، وأنه لا يجوزُ أن يَنْهى عما أمرَ به، ولا يُريدُ كونَ مانهى عنه. فمن اتَّبَعَهم في الحدِّ انساقَ به تحديدهُ إلى هذا الأصلِ، وإنما سلكَه من الفقهاء مَنْ نقلَ من صحيفةٍ، أو أعجبه بالبادرة صورةُ اللَّفظِ واختصارُه، من غير رَوَيةٍ ولا معرفةٍ بما يُفضي إليه (¬3). فصل في تصحيح حدِّنا، وبيانِ سلامتِه والذي نختارُه في حدِّ النَسخِ ومعناه: أنه الخطابُ الدالُّ على ارتفاعِ الحكمِ الثابتِ بالخطاب المتقدِّمِ، على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً ¬

_ (¬1) قال العطار في "حاشيته على جمع الجوامع" 2/ 121: نبه الإمام أبو حفص البلقيني على أن حكاية خلاف اليهود في كتب أصول الفقه مما لا يليق؛ لأن الكلام في أصول الفقه فيما هو مقرر في الِإسلام، وفي اختلاف الفرق الِإسلامية، أما حكاية اختلاف الكفار، فالمناسب لذكرها أصول الدين. (¬2) فسره الطوفي بقوله: وهو أن الشارع بدا له ما كان خفي عنه، حتى نهى عما أمر به، أو أمر بما نهى عنه. "شرح مختصر الروضة" 2/ 262. وسيورد المؤلف فصلاً في الفرق بين النسخ والبداء فى ص 237. (¬3) في الأصل: "يقضي الله"، وهو تحريف بيِّن.

به، مع تراخيه عنه (¬1). والدَلالةُ على ذلك: أنه لو لم يكنْ رفعاً للخطاب المتقدمِ، لم يكن نسخاً ولا إزالةً، لكنه كان ما دل عليه حكماً مبتدأً غيرَ مزيلٍ لحكمٍ ثبتَ. فصل في (¬2) بيان كل وصفٍ من الحدّ الذي اخترناه، وتأثيرهِ في الخصيصة. إنما قلنا: الخطابُ المزيلُ لحكم خطابٍ تقدَّمَ، ولم نقلْ: النصُّ المزيلُ لحكم نص تقدمَ؛ لأن الخطابَ يثبتُ به الحكمُ ويزولُ، وإن لم يكنْ نصاً، مثل أن يكون لَحْناً، وفحوىً، ومفهوماً، ودليلَ خطابٍ، فإذا قلنا: الخطابُ، دخلَ النصُّ، وإذا قلنا: النصُّ، خرجَ جميع ما ذكرنا من المفهومِ والفحوى والدليلِ واللحنِ. وأيضاً فإن السَّمعَ الواردَ بوجوب العباداتِ التي الذِّمَمُ منها بريئةٌ في العقلِ مزيل لحكم العقلِ، وليسَ بنسخ له؛ لأنه مزيل لما ليس هو من حكمِ الخطابِ، فثبتَ صحَةُ قولِنا. وإنما قلنا: ما دلَّ على زوال الحكمِ وارتفاعِ الحكمِ الثابتِ، ¬

_ (¬1) ذكر هذا التعريف أبو إسحاق الشيرازي في "شرح اللمع" 2/ 186، والرازي في "المحصول" 3/ 282، والآمدي في "الِإحكام " 3/ 151، وعزوه إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وارتضاه الغزالي في "المستصفى" 1/ 107. (¬2) وردت في الأصل: "فأما"، وصححناها كما هو مثبت، لتتناسق العبارة وتتضح.

بدلًا من قولنا: ما دلَّ على ارتفاع الأمرِ بالشيءِ بعدَ استقرارِه، وزوالِ النَّهي عنه بعد ثبوتِه، أو الإِباحةِ، أو الحَظْرِ؛ لأن قولنا: زوالُ الحكم، أو ارتفاع الحكمِ، يدخلُ فيه المأمور به، والمنهى عنه، والمندوب إليه، وذِكْر الأمرِ ذكرٌ للأخصِّ، فيَسْقطُ ما ليس بأمرٍ ممَّا هو فرضٌ وندبٌ وإباحةٌ وحظرٌ، فاللَّفظُ الذي لا يَسْقُط معه ولا يَخرُجُ بعض الأحكام أحسن من اللَّفظِ الذي يَخًص، فيسقِطُ ويخرِجُ ما لا بد من دخولِه، فبان أن قولَنا: الرافعُ للحكم، أوْلى من قولهم: الرافع لمأمورٍ به. وأما قولُنا: على وجهٍ لولاه لكان حكمُ الخطاب الأولِ ثابتاً؛ لأنه لو لم يكنِ الحكم ثابتاً بالخطاب الأولِ لولا ورودُ الثَاني، لكان ما ثبتَ بالثاني حكماً مبتدأً، ولم يكنْ رافعاً لحكم الخطابِ الأولِ. ويدلُّ على هذا أنه لو كان الخطاب المتضمِّنُ للحكم مفيداً لوقتٍ محدودٍ، وقد وقِّتَتِ العبادة به، ثم وردَ بعد تَقَضَي وقتهِ خطاب آخرُ مُسقِطٌ لمثل حكمِه، لم يكنْ عند أحد نسخاً لحكم الخطاب الأولِ، وذلك نحو قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وهذا يفيد الصيامَ إلى حين دُخولِ الليلِ، ولا يفيدُ وجوبَه في الليلِ، فلو قال: إذا دخلَ الليل فلا تصُمْ في الليل، لم يكن نسخاً؛ لأنه لم يزِلْ حكماً لولا ورودُه لكان ثابتاً بحقِّ الخطابِ المتقدم، فوجبَ لذلك اشتراط ذلك في الحَدَ. وإنما قلنا: مع تراخيه عن الخطاب المتقدِّيمِ؛ لأنه لو وَرَدَ معه ومقترناً به، لم يكنْ مزيلاً لشيءٍ ثَبَتَ بالأمرِ باتفاقٍ، ولا مُنبئاً عن انقطاع عبادةٍ ثبتت به، ذلك نحو أن يقول: صُمْ إلى الليل، فإذا دخلَ

الليلُ فَلا تَصُمْ ولا صيامَ عليك، ليس بمزيلٍ لحكم ثبتَ بقوله: صُمْ إلى الليل، فلو أطلقَ الأمرَ بالصيام، أو دل دليل على أن المرادَ بفرض الصيام زَمَنُ الليلِ والنهارِ جميعاً، ووردَ ذلك واستقرَّ، ثم قال له: لا تصمْ فَي الليل، فقد أسْقَطْتُ ذلك عنك، كان نسخاً؛ لأنه قد أزالَ حكماً ثبتَ بالخطاب المتقدمِ مع تراخيه عنه وبَعْدَ ورودِه واستقرارِه. فهذا هو الحدُّ الذي اخترناه. وسائرُ المعتزلةِ تأبى هذا الحدً لمخالفتِه أصولَهم، فالدَلالةُ على فساد حدودِهم التي قَدمْنا ذكرَها: أننا إذا كنا قد بَينَا أن النسخَ هو الإِزالةُ؛ وجبَ أن لا يصحَّ تحديدُه إلا بما ذكرناه دونَ جميعِ ما قالوه؛ لأنه يصيرُ تحديدهُ بذلك أجنبياً من معنى النسخ، لأنه إذا قيل: حَدُه الخطابُ الدَالُ على ارتفاعِ حكمِ الخطاب الأوَّلِ، أو الدالُ على انقطاعِ مدةِ العبادةِ (¬1)، أو الدالُ على سقوط مثلِ ما تضمَنَه الخطابُ الأولُ في المستقبلِ، وأمثالُ ذلك مما هو [في] (¬2) معناه، وجبَ أن لا يكون الناسخُ رافعاً ولا مزيلاً لشيءٍ مما ثبتَ بالخطاب الأولِ؛ لأن مثلَ ما ثبتَ به غَيْرُه، ولم يثبتْ قَطُّ بخطابِ أولَ، فيزولَ بالثاني، وليسَ ما أزالَ مِثْل الشيءِ ورَفَعَه مزيلًا لنفسَ الشيءِ، ولو كان مثلُ هذا نسخاً، لكان كلُّ خطابٍ ابْتُدِىءَ به إثبات عبارةٍ نسخاً لحكم خطابٍ آخرَ، وإن لم يكنْ بينهما تنافٍ في الحكم، ولم يكن أحدُهما رافعاً لشيءٍ ثبتَ بالاَخَرِ، وإذا بطَل؛ بطلَ ما قالوه. ¬

_ (¬1) في الأصل "العادة". (¬2) زدناها على الأصل؛ لاقتضاء السياق لها.

وأيضاً ممَّا يدلُّ على فساد قولِهم؛ أنهم قد قالوا: إنه ما دلَّ على زوال مثلِ حكمِ الخطاب الأوَّلِ على وجهٍ لولا ورودُه لكان ثابتاً بالخطاب الأوَّلِ، وهذا تَصريحٌ منهم بأن الناسخَ يُزيلُ ما ثبتَ بالخطاب الأولِ، ولولا ورودُ الثاني لكان ما أزالَه ثابتاً بالخطاب الأولِ، وهم كلُّهم يقولون: ما أزالَه الناسخُ ما ثبتَ قَطُّ -على قولهم- بالخطاب الأول، ولا دخلَ تحتَهُ، ولو تَضَمَّنه ودخلَ تحتَه لم يَجُزْ رفعُه وإزالتُه؛ لأنه يُوجِبُ بزعمهم جميعَ ما ادَّعَوْه من الِإحالةِ في صفةِ الله عزَّ وجلَّ، وهذه مناقضةٌ ظاهرةٌ، فإذا كان لا بدَّ من الثبوت على مُوجَبِ قولِهم: لولا ورودُ الناسخِ لكان الحكم ثابتاً بالخطاب المتقدِّمِ، وجبَ لا مَحالَةَ دخولُ ما رفعَه الناسخُ تحت الخطابِ المتقدِّم، ورفعُه بعد ذلك بما أزالَه ونسخَه، وهذا ما لا حيلةَ لهم في دفعه، ولا شُبْهَةَ في تناقض كلامِهم فيه. فصل فأما قولُ مَنْ قال: حدُّه: أنه الدالُّ أو المبينُ عن مُدَّةِ العبادة، أو عن زمن انقطاع العبادةِ، فإنه قولٌ ظاهرُ السقوطِ؛ لأنه يوجبُ أن يكونَ قولُه: صُمْ إلىَ الليل، فإذا دخلَ الليلُ فلا تَصُمْ، نسخاً لقوله: صمِ اللَّيلَ؛ لأنه بيانٌ عن مدَّةِ زمنِ العبادةِ وعن انقطاعِها، بل كان يجبُ أن يكونَ قولُه: صم إلى الليل، نسخاً لقوله: صم؛ لأنه قولٌ فيه إثبات العبادةِ، وبيان مدَّتِها وزمنِ انقطاعِها، وذلك باطلٌ باتِّفاقٍ، فسقطَ ما قالوه. وإن ضَمُّوا إلى ذلك أن يقولوا: الدال على مدةِ انقطاع العبادة، أو سقوطِ مثلِها، مع تَراخيه عن الحطاب المتقدِّمِ، دخل عَليهم ما

- فصل في بيان قولنا: نسخ على وزن فعل

أَفْسَدْنا به قولَ مَنْ قَبْلَهم بعينهِ؛ لأنّ [زمنَ] (¬1) العبادةِ التي دل على انقطاعها الخطابُ المُتراخي، لم يدخلْ قطُّ في الخطاب (¬2) الأولِ، ولا تَضَمَّنَه، فكيف يكونُ الثاني رافعاً له؟ فبطَلَ ما قالوه. والذي يدل على سقوطِ هذا الحد وإبطالِه على أصولنا: أننا نُجَوزُ نسخَ العبادةِ الواحدةِ والفعلِ الواحدِ قبل دخولِ وقتِهِ، وإن لم تكنْ إزالةُ حكمِه بياناً لسقوطِ أمثالِه، ولا بياناً لانقطاع مدةِ التَعَبُدِ به، أو التَّعبُدِ بسقوط أمثالِه، فبطلَ ما قالوه في حدِّ النسخ من كلِّ وجهٍ، وثبتَ بذلك: أن كل نسخٍ لحكمٍ في الشَّرعِ، إن كان نسخاً لفعل واحدٍ، أو بعضِ جملةٍ دخلَت تحتَ خطابٍ متقدِّمٍ، أو دليلٍ على تَكْرارِ العبادةِ، فإنه رفع لما ثبتَ بالخطابَ المتقدم قبلَ دخولِ وقتِه، وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيه. وسنبينُ جوازَ نسخِ الشيءِ قبلَ وقتِه في مسائل الخلافِ من الكتاب (¬3)، إن شاءَ الله. فصل في بيان قولِنا: نَسَخَ، على وزن: فَعَلَ (¬4). أعلم أن هذا القولَ يقعُ على ناصب الدً ليلِ على رَفْعِ الحكمِ الثابتِ بالخطاب، ويقعُ أيضاً على الدليلِ الرافعِ لحكم الخطابِ ¬

_ (¬1) لم ترد في الأصل، والسياق يقتضيها. (¬2) في الأصل: "كالخطاب " والجادة ما كتبناه. (¬3) انظر 4/ 271. (¬4) في "المعتمد" 1/ 366، و"التمهيد" 2/ 336: "ناسخ على وزن فاعل".

الأولِ، ويجري أيضاً على مُعْتَقِدِ جوازِ نسخِ الشَيء بغيرِه، وقد يقعُ ويجري أيضاً على حكم الخطاب الثاني الرافعِ لحكم الخطابِ الأولِ، فهذا جملةُ ما تستعملُ هذهَ اللفظةُ فيه. والدَّلالةُ على استعمالهم لها في ذلك اجْمَعَ: إجماعُ العلماءِ أن الله سبحانه نسخَ حكمَ آية االسيف (¬1)، ونسخ كذا، ونسخ كذا، بمعنى: أنه نصبَ الدليلَ على رفع الحكمِ الثابت بالخطاب المتقدمِ. ويقولون أيضاً: نسختِ الآيةُ إلسنَةَ، ونسختِ السّنَةُ الآيةَ، يريدون؛ أنها دالةٌ على زوال الحكمِ الأول. وُيقال: نُسِخَ صومُ عاشوراءَ بصوم رمضانَ، ونُسِخَتِ الوَصيةُ للوالدَيْن (¬2) بالميراث (¬3)، ويريدون بذلك: أنه رفعَ حكماً ثابتاً قبلَ ¬

_ (¬1) وهي قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]. وليس ثمة إجماع على نسخها كما قال المصنف، بل هي محكمة عند أكثر العلماء، وناسخة لجميع ما أمِرَ به المؤمنون من الصَفح والعفو والغفران للمشركين. وذهب الحسن والضحَّاك والسدي وعطاء إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {فإما مَنَّا بعدُ وإما فداءً} [محمد: 4]. انظر "الناسخ والمنسوخ في القرآن" لأبي جعفر النحاس ص 197 - 198، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب ص 308 - 309، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 309. (¬2) يعني قوله تعالى: {كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدين والأقربين} [البقرة: 1180]. (¬3) يعني آيتي المواريث، وهما [الآيتان: 11 و12] من سورة النساء.

ورودِه ويقال: فلانٌ ينسخُ القرآنَ بالسنَةِ، وفُلانٌ (¬1) لا ينسخُ القرآنَ بالسنَّةِ. وهذا الاستعمالُ متفَقٌ على إطلاقه، وهو مجازٌ عندنا في جميع ذلك، إلا في ناصب الدَّلالةِ على رفع حكمِ الخطاب، لأنه تعالى هو الرافعُ للحكم في الحقيقة بقوله الذي نسخَ، والنَسخُ قولُه الذي به يكون ناسخاً. ومعتقِدُ نسخِ القرآنِ بالسنَةِ ليس برافعٍ لحكم القرآنِ، لكنَه مخبِرٌ عن رفع الله له بقوله على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. وكذلك الدليلُ الدال على رفع الحكمِ ليس برافع له على الحقيقة، وإنما يدل على رفع اللهِ له به. وكذلك الحكمُ الثاني ليس برافع للأول، وإنما الرافعُ له مَنْ رفعَ الأولَ وأبدلَه بالثاني، فدل بهذا النفيِ على أنه مجازٌ في جميع ذلك، إلا ما تحقَقَ في حقِّ اللهِ جل ثناؤه، إذ كان هو الرافعَ بإضافة النَسخ إليه، وهو مَنْ (¬2) يرفعُ وُيثْبِتُ حقيقةً. والمعتقدُ للنَسخ يعلمُ برفعه وُيخْبِرُ، والرفعُ لم يحصلْ باعتقاده ولا بخَبَرهِ، يوضِّحُ ذلك: أنه لو لم يعتقدْ ولم يُفْتِ بالنسخ، لما عادَ الحكمُ ثابتاً، ولو لم ينْزِلِ الله وحياً يأمرُ بالرفع والإِزالةِ، لكان الحكمُ ثابتاً، فبانَ بذلك أنه هو الرَّافعُ (¬3) للحكم حقيقةً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "العراقي". (¬2) وردت في الأصل: "ممن"، وهو غلط. (¬3) كتب في الأصل: "الرفع"، وصوابها ما أثبتناه.

- فصل في قولنا: منسوخ

فصل في قولنا: منسوخٌ وحقيقةُ قولِنا: منسوخٌ، إنما هو الحكمُ المرفوعُ، لأن الآيةَ وإن سُمِّيَتْ منسوخةً، فإنها غيرُ مرفوعةٍ ولا مزالةٍ، وإنما المرفوعُ حكمُها، وهي باقيةٌ من جهة كونِها كلاماً لله سبحانه، وكذلك السّنَةُ ثابتةٌ، وإنما المنسوخُ حكمُها. فإن قيل: أليسَ قد قالوا: من جملةِ المنسوخِ ما نُسِخَ رَسْمُه؟ وهذا قولُكم يعطي أنْ لا منسوخَ إلا الحكمُ دون الرسْم. قيل: إذا تامَّلَ المحقِّقُ ذلك، وجَدَ أن المنسوخَ من الرسمِ إنما نُهِيَ عن كَتْبه في المصحف، وتلاوتِه في القراءَة، وهذا حكمٌ أيضاً؛ لأن النهيَ حكمُ الله على المكلَّفين، وأما عيْنُ الآيةِ فلا تُرْفَعُ، والله أعلم. فصل يحصرُ ذلك ويجمعُ منثورَه اعلم أنه لا بُدَّ في هذا البابِ من إثبات ناسخٍ، ونسخٍ، ومنسوخٍ، ومنسوخٍ عنه: فالناسخُ: الرافعُ للحكم، وهو الله سبحانه على ما قَدَّمْنا وحَقَّقْنا. والنسخ: قولُه سبحانه الدالُّ على رفع الحكمِ، ووَحْيُه إلى نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - والمنسموخُ: هو الحكمُ المرفوعُ.

والمنسوخُ عنه:- هو المكلف المتعبدُ بالفعل، الذي تُزالُ العبادةُ عنه بعد ثبوتِها، والحكم في الجملة من إباحةٍ وحظرٍ وإيجابٍ ونَدْبٍ، فتجبُ معرفةُ ذلك وتحصيلُه على كل فقيهٍ. وأما الرافعُ، فقد يكونُ، وقد لا يكونُ، فليس هو ممَا لابد منه، وهو الحكمُ المنسوخُ به؛ لأنه ليس من ضرورة المنسوخِ أن يُنْسَخَ إلى شيء يَخْلُفُه، ويكونُ بدلًا عنه، بل قد ثبتَ ذلك، مثلُ: نسخِ الحَبْسِ في البيوتِ (¬1) بالجَلْد والتَغريب أو الرجم (¬2)، وإبدالٍ التَّوَجُّهِ إلى بيت المقدسِ بالتَوَجُّه إلى البيت اَلعتيقِ (¬3)، وَما رُفعَ ونُسِخَ لا إلى بدلٍ، مثلُ: رفعهِ صدقةَ النَّجْوى (¬4) لا إلى صدقةٍ، وبدلٍ، بل قنوعٍ بما شرعَ من الصلاة والزكاة، ومثلُ نسخِه لسورة كانت مثلَ الأحزابِ لا نعلمُ لها بدلًا (¬5). ¬

_ (¬1) الوارد في قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً} [النساء: 15]. (¬2) بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مئة، والرجم"، وقد تقدم تخريجه في الصفحة (193). (¬3) في قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144]. (¬4) أي: تقديم صدقة بين يدي نجوى النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت واجبة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} [المجادلة: 12]. (¬5) أخرج الطيالسي (540)، وعبد الرزاق (13363)، وعبد الله بن أحمد في زياداته على "المسند" 5/ 132، والنسائي في "الكبرى" (7150)، وابن حبان =

* فصول في شروط الناسخ والمنسوخ، وما ألحق به وليس منه

فإن قيل: القرآنُ يدفعُ هذا بقوله: {ما نَنْسَخْ من آيةٍ أو نُنْسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلِها} [البقرة: 106]، وما استشهدتم [به] ما خلا من بدل؛ لأنه قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المجادلة: 13]، وقال في قيام الليلِ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا} [المزمل: 20]، فما ذكرَ نسخاً إلا وعَقَّبه منسوخاً به من تعبد: إما أضعفَ، أو أسهلَ، وأخْبَرَ بذلك. قيل: الإِسقاطُ رأساً خيرٌ كما أَخبَرَ، ولم يقل: نأتِ بحكم هو خيرٌ، بل الِإسقاطُ خيرٌ، والصلاةُ والزكاة ليست بدلًا عن صدقةِ النَجْوى بإجماعنا (¬1). فصول في شروط الناسخِ والمنسوخِ، وما ألْحِقَ به وليس منه. فأحدُ شرائطهما (¬2): أن يكونا حُكمين شرعيَّين، فأما النَّاقلُ عن حكم العَقْلِ، الساقطُ بعد ثبوتِه، فلا يوصفُ بأنه ناسخ، ولذلك لم توصفِ العباداتُ الشرعيةُ من الصلوات وغيرها، والخطابُ المحرمُ (¬3) ¬

_ = (4428) و (4429) عن زِرَّ بن حُبَيْش قال: قال أُبَي بن كعب: كم تَعُدُّون سورة الأحْزاب من آية؟ قلت: ثلاثاً وسبعيق، قال أبى: والذي يُحْلَفُ به إن كانت لتعدل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها آية الرجم: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم. (¬1) "العدة " 3/ 783 - 785، و"المسودة": 198. (¬2) في الأصل:"شرائطها". (¬3) في الأصل: "المحترم".

لمَّا لم يكنْ في العقلِ حراماً، بأنهما ناسخان لحكم العقلِ، وكذلك لا يوصفُ الموتُ المزيلُ لفَرْضِ العبادة، وكل ماجرى مَجْراه (¬1)، بأنه ناسخٌ لها، لمَا لم يكن المزيلُ خطاباً مزيلًا لحكم خطابِ أوَّلَ، ولأنه قد قيل للمكلَّفِ في أَصل التَعَبدِ: العبادةُ لازمةٌ لك إلىَ أن تموتَ، فصارَ لاقتران البيانِ به غيرَ ناسخٍ، وإنما نمنعُ وصفَهما بأنه ناسخٌ ومنسوخٌ، وإنْ كان بمعنى ما يوصفُ بذلك من الخطاب، لأنه ليس بخطاب أزالَ حُكْمَ خطابٍ ثابتٍ. ومن شرطهما: أن يكونَ الخطابُ النَاسخُ منفصلَاَ عن المنسوخ، ومتأخَراً عنه، لأنه إذا كان متًصِلًا به، لم يكنْ ناسخاً (¬2)، ولا ما يزولُ حكمُه به منسوخاً؛ ولهذا لم يكنْ قولُه: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222]، نسخاً لحَظْرِ الوَطْءِ، وقولُه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، نسخاً لفَرْضِ القتالِ، وإلى أمثالِ ذلك. فصل ومن شرائطهما (¬3) أيضاً: أن لا يكونَ الخطابُ المرفوعُ حكمُه مقيَّداً بوقت يقتضي زوالَ الحكمِ عند دخولِه، ولذلك لم يكنْ قولُه: {أُ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، ناسخاً لصيام النَّهار، ولا كانت إباحةُ الإِفطارِ يومَ الفِطْرِ وما بعده نسخاً لصيام رمضانَ، وإلى أمثالِ ذلك مما وردَ التَعَبُّدُ به مؤقَتاً بوقتٍ محدودٍ. ¬

_ (¬1) أي: كزوال العقل بالجنون. (¬2) إنما يكون استثناءً وتخصيصاً. (¬3) في الأصل: "شرائطها"، وما أثبتناه هو الجادة.

فصل ومن حَقِّهِما (¬1) في حكم الدِّين: أن يكونا خطابين واردين مِمَن (¬2) تجبُ طاعتهُ وتلزمُ عبادتُه، وتثبتُ الأحكامُ بما يَشْرَعُه، وهو الله سبحانه. فإن قيل: فما تقولون في قول الرسولِ لأُمَّتهِ: قد أُزيلَ (¬3) عنكم الحكمُ، بعد استقرارِه، هل هو نسخٌ، أم لا؟ قيل: هو نسخٌ، لكن ليس بنسخٍ من جهته، وإنما هو عبارةٌ عن رفعِ الله عزَّ وجل له، لأنه لا يُزيلُ ولا يُبَدِّلُ من تلقاءِ نفسهِ، فهو عن الله يقول، فصار قولُه لنا كقول جبريلَ له عن الله من (¬4) الأحكام، وإزالةِ الأحكام، وكقول المُفْتِي مِنَا للمستفتي: قد سقطَ عنك ما كنتُ أفتيتُك به، فاعَمل بغيره، ليس بنسخ منه، وإنما هو خَبَرٌ عن حكم الله عزَّ وجل عليه بذلك عند تَغَيرِ اجتهادِ المفتي. فصل وقد يقعُ النسخُ في أوامرِ مَنْ لا تلزمُ طاعتهُ ونواهيه، إذا رَفَعَ بعضَ ذلك ببعضٍ، غيرَ أنه ليس مما يثبتُ به، ولا يزولُ حكمٌ من جهة الدَينِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حقها". (¬2) في الأصل: "فيمن"، وهو تحريف واضح. (¬3) في الأصل: "أزال"، وما أثبتناه هو المناسب لما ذكره المصنف من إشكال. (¬4) وردت في الأصل كلمة "له" قبل "من"، وهي مقحمة لا معنى لها.

* فصول في بيان ما ليس من شروطهما

فصول في بيانِ ما ليس من الشُّروط وقد تشتبهُ، فأزَلْنا الاشتباهَ بذكرِها. فمن ذلك: أنه ليس من شَرْطِ النَّاسخِ أنْ يكونَ رافعاً لمثل حكمِ المنسوخِ في المستقبل، دونَ نفسِ حكمِه الثابتِ به، لأننا قد بَينَا أن مثلَ حكمِه غيرُحكمِه، ومارفعَ غيرَ (¬1) حكمِ الشيءِ الثابتِ به، فليس بناسخً له. وسنذكرُ إبطالَ ما يظنُه المخالفون من المُعْتَزِلَة، وأنه لو أُزيلَ نفس الحكمِ المنسوخِ، لكان بداءً وإحالةً، بما يُوَضَحُ الحق، إن شاءَ الله (¬2). فصل وليس من شرطهما أن يكونَ الناسخُ وارداً بعد تَقَضِّي وقتِ المنسوخ؛ لتَوَهُّمِ المشترط لذلك إحالةَ نسخ الشيءِ قبلَ وقتِه؛ لأن ذلك صحيحٌ جائز على ما نُبَينُه من بعد، إن شاءَ الله (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن". (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة (212). (¬3) انظر الجزء الرابع، ورقة 2631، من الأصل.

فصل ولا يُتصورُ النسخُ على التَّحقيقِ إلا بأن يكونَ نسخاً قبل تَقَضَي وقتِه، إن كان المنسوخُ المتعبَّدُ به واحداً، أو بعضاً لجملة، على ما بَينَاه من قبلُ (¬1). فصل وليس من شرط المنسوخِ أن يكونَ ممَّا يصحُ أن يدخلَه الاستثناءُ والتَخصيصُ، وأن لا يكونَ فعلاً واحداً، لأنهم يبنون ذلك على إحالة نسخِ الشيء قبلَ وقتِه، وهم في ذلك مخطئون؛ لِمَا نُبَيِّنُه من الدلائل في مسائل الخلافِ، إن شاء الله (¬2). فصل وليس من الشرط أن يكونَ نسخُ الشيءِ بمثلِه، مثل: سُنَّةٍ بسُنَةٍ، بل يجوزُ نسخُ المقطوع به بغير المقطوعِ به من السنَّة على ظاهر كلام أحمدَ، وأَخَذَهُ بعض أصحابنا -رضي الله عنهم- ممَّا قال أحمدُ -رضيَ الله عنه- في رواية الفضل بن زياد (¬3) وأبي الحارث (¬4) في خَبَر ¬

_ (¬1) في الصفحة (217). (¬2) في الجزء الرابع من الكتاب. (¬3) هو أبو العباس الفضل بن زياد القطان البغدادي، كان من المتقدمين عند الإمام أحمد، وقع له عنه مسائل كثيرة جياد. "طبقات الحنابلة" 1/ 251 - 253. (¬4) هو أحمد بن محمد، أبو الحارث الصائغ، من أصحاب الِإمام أحمد المقدمين، روى عنه مسائل كثيرة. "طبقات الحنابلة" 1/ 74 - 75.

الواحدِ: إذا كان إسنادُه صحيصاً وجبَ العملُ به، ثم قال: أليس قِصَةُ القِبْلَةِ حين حوَلَت، أتاهم الخبرُ وهم في الصلاة، فتَحَوَلوا نحو الكعبةِ (¬1)؛ وخبر الخمرِ أهراقوها، ولم ينتظروا غيرَه (¬2)؛. قال: فثبتَ أنه ¬

_ (¬1) أخرج أحمد 4/ 283 و288 - 289 و 304، والبخاري (40) و (399) و (4486) و (4492) و (7252)، ومسلم (525)، وابن ماجه (1010)، والترمذي (340) و (2962)، والنسائي 1/ 242 - 243 و243 و2/ 60 - 61 عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهلث، شطر المسجد الحرام} فوجه نحو الكعبة، وكان يحب ذلك، فصلى رجل معه العصر، ثم مر على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -، وأنه قد وجه إلى الكعبة، قال: فانحرفوا وهم ركرع. وأخرجه مالك 1/ 195، وأحمد 15/ 2 - 16 و26 و105 و 113، والدارمي 1/ 281، والبخاري (403) و (4488) و (4490) و (4491) و (4493) و (7251)، ومسلم (526)، والترمذي (341) و (2963)، والنسائي 1/ 244 - 245 و 2/ 61 عبد الله بن عمر. (¬2) أخرجه مالك 2/ 846 - 847، وأحمد في "المسند" 3/ 183 و189 - 190 وفي "الأشربة" (17) و (18) و (136)، والبخاري (2464) و (4617) و (4620) و (5582) و (5583) و (5600) و (5622) و (7253)، ومسلم (1980)، وأبو داود (3673)، النسائي 8/ 287 و287 - 288، وابن حبان (5352) و (5361) و (5362) (4945) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ، فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ. جاء رجل، فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس. قال: فما=

قد أُخِذَ بالسَنَّةِ في نسخ الكتابِ، وإن كانت آحاداً. وهذا عندي لاتثبت منه رواية تُعْطِي نسخَ القرآن بالسَنَّة حتى يتقرَّرَ شروطُ النسخِ فيه، وليس مَعَنا أن القومَ كانوا استقبلوا بيتَ المقدسِ بقرآنٍ؛ لأنه ليس معنا قرآن نتلوه في ذلك، وإنما غايةُ ما فيه أنها كانت قبلةً بدليل قطْعٍ، وهو أمرُ الرَّسولِ لهم بذلك، واستقبالُه لها على الدَّوام، وما نعرفُ أحداً قال بأن القرآنَ يُنسَخُ حكمُه بخبر واحدٍ (¬1)، ولا خبَرَ التواترِ القَطْعِيَّ بخبر الواحدِ، فيصيرُ خبرُ أهلِ قُباء يحتاجُ إلى أويل يُخْرِجُه عن ظاهره، ولا في إباحة الخمرِ تلاوة. فصل والمنصوصُ عن صاحبنا أحمد -رضي الله عنه- أن من شَرْطِ نسخِ القرآنِ أن يكونَ بقرآن، ولا يجوزُ بالسَنَّةِ، قال وقد سُئِلَ: هل تَنسخُ السّنَّةُ القرآنَ؟ قال: لا، لا يَنسخُ القرآنَ إلا قرآن يَجيءُ بعدَه، والسنَّة تُفَسِّرُ القرآنَ (¬2). ¬

_ سالوا عنها، ولا راجعوها بعد الخبر. (¬1) بل نقل المصنف الخلاف فيه عن أهل الظاهر فيما سيأتي له في مباحث النسخ، وهو مقرر في "الِإحكام" لابن حزم 4/ 107. وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية مذهباً لابن عقيل نفسه، حيث قال في "المسودة" ص 203: وحكى ابن عقيل في "الفنون" عمن قال: "إن خبر الواحد والقياس يجوز أن ينسخ حكم القرآن": وقرر حنبلي ذلك. أظنه نفسه. (¬2) ذكر هذه الرواية أبو يعلى في "العدة" 3/ 788 - 789، واختار أبو الخطاب في "التمهيد" 2/ 369 جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وحكاه رواية عن أحمد.

وسنذكرُ ذلك مستوفىً في مسائل الخلاف (¬1). فصل وليس من شرطهما أن يكونا نَصَّيْنِ مقطوعاً على ثبوتهما، وموجِبَيْنِ للعِلْمِ؛ لأننا سنقيمُ الدَّليلَ على صحةِ نسخِ التَواتر بمثلِه، ونسخِ خَبَرِ الواحدِ بالمتواتر، وإن مَنَعْنا من نسخ المتواتِر بخبرِ الواحدِ. فصل وكذلك ليس من شرطهما أن يكونَ المنسوخُ حكماً قد نُقِلَ لفظُه إلينا، بل يجوزُ أن يَرِدَ النسخُ لحكم، ولا يكونُ ذلك الحكم ثبتَ بلفظ منقول إلينا، بدليل أن نسخَ القِبْلَةِ وردَ واتَفقَ الناس على أن استقبالَ بيتِ المقدس منسوخٌ بفَرْض التوجه إلى الكعبة، وقد اتَفَقَ الكُلُّ على أنه لا نص في الكتاب أوَ السنَةِ منقولٌ إلينا بلفظ وتفصيلٍ يُوجبُ التوجهَ إلى بيت المقدسِ رفعَ حكمه بقول: {فوَل وجهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ} [البقرة: 144]، ولو تَتَبًعْنا كثيراً من المنسوخ لوجدنا أمثال ذلك، وإن كان حكمُه مرفوعاً. فصل ولا يمتنعُ أيضاً نسخُ الحكمِ الثابتِ باجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم وقياسِه -إذا قلنا: يجوز أن يَحْكُمَ باجتهاد-، وإن لم يكنْ ثابتاً بلفظ ذي صيغةٍ وصورةٍ يَجِبُ نقلُها. ¬

_ (¬1) في الجزء الرابع من الكتاب في الصفحة 231.

فصل وكذلك ليس من شرطهما أن يكونا أمراً نُسِخَ بنهي، أو نهياً منسوخاً بأمر، أو حَظْراً منسوخاً بإباحة، لِمَا بَيَّنَّاهُ من قبلُ (¬1)؛ لأنه قد يُنْسَخُ الإِيجاب والحظرُ بالإِباحة، وينسخُ الفرضُ المُضَيًقُ من أصله، وقد يُتركُ وُيرفعُ تضييقُه بتوسعة وقتِه، أو بتوسعة التًخييرِ بينه وبين غيرِه، بحَسَبِ المشيئةِ المطلقةِ، والإِرادةِ النافذةِ، أو المصلحةِ الحكْمِيَّةِ. فصل وكذلك لا يُعتبرُ بقول من قال: يجبُ أن لا يُنسَخَ الواجبُ إلا بواجب مثلِه، بل قد يُنسخُ بواجبٍ مثلِه، وُينسخُ بالحظر، وُينسخُ بالنَّدب، وُينسخُ بالإِباحة (¬2)، فيجبُ أن لا يعتبرَ في ذلك أكثرُ من أن يكونَ أحدُهما رافعاً لحكم الآخَرِ، أيً حكمَيْنِ كانا. فصل في الدَّلالةِ على ذلك وهو أنه لا يخلو: إما أن يكونَ النسخُ لمصلحةٍ، أو لمجرَّدِ مشيئةٍ مطلقةٍ من جهة مَنْ له التًصَرفُ في ملك الأعْيانِ، وكلاهما لا يَمنعُ من ذلك، ولذلك صَحَّ أن يرتفعَ الحظر إلى إيجاب وإباحةٍ ونَدْبٍ، وترتفع الإِباحةُ إلى إيجاب ونَدْبٍ، وإلى تحريم وحظرٍ، ويرتفعَ الندبُ إلى إيجاب وإلى إباحة وحظرٍ، فوجبَ أن يكونَ الاعتبارُ في ذلك بما قُلْناه فقَطْ. ¬

_ (¬1) انظرما سبق في الصفحة (221 - 222). (¬2) "العدة" 3/ 783 - 785.

فصل وكذلك فلا اعتبارَ بقول من قال: من شرطهما أن تكونَ أحكامُهما ثابتةً بنصِّ الخطابين وظاهرِهما دون لَحْنِهما وفحواهما، أو دليلٍ دالٍّ على تَكْرارِ العبادةِ المنسوخةِ ودوامِها، وقد يكونان (¬1) كذلك، ويكونان بخلاف هذه الصِّفةِ، إذا عُلِمَ ثبوت حكمِ المنسوخِ من الخطاب بأيِّ وجهٍ كان، من ظاهرٍ ونصٍّ وفحْوىً ودليلِ تكرارٍ، وأكثرُ العباداتِ المنسوخةِ لم يثبتْ دوامُ حكمِها بنصٍّ، بل بدلائلَ تدلُّ على التَّكرار. فصل وكذلك إذا ثبتَ حكمُ الناسخِ، وكان منافياً لحكم المنسوخِ، وجبَ كوُنه ناسخاً له، وإن لم يَثْبُتْ ذلك بلفظه؛ ولهذا قال الناسُ: إن آياتِ المواريثِ (¬2) نَسَخَتْ آيةَ الوصيةِ للوالدَيْنِ والأقربين (¬3)، وإن لم يتنافَ حكماهما من جهة اللفظ؛ لأنه كان يَصِح أن يأخذَ الوالدان بالوصيةِ والميراث جميعاً؛ ولذلك بَيَّنَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم: أن آيةَ المواريثِ قد نَسخَت ما قبلها بقوله صلى الله عليه وسلم "ان اللهَ قد أعطى كُل ذي حَقٍّ حَقَه، فلا وصيةَ لوارث" (¬4)، وأمثالُ هذا كثير. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يكونا" والجادة ما أثبتناه. (¬2) الآيتان (11 و12) من سورة النساء. (¬3) الأية (180) من سورة البقرة. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة 11/ 491، وأحمد 5/ 267، وأبو داود (2870) و (3565)، وابن ماجه (2713)، والترمذي (2120)، والبيهقي 6/ 264 من حديث أبي أمامة الباهلي. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي الباب عن عمرو بن خارجة؛ وأنس بن مالك، وابن عباس، =

* فصول في بيان ما يصح ثبوت حكمه بالتعبد، ويصح زواله بالنسخ

فصل وكذلك فليس من شرطهما كونُ الناسخِ أخف من المنسوخ؛ لأنه قد يُنسخُ الشَيءُ بمثله، وبما هو أثقلُ منه، وبما هو أخف، وقد يُنسخُ إلى غير بَدَل أصلاً، على ما نَدُل عليه من بعدُ (¬1)، إن شاء الله؛ فلا وجهَ لقول مَنْ قال: لا يُنسخُ إلا ببدلٍ (¬2). فهذه جملة كافية في الشُروط المُعْتَبَرةِ وغيرِ المعتبَرةِ. فصول في بيانِ ما يصحُ ثبوتُ حكمِه بالتًعبدِ، ويصحُّ زوالُه بالنسخ. قد أكثرَ أهل العلمِ من الفقهاءِ والمتكلمين استعمالَ القولِ: بأن النسخَ يتناولُ الأزمانَ فقَطْ دون الأعيانِ، وأن التَخصيصَ يتناولُ الأعيانَ والأزمانَ والأحوالَ، وهذا إنما يستعملُه المحصَلون لعلم هذا البابِ على سبيل التجَوُّزِ والاتَساعِ؛ لأن الأعيانَ والأزمانَ باتَفاقٍ ليست من أفعال العبادِ ومقدوراتِهم، ولا ممَّا يدخلُ تحت تكاليفِهم، وإذا كان كذلك؛ وجَبَ أن يتناولَ النسخُ على الحقيقة رفعَ فِعْل في بعض الأزمانِ دونَ رَفْعَ الزمانِ. وكذلك فإنما يدخلُ التخصيصُ في إسقاط فعل في بعض ¬

_ = وغيرهم. انظر "نصب الراية" 4/ 403 - 405. (¬1) انظر ما يأتي في الصفحة (250). (¬2) القائلون بمنع نسخ الحكم إلى غير بدل هم جماهير المعتزلة كما حكاه عنهم الجويني في (البرهان) 2/ 1313.

- القول بجواز سقوط جميع العبادات عن المكلفين لا بالنسخ، واستحالة سقوط جميعها بالنسخ

الأعيانِ، وذلك نحْوُ أن يقولَ: صَلِّ أبداً دائماً. ثم يقولُ له: لا تُصَلِّ. فيكونُ النسخُ داخلًا على الفعلِ دونَ زَمَنِه. وكذلك إذا قال: اقتلوا المشركين إلا زيداً. فزيدٌ على الحقيقة ليس بمخصوص، لكنَّ المخصوصَ منعُ إيقاعِ الفعلِ فيه؛ لأن اللَفظَ يقتضي إيقاعَ الفعلِ في جميع الأزمانِ وجميعِ الأعيان، فإذا مُنعَ من إيقاعه في بعضها كان ذلك تخصيصاً للأفعال، وكذلك إذا قال: اقْتُلِ المشركَ إلا أن يكونَ معاهَداً، فكأنَّه قال: اقْتُلْه في حالِ لا عَهْدَ له، ولا تَقْتُلْه في حال العهدِ، فذلك يرجعُ إلى التخصيص لِإيقاع الفعلِ في حالٍ دونَ حال، وكونُ المشركِ حَرْبياً أو معاهَداً لا يدخلُ تحت تكليفِ المسلم، لأنهما صفتان للمشرك وفِعْلان من أفعالِه، والعبدُ لا يُكَلَّفُ فعلَ غيرِه، فيجبُ تنزيلُ هذه الإِطلاقات وحَمْلُها على ما قلناه. فصل في القول في جواز سقوطِ جميع العباداتِ عن المكلفين بالنَّسخِ (¬1)، واستحالةِ سقوطِ جميعها [لا] (¬2) بالنسخِ. اعلم أنَا قد قَدمْنا في أوَّلِ الكتاب (¬3): أنه لا حَظ لضَرُوراتِ العقولِ وأدلَّتِها في القضاء على تحسين فَعل أو تقبيحِه، أو إيجابه، أو حَظْرِه، أو إباحتِه، وأنه لا شيءَ من الأفعال له صِفة، ووجْة لكَونه في ذاته عليه، يقتضي العَقْل الحكمَ فيه ببعض هذه الأحكامِ، وإنما ¬

_ (¬1) وقع في الأصل: "لا بالنسخ"، والصواب حذف (لا). (¬2) زيادة على الأصل يستقيم بها مراد المصنف. (¬3) انظر الصفحة (26).

تثبتُ للأفعال هذه الأحكامُ بالسمع فَقَطْ، وأنه لا يجبُ فَرْضٌ على أحد من جهة العقلِ، من معرفة اللهِ سبحانه إلى ما دونَ ذلك، فالتَكليفُ إذاً -لأجل ما قد بينَاه- لا يكونُ إلا سَمْعاً. وثَبَتَ من أصلنا أيضاً أنه لا يجب على الله تكليفُ خلقِه، وبَعْثُه الرُّسُلَ إليهم، سواءٌ عَلِمَ أن لهم في ذلك المصلحةَ لجميعهم، أو لبعضهم دونَ بعضٍ، أو لا مصلحةَ لأحد منهم فيه. فإذا ثَبَتَتْ هذه الجملة التي يُفارَقُ فيها القدريةُ ويخالفون؛ لم يَصْلُحْ للفقيه المعتقدِ في الأصل ضلالَتهم أن يَبْنِيَ الأمرَ في التَّكليف على ما قالوه من وجوب الاستصلاحَ للخَلْقِ أو لبعضهم على الله سبحانه، وجازَ لأجل هذا سقوطُ جميعِ العباداتِ عن جميع الخَلْق، وأن لا يبعثَ الله تعالى إلى أحد رسولاً، فيَسْقُطُ حينئذٍ عنهم فرض معرفتِه، وكلُّ ما عداها، ولا يُصِيبُ أحدٌ منهم إذ ذاك قبيحاً، ولا محرماً، ولا محظوراً، وكذلك فقد يجوزُ في حكمتِهِ سبحانه أن ينسخَ عنهم بالسمع الواردِ من جهته جميعَ ما تَعَبدهم به، وُيزيلَ فَرْضَه، وُيسقط عنهم تحريمَ كل ما حَرمَ عليهم فعلَه، وأن يجعلَ الواجبَ عليهم من ذلك محظوراً، والمحظورَ واجباً، غيرَ معرفتِه تعالى، وإيجابِ العِلْم بأنه على خِلافِ ما هو عليه من صفاته، وكذلك فلا يجوزُ تَعَبُّدُهم بَأن يعلموا أن بعضَ الأمورِ بخلاف حقيقتِه، وعلى ضِدَ صفتِه. وإنما امتنعَ نهيُه عن معرفته؛ لأنه داخل في باب تكليفِ المحالِ؛ لأنه إذا قال: اعْلَمْ أنَني قد نهيتُك عن معرفتي، وحَظَرْت عليك فِعْلَها،

أو ابَحْتُك فِعْلَهَا وتركَها إن شئت. وجبَ أن يكونَ في ضِمْنِ هذا الخطاب: أنِ اعْرِفْ هذا الخطابَ لي، وأنني أنا المسقِطُ لفرضِ معرفتي عَنك. وهذا نفسُه امرٌ بمعرفته؛ لأنه إذا وجبَ أن يعلمَ أن هذا الأمرَ والنَسخَ واردٌ من قِبَلِ الله، فقد وجبَ عليه أن يَعرفَه، فيصيرُ ذلك في تقدير قولِه: كُنْ عارفاً بي وغير عارف، وهذا ممتنعٌ في التكليف. وكذلك إذا قال له: اعلم أَنَّني على خلاف ما أنا عليه، أو أن بعضَ الحوادثِ على خلاف ما هو في ذاته عليه، كان تكليفاً لمَا لا يَصِحُّ فعلُه ولا تركهُ، وكذلك سبيلُ العلمِ بكلِّ مُسْتدَلٍّ عليه، معِ عَدمِ الدَّليلِ عليه على ما قد بَيَّنَّاه بن قبلُ، فأمَّا ما عدا ذلك، فإنه يجوز نَسخُ جميعِه، وتبديلُ حكمِه. وزعمتِ المعتزلةُ: أن افعال المكلَّفِ على ضربَيْنِ: أحدهما: لا يجوزُ دخولُ النَّسخِ عليه، ولا بُدَّ من ابتداء الأمرِ من الله به، أو ابتداءِ النَّهي عنه، وتبقيتِها ما دام المكلَّفُ حياً سليماً، وهو كلُّ فعلٍ له صفةٌ في العقل تقتضي كونه حَسَناً واجباً، وقبيحاً محرَّماً، لا يجوز تغييرُها، وخروجُه عنها، فالحَسَنُ الواجبُ من ذلك، نحوُ: معرفةِ الله عزَّ وجلَّ، ونحوُ: العدل والِإنصافِ، وشُكْرِ المنعِمِ، وأمثالِ ذلك. والقبيحُ، نحوُ: الجهل بالله، والظُّلمِ، وكُفرانِ النِّعْمَةِ، والكَذِبِ، وما يَجري مَجرى ذلك. قالوا: فهذا مما لا يجوزُ نسخُ حكمِه وتغييرُه؛ لأنه لا يتغيَّرعن صفته التي اقتضت حُسْنَه ووجوبَه، أو قبحَه وتحريمَه. وزعمت المعتزلةُ أيضاً: أن معرفة الله عزَّ وجلَّ وإن كانت حسنةً،

فليس جهةُ وجوبِها كونَها حَسَنةً؛ لأن المباحَ والنًدْبَ حَسَنان، وإن لم يكونا واجبَيْنِ، وإنما جهةُ وجوبِها عندهم كونُها لُطْفاً في فعل الواجباتِ العقليًةِ إذا كانت من فعلنا، وغيرَ لُطْفٍ لو اضْطررْنا إليها. وفي الجملة فإنه ليس جهةُ وجوبِ الشيءِ كونَه حَسَناً فقَطْ، دونَ حصولِ وجهٍ زائدٍ على حُسْنِه يقتضي وجوبَه، وإن كان كونُ الفعلِ قبيحاً جهةً لوجوب تركِهِ على العالِمِ بقبحه، ووجوبِ تحريمِه على الله العالِمِ بذلك، ومن هو في حُكْمِ العالِمِ به. قالوا: فأمًا ما لا صفةَ له في العقل تقتضي كونَه حسَناً واجباً أو قبيحاً من سائر الشَرْعِياتِ، فإنه يجوزُ نسخُه، وتبديلُ حكمِه، بحَسَبِ ما يعلمُ الله سبحانه من صلاح المكلفينَ على إيجابه تارةً، وتحريمِه أخرى، أو إباحتِه، أو الندبِ إليه، وقد دعاهم هذا القولُ إلى أنَ القديمَ سبحانه محكوم عليه في تكليفه لخَلْقِه، محجورٌ عليه وحاشاه من ذلك في تصاريفِه. وبيانُ ذلك من مقالتهم: أنهم قالوا: يجب عليه إذا عَلِمَ المصلحةَ في رفع التَكليفِ أن يرفعَ التكليفَ عنهم، وإن لم يقَعْ فعله بحسَب ذلك، كان خارجاً عن نَمَطِ الحِكْمةِ وسبيلِ العدلِ إلى الجَوْر والسفَهَ -تعالى عن ذلك- وأنَه لا يجوز أن يَنهى عن شيءٍ مما أمَرَ به، إذا كانت مصلحة المكلفين متعلقةً به، ولا يأمرَ بشيءٍ يكون تركة مصلحةً لهم، فصارت أفعاله وشرائعة تحت حَجْرِ مصالحِ خَلْقِه، وهذا مستوفىً في أصول الدَينِ، وليس الإِشباع فيه لَيقاً بهذا الكتاب، وإنما نذكر شَذَراتٍ ئبْنَى عليها حكم أصولِ الفقه ليَتَحذًرَ الناظرَ في كُتبِهم من الوقوع في معتقداتهم، فأكثر الفقهاءِ لا خِبْرَةَ لهم بمثل هذا.

- البداء، معناه وحقيقته والفرق بينه وبين النسخ

فصل في الفَرْق بين النسخِ والبَداءِ قد بَينَا فيما تقدمَ (¬1): أن النَسخَ: هو رفعُ ما ثبتَ حكمُه بعد استقرارِه، دونَ رَفْعِ مثلِ ما ثبتَ، ودونَ بيانِ مدَّةِ انقطاعِ العبادة، بما يُغْنِي عن الإِعادة، وذلك جائز على الله سبحانه، وصواب في حِكْمَتِه. فهذا بيانُ النَسخِ تمهيداً للفرقِ بينه وبين البَداءِ. فصل فأما البداءُ فمعناه وحقيقتُه: أنه استدراكُ علمِ ما كان خافياً مستوراً عمن بدا له العلمُ به بعدَ خَفَاء، ولذلك يقال: بدا الفَجْرُ: إذا ظَهَر، وبدا الرَّكْبُ: إذا طلعَ أوائلُه، وبَدا لي من فلانٍ ما كان مستوراً، ومنه قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 28]، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48]، وقولُه: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154]، وإذا كان كذلك، وكانت دلائلُ العقول والسمعِ قد قامت ودلت على أن الله سبحانه عالم بما كان، وما يكونُ، وما لا يكونُ أنْ لوْ كان كيفَ كان يكونُ، وبعواقب الأمورِ، ومن كان كذا، ثبتَ أن البَداءَ الذى شرحناه غيرُ جائزٍ عليه سبحَانه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الصفحة (212) وما بعدها. (¬2) "شرح اللمع" 2/ 191، و "التمهيد" 2/ 338 - 340، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 536 - 537.

* الفرق بين النسخ والتخصيص

فصل ولا يَقْتَضِي النَسخُ دلالَة على استدراكِه عِلْمَ ما لم يكنْ عالماً به سبحانه، ولا دَلالَةً على البَداء في إرادته؛ لأن الدَّلالةَ التي دلت على كونه عالماً بكلِّ معلومٍ في كل حالٍ مَنَعتْ أن يكونَ نسخُه للحكم بعد ثبوتِه دلالَةً على استدراك علمِ ما لم يكن به عالِماً، وبُدُوِّ ما لم يَكُ له بادياً، وما ذلك إلا بمثَابةِ ما صدَرَ عنه من الأفعال لُطْفاً وعَسْفاً، فلا لُطْفُ فعلِه دَل على رِقَةٍ وانفعالٍ، ولا عَسْفُه وعَذابُه دلً على اشْتِطاطٍ، بل فعلٌ يتغيرُ عن ذات لا تتغيَّرُ ولا تنفعلُ، والله أعلم. فتغييرُ الحالِ يليقُ بالمكلفين وبزمانِهم، ولا يليقُ بالله سبحانه، فعادَ النًسخُ إلى تَغَيرِ حالِ الشًخص وتغيُّرِ زمانِه ومصالحِه. وإن أتُوا من قِبَلِ تَوَهُّمِهم: أنَ (¬1) الأمرَ يقتضي الِإرادةَ، والنَهْيَ يقتضي الكراهةَ، وإذا كرهَه بعد أن أرادَه، فقد بدا له. فليس ذلك أصلاً صحيحاً عندنا، بل لا يقتضي الأمرُ الِإرادةَ، ولا النهيُ الكراهةَ؛ لِمَا نُبيِّنُه في باب الأوامرِ ومسائلِ خلافِها (¬2). فصل في بيان الفَرْقِ بين النسخِ والتًخصيصِ فيما يفترقان فيه، والجَمعِ بينهما فيما يستويان فيه قد سَبَقَ في التحديداتِ ذِكْرُ العمومِ والخصوصِ، وذكرُ النَّسخِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأن"، والسياق يقتضي حذف الواو منها. (¬2) في الجزء الثاني من الكتاب، الصفحة 450.

- ما اتفق فيه النسخ والتخصيص

وتحديدهُ، والنَّاسخِ والمنسوخِ، بما أغنى عن الِإعادةِ (¬1). فالتَخصيصُ على قول من أثْبَتَ العمومَ صيغةً موضوعةً لاستغراق الأعيانِ والأزمانِ بالحكم، لا يَحْصُلُ إلا باستثناء مُقارنٍ متَّصلٍ، أو بدليل منفصلٍ من عقل أوسمعٍ أوقياسٍ شرعيٍّ، وكل شيءٍ دَلَّ على أن المرادَ بتلك الصِّيغةِ الموضوعةِ لإِفادة العمومِ بعض ما وُضِعَتْ له، فهو التَّخصيصُ عندهم. والمحقِّقون منهم يقولون: هذه القرائنُ دلالةٌ على ما به يصيرُ الخطابُ مخصوصاً، وهي إرادة النَّاطقِ بالصِّيغة كونَها خاصَّةً، هذا هو المحقَّقُ على قول من قال: إن للعموم صيغةً. ولا يَحْسُنُ ممَّن (¬2) منعَ تأخيرَ البيانِ عن وقت الخطاب أن يجعلَ النَّسخَ بياناً لوقت الحُكْمِ؛ لأن النَّاسخ لا يكون إلا متأخَرَاً عن وقت المنسوخِ عنه، ولا يجوزُ النسخُ إلا كذا، فلو كان بياناً، لَمَا اجتَمَعَ طرفا مذهبهِ، بل تناقضَ غايةَ التَّناقضِ؛ لأن النًسخَ مِن شَرْطه أن يقعَ متراخياً عن المنسوخ، والبيان من شرْطه أن لا يتأخَرَ عن الخطاب المبيِّن، بل يكونُ به مقترِناً، فقد بأنَ أن النسخَ رَفعُ ما قُصِدَ واريدَ إثبات حكمِه بالخطاب الأولِ، والتخصيص بيانُ ما أُريدَ بالخطاب مما لم يُقْصَدْ به. فصل وأما ما اتَفَقَ فيه النَسخُ والتًخصيصُ، فيجبُ أن نقولَ: إنهما ¬

_ (¬1) انظر الصفحة (35) و (210) وما بعدهما. (¬2) غير واضحة في الأصل.

- ما ينفصل به النسخ من التخصيص الذي ليس بنسخ

تخصيصان، غيرَ أن النَسخَ تخصيصٌ يوجبُ رفعَ ما ثَبَتَ حكمُه، والتَّخصيصَ الذي ليس بنسخٍ بيانُ ما أُريدَ باللفظِ مما لم يُعَينْ به. فصل في بيان ما ينفصلُ به النسخُ من التَخصيص الذي ليس بنسخ. وذلك من وجوه (¬1): أحدها: أن التخصيصَ لا يَدْخُلُ في الأمر بمأمور واحدٍ، والنًسخ يكونُ نسخاً بحكم الأمرِ بمأمور واحد (¬2)؛ فالفعلُ (¬3) الواحدُ يُنْسَخُ بعد فَرْضِه، ولا يصحُ دخولُ التخصيصِ فيه. ومما يَنْفَصِلُ به أحدُهما عن الاَخر أيضاً: أن التًخصيصَ يخْرِجُ من الخطاب ما لم يُرَدْ به، والنًسخُ يرفعُ ما أُريدَ به إثباتُ حكمِه. ومما ينفصلُ به أيضاً: أن من سَبيل النَسخِ كونَه أبداً متراخياً متاخَراً عن المنسوخ؛ لِمَا بَيناه من قَبْلُ، والتَخصيصُ، قد يَصحُّ اتصالُه ¬

_ (¬1) انظر هذه الوجوه مستوفاة في "العدة" 3/ 779 - 785، و"شرح مختصر "الروضة" 3/ 587 - 588، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" ص 197 - 198. (¬2) أي يجوز ورود النسخ على الأمر بفعل واحد، كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى البيت الحرام، والأمر بالفعل الواحد لا يدخله التخصيص؛ لأن التخصيص لا يكون إلا من متعدد. "نزهة الخاطر" ص 197. (¬3) في الأصل: "بالفعل".

- تفريق المخالفين بين النسخ والتخصيص

بالمخصوص، ويصح تأخرُه عنه، وانفصالُه منه. ومما ينفصلُ به أيضاً: أن النسخَ لا يكونُ أبداً إلا قَوْلًا وخطاباً، والتخصيصُ يكونُ بالخطاب وسائر أدلَّةِ العَقْلِ والسمْعِ، ولا يُنْسخُ حكم بدليل عَقْلٍ. وممَّا ينفصلُ به: أن التَّخصيصَ لا يْنفي دَلالَةَ اللَّفظِ المخصوصِ على ما بَقِيَ تحته، إن كان حيقيقةً أو مجازاً، على اختلاف القائلين بالعموم في ذلك، والنسخ يُبْطِلُ دَلالةَ المنسوخِ، حتى لا يُمْكِنُ مع ورودِ النَاسخِ أن يكونَ دليلًا على ما كان يدُل عليه؛ من ثبوت الحكمِ في تلك الأزمانِ المستقبَلةِ، وهذا الفرقُ يوجبُ أن يكون الناسخ رافعاً لما ثبَتَ من حكم اللَّفظِ المتقدِّمِ لا مَحالةَ، والتخصيصُ مبِّينٌ عن أن الحكمَ ما ثبتَ في المخصوص. ومما ينفصلُ به أيضاً: أن تخصيصَ العامَ يكونُ بخبر الواحدِ، والقياسِ، والاستدلالِ غيرِ القياسِ، وطرقِ الاجتهادِ، وإن كان تخصيصاً لأصل يوجبُ العِلْمَ ويقطعُ العذْرَ، والنسخُ لأصل ما هذه سبيله لا يكونُ بقياس ولا بخبر واحدٍ، لا يجوز ولا يصح إلا بنصٍّ قاطعٍ، وإنْ نُسِخَ خبرُ الواحدِ بمثلِه من الأخبارِ.

فصل فيما (¬1) يَفْصِلُ به بينهما المخالفون، مما لا يتأتَّى على أصلنا؛ ليعرفَه الموافقُ، فيجتنبَه، وتتأكَدَ بمعرفتِه معرفةُ أصولِنا. فمن ذلك: أنَّهم قالوا: وينفصلُ التَّخصيصُ عن النَّسخ؛ فإن من سبيل التَّخصيصِ أن يكون وارداً قبلَ ورودِ المخصوصِ أو معه أو عَقِيبَه بلا فصلٍ، لمنْعِ تأخّرِ البيانِ عنده عن وقت (¬2) الخطاب، والنَسخُ لا يكون إلا متأخراً عن المنسوخ، لا قبلَه ولا مَعَه ولا عَقِيبَه، وهذا أصل نُخالفُه فيه، قد سَبَقَ بيانُنا له (¬3). ويكفي في الفصل بينهما عندنا أن يقالَ: النَسخُ لا بُد من كونه متأخَراً متراخياً عن المنسوخ، والبيانُ ليس كذلك، لأنه قد لا يكونُ متراخياً، بل يكون قبلَه أو مَعَه أو عقِيبَه، وقد استوفينا ذلك فيما قَبْل. ومما فَصَلُوا به أن قالوا: من بيان النَسخِ أن يتناولَ الأزمانَ فقَطْ، ومن حقِّ التَّخصيصِ أن يتناولَ الأوقاتَ والأعيانَ وأحوالَ الأعيانِ وصفاتِها وأفعالَها، وهذا ليس بصحيح؛ لما أوْضَحْناه من قَبْلُ أن النسخَ لا يتناولُ ذواتَ الأزمان، ولا ذواتَ الأعيانِ وأحوالِها وصفاتها وأفعالها، وإنما يتناولُ الأفعالَ الواقعةَ في (¬4) الأوقاتِ والأعيانِ، دونَ ذواتِ الأحوالِ والصِّفاتِ، وقد سَبقَ في بيان هذا ما أغنى عن إعادته (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "مما". (¬2) في الأصل: "قرب"، وهو تحريف. (¬3) انظر الصفحة (223). (¬4) في الأصل: "من" والأنسب ما أثبتناه. (¬5) انظر الصفحة (232).

* فصول في بيان وجوه النسخ

فصول في بيان وجوهِ النَّسخِ اعلم أنه يجوزُ أن يَقَعَ النسخُ لُطْفاً وتخفيفاً بعدَ تشديدٍ وتغليظٍ بشهادة الكتاب العزيزِ، وهو قوله: {الآن خَفَّفَ الله عنكم وعَلِم أنَّ فيكم ضَعْفاً فإنْ يَكُنْ منكم مئةٌ صابرةٌ يغلبوا مئتَيْنِ وإنْ يَكُنْ منكم ألفٌ يغلبوا ألفَيْن بإذن الله} [الأنفا: 66]، بعد قولِه: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65]، فَنَسَخَ لقاءَ الواحدِ من المسلمين للعَشَرةِ من المشركين إلى لقاء الواحِد للاثنين. وقولُه: {فالآن باشِرُوهُنَّ وابتغُوا ما كَتَبَ الله لكم وكُلُوا واشْرَبُوا حتى يتبيَّن لكم الخَيْطُ الأبيضُ من الخيْط الأسودِ من الفَجْر} [البقرة: 187]، بعد تحريمِه الأكل والجماع على من نامَ. وقولُه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، ثم نسخَه بقوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المجادلة: 13]. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}، وقولُه: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}، ثمَّ قال: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ

أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} يعنى تطيقوه {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] فصل ويجوزُ أن يقعَ النسخُ عقوبةً ومجازاةً على جرائمَ من المكلفين، يشهدُ لذلك الكتابُ العزيزُ، وهو قولُه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161]. والظاهرُ من هذا اللَّفظِ الذي أخْرجَه بيانَ المقابلةِ لجرائمَ عَدَّدَها أنه حرَّمَ عليهم الطَّيِّباتِ عقوبةً على هذه المخازي المذكورةِ عنهم، المضافةِ إليهم. فصل ويَقَعُ كرامةً وطلباً لرضا المكلَّفِ وماتَطِيبُ به نفسُه، مثلُ قوله سبحانه لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم: {قد نَرَى تَقَلُّبَ وجهِك في السَّماء فلنُوَلِّيَنَّك قِبْلةً ترضاها فوَلِّ وجهَك شَطْرَ المسجدِ الحرام} [البقرة: 144]، وكان يكرهُ استقبالَ قبلةِ اليهودِ، وُيحِحث استقبالَ قبلةِ إبراهيمَ، فنسخَ اللهُ سبحانه ما كرهَه بما رضيَه من القبلتَيْن كرامةً له - صلى الله عليه وسلم - فصل وقد يكونُ ذلك لمصلحة مبنيَّةٍ على ما قَدَّمْنا من سهولةٍ بعد صعوبةٍ، وتخفيفِ التكليفِ؛ لكونه أقربَ إلى الاستجابة استصلاحاً للمكلَّفينَ، وقد يكونُ ابتلاءً من الله، ولا يبينُ وجهُ الأصلحِ فيه؛ إذْ له فعلُ ما شاءَ، يشهدُ لذلك قولُه: [سبحانه وتعالى]: {سيقولُ

- النسخ ثلاثة أضرب: نسخ الحكم دون الرسم، ونسخ الرسم دون الحكم، ونسخ الرسم والحكم معا

السُّفهاءُ من الناس ما وَلَّاهم عن قبلتِهم التي كانوا عليها}، فأجابَهم بقوله: {قل لله المشْرقُ والمغْربُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم} [البقرة: 142]، وهذا تعليلٌ بمُجَرَّدِ المَلَكةِ، وأبانَ عن الابتلاء بقوله: {وما جَعَلْنا القِبلَةَ التي كنتَ، عليها إلا لنعلمَ من يَتَّبعُ الرَّسولَ ممَّن ينقلبُ على عَقِبَيْهِ وإن كانت لكبيرةً إلا على الدين هَدَى اللهُ} [البقرة: 143]، فامتحانُ العقولِ وابتلاؤها بعضُ وجوهِ النسخِ على ما قَررْنا في هذا الفصلِ. فصل ولا يختص بالأصلح؛ لأنا قد بَينَا أنه نسخَ بتحريمٍ وتضييقٍ في مقابلة أجرامٍ عَددَها، والأصلح لُطْفٌ، وليس اللطف مما يصلحُ أن يكونَ مقابَلًا بظلم، فلما قالَ سبحانه: {فبظلمٍ من الذين هادُوا} [النساء: 160]، عُلِمَ أنه لايُقابلُ المفسِدَ بالأصلح، وسنُشبعُ الكلامَ في نفي وجوبِه على الله سبحانه في مسائل الخلاف (¬1)، إن شاءَ الله. فصل والنسخُ على ثلاثة أَضْرُب: نسخُ الحكْمِ دونَ الرسمِ، ونسخُ الرَّسمِ دونَ الحكمِ، ونسخُ الرَّسم والحكمِ معاً. فالاولُ: الوصيةُ للوالدَيْن والأقربين (¬2)، والاعتدادُ والتَربصُ بعد وفاةِ ¬

_ (¬1) انظر 4/ 211. (¬2) في قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين} [البقرة: 180].

الزَّوج حَوْلاً (¬1)، وهما جميعاً يُتلَيان في كتاب الله تعالى، فنُسِخَتِ الوصيَةُ بآية المواريثِ (¬2)، ونُسِخَ الحولُ بالأربعة أشهر وعشراً (¬3). والثَّاني: آيةُ الرَّجمِ، منسوخةُ الرَّسمِ من كتاب اللهِ، وهَمً عمرُ بكَتْبها في حاشية المصحفِ، وخافَ النَّاسَ أن ينسُبُوا إليه الزَيادةَ في المصحف، وهي: {لا تَرْغَبُوا عن آبائكم فإن ذلك كُفْرٌ بكم، الشَيخُ والشَّيخةُ إذا زَنيا فارْجُمُوهما البتَّةَ نكالاً من الله واللهُ عزير حكيم} (¬4)، ¬

_ (¬1) في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول} [البقرة: 240]. (¬2) في الآيتين (11 و12) من سورة النساء. (¬3) في قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234]. (¬4) أخرج هذه القصة مالك 2/ 823، وأحمد 1/ 23 و29 و36 و. 4 و43 و47 و 50 و 55 - 56، والدارمي 2/ 179، والبخاري (6829) و (6830)، ومسلم (1691)، وأبو داود (4418)، وابن ماجه (2553)، والترمذي (1431) و (1432)، والنسائي في "الكبرى" (7151) و (7154) و (7157) و (7158) و (7159) و (7160) عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. دون ذكر نص الأية التي أوردها المصنف. وأما قوله: "لا ترغبوا عن آبائكم فإن ذلك كفر بكم" فلاعلاقة له بآية الرجم، وقوله: (الشيخ والشيخة. .....) لم يرد إلا عند النسائي في "الكبرى" (7156) من طريق سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب، فذكره. وقال النسائي عقيبه: لا أعلم أن أحداً ذكر في هذا الحديث: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" غير سفيان، وينبغي أنه وهم، والله أعلم.

وهي ثابتة الحكمِ، وهذا تعليقٌ للحكم على الغالب، وأن الشَيخيْنِ يكونان محصَنَيْن، وليس بتعليق على حقيقة السنِّ؛ لأنَ الشَيخَ والعجوزَ إذا لم يكونا تَواطَآ في نكاح صحيحٍ جُلِدا، لكن هذا ممَّا ذُكِرَ فيه السنُّ إحالةً على غالِبِ الحالِ معها. وكذلك ذِكْرُ التَتابعِ في كفَّارةِ اليمين في قراءة ابن مسعود: "ثلاثةِ أيامٍ متَتابِعاتٍ" (¬1)، نُسِخَ الرسم، والحكمُ- وهو التَتابع- باقٍ عندنا (¬2). والثالثُ: مثل ما روي عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنْزَلَ الله: عَشْر رَضَعاتٍ معلوماتٍ، فَنُسِخنَ بخَمْسٍ معدوداتٍ، فتُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مما يُقْرَا في القرآن (¬3)، فكانت العَشْرُ منسوخةَ ¬

_ (¬1) في قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة: 89]، و"متتابعات" قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود. "تفسير الطبري" 7/ 30، و"زاد المسير" 2/ 415. ولم يرد فيما نقل إلينا من الروايات عن ابن مسعود أو غيره رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل: هذا مما لا مجال فيه للاجتهاد بالرأي، فله حكم المرفوع، قلنا: نعم، يصح الاعتراض بهذا، إن كان ابن مسعود يرى أنها قرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الأمر كذلك، بل يحتمل أن تكون مذهباً له أو تفسيراً. وبناء عليه لا يصح التمثيل بها على ما ذكره المصنف من نسخ الرسم مع بقاء الحكم، فليس هي قراءة مرفوعة، فضلاً عن أن تكون قرآناً، ثم الخلاف واقع بين الصحابة ومن بعدهم في اشتراط التتابع، والله أعلم. (¬2) انظر "المغني" 13/ 528 - 529. (¬3) أخرجه مالك 2/ 608، والدارمي 2/ 157، ومسلم (1452)، وأبو داود (2062)، وابن ماجه (1942)، والترمذي إثر الحديث (1150)، والنسائي =

الرسم إذلم نَقِفْ لها على رسم، ومنسوخةَ الحكمِ إذلم يَبْقَ بالعَشْرِ (¬1) عِبْرةٌ، ولا تَعَلَّقَ التحريم عليها. فصل وقد روِيَ أن سورةً كانت كسورة الأحزاب رفِعَتْ، وذكرَ فيها: "لو أن لابن آدمَ واديَيْنِ من ذهب لابتغى إليهما ثَالثاً، ولا يملأَ جَوْفَ ابنِ آدمَ إلا الترابُ، ويتوب الله على مَنْ تابَ" (¬2)، ورويَ أن الدَّاجِنَ ¬

_ = 6/ 100، وابن حبان (4221) و (4222)، والبيهقي 7/ 454 عن عائشة رضي الله عنها. (¬1) في الأصل: "بالعشرة"، والصواب ما أثبتناه. (¬2) أخرج مسلم (1050)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 418 - 419 و419، والبيهقي في "دلائل النبوة" 7/ 156، عن أبي موسى الأشعري قال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فانسيتها، غير أنى قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 256 - 257، وزاد نسبته إلى: ابن مردويه، وأبي نعيم في "الحلية". وأخرج نحوه البخاري في "التاريخ الكبير" 4/ 325، والبزار (3634 - كشف الأستار، والطحاوي فىِ "شرح مشكل الآثار" 2/ 419 - 420 عن بريدة بن الحصيب الأسلمي. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 1/ 257 - 258، وزاد نسبته إلى ابن الضريس. وانظر ما تقدم في الصفحة (221) الحاشية رقم (5). وأخرج نحوه أيضاً البخاري تعليقاً في "صحيحه" (6440)، والترمذي (3793)، والطبري في "تفسيره" 30/ 2840، والطحاوي في "شرح مشكل =

أكلت شيئاً كان فيه قرآن ولم يذْكَرْ (¬1). وأنكرَ هذا قوم من الأصوليين، ولا وَجْهَ للِإنكار إذا صحَّت الرواية بذلك؛ لأنه إن كان القول بالأصلح، فقد يكون الأصلح رفعها، كما كان في الوقت الذي تُلِيَتْ ونزَلَتْ الأصلح نزوئها وتلاوتها، وإن كان القول بمطلق المشيئةِ، فيرفع الله ما يشاء كما ينَزِّل، وقد أعْلَمَ نَبينا ليلةَ القَدْرِ، ثم أنْساهُ ورَفَعهَا (¬2)، يعني رفعَ علمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بها؛ بدليَل أنه قال: "فاطلبوها"، ولو كان الرفع لعَيْنها، لَمَا أمرَ بطلبها، كذلك رفعَ عِلْمنا بالسُّورة والآية، لا أنه أعْدَمها وأزالَ ذاتَها، وما خلا إنزالُها من ¬

_ = الآثار" 2/ 420 عن أبي بن كعب. (¬1) أخرج أحمد 6/ 269، وابن ماجه (1944) عن عائشة قالت: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها. ولقد كذَّب ابن حزم هذه الرواية في "الإِحكام في أصول الأحكام" 4/ 77 - 78، فانظر تمام كلامه فيه. (¬2) أخرج أحمد 2/ 291، والدارمي 2/ 28، ومسلم (1166)، وابن خزيمة (2197)، وابن حبان (3678) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني أهلي، فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر". وأخرج أحمد 5/ 313 و319، والدارمي 2/ 27 - 28، والبخاري (49) و (2023)، و (6049)، وابن حبان (3679) عن أنس بن مالك، عن عبادة ابن الصامت أنه قال: خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".

- ليس من شروط النسخ للحكم أن يكون إلى بدل

فائدة، وهي الِإيمانُ بها حيثُ كانت مَتْلُوَّةً، والتَسليمُ لحكم اللهِ حيث رُفِعَتْ، وفي رفعها بعد الإِنزالِ نوع بَلْوىً، قال الله سبحانه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101]، فيكون رفعُ ما أنزلَه ونسخ ما أحكمَه زيادةً في إيمان المؤمنِ بتسليمه الله، وفتنةً للَّذين في قلوبهم مَرَضٌ. فصل وليس من شَرْط النسخِ للحكمِ أن يكون إلى بَدَل، بل قد ينسَخُ إلى بدَل وإلى غير بدلٍ، فيكونُ النسِخ إسقاطاً ورفعاً للحكم من أصله، وذلك كنسخ تَرَبُّصِ زوجةِ المتوفَى ما زاد على الأربعة أشهرٍ وعَشْراً من الحَوْل إلى غير بدلٍ، والاقتصارِ على خَمْس رضَعاتٍ بعد عَشْرٍ، فسقوط الخمْسِ إلى غير بدلٍ. وليس لقائل أن يقولَ: أبْدَلَ الحَوْلَ ببعضه، وأبدلَ العَشْر بنصفها؛ لأن ما بَقِيَ بقيَ على ما كان، والسَّاقطُ منه خَرَجَ عمَّا كان، فلا وجهَ لتسمية ما بقيَ بدلَاً، مع كونِه على حكم أصلِه، والبدل ما قامَ مَقامَ الشَّيءِ، وسَدَّ مَسَده في الحكم الذي علِّقَ عليه، ولو جاز أن يُسَمَّى بعضُ الحولِ بدلًا؛ لَسُمَيَ ما بقيَ من الصَلاةِ المقصورةِ في السَّفَر بدلًا عن التَّامَّةِ في الأصل. فصل وما نُسِخَ إلى بدَل على خمسةِ أضْربِ: نسخُ واجبٍ إلى واجب، ونسخ واجبِ إلى مباحٍ، ونسخُ واجبِ إلىَ نَدْب، ونسخُ محظورٍ إلى مباح، ونسخُ إباحةٍ إلى حَظْر، وهي مَما قد يكونُ عقويةً.

- وجوه النسخ إلى بدل

فصل فأما نسخُ الواجبِ إلى الواجب، فعلى ضَرْبَيْن (¬1): نسخ واجبِ معينٍ إلى مثله في الإِيجاب والتَعيين، كنسخ الاتِّجاهِ إلى بيت المقدسِ إلى الاتَجاهِ نحْوَ الكعبةِ. ونسخ واجب موسَّعٍ بالتَّخيير إلى واجب مضيقٍ بالتَعْيينِ، كالصِّيام، كان المُطِيقُ القادرُ عليه في صَدْر الإِسلامِ مخيراً بين الصِّيام والفِدْيَةِ طعام مسكينٍ مع الإِفطارِ، فقالَ سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]،، ثم نُسِخَ إلى الصَّوم حَتْماً وتعييناً من غير تخييرٍ، مع الإِقامةِ والصِّحَّةِ بقوله تعالى: {فمن شَهِدَ منكم الشَهْرَ فَلْيَصُمْه}، وتقديرُه: شَهدَ منكم الشَّهْرَ صحيحاً مقيماً {فَلْيَصُمْه}، بدليل قولِه: {ومن كان (¬2) مريضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَةٌ من أيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، والمرضُ والسَّفرُ لا يُعْدِمانِ شهادةَ الشَهْرِ، لكنْ يُعْدِمانِ صفتَيْنِ في الشَّخص: الإِقامةَ والصِّحَّةَ، فثبتَ التَّقييدُ في الإِبدالِ، وهو (¬3) نوعُ توسعةٍ مع العُذْرِ، بعدَ أن كان التًخييرُ مع الصِّحةِ والإِقامةِ توسعةً مع عَدَمِ العُذْرِ. فصل وأما نسخُ الواجب إلى المُباحِ: كالصَّدقةِ عند مناجاةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وإذا ناجَيْتُمَ الرًسولَ فقَدً موا بينَ يَدَيْ نجواكم صدقةً} ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 783 - 784. (¬2) في الأصل زيادة: "منكم" بعد "كان". (¬3) في الأصل: "وهي".

- نسخ الواجب إلى الندب

[المجادلة: 12]، فنُسِخَ ذلك الوجوبُ إلى جواز فعلِها وجواز تركِها بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬1) [المجادلة: 13]. فصل وأما نسِخُ الواجب إلى النَّدْب: كالمصابرةِ، كان في صَدْر الإِسلام واجباَ على الِإنسَان المجاهدِ أن يُصابِرَ عَشَرَةً من المشركين، فنُسخَ إلىَ اثنين وجوباً، ونُدبَ إلى مصابرة ما زاد على الاثنين (¬2)، وقد تَلَونا الآيَ في ذلك في فصل نسخِ الأشدَ إلى الأخفِّ (¬3). فصل وأما نسخُ الحَظْرِ إلى الِإباحة (¬4): فقولُه تعالى: {عَلمَ اللهُ أنكم كنتم تَخْتانُون أنفسَكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم فالآن باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كتبَ اللهُ لكم وكُلُوا واشْرَبُوا حتى يَتَبينَ لكم الخَيْطُ الأبيضُ من الخيط الأسودِ من الفجْر} [البقرة: 187]، فكان الأكلُ والمباشرةُ محظورةً إذا نامَ ثم استيقظَ، ثم نُسخَ بالاَية المَتْلُوةِ أول هذا الفصلِ. ومن السنَة قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ (¬5) نَهَيْتُكم عن زيارة القُبورِ، ألا ¬

_ (¬1) المصدر السابق 3/ 784. (¬2) المصدر السابق 3/ 784 - 785. (¬3) انظر ما تقدم في الصفحة (243). (¬4) في الأمحل: "والِإباحة"، والصواب بدون الواو كما أثبتنا. (¬5) في الأصل: "كنتم".

- نسخ الإباحة إلى الحظر

فزُوزوها، و (¬1) كنتُ نهيتكم عن ادِّخار لحومِ الأضاحي، ألا فادَخِروها" (¬2). فصل وأما نسخ الِإباحةِ إلى الحظر: فهو كنسخ إباحةِ الشُّحُوم على اليهود لأجل ظلمِهم، بالحظْر لها عقوبةً، وكنسخ الخمرِ على أَمَته بعد إباحتِها مصلحةً، أو إرادةً مطلقةً. فصل قال بعضُ أهلِ العلمِ: وفي تقديم الأشَقَ على الأسهَلِ الأخَفِّ حِكْمَةٌ لها تأثيرٌ في التَكليف، وذلك أن النفوسَ إذا استشعرت لزومَ الأصعب، وتوَطنَتْ على التزامه، ثم جاءَ ما هو أسهلُ منه، سَهُلَ زيادةَ سهولةٍ، وهذا نجده من عاداتنا؛ فإن الظُلْمَ من السلاطينِ، والمُسْتامِينَ من الباعةِ، إذا ساموا الكثيرَ من المال والوافرَ من الأثمان، ثم جاءت المساهلة بإسقاط البعضِ، سَهُلَ الباقي، وإن كان الثمنُ الذي صارَ إليه، هو القدْرَ من الثَمن الذي هو ثمنُ المثْل، والقَدْرُ الذي صارَتِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "كنت " بدون الواو. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 350 و355 و 356 و 356 - 357 و 359 و361، ومسلم (977) و (1977) و (37) و 3/ 1563 - 1564، وأبو داود (3235) والترمذي (1554) و (1515)، والنسائي 4/ 89 و 8/ 310 و 311 - 311 و311، وابن حبان (3168) و (5390) و (5391) و (5400) من حديث بريدة بن الحصيب.

المصادرة [إليه] (¬1)، هو الذي اطْمَأنَّتِ النُفوس إليه بالعادة، لكنْ لو ابْتدِىءَ بالآخِرِ فكان اوَّلاً، لم يَسْهُلْ. فهذا نوعُ حِكْمَةٍ يُسَهِّل على نفوس المكلَّفين ما كان لولاه صعباً. فصل وقد جَمَعَ اللهُ سبحانه منثورَ ما ذَكَرْنا في قوله سبحانه: {ما نَنْسَخْ من آية أو ننْسِهَا نَأتِ بخير منها} [البقرة: 106]، يعني: خيراً لكم، وإلّاَ فالقرآن في نفسه لا يتفاضل؛ لكونه كلاماً لله سبحانه، وصفةً من صفاته التي لا تحتمِل التَّفاضلَ والتَخايرَ. وماهو خيرٌ لنايحصلُ من وجوه: أحدها: في السهولة المخفِّفَةِ عنَّا ثقَلَ التكليفِ، وذلك خيرٌ من وجهين: أحدهما: انتفاء المَشَقَةِ على النَفس، والثاني: حصول الاستجابةِ والمسارعةِ؛ فإن النفوسَ إلى الأسهل أسرعُ، وإذا أسْرَعَت الاستجابةُ، تَحَقَقَ إسقاطُ الفَرْضِ، وحصول الأجرِ. والثاني من وجوه الخيرِ: كثرةُ المشقَةِ التي يتوفَّرُ بها الثواث، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ: "ثوابك على قَدْرِ نَصَبِك" (¬2). ¬

_ (¬1) زيادة على الأصل يتضح بها المعنى. (¬2) أخرجه أحمد 6/ 43، والبخاري (1787)، ومسلم (1211) و (126) و (127)، وابن خزيمة (3027)، والدارقطني 2/ 286، والحاكم 1/ 471 عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؛ قال: "انتظري، فإذا طهرت، فاخرجي إلى التنعيم، فأهلَّي منه، ثم القينا عند كذا وكذا، ولكنها على قدر نصبك، أو نفقتك".

وقد يكون الخيرُ الأصلحَ الذي لا نعلمُ وجهَه. وقوله: {أو مِثْلِها}: في السُّهولة أو الصُعوبةِ أو المَثُوبَةِ. فإن قيل: فما أفادَ التبديلُ بالمِثْل شيئاً، إذا كان المثلُ ما سَدَّ مَسَدَّ مثله. قيل: بل قد يفيدُ، إما زوالَ المَلَلِ؛ فإن النفوسَ قد تَمَلُّ، فإذا انتقلت إلى غَيْرٍ، سَهُلَ عليها التكليفُ، فإن المغايرةَ تُخَفًفُ الأفعال. وقد تكونُ مِثْلًا لها في السُهولة والأجرِ، لكنْ يحصلُ بتغيُرِها وتبديلِها بغيرها زيادةُ تعبُّدٍ، وهو التًسليمُ والتًحكُمُ لأمر اللهِ في تغيير أحكامِه، ونقل عبادة من عبادة إلى عبادة من غير تَلوُّمٍ ولا اعتراضٍ، بخلاف ما نَطَقَتْ به الآياتُ عن أهل الشًرْكِ والنًفاقِ؛ من قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، وقولِهم: {أيُّكم زَادَتْه هذه إيماناً} [التوبة: 124]، وقولِه: {{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، فإذا حَصَلَ من المؤمنين المسارعةُ إلى طاعة اللهِ، والرًضا بتبديل الأحكام، وتغايُرِ التَكليفِ، كان لهم المضاعفةُ في الثواب، واللهُ أعلمُ.

* المطلق

فصل في المُطْلَق وهو في عبارات الفقهاءِ: ما عُلِّق الحكمُ عليه باسمه الأعَمِّ، كقوله: لا تذبحوا الحيوانَ لغير مَأْكلَةٍ، أو عُلَقَ عليه الحكمُ باسم خاصٍّ بالِإضافة إلى ما فوقه من الجِنْس، عامٍّ لما تحته من الأشخاص، كقوله: في الغنم صدقةٌ، {فتحريرُ رقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فهو مطلق عن صِفَة أو نَعْتٍ موسومٍ باسم مطلقٍ، وقوله تعالى: {واستَشْهِدُوا شهيدَيْن من رجالكم} [البقرة: 282]. فصل وهو في أصل اللغة: التَخْلِيَةُ والِإرسالُ، تقول: أطلقتُ العبدَ والطًائرَ والدَّابَّةَ من القيدِ والقفصِ والشِّكالِ (¬1)، واطْلَقْتُ القولَ اطْلِقُه: إذا خَلَّيْتَه وأرسلتَه من تعليق على نعت أو صفةٍ؛ فإطلاقُ القولِ من معنىً يعيقُه، كإطلاقِ العبدِ والطًائر من معنىً يعيقُه. فصل في المُقَيَّد والمقيَّد: ما غلِّقَ على اسم بنعت أو صفةٍ أو غيرِ ذلك مما يخصُه ¬

_ (¬1) هو العقال أو الحبل تشد به قوائم الدابة. "اللسان": (شكل).

* الفحوى

على بعض الجملةِ المرسلَةِ، وهو شبيةٌ بالتّخصيصِ، وهو من نظرائه، والمطلقُ شبية بالعموم، ونظيرٌ له. ومثالُ المقيَّدِ: {وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل منكم} [الطلاق: 2]،. فكان عمل التَّقييدِ بالعدالة عَمَل التَخصيصِ المخرجِ من الجملة بعضَها، فصارتِ العدالةُ مخصَّصَةً بعضَ الرِّجالِ بالشَّهادة. وكذلك قولُه: "في سائمةِ إلغنم (¬1) " صار مقيَّداً بالسَّوْم بعد أن كان مُطلقاً (¬2) على الغنم. وقوله تعالى {فتحريرُ رَقَبةٍ مؤمنةٍ} [النساء:92] بعد قوله: {فتحريرُ رَقبةٍ} تقييد بالايمتن، وهو تخصيص فى الحقيقه، فالإِطلاق مكثِّرٌ أبداً؛ لأنه أَعمُّ، والتَقييدُ مقلِّلٌ أبداً؛ لأنه أخَصُّ. فصل وأصلُ الفَحْوى في الكلام في اللُّغة: من الكشف والإِظهارِ، قالوا في أبزار (¬3) القِدْرِ: فَحَا (¬4)، وقالوا: فَحِّ قِدْرَك، أي: أَلقِ فيها الأبزارَ لتفوحَ رِيحُها، فكما أن الأبزارَ تُظهِرُ ريحَ القِدْرِ، كذلك الفحوى تظهرُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة (37) الحاشية رقم (3). (¬2) في الأصل: "معلقاً"، وصوابها ما أثبتناه. (¬3) الأبْزار: جمع بَزْر- بالكسر والفتح، والكسر أفصح-، وهو التابَلُ، وبَزَرَ القِدْرَ: رمى فيها البزر. (¬4) في الأصل: "فح"، والفَحَا- بفتح الفاء وكسرها، والفتح أكثر-: تَوابِلُ القُدور، كالفُلْفُل والكمُّون ونحوهما.

* فصل في لحن القول

معنى الكلام (¬1). فصل في لَحْنِ القول وأما لحنُ القول: هو ما فهِمَ منه بمعنىً من لفظه، قال سبحانه: {ولتَعْرِفَنَهم في لَحْن القولِ} [محمد: 30]، وقال الشَّاعرُ: مَنْطِقٌ صائبٌ وتَلْحَنُ أحيا ....... ناً وخيرُ الحديثِ ماكان لَحْنا (¬2) وقيل: لحنُ القولِ: ما دلَّ عليه وحُذِفَ واستغْنيَ عنه بدليل الكلام عليه، نحو قولِه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} -فانْبَجَسَتْ (¬3) - {مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60]، فدلَّ الكلام على أنه ضربَ الحجرَ فانفجرَتْ، ومثلُ قولِه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}، {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 17، 20]، ففحواه: فذهبَ، فقالَ، وأراه الآيةَ الكبرى (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "للكلام"، والأنسب ما كتبناه. (¬2) البيت لمالك بن أسماء بن خارجة الفزاري في جارية له، وقبله: أَمُغَطَىً منِّي على بَصَري للـ .... حبِّ أم أنتِ أكمل الناسِ حُسْنا وحديث ألَذُه هو مما ... يَنْعَت النَاعتون يُوزَن وزنا وهو في "البيان والتبيين" 1/ 147 و228، و"الأغاني" 17/ 236، و"الأمالي" 1/ 5، و"الشعر والشعراء" 2/ 782، و"اللسان": (الحن)، وورد في بعضها: "وأحلى " بدل "وخير". (¬3) إشارة إلى الآية (160) من سورة الأعراف، ففيها: "فانبجست". (¬4) "العدة" 1/ 154.

- النظر في الأدلة

ويحتملُ أن يكونَ لحنُ القولِ ما أَفْصَحَ (¬1) بالمعنى وكَشَفَه، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنكم لتَخْتَصِمُون إليَّ، ولعلَّ أحدَكم ألحنُ بحُجتِه من صاحبه" (¬2). فصل واعلم أنه لا يجبُ نُصْرَةُ أصولِ الفقهِ على مذهب فقيهٍ، بل الواجبُ النَظَرُ في الأدلَّةِ؛ فما أدّاه الدَّليلُ إليه، كان مذهبُه بحَسَبه، وبنى على ذلك الأصلِ، ونعوذُ بالله من اعتقاد مذهبٍ، ثم طلب تصحيحِ أصلِه، أو طلب دليلِه، وما ذلك إلا بمثابة من مضى في طريق مظلمٍ بغير ضياءٍ ثم طلبَ لذلك الطَّريقِ ضياءً يَنظرُ [إن] (¬3) كان فيه بئرٌ أو سَبُعٌ أو ما شاكلَ ذلك، أو كان سليماً، والذي يجب أن يكونَ الدَّليلُ هو المرشِد إلى المذهب. ¬

_ (¬1) في "الأصل ": "يصح "، والجادة ما أثبتنا. (¬2) أخرجه مالك 2/ 719، وأحمد 6/ 302 و 290 و307 و308، و 320، والبخاري (2458) و (2680) و (6967) و (7169) و (7181) و (7185)، ومسلم (1713)، وأبو داود (3583) و (3584) و (3585)، وابن ماجه (2317)، والنسائي 8/ 223 و247 من حديث أم سلمة. وأخرجه أحمد 2/ 332، وابن ماجه (2318) من حديث أبي هريرة. (¬3) زيادة على الأصل يستقيم بها الكلام.

- فرض أصول الفقه

فصل في فَرْض أصولِ الفقهِ اعلم أن علمَ ذلك فَرْضٌ على الكفاية دونَ الأعيانِ (¬1)، والدَليلُ على ذلك: أن معرفةَ أحكام أفعالِ المكلفين المتوصَلِ إلى علمها بأصول الفقهِ وأدلَّةِ أحكام الفَقهِ، إنما هو على الكفاية دونَ الأعيانِ، وإنما على العاميِّ التَقليد في ذلك، والرجوعُ إلى قول العلماءِ، ولا يُعتبرُ بخلاف من يُخالِفُ في ذلك ممن زَعم أنه فرضٌ على الأعيان، وسنذكرُ ذلك في مسائل الخلافِ -إن شاء الله-، في باب التقليد ومسائلِه (¬2). ¬

_ (¬1) وهو المذهب والصحيح الذي عليه أكثر أصحاب الإمام أحمد كما قرره صاحب "آداب المفتي" و "شرح التحرير" فيما نقله عنهما ابن النجار الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" 1/ 47. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "المسودة" ص 571: وقيل: هو فرض عين على من أراد الاجتهاد والحكم والفتوى. ونقل مثله أيضاً الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" 47/ 1 عن ابن مفلح. (¬2) في الجزء الأخير من الكتاب الصفحة 224.

* تراتيب أصول الفقه

فصل في تراتيب أصولِ الفقهِ اعلم أن أصولَ الفقهِ مرتَّبةٌ: فأوَّلُها: الخطابُ الواردُ في كتاب اللهِ وسُنًةِ رسولِه على مراتبَ نذكرُها فيما بعد، إن شاء الله. وثانيها: الكلامُ في حُكْم أفعالِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلامُ، الواقعةِ موقعَ البيانِ لمجملٍ في كتاب أو سُنَّةٍ، أو ابتداءِ إثباتِ حكمٍ بها؛ لأنها إذا وَقَعَتْ موقعَ البيانِ، صارَتْ بمنزلة الخطاب، وربما كان البيانُ بها لمنْ عَلِمَها وشاهَدَها أبلغَ منه بالقول، علىَ ما نذكرة من بعدُ، إن شاءَ الله. وثالثها: القول في الأخْبارِ، وطُرُقِها، وأقسامِها. ورابعُها: القولُ في بيان الأخبارِ المرويَّةِ عن الرَّسول عليه الصلاة والسَّلام، الآحادِ منها الواردةِ بشرُوطِ قَبُولِها في الأحكام، وأحكامِ المتلقَّى بالقبولِ منها، والمختلَفِ فيه. وخامسُها: الإِجماع، وكيفيَّتُه، وحكمُه. وسادسُها: القياسُ، ومعناه: المعاني المودَعةُ في كلام الرَّسولِ

- تقديم الخطاب

- صلى الله عليه وسلم - التي إذا ثبتَ تَعَلُّقُ الحكمِ بها، وجبَ القياسُ على الأصولِ المودَعةِ فيها. وسابعُها: صفةُ المُفتِي والمُستفتِي، والقولُ في التًقليد. وثامنُها: القولُ في الحَظْر والإِباحةِ، وهذا يختصُّ أصلَنا؛ لأن طريقَهما السمعُ، وأما مَنْ يجعلُ طريقَهما العقلَ، لا يجعلُ الحظرَ والِإباحةَ من أحكام أصولِ الفقهِ، بل يجعلُهما من أحكام أصولِ الدِّينِ. فصل وقد دخلَ في الخطاب: الأمرُ، والنهيُ، والخصوصُ، والعمومُ، والنَاسخُ، والمنسوخُ، والمجمَلُ، والمفسَّرُ، والمطلَقُ، والمقيدُ، ولَحْنُ الخطابِ، ودليله، وفَحواه، ومراتبُ البيانِ، وسيجىءُ كلُ شيءٍ من ذلك في بابه، إن شاءَ الله. فصل والواجبُ عندنا تقديمُ الخطاب بحكم التَرتيب الواجب في أصول الفقهِ، والواجبُ تقديمُ خطاب الكتَابِ منه على خَطاب الَسُّنًةِ، وذلك أن كلَّ مَرْتَبَةٍ دونَ الخطابِ، إنما هي مودَعةٌ في الخطاب. إنما وجبَ تقديم الكتاب؛ لكونه كلامَ اللهِ تعالى، وهو المرسِلُ لصاحب السُّنَّةِ، ولأن القرآنَ دَلالةُ صِدْقِه، وآيةُ نُبُوَّتِه، ولِمَا اختص به في نفسه من الجزالة والفصاحةِ والبلاغةِ، الخارقُ للعادات، ولكونه المضمَّنَ للأمر بطاعةِ الرسولِ فيه، عَلِمْنا اتباعَ السُنَّةِ.

- تقديم الكتاب على متواتر السنة

فصل وقد سَوَّى قومٌ بين مقطوعِ السنَةِ -وهو المتواتِرُ منها- وبين الكتابِ، وهم القائلون بجواز نسخِ الكتاب بالسنَةِ المتواتِرةِ، وعندنا أن للكتاب رتْبَةً على السُّنَةِ -وإن كانت متواتِرَةً- بما ذكرناه من المزايا. فصل ويلي الخطابَ في الرُّتْبَةِ: أفعال الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - الواقعةُ موقعَ البيانِ؛ لكونها بمثابة قولِه الواردِ لبيان الأحكامِ. وخبرُ الواحدِ نظنُ به أن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال ما تضمَّنَه من الحكم، وخبرُ التَواترِ نَقطعُ بما تضمَنَه، ونُثبتُ بخبر التواترِ الأصولَ، ولا نُثْبت بخبر الواحدِ إلا الأحكامَ (¬1). ¬

_ (¬1) قال الِإمام الحافظ الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" ص 432: خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها، والعلة في ذلك: أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان أبعد من العلم بمضمونه. فأما ما عدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قررها، وأخبر عن الله عز وجل بها، فإن خبر الواحد فيها مقبول، والعمل به واجب، ويكون ما ورد فيه شرعاً، لسائر المكلفين أن يعمل به، وذلك نحو: ما ورد في الحدود، والكفارات، وهلال رمضان وشوال، وأحكام الطلاق، والعتاق، والحج، والزكاة، والمواريث، والبياعات، والطهارة، والصلاة، وتحريم المحظورات. ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكل دليل مقطوع =

وقد قال بعضُ أصحابِنا: إذا تَلَقَتْه الأُمَةُ بالقَبول، صارَ كالمتواتِر في إثبات الصِّفاتِ، وليس بصحيح (¬1)؛ لأن التَّلَقِّيَ بالقَبول قد يقعُ لحُسْن الظن في الرَاوي، أو لعدم العلمِ بما يوجبُ رَدَه، أو لأنه غيرُ مقطوعٍ بكذبه، ولا هو مما ينافي ما يجبُ للقديم؛ لكونه محتمِلاً للتأويل وصَرْفه عن ظاهره بدليل العقلِ النَّافي لِمَا لا يليقُ بالقديم، وبالنصوص النَّافيةِ للتَشبيه، فلا يقعُ من المتلقَّى بالقَبول (¬2) ما يتحصَلُ من تواتر الروايةِ؛ فلذلك ثبتَ بالتواتر القراَنُ بإجماع الصَحابةِ، وردّوا بإجماعهم ما انفردَ به ابنُ مسعودٍ، فصفاتُ اللهِ لا تَدْنُوا عن رُتْبَة القرآنِ؛ لأنه صفة لله سبحانه، فصارَ ردُّهم لخبر الواحدِ فيما طريقُه الكلامُ بإجماعِهم دَلاَلَةً على أنه لا يجوز قَبولُ خبر الواحدِ إلا في الإضافة إلى الله، فأمَّا على أن المذكورَ صفة لله فلا (¬3)، وليس كلُّ مضافٍ إلى الله صفة لله (¬4)؛ بدليل الرُّوح المضافةِ إليه في حَق آدمَ ¬

_ = به، وإنما يقبل به فيما لا يقطع به؛ مما يجوز التعبد به كالأحكام التي تقدم ذكرنا لها، وما أشبهها مما لم نذكره. (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا كان جمهورأهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به، أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك ... كالباقلاني والجويني وابن عقيل وابن الجوزي والآمدي". انظر "مقدمة في أصول التفسير": 67 - 68. (¬2) في الأصل: "القول". (¬3) هذا على قاعدة من يرد خبر الواحد في باب الأسماء والصفات؛ لأنه لا يفيد العلم. والصواب: أن خبر الواحد إذا صَحَّ فإنه يفيد العلم، وخاصة إذا احتفَّ بالقرائن، ويصح الاستدلال به على ثبوت الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى. (¬4) الأصل أن ما أضيف إلى الله صفة له، إلا إذا علم أنه عين قائمة بنفسها أو متعلق بها.

وعيسى (¬1)، وكشفت أدلةُ القرآنِ وأدلةُ العقولِ على أنها مجردُ تشريفٍ بإضافة، لا أن لله صفةً يقالُ لها: الرُّوحُ ولَجَتْ آدمَ ولا عيسى، وإنَّما ذلك قولُ الحُلولِية (¬2). فصل ويلي ذلك: الكلامُ في الِإجماع، لأن حجَّته تثبتُ بعدَ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام، وبعد استقرارِ أحكامِ الكتابِ والسُّنَّةِ، ولأن ثبوتَ الحُجةِ فيه؛ بنَوْعِ دَلاَلَةٍ منهما، ومردود به إليهما. فإن قيل: كيف أَخَّرْتُمُ الِإجماعَ عن الكتاب والسُنَّةِ بالِإجماع، ولا تتركونَ الِإجماعَ بهما؟ قيل: نحن لا نتركُ قولَ اللهِ وقولَ رسولِه لقول علماءِ الأُمَّةِ، لكنْ نتركُهما لِمثْلهما، فنتبين بإجماع الأُمةِ أن ذلك منسوخ، أو معدولٌ عن ظاهره؛ إذْ كان الِإجماعُ ليس بدليل في نفسه، لكنْ يصدرُ عن دليل، خلافَ من قال إنه ينعقدُ عن تَخْمِينِ الأُمَّةِ ومجرَّدِ حكمِهم، كما قالوا في تجويزِ قولِ الله سبحانه لنبيه: احْكُمْ بما تريدُ، فمهما حَكَمْتَ به، فهو حكمُنا، ولعِلْمِنا بأن الأُمَةَ لا ترفعُ حكماً باجتهادها، ولا بقياس منها. فصل ويلي ذلك: القياسُ، وإعمالُه في مواضعه، وذِكْرُ ما (¬3) هو فَرْضُه، ¬

_ (¬1) وذلك في الاية (29) من سورة الحجر، والآية: (171) من سورة النساء. (¬2) نسبة إلى الحلول، وسموا بذلك لأنهم يقولون بحلول روح الإله في بعض الأشخاص."الفَرْق بين الفِرَق" ص 254. (¬3) في الأصل: "من"، والمناسب ما أثبتناه.

صفة المفتي والمستفتي

وما يَتَّصِلُ من الفصول ببابه، وإنما وجبَ تأخيرُه عمَّا قَدَمْناه من الأدلةِ؛ لأجل أنه إنما ثَبَتَ كونُه أصلَاَ ودليلاً بالكتاب والسُّنَّةِ والإِجماعِ، على ما نبيِّنُه فيما بعدُ (¬1)، إن شاءَ الله، ولأن استعمالَه في مخالفة ما قدَّمْناهُ من الأدلةِ التي هي أصلُه محظورٌ، وإنما يصحُّ استعمالُه، إذا لم يَنْفِ ما ثبتَ به حُكْمُه. فصل ويلي ذلك: صفةُ المفتي، وإنما وجبَ تقديمُ القياسِ على هذا الأصلِ؛ لأجل أن المفتيَ إنما يصيرُ مفتياً يجوزُ الأخذُ بقوله، إذا عَرَفَ أدلَّةَ الأحكام، ومن جملتها القياسُ، فلما وجبَ أن يكونَ من جملة ما يصيرُ به مفَتياً القياسُ، وجبَ تقديمُ القياسِ؛ ليكونَ (¬2) العلمُ له بالقياس حاصلاً، وبمواضع القياسِ أيضاً عالماً. فصل وإنما جَعَلْنا القوْلَ في صفة المفتي والمستفتي من أصول الفقهِ؛ لأجل أن فتواه للعاميِّ دليلٌ له على وجوب الأخذِ به في حال وجوازِه في حال، فصارَتْ فتوى المجتهدِ للعاميَ كالأدلَّة التي هي النُصوصُ والظَّواهرُ والإِجماعُ والقياسُ للعالِمِ، ولما وجبَ أن تكونَ تلك من أصول الفقهِ؛ لكونها أدلَّةَ الأحكام للعلماء، كذلك فتوى (¬3) المفتين وجبَ أن تكونَ من أصولِ الفقه؛ لكونها أَدلَّةَ الأحكام للعوامِّ. ¬

_ (¬1) سيأتي في الجزء الأخير من الكتاب في الصفحة: 269. (¬2) في الأصل: "ليكن"، والصواب ما كتبناه. (¬3) في الأصل: "قوى".

وإنما ذَكَرْنا صفةَ المستفتي، وخَلَطْناه بأصول الفقهِ -وإن كان عامَياً مقلَداً ليس من الأدلةِ بشيء-؛ لأجل أن المفتيَ إنما يفتي عامِّياً له صفةٌ يسوغُ له التَّقليدُ للعالم إذا كان عليها، ولو لم يكُ كذلك، لَمَا جَازَ له الأخْذُ بقول غيرِه؛ فوجبَ ذِكْرُ صفتِهما وحالِهما. وإذ (¬1) ذكرنا صفةَ المفتي والمستفتي، فقد ذكرنا أيضاً صفةَ الحاكمِ والمحكومِ عليه، وإن كان لا يصيرُ حاكماً بكونه عالماً بالأحكام، وممَّن يجوزُ تقليدُه، وإنما يصيرُ كذلك بأن يكونَ إماماً قد عَقَدَ له أهلُ الحَلِّ والعَقْدِ، أو متقلِّداً للحكم من قِبَلِ إمام أو مَنِ استخلفَه الِإمامُ. فأما المحكومُ عليه فقد يكونُ عامِّياً، وقد يكونُ عالماً، والمستفتي لا يجوزُ أن يكونَ إلا عامَياً. فإن قيل: قد بَيَّنْتُمُ الوجهَ الذي لأجله جَعَلْتُم المفتي والمستفتي من أصول الفقهِ، فما وجة جعلِكم الحظرَ والِإباحةَ من أصول الفقهِ؟ قيل: لى لان العالمَ إذا فقدَ الأدلَةَ في الحادثة، وجبَ أن يقِرَّ الأمرَ فيها على حكم العقلِ، إن كان ممَّن يُثْبِتُ به حظراً وإباحةً، فإن لم يكنْ ممَّن (¬2) يقولُ بذلك، وكانت الحادثةُ تتردَّدُ بين شَغْلِ ذِمَّةٍ وبين فَراغِها؛ بنى الأمرَ على فراغ الذِّمَّةِ، وإن لم يكنْ ممَّن يقولُ بإباحة ولا حظرٍ بمقتضى العقلِ، بَنَى على ما دَلَّ عليه أصلُ السَّمعِ من الحظر ¬

_ (¬1) في الأصل: "وإذا"، والجادة ما أثبتنا. (¬2) في الأصل: "من".

- فصل في صفة العالم الذي يسوغ له الفتوى في الأحكام

أو الإِباحةِ، فلذلك جعلنا (¬1) الحظرَ والإِباحةَ من جملة أصولِ الفقهِ. فصل في صفةِ العالمِ الذي يسوغُ له الفتوى في الأحكام (¬2). هو أن يكونَ على صفات عامَةٍ وخاصَةٍ: فالعامةُ: التي لا تَخْتَص، من ذلك: العقلُ، والبلوغُ، والإِسلامُ، والعَدالةُ. والصفاتُ التي تختصُّ: أن يكونَ عارفاً بالأدلَةِ ومناصبِها، وما يكونُ منها دليلًا بقضيةِ العقلِ وطريقِ الإِيجاب، وما هو متعلق بمدلوله تعلقاً لازماً، وما يدل منها بطريق المواضعَةِ من إهل اللغة، نحو تواضعِهم على دَلالاتِ الألفاظِ، وما جَعَلَه الشَرعُ دليلًا على الأحكام، ولولا ورودُه بذلك لم يكنْ دليلًا؛ لأنه بمعرفة ذلك يتمكَنُ من الوصول إلى العِلْم بأحكام الشَرعِ، وأنها مشروعةٌ من قِبَل الله عزَّ وجل الذي تعَبَّدَ خَلْقَه بماشاءَأن يَتعبدهم به. وأن يكونَ بحيثُ يصحُ له ويتأتَى منه أن يحكمَ بحكم الله في القضية، إذا كان حاكماً. فصل ولا يصلُ إلى علم ذلك إلَّا بعدَ معرفتِه بحَدَث العالَمِ، وإثباتِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "جعلت"، والمثبت أنسب للسياق. (¬2) انظر "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي": ص 13 - 54، و"العدة" 5/ 1594 - 1600، و "التمهيد" 4/ 390 - 392، و"المسودة" 514 - 517، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 459 - 467.

الصَّانعِ تعالى، وأنه على ما يجبُ كونُه عليه من صفاته الواجبةِ له، وأنه يتعبَّدُ بالشَّرائع على ألْسِنَةِ رسلِه عليهم السَّلام، وأن يعرفَ كونَ الرسولِ رسولًا له تعالى بما دَلَّ على صدقه من معجزاته، ولا يصحُ له ذلك إلا بعد النَظَرِ في معجزاته، وأن يعرفَ وجهَ كونِها دلالةً على صدقه، ولا يصحُّ منه العلمُ بذلك أجمعَ حتى يكونَ عارفاً بالأدلَّةِ ونَصْبِها، ووجوبِ بناءِ النَّظرِ فيها بعضِه على بعض، وبناءِ العلوم الحاصلةِ عندَه، ومتى لم يَكْمُلْ بذلك ويتقدَّمْ علمُه، لم يصلْ إلى العلم بالله وبصدق رسلِه، وأنه تعالى متعبِّدٌ بهذه الأحكام؛ إذ كان تعبده بهذه الأحكام فرعاً على ما ذكرناه من الأصول وأدلتِهَا، ولهذه الأصولِ شروحٌ لا يصَلُ إلى معرفتها إلَّا من اطلَعَ في أصول الدِّياناتِ. فصل ثم يجبُ بعدَ ذلك أن يكونَ عارفاً باحكام الخطابِ، ومواقع الكلامِ ومواردِه، ومصادرِه، ومحتمِلِه وغيرِ محتمِلِه، ووجوهِ احتمالاتِه، وخاصَهِ وعامَّه، ومجمَله ومفسرهِ، ومحكمِه ومتشابِهِهِ، وحقيقتِه ومجازِه، ومطلَقِه ومقيده، ومَكْنِيِّه وصريحِه، وفَحْواهُ ولَحْنِه، ودليلِه، والفرقِ بين ذلك وغيرِ ذلك مما قد بَينَاه وشَرَحْناه في فصول البيانِ وأحكام الخطاب من هذا الكتاب، وإنَّما اعْتَبَرْنا ذلك في حقَه؛ لأنه بمعرفةَ ذلك يتمَكَنُ من معرفة المَرادِ بالخطابِ في الكتاب والسنَّةِ، ومَنْ قَصرَ عن ذلك، لم يَصِلْ إلى معرفته. واعلم أنه لن ينالَ عِلْمَ ذلك حتى يحفظَ من اللُّغة والنَحْو والِإعرابِ، ما يتعلقُ بمعاني الآي، والسُّننِ المتضمِّنةِ للأحكام.

فأمَّا إخلالُه بما زادَ على ذلك فغيرُ مُضِرٍّ به في معرفة بتَضَمُنِ الكلام، ولو أنا لم نُسَوَغْ له الفُتْيا حتى يصيرَ في علم اللغة والإِعرابِ مثلَ الخليلِ (¬1) والمُبَرَّدِ (¬2) ومن جَرَى مَجْراهما في العلمَيْنِ، لضاقَ عليه، وشَغَلَه التَّناهي فيهما عن علم طرقِ الأحكامِ ووجوهِ الاجتهادِ. قال المحقِّقونَ من العلماء كالقاضي الإِمامِ أبي بكرٍ (¬3) ومَنْ قاربَه أو شاكلَه: ولا وجهَ لقول من قال: إنه يلزمُه معرفةُ الأسماءِ الشًرعيةِ، والفرقِ بينها وبين اللُّغَوَّيةِ؛ لأنه ليس في الشَّرع اسم يخالفُ اللغوية على ما بيَّنَّاهُ من قبلُ (¬4)، ونبيِّنُه إن شاء اللهُ في مسائل الخلافِ (¬5). فصل ويجبُ أيضاً عند كثيرٍ من أهل العلمِ أن يكونَ حافظاً لكتاب الله جميعِه، ومحيطاً بالسننِ المتضمِّنةِ للأحْكام. وذهب المحقِّقونَ إلى أنه يَلْزَمُه أن يحفظَ من الآي ما يتعلَّقُ به ¬

_ (¬1) هو الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي، أبو عبد الرحمن البصري، إمام العربية، ومنشىء علم العروض، صنف كتاب "العين" في اللغة، و"العروض"، و"النقط والشكل" وغيرها، توفي سنة (170) هـ، وقيل: (175) هـ. "سير أعلام النبلاء" 7/ 429، و"إنباه الرواة" 1/ 376. (¬2) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي، أبو العباس البصري، إمام النحو، له تصانيف كثيرة، منها: كتاب "الكامل"، توفي سنة (286) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 576. (¬3) يعني الباقلاني. (¬4) انظر الصفحة (35) و (100). (¬5) سيأتي في 2/ 410.

أحكامُ الفقهِ، وما هو ناسخٌ ومنسوخٌ، وتاريخَ ذلك، وفي ذلك كفايةٌ له عن القَصَص والمواعظِ والأمثالِ والزَّواجرِ، إذ لا يتعلَقُ بذلك حكمٌ شرعيٌّ، فإن كان في القَصص ما يتعلَّقُ به (¬1) حكمٌ شرعيٌّ هو شرعٌ لمن قَبْلَنا، فذلك كآي الأحكامِ النازلةِ في شريعتنا، على أصلنا: أنَ (¬2) شَرْعَ من قَبْلَنا شرعٌ لنا. فصل ويجبُ أيضاً أن يكونَ عارفاً بأحكام أفعالِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وما قدَّمنا ذكرَه من مراتبها (¬3)، وما يجبُ اتَباعُه عليه منها، وما لا يجبُ ذلك فيه، وكيف يكونُ الفعلُ منها بياناً لحُكْم قولٍ لَزِمَ الأمَةَ أمثالُه، وما ليس منها كذلك. فصل ويجبُ كونُه عالماً بناسخ الخطاب ومنسوخِه اللذَين تتعلَّقُ بهما الأحكامُ، دونَ ما لا يتضمَّنُ من ذلكَ حكماً، ومعنى النَسخِ وطريقِ الحكمِ به، ويعرف أحكام المتعارضِ من النُصوصِ الذي لا يمكنُ بناءُ بعضِه على بعض، وما يمكنُ ذلك فيه، وهل يكونُ أخْذُ ما يمكنُ بناؤه دليلاً على الحكم، أم يجبُ إيقافُه وتعارضُه، والرجوعُ إلى غير ذلك؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "من". (¬2) في الأصل: "وأن". (¬3) انظر ما تقدم في الصفحة (40).

فصل وأن يعرفَ طُرُقَ البياناتِ، وما يجوزُ تأخيرُه منها، وما لا يجوزُ ذلك فيه. فصل وأن يكونَ عارفاً بالِإجماع وحجتِه، والخلافِ الذي يُعتد به والذي لا يُعتدُ به منه، وأين يسوغُ الاحتجاجُ بالإجماع؟ وأين لا يسوغُ التعلُّقُ فصل ويعلمَ أيضاً ما جُعِلَ في الشَّرع طريقاً إلى إثبات الحكمِ، إمَّا بجهة النَّصِّ، أو بغالب الظَّنَ بعد الاجتهادِ. فصل ويجبُ أن يكونَ عالماً عارفاً بالأخبار، ومراتبِها، وترجيحِها. فصل ويجبُ أن يكونَ عارفاً بالعِلَل، ووجهِ القياسِ، وأحكام العِلَلِ، وأين يجبُ أن تعملَ؟ وكيف يَستدِلُّ على ثبوتِ العلَّةِ المقيسِ عليها، أو على فسادها؟ فصل ويجبُ في الجملة أن يكونَ عالماً بجميع أصولِ الفقه وأدلَّةِ الأحْكامِ، وما هو أوْلى بالتَّقدُّم منها، على ما تَقَدَّمَ من ترتيبنا.

فصل ويجبُ مع ذلك كلِّه ان يتَقِيَ اللهَ تعالى، ويَستعمِلَ التَحرزَ فيما يُفتِي به ويحكُم -إن كان حاكماً-، وأن يعلمَ أنه مؤاخذٌ بالتَّقصير والتَساهلِ في ذلك. ومتى لم يكنْ كذلك، لم يَجُزْ للعاميِّ أن يستفتيَه ويرجعَ إلى قوله.

- فصل فيما يجب أن يحفظ من الأحاديث

فصل فيما يجبُ أن يحفظَ من الأحاديث ظاهر كلام أحمدَ أنه يعتبرُ في صحَّة الفُتْيا حِفْظُ جملةٍ من الأحاديث، قال في رواية صالحٍ (¬1) في الرَّجل إذا حَمَلَ نفسَه على الفتيا: ينبغي أن يكونَ عالماً بوجوه القرآنِ، عالماً بالأسانيد الصَّحيحةِ، عالماً بالسُّنن (¬2). ونقلَ عنه أبو الحارث: لا يجوزُ الاختيارُ إلا لرجل عالمٍ بالكتاب والسنة (¬3). ¬

_ (¬1) هو صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل، أبو الفضل الشيباني البغدادي، قاضي أصبهان، وهو أكبر أولاد الإمام أحمد، سمع من أبيه مسائل كثيرة، توفي سنة (266) هـ."سير أعلام النبلاء" 12/ 529، و"طبقات الحنابلة" 1/ 173. (¬2) كتبت في الأصل: "السير"، والمثبت من "العدة" 5/ 1595، و "المسودة" ص 515، و "إعلام الموقعين" 1/ 44 و 4/ 205. (¬3) ذكر هذه الرواية بنصها القاضي أبو يعلى في"العدة" 5/ 1595، وذكرها أيضاً ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 45 و 4/ 205، ووقع عنده في الموضعين: "الإفتاء" بدل " الاختيار"، وهي بحروفها في "المسودة" ص 515، إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية جعلها من رواية يوسف بن موسى، وعقب عليها بقوله: =

وقال في رواية حَنْبَلٍ (¬1): ينبغي لمن افْتى أن يكونَ عالماً بقول من تقدَّمَ، وإلا فلا يًفْتي (¬2). وقال في رواية يوسفَ بن موسى: أحب إليً أن يتعلَّمَ كل ما تكلم النًاسُ فيه (¬3). وسألَ رجلٌ أحمدَ بن حَنْبَلٍ: إذا حفظَ الرَّجلُ مئةَ ألفِ حديثٍ يكونُ فقيهاً؟ قال: لا، قال: فمِئَتَىْ الْف حديثٍ؟ قال: لا، قلت: فثلاثَ مِئَةِ ألفِ حديثٍ؟ قال: لا، قلت: فأرْبَعَ مئةِ ألفٍ؟ قال بيده هكذا، وحَرَّكَ يدَه (¬4). وقال الثِّقاتُ من أصحاب الحديثِ: إن يحيى بن مَعِين (¬5) كان يحفظُ مِئَتَيْ ألفٍ، وكان عليُّ ابن المدينى (¬6) يحفظً أربعَ مئةِ ألفِ ¬

_ = قلت: الاختيار غير الإفتاء؛ لأن الاختيار ترجيح قول على قول، وقد يفتى بالتقليد المحض. (¬1) هو حنبل بن إسحاق بن حنبل، أبو علي الشيباني، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه، له مسائل كثيرة عنه، صنف "الفتن" و "المحنة"، وله "تاريخ" مفيد، توفي سنة (273) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 51. (¬2) وردت هذه الرواية في "العدة" 5/ 1595، و"المسودة" ص515، و"إعلام الموقعين" 1/ 45 و 4/ 205. (¬3) ذكر هذه الرواية أبو يعلى في " العدة" 5/ 1595، وابن القيم في"إعلام الموقعين" 4/ 205. (¬4) هذه الرواية في "العدة" 5/ 1597، و"إعلام الموقعين" 1/ 45 و 4/ 205. (¬5) هو يحى بن معين بن عون بن زياد، أبو زكريا الغطفاني ثم المُرِّي، شيخ المحدثين، توفي سنة (233) هـ. "سير أعلام النبلاء" 11/ 71. (¬6) هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح، أبو الحسن السعدي البصري، أمير =

حديثٍ، وعثمانُ أخوه (¬1) مئةَ ألفٍ. وقال المخبِرونَ (¬2) لأحمدَ: أجابَ عن سِتِّ مئةِ ألف. فظاهرُ كلام أحمدَ اعتبارُ هذا المِقْدارِ -أعني خَمْسَ مئةِ ألْفٍ، أو سِتَّ مئةِ ألفٍ-، حيثُ حَركَ يدَه تحريكاً يُعْطِي التردُّدَ في فتيا من يحفظُ أربعَ مئةِ ألفٍ. قال شيخُنا الِإمامُ أبو يَعْلى ابنُ الفرَاءِ (¬3) -كرمَ اللهُ وجهَه-: وهذا محمولٌ على الاحتياط والتَغليظِ في الفتيا (¬4). ¬

_ = المؤمنين في الحديث، توفي سنة (234) هـ. "سير أعلام النبلاء" 11/ 41. (¬1) كذا الأصل، ولم نتبين وجهه، وعثمان هذا لا ندري من هو، فلا يعرف لعلي بن المديني أو يحيى بن معين أخ بهذا الاسم، فضلاً عن أن يكون حافظاً، إلا أن يكون في الكلام سقط، تقديره: وأبو بكر بن أبي شيبة يحفظ (كذا)، وأخوه عثمان ... ؛ فإن عثمان بن أبي شيبة معدود في الحفاظ. (¬2) كذا كانت في الأصل، ثم عدلت بقلم مغاير إلى "المختبرون "، وتوجيه الأول: أنهم الرواة المختصون بالرواية والإخبار عن الِإمام أحمد، ويؤيد ذلك أن هذه الرواية ذكرها أبو يعلى في "العدة" 5/ 1597، وابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 45، وليس فيها ذكر لاختبار أو امتحان، بل هي مجرد رواية وإخبار عن مقدار حفظ الإمام أحمد. (¬3) هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، أبو يعلي البغدادي، شيخ الحنابلة في زمانه، ولي القضاء بدار الخلافة والحريم، مع قضاء حرَّان وحُلوان، صنف "العدة" و"أحكام القرآن" و"المعتمد"، وغيرها، توفي سنة (458) هـ. "سير أعلام النبلاء" 18/ 89. (¬4) انظر "العدة" 5/ 1597، وتتمة كلامه فيه: ويحتمل أن يكون أراد بذلك =

وهذا من كلام شيخنا حَسَنٌ، لا يليقُ الكلامُ إلَّا به، وذلك أنَّا لو اعتبَرْنا حفظَ هذه الجملةِ، لما جازَتِ الفتيا لأحد؛ لأن هذا القَدْرَ لا يجتمعُ حفظهُ وحفظُ ما يَفْتقِر إليه الاجتهادُ من بقيَّة العلوم، وقد قدَمْنا أنه لا يفتقرُ إلى أقصى علوم اللُّغةِ والعربيَّةِ، بل ما لا بدًّ منه بمعرفة الآي والأخبار المضفَنةِ للأحكام، حتى قلنا: لا يحتاجُ أن يكونَ كالخليل والمُبَرًّد، كذلك لا يُشترطُ هنا أن يكونَ كابن المَدِينى وأحمدَ؛ لأن من بلغَ هذا الحَدَّ من الحفظ لابدَّ أن يفوتَه ما لا يسْتَغْنى عنه من الفقه، فهذا تحقيقُ كلامِ شيخِنا رضي الله عنه. وَيعْضُدُ تأويلَ شيخِنا من كلام أحمدَ ما رواه أبو موسى الوَرَّاق (¬1): سمعتُ أحمد بن حنبلٍ وذاكرَه دحَيْم (¬2) بالأصول التي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال أحمد: إن الأصولَ التي يدورُ عليها العلمُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكونَ ألفاً أو ألفاً ومئتين (¬3). ¬

_ = وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لا بد منه فالذي وصفنا. يعني قوله المتقدم في صفة المفتي: أنه يحتاج أن يعرف من السنة جملها التي تشتمل الأحكام عليها. (¬1) هو عيسى بن جعفر، أبو موسى الوراق الصفدي البغدادي، روى عن الِإمام أحمد أشياء، توفي سنة (272) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 144، و"طبقات الحنابلة" 1/ 247. (¬2) هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو بن ميمون, أبو سعيد الدمشقي، قاضي مدينة طبرية، كان محدث الشام في وقته، توفي سنة (245) هـ. "سير أعلام النبلاء" 11/ 515. (¬3) انظر "العدة" 5/ 1600، و"المسودة" ص 516، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 561

فهذا هو الذي تتضمَّنُه تعاليقُ الفقهاءِ في غالب الأحوالِ، وبانَ بهذه الرِّوايةِ أنه ذكرَ تلك الجملةَ احتياطاً ومبالغةً، واللهُ أعلمُ. فصل ولا يَحِلُّ لأحد أن يُفتيَ مع عَدَمِ ما ذكَرْنا أو اختلالِه، والدَّلالةُ على ذلك: قولُه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقولُه {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]، وقوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فاعتبرَ التَّفقُّهَ في الدين في الإِنذار، وقولُه سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وأيضاً فإن القاصرَ عن صفات الفُتْيا لا يُومَنُ أن يجيبَ بجهلٍ فيُضِلَّ، وقد ورَدَتِ السنَةُ بمثل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ لا يرفعُ العلمَ انتزاعاً يَنْتَزعُه من صدور الرِّجالِ، لكنْ يرفعهُ بموت العلماءِ، فإذا لم يَبْقَ عالمٌ اتَّخَذَ النَاسُ رؤوساً جُهَّالًا، فسُئِلُوا، فأَفتَوْا بغير علمٍ، فضَلُّوا وأَضَلُّوا" (¬1). وأيضاً ما رُوِيَ أن أميرَ المؤمنين علىَّ بن أبي طالبٍ، سمعَ أن رجلاً تكلَّمَ في الحلال والحرامِ وليس بفقيهٍ، فخرجَ، فخطبَ، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 2/ 162 و.19 و203، والدارمي 1/ 77، والبخاري في "صحيحه" (100) و (7307) وفي " خلق أفعال العباد" (369)، ومسلم (2673)، وابن ماجه (52)، والترمذي (2652)، والنسائي في "الكبرى" (5907) و (5908) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

فقال: ذِمَّتي بما أقولُ رَهينَةٌ، وأنا به زَعيمٌ: إنَ امْرَأً صرَّحَتْ له العواقبُ عمَّا بين يَدَيْهِ من المَثُلاتِ، حَجَزَه التَّقوى عن تَقَحُّم الشُبُهاتِ، وإن شَرَّ النَّاسِ رجل قَمَشَ علماً في أوْباشٍ من النَّاسِ، فهو في قِطَع من الشُّبُهات كمِثْلِ نَسْجِ العنكبوتِ، خَباطُ عَشَواتٍ، رَكَابُ جهالاتٍ، لم يَعَضَّ على العلم بضِرْسٍ قاطعٍ فيَغْنَمَ، ولا سَكَت عمَّا لم يعلَمْ فيَسْلَمَ، فويلٌ للدِّماء والفُروجِ منه (¬1). ولأن الرُّجوعَ في قِيَم المتلَفاتِ وأُرُوشِ الجِناياتِ لا يجوزُ، إلاَّ أن يكونَ المرجوعُ إليه من أهل الخِبْرةِ بأسعار الأسواقِ، فأوْلى في باب أحكامِ الشَّرعِ ألَّا يرجعَ إلى مَنْ لا خبرةَ له بها، أوكان مقصِّراً فيها. فصل وظاهرُ كلام أحمدَ جوازُ إرشادِ العاميِّ إلى مجتهدٍ يستفتيه، وإن كان المدلولُ عليَه والمرشَدُ إليه يخالفُ مذهبَ الدالِّ؛ فإنه سُئِلَ عن مسألة، فقال: عليك بالمدنيِّين (¬2). يعني: مذهبَ مالكٍ، وقال أيضاً لبعض أصحابه: لا تَحْمِل النَّاس على مذهبك. يعني: دَعْهم يَتَرَخَّصون بمذاهَب النَّاسِ. وهذا يعطي أن مذهبَه: أن كلَّ مجتهدٍ مصيب، لأنه لو كان عنده على خطأ، لَمَا جازَ له دَلالَةُ الطالب للحقِّ على مَنْ يعتقدُ أنه على ¬

_ (¬1) انظر الخطبة بطولها في "الفائق" للزمخشري 2/ 15 - 16، و"نهج البلاغة" 1/ 105 - 108. (¬2) انظر هذه الرواية بتمامها في "العدة" 4/ 1226، و"المسودة" ص 463، و"طبقات الحنابلة" 1/ 142.

غير حقٍّ، ووجهُ ذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدين من بَعْدِي" (¬1)، مع علمه بأنهم سيختلفون، وقولُه: "وأصحابي كالنُجوم، بأيِّهم اقتديتم اهتدَيْتم" (¬2). ولأن الِإجماعَ انعقدَ على جواز تَوْلِيَةِ بعضِ الفقهاءِ بعضاً ولايةَ ¬

_ (¬1) جزء من حديث العرباض بن سارية الصحيح الذي أخرجه أحمد 4/ 126 و 126 - 127 و 127، والدارمي 1/ 44 - 45، وأبو داود (4607)، وابن ماجه (42) و (43) و (44)، والترمذي (2676). وقال الترمذي: حسن صحيح. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" 2/ 91، وابن حزم في "الِإحكام" 6/ 82 من حديث جابربن عبد الله. وفي سنده سلام بن سلم أو سُليم أو سليمان الطويل، قال البخاري: يتكلمون فيه تركوه، وقال ابن معين: ضعيف لا يكتب حديثه، وقال أحمد: روى أحاديث منكرة، وقال النسائي: متروك، وفيه الحارث بين غصين وهو مجهول. وأخرجه الخطيب البغدادي في "الكفاية" ص 48، وابن بطة في "الِإبانة" (702)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 7/ 632 من حديث ابن عباس. وفي سنده سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف الحديث، وجويبر بن سعيد الأزدي، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك، والضحاك -وهو ابن مزاحم الهلالي راويه عن ابن عباس- لم يلقه. وأخرجه الخطيب في "الكفاية" ص 48، وابن بطة في "الِإبانة" (700)، وابن عساكر 6/ 604 من حديث عمربن الخطاب، وفي سنده نعيم بن حماد وهو كثير الخطأ، وعبد الرحيم بن زيد العمي قال البخاري: تركوه، وقال يحيى: كذاب، وقال أبو حاتم: ترك حديثه، وضعفه أبو داود وأبو زرعة. وأخرجه عبد بن حميد (783)، وابن بطة (701) من حديث عبد الله بن عمر، وفي سنده حمزة بن أبي حمزة الجزري، قال البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة ما يروله موضوع.

الأحْكام مع العلمِ بأنهم يَقْضُونَ بما يخالفُ الحقَّ عندهم، ولو كان الإِرشادُ اَليهم غيرَ جائزٍ، لكان المنْعُ من توليتِهمُ الأحْكامَ أوْلى بالمنع؛ لأن الحكمَ يؤدِّي إلى إلزام ما ليس بحقٍّ عندَ المُوَلِّي، مثلُ الشافعىِّ يُوَلِّي الحنفيَّ والحنبليَّ فيَحْكُمان باستقرار الصَّداقِ وتكميلِه بالخَلْوةِ (¬1)، والحنبلي يوَلَّي الحنفى فيحكم بإيجاب الشُّفْعَةِ بالجِوار (¬2)، وُيوَلِّي الشافعيَّ فيحكم بإيجاب الشفْعَةِ للذِّمِّيِّ على المسلم (¬3)، وُيولِّي الحنفيَّ فيحكمُ بعقود عندَه باطلة، وبقَتْل المسلمِ بالكافر (¬4). فإن قيل: كيف نرشدُه إلى ما نعتقدُه خطأً وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الدينُ النَصيحةُ" (¬5)؛ وأَيُّ نصيحةٍ في إرشاد مسترشدٍ إلى مَنْ نُخَطِّئُه ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 10/ 153 وما بعدها. (¬2) انظر "البناية شرح الهداية" 8/ 451 وما بعدها، و "المغني" 7/ 436 وما بعدها. (¬3) انظر " تكملة المجموع شرح المهذب" 14/ 314، و "المغني" 7/ 524 وما بعدها. (¬4) يعني: الذمي، وانظر تفصيل المسألة في "البناية شرح الهداية" 10/ 23 وما بعدها، و"المغني" 11/ 465 وما بعدها. (¬5) أخرجه أحمد 4/ 102 و102 - 103، ومسلم (55)، وأبو داود (4944)، والنسائي 7/ 156 و156 - 157، وابن حبان (4574) و (4575) عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "الله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". وأخرجه أحمد 2/ 297، والترمذى (1926)، والنسائي 7/ 157 عن أبي هريرة. وأخرجه أحمد 1/ 351، والبزار (61 - كشف الأستار)، وأبو يعلى (2372) =

في مذهبه؟ قيل: لسنا على قَطْع من الِإصابة منَّا، ولا الخطإ من مخالفنا، وخطأُ المجتهدِ خطأٌ لا يُسْتحَقُّ عليه عقابٌ، بل لا يخلو فيه من أجر الاجتهادِ، فهو كخطإ القِبْلَةِ، وخطإ المتَحَرِّي في المياه المشتبِهةِ نَجسِها بطاهرها؛ ولهذا المعنى اتَّفقنا على جواز تقليدِ مخالفينا ولايةَ الأَحكامِ، وتقاضَيْنا إليهم في الخصومات، وصَلَّيْنا خلفَهم. ولهم أن يقولوا: فكما لا يجوزُ أن تَدُل على قطع الخطإ، لا يجوزُ أن تَدُل على ما يغلبُ على الظَّنَ أنه خطأٌ، ألا ترى أنه كما لا يجوزُ الدَلالَةُ على طريق يُقْطع فيه على الضرر، لا يجوزُ أن يُدَل المسترشدُ على طريق يغلبُ على ظنَنا أن فيه سَبُعاً. فصل وظاهرُ كلامِ أحمدَ أن صاحبَ الحديثِ أحق بالفُتْيا من صاحب الرايِ، قال عبد الله (¬1): سألْتُ أبي عن رجل يريدُ أن يسألَ عن الشَيءِ من أمر دينهِ فيما يُبْتَلَى به من الأيمانِ في (¬2) الطَلاق وغيرِه، وفي مِصْره من أصحاب الرَّأْي، ومن أصحاب الحديثِ لا يحفظون، ولا يعرفون ¬

_ = عن ابن عباس. وأخرجه الدارمي 2/ 311، والبزار (62 - كشف الاستار) عن ابن عمر. (¬1) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبد الرحمن الشيباني المروزي ثم البغدادي، روى عن أبيه الِإمام أحمد شيئاً كثيراً، من جملته: "المسند" كله، و"الزهد"، توفي سنة (290) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 516. (¬2) في الأصل: "و"، والمثبت من المصادر الآتية قريباً.

الحديثَ الضَّعيفَ، ولا الإِسناد القَويَّ، فلمن يسألُ: لأصحاب الرَّأيِ، أو لهؤلاء مع ما هم. عليه من قِلَّة معرفتِهم؟ قال: يسألُ أصحابَ الحديثِ، ولا يسأل أصحابَ الرأيِ، ضعيفُ الحديثِ خيرٌ من رأي أهلَ الرَّأيِ (¬1). وهذا عندي محمولٌ على أحد أمرَيْن؛ ليجتمعَ كلامُه ولا يتناقضَ: إمَّا على أنه عَلِمَ من أهل الحديثِ الذين ذَكَرَهم فقهاً؛ إذ لا يجوزُ لمثله (¬2) أن يجيزَ تقليدَ مَن لا اجتهاد له ولا فقهَ، سوى حِفْظِ أحاديثَ يَرْويها لا يعلمُ أسانيدَها، فضلَاً عن فقه ألفاظِها ومعانِيها. أو يكون السُّؤالُ الذي أجازَه. برجعُ إلى الرِّواية، ويكون أهلُ الرأي الذين طَعَنَ فيهم أهلَ رأيٍ في رَدِّ الأحاديثِ، لا الرَّاي في فقه الأحاديثِ، واستنباط المعاني، والعلمِ بالقياس، وكيف يكونُ ذلك وهو من كبار أهلِ الراي؛ بقوله بالقياس، وعلمِه بأنه إجماعُ السلَف؟ وإنما الذَّمُ عادَ إلى ما تَردُ به الأحاديثُ كرأي المبتدِعين، والله أعلمُ. فصل ويجب أن ينظرَ المفتي إلى الحكم الذي يُفْتِي العاميَّ به: فإن كان مما يَسُوغُ خلافُه، أعْلَمَه الحكمَ في مذهبه، واستُحِبَّ ¬

_ (¬1) وردت هذه الرواية في "العدة" 5/ 1595 - 1596، و"المسودة" ص 515، و"إعلام الموقعين" 4/ 205، و"مسائل أحمد" لابنه عبد الله: 438. (¬2) في الأصل: "بمثله".

له إعلامُه بمذهب غيرهِ، إن كان أهلاً للتَّوسعَة عليه وأهلاً للرُّخْصة، حتى إنْ ضاقَ عليه مذهبُه، سألَ غيرَه، فكان عامِلًا بالتقليد؛ لئلَّا يرتكبَ مخالفةَ مذهب هذا المفتي من غير تقليدٍ لآخرَ مِن أهل الاجتهادِ، فيكونَ في ذلكَ آثماً؛ فلذلك استَحْبَبْناله أن يجَنِّبَه التَّعرُّضَ بالِإثم. وإن كان الحكمُ الذي أفْتى به إجماعاً لا يسوغُ الخلاف فيه، أَعلَمه ذلك، وكان إعلامُه واجباً وجوبَ فروضِ الكفاياتِ، إن كان في البلد غيرُه، وإن كان وحيداً لا مُفْتِيَ غيرُه، تعَيَّنَ عليه إعلامُه، كما تتعيَّنُ سائرُ فروضِ الكفاياتِ في حَقِّ الواحدِ. فصل والذي هو أهلٌ للرخصة: الطالبُ للحق أو بالحق، أو الطالبُ للتخلُّص مِنَ الربا أو الزَنا، فيدله إلى مذهب مَنْ يرى التَحَيلَ للخَلاص من الرِّبا، والخُلْعَ لعدم وقوعِ الطَلاقِ، وماَ شاكلَ ذلك (¬1). فصل وإذا جاءَتْ إلى المجتهدِ مسألةٌ، فعَزَبَ عنه الجوابُ، واحتاجَ إلى مُهْلَة للنَّظَر، فإن كان معه في المِصْرِ غيرُه، كان له رَدها، وإن كان قد تعَينَتْ عليه؛ بأن كان وحيداً في المِصْر، وَجَبَ عليه النَّظَرُ، ولم ¬

_ (¬1) شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى استحلال ما حرم الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل حيلةٍ تضمنت إسقاط حق الله أو الآدمي، فهي تندرج فيما يستحل به المحارم". مجموع الفتاوى 3/ 191، وقد ذكرت هذه المسألة وأقوال العلماء فيها في كتابي "أصول مذهب الإمام أحمد" الصفحة 497 وما بعدها.

يَجُزْ له إهمالُ الجوابِ، كسائر فروضِ الكفاياتِ (¬1). فصل وإذا تَردَّدَ أمرُ الحادثةِ بينَ أصلَيْنِ، وجبَ عليه التَّرجيحُ، فإلى أيِّهما مالَتْ بحُكم الشَّبَهِ والأحكامِ، وجبَ عليه إلحاقُ الحادثَة به، وذلك مثلُ: أن جاءَتْه مسألةٌ تردَّدُ بيْنَ اليَمينِ بالله والظهارِ، أو تتردَّدُ بين إيجاب كفَّارةٍ أو نَفْيِ إيجابِها، وكان شَبَهُها بما يوجِبُ الكفَّارةَ أكثر، أَلْحَقَهَا به، وأوجبَ المنَارةَ. فصل وإن كان جوابُها عنده حاضراً؛ بأن حَضَرَه الدَّليلُ وكان وحيداً، تَعيَّنَ عليه الجوابُ، وإن كان معه غيرُه، جازَ له الامتناعُ (¬2)؛ وذاك لأن الصَّحابةَ -رضوانُ اللهِ عليهم- كانوا يتدافعون الفُتْيا، ولو كان الجوابُ متعيِّناً، لمَا جازَ لهم ذلك، ألا تَرَى أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا كان واحداً فيما كان عليه مِن إيجاب البيانِ عليه والتَّبليغِ، لم يَجُزْ له تأخير الجوابِ عن السؤال، ولا البياَنِ عن الحاجة بإجماعٍ، وعن الخطاب عندَ قومٍ. فصل فإن كان معه في المِصْر مَن لا يَصْلُح للفتيا، لكنَّه يُفْتِي ويعْرَفُ بذلك بَيْنَ العوامِّ، لم يَحِلَّ للمجتهد الامتناعُ مِن الجواب اعتماداً عليه ¬

_ (¬1) انظر "المسودة" ص 512، و"أدب المفتي والمستفتي" لأبي عمرو ابن الصلاح ص 108 - 109. (¬2) انظر المصدرين السابقين.

لمعنَيْينِ: أحدُهما: أنَ وجودَ ذلك كلا وجودٍ، وهو وحيدٌ في المَعْنى، إذ ذلك ليس مِن أهل الفَرْضِ، فهو كمن تركَ صلاةَ الجِنَازةِ لامرأةٍ أو ذمِّيٍّ معه في القرية، أو تركَ النَّهْيَ عن المنكَر، لوجود مجنونٍ أو طفلٍ معه في القرية، فإنه لا يَحِل له ذلك لمَّا كان على حُكم الوَحْدَةِ، إذ ليس معه مِن أهل الفَرْضِ والخطابِ أحَدٌ، كذلك ها هنا. والمعنى الثاني: أنه إذا تَرَكَ الجوابَ إظهاراً للاعتماد على مَنْ ليس مِن أهل الفُتيا، صارَ كالِإحالةِ بالفُتيا على مَنْ ليس مِن أهلها، فهو كما لو دَل العامِّىَّ على غير فقيهٍ مجتهدٍ، فإنه لا يجوزُ له ذلك، كذلك ما يجري مَجْرى الدَّلالةِ عليه.

* فصل في صفة المستفتي

فصل في صِفَة المُسْتفتِي وهو مَن عُدِمَ في حقِّه ما قدَّمْناه من المعرفة بطرق الاجتهادِ (¬1)، أو قَصَرَ عنها تقصيراً يخرجه عن أن يجوزَ ان يستفتى في حكم الحادثةِ، فذاك العامِّيُّ بعينه، وفرْضه فيما يبتلى به من النَّوازل الدَينيَّةِ والحوادثِ الحُكْميَّةِ سؤال المجتهدِ الذي وصَفْناه فيما قَبْل، فهذا هو المستفتِي، وسؤالُه للمجتهد هو الاستفتاءُ. ولا عِبْرَة بقول (¬2) من زَعَم أن على العامِّيِّ العلمَ بدليلٍ يرشِده إلى حكْم الحادثِة (¬3)؛ لأن ذلك يقطعه عن مصالحهِ، ولا يَتأَتى منه ولا له دَرْك البغْيَةِ؛ لكون ذلك يحتاج إلى تقدُّمِ معرفةِ أصولِ الفقهِ على ما قدَّمْنا، وأَنَّى ذلك للعامِّيِّ. فصل فإن كان عالماً بطرق الاجتهادِ، لكنَّه فاسق، فهل يجوز له أن ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 5/ 1601، و"المسودة" ص 517، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 539. (¬2) مكررة في الأصل. (¬3) هم قوم من المعتزلة البغداديين كما حكاه عنهم أبو الحسن البصري في "المعتمد" 2/ 360.

يأخذَ باجتهاد نفسِه، أم يرجعَ إلى مجتهد غيرهِ (¬1)؟ يحتملُ أن لا يُقَلدَ؛ ولهذا قلنا: إن الإِجماعَ ينعقدُ بغيره، ولا يَنْخَرِمُ بمخالفته، فألزمونا أخْذَه في الأحكام برأي نفسِه، وأنه لا يجوزُ مخالفةُ رأيه في حقِّ نفسِه برأي الجماعةِ، فسلَّمْناه، ولهذا نقول في القِبْلة: لاَ يَرْجِعُ إليه غيرُه، ولا يرجعُ إلى قول غيرهِ، إذا كان فاسقاً. فصل وحكمُ العامِّيِّ في جميع الأحْكام الشَّرعيَّةِ حكمُ العالمِ فيما لا يجدُ عليه دليلاً قطعياً كنصِّ كتابٍ أو سُنَةٍ متواترةٍ، فإنه يجوزُ له الأخْذُ بخَبَر الواحدِ المظنونِ في نفسه، المظنونِ به الحكمُ الذي وَرَدَ به، كذلك العاميُ لَمَّا لم يكنْ له طريقٌ إلى معرفة الحكم، صارَ فَرْضُه الرجوعَ إلى قول المفتي العالمِ العَدْلِ، الذي يَغْلِبُ على الظَّنِّ صدقُه، وإصابتُه فيما أَفْتى به. فإن قيل: العالمُ يرجعُ إلى دليل قطعيٍّ يُوجبُ عنده الأخذَ بأخبار الآحادِ، والقياسِ، وغير ذلك من الأدلةِ المظنونةِ، والعامى لا علمَ عندَه قطعي في تقليده للعالم. قيل: لا فَرْقَ بينهما، فإن العاميَ قد ثبتَ عنده من طريق مقطوعٍ به أنه مأمورٌ بالرجوع فيما يَنُوبُه إلى عالم بالحكم، والأخذِ بفتواه، وهو إجماعُ الصَّحابةِ على سماع الأسئلةِ من البادِيَة ومَنْ لا فقهَ له والجواب لهم عمَّا سأَلُوا، ولا أحدَ منهم امتنعَ من ذلك، وهذا طريقُ علمٍ لا ظَن، إذ لم يكنْ جميعُ الصحابةِ فقهاءَ. ¬

_ (¬1) انظر: "صفة الفتوى" ص 29.

- لا يتعين الاستفتاء لواحد

فصل ولا يَتَعيَّنُ الاستفتاءُ لواحد -وهو ما يذهبُ إليه الرافِضَة (¬1) من الإِمام المعصومِ، المودِع للعلوم، المغني عن غيره في باب الأحكامِ- لوجوه: أحَدها (¬2): أنَّا لا نعلمُ إماماً معصوماً، ومَنْ نَحَوْا إليه بالإِمامةِ والعِصْمَةِ، فقد قَطَعُوا ما بيننا وبينه بقولهم: إنه كان في ذُلِّ التَّقيَّةِ المانعةِ من كَشْف الحَقِّ على الحقيقة. وهذا يُفضي إلى أن لا يُعْرَفَ له مذهبٌ، ولا يُتَعَرَّفَ منه حكمٌ، فالإِحالةُ على ما هذا سبيلُه مَنْع لنا من الرجوعِ إلى من وجَدْنا من العلماء، وسد لباب علمِ المعصومِ، فكنا عادِمِينَ لأحكام الشَرعِ؛ إذ كان علماؤنا غيرَ واقعينَ على الحقِّ، وعلمُ المعصومِ محجوبٌ عنا بالتَّقِيَّة. وهذا مستوفىً في باب الإِمامةِ في أصول الدَّياناتِ، وليس هذا مكانَه. ¬

_ (¬1) هم صنف من الشيعة، وسموا: رافضة؛ لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر، وهم مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه، وأظهر ذلك وأعلنه، وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف، وأنها وراثة، وأنه جائز للإمام في حال التَّقِيَّةِ أن يقول: إنه ليس بإمام. وأبطلوا جميعاً الاجتهاد فى الأحكام، وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس، وهم يدعون الإمامية؛ لقولهم بالنص على إمامة علي بن أبي طالب. (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري ص 16. (¬2) اقتصر المصنف على ذكر هذا الوجه فقط.

- ما يلزم معرفته من حال المفتي

فصل في بيان فسادِ هذه المقالةِ، بحَسَب الكتابِ. إنه قولٌ يؤدي إلى الطَّعن فيهم وفي جميع الصَّحابةِ، أما الطَّعنُ فيهم؛ فإنهم لَمَّا أرادوا الإِمامةَ، قد بَرَزُوا في مقابلة كُل مكافح لهم في معنىً من المعاني، والصَّوْلُ أكبرُ من القول، ولم يَرْشَحُوا بما ذهبوا إليه إلى من تابعَهم على قتال من قاتَلَهم، ولا كاتَبُوا بما عَلِمُوه من الأحكام مما خُولِفُوا فيه مَنْ ناصَبَهم، وهذا بعينه دليلُنا على إعجاز القرآنِ، والردُ على من زعمَ أن القومَ قَدَرُوا، لكنْ أهْمَلُوا أمرَ المعارضةِ لقلِّة اكتراثِهم. فقلنا: مُحالٌ أن نتحدَّاهم بالأسهل عليهم، وهو القولُ الذي يحصلُ به التَّكذيبُ، فيعدِلُوا إلى الأصعب، وهو الصَوْلُ الذي ليس فيه ما يَدُلُّ على الكذب، كذلك ها هنا لا يجوزُ أن يَعْدِلُوا -هؤلاء- عن القول لِمَا عَرَفُوه، والعدولُ عنه إلى الحِرابِ والقتالِ. فصل ويلزمُ العامِّيَّ: أن يعرفَ حالَ المفتي فيما لا غَناءَ عنه، فإذا سألَ عنه فوجدَه من أهل الفتيا، جازَ أن يستفتيَه (¬1)، وقد سبقَتْ صفاتُ العالِمِ المستفتَى، فأغنى عن الِإعادة. ولا يجوزُ له أن يستفتيَ من شاءَ، هذا مذهبُ أحمدَ رضي الله عنه، وجمهورالعلماءِ من الفقهاء والأصوليين. ¬

_ (¬1) انظر "شرح مختصر الروضة" 3/ 663 وما بعدها.

وحُكِيَ ان قوماً أجازوا أن يستفتيَ غيرَه من غير تعَرُّفٍ لحاله في العلم والأمانةِ، كما يجوزُ أن يأخذَ بالقول من غير مسألةٍ عن الدَليل والحجَّةِ فيما أَفتاه به. وهذا اعتلالٌ باطلٌ؛ لأن إجماعَ الأمَّةِ على خلافه؛ لأنهم كانوا لا يُجيزون للإِنسان أن يستفتيَ كُلَّ واحدٍ، ومن ليس من أهل العلم بهذا الشَأنِ، بل كان منهم من كان "يُلْزِمُ العامِّيَّ الاجتهادَ والمسألةَ في الأعلم منهم والأعدلِ والأفضلِ، [و] إذا (¬1) لزمه اجتهاده عند المسالةِ إلى أن منهم من هو أعلمُ وأورعُ وأفضل، لَزِمَه الأخذ بقوله دون الأخذِ بقول من قَصَرَ عنه، ومنهم من كان يعلمُ عدالَة الراوي، ثم يُحَلِّفُه مع عدالتِه، وهو على بن أبي طالب (¬2) -كرَّمَ اللهُ وجهه-. ومعلوم أنَ تقليدَ العالِمِ للراوي كتقليدِ العاميِّ للفقيه في الاستفتاءِ، وأيضاً فإنَ المستفتَى، إذا لم يتقدمْ البحثُ عن حاله جازَ أن يكونَ كالمستفتِي في الجَهْل بالحكمِ المسؤولِ عنه، فلا يفيد سؤالُه فائدةً، لانَّهما سواء، فلا وجهَ لتقديمِ أحدِهما بأن يكونَ متبوعاً، ومُستفتىً على الآخر، كما لا يلزمُ استفتاءُ العالِم عالماً لتساويهما، ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه أحمد 1/ 2 و9 و10، وأبو داود (1521)، وابن 4، جه (1395)، والترمذي (406) و (3006)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (414) و (415) و (416) و (417) عن أسماء بن الحكم الفزاري، عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وأن أبا بكر رضي الله عنه حدثني -وصدق أبو بكر- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال ... ، فذكر حديثاً.

كذلك لا يجوزُ استفتاءُ الجاهلِ جاهلاً لتساويهما. فإن قيل: أليس قد اسْقِطَ عن العاميِّ النَظَرُ في أدلة الأحكامِ؛ كذلك وجبَ أن يُسقَطَ عنه النَظرُ في أعيان المفتِين، ولا فرقَ بين الدليلِ والمسؤولِ في كون كل واحدٍ منهما مرشِداً. قيل: إنَ في تكليف العاميِّ النَظرَ في أدلَةِ الأحْكام تعطيلاً للمصالح، وتكليفَ ما يَضُرُّ تكليفُه بالعالَم؛ لوقوف المَعايشِ وَتعطِل الأعمالِ، وقد بَيَّنَا قَدْرَ ما يحتاجُ إليه المجتهدُ من العلوم، وكفى بذلك شغلَاً عن أن يبقى معه مُسْكة لتحصيل رزقٍ أو نَفَقَةِ عيال، وليس كذلك البحثُ والسؤالُ عن حالِ المستفتَى، فإنَه أمرٌ قريبٌ سهل لا يتعذَّرُ ولا يتطاوَلُ زمانُه. فلهذه المصلحةِ جعلَ الله تعلمَ العلمِ فريضةَ كفايةٍ، ولم يجعلْه فريضةَ أعيانٍ. وأيضاً، فإن كلَّ مَنْ لَزِمَهُ الرجوعُ إلى قول غيرِه، أو كلَّ من وجبَ عليه الرُّجوعُ إلى قولِ غيرِه، وجَبَ أن يعرفَه؛ بدليل أنَ النَبى - صلى الله عليه وسلم - لمَا وجبَ الرجوعُ إلى قوله، وجبَ أن نعرفَه، وكذلك الأئمَّةُ والحكامُ لَما وجبَ الرجوعُ إلى قولهم، وجبَ معرفتُهم، كذلك وجبَ على العاميِّ معرفةُ المجتهدين وأئمةِ الحَلِّ والعَقْدِ (¬1). فإن قيل: أفليس يكفيه أن يُخبِرَه عن العلماء الواحدُ والاثنان ومَنْ لا يقعُ العلمُ بخبرِهم، ولا يعتبرُ من يقعُ العلمُ بخبرهِم وهو عددُ ¬

_ (¬1) انظر" شرح مختصر الروضة" 3/ 664.

- هل يجب استفتاء الأعلم؟

التَّواترِ (¬1)، كذلك لا يعتبرُ من يُحقَقُ وُيقْطَعُ بأنه من أهل الاجتهادِ، بل يكفي أنْ يكونَ غيرَ عالمٍ وغير معلومٍ حالُه. قيل: الأَوْلى في الخبرِ أن يُعلِمَنا مَنْ له علم بذلك، وهم علماءُ البلدِ العدولُ، على أنَ اعتبار العدالةِ والعلمِ يجوزُ أن يُعتبرَ في المستفتَى وإن لم يُعتبرْ في المخبِرِ عن فتواه؛ بدليلِ المُقَوِّمَينِ في المُقَوَّماتِ يُرجَعُ إليهما (¬2)، ويجبُ أن يكونا في اعتبار الثقةِ بقولهما عالِمين بالأسعارِ والأسواقِ، ولا يُعتَبرُ في الخبر عنهما ذلك، كذلك جازَ أن يكونَ المخبِرُ عن المفتى ليس بعالمٍ، ولكن يُعتبرُ العلمُ في المستفتَى. فصل فإِذا عَرفَ حالَ جماعةٍ في المِصْرِ فوجدَهم علماءَ عدولًا، فهل يلزمُه الاجتهادُ في الأعلم، أو يكونُ مخيًراً بين الجماعةِ؟ ذهبَ صاحبنا (¬3) إلى أنه ينبغي له أن يجتهدَ فيقلِّدَ الأعلمَ والأورعَ، ووافقَه جماعة، وذهبَ قوم إلىْ تخييرِه، فأيُّهم شاءَ قَلَّدَه، وأَخَذَ بقولِه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المتواتر". (¬2) في الأصل: "إليها". (¬3) يعني به الإمام أحمد بن حنبل والصحيح أن للإمام أحمد في هذه المسألة روايتين وبكل واحدة منهما قال جماعة من أصحابه، انظر في ذلك "التمهيد" 4/ 403 - 405، و "المسودة" ص 462 - 464، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 666 - 667، و"شرح الكوكب المنير"4/ 571 - 573، و"إعلام الموقعين" 4/ 254 - 255.

والدَلالةُ لمن ذهبَ إلى وجوب ذلك: أن العلماءَ للعامَّةِ في باب الرًّجوعِ إليهم كالأدلَّة بالِإضافةِ إلىَ العلماء، ثم المجتهد يجبُ عليه أن يُرجِّحَ الدَلالَةَ، ويذهبَ إلى الحكمِ الذي رجحَتْ دَلالَتُه، كذلك ها هنا يجبُ على العاميِّ أن يُرَجِّحَ من يرجعُ إلى قولِه، وكذلك ترجيحُ الخبرِ على الخبر للعمل بالأرجح بوجوه التَراجيح واجبٌ ليعملَ بأرجحِها. ووجهُ مَنْ [لا يرى] (¬1) الوجوبَ: أن الذي يَحْصُلُ به رُكْنُ الاستفتاءِ، ويتحقَقُ به المقصودُ، إنَما هو الاجتهادُ الكاملُ وقد وُجدَ، والعدالةُ للثِّقة وقد وُجدَتْ (¬2) فأمَّا الأفضلُ والأعلمُ والأورعُ فيُعَطى منزلتَه، وهو الأوْلى والاستحبابُ، فأمَّا الإِيجابُ فلا، بدليل الشَّهادةِ، فإنَه لا تُقَدمُ فيها دعوى من شَهِدَتْ له البينةُ الفاصلةُ، بالوَرَع وشدَّةِ التَّحرِّي. وبدليل أن السلفَ الصالحَ لم يتركوا المفضولَ، ولا منعوا من استفتائِه؛ لوجود الأفضلِ، ولأن الفُتْيا والحكمَ مبنية على السهولةِ؛ ولذلك شهدَ للمخطىءِ بالأجر، وجعلَ للمصيب أَجْرَيْنِ (¬3). ¬

_ (¬1) زدناها على الأصل لضرورة استقامة المعنى. (¬2) في الأصل: "وجد"، والمناسب ما كتبناه. (¬3) في الأصل: "أخرى". وهو يريد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، تم أخطأ، فله أجر" الذي أخرجه أحمد 4/ 198 و 204 - 205، والبخاري (7352)، ومسلم (1716)، وأبو د اود (3574)، وابن ماجه (2314)، والنسائي في "الكبرى" (5918) و (5919)، وابن حبان =

ولأنَّ غايةَ ما في هذا نوعُ احتياطٍ، وليس كل احتياطٍ واجباً، كما لم يجبْ الأخذ بالأشق، كالأخذِا بتحريم من افتى بالمَنْع، كذلك لا يلزمُ التَعويلُ على الأعلمِ والأورع؛ لأنَه الأحوطُ، إنما يُعطَى رتبتَه من الأوْلى والاستحبابِ. فصل واعْلَمْ أنني لَمَّا قَدَّمتُ هذه الجملةَ من العقودِ والحدودِ وتمهيدِ الأصولِ، ومَيزْتها عن مسائل الخلافِ، رأيت أن أُشْفِعَها بذكر حدودِ الجَدَلِ، وعقودِه، وشروطِه، وآدابه، ولوازمِه؛ فإنه من أدواتِ الاجتهادِ، وأُؤخِّرَ مسائلَ الخلاف؛ فيه إَلحاقاً لكلِّ شيءٍ بشكلِه، وضَم كل شيءٍ إلى مثله، فجمعت بذلك بين قواعدِ هذين العلْمين -أصولِ الفقهِ والجدلِ- واخَرْتُ مسائلَ الخلافِ فيهما، فإن الأصولَ بالأصول أشْبهُ، وإليها أقربُ، والخلاف بالخلافِ أشبهُ، والله الموفَقُ لما فيه سهولةُ الحفظِ للمنتهي، وسرعةُ الفهمِ والتلقُّفِ للمبتدي، وهو حَسْبي، ونِعْمَ الوكيلُ. ¬

_ = (5061) من حديث عمروبن العاص. وأخرجه أحمد 4/ 198 و 204 - 205، والبخاري (7352)، ومسلم (1716)، وأبو داود (3574)، وابن ماجه (2314)، والترمذي (1326)، والنسائي في "المجتبى" 8/ 223 - 224 وفي "الكبرى" (5918) و (5919) و (5920)، وابن حبان (5060) من حديث أبي هريرة.

القسم الثاني: في الجدل

فصول صناعةِ الجَدَلِ وحَقيقتِهِ، وشُروطِه، وآدابه، وعُقودِه، وأدواتِه، والغرضِ به على طريقة الأصوليين -وسنعقبهُ إنَ شاءَ الله بمُفْرَدٍ (¬1) على طريقة الفقهاءِ-، وبيانِ المُضِيِّ في سننِه والخروجِ عنه، وكيفيَّةِ السؤالِ والجواب، وبيانِ الحُجةِ والبرهانِ، والحَجْرِ فيه والتفويضِ، والانتقالِ والَانقطاع والتخليطِ، وإلى كم ينتهي جوازُ السؤالِ بـ "لِمَ" ويحسنُ، ومتى ينقطعُ وَيقْبُحُ، ومراتب الحُجَّةِ، والفَرْقِ بينها وبين الشُبهةِ، والفرقِ بين الحُجةِ والذَلالةِ، والَإِلزام والانفصالِ، وبيانِ أنواعِ الحجةِ وتنوُّعِها بتنوُع المذهب، ومصادرةِ اَلحجةِ بالصناعةِ، والفرقِ بين طريقةِ الحجَّةِ في جَدَلنا، وبَين الحجَّةِ في المنطقِ، وبيانِ الإلزام بوسائطَ وسِياقةٍ (¬2)، وبيانِ قسمةِ الالزام، والفرقِ بين البرهانِ والإِلزَام، وبيانِ الأصلِ والفرع، وبيانِ قِفةِ الأَصولِ وكثرةِ الفروعِ، والعِلَّةِ واَلمعلولِ، والفرقِ بين الدَلالةِ والعلَّةِ، وإيجابِ الحكمِ بالعلَّةِ، والعلَّةِ المسماةِ بالمتولّدةِ، ¬

_ (¬1) أي في كتاب مفرد، وقد أنجزه المصنف، وسماه: "الجدل على طريقة الفقهاء"، نشره المعهد الفرنسي بدمشق سنة (1967) م بتحقيق جورج مقدسي. (¬2) أي تتابع.

- حد الجدل المتحقق

وإجراءِ العلَّةِ في المعلول، نقلِ العلَّةِ إلى الكُلِّيةِ، وتحديدِ العلَّةِ، والعلَّةِ العقليَّةِ والسمعيَّةِ، والمعارضةِ وأنواعِها وأقسامِها، والقياسِ وأقسامِه، والوجوه التي منها يكونُ القياسُ، والقسمةِ وأنواعِها، والانقطاع وأنواعهِ بالشُّبهةِ والمكابرةِ والشَّغَبِ والمناقضةِ، والانتقالِ هل هو انقطاع في الجُملة أو بعضُه ليس بانقطاع؟ ووصايا علماءِ الجدلِ. فصل في حَدِّ الجدلِ المتحقِّقِ وحده: نقْلُ الخَصْمِ من مذهبٍ إلى مذهبٍ، وقيل: من مذهبٍ إلى غيرهِ بطريقِ الحجَّةِ (¬1). فصل قال بعضُ أهل العلمِ: والغَرَضُ به إصابةُ الحق بطريقه. فاعترضَه حنبليٌّ فقال: ذاك هو النَظرُ (¬2)؛ لأن غَرَضَ النَّاظرِ إصابةُ الحقِّ بطريقهِ، لكنَّ الغرضَ بالجدل من المُنْصِفِ: نقلُ المخالفِ عن الباطل إلى الحقِّ، وعن الخطإ إلى الإِصابةِ، وما سوى هذا فليس بغرض صحيحٍ، مثلُ بيانِ غلبةِ الخصمِ وصناعةِ المجادِلِ. ¬

_ (¬1) هذا التعريف ذكره الطوفي في "علم الجذل في علم الجدل" ص 4، وهناك تعريفات أخرى للجدل، انظرها في "العدة"1/ 184، و"التمهيد" 1/ 58، و"الجدل على طريقة الفقهاء" ص1. (¬2) انظر كلام المصنف فيه في الصفحة (46).

* بيان الجدل

فصل في بيانِ الجَدَلِ وهو سؤالُ السائلِ. وحَدُّ السؤالِ هو: الطَّلبُ للإِخبارِ بأداتِه في الإِفهامِ. فصل والسؤالُ والاستعلامُ والاستخبارُ والاستفهامُ نظائرُ، إلا أن الاستخبارَ: هو الطلبُ للخبر، والاستعلامَ: الطلبُ للعلم، والاستفهامَ: الطلبُ للفَهْمِ. فصل وأدواتُ السُّؤال عشرةٌ (¬1): هل، والألِفُ، وأم، وما، ومن، وأيّ، وكيف، وكم، وأين، ومتى. وقد يُستفهمُ بأنَّي، وهي ترجعُ إلى معنى كيفَ، قال سُبحانه: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]، أوقال،: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]، والمعنى في الأول: مِن أينَ لكِ؟ وفي الثاني: كيفَ يُحيي؟ وأما "لم" فمُركَبةٌ، أصلُها "ما" دخلتْ عليها اللَّامُ، وكذلك {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، أصلُها "ما" دخلتْ عليها "عن" وأُدغِمَتْ. ¬

_ (¬1) انظر "علم الجذل في علم الجدل" ص 27 - 29.

فصل وجميعُ الأدواتِ التي ذكرناها مختلِفٌ معناها، فيأتي الجوابُ فيها بحَسَبِ ما توجبُه صورتُها، فإذا قال السائلُ: هل أتاكَ زيدٌ؟ فجوابُه: نعم أو لا، فإن قال: أتاكَ زيد أم لا؟ لم يكنْ جوابُه كالأولِ، لكنْ جوابُه أن يقولَ: أتاني زيدٌ، أو يقولَ: لا. وكذلك إن قالَ: أزيدٌ أتاكَ أم عمرو أم (¬1) بكرٌ؟ فجوابُه أن يقولَ: أتاني، ثم يذكرُ مَنْ أتاه مِن الثلاثةِ لا غيرَ ذلك. فإن قال السَّائلُ: ما أتاك؟ فجوابُه اى شيءٍ كان مما لا يَعْقِل، كقولهِ: فرسٌ، أو طائرٌ. فإن قال السائلُ: من أتاك؟ فجوابُه مَنْ يعقل، مثلُ قولِه: أتاني زيدٌ، أو عمرٌو. فإن قال السَّائلُ: كيف: أتاك؟ فجوابُه: راكباً أو ماشياً أو ما أشبهَ ذلك من الأحْوالِ. فإن قال السائلُ: كم أتاك من القوم؟ فجوابُه عددٌ عشرةٌ، أو عشرون، وما أشبهَ ذلك من الأعداد. فإن قال السائلُ: أين أتاكَ؟ فجوابه: في منزلي، أو حانوتي، أو المسجدِ، وما شاكلَه من الأماكنِ. فإن قال السائلُ متى أتاك زيدٌ؟ فجوابه: يومَ كذا، أو سنة كذا، أو ما أشبهَ ذلك من الأوقات، فعلى هذا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأم"، وهو خطأ، صوابه حذف الواو.

- السؤال المختص بالجدل وخروج الجواب بحسبه

وإن قال السَّائلُ: لِمَ أتاكَ؟ فجوابُه بحاجة (¬1) كانت له، أو ما أشبهَ ذلك من الأغراضِ الباعثةِ على الأفعالِ. فصل في السُّؤالِ المختصِّ بالجدل، وخروجِ الجوابِ بحَسَبِه فإذا قال السائلُ للمسؤول: ما مذهبك في حَدَثِ العَالَم؟ أو ما مذهبُك في شُرْبِ النبيذِ؟ فهذا سؤالى من جهة الصيغةِ والمعنَى. فإن قال: أخبرني عن مذهبك في حَدَثِ العالم، أو في شُرب النَبيذِ، فهذا وإن كان معناه معنى السؤالِ من حيث كان استخباراً، لكنَ لفظَه لفظ الاستدعاءِ والأمرِ. فصل في الجواب وكل جوابِ خبر، وليس كل خبرٍ جواباً (¬2)، لأنه قد يَخرج الخبرُ مخرجَ الابتداءِ، لا على وجه الجوابِ. وأصلُ الجواب في اللُّغةِ: القَطْعُ (¬3)، من قولهم: هو يجوبُ البلادَ. أي: يَقْطَعُهَا، وقولُه سبحانه {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9] أي: قطعُوه. وإنَّما سُمِّيَ به ما قابلَ السؤالَ؛ لأنَّه يؤدي إلى القطعِ؛ لأن ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل. (¬2) انظر"الكافية في الجدل" ص 70. (¬3) انظر "لسان العرب": (جوب).

- فصل في اعتبار مطابقة الجواب للسؤال

المجيبَ يقطعُ بمعنى الخبرِ على طريقة الإِثباتِ والنَّفيِ، فإذا قال السائل: هل أتاك زيدٌ؟ فقد علَّقَ سؤالَه بأحدِ أمرين: إمَّا نَعَمْ، وإمًا لا، فنعمْ للإثبات، ولا للنفي، فالقاطعُ المجيبُ إمَّا بنعمْ؛ فيقطعُ بأنه قد أتاه، أو لا؛ فيقطع على أنه لم يأتِه. فصل وينبغي للسائلِ أن ينظرَ الى المعنى المطلوب في السؤالِ، فإن عَدَلَ المجيب لم يَرْضَ منه إلا بالرجوع إلى جوابَ ما سألَه عنه، فإنَّ كثيراً ممنْ لا يضبط الجدلَ، ولا يَدَ لهَ فيه يُسأل عن شيءٍ، فيجيبُ عن غيرِه، وهو يظنُّ أنه قد أجابَ، ويقْنَعُ منه السائل؛ إذ كان السائل أقصرَ منه علماً بتحديد الجواب. مثالُ ذلك: أن يقولَ السائلُ: هل يحرمُ النبيذ؟ فيقولُ المجيبُ: قد حَرَّمَه قومٌ من العلماء. هذا عند أهلِ الجَدل ليس بجوابٍ عمَّا سألَ عنه وللسائل أن يُضايقَه في ذلك بأن يقولَ: لم اسالْكَ عن هذا، ولا بأنَ من سُؤالي إيَّاك جهلي بأن قوماً حرَّموه، ولا سألتُك عن مذهب الناس فيه، بل سألتُك أحرامٌ هو؟ فجوابي أن تقولَ: حرامٌ، أو ليسَ بحرامٍ، أو لا أعلم. فإذا ضايقه ألجأه إلى الجواب، أو بانَ جهلُه بتحقيق الجواب، وليس له أن يُجيبَ بالتعريض لمن سألَه بالِإفصاح، فإذا سألَ السائل بالإِفصاح لم يقنعْ بالجواب إلا بإفصاحٍ. فصل في اعتبارِ مطابقةِ الجوابِ للسُّؤالِ اعلمْ أن مطابقةَ الجوابِ للسؤال هو كونه على ما اقتضاه من غير

- فصل في تحديد السؤال والجواب

تغييبرفي لفظِه ولا في معناه. مثالُ ذلك: أن يقولَ السائلُ: أيحرمُ المطبوخُ؟ فيقول: نعم، أو لا، أو يقول: يحرمُ، أو لا يحرمُ. فأمَّا إن قالَ جوابَ قولِ السائلِ: أيحرمُ المطبوخُ؟: أنا احرِّمُ كل مُسكرٍ. فلم يأتِ بجواب مطابقٍ؛ لأنه زائد في اللفظ والمعنى. فإنْ قال السائلُ: أيحرمُ المطبوخُ؟ فقال المجيبُ: أحرمُ مطبوخَ التَّمرِ، فلم يأتِ بجواب مطابقٍ؛ لأنه ناقصٌ عن السؤال. فإن قال السائلُ: أيحرمُ المطبوخُ؟ فقال المجيبُ في جواز الاجتهادِ: فيه نظر، فلم يأتِ بجواب مطابقٍ؛ لأنه معدولٌ عن المطلوب في السؤال. وإنَّما ضرَبْنا لك الأمثلةَ؛ لأن قوماً يجيبون مثلها، ويَعْتَدُونَها أجوبةً (¬1). فصل في تحديدِ السؤالِ والجوابِ ووصفِهما اعلم أن السؤالَ أربعةُ أضربٍ (¬2)، ويجمعُ الكل: ما هو الحدُّ؟ وهو أنه استخبارٌ، وكل سؤال استخَبارٌ، وكل سائلٍ مُستخبِرٌ. والجواب أربعةُ أضربٍ، ويجمعُها كلَها: أنها إجابةُ إخبارٍ، وكلُّ مجيبٍ مُخبِرٌ، وقد يدخلُ فيَ الإِخبارِ ما ليس بجواب، وهو ما يُبتدأُ به ¬

_ (¬1) "المسودة": ص 551، و"الإيضاح لقوانين الاصطلاح" ص 44 - 45. (¬2) سيأتي للمصنف بعد قليل في الصفحة 306 أنه خمسة أضرب.

- دليل صحة هذا الترتيب

من الخبر من غير مسألةٍ، وليس يدخلُ في الاستخبارِ ما ليس بسؤال. فأولُ ضروبِ السؤالِ الأربعةِ: المسألةُ عن ماهيَّةِ المذهبِ. والثاني: المسألةُ عن ماهيةِ برهانِه أو دليلِه؛ لأنك تقولُ أولًا: ما تقولُ في كذا وكذا؟ أو ما مذهبك في كذا وكذا؟ فإذا ذكرَ لك حكماً بعينِه أو شيئاً بعينه، قلتَ له: ما بُرهانُك عليه؟ أو ما دليلُك عليه؟ وهذان الضربانِ استفهامانِ مجرَّدانِ (¬1) لا يشوبُهما طعنٌ في مذهبِ المجيبِ، ولا يتبيَّنُ عند ذكرِهما فسادُ عقدٍ، ولكن عند ذكرِ الضَّربين الآخرَين؛ لأن الإِفسادَ والمطاعن فيهما تقعُ، وعند ذكرهما تُشرعُ وتُذكرُ. والأولُ منهما- وهو ثالثُ الضروبِ من الأسئلة الأربعةِ-: المطالبةُ بوجه دَلالةِ البرهانِ على المذهب. والثاني: أَخْذُ المجيبِ بإجراءِ العِلَّة في معلولها (¬2). وسنصوِّرُ كل ذلك صورةً تُنبئُ عن حقيقته إن شاءَ الله (¬3). فصل في إقامة الدَّلالةِ على صحَّة هذا الترتيبِ إنك لا تسألُ عن برهان شيىءٍ مذهباً كان أو غيرَ مذهبٍ حتى تسألَ ¬

_ (¬1) في الأصل:"مجوزان". (¬2) "علم الجذل في علم الجدل" ص 31 - 32، و"العدة" 5/ 1466، و"المسودة" ص 551. (¬3) سيورد المصنف ذلك في الصفحة (306) وما بعدها.

عن أصل ذلك الشيءِ، ولا تطالبُ بوجه دَلالتهِ إلا بعد معرفةِ ماهيَّتِه والمسألةِ عنها. فأمَّا أخذُ المجيب بطَرْدِ علَّتِه في معلولاتها، فالدليلُ على أنه بعد المطالبةِ بوجه دَلالةِ الَبرهان: أنك (¬1) لا تصلُ إليه إلا بعد تسليمِ ما ادَّعاه المجيبُ من دلالة البرهانِ على قوله؛ لأنه تفريعٌ للمذهب والعلة، والتفريعُ لا يقعُ إلا بعد تسليم المفرَّع عليه؛ وذلك أنك لا تأخُذ خصمَك بتفريعِ قولٍ، ولا بتفريعٍ عليه إلَا بعد تسليمِ المفرِّعِ لهما، ولو لم تَسَلَمْهُما، لمنَعْتَه ما ادَّعاه من دلالتهما عليه فيهما، وسألتَه البينةَ على صحةِ ما ادَّعاه من دَلالتهما، وهذا يدلُك على أنك إذا أخذتَ خصماً بإجراءِ عِلَلِه في معلولاتها قبل مطالبتِه بوجه دلالتِها على صحَّةِ مذهبهِ، فقد سلمت له ما ادَّعاه من دلالتها عليه، وأخذتَه بإلحاق نظيرهِ المشارِكِ له فيها به، والتسليمُ إذا لم يَقَعْ بحُجَّةٍ فإنما يقِعُ بترك مسألةٍ لازمةٍ يجاوزُ بها إلى ما بعدها: إمَّا لمساهلةٍ في النَظرِ (¬2)، وإما بضَرْبٍ من التَّدبيرِ على الخصم، وإما للعجز والجهلِ. ويدلُ على ذلك أيضاً: أنه يطالبُ بتفريع علًةِ المذهب من يعتقدهُ، إذا كان قد خُولِفَ في نظيره. ويدلُّ عليه أيضاً: أنك تقولُ للمجيب: قد سَلَّمْتُ لك أن علَّتَك توجبُ صحةَ هذا المذهبِ، ولكنها أيضاً توجبُ صحةَ ما آخذُكَ بإلحاقه ¬

_ (¬1) في الأصل: "لأنك"، والجادة ما أثبتناه. (¬2) في الأصل: "من الفطن"، والمثبت من "المسودة" ص 552، وهو الذي يتفق ومضمون البحث.

به من حيث أُوجبُ صِحَّتَه؛ فاجمَعْهما في التَّصحيحِ أو في الإِفساد، وإلا فَافْرُقْ بينَهما، مثلَ قولِك في المعلوفةِ: إن لها مؤنةً لا تحتملُ معها المساواةَ (¬1)، فيقالُ لك: فاطردِ العلَّةَ في كلِّ مال تحتاجُ تنميته إلى مُؤنةٍ، كمال التجارةِ والزَرعِ المسْقى بالكُلَفِ. فإن قال قائل: كيف لم تُلحِقِ الضَرْبَ الثالثَ بالضَّربين الأولَين وتجعلْه استفهاماً مجرَّداً؛ إذ كان المطالبُ بالدَليل على المذهب كالمطالب بوجه دَلالتِه عليه؟ قلنا له: لِمَا وصفنا قبلُ، وهو أن أبوابَ الإِفسادِ، ووجوهَ الكسرِ لا تنفتحُ، ولا يرومُها السائلُ إلا بالضَرب الثالث وما بعده، وإنما قَدَّمَ الضَّربين الأَوَلَيْنِ لحاجتِه إلى معرفة ما يريد كسرَه قبل رَوْمِ كسرِه والقصدِ إليه. ووجهٌ آخر: وهو أنك لا تقولُ: هلَّا قلت: كذا وكذا، أو لِمَ لم تَقُلْ: كذا وكذا؟ إلا وأنت في الضَرْب الثالثِ، وفي الضَّربِ الرابعِ، وبهذا الجنس من السؤال يَقصِدُ السَائلُ إلى كسر المذهب، فأمَّا الأوَّلان فهما المَسالةُ عن الماهية، لتعرفَ الماهيةَ، ثم تقصدُ إلىَ الطعن فيها، وهما كقولك: ما في يديك؟ ومن رأيتَ من القوم؟ وما قال لك فلان؟ وهذا كلّه استفهام مُجرَّدٌ، فإذا تحقَقَ السؤال عن الماهيَّة، انْبَنى عليه الاستفهامُ عن الحجَّةِ، فإذا شرَعَ المسؤولُ في بيان الحجةِ جاءَ سؤال الكسرِ عليها، لأنك لا تقولُ: لِمَ لم تعتقدْ كذا وكذا؟ ولِمَ لم تستدلَّ بكذا؟ وأنت متعرِّفٌ لماهيَّة المذهبِ والبرهانِ. ¬

_ (¬1) كتت في الأصل: "المواساة"، ويغلب على ظننا أنها كما أثبتنا.

- أقسام سؤال الجدل

ووجهٌ آخرُ: وهو أن السائلَ إنما يبتدىءُ في الكسرِ بعد ابتداءِ المجيبِ في بناء مذهبهِ، وابتداءِ المجيب لذلك الِإخبارِ عن دليله، والذي يقعُ بعد خبره عن ذلك من سؤالَ السائلِ الضربُ الثالثُ. فصل آخر في تحديد سؤالِ الجدلِ، وأقسامِه وإنما اعتبرنا لسؤال الجدلِ ما اعتبرناه، لأن سؤالَ الاستفادةِ والاسترشادِ لا يعتبرُ له شرط من الشروط المذكورة لسؤال الجدلِ. اعلم أن سؤالَ الجدلِ: هو الذي يُقصدُ به نقلُ الخصم عن مذهبه بطريق المُحاجَّةِ، وبيانِ أن الجوابَ فيه تابعٌ للسؤال إلا أن على المجيب إذا كان السؤالُ مضطرباً أن يعملَ في تقويمه حياطةً لجوابِهِ؛ إذ كان السؤالُ المضطربُ لا يمكن أن يطابقَه جوابٌ مستقيمٌ. فصل وسؤالُ الجدلِ على خمسة أقسامٍ (¬1): سؤالٌ عن المذهب، وسؤالٌ عن الدليل، وسؤالٌ عن وجه الدليلِ، وسؤالٌ عن تصحيح الدَّعوى في الدليل، وسؤال عن الِإلزام. مثالُه: أن يقولَ السائلُ: ما مذهبُك في التجسيم؟ فهو سؤال عن ماهيَّة المذهب في التجسيم، وكذلك أن يقولَ: هل لك مذهبٌ في التجسيم؟ -والآنِيَّةُ (¬2) قبل الماهيةِ؛ لأن الآنِيةَ المذهبُ- فيقول ¬

_ (¬1) وقد تقدم ذكر المصنف لها على أنها أربعة في الصفحة (302). (¬2) قال الجرجاني في "التعريفات" ص 38: الآنية تحقق الوجود العيني من =

السائلُ: هل لك مذهب في التجسيم؟ فإذا قال: نَعَمْ، قال: ما هو؟ فجاء السؤالُ عن ماهيَّة المذهب بعد السؤال عن آنِيَّة المذهب، وكان ذلك في المرتبة الأولى من سؤَالات الجدلِ. فإذا قال المسؤول: مذهبي أن الصانعَ جسمٌ، فقال السائلُ: ما الدليلُ على أن القديمَ جسمق؟ فقال المجيبُ: فعلُه. فهذا جوابٌ مُحدَّدٌ، وإن كان باطلاً، فإن قال السائلُ: ما وجهُ دلالةِ فعلِه على أنه جسم؟ فقال المجيبُ: إنه لا يُعْقَل في الشاهدِ فاعلٌ إلا جسم، فجوابُه محدَّدٌ، لكنَّه لا يدل على ما قال. وإنما يحتاجُ السائل إلى المطالبة بوجهِ الدَّلالةِ إذا كان المجيبُ قد ذكرَ دليلَه من وجهٍ لا يقتضي الحكمَ، إذ كان الشيءُ الواحدُ قد يُشارُ إليه من جهتين: إحداهما (¬1) تقتضي الحكمَ، والأخرى لا تقتضيه، كقولك: العالَمُ دليل على الباري. فليس في هذا بيان من أيِّ وجهٍ دَلَّ، فإذا كان من جهة أنه فعلَ، أو من جهة أنه حكمَ، أبانَ الوجهَ الذي منه دَلَّ. فإن قال السائلُ: وما برهانُك على أنه لا يُعقلُ في الشاهد فاعلٌ إلا جسماً؟ ساغَ له ذلك؛ لأنه على دعوى لا يقتضيها العقلُ، فإن قال المجيبُ: إن كلَّ فاعلٍ في الشاهد جسمٌ، فقد أتى بجوابٍ صادقٍ في ¬

_ = حيث مرتبته الذاتية. والمقصود بها هنا -كما هو واضح-: وجود مذهب للمخاطب في المسألة، فالسؤال عنه يكون بالضرورة سابقاً على سؤاله عن كنه هذا المذهب وحقيقته. (¬1) في الأصل: "أحديهما"، وهو خطأ.

نفسِه، لكنه كاذب في شهادته، لأن كلَّ فاعلٍ في الشاهد جسمٌ، إلا أنه لا يشهدُ بأن الباريَ جسمٌ. فإن قال السائلُ: إذا كان الباري جسماً؛ لأن كل فاعل في الشاهد جسمٌ، فما الانفصالُ من أن الباريَ مؤلًفٌ؛ لأن كلَّ فاعلٍ في الشاهد مؤلَّفٌ؟ كان هذا من السائل إلزاماً صحيحاً على دلالةٍ تقتضي نظيرَ الحكمِ الذي قال به الخصمُ بمثل ما تقتضي الحكمَ الذي ذهبَ إليه سواءً. فإن قال السائلُ: إذا كان الجسمُ في الشاهد مُحْدَثاً؛ لأن فيه سِمَةَ الحَدَث، فما الانفصالُ من أن كلَّ جسمٍ مُحْدَث؛ لأن فيه سِمَةَ الحَدَثِ؟ فهذا إلزامٌ صحيحٌ للموحِّد أن يبتدىءَ به المجسِّمَ، فيُلْزِمَه على قوله بالتًجسيم، وهو إلزام بدَلالةٍ تقتضي مثلَ الحكمِ الذي قال به الخصمُ، وربما قيل في مثل هذا: إنه إلزامٌ بعلَّةٍ يرادُ به إلزامٌ بدلالةٍ؛ لأن الدلالةَ تسمىَّ عِلَّةً. فإن قال السائلُ: إذا كان الجسمُ فى الشاهد مُحْدَثاً؛ لأنه جسمٌ، فما الانفصالُ من أن كلَّ جسمٍ محدَث؟ كان هذا إلزاماً بعلَّةٍ على الصًحة، لأن الحكمَ والجالبَ للحكم في كلا الشِّقَّين واحدٌ، وإنما أخذَ المجيبُ بإجراء العلَّةِ حين نُقِلَتْ إلى الكليَّةِ، وإجراءُ العلَّة لازمٌ لكل معتلٍّ، وإلا كان مناقضاً. فإن قال السائلُ: إذا زعمتَ أن بعض الأجسام قديمٌ، فما الانفصالُ من أن جميعَ الاجسامِ قديمة؟ كان هذا إلزاماً بالمعارضة (¬1) ¬

_ (¬1) ستأتي فصول المعارضة في الصفحة (387).

وكذلك إن قال: إذا كانت الأعراضُ تدل على حَدَثِ بعضِ الأجسامِ، فما الانفصال من أنها تدل على حَدَثِ جميعها؟ وكذلك إن قال: إذا كانت الدَلالةُ تختصُّ بعضَ الأجسامِ، فما الانفصالُ من أنها تختصُّ الجمادَ دون الحيوان؟ فإن قال السائلُ: إذا كان الباري واحداً، ولم يصح أن يكونَ الجسمُ واحداً، فما الانفصالُ من أن الباري لا يصحُ أن يكون جسماً، كما لم يصح أن يكون أكثرَ من واحدٍ؟ كان هذا إلزاماً بإعطاء المعنى في الجملة؛ لأن الخصمَ يُعطي أنه واحدٌ على الحقيقة. فإن قال السائلَ: إذا كان الجسمُ لابد له من مجسِّم كما أن الحادثَ لا بدَّ له من مُحْدِثٍ، فما الانفصالُ مِن أن مَن لا يصحُّ أن يكونَ له مُجسِّمٌ، فليس بجسم؟ كان هذا الإِلزامُ يَقْضِيه العقلُ في الجسم بمجسِّم كما يقضي فرب الحادثِ المُحْدِث. فصل وكل سؤالِ جَدَلٍ فإنه على خلافٍ في المذهب؛ لأنه لا يصحُّ جَدَلٌ مع الموافقةِ في المذهب،، إلا أن يتكلم الخصمان على طريق المباحثةِ، فيُقَدرا الخلافَ لتصِخَ المطالبةُ، وُيتمكنَ من الزيادة. وليس على المسؤولِ أن يُجيبَ السائلَ عن كل ما يسألُه عنه، وإنما عليه أن يُجيبَه فيما بينه وبينه فيه خِلاف، لتظهرَ حُجتُه فيه، وسلامتُه من المطاعن عليه، وإلا خَرَجَ عن حدِّ السؤالِ الجَدَليِّ. وسَبيلُ الجَدَلِ في الفقه والنَحو وغيرِهما من الصنائع كسبيل الجَدَلِ في صنعة الكلامِ في أنه لا يكونُ إلا بعد ظهورِ الخلافِ،

- سؤال الجدل على ضربين؛ محدد ومعبر عن التحديد

إلا أن كل صناعةٍ تُرَدُّ إلى مُصادَرَةٍ -أعني بالمصادرةِ: التبليغَ بها إلى صَدْرِ المعنى بنوع ظَن أو غَلَبَةِ ظَنٍّ-، وصنعةُ الكلامِ تُرَدُ إلى ضرورةٍ، أو ما يَجْرِي مَجْرى الضرورةِ في أنه يُعلمُ بأدْنى فِكْرةٍ. فصل وسؤالُ الجدَلِ على ضربين: محدَّدٌ، ومعبرٌ عن التحديدِ، والتَحديدُ يكونُ في اللَّفظِ والمعنى، وكذلك التًعبيرُ. فإن قال السائلُ: هل الجزءُ يتجَزَّأُ إلى ما لا نهايةَ له، أم الحدوثُ يَدُل على نهايتِه؟ كان السؤالُ غيرَ محددٍ؛ لأنه خرجَ مَخْرَجَ الخَلْطِ بين سؤالين: فأحدهما: هل الجزءُ يتجزا إلى ما لا نهايةَ له؟ وهذا سؤالٌ قائمٌ بنفسه، وهل الحدوثُ يدل على نهايته؟ سؤال آخرُ قائمٌ بنفسه، وقد جعلَهما على صيغة سؤالٍ واحدٍ، فهو كمن قال في مسائل الفقهِ: هل الخَلُّ يُزيلُ النًجاسةَ؟ أم كونُه لا يَقْوى على رفع الحَدَثِ مانعاً من إزالته لحكم النًجَسِ؟ فهذان سؤالان. فإن قال السائلُ: ما مذهبكُ في الجزءِ؛ فقال المجيبُ: إنه لا يتجزاُ؛ بدلالةِ أن ما فيه من الاجتماعِ يَصِح أن يَنْتَفِيَ. كان هذا الجوابُ غيرَ محدَّدٍ؛ لأنه سؤالٌ عن فُتْيا المذهب، والجوابُ عنه وعن دَلالةِ المذهب جوابٌ (¬1) على صيغةٍ واحدة؛ إذ كاَن على قَضِيةٍ واحدة، وإنما تحديدُهَ أن يقولَ في الجواب عنه: إنه لا يتجَزأُ. أو يقولَ: إنه يتجزَأُ. فأمَّا أن يُدْخِلَ في الِإخبارِ عن الفُتْيا الِإخبارَ عن الاستدلال، فليس بجواب مُحَقَّقٍ، كما لا يَخْلِطُ السؤالَ عن المذهب بالسؤال عن ¬

_ (¬1) في الأصل: "جواباً"، والجادة ما أثبتناه.

دليلِ المذهبِ. فإن قال المجيبُ: إنه لا يتجزَّأُ، والدليلُ على ذلك: أنه يصحُ أن ينتفيَ ما فيه من التَأليفِ والاجتماعِ، كان قد أتى بجواب محدَّدٍ، إلا أنه أتْبَعَه بإخبارٍ عما لم يُسأل عنه، لا أنه خلَطَه به، والإِتباعُ بجوابِ ما لم يُسألْ عنه كالخلط بما لم يُسألْ عنه، ثم إنه أتى بما ليس فيه شُبْهةٌ، ولو قال: الدليلُ على ذلك: أنه لا يَصِح أن ينتفيَ كلُّ ما فيه من الاجتماع، لكان قد أتى بشبهةٍ، ولكنْ جاءَ بما لم يُسْأَلْ عنه. فإن قال السائلُ: ما مذهبُك في الجزء؟ فقال المجيبُ: الجزءُ لا يتجزَّأُ، فلم يأتِ بجوابٍ محدَّدٍ مِن قِبَلِ أنه لم يأتِ بما يَصلح أن يكونَ محمولًا على المَذهب بحملٍ ما؛ إذ كان لا يصحّ: مذهبي الجزءُ لا يتجزأُ، ويصح: مذهبى أنَ الجزءَ لا يَتجزَأُ. فإن قال السائلُ: ما مذهبك في الجزء؛ فقال المجيبُ: قد ثبتَ أن الجزءَ لا يتجزَّأُ. فلم يأتِ لي بجواب محدَّدٍ؛ لأن جوابَ ما، إنما هو بالجِنْسِ وما جَرَى مَجْرى الجنسِ من الصِّفات، فلو قال بدلَ قد ثبتَ: ثابتٌ. لكان محدَّداً؛ لان ثابتاً من الصفات التي تقومُ مَقَامَ الجنسَ. فإن قال السائلُ: ما الدليل على أن الجسمَ ينتهي إلى جزءٍ لا يتجزَّأُ؟ فقال المجيبُ: التألف الذي فيه. فجوابُه محدَّدٌ؛ لأن في التأليفِ اقتضاءً بصحَةِ الحكمِ، ولو كان قال: عَرَضٌ فيه، لم يكن جوابُه محدَّداً؛ لأنه ليس في حلولِ عَرَضٍ فيه ما يقتضي تناهيه، وأنه لا يتجزَّأُ أبداً.

- فصل في تحقيق الجواب وتحديده

فإن قال السائلُ: ما الدليلُ على أن الجزء [لا] (¬1) يتجزَّأُ أبداً، فقال المجيبُ: إن الدوائرَ المعقولةَ لا تَصِحُ على القول بالجزء. لكان جوابُه محدَّداً؛ لأنه على شبهةٍ، وكلُّ جواب محدَّدٍ في: ما الدليلُ على كذا؟ فإنه لا يخلو من أن يكونَ على حجَّةٍ أو شبهةٍ؛ لأن السائلَ إنما يطلبُ الأمرينِ ليقعَ الكلامُ عليه، ولو قال: بعضُ الأشكال لا تصحُّ على القول بالجزءِ. لم يكنْ محدداً؛ لأنه لا حُجَّةَ فيه ولا شبهةَ. فإن قال السائلُ: ما الدليلُ على أن الجسمَ ينتهي إلى جزءٍ لا يتجزَّأُ؟ فقال المجيبُ: إن التَّأليفَ الذي فيه يصحُ أن ينتفيَ بضِدِّه من الافتراق، ولأن القادرَ على إيجاده قادرٌ على نفيه؛ إذ هو مُحدَثٌ، وكل محدَثٍ، فلا بُدَّ له من محدِثٍ. كان جوابُه غيرَ محدَّدٍ من قِبَلِ أنَه قد لَف عِدَةَ مراتبَ في مَرْتَبَةٍ واحدةٍ، ولو قال: إن التأليفَ الذي فيه يصحُّ أن ينتفيَ بضِدِّه من الافتراقِ. لكانَ جوابُه محدَّداً؛ لأنه إذا ثبتَ هذا المعنى ثبتَ الحكمُ، ولو نَقَصْتَ منه لأخْلَلْتَ به. فصل آخَرُ في تحقيقِ الجوابِ وتحديدهِ يَقْوى به العملُ والعلمُ فأوَّلُ ضروبِ الجوابِ: الإِخبارُ عن ماهية المذهب، ثم الإِخبارُ عن ماهيَّةِ بُرْهانِه، ثم وجهُ دَلالةِ البرهانِ عليه، ثم إجَراءُ العِلةِ في المعلول، وحياطتُه من الزِّيادةِ فيه والنقصانِ منه، لئلَّا يُلحقَ به ما ليس منه، وُيخرجَ عنه ما هو منه. ¬

_ (¬1) سقطت من الأصل، وضرورة صحة العبارة تقتضي زيادتها.

والحجةُ في ترتيب الجواب، كالحجة في ترتيب السؤالِ (¬1)؛ لأن كُل ضَرْبٍ من ضروبِه مقابل لضربٍ من ضروب السؤالِ (¬2). فصل واعلمْ أنه إذا اجتمعَ اثنان قد عَرَفَ كل واحدٍ منهما مذهبَ صاحبهِ وهما على خلافٍ في المذهب، أغناهما علمُهما عن ضَرْبٍ من ضروب السؤالِ، وهو السؤالُ عن ماهِيةِ المذهبِ (¬3). قلت: وقد يجري في حكم الاجتهادِ أن لا يَسْقُطَ السؤالُ لجواز تَغَيُرٍ يَطْرأُ على المذهب إلذي عُرِفَ به، فيزولُ ما عَرَفَه، وذلك يُعدم الثقةَ بالبقاء على المذهب، فلا غَناءَ إذاً عن السؤال. فإن عَمِلْنا على قول من أَسقطَ السؤالَ عن ماهية المذهب لسابقِ معرفتِه، بَقِيَ السؤال عن ماهية دليلِه، فإذا قال السائلُ للَمعروف بالتَجسيم: ما ماهيَّةُ برهانِك، على إثبات القديمِ جسماً؟ فقال المجسمُ: الدليلُ على ذلك: أنا أجمَعْنا على أنًا لا نعقلُ في الشاهد فاعلًا إلا جسماً، وقد اتَفَقنا على أن اللهَ فاعلٌ، فوجبَ أن يكونَ جسماً. وجبَ على السائل أن يقولَ له: ومن أيَ وجهٍ وجبَ أن يكونَ جسماً، إذا كنا لم نعقلْ في الشاهد فاعلًا إلا جسماً؟ وما في قولك: لم نعقلْ فاعلًا إلا جسماً، مما يوجبُ أن يكونَ القديمُ جسماً إذا كان فاعلًا. ¬

_ (¬1) تقدم كلام المصنف عليه فى الصفحة (303). (¬2) انظر "العدة" 5/ 1465 - 1466. (¬3) انظر "الكافية" ص 79.

والدليلُ على أنَ له أنْ يسألَ عن هذا: أنه قد يَعْرِفُ اللهَ تعالى فاعلًا وأنه لا فاعلَ في الشاهد إلا جسمٌ مَنْ لا يعلمُ أن اللهَ جسمٌ، فلو كانت هذه المعرفةُ مُغنيةً في العِلْم بأنه جسمٌ، لم تقَعْ إلا معه، وإذا لم تَقَعْ معه، فلا بُد من أن يَعرفَ كيفيةَ إيجابها له، ومتى ارتفعتْ المعرفةُ، ساغَتِ المسألةُ. وجوابُ هذا على أصل الجِسميِّ واضحُ الترتيب، وإن لم يكنْ صحيحاً، وترتيبُه أن يقولَ السائلُ: لمَّا كان اللهُ تعالى مُثْبَتاً بالعقل دونَ غيرِه، وكان الواجبُ فيما بيننا ألا نُثْبِتَ بالعقل إلا معقولًا، كما لا نثبتُ بالسَّمْعِ إلا مسموعاً، وكما لا نثبتُ بالبَصَرِ إلا مُبْصَراً، وكان وجودُ الفعلِ مما ليس بجسم في الشاهد غيرَ معقولٍ، وجبَ أن يكونَ جسماً لدخوله في قسم المعقولاتِ، وإلا فقد بَطَلَ أن يكونَ معقولًا، وكان تثبيتُه غيرَ معقولٍ، وهذا ما يدعيه الملحدون. وإنما صار هذا جواب تلك المسالةِ؛ لأنه خبرٌ عن كيفيةِ ما اعتلَّ به الجسْميُّ، فظنَ أنه برهانُ ذلك، وعلى السائل إذا ورَدَ عليه هذا الجوابُ أن يَطْعنَ فيه بغير تسليمٍ، فهو أَولى كما وصفنا، فإن أرادَ أخْذَ المجيب بطَرْدِ علَّتِه، قَدَّمَ على ذلك مقدمةً تُحررُ السؤالَ، فقال للمجيب (¬1): ألَيس إذا كان مثبَتاً بالعقول لم يَجُزْ أن يُعتقدَ فيه ما ليس بمعقولٍ؟ فإن قال المجيبُ: لا. نقَضَ علتَه، وكان للسائل أن يقولَ له: فلِمَ زعمتَ أنه جسمٌ لموضع المعقولِ، وأنت توجبُ إخراجَه من المعقول؟ أرأيتَ إن كان تثبيتُ المعقولِ واجباً لأنه معقولٌ، أليس يجبُ أن يكونَ كل معقولٍ واجبَ التثبيتَ إذ هو معقولٌ؟ فإن قال: بلى. قال له: فهلَّا قلتَ: هو ¬

_ (¬1) في الأصل: "المجيب"، وصوبناه بما يقتضيه السياق.

مؤلَّفٌ؛ لأنك لم تَعْقِلْ جسماً ولا فاعلًا إلا مؤلفاً. فصل واعلم أن المطالبةَ بطَرْدِ (¬1) العلَّةِ لا تكونُ طعناً في الجواب عن كيفيةِ البرهانِ إلا أن تكونَ مُضْطَرَّةً للمجيب عند مرورِه مع علَّتِه إلى نقضِه، وليس تكونُ مضطرةً إلى، ذلك إلا إذا ألزمته قولًا لا ملاءمة بينه وبين جوابِه في المَبْدأ، فيرجعُ عن جوابه خوفاً من ذلك القولِ وضَنّاً بمذهبه في تركه، وإنما تكون، كذلك إذا ألزمته نقضَ الحِسِّ الذي ينتقضُ بانتقاضِه كل جوابِ وكلُّ حقيقةٍ، أو إلجاؤه إلى نقضه قبل أن يبلغَ إلى علوم الحِسِّ، فلمَ يجد بُدَّاً من تَرْكِ كلِّ ما يعتقدُه، والإِقدام على كلِّ ما يكرهُه من النَّقْضِ. مثالُ تمسُّكِه بمذهبه المفضي به إلى الخروج عن مذهبه: أن يُقالَ له: إذا كان الغائب جسماً وهو قديمٌ، فما تُنكرُ أن يكونَ مؤلَّفاً وهو قديمٌ؟ فيستمرُّ على الِإصرارِ على المذهب ضِنَّةً به، فيقول: لا أنكرُ ذلك، فيقالُ: فقد نَفَيْتَ الحَدثَ عن الأجسام، وقلتَ بقول أهلِ الدَّهْرِ، فأوجبَ ذلك عليك غَناءَ الأجسامِ عن صانعٍ؛ لأن القديمَ لا يحتاجُ إلى صانعٍ. واعلم أنك إذا سلكْتَ هذا، وعلمْتَ أن السؤالَ والجوابَ لا يخرجان عن هذه الأقسامِ، ولا يَتوجَّهان إلا على هذه الوجوهِ، فلا تلتمسْها من غيرها، واصرفْ فكرَك في طلبها، فإنك إذا عرفت المَطْلَبَ ¬

_ (¬1) في الأصل:"بقود"، والذي يترجح لنا أنها محرفة عن "بطرد"، وهو ما أثبتناه.

- فصل في بيان الانتقال عن السؤال

اجتمعَ لك ذهنُك، وقَل تعبُك، وظَفِرْتَ ببُغْيَتِك، وسهُلَتْ عليك المسالكُ والجواباتُ، وانثالَت عليك انثيالًا من هذه الجهةِ، فأغنَتْك عن التَحفّظ لكلام غيرِك، ووقع لك باستخراجك ما سبقَك إليه غيرُك؛ لأن القرائحَ واحدةٌ، والمعْدنَ واحدٌ، وإنما يُضَلِّلُ أكثرَ الرجالِ التركُ والِإهمالُ، وقلَّ أن يَضِل متأمِّلٌ متدبِّرٌ (¬1) ناظرٌ متفكِّرٌ. فصل في بيان الانتقالِ عن السؤال اعلم أن الانتقالَ عن السؤال هو: الخروجُ عما يُوجبُه أَوَّلُه من ملازمةِ السَّنَنِ فيه، وكذلك الانتقالُ عن الجواب. مثال ذلك: قولُ السائلِ: ما الدليلُ على حَدَثِ الأجسام؟ فقالَ المجيبُ: الأعراضُ. فقالَ السائلُ: وما حَد الأعراضِ؟ فهذاَ انتقالٌ عن السؤال الأولِ -وهو السؤالُ عن حَدَث الأجسامِ- إلى سؤالٍ ثانٍ -وهو السؤالُ عن حَدَ الأعراضِ-، كانتقاله بقوله: وهل تبقى الأعراضُ؟ إذ كان هذا خروجاً عن سنَنِ السؤالِ الأولِ، وسؤالًا عن مذهبٍ آخرَ لا يُخِلُّ الخلافُ فيه بوجهِ الاستدلالِ على الحَدَثِ. فإن أجابَ المسؤولُ عن هذا السؤالِ، كان خارجاً أيضاً مع السائلِ، ومثالُه من الفقه: أن يقولَ السائلُ للمسؤول: ما مذهبُكَ في الخمر، هل هو مالٌ لأهل الذِّمَّةِ؟ فيقولُ المجيب: هو مالٌ لهم. فيقول السائلُ: وما حَدُّ المالِ؟ فهذا انتقالى، فإن حد المالِ سؤالٌ مُستأنَفٌ، فإن شَرَعَ المجيبُ في جواب بيانِ المالِ فقد خرجَ مع السائلِ أيضاً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مدبر"، والجادة ما أثبتناه.

- فصل في تقاسيم الانتقال

وهذا كثيرٌ مما يَتِمُّ بين المخِلِّين بآداب الجدلِ؛ لحرصهم على بيان معرفتِهم بما سُئِلُوا عنه، وما يَنبغي بيانُ المعرفةِ بجواب المسألةِ الثانيةِ بترك قانونِ الجدلِ في المسألة الأولى الذي هما فيه. وذلك إذا خرجِ المسؤولُ من دليلٍ إلى دليلٍ آخَرَ قبل التَّمام للأول، كان انتقالَا منه، وإن- خرجَ بعد التَّمامِ، فليس بانتقالٍ في حكم الجدلِ. واعلم أنه إذا دخلَ السائلُ دخولَ ملزِم بعد تَحقُقِ الخلافِ بينه وبين المسؤولِ فلا يجوزُ له أن يَخْرُجَ عن سنَنِ الإِلزام إلى أن ينتهيَ إلى تحقيق أنه لازمٌ، فكلما حاول، الخصمُ أن يهربَ منه، ردَّه إليه. فصل في تقاسيم الانتقالِ والانتقالُ على أربعة أقسام: انتقالٌ من مذهب إلى مذهبٍ، وانتقالٌ من عِلةٍ إلى عِلَّةٍ، وانتقالٌ من إلزامٍ إلى إلزامٍ، وانتقالٌ كل من تسليمٍ إلى ممانَعةٍ ومنازَعةٍ. والأصولُ التي يَبْني عليها المجيبُ لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن يكونَ أصلَاً مشهوراً؛ فإق المجيبَ لا يتكلمُ في فرعه إلا بعد التسليمِ له، أو لا يكون كذلك، فإن كان كذلك، فنازعَ السائلَ فيه كانت منازعتُه انتقالًا؛ لأنه نازعَ فيما يجبُ تسليمُه، فكأنه قد سلَّمه، ثم نازعَ فيه، وإن لم يكن الأصلُ كذلك كان للسائل أن ينازعَ فيه. فإن قال السائلُ: ما الدليلُ على صِحةِ الاجتهادِ؟ فقال المجيبُ:

- فصل في إسقاط السؤال

إجماعُ الصحابةِ على الرضا بالاختلاف في الفُتْيا. فإن قال السائلُ: وما الدليلُ على أن إجماعَهم حقٌّ؟ فقال المجيب: شهادةُ القرآنِ لهم بالتعديلِ، فقال السائلُ: وما الدليلُ على أن القرآنَ صحيحٌ؟ فقد انتقلَ أسوأَ انتقال؛ لأنه معلومٌ أنه لا يُتَكَلمُ في الاجتهاد إلا بعد التسليم بصحَّة القرآن. فهذا انتقالٌ من مذهب مشهورٍ إلى مذهب. والانتقالُ من علَّةٍ إلى علَّةٍ: مثلُ أن يَستدِلَّ بعلةٍ، فلا يُمْكِنُه إجراؤها، فينتقلُ إلى غيرها. والانتقالُ من إلزامٍ إلى إلزامٍ: مثل أن يُلْزِمَ مسألةً على مذهبه تَدُلُّ على فساد دليلِه أو مذهبه، فلاَ يُسَلمُها، فينتقلُ إلى إلزام غير تلك المسألةِ. والانتقالُ من تسليم إلى ممانعة: مثلُ أن يُسلم له حكماً، فإذا ضاقَ عليه التسليمُ، عادَ يَمنعُ ما سَلمَه، فهذا كُلُّه انتقالٌ يصيرُ به منقطعاً بحكم الجدلِ. فصل في إسقاط السؤالِ اعلمْ أن الرفعَ للسؤال إنما يقعُ بالبيان أنه يتساوى فيه الخصمان، وإذا تساوى فيه الخصمان، لم يكنْ على أحدهما دون الآخَرِ، ولا أحدُهما بالجواب عنه أَحق من الآخر. ويحصلُ إسقاطُ السؤالِ بالتسوية بين الحكمين في أنه إن صَحَّ أحدُهما صَحَ الآخرُ، وإن فسدَ أحدُهما فسدَ الآخرُ، من غير بيانٍ لصحته، أو إفسادِه، وكذلك يسقطُ بالتسوية بين العِلتين.

- فصل في المطالبة بلم

بيانُ ذلك: سؤالُ السائلِ الرافضيِّ بأن يقولَ: إذا كان قوله لأبي بكرٍ: {لا تَحْزَن} [التوبة: 4] لا يخلو من أن يكونَ طاعةً أو معصيةً، ولم يَجُزْ للرسول أن ينهاه عن طاعةٍ، لم يَبْقَ إلا أن حُزْنَه كان معصيةً لا مَحالَةَ، فقال له السُنِّيُّ: إذا كان قوله لموسى: {لا تَخَفْ} [هـ: 68، والنمل: 10]، لا يخلو من أن يكونَ طاعةً أو معصيةً، ولم يَجزْ أن ينهاه الله عن طاعةٍ، فخَوْفه معصيةٌ لا مَحالةَ، فقد سَوَّى بين الأمرين، ولم يجبْ عنه هل هو معصيةٌ أم لا؟ وإنما تَضَمَّنَ التسويةَ التي تُسقِط المسَألةَ عنه؛ إذ كانت على خصمه مثلَها عليه. فاعرفْ هذه الطريقةَ في الجدلِ، فإنها طريقةٌ حسنةٌ تُلجِىءُ المبْطِلَ إلى مثل جواب المحِقِّ، وإذا خِفْتَ أن يلتبسَ الأمر على بعض من حضَرَ، فلا بأسَ أَن تجيبَ بعد البيانِ لإِسقاطِ السؤالِ. فصل في المطالبة بـ "لِمَ" وهو من فصول السؤالِ، وبيانِ ما يَحْسن أن يطالَبَ فيه بـ"لِمَ"، وإلى ماذا ينتهي، و [ما] (¬1) لا يَحْسُن بعده "لِمَ". اعلم -وفَّقَك الله أنه يحسن إلى أن يبلغَ إلى حدٍّ يقتضي فيه المقدِّمة للحكم، وأن يقتضيَها العقل، وسواءٌ كان ذلك على حُجَّةٍ، أو على شبْهَةٍ في أنه تَسقطُ المطالبة بـ "لِمَ"، وتصير المطالبة بالانفصال من الإِلزام. ¬

_ (¬1) زيادة لا بد منها لاستقامة المعنى.

فإذا قال السائلُ: لِمَ كان الذمُّ لا يُستحق إلا على فعل أوكسب؟ فقال المجيبُ: لأن الذمَّ لا يستحقُّه إلا مسيءٌ. لم يَحْسُنْ بالسائل أن يقولَ: ولِمَ كان الذمُّ لا يَستحقُه إلا مسىءٌ؟ لأن هذا مما لا يُخالَفُ فيه في قضايا الشرائعِ والعقولِ، ولكنْ له أن يقولَ: ولِمَ إذا كان الذمُّ لا يقتضيه إلا مسيء، لا يُستحق إلا على كسب أو فعل؟ فإن قال المجيبُ: لأنه لو لم يَستحقه المسيءُ على فعلٍ، لم يَصِرْ (¬1) مستحِقاً له بعد أن لم يكنْ مستحِقاً، بل كان يجبُ أن يبقى على ماكان من حكم الأصلِ، وهو نَفْيُ استحقاقِ الذَّمِّ. فليس للسائل أن يقولَ: ولِمَ إذا لم يَتغيرْ أمر، وجبَ أن يكونَ على ما كان؟ لأن الذي يقتضيه العقلُ في الأصل البراءةَ من كلِّ عقوبةٍ، والذمُّ نوعُ عقوبةٍ يقابَلُ بها المسيءُ. ومثالُه من مسائل الفقهِ: أن يقولَ السائلُ الحنفي للمسؤول الشافعى أو الحنبليِّ- في إحدى الروايتين-: لِمَ وجبتِ المماثلةُ في القِصاص (¬2)؛ فيقولُ: لأنه مقابلةٌ ومكافأةٌ ومجازاةٌ، فيقولُ الحنفى: ولِمَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يصير". (¬2) لا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف عند الحنفية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقال مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: يقتص من القاتل على الصفة التي قَتَلَ بها، فمن قتل بمثَقَّلٍ كحجروغيره، قُتِلَ به، ومن قَتلَ تجويعاً أو تغريقاً أو نحوه، قتِلَ كذلك. وهذا في الجملة، وإلا فإنهم قد استثنوا بعض الحالات التي لا تجوز فيها المماثلة؛ لأنها محرمة في ذاتها، فيتحين فيها السيف، ما إذا أوْجَر =

إذا كانت مقابلةٌ، وجبَ أن تكونَ على وجه المماثلةِ؟ فيقولُ الشافعيُّ: لأن الله تعالى قال: {فعَاقِبُوا بمثْلِ ما عُوقِبْتُم به} [لنحل: 12] و {جَزاءُ سَيئةٍ سيئةٌ مِثْلُها} [لشورى: 4]، فلا يَحْسُنُ بالحنفيِّ أن يقولَ: ولِمَ إذا قال الله سبحانه ذلك، وجَبَ اعتبارُه؟ بل يكونُ عدولُه عن قوله: ولِمَ؟ إلى قوله: إن المماثلةَ ها هنا هي أخذُ النَّفْسِ بالنَّفْسِ والطَّرَفِ بالطَّرَفِ دون كيفيةِ الجِراحِ، ونَصْرِفه عن ظاهرِه بدَلالةٍ نذكرُها. فصل وفي الجملة: إن الذي تنتهي إليه "لِمَ": هو أن يبلغَ المسؤولُ بالجواب عن المطالبة إلى غاية الثِّقةِ بالمعلومات القَطْعيَّاتِ في أصول الدِّينِ، وإلى شهادة الكتابِ أو السُّنَةِ، أو شهادةِ الأصول في مسائل الفقهِ المظنوناتِ. وتنقطعُ المطالبةُ بـ "لِمَ"، إذا انتهى المسؤولُ إلى قَضيَّةِ العقلِ أو الشرعِ المؤثوق بها التي يصيرُ قولُ السائلِ بعدها: "لِمَ" كالعَنَتِ والإِعناتِ (¬1) للمسؤول، أو إلى إجماعٍ منهما على كون ما عُلَقَ الحكمُ ¬

_ = المجنيَّ عليه خمراً حتى مات، أو قتله بالسِّحْر، وما أشبه ذلك، على خلاف بينهم في بعضها. انظر "الاختيار لتعليل المختار" لعبد الله الموصلي 5/ 28، و"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد 2/ 404، و"مغني المحتاج" للشربيني 4/ 44 - 45، و"المقنع" لعبد الله بن قدامة المقدسي مع "حاشيته" لسليمان بن عبد الله 3/ 358 - 359. (¬1) العَنَتُ: دخول المشَقَّةِ على الإنسان، ولقاءُ الشدَّةِ، يقال: أعْنَتَ فلان فلاناً إعناتاً، إذا أدْخَلَ عليه عَنَتاً، أي: مَشَقةً. "اللسان" (عنت).

عليه سبباً. فصل وليس عليه أن يَضْطَر الخصمَ إلى العلم، وإنما الواجبُ عليه أن يُورِدَ عليه ما يقتضي عقلُه صِحَّتَه، فإذا تأَمَّله، علم إن كان حُجَّةً، ولم يَعْلَمْ إن كان شبهةً، وعلامةُ ذلك: الثِّقةُ التي يجدُها العاقلُ عند الفكرةِ، والشبهةُ لا توجدُ بها الثقةُ. وأكثرُ المطالبةِ بـ "لِمَ" ليُفتحَ وجهُ المطالبةِ بالإِلزام، وأخذِ المجيبِ بإجراءِ الاعتلالِ، وقد يَتِمُّ الغرضُ فيها بالتَّعجيزِ عن إقامة البرهانِ، وهو إذا وقَعَتِ المطالبةُ بـ "لِمَ" إلى أن تنتهي إلى دعوى عَرِيَّةٍ عن الشُّبهةِ. وعجزُ السائلِ: أن لا يَنْزِعَ (¬1) عن "لِمَ" مع تبليغ المسؤولِ به إلى الثِّقةِ. ¬

_ (¬1) أي لا ينتهى، قال في "القاموس" (نزع): نَزَعَ عن الأمور. نُزُوعاً: انْتَهى عنها.

- الاحتجاج في المختلف فيه، وسلوك المراتب الواجب سلوكها

فصل في بيان الاحتجاجِ في المختلَفِ فيه، وسلوكِ المراتب الواجب سلوكُها. اعلمْ -وفَقَك اللهُ- أن للعلوم مراتبَ وقعتْ مواقعَها لأعيانها، فلا يَسُوغُ لك (¬1) تغييرُها. فمنها: ما هو أصلٌ وليس بفَرْعٍ، نحوُ علمِ الحِسِّ الذي إليه الانتهاءُ، وهو الغايةُ في إسناد المقدِّماتِ إليه للبناءِ عليه، والاستخراجِ منه، فإن العلمَ الاستدلا إنما يُسْنَدُ إلى الضروريِّ، والضروريُّ موضعُ الاتفاقِ، وما يزالُ المختلَفُ فيه مردوداً (¬2) إلى المتَفَقِ عليه، فعلم الحِسِّ أصلٌ لا يكونُ فَرْعاً لغيره؛ لأنه لم يُبْنَ على غيره وليس قبلَه شيءٌ. ومنها: ما هو أصلٌ وفَرْعٌ، نحو العلمِ بالمحدَثِ، وكل شيءٍ يَثبتُ عليه غيرُه فهوأصل لمايَثبتُ عليه، وكل شيءٍ بُني على غيره فهوفَرْعٌ له، وليس يمكن أن يقعَ الفرعُ موقعَ أصلِه، ولا يجوز أن ينتقلَ الأصلُ إلى موضعِ فرعِه حتى يكونَ العلمُ بأنَ الشيءَ محدَث قبل العلمِ بأنه ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: "ذلك"، ولعل صوابها ما أثبتناه. (¬2) في الأصل: "مردود".

حادثٌ، وأصلًا له؛ حيث كان حدوثُ الشيءِ محسوساً لوجداننا له بعد أن لم يَكنْ، ويحتاج في العلم بأن له محدِثاً إلى نوعِ تَأَملٍ ينتهي به إلى العلمِ بمحدِثه، فنعلمه محدَثاً بعد ما علمناه حادِثاً، فهذا ترتيبٌ لايمكن وقوع العلمِ إلاعليه. ولا يمكن أيضاً أن يكونَ العلمُ بأنه حادثٌ قبل العلمِ بأنه موجودٌ، ولو جازَ هذا، لجاز أن يكونَ علمُ الاستدلالِ قبل علومِ الحِسَ، وأصلًا لها. وكذلك في الظُّنون في مسائل الفروعِ؛ فإنه لا يجوزُ أن يسبقَ إلى ظَنِّنا تحريمُ التفاضلِ في الأَرُزِّ، ولا تحريم النَّبيذِ قبل أن نعلمَ تحريمَ الخمرِ، وقبل أن يَغلِبَ على ظنِّنا تحريم التفاضلِ في البُرِّ والشَّعيرِ، إذ كان تحريم النَّبيذِ مبنياً على تحريم الخمرِ، وتحريمُ التفاضلِ في الأرُزَ مبنياً على تحريم التفاضلِ في البُرِّ. فصل وإذا كان أصلُك في استدلالِك هو فرعاً (¬1) من علوم الاستدلالِ فلا تبعِدْ سؤالَ سائلك أن يكونَ إنكاراً؛ لأن المختلَفَ فيه لا يَبعد إنكارُه، كما لم يَبعُدْ ذلك في الفرع لكونه مختلَفاً فيه، فأبداً لا تَسْتَبْعِد (¬2) السؤالَ عن الأصل إذا كان فرعاً من علوم الاستدلالِ، بخلاف ما أصله الضروريّاتُ؛ فإنه لا يَسوغ السؤالُ لموضع الاتفاقِ على الضَّروريّاتِ، وبخلاف ما إذا كان الأصلُ في الاستدلال في المسائل الفقهيَّةِ مجمَعاً ¬

_ (¬1) في الأصل: "فرع". (¬2) في"الأصل": "لا تستبدع"، والأولى ما أثبتناه.

عليه، أو منصوصاً عليه، فإنه يصيرُ في قُبْحِ السؤال عنه بمنزلة قُبْح السؤالِ عن الضَّروريات في مسائل الأصولِ. ولا يجوزُ لك أن تدلَّ على المختلَف فيه بالمختلَف فيه؛ لأن الذي أحوجَ أحدَهما إلى الدليل -أعني مسألةَ الفرع- هو الاختلافُ، وإلا فقد كان الاتفاق مغنياً عن الدَّلالةِ، وهذا بعينه قائمٌ في الآخَرِ المستدَلِّ به، فكيف يُستدَلُّ به؟ ولو استغنى بعضُ المختلَفِ فيه عن الدَّلالةِ لاستعنى جميعُه عن الدَّلالةِ، كما أنه لو احتاجَ بعض المتَّفَقِ عليه إلى دَلَالةٍ لاحتاجَ جميعُه إلى دَلالَةٍ. فصل ومن المختلَف فيه ما يكونُ حقَاً، ولا يخرجُه الخلافُ فيه عن جواز البناءِ عليه، والِإسنادِ إليه، ولا يمنعُه كونُه لم يقعْ بحِسٍّ أن يُبْنى عليه، وذلك أن خروجَه عن الحِسَ لم يُبطِلْه، وإذا لم يُبطلْه، كان صحيحاً مع وجودِ الخلافِ فيه، فكم من صحيحٍ اختُلِفَ فيه، لاختلاف الناسِ في إدراكِ الصِّحَّةِ والفسادِ، وإذا كان صحيحاً، فالصَّحيحُ لا يُؤدِّي إلا إلى، الصِّحَّةِ ولا يثمرُ إلا الصَّحيحَ. فإذا كان له وجهُ دلالَةٍ كانت صحيحةً، وذلك مثلُ رجوعِنا في الأصول إلى المحسوساتِ، وإن خالفَ فيها السُّوفسطائيَّة (¬1)، ولم يمنعْنا خلافُهم إيّانا من تعلقِنا بها، وبنائِنا عليها، وإسنادِنا إليها، ومثلُ خلافِ من خالفنا فرب امَّهاتِ الأولادِ في نفي جوازِ بَيْعِهنَّ (¬2)، لا يمنعُنا ذلك ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (202). (¬2) أم الولد: هي التي ولدت من سَيِّدها في ملكه ما فيه صورة. =

أن نقيسَ على أُمِّ الولدِ غيرَها، ولا يمنعُنا الخلافُ في المُتْعةِ أن نقيسَ عليه نكاحَ المُحَللِ (¬1). فصل ومن علوم الحسِّ ما بعضُها أقوى من بعضٍ، كالمشاهدةِ آكَدُ من اللَّمْسِ، والاستماعُ للفهم آكدُ من الإِشارة، وليس يجبُ لذلك أن ¬

_ = وعدم جواز بيع أمهات الأولاد، أو التصرف فيهن بما ينقل الملكية كالهبة والوقف والوصية وغير ذلك، هو قول عمر وعثمان وعائشة، ومذهب أكثر التابعين، وجمهور فقهاء الأمصار كالشعبي والنخعي وعطاء وربيعة وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم الظاهري. وأجاز بيعهن أبو بكر الصديق وعلي وابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري، وهو مذهب داود وأبي بكر انظر "اللباب في شرح الكتاب" لعبد الغني الغنيمي 3/ 122، و"مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" لأبي عبد الله الحطاب 6/ 355، و"بداية المجتهد" لابن رشد الحفيد 2/ 392 - 393. و"كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار" لأبي بكر الحصني ص 510 - 511، و"المغني" لابن قدامة 14/ 580 و 584 - 585، و"كشاف القناع عن متن الإقناع" للبهوتي 4/ 569، و"المحلى" لابن حزم 6/ 217 - 219. (¬1) المحلِّل: هو الذي يتزوج المرأة المطلقة ثلاثاً ليُحِلها لزوجها الأول. والتحليل حرام لا يجوز في قول عامة أهل العلم، ولكن اختلفوا في صحة العقد الذي فيه اشتراط التحليل، وفي إباحة المبتوتة للزوج الأول به: فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه باطل لا تحل به للزوج الأول، وذهب أبو حنيفة إلى أنه صحيح تحل به لزوجها الأول. انظر تفصيل المسألة في "البناية في شرح الهداية" 4/ 624 - 627، و"بداية المجتهد" 2/ 58 - 59، و"تكملة المجموع" 16/ 255 - 256، و"المغني" 10/ 49 - 50، و"المبدع في شرح المقنع" 7/ 85 - 86.

يكونَ البناءُ على القويِّ دون غيرِه، ولكنَ الوجهَ أن يكونَ البناءُ على متَفَقٍ عليه، ولا يُطلَبُ بعد الاتفاقِ غايةٌ. فصل ومن مانعَ أصلاً وناكرَه، فشرعَ في الدَّلالة عليه بطريق الاستدلالِ الذي يُسْلَكُ مثلُه في الفرع، فأبى ذلك طلباً للإِسناد إلى أصلٍ لا يَحتاجُ إلى دَلالةٍ، فقد ظلم وخرجَ عن قانون الجدلِ إلى الإِعناتِ، وكان في هذا بمثابة من قال: أوْصِلُوني إلى آخِرِ المسافةِ من غير أن تَسْلُكُوا بي في وَسطِها أو تَمُرُّوا بي على أَوَّلِها. فيقال لمن سلكَ هذا: يا هذا، إنَّا لا نَدَعي أنَا وصلنا إلى معرفة ما سألتَ عنه، ولا إلى معرفةِ الأصلِ الذي أسنَدْنا إليه وناكَرْتنا فيه إلا بهذا الطريقِ، فإن أردتَ معرفتَه من الوجه الذي منه عرفناه، عَرَّفْناكَه وعَلِمْتَه، وإن أبَيْتَ ذلك، فلسنا نَقْدِرُ على غيرِه. وكان أيضاً بمثابة من قال: لو كان اللَّوْنُ حقاً لوصلتُم إلى معرفته من غير طريق البصرِ، وهذا واضحُ الفسادِ، ولا بُدَّ من إحكام هذه الأمورِ، وإلا وقعَ في التَّخليطِ.

* فصول الحجة والشبهة

فصول الحُجةِ والشُّبْهَةِ فصل في جوامع العلمِ بالحُجةِ اعلم أن الحجَّةَ: مقدَمةٌ صادقةٌ، لها شهادةٌ على الحقيقة (¬1). وإنما قلنا: لها شهادةٌ على الحقيقة؛ لأن من المقدِّماتِ ما له شهادة على التَخَيُّل دون الحقيقةِ، وهي الشُّبهةُ (¬2). ومعنى قولنا: مقدِّمةٌ: كلُّ ما إذا قُدَمَ فكان أوَّلاً ظهر منه ثان، كائناً ما كان، وهي التي يسمِّيها الفقهاءُ وصفاً، فكما يكونُ القياسُ ذا وصفٍ ووصفين وثلاثةِ أوصافٍ، تكونُ الحجةُ ذاتَ مقدمةٍ ومقدمتين وثلاثِ ¬

_ (¬1) قال الجرجاني في "التعريفات" ص 82: الحجة: ما دل به على صحة الدعوى، وقيل: الحجة والدليل واحد. (¬2) قال الآمدي في "المبين من معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" ص 47: وأما المشبهات فما أوجب التصديق بها تخيل كونه من قبيل ما سبق من الأقسام يعني بالأوليات والمتواترات والمشهورات والمظنونات، كاعتقادنا أن نصرة الأخ عند كونة ظالماً مشهور، أخذاً من قول الجمهور: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وعند التحقيق تبين أنه ليس بمشهور، وأن المراد به إنما هو دفعه عن الظلم، وكفه عنه.

مقدِّمات، إلى أن تنتهيَ إلى نتيجةٍ صادقةٍ، والحكمُ في قياس الفقهاءِ، هي النتيجةُ في الأصول بلغةِ الأصوليِّين. ولا تخلو شهادةُ الحجةِ من أن تُعلمَ بأول وَهْلةٍ أو بأدنى فِكْرَةٍ، ولا تخلو الحجَّةُ من أن تظهرَ شهادتُها عند الإِشارةِ إليها، أو لا تظهرَ، فإن لم تظهرْ عند الِإشارةِ إليها، فإنَّما ذلك لأنه أُشيرَ إليها من وجهٍ لا يتعلَقُ بالحكم، مثال ذلك: قول القائل: كلُّ جسمٍ فهو جوهرٌ، فالجسمُ لا يشهد من وجهِ أنه جوهرٌ على أَن له صانعاً، ويشهدُ من وجهِ أنه كان بعد أن لم يكنْ على أن له صانعاً، فقد بأن أنه يُذكرُ من وجهٍ ولا تكونُ له شهادةٌ، وُيذكرُ من وجهٍ آخر فتظهرُ له شهادة. بيانُ صحةِ ذلك: أنك إذا قلتَ: إذا كان الجسم بعد أن لم يكنْ، فلا بُدَّ له من مكوِّنٍ. فهذا شهادةٌ، ولو قلت: إذا كان الجسمُ جوهراً، فلا بُدَّ له من مكوِّن. لم يكن هذا شهادةً، ولا له صحةُ الشهادةِ. وكذلك تقولُ: إذا كان محكَماً متقَناً، فلا بدَّ له من عالمٍ أحكمَه وأتقنَه. ولا يصحُّ أن تقولَ: إذا كان معدوماً بعد أن لم يكنْ معدوماً، فلا بُدَّ له من عالمٍ أعدمَه. ولكن الذي يصحُّ أن تقولَ: إذا كان معدوماً بعد أن لم يكن معدوماً، فلا بُد من معدِمٍ أعدَمه وجعلَه معدوماً. ويَحسُنُ أن تقولَ: الجسم دالٌّ على الصانعَ المدبِّر. نعني من الوجوهِ التي بَيَّنَّا. والمثالُ من مسائل الفروعِ: إذا قلتَ: النَبيذُ محرَّمٌ من حيث إنَّه مائعٌ أو مشروبٌ، فهذا لا يصحُ؛ لأن كونَه مائعاً ومشروباً لا يشهدُ بالتحريم، فإذا قلتَ: النَّبيذُ أو الخمر يشهدُ بالتحريم من حيث كونه

مشتدَّاً أو مسكراً. كان قولاً صحيحاً وشهادةً صحيحةً. وهذا بعينه الذي يُسَمِّيهِ الفقهاءُ: التأثيرَ وعدَمَ التأثيرِ، فالذي له شهادةٌ بلغة الأصوليين هو الذي له تأثيرٌ بلغة الفقهاءِ، والذي لا شهادةَ له هو الذي يقول الفقهاءُ: لا تأثيرَ له، ويقولُ الخراسانِيُّونَ: لا إخالةَ (¬1) له. فصل وكل حُجَّةٍ فهي بمنزلة الناطقةِ بأن الحكمَ حقٌّ أو باطلٌ من حيثُ يجد العاقل معنى النُّطقِ في نفسِه عند خُطورِ المعنى على قلبه، والاعتمادُ على معنى النُطقِ لا على النُّطقِ، وإنما يجد العاقل كأَنَّ مخاطِباً يخاطبُه بأن المذهبَ صحيحٌ أو فاسدٌ؛ للاعتماد على ما يجدُه من معنى الخِطابِ، لا على نفْسِ الخِطابِ. والحجَّةُ والدَّلالةُ والآيةُ والعلامةُ نظائرُ، وكذلك الدَّليل والبرهانُ، ينوبُ بعضُها مَنابَ بعضٍ في أكثر المواضعِ. والأصلُ في الدَّالُ إنما هو المظهِرُ للدَّلالةِ، وكذلك الدَّليلُ على مذهب المتكلِّمين، وهو عندنا: المرشِدُ إلى المطلوب -وهو المدلولُ-. وإنما سُمِّيَتِ الدَّلالةُ دليلاً من حيث إنَّها كالناطقة في الحكم بالصِّحَّةِ أو بالفسادِ. ¬

_ (¬1) الِإخالة: هي المناسبة، وسميت إخالة؛ لأن الناظر إليها يخال -أي: يظن- أنها علة. انظر "إرشاد الفحول": 214، ومختصر ابن الحاجب 2/ 239.

وكلُ حُجَّةٍ فهي بيانٌ يشهدُ بمعنى حكمٍ من الأحكامِ. فصل ولا يخلو البيانُ الذي هو حجَّةٌ من خمسةِ أقسامٍ: لفظٍ، وحَظ، وعَقْدٍ، وإشارةٍ، وحالةٍ. وكلُّ ذلك إنما يكون حجَّةً إذا كان حقاً في نفسه وشهادتِه، وإذا كان في أحدهِما دون الآخرِ فهو شبهةٌ. ودلالة اللَّفظ والحظ التي تكون حجَّةً: إنما هو في القضايا التي تشهد بمعنى قَضِيَّةٍ أخرى، وذلك مثل قولِك: زيد مسيءٌ، وكل مسيءٍ فهو مستحِقٌّ للذَّمِّ، فزيدٌ مستحِق للذَّمِّ، وكذلك لو قلتَ: زيدٌ ظالمٌ أو جَائِرٌ، وكذلك لو قلتَ: الأجسام لم تَسبِقِ الأعراضَ، وكلُ ما لم يَسبِقِ الأعراضَ حادثٌ، فالأجسامُ حادثةٌ. فهذا بيانٌ من جهة اللَّفظِ والحظ. فأمَّا البيان [من جهة العقد] (¬1): فلو اعتقدتَ معنى المقدِّمةِ التي ذكرت لك، لظهرَ منها معنى الحكمِ، وإن لم يكن هناك قولٌ. وأما البيانُ من جهة الإِشارةِ: فهو كالإِشارةِ إلى ما فيه الدَّلالة إذا كنتَ طالباً لها، فأشيرَ لك إليها، وهذا غايةٌ في المثال. وأما الحالُ: فدَلالتها تظهر بأن يكونَ عليها الشيئُ ثم يزولَ، أو لا يكونَ عليها ثم يصيرَ، كخروج الجسمِ من حال إلى حال تنقلبُ الأعراضُ عليه في علم الأصولِ، وكخروج العينِ من حكمٍ إلى حكمٍ ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين ليس في الأصل، ولا بد منه لتمام المعنى.

في الفروع، مثالُه: خروجُ الطِّفْلَةِ بالبلوغ إلى حَيزِ التَكليفِ والرشْدِ، فيستدلُّ بتلكَ الحال على تغير حالِ الوَليِّ من رُتْبَةِ الإِجبارِ إلى رتبةِ الاستئذانِ لها في نكاحها، وخروجُ العبدِ بالتَكاتب من حال تملُّكِ سيِّدهِ لأُرُوشِ (¬1) جناياته وأكسابه إلى حالٍ صار هو المالكَ لها، أو [خروج الخمر بالتخلُّلِ من عدم اَلماليةِ إلى المالية] (¬2)، فمنعَ ذلك من خروجِ العصيرِ عن الماليةِ بحدوث الشَدةِ، وخروجِ العبد عن الماليَّة بالحُريةِ. وكلُّ حجة تجبُ من جهة الحِسِّ فهي من باب الحالِ، لأن كلَّ حِسٍّ حالٌ. فصل وكلُّ حُجةٍ فلها تحديدٌ، ولها تعبير عن التَّحديدِ، ولايُخرجُها عن معنى الحجَّةِ كونُها ليست محدَّدةً؛ لأنها إذا ظهرَ صدقُها في نفسها، وأنها شاهدةٌ على الحقيقة لحكمها، فلم يُخِل بها أن تُذكرَ مع غيرِها، ولا أن يُحذفَ من لفظها، أو تُغيرَ عن ترتيبها بعد أن تؤديَ ما ذكرنا فيها. وإن كنا نعلمُ أن تحديدَها إلى أن تَخْلُصَ على حقيقتها أبينُ لها ¬

_ (¬1) جمع أرْشٍ، وهو دِيَة الجِراحة، ثم استعمل في نقصان الأعيان؛ لأنه فساد فيها" المصباح المنير" (أرش). (¬2) ما بين حاصرتين ليس في الأصل.

وأحسنُ لصورتها، لكنا لا نَبْخَسُ حفظَ المعنى حقَه من إيجاب حكمِها به. فصل وكل حُجةٍ فهي أصلٌ تشهدُ بالحكم، فإذا ظهرَ الحكمُ ولم يظهرِ الأصلُ، طُلِبَ ليُبْنى عليه ويُرَدَّ إليه، وإذا ظهرَ الأصل من الوجه الذي يَتعلَّقُ بالحكم، ظهرَ الحكمُ. فصل وكل حجه فإنه يَصحُّ أن يُدل عليها بالقضية، وكلُّ قضيةٍ فإنها لا تخلو من أن يكونَ لها شهادةٌ، أو لا يكونَ لها شهادةٌ، فإن كان لها شهادةٌ، فهي لا تخلو من أن تكونَ حجةً أو شبهة، وإن لم يكنْ لها شهادةٌ خرجتْ منهما جميعاً، ولم يُتكلَّمْ عليها إلا على طريق الشَّغْبِ (¬1) في المناظرة؛ لأن ما خلا منهما، فإنما هو محضُ الشَّغْبُ؛ إذ ليس يدنو عن الشبهة إلا الشَّغْبُ، كما لا يعلو عليه إلا الحجةُ، ولا معنى للاشتغال به في الجدْل. فإن الكلامَ في هذا الشأنِ إنما يُعول فيه على الحجة لتظهرَ، والشبهةِ لتَبْطلَ، وما عدا هذا فهَذَرٌ يقطعُ الوقتَ، ويوجبُ السَّخائمَ، وهو الذي، رفِعَتْ بشؤمِه ليلةُ القَدْرِ (¬2)، وإليه انصرفَ نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم، ¬

_ (¬1) الشغب في اللغة: هو تهييج الشر والفتنة والخصام. "اللسان" (شغب). (¬2) تقدم نص الحديث وتخريجه في الصفحة (249).

- أصل الحجة لغة

عن قيل وقال (¬1)، وقوله: "مِراءٌ في القرآن كفْر" (¬2)، والشَّغْب لا يَتَموه به مذهبٌ. فصل وأصلُ الحجَّةِ في اللُّغة: القصد، من قولهم: حَجَّ يحُجُّ؛ إذا قصدَ، ومنه: حَجَّ البيتَ؛ إذا قصدَه، فكأن الحجَّةَ أُخذت من المَحَجَّةِ، وهي الاستقامةُ في الطريق المؤدي إلى البغية. وقد يقال للشُّبهة: حجةٌ داحِضَةٌ، ولا يجوز أن تطلقَ حتى يتبينَ أن المعنى فيه الاستعارةُ، مثلُ استعارتِهم البشارَةَ في الِإخبار عن السوء استعارةً، وإن كان الأصلُ الِإخبارَ بالخَير الذي يَسُرُّ، قال الله سبحانه: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16]، وقال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21، والتوبه: 34]. فصل وكل ما تَطَرَّقَ عليه الاختلافُ مما ليس بأَولٍ (¬3) في العقل، فليس ¬

_ (¬1) أخرج أحمد 4/ 246 و249 و 250 و 255، والبخاري (1477) و (2408) و (5975)، ومسلم 1/ 1343 (593) عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". (¬2) أخرجه أحمد 2/ 258 و286 و300 و424 وه 47 و478 و494 و 503 و528، وأبو داود (4603) من حديث أبي هريرة. (¬3) الأول في العقل: هو الذي بعد توجه العقل إليه لم يفتقر إلى شيء أصلا من حدس أو تجربة أو نحو ذلك، كقولنا: الواحد نصف الاثنين، والكل =

لنا سبيل إلى، علمه إلا بحُجَّةٍ؛ من قِبَلِ أن المدعيَ له والمنكرَفيه سواءٌ إلا أن يكونَ مع أحدِهما حُجَّةٌ، فيَثْبُتَ مذهبَه دون الآخَرِ، وليس يجوزُ أن يَثْبُتا جميعاً؛ لأن أحدَهما يقول: هو حق. والآخَرُ يقول: هو باطلٌ. لا اجتماعَ لهما في حكم واحدٍ، ولا حقيقةٍ واحدةٍ، وكذلك إذا قال أحدُهما: هو صدقٌ. وقال الآخرُ: هو كذبٌ. إذ لا اجتماعَ لهما في خبر واحدٍ، وسواءٌ كان ذلك في علم الدِّين، أو غيرِه من العلوم. فصل ولا يخلو الحكمُ الذي يظهرُ من الأصل على طريقة الحُجَّةِ من أن يكونَ فى معنى قضيةٍ واحدةٍ أو أكثرَ، فالحكمُ الذي يظهرُ من معنى القضيةِ الواحدةِ، كقولك: كلُّ مؤمنِ موحِّدٌ، أو ليس بمجسم. فالحكِمُ الذي يظهرُ من معنى هذه القضيةِ: أن بعضَ الموحِّدين مؤمن، وبعض من ليس بمجسِّمٍ مؤمنٌ، وكذلك قولك: كل إنسان جَوْهَر. فالذي يظهرُ من هذه القضيَّةِ: أن بعضَ الجواهرِ إنسانٌ. وأما الحكمُ الذي لا يظهرُ إلا من أكثرَ من قضيةٍ، فكقولك (1: كلُّ شهيدٍ مؤمن، وكلُّ مؤمنٍ موحِّد 1). فيظهرُ من هاتين القضيتين: كلُّ ¬

_ = أعظم من جزئه؛ فإن هذين الحكمين لا يتوقفان إلا على تصور الطرفين، وهو أخص من الضروري مطلقاً. "التعريفات" ص 39. وقال الآمدي في "المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" ص 43 - 44: وأما القضايا الأولية: فما يصدق العقل بها من غير توقف على أمر خارج، عن تعقل) مفرداته، كالعلم بأن الواحد أقل من الاثنين، ونحوه. (1 - 1) مكرر في الأصل.

- جهات المطالبة بالدليل

شهيدٍ فهو موحِّدٌ. فصل وإذا أوردَ الخصمُ ما يقتضي صِحَةَ الحكمِ، وكان على طريقة الحُجَّةِ، لم يكن لخصمه أن يطالبَه بما الدَّليل على صِحَّتِه؟ ولكن له أن يطالبَه بما الدليلُ؟ من جهاتٍ ثلاثٍ: إحداها (¬1): بما الدَّليلُ على صحَّة المقدِّمَةِ؟ بلغة الأصوليِّين، وهي عبارة عن الوصفِ في لغة الفقهاءِ، حتى يَردَّه إلى بديهةٍ، أو لعلمٍ بأدنى فكرةٍ، أو لاقتضاءِ (¬2) ضرورةٍ، أو إلى موافقةٍ، وتسليمِ جدلٍ يقوم مقامَ الموافقةِ في البناء عليه والرَّدِّ إليه في الأصول، أو إلى ظاهرٍ من جهة الكتاب، أو السُنَّةِ، أو إجماع الكافَّةِ، أو شهادةِ الأصولِ، أو اتفاقٍ بين المَتجادلَيْنِ في مسائل الفرَوعِ. والثانية (¬3): أن يطالبَه بما الدَّليلُ على صحَّةِ الدَّعوى من المقدِّمة؟ -وهو المُسمَّى عند الفقهاءِ: تأثيرَ الوصفِ-، إذ كانت مقدِّمةً قد تَضَمنَت دعوىً أو دعاويَ، وله أن يطالبَه بأيِّها شاءَ قبل صاحبِه بلا ترتيب يَتعينُ عليه، وليس له أن يطالبَه بالدًعوَييْنِ في حالةٍ واحدةٍ؛ من قِبَل أنه إذا كان مطالِباً عن مسألتين في حالةٍ واحدةٍ، لم يكن ذلك إلا على انتقالً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحدها"، والجادة ما كتبناه. (¬2) "أو لاقتضاء": كتبها الناسخ: "والاقتضاء"، وهو تحريف. (¬3) في الأصل: "الثاني"، وما أثبتناه هو الجادة.

- طريق استخراج الحجة

الثالثة (¬1): أن يطالبَه بما الدَّليلُ على صحَّةِ شهادةِ المقدمةِ، إذا كان الخصمُ قد أوردَها من وجهٍ لا تظهرُ منه الشهادةُ. وله أن يَعْدِلَ عن المطالبة بماهيَّةِ (¬2) الدَّلالةِ، ويأخذَه بالتَّفريع على الأصل الذي ذَكَرَه في مذهبهِ أو حجَّتِه، فيَلْزَمُه على ذلك الأصَلِ ما لا بُدَّ منْ أن يتفرع عنه ليَتبَّينَ فسادُ الأصلِ من جهة الفرع، فإن الصحيحَ لا يتفرعُ عنه الفاسدُ، كما أن الفاسدَ لا يُنْتجُ الصحَيحَ. ولا يخلو ما يُورِدُه الخصمُ من أن يكونَ يقتضي صحَّةَ ما يدَّعيه، أو لا يقتضي، فإن كان لا يقتضيه، كان لك أن تطالبَه بوجه دلالتِه عليه، حتى يأتيَ بالوجه الذي منه تُتخيلُ الشهادةُ بالحكم، وإن كان ما أوردَه يقتضي صحَّةَ ما يدَّعي، لم يكن لك أن تسألَه عن وجه الدَلالةِ؛ لأنه قد ظهرَ، وإنما لك أن تسألَه من وجهٍ آخرَ على الرسْمِ الذي بَيَّنَا. فصل وكل برهانٍ أصل، فرعُه نتيجتُه، وهي المقالةُ والمذهبُ الذي يصحُّ به، ويظهرُ منه، فكل مقالةٍ ومذهبٍ فرع بالإِضافة إلى البرهان الذي هو الأصلُ. فصل وكلُّ حجةٍ فالطَّريقُ إلى استخراجِها: تحصيلُ القضايا التي لها ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: "الثالث". (¬2) في الأصل: "بمايية"، وصححناه كما هو مثبت.

شهادةٌ -وقولُ الأصوليين: شهادةٌ، هو معنى قولِ الفقهاءِ: لها تأثيرٌ- ثم تمييزُ (¬1) ما توجدُ معه الثِّقةُ والسلامةُ من المناقضة مما ليس كذلك، فكلُّ قضيَّةٍ من استخراجِ الحجةِ، وكل حجه، فإن معناها قد يمكنُ أن تَختلِفَ الصُورةُ الدالةُ عليه: فمرَّةً تكونُ في صورةِ الخبرِ-وهو الذي عليه المعتمَدُ-، ومرَّةً تكونُ في صورةِ الاستخبارِ، ومرَّةً تكونُ في صورةِ الأمرِ، ومرَّةً تكونً في صورةِ النهي، وكل ذلك يحْصُلُ به في النَّفسِ معنىً يشهدً بمعنىً آخَرَ، ولذلك سُمِّيَت شهادةُ القضيَّةِ شهادةً، لِما يَحصُلُ في النَّفسِ من المعنى الشاهدِ بمعنىً آخرَ. ولربما كانت الشهادةُ بالإِفصاحِ، وربما كانت بالتَّعريضِ في الكلام، أو في الحال، وكل معنىً كان في حصولِ العلمِ بمعلومٍ آخَر، فَهو دالٌّ عليه، إلا أن ذلك على ضربين: أحدهما: ما يستحيلُ حصولُ العلمِ بالأوَّلِ فيه دون الثاني، والآخرُ: لا يستحيلُ. فالذي يستحيلُ إلا بحصول الثاني هو أوضحُ وأجْلَى، والذي لا يستحيلُ أغمضُ وأخفى؛ وذلك لأنه قد تعترضُ فيه شبهةٌ، فيُعلمُ الأولُ، ولا يُعلمُ الثاني دون حلِّ تلك الشُّبهةِ. ويقال: إذا كان لا يصحُ حصولُ العلمِ بأحد المعنيين دون الآخرِ، فكيف صارَ الأولُ هو الدَّالَّ على الثاني دون أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما دالّاً على الآخر؟ فالجوابُ عن ذلك: لأن الأولَ هو الذي يَشهدُ بالثاني، وهو الذي يَشهدُ العقلُ بأنه لا يجوزُ أن يَصحَّ إلا ولا بُدَّ من أن يَصحَ الثاني، ¬

_ (¬1) في الأصل: "تميز".

- الفرق بين الحجة والشبهة

وليس كذلك سبيلُ الثاني؛ لأن العقلَ لا يَشهدُ له بأنه إذا صَحَّ صَحَّ الأولُ، كما شَهِدَ الأولُ بأنه إذا صَحَّ صَحَّ الثاني، فمن هناك كان المعنى الأولُ هو الدالَّ على الثاني، ولم يَجبْ أن يكونَ الثاني دَالاً على الأولِ، ولكن الثاني يَلْزَمُ من الأولِ من حيثُ كان دَالاً عليه. مثالُ ذلك: إذا صَحَّ أن زيداً قد كفَر، صَحَّ أنه مستحِقٌ للعقوبةِ، أو نقولُ: الذَّمِّ، وليس إذا صَحَّ أنه يستحقٌّ الذَّمَّ، صَحَّ أنه قد كفرَ؛ لأنه قد يستحقُّ الذَّمَّ بالفِسْقِ الذي لا يَكفرُ به. فصل في الفرق بين الحجةِ والشُبْهةِ اعلم أن الفرقَ بينهما: أن مع الحجةِ الثقةَ بالمقدَمةِ في نفسِها وشهادتِها، وليس كذلك الشُبهةُ؛ إذ (¬1) كانت الثِّقةُ إنما هي بإحداهما دون الأخرى، أو تخيُّل الثقة فيهما من غير حقيقة، ولو لم يكن هناك ثقةٌ أصلاً ولا تخيلُ ثقةٍ، لم يكن حجةٌ ولا شبهةٌ. وكلُّ ما يُتكلم عليه في الجدلِ، فلا يخلو من حجةٍ أو شبهةٍ أو شَغْبٍ، ومن أحبَّ سلوكَ طريقةِ أهلِ العلم، فإنما يتكلمُ على حجةٍ أو شبهةٍ، فأمَّا الشَغْبُ فإنما هو تخليط أهلِ الجدلِ، وهو ما أوْهَمَ الكلامَ على حجة أو شبهة، ولم يكُ في نفسه حجةً ولا شبهةً. والشبهة: ما تُخُيِّلَ به المذهبُ في صورةِ الحقيقةِ، وليس كذلك؛ لأن المقدَّمةَ إن كانت صادقة، فشهادتُها بالمذهب على الحقيقةِ، وكلُّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا".

- آفة عدم ظهور الحجة

مقدمةٍ تقتضي المذهبَ فإنها لا تخلو من أن تكونً حجةً أو شبهةً، وكلُّ اقتضاءٍ يسلمُ من المناقضةِ فهوعلى حجةٍ؛ من قِبَلِ أنه لو سَلِمَ من المناقضةِ وهو شبهةٌ، لم يكن سبيلٌ إلى حلِّ تلك الشبهةِ، وليس الأمر كذلك؛ إذ كل شبهةٍ فلأهلِ الاستدلالِ سبيلٌ إلى حَلِّها؛ إذ لو لمِ يكن لهم سبيلٌ إلى حلِّها؛ لكان المبطِلُ والمحق يقفان فيها مَوْقِفاً واحداً، ولأن الذي يدلُّ على نقيضِ ما يدعو إليه من المذهب يَقدحُ فيها، وُيؤثِّرُ في حَلِّها؛ من حيثُ لا بُد من أن يكونَ إذا صحَّ الَمذهبُ فسدَ نقيضُه، وإذا فسَدَ صَحَّ نقيضه، وهذا مطَرِدٌ في كلِّ مذهبٍ. والشُبهةُ: مقدِّمةٌ لها شهادةٌ بالتخيلِ لها في نفسها أو شهادتِها دون الحقيقةِ (¬1)، وهي في المثال شخصٌ يُشبهُ زيداً، أو صورةٌ تُشبهُ صورةً، أو صورةٌ تُنكَّرُ بغيرِها، مثلُ ما شُبهَ علىَ اليهود عيسى، فقالَ سبحانه: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]، وقال: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41]، حتى قالت بعد التَنْكيرِ: {كَأنَّه هُوَ} [النمل: 42]، وذلك أنها إن كانت كاذبةً في نفسها، فإنما تُتَخيَّلُ صحتُها بما يوجدُ من الاقتضاءِ فيها الذي لا توجدُ معه الثقةُ، لا قبلَ التَّأملِ ولا بعدَه، وإن كانت صادقةً في نفسها، فالتخيُّلُ إنما هو في شهادتها، مثلُ (¬2) ما شُبِّهَ على موسى أن عِصيَّ السَّحَرَةِ تسعى. فصل وكلُّ حجةٍ فلا تخلو إذا وَردَت على النَفس من أن تظهرَ أنها ¬

_ (¬1) انظر الصفحة (328). (¬2) في الأصل: "ومثل".

- الفرق بين الحجة والدلالة

حجةٌ، أو لا تظهرَ، فإن كان لا تظهرُ، لم تَخْلُ الآفةُ في ذلك من ثلاثة أوجهٍ: إمَّا لأنها مغيرةٌ عن الحَدِّ الذي ينبغي أن تكونَ عليه. وإما لاعتراضِ شبهةٍ عليها تدعو إلى فسادِها. وإما لأنها لم تُتَأَمَلْ حقيقةَ التأملِ كما يجبُ فيها. فعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ مدارُ الآمةِ في الحجةِ التي تُوهِمُ أنها شبهةٌ. فصل في الفَرْقِ بين الحُجَّةِ والدَلالةِ الفرقُ بيهما: أن الحجةَ لا بُد من أن تشهدَ بمعنى حكمِ غيرِها، وليس كذلك الدَلالةُ؛ لأنها قد يَحضرُ معناها للنَفسِ من غيرِ شهادةٍ بمعنى حكمِ غيرِها، مثالُ ذلك: قولُك: الجسمُ محدَثٌ، يشهدُ بأن له محدِثاً، فإن قلت: الجسمُ موجودٌ، لم يَشهدْ كشهادةِ الأولِ، فالذي يشهدُ بمعنى حكمٍ آخرَ حجةٌ، والذي لا يشهدُ بمعنى حكمٍ آخَرَ كالذي بَينَا من قولنا: الجسمُ موجودٌ، دَلالةٌ ليست حجةً. وكلُّ حجةٍ فإن تأثيرَها هو تَمكُنُ المعنى في النفسِ بالشهادةِ له أنه حقٌّ، فأمَّا الدَلالةُ فليست كذلك، وإنما تأثيرُها إحضارُ المعنى للنَّفسِ، إلا أن العبارةَ بالدَلالةِ قد كَثُرَتْ حتى صارت تُوقَعُ مَوْقعَ الحجةِ، يقول القائلُ: ما الدَّلالةُ على كذا؟ ويريدُ: ما الحجةُ على كذا؟

وقد بَينْتُ لك الفرقَ بين معنيين تحتاجُ الى تمييزِهما، وعلم الفرقِ بينهما، وهو معنىً يُحضِرُ معنى آخَر، ولا يشهدُ أنه حق أوَ باطلٌ، فاعرف ما بَينْتُ لكَ مما تحتاجُ إلى علمِه وصحةِ تمييزِه في المعاني، ثم أَجْرِ (¬1) العبارةَ على العادةِ فيها، ولا تتعدَّ بها مواضعَها بما لايحسُنُ منها. ومما يُوضَحُ لك الفرقَ في الاستعمالِ: أن إشارة الهادي إلى الطريقِ دلالةٌ عليه، وليس بحجةٍ، وكذلك النَّجمُ والرِّيحُ دلالةٌ على القبلة، وتغيُّرُ (¬2) الماءِ، أو تحرُكُه، أو آثارُ الماشي النَجِسِ الشَارب منه إليه، دَلالة على نجاستِه عند اشتباهِ الأواني، وليس بحجةٍ، والَاسمُ دلالةٌ على المسَمَّى وعَلَمٌ عليه، وليس بحجةٍ، والصِّفةُ مثلُ الشِّدَّةِ دلالةٌ على الموصوفِ، وليس بحجةٍ. والفرقُ بين الحجةِ والدَّلالةِ؛ كالفرق بين دَلالةِ البرهانِ وبين دَلالةِ الكلامِ، وكلُّ حجةٍ فإنها لا بُدَّ من أن تُحضِرَ معنىً، إلا أن إحضارَها إنما هو للشهادةِ بالنتيجةِ عنها، فهي تُشارِكُ الدلالةَ من جهة الإِحضارِ للمعنى، وتنفردُ بالشهادةِ لغير المعنى الذي هي دالَّةٌ عليه بمنزلة العبارةِ عنه. فكلُّ حجةٍ دَلالةٌ من حيث تُحضِرُ معنى الشهادةِ، ومن حيث هي بمنزلةِ النَّاطقةِ في النتيجةِ أنها صادقةٌ، وليس كل دَلالةٍ حجةً؛ لأنها قد تخلو من الشهادةِ بمعنىً سوى المعنى الذي تحتها بمنزلةِ العبارةِ. ¬

_ (¬1) كتبها الناسخ: "إجراء"، والصحيح ما كتبناه. (¬2) في الأصل: "تغيير"، وما أثبتناه هو الأولى.

- مراتب الحجة

فصل في مراتبِ الحُجَّةِ اعلم أن مراتبَ الحجةِ مواضعُ المقدِّماتِ بلغة الأُصوليين، وهي أوصافُ العلَّةِ بلغة الفقهاءِ، على السياقَةِ من الأول إلى الثاني، ومن الثانى إلى الثالثِ، ومن الثالثِ إلى الرابعِ، ثم على ذلك إلى آخر مقدَمةٍ. ولك أن تسوقَ المقدِّماتِ على طريقتين: من أولِها إلى آخرِها، ومن آخرِها إلى أولها، وسأضربُ لك مثلًا تتصوَّرُ به هذا المعنى إن شاء الله. مثالُ السِّياقةِ من الآخِرِ إلى الأول: أن تقولَ: الاجتهادُ مبنيٌّ على الِإجماعِ، والِإجماعُ مبني على القرآن، والقرآنُ مبنيٌّ على الرِّسالةِ، والرِّسالةُ مبنيَّةٌ على المعجزةِ، والمعجزةُ مبنيةٌ على إثبات صانعٍ لا يجوزُ عليه تأييد كاذبٍ عليه بالمعجزةِ. مثالُ السياقة من الأولِ إلى الآخِرِ: الرِّسالةُ مردودةٌ إلى المعجزةِ، والقرآنُ مردودٌ إلى الرسالةِ، والإِجماعُ مردودٌ إلى القرآنِ، والاجتهادُ مردودٌ إلى الإِجماعَ. مثالُ السِّياقةِ في المقدِّماتِ التي هي قضايا: إذا صَحَّ الإِجماعُ صَحَّ الاجتهادُ، وإذا صحَ القرآنُ صحَ الإِجماعُ، وإذا صَحَتِ الرِّسالةُ صَحَّ القرآنُ، وإذا صَحَّتِ المعجزةُ صَحَّتِ الرِّسالةُ، وقد صَحَّتِ المعجزةُ، فيَلزمُ من ذلك بالسِّياقةِ أنه قد. صحَّ الاجتهادُ، وهذا من باب ما يَلزمُ بالوسائطِ.

- الحجة من جهة الضرورة والاكتساب

مثالٌ في مسائل الفروع: إذا صحَ أن التَوبةَ ماحيةٌ للذَّنب، مُعيدةٌ للتَّائب إلى حكمِ الأصلِ، صحَ أن التائبَ من القَذْفِ عَدْلٌ عَائدٌ إلى حكمَ الأصلِ، وإذا صحَ أنه عدلٌ عائدٌ إلى ما كان عليه من الأصل، صحَّ أنه مقبول الشهادةِ، وزالَ حكمُ الرد، وقطِعَ التَّأبيدُ المذكورُ في الآيةِ (¬1) عن عمومِه وإرسالِه بهذا الدليلِ الموجب لتغليب ظن المجتهدِ عَوْدَ القاذفِ بالتوبةِ إلى ما كان عليه من الأصَلِ. فصل في الحُجةِ من جهة الضَّرورةِ والاكتسابِ اعلم أن الحجةَ من جهةِ الضرورةِ لا تخلو من أن تكونَ في المقدمة، أو في الشَهادةِ، أو فيهما. فالضرورةُ في المقدمةِ: كعلمِكَ بأن الجسمَ متحركٌ بعد أن لم يكن متحركاً، فلهذه المقدمةِ شهادةٌ إلا أنها ليست ضرورةً، ولكنَها تجبُ بأدنى فكرةٍ ما لم تعترض شبهة، وهي إذا كان الجسمُ متحركاً بعد أن لم يكن متحركاً، فلا بُد من حادثٍ لأجله كان متحركاً بعد أن [لم] (¬2) يكنْ متحركاً، فهذه الشَهادةُ تُعلمُ باكتسابٍ، والمقدَمةُ تُعلمُ باضطرارٍ. ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى في [الآية: 4 - 5] من سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (¬2) سقطت من الأصل.

- الحجة من جهة المتفق عليه والمختلف فيه

وأما الضَّرورةُ في الشَّهادةِ دون المقدمةِ: كعلمِكَ بأن الجسمَ لم يَسبِقِ الحادثَ، فهذه المقدمة تُعلمُ باكتسابٍ، وتعلمُ شهادتُها باضطرارٍ، وهي إذا كان لم يَخْلُ من الحادثِ، فهو حادث باضطرارٍ، وعلى هذين القسمين مدارُ علمِ الاكتسابِ. وأما إذا كانت المقدَمةُ والشَهادةُ جميعاً ضرورةً، وقَعَتِ النَتيجةُ ضرورةً، وذلك في الأعدادِ والمقاديرِ، مثالُ ذلك: هذان عددان متساويان، أو خَطَّان متساويان، زِدْتَ عليهما متساوياً، وكلُّ عددين متساويين أو خَطَّينِ متساويين زِدْتَ عليهما متساوياً، فهما بعد الزِّيادة متساويان، فهذان العددان المشارُ إليهما بعد الزِّيادةِ عليهما متساويان. فصل في الحُجةِ من جهةِ المتَفَقِ عليه والمختلَفِ فيه اعلم أنا الحجةَ من جهة المختلَفِ فيه لا تخلو من أن تكونَ في الأصل، أو في الفرع، أو فيهما، وكلُّ ذلك يجوزُ الاحتجاجُ به إذا كان فيه تقريبٌ من المتَّفَقِ عليه، أو ما يجبُ الاتفاقُ عليه مما هو أَوَّلٌ في العقل؛ لأنه لو وقِف على المتفقِ عليه؛ لعُطِّلت أدلَّةُ الشَّرعِ والعقلِ لأجل المعاندة في الخلافِ. فصل في تعليقِ الحُجَّةِ بالمذهبِ اعلم أن تعليقَ الحجةِ بالمذهب هو شهادتُها له بالنَّفس أو بوسيطةٍ، ولا يخلو التعلقُ من أن يكَونَ على الإِيجاب أو عَلى الاقتضاءِ، والاقتضاءُ يرجعُ إلى الإِيجابِ بعد التأملِ للمقدِّمةِ والسَّلامةِ

- أنواع الحجة

من الشبهةِ. وتعلقُ الحجةِ بالمذهب كتعلقِ الأصلِ بالفرع؛ من جهة أنه يَنشأُ عنها كما ينشأ الفرعُ عن الَأصلِ، إلا أن تعلقَ الَأصلِ بالفرع أعمُّ من تعلقِ الحجةِ بالمذهبِ، وهما في تَنَشُؤ الثاني عن الأولِ سواءٌ. فشهادةُ المعجزةِ للنُبوةِ بالنفس، وشهادتُها للاجتهادِ بوسائطَ قد قدمنا ذِكْرَها (¬1) في الشواهد، وذلك لَأن بصحةِ المعجزةِ تَصِحُ النبوَّةُ، وبصحة النبوَّةِ يصحُ الكتابُ، وبصحةِ الكتاب يصحُ الإِجماعُ، وبصحةِ الِإجماعِ يصحُ الاجتهادُ. والمعجزُة أيضاً مردودةٌ إلى مقدِّمةٍ قبلها، وهي وجوبُ كونِ الباري على صفةٍ لا يُؤيِّدُ معها كذّاباً بالمعجِزِ، ثم لا تزالُ المقدَماتُ تَتَرقّى مرتبةً بعد مرتبةٍ إلى الأوائلِ في العقل، وإذا عُلِّقَتِ (¬2) المرتبةً الأولى من الحجةِ بالمرتبةِ الأخيرةِ التي هي المذهبُ من غير بيانٍ عن الوسائطِ، قَبُحَ ذلك، وأنْكَره علمُ الاستدلالِ، فلا يجوزُ أن يقالَ بوجوبِ صحةِ الاجتهادِ دون أن يتبيَّنَ ذلك من جهةِ الوسائطِ التي بينه وبينه. فصل في أنواعَ الحُجةِ اعلم أن الحجةَ قد تتنوعُ بتنوع المذهب، وليس كلما تنوَّعتِ ¬

_ (¬1) انظر ما سلف في الصفحة (343). (¬2) في الأصل: "علت"، والأنسب ما أثبتناه.

الحجةُ فإنما هو لتنوُّع المذهب، لأَنه قد تكَونُ حجةٌ واحدةٌ على مذهبين مختلفين غيرِ متناقَضين، وقَد تكونُ حُجَّتان على مذهبِ واحدٍ. مثالُ ذلك: كالحجةِ على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادقٌ في كلًّ ما أتَى به، هو الححةُ على أنه وَليُّ اللهِ؛ لأن المعجزةَ دَلتْ على ذلك؛ من حيثُ دلت على تعظيمِه، وتفخيمِ شأنِه، وإبانةِ الله عز وجل له بذلك عن غيره. وقد تقوم الحجةُ وتُبينُ على نفي التشبيهِ من طريق العقلِ، وقد يَبِينُ ذلك من طريق السَمعِ. فأمَّا الحجةُ على التَوحيدِ، فهي غيرُ الحجةِ على نفي الجَبْرِ (¬1) والتَشْبيهِ (¬2)؛ لأنه قد يصلُ الِإنسان إلى علمِ التَّوحيدِ بالحجةِ المُنْبئَةِ عن ذلك والبَيِّنةِ عليه وهو لا يعلم نفيَ الجَبْرِ والتَشبيهِ، بل يعتقدُ أنه واحدٌ ¬

_ (¬1) الجبر: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد، وإضافته إلى الله تعالى؛ فلا فعل ولا عمل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، والعبد مجبر ومضطر الى الأعمال. وأصحاب هذا المذهب يسمون جَبْرِية، وهم صنفان: جبرية خالصة: وهي التي لا تثبت للعبد فعلًا، ولا قدرة على الفعل أصلًا. وجبرية متوسطة: وهي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلًا. انظر "مقالات الإِسلاميين" ص 279 - 287، و"الفرق بين الفرق" ص 211 - 215، و"الملل والنحل" 2/ 85 - 91. (¬2) التشبيه: هو تشبيه ذات الباري سبحانه بذات كيره، أو صفاته بصفات غيره. ويسمى القائلون به: مشبِّهةً أو مجسمةً، وهم أصناف شتى. انظر في ذلك "مقالات الإسلاميين" ص 207 - 218، و"الفرق بين الفرق" ص 225 - 230، و"الملل والنحل" 1/ 103 - 108.

- فصل في مصادرة الحجة في الصناعة

يشبه أو واحدٌ يُجبرُ، فيعلمُ أحدَ الشَّيئين، ويَجهلُ الأخرَ. وكلُّ نوعٍ من أنواعِ الحجةِ يخالِفُ الآخرَ، فإنه لا يجوزُ أن يُناقِضَه وإن خالَفه، كما أن العلومَ تختلفُ ولا تتناقضُ، وكذلك الحججُ تختلفُ ولا تتناقضُ، وكذلك أنواعُ المذاهب التي تظهرُ عن الحجةِ. وفي الجملةِ: إن الحجةَ تَنَوَّعُ بتعليقِها بالمذهبِ؛ لأنه إذا قيل: ما الحجةُ على صحةِ الاجتهادِ؛ اقتضى غيرَ ما يقتضي: ما الحجةُ على صحةِ الإِجماعِ؟ وإذا قيل في النبيِّ: ما الحجةُ على النبوَّةِ؟ اقتضى ما يقتضي: ما الحجةُ على أنه وليُّ اللهِ؟ وهو ما يُرَدُّ إليه من شبهادةِ المعجزةِ التي جعلَها اللهُ تعالى عَلَماً ودَلالةً. فصل في مُصادَرَةِ الحُجَّةِ في الصِّناعةِ اعلم أن مُصادرَةَ الحجَّةِ في الصناعة هي المقدِّماتُ التي تُوجدُ مسلَّمةً من الخصم ليُبنى عليها ما بعدها، وكلُّ صناعةٍ فإنها لا تخلو من ذلك إلا صناعةَ الكلام، فإن مصادراتِها تُسلِّمُ الأوائلَ في العقل ليُبنى عليه ما بعده، وهذا يدُلُّ على ثبوتِ صناعةِ الكلام على كلِّ صناعةٍ، فللهندسةِ مصادرةٌ تُؤخذُ من صناعةٍ من فوقِها، وكذلك لعلم الفقهِ مصادرةٌ تُؤخذُ من صنعةٍ فوقَها، وكذلك علمُ النَحْوِ وغيرُه من سائرِ العلومِ على ما بَيَّنَّا، فالمصادرةُ إذاً تُسلمُ ما يُبنى عليه ما بعده.

- فصل في الفرق بين طريقة الحجة في الجدل والمنطق

فصل في الفرقِ بين طريقةِ الحُجةِ في الجَدَلِ والمنْطِقِ اعلم أن الفرقَ بينهما: أن طريقةَ المنطق في الحجةِ على تحديد المعنى واللفظِ، وليس كذلك طريقةُ الجدلِ؛ لأنه قد يُستعملُ في العبارةِ عن الحجةِ المجازُ، وُيجرى على عادةِ أهلها في الاتَساعِ والِإيجازِ. والطَّريقتان وإن اختلفتا في ذلك فإنهما تؤدِّيان إلى غَرَض واحدٍ، إلَّا أن إحداهما (¬1) على تحديد الطَّريقةِ، وأخرى على تغييرِها، وكلاهما موصِلٌ إلى البُغيةِ، ومظهرٌ للنَّتيجةِ، وإنما الاعتمادُ على تحقيقِ المعنى في النَّفسِ، وإن اختلفَ ما يُتوصَّلُ به من الطرقِ. وطريقةُ الجدَلِ قد يجري فيها التَّحديدُ، ويجري فيها التَّغيير، فهي أوسعُ من طريقةِ المنطقِ من هذا الوجهِ، وطريقةُ المنطقِ أضيقُ؛ إذ كان لا يُسلَكُ إليها إلا من وجهٍ واحدٍ، والمثل في ذلك كمن قصدَ بلداً، فوجدَ طرقاً متشعِّبةً مشتبِهةً تُوصِلُ إليه أيضاً، فالذي على سَنَنٍ واحدٍ أوضحُ لمن لم يَرْتَضْ بالطًّرقِ المؤدِّيةِ، فأمَّا المُرْتاضُ فيتقاربُ ذلك عنده فى الإِيضاحِ. وقد يستعملُ العالمُ ذلك لِإفهام العامِّيِّ؛ إذ كانت العامَّةُ لم تَألَفْ طريقَ التحديدِ، فهو وإن كان علىَ السَّنَنِ، فإنه صعبُ المَسْلَكِ عند من لم يَألَفْ تلك الطَّريقةَ، ولا جَرَتْ بها عادتُه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحدهما".

* فصول الكلام في بيان العلة - والمعلول - العقلية والشرعية

فصول الكلامِ في بيانِ العِلَّة- والمعلولِ- العقليةِ والشَّرعيةِ فصل في جوامعِ العلمِ بالعِلَّةِ فحدُّ العِلَّةِ: أنها الموجبةُ لحكمِها، أو للحكمِ، أو للمعلولِ. وزادتِ المعتزلة فقالت: الموجبة بوجودِها لصحةِ معنى الحكمِ بعد أن كان لا يصحُّ؛ بناءً على أصلهم، وأن الواجباتِ غير معلولةٍ، بل يُستغنى بوجوبِها عن عِلَةٍ. بيانُ ذلك بالمثال: أن الحركةَ أوجَبَت بوجودِها صحَّة معنى الحكم بأن الجوهرَ متحرِّكٌ بعد أن كان لا يصحُّ، ولَمَا كان الِإيجابُ قد يكونُ بوجودِ الموجبِ نفسِه، وقد يكون بوجودِ شيءٍ سواه، كالفاعلِ على الموجب بفعلِه لأمر، قلنا: إنها الموجِبةُ بوجودِها؛ لنَفْرُقَ بين المعْنَيْينِ. فأمَّا المعلولُ: فهو موجَب العلَةِ. وقالت المعتزلةُ: هو المتغيرُ بالعلَّةِ عما كان عليه؛ من جهةِ حدوثِه، أو تقديرِ حدوثِه، أو حدوثِ معنىً فيه أو في بعضهِ، ومن هناك سمِّيَ المرض: عِلَّةً، ومَن حَل به المرضُ فغيرة عن الصَحةِ والاعتدالِ: معلولاً، وذلك أن الحكمَ يكونُ معلولَاً بالعلَّةِ، من جهةِ

أنه يصحُّ أن يوجدَ حقَّاً بعد أن كان لا يصحُّ، وكذلك الحمدُ والذمُّ والثوابُ والعقابُ، يصحُّ أن يوجدَ كلُّ واحدٍ منهما مستحقاً -عند من قال باستحقاقِه-؛ من أجلِ علَّةٍ كان صارَ بها على ذلك. وأما المتحرِّكُ فمعلول بالحركةِ من أجل حدوثِها فيه، والعالِمُ معلولٌ كونَه عالمِاً بالعلمِ واجباً كان أو جائزاً. والمعتزلةُ تقولُ: إن كونَ العالِمِ في الشَاهدِ معلولٌ بالعلم؛ لكونِه عَلِمَ مع جوازِ أن لا يعلمَ، فاحتاجَ إلى معنىً يكونُ به عالماً، وفي الغائب علِمَ مع وجوب أن يَعلمَ، فلم يفتقرْ إلى معنىً يكونُ به عالماً، كماَ أنه لَمَّا وُجِدَ الَحادثُ مع جوازِ أن لا يَحدثَ، افتقرَ إلى محدِثٍ يُحدِثُه، والقديمُ سبحانه لما وُجِدَ مع وجوبِ أن يُوجدَ، لم يَحْتَجْ إلى معنىً يُخصِّصُه بالوجودِ. وأهلُ السُّنةِ يُعلِّلون الواجباتِ بعللٍ واجبةٍ، ويقولون: إن الموجِبَ لكونِ العالم عالماً هو العلمُ، فلو كانت الذاتُ موجبةً كونَها عالمةً، لكانت علماً؛ لأن الموجِبَ لكونِ العالِم عالماً إنما هو العلمُ، ولو جازَ أن يكونَ في الغائب ذاتٌ توجبُ كونَ العالمِ عالماً وليست عِلماً، لكان في الغائب مَا يوجبُ كونَ المتحرِّكِ متحرِّكاً وليس بحركةٍ، والكلامُ في ذلكَ على الاستقصاءِ لا يليقُ بهذا الكتابِ. وأما العالِمُ الذي صارَ عالماً بعد أن لم يكنْ عالماً، وجدَ نفسَه على خلافِ ما كان عليه، فمعلولٌ بالعلمِ الذي وُجِدَ له بإجماعَ أهلِ السنةِ وأهلِ الاعتزالِ، إلا أنه معلول بما وُجِدَ في بعضه؛ لأن العلمَ في مَحَلٍّ منه.

وكذلك الرائي بعد أن لم يكنْ رائياً في أنه معلولٌ بوجودِ الرؤيةِ له في بعضِه، ومحل الرؤيةِ معلولٌ بما حَلَّ فيه. فأمَّا القادرُ الذي صار قادراً بعد أن لم يكنْ قادراً، فمعلولٌ بوجود القُدْرَةِ بإجماعِ الأصوليين، وعند أهلِ السنةِ لا يُقيدون ذلك بالذي قَدَر بعد أن لم يكنْ، بل كلُّ قادرٍ فكونُه قادراً معلولٌ (¬1) بالقُدرةِ، على ما بَيَّنَا في العلمِ. وأهل السنةِ لا يَخُصُّون العلةَ بتغيرِ المعلول عما كان عليه، بل المحدثُ عندهم بهذه الصِّفةِ، والقديمُ سبحانه يُعَلِّلون كوَنه قادراً بقدرة قديمةٍ، وإن كان معلولُ العلةِ ليس بكائنٍ بعد أن لم يكنْ. وكلُّ علةٍ حادثة فهي تُغَيِّرُ المعلولَ عما كان عليه، ولذلك قيل للدَّلالةِ التي في الفقه: علة؛ لأنها تُغيِّرُ معنى الحكمِ عما كان عليه، لأنها اظهرَتْهُ بعد أن لم يكنْ ظاهراً؛ ولذلك لم يَجُزْ أن يكونَ المعدومُ الذي لم يُوجَدْ علَّةً، لأنه لم يكُ شيئاً قبل وجودِه فيُطلَقَ عليه التغييرُ بوجودِه، بل وجودُه هو هو على مذهبِ أهلِ السنةِ، إذ ليس الوجودُ صفةً، ولا يَسبقُ له شبيهٌ (¬2) قبل وجودِه. والعلةُ والمعلولُ من باب المتضايفات (¬3)، فلا يثبتُ للمعنى حقيقةُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "معلولًا"، وهو غلط. (¬2) في الأصل:"سببه". (¬3) المتضايفات: عبارة عن ماهيتين تَعقُّلُ كلُّ واحدة منهما لا يتم إلا مع تَعَقل الأخرى، كالأبوة والبنوة، ونحو ذلك. "المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" ص 68.

علَّةٍ إلا بالمعلولِ، فكما أن المعلولَ لا بُد له من علَّةٍ، فلا بُدَّ للعلَّةِ من معلولٍ وفى استحقاقِ اسمِ العلَّةِ. وقولُ الفقهاءِ: إن علَّةَ الحكمِ مجعولةٌ، والعلَّةَ العقليَّةَ موجِبةٌ بنفسها لا بِجعْلِ جاعلٍ، كلامٌ فيه نوعٌ من السهوِ، فإن العلَّتين مجعولةٌ مفعولةٌ، وذلك أن الذي أوجدَ الحركةَ في المحلِّ هو الذي جعلَه متحركاً بها، والذي أوجدَ الحياةَ في المحل هو الذي جعلَه حياً بها، كما أن الذي وضعَ الشَدَّةَ، وجعلَها في المحلِّ، هو الذي جعلَه محرماً، وموجباً للحد بشُرْبِه بها ولأجلِها. فالعللُ كلُها مجعولةٌ، ومعلولاتُها مفعولةٌ في الحقيقة ومجعولةٌ، ولا شيءَ أوجدَ شيئاً، ولا جدَّدَه سوى اللهِ سبحانه. وبهذا (¬1) يتحقَّقُ التوحيدُ في الفعل والِإيجادِ، وإنما نضيفُ المعلولَ إلى العلَّةِ حكماً وذاتاً إضافةَ ما يكونُ عند الشيءِ لا عنه، خِلافاً لأهل الطَّبعِ والتَّوليد، القائلين بإضافةِ الخَلْقِ إلى الفاعلين. فأمَّا القدرةُ فليست بعلةٍ للفعل؛ لأنها مُصَحِّحَةٌ، فكانت إلى الشرطِ أقربَ منها إلى العلَّةِ الموجبة، والقدرُة لا توجبُ المقدورَ، بخلاف العلَّةِ التي توجبُ المعلولَ. فإن قيل: ليس يَتحقَقُ عندكم الفرقُ بين العلَّةِ والشرطِ والقدرةِ؛ إذ كان اللهُ سبحانه هو الموجِدَ للمقدورِ والمعلولِ والعلَّةِ والقدرةِ، وأصلكم على، هذا في الري والشِّبَعِ، وأنهما يوجَدان عَقيبَ الأكلِ والشربِ بفعل الله، لا عن الماءِ والطعامِ، ولا متولدين عنهما، وكذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولهذه".

العلمُ يحصلُ عَقيبَ النَظَرِ والاستدلالِ، فبِمَ تَفْصِلون بين العلَّةِ (¬1) والقدرة والشرطِ؟ وكلُّ حادثٍ إنما يحدثُ عن اللهِ سبحانه فِعْلاً وخَلْقاً عند هذه الأشياءِ، لا عنها ولا بها ولا عن تأثيرِها، وإنما يتحقَقُ الفرقُ على مذهب مَن جعلَ العلَّةَ موجبةً ومولِّدةً ومثمِرةً، وجعلَ الشَرطَ مهيئاً ومصحِّحاً، كالسكين صالحةٌ للقَطع متهيِّئةٌ له، لا موجبةٌ لحصولِه، فيقعُ حينئذٍ الفرقُ، فمن يجعلُها قدرةٌ يُخرجُها عن كونِها عِلَّةً (¬2)؛ لكونها مصحِّحةً لا موجبةً، ومن جعلَها علَّةً أخرجَها عن كونها قدرةً لكون العلَّةِ موجبةً. قيل: نَفْصِلُ بما أجراه اللهُ سبحانه من العادةِ، وأن المعلولَ يكونُ عَقيبَ العلَّةِ لا محالةَ، كتحرك الجسمِ عند وجودِ الحركةِ. والمشروطُ قد يوجدُ بوجودِ الشَرطِ وقد لا يوجدُ، والمقدورُ قد يوجدُ عند وجودِ القدرةِ المحدثةِ مصاحباً لها لا محالةَ -على قولِ من يَجعل الاستطاعةَ مع الفعلِ-، ويتأخر عنها لا محالةَ لا بزمانٍ ولا بما يتقدَّرُ بقَدْرِ الزمانِ، وهو مقدورٌ قَدَّرَه القديمُ جَلَّتْ عظمتُه. ونفصلُ الشرطَ عن العلَّةِ بأن الشرطَ في مطَرِدِ العادةِ مصحِّحٌ كحدِّ السكين للقطعِ، واعتمادُها عند هبوطِها على المَحَل بثِقَلِها هو العلَّةُ الموجِبة القطعَ. وفي عللِ الشرعِ: الزِّنا علة العقوبةِ، والإِحصانُ شرطُها، واللهُ ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) في الأصل: "فمن يجعلها علة يخرجها عن كونها قدرة".

- فصل في المدلول عليه

سبحانه الواضعُ حكمَ العلَّةِ والشَرطِ، ولم يمنعْ كوُنه هو القاضيَ بهما والحاكمَ باعتبارهما الفصلَ بينهما بما يصلحُ للفصلِ. وأصلُ العلَّةِ في اللغةِ مأخوذٌ من علَّةُ المريض، وهو تغبرُه عما كان عليه حيث كان صحيحاً، فالتغيُّرُ عن حال الصحةِ هو الأصلُ في اللغة، ونُقِلَ إلى التغيُّرِ الذي يوجبُ صحةَ معنى الحكم كائناً ما كان الحكمُ، إذا كان ما لو لم تُوجَدِ العلَّةُ لم يصحَّ، وكلُّ ما صحَّ أن يُوصَفَ بعد أن كان لا يصحُّ أن يوصفَ بها، فإنَّ ذلك لعلةٍ أوجبت ذلك له بعد أن لم يكنْ له. فصل والمدلولُ عليه على ضربين: معلولٍ، ومدلولٍ عليه غيرِ معلولٍ. بيانُ ذلك: أن الحركةَ إذا كانت فلا بُد لها من فاعلٍ، فهي دَلالةٌ عليه وهو مدلوُلها، والفاعلُ لها ليس بمعلولٍ لها من حيثُ فعلُها، بل مدلولٌ بها عليه، وهي دالَّةٌ إذا كانت على الأمرين جميعاً وإن كان أحدهما معلولًا والآخرُ ليس بمعلولٍ، وهي علَّةُ كونِ المتحرِّكِ متحرِّكاً، وكونُه متحرِّكاً معلولُها. فصل في إيجابِ الحكمِ بالعلَّةِ، وصحَّةِ معناه بها بعد أن كان لا يصحُّ وذلك أنه إذا وُجِدَتِ الحركةُ في المحل، صَحَّ معنى الحكم بأنه متحرِّكٌ بعد أن كان لا يصحُّ، إذ قبل أن توجدَ الحركةُ في المحل لا يصحُّ معنى الحكمِ بذلك، وليس بداخلٍ تحت التمكُنِ إن صحَّ

- إجراء العلة في المعلول

الحكمُ بأن المحل متحركٌ ولَمَا تُوجدِ الحركةُ، بل ذلك ممتنعٌ لاستحالتِه وتناقضِ القولِ فيه. وكلُّ علةٍ محدَثةٍ فالحكمُ بها معلول على الوجهِ الذي ذكرنا؛ لأنه لا علةَ محدَثةٌ إلا ويصح بها حكمٌ بعد أن كان لا يصحُّ، وليس كلُّ حكم فإنه لا يَصِحُّ إلا بعلَّةٍ؛ لأن الحكمَ بأن القديمَ لم يزلْ ليس بمحدَثٍ كائنٍ بعد أن لم يكنْ لم يصحَّ بعلةٍ؛ لأنه ليس مما يصحُّ بعد أن لم يكنْ يصحُّ. فأما الحكمُ بأن الجواهرَ مقدورةٌ فإنه مما يصحُّ بعلةٍ؛ لأنه لم يكنْ ظاهراً للنَفسِ صحتُه، فصارَ ظاهراً بعد أن لم يكنْ ظاهراً. والعلةُ في مثل هذا إنما هي دَلالةٌ بها يظهرُ صحَةُ معنى الحكمِ، فكلُّ ماظهرَ للنفسِ صحتُه بعدأن كان لا يظهرُ للنفسِ صحتُه، فلا بُدَّ له من علَّةٍ إذا كان مما يخطُرُ على البال، ويحضُر النفسَ فلا تَتبينُ صحتَه دون شيءٍ آخر. فصل في إجراءِ العلَّةِ في المعلولِ اعلم أن إجراءَ العلَّةِ في المعلول: هو الإيجابُ لكل معلولٍ بها، مثلُ ما وجبَ للواحدِ من المعلولِ بها، وعَبَّرَ عن ذلك آخرون بأن قالوا: يجبُ إذا حُكِمَ لشيءٍ أوعلى شيءٍ بحكمٍ من أجلِ علةٍ فيه أن يُحْكَمَ لكل ما فيه تلك العلَّةُ بمثل ذلك الحكمِ، وإن اختلفَتْ أحكامُهما وعللهُما من وجوهٍ أخَرَ؛ لأن اختلافَهما من حيثُ اختلفا لا يمنعُهما من الاتفاقِ في العلَّةِ التي لها ومن أجلها حُكِمَ لأحدِهما بذلك

الحكمِ، وذلك كرجلٍ نفى بقاءَ الحركةِ، فقيل له: لِمَ نَفَيْتَه عنها؟ فقال: لوجودِها، فهذا يلزمُه نفيُ البقاءِ عن الجسم؛ لأنه أيضاً موجود. فلو قال: الجسمُ يتحركُ، ويسكنُ وُيحِسُّ، والحركةُ لا يجوزُ شيءٌ من هذا عليها. قيل له: جميعُ ما ذكرتَ ووصفتَ به الجسمَ لا يمنعُ الوجودَ الذي عَللْتَ به في نفي البقاءِ، وإذا لم تَنْفِ الوجودَ -وهو علَّةُ عدم البقاءِ على ما ذكرتَ-، وجبَ أن لا ينتفيَ المعلولُ مع وجودِ علتِه لِماَ ذكرتَه من الأوصافِ التي اختصَّ بها الجسمُ. ويقال له: ولِمَ جعلتَ الأوصافَ التي ذكرتَها للجسم وفي الجسمِ مانعةً من المعلولِ؟ وهي مما لم تُزِلِ العلَّةَ ولم تُعِدمْها، وهي الوجودُ. ومثالٌ آخرُ لإِجراءِ العلَّةِ في المعلولِ: وهو أنَا متى علَّلنا كونَ القَارِ (¬1) أسودَ لقيام السوادِ به، وجبَ أن يكونَ ذلك جارياً في كلُّ محلٍّ فيه سوادٌ من سَبَج (¬2) وثوبٍ وحيوانٍ؛ إذ كانت العلةُ لا تخِلٌّ بمعلولها، كما أن المعلولَ لا يكونُ دون علتِه. وقد قيل: إن إجراءَ العلَّةِ في المعلول: الإِلحاقُ بالمذهب كلُّ ما يلزم عليه، وهذا لا يصحُّ؛ لأن هذا يُفضي إلى أن يَطَرِدَ المذهبُ لتصحَ العلةُ، وإنما تُؤخذُ المذاهبُ من العلل، فأمَّا أن تؤخَذ صحةُ العللِ من المذاهب فلا. ¬

_ (¬1) القار، أو القير، بالكسر: شيء أسود يطلى به السُّفُن والإبل، أو هما: الزفْت. "القاموس المحيط" (قير). (¬2) السَّبَج: الخَرَز الأسود. "اللسان" (سبج).

مثالُ ذلك من الفروع: أن يقولَ: النَبيذُ حرامٌ لأنه مسكرٌ، وكلُّ ما أسكرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ كالخمر، فيقال له: فالبَنْجُ (¬1) والأفْيُونُ (¬2) وهذه المُخدراتُ كثيرُها يُزيلُ العقلَ، وُيذهلُ إذهالَ السُّكرِ، فيقول: فأنا أطردُ المذهبَ فيها، فيصيرُ تقديرُ كلامِه: فأنا لا أنقضُ عِلَّتي، ولا أمنعُ إجراءَها في معلولاتها، ولذلك أصيرُ إلى القول بتحريمِ قليلِ البَنْجِ والأفْيونِ، فاطردُ المذهبَ لتَنْحرِسَ العلَّةُ، فهذا مما يقبحُ في علم الجدلِ حيث كان تصحيحاً للدَّليلِ بالمذهب، والمذاهبُ تؤخذُ من الأدلةِ، فأمَّا أن تؤخذَ الأدلةُ أو تُصحَّح من المذاهب فكلاَّ. وهذا يكثرُ من الفقهاء، اللهم إلا أن يكونَ المذهبُ علةً، مثلُ أن يكونَ المذهبُ: كلُ مسكرٍ حرامٌ، أو يكونَ صاحبُ المذهب وضعَ أن كلُّ ما أسكرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ، فلَعَمْري إنه إذا ما الزِمَ عليه المسكراتُ من الأدويةِ يقول: لا يلزمني، فإن المذهبَ خارجٌ مخْرَجَ التعليلِ، وموضوعٌ وضَعْ التعليلِ. فإن قال: أما الجسمُ فإنه باقٍ من طريق الضَرورةِ؛ فلذلك لم أقلْ بعدمِه، والأفْيُون وهذه الأدويةُ مباح استعمالُها بالإِجماع (¬3)، فكيف يمكنني أن أقولَ بتحريمها؟ فهذا عُذْرِي في نفي إجراءِ علتيَ في هذه؛ ¬

_ (¬1) البَنْج -من الهندية-: جنس نباتات طبية مخدرة من الفصيلة الباذنجانية، تستخدم المادة المستخرجة منه في التخدير والتنويم."المعجم الوسيط" (بنج). (¬2) الأفيُون: عصارة الخَشْخاش، تستعمل للتنويم والتخدير. "المعجم الوسيط" (أفيون). (¬3) على أنها أدوية تستخدم للتداوي فقط.

إذ ليس لي جَحْد الضرورةِ والإِجماعِ، لِما في ذلك من الفسادِ. قيل: لسنا نحن الآمرين لك بارتكاب الفسادِ، ولا ابتدأناك بذلك، وإنما أخبرناك بأن علَّتَك التي علَّلْتَ بهاَ في عدم بقاءِ الحركةِ وإنهاءِ الوجودِ كأنها آمرةٌ لك من طريق النطقِ بأن كلَّ موجودٍ لا يبقى، ولو تَصَوَّرْتَها ناطقةً لخاطَبَتْكَ به دوننا، فكأننا مع ثبوتِ هذه القاعدةِ نقول لك: إن علتك توجبُ عليك كذا وتأمرُك بكذا، فيجبُ أن تتمسَّك بطاعتِها حيثُ تمسكْتَ بها، أو اخترْ معصيَتها بتركِ التمسّكِ بها حيثُ بانَ لك فساد ما أدَّتْ بك إليه، ولولا أن الذي الزَمتك العلةُ التي تمسَّكتَ بها فاسدٌ، لَمَا كسرْتَ مذهبَك، ولو كان الباطلُ لا يلْزِمُ صاحبَه إلا صحيحاً، لم يكنْ بين الحقِّ والباطلِ فرقٌ. جوابٌ آخرُ: وهو أنه قد وجبَ عليكَ الحكمُ بفسادِها حيث أدتْ بك إلى جَحْدِ الضَّروراتِ وأوجبَتْ عليك ذلك، إذ لو كانت صحيحةً، لَمَا أوجبَتْ جحدَ الصحيحِ. ولو أن قائلًا قال: زيدٌ شجاعٌ لأنه أسود، وعمرٌو الأسود جبانٌ، بَطَلَ تعليله بالسوادِ وبانَ غَلطُه؛ حيث وُجِدَتْ علتة- وهي السَّواد- في محلٍّ لم توجِبْ له حكمَها، فإن أخذ يقول: وإنما لم يكن عمرٌو شجاعاً مع كونه أسودَ، لأنه ليس من قريشٍ. قيل: فقد بأنَ بهذا القولِ منك أنك أغفلتَ وصفاً في العلة لم تذكرْه، ولو أنك ذكرتَه أولًا، فقلتَ: زيدٌ شجاعٌ لكونه أسودَ من قريشٍ. لكان صحيحاً في صورةِ التَّعليلِ، وإن لم يكن السَّوادُ مؤثِّراً في الحقيقةِ، وإبداءُ كلِّ عُذرٍ نصبَه المعتلّ لتخصيص العلَّةِ كان هو

- ما يفسد التعليل

الموجِب عليه أن يجعلَه وصفاً لها، وبانَ تقصيرُه في التَعليلِ. مثال ذلك من الفقهيًاتِ: أن يقولَ في بَيْع ما لم يَرَه: مبيع مجهول الصفةِ عند العاقدِ حالَ العقدِ، فلم يصح بيعُه كما لو قال: بعتُك عبداً. فيقال له: علَّتك هذه موجودة في لُب الجَوْزِ واللَّوْزِ، وأساساتِ الحِيطانِ، وبواطنِ الصُبَرِ (¬1)، ولا توجبُ المعلولَ -وهو بُطلانُ البيعَ-، ولا تجري فيه. فيقول: ذلك يَشُق عِلمُه، ويفضي إلى إتلافِ الماليًةِ، فهذا وصف اعتذر به، وهو الذي أخلَّ به، ولو ذكرَه لجرَتِ العلةُ في معلولها، فقد بانَ إخلالُه وتقصيرُه، فقد وجبَ عليك إدخالُ هذا الوصفِ في تعليلك. فصل ومما يُفسدُ التعليلَ ضمُّ وصفٍ إلى العلَّةِ ليس من العلَّة في شيء وذلك مثل قولِ القائلِ: إنما كان الجسمُ متحرِّكاً من أجل أنه مُؤلَّف ومن أجل أن فيه حركةً، فهذا الاعتلالُ فاسد، والذي يدل على فسادِه: أنا نجدُ مؤلفاً ليس بمتحرِّكٍ، ولا نجدُ ما فيه الحركةُ إلا متحرِّكاً، وهذا يوجبُ أن كونَ الجسمِ مؤلفاً لم يوجبْ له التحرُّكَ، وإنما أوجبَ له التحركَ كونُ الحركةِ فيه لا غيرُ. ¬

_ (¬1) جمع صُبْرَة: وهي ما جُمع من الطعام بلا كَيْل ولا وَزْن بعضه فوق بعض، ويقال: اشتريت الشيء صُبْرَةً: أي بلا وزن ولا كيل. "اللسان" (صبر).

ومما يدلُّ على فساده أيضاً: أنَا نجدُ الجسمَ موصوفاً بجميع صفاتِه وأفعالِه إلا الحركةَ، فلا شيءَ من أوصافِه أوجبَ له التحركَ إذاً، ولا نجدُ الحركةَ فيه إلا وهو متحركٌ. ومما يوضحُه أيضاً: أنًا نجدُ ضدً الحركةِ -وهو السكونُ- مع التأليفِ، ولا نجدُ السكونَ مع قيامِ الحركةِ به. ولو كان كوُنه متحركاً إنما كان معلولًا بأمرين: قيام الحركةِ والتَّأليفِ، لوجبَ أن لا يزولَ المعلولُ إلا بزوالِ الأمرين؛ لأنَ الحكمَ إذا لم يَقَعْ إلا بأمرين، لم يرتفعْ إلا بارتفاعِهما، فلما وجَدْنا أن تحركَه يزولُ بزوالِ الحركةِ فقط، علمنا أنه إنما وُجِدَ بوجودها فقط. ثم يقال لمن اعتل بمثل هذا الاعتلالِ: لِمَ اقتصرتَ على هاتين العلًتين دون أن تُضيفَ إليهما ثالثةً؛ فتاقولَ: إنما تحركَ الجسمُ لوجودِه، وتاليفهِ، وقيام الحركةِ به؟ فلا جوابَ له إلا وهَو المفسدُ لتعليله بالتأليفِ؛ لأن غايةَ ما يقولُ: إنما لم اعتَل بالوجودِ لأنه لا أثرَ للوجودِ في إثباتِ التحركِ، فكم موجودٍ لا يتحركُ، ولا شيءَ تقومُ به الحركةُ إلا وهو متحرَّكٌ. فيقال له: فكذلك التأليفُ قد ثبتَ لجسمٍ لا يتحركُ، ولا جسمَ يتحركُ إلا وفيه حركة، فصار ذكرُ التأليفِ خِلْواً من تأثيرِ المعلولِ كالوجود سواءً، هذا الذي يُسميه الفقهاءُ: عَدَم التأثيرِ والحَشْوَ. فإن قال قائل: أليس (¬1) إذا لم يوجدِ التحركُ عند التأليفِ، ووُجِدَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ليس".

عند قيامِ الحركةِ في الجسم، مما يدلُ على أن التأليفَ ليس بعلَّةٍ؟ وإلا فخَبِّرونا عن قولِكم في سفينةٍ وضعنا فيها كُرَّاً (¬1) فلم تَغرقْ، فوُضِعَ فيها قَفِيزٌ (¬2) فغَرِقَتْ، أليس إنما غَرَّقَها الجميعُ وقد كان بعضُه فيها قبل الغرقِ؟ وهذا يدلُّ على أن الشيءَ يَحدثُ لعلَّتين، فإذا وُجِدَتْ إحداهما لم يَحدثْ. قيل: الجوابُ عن هذا من وجهين: ومتى رفعْناه وفرَّفنا بينه وبين جملتِه، جازَ لنا أن نقولَ: هو هذا، وكذا إذا قلت: الدَّراهمُ تزيدُ درهماً على عشرين، لم يكن ذلك الدِّرهمُ معلوماً بعينه إلا أن نُقَدِّرَه زائداً، فإن عدَدْتَها واستوفَيْتَ عددَها الأوَّلَ، فكان الذي يبقى هو الزائدَ، ولو كان غيرُه هو الباقيَ كان أيضاً هو الزائدَ، ولا يجوزُ من أجلِ هذا أن نقولَ: الدَّراهمُ يزيدُ عددَها درهمٌ، ولو ساغَ هذا لكانت كلُّها زائدةً على عددِها نفسِه؛ لأن كلَّ واحدٍ منها يجوزُ أن يَحُلَّ هذا المَحَلَّ، فكذا لا يقالُ في الأرطال (¬3): رطلان مغرِقان (¬4)، لأن التغريقَ قد يقعُ على رِطْلين واحدٍ بعد واحدٍ؛ لأن التقديرَ الأوَّلَ إذا نَقَصَ كانت الشريطةُ في نَقْصِه أن لا يُتكلَّمَ على أنه كان وقَع؛ لأن نقصَه إبطالُه الْبَتَةَ، وأنت تُقَدِّرُ الرَّطلَ الأخيرَ إذا جعلتَه ¬

_ (¬1) الكُرُّ -بالضم والتشديد: مكيال لأهل العر اق، وهو ستون قفيز "اللسان" (كرز). (¬2) هو أيضاً مكيال معروف، يساوي ثمانية مكاكيك عند أهل العراق، والمكوك صاع ونصف، وجمعه: أقْفِزَة وقُفْزان. "اللسان": (قفز) و (كرر). (¬3) الرَّطْل -بفتح الراء وكسرها-: معيار يوزن به، وهو ثنتا عشرة أُوقِية، والأوقية أربعَون درهماً، فذلك أربع مئة ؤثمانون درهماً. "اللسان" (رطل). (¬4) في الأصل: "معروفان".

زائداً مبتدأً لم يَسبقِ التقديرُ إلى غيره، وإلا فلا نقصَ، وإنما الْتَفَتَ إلى الأول تقديراً آخرَ. فإن قال: أفيَخرج تقدير إيَّاه من علمي، وإن قَدرت الآخرَ هذا التقدير؟ قلنا: لا، ولكن في علمك أنك قد نقصْتَ تقديرَه، وقد كان فيه أولًا أنه هو المعروف عندك ما كنتَ مقدِّراً له زائداً. فإذا أزلتَ هذا التقديرَ لم يكَنْ كذلك، وذلك أنك لم تعلمْ علمَ حقيقةٍ أنه المغرِق دون غيرِه، وإنما علمتَ أن الزائدَ على ما تحتمله هو المغرِق لها، ولم تعلمْه عِياناً، فجعلتَ الزائدَ المعلومَ لا عِياناً معلوماً عَيْناً بالتقديرِ دون الحقيقة، وإنما كان هذا لأن فيها واحداً زائداً، وإن لم يكنْ معروفاً بعَيْنِه، وحقيقة هذا عند الله أيضاً هكذا؛ لأنه ليس في الأرطال (¬1) واحدٌ هو أوْلى بهذا النَّعتِ من غيره إلا بالتَّقديرِ، وما كان مثلَ هذا على هذا المنهاجِ يجر ي الكلامُ فيه، فافْصِلْ بينه وبين غيرِه مما لا يَصلُحُ فيه التقدير بأن فيه واحداً معلوماً أنه زائدٌ لا عِيانا، فإنه مستوي الأحوالِ، فليس بمبيَّن منه شيءٌ من شيءٍ، وفحالٌ أن يكونَ كله زائداً، وكلُّه لا زائداً؛ لأن في هذا إبطالَ الحسِّ. والرِّيُّ والشَبَع، والتُخَمَة، والسَّير بالدَّابَّةِ الفراسخ الكثيرةَ، والسكر بالقَدَحِ والأقداحِ، يجاب في جميعِه بهذين الجوابين، والجوابُ الأولُ أقلُّ مؤنَةً من الثاني. ¬

_ (¬1) كتبت في الأصل:"الأبطال إلا".

فإن قال قائلٌ: فهذا الِإمامُ يستحِقُّ الِإمامةَ والكمالَ، ومتى زال عن الكمال جزءٌ (¬1) يختلفُ فيه سائره، لم يكن مستحِقاً للاسم. قلنا له: الإِمامةُ: اجتماعُ السياسة، واسمُها واقعٌ عليه، والقولُ فيه كالقولِ في العشرةِ، واسمُها واحدٌ إلا أنَ لأبعاض العشرةِ أسماءً تخصها، وليس لعبارة الإِمامةِ بعض تقعُ عليه التسميةُ، فيقال: كما لم يَجُزْ تفصيلُ كثيرٍ مما تكلموا عليه مجمَلًا، فمتى فاتَتْه خلَّةٌ من الكمال، خرجَ بفَوْتِ تلك الخَلةِ من استحقاق ما توجبه دون غيرها، فإن كانت تلك الخَلَةُ (¬2) العلمَ بتدبير الحروبِ، خرجَ من استحقاق ولايةِ الحَرْب، وكان مستحِقاً للقضاءِ لمعرفته به، وعلى هذا كلَّما انحطَتْ رُتْبَةٌ (¬3) بقيَ على ما دونَها، مثلُ أن يكونَ مقصِّراً في العلم والاجتهادِ وبقيَ على العَدالَة، بقيَتْ عليه رتبةُ الشَهادةِ، وعلى هذا المثالِ في سائر الخِلالِ. فإن قال: أليس لا يُوَلى القضاءَ إِلا العالمُ الوَرِعُ؟ قلنا: بلى. فإن قال: أفليس قد يكون في الناس وَرِعٌ ليس بعالمٍ، وعالمٌ ليس بورعٍ؟ قلنا: بلى. ¬

_ (¬1) أشير في هامش الأصل إلى أن في نسخة أخرى: "حيز". (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "الجملة". (¬3) في الأصل: "رتبته".

قال: فهذا ما أنكَرْتُم بعينه من ارتفاع المستحَقِّ بالشيئين بارتفاع أحدِهما. قلنا: ليس يستحِق أحد على الِإمام أن يُوليَه القضاءَ، وإنما يجبُ عليه أن يُوليَ من يجمعُ العلمَ والورعَ إذا احتاج إليه وعَرفَ مقدارَه وموضعَه، وليس هذا من جنس العللِ الموجباتِ في شيءٍ؛ لأنه قد يكونُ لنا عالمٌ وَرِعٌ ولا يجبُ على الإِمام أن يُولِّيَه إذا سد مسده غيرُه. فإن قال: فالحاجةُ إليه إحدى العللِ. قلنا له: فقد يُمكِنُ في القدرة أن تكونَ الحاجةُ إليه قائمةً والإيجاب مرتفعاً، ولو كان هذا من باب الِإيجاب الذي نحن فيه للَزِمَ، وليس هذا من بابنا. يُوضَحُ الفرقَ بينهما: أنه لا يجتمعُ عند صاحب العلَّتين التأليفِ والحركةِ في جسمٍ إلا كان متحرِّكاً، وقد يجتمعُ العلمُ والورعُ والحاجةُ لِإيجاب التَوليةِ غيرُ واقعة (¬1)، وإنما نحن في بابِ ما لكونه يكونُ الشيءُ لا مَحالةَ، ويستحيلُ مفارقتُه له، ولسنا في بابِ ما عند كونه يختارُ المختار والفعلَ لصوابِه في التَأَنِّي والعلمِ إن شاء، وإن شاء أبى أن يختارَ، وإنما قال للناس: فلانٌ مستحِق للقضاء، على معنى أن فيه ما يَحتاج إليه القاضي، وإنما يكونُ في حدِّ من يصلحُ له بالعلم دون غيره، فاذا كان الورعُ مفرَداً من العلم، فليس صاحبُه المتكلَّمَ عليه. فإن سألَ عن الشاهديْنِ، فأمرُ الشاهدَيْنِ تعبد، ولو خَليْنا والعقلَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "واقع".

كان الواحدُ والاثنانِ سواءً في أنهما غيرُ موجِبيَنِ للعلم، فكانت الطُّمأنينةُ تقعُ مع قولِ (¬1) الواحدِ كما تقعُ مع قولِ الاثنينِ، وقَدَّرَ اللهُ شهادةَ الاثنين في بعضِ المواضعِ، وهذا يدلّ على أن أمرهما تعبدٌ. ومما يَدُل على أن ما يجبُ للعلتين لا يرتفعُ إلا بارتفاعِهما: أنه إذا ارتفِعَ فإنما يرتفعُ إلى ضده من وجودٍ أو عدم أو هيئةٍ، ومتى كان محتاجاً إلى علتين، كان ضده أيضاً محتاجاً إلى علَّتين، ومتى كانت المضادَّةُ واقعةً بينهما، كانت أيضاً واقعةً بين عللهِما؛ لأن العللَ لو اجتمعَتْ لوقعتِ المعلولاتُ، وإذا كان هذا هكذا؛ لم يَجُزْ وقوعُ ضدِّه وإحدى علتَيْهِ موجودةٌ، ولو جازَ ارتفاعُه بارتفاعِ إحدى علَّتيه، جاز وجودُه بوجودِهما، ولو جازَ هذا لم يَكُنْ بين ما يقعُ لعلتيْنِ وبين ما يقعُ لعلةٍ واحدة فصلٌ. فإن سأل سائلٌ في هذا الباب عن ساجَةٍ (¬2) لا ترتفعُ عن الأرض إلا برَجُليْنِ، فقال: حدثْنا إذا رامَ أحدُهما رفعَها فلم تَرتَفعْ، ثم جاءَ الثاني فارتفعت، أليس الرفعُ حينئذٍ للثاني وحدَه، كما أن التفريقَ للقَفيزِ الزائدِ وحدَه؟ وقَرَّرُوا الإِلزامَ بأن الرفعَ اعتمادٌ كما أن العومَ في الماء اعتمادٌ، وليس بينهما فرْق قادحٌ إلا أن أحدَهما إلى فوقَ والآخرَ إلى أسفلَ. يقالُ له: الفرقُ بينه وبين أثرِه في السَّفينةِ: أن الكُرَّ كان في السفينةِ وهي سليمةٌ سالمةٌ من الغرقِ، فلما جاءَ القَفيز غَرِقَتْ، فعُلِمَ ¬

_ (¬1) في الأصل:"القول". (¬2) هي الواحدة من السَّاج، وهو خشب يجلب من الهند. "اللسان" (سوج).

- مسائل تشتبه في هذا الباب ويكثر التخليط فيها بين الفقهاء

بهذا أن الكُرَّ فيها ليس بعلَّةٍ لغرقِها، وأن كونَ القَفيزِ فيها وهي حاملةٌ للكُرِّ هو المغرِقُ لها، كما أن الضَربةَ الخفيفةَ هي علةُ الألم إذا كان البَدَنُ عليلاً أو بدَنَ طفلٍ في المهْد، ولو كان صحيحاً كبيراً لَم تُؤلِمْه ولا مثلُها، وإحدُ الحَمْلَيْن لم يكنْ موجوداً قَط في حال عدم ارتفاع السَّاجَةِ، فيكونُ الحَمْلُ الثاني هو الذي به ارتفَعَتْ، وليسَ يوجدُ أحدُهما إن كان علَّةً له دونَ الآخَرِ، فمتى وُجِدا وُجِدَ، وإن عُدِما عُدِمَ، وليس يوجدُ (¬1) مع وجودِ أحدِهما، ولكنْ بوجودِهما، وبمثلِ هذا يُفْرَقُ بينه وبين (¬2) الرِّيِّ والشِّبَعِ والتُخَمَةِ والسُّكرِ. فإن سألت المعتزلة عن الإِيمان فقالت: هو يَثبتُ بأشياءَ يزولُ بزوالِ بعضِها. فليس هذا هو عندنا نحن هكذا، نحن نقول: إنه لا يزولُ الِإيمان بمخالفةِ شيءٍ من الأوامرِ ولا بارتكاب مَنْهِيٍّ من المناهي على الصحيح عندي من المذاهب، بل يكونُ مؤمناً بإيمانه، وهو المعنى الذي أَشَرْتُ إليه وهو التَصديقُ ناقصٌ الشُّعَبَ بما ارتكبَ من منهيٍّ أو خالفَ من أمرٍ، ولا يُوجَدُ إلا بوجوده، وكذلك البِرُّ والتَقْوى، فأما العدالةُ فإنها خارجةٌ لكونها تسميةً لمجموعٍ، فهي كاسم العَشَرَةِ وكلِّ جملةٍ من جمل الأعدادِ، فلا عدالَة مع وجود كبيرةٍ، وإن كثُرَتِ الطاعاتُ وحصلَ اجتنابُ المنهياتِ سوى تلك الكبيرةِ، والله أعلمُ. فصل في مسائلَ تشتبهُ في هذا الباب، ويَكثرُ التخليطُ فيها بين الفقهاءِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يعدم". (¬2) في الأصل: "بين".

وهو ما يُبنى بعضُه على بعض من الأفعال، وما لا يُبنى عليه، بل يُلغى وُيجعلُ الحكمُ لغيره، وذلك يُشكِلُ بما ذكرناه من إشكال ما هو العِلَّةُ مما ليس هو العِلَّةَ، مثل ضعفِ كِبَبر أو مرض أو طفولةٍ، توجدُ معه جِراحة أو ضرب من جهة آدمي، وجراحبه يتعقّبُها سِرايةٌ بمرض لا يُزايلُه منذ الجراحةِ حتى يموتَ، فلا يُعلَّقُ على فعلِ اللهِ سبحانه الموجودِ قبل الجراحةِ من ضعف الطفولةِ والكِبَرِ والمرضِ، وفعلِه الموجودِ بعد الجراحة، سيَّما على قول أهل السنةِ وأنه ليس بمتولّدٍ عن الجراحةِ، فلا يُجعلُ لفعل الله سبحانه حظ من إسقاطٍ عن الجاني كما لو كان شريكُه آدمياً، بل يجعلُ كأنه انفردَ بالقتل، وتُغلَّظُ جنايتُه في المَحَلِّ الضعيف بالصِّغَرِ والكبَرِ والمرضِ، حتى إن الضربةَ التي لا يتعلَّقُ بها القَوَدُ على الضارب للكبير المشتَدِّ والصحيح (¬1) يتعلقُ بها القَوَدُ على الضارب للطفلِ الصغير والشيخِ الكبيرِ والمريض المدنَفِ (¬2)؛ إذ كانت قتلاً لمثله في مطردِ العُرْفِ، ولم يقل: إن فعلَ الله أعانَ على قتلِه، فيصيرُ شبهة في القتل؛ إذ تَرَددَ زهوقُ النفسِ بين ما يُوجبُ بانفراده -وهو فعلُ الاَدميِّ -وبين ما لا يُوجِبُ- وهو فعلُ الله سبحانه-، ونقطعُ على أن فعلَ الآدميِّ لم يَتحققْ مزهِقاً، بل الضعفُ المستولي على النفسِ بالمرضِ والكِبَر والطُّفولةِ كان مساعداً أكبرَ مساعدةٍ. وذهب قوم إلى أن الضربَ بالعصا وإن كَثرَ عددُه لا يوجب القَوَدَ، وهذا نحوُ ما نحن فيه؛ لأنهم اعتَلوا بأن الضربةَ التي مات عَقِيبَها هي ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا". (¬2) رجل مدنف: براه المرض حتى أَشْفى على الموت. "اللسان" (دنف).

التي أزهقَتْ، فإن النفس استقلَّتْ بالبقاءِ مع ما سبقَ من الجَلَداتِ والضرَباتِ السابقةِ وإن كَثُرَتْ، وما وجدناها زَهَقَتْ إلا عَقِيبَ الجَلْدةِ الأخيرةِ وهي مما لا يوجبُ القَوَدَ، وصار ما سبقَ -وإن أعقبَ ألماً وايجاعاً- بمثابة المرضِ والكِبَرِ عندهم؛ فإنه لا يوجبُ القَوَدَ أيضاً، وذاك بمثابته، وطردوا البابَ في كلُّ شيءٍ يقتلُ بثِقَلِه. وزعموا أن القياسَ في اشتراكِ الجماعةِ في إزهاق النفسِ بالجراحِ كذلك، وأنه لا يُبنى ولا يجبُ القوَدُ، وإنما صاروا فيه إلى قضيَّةِ عمرَ، وقولِه: لو تمالأَ عليه أهلُ صنعاءَ لأقَدْتُهم به (¬1). وقالوا أيضاً في السكْرِ الحاصلِ عقيبَ القَدَحِ العاشر: إنه هو المسكِرُ. واتفقوا على أن الجارحَ جراحةً لا تبقى النفسُ بعدها في مطَّردِ العادةِ يفرَد بإيجاب القَوَدِ وإن شاركَه غيرُه بجراحةٍ قد يعيش معها في مطَّردِ العادةِ. والمحقِّقون ممن خالفَ أهلَ الرًاي في مسألة الأقداحِ يقولون: إن السكرَ الحادثَ عند القَدَحِ العاشر ليس به ولا لأجلِه خاصَّةً، بل تكاملَ السكرُ بالعاشر، وتَناشَأ بقَدَحٍ بعد قَدَحٍ، كما يتناشأُ الشِّبَعُ بلُقمةٍ بعد لُقمةٍ، ويتناشأُ الرِّيُّ بجرعةٍ بعد جُرعةٍ، ويتناشأُ الجَبْر في ¬

_ (¬1) رواه مالك 2/ 871، والشافعي 2/ 100 - 101، وعبد الرازق (18073) و (18074) و (18075) و (18076) و (18077) و (18079)، وابن أبي شيبة 9/ 347 و 347 - 348، والبخاري (6896)، والدارقطني 3/ 202، والبيهقي 8/ 40 - 41.

العُضْوِ المكسورِ أو المُوتَهنِ (¬1) بشدةٍ بعد شدَةٍ، ويتناشأ الغَضَبُ بكَلِمةٍ بعد كَلمةٍ، ويمتلىء الإِناءُ بَقطرةٍ بعد قطرةٍ، ويذوبُ الجسمانِ باحتكاكٍ بعد احتكاكٍ، ويحصلُ اليقينُ بتناصر دليلٍ بعد دليلٍ، ويحصلُ العلم القَطْعيُّ الضروريُّ بإخبارِ واحدٍ بعد واحد إلى حين تكاملَ العددِ. وُيبيِّنُ ذلك: أنه لا يَحسُنُ لمن شرب جَرَّةَ ماءٍ على ظَمَأٍ جُرعةً فجُرعةً أن يقولَ: أَرْوَتْني الجُرعةُ. وإن حصل الري عندها -أَعني الأخيرةَ- وَيحْسُنُ أن يقولَ: أرْوَتْني الجرَّةُ. ولا يَحسُنُ أيضاً أن يقولَ: أذابت سيفي هذه الضَّربةُ، ولا ملأت سقائي هذه المَذْقةُ (¬2). وَيحسُنُ أن يقال: غَرَّقَ السفينةَ هذا القفيزُ أو هذا السَّنْدانُ (¬3). ¬

_ (¬1) أي المصاب بَوهْن، وهو الضعف في العظم. وقوله: "الموتهن" جاء به على سنن بعض أهل الحجاز؛ فإنهم لا يبدلون فاء الافتعال إن كانت واواً أو ياء أصلية تاء ويدغمونها في تاء الافتعال، ولا يلتفتون أيضاً إلى تخالف أبنية الفعل ياء وواواً، فيقولون في نحو: وعدو يسر: ايتَعَدَ وايتَسَرَ، وفي المضارع: يا تَعِد وياتَسِرُ -ولا يقولون: يَوْتَعِدُ ويَيْتَسِرُ؛ استثقالاً للواو والياء بين الياء المفتوحة والفتحة-، وفى اسم الفاعل: موتَعِدٌ ومُوتَسِرٌ، وفي الأمر ايتَعِدْ وايتَسِر. والجادة في هذا ونظائره إبدال فاء الافتعال إن كانت واواً أو ياء أصلية تاء مدغمة فى تاء الافتعال، فيقال في نحو وهن ووعد ويسر: اتهَنَ واتَعَدَ واتَسَرَ، وفي المضارع: يَتَّهِنِ ويَتَعِدُ ويَتَّسِرُ، وفي اسم الفاعل: مُتَهِن ومتَعِدٌ ومتَسِرٌ، وفي الأمر اتَهِن واتَعِد واتَّسِر انظر "شرح الشافية" 3/ 80 - 83. (¬2) المَذِيقُ: اللبن الممزوج بالماء، والمَذْقَة: الطائفة منه. "اللسان" (مذق). (¬3) السَّنْدان: هو ما يَطُرقُ الحدَّاد عليه الحديد. "المعجم الوسيط" (سند).

وقد سمعْتُ في إشكالِ السفينةِ سؤالًا من محقِّقٍ، فقال: إن الغرقَ يتناشأُ كهذه الأشياءِ، إلا أن الشِّبَعَ والرِّيَّ والسكرَ نوعُ امتلاءٍ تَتحددُ عنده هذه الخصيصةُ، والامتلاءُ لا يتحصَّلُ إلا باجزاء الجسمِ المالىءِ للوعاءِ، كما أن الغَرقَ حقيقتُه عومُ السفينةِ في الماء إلى الحَدِّ الذي يغمُرُها، ولا يَغمرُ سائرَها إلا بعد أن يستوليَ على شيءٍ فشيءٍ من ذاتها إلى أن يَستُرَها وَيغمُرَها، ولا تزالُ عند طَرْحِ قفيزٍ قفيزٍ تعوم، فيسترُ الماءُ جزءاً منها إلى أن يبقى يسيرٌ من ذاتِها مكشوفاً، فإذا طُرِحَ القفيزُ غَمَرَها الماء لعومِ ما بَقِيَ من أجزائها في ذلك الماءِ. فقال له محقِّقٌ: إن عومَ أجزائها مع تمكُنِها من السَّيرِ بما فيها لا يُسمَّى غرقاً، ولا يُسمَّى بعضَ الغرقِ، وُيسمى المنتشِي بالخمر والساكن النَفْس بالتَمَراتِ واللقَمِ شبعاناً بعضَ الشَبَعِ وسكراناً بعضَ السكر؛ ولهذا فسَّروا قولَه [تعالى]: {لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وانْتُم سُكارَى حَتَى تَعْلَموا ما تَقُولُون} [النساء: 43] بالمخلِّطِ في كلامه بمبادِىء سُكرِه؛ لأن الخِطابَ لمن تحقَّقَ زوالُ عقلِه لا يَتحقَّقُ، فلم يَبْقَ إلا سكراناً بقيَ عليه مسْكَةٌ من عقلِه يبقى معها التكليف والخطابُ (¬1). ولو كان العومُ مع السَّيرِ وحصولِ الغرضِ باستقلال السفينةِ غرقاً أو بعضَ غرق، لسُمِّيَ السابحُ: غَرِقاً؛ لانستار بعضِ جسدهِ بالماء، وهذا لا يجوزُ في كلِّ اسم وقَعَ على جُمْلةٍ وُضِعَ لها، إذا كانت الجملة لا تتبعَّضُ، بخلاف الجُمَلِ من الأعداد كعشَرَةٍ ومِئَةٍ، يقال في الخمسة: نصفها، وفي الثلاثة: بعضُها، ولا يقالُ في السفينة العائم ¬

_ (¬1) انظر ما سبق للمصنف إيراده في مسألة تكليف السكران في الصفحة (51).

- فصل فيما يمكن نقله من العلل إلى الكل ويلزم، وما يمكن نقله إلى كل على صفة دون الكل على الإطلاق

بعضُها في الماء الثقيلةِ بوِقْرِها: غريقةً بعضَ الغرقِ، بل لا يقعُ اسمُ الغرقِ إلا على غَمْرِ الماء وعبورِه عليها. فهذه جملة تكشفُ لك عن دقائقِ أغراضِ العلماءِ، ويَمنعُ فهمُك لها من أن يخدَعك خادعٌ في هذا النوعِ بزَخْرفةِ كلامٍ فارغٍ، فيَخلِطَ عليك الشيءَ بما ليس فيه، مثل أن يُوهِمَك ماليس بعلةٍ علَّةً، أو ينفيَ التَعليلَ في موضعِه، أو يجعلَ وصْفاً لعلًةٍ علَّةً، أو شَرْطاً لعلةٍ علَّةً، أو يُعلِّلَ بأوصافٍ ويَخلِطَها بحشوٍ. فصل فيما يُمكنُ نقلُه من العللِ إلى الكُلً ويلزمُ، وما يمكنُ نقلُه إلى كُلٍّ على صفةٍ دون الكلِّ على الإِطلاقِ فنقلُ العلَّةِ إلى الكليَّةِ: هوجعلُ العلَّةِ عامةً بكلَ، ثم بناءُ ما وجبَ بهاعليها. مثالُ ذلك قولُك: إنما وجبَ متحرِّكٌ لحركةٍ موجودةٍ، فكل حركةٍ موجودةٍ فواجب بها متحرِّكٌ. ولو قال: إنما وجبَ متحركٌ لأجلِ الحركةِ، للَزِمَ منه: وكل حركةٍ واجب بها متحرِّكٌ. فإن قال: هذا المحَلُّ متحرَك؛ لأن فيه حركةً. لَزِمَ منه إذا نُقِلَتْ إلى الكليَّةِ: فكلُّ ما فيه حركةٌ فهو متحرِّكٌ. ومن الفقهيَّاتِ: محرَّمٌ لأن فيه شِدَّةً مطرِبةً، فكل ما فيه شِدَةٌ مطربةٌ فهو محرَّمٌ. مثالٌ آخرُ: فإن قال: البناءُ لا بُدَّ له من صانعٍ؛ لأنه مصنوعٌ، لَزِمَ

منه: كلُّ مصمنوعٍ لابُدَّ له من صانعٍ. فإن قال: هذه الكتابة لا تكون إلا من عالمٍ بها؛ لأنها محكمَةٌ متقَنةٌ، لزمَ منه: فكل محكمٍ متقَنٍ لا يكونُ إلا من عالمٍ. فأمَّا المنقولة إلى كلُّ مخصوصٍ لكونها خاصَّةً: قول القائل: هذا الحمار فارِةٌ (¬1)؛ لأنه جرى عَشَرَةَ فراسخَ، لَزِمَ منه: أن كلُّ حمارٍ جرى عشرَة فراسخَ فهو فارهٌ، ولا يلزمُ منه أن البعيرَ إذا جرى عشرةَ فراسخَ، أو الفرسَ إذا جرى عشرةَ فراسخَ فهو فارِهٌ. بل لو قال: بَهيمَةٌ جرى، أو هذا البهيمةُ جرى عشرةَ فراسخَ فهو فارِه. لزمَ أن كلَّ فرسٍ وبعيرٍ جرى عشرةَ فراسخَ فهو فارِةٌ. وفي الفروعيَّاتِ: لو قال: هذا الماء متغيِّرٌ فلا يجوزُ الوضؤُ به، لزمَ منه: أنه لا يجوز الوضؤ بالمتغيِّرِ بالطحْلُب (¬2) والتراب. ولو قال: هذا الماءُ متغيِّرٌ بالخَلِّ فليس بطَهورٍ. لزمَ منهَ أن يكونَ كلُّ ما تغيَّرَ بالخَلِّ فليسر، بطَهورٍ، ولا يلزم منه (¬3): الماءُ المتغيِّرُ بالتراب ليس بطهورٍ. وعلى ذلك أبداً لوجوبِ إجراء العِلَّةِ في معلولِها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الفاره: هو النشيط الحاد القوي. "اللسان" (فره). (¬2) الطحلب: شيء لزج أخضريخلق في الماء ويعلوه."المصباخ المنير" (طحلب). (¬3) في الأصل: "فيه"، والأنسب ما كتبناه.

- فصل في تحقيق تحديد العلل، وبيان الغلط فيه، والخروج عنه إلى التغيير لها

فصل في تحقيقِ تحديدِ العللِ، وبيانِ الغَلَطِ فيه، والخروجِ عنه إلى التَّغييرِ لها ذكرته ليُجتنبَ، كما ذكرتُ التحديدَ الصحيحَ ليُتَّبَع. فنبدأَ بالصحيحِ: فمن ذلك: أن نقولَ: الِإنسانُ حَيٌّ لأجلِ الحياةِ الموجودةِ له. فهذا تحديدٌ صحيحٌ؛ لأن كلَّ حياةٍ موجودةٍ لشيءٍ فهو حيٌّ بها، وهي سليمةٌ من التَّغييرِ لها والتَغييرِ عنها. فأمَّا المنكسرةُ (¬1) من العللِ: فهو أن نقولَ: الإِنسانُ حيٌّ لأجلِ الحياةِ الموجودةِ، فليس هذه محدِّدةٌ، بل منكسرةٌ، لأنه يلزمُ من هذا: كلُّ حياةٍ موجودةٍ فهو حي بها. وليس هذا صحيحاً؛ إذ حياةُ الحمارِ والفرسِ موجودةٌ، وليس الإِنسانُ حياً بها. ومن العللِ غيرِ المحدِّدةِ أن نقول: هذا الإِنسانُ حَيٌّ لقيام الدَّلالةِ أن فيه حياةً. فهذا أيضاً غيرُ محددٍ؛ لأجل أنه لو لم تَقُم الدَّلالةُ، لم يُخرِجْه ذلك من أن يكون حياً. فإن قال: إنه حيٌّ لأجل أنه علِمَ أن له حياةً موجودةً. كانت غيرَ محدِّدةٍ؛ لأنه لو لم يُعلَمْ ذلك، لم يُخرِجْه عما هو به من كونِه حياً، فذِكرُ العلمِ زيادةٌ لو أُسقِطَت لصحَّت. فإن قال: هو حيٌّ لوجودِ عَرَضٍ يُضادُّ الموتَ. لم تكن محدِّدةً، ¬

_ (¬1) الكسر: نقض على المعنى دون اللفظ، ويرجع إمَّا إلى منع صحة العلة، أو إلى معارضتها بما يفسدها. "علم الجذل في علم الجدل" ص 66 - 67.

- الفرق بين الدلالة والعلة

لأنه لم يُصرِّح بذكرِ الحياةِ، ولا ذكرها له، فلم يأتِ بها على الوجهِ الذي يقتضي الحكمَ بأنه حيٌ وهو الحياةُ. وقد يَضعفُ نَظَر الخصمِ فيُدخِلُ في العلَّةِ شيئاً كثيراً ليس منها، فَتَفَقَّدْ ذلك وتأمله جيداً؛ لتُحَقِّقَها إن أردْتَ الإِلزامَ عليها على النحو الذي ذكرت لك. ومثالُه من الفقهيات: الخمرُ حرامٌ لأجلِ الشِّدَّةِ الموجودةِ. ليس بتحديدٍ؛ لِمَا بَينَا في مثال الحياةِ. فإذا قال: هذا العصير حرامٌ لأجل الشِّدَّةِ الموجودةِ له. فقد حَدَّدَ، وعلى ما قدمْنا فأقمِ الشَدَّة مَقامَ الحياةِ. فصل في الفرقِ بين الدَلالةِ والعِلةِ اعلم أنه ليس كلُّ دَلالةٍ على شيءٍ فهي علَّةُ له، ألا ترى ان تدبيرَ العالَمِ دلالةٌ على القديمِ؛ إذ لا بد له من صانعٍ غيرِ مصنوعٍ، وليس بعلةٍ له، وكذلك الخبرُ الصادقُ دلالةٌ على كون المخبَر على ما هو به، وليس بعلةٍ لكونِ المخبرِ على ما هو به؛ إذ لو لم يوجَدِ الخبرُ، لم يَبطُلْ أن يكونَ المخبَرُ على ما هو به. وقد يجتمعُ الشيءُ أن يكونَ علَّةً (1) لشيءٍ ودَلالةً عليه (¬1)، وذلك كالكفر؛ فإنه علَّةُ لاستحقاقِ الذَّمِّ، ودلالةٌ على استحقاقِه. وكذلك عدمُ الواجبِ في الوقتِ الذي قد وجبَ فعله من غير غذْرٍ ¬

_ (¬1) هذه الكلمات مكررة في الأصل.

- فصل في العلل العقلية والسمعية

ولا تكفير، دَلالة على استحقاقِ الذَّمِّ، وليس بعلَّةٍ. فصل في العلَلِ العقليَّةِ والسمعيَّةِ فالعقليَّةُ -وهي علَّةُ الحكمِ العقليِّ- موجبة للحكم لنفِسها وجنسِها، فمُحالٌ ثبوتُها أبداً مع انتفاءِ الحكمِ قبل الشَّرع، ومعِ ورودِه، وفي زمنِ نسخِه؛ لأن في تجويزِ ثبوتِها مع انتفاءِ الحكمَ نقْضاً لها، وكذلك في ثبوت حكمِها في موضعٍ ما مع انتفائِها نقضٌ لهَا على ما بَيَّنَّاه من قبلُ، وهذه كالحركةِ إذا كانت في مَحَلٍّ أوجبَتْ له التحرُّكَ لا مَحَالةَ. وأما عللُ الأحكام: فعلاماتٌ وسِماتٌ تكونُ علامة بوضعٍ واختيارٍ، فلا يَمتنعُ أن تكوَنَ تارةً مجعولةً أَمارَةً، وتارةً لا تكونُ كذلك، وهذه كالشِّدَّةِ المُطربةِ إذا كانت في شرابٍ فهو محرم لا مَحالَةَ، إلَّا أنَّا عَلِمْنا ذلك من جَهةِ السَّمعِ؛ ألا ترى أن الشرابَ قبل أن يقعَ فيه خمرٌ أو تخمرٌ كان محلَّلاً، فلما وقعَ فيه خمرٌ أو حصلَ فيه تخميرٌ، صارَ محرَّماً بعد أن لم يكن محرَّماً، كما أن المحلَّ قبل أن تُوجَدَ فيه حركةٌ كان ساكناً، فلمَّا وُجدَتْ فيه الحركةُ، صار متحرِّكاً بعد أن لم يَكُنْ. فكلٌّ ما إذا كان الأوَّلُ كان الثاني من أجل كونِ الأوَّلِ، فالأوَّلُ عِلَّةٌ، عقلياً كان أو سمعياً، ومثلُ هذه العلَّةِ السمعيَّةِ لا خلافَ في معنى القياسِ بها. فإن قال قائلٌ: أفليس قد كانت الخمرُ تقعُ في الشراب والشَدةُ

تجصلُ في العصيرِ، فلا يكونُ حراماً قبل السمعِ؟ فما العلَّةُ التي لأجلِها كان حراماً بعد أن لم يَكُنْ حراماً؟ قيل له: قيامُ الحُجَّةِ بأن في شُرْبه المَفسدةَ المعلومةَ في هذا الزمانِ، دون ما سبقَه من الزمان الذي كَانت فيه مُباحَةً. فإن قيل: فالمَفسدةُ التي صَرح بها القرآنُ -وهي إيقاعُ العداوةِ والبَغضاءِ بما يحصلُ من العَرْبَدةِ والمخاصمةِ، والصَدُّ عن ذكرِ اللهِ وعن الصَلاةِ (¬1) - لم تَزَلْ حاصلةً بالسُّكر المغطَي للعقل الذي به يحصلُ التمييزُ بين الأمورِ، وهذا أمرٌ ما تَجَددَ، فكيف تَصِحُّ لكم دعوى تَجَدُدِ المَفسدةِ والحالُ هذه؟ قيل: العلَّةُ في كونِه حراماً في هذه الحالِ وكونِه قبيحاً هو قيامُ الحجَّةِ بكونه مَفسدةً، والمَفسدةُ التي ذكروها- وهي التي نطقَ بها الكتابُ الكريمُ -مَفسدة لكن ليس بكلٍّ، بل من بعضِ المَفسدةِ ذاك، ويجوزُ أن يكونَ ما ذكرَه مما يحصلُ في هذه الامةِ وهذا الزمانِ حكمُه يَزيدُ عند اللهِ على كلِّ مَفسدةٍ، ويجوزُ أن تختلِفَ المفاسدُ باختلاف الأزمانِ والأشخاصِ، كما أن الكلامَ في الصلاةِ مفسدةٌ وفي الحجِّ ليس بمَفسدةٍ، والطيبُ في الحجِّ مفسدةٌ وفي الصلاةِ ليس بمفسدةٍ، وأكْلُ الزَّكاةِ مع كونِها أوساخ الناسِ مفسدةٌ في حقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأهلِ بيتِه وليست بمَفسدةٍ في حقَ غيرِهم، والجَمْعُ بين الأختَيْن يَقطَعُ (¬2) والجمعُ ¬

_ (¬1) وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة الآية (91): {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}. (¬2) أي يقطع الرحم بينهما.

بين الصَّديقتَيْن يَقطَعُ، وكان الحكمُ للتَحريمِ لقطيعةِ الرَّحمِ لا الصَّداقةِ، كذلك جازَ أن تُخَصَ هذه الأُمَّةُ (¬1) بتحريمِ ما يقطعُ بينهم ويَصُدُهمِ عن ذكر الله وعن صلاتهم لحرمةٍ تَخُصُّهم، فتكونُ منزلةً لهم وخصيصةً خُصُوا بها يكونُ في مخالفِتها من المفسدةِ ما لم يَكُنْ في حقِّ مَنْ سلفَ وما سلفَ مِنْ حالِهم، والله أعلم. وقد قال بعضُ أهلِ العلمِ الأئمة: فإن قالُوا لنا: فما العلَّةُ التي كان بها قبيحاً في هذه الحالِ، وقد كان يجوزُ أن يقعَ في الحالِ الأُولى غيرَقبيحٍ؟ قيِل لهم: العلَّةُ في ذلك هو القَصْدُ إليه مع قيامِ الحجَّةِ بأن فيه مفسدةً. فإن قيل: فما العلَّةُ التي لأجلها قَبُحَ القصدُ، وقد كان يجوزُ أن يقعَ في الحالِ الأولى؟ فنحن نسألُكم عن تَجَدُدِ قُبْحِ القصدِ، كما سألناكم عن الموجِبِ لتجدُّدِ القبحِ ما هو؟ قيل له: لم يكن يصحُّ أن يقعَ القصدُ الذي مع قيام الحجةِ الآن قبل قيام الحجَّةِ؛ إذ ليس القصدُ الذي قبل قيام الحجةِ كَالقصدِ الذي بعد قيامَ الحجةِ، كما لا يَصح أن يقعَ العلمُ بالَحركةِ -الذي هو عِلمٌ بأن المحَلَّ يتحركُ -قبل أن يُعلمَ المحل، فهذا العلمُ بخلاف العلمِ بالحركةِ من جهةِ أنها حركةٌ، فكذلك هذا القصدُ الذى مع قيامِ الحجَّةِ يخالِفُ القصدَ الذي ليس مع قيام الحجَّةِ، وهو عندي أحسنُ من الأوَّلِ؛ لما فيه من رَدِّ القبحِ إلى اَلقصدِ مع قيامِ الحجةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الآية".

- فصول في الفروق بين العلة العقلية والشرعية

فصول في الفروقِ بين العلَّةِ العقليَّةِ والشَرعيَّةِ فمن الفروقِ: أن العلَّةَ العقليًةَ لا يجوزُ ولا يَصِح تخصيصُها بعَيْنٍ دون عَيْنٍ. والعلَّةُ الشرعيَّةُ اختلفَ الناسُ فيها: فجوَّزَ تخصيصَها قومٌ بدَلالةٍ، ومنع آخرون من تخصيصِها؛ لأن الشرعيَّةَ أَمارةٌ وعلامةٌ ودَلالةٌ، وقد تَدُلّ على شيءٍ في وقتٍ، ولا تَدلُّ عليه في غيرِه، قالوا: فكذلك تدلُّ على الحكم في مَحَلٍّ، ولا تَدلُّ عليه في غيرِه، فقد استجازَ القائلون بتخصيصِ العلَّةِ (¬1) ذلك. ولايجوز عند أحدٍ تخصيصُ علَّةِ العقلِ في عَيْنٍ دون عَيْنٍ، ولا في زمانٍ دون زمانٍ. فصل ومن الفروقِ بينهما أيضاً: أن الشرعية ربما احتاجت إلى شَرْطٍ في كونها علَّةً للحكم، نحو: الزَنا الموجِبِ للرًجمِ بشرطِ الإِحصانِ، ووجوبِ الزَّكاةِ في النًصابِ بعلَّةِ الغَناءِ به بشرطِ حُؤولِ الحَوْلِ على النًصابِ، وغيرِ ذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل: "العلم".

والعقليَّةُ لا تحتاجُ في إيجابِها للحكمِ إلى شرطٍ؛ لكونها (¬1) موجبةً غيرَ علامةٍ للحكمِ، ولا أمارةٍ عليه (¬2)، ولا دَلالةٍ. فصل ومن الفروقِ أيضاً بينهما: أن العِلَّةَ العقليَّةَ لا بُدَّ أن تكونَ منعكِسةً، فالحركةُ عِلَّةُ كونِ المحلِّ الذي قامت به متحرِّكاً، فيجبُ من ذلك: أن كلَّ مَحَلٍّ لم تَقُمْ به الحركةُ، فلا يكونُ متحرِّكاً بحالٍ. فأمَّا الشرعيَّةُ: فلا يُشترطُ لها العكسُ؛ فإنَّا إذا قلنا: كلُ شراب قامت به الشِّدَّةُ حرامٌ، لا يَلزمُ منه: أن كلَّ شرابٍ لم تَقُمْ به الشِّدَّةُ حلالٌ، وكان المعنى فيه: أن العقليَّةَ موجِبةٌ والشرَعيَّةَ أمارةٌ. والأماراتُ والدَّلائلُ قد تَدلُ على الشيءِ فيُعلمُ، وليس إذا لم تَدُلَّ يُعدَمُ، وأما العقليَّةُ فموجِبةٌ، والموجبُ إذا وُجدَ أوجبَ موجَبَه لا مَحالةَ، فإذا لم يُوجَدْ لم يُوجَدْ موجَبُه لا مَحالَةَ. ولأن العلَّةَ الشرعيَّةَ كما تَدُلُ على الحكمِ يَدُلُ غيرُها عليه، فإن الحكمَ الواحدَ من أحكام الشَّرعِ يَثبُتُ بعلَّتَيْنِ، فإذا زالَتْ إحداهما بقيتِ الأخرى، فلذلك لم يَكُنْ من ضرورةِ انعدامِها انعدامُ الحكمِ. بيانُ ذلك: أن التَّنجُّسَ حكمٌ يَتعلَّقُ بالمحلِّ، تُوجِبُه علًتان: الاستحالةُ، وملاقاةُ نجاسةٍ، فإذا زالتِ الملاقاةُ، بقيتِ الاستحالةُ مستقلاً بها الحكمُ، وإن زالتِ الاستحالةُ، بقيتِ الملاقاةُ، فلم يَنْتَفِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بكونها". (¬2) في الأصل: "علة".

الحكمُ بزوالِها وانتفائِها؛ فلذلك لم يُشرَطِ العكسُ فيها، بخلاف العقليَّةِ (¬1) فإن التحرُّكَ الذي هو حكمُ الحركةِ ومعلولُها لا يثبت بالحركةِ وبمعنىً آخرَ قَطُّ، فالحركةُ لا يُشارِكها في إيحاب التحركِ شيء من الأعراضِ، فلا جَرَمَ إذا انتفَتْ عن المحل، انْتَفى حكمُها -وهو تحرك المحل- لا مَحالَةَ. فصل ومن الفروق بينهما: أن عِلةَ الحكمِ العقليِّ يجبُ أن تكون أبداً مقارِنةً له غير متقدمَةٍ عليه ولا متأخِّرةٍ عنه، وليس كذلك سبيلُ العلة الشرعيَّةِ؛ لأنها قد تُوجَدُ قبل حصولِ الحكمِ كشِدةِ الخمر، وتَأتَي الطُّعْمِ وتَهَيُّؤِ الكَيْلِ والاقْتِياتِ في البُرِّ قبل ثبوتِ الحكمِ، وهو تحريمُ التَّفاضلِ، فلا يَجبُ أن تَجْريا في هذا البابِ مَجْرىً واحداً. فصل ومن الفروقِ بينهما: أن العلَّةَ الشرعيَّةَ يجوزُ أن تُوجِبَ حُكمَيْن مختلِفَيْنِ، مثلُ إيجاب شِدَّةِ العصيرِ تحريمَ شُرْبِه، وإباحةَ ضرب شاربه، وحرمةُ الرَّضاع وَالقرابةِ يُوجِبان تحريمَ النِّكاحِ، وإباحةَ الخَلْوَةَ والمُسَافَرَةِ، والحَيْض علَّةُ لتحريمِ وَطْءِ الزَوجِ في الفَرْجِ، وإباحةِ الأكلِ في نهارِ رمضانَ، والموجِبُ للغُسْلِ، وإسقاطِ إيجابِ الصلاةِ رأساً. فأمَّا العلَّةُ العقلئةُ: فإن الحركةَ لا توجبُ تحرُّكَ الجسمِ وتَلَوُّنَه ¬

_ (¬1) في الأصل: "الشرعية".

المختلِفَيْنِ غيرَ المتضاديْنِ، ولا تحركَه وسكونَه الموجَبَيْنِ المتضادَّيْنِ، ولا تُوجِبُ أيضاً حكمَيْنِ مِثْلَيْنِ، كما لم تُوجِبْ حكمينِ مختلِفَيْنِ ولا متضادَيْنِ. وإنما كان ذلك لمعنىً، وهي أنها (¬1) تُوجبُ الحكمَ والمعلولَ لجنسِها ونَفْسِها، ونفسُها وجِنْسُها غيرُ مختلِفٍ، والعللُ الشرعيَّةُ تُوجِبُ لوضعِ الواضعِ لها، واختيارِه لحكمَيْنِ مختلِفَيْن معلَّقَيْن عليها مع اتحادِها. فصل والعلَّتانِ الشَّرعيَّتانِ المختلِفتانِ قد تُوجِبانِ حكمَيْنِ متساوَييْنِ، كالشرب والقَذْفِ يُوجِبان حَدَ الشرب والقذفِ، فمن شربَ جُرْعَةَ خمرٍ وقَذَفَ مَحصَناً أو محصَنةً، حد الحَدَيْنِ معاً. فصل ولا يجوزُ أن يَنصِبَ اللهُ سبحانه علَّةً وعلامةً على إيجاب حُكميْنِ ضِدَيْنِ نقيضَيْنِ لا يصحُّ من المكلَفِ الواحدِ الجمعُ بينهما، بل يجوزُ أن ينصِبَ علَّةً لثبوت أحكامٍ مختلفةٍ أو تُرُوكٍ، أو أفعالٍ وتُروكٍ يصحُّ من المكلَّفِ الجمعُ يينها (¬2)، أو أن تكونَ علَّة لثبوتِ حكمٍ في وقتٍ وسقوطِه (¬3) في غيرِه، أو علَّةً لوجوب حكمٍ على عَيْنٍ وسقوطِه عن أخرى، فأمَّا أن يجعلَ للمكلَّفِ عَلامةً على ثبوتِ الحكمِ عليه ¬

_ (¬1) في الأصل: "إنما"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) في الأصل: "بينهما". (¬3) في الأصل: "سقوط"، والأنسب ما أثبتناه.

- العلة الشرعية لا تكون علة لحكمين مساويين على مكلف واحد

وسقوطِه عنه في وقتِ وجوبِه، وعلى تحليلِه عليه وعلى تحريمِه، فذلك مُحالٌ. وقد يضعُ الله سبحانه علامَتَيْن لحكمَيْن نقيضَيْن في حَقِّ مجتهدَيْنِ، وُيخيَّرُ المستفتي في الأخذِ بأيِّهما شاءَ، على ما تقدَّمَ في بيانِ الاجتهادِ وفصولِه. فصل ولا يجوزُ أيضاً أن تكونَ العلَّةُ الشرعيَّةُ علَّةً لحكمَيْنِ متساوَييْنِ على مكلَّفٍ واحدٍ، لأن حكمَ الله سبحانه فيما أحلَّه أو حَرَّمه لا يتزايدُ، وإن كان الوعيدُ على بعضِ الذُنوب أكثرَ من بعضٍ، والثَّوابُ على بعضِ الطَاعاتِ أكثرَ من بعضٍ، إلا أن كلُّ ذلك يجبُ من جهةٍ واحدةٍ، ولا يجوزُ إذا كان لتحريمِ شيءٍ أو تحليلِه للمكلَفِ علَّتان مختلِفتانِ وأكثرُ، أن يتزايدَ الحكمُ بتزايدِ عِلَلِه؛ لأجل أن علَلَه أدلَّةَ عليه، والحكمُ لا يتزايدُ بتزايدِ الأَدلَّةِ، وإنما يَقْوَى ثبوتُه في النًفْسِ بتزايدِ الأدلَّةِ، فقطْ. وإنما اخْتَلَف المتكلَمون في العلل الموجبةِ إذا كَثُرَتْ، هل تتزايدُ أحكامُها والأحوالُ الموجَبةُ عنها أم لا؟ فأمَّا الَدَّلائلُ على الحكم شرعيَّةً كانت أو عقليَّةً -فلا تُوجِبُ تزايدَ حالِ المدلولِ عليه؛ إذ ليست الأدلَّةُ موجِبةً، لكنها كاشفةً وموضحةً. فصل في العلَّةِ التي نتيجتُها ظَنٌّ وهي التي ترجعُ في كونِها توجِبُ إلى ظَنٍّ، وذلك يقعُ في العلل

- فصل فيما سماه قوم من المتكلمين: العلة المولدة

العقليَّةِ والسمعيَّةِ، مثالُ ذلك: أن خَبَرَ الثَّقةِ عند المجتهدِ: أن هذا الطعامَ مسمومٌ، صَحَّحَ الحكمَ عنده بأنه مسمومٌ، وإذا صحَّ الحكمُ عنده بأنه مسمومٌ، وجبَ عليه تجنُّبه، وكذلك إذا أخبرَه الثِّقةُ بسببٍ يُوجِبُ مثله تنجيسَ الماءِ، وجبَ عليه تجنُّبُه. فصل فيما سمّاهُ قومٌ من المتكلِّمين: العِلَّةَ المولَّدةَ؛ تغريباً للعبارةِ فيه والمتولدُ لا أصلَ له عندنا، وإنما هو مذهبُ أهل الطبْعِ والاعتزالِ، ذكرتُه حتى لا تفوتَ معرفةُ ما تحتَه بتغريبِ تسميتِه. والعلَّةُ المولَّدةُ عندهم: هي التي يُوجِب وجودُها غيرَها، ولا يخلو أن يُوجَدَ عَقِيبَها بلا فَصْلٍ، أو يوجَدَ معها، وذلك كالاعتمادِ الذي توجَدُ عنه الحركةُ، فقالوا: إن الحركةَ تولَدتْ عن الاعتمادِ، فسَمَّوْها: مولَّدةً، وعندنا وجِدَتْ عقِيبَ الاعتمادِ؛ فلا تكونُ عندنا مولَّدةً بناءً على أصلِنا في إبطالَ التوُّلدِ. فأمَّا التي تكونُ لسببٍ والسببُ في حالِ تحركِه: كالخاتِمِ في اليَدِ، تقعُ حركةُ الخاتَمِ وحركةُ اليدِ معاً في حالةٍ واحدةٍ. والعلَّةُ عندهم على ضَرْبَيْنِ: مولِّدةٍ، وموجبةٍ غيرِ مولِّدةٍ، فالعلَّةُ التي يجعلونها مولِّدةً: هي التي قدَّمنا ذكرَها، وَأما العلَّةُ الموجبةُ من غيرِ توليدٍ: فكالحركةِ إذا وُجِدَتْ أوجبَتْ متحركّاً بلا مَحَالَةَ. وكلُّ علَّةٍ فلا بُدَّ أن توجِبَ متغيِّراً بها عمّا كان عليه على قولِ

- فصل في شرط العلة

هؤلاءِ -وهم أهلُ التولُّدِ-، وعندنا لا بُدَّ أن تُوجِبَ معلولًا في الجملةِ، فقد يكون تغيُّراً، وقد يكونُ غيرَه؛ لأن العلمَ علَّةُ كونِ العالِمِ عالماً شاهداً وغائباً، فاحْذَرْ مقالةَ هؤلاءِ وقولَهم: المعلولُ لا يكونُ عن العلَّةِ إلا حادثاً بعد أن لم يَكُنْ، وتغيراً عن حالٍ كان عليها إلى حال لم يكنْ. فصل في شَرْطِ العلَّةِ اعلم أن شرطَ العلَّة: هو تعليقُها بما إذا وَقَعَتْ عليه أوجَبَتْ معنى الحكمِ، وإذا لم تَقَعْ عليه لم تُوجِبْ معنى الحكمِ. والفرقُ بينها وبينَ الجُزْءِ من العلَّةِ: أن الاقتضاءَ لها إذا كانت على تلك الصفةِ، وليس كذلك الجزءُ من العلَّةِ، بل الاقتضاءُ للجملةِ بأجزائها. مثالُ الأولِ: إذا كان القبيحُ من مَحْجُوجٍ فيه، استَحَقَّ الذمَّ لأجل القبيحِ الواقعِ على هذه الصفةِ، وليس يَستحِقُه لأجل القبيحِ وأنه محجوجٌ فيه، وكذلك يصحُّ الفعلُ بالقدرةِ إذا لم يَكُنْ مَنْعٌ، وليس يقعُ الفعلُ لأجل القدرةِ وعَدَمِ المنعِ، فهذا مثالُ الشرطِ، والمنعُ: مثلُ قَيْدٍ ورِباطٍ. مثالُ الثاني -وهو الجزءُ-: علَّةُ الجسمِ الطُولُ والعَرْضُ والعُمْقُ، ولا يجوزُ أن تكونَ العلَّةُ الطولَ إذاكان عرْضٌ وعمقٌ، لأن الاقتضاءَ لاجتماع هذه الثلاثةِ على الحدِّ الذي وَصَفْنا.

ولو قال قائل في صفيحةٍ لها طولٌ وعَرْض من غيرِ عمقٍ، ثم حدثَ فيها عمقٌ، فصارت جسماً: العلَّة التي لأجلها صارت جسماً بعد أن لم تَكُنْ جسماً حدوثُ العمقِ لِمَا له طولٌ وعرضٌ. لحَسُنَ هذا القولُ منه؛ لأن الحادثَ الآن هو العمقُ، فالاقتضاءُ له. فإن قال في سفينةٍ كان فيها كُرٌّ ولم تَغرَقْ، فزِيدَ عليها قَفِزٌ، فغَرِقَتْ: ما العلَّةُ في ذلك؟ قيل: العلَّةُ في ذلك طَرْحُ القفيزِ الزَائدِ فيها؛ لأنه الحادثُ الذي غَرِقَتْ به. فإن قال: فلو طُرِحَ الجميعُ في حالٍ فَغَرِقَتْ، ما كان العلَّةُ في ذلك؟ قيل له: العلَّةُ في ذلك طرحُ الجميعِ؛ لأنه ليس بعضُ ذلك الحادثِ أوْلى من بعضٍ.

* فصول في المعارضة

فصول في المعارضةِ اختَلَفَ الناسُ في المعارضِة، فأَثْبَتها قوم، ونفاها آخرون، واعتَلَّ نفاتُها بأنها ليست مسألةً ولا جواباً، فصارت كلاماً لا عُلْقَةَ له بكلام المستدلِّ. واعتل من اثْبَتها -وهو عندي المذهبُ الصحيحُ، وأنها داخلة في أقسام السؤالِ والجواب- بأن قال: أنتم تعلمون أن المقِر لموسى [عليه اَلسلام] لإِطباقِ اَليهودِ على الإِقرارِ به، يَلزَمُه الإِقرارُ لهارونَ لإِطباقِهم أيضاً على الإِقرارِ به، فلو أن إنساناً أقر بموسى لهذه العلَّةِ وأنكرَ هارونَ، لكان مفرقاً بينهما بالإِقرارِ والإِنكارِ مع استواءِ الإِقرارِ لهما والعلةِ، وتفرقتُه بينهما مذهب تفردَ به؛ لأنه متى فعلَ ذلك فقد خُولِفَ فيها، وهي كبعض المذاهب التي يأتي بها؛ لأنه سواءٌ قولُه: ليس موسى كهارون، وليس الإِقرارُ لهَما مستوياً في الوجوبِ والعلَّةِ. ولا شَك أنه قد تحقَقَ من قوله: إن المقِرَّ بموسى مصيب لعِلَّتي، وهي إطباقُ اليهودِ عليه، وأنه نبيٌّ، فإذا قال في هارونَ خلافَ ذلك، كان الملزِمُ له القولَ لمثلِ ذلك في موسى إلزاماً بالمعارضةِ الصحيحةِ؛ لأن العلَّةَ التي تعلقَ بها في موسى ينطبقُ عليها ايجابُ القولِ في هارون، كالقولِ في موسى، والفَرْقُ مذهبٌ، يَحسُنُ أن يقال: ما دليلُك

- فصل آخر في المعارضة

عليه؟ لأنه تَرْكٌ لمذهبٍ أوجبَتْه علتة الموجِبةُ للجمع بين موسى وهارون. ويقالُ أيضاً: إذا اقررْتَ بموسى لِإطباقٍ عليه؛ فهلَّا طردتَ علتَك واجريْتَها، وألزَمْتَ نفسَك من الإقرارِ بهارونَ مثلَ ما ألزمْتَها من الإِقرارِ بموسى؛ إذ كانت اليهودُ مطبِقَة عليه كإطباقِها على موسى؟ ويقالُ لمن أنكرَ المعارضةَ أيضاً: هل الحقُّ وأهلُه مفارقان للباطلِ وأهلِه في أنفسِهم بحُجَّتِهم؟ فإن قال: لا، فهذا مما لا يقولُه أحد، وإن قالَ: نعم، قيل له أيضاً: فيجوزُ لمن شكَّ في افتراقِهم أن يَسألَ عنه، وعمّا أوجَبَه. ويقالُ لهم: إذا أمكنَ أن يكونَ في الناسِ من يقولُ بعلَّتِكَ، ويوافقُك فيها، ثم لايُوافِقُ في مقتضى العلَّةِ وموجَبِها، بل يُخالِفُك في المذهب، فلا بُد من مطالبتِه ببرهانِ مخالفتِه في المذهب مع موافقتِه في علَّتِهَ، كذلك هاهنا. وفي الجُمْلَةِ والتفصيلِ: كلُّ من تركَ قولاً فلا بُدَّ له في اختيارِه تركَه إياه من علَّه وحًجةٍ، كما أن كلَّ من اختارَ قولًا فلا بُد له في اختيارِه إياه من علَّةٍ وحجةٍ، فإذا رأيْتَ تاركاً قد تركَ شيئاً واجْتَبَى واختارَ مثلَه، فلا بُد من مطالبتِه بحجَّةٍ في اختيارهِ تَرْكَ ما تركَ واختيارِ ما اختارَ، إذا ادَّعى أنه تركَ بحجَّةٍ واختارَ بحجَّةٍ. فصلٌ آخرُ في المعارضةِ اعلم أنك إذا سُئِلْتَ عن الفَرْقِ بين شيئين قد فَرَقْتَ بينهما بالإِثباتِ والإِبطالاِ، لا بُدَّ لجوابِك الذي فيه تفريقُك أن يكونَ مبطِلًا

لما أَبطلْتَ محقِّقاً لما حقَّقْتَ، وليس يجوزُ أن يكونَ فيه الإِبطالُ دون التحقيقِ، ولا التحقيقُ دون الإِبطالِ؛ لأنك لا تُسأَلُ عن إبطالٍ مفرَدٍ ولا عن تحقيقٍ مفرَدٍ، وإنما سُئِلْتَ عن الأمرين جميعاً بسؤالٍ عنهما. ويُوضحُ الدليلَ على ذلك: أن التَفرقةَ لهما وقَعَتْ، فإذا كان هذا هكذا، فالسؤالُ عنهما. مما يُؤيَّدُ هذا: أن الدليلَ على صحةِ أحدِهما لا يُوجبُ التفرقةَ بينهما، وكذا تصحيحُه؛ لأنهما قد يجتمعان في التصحَيحِ وفي دَلالةِ الدليلِ على صحَّتهما، فلو كان أحدُ القولين مفارقاً صاحبَه في الصحَّةِ بصحِته، لم يَجُزْ أن يجتمعَ القولان في الصحةِ؛ لأن صحةَ أحدِهما تفرُقُ بينه وبين الآخرِ في الصحةِ، كما أنك حين فَرَقْتَ بينهما ابطَلْتَ أحدَهما وصَحَّحْت الآخر، وكذلك التفرقُة بينهما في تصحيحِ أحدِهما وإبطالِ الآخرِ، كما أنها تصحيحُ أحدِهما وإبطالُ الآخرِ (¬1). ولو كان من أجابَ عن أحدِهما دون الآخرِ مفرقاً بين القولين، لكان الذي يُقِر بنُبوَّةَ موسى وُينكرُ نُبوَّةَ هارونَ إذا سُئِلَ عما فَرَقَ بينهما، فأجابَ بما يُثْبتُ نُبوَّةَ موسى فَقَطْ، ولم يذكُرْ (¬2) ما أفسدَ عنده نُبوَّةَ هارونَ، قد أدَّى مَا أوجبَه عليه السؤالُ، وفرقَ بينهما تفرقةً أبطلَتْ نُبوَّةَ هارونَ وصَححَتْ نُبوَّة موسى، فكما أوجبَ أنه قد يُحقَقُ نُبوَّةَ موسى من لا يَقدِرُ على إبطالِ نبوةِ هارونَ مع تحقيقِه لنبوةِ موسى؛ إذ كان كُلما أثبتَ أحدَهما ثبتَ الآخرُ، عُلِمَ أن التفرقةَ بين الأمريْنِ ¬

_ (¬1) "كما أنها تصحيح أحدهما وإبطال الآخر"، كذا هي في الأصل، ولعلها مقحمة؛ إذ لم يتبين لنا منها معنى ذو فائدة هنا. (¬2) في الأصل: "ينكر".

اللَّذَيْنِ افترقا بصحةِ أحدِهما وفسادِ الأخرِ ليست دَلالةً على صحةِ الصحيحِ منهما دون فسادِ الفاسدِ، ولا على فسادِ الفاسدِ دون صحةِ الصحيحِ. ومما يؤكِّدُ هذا أنه قد دَل على صِحَّةِ أحدِ الأمرَيْنِ من لا يعلمُ سامعو دَلالتِه عليهما أنه مفرِّقٌ بينه وبين غيرِه حتى يسمعوا منه الإِقرارَ بأحدِهما أنه مفرِّقٌ بينه وبين غيره بإبطالِه (¬1) كما لا يعلمُ إذا سَمعَ منه الإِقرارَ بأحدِهما أنه يُفرِّقُ بينه وبين الآخرِ دون أن يُنكرَه، فلو كانت الدَّلالةُ على أحدِهما هي التفرقةَ بينه وبين الآخرِ في الصحةِ والفسادِ؛ لكان السامعون لها عارفين بمعرفةِ صاحبِها بينه وبين صاحبه، ولكان المعتقدُ لصحة أحدِهما قد فَرَّقَ أيضاً بينهما في عَقدهِ بالتصحيحِ والإِبطالِ والنَّفي والِإثباتِ، فلما كان المعتقِدُ لصحةِ أحدِهما لم يُفرِّقْ بينهما في عَقْدِه باعتقادِه صحةَ أحدِهما؛ لأنه قد يجوزُ لك التفرقةُ بين الشيئينِ بما يمكنُ خصمَك أن يجعلَه مستوياً بينهما، وإن تعاطى ذلك ووقَف (¬2) في الدعوى موقفَك، استويا ولم يَبِن منه شيء يجعلُك أوْلى بنُصرتِه منه بنُصرةِ مذهبِه. ونظيرُ هذا: أن الشِّيعيَّ إذا قال للعُثْمانِيِّ: دليلي على أن عليَّاً أفضلُ من عثمانَ: كونُ السماءِ فوقي والأرضِ تحتي. جازَ للعثمانيِّ أن يقولَ: فهذابعينه هو دليلي على أن عثمانَ أفضلُ من عليٍّ، وما الذي جعلَك بأوْلى أن تَستدِلَّ على فضلِ عليَ على عثمانَ مني بالاستدلالِ به على فضلِ عثمانَ على عليٍّ؟ والسلام. ¬

_ (¬1) في الأصل: "إبطاله". (¬2) في الأصل: "وقف".

- فصل في مواضع المعارضة الصحيحة

فصل اعلم أن للخصمِ أن يُعارِضَ خصمَه بما لا يقول به في بعض المواضعِ، وليس ذلك له في كلِّها، ولا بد من حدٍّ يَفصِل بين الموضعين، وسنقولُ فيه قولاً شافياً إن شاءَ الله. إذا قابلَتِ المعارضةُ بما لا يقولُ به المتنازعان سَقَطَتْ؛ لأن صاحبَها معارِضٌ لنفسِه قاصدٌ بها إلى فسادِ مذهبه، وما كان هكذا فليس له أنه يعارضَ به، ولكن لغيرِهما أن يُعارِضَهَما به؛ إذ كان غيرُ تصحيحِ تلك المعارضةِ مذهبَه؛ لأنه إنما يكون لِذي المذهبِ من السؤالِ ما صَحَّحَ مذهبَه وأبطلَ مذهبَ خصمِه، وأما ما يبطل به مذهبه فلا، ولكنَه عليه، وذلك أن تأويلَ هذه المسألةِ الفُلانيةِ أن الفُلانيَّةَ تصحيح مذهبهما (¬1) به، وإن كانت مصححةً على الحقيقةِ فهي لهم على الحقيقةِ، وإضافتها إليهم على معنى أنهم سَبَقوا إليها، وأنهم يحاولون بها التصحيحَ لمذهبهم، وإن كان ذلك لا يَتِمُّ لهم. وغَرَضُ السؤالِ تصحيح المذهب وإبطالُ ضِدَهِ، فإذا كان بخلافِ هذه الصِّفةِ فهو ساقطٌ، فإذا قابلَتَ قولًا لا يقول به المعارِض فهي صحيحةٌ؛ لأن صاحبَها أفسدَ باطلًا عنده بإظهارِ مساواتِه لباطلٍ آخرَ هو أيضاً باطلٌ عنده، فهذا على ضَرْبَيْنِ: مثال الأولِ: قول السُّنَيِّ للمعتزِليَ: إذا زَعَمْتَ أن تكليفِ ما لا يطاقُ فاسدٌ لِمَا صَحَّ من عدلِ الله ورحمتِه، فهلاَّ زَعَمْتَ أن تعريضَ اللهِ سبحانه لمن المعلوم عندَه أنه يَعطَب بالتكليفِ للتكليفِ، وتعريضَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مذهبها".

من يَهلِكُ بالمحنةِ للمحنةِ، والتماسَ ما علمَ أنه لا يكونُ ممَنْ علمَ منه أنه لا يستجيبُ للتكليفِ فاسدٌ أيضاً للعلَّةِ التي ذكرتَها، وهو ما صح من حكمةِ الله عزَّ وجل ورحمتِه وعدْلِه وحُسْنِ نَظَرِه لخلْقِه؛ لأنهما قد استويا واتفقا على الأصلِ الذي قابلَتْه المعارضةُ، فإن كانت لازمةً للقائلِ به، فإن قولَ السائلِ فيه كقول المجيب. ومما يَدلُّ على هذا: أن ملحداً لو سأل عن هذه المسألةِ، وهو من لا يقولُ بواحدٍ من المذهبَيْنِ -لا بمذهب العَدليِّ ولا الجَبْريَ-، لم يكنْ أحدُهما أوْلى بالجواب عنها من الآخرِ. ومثالُ الثاني: بمنزلةِ معتزلي قال لمُجْبِرٍ: إذا زعَمْتَ أن الله يخلُقُ الفعلَ وُيعذِّبُ عليه، فلِمَ لم تَقُلْ: إنه يَضْطَر إلى الفعلِ وُيعذِّبُ عليه؟ لأنه لا يقولُ بالشيءِ الذي جعلَه ملزماً للمعارضةِ، فهما متَّفِقان على نفيِ العقاب على ما حصلَ بالاضطرارِ، كما حصلَ الاتفاقُ في المثال الأولِ عَلى جوازِ التكليفِ ممن في المعلوم أنه يَعطَبُ بالتكليفِ وعَقِيبَ التكليفِ، ومتى بنى المجيبُ جوابَه عَلى أمرٍ يوافقُه عليه السائلُ، لم يَكُنْ للسائلِ الطعنُ فيه إلا بما بَيَّنَ به مفارقتَه؛ لأنه إن سلَّم مشاكلتَه إئاه ثم طعنَ فيه، كان طاعناً في قولِه بطَعْنِه فيما هو عنده نظيرُه. ومتى ما جعلْنا له من الطعْنِ بما يأتي في صورةِ الأولى، فمعناه (¬1) خلافُ معناه، وذلك كقولِ المُجبِر للمعتزلي: هلّاَ قلتَ: إن الله يُكلِّفُ العبدَ ما لم يُقدِرْه عليه، كما قلنا جميعاً: إنه يُكلِّفُ العبدَ ما ¬

_ (¬1) في الأصل: "ومعناه"، ولعل الصواب ما أثبتناه.

لم يُوفَقْه لفعلِه ولا عَصَمَه من تركِه. فإن اعترفَ المعتزليُّ بهذا التشبيه، ثم طعنَ في الجوابِ، فقد طعنَ في الأصلِ الذي تفرع منه، وإذا طعنَ في الأصلِ، فقد طعنَ فيما يقولُ به. فإن قال له المعتزليُ: فكذلك فقل: إنه يُكلفُ ما يُعجَزُ عنه، قياساً على هذا الأصل. فيقولُ: التوفيقُ ثوابٌ، ولا بأسَ بتركِ ثوابِ من لم يعلمْ، فأمَّا تكليفُ العاجزِ فإنه سَفَهٌ. فيقول له: فاجعل هذا أيضاً فرقاً بين [سلبِ] (¬1) التوفيقِ وسلب القُدْرةِ، وسلبُ واحدٍ له تكليفٌ من سلب التوفيقِ دونَ سلبِ القُدْرةِ. وليس هذا جوابَ المُجبِرِ، ولكنه مثالٌ يُتكلمُ عليه، فهذا جائزٌ له، لأنه سلَّمَ التشبيهَ غيرَ معترفٍ بما بعده بعد التسليمِ. وللمعتزليِّ أيضاً أن يسألَ عن الدليلِ على أن تكليفَ من ليس بموفَقٍ ولا معصوم كتكليفِ من ليس بقادرولا ممكَنٍ؛ لأنه يضعُ السؤالَ في موضع خلافٍ، ألا ترى أنه ليس كلُّ من يعلَمُ أن الله يُكلفُ مع عدم العصمةِ والتوفيقِ، يعلمُ ويعتقدُ أنه يُكلفُ مع عدمِ القُدْرةِ والطَاقة؛ بل يعلمُ خلافَ ذلك، ويَدرِي أن التوفيقَ تسهيلٌ، والعصمةَ من أكبرِ الألطافِ، وأنها يجوزُ أن يَخُص بها المجتهدين في طاعتِه وخَواص خَلْقِه؛ لكونِها من زوائدِ إزاحةِ العللِ، فأمَّا أصلُ القُدَرِ والاستطاعاتِ والطاقات، فإنها المصحِّحةُ للنُهوضِ بحقائقِ التكليفِ فأين إزاحةُ العللِ بالرواتب اللابُدَيةِ من الزوائدِ اللطفية؟ وما منزلةُ ذلك ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

- فصل آخر من المعارضة

من الفقهِ إلا بمثابةِ من قال: لَمَّا لم يَجِبْ للزوجةِ الطِّيبُ وأُجْرَةُ الطبيبِ، لا يجبُ لها الخبزُ والإِدامُ وما هو القِوامُ (¬1)، ولَمَّا لم يُفسَخ النكاحُ بزوائدِ المُؤنِ -وهي الطيبُ والحَلْواءُ والإِدامُ-، لا يُفسَخُ بالِإعسارِ بالقوتِ الذي هو القِوام. فصل آخر من المعارضة فمن ذلك قولُ المجيب (¬2): لو جازَ كذا لجازَ كذا، فإنه بمنزلةِ قولِ السائلِ: إذا كان كذا، فلِمَ لا يجوزُ كذا؟ لأنهما جميعاً قد عَلقا صحةَ أحدِ الأمرين وفسادَه بصحةِ الآخرِ وفسادِه، إلا أن السائلَ لا يجبُ عليه أن يأتيَ بالعلَّةِ الموافقةِ بينهما؛ لأن هذا من فَرْض المجيبِ، فلو لَزِمَه لكان مجيباً. ووجهٌ آخرُ: وهو أنه نقيضٌ وليس بمقتضٍ، وإذا لم يكن مقتضياً، لم يكن عليه إقامةُ الحجَّةِ لأحدٍ، وإنما هو إنسانٌ وقعَ في نفسِه، فامتحنَه بالمسألةِ عنه، أو ظَنَّ ظَنا وقعَ عليه، فلَزِمَ المجيبَ أن يُبَينَ له، ولو كان للمجيب أن يقولَ له: ومن أين اشْتَبَها؟ لكان له أن يصيرَ سائلاً وهو مسؤولٌ، وكان على السائلِ أن يصيرَ مجيباً وهو سائلٌ، وكان له أيضاً أن يقولَ: ولِمَ تُنكِرُ أنت اشتباهَهما؟ فهذا هو التَّمانُعُ (¬3)، ¬

_ (¬1) القوام من العيش: ما يقيمك، وقوام العيش: عماده الذي يقوم به. "اللسان" (قوم). (¬2) رسمت في الأصل: "المحب"، وهو تحريف. (¬3) التمانع أو الممانعة: امتناع السائل عن قبول ما أوجبه المعلل من غير دليل. انظر "التعريفات" ص 231.

وفيه فسادُ السؤالِ والجوابِ، والمجيب مُدَّعٍ لاشتباهِهما، وموقعُه موقعُ المطالَبِ. وللسائلِ أن يقولَ له: ولِمَ زَعَمْتَ أن في جوازِ كذا جوازَ كذا، وأنا مخالفٌ لك في ذلك؛ وهل هذا إلا تَحكُمٌ منك عَلَيَّ مجردٌ من البرهانِ؟ فإن قال المجيبُ: لأنه لا فرقَ بينهما. كان للسائلِ أن يقولَ: دعواك لعدمِ الفرق كدعواك للجمعِ، وخلافي لك في هذه الدعوى الثانيةِ كخلافي لك في الدعوى الاولى؛ لأنها نفى لفرق هو عندي ثابتٌ، وسواءٌ على نفيتَ ما اخالفُك في نفيه، أو أثبَتَ ما أُخالفُك في إثباتِه، والأمرُ واحدٌ، ولي في ذلك مطالبتُكَ بالبَينَةِ على ما تَدَعِيه منه، فما الدليلُ على صحةِ نفيِك لهذا القولِ إن كنت مخالفاً لك فيها؟ فإن قال: لست أَجدُ بينهما فصلًا. فللسائلِ أن يقولَ له: ليس كلُّ ما لم تَجِدْه يكونُ باطلًا، ولو كان هذا هكذا كانت علامةً لصحةِ وجودِك إيَّاها، فكانت على حقيقةٍ داخلةٍ في علَّتِك، فما يُدرِيك لعل غيرَك قد وجَدَه، ولعله صحيحٌ وإن لم تَجِدْه، وبعد: فهل تَدَّعي فسادَه مع قولِك: إني لم أجِدْه؟ فإن قلت: نعم، فما دليلُك على صحةِ ادَعائِك لذلك؟ فإن قال: لو جازَ أن يكونَ بينهما فصلٌ قد غاب عني، جاز أن يكونَ بين الحركةِ والسكونِ فصلٌ في أنهما عَرَضان إلا أنهما قد غابا عني، فقد جَوَّزَ مثلَ تلك الدعوى بعينِها.

- المعارضة على ضربين: معارضة الدعوى بالدعوى، ومعارضة العلة بالعلة

وللسائلِ أن يقولَ: وما الدليلُ على أنه إذا جازَ أحدُ هذين جازَ الاَخرُ؟ فله أن يقولَ له: يجوزُ أن يكونَ في الدنيا حقيقةٌ لم تَعْلَمْها؟ فإن قال: نعم، قال له: فهل تدري، لعلَّ تلك الحقيقةَ فصلٌ بين الحركةِ والسُّكونِ في أنهما عَرَضان، أو فصلٌ بين الاوَّلين. وقد يُجترأ في هذا الباب بمسألةٍ واحدةٍ، وهي: أن يقالَ للمجيب إذا قال: لو جاز كذا، فلِمَ لا يجوزُ كذا للأمر الثاني؟ فإذا قال، لكيْتَ، وكَيْتَ، قيل له: فأرِنا (¬1) هذا بعينِه في الاوَّلِ حتى نعلمَ أن تمثيلَك واقعٌ وإِلا فقد وَضَحَ أنك مثبتٌ بين شيئين متفرِّقَيْن في العلَّةِ، فأفسدت أحدَهما، أو صححْتَه بعلةٍ لغيرِه دونَه. وكلُّ من رجعَ في استدلالِه إلى أنه لا يَجِدُ فصلاً، ولا يَجِدُ دليلاً، فالكلامُ الماضي داخلٌ عليه، وكلُّ من حكمَ في مواضعَ بالجمعِ وبالتفرقةِ، فالمطالبةُ بالبرهانِ واجبةٌ عليه، فاعرف هذا الموضعَ لكل ما وصَفْتُ لك في كلُّ بابٍ من نظائرِها. فصل آخرُ من المعارضةِ اعلم أن المعارضةَ على ضربين: معارضةِ الدعوى بالدعوى. والآخرِ: معارضةِ العلَّةِ بالعلَّةِ. مثالُ الأولِ: قولُ الواحدِ من أصحابِنا المثبتِينَ لخلق اللهِ أفعالَ ¬

_ (¬1) في الآصل: "فارني".

الخلقِ للواحدِ من المعتزلةِ النَافينَ لخلقِ الفعلِ: إذا زعَمْتَ أن فعلَ الخلقِ غيرُ مخلوقٍ، فما الفرقُ بينك وبين من زعمَ أنه مخلوقٌ؟ فهذه المعارضةُ مقابلةُ دعوىً بدعوىً، وليس مقابلةَ علَّةٍ بعلةٍ، وَيحسنُ أن يكونَ جوابُه هذا القولَ، وهو: إنها مقابلةُ دعوىً بدعوىً، والدعْوَيانِ نفرُقُ بينهما بما دَل على صحَّةِ إحداهما (¬1) وفسادِ الأخرى، وكذلك الفرق بين المدَعِيَيْنِ؛ لأنه إنما فرَقَ بينهما بما فَرَقَ بين دعواهما، فَمُطالبتُكَ بما الفرقُ بيننا وبينك من هذا الوجه، مطالبةٌ بدليلِ دعوانا الذي صححَها وأبطل دعواك، فكان تقدير كلامِك: دُلني على أن عملَ الخلقِ غيرُ مخلوقٍ، والدليل على ذلك كَيْتَ وكَيْتَ. وأما معارضةُ العلَّةِ بالعلَّةِ: فكقولِ أهلِ التوحيدِ للجسمى: إذا زعَمْتَ أن اللهَ جسمٌ؛ لأنك لم تَعقِلْ فاعلًا إلا جسماً، فهلَّا زعمتَ أنه مؤلَف؛ لأنك لم تعقِلْ فاعلًا ولا جسماً إلا مؤلفاً؛ لأنهم وضعوا علَتَه الأولى فيما عارضوه به، وهي المعقولُ، وهذا أصحُ ما يكونُ من المعارضةِ. ومن الأول (¬2): قولُ السائلِ للمجيب: لِمَ لم تَقُلْ كذا، كما قلتَ كذا؛ وربما قال عاطفاً على شيءٍ دخل في دَرْجِ كلامِه: وكذا أيضاً فقل كذا، وهذا لا يكون إلا من جاهلٍ بالمعارضةِ، أو من منقطِعِ يَتعلَّلُ؛ لأن الكافَ في كما وكذا كافُ تمثيل، فأمَّا معنى قوله: مَثلَ كذا بكذا، فالتمثيلُ إنما يقعُ في النَّفسِ والصورةِ أو في العلَّةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحدهما". (¬2) أي من معارضة الدعوى بالدعوى.

وتمامُ هذه المعارضة التي (¬1) قد تجوزُ: أن يقولَ: لأن علَّةَ كذا كَيْتَ وكَيْتَ، وهو بعينِه موجود في الآخرِ، كما قال أهلُ التوحيدِ للجسميةِ: هلاَّ قلتم: إن اللهَ مؤلًف؛ لأنكم لا تعقِلُون جسماً إلا مؤلَّفاً، كما قلتم: إنه جسم؛ لأنكم لم تَعقِلوا فاعلاً إلا (¬2) جسماً. وهذا مما لا يقعُ بعده فصل، فكلُّ من حاولَ بعده فصلًا ناقَضَ؛ لأنَّا إنما نأتي بقَدْرِ منعِه من الحكمِ بالمعقولِ، وجُوزَ له الخروجُ منه، فإذا جازَ له الخروجُ منه لعلَّةٍ من العللِ، لم يكنِ القطعُ به في هذا الموضعِ واجباً لا مَحالةَ؛ لبطلان ما هو [فيه] (¬3) وفسادِه في موضعٍ آخرَ، ولا ينبغي إذا كان مما هو فيه أن يَبطُلَ أحياناً، أن يكونَ هذا بموجبٍ لكونِ اللهِ سبحانه جسماً. وإذا كان هذا صحيحاً، فإنما يجبُ لشيءٍ آخرَ لا يسقطُ أبداً، ويكونُ موجباً به في كلِّ حالٍ، ألا ترى أن من جازَ عليه الكَذِبُ لا يُقطَعُ على شيءٍ يُخبِرُ به؛ لأن خبرَه ليس مما يُصدَّقُ أبداً فيكونَ علَّةً للتصديقِ، فإن صُدِّقَ فإنما يُصدَقُ بدليلٍ على صدقِه في الموضعِ الذي صُدِّقَ فيه، ولا يجوزُ لذلك الدليلِ أن يسقطَ في حالٍ من الحالاتِ؛ لأنه لو سقطَ لاحتاجَ في الموضعِ الذي اقتدى به فيه اقتداءً إلى ما يدل على أن موضعَه ذلك ليس من المواضعِ التي يسقطُ فيها، وإلا فلك أن تقولَ: ليس كلُّ ما كان معه هذا الدليلُ يجبُ له كذا، فما يُدرى لعلَّ صوضعَه هذا من تلك المواضعِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الذي". (¬2) في الأصل: "لا". (¬3) ليست في الأصل.

ورجعَ الكلامُ إلى الجوابِ عن المعارضات المنثورةِ. قلنا: فعلى المجيب إذا عُورِضَ بمثلِ ما وصَفْنا أن يقولَ لمعارضِه الذي قال له: لمَ قلت؟: وما أَشرْتَ أو أَمرْتَ بالتمثيلِ بينه وبين ما عارضْتَ به ذَيْتَ وذَيْتَ (¬1)، والذي عارضْتَ به كان من هذه العلَّةِ، فلو كان القولُ به واجباً لم يكنْ ليجبَ من حيث وجبَ، فإن أنت كشفْتَ التمثيلَ بينه وبينه لنعرفَه من علَتِه، ولأن القولين إنما يتشاكلان في النَّفسِ والصُورةِ والعلَّةِ، وليست (¬2) صورةُ هذين ولا عللُهما وأنفسُهما متشاكلةً، فهذا هو الذي يمنعني من القولِ به كما قلتَ، فالذي مَثلْتَ بينه وبينه: فإن كنتَ تراه واجباً لمشاكلتِه لشيءٍ مما أجَبْتَناهُ عن هذا، فأرِنا مشاكلتَه إياه حتى نُلحِقَه به، فلسنا نأبى إلحاقَ الشيءِ بمثلِه، وإن كنتَ ترى ترْكَنا له ورَغْبَتَنا عنه باطلًا لقيامِ بعضِ الدَلالةِ على صحَّتِه، ووجوبِ القولِ به، أن تنالَ خلافَ ذلك بإقامةِ الدليلِ على فسادِه وعلى صحةِ رَغْبَتِنا عنه، إلا أن تنشَطَ لتَرْكِ سؤالِك والأخذِ في الجوابِ، فنسألَك عما ادَعَيْتَ له. واعلم أنه ليس كلُّ حقيقتَيْنِ تتفقان في العلَّةِ، فيجبُ قياسُ إحداهما على الأخرى (¬3)، فلو قال لك قائلٌ: إذا زعمْتَ أن موسى رسولُ اللهِ، فهلَّا زعمْتَ أن الحركةَ جسم؟ أو: فلِمَ لم تَقُلْ: إن الحركةَ لا تُرى كما قلتَ: إن محمداً رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كان واضعاً ¬

_ (¬1) يقال: كان من الأمر ذَيْتَ وذَيْتَ، بمعنى: كيْتَ وكَيْتَ. "اللسان" (ذيت). (¬2) في الأصل: "ليست". (¬3) كانت في الأصل: "احداهما على الآخرة".

للتمثيلِ في غيرِ موضعِه، وساغتِ التفرقةُ بين ما جَمَعَ في العلَّةِ؛ لأن علةَ كونِ موسى رسولَ الله ومحمدٍ رسولَ اللهِ لا تجامعُ علةَ كونِ الحركةِ جسماً أو غيرَ جسمٍ، ترى أو لا تُرى. ولكن لو قال: الدليل لا يُكذب، والأخبار المُضْطَرة لا تُكذَبُ، فإذا زعمتَ أن موسى رسول الله للخبرِ الذي يُصدَّق ولا يُكذَبُ فهلَّا زعمتَ أن الحركةَ غيرُ الجسمِ للدليلِ الذي يُصدقُ ولا يكذبُ؟ وما الفرقُ في حصولِ الثقةِ بين خبرٍ لا يُكَذبُ ودليل لا يكُذبُ؟ ولِمَ قَبلْتَ من بعضِ من أمنْتَ عليه الكذبَ دون بعض؟ فهذا بعينِه موجود فيَما ردَّدْتَه، فكان هذا سؤالًا صحيحاً وتمثيلاً بين القولين في العلَّةِ القصوى، ولكنِ القصدُ به إلى ما أرادَه السائلُ قصدٌ من موضع بعيدٍ وُجِدَ منه مثل هذا السؤالَ. فهذه جملة شافية جداً، وليس يَقطع بها إلا حاذق بالمقابلةِ والترتيبِ، وعارف بمواضعِ الاتفاقِ والاختلافِ.

* فصول في المعارضة بصياغة أخرى ولغة كاشفة للمعنى

فصولٌ في المعارضةِ بصياغةٍ (¬1) أخرى، ولغةٍ كاشفةٍ للمعنى يتأكدُ بها بيانُ الأغراضِ بها فصل في جوامعِ العلمِ بالمعارضةِ اعلم أن المعارضةَ هي: الجمعُ بين الشيئين للتسويةِ بينهما في الحكمَ (¬2). مثاله بالأصولِ: جَمْعُ ما بين إرادةِ القبيحِ والأمرِ به على ما يُقرِّره أهلُ الاعتزالِ، وبين إرادةِ أفعالِ الخلقِ والتمكُنِ منها مع العلمِ بوقوعِها عن تمكينِ الممكنِ منها على ما كان من قبيحِها وحَسَنِها، في أنه إن جازَ أحدُهما جازَ الآخرُ؛ إذ قد سَوَّى العَقْلُ بينهما في ذلك، وكل شيئين سَوى العقلُ بينهما في حكمٍ، فهما يستويان فيه، كما أن كلَّ شيئين سَوى الرسولُ عليه السلام بينهما في حكم، فهما مستويان فيه، إلا أن من ذلك ما يَظهَرُ باولِ وهْلَة، ومنه ما يظهرُ بأدنى فكرةٍ، ومنه مايظهرُ بوسيطةٍ، ومنه مالايظهرُحتى تحَلَّ الشُبهة، وهوكيف تَصَرفَتْ به الحالُ في ذلك سَوَّى العقلُ بين الأمرَيْنِ، وإن كانت ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: "فصناعة". (¬2) ذكر الجويني هذا التعريف مع تعريفات أخرى، انظرها في "الكافية" ص 418.

- فصل في ضربي المعارضة: بالتسوية العامة، والتسوية الخاصة

التسويةُ لا تظهر إلا على الأوصافِ التي ذَكرْنا. فصل والمعارضة على ضربَيْنِ: أحدهما: ما كان على التسويةِ العامَّةِ، والآخرِ: ما كان على التسويةِ الخاصَّةِ. فالتسوية العامَة: على أنه إن صحَ الأوَّلُ صحَّ الثاني، وإن فسدَ الأولُ فسدَ الثاني، وكذلك إن صَحَّ الثاني صَحَّ الأول، وإن فسدَ الثاني فسدَ الأول؛ وذلك أنه إن جازَ للحكيمِ تعذيب الطِّفلِ بغيرِ جرْمٍ منه، جازَ له تعذيبُ البالغِ بغيرِ جرْمٍ، وإن لم يَجزْ منه تعذيبُ الطفلِ بغيرِ جرْمٍ، لم يَجزْ تعذيب البالغِ، وكذلك إن جازَ تعذيبُ البالغِ بغيرِ جرْمٍ، جازَ تعذيبُ الطفلِ بغير جرْمٍ، وإن لم يَجزْ تعذيب البالغِ بغير جرْمٍ، لم يَجزْ تعذيب الطفلِ، فقد سَوَّى العقل بينهما على الوجهَيْن جميعاً. فصل وأما التَّسوية الخاصَّةُ (¬1)، فهي: على أنه إن صحَّ الأولى صحَّ الثاني، وإن فسدَ الثاني فسدَ الأوَّل، ولا يجب إن فسدَ الأولى فسدَ الثاني، ولا إن صحَّ الثاني صحَّ الأولى، وذلك لأنه إن كان العالَمُ قد خلا من الحوادثِ، فهو قديمٌ، وإن لم يَكنْ قد خلا من الحوادثِ، لم يكن قديماً، فهذه المعارضة صحيحةٌ باضطرارٍ، فليس يجبُ بالضَرورةِ أنه إن لم يَكنْ قديماً، لم يكنْ قد خلا من الحوادثِ، ولا ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالخاصية".

- لا بد في المعارضة من تسوية

يجبُ من أنه قد خلا من الحوادثِ أنه قديمٌ بالضرورةِ، كما وجبَ في الأولَ. فصل وكل معارضةٍ فلا بُدَّ فيها من تسويةٍ، إلا أن التسويةَ قد تَظهرُ باقتضاءِ العقلِ، وذلك مثلُ أن تقولَ: إن جازَ أن يكونَ القارُ أسودَ لا بسوادٍ، جاز أن يكونَ الآبِنُوسُ (¬1) أو السَّبَجُ (¬2) أسودَ (¬3) لا بسواد. ومثلُ قولِك: إن جازَ في بابٍ أن يكونَ باباً بعد أن لم يكن باباً من غيرِ صانعٍ جعلَه باباً، جازَ في دولابِ أن يكونَ دولاباً من غيرِ صانع، أو باباً آخرَ من غيرِ صانعٍ جعلَه بَاباً. فأمَّا ما يظهرُ من التسويةِ فيه من طريقِ اقتضاءِ العقلِ لا بضرورةِ العقلِ، لكن يظهرُ باقتضائِه عند الفِكْر، مثلُ أن تقولَ: إن جازَ أن يكونَ تَرْكُ الإِيمانِ ليس بقبيحٍ، جاز أن يكونَ الكفرُ ليس بقبيحٍ، وهذا إذا تُؤمل ظهرَ، وكل ذلك قد سَوَّى العقلُ فيه بين الشيئين من جهةِ أنه إن صحَّ أحدُهما صحَّ الاَخرُ، وإن لم يصح الآخرُ لم يصح الأولُ، فتأمل التسويةَ، وصَحَّحِ المقابلةَ، يظهرْ لك عِلْمُ ما تطلبُ علمَه، وما تحتاجُ إليه من ذلك. ¬

_ (¬1) شجر ينبت في الحبشة والهند، خشبه أسود صلب، ويصنع منه بعض الأدوات والأواني والأثاث. "معجم الوسيط " (الآبنوس). (¬2) تقدم في الصفحة (357) أنه الخرز الأسود. (¬3) كتبها الناسخ: "الأسود".

- المعارضة المطلقة والمقيدة

فصل والمعارضةُ فلا تخلو أن تكونَ مطلقةً أو مقيَّدةً. فالمطلقةُ منها: هي التي يُسَوِّي (¬1) العقلُ فيها بين الشيئين من غيرِ شَرْطٍ يوجبُ استواءَ الحكمِ فيها (¬2)؛ لأن العقلَ يقتضي استواءَهما وُيويس من فرقٍ [بينهما] (¬3). فأمَّا المقيَّدةُ منها: فهي التي يُسوِّي العقلُ فيها بين الشيئينِ إن استوت عِلَلُهما أو دَلائلُهما؛ لأن العقلَ يقتضي استواءَهما وَيطمَعُ في فرقٍ بينهما. مثالُ الاوَّلِ: بَيْنَ أن الأجسامَ قديمةٌ، وبَيْنَ أنها قد خَلَتْ من الحوإدثِ، وذلك أنها إن كانت قديمةً، فقد خَلَتْ من الحوادثِ لا مَحالةَ، فالعقلُ يَقضي بأنه إن صحَّ الأولُ صحَّ الثاني، وُيجمَعُ بينهما في ذلك ولا يُفرَّقُ، وكذلك إن لم تَكُنْ قد خَلَتْ من الحوادثِ فليست قديمةً، فيُجمَعُ أيضاً بين صحةِ هذين ولا يُفرق، وهو أنه إن صحَّ أنها لم تَخْلُ من الحوادثِ، صحَّ أنها ليست بقديمةٍ، فإذا قامتِ الدَّلالةُ بأنها لم تخلُ من الحوادثِ، صحَّ أنها ليست بقديمةٍ، ثم لا تُبالي وُجِدَت تلك الدلالةُ بعينها في السؤالِ الآخرِ أو لم تُوجَدْ؛ لأن العاقلَ قد قضى قضيَّةً مطلقةً: أنه إن صحَّ أحدُهما صحَّ الآخَرُ. ¬

_ (¬1) كتبت في الإصل: "يستوي". (¬2) بعدها في الأصل: "إن استوت عللهما أو دلائلهما"، وهذا من شرط المعارضة المقيدة كما سيأتي. (¬3) ليست في الأصل.

وكذلك يُسوي العقل بين الصُّوفِ والشَعَرِ؛ أنه إن كان في أحدِهما حياةٌ ففي الآخرِ حياةٌ. فهذا أيضاً جمعٌ قد قضى به العقلُ، ثم يُعتَبَر الشَعَرُ (¬1) بأنه لو كان فيه حياةٌ لآلَمَ من جهتِه الحيوانَ إذا قُطِعَ، فيظهرُ من عدم الألمِ والحِسِّ في الجملةِ أنه لا حياةَ فيه، وقد كان قضى العقلُ بالَتسويةِ بين الصوفِ وبين الشَّعَرِ، فإذا ظَهَرَ أنه لا حياةَ في الشَّعَرِ، ظهرَ أنه لا حياةَ فيِ الصوفِ، وإن كانت الدَّلالةُ التي في أحدِهما ليست موجودةً في الآخرِ. فأمَّا التَّسويةُ المقيَّدة: فكما قضى العقلُ إن كان في الغائب عالِمٌ لا يَعلم، ففي الشاهدِ عالِمٌ لا يعلم، فهذا مقيَّدٌ بأنه إن استوت العلل والدلائلُ، فإذا اعتبِرَ فوُجِدَتْ دلائله مختلفةً، فإن الذي أوجبَ للعالِمِ في الشاهدِ عِلْماً كان به عالِماً -عند المعتزلةِ- هو كونه عَلِمَ مع جوازِ أن لا يَعلَمَ، أو يقول: هو تَغيُّره، والعالِم في الغائبِ لا يَتغيَّرُ، بطلت التسويةُ في ذلك، فهذا الاقتضاء عندهم وعلى زعمِهم على شبْهَةِ أن العقلَ قد أخرجَ فرقاً. وعلى قولِ أهلِ السُّنَةِ: أن العللَ هاهنا متساويةٌ؛ لأن ما كان به العالِم عالِماً إنما هو العِلم وذلك يَعُمُّ الشاهدَ والغائبَ، فإن حصل فَرْقٌ، فإنما هو من حيثُ إن العلَّةَ في الغائب واجبةً، وكون العالِمِ عالِماً واجبٌ، وهذا يشيرُ إلى أصلٍ كبيرٍ، وأن اَلواجبَ ئعلَّل عند أهلِ السُّنَّةِ، وعندهم لا ئعلَّلُ واجبٌ، لاستغنائِه بوجوبِه عن معنىً. ثم قالوا: عالِمٌ لذاتِه، وليست ذاته عِلماً، فوقعوا فيما هو أكثرُ من ¬

_ (¬1) في الأصل: "الشرع".

إثباتِ ذاتِ العلمِ؛ وهو كونُ ذاتٍ ليست علماً تُوجِبُ كونَ العالِم عالماً، وهذا إثباتُ كونِ العالِمِ عالِماً بذاتٍ ليست عِلماً، أو نقولُ: بمعنىً ليس بعلمٍ، وأثبتوا الذاتَ الواحدةَ موجِبةً كونَ العالِم عالِماً، والقادرِ قادراً، والحيِّ حياً. وأما تسويةُ العقلِ بين وجودِ الحياة والموتِ في الحَجَرِ، وبين وجودِ الجَمادِيَّةِ والعِلم فيه فثابتٌ (¬1) صحيحٌ على حُجةٍ؛ لأن العقلَ لا يُفرقُ بين ذلك لا في أولِ وَهْلَةٍ ولا بعدَ فِكْرةٍ، ومَنْ زعمَ أن الفرقَ بينهما: أن الحياةَ تُضاد الموتَ، وأن الجماديةَ لا تُضاد العِلمَ، فأجاز أحدَهما ولم يُجزِ الاَخرَ، فقد أخطا خطأً فاحشاً؛ لأنه إذا لم يَجُزْ أحدُهما لتَّضادِّ، لم يَجُزِ الاَخرُ للتناقضِ؛ لأن العقلَ يُسوَّي بين التناقضِ والتَضاد في أنه لا يَصح اجتماعُ الوصفين بهما، كما أن العقلَ يُسوَّي بين تَضاد السوادِ والبياضِ على المَحَل الواحدِ، وبين تَضاد الحياةِ والموتِ على الِإنسانِ الواحد، يُسوَّي بين التناقضِ في الجوهرِ إذا وُصِفَ بأنه موجودٌ معدومٌ، وبين التناقضِ فيه إذا وُصِفَ أنه متحركٌ ساكنٌ، وإن كانت إحدى الصَفتين لعلةٍ غيرِ الذَاتِ، وهي التحركُ والسكونُ، والأخرى ليست كذلك، وهي الوصفُ بأنه معدومٌ، فإنه أمرٌ يعودُ إلى ذاتِه، وموجودٌ أمرٌ يعودُ إلى ذاتِه أيضاً، لا وصفٌ يزيدُ على الذَّاتِ. فصل وكل معارضةٍ فلا بُد فيها من تسويةٍ بين شيئَيْنِ: أولٍ وثانٍ؛ لأن ¬

_ (¬1) كتبت في الأصل: "ثابت"، والأنسب ما كتبناه.

التسويةَ في ذلك على ضَرْبَيْنِ: أحدِهما أن تكونَ شهادةُ الأولِ شهادةَ الثاني، وذلك أن استحقاق الذَّمَ يشهدُ بالحاجةِ ممنْ فعلَ واستحَقً الذَّمَّ عليه، كما يشهدُ فعلُ الظلمِ بالحاجةِ، فلا يَظلِمُ إلا محتاجٌ إلى الظلمِ. فأمَّا الضَّرْبُ الثاني: فهو أن يشهدَ الأولُ بأنه إن صحَّ صحَّ الثاني، وبأنه (¬1) إن بَطَلَ [لثاني] (¬2) بطلَ الأولُ، وذلك إن صحَّ أن زيداً كافرٌ، استَحقَّ الذَّمَّ أو فهو مستحِقٌّ للذمِّ، وإن بطَلَ أنه مستحِقٌّ للذَّمِّ، بطَلَ أنه كافرٌ، فشهادةُ الأولِ بصحتِه، وشهادةُ الثاني ببطلانِه، والشهادتان جميعاً صحيحتان، فمن جحدَ إحداهما (¬3)، لَزِمَه بالمعارضةِ جَحْدُ الأخرى؛ إذ كانت نظيرتَها في اقتضاءِ العقلِ لها. ومن المثالِ للبابِ الأولِ: أن النًشْأَةَ الأولى إن كانت من فعلِ الطبيعةِ، فهي تشهدُ بأنه يجوزُ أن تكونَ النَّشأَةُ الثانيةُ من فعلِ الطبيعةِ، فهي تشهدُ بأن النَّشأَةَ الأولى يجوزُ أن تكونَ من فعلِ الطبيعةِ، وكذلك النشأةُ الثانيةُ إن كانت من فعلِ الطبيعةِ، وإذا بَطَلَ أن تكونَ النَشأةُ الأولى من فعلِ الطبيعةِ، بل مِنْ فعلِ مختارٍ، بَطَلَ أن تكونَ الثانيةُ من فعلِ الطبيعةِ، بل فعل ذلك المختار. وهذا من أوضحْ المعارضاتِ؛ إذِ العقلُ سَوَّى بينهما في ذلك، وقضى أنه إن صحَّ أن يكونَ تدبيرُ العالَمِ يرجعُ إلى الطبيعةِ في ¬

_ (¬1) كتبت في الأصل: "بأنه" بدون واو. (¬2) ليست في الأصل، وزدناها لتوضيح المعنى. (¬3) في الأصل: "أحدهما".

الابتداءِ، صحَّ في الانتهاءِ، لا فَرْقَ في ذلك. ولَمَا شهدَ إتقانُ الأمورِ وإحكامُ الصَّنْعَةِ بحكيمٍ في النَشأةِ الأولى مختارٍ للتًقديمِ والتَّأخيرِ، شهدَ في النَّشأةِ الثانيةِ بذلك. ومن هذا الباب أيضاً: إن كان نَسْخُ الشريعةِ من حيث كان رَفْعَ ما شُرِعَ في الأوَّلَ وإزالةَ ما وُضِعَ معنى (¬1) يشهدُ بالبَداءِ، فهو يشهدُ بأن نسخَ النُورِ بالظُّلمةِ بَداءٌ، وإن كان نسخُ النُورِ بالظلمةِ يشهدُ بالبَداءِ، فهو يشهدُ أن نسخَ الشريعةِ بشريعةٍ غيرِها بَداءٌ، فشهادةُ كلُّ واحدٍ منهما في الآخرِ كشهادةِ الآخرِ فيه. ومن هذا الباب أيضاً: إدامةُ الثَواب إن كان واجباً في الحِكْمةِ، فهو يشهد بأن إداَمةَ العِوَضِ واجبٌ فَي الحكمةِ (¬2)، وكذلك إدامةُ العِوَضِ إن كان واجباً في الحكمةِ، فهو يشهدُ بأن إدامةَ الثَّواب واجبٌ في الحكمةِ. ومن هذا البابِ: إن كان العقلُ يشهدُ بوجوب المصالحِ على اللهِ سبحانه في الدنيا من حيثُ كانت نفعاً لا يُستضَرُّ به، والعبدُ محتاجٌ إليه، فواجبٌ عليه العَفْوُ عن العذابِ في الأخرى من حيثُ كان نفعاً لا يُستضر به، وإن كان العقلُ يشهدُ بوجوب العفوِ في الأخرى من حيثُ كان نفعاً لا يُستضرُّ به، فهو يشهدُ بإيجابَ المصالحِ في الدنيا، ¬

_ (¬1) كُتبت في الأصل هكذا "ومنن"، ولم نَتبين وجهها، ووضع فوقها ضبة صغيرة، وتعني أنها هكذا هي في الأصل المنسوخ عنه، إلا أنه قد خفي على الناسخ معناها، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) في الأصل: "الحكم".

- المعارضة لإسقاط السؤال

إذ كانت نفعاً لايستضرُّ به. فصل في المعارضِة لإسقاطِ السؤالِ اعلم؛ أن المعارضةَ لإسقاطِ السؤال (¬1): هىِ الجمعُ بين مطالبةِ السائلِ وبين مذهبٍ له يَلزَمه فيه مثلُ ما طالبَ به، والاعتماد فيه على التَسويةِ، وإنما كانت هذه المعارضة تسقِطُ السؤالَ؛ لأنه بمنزلةِ السائل لنفسِه والناقضِ عليها. مثالُ ذلك: سؤال بعضِ الإمامِيَّةِ (¬2) عن قولِه لأبي بكرٍ: {لا تَحزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا} [التوية: 40]، فقال: لا يَخْلو أن يكونَ حُزْن أبي بكرٍ طاعةً أو معصية، ولا يجوز أن يكونَ طاعةً؛ لأن الله سبحانه، ينهى عن طاعتِه، لم يَبْق إلا أنه معصية، فقد عصى أبو بكرٍ بحُزْنِه في المقامِ الذي هو مفاخرِه عندكم يا معاشرَ السُّنَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر (الكافية) ص 423. (¬2) هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه الصلاة والسلام نصاً ظاهراً، وتعييناً صادقاً، من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين، قالوا: وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإِمام. ثم إنهم لم يثبتوا في تعيين الأئمة بعد الحسن والحسين وعلي بن الحسين رضي الله عنهم على رأي واحد، بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها. انظر في الِإمامية وفرقها وآرائها: "الملل والنحل" 1/ 162 وما بعدها، و"الفرق بين الفرق " ص 53 وما بعدها. (¬3) هذا مطعن من عدة مطاعن تذكرها الإمامية في أبي بكر رضي الله عنه في تفسير هذه الآْية، وقد ذكر الفخر الرازي هذه المطاعن، وفندها كلها. انظر=

فيقولُ له السنَيُّ جواباً عن سؤالِه: أخْبِرْنِي عن قولِ اللهِ سبحانه لموسى: {لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10]، لا يخلو خوفُ موسى من أن يكونَ طاعة، فيكونَ اللهُ قد نهاه عن طاعةٍ، ولا يجوزُ ذلك، [أو] (¬1) أن يكونَ معصيةً، فقد عصى موسى في أجَل لياليه ومَقاماتِه عند ربِّه، فسقطَتِ المسألةُ بهذا الجواب للتسويةِ بين النهْيَيْنِ، فإنه لا يلزَمُ السُّنَى أن يكونَ أبو بكرٍ قد عصىَ، إلا أن يَلزمَ الِإماميَ أن يكونَ موسى قد عصى. ومتى طلبَ إقامةَ العذرِ لموسى في خوفِه، وأن الخوفَ غلبَ عليه؛ لأنه من طباع الآدميَ الخوفُ من صُوَرِ الحيواناتِ المؤذيةِ وخرقِ العادةِ، قام العذرُ لأَبي بكرٍ في حصولِ خوفِه على النبى صلى الله عليه وسلم؛ حيث رأى من رسولِ الله الهربَ والتَخفَيَ من مكيدةِ المشركين، والمخافة على النبى طاعةٌ، وليس كلُّ طاعةٍ يكونُ النَهى عنها عصياناً؛ حيث كان النهيُ قد يقعُ إشفاقاً وإسقاطاً للمَشَقَّةِ عن المطيعِ، مثلُ قولِه سبحانه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] و [قولِه] {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وما هذا سبيله لا يكونُ خوفاً يخلعُ الوِلايةَ، ويَحُط من رتبتِه الصالحةِ لأصلِ الِإمامةِ. ومثالٌ آخرُ: مثل سؤالِ أصحابِ الأحوالِ (¬2) عن دعائِنا لله بأن ¬

_ = "التفسير الكبير" 16/ 67 - 69. (¬1) ليسص في الأصل، واستدركناها لاقتضاء المعنى لها. (¬2) يقصد المؤلف المتصوفة، والحال عندهم كما قال الجرجاني في "التعريفات" ص 81: هو معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة.

- المعارضة لإقامة الحجة

يُبْقِيَنا، والبقاء ليس بمعنىً، فقد دَعَوْناه بحال معقولةٍ ليست بمعنىً. فقالَ المجيبُ: فقد يأمرُنا الله بأن ندومَ على حالِ السكونِ، والدَّوامُ ليس بمعنىً، فقد امِرنا بحال معقوله وليست بمعنىً. وإنما كان هذا إسقاطاً؛ لأن صاحبَ المقالةِ يقولُ: لا بدَّ من أن يتعلَّقَ الأمرُ بغيرِ مأمور به، ويقولُ مع ذلك: أن يكونَ الحيوانُ يَبْقى لابِبَقاءٍ. فصل في المعارضِة لإقامةِ الحُجَّةِ اعلم أن المعارضةَ لإِقامةِ الحُجَّةِ على المَقالةِ لا بُدَّ فيها من تصحيح أحدِ الشَقَّيْنِ أو فسادِه بعد البيانِ للتسويةِ، ليظهرَ من ذلك حالُ الشّقِّ الآخرِ في الصحَّةِ أو الفسادِ، إلا أن يكونَ الخصمُ يوافقُ عليه، فيستغني بموافقتِه عن التعرضِ لتصحيحِه في نفسِه، ويكونُ الكلامُ كلُه إنما هو في التسويةِ بينه وبين الأصلِ الذي قد وافقَ عليه. مثال ذلك: أن السائلَ إذا قال: ما الدليلُ على أنه لا يكونُ متحركٌ إلا لأجلِ حركةٍ واقعةٍ؟ يقولُ المجيبُ: لأن المسيءَ إنما كان مسيئاً لأجلِ إساءةٍ واقعةٍ؛ إذ المسىءُ إنما يكون مسيئاً [بعد أن كان غيرَ مسيءٍ] (¬1)، وهو في كلا الحالين موجودٌ عن حادثٍ، فلولا أن هناك حادثاً (¬2) غيرَه- هو ¬

_ (¬1) زيادة على الأصل يستقيم بها المعنى. (¬2) وردت في الأصل: "حادث".

إساءتُه-، لوجبَ أن يكونَ على حالِه الأولى التي كان عليها غيرَ مسيءٍ، كما أن المتحركَ إنما يكونً متحركاً بعد أن كان غيرَ متحركٍ، وهو في كلا الحالين موجود عن (¬1) حادثٍ، فلولا أن هناك حادثاً غيرَه -هو حركتُه-، لوجبَ أن يكونَ على ما كان عليه غيرَ متحرِّكٍ، فهذا لا يُحتاجُ فيه إلى الكلام في أن المتحرِّكَ إنما كان متحركاً بحركةٍ؛ لأن خصمَه يوافقُه عليه، فإنما ينبغي أن يُعتمدَ على التسويةِ. مثال آخرُ يَقْوَى به فهْمُ ما ذَكَرْنا وإتقانُه: أن يقولَ المعتزليُّ للسّنَيِّ: إذا كان اللهُ سبحانه قد بَرَّأ نفسَه من أن يأخذَ الغَيرَ بذنبِ الغيرِ بقولِه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، لم يَجُزْ أن يقالَ: إنه يأخذُ لا بذنبِ، لقولِه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، أوقولهَ،: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9]، فتحْصُلُ المعارضةُ بأنه لَمَّا لم يَجُزْ أن يأخذَه بذنب غيرِه، لم يَجُزْ أن يأخذَه لا بذنبِ كان منه؛ إذ هما سواءٌ؛ لأنه ليسَ ذنبُ الغيرِ عن الغيرِ إلا بكونِه ليسَ بذنبِ له، فكذلك ذنب لم يَفْعَلْه ليس بذنبٍ له. فإن خالفَ السائلُ في الأصلِ الذي بَنى عليه المعارضةَ، فقالَ: يجوزُ عندي أن يأخذَ اللهُ العبدَ بذنب غيرِه وبما شاءَ، فلا بُد من أن يَدُلَّ على أن هذا باطلٌ بعدَ الجمعِ والتَسويةِ. ¬

_ (¬1) كتب فوقها في الأصل كلمة: "غير".

- المعارضة المغيرة

فصل في المعارضةِ المُغَيَّرَةِ اعلم أن المعارضةَ المغيَّرةَ لا تخلو أن تكونَ غُيرَتْ بنقصانٍ، أو زيادةٍ، أو قَلْبٍ، أو إبدالٍ، أو نقلٍ. فالنُقصانُ (¬1): كقول السائلِ: إذا لم يَكُنْ في الشاهدِ عالِمٌ إلا بعِلمٍ، فما تُنْكِرُ أن لا يكونَ في الغائبِ عالِم لا بعلم؟ فيقولُ الجاحدُ للصِّفات: هذه معارضة مبتورةٌ (¬2)؛ لأن الإِتيانَ بها على التَّمام أن يقالَ: إذا لم يَكُنْ في الشاهدِ عالِمٌ إلا بعلم من حيث يَعلَمُ تارةً ولاَ يَعلَمُ تارةً، فما تُنكِرُ أن لا يكونَ في الغائبِ إلا كذا؟ وهذا بناءً على أصلِ المعتزلةِ، وأن التعليلَ إنما يقعُ في الجائزاتِ، وأن الواجباتِ لا تُعللُ بل يُستغنى بوجوبِها عن عِلَةٍ. وأهلُ السنَةِ يخالفون في ذلك، ويقولون: إن الواجبَ يُعلَّلُ بعلَّةٍ واجبةٍ، وعلة كونِ العالِمِ عالِماً هو العِلمُ شاهداً وغائباً، وهذا مما لا ينقطعُ فيه الغائبُ عن الشاهدِ، فافْهَمْ ذلك. والجوابُ عنه: أن تُوضَحَ أن العلَّةَ الموجِبَةَ كونَ العالِمِ عالِماً هي العلمُ لا الذَّاتُ؛ إذ لا ذاتَ تُوجِبُ كونَ العالِم عالِماً إلا العِلمَ، وعندهم (¬3) أن ذاتَ القديمِ اوجَبَتْ له كوَنه عالِماً وليست عِلماً، وهذا ¬

_ (¬1) ذكرها الجويني ومثل لها في "الكافية" ص 424: (¬2) في الأصل:"منثورة". (¬3) أي عند المعتزلة.

- المعارضة المقلوبة

قَلْب لأصلِ العلَّةِ والمعلولِ. وأما المعارضةُ الزائدةُ (¬1): فكقولِ السائلِ الجاحدِ للفعلِ: إذا كان الفعل لا يكونُ في الشاهدِ إلا من فاعلٍ متغيِّرٍ به، فما تُنكِر أن لا يكونَ في الغائب إلا من فاعلٍ متغيِّر به؟ فهذه معارضة زائدة؛ لأن الذي يجبُ في الفَعلِ أن لا يكونَ إلا من فاعلٍ، فأمَّا التغيرُ فإنما يجبُ لفاعلٍ حل به الفعلُ، لا من جهةِ صدورِه عنه. فأمَّا المعارضة المقلوبةُ عن وجهِها: فكقولِ السائلِ: إذا كانت القُدْرَةُ قبلَ الفعلِ، فما تُنكِرُ أن لا يَصِحَ بها الفعل؟ فهذه مقلوبةٌ؛ إذ (¬2) لو كانت مع الفعلِ، لم يَصِحً أن تكونَ قدرةً على الفعلِ في الحقيقةِ؛ لأنها إنما تكونُ قدرةً على أن نفعلَ وأن لا نفعلَ، وهذا لا يصِحُ لها إلا قبل الفعلِ، وهذا مثالٌ على مذهب المعتزلةِ ومن وافقَهم من الأصوليِّين. وأما الإِبدالُ (¬3): فكقولِ السائل السَّالِميِّ (¬4): إذا كان الحيُّ بنفسِه ¬

_ (¬1) انظر "الكافية" ص 424 - 425. (¬2) في الأصل: "إن". (¬3) انظر "الكافية" ص 425. (¬4) نسبة إلى السالمية، وهي جماعة تنتسب الى مذهب أبي عبد الله محمد بن بي الحسن أحمد ابن محمد بن سالم في التصوف، وإلى مذهب أبيه أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم في الأصول، وقد تتلمذ كلاهما على سهل ابن عبد الله التستري وأخذا عنه، وكان لهما في البصرة وسوادها أصحاب وأتباع، منهم فقهاء ومحدثون، أشهرهم أبو طالب المكي صاحب "قوت القلوب". انظر "سير أعلام النبلاء" 16/ 272 - 273، و"طبقات الصوفية" ص 414 - 416، و"الأنساب" 3/ 200، و"حلية الأولياء" 10/ 378 - 379.

- المعارضة بالنقل

أو بصفةٍ هي الحياةُ إنما كان رائياً بعد أن لم يَكُنْ رائياً لحدوثِ المَرْئى، فما تُنكِرُ أن تكونَ علَّةُ كونِه رائياً حدوثَ المَرْئيً؟ فهذا قد أبدلَ شيئاً مكانَ شيءٍ، فيقالُ له: ليس كذا قولُنا، وإنما هو أنه صحَّ الوصفُ للحي بنفسِه بأنه راءٍ أو بصفةٍ هي الحياةُ، فالتَّهيُّو للرؤيةِ وصف وجبَ له ما وجبَ، وهو البصرُ الذي أثْبَتَه لنفسِه، فوجبَ كوُنه بصيراً بصفتِه اللًازمةِ، فلمَّا حدثَتِ المرئياتُ رأى ما أَحدَثَ، فلم يحدُثْ إلا المرئيُّ، ولم يكُ حدوثُه موجِباً ولا مصحِّحاً كونَ الباري سبحانه رائياً، كحدوثِ ما يَحدُثُ تحت السَّقفِ، فيكونُ السقفُ له ظُلَّةً، فلا يَتجددُ للسقفِ وصفٌ بحدوثِ ما حدثَ تحتَه، لكن السقفُ كان متهيئا للإظِلال لما يكونُ تحته أو يَحدُثُ تحته، وللهِ المثلُ الأعلى. واما النَّقْلُ (¬1): مثلُ أن يقولَ السائلُ المتجوًزُ في أسماءِ اللهِ بما لم يُسَمِّ به نفسَه: إذا كان القديمُ كبيراً، وإن كان أصلُ الكِبَرِ للجُثَّةِ والجِرْمِ، فما تُنكِرُ أن يكونَ سَخِيَّاً، وإن كان أصلُ السَّخاءِ الرَّخاوَةَ؟ فهذه معارضةٌ منقولةٌ عن موضعِها؛ لأنه قوبِلَ فيها بين معنىً قد نُقِلَ وبين معنىً لم يُنقَلْ، فالكِبَرُ الذي هو كِبَرُ الشَأنِ قد نُقِلَ عن كِبَرِ الجُثةِ، فاستُعملَ في حق القديم (¬2) سبحانه؛ لأنه يليقُ به كِبَرُ الشأنِ؛ إذ ليس بوصفٍ يُحِيلُ معنى القدمَ، ولا يُحِيلُ وصفاً من أوصافِه الواجبةِ له، والسخاءُ لم يُنقَلْ عن أصلِه منَ اللِّين والرَّخاوةِ، من أرضٍ سخيَّةٍ، ¬

_ (¬1) اتظر "الكافية" ص 425. (¬2) وإن كان المؤلف رحمه الله ذكر هذا على سبيل الفَرض والتجوّز، إلا أنه لا ينبغي ذكره في حق الله سبحانه وتعالى.

- المعارضة اللازمة بالضرورة

إذ كأنه قيلَ: طَلْقُ الكَف، ليس يَكُزُّ (¬1) الكف عن العطاءِ. على أن أصلَ المطالبةِ باطلةٌ؛ لأن اللهَ سبحانه لا تَثبُتُ أسماوة إلا توقيفاً (¬2). فصل في المعارضِة اللازمةِ بالضَرورةِ (¬3) وهي التي شهادةُ الفَرْع فيها بالحُكْم كشهادةِ الأصلِ به؛ من جهةِ إيجاب العقلِ لها بأوَّل وَهْلَةٍ، وذلك لَأن من المعارضةِ ما يحتاج إلى التَأمل والفِكْرَةِ، ومنها ما لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه يعلَمُ بالبديهةِ. مثالُ ذلك: إذا كان التَّضادُّ يشهدُ بأنه لا يكونُ المَحَلُّ أسودَ أبيضَ في حالٍ، فالتناقضُ (¬4) يشهدُ بأنه لا يكوق الشيءُ موجوداً معدوماً في حالٍ، فمن حاولَ الفرقَ في ذلك، فهو محاوِلٌ (¬5) لرفعِ ما يُعلَمُ لزومُه من جهةٍ باضطرارٍ. ¬

_ (¬1) أي: لا يشدها ويضيقها بخلًا، ورجل كَز اليدين: أي بخيل. "اللسان" (كزز). (¬2) قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" 1/ 162: إن ما يطلق على الله سبحانه وتعالى في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيأ كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. وانظر "فتح الباري" 11/ 223. (¬3) انظر "الكافية" ص 426. (¬4) في الأصل: "فالبياض". (¬5) في الأصل: "محال".

ومن ها هنا كان الصالِحيُّ (¬1) -المضافُ إلى صالحِ قُبةَ (¬2) - عندنا مناقِضاً في قولِه: إن التضاد يُوجِبُ أن لا يكونَ الشيءُ حياً مَيْتاً في حال، ثم قال: ويجوزُ أن يكونَ جماداً عالِماً؛ لأن الجَمادِيةَ لا تُضاد العلمَ، فأخطأ في ذلك خطأً فاحشاً؛ لأنه إذا كان التضاد يُوجِبُ أن لا يكونَ الشيءُ حيَّاً مَيْتاً في حالٍ، فالتناقضُ يُوجِبُ أن لا يكونَ الشيءُ جماداً عالِماً في حالٍ، وأجازَ أن يكون ميْتاً قادراً وعالِماً وقاصداً، وكُل متناقِض، ولم يُجِزْ أن يكونَ أسودَ أبيضَ؛ إذ التضاد يشهدُ عنه بأنه لا يجوزُ أن يكونَ أسودَ أبيضَ في حالٍ (¬3). ¬

_ (¬1) لا يخلو أن يكون المصنف أراد مطلق من ينتسب إلى مذهب صالح قبة المذكور بعدُ، أو أراد واحداً بعينه، فإن كان أراد الثاني؛ فالذي عرف بهذه النسبة وشارك صالح قبة في مقالته هو أبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي، ترجم له الصفدي في "الوافي بالوفيات" 5/ 27 فقال: من أهل البصرة، أحد المتكلمين على مذهب الإرجاء، ورد بغداد حاجاً واجتمع إليه المتكلمون وأخذوا عنه، وله من المصنفات: كتاب "الإدراك الأول"، وكتاب "الإدراك الثاني"، وقال: ذكره ابن النديم قي كتاب "الفهرست". قلنا: ليس هو في المطبوع منه. وللصالحي هذا أيضاً ترجمة في باب ذكر المعتزلة من كتاب "المنية والأمل" ص40. وله أيضاً آراء ومقالات انظرها في "مقالات الإسلاميين" ص 132 - 133 و 158 و 168 وغيرها. (¬2) من رؤوس المرجئة القدرية، ترجمه ابن المرتضى في باب ذكر المعتزلة من كتاب: "المنية والأمل" ص 41، فقال: له كتب كثيرة، وخالف الجمهور في أمور منها: كون المتولدات فعل الله ابتداء، وكون الإدراك معنى. وفي سبب تلقيبه بقبة قصة ذكرها أبو الحسن الأشعري في "مقالاته" ص 407، وذكر له أيضاً جملة من الأراء في ص 223 و 317 و383 و 406 - 407 و433. (¬3) هذه المقالة ذكرها أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإسلاميين" ص 309 =

- المعارضة على شيهة أو شغب

ولا يَفصِلُ عاقلٌ بين ما يشهدُ به التضادُّ وبين ما يشهدُ به التناقضُ في أنه إذا شهدَ التضادُّ بأنه لا يصحُّ، فوجبَ أنه لا يصحُّ، فكذلك التناقضُ إذا شهدَ بأنه لا يصحُّ، فواجبٌ أن لا يصحَّ. ومن هذا الباب أيضاً: إذا كان حلولُ الحركةِ في الحَجَرِ يشهدُ بأنه متحرك، فحلولُ اَلسوادِ فيه يشهدُ بأنه أسودُ، وكذلك إذا كان وجودُ الحركةِ يُوجِبُ أنه لا بُد من متحركٍ، فوجودُ السوادِ يُوجِبُ أنه لا بُد من أسودَ، وكذلك إذا كان القارُ يُوجبُ أنه لا يكون أسودَ إِلا بسوادٍ، فالغُرابُ يُوجِبُ أنه لا يكونُ أسودَ إلَا بسوادٍ، وكذلك الدَينارُ إذا كان يُوجِبُ أن لا يكونَ مضروباً إلا بطابِعٍ طبعَه، فالخاتِمُ لا يكونُ إلا بصانعٍ، وكلُّ هذا معلومٌ بالعقلِ قبل أن تُدرَى العلَّةُ ما هي، وذلك أنك قد تَدرِي العلَّةَ في المتحرِّكِ من وجهِ أنه متحركٌ؛ إذ كان العلمُ بالشيءِ متحرَكاً علماً بالحركةِ، ولا تَدريها من جهةِ ما هي حتى تَستدل عليها بالعلمِ، فالعلمُ بها من الوجهِ الأولِ ضرورةٌ، والعلمُ بها من الوجهِ الثاني اكتسابٌ. فصل في المعارضةِ على شبْهَةٍ أو شَغْب اعلم أن المعارضةَ على شُبْهَةٍ: هو مقابلةٌ بما الاقتضاءُ فيه على غيرِثقةٍ. ¬

_ = -311 و 312 و568 - 569 والسمعاني في "الأنساب" 3/ 512، وقال أبو الحسن ص 312: إن صالحاً والصالحي قد انفردا في مقالتهما هذه، وخالفا فيها سائر أهل الكلام.

- المعارضة بالنقيض

ومثالُ ذلك: إذا كان المتحرِّكُ بعد أن لم يَكُنْ متحركاً لا يكونُ إلا بحركةٍ، فالباقي بعد أن لم يَكُنْ باقياً لا يكونُ إلا ببقاءٍ، فهذه معارضة على شبهةٍ؛ لأن الأولَ على ثقةٍ، والثاني ليس على ثقةٍ. وكذلك لو قال: إذا كان الجوْهَرُ لا يَفْنى إلا بفناءٍ، فما تُنكِرُ أن يكونَ لا يَبْقى إلا ببقاءٍ؛ وكذلك لو قال: إذا كان الجوهرُ لا يَتحركُ الا بحركةٍ، فما تنكرُ أن لا يوجدَ إلا بوجودٍ؛ وكذلك لو قال: فما تُنكِرُ أن لا يَحدُثَ إلا بحدوثٍ. وأما الشَغْبُ: فهو تقابلُ الألفاظِ من غيرِ معنى يقتضيه العقلُ، وُيعتَبَرُ بمثلِه في اعتقادِ الأمر. وذلك كقولِ القائلِ: إذا كانت الاستطاعةُ قبل الفعلِ، فما تُنكِرُ أن يكونَ الجوهرُ قبل العَرَضِ؟ وأهلُ التَّحصيلِ لا يتكلَّمونَ إلا على حُجةٍ أو شُبهةٍ، فأمَّا الشَغْبُ فليس في الاشتغالِ به فائدة إلا بمقدارِ ما يُحذَرُ منه، وُيبينُ أنه شَغْب لا يتموَّهُ بمثلِه مذهبٌ (¬1). فصل في المعارضة بالنقيض اعلم أن المعارضةَ بالنَّقيضِ: هي مقابلة بالدعوى في الإِيجابِ للدَّعوى في السَّلْبِ. ¬

_ (¬1) تقدم كلام المصنف على الشبهة والشغب في الصفحة (339).

- المعارضة على الجزئي بالكلي

وذلك كقولِ الدَّهرِيَ: الأجسامُ قديمة؛ لأنه لم يَثبُتْ حَدَثُها بحجةٍ. فيقالُ له: ما الفصل بينك وبين من قال: الأجسامُ محدَثةٌ؛ لأنه لم يَثبُتْ قِدَمُها بحجَّة؟ وكذلك لو قال: ما الفصلُ بينك وبين من قال: ليست الأجسامُ قديمة؛ لأنه لم يَثبُتْ قِدَمُها بحجةٍ؟ فهذا على السلْبِ في الحقيقةِ، والأولُ على معنى السلْبِ، فكلاهما لازم بالمعارضةِ. وكذلك لو قال: لا أجَوزُ الاجتهادَ؛ لأني لا أعلمُ صِحتَه. قيل له: فما الفرقُ بينك وبين من قال: أُجوِّزُ الاجتهادَ؛ لأني أعلمُ صحتَه؟ فصل في المعارضةِ على الجُزْئي بالكُلَّي اعلم أن المعارضةَ على الجزئيِّ بالكلي (¬1): هو مقابلة الحكم الذي يشهد به البعض بالحكم الذي يشهد به الكل (¬2)، مثالُ ذلك: قولُك: إذا كان بعضُ (¬3) الأفعالِ يشهدُ بأنه لا بُدَّ له من فاعلٍ، فكلُّ فعلٍ يشهد بأنه لا بُدَّ له من فاعل، وكذلك إذا كان بعضُ المحكَمِ المتقَن يشهدُ بأنه لا يكونُ إلا من عالِيمٍ، فكلُّ محكَمٍ متقَن يَشهدُ بأنه لا يكونُ إلا من عالم. ¬

_ (¬1) انظر "الكافية" ص 426 - 427. (¬2) كتبت في الأصل: "الكلي". (¬3) في الأصل: "تغير".

فصل فإن قال قائل: إذا كان بعضُ الموجودين لا يكونُ إلا بموجِدٍ، فكلُّ موجودٍ لا يكونُ إلا بموِجدٍ، لم يصحَّ ولم يَلزَمْ ذلك؛ لأن بعضَ الموجودين كان وجودُه مع جوازِ أن لا يُوجَدَ، فاحتاجَ إلى موجِدٍ، فأمَّا ما وُجِدَ، ولم يكُ وجودُه بعد أن لم يَكُنْ، أو وجبَ وجودُه، لم يَحْتَجْ إلى موجِدٍ، بل استغنى بوجوبِ وجودِه عن موجِدٍ. فصل في المعارضة بالمثل والنظير اعلم أن المعارضةَ بالمثلِ والنَّظيرِ: هي مقابلةُ ما يشهدُ به أحدُ المِثْلَيْن بما يشهدُ به الآخرُ، وذلك كالجوهرَيْنِ إذا لم يَصِح أن يكونَ أحدُهما قديماً، لم يَصحَ أن يكونَ الآخرُ قديماً، وذلك كغَرْفَةِ ماءٍ تُقسَمُ بقسمين، أو كثوب يُقطَعُ نصفين، وما أشبهَ ذلك، فهذا لا مُؤنةَ على عاقل ولا كُلْفَةَ فيً أنه إذا كان أحدُهما محدَثاً، فالأخرُ محدَثٌ؛ من حيثُ كانا متماثلين، وكذلك قياسُ السُّكونين المِثْلين في أنه لا يجوزُ أن يكونَ أحدُهما قديماً والأخرُ محدَثاً، كما لم يَجُزْ في الجوهرين، وكذلك التَّدبيران إذا كان أحدُهما لا يكونُ إلا من مُدَبرٍ، وكذلك المحكَمُ من بناءِ الدُورِ إذا لم يَكُنْ إلا ممنْ يُحسِنُه، فالمحكَمُ من بِنْيَةِ الإِنسانِ لا يجوزُ إلا ممن يُحسِنُه، كذلك يقتضي العقل فيه. فأمَّا المعارضةُ بالنظيرِ: فهي المقابلةُ بين الشيئين اللذين لا يَسُد أحدُهما مَسد الأخرِ في العقلِ، وان (¬1) كان كلُّ واحدٍ منهما يشهدُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "واذا"، والأنسب ما أثبتناه.

- المعارضة بالمثل والنظير

بمثل ما يشهدُ به الآخرُ. مَثالُ ذلك: الظُّلمُ والعَبَثُ في أن الظلمَ إذا كانَ يشهدُ بأنه لا يكونُ من حكيمٍ، فالعَبَثُ يشهدُ بأنه لا يكونُ من حكيمٍ، وكذلك كان فعلُ ما لا فائدةَ فيه الْبَتةَ، كفعلِ ما هو مَحْضُ المضَرةِ ممن يدخلُ تحتَ رَسْمٍ خلا الباريَ سبحانه، فإنه لو فعلَ المضَارَ المَحْضَةَ، لم يخلُ فعلُه من حكمةٍ؛ لأنه لا رَسْمَ عليه ولا مُعقِّبَ لأمِرِه. فصل في المعارضةِ على أصلٍ أو عِلَّةٍ اعلم أن المعارضةَ على أصلٍ: هي مقابلةُ ما (¬1) يشهدُ به الأصلُ بما يشهدُ به الفَرْعْ. مثالُ ذلك: الكلامُ يشهدُ بأنه لا يكونُ إِلا من متكلمٍ، كما أن المعنى [من] متكلِّمٍ يشهدُ بأنه لا يكونُ إلا بكلامٍ. وأما المعارضُة على علَّةٍ: فهي مقابلةُ ما يشهدُ به الأصلُ من أجل حقيقةٍ هو عليها بما يشهدُ به الفرعُ من أجلِ حقيقةٍ هو عليها. مثالُ ذلك: قولُك لليهوديَ: إذا صَحَتْ نُبُوَّةُ موسى لأجلِ المعجزةِ، فما تُنكِرُ أن تصح نُبوَّةَ محمدٍ عليهما السلام لأجلِ المعجزةِ؟ وكذلك قولُك للنصرانى: إذا كان لا بدَّ للقديمِ جل وعزَ من علمٍ؛ لأنه لا عالِمَ إلا وله عِلم، فما تُنكِرُ أن تكونَ له قدرةٌ؛ لأنه ما من قادرٍ إلا وله قدرة؟ فهذه المعارضةُ بنظيرِ العلَّةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بما".

- المعارضة على أصل أو علة

فصل في الاحتجاجِ في المختلَفِ فيه اعلم أن للعلوم مراتبَ وقَعَتْ مواقعَها لأعيانِها، فليس يجوزُ لذلك تغييرُها. فمنها: أصل ليس بفرعٍ، نحو علمِ الحِسِّ (¬1). ومنها: أصلٌ وفرعٌ، نحو العلمِ بالمحدَثِ. وإنما كان علمُ الحِسِّ أصلًا؛ لأنك تَبْني عليه وتَستخرِجُ به، فيكونُ أصلًا لما أَثبَتَه عليه واستخرجتَه به، فلم يَجُزْ اُن يكونَ فرعاً؛ لأنه لم يُبْنَ على غيرِه، وليس قبلَه شيء استُخرِجَ به. فأمَّا العلمُ بالمحدَثِ: فكل (¬2) شيءٍ بَنَيْتَ عليه شيئاً، فهو أصلٌ لما ابتَنَيْتَ عليه، مثلُ إحالتِك وبنائِك على علم الحسِّ، واستخراجِكَ له به، وكلُّ شيءٍ بُنيَ على غيرِه فهوفرعٌ له، وليس يُمْكِنُ أن يقعَ الفرعُ موقعَ أصلِه، ولا يجوزُ أن ينتقلَ الأصلُ إلى موضع فرعِه، حتى يكونَ العلمُ بأن الشيءَ محدَثٌ قبلَ العلمِ بأنه حادثٌ، وأصلًا له، والعلمُ بأنه محدَث قبلَ العلمِ بأن له محدِثاً، ولا يمكنُ أيضاً أن يكونَ العلمُ بأنه حادث والعلمُ بأنه محدَثٌ بعد العلمِ بأن له محدِثاً، ولا يمكُن أيضاً أن يكون العلمُ بأنه حادث قبلَ العلم بأنه موجودٌ، ولو جازَ هذا، لجازَ أن يكونَ علمُ الاستدلالِ قبل علومِ الحِسِّ، وأصلاً لها. ¬

_ (¬1) وهو ما يدرك بطريق الحواس، وقد تقدم الكلام عليه في الصفحة (20). (¬2) في الأصل: "وكل"، ولعل الصواب ما أثبتناه.

فإذا سُئِلْتَ عن شيءٍ أصلُه فرعٌ من علوم الاستدلالِ، فعلومُ الاستدلالِ يجوزُ فيها الاختلافُ، فليس يَبعدُ أنَ يكونَ سائلُك منكِراً لأصلِه، ولا يجوزُ لك أن تَدُل على المختلَفِ فيه بالمختلَفِ فيه؛ لأن الذي أحوجَ أحدَهما إلى الدَّلالةِ هو الاختلافُ فيه، وهذا بعينِه قائم في الاَخَر، فلو اسْتَغْنى بعضُ ما يُختلَفُ فيه عن الدليلِ؛ لاسْتَغْنى عنه جميعُه، كَما أنه لو احتاجَ بعضُ المتَّفَقِ عليه إلى الدليلِ؛ لاحتاجَ إليه جميعه. ومن المختلَفِ فيه ما يكونُ حقاً، فيكونُ البناءُ عليه محكَماً؛ لأنه لا يمنعُه من ذلك أنه لم يقَعْ بحِس، وذلك أن خروجَه عن الحِسَ لم يُبطِلْه، والصحيحُ لا يُثمِرُ إلا صحيحاً، فإذا كان له وجهُ دَلالةٍ، كانت صحيحةً. وإنما بانَتْ علومُ الحسِّ وفَضَلَتْ (¬1) غيرَها بقوً تِها، وبانها الأولُ الذي يُجعَلُ البناءُ عليه؛ لأنها هي التي يُبنى عليها دون غيرِها، ومن علومِ الحسِّ ما بعضُه أقوى من بعض، وليس يَجِبُ من ذلك أن يكونَ البناءُ على القويِّ دونَ غيرِه، ولكن الوجهُ في جوابِه: أن يقال له: إن (2 للذي سألتَ عنه أصلاً 2) هو قبلَه، وبه استدلَلْتُ عليه ¬

_ (¬1) في الأصل:"فعلت". (2 - 2) في الأصل: (الذي سألت عنه أصل).

- فصل في لزوم طريق أول السؤال وآخره

وعَرَفْتُه، وذلك الأصلُ مما يُمكِنُ أن يُختَلَفَ فيه؛ لأنه ليس بعلمِ حسٍّ، وهو استدلالٌ، فإن كنتَ معترِفاً به أو مسلماً له على غيرِ اعترافٍ، دَلَلْتُك به بعدَ الاعترافِ والتَسليمِ، وإن كنتَ تُنكرُه وتُخالِفُ فيه، فاصْرِفِ السؤالَ إليه، حتى إذا حَق عندَك، ودخلَ بذلك في باب المجمَعِ عليه، أرَيْناك إيجابَه لصواب ما سألتَ عنه، فإن أبى هذا، فهو بمنزلةِ من قال: وصِّلُوني إلى آخر المسافةِ من غيرِ أن تَسلُكُوا بي في وسَطِها، أو تَمُروا (¬1) بي على أولِها. فهذا هو العَنَتُ والبَغْيُ والظُّلمُ البَينُ من طالبِه (¬2). على أنه يقالُ له عند إثباته: إنَا لا ندَّعي أنَا وصَلْنا إلى معرفةِ ما سألْتَ عنه إلا بالأصل الذي أَوْمَانا إليه، فإن أردْتَ معرفتَه على الوجهِ الذي منه عَرَفْناه، عَرفْناكَهُ كما عَرَفْناه، وعَرفْناك علَّتَه، وإن لم تُرِدْ ذلك، فلسنا نقدرُ على غيرِه. فإن قال: لو كان اللَّونُ حقَاً، لوَصلْتم إلى معرفتِه من غيرِ البَصَرِ، كان هذا القولُ بَينَ الفسادِ؛ إذ لا مُدرِكَ للونِ سوى المبصِرِ، فهذا بيانُ من طلبَ دَرْكَ الشيءِ من غيرِطريقِه. فصل السؤالُ على من أجابَ هذا الجنسَ من الجوابِ اعلم أنه لا سؤالَ على من أجابَ بمثلِ هذا الجوابِ إلا من ثلاثةِ أوجهٍ، سنذكرُها إن شاءَ الله: ¬

_ (¬1) كتبها الناسخ: "مروا". (¬2) غير واضحة في الأصل.

فلا يخلو السائلُ أن يكونَ منكِراً للأصلِ الذي استشهدَ به المجيبُ، أو معترِفاً به. فإن كان منكِراً: فلن يخلوَ أيضاً من أحدِ قولين: إمَّا أن يكونَ عالِماً بأنه لو صحَ لأوجبَ الفرعَ الذي أضافَه إليه المجيبُ، أو عالِماً بأنه لا يُوجبُه صحَ أو بَطَلَ. وإن كان معترِفاً به: فليس يخلو أيضاً من أن يكونَ عالِماً بأنه يُوجبُ ذلك الفرعَ، أو لا يُوجِبُه. فإن كان منكِراً له عالِماً بايجابه للفرع لو صحَّ، لم يَكُنْ له أن يسألَ عن تسليمِه؛ لأنه إن سَلمَه، لم يَلْبَثِ المجيبُ أن يَدُل به على صحةِ ما أبطلَه وخالفَ فيه من فرعِه، ولكن يَطعُنُ فيه نفسِه، وُيجاذِبُ المجيبَ فيما ادعى من صوابِه حتى يُبطِلَ بإِبطالِه إياه فرعَه. وإن كان منكراً عالِماً بأنه غيرُ موجب لذلك الفرع ولو كان صحيحاً، فله أن يسألَ فيه من وجهَيْنِ: أحدِهما: ما ذكرنا، والثاني: على تسليمِه؛ لأنه لا يَلبَثُ أن يَرى المجيبُ بالمساءلةِ مفارقتَه لما شبهَهُ به، وبأنه غيرُ موجِبِ له، فلا يَجِدُ المجيبُ بُداً من إبطالِه والرجوعِ إلى مذهب السائل فيه؛ لأنه قد تقدمَ الإِقرارُ بأنه لا يَثبُتُ لإِثباتِ هذا الأصلِ، وإذا كان هذا والأصلُ غيرُ ثابتٍ فقد بأنَ سقوطُه. وإن كان معترِفاً به عالِماً بإيجابِه لِمَا أَوجبَه المجيبُ به، فليست له عليه مسألةٌ، وإنما يكونُ له أن يسألَه فيه مع اعترافِه من حيثُ يُوضحُ للمجيبِ مفارقتَه له، وذلك بأن يقولَ للمجيبِ: وما الدليلُ على أن هذا

الأصلَ موجِوب (¬1) له؟ ومن أَيِّ وجهٍ أوجبَه؟. فصل واعلم أن للخَصْمِ إذا خاصَمَك وخالفَك في المُستَنْبَطاتِ كلَها أن يَسلُكَ منها -إذا استشهدَ بها- شيئاً شيئاً حتى يَبلُغَ إلى علوم الحِسِّ وبَدائِهِ العقلِ، فإذا بلغَ إلى ذلك، كان الكلامُ في وجهِ دَلالَتِه على ما يَستدلُّ به عليه، فلا تَستَبطىء قولَه: ولِمَ قلتَ ذا؟ وفي هذا اسألْ، لا تُنكِرَنَهُ إلا أن يضعَ المساءلةَ في موضعٍ قد جامعك عليه، فيكونُ حينئذٍ سائلَاً لنفسِه، ظالماً بإيقافِك المسأله موقفَ من قد بانَ منه في الأمرِ الذي قد ساواه فيه. فصل في لزومَ طريق أوَّلَ السُّؤالَ وآخِرِه اعلم أن كلَّ سؤالٍ ابتدَأْتَه، فاتَّصلَ بما يُبطِلُ عِلَلَ المجيبِ في إفسادِه واحتجاجِه في دَفْعِه إيَّاه عن نفسِه، وبما يُبينُ عن حقيقتِه ووجوبِه، فهو ماضٍ على سَنَنٍ؛ لأن المتَّصِلَ به مسهِّلٌ طريقَه، مقرِّبٌ من نتيجتِه التي فيه. وكلُّ سؤالٍ ابتدَأتَه، ثم اتْبَعْتَهُ بما يَخرُجُ عمَّا وصَفْنا، فهو منقطعٌ خارج عن سَنَنهِ، وأنت بما وصَلْتَه به كذلك. فإن قال قائلٌ: كلُّ مسألةٍ في هذا البابِ تُوجبُ ما تُوجبُه أختُها، فينبغي إن كان ما وصفْتَ حقَّاً، أن يكونَ من سأَل عن مسألةٍ فانقطعَ ¬

_ (¬1) قبلها في الأصل كلمة:"من"، والأنسب حذفها.

فيها، ثم وصلَها بأخرى من بابِها، غيرَ خارج من كلامِه، إلى أن يأتيَ على جميعَ ما في البابِ. قلنا له: ليس إلى ما توجِبُ فصْلٌ، وإنما ذهبنا إلى ما اتَّصلَ بالمسألةِ، فأوجبَ لزومَها بعينِها، وسَهلَ طريقَها نفسِها، ومُضيها على حدِّ ما ابتُدِئَتْ عليه، فهو فيها وصاحبُه غيرَ خارجٍ عن سَنَنِها، ولم نُرِدْ أن ما اتَصَلَ بها، فأوجَبَ صحةَ المذهبِ الذي أجرِيَ بها إلى تصحيحِه بنفسِه دونهاكذلك، وهذا ما لا بُدَّ منه، وسنصوِّرُ صورتَه بَيِّنةً إن شاءَ اللهُ. فنقولُ: لو أن جِسْميًّا سأل موحِّداً، فقال له: إذا زعمتَ أنه شيءٌ لا كالأشياءِ، فهَلا زعمتَ أنه جسم لا كالأجسامِ؟ فقال له الموحِّدُ: لأنه ليس كلُّ ما كان شيئاً يجبُ أن يكونَ جسماً، وذلك لوجودِ أشياءَ ليست أجساماً، وهي أفعالُ الجسمِ. قال الجسميُّ: وما الدليلُ على وجودِ شيءٍ ليس بجسمٍ؟ لم يَكُنْ بهذا القولِ خارجاً عن مسألتِه؛ لأن الموجودَ على صحَّةِ مذهبه، ودفعُ المسألةِ وإسقاطُها بوجودِ (¬1) أشياءَ ليست أجساماً، والدَليلُ علىَ ذلك: أنه إذا صحَ هذا، بَطَلَتِ المسألةُ، فوجبَ على الجسمى على أصلِه دفعُه عما حاولَ من إفسادِ مسألتِه وحياطتُها، وليس يقدرُ على ذلك إلا بدفعِ المجيبِ عن جوابه، وليس يتهيَّأ له دفعُهُ وإفسادُ جوابه إلا بإفسادِ علَّتِه التي يُصححُ بها، وإفسادُ عِلَلِه لا يمكنُ إلا بمساَءلتِه فيها. ¬

_ (¬1) في الأصل: "موجود"، ولعل الصواب ما أثبتناه.

ومما يَدُل على ذلك: أنه إذا أفسدَ عِلَّةَ (¬1) ما ادَّعاه، ولم يُفسِدْه، كشفَ عن وجهِ المسألةِ بعينِها، وأوجبَ وقوفَها، وأخرجَ المجيبَ إلى تحديدِ الجوابِ عنها، وجعلَ لنفسِه الرجوعَ إليها، واقتضى جوابَها، فلولا أن ما كان من إفسادِه له منها وفيها، لم يُحقَقْ وجوبَها، وُيوجِبْ وقوفَها، ويزيدُ في قوَّتِها وجَذْبِها، وُيخرِجُ إلى اشْتِيافِ (¬2) غيرِ ما مضى من الجواب عنها، وليس كلُّ ما هو هكذا خروجاً عن المسألةِ، فما في الدنيا كَلام يمكنُ اتصالُه بابتداءِ السؤالِ، واعْتَبِرْ هذا تجِدْه. واعلم أن كلَّ ما قَوَّى المسألةَ فهو من بابِها؛ لمعاضدتِه إيَّاها ومعونتِه لها، وليس لأحدٍ منعُ صاحبِها منه، لأنه إنما يجبُ عليه أن يأتيَ بمسألةٍ كاسرةٍ للمذهب، واجبةٍ على المجيبِ، ثم يُقَويَها، وُيحقَقَ وجوبَها كيف ما أمكنَ ذلَك ويسهلُ، وما اقتراحُ من يَقترِحُ عليه تقويةَ المسألةِ من وجهٍ دونَ وجهٍ إلا كاقتراحِه عليه ابتداءَها من وجهٍ دون وجهٍ، فإذا كان الاقتراحُ في الابتداءِ فاسداً، كان في التَّمامِ كذلك. فصل واعلم أن كثيراً من الجُهّالِ بحقائقِ النَظَرِ وقوانينِ الجَدَلِ يَتوهمون المسألةَ كلمةً واحدةً مَنْ تجاوزَها فقد جاءَ باخرى من غيرِ جنسِها، وخرجَ عن واجبِها، وفي الحقيقةِ أن كلُّ استخبارٍ تَمَّ وفهِمَ معناه فهو ¬

_ (¬1) كتبها الناسخ: "علتها". (¬2) اشتاف فلان يشتاف اشتيافاً: إذا تطاول ونظر، وتَشَوفْتُ إلى الشيء: أي تطلعْتُ."اللسان" (شوف).

مسألةٌ تامةٌ، على معنى أنه قد لَحِقَ بالسؤالِ واستحقَّ اسمَه، ولولا ذلك لم يَجِبْ على المسؤولِ أن يُجيبَ عن سؤالٍ قائمٍ مفهومٍ عن شيءٍ، ولا استحَق اسمَ مسألةٍ. فأمَّا ما ليس بسؤالٍ البَتَةَ، أو ليس بسؤال تامٍّ، فليس يجبُ الجوابُ عنه، لأن ما لم يتحقَقِ الكلامُ سؤالًا فلا يقتضي جواباً، والمسألةُ الناقصةُ لا يُفهَمُ معناها، وإنما يجبُ الجوابُ بعدَ الإِفهام، مع أنه ليس لسائلٍ أن يَسكُتَ ويقتضي الجوابَ إلا بعدَ الإِفهام وتمامَ المسألةِ، فمتى سكتَ عن كلامٍ غيرِ تامٍّ، فما تَحقَقَ له سؤال، ولاَ وجبَ لكلامِه جوابٌ. وإذا كان هذا هكذا، فأوَّلُ الفصولِ فيه الاستخبارُ، وأوَّلُ جملةٍ تَرِدُ منه ما يقومُ من القولِ سؤالًا تامًّا، والزيادةُ أيضاً كذلك إلا أنها فرعٌ للابتداءِ، تنبني على وجوبِه وتقربُ إليه، وانما جعلَ المتكلِّمون هذا كلَّه مسألةً واحدةً، كما تُجعلُ الحركاتُ الكثيرةُ (¬1) في المسافةِ الواحدةِ سَيْراً واحداً، وإنما جعلوه سَيْراً واحداً لتأديةِ جميعِه إلى غايةٍ واحدةٍ، وهي التي أجْرى إليها بالابتداءِ وما بعدَه، وذلك أن أوَّلَ السؤالِ وعْدُ نتيجةٍ، فاظهرَها آخِرُه، وقَرَّبَ منها ما بينهما من الكلام، وشَدَّ بعضُ ذلك بعضاً، ولهذا التعاونِ وهذِه المناسبةِ التي بين الجمَيع في إظهارِ النَّتيجةِ والتَّقريب منها، وتأخيرِ النتيجةِ إلى آخرِ الجميعِ، ما جعلَ الكُلَّ سؤالًا واحداً؛ ألا ترى أن الفقهاءَ جعلوا الأكلَ الكثيرَ المتَّصِلَ لتأديتِه إلى غايةٍ هي الشِّبَعُ أكلًا واحداً، حتى إنَّهم قالوا: لو حَلَفَ: ¬

_ (¬1) في الأصل: "الكثرة".

لا أكَلْتُ إلا أكلةً واحدةً -عند قومِ-، ولآكُلَنَ أكلةً واحدةً -عند الجميعِ-، فأكل أكلًا طالَ وكَثُرَ لكنَهَ انتهى إلى غايةٍ هي شِبَعُه، لم يُعَدَ إلا أكلةً لِبرِّة وحِنْثِه بحَسَب يمينِه، وإن كان كلّ قطعةٍ من أكلهِ لو افرِدَتْ في حق غيرِه، فانتهتَ إلى غَرَضِه من شِبَعِه كان أكلةً تامَةً؛ لتأديتِها إلى غرضِ ذلك الأكلِ، وكانت هذه أكلةً وإن طالَتْ وكَثُرَتْ؛ لتأديتِها إلى نتيجةٍ، هي الشِّبَعُ للآكلِ. كذلك صَيرنا ما تعاضَد من السؤالِ وقربَ من النتيجةِ الواحدةِ سؤالاً واحداً، فإذا استُؤنِفَ بعد ظهور الغَرضِ-وهو النتيجةُ- كلامٌ آخرُ، فهو سؤالٌ آخرُ، وحصلَتْ مسألةٌ ثانيةٌ. وجملةُ هذا: أنك إذا وجدْتَ المسألةَ لوِجدانيَّةِ النتيجةِ كما وجدتَ السببَ لوجدانيَّةِ الغرض، فلا تلتفِتْ إلى قولِ من يقولُ: قد مضى ذاك السؤالُ، وهذا كلامٌ آَخرُ من المتكلِّمِ؛ فإن قصدَهم قطعُ الخصمِ في أوَّل وَهْلَةٍ وكلمةٍ، وهذا من تسويلِ الشياطين وتطميعِهم، وإلا فأين هم والوقوفَ على حقيقةِ الكلامِ فضلًا عن قطعِ الخصمِ؟ وإنما سمعوا قولَ القائل: جُمعَ بين فلاَنٍ وفلانٍ، فما كان إلا كلمتان حتى قَطَعَه، كما يقولون: تقاتَلَ فلانٌ وفلانٌ، فما كان إلا حَلَبُ شاةٍ (¬1) حتى صَرَعَه، وتجاولَ فلانٌ وفلانٌ، فما كان إلا مقدارُ طَرْفةِ الجفْنِ حتى طَعَنَه. وهذا فَرَحُ ساعةٍ، وقولُ العَصَبيَّةِ (¬2) مع عدمِ التحقيقِ، وقَلَّ أن ¬

_ (¬1) أي وقت حلب شاة. "اللسان" (حلب). (¬2) في الأصل: "العصبة".

يُفلحَ من تركَ التحقيقَ تعويلًا على أمثالِ هذه التزاويق (¬1) التي لا بقاءَ لها، وقَل أن ينتهيَ من سلكَ ذلك إلى مَقاماتِ الائمةِ، والله يكفي غوائلَ الطِّباع، وشرورَ النفوسِ، وغلباتِ الأهواءِ بمَنِّهِ وكرمِه. ¬

_ (¬1) في الأصل: (التزوايق).

* فصول في القياس وتحقيق وضروبه وشروطه

فصول في القياسِ وتحقيقهِ وضروبِه وشروطِه فصل القياسُ: هو الجمعُ بين مشتبِهَيْنِ لاستخراجِ الحكمِ الذي يَشهدُ به كلُّ واحدٍ منهما، ولا يخلو كلُّ واحدٍ منهما من أن يشهدَ بمثلِ ما شَهِدَ به الآخرُ أو نظيره. مثالُ ذلك: قولُنا: إذا كان ظلمُ المُحسِنِ لا يجوزُ من حكيمٍ، فعقوبةُ المحسِنِ لا تجوزُ من حكيم. وكذلك قولُنا: إن كانت عقوبةُ المحسِنِ تجوزُ من الحكيم، فظلمُ المحسنِ يجوزُ من الحكيمِ، فهذا مثالٌ لأهلِ التَّحسيَنِ والتَّقبيحِ. ومثالٌ عليهم: إذا لم يَقبُحْ من الحكيمِ تمكينُ من عَلِمَ أنه بتمكينِه يَفسُدُ وُيفسِدُ، وتكليفُ مَنِ المعلومُ أنه لا يُؤمِنُ بل يكفرُ، فيستحِقُّ العقابَ الدائمَ، لم يَقبُحْ منعُه من اللُّطفِ الذي لو مُنِحَه لاتَبعَ الهُدى. وإذا كان حدوثُ البناءِ لا بُدَّ له من محدِثٍ، فحدوثُ الجوهرِ لا بُدَّ له من محدِثٍ.

وإن كان تَصوُّرُ القِدَم ممكناً (¬1)، فتصورُ الحَدَثِ ممكنٌ، وإن كان تصورُ الحَدَثِ ليس بممكَنٍ، فتصورُ القِدمِ ليس بممكنٍ. وإذا كان كونُ الحركةِ في مَحَل فيه السكونُ صحيحاً، كان كونُ الجوهرِ في مكانٍ فيه جوهر آخرُ صحيحاً. وإذا كان كونُ الجوهرِ في مكانٍ فيه جوهر آخرُ لا يَصِح، فكونُ (¬2) الحركةِ في مَحَل فيه سكون لايَصِحُّ. وإذا كان إفناءُ النَهارِ يجوزُ من الحكيم، فإفناءُ العالَم كلِّه يجوزُ من الحكيمِ. وإذا كان إفناءُ العالَمِ لا يجوزُ من الحكيم، كان إفناءُ النهارِ لا يجوزُ من الحكيمِ. وإذا كان استصلاح الحكيمِ منَّا بالرُسلِ جائزاً، كان استصلاحُ العالم (¬3) بالرسلِ جائزاَ أيضاً، وإذا كان استصلاحُ القديمِ بالرُّسلِ لا يجوزُ، فاستصلاحُ الواحدِ من حكمائنا بالرسلِ لا يجوزُ. وإذا كانت دلالةُ العقلِ يجبُ العملُ عليها، فدلالةُ السمعِ يجبُ العملُ عليها، كدلالةِ السمع في سلامةِ الطرُقِ أو فسادِها، وغلاء الأسعارِ أو رُخْصِها، وخِصْبِ البلادِ أو جَدْبِها. ومن هذا البابِ والقَبيلِ أيضاً: إذا كان التغيُّرُ صحيحاً، فالحدوثُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مركباً". (¬2) في الأصل: "فكمون". (¬3) في الأصل: "للعالم".

صحيح، وإذا كان الحدوثُ لا يصحُّ، فالتغيرُ لا يصحُّ؛ لأن التغيُّرَ حدوث في الحقيقة. وإذا كان السَّببُ طاعةً، فالمسبَّبُ طاعةٌ، وإذا لم يكن المسببُ طاعةً، لم يكن السببُ طاعةً. وكذلك إذا جاز عذابُ من لم يُكلَّفْ فعلًا ولا تركاً، جاز عذابُ من كُلِّفَ على غيرِ فعلٍ ولاتركٍ. وكذلك من هذا الباب: إن صحَ من الطبيعةِ إنشاءُ إنسانٍ، صحَّ منها إنشاءُ دُولابٍ أو بابٍ أو كتابِ، وكذلك: إن صحَ منها ما فعلَ الإِنسانُ مِثْلَه، صحَ منها مَثلُ ما فعله الإِنسان، كما أنه إن صحَ فِعلُها لمثلِ زيد، صح فعلُها لمثلِ عمرٍو. وكذلك: إن صحَ واجبٌ لا يَقبُحُ تركُه، صحَ واجبٌ لا يَحسُنُ فعلُه، وإن لم يصحَّ واجب لا يَحسُنُ فعلُه، لم يصح واجبٌ لا يَقبُحُ تركهُ. وإذا استحالتِ القُدرةُ على الإِفناءِ، استحالَتْ على الإِنشاءِ، وإذا لم تَستَحِلْ على الإنشاءِ، لم تَستَحِلْ على الِإفناءِ. ومن هذا الباب: القُدرُة لا تصحُ أن تكونَ قُدرةً على إيجادِ الموجودِ، كما أنها لا تصحُّ أن تكونَ قدرةً على إعدامِ المعدومِ، وهذا يُوجبُ أنها لا تكونُ قدرةً إلا على إيجاد المعدومِ. ومنه أيضاً: الحياةُ الموجودةُ لا بُدَّ من حَى بها، كما أن القُدرةَ الموجودةَ لا بُدَّ من قادرٍ بها، كما أن محَل الحركةِ إن كان متحرِّكاً بها،

فمَحَل السوادِ أسودُ به. وهذه مقابلاتٌ في القياسِ واضحةٌ، وأمثلةٌ بَيِّنةٌ يُحتَذى عليها فيما يُحتاجُ فيه إلى المقايسةِ. ومن هذا الباب: إن لم تَصِحَّ التوبةُ من ذَنْب مع الإِقامةِ على غيرهِ، لم تصحَّ التوَبةُ من اليهوديَّةِ مع الإصرارِ علىً خِيانةِ حَبةٍ. وكل قياسٍ فلا بُدَّ فيه من اشتباهٍ، إلا أنه قد يكونُ الاشتباهُ من جهةِ العلَّةِ التي لكلِّ واحدٍ من الحُكْمَيْنِ، وقد يكونُ من جهةٍ لتسويةِ العقلِ بين الحكْمَيْنِ، فعلى (¬1) هذين الشيئين الاعتمادُ في كلُّ قياس. فعلى قولِ من يقولُ بتحسينِ العقلِ وتقبيحِه: مثالٌ في تسويةِ العقلِ بين الحكمين: إذا (¬2) لم يَجُزْ في قضيَّةِ العقلِ الأمرُ بالظلمِ لكونِه قبيحاً أو لكونِه ظلماً، لم يَجُزْ فعلُ الظُّلم لكونِه قبيحاً أو لكونِه ظلماً. وعلى طريقةِ الكُلِّ: إذا قضى العقلُ أو الشرعُ بأن لا يجوزَ عقابُ من لم يُسىءْ، فلا يجوزُ عقابُ من لم يُكلَّفْ؛ لأنه لم يسىءْ. وهذا وأشباهُه مما يُدرَكُ بأدنى تأمُّل، إلا أن تَعرِضَ شبهةٌ تَصُدُّ عنه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فعل". (¬2) كتبت في الأصل: "فإذا"، والأوجه ما أثبتناه.

- الفرق بين المعارضة والقياس

فصل في الفرقِ بين المُعارَضةِ والقياسِ اعلم أن المعارضةَ قياسٌ يُعتمدُ فيه على المناقضةِ، وهي نوع من القياس، ألا ترى أن عِمادَها التسويةُ بين ما عُورِضَ به وبين ما عُورِضَ، فكلُّ (¬1) معارضةٍ قياس، وليس كلُّ قياس معارضةً، ألا ترى أن النَحْوَ تقاسُ فيه الفروعُ على الأصولِ، فالاعتمادُ فيه على القياسِ، وليس الاعتمادُ فيه على المعارضةِ، وكذلك الفقهُ تقاسُ فيه الفروعُ على الأصولِ ولا تُعارَض. ومعارضةُ كلُّ مبطِلٍ إنما تكونُ بما يَكشِفُ عن بُطلانِ مذهبهِ، مثلُ من يَكشِفُ (¬2) بمذهب أن اللهَ سبحانه لا يجوزُ أن يُعذَبَ من لم تَبلُغْه الدعوةُ؛ لأن اللهَ قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، أو لأن من لم تَبلُغْه الدعوة ليس عنده سوى العقلِ، والعقلُ لا يُوجِبُ ولا يَحظُرُ، وينكشفُ من مذهبُه تجويزُ عذاب الأطفالِ مع كونِهم لا رِسالَةَ وصَلَتْهم، ولا خطابَ انصرفَ إليهمَ، ولا عقول تُرشِدُهم، فهذه مناقضةٌ لإِبطالِ مذهبِ المبطِلِ. وكمعارضةِ من يَكشفُ بأنه لا يجوزُتكليفُ ما لا يطاقُ؛ بقولِه: يجوزُ تكليفُ ما يحالُ بينَ المكلَفِ وبين فعلِه. وكمعارضةِ من قال: لا يَحسُنُ اللُّطفُ بمن يُعلَمُ أنه لا يَنتفعُ به، بقولِه: يجوزُ تكليفُ مَنِ المعلومُ أنه لا ينتفعُ بتكليفِه. ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: "مكل". (¬2) في الأصل: "ينكشف".

- القياس الصحيح والقياس الفاسد

فصل في القياسِ الصَحيحِ والقياسِ الفاسدِ اعلم أن القياسَ الصحيحَ: هو الجمع بين الشيئينِ اللَّذينِ يَشهدُ كلُّ واحدٍ منهما بالحكمِ على الحقيقةِ. والقياس الفاسدُ: هو الجمع بين الشيئين اللَّذينِ يشهد كلُّ واحدٍ منهما بالحكمِ على التَّخيُلِ دون الحقيقةِ. ولا يعتَبر بصحةِ الشاهدِ في نفسهِ في هذا الباب، وإنما المعتَبَرُ بأنه يشهد على الحقيقةِ كما يشهد قرينه، إمَّا بمثلِ الحَكمِ أو بنظيرِه. فقياسُ اللطفِ على التكليفِ في أنه إذا لم يَجبِ اللطف لمن المعلوم أنه لا ينتفعُ به، لم يجبْ تكليف مَنِ المعلومُ أنه لا ينتفعُ به، وإذا لم يكنِ التمكينُ من فعلِ الظلم قبيحاً من جهة الصانعِ جلَّت عظمته، لم يكن القضاء بالظلمِ قبيحَاً منه سبحانه، فهذا مثالٌ على مذهبِ أهل السُّنَّةِ، وهذا قياسٌ صحيحٌ عندنا. والمثال على مذهبِ غيرِنا: إذا جازتِ الإِرادة للظلمِ، جاز الأمر بالظلمِ من الحكيمِ مع ما فيها من الاستدعاءِ للظلمِ، فهذا قياسٌ صحيح، وإن كان الأصلُ الذي قِيسَ عليه فاسداً. فأمَّا قياس التَّمكين على التَّوفيقِ فخطأ؛ وذلك أنه إذا قال القائل للجمع بينهما: إذا جازً أن لا يُعطى الكافر التوفيقَ للإِيمان، جاز أن لا يعطى التَمكينَ من الِإيمانِ؛ من قِبَل أنه إذا كان معلوماً فيه أنه لا ئؤمِن عند شيء ولا يوفَّقُ له، فيعطاة أوَ يحرَمه، وليس كذلك التمكينُ من الِإيمانِ؛ لأنه لم يَكنْ ممكَناً من الإيمانِ، من أجلِ أن الِإيمانَ يَقع

- القياس العقلي والسمعي

به، وإنما كان ممكَّناً من الِإيمانِ، من أجلِ أنه يَصِحُّ أن يقعَ وَيصِح أن لا يقعَ به. فصل في القياسِ العقليِّ والسمعيِّ اعلم أن القياسَ العقليَّ: هو الذي يجبُ بشهادةِ المُشتبِهَيْنِ فيه بالحكمِ من جهة العقلِ. والقياسُ السمعى: هو الذي يجبُ بشهادةِ المُشتبِهينِ فيه بالحكمِ من جهَةِ السَّمْعِ. وذلك أن قياسَ التَّناقضِ على التَّضادِّ؛ من جهةِ أن التضادَّ إذا كان يشهدُ بأن لا يكونَ في المَحَل الواحدِ حياةٌ وموتٌ، فالتناقض يشهدُ بأنه لا يكونُ الشيءُ عالِماً مَيْتاً في حالٍ، كما لا يكوَن موجوداً معدوماً في حالٍ، وهذا يُفسِد قولَ الصالحيِّ (¬1): إنه يجوز وجود العلمِ والموتِ في مَحَل واحدٍ في حالٍ، ولا يجوز وجود الحياةِ والموتِ في المَحَل في حالٍ. وأما القياس السمعى: فهو كالجمعِ بين الفِضَّةِ والرَّصاصِ، وليس واحدٌ منهما يوجِبُ تحريمَ التًفاضلِ في العقلِ، فإذا جاءَ النص بتحريمِ التفاضلِ في الفضَّةِ، ثم جاءَ بأن يُلحَق به في الحكمِ أشبَهُ الأشياءِ به، وكان الرَّصاصُ أشبهَ الأشياءِ به؛ إذ كان أقربَ إليه من الصفْرِ والنُّحاسِ ونحو ذلك، صار كأنه يشهد بتحريمِ التفاضل، كما ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (417) التعليق رقم (1).

- القياس على أصل الفرع

تشهدُ الفضةُ بذلك، وكُلُّه من طريقِ السمعِ؛ إذ حكمُ الأصلِ وجبَ بالسمعِ، وكذلك إلحاقُ الأشبهِ به. وقد يعتمدُ في هذا الباب على العِلَّةِ، كالاعتمادِ في تحريم النبيذِ على الشدَّةِ؛ إذ كانت فيه وفيَ الأصلِ المَقيسِ عليه -وهو الخمرُ-، كما يعتمدُ في القياسِ العقليِّ على الجمعِ بعلةٍ تكونُ موجِبة للحكمِ في أحدِ الشِّقَّينِ، فيلزمُ في وجودِها في الشَق الآخرِ وجوبُ الحكمِ أيضاً. فإذا قيل لي: أَلْحِقْهُ بالأشبهِ به، ثم علمْتُ الأشبهَ به، لم احتجْ إلى أكثرَ من ذلك، وإذا قيل: ألحِقْهُ بالأشبهِ به، ثم لم يظهرْ لي الأشبهُ به، احتجْتُ إلى استخراجِ عِلَةٍ تُوضحُ الأشبهَ به. فإذا كانتِ العِلةُ منصوصةً أو مفهومةً، فقد كُفِيتُ مُؤنَةَ الاستخراجِ، ووجبَ القياسُ عليها والملازمة لها. فصل في القياسِ على أصلِ الفَرْعِ اعلم أن القياسَ على أصل يجبُ التسليمُ له في كلُّ صناعةٍ إذا صَحَتِ الشهادةُ، وكذلك في المُناظَرَةِ إذا اتَفقَ الخصمانِ عليه، ووقعَ تسليمُ الجَدَلِ فيه، وإنما تكونُ المنازعةُ فيه: أيشهدُ بالحكمِ، أم لا؟ فمن هذا الوجه تَنزِعُ وتَتحقُّقُ المنازعةُ. وأما القياسُ على فرعٍ -وهو ما لم يُسَلَمْ له أهلُ الصَناعةِ، ولا الخصمانِ في المناظرةِ- فلا يجبُ التَسليمُ له، بل تقعُ المنازعةُ فيه كما تقعُ في شهادتِه حتى يُرَد إلى الأصولِ التي يجبُ التَسليمُ لها.

- القياس على علة

فصل في القياسِ على عِلةٍ اعلم أن القياسَ على علَّةُ يحتاجُ إلى ثلاثةِ أشياءَ: أنها موجودة في أحدِ الشقَينِ، وأنها تُوجِبُ الحكمَ له، ولها شهادة بوجودِه في الآخرِ. فيَنتُجُ (¬1) من ذلك: أن الحكمَ بوجودِها في الشق الآخر. مثالُ ذلك: الجمعُ بين النورِ والظلمةِ فى القياسِ على العِلةِ إذا قال الخصمُ: النورُ خير؛ لأن من جهتِه منفعة، ثم إن ذلك يُوجِبُ أنه خيرٌ، ثم إن في الظلمةِ منفعة، فيَنتُجُ من ذلك أنها خير، ويكشفُ الخيرَ المدعى في النورِ الهدايةُ إلى المطلوب والإِيقافُ على الأغراضِ والطُّرقِ. ويكشفُ الخيرَ (¬2) المدعى في الظلمَةِ سَتْرُها لِمَا يُؤثِرُ الإِنسان سَتْرَه وتغطيتَه؛ كالتَخفِّي من المُؤذِي (¬3)، فيجتمعانِ في العِلَّةِ. وكذلك يُحتاجُ إلى تصحيحِ أن في الخمرِ شِدَّة، ثم إنها تُوجِبُ التَحريمَ، ثم إنها في النَّبيذِ، فيُنتجُ ذلك أن النَبيذَ محرم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فتنتج". (¬2) في الأصل: "الخبر". (¬3) رسمت في الأصل "المودى".

- الوجوع التي منها يكون القياس

فصل في الوجوهِ التي منها يكونُ القياسُ اعلم أن الوجوهَ التي منها يكونُ القياسُ: الاشْتِباهُ، إلا أن الاشتباهَ لا يكونُ قياساً حتى يجبَ به حكم، والاشتباهُ الذي يجبُ به حكم لا يخلو من أن يكونَ من جهةِ الشَاهدَيْنِ، أو الشهادتَيْنِ، أو الجميعِ، والاشتباهُ الذي يجبُ به حكم لا يخلو من أن يَرجعَ إلى النَفس أو إلى العِلَّةِ. فالاشتباهُ في الشَّاهدين دونَ الشَّهادتَينِ: كالفعلِ يَشهدُ بأن له فاعلًا، كما يشهدُ الفعلُ بأنه لا يكونُ إلا من قادرٍ. وأما الاشتباهُ في الشهادتين دونَ الشاهدين: فكالأمرِ بالظلمِ يشهدُ بأنه لا يكونُ من حكيم، كما تشهدُ إرادةُ الظُّلمِ بانها لا تكونُ من حكيمٍ، هذا شاهدٌ للمتكلِّمين من المعتزلةِ ومثالِهم. ومثالُ ذلك من مذهبنا: فكالأمرِ المحكَمِ لا يصدرُ إلا من عالِمٍ، كما أن الفعلَ المتقَنَ لاَ يصدرُ إلا من عالِمٍ. وأما الاشتباهُ في الجميعِ: فكتدبيرِ العالَمِ يشهدُ بأنه لا بُدَّ من مُدبِّرٍ، كما يشهدُ تدبيرُ المَنْزِلِ والحانوتِ بأنه لا بُدَّ من مُدبرٍ. وكلُّ اشتباهٍ ذكَرْناه فإنما هو في المعاني دونَ العِلَّةِ (¬1)، وأما الاشتباهُ بالعلَّةِ: كالصفيحةِ العليا متحركة؛ لأن فيها حركةً، فكذلك الصَفيحةُ السُّفلى متحرِّكةٌ؛ لأن فيها حركةً، وكذلك موسى عليه السلامُ نبىٌ؛ لأنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "المعنى".

- صورة القياس

أتى بمُعجزةٍ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم نبيٌّ؛ لأنه أتى بمُعجِزةٍ. فصل في صورةِ القياسِ اعلم أن صورةَ القياسِ دائرة في جميعِ القياسِ إلا أن يَلحَقَ تغيير عن صورةِ الأصلِ، وهي: كذا يشهدُ بكذا، كما أن كذا يشهدُ بكذا لكذا، فعلى هاتين الصُورتين الاعتمادُ في كلُّ القياسِ، ولا مُعتَبَر فى هذا باللَّفظ، وإنما الاعتبارُ بالمعنى، فكل لفظ أدَّى إِليك هذا المعنى، فقد أَدَى صورةَ القياسِ على الحقيقةِ، وذلك كقولك: كذا يُوجبُ كذا، كما أن كذا يوجِب كذا. وكذلك إن قلتَ: كذا يَدُل على كذا، كما أن كذا يدُل على كذا. فإن كانتِ الصُّورُة مشروطةً قلتَ: إن كان كذا شَهِدَ بكذا، فكذا يَشهدُ بكذا، وإذا كان كذا يوجِبُ كذا، فكذا يوجِبُ كذا. فلا بدَّ لكل قياس من معنى هذه الصورةِ التي ذكرتُ لك وإن تصرفْتَ في العبارةِ كيف شِئْتَ بعدَ أن تُؤدِّيَ المعنى. فصل في التَصرُّفِ بالقياسِ اعلم أن التَّصرفَ في القياسِ تَتغيَّر (¬1) الدَلالاتُ عليه والمعنى واحد، فتقولُ مرَّةً: كذا، كما أن كذا يوجبُ كذا، وتقولُ مرَّةً أخرى: إذا كان كذا يَدُلُّ على كذا، دلَّ على كذا، ومرةً تقولُ: سبيلُ كذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعتبر".

- القياس المنطقي

سبيل واحدة في أن كلُّ واحدٍ منهما، يلزمُ له كذا، وتقولُ: قد سَوى العقلُ بين كذا وكذا في كذا وكذا، وتقولُ: لا فصْلَ بينَ كذا وكذا من جهةِ كذا وكذا، وتقولُ: إن كان كذا دَلالةٌ على كذا، ففي كذا دَلالة على كذا. وسبيلُ دَلالةِ العبارةِ والإشارةِ والحالِ وغيرِها (¬1) مما يتقَرَّرُ به المعنى في النَّفسِ سبيل واحدةَ، إلا أن من ذلك ما هو على التَحديدِ، ومنه ما هو على التًغييرِ، وكلُّه يَصِح إذا أدَّى المعنى إلى النفسِ؛ إذ قد بلغَ به الغَرضَ المطلوبَ. فصل في القياسِ المَنْطِقيِّ اعلم أن القياسَ المنطقيَّ: هو الجمعُ بين قرينةٍ لها نتيجة وبين النَّتيجةِ (¬2)، وإنما كان هذا قياساً؛ لأن القرينةَ تشهدُ بصحًةِ النتيجةِ، كما أن النتيجةَ تشهدُ بانها إن بَطَلَتْ بَطَلَتِ القرينةُ، فكل واحدٍ منهما شهادتُه بشهادةِ الآخرِ من الوجوبِ واللًّزومِ. والقياسُ المنطقي على ثلالةِ أقسامٍ: كُلِّيَّةٍ، وقِسْمِيَّةٍ، وشَرْطِيَّةٍ: مثالُ الكُليةِ -وتُسمى: المُطلَقةَ-: كلًّ إنسانٍ حيوانٌ، وكلًّ حيوانٍ جسمٌ، فنتيجته: كلُّ إنسانٍ جسمٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وغيرهما". (¬2) انظر "التعريفات" ص 181، و"المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين" ص 33.

فإذا صحَتِ القرينةُ فلا بُد من أن تصحَّ النتيجةُ، فإذا لم تصحَّ النتيجةُ فلا بُدَّ من أن لا تصحَّ القرينةُ. وكذلك لو قلتَ: كلُّ إنسانٍ حيوان، وليس واحد من الحيوانِ حَجَراً (¬1)، لأنْتَجَ: وليس واحد من النَاسِ حَجَراً. وكذلك لو قلتَ: بعضُ النَّاسِ كاتب، وكلُّ كاتبٍ قارىء، للَزِمَ منه: بعضُ النَاسِ قارىء. وكذلك لو قلتَ: بعضُ النَاسِ كاتب، وليس واحد من الكُتابِ أعمى، للَزِمَ منه: [ليس] (¬2) بعضُ النَاسِ باعمى. وأما مثالُ القِسْميةِ (¬3): لا تخلو الشمسُ من أن تكونَ أكبرَ من الأرضِ أو أصغرَ أو مساويةً، فهذه مقدَمةٌ، والأخرى: أنها ليست بأصغَرَ ولا مساويةً، يلزمُ من ذلك: أنها أكبرُ، وإن لم تَكُنْ أكبرَ، فهيٍ إذن مساويةٌ أو أصغرَ، وإن كانت أكبرَ، لَزِمَ منه: أنها ليست مساوبةً ولا أصغرَ. فأمَّا (¬4) مثالُ الشرْطِيةِ: إن كانتِ الشمسُ فوقَ الأرضِ، فالنهار موجودٌ، فهذه مقدَمة، والأخرى: والشمسُ فوقَ الأرض، فيَلزمُ منه: أنَّ النهارَ موجود، وإن لم يَكُنِ النهارُ موجوداً، لَزِمَ منه. أن الشمسَ ليست فوقَ الأرضِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حجر". (¬2) ليست في الأصل. (¬3) في الأصل:"القسمة". (¬4) في الأصل: "مقاماً".

فإن قلتَ: والنهارُ موجود، لم يَلزَمْ منه: أنَّ الشمسَ فوقَ الأرضَ. وكذلك إن قلتَ: وليس الشمسُ فوقَ الأرضِ، لم يَلزمْ منه: أن النهارَ ليس بموجود. فتحتاجُ إلى تحصيلِ أشياءَ: اثنان يُنتِجانِ واثنان لا يُنتِجانِ، إيجابُ الأولِ يُنتجُ، وكذلك سَلْبُ الثاني، فأمَّا سلبُ الأولِ وإيجابُ الثاني فلا يصح. وليس يَحتمِلُ إيجازُ الكتابِ أكثرَ من ذلك، فالقليلُ منه يدُلُّ على الكثيرِ إن شاءَ الله.

* فصول الاستدلال

فصول الاستدلالِ اعلم أن الاستدلالَ: الطلَبُ للدلالةِ على المعنى. ولا يخلو الاستدلالُ من أن يُستخرَجَ به المعنى، أو يُعلمَ به الحق في المعنى. فالاستدلالُ الذي يُستخرَجُ به المعنى: هو الطلَبُ للمعنى بما يَحضُرُ بحضورهِ. والاستدلالُ الذي يُعلَمُ به الحق في المعنى: هو الجمعُ بين شيئينِ يشهدُ أحدُهما بالآخَرِ. والاستدلالُ الذي يُستخرجُ به المعنى لا يخلو من أن يكونَ من جهةِ علامةٍ وضْعِيةٍ -وقد كان يُمكِنُ أن يقومَ غيرُها مقامَها-، أو لا يكونَ كذلك: فالأولى: إنما كانت دَلالةً على المعنى بجعلِ جاعلٍ لها علامةً على المعنى. والثَّانيةُ: كانت دَلالةً على المعنى لا بجعلِ جاعلٍ لها علامةً على المعنى. والاستدلالُ الذي يُستخرَجُ به المعنى لا يخلو أن يكونَ من جهةِ البيانِ الذي منه يَشهَدُ بالمعنى أو يَقتضِيهِ، أو لا يكونَ كذلك، بل يكونُ شأنُه أن يحضُرَ بحضورِه فَقطْ، والفِكرُ والقولُ يحضُرُ بحضورِهما المعنى، إلا أن المعنى الذي يحضُرُ بحضورِهما؛ منه ما يكون شاهداً

بمعنىً آخرَ، ومنه ما لا يكونُ كذلك، والفعلُ والقولُ يحضرُ بحضورِهما من جهةِ شهادتِهما به واقتضائِهما له، ولم يَكُنْ يجوزُ مع سلامةِ العقلِ ألا يَشهدَ الفعلُ بالفاعلِ إذا لم تعترِضْ شبهةٌ، ويشهدَ بأن الفعلَ إذا كان فلا بُد من فاعلٍ عَلِمَه عالِمٌ أو لم يَعلَمْه عالِمٌ، وكذلك اللونُ، فلا بُدَّ من مُلون، واذا كانت الحركةُ، فلا بُدَّ من محرِّك، وإذا كان العلمُ، فلا بُد من عالم به، وإذا كانت القدرةُ، فلا بد من قادر، وإذا كانت الِإرادةُ، فلا بُد من مريد، فهذا الطريقُ من الاستدلالِ لا [بد أن] (¬1) يجتمعَ فيه أمران: أحدهما استخراجُ المعنى، والآخر: شهادتُه بصِحتِه. وأما دَلالةُ الكلامِ على المعنى فليست مما إذا كان، كان المعنى لا محالةَ، ألا ترى أنه قد يَسمعُ العَجمى كلامَ العربي فلا يحضرُه معناه، فهو من باب العلاماتِ التي جُعِلَت دلالةً على الشيءِ وقد كان يُمكنُ أن تُجعل على خلافِ ذلك، وليس كدلالةِ الفعلِ على الفاعلِ؛ إذ لا يُمكنُ أن تُجعلَ على خلافِ ذلك، فيكونُ العاقلُ يَستدِل بالفعلِ على أنه ليس له فاعل، كما كان يُمكِنُ أن يَستدِل بقيامِ زيدٍ على أنه ما قامَ، ويستدل بما قامَ زيدٌ على أنه قد قامَ، ألا ترى أنه لو تواضعَ اثنان بينهما على ذلك؛ لتفاهما من ذلك ما تواضَعَا عليه، واختصا بفهمِ ذلك حَسَبَ تواضعِهما. وأما الاستدلالُ بالفكرِ فهو على ضَرْبَينِ: أحدهما: إطلاقُ الفكرِ، والآخر: تقييدُه، كالفكرِ في كذا. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

فالأولُ: كالطَّلَب على الطمعِ أن يُوجَدَ ما يَحتاجُ إليه من غيرِ أن يَدرِيَ الطالبُ ما يَطلَبُ، وهل هناك مطلوب في الحقيقة، أم لا؛ لأنه لا يدري هل هناك ما يَحتاجُ إليه، أم لا؛ فهو يطلبُ لَعلهُ أن يَجِدَ ما يحتاجُ إليه، فكذلك المُفكَريطلبُ بفكرِه على طمعٍ لعلهُ أن يجدَ ما يحتاجُ إليه من المعنى، فهذا وجهٌ من وجوهِ الاستدلالِ بالفِكرِ (¬1). فهذا القِسْمُ صاحبُه كناصبِ شبكةٍ يطمعُ وقوعَ الصيدِ. والوجهُ الثاني: هو تعليقُ الفِكرِ بمعنىً بعينِه، فهو كالطالب لشيءٍ بعينِه، كعبدٍ أبَقَ، أو جَمَلٍ شَرَدَ، وهذا القسمُ يَحتاجُ فيه إلى أنَ يعرفَ مَظانَ المطلوبِ وُيقربَ ذلك أشد التقريبِ، ليسهُلَ الوِجْدانُ. وقد يُفكَرُ المستدِل في المعنى على الجُملةِ، وقد يُفكَرُ في المعنى على التَفصيلِ، فإذا فكَرَ المستدلى في: ما الدليلُ؟ فهو فِكر في المعنى على الجملةِ، وإذا فكَرَ في: ما الدليلُ على حدوثِ الجسم؟ فهو في المعنى على التَفصيلِ، وتقديمُ الفكرِ في المعنى على الجملَةِ توطئة للفكرِ فيه على التفصيلِ، فينبغي أن لا يُغفِلَ المستدِل ذلك. فأمَّا طلبُ المُستدِل المعنى في مَظانَه بالفكرِ: فهو وضعُه في نفسِه المعانيَ التي ينبغي أن يطلبَه فيها دونَ المعاني التي لا ينبغي أن يطلبَه فيها، بخلافِ ما تقولُ العامةُ: لو ضاعَ مني جَمَل طلبتُه في الكَوةِ (¬2)، وهذا غايةُ التضييعِ للوقتِ والتَضليلِ للفكرِ، وهو دأبُ المُتحيرينَ، ¬

_ (¬1) في الأصل: (الفكرة)، والأوجه ما كتبناه. (¬2) الكَوة -بفتح الكاف، وضمها لغة-: الخرق في الحائط، والثقب في البيت ونحوه "اللسان" (كوي).

ومن صدقَ نفسَه الطلبَ، هجمَ به على المَطْلَب، فما مثلُه في ذلك إلا كالطالب للهلالِ في مَطالِعِه وجهاتِ مَطْلَعِهِ، فَهو اخلَقُ لوِجدانِه من الطَّالب لهَ مُتحيراً في جميعِ الآفاقِ، فيعودُ البصرُ كليلاً، والوقت المُغتنَم للنَظرِ متمحِّقاً (¬1)، وتَهجُمُ ظلْمةُ الليلِ، وينحدرُ الهلالُ عن أفْقِه فيتوارى، كذلك ها هنا تَكِلُ أداةُ الفكرِ، وَيسأمُ النَاظِرُ بتَمْحِيقِ قُوتِهِ ووقتِه في الطَّلب في غير مَظانِّ المَطْلوب، وكم يُدْهَى (¬2) النَّاسُ من هذا الفَنِّ لقلَّة معَاناتِهم لهذه الصِّناعةِ التيَ هي أصلُ الغنيمةِ. ومثالُ ذلك مما نحن فيهِ: الطَّالبُ بفكرهِ للدليلِ على حَدَثِ الجِسمِ، فينبغي أن يَضَع في نفسِه ما لَة شهادةَ بغيرِه دون ما لا شهادةَ له. وكذلك كلُّ برهان احتِيجَ إلى استخراجِه، فإنَما يُستخرجُ من حَيزِ ما له شهادة دون ما لا شهادةَ له، وليس إذا وَجَدَ ما له شهادة كفاهُ في ذلك دون أن يكونَ له شهادة لا بالمعنى الذي يطلبُه، فيكون حقَّاً في نفسِه. وذلك أن المعانيَ على ضَرْبَينِ: معنىً يشهدُ بغيرِه، ومعنىً لا يشهدُ بغيرِه، والذي يشهدُ بغيرِه على ضَرْبَيني: برهانٍ وغيرِ برهانٍ، وليس يشهدُ بالمعنى ما لاتَعلُقَ له به، وكلُ تعلقٍ بين شيئين فلايخلو من أن يكون من أجل النَّفس، أو من أجلِ علَّةٍ، أو لا من أجل النَّفسِ ولا من أجلِ عَلةٍ، وكيف تَصرَّفتِ الحالُ بالتَعلُقِ فلا بُدَّ أن يَرجِعَ إلى أنه إذا صحَ الأوَّلُ صحَ الثاني، وإذا لم يصحَّ الثاني لم ¬

_ (¬1) أي ذاهباً ومبطلاً. "اللسان" (محق). (¬2) أي يصابون بالدواهي، جمع داهية، والداهية: الأمر المنكر العظيم، ودواهي الدهر: ما يصيب الناس من عظيم نوَبِه.

يصح الأولُ؛ وذلك أنه إذا صحَّ الفعلُ، فلا بُدَّ من فاعلٍ، وكذلك لا بُد من حَيٍّ قادرٍ، وإذا صحَّ الفعلُ متقَناً محكَماً، فلا بُدَّ من عالِمٍ، وإذا صحَّ عالِم، فلا بُد من معلومٍ، ولا بُد من علمٍ على مذهبِنا شاهداً وغائباً، وعند المعتزلةِ: لا بُد من علم شاهدٍ دون الغائبِ، لدعواهم أن الواجب لا يُعللُ، وكذلك إذا صحَ قادرٌ، فلا بُد من مقدورٍ، ولا بُد من قُدرةٍ على قولِنا شاهداً وغائباً؛ لأنها عِلَّةُ كونِ القادرِ قادراً، كما أن العلمَ عِلَّةُ كونِ العالِمِ عالِماً، وكذلك سبيل الرائي لا بُدَّ له من مَرئِيٍّ، والسامعُ لا بد له من مسموع وسمع، وإذا لم يصح مسموعٌ، لم يصحَّ سامعٌ. فصل وكل استدلالٍ: فهو طَلَبُ الدَّلالةِ، كما أن الاستعلامَ: طلبُ العلمِ، وكما أن الاستخبارَ: طلبُ الخَبَرِ، والاستفهامَ: طلبُ الفهمِ، والاستنطاقَ: طلبُ النُّطقِ، والاستشهادَ: طلبُ الشَّهادةِ، والاستخراجَ: طلبُ الخروجِ، والاستحضارَ: طلب الحضورِ، والاستنصارَ: طلبُ النصْرةِ، فالاستدلالُ: طلبُ الدَّليلِ، واللهُ أعلمُ. فصل وكل مُستدِل فهو بمنزلةِ المُستنطِقِ لشيءٍ من الأشياءِ، إمَّا على الاستشهادِ، وإما على جهةِ الاستذكارِ، وطريقةُ الاستذكارِ والاستحضارِ والاستخراجِ واحدةٌ، إلا أن الاستذكارَ لِمَا قد كان خطَر على البالِ، ولِمَا لم يكن خطرَ بالبالِ، كانك تطلبُ منه معنىً غريباً لم يكُنْ خطرَ على البالِ قَبْلُ.

- أركان الاستدلال

وكل ما تستنطقُه مستذكِراً أو مستشهِداً فهو بمنزلةِ إنسان تطلبُ منه ذاك، إلا أن الفرقَ بين شهادةِ الإنسانِ وشهادةِ البُرْهانِ: أن شهادةَ البرهانِ لا تكونُ إلا حقَاً في نفسِه، والحق لا يشهدُ بباطل، وأما شهادةُ الِإنسانِ فلا يجبُ القطعُ بها؛ لأن الإِنسانَ قد يشهدُ بالباطلِ، ولكنْ لو شَهِدَ إنسان هو نبي لكانت شهادتُه كشهادةِ البرهانِ؛ لأن كلُّ واحدٍ منهما لا يشهدُ إلا بحقٍّ. فأمَّا الاستذكارُ فلست تحتاجُ فيه إلى ثِقةِ المُذكَر؛ لأنك لا تعملُ على شهادتِه، وإنما تُمَكنُ بادِّكارِه مما تَحتاجُ إلى النًظَرِ فيه. وكل استدلال فهو إثارة للمعنى، إلا أن منه ما يُثيرُه ببيانٍ يُوجِبُ بياناً، ومنه ما يُثير بما ليس ببيان إلا أنه يُوجِبُ بياناً، فالأولُ: كالبرهان، والثاني: كالإِنسانِ، وإيجابُ الأوَّلِ للثاني لا يخلو أن يكونَ من جهةِ أنه يفعلُه، أو يَحضُرُ بحضورِه إمَّا شاهداً به أو غيرَ شاهدٍ. وكلُّ استدلال فإنه لا يخلو أن يكونَ بإيرادِ سؤال يقتضي جواباً، أو بإظهارِ أول يقتضي ثانياً أو يُوجِبُه؛ وذلك أن كلُّ استدلال فهو استخراجٌ لمعنى قد يَستخرجُه بالسؤالِ عنه، وقد يَستخرجُه بإظهارِ ما يَقتضِيه وُيوجِبُه. فصل وكل بابِ من أبواب الاستدلالِ فإنه لا بُد فيه من خمسةِ أشياءَ: مستدِلٍّ، واسَتدلالٍ، وَمستدَلٍّ به، ومستدَلٍّ من جهتِه (¬1)، ومستدَلٍّ ¬

_ (¬1) لم يعرفه المصنف ضمن الحدود التي عرفها هنا، ولكن سيأتي بيان المراد به في الفصل التالي.

عليه. فالمستدِل: هو النَاصبُ (¬1) للدَلالةِ. والاستدلالُ: هو طلبُ الغَرَضِ بالدلالةِ. والمستدَل به: هو المطلوبُ به الدلالةُ على المعنى، وهو بمنزلةِ الدَّلالةِ التي تُستخرجُ بها الدلالةُ على المعنى. والمستدَل عليه: هو المطلوبُ ليظهرَ بالدلالةِ عليه، وهو الغرضُ الذي من أجلِه يُكَلفُ الطلبَ. فصل وكلُّ استدلال فإنه لا يخلو أن يكونَ طلباً بالسؤالِ، أو بالاستشهادِ في الجواب، أو لا يكونَ كذلك، فقد يكونُ السائلُ مستدِلّاً؛ لأنه يَستخرجُ بسؤَالِه الدلالةَ على المعنى، وقد يكونُ المجيبُ مستدِلّاً؛ لأنه يستخرجُ بجوابِه شهادةَ الدَلالةِ على المعنى، وذلك أنه قد تظهرُ الشهادةُ فيستخرجُ من جهةِ الشهادةِ [الدلالةَ] (¬2)، على المعنى، فهو طالبٌ من جهتِه الدلالةَ على المعنى، كما أن السائلَ طالبٌ من جهةِ المجيبِ الدَّلالةَ على المعنى. والمستدَل به قد يكونُ السؤالَ، وقد يكونُ الإِظهارَ للشَاهدِ في الجوابِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الباحث"، والمثبت من (الكافية) ص 46 - 47. (¬2) زيادة على الأصل يستقيم بها المعنى.

وكل مُستدَلٍّ من جهتِه، فهو مسؤول أو بمنزلةِ مسؤول، فالمسؤولُ كالعالِمِ، والذي بمنزلةِ المسؤولِ كالكتابِ الذي يُوضَعُ على حِكْمةٍ، أو الفكرِ الذي يُقدمُ (¬1)، لصاحبه ما يَقْوى به على استخراجِ العلوم القياسيةِ، ومَرْتَبةُ المستدَلِّ من جَهتِه أدت يكونَ مجيباً أو بمنزلةِ المجيبِ. وكلُّ مستدَل عليه، فهو الغَرَض المطلوبُ، وهو المسؤول عنه، والمعتَمَدُ في الجواب عليه؛ لأن حق الجواب أن يكونَ عما وقعَ عنه السؤالُ، فالمطلوبُ فَي السؤالِ هو المطلوب البيانُ عنه في الجواب؛ لأن الذي يَسألُ عنه السائلُ هو الذي يجيبُ عنه المجيبُ. وكلُّ استدلال فهو استخراجُ المعنى من جهةِ شيء من الأشياءِ: إمَّا بالسؤالِ، وإمَّا بما كان بمنزلةِ السؤالِ من الاستشهادِ؛ لأن المجيبَ إذا كان مُستشهِداً للدَليلِ فكأنه مُسْتَخبِرٌ له مُستخرج ما عنده، فتحصيلُ الشواهدِ من أكبرِ آلاتِ العِلم. مثالُ ذلك: الفعلُ يشهدُ بأنه لا بُد له من فاعلٍ، وأنه لا بُدَّ أن يكونَ فاعلُه قادراً عليه، والحكمةُ تشهدُ بأنها لا تكون إلا من عالِمٍ، والتَدبيرُ يشهدُ بأنه لا يكونُ إلا من قاصدٍ، والصُّنع يشهدُ بأن صانعَه إن كان غيرَ مصنوع فهو قديمٌ، ويشهدُ بأنه إن كان لا صانعَ إلا مصنوعٌ، تسلسلَ إلى"ما لا نِهايةَ له، والتغيرُ يشهدُ بالحدوثِ، وأنه لا بدَّ من أن يكونَ نفسُ المتغيرِ قد حَدَثَتْ له (¬2) عِلة كان بها متغيراً، وإلا وجبَ أن يكونَ على ما كانَ لم يَتغيرْ، والعلمُ يشهد بأنه لا يكون إلا ¬

_ (¬1) في الأصل: (يتقدم). (¬2) في الأصل: (أو)، ولعل الصواب ما أثبتناه.

من عالمٍ به قبلَ كوبه أو مدلولٍ عليه، فإن ذلك لا بُد من أن ينتهيَ إلى عالِمٍ، وإلا تَسَلْسَلَ إلى ما لا نهايةَ له، وأن العالِمَ لا يخفى عليه شيءٌ من وجهٍ من الوجوه؛ لأنه [لا] شيءَ إلا ويَصِحُّ أن يَعلَمَ غيرُه إيَّاه: إمَّا بالضرورةِ، وإما بالدَّلالةِ. والعلمُ يشهدُ بأن العارفَ بالشيءِ على ما هو به لا يخفى عليه من وجهٍ من الوجوهِ لا بُدَّ أن يكونَ حَيًّاً؛ لأن معنى حي: يصح أن يُدْرِكَ. ويشهدُ بأن الشيءَ الذي لا يجوزُ عليه الانقسامُ واحدٌ في الحقيقةِ، وأن الواحدَ على الحقيقةِ لا يكونُ جسماً؛ لأن الجسمَ مؤلَف من أجزاءٍ وجواهرَ هي أعداد. ويشهدُ بأن القادرَ الذي لا يُعجزُه شيء لا يجوزُ أن يُساويَه شيءٌ في مقدورِه؛ لأنه يَلزَمُ أن يكونَ وجودُ كلُّ واحدٍ منهما مَنْعاً للآخَرِ من أن يفعلَ؛ لاستحالةِ مُمانَعَتِه له بفعلِه؛ إذ ليس وجودُ الفعلِ الذي يقعُ من أحدِهما بأولى من الآخرَ، فلا يوجدُ واحد منهما. ويشهدُ بأن القديمَ لا يصحُّ أن يصيرَ غيرَ قديمٍ؛ لأنه ليس بداخل تحت المقدورِ؛ إذ لو كان داخلًا تحت المقدورِ، لم يصح أن يُوجَدَ إلا بإيجادِ موجودٍ. والتَغيرُ يشهدُ بأن الجسمَ إذا لم يَخْلُ منه فهو محدَث؛ لأن المغيرَ له لا بُدَّ من أي يكونَ قبلَه ليفعَلَ فيه التَغييرَ. وتَثَبُّطُ الفعلِ يشهدُ بنفي الحكمةِ واختلالِ الرَّأيِ.

- الاستدلال الذي يستخرج بالمعنى

والظُّلمُ يشهدُ بالحاجةِ والجهلِ بقُبحِ القبيحِ. والقدرةُ تشهدُ بصحةِ الفعلِ، وأن القادرَ. بها يصحُّ أن يفعلَ ويصح أن لا يفعلَ، ومتى لم يَكُنْ كذلك، لم تَكُنْ قدرةٌ، وخرَجَتْ عن معنى القدرةِ. والعقابُ يشهدُ بإساءةِ المعاقَبِ. فصل في الاستدلالِ الذي يُستخرجُ بالمعنى اعلم أن الاستدلالَ الذي يُستخرجُ بالمعنى: هو الاستدلالُ الذي يُستحضَرُ به المعنى، فإذا حضرَ المعنى وأرَدْتَ أن تعلمَ أحق هو أم باطل؟ فلا بُدَ لك أن تستحضرَما يشهدُ بهِ وَينْتُجُ عنه؛ لأنك من جهةِ غيرِه تعلمُ أصحيحٌ هو أم فاسدٌ؟ فترتيبُ الاستخراجِ الذي هو الاستحضارُ الذي تحتاجُ إليه في الجسمِ: أن تبدأَ فتستخرجَ: هل للجسمِ حقيقةٌ؟ ثم تستخرجَ: ما حقيقتُه؟ فإذا حضرَ الجوابُ، فإنه: جَوْهَرٌ عَريضٌ عمِيقُ، ثم احتجْتَ أن تعلمَ أحق هو الجوابُ أم باطلٌ؟ فلا بد أن تستخرجَ: ما الدَّليلُ على صحَتِه؟ فإذا حضرَك الجوابُ: إذا كان هذا أجسَمُ من هذا، معناه أكثرُ أخْذاً في الجِهاتِ الستَ، فهذا جسمٌ، آخِذٌ (¬1) في الجهاتِ، وإذا كان الجسمُ آخذاً في الجهاتِ، فلا بُدَّ من أن يكونَ جوهراً طويلًا عريضاً عميقاً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أخذاً".

- الاستدلال الذي يحقق به المعنى

فصل في الاستدلالِ الذي يُحَقَقُ به المعنى اعلم أن الاستدلالَ الذي يُحَقَقُ به المعنى (¬1): هو الاستدلالُ الذي يُستشهد فيه على المعنى بالأصلِ على الفرع ليُعلمَ أحق هو أم باطل؟ فإذا شَهِدَ الأصلُ بفرع وكان (¬2) الأصلُ حقا وَأنه يشهدُ بحق، أنتجَ عن ذلك أن شهادتَه حق، وإذا كان الأصلُ باطلًا وأنه يشهدُ بحق، أنتجَ عن ذلك أن شهادتَه تلزمُ منه أنه يجبُ على القائلِ به أن لا يُفرقَ بين الأصلِ والفرعِ، فيقولَ بأحدِهما ولا يقولَ بالأخرِ؛ لأن الأصلَ إذا كان عنده حقًا، وكان الحق لا يشهدُ إلا بحق، لم يَجُزْ لهُ إنكارُ شهادتِه مع الِإقرارِ بعدالتِه، وذلك أنه لو أعطى الخصمَ: أن كلُّ فاعلٍ جسم، وكل جسمٍ مؤلَف، ثم منعَ من فرعِ هذا الأصلِ، فقال: وليس كلُّ فاعل مؤلَّفاً، كان مناقضاً ولم يصح له اعتلال في التَفرقَةِ بين الأمرين أصلًا. فصل في الاستدلالِ بالمثالِ الذي يُرد إليه المعنى اعلم أن الاستدلالَ بالمثالِ الذي يُرد إليه المعنى على ضَرْبَينِ: أحدهما: صورةٌ دائرةٌ في جميعِ التصاريفِ يُستَدَل بها على بَحْثِ ما فيها مما كان خارجاً عنها، وهي التي تَضبِطُ البابَ حتى لا يدخلَ فيه ماليسَ منه، ولايخرجَ عنه ما هو منه. ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل. (¬2) في الأصل:"وكل".

والضربُ الآخر: صورة (¬1) يُستشهد بها وُينتَجُ عنها في سائرِ أنواعِ القياسِ: فالاوَّلُ: كالجوهرِ يُبحَثُ عنه من وجوهٍ كثيرةٍ كلُّها معقودة به، فمن ذلك: جنس واحد هو الجوهرُ، أم أجناس مختلِفة؛ وهل يَحتمِلُ جزء من الجوهر ما يَحتمِلُه الآخرُ من الأعراضِ؟ وهل لا شيءَ من الجواهر إلا ويجوزُ عليه ما جازَ على الآخر؟ وهل يُرَى الجوهرُ وُيلمَسُ؟ وهل يبقى الجوهر ببَقاءٍ, وهل يتداخلُ الجوهرُ؟ وهل يَصح خُلُو الجوهر من العَرَضِ في الوجودِ؟ وهل الجوهرُ غيرُ العرضِ؟ وهل ينتهي الجوهرُ إلى جزءٍ لا يَتجزَّا؟ وكم يلقى الجزءُ من الجواهرِ؟ وهل يَفْنى الجوهرُ؟ وهل يفنى بفَناءٍ؟ وهل تجوزُ الِإعادةُ على الجوهرِ؟ وهل يجوزُ أن يَفْنى جوهر دونَ جوهرٍ؟ وهل يجوزُ أن ينقلبَ الجوهرُ عرضاً؟ هذا كله بَحْث في الجوهر. والصورةُ المُنتِجةُ الدائرةُ في جميعِ القياسِ: كصورةِ: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وكل حيوانٍ جسم، يَلزَمُ منه: كلُّ إنسانٍ جسم (¬2). ويوضِّحُ لك فصلَ ما يُنتَجُ بالصورةِ من غيرِه أن تَرُده إلى حروفِ المعجمِ، فتَجِدَه يُنتجُ (¬3)، كقولك: كلُّ (أ): (ب)، وكل (ب): (ج)، فتجدُه يُنتجُ: أن كلُّ (أ): (ج). فتأَمَّلْ هذا الفصلَ فإن الفائدةَ فيه كبيرةً. ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل، ووضع على الثانية علامة التصحيح، ولم يظهر لنا وجه تكريرها. (¬2) هذا مثال على الضرب الثاني من الاستدلال بالمثال الذي يرد إليه المعنى. (¬3) في الأصل: "يفتح".

- فصل في الاستدلال الذي يعتمد عليه في الطريقة

فصل في الاستدلالِ الذي يُعتمدُ عليه في الطريقة اعلم أن الاستدلالَ الذي يُعتمدُ في الطريقةِ على ضَربَينِ: أحدهما: أن يشهدَ الأولُ بالثاني، والثاني بالثالثِ، والثالثُ بالرابعَ إلى آخر مَرْتَبَةٍ. والضَرْبُ الآخرُ: أن يُحضِرَ الأولُ الثانيَ، والثاني الثالثَ، والثالثُ الرابعَ إلى حيث تنتهي مراتبُه، والاعتمادُ في هذا الاستدلالِ على أن تعملَ في الثاني على نحوِ العملِ في الأولِ. مثالُ ذلك: التَغيرُ يشهدُ بحدوثِ الجوهرِ، وحدوثُ الجوهرِ يشهدُ بأنه لا بُدَّ من صانع غير مصنوعٍ، وأنه لا بُد من صانع غيرمصنوعٍ يشهدُ بأنه قديم، وأنه قديمٌ يشهدُ بأن الحاجةَ لا تجوزُ عليه، وأن الحاجةَ لا تجوزُ عليه يشهدُ بأنه لا يجوزُ عليه الظُّلمُ، وأنه لا يجوزُ أن يُؤيِّدَ كذَاباً بمُعجِزٍ. ومثالُ الطريقةِ للإِحضار: ما الدليلُ على النُّبُوةِ؟ إذا حضرَ الجوابُ: بأنه المعجزُ، اقتضى السؤالُ الثاني: وما الدليلُ على المُعجِزَةِ؟ فإذا حضر الَجواب: بأنه الخروجُ عن العادةِ، اقتضى السؤال الثالث: ما (¬1) الدليلُ على الخروجِ عن (¬2) العادةِ؟ فإذا حضرَ الجوابُ: بأنه تَرْكُ المُعارَضةِ مع التَحدي للكافَةِ، كان على السائلِ أن يَتاملَ؛ فإن عَلِمَ فقد وصلَ إلى الغَرضِ، وإن اعترضَت عليه شُبْهَةٌ، سألَ عنها ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعد". (¬2) في الأصل: "من".

- الاستدلال الذي تقع فيه منازعة

حتى تُكشَفَ له حقيقتُها. فصل في الاستدلالِ الذي تقعُ فيه مُنازَعة اعلم أن الاستدلالَ الذي تقعُ فيه منازعة لا يخلو من أن تكون (¬1) في نفْسِ الشاهدِ المُستدَل به، أو في أنه يشهدُ، أو فيهما. والمنازعةُ تَطَرَقُ على ذلك متى لم يَكُنْ معلوماً ببَدِيهَةِ العقلِ. وإذا وقعَ التسليمُ للشاهدِ أنه حق في نفسِه، فإنه يشهدُ بطلب المنازعةِ في الاستدلالِ؛ لأنه يَلزَمُ أن الشهادةَ صحيحة لا مَحالةَ. فصل في الاستدلال بالنقيضِ اعلم أن الاستدلالَ بالنقيضِ يكونُ من جهةِ أنه إذا صحَ أحدُ النَقيضَينِ، فسدَ الآخرُ لا مَحالةَ. مثالُ ذلك: إذا صحَ: أن كلُّ جسم مؤلَف، فسدَ أنه ليس كلُّ جسمٍ بمؤلفٍ، وكذلك سبيلُ الموجِبةِ مع السالبةِ لا تَصْدُقانِ جميعاً البَتَةَ، فيَفسدُ أيضاً أنه ليس واحدٌ من الأجسام بمؤلَفٍ، وكذلك إذا صحَ: كلُ جوهرٍ داخل تحت المقدورِ، فسد: ليس كلُّ جوهرٍ بداخلٍ تحت المقْدُورِ، وكذلك يفسدُ: ليس واحد من الجواهر داخلًا تحت المقدورِ. ¬

_ (¬1) يعني المنازعة.

والنَقيض يَجيءُ على طريقين: إحداهما (¬1) طريقة الضِّدِّ، والأخرى طريقةُ السلْبِ: فطريقة الضِّدِّ: كقولك: إذا صح أنه ساكنٌ، فليس بمتحرِّكٍ، وإذا صح أنه موجود، فليس بمعدوم، وإذا صحَ أنه محدَث، فليس بقديمٍ، وإن لم يَكنْ هناك ضِدٌّ في الحقيقةِ. فأمَّا طريقة السلْبِ فكقولك: إذا صحَ أنه محدَث، لم يصح أنه ليس بمحدَثٍ. ويستدل بالنقيضِ على الفَرْقِ؛ وذلك أن كلُّ فرقٍ بين شيئين فلا بد من أن يكونَ أحدهما على الموجِبةِ -وهي المثبتة-، والآخر على السَّالبةِ -وهي النافية-، كالفرقِ بين الدَلالةِ والعِلَّةِ، وذلك أن كلُّ عِلَّةٍ فلو بَطَلَتْ، لبَطَلَ أن يكونَ ما شَهِدَتْ به على ما هو عليه، [أما الدلالة فلو بطلَتْ، لم يَبطلْ أن يكونَ ما شهدت به على ما هو عليه] (¬2) وذلك أن الفعلَ يشهد بأن فاعلَه قادر، فلو بطلَ فلم يكنْ وجِدَ أصلاً، لم يَبطلْ أن يكونَ القادر على ما هو عليه قادراً، وكذلك لو لم توجَدِ الدلالة على القديمِ، لم يَبطلْ أن يكونَ قديماً. فأمَّا الحركة فلو لم توجَدْ، لم يصح متحرِّك، وكذلك السواد وسائر العِلَلِ. فهذا بيان فَرْقِ ما بين بُطلانِ الدَلالةِ والعِلَّةِ، وهو كاشف عن الفرقِ بينهما في أنفسِهما. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحدهما". (¬2) زدنا ما بين الحاصرتين على الأصل ليستقيم المعنى ويتضح.

- الاستدلال بالشاهد على الغائب

فصل في الاستدلال بالشَاهد على الغائب اعلم أن الاستدلادَ بالشاهد على الغائب يَجْري على وجهين: أحدهما: الاستدلالُ بما تُشاهدُ على ما تَحتاجُ إلى علمه مما لا تُشاهدُ. والآخرُ: الاستدلالُ بما له شهادةٌ على ما تَحتاجُ إلى علمه من جهة الدَّلالةِ. مثال الأوَّلِ: الاستدلال بالمُشاهَدةِ (¬1) [على] (¬2) الفرق بين المُتحرِّكِ والساكنِ من جهة الرُّويةِ على أن الحركة تُرى، وكذلك الاستدلالُ بمشاهدة الشَّجرةِ المُورِقةِ بعد أن كانت يابسةً أن لها صانعاً جعلَها على تلك الصِّفةِ، كما أنك إذا شاهدْتَ الدَّار مبنيَّةً بعد أن كانت مهدومةً، فلا بدَّ من بانٍ (¬3) جعلَها على تلك الصَفةِ. ومثالُ الثاني: استحقاقُ الذَّمِّ يشهدُ بأنه لا يَستحِقُه إلا مسيءٌ، وأن المسيءَ صار مسيئاً بعد أن لم يكن مسيئاً يشهدُ بأنه لا بُدَّ من إساءة لأجلها كان مسيئاً، كما أنه إذا صار موجوداً بعد أن لم يَكُنْ موجوداً، فلا بُدَّ من مُوجدٍ، وإذا حَدَثَ، فلا بُدَّ من مُحدِث، وإحكامُ الفعل يشهدُ (¬4) بأن فاعَلَه عالِمٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالشاهدة". (¬2) أضفناها على الأصل لتتضح العبارة. (¬3) في الأصل: "باني". (¬4) في الأصل: "تشهد".

- الاستدلال بالأصل على الفرع

فصل في الاستدلالِ بالأصلِ على الفرعِ اعلم أن الاستدلالَ بالأصل على الفرعِ يكونُ على وجهين: أحدهما: تصحيحُ الفرعِ بالأصلِ. والآخرُ: نقضُ [الأصلِ] (¬1) بما يشهدُ به من الفرعِ الفاسدِ. وهذا الوجه الثاني إنما يكون في إلزام المُبطِلينَ على أصولهم بما يَدُلُّ على بطلانها، وسواءٌ كان الأصل أولًاَ أو ثانياً في أنه إذا شهدَ بمعنىً، فذلك المعنى فرعٌ له. فالمعجزةُ تشهدُ بالنُّبوَّةِ، إذ كانت تَدُل على الخلافةِ، والمُعجزةُ أصلٌ يَدُل عَلى أنها حقٌّ في نفسِها، وهو حِكمَةُ الفاعلِ لها، والدَّال بها هو الله عزَّ وجل، ولو لم يَثبُتْ أنها حق في نفسِها، لم يُلتفَتْ إلى شهادتِها. فأمَّا أصلُ نُفاةِ الأعراضِ (¬2) من أنه لا حركةَ ولا سكونَ ولا اجتماعَ ولا (¬3) افتراق على الحقيقةِ، فيشهدُ بأنه لا يصحُّ أن يتحَركَ شيءٌ بعد أن كان ساكناً، ولا يجتمعَ شيءٌ بعد أن كان مُفترِقاً، لأنه في كلا (¬4) الحالين موجودٌ غيرُ حادثٍ، ولا حَدَثَ شيءٌ لأجله صار على تلك الصِّفةِ بعد أن لم يَكُنْ عليها، فيجبُ أن يكونَ على ما كان، ففرعُ ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) انظر "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 5/ 66 وما بعدها. (¬3) في الأصل: "والا". (¬4) في الأصل: "كلى".

ذلك الأصلِ أن لا يصيرَ الجسمُ مُتحركاً بعد أن كان ساكناً، ولا مُجتمِعاً بعد أن كان مُتفرقاً. مثال في الفروع على الوجهِ الثاني من الاستدلالِ بالأصلِ على الفرعِ -وهو نقضُ الَأصلِ بما يشهدُ به الفرعُ- على مَنْ جعلَ الجدَّ كاحدِ الإخوةِ من حيث إدْلائِه بالأبِ (¬1) -وهم أصحابُنا (¬2) وأصحابُ الشافعىِّ (¬3) - وفَرعُوا على ذلك أن حَرَسُوا له تارةً ثُلُثَ المالِ وتارةً السدسَ، وهذا منهم عنايةً بحراسةِ فَرْضِ الأبوَةِ؛ إذْ ليسَ للأخُوَّةِ ذلكَ، فظهر بحراسةِ الفَرْضِ أنه ليس كآحادِ الإخْوةِ. وعلى أصحاب أبي حنيفة حيثُ جعلوه وارثاً بالإدلاءِ (¬4) والأبُوَّةِ، ولم يَحُطُوا ميراثَ الَأمَ معه في مسألةِ: زوج وأم وجَد، وزوجةٍ وأم وجَد من فَرْضِها الذي هو ثُلُثُ الأصلِ إلى ثُلُثِ الباقي، بخلافِ الأبِ (¬5). ¬

_ (¬1) فالجد أبو الأب، والأخ ابن الأب، فكلاهما يصلان إلى الميت بالأب، وقرابة البنوة كقرابة الأبوة. (¬2) انظر (المبلأع في شرح المقنع) 6/ 119 وما بعدها. (¬3) انظر "روضة الطالبين" 6/ 23 وما بعدها. (¬4) كتبت في الأصل: "بالإيلاد"، والذي يترجح لنا أن صوابها كما أثبتنا في المتن، وهو ما يؤيده السياق، والله أعلم. (¬5) ذهب الحنفية، إلى أن الجد بمثابة الأب في أنه يحجب الإخوة الأشقاء أو لأب من الميراث، إلا ما يذكر عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن في أنه يقاسمهم -وهو أيضاً رأي الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد-، ولكن الحنفية خالفوا ذلك في فروعهم؛ فلم ينزلوا الجد منزلة الأب في مسألة: زوج وأم وجد، وزوجة وأم وجد، فجعلوا للأم ثلث أصل المال، لا ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين كما في حالة الأب، وهو قول عامة أهل العلم إلا =

- الاستدلال بالقرينة على النتيجة

وأبداً يقولُ الفقهاءُ: هذا انتقالٌ من كلام في أصلٍ إِلى الكلامِ في كيفيتِه، وليس هذا انتقالاً، لكنَّه استدلال صحيح؛ لأنه لو صح الأصلُ، لم يَتكدرْ تفريعُه على مُؤصِّلِه، فإن الصحيحَ لا يُثمِرُ الفاسدَ، والمُحكَمُ من الأصولِ لا تنتقضُ (¬1) فروعُه، ألا ترى أن الله سبحانه استدل على صِحة كونِ القرآن من عند الله بنفي الاختلافِ فيه، فقال: {وَلَو كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]. فصل في الاستدلالِ بالقرينةِ على النتيجةِ اعلم أن الاستدلالَ بالقرينةِ على النَتيجةِ تنقسمُ أبوابُه على ثلاثةِ أقسامٍ: الكُليةِ، والقِسْمِيةِ، والشَرْطيةِ: فبابُ الكليةِ على ثلاثةِ أضربٍ: الضرب الأول: له أربعةُ أنواع، وهي: الأول، (¬2): كلُّ إنسانٍ مصنوع، وكل مصنوع مقدور، فكل إنسانٍ ¬

_ = أبا يوسف؛ فإنه جعل لها ثلث الباقي أيضاً. انظر "حاشية ابن عابدين" 6/ 770، و"مختصر الطحاوي" ص 143 و 147 - 148، و"المنتقى شرح الموطأ" 6/ 228 - 229، و "المغني" 9/ 20 - 21، و"روضة الطالبين" 6/ 12. (¬1) رسمت في الأصل هكذا: "سط"، وقد وضع عليها علامة التضبيب إشارة إلى أن الناسخ استشكلها، والذي يظهر لنا أنها محرفه، وصوابها ما أثبتناه في المتن. (¬2) ليست في الأصل.

مقدور. الثاني: كلُّ إنسان جسم، وليس شيء من الأجسامِ بمعدومٍ، فليس شيء من النَاسِ بمعدوم. الثالث: بعضُ الناسِ مُكلف، وكل مُكلَّفٍ مجازىً، فبعضُ النَاسِ مجازىً. الرابع: بعضُ النَاسِ مؤمن، وليس واحد من المؤمنين مُخلَداً في النارِ، فبعضُ النَاسِ ليس بمُخلَدٍ في النارِ. الضَرْبُ الثاني (¬1): [وله أربعة أنواعٍ: الأولُ] (¬2) كلُّ جسمٍ مُؤلَّف، وليس قديم بمؤلف، فليس جسم بقديمٍ. والثاني: ليس واحد من المؤمنين بمخلدٍ في النارِ، وكلُّ كافرٍ مخلد في النارِ، فليس واحد من المؤمنين بكافرٍ. الثالث: بعضُ المُوحَدين شهيد، وليس واحد من الضالين شهيداً، فبعضُ الموحَدين ليس بضالٍّ. الرابع: ليس كلُّ مكلفٍ بمُهتَدٍ، وكل عالمِ مُهتَدٍ، فليس كلُّ مكلَّفٍ بعالم. الضَّرْث الثالث: [وله ستَة أنواعٍ: الأولُ:] (2) كلُّ مؤمنٍ محمود، وكلُّ مُؤمنٍ مُثاب، فبعضُ ¬

_ (¬1) أي الضرب الثاني من باب الكلية. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة على الأصل للتبيين والِإيضاح.

- الاستدلال بفساد الشيء على صحة غيره

المحمودين مُثابٌ. الثاني: كلُّ مؤمنٍ مُحسِنٌ، وليس واحد من المؤمنين بقديم، فبعضُ المحسنين ليس بقديم. الثالث: بعضُ المتَقين أمينٌ، وكل مُتَقٍ شهيدٌ، فبعضُ الأمناءِ شهيدٌ. الرابع: كلُّ مؤمنٍ مُوحد، وبعضُ المؤمنين إمام، فبعضُ الموحدينَ إمام. الخامس: كلُّ مُنعِم مشكور، وليس كلُّ مُنعِمٍ بمُثابٍ، فليس كلُّ مشكورٍ بمُثابٍ. السادس: بعضُ الأعراضِ موجود، وليس شيء من الأعراضِ بجوهر، فبعضُ الموجوداتِ ليس بجوهرٍ. فصل كَثُرَ فيه غَلَطُ الأصوليين حتى قال فيه بعضُ المشايخِ الأصوليين: لا اعرفُ أحداً ممن مضى من المتكلَمين إلا وقد غَلِطَ فيه لدِقةِ مَسْلَكهِ، وغُموضِ مَأخَذِه، وهو: الاستدلالُ بفسادِ الشيءِ على صحةِ غيرِه. وسأوضحُ منه بغايةِ وُسْعي ما أضعُكَ فيه على الواضحةِ بعونِ اللهِ تعالى ولُطْفِه وحُسْنِ توفيقِه. وعَقْدُ الباب فيه: أن كلُّ دليل على صحةِ شيء فهو يَدُلُّ على فسادِ ضده، فكذَا إذا دل على فسادِ شيءٍ دل على صحةِ ضده، وضدُ

المذهبِ الذي عَينَاهُ ها هنا هو اعتقادُ فسادِه ونفيِهِ وإبطالِه. وقد قال قوم: ليس هذا هكذا، ولكن في بداهَةِ العقولِ أن كلُّ ما صححه الدليلُ أبْطَلَ ضِدَّه -أو قالوا: أفسدَ ضده-، وكل ما أفسدَه صحَحَ ضدَّه. والتحقيقُ في ذلك: أن الدليلَ إذا أفسدَ شيئاً أو صحَحَه، رَجَعَ في الأخَرِ -أعني بالاَخَرِ: ضده- إلى العقلِ، فافتى العقلُ في أسرع من لَمْحِ البصرِ بحقيقةٍ واجبةٍ. والدليلُ على هذا التحقيق: أنك إذا دللت على صحَّةِ شيءٍ فقيلَ لكَ: ما الذي يُفسدُ ضدَّه؟ قلتَ: ما في العقلِ من استحالة اجتماعِ الشيءِ وضِدِّه في الصحةِ. ولو قلتَ: ما دل على صِحَّتِه هو الذي يدلُّ على فسادِ ضدِّه، لساغَ لقائلٍ أن يقولَ لك: ومن أيِّ وجهٍ دل على ذلك؛ أرايتَ إن عارضَك مُعارِض، فقال: بل الدليلُ على صحَّتِه دال على صحَّةِ ضِدِّه، فماذا يفصلُ بينك وبينه في هذه المعارضةِ؛ فلا تَجِدُ بُدَّاً عند التحصيلِ من الرجوعِ إلى ما في العقلِ مما وَصَفْناهُ، وذلك لأن الدَّلالةَ إذا دَلَّتْ على أن زيداً مُسِيء، لم تَكُنْ بنفسِها دَلالةً على نفيِ الإِحسانِ الذي هو ضِدًّ الإِساءةِ عنه؛ من حيث إنه قد يُمكن أن يكونَ محسِناً من وجهٍ وهو بِرُّ أبيه، مسيئاً (¬1) من وجهٍ وهو عُقوقُ أمِّهِ، وإنما يَصح ذلك فيما لا يكونُ ثابتاً من وجهٍ ومعه ضِدُّه من وجهٍ آخرَ؛ كالدَّلالةِ على أن الشيءَ مُحدَث تدلُّ على بطلانِ قِدَمِه؛ فإنه لا يصحًّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مسيء".

أن يكونَ قديماً من وجهٍ. فانْعَقَد البابُ على أن كلُّ دَلالةٍ (¬1) دَلَّتْ على صحَّةِ حكم أو مذهبِ أو حالٍ أو حقيقةٍ لم يُمكِنْ أن يكونَ ضدُها من وجهٍ من الوجوهِ مُجامِعَاً لها، فإن الدليلَ الدال على صحَّتِها هو المفسدُ لضدِّها، ومتى كان من قَبيلِ الأولِ لم يدل إلا على صحةِ ما دلَّ عليه دونَ أن يدلَّ على فسادِ ضدِّه أو بطلانِ ضده، وكلُّ ذلك يقتضيه العقلُ في ذلك، ونفيُ الضدِّ لضدِّه، فقد أفتى العقلُ وسبَقَتْ فتواه بذلك. واعلم أن المُعتقِدَ لشيءٍ ليس له ضد يَفسُدُ أو يَصلُحُ مُعتقِدٌ، وليس تقفُ صحةُ فعتقَدِ الشيءِ على العلمِ بأن له ضدَّاً، ولو كان للمعتقدِ ضدٌّ لفسدتِ الحقائقُ. وهذا موضعٌ لم يتقدمْ تحصيله فلا تَستوحِشْ من وَحدَتِكَ فيه، ولا تَعتبرْ بكثرةِ ما يورَدُ عليك فيه، فإن لكلِّ شيءٍ أولًا، ولكلِّ أوَّل وقْفَةٌ من المستوحَشِ منه، فلا يرُعْك ذلك. واعلم أن الضدَّينِ المذكورين في هذا الباب هما الاعتقادان، فأمَّا المعتقَدُ الواحدُ (¬2) لا ضدَّ له فيَفسد أو يَصلُح. والدَليل على ذلك: أنك لا تَجدُ قديماً هو ضدٌ للمحدَثِ الصحيحِ، ولا اثنينِ قَدِيمَينِ هما ضدٌّ لَلواحدِ القديمِ، ولا مُتحرِّكاً إلا بحركةٍ هو ضد للمتحرِّك بحركةٍ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ذلك". (¬2) كتبت في الأصل: "للواحد".

فإن قلتَ: فما الدليلُ على صحَّةِ الأول دونَ ما حَكَيْتَه عن هؤلاءِ القومَ؟ فالدليلُ عليه ما ذكرَه المحقَقونَ من العلماء بهذا الشَّأَنِ، وهو أن الدليلَ لا يخلو من أن يكونَ هو المُعرِّف، المُبينَ الهاديَ، أو ما يستشهدُ لك المعرِّفُ (1) عندَ دلالته وُينَبِّهُك على ما فيه، فإن كان هو المعرِّفُ (¬1)، فقد اجتمعَ له الأمران؛ لأنه هو الذي عَرَّفَك صحةَ المذهب، وهو الذي عَرَّفَك ببَدِيهةِ العقلِ فسادَ ضدِّه، ومخاطبته إياك بالخواطِرَ كمخاطبتِه إياكَ ببديهةِ العقلِ، فإن كان المذكورُ ما فيه من الآثارِ ونحوها عند الدَّلالةِ والهدايةِ هو الدَّليلُ، فالصَّنعة إنما دلَّتْ على أن [لها] (¬2) صانعاً فقط، والعقلُ هو الذي دلَّ على صحةِ اعتقادِه، من حيثُ دلَّ على أن كلَّ ما أثبتَه الدليلُ يصحُّ اعتقادُه، وهو أيضاً إقرارُهم بما دلَّ على فسادِ ضده، فقد اجتمعَ له الأمرانِ، وشروطُهم التي تقدَّمَتْ تُوجِبُ ما قلنا؛ لأن قائلًا لو قال: من أين تجبُ صِحَّةُ اعتقادِ الصانعِ إذا دلَّتْ عليه الدلائل؟ فقلتَ: من حيثُ وجبَ أن صانعاً للمصنوعِ. فقال لك كذلك: فإنا لا نرى فيها أكثرَ من تثبيتِ صانعٍ فقط. لم تَجِدْ بُدَّاً من الرُّجوع إلى ما في العقلِ بما وصفنا، ورجوعُك إلى ما في العقل رجوعُ إلىَ من وضعَه فيه. فإذا كان للمذهبَين ثالثُ، لم يَكنْ (¬3) ما يَدخُل في احدهما من ¬

_ (¬1) في الأصل:"المعروف"، ويغلب على ظننا أن الصواب ما أثبتناه. (¬2) زدناها على الأصل ليتبين المعنى ويستقيم. (¬3) كتبت في الأصل:"يكون" بالإثبات.

الفسادِ دليلًا على صحةِ واحدٍ من الثلاثةِ بعيْنِه، وإن لم يَكُنْ لهما ثالثٌ، فهذا المذهبُ في الاستدلالِ فيهما أجودَ. ونظيرُ هذا: إذا لم يَكُنْ في العالَمِ إلا ثلاثةُ أماكنٍ، لم تكن غَيْبُوبةُ زيدٍ عن أحدِها (¬1) دالةً على كونِه في واحدٍ من الاثنين بعينِه، وإن لم يَكُنْ فيه إلا مكانانِ استدْلَلْتَ بغَيْبَتِه عن أحدِهما على كونِه في الآخرِ. وقد يَستخِفُّ المتكلِّمون بالثالثِ كثيراً، وهو ثالثُ النَفي والإِثباتِ، والثالثُ: إمَّا الوقفُ أو الشك الذي يُثبتُه (¬2) بعضُ الناسِ مذهباً (¬3)، أو يُخرِجُه قومٌ عن كونِه مذهباً، ويَعتلونَ على ضعفِه عندهم، فيستدلون بفسادِ أحدِ الاثنينِ على صحةِ الأخرِ، ووجودُ ضد الثالثِ -ضعيفاً كان أو قوَياً- يمنعُ من هذا. والدليلُ على ذلك: أن مُحصِّلًا لو اعترضَ عليهم، فقال لهم: ألستُم تعلمون أن لهذين المذهبين ثالثاً؟ فقالوا له: بلى. فقال لهم: فكيف صار بفسادِ أحدِ هذينِ الاثنين يوجبُ صحةَ ما صححتُموه دونَه؟ لم يجدوا بدَّاً من ذكرِ ما أضعفَه عندهم، وللمُحصلِ أن يقولَ لهم: فإنما كان ينبغي أن تذكُروا فسادَ المذهبين، ثم تَستدِلُّوا بذلك على صحةِ الثالثِ؛ إذْ لا رابعَ له بالضرورةِ، فأمَّا الاقتصارُ على إفسادِ واحدٍ ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحدهما"، والذي يتفق ومعنى السياق ما أثبتناه. (¬2) في الأصل:"يبينه". (¬3) تقدم كلام المصنف في الصفحة (31): أن الشك ليس بمذهب، وأن الوقف مذهب.

- فصل في القسمية

فلا يَصلُحُ؛ لأن معارِضاً لو عارضَكم بذكرِ ما يُفسدُ به الذي صحَّحتُم، ثم جعلَ إفسادَه دليلَاَ على صحةِ الذي أفسدتُموه ما الذي تَنفصِلونَ به عن معارضتِه؟ فلا مَحِيصَ لهم عن ذلك. فإن قالوا (¬1): الذي أفسدناه يَدخلُ فيه كذا وكذا فيُفسدُه، فإذا فسدَ فلا بُد من صحةِ الثاني، فيقالُ لهم (¬2): والذي صحَحتُموه يَدخلُ فيه كذا وكذا فيُفسدُه، وإذا فسدَ فلا بُد من صحَّةِ الأولِ. وبعدُ: فلِمَ كان الأولُ صحيحاً لَما دخلَ في الثاني دونَ أن يكونَ الثاني هو الصحيحَ لمَا دخلَ في الأولِ؟ وكيف صارَ ذِكرُ ما يَدخلُ في الثاني دليلاً على صحةِ الثاني؟ فصل في القِسْمِيَّةِ (¬3) وذلك كقولِك: لا يخلو المعاقَبُ أن يكونَ مُسِيئاً، أو مُحسِناً، أو لا مُسيئاً ولا مُحسِناً، فإذا بطلَ أن يكونَ لا مُحسناً ولا مُسيئاً، كما بَطَلَ أن يكونَ مُحسِناً، لم يَبْقَ إلا أنه مُسيء، وكذلك المستحِقُّ للذمِّ. وكذلك المستحِقُّ للحمدِ، لا يخلو من أن يكونَ مُحسِناً أو ليس بمحسنٍ، فإذا بطلَ أن يَستحِق الحمدَ مَنْ ليس بمحسنٍ، وجبَ أن لا يَستحِقَّه إلا مُحسِنٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال". (¬2) في الأصل: "له". (¬3) في الأصل: "القسمة".

- فصل في الشرطية

وما استُوفِيَتِ القِسمةُ بأحسنَ من قولِه سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 - 50]، فانظرْ كيف أحَّدَ الِإناثَ، وأَحدَ الذكورَ، وجَمعَ، وحَرمَ، ولا قسم بعد هذه الأربعةِ. فصل في الشَّرطِيةِ وهي إضافةُ الشيءِ إلى غيرِه، أو حملُه على غيرهِ من جهةِ صحةِ كونِه، لا من جهةِ الوجوبِ، بخلافِ وجودِ المعلولِ عند عِلتِه. مثالُه: إن وافى زيدٌ بالكفرِ، فهو مُستحِق للتخليدِ في النَارِ. وإن قلتَ: وليس بمُستحِق للتخليدِ في النَارِ، لأنتجَ: أنه لم يُواف بالكفرِ. ومتى أوجبتَ الشَرْطَ (¬1) وجبَ الجوابُ من حيث اللِّسانُ واللغةُ، وإن سَلَبْتَ الجواب وجبَ سلبُ الشرطِ. وُيسمى الشرطُ والجوابُ بلُغةِ أهلِ الجدلِ: المقدَّمَ والتاليَ. فصل من الردِّ الفاسدِ في الجدل: أن يقالَ للِإنسانِ المُتمذهب بمذهبٍ: دُل على صحةِ مذهبك، فيقول: لا أَدُل، لكن دُلوا أنتم علىَ فسادِ مذهبِي؛ لأن عَجْزَه عن الدَلالةِ على صحة مذهبِه يَمنعُه من ¬

_ (¬1) في الأصل: (الشروط)، وما أثبتناه أنسب بالمقام.

- فصل من العلل

التمذهب به؛ لأنه يعطي أنه مُقلِّدٌ (¬1)؛ إذ لو كان مُستدِلًا لدل السائلَ بما استدَلَّ به على المذهب، وذكرَ الدليلَ الذي لأجلِه تمذهبَ بذلك المذهبِ، ولمَّا عَجزَ عن الَدَّلالةِ خرجَ عن أهلِ المذاهبِ، وعُلِمَ أنه مُقلِّدٌ هَويَ شيئاً، فقالَ به. وعجْزُ السائلِ عن إفسادِه لا يُصحَحُ مذهبَ المسؤولِ، كما أن مُدَّعيَ النبوَّةِ لو طلبَ منه طالبٌ مُعجزةً دالَّةً على صدقه، فردَّ على الطالب طَلَبَه بأن قال: فدُلَّ أنت على كذبي، فليس عجزي [عن] إقامةِ الدَّلَالةِ على صِدْقي بأوفى من عَجْزِك عن إقامة الدليلِ على كذبي، لم يكُ هكذا القولُ صحيحاً لإِثباتِ دعواه، كذلك ها هنا (¬2). فصل من العِللِ اعلم أنه إذا قال القائلُ: إنما كان الجسمُ مُتحرِّكاً؛ لأن فيه حركةً، فقد جعلَ الحركةَ عِلَةٍ لكونِ الشيءِ متحرِّكاً، وجعلَ عِلَّةَ كونِ الشيءِ متحرِّكاً، وعِلَّةَ استحقاقِه للوصفِ بالتحرُّكِ: الحركةَ، فلَزِمَه على هذا القياسِ أن يجعلَ كلَّ (¬3) حركةٍ وُجِدَتْ في شيءٍ علةً لتحركِه، وكل مُتحرِّكٍ ذا حركةٍ؛ لأنه قد جعل علةَ كونه مُتحركاً: الحركةَ. فإن أبى هذا وزعمَ أن الواجبَ أحدُ الأمرَينِ، وهو أن يكونَ كلُّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مقلداً". (¬2) انظر "الكافية" ص 386 وما بعدها. (¬3) في الأصل: "علَّةُ".

مَنْ فيه الحركةُ مُتحركاً، وجَوَّزَ كونَ مُتحرَك بلا حركةٍ، فلخَصْمِه أن يَقلبَ عليه القضيةَ، فيجعلَ الواجبَ ما أسقطَه، والساقطَ ما أوجبَه، فقال: بل المُتحركُ فيه حركةٌ، ومن فيه الحركةُ ليس بمتحرِّكٍ، فلا يَجِدُ انفصالًا عن القَلْبِ عليه. والأصل في هذا: أنَا لَما وجدْنا حركةً واحدةً تحدثُ في الشيءِ فيكونُ مُتحرَكاً بحدوثِها فيه، وجبَ القضاءُ على كلُّ حركةٍ بمثلِ ما شوهدَ فيها، وعلى هذا القياسِ: أنَا متى وجدنا شيئاً واحداً لا يَتحركُ إلا بحدوثِ الحركةِ فيه، وجبَ على كلُّ متحركٍ غابَ أو حضرَ بمثلِ ما شوهدَ منها، فإن لم يَسْتحِلْ وجودُ مُتحرَكٍ لا حركةَ فيه، فكان هذا الحكمُ إنما يقعُ على الجسمِ المُشاهَدِ دون ما لا يَحتمِلُ الحركةَ، ولا بُدَّ من أن يكونَ مُتحركاً، فقد صارت هذه القضيةُ مانعةً من القضاءِ على الغائبِ بما أوجبَتْهُ العلةُ في الشاهدِ، ولم تنكرْ أن يكونَ في قُدرَةِ الله سبحانه حركةٌ يُجريها في شيءٍ لا يجوزُ عليه التحركُ، فلا يكونُ بحدوثِها فيه متحركاً، وليس حكمُ الغائبِ من المحدَثاتِ حكمَ الشاهدِ فيما وجَدْنا من عِلَله، فإن وجدنا دَلالةً تُثبتُ شيئاً لا يجوزُ عليه التحرُّكُ ولا بُدَّ من حُلولِ الحركةِ فيه متى يكوَنُ هذا، نظراً لقولِهم: عندنا دلالةٌ تُثبِتُ شيئاً لا بُدَّ من وصفهِ بالتحرُكِ ونَفْي الحركةِ عنه، وإلا فأصل ما يجبُ تجويزُه إذ ليس يُمكِنُ القطعُ على كلِّ غائبٍ بحكمِ ما شوهدَ، فيكونُ ذلك مانعاً من إثباتِه وتجويزِه، والشيءُ إذا لَم يَمنعْ منه مانعٌ، وجبَ تجويزُه، إلا أن تمنعَه بَديهةُ العقلِ، فيكونُ دفعُها أكبرَ الموانعِ منها.

ومن (¬1) أصولِ هذه الأبوابِ العظامِ أنهم إنما جعلوا الشيءَ مُتحركاً لأن فيه حركةً، فأوجبوا لذلك أن يكونَ كلًّ ما فيه الحركةُ متحرّكّاً، لأنهم لم يجدوا الحركةَ فيه قَطًّ إلا وهو متحرِّكٌ، ولم يجدوه مُتحرِّكاً إلا وفيه الحركةُ، ولأنهم رأوا وصفَ لفظِه في العقلِ على حقيقةٍ يُستيقَنُ (¬2) منها، وذاك أن عَقْدَك على أنه مُتحرِّكٌ هو كقولِك: هو مُتحرِّكٌ، لأنك اعتقَدْتَه من جهتِها كما وصفنا من جهتِها ولفظِها، وهذا يوجبُ أن يكونَ كلُّ متحرِّكٍ إذاً لحركةٍ فيه، لأنهم لم يجدوا مُتحرِّكاً قَطًّ إلا بحركةٍ، وقد وجدوا مُتحرِّكاً بغيرِها أو بنفسِه مُحالَاً، كما وجدوا قيامَ الحركةِ بنفسِها (3 ووجودَها فيما ليس بمُتحركٍ 3) مُحالًا، وإلا فلِمَ قَضَوْا بأن من فيه الحركةُ مُتحرِّكٌ، وما أنكروا من وجودِ حركةٍ تُخالِفُ الحركاتِ في هذا الباب، إذ قد جاز وجودُ متحرِّكٍ يخالفُ المتحرِّكِينَ، فمهما استشهدوا به فيَ الحركاتِ (¬4)، رجعَ عليهم في المتحرِّكينَ. ¬

_ (¬1) ورد قبل هذا في الأصل: "واعلم أنه من نفى شيئاً فادعى أنه نفاه بدليل ظاهر وحجة واضحة يمكن غيره معرفة إنكاره". وهو مقحم هنا، وسيرد في مكانه الصحيح في ألفصل القادم. (¬2) كتبت في الأصل "يستقان". (3 - 3) هذه العبارة مكررة في الأصل. (¬4) في الأصل: "الحركتين"، ولعل الصواب ما أثبتناه في المتن.

- فصل في قولهم: ليس على النافي دليل، المثبت

فصل في الكلام على جُهَالِ مُنتَحِلي الجدلِ في قولهم: ليس على النافي دليلٌ، ولَا على المُنكِرِ حُجةٌ لنفيِه وإنكارِه، وإنما ذلك على المُثبِتِ خاصَّةً، فهو المُدَعِي. اعلم أن من نَفَى شيئاً وأنكرَه، وادَعى أنه نفاه بدليلٍ ظاهرٍ وحجةٍ واضحةٍ يُمكِنُ غيرُه موافقتَه له في ذلك النفي والإِنكارِ ومعرفتَه، وأنه لم يَنْفِه بالحَدْسِ والتخمينِ ولا بحِسٍّ تفردَ به عن ذوي الإِحساس (¬1)، كان عليه إقامةُ الدليلِ على صِحةِ نفيهِ، والبَينَةِ على إنكارِه، ولَيس بين إثباتِه ونفيه فرق الْبَتَةَ بحُجتِه التي ادعى وجودَها وظهورَها، كما أن من أثبتَ شيئَاً بحجةٍ ظاهرةٍ، كان عليه إثباتُه بحجتِه التي ادَّعاها، ولَزِمَه من الدَّلالةِ على صحةِ إنكارهِ ما عليه من الدَّلالةِ بصحةِ إثباتِه، وليس بين الإِثباتِ والنفي فرق الْبَتَةَ في كونِهما مذهباً واعتقاداً يَصدُرانِ عن دَلالةٍ أوجبَتْهما، وحجةٍ ساقَتْ إليهما. فأمَّا تعلُّقُهم وتمثيلُهم ما نحن فيه من نفيِ الحقائِق ذواتِ الدَّلائل الظاهرةِ بحكمِ اللهِ سبحانه في باب الشرع، فإنه فاسدٌ؛ وذلك أن من ادُّعِيَ عليه مالٌ فأنكرَه، لا يَزعُمُ أنَ العقول والدلائلَ الظاهرةَ تدُلُّ على فسادِ ادِّعائِه عليه، وإنما غايةُ ما يَدعي أنه عرَفَه بمعرفةٍ تخصُّه؛ إذ لم يَجِدْ نفسَه آخذةً لذلك المالِ المُدعى عليه، وذلك أمرٌ لا يَظهرُ لغيرِه في حالِ إنكارهِ، والمنكِرُ للحقائقِ القائمةِ دلائلُها الظاهرةِ حُجَجُها يزعمُ أن له دليلَاً على إنكارِه، وحجةً على تخطئة خصْمهِ إيَّاه فيما ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: "الاحاس".

نفاهُ، وأنه لو استدلَّ خصمُه لأدركَ مثلَ الذي أدركه من النفيِ لِمَا نفاه، ولعرَفَ من صحةِ إنكارهِ ما عَرَفه هو، فهو في هذا القولِ مُثبتٌ لدليلِ إنكارهِ، وخصمُه مُخالِفٌ له فيه، وعلى مَنْ أثبتَ شيئاً يُخالَفُ فيه أن يَأْتِيَ بدليله إذا ادَّعى ظهورَه، فأمَّا مُدَّعِي المالِ فإنه يَدَّعِي أن له بَيِّنةً على صحة ادعائِه إيَّاه، فلذلك طُولبَ بإحضارها، ولولا أن العقولَ لا تُبطِلُ دعواه، لفَرَّقَ الناسُ بينهما، ولكن لَمًا كان ادِّعاءُ أحدِهما وإنكارُ الآخَرِ يستحيلان في العقول على كلُّ واحدٍ وصاحبِه، وإن كان مُنكِراً لمذهب يزعمُ أنه منكر المالَ، فقد ينبغي أن يزعُمَ أن الذي أسقطَه عندَ إقامةِ البرهانِ على إنكاره: أنه لا سَبيلَ إلى إقامتِه من العقل والحِسِّ إلا بأَخْذِ مَنْ لا سبيلَ له إلى معرفته من خصومه بتصحيحه له؛ إذ ليس لهم عليه دليلٌ ظاهرٌ، ولا يدعوهم إلى مثل ما هو عليه منه، وهذا ما لا يقولُ [به] المُتعلقونَ بهذا الجهلِ. على أن المُنكِرَ للمال ما خُلِّيَ ومُجرً دَ إنكارِه، إذ لو كان مُخَلَّى (¬1) وإنكارَه، لكان مجرَّدُ قولِه في جواب المُدَّعي: أستَحِقُّ عليه مئةَ دِرهَمٍ: لا يَستحِق عليً شيئاً ممَّا ادَّعى، كافياً في الردِّ للدَّعوى استناداً (¬2) إلى براءَةِ الذِّمَّةِ في الأصل عقلًا وشرعاً، لكنْ لمًا أوجبَتِ الشريعةُ اليمينَ بالله سبحانه -وهي نوعُ حُجَّةٍ في الشرع على مذهب العارفين بالسنَنِ، كهي مع الشاهدِ، ومُعدَّدَةٌ في أَيْمانِ القَسامَةِ (¬3) - عُلِمَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "محلا". (¬2) في الأصل: "إسناداً". (¬3) القَسامة- بالفتح-: اليمين، كالقَسَم، وتقدم بيانها في الصفحة (106).

أنه لم يَعْرَ المُنكِرُ من دَلالةٍ، وإنما كانت دَلالتُه دلالةً مخصوصةً، وليس الكلامُ في كيفيَّة الدَّلالةِ، لكنْ كلامُنا (¬1) في أصل الدَلالةِ، وما قُنعَ من المُنكِرِ إلا بدَلالةٍ وحجةٍ على صحة إنكارِه. ويقالُ لصاحب هذه المقالةِ: إنك مُقابَلٌ فيما تعلَّقْتَ به من الإِنكار للمال بما أجْمَعَ عليه العلماءُ من وجوب الدليلِ على مُدَّعي التوحيدِ ومثبتِه، وليس حقيقةُ التوحيدِ إلا نفيَ التَّثْنِيَةِ والتَّثْليثِ، فإن إثباتَ الصانع أصل، والتوحيدُ مبنى عليه، فلا فَرْقَ بين قولِ القائلِ: دُلَّ على إثبات الواحدِ، وبين قولِه: دُل على نفي ما زادَ عليه، ومن أرادَ أصلَ الإِثباتِ قال: دُلَّ على الصانعِ، وليس إثباتُ الصانعِ من التوحيدِ في شيءٍ؛ لأنه ليس من ضرورة الصنعةِ أن تَصدُرَ عن واحد، لكن وجبَتِ الوَحْدَةُ للقديم سبحانه حيثُ كان التَمانُعُ دالّاً على وَحْدَتِه من حيث كونُه قديماً كاملَ الذَاتِ والصَفاتِ، واستحالَ الكمالُ بلزوم العَجْزِ. عند إثباتِ الثاني، فوجبَ كوُنه واحداً، فبانَ بهذه الجملةِ: أن التوحيدَ نفيٌ في الحقيقة لِما زادَ على الواحد، وقد وجبَتِ الدَلالةُ عليه. ويقالُ له أيضاً: هل بين إنكارِك لما أنكرْتَه، وبين إقرارِ خصمِك به فرقٌ ظاهر للحِس أو للعقل؛ فإن قال: لا، فقد صارَ إلى أنه لا فَرْقَ بين الحقِّ والباطلِ، وإن قال: نعم، قيل له: فهل يَلزَمُ دليلُ الفرقِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "كلاماً".

بينهما؟ فإن قال: لا، فقد صار قائلًا بالفرقِ بين مَذهبينِ لا لِمُفرق (¬1)، وذلك باطل أيضاً، وإن قال: بلى يَلزَمُني دليلُ الفرقِ. فقد أَقَر بأنه يَلزَمُه إقامةُ الدَّلالةِ عليه، وفي هذا يطلانُ حيلتِه. ويَدخُلُ على أصحاب هذه المقالةِ أن يُسقِطُوا إقامةَ الحُجَّةِ عن نافي (¬2) الرَّبِّ، والرُّسلِ، والكتب، والشرائعِ؛ لأنهم مُنكِرون، والمُنكِرُ لا بَيِّنةَ عليه في أن نفيَه اوْلى بَالحق من إثبات خصمِه، وإنما يجبُ هذا على المُقِرِّ، ومن صار إلى هذا أبطلَ مسائلَ المُوحَدينَ على المُلحِدينَ. فإن كان المُتعلق بهذا مُلحِداً، بَطَلتْ مسائلُه على أصحاب الحدوثِ؛ لأنهم منكرون القِدَمَ وهو يُقِرُّ به، والمُنكِرُ لا بَيِّنةَ عليه، إنما البيِّنةُ على من اقر به، فإن قال: إذا ادعيت [القِدمَ] (¬3)، فلَعمْرِي إن على إقامةَ البَينةِ عليه، فأمَّا إنكاري للحَدَثِ فليس عليَّ فيه بَينةٌ. قلنا له: حدِّثنا، هل بين الحَدَثِ والقِدَم منزلةٌ؟ فإذا قال: لا، قلنا له: فهل يجوزُ أن يجتمعا؟ -وإنما نسأل عَن الاجتماعِ الذي ينكِرُه-، فإذا قال: لا، قلنا له: فإذا لم يَكنْ بينهما منزلةٌ واستحالَ اجتماعهما، أفليس قد يجبُ أن يكونَ دليلُ صِحةِ أحدِهما دليلاً على فسادِ الاَخَرِ؟ وإلا فكيف تَعلَمُ فسادَ الثاني إذا عَلِمْتَ صحةَ اْلأولِ؟ وإذا كان هذا كذا، فقد وجبَ أن دليلَ الِإنكارِ، فإنما تجبُ الإِشارة إليه والدَلالةُ به؛ لأنه هو دليل الِإقرارِ بعَيْنِه. ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل. (¬2) في الأصل: "عنا في". (¬3) ليست في الأصل.

ويقالُ أيضاً لصاحب هذا الاعتلالِ: هل على فسادِ إنكارِ مذاهبهِم دليلٌ ظاهرٌ؟ وهل لمن أنكرَها سبيلٌ إلى معرفةِ خَطَئِه في إنكارِها؟ فإن قال: نعم، قلنا لهم: فكيف لا يَجبُ عليهم الإِشارةُ إليه والدَّلالةُ به؟ ثم نقولُ لهم: فهل على فساد إنكَارِ المالِ والدَّيْنِ دليلٌ ظاهرٌ؟ فإن قالوا: لا، قلنا لهم: فقد فَرَقْتُم بين الإِنكارِ، ويَلزمُكم أن تُوجبوا على صاحب أحدِهما الدَّلالةَ بدليلِه الظاهرِ، وأن تُسقِطوا (¬1) ذلك عن الَآخَرِ بغَيْبَةِ (¬2) دليلِه، وإلا فما الفرقُ بين حضورِ الدليلِ وغَيْبَتِه؟ وما وجهُ المنفعةِ في حضورهِ ووجهُ الضرَرِ فىِ غَيْبَتِه. واعلم أن المُدَّعىِ إذا لم يكنْ على صحةِ ادعائِه دليل ظاهرٌ، لم تَلزَمْه إقامةُ الدليلِ عليهما، وهذا يدُلُّ على أنه ليس من أجلِ الإِنكارِ والإِقرارِ ما وقعَ الاختلافُ في هذا الباب، ولكِنْ من أجلِ حضورِ الدليل وغَيْبَتِه؛ ألا ترى أن ما تُمكِنُ الإِحَاطةُ به من النفي، ويَحضُرُ دليلُه، تُسمَعُ البَيِّنةُ عليه، مثل قولِ المُدَّعىِ: إن هذا قتَلَ أبانا أمسِ في عَرْصَهَ الكَرْخ (¬3). فيَنْفي (¬4) المُدَّعى عليه القتلَ ببَيِّنةٍ تشهدُ بأنه أمسِ جميعَه كان فىِ حَبْسِ الحاكمِ، فإن قالوا: ولِمَ حَكَمَ اللهُ بإقامة الدليلِ على مَنْ يدَّعي المالَ دون من يُنكِرُه؛ قلنا لهم: هو أعلمُ به ¬

_ (¬1) في الأصل: "اسقطوا". (¬2) في الأصل: "بعينه". (¬3) العَرْصَة: هي كلُّ موضع واسع لا بناء فيه. "اللسان" (عرص). والكَرْخُ -بالفتح، ثم السكون، وخاء معجمة-: علم لعدة مواضع كلها في العراق، وأشهرها: كرخ بغداد. انظر "معجم البلدان" 4/ 447. (¬4) في الأصل: "فيفهم".

مِنَا، وليس جهلُنا لعِلةِ هذا التعبدِ مانعاً لنا من إفساد هذا الاعتلالِ؛ إذ كان الدليلُ على فسادِه ظاهراً، وقد يُمكِنُ -من غير قَطْعٍ بذلك- أن يكونَ سبحانه لَمَّا علمَ أن زوالَ المالِ عن الإِنسان دائمٌ في كلِّ حالٍ، وأنه لا سبيلَ له إلى مُلازَمةِ البيِّنةِ في جميعِ أوقاتِه ليَعرِفُوا ذلك، وأنه (¬1) لم يُشهِدْ في شيءٍ منها، فيَشهَدُوا له بصحةٍ إنكارِما ادُّعِيَ عليه من الديْنِ، فلذلك كُلفَ المُدَّعي إقامةَ البيِّنةِ على ادِّعائه؛ إذ لا ضَرَرَ عليه في إثباتِ الشهودِ في وقتِ دفْعِ المالِ، ولا على الشهودِ في تعبدِهم لأمرِه فيه، وقد تقوم البَيِّنةُ على المنكِرِ، فيدَّعي أن له بيِّنةً أخرى تشهَدُ به، وأنه مُكَلَّفٌ إحضارَها، وهذا أيضاً يُؤكِّدُ ما قلنا في لزوم البيِّنةِ على من ادَّعى دَعْوى مُقِرَّاً كان فيها أو مُنكِراً، واللهُ أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنه" بدون الواو.

* فصول الانقطاع

فصولُ الانقطاعِ اعلم أن الانقطاعَ: هو العَجْزُ عن إقامةِ الحُجةِ من الوجهِ الذي ابتُدىءَ للمقالةِ (¬1). والانقطاعُ في الأصل: هو الانتفاءُ للشيء عن الشيءِ، وذلك أنه لا بُدَّ من أن يكونَ انقطاعَ شيءٍ عن شيءٍ. وهو على ضَرْبَينِ: أحدهما: تباعدُ شيءٍ عن شيءٍ، كانقطاع طَرفِ الحَبْلِ عن جملتِه، وانقطاعِ الماءِ عن مَجْراه. والآخر: عدمُ شيءٍ عن شيءٍ، كانقطاعِ ثاني الكلامِ عن ماضيه. وتقديرُ الانقطاِعِ في الجدلِ على أنه: انقطاعُ القوَةِ عن النُّصرةِ للمذهب الذي شَرَعَ في نصرتِه. وذلكَ أن المسألةَ قد تكونُ مراتبُها خمسةً، فيكونُ مع المُجادِلِ قُوَّةً على المَرْتبةِ الأولى والثانيةِ، ثم يَنقطعُ، فلا يكونُ له قُوَّةٌ على المرتبةِ الثالثةِ وما بعدها من المراتبِ، وانقطاعُ القُوَّةِ عن الثالثةِ عَجْزٌ عن الثالثةِ، ¬

_ (¬1) وانظر في تعريف الانقطاع أيضاً: "التمهيد" 4/ 349 - 250 و"العدة" 5/ 1535

فلذلك قلنا: الانقطاعُ في الجَدَلِ عَجْزٌ عنه، فكلّ انقطاعٍ في الجدلِ عجزٌ عنه، وليس كلُّ عجزٍ عنه انقطاعاً فيه، وإن كان عاجزاً عنه. والانتفاء: قد. يكونُ الإِعدامَ، وقد يكونُ التَّباعُدَ، ألا ترى أنهم يقولون: انْتَفى من أبيه، وكذلك: نفاهُ من أرضِه، كما قال سبحانه: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] إلا أن الفرقَ بين الانتفاءِ والانقطاع: أن كلَّ انقَطاعٍ فهو لشيءٍ عن شيءٍ آخَرَ، وليس كلُّ انتفاءٍ فهو لشيءٍ عن شيءٍ آخرَ؛ إذكان قد يَنْتَفي بأن يعدَمَ لا عن شيءٍ. وكلُّ انقطاعٍ فهو انتفاءٌ عن المقالةِ (¬1) وما ابتدِئتْ به من النُّصرةِ بالعجزِ عن إقامةِ الحجَّةِ، ولا يخلو أن يكونَ ذلك لنقصانِ علمٍ بالجدلِ، ولا يَدْرِي كيف يَضَعُ الأشياءَ موإضعَها في السؤالِ والجواب، أو يكونُ لنقصانِ علمٍ بالحُججِ، فيكون الذي قَعَدَ به قِلَّة علمِه لَا ضعف جدلِه، أوِ يكونُ لفسادِ المذهب، فلا عَيْبَ على صاحبه بالانقطاعِ فيه إذا كان لم يقَصِّرْ عما يَحتمِلُه من الشُّبَهِ، وإنما العيب عليه في نصرتِه، لأن من نصرَ المذاهبَ الباطلةَ مَعِيبٌ عند أهل العقل والمعرفةِ، عاصٍ لله سبحانه؛ إذ كان الله سبحانه قد أخذَ على الناسَ أن يلازِموا الحقَّ في قولِهم وفعلِهم. وقال بعض أهلِ الجدلِ من ائمَّةِ المتكلِّمين: من علاماتِ الانقطاعِ ثلاثةُ أشياءَ: جَحْدُ الضرورةِ، ونَقْضُ الجملةِ بالتفصيلِ، وتَرْك إجراءِ العِلَّةِ في المعلولِ. فمثال جحدِ الضرورةِ: أن يَرَى شيخاً، فيَدَّعيَ أن هذا الشيخَ لم ¬

_ (¬1) في الأصل: "القابلة".

يزلْ عما هو عليه دون أن تنتقلَ به الأحوالُ من طفولةٍ إلى شَبيبةٍ إلى كُهولَةٍ، فهذا المدَّعي قد جحدَ الضرورةَ. وأما مثالُ نقضِ الجملةِ بالتفصيل: أن يقولَ قائلٌ: كلُّ شَتْوَةٍ شديدةُ البرْدِ فبعدها صَيْفَةٌ (1) شديدةُ الحَر، وكلُّ صَيْفَةٍ (¬1) شديدةِ الحَرِّ فبعدها شَتْوةٌ شديدة البردِ، ثم قال: وقد كانت شَتْوةٌ شديدةُ البردِ، وهذه الصَّيفَةُ قليلةُ الحَر، لكان قد نَقَضَ الجملةَ بالتفصيلِ. وأما مثالُ إجراءِ العلَّةِ في المعلولِ: لو أن قائلًا قال: إن هذا الفرسَ فارِهٌ (¬2)، لأنه جرى عَشَرةَ فراسِخَ (¬3)، فقيل له: فقل: إن هذا البعيرَ فارهٌ؛ لأنه جرى عَشَرَةَ فراسخَ، فامتنعَ من ذلك، كان مناقِضاً. وقال بعضُ الأئمةِ في هذا الشَأنِ: لو قال: لأنه فرسٌ جرى عَشَرَةَ فراسخِ، ثم ألزِمَ على ذلك البعيرَ، فامتنعَ من التزامِ البعيرِ، لم يَكُنْ مناقِضاً. قال عليُّ بنُ عيسى بن عليٍّ النَحْوِيُّ (¬4) في كتابه الصغير: فأنا ¬

_ (¬1) في الأصل: "صيفية". (¬2) قال في "لسان العرب" (فره): قال ابن سيده؛ ولا يقال للفرس فاره، إنما يقال في البغل والحمار والكلب وغير ذلك، وفي "التهذيب": يقال: برْذَوْنٌ فاره وحمار فاره، إذا كانا سَيُورينِ، ولا يقال للفرس إلا جَواد، ويقال له: رائع. (¬3) جمع فَرْسَخ، وهو ثلاثة أميال أو ستة."اللسان" (فرسخ). (¬4) تقدمت ترجمته في الصفحة (120)، وللرماني عدة كتب تنعت بالصغير: منها: "شرح المسائل للأخفش"، و"الاشتقاق"، و"الأصلح"، فلعله أحدها. انظر "الفهرست" ص 69، و"إنباه الرواة"2/ 295 و296.

أقولُ: إنه لو قاله في الفرسِ وامتنعَ في الحمارِ، لكان مناقِضاً من جهةِ المُعارَضِة، لا من جهةِ إجواءِ العِلَةِ. ونظيرُ ذلك في الأمورِ الشرعيةِ: العَوَرُ في الاضْحِيَّةِ لا يجوزُ لأنها عَوْراءُ، فالعمى أولى أن لا يجوزَ في القياسِ، لأن فيها ذاك المعنى وزيادةً، وإن لم يَجُزْ عليها الاسمُ، وإذا قيل لنا: احكموا بالنَّصِّ، فإذا لم تَجِدُوه، فقِيسُوا عليه، لم يَكُنْ بُدٌّ من أن تُجْرى العمياءُ مُجْرى العوراءِ في أنها لا تجوزُ؛ لأنا إذا أُمِرْنا بالقياسِ، فقد دُلِلْنا على هذا. وكذلك سبيلُ الماءِ إذا نَجُسَ بالمَنِيِّ، فهو أوْلى أن يَنجُسَ بالبَوْلِ، فهو أوْلى أن يَنجُسَ بالغائطِ في القياسِ، وليس إذا نَجُسَ بالبولِ، فهو أوْلى أن يَنجُسَ بالمنيِّ، وإن كان المنِيُّ يُغتسَلُ منه والبولُ لا يُغتسلُ منه؛ لأن مفهوم ذلك في الشريعةِ ليس من أجلِ عِظَم نجاستِه. وإذا رَدًا لمجيبُ جوابَه إلى أولٍ في العقل يشهدُ بصِحًةِ الفرعِ الذي رَدَّ إليه، لم يَكُنْ للسائل أن يُطالبَه بالرَّدِّ إلى ضرورة، فإن أقامَ على ذلك، كان منقطعاً في حكم الجدلِ -أعني السائلَ-، لأنه مُطالِبٌ بما لا يَلزَمُ، مُصِر على ما يقطعُ الوقتَ على غير الطريقةِ، مستزيدٌ في غير موضعِ الاستزادةِ، فهو من الفروع بمَثابةِ مانع عِلَّهِّ الأصلِ، فدَلَّ عليها المسؤولُ بظاهر السَّمْعُ، فقال: لا اقنَعُ إلا بنَصٍّ. فإنه انقطاع من السائل، كذلك ها هنا؛ لأَن الذي عليه إذا رَدَّهُ إلى أوَّلٍ في العقل يقتضي العقلُ صِحَّتَه، فمتى اعتقدَ السائلُ بعد هذا أن المسؤولَ على شبْهَةٍ، فقد اعتقدَ ما لا يَلزَمُ إزالتُه بحكم الجدلِ وإن كانت شبهةً لا تزولُ إلا بضرورة -كما قلنا في مسائل

الفروعِ-، فلا (¬1) يلزمُ المسؤولَ أكثرُ من إقامة دَلالَةٍ صالحةٍ لإِثبات عِلَّةِ الأصلِ وإن كانت شبهةُ السائلِ لا تزولُ إلا بالنصِّ. وليس للسائل أن يَتحكَمَ على المُستدِل، ويقولَ: لا أقبلُ إلا ما يَرجِعُ إلى ضرورة، لأن سبيلَ ما كان أوَّلًا في العقل وما كان ضرورةً فيه سبيل واحدٌ في أنه كافٍ (¬2) في العلم؛ لأنه يُعلَمُ به صِحةُ الأمرِ، فليس له أن يَتخيرَ طرقَ العلمِ، كما ليس له أن يتخيرَ من الأصولِ إلا ما يَرجِعُ إلى علم المشاهدةِ؛ لأن ذلك تَحكُّمٌ لا يَستعملُه المُنصِفُ، كتخيُّرِ الأمَمِ على الأنبياء أعيانَ المعجزاتِ، مع كونِ ما أتَوْا به- صلوات الله عليهم- كافٍ (2) في خَرْقِ العاداتِ، حتى قال في تخيّرهِم ما لم يَقُلْ فيما ابْتَدأَ به من المُعجِز، فشَرطَ عليهم فى إنزال المائدةِ، فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]، والفرقُ بين الأوَّلِ في العقل وبين الضَرورةِ: أن الضَرورةَ لا يعترِضُها شبهةٌ، والأولُ قد تعترضُ عليه شُبهةٌ، والأولُ يُعلمُ بأدنى فِكرةٍ، والضَّرورةُ تُعلمُ بالبَديهةِ من غير فِكرةٍ. وطرقُ العلمِ وإن اختلَفَتْ وكان بعضُها أجْلى من بعض فليس ذلك بمُخرِجٍ لها من أن تُؤديَ إلى العلوم بالمعلومات على ما هي بها، كما أن ما يُدرَكُ بالحواسِّ بعضُه أَجلَى من بعض، كالخَط الدَقيق، ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا"، ولعل الأنسب ما أثبتنا. (¬2) في الأصل: "كافي".

والخَطِّ الواضحِ البَيَّنِ الجليلِ، وكالصَّوتِ الضعيفِ، والصَوتِ الشَديدِ. وإذا ادَّعى الخصمُ في شيء من الأشياء أنه أولى، فلا يخلو أن يكونَ على حُجةٍ، أو شبهةٍ، أوشَغبٍ: فإن كان على حجة: فالتأمُّلُ له يُوجبُ العلمَ به ما لم تعترِضْ آفةٌ تصدُّ عن ذلك يحتاجُ إلى علاجها، أو شبهةٌ تعترضُ فيحتاجُ إلى حَلِّها، ومن أكبر الآفاتِ: الِإلْفُ لمَقالةِ سَلَفٍ، أو السُّكونُ إلى قول مُعَظَّمٍ في النَّفْسِ لا بدليلٍ، فذلك من أعظم ما يعترضُ فيحولُ بينَ إصابةِ الحقِّ، فإذا عالجَ الآفةَ ودفعَ الشُبهةَ، عادَ مُفِيقاً من سُكْرِ الهوى إلى التأملِ ثانياً لتلك الحُجَّةِ. أو يكونُ ما ادَّعى أنه أَوَّلٌ على شُبهةٍ: لا بُدَّ من أن يكونَ في العقل ما يَحُل تلك الشُبهةَ، كما أنه ما خلا في العقل أوَّلاً ما أزالَ تلك الآفةَ المُعترِضةَ بينه وبين الحُجةِ، وإنما المعترِضاتُ بَلاوي تجبُ معالجتُها، فينبغي أن يَقصِدَ إليها السائلُ بالإِلزامِ حتى يُبينَ أن ما اعتمدَ عليه خصمُه اغترار لا يُوجبُ ثقةً، فإن عدل عن ذلك كان منقطعاً في حكم الجدلِ، لأنه خرجَ عمَّا يلزمُه أن يأتيَ به إلى غيرِه، وهذا ضَرْب من ضروبِ. الانقطاعِ (¬1). أو يكونُ ما ادَّعى أنه أول على شَغْبِ: وهو الإيهامُ لطريق الحجَّةِ من غير حقيقةٍ، فهذا ليس فيه إلا تكشيفُ ذلك الشَّغْب حتى يتبينَ أنه ليس فيه مُتعلَقٌ. ¬

_ (¬1) "الجدل على طريقة الفقهاء" للمصنف ص 72.

وليس كلُّ سكوتٍ في الجدل انقطاعاً، وإنما الانقطاعُ: السكوتُ للعَجْزِ عن الاستتمام (¬1)، ولا بُدَّ للمسألة من نهاية يجب السكوتُ عندها، وليس علامةُ ذلك اتفاقَ الخصمين على السكوت، مع أن هذا الاتفاقَ (¬2) يقعُ، ولو وقعَ لم يكن به مُعتبَرٌ، وإنما النهايةُ للمسألة أن يقفَ كلامُ الخصمِ من غير زيادة حجَّةٍ أو شُبهةٍ. ولا مُعتَبَرَ في ذلك بتكريرِ المعنى على اختلاف العبارةِ؛ لأنه إذا مضى الجوابُ عن الزيادة، فكَررَ السؤالَ بخلاف تلك العبارةِ، قيلِ للسائل: قد مضى الجوابُ عن هذا، وهو كَيْتَ وكَيْتَ، فإن كانت زيادةً سمعتَ الجوابَ عنها، وإن لم يَكُنْ إلا التَكرارَ فقد مضى الجوابُ، وكذلك يقالُ للمجيب: أين الجوب عمَّا سُئِلْتَ؟ فإنك لا تزالُ تُكَرِّرُ كلاماً خارجاً عن حَدِّ الجواب عما سئلتَ، فإن كان عندك جوابٌ، وإلا فأفصِحْ بالانقطاع (¬3)، فإني لاَ أتقبَّلُ منك ما ليس بجواب عن المسألة، ولا يَستحِقُّ بَذْلَ زيادةٍ. وعلامةُ الخروجِ عن حدِّ الكلام بَيِّنةٌ في أكثر الأحوالِ، فإن أشكلَتْ في بعضه، كان على الخصم أَن يُوقِف خصمَه عليه، فيقولَ له: خرجتَ من جهة كذا وكذا. مثالُ ذلك قولُ السائلِ: هل للفعل وجة لم يُخلَقْ منه؟ فيقولُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) في الأصل: "الإنكار"، والذي أثبتناه هو ما يقتضيه السياق ويتفق ومعنى النص. (¬3) في الأصل: "بالإنظار"، والأنسب بالمقام ما كتبناه.

المجيبُ: إن أردْتَ وجهَ الاختراع، فهو مخلوقٌ فيه، وإن أردتَ وجهَ الكَسْب، فلا يصحُّ ذلك فيه، فللسَائل أن يُضايقَ المجيبَ حتى يأتيَ بجوابهَ على التحقيق، فيقول له: لم أسألْك عن تفصيل الِإرادةِ، وإنما سألتُك عما يقتضي الجوابَ بنَعم أو لا؛ لأني إذا قلتُ: هل كان كذا أو كذا؟ فإنَّما يقتضي الجوابُ بنَعمْ أو لا، فكلًّ ما يأتي به المسؤولُ [زيادة] (¬1) عن نَعَم أو لا في جوابِ "هل" فهو خارجٌ عن حد ما سُئلَ عنه. فإن قال المجيبُ: ليس الأمرُ كذا. قال السائلُ: الزيادةُ على ليس الأمرُ كذا: بلى الأمرُ كذا، فدَعِ التَشاغُلَ بما لا فائدةَ فيه، وأفصِحْ بالجواب عما سُئِلتَ عنه ليَقَعَ الكلامُ عليه، ويَظهَرَ الحِجاجُ فيه. فإن قال: ليس يَلزمُني أن أجيبَ السائلَ بما يتخيرُه عليَّ، وإنما يلزمُني أن أجيبَه بما يَصحُّ عندي. قال له: ولا لك أن تُجيبَه عما لم يَسألْك عنه، والسائلُ في الحقيقةِ مُتخيِّرٌ لِما يسألُ عنه، والمجيبُ تابعٌ له؛ لأنه عن مسألتِه يُجيبُ، لا عما يَصحُّ عنده ما لم يسألْه عنه؛ لأن ذلك خُروجٌ عن حدِّ الكلامِ الذي يلزمُ في الجوابِ. فإن قال المسؤولُ: ليس عندي جوابٌ أكثرُ مما سمعْتَ. قالَ له السائلُ: قل ليس عندي جوابٌ؛ لئلَّا تُوهِمَ أنك قد أجبتَ عن المسألة إلا اُنه ليس يُزاد على جوابك، وعلى أني أقولُ لك: ولا طالبتُك إلا بالسؤالِ الذي سمعْتَ، فهَلُم الجوابَ عنه. ويقالُ له: كيف تعملُ أنت بمن سألتَه عن مسألة فخرجَ عن ¬

_ (¬1) زيادة على الأصل يستقيم به المعنى.

جوابك، وقال لك: عندي أكثرُ مما سمعْتَ؟ وبعدُ: فما سمعتَ بسؤالِ الحَجْرِ؟ وهو الذي للسائل أن يَحجُرَ فيه على المجيب إلا بأحَدِ شيئين أو أشياءَ محصورةٍ لا يجوزُ غير واحدٍ منها، أو ما قولي لك: كذا هو أم لا؟ سؤالُ حَجْرٍ لا يقتضي إلا: نعم أو لا؟. فكلُّ هذا الذي ذكرنا انقطاعٌ من المجيب؛ لأنه خروجٌ عن حدِّ الكلامِ الذي يلزم فيه، وينبغي للسائل أن يُبيِّنَ أنه خروج على نحو ما ذكرنا. مثالٌ آخر: إذا قال السائلُ: هل يصح أن يُعاقِبَ اللهُ العبدَ إلا بذنبٍ؟ فقالَ المجيبُ: في هذا السؤالِ إيهامٌ ينبغي أن يُكشف؛ لئلَّا يظنَّ بإِطلاق الجواب غيرُ المقصدِ فيقال: لا يصح أن يُعاقِبَ الله العبدَ إلا بذنبٍ كان منه، أو بأنه لم يفعلْ ما وجبَ عليه. فقال السائلُ: وأيُّ إيهام في هذا السؤالِ؟ أوَ رأيْتَ لو ادَّعى كلُّ خصمٍ لك في كلُّ سؤالٍ تسألُه عنه أن فيه إيهاماً، وجعلَ ذلك ذريعةً له إلى جوابك عن غير ما سألتَه عنه، ما كنتَ قائلًا له؟ وبعد: إن كان فيه إيهامٌ، فهاتِ الجوابَ عنه، ثم فَسِّرهُ، أو فَسِّرِ السؤالَ بما يُزيلُ الإِيهامَ، ثم أجِبْ عنه، فأمَّا أن تَدَعيَ أن فيه إيهاماً، ثم تعدِلَ عن الجواب عنه رأساً، فليس (¬1) ذلك لك. وبعدُ: فكيفَ حالُ من لم يفعلْ ما وجبَ عندك؟ أَلَهُ ذَنبٌ أم لا ¬

_ (¬1) في الأصل: "وليس".

ذنبَ له؟ فإن كان له ذنبٌ، استقامَ الجوابُ لك، فلا يصحُّ أن يُعاقِبَ الله العبدَ من غير ذنبٍ، وإن لم يَكُنْ له ذنبٌ، فالجوابُ على أصلك: أنه قد يصحُّ أن يُعاقَبَ اللهُ العبدَ من غير ذنبِ إذا كان لم يفعل ما وجبَ عليه، فلِمَ تَحِيدُ عن الجواب وهو لك لاَزم؟ إلا أن في القول بأنه يصحُّ أن يُعاقبَ اللهُ العبدَ من غير ذنبٍ شُنْعَةً في العقول، فليس العَيْبُ إذاً في السؤالِ، وإنما العيبُ في هذا المذهب، فاتْرُكْ ما فيه العَيْبُ. وبعدُ: فما السؤالُ عن هذا المعنى بما لا يكونُ فيه إيهامٌ؟ أرأيتَ لو قيل لك: ايجوزُ اُن يُعاقِبَ اللهُ العبدَ من غير قبيحٍ كان منه؟ هل كنتَ تقولُ: فىِ هذا إيهامٌ أيضاً؟ وكذلك لو قيل لك: أيجوزُ أن يُعاقِب اللهُ العبدَ من غير فعلٍ كان منه أصلاً؛ هل كان في هذا إيهامٌ؟ فكيف السؤالُ عن هذا المعنى بما ليس فيه إيهامٌ؟ وكل هذا الذي ذكرنا انقطاع من المجيب؛ لأنه عَجْزٌ عما ضَمِنَه من الانتصار لمذهبه، فادَّعى الِإيهامَ لِمَا لا إيهامَ فيه، وعدلَ إلى الجوابِ عمّا لمْ يُسأل عنه، فالمسألةُ واقعةٌ عليه لم يُجبْ عنها، وذلك انقطاع في حكم الجدلِ، وقد بَيَّنَا أن الانقطاعَ في الجملةِ: هو العجزُ عن استتمام ما ابْتَدأَ به المتكلِّمُ من نُصرةِ المَقالة، وأنه إنما سُمي انقطاعاً؛ لأن صَاحبَه وقفَ قبلَ بُلوغِه الغايةَ التي أَمَّها بالعجزِ عن البلوغِ إليها، فمتى وجدت العجز في كلام، فاحكمْ على صاحبه بالانقطاع. وليس في الانقطاع دليلٌ على فساد المذهب لا مَحَالَةَ، ولكنْ فيه دليلٌ على أحدِ شيئين: إمَّا تقصيرُ الخصمِ عماَ يَحتمِلُه المذهبُ من الحِجاجِ فيه، وإما استثناؤه ما يحتملُه مع تقصيرِه عما يَضمَنُه له؛ إذ

- الانقطاع بالمكابرة

كان قد تضمَّن استشهاد الأصولِ الثابتةِ على صحَّته، فوقفَ دون ذلك لفساد مذهبه، ولا يكونُ سبيلُه بعد الانقطاعِ فيه كسبيله قبل ذلك، بل يجبُ عليهَ أن يَنظرَ: هل إلى التخلُّص مما وجبَ عليه حكمُ الانقطاعِ سبيلٌ؟ ويجبُ عليه إذا خلا بنفسه أنَ يتطلَّبَ: هل يجدُ سبيلًا إلى التخلُصِ منه؟ فإن وجَدَه، وإلا اتَهمَ مذهبَه، وفكَّرَ (¬1) في مذهب مُخالفِهِ، فإنه لا يلبَثُ أن يظهرَ له الحقُّ متى طلبَه وجعلَه غرضَه، وإنما الانقطاعُ زاجرٌ عن الاعتقادِ حتى ينظرَ، فيُكشفَ له الصوابُ. فصل في الانقطاع بالمُكابَرةِ اعلم أن الانقطاعَ بالمكابرة (¬2): عجزٌ عن الاستتمام بالحُجَّةِ إلى المكابرة، وهو شرُّ وجوهِ الانقطاعِ، وأقبحُها، وأدلها على سُخْفِ صاحبه، وقِلَّةِ مبالاتِه بما يظهرُ من فضيحتِه، وتخليطِه في ديانته، وليس يُنتفعُ بكلام مَن كانت عادتُه أن يَحمِلَ نفسَه على المكابرة. والمكابرةُ تَعرِضُ للخصمِ في أمور: منها: أن يقولَ شيئاً، فإِذا رأى ما يَلزَمُ عليه، جَحَدَ أن يكونَ قالَه، وصَمَّمَ على ذلك، وكابرَ فيه، وهذا الضرْبُ من المكابرة يقعُ كثيراً بين الخصومِ، ولقد التجأْتُ من مُكالَمةِ بعضِ من هذه سبيلُه ¬

_ (¬1) في الأصل: "وفكره". (¬2) يقال: كابرته مكابرة: غالبته مغالبة، وعاندته. والمكابرة: هي المنازعة في المسألة العلمية لا لإظهار الصواب، بل لإلزام الخصم، وقيل: هي مدافعة الحق بعد العلم به. "المصباح المنير" (كبر)، و"التعريفات" ص 227.

- الانقطاع بالمناقضة

إلى شهادة مَنْ حضرَ على ما قالَه قبلَ أن أَظهرَ ما يَلزمُه عليه خوفاً من جَحْدِه إياه، أو مكابرتِه فيه. ومنها: أن يجحدَ مذهباً له، أو الرئيسَ الذي ينتحلُ قولَه. ومنها: أن يجحدَ ضرورةً يشتركُ أهلُ العقولِ فيها، ويدَّعيَ أن الحقيقةَ معه في جحدها، وإنما يُطلِقُونَ ما أَطلَقُوا من إثباتها على جهة المجَازِ دون الحقيقة. فصل في الانقطاع بالمُناقَضَةِ اعلم أن الانقطاعَ بالمناقضة: عجز عن الاستتمام بالحُجَّةِ إلى المناقضة، وهو دون المكابرةِ؛ إذ قد يَرَى ما يلزمُه على القول الأولِ فيرجعُ إلى نقيضْه، ولا يُكابِرُ فيه. وإنما كان انقطاعاً؛ لأنه لمَّا ضَمِنَ النُّصرةَ لشيء، فلم يُمكِنْهُ حتى عدلَ إلى خلافه، كان ذلك عجزاً عن استتمام الحُجَّةِ به، وذلك كابتداء بعضِ الخصوم لنصرةِ القولِ بالرويَةِ؛ من جهة أن إدراكَ البَصَرِ: هو إحاطةُ البصرِ، فلما رأى ما يَلزَمه على ذلك، قال: ليس إدراكُ البصرِ بمعنى الِإحاطةِ في الحقيقة، ولكنَّه بمعنى الاتِّصالِ والمُخالَطة، فهذا مُنقطِعٌ عن استتمام النصرةِ من الوجه الأولِ، وإن كان ما صار إليه ظاهرَ الفسادِ؛ لأني قد أُدرِك السماءَ وإن لم يَكُنْ على الاتصال والمخالطة، وعلى أن سبيلَ رؤيةِ البصر كسبيل إدراك البصرِ، فإن وجبَ أن إدراكَ البصرِ لا يكونُ إلا باتصالٍ ومخالطةٍ، فرؤيةُ البصر لا تكونُ إلا باتصالٍ ومخالطةٍ، وصاحبُ المذهب الفاسدِ مُتحيِّرٌ

- الانقطاع بترك إجراء العلة

كالغريق يَتَشَبثُ بكل ما يجدُه وإن كان فيه حَتْفُه، ونعوذُ بالله من مَلَكَةِ الهَوى، وما تُكسِبُ من الحَيْرةِ والعمَى. فصل في الانقطاع بتَرْكِ إجراءِ العِلةِ عن الاستتمام بإلحاق الحُكمِ لكل ما فيه العِلةُ. وذلك أن العِلَةَ إذا اوجبَتْ حكماً من الأحكام بكونها للشيءِ، فكلُّ ما كانت له فواجب له مثلُ ذلك الحكمِ. مثالُ ذلك: قولُ الحنبلى والخارجيِّ (¬1) إذا سُئِلَ عن عذاب الطفلِ في النَّارِ: لِمَ جازَ (¬2)؟ فقال: لأنهم ملكُه، فقال له مُخالِفه: فَقل: إنه ¬

_ (¬1) الواحد من الخوارج، وكل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كلُّ زمان، ولكن المقصود بهم عند الإطلاق فرق معينة كانت بداية ظهورها في النصف الأول من القرن الهجري الأول، لها آراؤها الخاصة، ومقالاتها التى تعرف بها، يجمعها القول بالخروج على الأئمة اذا خالفوا السنة ورؤية الخروج حقاً واجباً، وتكفير عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم، وهم متفقون أيضاً على أن العبد يصير كافراً بالذنب. انظر "الملل والنحل" 1/ 114 و115، و"اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" لفخر الدين الرازي ص 51. وراجع أيضاً لمقالاتهم وفرقهم "مقالات الإِسلامين" ص 86 وما بعدها، و"الفرق بين الفرق" ص 72 وما بعدها. (¬2) كان المصنف رحمه الله يرى أن مذهب الِإمام أحمد القول بجواز تعذيب الأطفال، وأن أولاد المشركين في النار، وهو ما حكاه القاضي عياض عنه،=

- الانقطاع بالانتقال

يجوزُ عذابُ الأنبياءِ بالنَّارِ لأنهم ملكُه. فإن امتنعَ من ذلك ناقضَ، وإن قال: يجوزُ عندي تعذيبُ الأنبياءِ بالنَارِ، فقيل له: مع وَعْدِ اللهِ لهم بالجنَّةِ والنَّجاةِ، أم مع عَدَمِ وعْدِه؟ فإن قال: مع وعدِه، تحقَّقَ من مقالته إخلافُ وعدِ اللهِ، وإن قال: فالوعدُ في حقِّ الأنبياءِ منعني من تجويز عذابِهم بالنَّار، فقيل: فليَمْنَعْكَ ها هنا التُمدُّحُ بالعدلِ، وهو قولُه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، [وقَولُه]: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، ومعلوِمٌ أنه لم يُرِدْ بعْثَةَ رسولٍ إلى غير المُعذَّب، لكنْ ما كنا مُعذَبين حتى نبعثَ رسولًا إَلى من نُعذبُه إقامةً للحُجَّةِ علَيه، وهذا ما ارسلَ إليه فكيفَ يُعذَبُ؟ فصل في الانقطاع بالانتقال وهو عجزٌ عن الِإتمام للأوَّلِ للخروج إلى الثاني، وذلك في الانتقال عن الاعتلال إلى الاعتلالِ قبلَ الاستتمام، أو الانتقالِ عن مسألة إلى مسألة أخرى قبل تمامِ الأولى. ¬

_ = واختاره القاضي أبو يعلى، وذكر أنه منصوص عن أحمد، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله غلطهما بأن هذا قول لبعض أصحابه، ولا يحفظ عن الإمام أصلاً، وأن النصوص المنقولة عنه تدل على أن مذهبه الوقف في أطفال المشركين. انظر "مجموع الفتاوى" 4/ 281 و303 و 24/ 372، و"الفتح" 3/ 246. وراجع تفصيل هذه المسألة وأقوال أهل العلم فيها في " مجموع الفتاوى" 4/ 281 و303 - 304 و 312 و 24/ 371 - 373، والفتح " 3/ 246 - 247، و"شرح صحيح مسلم " 16/ 207 - 208.

- الانقطاع بالمشاغبة

مثالُ ذلك: قولُ المجيب إذا سُئِلَ عن جواز الرُّؤيَةِ على الله سبحانه بالأبصارِ؟ فقال: تجوزُ؛ لأنها لا تَسلُبُه معنىً، ولا تُحِلُّه معنىً. فقيل له: فقل بجواز السمع لصوتٍ لذاته بالأذُنِ؛ لأن السمعَ له لا يَسلُبُه معنىً ولا يُحِلُّه معنىً. فقال: قال اللهُ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] فأَوجبَ الرؤيةَ ولم يُوجب السمعَ، فقد انتقلَ من الاعتلال بجواز الرؤيةِ بالعقل إلى الاحتَجاج بدَلالةٍ من دلائل السمعِ. فأمَّا الانتقالُ من سؤال إلى سؤال، فكقول السائلِ: ما الدليلُ على القول بجُزْءٍ لا يَتجزَّأ؟ فقال المجيبُ: إن الجسمَ إذا انتفى كلُّ اجتماع فيه، صار إلى جزءٍ لا يَتجزأُ. فقال السائلُ: وما حَدُّ لجسمِ؟ فقد انتقلَ إلى سؤالٍ آخرَ عن مَقالَةٍ اخرى، وإنما حكمُه أن يسألَ: وما الدليلُ على أنه يصحُّ أن يَنْتَفِيَ كلُّ اجتماعٍ في الجسم وهو موجودٌ؟ فيُطالَبُ من جهة "لِمَ"، أو من جهة الإِلزامِ. فصل في الانقطاع بالمُشاغَبةِ اعلم أن الانقطاعَ بالمشاغبة: عجزٌ عن الاستتمام لِمَا تَضَمَّنَ منٍ نُصرةِ المقالةِ إلى الممانعة (¬1) بالإِيهام من غير حُجَّةٍ ولا شُبهةٍ، وحقُّ مثلِ هذا إذا وقَع أن يُفصَحَ فيه بأنه شَغْبٌ، وأن المُشغِّبَ لا يَستحِقُّ زيادةً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المشانعة"، وصححناها من "شرح الكوكب المنير" 4/ 381، فإنه نقل هذا المبحث عن ابن عقيل.

- الانقطاع بالاستفسار

فإن كان المشغِّبُ مسؤولًا، قيل له: إنأَجبْتَ عن المسألة زِدْنا عليك، وإن لم تجِبْ عنها أمسَكْنا عنك. وإن (¬1) كان سائلًا قيل له: إن حَصلْتَ سؤالَا سمعتَ جواباً، وإِلا فإن الشَغْبَ لا يَستحِقُّ جواباً، فإن لَجَّ وتمادى في غَيِّه أُعرِضَ عنه؛ لأن أهلَ العلمِ إنما يتكلمون على ما فيه حجَّةٌ أو شبهةٌ، فإذا عَرِيَ الجدل عن الأمرين إلى الشَّغْبِ لم تَكُنْ فيه فائدةٌ، وكان الأَوْلى بذي الرَّايِ الأصيلِ والعقلِ الرَّصينِ أن يصونَ نفسَه عنه، وَيرغبَ بوقتِه عن التضييع معه، ولا سِيَّما إذا كان في الاشتغال به ما يوهِمُ الحاضرين أن صاحبَه سالكٌ لطريق الحُجَّةِ، فإنه ربما كان في ذلك شُبَهٌ (¬2) بما يرَى منه من حسْنِ العبارةِ، واغترارٌ بإقبال خصمِه عليه في المناظرة، فحقُّ مثلِ هذا أن يُبيَّنَ أنه على جهة المشاغبةِ دون طريق الحُجَّةِ أو الشُّبهةِ. فصل في الانقطاع بالاستفسار اعلم أن الانقطاعَ بالاستفسار: عجزٌ عن الاستتمام بطلب الاستفسارِ في غير موضعهِ، وذلك إذا ضاقَ على الخصم الكلام، مالَ إلى استفهام ما لا يُستفهَم عن مثله، واستفسارِ ما لا يُستفسَر في حال المناظرة، فقال: ما معنى كذا؟ وما معنى كذا؟ وهو استرواحٌ إلى جَرْي ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإن"، وما أثبتناه هو الأنسب، وكذلك هي في المرجع السابق 4/ 382. (¬2) في الأصل: "نسبه"، وهي ساقطة من النص الذي نقله صاحب "شرح الكوكب المنير" في 4/ 381 - 382.

- الانقطاع بالرجوع إلى التسليم

عبارتِه بدلًا من سَكْتَةٍ يخجلُ بها، ويتَضِحُ بها انقطاعُه، فيبدِّلُ السكوتَ بالاستفسار إيهاماً للحاضرين أنه إذا فسَّرَ لي معنى هذا تَكلَمتُ عليه، وإنما المعيقُ لي عن الكلام عدم فهمِ معناه، أو يَحيدُ (¬1) عن النَظَرِ، ويتعلَق بذلك تعلقَ المتحيِّرِ. مثال ذلك: أن يقولَ في مسألة ينجَرُّ الكلامُ فيها إلى الأصلَح، فيقولَ السائلُ: وما الأصلحُ؟ فيقولَ المجيبُ: هو الأحكمُ الأتقنُ الأصوبُ. فيقولَ: وما الأصوب الأحكمُ؟ فهذا ما ينبغي للمجيب أن يَدخلَ فيه ولا يَتقبلَه، لأنه متى ما تقبلَ ذلك وشرعَ في تفسير الواضحِ، لَزمَه أن يُجيبَ عن الأوضحِ، فلا يتناهى السؤالُ والجوابُ. وإنما يسوغُ الاستفسارُ والمراجعةُ فيما يترددُ المعنى فيه وَيشترِكُ، فأمَّا مع عدم التَّردُّدِ والاشتراكِ فلا وجهَ للاستفسار، أو يكونُ في العبارة نوعُ تغييرٍ وإَغماضٍ، فيطلبُ تفسيرَها بالأكشَفِ، وما خرجَ عن هذه الأقسامِ فالاستفسارُ عنه بطالةٌ وإطالةٌ. فصل في الانقطاع بالرجوع إلى التسليم اعلم أن الانقطاعَ بالرجوع إلى التسليم: عجزٌ عن الاستتمام بما سُلَّمَ إلى الرجوع عنه، وسواءٌ كان ذلك تسليمَ جدلٍ أو تسليمَ اعترافٍ؛ لأن الخصمَ إنما يُسلَمُ تسليمَ الجدلِ ليُوقعَ المنازعةَ في التفريع عن الأصل دونَ الأصلِ، وذلك أنه لمَّا كان له أن ينازِعَ في ¬

_ (¬1) في الأصل: "يخبر".

- الانقطاع بجحد المذهب

صِحَّةِ الأصلِ قبلَ التسليمِ، وله أن ينازعَ في شهادةِ الأصلِ بالفرع، إذا آثرَ الكلامَ في أحدهما دون الآخَرِ، وتضَمَّنَ أن يَكسِرَ المقالةَ من جهته دون كسرِها من الوجه الآخرِ، فكان عليه استتمامُ ذلك، وإلا فقد ظهرَ عجزُه عما تَضمَّنَه، وانقطاعُه عما ظَنَّ أنه يَبلُغُه. مثالُ ذلك: التسليمُ أن النَّشْأَةَ الأولى لو أنها كانت بالطَّبيعةِ لا تشهدُ بأنه لا يكونُ نشأةٌ ثانية بالطبيعة، بل يجوزُ ذلك ولا يُمنَعُ منه، فإذا وقعَ التسليمُ لأصل الدَّهْرِيِّ في هذا، فينبغي أن يُقصَدَ إلى الكلام في وقوعه، وُيستقصى القولُ فيه، حتى يُبَيَّنَ أن ذلك الأصلَ لا يشهدُ به، بل يجوزُ أن يكونَ معه، ويجوزُ أن لا يكونَ معه. فصل في الانقطاع بجَحْدِ المذهبِ اعلم أن الانقطاعَ بجَحْد المذهبِ عجزٌ عن نُصرة المقالةِ، لا بالانتفاء عن مقالة أخرى. والمثلُ في ذلك، والمثلُ له من طريق الصُّورة: رجلٌ ضَمِنَ على نفسه بناءَ بيتٍ تسلَمُ مع بنائه أبنيةُ مُجاوِرِيهِ فلم يُمْكِنْهُ أن يبنيَه إلا بهدم بيتٍ يَليهِ لبعض مُجاورِيه، فهو لا مَحالةَ منقطعٌ عن بلوغ ما قَدَّرَ، فكذلك الخصمُ إنما يُكلِّمُ خصمَه على سلامة مذاهبِه عنده، وإذا جحدَ شيئاً إمَّا على جهة الرجوع وإما على جهة المكابرةِ فيه؛ كان مُنقطعاً في حكم الجدلِ. مثالُه في المسائل: استدلالُ النَّجَّارِيِّ (¬1) على أن كلَّ فعلٍ مُحكَمٍ ¬

_ (¬1) نسبة إلى النَّجَّارية، وهم أصحاب وأتباع الحسين بن محمد النَّجَّار، وافقوا =

- الانقطاع بالمسابة

مُتقَنٍ فإنه لا يكونُ إلا من عالم بأن الكتابةَ لا يفعلُها في الشاهد إلا عالمٌ بها، فهذا يَهدِمُ أصلَه فىِ إنكار التَوَلُّدِ، فإذا طُولِبَ بالحجةَ فجحدَ كان منقطعاً، لأن هذا من الأصولِ المشهورةِ التي يُطبقُ عليها أصحابُه وكلُّ من وافقَه في أصله. فصل في الانقطاع بالمُسابةِ اعلم أنه إذا انتهى الجدالُ إلى المُسابَّةِ، دلَّ على أن الذي حملَه على ذلك ضيقُ عَطَنه، وانقطاعُه عن حُجتةِ، وليس السب أن يظهرَ فيه إنكارُ المذهب الذي قصدَ إلى الطعْنِ عليه، وإقامةِ الحُجَّةِ على إفسادِه، لأنه لا بُدَّ له من ذلك، والدَّلالةِ على صِحَّةِ ما يقولُه فيه، وإنما المُنكَر الطعْنُ على الخصم أو على أسلافِه بما ليس من اعتقاد المذاهبِ وألاختلافِ فيها في شيءٍ. وإذا فعلَ أحدُ الخصمين شيئاً من ذلك، بُيِّنَ له أن ما أَتَى به خارجٌ عن حدِّ السؤالِ والجوابِ إلى السِّبابِ، ولم يكن الاجتماع ¬

_ = المعتزلة في أصول، منها: نفي علم الله، وقدرته، وحياته، وسائر صفاته الأزلية، وإحالة رؤيته بالأبصار، والقول بحدوث كلام الله تعالى، ووافقوا الأشاعرة في أصول، منها: قولهم بأن الله خالق أكساب العباد، وأن الاستطاعة مع الفعل، وفي أبواب الوعيد، وانفردوا بأصول لهم، وكان أكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهب النجار. انظر لآراء النجارية وفرقها "مقالات الِإسلاميين" ص 283 - 285، و"الفرق بين الفرق" ص 207 - 211، و"الملل والنحل" 1/ 88 - 90، و"اعتقادات فرق المسلمين" ص 104 - 105.

- فصل مختصر في تقسيم الانقطاع

للمُسابَّةِ، وإنما كان لإِقامة الحُجَّةِ وحَل الشبهةِ، وما عدا ذلك مما ليس بسَبٍّ لا يَحسُنُ إدخالُه على ما اجتمعنا لأجله، فكيف بإدخال ما لا يَحِلّ للعاقل اعتمادُه بحالٍ؟! وهو السَّبُّ الذي يجبُ صيانةُ النَّفْسِ عنه. فصل أورَدْتُه في تقسيم الانقطاعِ مُختصَراً بعد البَسْطِ اعلم أن الانقطاعَ على أربعةِ أضربٍ: أحدها: السكوتُ للعجز. والثاني: جَحْدُ الضَّروراتِ، ودفعُ المشاهَداتِ، والمُكابَرَةُ، والبَهْتُ. والدليلُ على أن هذا من الانقطاع: أن المجيبَ إنما يَبْنِي جوابَه على تصحيح المُشاهَدةِ، واستشهادٍ بالمعقولِ، وهذا هو المفهومُ عند إجابتِه، فإذا لم يَجِدْ في العقول والضروراتِ شيئاً يُحقَقُ به مذهبَه، وُيتِمّ به جوابَه، فقد عَجِزَ عما ضَمِنَه على نفسه بخروجه عن المعقول والضروراتِ إلى المكابرة والبَهْتِ، وإنما تمامُ الشَّرْط أن تكونَ مادَّتُه من هذين الموضعين أعني: العقلَ والضرورةَ -دون ما صارَ إليه. وهذا الضَّرْبُ شَرٌّ من الأوَّلِ -أعني السكوتَ-؛ لأن أحسنَ الأمورِ إذا لم يَجِدْ حقًّا يَتكلَّمُ به أن يُمسِكَ عن الباطل، وأقبح ما ينطقُ به من الباطل بهتُ العقولِ والطبائعِ والحواس، ومكابرتُها. والضربُ الثالث: المُناقَضَةُ: وهو أن يَنْفِيَ بآخِرِ كلامِه ما أثبتَه

باوَّلِه، أو يثبِتَ بآخرهِ ما نفاه في أولِه. والدليلُ على أن هذا الضَرْبَ انقطاعٌ أيضاً: أن المجيبَ لَمَّا ابتدأ بالِإثباتِ، كان قد ضَمِنَ على نفسه تحقيقه، والدَّلالةَ على صِحَّتِه، وبناءَ سائرِ الجوابِ عليه، وملاءمةَ ما يُورِدُه بعده له، فإذا نفاه فقد عَجِزَ عن تصحيح ما ضَمِنَه من ذلك على نفسه، وافتقرَ إلى نَقْضِه عند الِإياسِ من صحَّته. وصاحبُ هذا الضَّرْب أحسنُ حالًا من المُباهِتِ؛ لأن الرجوعَ عن الباطل عند انكشافِه أحسَنُ من المكابرة، والرجوعُ الى حقِّ حَسَنٌ جميلٌ، ولا عَيْبَ في العجز عن نُصرةِ الباطلِ، كما لا عَيْبَ في الرجوع عنه، بل شائنةُ العيبِ الشروعُ في نُصرتِه. والضَّرْبُ الرابعُ: الانتقال عن الاعتلال بشيءٍ إلى الاعتلال بغيره. والدَّلالةُ على أن هذا الضربَ انقطاعٌ: أن المُعتَلَّ إذا ابتدأَ بعِلَّةٍ، فقد ضَمِنَ على نفسه تصحيحَ مذهبِه بها وبما تَفرَّعَ منها، وذلك أنه لم يَعتَلَّ بها إلا وهي عنده صحيحةٌ مُصحِّحه لِمَا اعتلَّ له، فإذا انتقلَ عنها إلى غيرها، فقد عَجِزَ عن الوفاءِ بما وعدَ والإِيفاءِ لِمَا ضَمِنَ، وافتقرَ إلى غيرها لتقصيرِه عما ظنَّه بها. فإن قيل: فقد انتقلَ إبراهيمُ -عليه السلام- من عِلَّةٍ إلى غيرها وكان في مقامِ المُحاجَّةِ كما أخبر اللهُ سبحانه عنه (¬1)، وبهذا تعلَّقَ مَنْ ¬

_ (¬1) وذلك في قوله تعالى في سورة البقرة، [الأية: 258] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي =

رَاى أن الانتقالَ من دليل إلى غيره ليس بانقطاع ولا خروجٍ عن مقتضى الجِدالِ والحِجاجِ. قيل: لم يكُ انتقالُه للعجز؛ لأنه قد كان يَقدِرُ أن يُحقِّقَ مع نُمْرُودَ حقيقةَ الإِحياءِ الذي أرادَه؛ وهو إعادةُ الروحِ إلى جَسَدِ المَيْتِ، أو إنشاءُ حَيٍّ من مَواتٍ، وأنَّ الِإماتةَ التي أرادَها هي إزهاقُ النَّفْسِ من غير مُمارَسَةٍ بآلةٍ ولا مُباشَرَةٍ، ويقولَ له: فإذا فعلتَ ذلك كنتَ مُحيياً مُمِيتاً، أو فافعلْ ذلك إن كنتَ صادقاً، ومَعاذَ اللهِ أن يُظَنَّ بذلك الكريمِ أنه أنشَأَ إلزاماً مع تأييدِه بالوَحْي والرِّسالةِ، وما كان عليه من قُوَّةِ الاستدلالِ الذي أخبرَ اللُّه به عنه لماَ جَنَّ عليه الليلُ وبحَثَ عن النُجومِ، وما أفْضَى به الاستدلالُ بالتَّغييرِ والأفُولِ من الحكم عليها بالحَدَثِ وإثباتِ مُحدِثِها (¬1)، ثم يتركُ ما أنشأهُ، ويَعدِلُ عما ابتدأ به إلى غيره عجزاً عن استتمامِ النُصرةِ، لكنَّه لما رأى نُمْرُودَ غبيًّا أو مُتغابياً بما كشفَه عن نفسه من الإِحياءِ -وهو العفوُ عن مُستحِقِّ القتلِ -والإِماتةِ- وهي القتلُ الذي يُساوِيهِ فيه كلُّ أهلِ مملكتِه وأصاغر رَعِيَّتِه-، انتقلَ إلى الدليل الأوضحِ في باب تعجيزِه عن دَعْواهُ فيه ¬

_ = وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}. (¬1) وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام، [الأيات: 76 - 78]: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)}

المشاركةَ لبارئِه بحكم ما رأى مِنَ الحالِ، فلم يُوجَدْ في حقِّه العجزُ عن إتمام ما بدأ به بخلاف ما نحن فيه. وإنما سمِّيَ انقطاعاً: لأن صاحبَه وقفَ قبلَ بلوغِ الغايةِ التي ضَمِنَ على نفسه أو رامَ البلوغَ إليها، ومنه قالوا في العاجزِ عن السَّيْرِ مع القافلةِ: مُنقطعٌ، فمتى وَجَدْتَ العجزَ في كلام فَاحْكمْ على صاحبِه بالانقطاع. وللسائل انقطاعٌ أيضاً (¬1): منه السكوتُ، ومنه الانتقالُ من مسألةٍ إلى مسألةٍ، وهو نَظِيرُ انتقالِ المجيبِ مِن اعتلال إلى غيره، وقد يكونُ أيضاً بحَمْلِ المجيب على المكابرة من غير أن يَلزَمُه ذلك، وهو نظيرُ بَهْتِ المجيبِ. وها هنا ضَرْب أذكرُة لك إن شئتَ أن تجعلَه خامساً، وإن شئتَ فاجْعَلْه مُركَّباً وممزوجاً، وهو: تخليطُ السائل والمجيب، اعنِي: إذا أتَى السائلُ بما ليس له، ودخلَ معه المجيب في ذلكَ، وشرعَ في إجابته عما لا يَلزَمُه بحكم الجدلِ، وكل من أَلجأَ فجادِلَه إلى التخليطِ فقد ظَفِرَ به، سواءٌ لا أَلجأَه إلى الانتقالِ أو الِإمساكِ أو الشَّغْبِ [أو] إلى شيء مما ذكرناه انقطاعا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر "الجدل على طريقة الفقهاء" ص 72.

- فصل في بيان الأمور التي كثر غلط أهل الحجاج والجدال فيها

فصل في بيان الأمورِ التي كَثُرَ غَلَطُ أهلِ الحِجاجِ والجِدالِ فيها. وهو تمثيلُهم الحقَّ بباطلِ غيرهِم، واستشهادُهم على صوابهم بخطإ غيرِهم، وهو قولُ الواحدِ منهم لصاحبهِ: قلتُ كذا ولم أقلْ كذا، كما قلتَ أنت كذا ولم تَقُلْ كذا. ومُخالفُه عنده مُخطِىءٌ (¬1) في امتناعه ممّا امتنعَ منه مع إطلاقِه لِمَا أطلَقَهُ، فرُبَّما استعملُوا هذا في المعاني، فقال مُتحذلِقُهم (¬2): أعتقِدُ كذا وكذا ولا ألزِمُ نفسي كذا، كما اعتقدْتَ أيُّها الخصمُ كذا وإن لم تُلزِمْ نفسَك كذا. هذا والخصمُ عنده قد تركَ بامتناعه ما يَلزمُهُ نفسَه نظيرُ ما اعتقدَهُ، فكأنه يقولُ: قد أخطاتُ وتركتُ الواجبَ كما فعلتَ أنت من ذلك، وكأنه أيضاً يقولُ: الدليلُ على صوابي فيما أصبتُ فيه خطؤك فيما أخطأتَ فيه، وكأنه أيضاً يقولُ من وجهٍ آخرَ: صوابي في ترك ما تركتُه واجتنابي ما اجتنبتُه، مثلُ خَطَئِك في ترك ما تركتَه مع اجتنابك لنظيرِه، وكأنه أيضاً قال: الدليلُ على صوابي في جنايَتِي خَطأُ فُلَانٍ في سَرِقَتِه. وكأنه سَبَّهُ سابٌ باللِّواطِ، فقال له: وأنتَ أيضاً زانٍ، وإنما هو إخبارٌ بأن المُعيِّرَ مشارِكٌ في مثل ¬

_ (¬1) في الأصل: "مخط". (¬2) المُتحذلِقُ: المتكيِّس الذي يريد أن يزداد على قدره، يقال: حَذْلَقَ الرجل وتَحَذْلَقَ: إذا أظهر الحِذْقَ وادَّعى أكثر مما عنده. "اللسان" (حذلق).

* فصل من آداب الجدل

ما عَيَّرَ به، وليس بحجةٍ في صواب ما عِيبَ أو عِيبَ عليه. فصل من آداب الجدلِ (¬1) اعلم أن تسليمَ الشيءِ يقومُ مَقامَ الإِقرارِ به فيما يوجبُه الإِقرار من البناءِ عليه واستشهادهِ على غيره، لأن المُنكِرَ لَما حالَ إنكارُه بينه وبين السؤال في فرعه، سَلمَه المقِر به بتوَهُّمِه بذلك إلى ما يصل (¬2) إليه المُقِرُّ من المساءلةِ في الفرع الذي أَقَر بأصله، وليس لتسليمه وجهٌ غير هذا، فعامِلْهُ معاملةَ المُقِرِّ. ومما يُبَيِّنُ ما قلنا: أنه لما سألَ في الفرع فمُنعِ الجوابَ، وقيل له: الكلام بيننا وبينك في الأصل، فإذا صحَ الأصلُ دَلَلْناكَ على صِحةِ فرعِه، وناظَرْناكَ حينئذٍ فيه. قال عند ذلك: فإذا أُسَلَمُه ولا أطعُنُ فيه، فناظروني الآن في فرعه؛ لِيَصِلَ بالتسليم إلى ما مَنَعهُ منك بالِإنكارِ، والتسليم إقرار (¬3)، لأنه أقر على شَرْطٍ في الظاهر. وتَتَّبعْ قولَ خصمِك: يجوز، ويمكِنُ، وُيتوهم، وُيقدَرُ عليه، وُيراد، وُيكرَهُ، ويجوزُ لك، مما يَتعلقُ بغيره، فإن كان توقفُه على غيره ¬

_ (¬1) انظر "علم الجذل في علم الجدل" ص 13 - 18 للطوفي، و"الفقيه والمتفقه" 2/ 25 - 32، و"الجدل" لابن عقيل ص 2، و"أصول الفقه" لابن مفلح 2/ 890، و"الكافية" ص 529 - 541، و"الإيضاح لقوانين الاصطلاح" ص 42. (¬2) في الأصل: "اتصل"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬3) في الأصل: "إقرارا".

وتعلُّقُه به، وإلا فامنَعْهُ وعرِّفْهُ أنه لا تجوزُ الأشياءُ بتوهمِه، وربما قال أحدُهم: يجوزُ إلا أن يكونَ كذا، وليس من عَقْدِه أن ذلك المذكورَ قصدٌ يقعُ التعويلُ عليه، فيصيرُ بمنزلة مَنْ قال: يجوزُ لا شيءَ. وهذا فاسدٌ. وتعتقدُ ما يَتكلمُ به ويَلفِظُه تسليماً للتعبُّدِ والِإجماعِ، وما يقولُه لصِحَّةِ معناه في القياس إذا لم يمنعْ من العبارة عنه، وعَمِلْتَ على إجماعهم على صحَّةِ العبارةَ الدالَّةِ على المعاني الحقيقيَّةِ وما يَصحُّ معناه، وقد جاءَ التعبُّدُ بالمنعِ منه، ولا تَخلِطْ بعضَ ذلك ببعض، واردُدْ كلَّ شيءٍ إلى أصلِه، فإذا الزِمْتَ نظيرَ القولِ الذي مَطلَبُه للتعبُّدِ في دَلالتِه ومعناه، وعلى أوضاع اللُّغة وفي قياسها، فلا تَبْنِ عليه، وقل: ليس إطلاقي لِمَا اطلَقْتُ لِمَا شاركَهُ فيه القولُ الذي قابلتموه به، ولو كان كذلك لكان الأمرُ أهَم، ولكن التعبُدُ فَقَطْ، فإن أوجدتموني هذه العِلَّةَ في الآخَرِ، سَوَّيتُ بينهما في الِإطلاق، فإن افترقا في عِلَّةِ الإِطلاقِ لأحدهما، لم يَجِب التسويةُ بينهما في منعٍ ولا إطلاقٍ، وإن كانا قد استويا من وجهٍ آخرَ. فأمَّا الآخران: فإن القياسَ إنما يعملُ في إيجاب اعتقادِ المعاني فقط، وإذا صحَّ معناهما في القياس وجبَ اعتقادُهما، واللغةُ والعبارةُ لا يعملُ فيها القياسُ، لأنها أوضاعٌ وعلاماتٌ لا تقعُ مواضِعَها لأَعْيانِها كما تقعُ المعاني مواقعَها لأنفسِها، ولكنْ بالرِّضا والتخيُّرِ والاصطلاح، ولو قَلَبْتَ ذلك في باب الأسماءِ لانقلبتِ العلاماتُ ودَلالتُها.

- فصول: وصايا في الجدل

فصول وصايا في الجدل قال العلماءُ (¬1): واحذَرِ الكلامَ في مجالس الخوفِ، فإن الخوفَ يُذهِلُ العقلَ الذي منه يَستمِدُّ المُناظِرُ حُجَّتَه، ويستقي منه الرأيَ في دفع شبهاتِ الخصم، وإنما يُذهلُه ويَشغَلُه بطلبه حِراسةَ نفسِه التي هى أهم من مذهبهِ ودليلِ مذهبهِ، واجتَنِبْ مكالمةَ من تخافُ فإنها مميتةٌ للخواطر، مانعةٌ من التَثبُّتِ (¬2). واحْذَرْ كلامَ من اشتدَّ بغضُك إياه فإنه داعية إلى الضَّجَرِ والغضب من قليلِ ما يكونُ منه، والضجرُ والغضبُ مُضيِّقٌ للصدور، ومُضعِفٌ لقُوَى العقولِ. واحذرِ المحافلَ التي لا إنصافَ فيها في التسويةِ بينك وبين خصمِك في الإِقبالِ والاستماع، ولا أدبَ لهم يمنعُهم من التسرُعِ إلى الحكم عليك، ومن إظهار العصبيةِ لخصمك. والاعتراضُ يُخلِقُ الكلامَ، وُيذهِبُ بهجةَ المعاني بما يُلجِىءُ إليه من كثرة التَّردادِ، ومَنْ تركَ التَردادَ مع الاعتراضِ، انقطعَ كلامُه، وبَطَلَتْ معانيه. واحذر استصغارَ الخصمِ، فإنه يمنعُ من التحفُظِ، وُيثبِّطُ عن ¬

_ (¬1) انظر "الكافية" ص 530 - 531: (¬2) في الأصل: "التثبيت"، والجادة ما كتبناه، وهو الموافق لما في "شرح الكوكب المنير" 4/ 387، فإنه نقل هذا المبحث عن ابن عقيل إلا الفقرة الأخيرة منه.

المبالغةِ، ولعل الكلامَ يُحكى، فيَعتدُّ عليك بالتقصير. واحْذَرْ كلامَ من لا يفهمُ عنك؛ فإنه يُضْجرُك وُيغضِبُك، إلا أن يكونَ له غَريزيَّةٌ صحيحةٌ، ويكونَ الذي بَطَّأَ به عن الفهم فَقْدُ الاعتيادِ، فهذا خليلٌ مُسترشِدٌ تُعلِّمُه، وليس بخصمٍ فتُجادِلَه وتُنازِعَه. وقَدرْ في نفسك الصَّبرَ والحِلْمَ (¬1) لئلا تَستفِزَكَ بغَتاتُ الإِغضاب، فلو لم يَكُنْ في الحِلْمِ خاصَة لها يُجتلَبُ، لكانت مَعُونتُه (¬2) علَى المناظرة تُوجِبُ إضافتَه إليها. ومع هذا فليس يَسلَمُ أحدٌ من الانقطاع إلا مَنْ قَرَنَهُ اللهُ -جلَّتْ عظمتُه- بالعِصْمَةِ من الزَّلَلِ، وليس حَد العالِمِ بأن يكونَ حاذِقاً بالجدلِ، فالعلمُ صناعة، والجدلُ صناعة، إلا أنه (¬3) مادةُ الجدَلِ، والمًجادِلُ يحتاجُ إلى العالِمِ، والعالِمُ لا يحتاجُ في علمه إلى المُجادِلِ كما يحتاجُ المُجادِلُ في جَدلِه إلى العالِمِ. وليس حدُّ الجدلِ بالمجادلةِ أن لا ينقطعَ المُجادِلُ أبداً، ولا يكونَ منه انقطاعٌ كثير (¬4) إذا كَثُرَتْ مجادلتُه، ولكنَ المُجادِلَ من كان طريقُه في الجدل محموداً وإن نالَهُ الانقطاعُ لبعض الآفاتِ التي تَعرِضُ. ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "الحكم". (¬2) في الأصل وفي "شرح الكوكب المنير" 4/ 389: (معونة). (¬3) في الأصل والمرجع السابق 4/ 389: "أن". (¬4) في الأصل: "كثيراً".

- فصل جامع لقوانين الجدل وآدابه

واعلم أني لم أرِدْ بقولي أهلَ النَظَرِ المُتكلِّمينَ في عصرنا هذا، فإنما الكلامُ على صفةٍ متقدِّمةٍ، ولَئِنْ حَفِظْتَ وصيتي في ترك استعمالِ ما وصفتُ لك في هذا الباب إلا مع أهلِه، بل وصِيةَ المسيحِ عليه السلام السابقةَ لوصيتي؛ إذ يقولُ: لا تَبذُلُوا الحِكمةَ لغير أهلِها فتَظلِمُوها، ولاتَمنعُوها من أهلها فتَظلِمُوهم، ليَطُوَلنَّ صمتُك حتى تُضافَ إليه، ويزولَ عنك اسمُ الكلامِ. اللهم إلا أن تُحدَثَ قومَ سَوْءٍ ممن غَلَبَ على الكلام في هذا العصرِ. فصل جامع لقوانينِ الجدلِ وآدابِه اعلم أن الجدلَ: هو الفَتْلُ للخصمِ عن المذهب بالمحاجَّةِ فيه، ولا يخلو أن يُفتَلَ عنه بحجَّةٍ أو شُبْهةٍ، فأمَّا الشَغْبُ فليس مما يُعتقَدُ به مذهبٌ. ولا يخلو من أن يكونَ فَتْلاً على طريقة السؤالِ، أو على طريقة الجواب، وطريقةُ السؤالِ: الهدمُ للمذهب، كما أن طريقةَ الجوابِ: البناء للمذهب، لأن على المجيبِ أن يَبْنِيَ مذهبَه على الأصول الصحيحة، وعلى السائل أن يُعجِزَهُ عن ذلك، أو عن الانفصال عما يَلزَمُهُ عليه من الأمور الفاسدةِ، فأحدُهما مُعجِزٌ عن قيام الحُجةِ على المذهب، والآخرُ مُبينٌ لقيام الحجَّةِ عليه، وذلك مما يَدَّعيه كلُّ واحدٍ إلى أن يظهرَ ما يوجبُ استعلاءَ أحدِهما على الآخر بالحُجةِ. وكلُّ جدلٍ فإنما يُحتاجُ إليه لأجل الخلافِ في المذهب، ولو ارتفع الخلافُ لم يَصِحَّ جدلٌ، وذلك أن السائلَ إذا لم يكنْ غرضُه

فتلَ المجيب عن مذهبه فليس سؤالُه بسؤال جدلٍ، وكذلك المجيبَ إذا لم يكن غرضُه فتلَ السائلِ عن مذهبه لم يكُنْ جوابُه جدلًا، ولا بُدَّ من مذهبِ يختلفان فيه، فيكونُ أحدُهما فيه على الإِيجاب والآخرُ على السَّلْب، كاختلاف اثنين في الاستطاعةِ: هل هي قبلَ الفعل أو مع الفعل؟ فإذا تكافأَ الخصمان في القُوَّةِ على الجدل، ثم استعلى أحدُهما على الآخرِ، دَلَّ ذلك على قُوَّةِ المذهب؛ لأنه لا يبقى للرجحانِ وجهٌ من طريق القُوَّة، إذ قد فَرَضْنا تساويهماَ فيها، فلا يبقى للرُّجحان وجهٌ سوى قُوَّةٍ تعودُ إلى المذهب، لأنهما قد استويا فىِ كلِّ شيءٍ إلا أن أحدَهما ينصرُ المذهبَ والآخرَ يَطعُنُ عليه، فلولا تَرجحُ الحال من جهة قوةِ المذهب لأحدهما وضعفِه من جهة الآخَرِ لتكافآ في ذلك، وما ذلك إلا بمثابةِ ميزانٍ سُوِّيَ بين كَفَتَيْهِ، وعُدِّلَ عمودُه، ولم يَبْقَ فيه عَيْن (¬1) ولا مَيْل، متى وُزِنَ به فرَجَحَ إحدى (¬2) كفَّتَيْهِ، لم يَبْقَ للرجحان وجهٌ سوى ثِقَلِ الموزونِ الذي رجحَ على المقابِل له، وعلى هذا جميعُ المُتكافِئاتِ لا وجهَ للترجيح بينها، حتى سمعتُ بعضَ الأئمَّةِ في الأصول والحقائقِ يقولُ: لو أَن شعرةٌ بين اثنين يتجاذبانِها، بيد كلِّ واحدٍ طرفٌ منها وقُواهما متكافئة ما انقطعت، ولا ينبغي انقطاعُها إلا إذا كان أحدُهما أرجحَ قُوَّةً. وقال آخرٌ: لو أن طَبَقاً فيه رُطَبٌ خلقَه اللهُ تعالى متساوياً من كل ¬

_ (¬1) العَيْنُ في الميزان: المَيْلُ، والعرب تقول: في هذا الميزان عَيْنٌ: أي في لسانه مَيْل قليل، أو لم يكن متساوياً. "اللسان" (عين). (¬2) في الأصل: "أحد".

وجهٍ؛ لوناً ومَنْظَرَاً و (¬1) نوعاً ونُضْجاً، فإنه لا تمتدُّ اليدُ إلى واحدة من الرطَب مع يَقَظَةِ الدَّواعي والإِرادةِ، وإنما تمتدُ اليدُ إلى واحدة مع الغَفْلةِ بَما يَجْري مَجْرى العَبَثِ، فإنَّ الفاعلَ لا يُعينُ إلا لِعلَةٍ، والعلَّةُ لا تكونُ إلا مِيزَةً، وعَسَاهُ لا يبقى إلا القربُ، فيأخذ بالأقرب (¬2) منه لعِلَّةِ القُربِ، إذ لا بُدَّ أن يكونَ الرطَبُ على وجه يكونُ بعضُه إليه أقربَ من بعضٍ، وإذا كانت المتكافئاتُ بهذه الصورةِ، لم يَبْقَ أن يكونَ لترجيح كلامِ أحدِ المُتساوَييْنِ المَفْرُوضَيْنِ في الجدلِ إلا لترجُّحِ المذهبِ الذي ينصرُه لا غيرُ. وأصلحُ ما سمعتُه من ذكرِ الشَعْرَة والرُّطَب ما تأَمَّلْتُه من نفسي، وهو إذا خرجتُ قاصداً لأمرٍ، فاعترضني القصَدُ لأمرٍ آخرَ، فلا أزالُ أخطو نحوَ الأرجحِ عندي، فتَعرِضُ لي مساواةُ الأمرين، فتُوقِفُني جبراً عن الحركة، أصابني ذلك عدَّةَ دَفَعاتٍ، وهذا يُؤيِّدُ أن لا ترجيحَ مع التكافؤ والمساواة. فأمَّا إذا كان أحدُ الخصمين أقوى في الجدل من الآخر، لم يَكُنْ في استعلاءِ الأقوى دليلٌ على قُوَةِ مذهبهِ، ولكنْ لو اسْتَعْلى الأضعفُ على الأقوى لاقتضى ذلك قُوَةَ مذهبهِ لا غيرُ؛ إذ كان ظهورُه وترجُّحُه أقوى في بيانِ قُوَّةِ مذهبهِ (¬3) من ظهور المساوي. وكلُّ مُتجادِلَيْنِ فلا بُدَّ من أن يكونَ الحق مع أحدِهما دونَ الآخَر؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو" والأحسن ما أثبتناه. (¬2) في الأصل: "بأقرب". (¬3) في الأصل: "مذهب" دون هاء الضمير.

إذْ لا يجوزُ أن يكونَ الحقُّ في إيجاب الشيءِ وسَلْبِه، ولا في أن القولَ عليه صدقٌ والقولَ عليه كذبٌ؛ لأن ذلك متناقض، ولا يصحُّ [إلا] أحدُ النقيضين دونَ الآخرِ، إلا أنه يجوز أن يكونا جميعاً قد عدَلا عن طريقِ الحُجَّةِ، ويجوزُ أن يكونَ عليها أحدُهما، ولا يجوزُ أن يكونا عليها جميعاً؛ لأنه لا حُجَّةَ على الباطل. وكلُّ جدلٍ فإنه ينبغي أن يُتحرَّزَ فيه من حيلةِ الخصمِ بإخراج السائلِ عن سؤاله والمجيب عن جوابه، فإن لذلك وجوهاً تَلْطُفُ، متى لم يتقدَّمْ في التحرُّزِ منها، حصلتِ المسألةُ من غير جوابِ، والجوابُ من غير زيادةٍ إلا الإِيهامَ. ومن التحرُزِ في ذلك: أن يَنظُرَ السائلُ، فإن كان المسؤولُ قد أتى بمعنى الجوابِ محقَّقاً أو غيرَ محقَقٍ، كان له أن يُكلِّمه عليه ويُحاجَّه فيه، وإن لم يكُنْ أتى بمعنى الجواب طالبَه بذلك، وبَيَّنَ له أنه ليس يصحُّ أن يشرعَ في المُحاجةِ دون أن يُظهِرَ الجوابَ، فأمَّا المسؤولُ يأتي بحديثٍ اَخرَ ليس فيه معنى الجوابِ، فلا يصحُّ حِجاجٌ. فأمَّا المجيبُ فينبغي له أن يتأملَ ما يعترضُ به السائلُ عن جوابه، فإن كان فيه شُبهةٌ تتعلَّقُ بالمسألةِ وتَتَصلُ بها أجابَ عنها، وإن أوردَ شبهةً، وافقَه على ذلك، وبَينَ له أنه لم يأتِ بمُتعلَّقٍ يَستحِق جواباً. وكلُّ ما يحتالُ به الخصمُ من غير جهةِ إخراجِ السائلِ عن سؤاله، والمجيبِ عن جوابه، فالتَّحرُّزُ منه أسهلُ من التَحرزِ عن هذين الوجهين.

وكلُّ جدلٍ فإنه لا بُدَّ فيه من علم الاختلافِ في المَقالةِ وما يَعتمدُ عليه المُخالِفُ للحقِّ من الشبهةِ، أما المقالةُ: فلِتَتمكَّنَ من كسرِها، ولا سبيلَ لك إلى ذلك من غير أن تعلمَ ماهِيَّتها، وأما الشبهةُ: فلِتُداوي صاحبَها من الوجه الذي قد دخلت عليه البَلِيَّةُ فيها؛ لأن مثلك في ذلك مثلُ الطبيبِ الذي يُعابُ بما يَصلُحُ من الدواء. وأولُ كلِّ جدلٍ: الاختلافُ في المقالة، وتحقيقُه: أن يكونَ أحدُ الخصمين فيه على المُوجِبةِ والآخرُ على السَّالبةِ، فإذا ظهرَ الخلافُ وقعَ الحِجاجُ بعدَه على طريقة السؤالِ والجواب، والسائلُ مُخيرٌ أن يْلزِمَ خصمَه ليُعجزَهُ عن الانفصالِ، أو يسألَهَ ليُعجزَهُ عن إقامةِ البرهانِ. وكلُّ جدلٍ فإن الجوابَ فيه لا يخلو أن يكونَ مما يقعُ في مثلهِ الخلافُ، أو يكونَ ليس مما يقعُ في مثله الخلافُ، فإن كان ليس مما يقعُ في مثله الخلافُ، سقطتِ المطالبةُ بِلمَ وبالِإلزام من الوجه الذي لا يقعُ في مثله الخلافُ، وإن كان مما يقعُ في مثله الَاختلافُ، فلا (¬1) يخلو أن يكونَ مما يقتضيه العقلُ، أو ليس مما يقتضيه العقلُ، فإن كان مما يقتضيه العقلُ، سَقَطَتِ المطالبةُ فيه بلمَ، وبقيت المطالبةُ بالإِلزام، وإن كان مما يقعُ فيه الاختلافُ وليس يقَتضيه العقلُ، ساغت المطالبةُ فيه بلِمَ وبالإِلزامِ، فتدَبَّرْ هذا فإن عليه (¬2) مدارَ الأمرِ في الجدل. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا"، والأنسب ما كتبناه. (¬2) في الأصل: "علته".

وكلُّ جدلٍ يقعُ فيه ظلمُ الخصمِ فإنه يَختلُّ بحَسَب قُوَةِ ذلك وضعفِه، وذلك أن ظلمَ الخصمِ يكسرُ من نفسه، أوَ يُزيلُه عن طريقته، فينبغي أن يُحتَرَزَ منه؛ إذ كان انكسارُ النَّفسِ يُميتُ الخاطرَ، ويقطعُ عن بلوغ الآخِرِ، والزوالُ عن الطريقِ يُخرِجُ عن الاعتمادِ، ومن عُرِفَ من عادته ظلمُ خصمهِ فليس ينبغي أن يُكلمَ إلا أن يرجعَ إلى الإِنصاف، أو يَدْفَعَ إلى ذلك حالٌ، فيُحترَزَ منه غايةَ الاحْتراز. وأدبُ الجدلِ: استعمالُ ما يَحسُنُ فيه: أما في السؤال والجواب: فبضَبْطِ حدودِ كلِّ واحدٍ منهما، وتَبينِ وجوهِه، ولزومِ سُنَتِه، وقد مضى ذلك في أبوابِه. وأما في معاملة الخصم: فبالتَوفِيَةِ لحقَه، والتجنُّب لظُلمهِ، ولا بُدَّ في ذلك من علم الأبوابِ التي تَقدَمَتْ، وما يجبُ استَعمالُه فيها، وما لايَحسُنُ مما يَحسُنُ. وآدابُ الجدلِ تُزينُ صاحبَها، وتركُ الأدبِ يَشينُه، وليس ينبغي أن يَنظُرَ إلى ما يَتَفقُ لبعضِ من تركَه من الحُظْوةِ في الدنيا، فإنه إن كان رفيعاً عند الجُهَّالِ، فإنه ساقطٌ عند ذوي الألبابِ. وبكلِّ (¬1) حالٍ فإنه لا يصلُح الاستبقاءُ على الخصمِ إذا ابتدأَ بما يَتموَّهُ أنه سؤالٌ أو جوابٌ، وأما إن أتى بما لا يَتموَّهُ مثلُه، فليس على خصمه استماعُه، وذلك إذا أخذَ في السبابِ وما جَرَى مَجْرى ذلك من التخليطِ الذي لا يُشْكِل على عاقلٍ أنه ليس من السؤال والجواب في شيء، ومثلُه في ذلك مثلُ مَنِ ابتدأَ في إنشادِ الشَعرِ على طريق الاستشهادِ، وابتدأَ ¬

_ (¬1) في الأصل: (وكل).

في شيء من أخبار الزمانِ وتَصرُّفِ الأحوالِ الذي لا يَشتبِهُ على عاقل أنه ليس من السؤال والجواب في شيءٍ. وكلُّ جدلٍ لم يَكنِ الغرضُ فيه نصرةَ الحقِّ فإنه وبالٌ على صاحبه، والمَضرَّة فيه أكثر من المنفعة؛ لأن المخالفة تُوحِشُ، ولولا ما يلزمُ من إنكار الباطلِ، واستنقاذِ الهالكِ بالاجتهاد في رَدِّه عما يَعتقِده من الضلالة، وينطوي عليه من الجهالةِ، لَمَا حَسُنَتِ المجادلةُ، لِمَا فيها من الإِيحاشِ في غالب الحالِ، ولكن فيها أعظمُ المنفعةِ وأكثرُ الفائدةِ إذا قَصَدَ بها نُصْرةَ الحقِّ، وإنكارَ ما زَجَرَ عنه الشرعُ والعقلُ بالحُجَّةِ الواضحةِ والطريقةِ الحَسَنِةِ. فصل ومن آداب الجدلِ: أن يجعلَ السائلُ والمسؤولُ مَبْدأَ كلامِه حَمْدَ اللهِ والثناءَ عليهَ، فإن كلَّ أمْرٍ ذي بالٍ لم يُبْدَأْ فيه باسم اللهِ فهو أبْتَر (¬1)، ¬

_ (¬1) ورد هذا حديثاَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" 1/ 12 من طريق الخطيب البغدادي، بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع". وفي سنده: أحمد بن محمد بن عمران، أبو الحسن النهشلي، ويعرف بابن الجندي، مضعف ورماه ابن الجوزي بالوضع، انظر "تاريخ بغداد" 5/ 77، و "لسان الميزان" 1/ 288. وأخرجه أحمد 2/ 359، وأبو داود (4840)، وابن ماجه (1894)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (494)، وابن حبان (1) و (2)، والدارقطني 1/ 229، و 3/ 208 - 209 عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل =

- فصل منه

ويجعلا قصدَهما أحدَ أمرين، وَيجتهِدا في اجتنابِ الثالث: فاعلى الثلاثةِ من المقاصد: نُصْرةُ الحق ببيان الحُجةِ، ودَحْضُ الباطلِ بإبطالِ الشُبْهةِ؛ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا. والثاني: الإِدمانُ للتقَوِّي على الاجتهاد، والاجتهادُ من مراتب الدِّينِ المحمودةِ (¬1)، وهي رتبةُ الفُتْيا (¬2). فالأولى: كالجهادِ، والثانيةُ: كالمُناضَلةِ (¬3) التي يُقصدُ بها التَقَوِّي على الجهادِ. ونعوذُ بالله من الثالثِ، وهو: المُغالبَةُ وبيانُ الفَراهةِ على الخصمِ والتَرَجُّحِ عليه في الطريقةِ، ومِنَ اللهِ نستمِدُّ الإِعانةَ على طلب ما يُوافِقُ الشَرعَ، وُيطابِقُ الحق، وهو حَسْبي ونِعْمَ الوكيلُ. فصل وإذا كان أحدُ الخصمين في الجدل حسنَ العبارةِ، والأخرُ مُقصِّرا عنه في البلاغة، فربما أدْخَلَ ذلك الضَّيمَ على المعاني الصحيحةِ. والتدبيرُ في ذلك: أن يَقصِدَ إلى المعنى الذي قد رَتَبَه صاحبُه بعبارته عنه، فيعبِّرَ عنه بعبارة أخرى تدل عليه من غير تزيينٍ له، فإنه يظهرُ ¬

_ = أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع". وورد عند أحمد: "بحمد الله أو بذكر الله". ولا يصح موصولًا، والصواب ارساله عن الزهري. (¬1) في الأصل: "المحمود". (¬2) رسمها في الأصل هكذا: "النسا"، ويترجح لنا أن صوابها كما أثبتنا في المتن. (¬3) ناضله مناضلة ونضالًا: باراه في الرمي."اللسان" (نضل).

- فصل منه

في نفسه وَيبِينُ العُوارُ (¬1) الذي فيه، وينكشفُ عند الحاضرين التَمويهُ الذي وقعَ به. وكذلك إذا أردْتَ أن تمتحنَ معنىً قد أتى به بليغٌ، فانْقُلْه إلى غير تلك العبارةِ، ثم تأمَّلْه، فإن كان حسناً في نفسه فإنه لا يُبطِلُ حُسْنَه نقلُه من عبارة إلى عبارة، كما لا يُبْطِلُ حُسْنَه نقلُه من الفارسيَّةِ إلى العربيَّةِ، وإذا كانت عبارةُ السائلِ أو المُستدِلِّ تَقصُرُه عن تحقيق الحُجَّةِ والشُبهةِ، وكان خصمُه قادراً على إخراجها إلى عبارة ينكشفُ بها قُوَّةُ كلامِه، فينبغي أن يُخرِجَها بعبارته إلى الِإيضاح، فإن اتَّضَحَ فيها الحقُّ اتَّبَعَه، وإن كان ذلك شُبهةً بعد إيضاحها زَيَّفَه (¬2) وأبطَله. وإذا كان أحدُ الخصمين في الجدلِ قد أخطأ في بعض المذاهب، فاحذَر الاغترارَ بذلك، فإنه ليس في خطئه في مذهب دليلٌ على أنهَ قد أخطأ في مذهب آخرَ، كما ليس في كذبه في خبر دليلٌ علىِ أنه قد كذبَ في خبر آخرَ أَخْبَرَ به، فلا تَلتَفِتْ إلى التَّمويهِ بأن بعض مذاهبِ فلانٍ يَتعلقُ ببعض، فإن فسدَ واحد منها (¬3) فسدَ جميعُها، فإن ذلك يَحملُك على التخطئة بغير بصيرةٍ لِمَنْ لعلَّه أن يكونَ مصيباً فيما أتى به، فاعْتَبِرْ ذلك، ولا تَتَكِلْ على مثل هذا المعنى، ولكِنْ إذا كَثُرَ خطؤه، أوجبَ ذلك تُهْمَةً لمذهبه، وقِلَّةَ سكونٍ إلى اختياره، من غير أن يُحصِّلَ ذلك دليلًا على فسادِه لا مَحَالَةَ. ¬

_ (¬1) العُوار -مثلثة العين-: العيب. "القاموس المحيط" (عور). (¬2) أي أظهر زَيْفَه ورَدَّه، من قولهم: زَيف الدراهم تزييفاً: إذا أظهر زَيْفها، ورَدَّها لِغشٍّ فيها." المصباح المنير"، و"اللسان" (زيف). (¬3) في الأصل: "منهما" على التثنية.

وإذا كان الخصمُ معروفاً بالمُجُونِ في الجدلِ، وقلةِ الاكتراث بما يقولُ وما يقالُ له، ليس غَرَضُه إقامةَ حُجَّةٍ ولا نُصْرةَ ديانةٍ، وإنما يريدُ المطالبة والمباهاةَ، وأن يقالَ: علا قِرْنَه وغلبَ خصمَه أو قطعَ خصمَه، فينبغي أن يُجتنَبَ وتُحذرَ مكالمتُه، فليس يحصُلُ بمناظرته دينٌ ولا دنيا، وربما أوْرَدَ على خصمه ما يُخجِلُه ولا يستحسنُ مكافأته عليه، فينقطِعُ في يَدِه، ويكونُ في انقطاعه فِتنةٌ لِمَنْ حضرَه. وإذا كان الغرضُ بالجدل إدراكَ الحقِّ به، وكان السبيلُ إلى ذلك التثبُّتَ والتأمَّلَ، وجبَ على كلُّ واحدٍ من الخصمين استعمالُهما، وإِلا حصلا على مجرَّدِ الطلب مع حِرمانِ الظفَرِ، وحاجةُ كلِّ واحدٍ من الخصمين إلى التَّنبُّهِ على مَا يأتي به صاحبُه كحاجة الأخرِ إلى ذلك، قال بعض العلماءِ في هذا الشأنِ: العقلُ أطولُ رَقْدَةً من العَيْنِ، وأحْوَجُ إلى الشحْذِ (¬1) من السيفِ، وقد أحسنَ التشبيهَ؛ لأن العقلَ يحصُلُ به دَرْكُ الحقَّ كما يُدرَكُ بالعين الشخصُ، إلا أن حاجةَ العقلِ إلى التَّنبيهِ على الحقَّ أشدُّ من حاجة العين إلى التَنبيهِ على الشخص، ولربَّما أيقظَ العينَ من رَقْدَتِها لَكْزَةٌ (¬2) أو كَلمةٌ تُوجِبُ اليَقَظةَ بسرعة، والعقلُ يحتاجُ في تنبيهه إلى عمل، وهو تخليصُ نظَرِه (¬3) من آفاتِ النَظرِ المُعترِضةِ. ¬

_ (¬1) الشحْذُ في الأصل: التحديد، يقال: شَحَذَ السكَين والسيف ونحوهما يَشحَذه شَحْذاً: أحَدَّه بالمِسَنِّ وغيره مما يُخرِجُ حده. "اللسان" (شحذ). (¬2) اللَّكْزُ: هو الضرب بجمْعِ اليد -أي قبضتها- في جميع البدن، أو في الصدر والعنق. "اللسان" (لكزا). (¬3) في الأصل: "نظيره".

فالجدلُ يَشحَذُ ويُرهِفُ وُيثيرُ الخواطرَ، وُيخرِجُ الدقائقَ، وكلُّ ذلك آلةٌ لِإدراك العقلِ للحقِّ، فاذا كان لا سبيلَ إلى حَلِّ شُبهةِ الخصم في الجدل إلا بعد إدراكِها، فلا بُدَّ لخصمه من التَّأمُّلِ لِمَا يأتي به، فإن وقعَ له معنى الشُّبهةِ تمكَنَ من كَسْرِها بما يُدخِلُ عليها من الفساد الظاهرِ والبيانِ القاهرِ، وإن لم يَقَعْ له، راجعَه في ذلك إلى أن يستقِرَّ الأمرُ على إظهار أنه قد أوردَ ما يَحتاجُ إلى حَل، أو لم يُورِدْ ذلك، فيكونُ كلامُه أو إمساكُه بحَسَب ما يَظهرُ من الحال، فهذه طريقةُ (¬1) الِإنصافِ، والتي يحصُلُ له ولخَصمه بها الانتفاعُ. وإذا كان الصَبرُ على شَغْبِ السائلِ في الجدل فضيلة، والحِلْمُ عن بادِرَةٍ (¬2) إن كانت منه رِفْعَةً، فينبغي لمن أحَبَّ اكتسابَ الفضائل أن يستعمِلَ ذلك بحَسَب علمِه بما له فيه من الحَظ الجزيلِ والمَحَل الجليلِ، وليس يُنقِصهَ الحِلْمُ إلا عند جاهلٍ، ولا يَضَع منه الصَبرُ على شَغْب السائلِ إلا عند غبِيٍّ يَعتقِدُ أن ذلك من الذُلَ والركاكةِ (¬3) وانْخِساسِ النَّفْسِ. وقُصورُ اللسانِ في الشَغْب هو الفَضْلُ، فإن مَنْ خاضَ فيه تعوَّدَه، ومن تَعودَه حُرِمَ الِإصابةَ واسْتَرَوَحَ إليه، ومَنْ عُرِفَ بذلك سقطَ سُقوطَ الذَّرَّةِ، ومن صَبَرَ على ذلك وحَلُمَ عنه، ارتفعَ في نفوس العلماءِ، ونَبُلَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فهذا طريقه". (¬2) قال في"اللسان" (بدر): البادرة: الحِدَّةُ، وهو ما يَبْدُرُ من حِدَّةِ الرجل عند غضبه من قول أو فعل، وبَدَرَتْ منه بوادر غضب: أي خطأٌ وسَقَطاتٌ عندما احتدَّ، والبادرة من الكلام: التي تَسبِقُ من الإنسان في الغضب. (¬3) الرَّكاكةُ: الضعف. "القاموس المحيط" (رك).

عند أهلِ الجدلِ، وبانَتْ منه القُوَّةُ على نفسه حيثُ منعَها المقابلةَ على الجفاءِ بمثله، والقُوًّةُ على خصمه حيثُ أحوَجَه إلى الشَّغْب، لا سِيَّما إذا ظهرَ منه أنه فعلَ ذلك حِرْصاً على الإِرشاد إلى الحَق، ومَحبَّةً للاستنقاذ من الباطل الذي أَثارَتْهُ الشُّبهةُ من الضلال المُؤَدِّي بصاحبه إلى العَطَبِ والهلاكِ، فله بهذه النِّيَّةِ الجميلةِ الثَّوابُ من ربِّه، والمِدْحَةُ من كلِّ مُنصِفٍ حضرَه أو سَمعَ به. وإذا كان المجلسُ مَجلِسَ عَصَبِيَّةٍ على أحد الخصمين بالتخليط عليه، وقَل فيه التمكُّنُ من الِإنصافِ، فينبغي أن يحذرَ من الكلام فيه، فإنما ذلك إثارةٌ للطباعِ وجَلْب للإِفحاش، وُيفضِي إلى انقطاع القويِّ المُنصِفِ بما يتداخلُه من الغضب والغَمِّ المانِعَين (¬1) له من صِحَّةِ النَّظَرِ والصَّاديْنِ له من طريق العلم. وكلُّ صناعةٍ فإن العلمَ بها غيرُ الجدلِ فيها، وذلك أن العلمَ بها: هو المعرفةُ بجواب مسائلِ الفُتْيا فيها التي تُرَدُّ إلى المُصادرَةِ لها، فأمَّا الجدل: فإنما هو الحِجاجُ في مسائل الخلافِ منها، فالعلمُ صناعةٌ، والجدلُ صناعةٌ، إلا أن العلمَ مادَّةُ الجدلِ، لأن الجدلَ بغير علمٍ بالحُجًةِ والشُّبهةِ فإنما هو شَغْب، وإنما الاعتمادُ في الجدلِ على إقامةِ الحجَّةِ أو حَلِّ الشُّبهةِ فيما وقعَتْ فيه مُخالفَةٌ. وإذا كان الجدلُ قد صَدَّ عنه آفةٌ عرَضَتْ لبعض من هو محتاجٌ إليه، فينبغي أن يعملَ في إزالة تلك الآمةِ؛ ليرتفعَ الصادُّ عنه، وتظهرَ للنَّفْسِ الحاجةُ إليه ومقدارُ المنفعةِ به. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المانع".

- فصل فيما يجب على الخصمين في الجدل

فمن الآفاتِ فيه: الشُبهةُ الداخلةُ على النفس في تقبيحِه، أو أنه لا يُؤدِّي إلى حقٍّ، ولا يَحصُلُ به نفعٌ. ومنها: التقليدُ، والِإلْفُ، والعادةُ، أو النَّظرُ فيما عليه الاسلافُ أو الآباءُ والأجدادُ. ومنها: المَحبةُ للرئاسةِ، والميلُ إلى الدنيا والمفاخرةُ والمباهاةُ بها، والتشاغلُ بما فيه اللَّذَّةُ وما يدعو إلى الشَهْوَةِ، دون ما تُوجبُه الحُجَّةُ ويقضي به العقلُ والمعرفةُ، فعلى نحوِ هذا من الأسباب تَكونُ الآفةُ الصارفةُ عنه والموجبةُ منه. وينبغي لمن عَرفَ هذه الآفاتِ أن يَجتهِدَ في نَفْيِها وما شاكلَها، وَيتحرزَ منها ومن أمثالِها، فإن المضَرَّةَ بها عظيمةٌ، فمن عرفَها وتَحرَّزَ منها، بَصُر رُشْدَه وامنَ الزَّيغَ، نسألُ الله أن يُوفِّقَنا لصواب القولِ والعملِ برحمتِه. فصل فيما يجبُ على الخصمين في الجدل (¬1) اعلم أنه يجبُ لكلِّ واحدٍ منهما على صاحبه مثلُ الذي يجبُ للآخَرِ عليه: من الإِجمالِ في خطابه، وتركِ التَّقطيعِ لكلامه، والإِقبالِ عليه، وتركِ الصِّياحِ في وجهه، والتَّأملِ لِمَا يأتي به، والتجنُب للحِدَّةِ والضَّجرِ عليه، وتركِ الحَمْلِ له على جَحْدِ الضَّرورةِ ¬

_ (¬1) هذا المبحث ذكر الفتوحي في كتابه "شرح الكوكب المنير" 1/ 394 - 392 أنه نقله عن "الواضح" لابن عقيل.

- فصل في الغضب الذي يعتري في الجدل

إلا من حيثُ يَلزَمه ذاك بمذهبه، وتركِ الإِخراجِ له عن الحَدِّ الذي ينبغي أن يكونَ عليه في السؤال أو الجواب، وتركِ الاستصغارِ له، والاحتقارِ لِمَا يأتي به، إلا من حيثُ تُلزِمُه اَلحُجِّة إياه، والتَّنبيهِ (¬1) له عن ذلك إن بَدَرَ منه، أو مُناقَضَة إن ظَهَرَتْ في كلامه، وألا يُمانِعَه العبارةَ إذا أدَّتِ (¬2) المعنى وكان الغرضُ إنما هو في المعنى دونَ العبارة، وأن لا يَخرُجَ في عبارته عن العادةِ، وأن لا يُدخِلَ في كلامِه ما ليس منه، ولا يستعملَ ما يقتضي التَّعدَّيَ على خصمه -والتَّعدِّي: خروجُه عما يقتضيه السؤالُ والجوابُ -، ولا يَمنَعَه البناءَ على أصلِه، ولا يُشَنِّعَ ما ليس يُشنَّعُ من مذهبه، أو ما يعوذ عليه من الشَّناعةِ مثلُه، ولا يأخذَ عليه شرفَ المجلسِ للاستظهارِ عليه، ولا يستعملَ الِإبهامَ بما يخرُجُ عن حَدِّ الكلامِ. فصل في الغضب الذي يَعْتَرِي في الجدل اعلم أنه إذا دخلَ المُجادِلُ على توطين النَفسِ على الحِلْمِ عن بادِرَةٍ إن كانت من الخصمٍ، سَلِمَ من سَوْرةِ (¬3) الغَضَب، واعلم أن تلك البادرةَ لا يخلو أن تكون من رئيسٍ تَعرفُ له فضلَه، أو نظيرٍ تَغفِرُ له زَلَله، أو وضيع ترفعُ النفس عن مُشاغبتِه ومُقابلتِه، فإذا عَرَفْتَ ذلك ¬

_ (¬1) في الأصل وفي "شرح الكوكب المنير" 4/ 391: "التنبه". (¬2) في الأصلى: "أردت"، وصححناها كما في المتن، وهو الموافق للمثبت في "شرح الكوكب المنير" 4/ 392. (¬3) سَوْرَةُ الغضب: حِدَّته ووثوبه. "اللسان"، و "مختار الصحاح" (سور).

وَوطَّنْتَ (¬1) النفسَ عليه، سَلِمْتَ من سَوْرَةِ الغضبِ. واعلم أن في الغضب ظَفَرَ الخصمِ إذا كان سفِيهاً، والغالبُ بالسَّفَه (¬2) هو الأسفهُ، كما أَن الغالبَ بالعلم هو الأعلمُ، ولو لم يَكُنْ من شُؤْم الغضب إلا أنه عزلَ به عن القضاءِ، فقال الشارعُ عليه السلام: "لا يقضيَ القاضي حين يقضي وهو غضبانُ" (¬3)، [لكفى] (¬4). وكما أن القاضيَ يحتاجُ إلى صَحْوٍ من سُكْرِ الغضب، يَحتاجُ المناظرُ إلى ذلك؛ لأنهما سواء في الاحتياج إلى الاجتهاد، وأداةُ الاجتهادِ العقلُ، ولا رايَ لغضبانَ، فيعودُ الوَبالُ عليه عند الغضبِ بارتجاجِ طُرُقِ النظَرِ في وَجْهِهِ، وضلالِ رَأيِه عن قَصدهِ. فمن أوْلى الأشياءِ: التحفُّظُ من الغضب في النَّظَر والجدلِ؛ لِمَا فيه من العَيْب، ولأنه يَقطَعُ عن استيفاءِ اَلحُجَّةِ، والبيانِ عن حَلِّ الشبهةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وطنت" دون واو العطف. (¬2) في الأصل: "في السفه". (¬3) أخرجه أحمد 5/ 36 و38 و46 و 52، والبخاري (7158)، ومسلم (1717)، وأبو داود (3589)، وابن ماجه (2316)، والترمذي (1334)، والنسائي 8/ 237 - 238 و 247، وابن حبان (5063) و (5064) من حديث أبي كرة نفيع بن الحارث الثقفي. (¬4) ليست في الأصل.

- فصل في التقطيع على الخصم

فصل [ي التَّقطيعِ (¬1) على الخصم (¬2)] في التقطيعِ على الخصم في الجدل خروجٌ عن حكم الجدلِ؛ إذ كان لا سبيلَ له إلى فهم الشُبهةِ ليَحُلَّها والحُجَّةِ ليصِيرَ إليها إلا بالفهم، والتقطيعُ مانعٌ من الفهمِ والتَّفهُمِ، فلا ينبغي أن يَشغَلَه عما لاغنى له (¬3) عنه، كما لا يجوزُ له أن يُشَعِّثَ (¬4) عليه أداةً من أدواتِ كلامِه، وهو دونَ الفهمِ، فأوْلى أن لا يُشَغَثَ أداة الفهمِ. فصل في المُحببِ الكلام بحَضْرَتِه اعلم أنه لا ينبغي أن يُتكلَمَ في الجدل بحضرةِ مَنْ دأبُه التَلَهَي والهزْءُ والتَشفَي لعداوةٍ بينه وبين الخصمِ، ولا إذا كان مُتحفَظاً للمساوىءِ مُترصِّداً لها، والتحريف للقول، والتزيدُ فيه بما يُفسِدهُ، والمُباهَتَةُ، فإن الكلامَ مع هذا وبمحْضَرٍ (¬5) منه، يُعرِّضُ للهُجنَةِ (¬6) والخروجِ عن الطريقة والدِّيانةِ، ومتى لم تَكنِ المجالسُ مُحتشِمةِ تُقصِي سَفَهَ السفِيهِ وإدغالَ المُدغِلِ (¬7)؛ كَثُرَ الشَغْبُ والتعدِّي، ¬

_ (¬1) أي مقاطعته، انظر "الكافية" ص 545 - 546. (¬2) ليست في الأصل. (¬3) في الأصل: "به". (¬4) تَشْعِيثُ الشيء: تفريقه وتَنْكيثُه. "اللسان" (شعث). (¬5) في الأصل: "وبمحض"، وهو تحريف. (¬6) الهُجْنَة -بالضم- في الكلام: ما يَعِيبُهُ، والهُجْنَةُ في العلم: إضاعته. "القاموس المحيط" (هجن). (¬7) الدَّغَلُ -بالتحريك-: الفساد، وأدْغَلَ في الأمر: أدخل فيه ما يُفسِدُه =

- فصل في الرياضة والتذليل للجدل

واستطالَ السفيهُ، وتضاءلَ العالِمُ، وزالتِ الفائدةُ، ولم يَتحصَل المقصودُ. فصل في الرِّياضةِ والتَذليلِ للجدل اعلم أنه إذا كان في الرِّياضْةِ للبيان عن الحق استدعاءٌ إليه، وفي التعقيدِ وسُوءِ العبارةِ تنفير عنه؛ فواجبٌ على كلُّ حليم أرادَ البيانَ عن الذي يأتي به من الحق، والتنفيرَ عن الباطل الذي يأتي به الخصمُ، أن يستعملَ الرِّياضةَ حتى تَتذلَّلَ له العبارةُ وَيتسهَلَ له المُستوعِرُ منها. وحصولُ الرِّياضةِ بكثرةِ الدرسِ والمذاكرةِ، فهما الفاتحان لأبواب القَرائحِ، والناقبان (¬1) عن الأسْرارِ، والمُقَرِّبان (¬2) للدَّلالةِ على المعنى بالألفاظ الوجيزةِ والعبارةِ البليغةِ. فصل في ترتيب الخصومِ في الجدل (¬3) اعلم أنه لا يخلو الخصمُ في الجدل من أن يكونَ في طَبقَةِ خصمِه، أو أعلى، أو أدوَنَ. فإن كان في طبقته: كان قولُه له: الحق في هذا كذا دون كذا؛ ¬

_ = ويخالفه، ورجل مدْغِل: مفسد. "اللسان" (دغل). (¬1) في الأصل: "والنافيين" (¬2) في الأصل: "والمقربين". (¬3) هذا الفصل نقله الفتوحي بتمامه عن ابن عقيل في "شرح الكوكب المنير" 4/ 393 - 396.

من قِبَلِ كَيْتَ وكَيْتَ، ولأجل كذا، وعلى الآخَرِ: أن يتحرَّى له الموازنةَ في الخطاب، فذلك أسلَمُ للقلوب، وأنفَى لشغلِها عن ترتيب النَّظَرِ، فإن التَطفيفَ في الخطاب يُعمِي القلبَ عن فهم السؤالِ والجواَبِ. وإن كان أعلى منه: فلْيَتَحر (¬1) ويَجتَنِبَ القولَ له: هذا خطأٌ، أو غَلَطٌ، وليس كما تقولُ. بل يكونُ قولُه له: أرأيتَ إن قال قائلٌ: يَلزَمُ على ما ذكرتَ كذا، وإن (¬2) اعترضَ على ما ذكردت مُعترِضٌ بكذا؟. فإن نفوسَ الكرام الرؤساءِ المُقدَّمينَ تأبى خُشونةَ الكلامِ؛ إذ لا عادةَ لهم بذلك، وإذاَ نَفَرتِ النفوسُ، عَمِيَتِ القلوبُ، وجَمَدَتِ الخواطرُ، وانسدتْ أبوابُ الفوائد، فحُرمَ الكل الفوائدَ بسفَهِ السفيهِ، وتقصيرِ الجاهلِ في حقوق الصدورِ. وقد أدَّبَ اللهُ أنبياءَه [فى خطابهم] (¬3) للرؤساء من أعدائه، فقال لموسى وهارونَ في حق فِرْعَونَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] , سمعتُ بعضَ المشايخِ المُقدَمين في علومِ القرآنِ يقولُ: صيغةُ هذا القولِ اللَّيِّنِ في قوله سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 17 - 18]، وما ذلك إلا مراعاةً لقلبه؛ حتى لا يَنفِرَ بالقول الخَشِنِ عن فهم الخطاب، فكيف برئيسٍ يُقَدَمُ في العلم، تُطلَبُ فوائدهُ، وُيرجَى الخيرُ منَ إيرادِه، وما تَسْنَحُ به خواطرُه؟ فأحرى بنا أن نُذلِّلَ له العبارةَ، ونُوطَىءَ له جانبَ الجدالِ؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فليتحرا". (¬2) في الأصل: "إن" بدون واو، والمثبت هو الموافق لما في متن "شرح الكوكب المنير" 4/ 394. (¬3) سقطت من الأصل، واستدركناها من متن المرجع السابق 4/ 394.

- فصل في التحرز من المغالطة في الجدل

لتَنْهالَ فوائدُه انهيالًا. وفي الجملة والتفصيلِ: الأدبُ مِعْيارُ العقولِ ومعاملةُ الكرام، وسؤُ الآدب مقْطَعةٌ للخيرِ ومَدْمَغة للجاهلِ، فلا تتأخَّرُ إهانتُه، ولو لَم يَكُنْ إلا هِجَرانُه وحِرمانُه. وأما الأدْوَنُ: فيُكلَّمُ بكلام اللُّطْفِ والتفهيم، إلا أنه يجوزُ أن يقالَ له إذا أتى بالخطأ: هذا خطأ، وهذا غلط من قِبَلِ كذا؛ ليذوقَ مرارةَ سلوكِ الخطأ فيجتنِبَه، وحلاوةَ الصواب فيَتَّبعَه، ورياضةُ هذا واجبةٌ على العلماء، وتركُه سُدىً مَضرَّةٌ له، فإن عُوِّدَ الإِكرامَ الذي يَستحِقُّه الأعلى طبقةً، أخلَدَ إلى خطئِه، ولم يَزَعْه عن الغلط وازعٌ، ومَقامُ التعليمِ والتأديب تارةً بالعُنفِ، وتارةً باللُّطفِ، وسلوكُ أحدهما يَفوَتُ فائدةَ الآخَرِ، قَال الله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10]، وقيل في التفسير: إنه السائلُ عن العلومِ دون سؤالِ المالِ، وقيل: هو عامٌّ فيهما (¬1). فصل في التَحرُّزِ من المُغالَطَةِ في الجدلِ وهي على ضربين: أحدهما: الإِخراجُ عن السؤال أو الجواب، والآخر: الِإيقاعُ للاشتراكِ في الكلامِ على خلاف ما يَسبِقُ إلَى الأفهام، وفي التَّحرُّزِ من ذلك السلامة منه. وينبغي إذا عرف الخصم تحقق الجواب المطابق للسؤال، ثم رأى صاحبه قد زال عنه، دَله على أنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيها".

قد قصدَ لإحْواجه عن سؤاله، وأنه عدلَ لجهلِه بطريقة جوابِه. ولا بُدَّ للسائل من المطالبة بجوابه إذا رامَ المجيبُ إخراجَه عن سؤالِه، ومتى لم يَضبطْ ذلك، كان بمنزلة من طلبَ شيئاً فأْعطِي غيرَه، فلم يَحسُنْ أن يقولَ: ليس هذا طَلَبْتُ، وانما طلبت كَيْتَ وكَيْتَ. وأما المُشترَكُ: فينبغي أن يؤْتَى بعبارة تُوضِّحُه وتكشِفُ عن المراد به، وقال بعضُ علماءِ الأوائل: آفةُ الناس في الغلطِ المُشترَكُ، وإذا كان أحدُ المعنيَيْنِ فيه أظهرَ وَأسبق إلى النَفسِ، فهذا الذي لا يكادُ يسلَمُ فيه من الغلط، إذا كان المرادُ إنما هو المعنى الذي ليس بأسبقَ. ولا يخلو المُشتَرَكُ من أن يكونَ عارضاً أو لازماً: فالعارضُ: هو الذي يقعُ من أجل التَّغيُّرِ الجائزِ في الكلام؛ لأن كلَّ مُغيرٍ فللمعنى فيه عبارتان: إحداهما (¬1): على جهة التَّحقيقَ، والأخرى: على جهة التَّغييرِ، وإحداهما (1): على جهة الأصلِ، والأخرى: على جهة الفرعِ؛ ولذلك كان كلُّ مُغيرٍ مُشترَكاً. والمشترَكُ على جهة أحدِ الشيئين أو الأشياءِ لا يَحتاجُ إلى تفسيرٍ، كلَوْنٍ فإنه واحد من جملة الألوانِ على ذلك وضِعَ، وإنما يحتاجُ إلى التفسير ما كان من المشترَكِ على جهة البَدَلِ، كجاريةٍ إذا أُريدَ بها: السفينةَ أو المرأةَ، فهذا جنسٌ وهذا جنسٌ، واللَّونُ جنسٌ واحدٌ، وهو هيئة صابغةٌ ملتبسةٌ على الجسم، وإنما يحتاجُ إلى الفصل بين سوادٍ وحُمْرةٍ، والكلُّ لونٌ، والسفينةُ والجارية معلومٌ ما بينهما، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحديهما".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الوَاضِح في أصُولِ الفِقه 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان تلفاكس: 319039 - 815112 فاكس 603243 ص. ب: 117460 AL- Resalah PUBLISHERS BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039 fax: 603243 - P.O.Box: 117460 Email: [email protected]

القسم الثالث: مسائل الخلاف

فصل في مراتب الأدلَّةِ الشَّرعيةِ على الأحكام الفِقهيَّةِ اعلم أن الأصلَ في الدلالةِ والمبتدَأ به في أوَّلِ مراتِبها: كتابُ اللهِ تعالى، والدَّلالةُ على ذلك من طريقين: النطقِ، والاستنباطِ. فالنطقُ: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمُعاذٍ -رحمةُ اللهِ عليه- حيثُ بعثَه إلى اليمن قاضياً: "بمَ تَحكُمُ"؛ قال؛ بكتاب اللهِ، قال: "فإن لم تَجِدْ"؟ قال: بسُنةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تَجدْ"؛ قال: أجتهدُ رأي ثم لا آلُو (¬1)، فحَمِدَ اللهَ على توفيقه لذلك. ولو سكتَ عنه، لكان كافياً ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي (559)، وابن سعد في "الطبقات" 2/ 347 - 348، و) حمد 5/ 230 و236 و242، وعبدبن حميد (124)، والدارمي 1/ 60، وأبو داود (3592) و (3593)، والترمذي (1327) و (1328)، وابن حزم في "الإحكام" 7/ 111 و111 - 112، والبيهقي 10/ 114، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" 1/ 154 - 155 و 188 و 188 - 189، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" 2/ 55 - 56 و56 من طرق عن شعت نجن الحجاج، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. ووقع عند الطيالسي ومن رواه من طريقه: " .. عن أصحاب معاذ من أهل حمص -وقال مرة: عن معاذ-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم .... "، وجاء في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند ابن عبد البر في موضع: " .. الحارث بن عمرو، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن معاذ بن جبل .. ".

- دلالة الكتاب من وجهين: نص وظاهر

من حيثُ كونُه إقراراً. وإنما ابتُدىءَ بكتاب اللهِ تعالى؛ لأنه قَطْعِيٌ من جهة النَقْلِ المعصوم، ومن جهة الإِعجازِ المأمونِ معه التَحريفُ والزَيادةُ والنُقصانُ؛ إذ لا يَقبلُ غيرَه من الكلام، ولا يَختلِطُ به شيءٌ من القول المُتضمِّنِ للأحكامِ وغيرِ الأحكامِ، هذا تقديمٌ أوجَبَتْه قُوَّةُ الدَلالةِ. والثاني (¬1): أنه أفضلُ الأدلَّةِ؛ إذ كان كلاماً الله سبحانه. فصل ودَلالةُ الكتابِ الكريمِ من وجهين: نَصٍّ وظاهِرٍ. والعمومُ أحدُ قِسْمي الظاهرِ على قولِ مَنْ أثْبَتَ له صيغةً (¬2)، ومَنْ ¬

_ وإسناد هذا الحديث ضعيف. انظر كلام أهل العلم عليه مستوفى في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للشيخ الألباني 2/ 273 - 286. (¬1) أي الطريق الثاني للدلالة على أنه يبتدأ بكتاب الله سبحانه. (¬2) هذا مذهب جماعة الفقهاء، وجمهور الأصوليين والمتكلمين؛ فبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري، وعامة أصحابهم، وهو قول جماهير المعتزلة. انظر "المعتمد" 1/ 195، و "البرهان" 1/ 321، و "المستصفى" 2/ 36، و"إلِإحكام في أصول الأحكام " للآمدي 2/ 293، و "الوصول إلى الأصول" 1/ 206، و "البحر المحيط" 3/ 17 - 18، و"أصول السرخسي" 1/ 132، و"فواتح الرحموت" 1/ 260، و"العدة" 2/ 485 - 489، و"المسودة" ص 89، و "التمهيد" 2/ 6، و"منتهى الوصول والأمل" ص 75، و"إحكام الفصول" ص 133، و"الإحكام" لابن حزم 3/ 98، و"إرشاد الفحول" ص 115.

أثبتَ حُكْمَه بالقَرينةِ (¬1). ¬

_ (¬1) وهؤلاء فريقان: 1 - أصحاب الخصوص، الذين قالوا: إنه ليس للعموم صيغة تخصه، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع للخصوص، وهو أقل ما يتناوله اللفظ، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة. أو: إن هذه الصيغ حقيقة في الخصوص، ومجاز فيما عداه. وهذا الرأي ينسبه الأصوليون إلى أبي الحسن بن المنتاب من المالكية، ومحمدبن شجاع الثلجي من الحنفية، وحكي عن جماعة من المعتزلة. 2 - الواقفية، الذين قالوا: إنه ليس للعموم صيغ تقتضيه بمجردها، بل اللفظ فيها مشترك بين الواحد اقتصاراً عليه، وبين أقل الجمع فما فوقه اشتراكاً لفظياً، فيما يحمل من الصيغ على الواحد كـ "من، وما، وأي" ونحوها، وأما ألفاظ الجموع فهي مشتركة بين أقل الجمع وبين ما فوقه اشتراكاً لفظياً، ولا يجوز حمل أي منها على العموم أو غيره إلا بقرينة تدل على المراد بها. أو: إنا لا نعلم أوضعت هذه الصيغ للعموم أم لا؟ أو إنا نعلم أنها وضعت للعموم، ولكن لا ندري أحقيقة هي أم مجاز؟ مشتركة هي أم ظاهرة؟ فيجب التوقف فيها حتى يقوم الدليل على المقصود بها. والقول بالوقف مذهب أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبي جعفر السمناني، ووافقهم عليه محمد بن عيسى الملقب ببرغوث، وأحمد بن يحيى الراوندي من متكلمي المعتزلة. ونقل جماعة من الأصوليين القول بالاشتراك بين العموم والخصوص مبايناً للقول بالوقف، وحكوه مذهباً آخر لأبي الحسن الأشعري، والله أعلم. انظر "البرهان" 1/ 320 - 322، و"المعتمد" 1/ 194 - 195، و "المستصفى" 2/ 36 - 37، و"البحر المحيط" 3/ 17 و20 - 25، و"منتهى الوصول والأمل" ص 75، و"الوصول إلى الأصول" 1/ 206 - 207، و"الِإحكام" للآمدي 2/ 293 - 294، و"أصول السرخسي" 1/ 132، و "فواتح الرحموت" 1/ 260، و"الِإحكام" لابن حزم 3/ 97، و "إحكام الفصول" ص 133 و141، و"العدة" 2/ 489 - 490، =

وعَدَّه قومٌ وجهاً ثالثاً (¬1)، ولا وجهَ لذلك عندي؛ إذ كان العمومُ إنما يَدُل بظاهره، ولذلك يُصرَفُ عن شمولِه واستغراقِه إلى الخصوصِ بالدَّلالةِ التي يُصرَفُ بها عن وجوبِه إلى النَدْبِ، والنَّهيُ عن حَظْرِه إلى التَنزيهِ. فصل فأمَّا النَص: فهو النُطقُ الذي انتهى إلى غايةِ البيانِ، مأخوذٌ من مِنَصةِ العَرُوسِ، وقيل: ما استوى ظاهرُه وباطنُه، وقيل: ما عُرِفَ معناه من نطقِه، وقيل: ما لا يحتمِلُ التأويلَ (¬2). وأما عين النص: فقولُه: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الانعام: 151] وبينَتِ السُّنَة المستثنَى بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ دم امرِىءٍ مسلم إلا بإحدى ثلاثٍ: كفرٌ بعد إيمانٍ، أو زنىً بعد إِحْصانٍ، أو قتل نفس بغير نفسٍ" (¬3). ¬

_ = و"المسودة" ص 89، و"التمهيد" 2/ 6 - 7، و"إرشاد الفحول" ص 115 - 111. (¬1) انظر "شرح اللمع" 2/ 147. (¬2) أورد المصنف جميع هذه التعريفات في الصفحة (33) من الجزء الأول. (¬3) أخرجه الطيالسي (289)، وأحمد 1/ 382 و428 و 444 و 465 و6/ 181، والدارمي 218/ 2، والبخاري (6878)، ومسلم (1676) (25) و (26)، وأبو داود (4352)، وابن ماجه (2534)، والترمذي (1402)، والنسائي 7/ 90 - 91 و 8/ 13، وابن حبان (4407) (4408) (5976) (5977)، والدارقطني 3/ 82 و82 - 83، والبيهقي 8/ 19 و 194 - 195 و 202 و213 و283 - 284، والبغوي (2517)، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا =

- فصل في حكم النص

ومن النص أيضاً: قولُه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. فصل في حكمِ النَّصِّ وأما حكمُ النَّصِّ: فتَلقِّيهِ (¬1) بالاعتقادِ له والعملِ به، ولا يُترَكُ إلا بنص يُعارِضُه. فصل وهو (¬2) أعلى مراتب أدِلةِ الكتاب، كما أن الكتابَ أعلى مراتب الأدلةِ في الجُملةِ. فصل وعينُ الظاهرِ على ضَرْبينِ: ظاهر بوضعِ اللغة: كالأمرِ يَترجحُ إلى الإِيجاب مع احتمالِه النَدبَ، وكالنَهي يحتمِلُ التَحريمَ والكراهةَ والتَنزيهَ، وهو في التحريمِ أظهرُ، وإليهَ أمْيَلُ، وكسائرِ الألفاظِ المُحتمِلةِ (¬3) لمَعْنيين وهو في أحدِهما أظهرُ. ¬

_ = بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة". وفي الباب أيضاً عن عثمان بن عفان، وعائشة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. (¬1) في الاصل: "تلقيه"، والجادة ما أثبتناه؛ للزوم الفاء في جواب أما. (¬2) يريد: النص. (¬3) صورتها في الأصل: "المجملة"، وهو تحريف وانظر أيضاً ما تقدم في الصفحة (33 - 34) من الجزء الأول.

- فصل في حكم الظاهر

فصل في حُكْمِه [حكمُه] (¬1): أن يُحمَلَ على أظهرِ المَعْنيين، ولا يُحمَلَ على غيره إلا بدليلٍ. وأما الظاهرُ بوضعِ الشَرعِ، كالأسماءِ المنقولِة من اللغة إلى الشرعِ عند من أثبتَ النقلَ، كالصلاةِ نُقِلَتْ من الدُّعاءِ في اللُّغةِ إلى هذه الأفعالِ المخصوصةِ، والحَجُّ في اللغةِ: القَصْدُ، ونُقِلَ إلى هذه الأنْساكِ المخصوصةِ. والأشبهُ عندي: أنها مَزيدَة غيرُ منقولةٍ؛ لأن في الصلاة الشرعية دعاءً مًشترَطاً (¬2) على أصلنا، وهو ما تَتضمُه الفاتحةُ التى لا تَتِمُّ الصلاةُ إلا بها من قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وما تتضمَّنُه من دعاءِ التشهُّد، وهو واجب عندنا بما ثبتَ من الآثارِ (¬3). والحجُّ (¬4) وإن كان أفعالًا وأنساكاً، لكنْ لا بُدَّ لكل نُسُكٍ من قصدٍ إلى مكانِه، حتى المَكَيُّ لا يزالُ يَقصِدُ ما بين عَرَفاتٍ إلى مِنىً، إلى مَحلِّ الطَّوافِ والسعْيِ. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) بم في الأصل: "ومشترط". (¬3) انظر "المغني" (2/ 226 - 227). (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "الحجج".

فبَقِيَتِ الصلاةُ دعاءً في أفعال، والحجُّ قصداً (¬1) إلى مَحالِّ أنساكٍ، فما خرجَ الدعاءُ والقصد عن أصلهما، ولا استحالا عن معناهما. وكذلك النِّكاح: الجمع، وهو على الجمع في الوَطْءِ لجمع الذَّاتَيْنِ، وفي العَقْدِ لجمعِ الشَّمْلِ المفضي إلى الجمع بين الزَّوجَيْنِ، فأين النقل مع هذه الحالِ؟ فإن قيل: مع ما ذكرْتَ من الِإبقاءِ على حقائقِ الأسماءِ فيما ذكرْتَ، فلا بُدَّ من نقلٍ؛ لأن اسمَ الصلاةِ كان لمَحْضِ الدُّعاءِ، وهو الرَّغْبَةُ إلى الله سبحانه والسؤالُ له، وصار واقعاً على ركوعٍ وسجودٍ وليس بدعاءٍ، فقد نقِلَ، ألا ترى أنّا كنا نسلُبُ الاسمَ عن القراءةِ والقيام والرُّكوعِ إذا سُئِلْنا عنه: هل هو دعاء؟ فنقول: لا، وإن قيل لنا: هلَ هو صلاة؟ فقلنا: لا، فلمّا جاءَ الشرع، قلنا: إنه صلاةٌ وليس بدعاءٍ، وخَصَّصْنا قولَه: "رَبِّ اغْفِرْ لي"، "اللهم صلِّ على محمَّدٍ وآلِ محمدٍ"، بأنه صلاة شرعيَّةٌ ودعاءٌ، فقد تحقَّقَ النقلُ في الأفعال؛ حيثُ صار في الشرع صلاةً وليس بدعاءٍ، بعدَ أن لم يَكُنْ صلاةً في اللُّغةِ ولا دعاءً. قيل: يجوزُ أن يكونَ الاسم اقتصرَ على الأْفعال؛ لأنها أحوالٌ للراغب الطالب، والخضوعُ بهذه الأفعالِ المخصوصةِ بين ركوعٍ وسجودٍ إنما يثبت على طلب الإِثابةِ من الله والرَّحمة، فغَلَبَ فيها اسمُ القصدِ بها، واقتصرَ على الأَفعالِ التابعةِ للطلبِ والرغبةِ، وهو الدعاءُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "قصد".

- فصل في حكم المختلف في نقله وتبقيته

لفظاً ومعنىً، كما أن المُحارِبَ يُسَمى بالمِحْراب (¬1) حالَ مُجاوَلَتِه (¬2) في الكَرِّ والفرِّ، والواطىء يُسَمَّى مُجامِعاً حالَ الإيلاجِ والنزْعِ، وبين الكَرِّ والفَرِّ تضادٌّ، وبين الإيلاج والنَّزعِ تضادٌّ، لكنْ لَما كان مُعتاداً في الفِعْلينِ، اقتصرَ عليه حكمُ الاسمين، كذلك الخضوعُ من الراغب الدَاعي تابعٌ لدعائِه، إذ لا مقصودَ له في ذلك إلا طلبُ ثمرِ ذلكَ الخضوعِ، وهو الإثابةُ والجزاءُ على التضرُّعِ، والدعاءُ عنوانُ قصدِه، وحكايةُ ما في نَفْسِه. فصل وحكمُ هذا المُختلَفِ في نقله وتبقيتِه: أن يُحمَلَ على ما نُقِلَ إليه أو ضُمَّ إليه على الخلاف المعروفِ، ولا يُحمَلَ على غيره، ولا يَبْقى على مُجرَّدِ أصلِه من غير الزِّيادةِ إلا بدَلالةٍ. ولأصحاب الشافعي -رحمةُ الله عليه- في النقلِ وجهان، وسأذكرُهما (¬3) في الخلافِ إن شاء الله (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالحراب"، ولعلها محرفة عن: "بالمِحْراب"، فإنه يقال: رجل محْراب: أي شديد الحرب شجاع، أو صاحب حرب. (¬2) يقال: جال: إذا ذهب وجاء، ومنه: الجَوَلان في الحرب، وجال القوم جَوْلَةً: إذا انكشفوا ثمً كَروا. "اللسان" (جول). (¬3) في الأصل: "وساذكرها"، والأنسب بالمقام ما أثبتنا. (¬4) انظر الصفحة 422 وما بعدها من هذا الجزء.

- فصل: العموم على قول من أثبته صيغة من جملة الظاهر

فصل والعمومُ على قول مَنْ اثْبَته صيغةً من جُملةِ الظاهرِ، وقد قدمنا حَدَّه (¬1). فأمَّا عينُه في الإثبات: فكقوله سبحانه: {فاقْتُلوا المُشْركين} [التوبة: 5]، وقولِ النَبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَلَ دينَه فاقتلُوه" (¬2)، وسائرِ أَسماءِ الجُموعِ، وفي النفْيِ في النَكِراتِ: "لا يُقتَلُ مُسلِم بكافر" (¬3)، "لا نَذْرَ في مَعْصِيةِ اللهِ" (¬4). فحكمً هذا: اعتقادُ حكمِ عمومِه إثباتاً ونفياً، ولا يُخَص شيء منه ¬

_ (¬1) انظر الصفحة (34) من الجزء الأول. (¬2) سلف تخريجه في الصفحة (39) من الجزء الأول. (¬3) أخرجه ضمن حديث مطول عبد الرزاق في "المصنف" (18508)، وأحمد 1/ 79 و 122، والدارمي 2/ 190، والبخاري (111) و (3047) و (6903) و (6915)، وأبو داود (4530)، وابن ماجه (2658) والترمذي (1412)، والنسائي 8/ 19 و19 - 20 و23 - 24 و24، وابن الجارود (794)، والطحاوي في "شرح معاني الأثار" 3/ 192، والبيهقي 8/ 28 و28 - 29 و29 من حديث علي بن أبي طالب. وفي الباب أيضاً عن عبد الله بن عمرو، وابن عمر، وابن عباس. (¬4) أخرجه أحمد 4/ 430 و433 - 434، ومسلم (1641)، وأبو داود (3316)، وابن ماجه (2124)، والنسائي 7/ 19 و27 - 28 و28 و29 و30، والبيهقي 10/ 68 - 69 و70 من حديث عمران بن حصين. وأخرجه أحمد 6/ 247، وأبو داود (3290) و (3291) و (3292)، وابن ماجه (2124)، والترمذي (1524)، والنسائي 7/ 26 و26 - 27 و27، والبيهقي 10/ 69 من حديث عائشة.

- هل الاسم المفرد المعرف بالألف واللام من ألفاظ العموم؟

إلا بدَلالةٍ صالحةٍ لتخصيص العمومِ، على الخلاف الذي نذكرُه إن شاءَ اللهُ في مسائل الخلافِ (¬1). فصل وأما الاسمُ المُفرَدُ إذا عُرِّفَ بالألفِ واللَّامِ، كالرجلِ، والمسلمِ، والمشركِ: فقد اخْتلَف فيه أهلُ الجدلِ: فمنهم: من جعلَه من ألفاظ العمومِ. ومنهم: من أخرجَه من العمومِ. والأشْبَهُ: أنه من ألفاظ العموم (¬2)؛ إذ كان دخولُها لإِعادة التَّسميةِ إلى مذكورٍ، مثل قولِنا: دخلتُ السُّوقَ فرأيتُ رجلَاً، ثم عُدْتُ فرأيتُ الرَّجلَ، وليس ذلك في الابتداءِ، فلم يعمَلْ دخولها إلا إعادةَ الاسمِ إلى جنسِ الرِّجالِ والنَساءِ. فصل ومن أعْيانِ ألفاظِ العموم: الأسماء المُبْهَمةُ، كـ "منْ" فيمن يَعقِلُ، و"ما" فيما لا يعقِلُ، و"أيّ" فيَ الجميعِ، و"أين" في المكانِ، و"متى" في الزَّمانِ، فذلك كلُّه من ألفاظ العمومِ. وحُكْمُه: أن يُحمَلَ على عمومه إلأ أن يَخُصَّه دليلٌ، فيخرج عنه ما خَصَّه الدليلُ (¬3). ¬

_ (¬1) في الجزء الأخير من الكتاب. (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة (35) من الجزء الأول. (¬3) انظر أيضاً ما تقدم في الصفحة (36) من الجزء الأول.

*المرتبة الثانية: السنة

فصل في المَرْتَبةِ الثانيةِ من أدِلَّةِ الأحكامِ الشرعيةِ، وهي: السنَةُ. وهي ثلاثُ مراتبَ: فالأُولى منها: القولُ، وهو مُنقسِمٌ قِسْمَينِ: مُبتدأٌ، وخارج على سببٍ. فالأوَّلُ: المُبتدأ: وهو مُنقسِم قسمين: نَصٌّ، وظاهرٌ، ومن جملةِ الظاهرِ: العمومُ، على ما بيَّنَّا في الكتابِ (¬1). فصل فأمَّا النصُّ: فكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الرقَةِ رُبْعُ العُشْرِ" (¬2)، "فيما سَقَتِ السماءُ العُشْرُ" (¬3)، "في أرْبَعينَ شاةً شاةٌ" (2). وحكمُ ذلك: إيجابُ تَلَقَيهِ باعتقادِ وجوبِه والعمل به، ولا يُترَكُ إلا بنصٍّ يُعارِضُه، ونسخٍ يَرفَعُ حكمَه. والظَّاهرُ: كقوله صلى الله عليه وسلم لأسماءَ في دم الحَيْضِ: "حُتِّيهِ، ثم اقْرُصِيهِ، ثم اغْسِليهِ بالماءِ" (¬4)، يُحمَلُ على الوجوبِ، ولا يُصرَفُ إلى الاستحباب إلا بدليلٍ. ¬

_ (¬1) راجع لذلك ما سلف في الصفحة (38) من الجزء الأول. (¬2) هو جزء من حديث أنس رضي الله عنه في الصدقات، وقد سبق تخريجه في الصفحة (37) من الجزء الأول. (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 189. (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة (38) من الجزء الأول.

والعمومُ: كقوله صلى الله عليه وسلم:" ليس في المال حَقٌّ سوى الزَّكاةِ" (¬1)، "ليس للمَرْءِ إلا ما طابَتْ به نفسُ إمامِه" (¬2)، فيَعُمُّ سائرَ الحقوقِ إلا ما خَصَّه الدليلُ من الغراماتِ والكَفاراتِ والدِّيَاتِ. ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه (1789) عن علي بن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي حمزة -وهو ميمون الأعور-، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس مرفوعاً. وقد خالف عليّ بن محمد أبو كريب محمد بن العلاء فرواه عند الطبري في "التفسير" (2527) عن يحيى بن آدم، بهذا الإسناد، فقال فيه:، إن في المال حقاً سَوى الزكاة". وهو الصواب، فقد رواه بهذا اللفظ الترمذي (654)، والبيهقي 4/ 84 من طريق الأسود بن عامر شاذان، والدارمي 1/ 385، وعنه الترمذي (655) عن محمد بن الطفيل، والطبري (2530) من طريق أسد بن موسى، والدارقطني 2/ 125 من طريق بشر بن الوليد ومنصوربن أبي مزاحم، خمستهم عن شريك بن عبد الكه النخعي، به. والحديث إسناده ضعيف، قال الترمذي: ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان واسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح. قلت: ورواية إسماعيل بن سالم خرجها الطبري في" تفسيره" (2525)، وإسماعيل هذا ثقة، وإسناد الطبري إليه صحيح. وقال البيهقي: هذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور، كوفي، وقد جرحه أحمدبن حنبل ويحيى بن معين فمن بعدهما من حفاظ الحديث. قلت: وفي إسناد الحديث علة أخرى غير أبي حمزة لم يشر إليها الترمذي ولا البيهقي وهي سؤ حفظ شريك بن عبد الله النخعي. (¬2) لم نجد هذا الحديث.

فصل وأما القِسْمُ الثاني -وهو الخارجُ على سببٍ-: فمُنقسِم قسمين: مُستَقل دون السبَبِ: كما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: "إنك تَتَوضأ من بئرِ بُضاعَةَ، وهي تُطرَح فيها المحائضُ ولحومُ الكلاب وما يُنجي (¬1) الناسُ، قال: "الماءُ طَهُورٌ لا يُنجسُه شيء إلا ما غَير طعْمَه أو ريحَه" (¬2)، فحكمُ هذا في استقلاله بنفسه حكمُ القولِ المُبتدإ، وقد سَبقَ بيانُه وانقسامُه. وقد ذهب بعضُ الفقهاءِ من أصحاب الشافعي إلى أنه يُقصَرُ على السبب الذي ورَدَ فيه (¬3)، وليس بصحيحٍ؛ لأنه سُئِلَ - صلى الله عليه وسلم - عن بئرٍ ¬

_ (¬1) في الأصل: (يتنجى). (¬2) سبق تخريجه في الصفحة (39) من الجزء الأول. (¬3) هو اختيار إسماعيل بن يحيى المزني، وأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأبي بكر محمد بن محمد الدقاق من أصحاب الشافعي كما عزاه اليهم غير واحد، بل إن إمام الحرمين نسبه إلى الإمام الشافعي نفسه، فقال في "البرهان": فالذي صح عندنا من مذهب الشافعي اختصاصها به. يعني: اختصاص صيغة العموم بالسبب الوارد بها، وتابعه على هذا النقل الرازي في "المحصول"، والأمدي في "الإحكام"، لكن حقق كثير من أئمة الشافعية أن الصحيح من مذهب الشافعي خلافه: وهو أن اللفظ العام المستقل بنفسه الوارد على سبب خاص من سؤال أو واقعة، يجب حمله على عمومه، كما نقل ذلك الزركشي في "البحر المحيط" -ورجحه- عن الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، والماوردي، وابن برهان في "الأوسط". والرازي في "مناقب الشافعي"، وذكر عن ابن السمعاني في" القواطع": أن عامة الأصحاب يسنده الى الشافعي. ورجحه أيضاً الإسنوي في "نهاية السول"،

بعَيْنِها، فعَدَل عن ذِكْرِ مائِها المخصوصِ بها، وأجابَ عن الماء الذي هو أصل، فدَل ذلك على أنه أرادَ بيانَ حكمِ الماءِ، ولم يُرِدْ بيانَ حكم يَختصُّ البئرَ؛ لأن السؤالَ مخصوصٌ، وجوابه عائم، فكان الاعتبار بنطقِه العامَ، دونَ سؤالِ السائلِ الخاصَ، لاسِيما والنبيُّ [صلى الله عليه وسلم]، أخرجَ جَوابه بخلاف سؤالِ السائلِ، ولا يَفعَل ذلك إلا لغَرض صحيح، وهو: إفادةُ حكمِ ما سألَ عنه وما لم يسألْ عنه، ولا تَسقط فائدةُ لفَظِ الشارع نظراً إلى اقتصار السائلِ في سؤاله عن بعض المياهِ، والشارع عليه الَسلام عم بالحكم جميعَ المياهِ. والقسم الثاني من الخارج على السَّبَب: ما لا يَستقِل بنفسه دونَ السببِ، مثلُ ما رُويَ عن السائل عن لَطْم (¬1) أمَتِه الرَّاعِيَةِ؛ حيثُ أكلَ الذئب شاةً من غنَمِه، وأنه أخَذهُ ما يأخذَ الرجلَ على تَلَفِ مالِه (¬2)، ¬

_ = وتاج الدين السبكي في "الِإبهاج". انظر "البرهان" 1/ 372 - 373، و "اللمع" ص 38، و"البحر المحيط" 2/ 203 - 210، و"الإحكام" 2/ 347، و"المحصول" 3/ 125، و" الإبهاج في شرح المنهاج" 2/ 184 - 186، و"نهاية السول" 2/ 476 - 480. (¬1) في الأصل: "قتل"، وورد في هامشه: "كذا في الأصل، صوابه: لطم". (¬2) أخرجه الطيالسي (1105)، وابن أبي شيبة 11/ 19 - 20، وأحمد 45/ 447 و 448، ومسلم (537) (33)، وأبو داود (930) و (3282)، والنسائي 3/ 14 - 18، وابن حبان (165)، والبيهقي 10/ 57 من حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: كانت لي غنيمة ترعاها جارية لي في قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم وقد ذهب الذئب منها بشاة، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتها صكة، فعظم ذلك علي، فاتيت =

وما رُويَ أن أعرابياً قال له: جامَعْتُ امرأتي في نهار رمضانَ (¬1)، فقال لكلِّ واحدٍ منهما: "أعْتِقْ رَقَبَةً"، فيصيرُ قولُه - صلى الله عليه وسلم - مع سؤالِ السائل كالقولِ الواحدِ، فتقديرُه: أعتِقْ رقبةً إذا لَطَمْتَ (¬2) أمَتَك، وأعتِقْ رقبةً، إذا جامعْتَ في نهار رمضانَ زوجتَك. فصل ومن جُملةِ أقسامِ السنةِ: فعلُ النبى - صلى الله عليه وسلم -، وهو منقسِمٌ قسْمينِ: أحدُهما: ما فَعَلَه على غير وجهِ القُرْبةِ، كالأكلِ، والشُرْبِ، والمَشْيِ (¬3): فيَدُلك ذلك على الإباحةِ والجوازِ؛ لأنه لا يَفعلُ ما نُهِيَ ¬

_ = رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: أفلا أعتقها؛ قال: "ائتني بها" فأتيته بها، فقال: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:" أعتقها فإنها مؤمنة". (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة (40) من الجزء الأول. (¬2) في الأصل: "قتلت". (¬3) عامة أهل العلم على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم الجبلية الصادرة بمقتضى طبيعته صلى الله عليه وسلم والتي ليست على وجه القربة، كالقيام والقعود والأكل والشرب والمشي وغيرها، تدل على الإباحة له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، وهو المشهور، المحكي في كتب الأصول الاتفاق عليه وعدم المنازعة فيه، لكن نقل القاضي أبو بكر الباقلاني عن قوم ولم يعينهم أنه مندوب، وحكى الباجي في "إحكام الفصول" أنه مذهب لبعض المالكية، وتابعه عليه القرافي في "شرح تنقيح الفصول". واشتهر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يتتبع مثل هذا ويقتدي به، كما هو منقول عنه في كتب السنة المطهرة. انظر "الإحكام" 1/ 247، و"نهاية السول" 3/ 17، و"سلم الوصول" 3/ 17، و"البحر المحيط " 4/ 177، و"التلويح على التوضيح" 2/ 14، و"التقرير والتحبير" 2/ 302، و"فواتح =

عنه، وهذا يَصفُو دليلاً على الإباحة، ويَخلُصُ دليلاً على الجواز في حق مَنْ قال بعصْمَتِه - صلى الله عليه وسلم - من الخَطَا، فتقعُ أفعالُه كلها من هذا القبيلِ مُباحَةً، ومُبِيحةً لأُمَّتِه، وهم المعتزلةُ والإماميةُ. فأمَّا على قول أهلِ السُّنةِ، وهو مذهبُنا: فإنه لا تقعُ منه هذه الأفعالُ دالَّةً على الإباحة إلا مشروطةً بأن لا يَتعقبَها مَعْتبةٌ من الله، أو استغفارٌ منه واستدراك؛ حيثُ كان لا يُقَر على الخطإ، على قول من جَوزَ عليه الخطأ، وهذا ملحوظٌ في هذا الفصلِ على مَنْ أغفلَه، مُستدرَك على مَنْ أهْمَلَه، بل أطلقَ القولَ إطلاقاً. ونَكشِفُ ذلك بمثال قد كان منه - صلى الله عليه وسلم -، وهو أنه استغفرَ للمُشركينَ، وقامَ على قبور المُنافِقينَ، حتى قال الله سبحانه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فلو أن قائلًا قال بإباحةِ ما قالَهَ من الاستغفارِ للمشركين، والصلاةِ والقيامِ على قبور المنافقين، لكان مبادراً بإباحة ما لم يَكُ مباحاً، فلا بُدَّ من هذا القَيْدِ مع تجويزِ الخطأ عليه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه إنما يَدُلُّ على الإباحة إذا أقِر عليه، ولم تَأتِ لائمةٌ من الله سبحانه على ما قالَه أو فعلَه، فحينئذٍ يصيرُ دَلالةً على الجوازِ. وأما القسمُ الثاني من فعلِه - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما فعلَه على وجه القُرْبَةِ: فهو على ثلاثة أضْرُبٍ: ¬

_ = الرحموت" 2/ 180، و"شرح تنقيح الفصول" ص 288، و"منتهى الوصول" ص 34 - 35، و"إحكام الفصول" ص 223، و"العدة" 3/ 734، " و" شرح الكوكب المنير" 2/ 178 - 179، و"إرشاد الفحول" ص 35.

- الثاني: الفعل

أحدها: أن يكونَ امتثالًا لأمرٍ، فانْظُرْ في ذلك الأمرِ: فإن كان أمراً مُطلَقاً أو مُقَيداً بالإيجاب: فذلك الفعلُ منه واجب، وانما كان كذلك؛ لأن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُهَمِلُ أمراً اتجَهَ نحوَه من الله سبحانه، فالظاهرُ من فعله أنه امتثالٌ للأمرِ بتلك القُرْبَةِ على الوجه الذي أمِرَ بها. وإن كان الأمرُ نَدْباً: كان فعلُه نَدْباً؛ لأن الظاهرَ من حاله - صلى الله عليه وسلم - امتثالُ الأمرِ بحَسَبه، وعلى الوجه الذي أمِرَ به؛ لأن إيجابَ اتباعِنا له مَبْنِيٌّ على اتباعهَ لِمَا أمِرَ به وأُوحِيَ إليه. فصل وإن كان فعلُه بياناً لمُجمَل (¬1): فيُعتبرُ بالمُبينِ؛ فإن كان واجباً فهو واجبٌ، وان كان نَدْباً فهو نَدْب (¬2)، وإنما كان كذلك؛ لأن البيانَ لا يَعدُو رُتْبَةَ المبينِ، ومتى عداه لم يكُ بياناً؛ لأن البيانَ ما انطبقَ على المُبينِ، كالتفسير ينطبقُ على المُفسرِ، والتعبيرِ بحَسَبِ المعبرِ. ¬

_ (¬1) هو الضرب الثاني من فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي على وجه القربة حسب ترتيب المصنف. (¬2) وان كان مباحاً، فهو مباح. وعلى هذ اتفاق كلمة الأصوليين. انظر "البرهان" 1/ 448، و"الإحكام" 1/ 247 - 248، و"البحر المحيط" 4/ 180، و"إحكام الفصول" ص 223، و"التقرير والتحبير" 2/ 302 - 303، و"منتهى الوصول" ص 35، و"شرح تنقيح الفصول" ص 288، و"إرشاد الفحول" ص 36، و"العدة" 3/ 734 - 735، و"المستصفى" 2/ 214، و"فواتح الرحموت" 2/ 180، و"نهاية السول" 3/ 17 - 18، و"مناهج العقول" 2/ 274 - 275.

- حكم فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مبتدأ

وحكمُه: أن يُعمَلَ به وُيصارَ إليه، ولا يُترَكَ ظاهرُه إلا بدَلالةٍ. فصل وإن كان مُبتدأً (¬1): ففيه ثلاثةُ مذاهبَ: أحدها: يقتضي الوجوبَ، وهو مذهبُ أصحابنا (¬2) وبعض أصحاب الشافعى (¬3)، وسيجىء ذكرهُ مُستوفى في مسائلَ الخلافِ إن ¬

_ (¬1) هو الضرب الثالث من فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي على وجه القربة. (¬2) ذكر القاضي أبو يعلى في "العدة": أنها إحدى روايتين عن الِإمام أحمد، واختارها في مقدمة "المجرد"، وحكى في"القولين" عن الحسن بن حامد القول بها، واختارها أيضاً محمد بن علي الحلواني، وقطع بها محمد بن أحمد ابن أبي موسى الهاشمي في "الإِرشاد" من غير خلاف. والرواية الثانية: القول بالندب، ذكرها القاضي في "العدة"، وقال: هي اختيار أبي الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي، واختارها أيضاً فخرالدين إسماعيل بن علي المأموني، ونسب المجد ابن تيمية اختيارها إلى القاضي أبي يعلى في مقدمة "المجرد" مع أنه عزى إليه اختيار رواية الوجوب كما ذكرنا. وهناك رواية ثالثة ذكرها أبو الخطاب في "التمهيد" -ورجحها-، وهي القول بالوقف، عند الكلام على فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي لم تعلم جهته، ولم يقيده بكونه على سبيل القربة مع أنه أجرى الاختلاف في الرواية نفسها فيه؛ وقد روي عن أحمد ما يدل على أنه يقتضي الوقف، حتى يعلم على أي وجه فعل ذلك، عن وجوب أو ندب أو إباحة. وعزى اختيارها إلى أبي الحسن التميمي، وهو خلاف ما نسبه إليه القاضي. انظر "العدة" 3/ 735 - 737، و"المسودة" ص 187 - 188، و"التمهيد" 2/ 317 - 318، و" شرح الكوكب المنير" 2/ 187 - 189. (¬3) انظر "البرهان"1/ 488 - 489، و " الإحكام" 1/ 248، و "البحر المحيط" 4/ 181.

شاءَ الله (¬1)، ولا يُصرَفُ عن ظاهره إلا بدليلٍ، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - القدْوةُ، وفي فعلِه الأسْوة، وهو المأمورُ باتَباعِه، لقوله تعالى: لقَدْ كانَ لكُمْ في رَسُولِ اللهِ أسْوَة حَسَنة [الأحزاب: 21]، وقال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]، فلو لم يكُنْ فعلُه دليلًا لنا، لمَا زال الحَرج بفعلِه عنا، وكذلك لما سُئلَ عن الغُسْلِ قال: "أما أنا فيكفيني أن احْثوَ على رأسي ثلاثَ حَثَياتٍ من ماءٍ" (¬2)، وقال: "إنما أنْسَى لأسن" (¬3)، ولَمَّا خلعَ النَّعلَ خَلَعُوا (¬4). ¬

_ (¬1) في الجزء الرابع، الصفحة 111. (¬2) أخرجه أحمد 4/ 81 و84 و 85، والبخاري (254)، ومسلم (327)، وأبو داود (239)، وابن ماجه (575)، والنسائي 1/ 135 و 207، والبيهقي 1/ 176 من حديث جبيربن مطعم قال: تماروا في الغسل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -،" فقال بعض القوم: أما أنا فإني أغسل رأسي كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أما أنا فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف". وفي الباب أيضاً عن جابر بن عبد الله، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. (¬3) روى مالك في "الموطأ" 1/ 100: أنه بلغه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأنْسى أو أنس لأَسُنَّ". قال ابن عبد البر في "التمهيد" 24/ 375: هذا الحديث بهذا اللفظ، فلا أعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة في" الموطأ" التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، والله أعلم، ومعناه صحيح في الأصول ... (¬4) رواه الطيالسي (2154)، وعبد الرزاق (1516)، وابن أبي شيبة 2/ 417، =

- الثالث: الإقرار

وإذا ثبتَ هذا فلا يُصرَفُ عن الوجوب إلا بدَلالةٍ توجبُ تخصيصَه بذلك. والثاني من المذاهب: يقتضي النَدْبَ؛ لأنه قد بلغَ مَبْلَغَ القُرَبِ، وتَرددَ بين أن يكونَ خاصاً له وبين أن يكونَ عامَّاً لنا، فأعطَيْناهُ أدنى مراتبِ القُرَبِ، وهو النَدْبُ، ولم نَرْتَقِ إلى ما أعلى منه إلا بدليلٍ. والثالثُ: أنه على الوَقْفِ، لترددِه بين تخصيصِه - صلى الله عليه وسلم - وبين تشريعِه، فوقَفْنا حتى يَبينَ من أيَ القِبيلَيْنِ هو، وليس له صيغةٌ تقتضي إيجاباً ولا نَدْباً. فصل في الثالث من مراتبِ السنةِ وأقسامِها الِإقْرارً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لآحادِ أُمَّتِه على قول يسمعُه فلا يُنكِرُه، أو فعلٍ يراهُ فلا يَنْهى عنه، فيكونُ إقرارُه عليه في حكمِ تَجْويزِه له بصريح القولِ؛ لأنه كما لا يُقَرُّ هو على الخطإِ لا يجوزُ له إقرارُ أُمتِه على الخطإِ. ¬

_ وأحمد 3/ 20 و92، والدارمي 1/ 320، وأبو داود (650)، وأبو يعلى (1194)، وابن خزيمة (1017)، وابن حبان (2185)، والحاكم 1/ 260، والبيهقي 2/ 431، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي عن أبي سعيد الخدري، قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما صلى خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فخلع القوم نعالهم، فلما قضى صلاته قال: "مالكم خلعتم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، قال: "إني لم أخلعهما من بأس، ولكن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً، فإذا أتى أحدكم المسجد، فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى، فليمسحه".

- الإقرار على القول

فالإقرار على القولِ: مثلُ قولِ أبي بكرٍ بمحْضَرٍ منه لماعِزٍ: إن أقَررْتَ أربعاً رجَمَكَ رسولُ الله (¬1)، فهو كقوله لماعِزٍ: إن اقرَرْتَ أربعاً رجمتُك. ألا تراه لم يَتجاوزْ عن قول الخطيب: من يطعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشِد، ومن يَعصِهما فقد غَوَى، بل قال له: "بئس الخطيبُ أنت، أسِيَّانِ هما؟ قل: ومن يعصِ اللهَ ورسولَه فقد غَوى" (¬2)، فأقَرة على الجمعِ بين اسمِ اللهِ واسمِه بالواو، وهي للجمع، ولم يُقِرة على التَّثْنيةِ في "يعصِهما" (¬3) حسبَ ما جاءَ به الكتابُ العزيزُ: {والله ورسولُه أحقُّ أن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، ولم يَقُلْ: يُرضُوهما. وكذلك لما سمعَ رجلًا يقولُ: الرجل يجدُ مع امرأتِه رجلًا؛ إن قتلَ قتلتُموه وإن تكلمَ جَلَدتُموه، وإن سكتَ سكتَ على غَيْطٍ، أم كيف يَصنع (¬4)؟ فلم يُنكِرْ عليه ذلك، فكان إقراراً له على ذلك، فكأنه قال: إن قتلتَ قَتلتك، وإن تَكلَّمتَ بالقَذْفِ جلدتُك، وإن سكتَّ فاسْكُتْ على غيظٍ منك. ¬

_ (¬1) سلف تخريجه في الصفحة (41) من الجزء الأول. (¬2) رواه أحمد 4/ 256 و379، ومسلم (870)، وأبو داود (1099) و (4981)، والنسائي 6/ 90، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3318)، وابن حبان (2798)، والحاكم 1/ 289 من حديث عدي بن حاتم. وليس عندهم جيمعاً: "أسيان هما؟ ". (¬3) في الأصل: "يعصيهما". (¬4) راجع تخريجه في الصفحة (41) من الجزء الأول.

وإلى أمثال ذلك من إقراره لهم (¬1) على اعتراضاتِهم عليه - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله، كقولهم: نَهَيْتَنا عن الوِصالِ وواصَلْتَ، ما بالُنا نَقصُرُ وقد أمِنَّا؟، دعاكَ قوم فأجبْتَ، ودعاكَ قومٌ فلم تُجِبْ، أمَرْتنا بالفسخِ ولم تَفْسَخْ، فاعتذر عن كلِّ اعتراضٍ منهم بعُذْرٍ، فقال في الوِصالِ: "لستُ كاحدِكم" (¬2)، وقال في القصْرِ: "صدقةٌ تَصدَّقَ بها اللهُ عليكم، فاقبلوا صدقتَه" (¬3)، وقال في الفسخِ: "إني قلَّدْتُ هَدْيي ولَبدْتُ رأسي، فلا أحِل حتى أنْحَر" (¬4)، وقال في الزيارةِ: "إن في بيتِ فُلانٍ ¬

_ (¬1) في الأصل: "له" بضمير الِإفراد، والصواب ما أثبتناه. (¬2) رواه ابن أبي شيبة 3/ 82، وأحمد 3/ 124 و173 و193 و 202 و 218 و235 و247 و253 و276 و289، والد ارمي 2/ 8، والبخاري (1961) و (7241)، ومسلم (1104)، والترمذي (778)، وابن حبان (3574) و (3579)، والبيهقي 4/ 282 من حديث أنس بن مالك. وفي الباب عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعائشة رضي الله عنهم. (¬3) أخرجه أحمد 1/ 25 و36، والدارمي 4/ 351، ومسلم (686)، وأبو داود (1199) و (1200)، وابن ماجه (1065)، والترمذي (3034)، والنسائي 3/ 116 - 117، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 415، وابن حبان (2739) و (2741)، والبيهقي 3/ 134 و140 - 141 و 141 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬4) أخرجه مالك 1/ 439، وأحمد 6/ 283 و 285، والبخاري (1566) و (1697) و (1725) و (4398) و (5916)، ومسلم (1229)، وأبو داود (1806)، وابن ماجه (3046)، والنسائي 5/ 136، وابن حبان (3925)، والبيهقي 5/ 12 و12 - 13 و 134 من حديث حفصة أم المؤمنين أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؛ فقال: "إني =

- الإقرار على الفعل

كلباً"، فقالوا له: إن فى بيت فُلانٍ هِراً، فقال: "الهِرُّ سَبُعٌ ليست بنَجَسٍ" (¬1)، وهذا كُلُّه يَدُلُّ على جواز الاعتراضِ لاستعلام العللِ، ولو لم يَجُزْ لنهاهم عن أصل الاعتراضِ. وحُكم القولِ قد بيناه (¬2)، فكذلك إقرارُه الجاري مَجْراهُ. فصل وأما إقرارُه على الفعل: فمثلُ ما رُوِيَ أنه رأى قَيْسَ بن قَهْدٍ يُصلي ركعتي الفجرِ بعد الصبح، فلم يُنكِرْ عليه (¬3)، فكان حكمُ إقرارِه لقيس حكمَ فعلِه للركعتين، وقد سبقَ الكلامُ في فعله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر". (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 32، وأحمد 2/ 327 و442، والطحاوي في" شرح مشكل الأثار" (2656)، والعقيلي في "الضعفاء" 3/ 386 - 387، وابن عدي في "الكامل" 5/ 1892، والدارقطني 1/ 63، والحاكم 1/ 183، والبيهقي 1/ 249 من طريق عيسى بن المسيب البجلي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي دار قوم من الأنصار ودونهم دار، قال: فشق ذلك عليهم، فقالوا يا رسول الله، سبحان الله، تأتي دار فلان، ولا تأتي دارنا، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأن في داركم كلباً، قالوا: فإن في دارهم سنوراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن السنور سبع". وهو عند بعضهم مختصر، ولفظه في بعض المصادرة "الهر سبع" كما عند المصنف. وفي إسناد الحديث: عيسى بن المسيب البجلي الكوفي، وهو ضعيف. انظر "نصب الراية" 1/ 134 - 135، و"التلخيص" 1/ 25، والتعليق على "شرح مشكل الآثار". (¬2) انظر ما تقدم قريباً في الصفحة (15). (¬3) سبق تخريجه في الصفحة (41) من الجزء الأول

* المرتبة الثالثة: الإجماع

فصل في الدَّلالةِ الثالثةِ بعد الكتابِ والسنةِ، وهي الإجماعُ وقد مضى تحديدُه (¬1) بما أغنى عن إعادتِه، وهو ضربان: أحدُهما: ما ثبتَ بقول جميعِهم، كاتفاقهم على جواز البَيْعِ، والشرِكةِ، والمُضارَبةِ، وغيرِ ذلك من أحكام الشرع التي لم يَخْتلِفِ الناسُ في جوازِها. فحكمُه: أن يُصارَ إليه وُيعمَلَ به، ولا يجوزُ تركُه بحال، إذ لا يَتسلطُ على حكمه بعد ثبوته نسخٌ؛ لأنه لاطريقَ إلى النسخ بعد انقطاعِ الوَحْي، ولا نَص يُعارِضُه، ولا لنا إجماعٌ يُعارِضه، بخلاف ما قلنا في النص الذي يعارضُه نص آخرُ؛ لاجتماع نَصيْنِ في زمنٍ واحدٍ؛ لأن النصَيْن يصدران عن عصرٍ يجتمعُ (¬2) فيه النصان، وهو عصرُ النبوَّةِ، والإجماعُ لا يَتحققُ في عصر النبوَّةِ، والنص لا يبقى لنا مُجدداً في (¬3) زمن الإجماعِ، فلذلك لم يُتصوَّرْ معارضتُه بنص -ولا إجماع، وامتناعِ إجماعين في عصر واحدٍ، ولأن الأمةَ معصومة في اتِّفاقها عن أن تُجمعَ على حكم ثبتَ فيه نص عن الله سبحانه أو عن رسولِه بخلاف اتِّفاقِهم. ¬

_ (¬1) انظر الصفحة (42) من الجزء الأول. (¬2) في الأصل: "يجمع". (¬3) عبارة الأصل: "ونص لا يبقى لنا مجدد"، ولعل الصواب كما أثبتنا.

- الإجماع الثابت بقول البعض

فصل فأمَّا ما ثبتَ بقول بعضِهم (¬1) أو فعلهِ وسكوتِ الباقين، مع انتشارِ ذلك بينهم من غير إنكارٍ له، ولا ظهور ما يدل على أنهم في مُهلةِ النَظرِ فيه، كقوله: حتى أنظُرَ في هذا، أو دَلالةِ حال تدل على توقفِه توففَ الناظر فيه، لا المُصحَحِ له، فذلك حُجةٌ. ومهما ظَهَرَ نكير أو توقفٌ، فليس ذلك الحكمُ والفَتْوى إلا قولٌ (¬2) لقائلِه ومذهبٌ للناطقِ فيه دون الساكتِ، وإنما كان كذلك؛ لأن الإنكارَ مخالفة، فلا إجماعَ، وظهورَ الارْتياءِ والنظَرِ عدمُ موافقةٍ، فلا يكونُ إجماعاً مع عدمِ الاتفاقِ؛ إذ ليس الِإجماعُ إلا الاتفاقَ. وأما السكوت: فقد جعلَه قوم إجماعاً، ومَنَعَ منه آخرون مع قولهم: إنه حُجةٌ، ومَنْ منعَ أن يكونَ قولُ الصحابى حجةً، ومنعَ أن يكونَ السكوتُ موافقةً، فلا يَتحققُ عنده حُجةً ولا موافقةً. فوَجْهُ من قال: إن سكوتَهم الذي لا يَظهرُ معه التوقفُ للنظرِ موافقةٌ: هو أن الأمَةَ معصومةٌ على مذهب القائلين بالإجماع، والمعصوم كما لا يَنطِق بخطأٍ لا يُقِر على خطَأٍ، ألا ترى أن الرسوَلَ - صلى الله عليه وسلم - كان معصوماً عن الخطإ بنفسهِ في أحكامِ الشرعِ لم يقِر على ¬

_ (¬1) هو الضرب الثاني من الإجماع. (¬2) كذا الأصل بالرفع، وهو مخرج على لغة بني تميم؛ فإنهم يبطلون عمل "ليس" إذا اقترن الخبر بعدها بـ "إلا"؛ كما يبطل أهل الحجاز عمل "ما" إذا كان خبرها كذلك. انظر "مغني اللبيب" 1/ 293 - 294 و"الجنى الداني" ص 460.

خطإ، فجعِلَ إقرارُه على الأقوال والأفعالِ كقوله وفعلِه المعصُومَيْن من الخطإِ. فإن قال- مَن لم يجعلِ السكوتَ موافقة، ولم يَنسِبْ إلى ساكتٍ قولًا -: إن الساكتَ منهم أمرُه في سكوتِه مُتردِّدٌ بين النظرِ والارتياءِ في حكم القَضيَّةِ، وبين حِشْمةِ القائلِ بأن يكونَ إماماً صارماً أو عالِماً مهوباً (¬1)، كما قال بعضُهم: هِبْته وكان امْرَأٌ مَهِيباً (¬2)، وكما قال أبو ¬

_ (¬1) من الهيبة، بني على قولهم: هُوبَ الرجل، لما نقل من الياء إلى الواو، فيما لم يسم فاعله، ومنه قول حميد بن ثور الهلالي: وتأْوِي إلى زُغْبٍ مساكين دونهم ... فلًا لا تَخطَّاه الرفاق مَهُوبُ وهو شاذ مخالفً للقياس، والجادة فيه: مَهِيبٌ. انظر "شرح الشافية" 3/ 149، و"اللسان" (هيب). (¬2) قاله ابن عباس في عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وذلك في مسألة المباهلة، وهي أول مسألة عالت في الميراث في زمن عمر، وخالف فيها ابن عباس بعد وفاة عمر. فقد روى البيهقي في "السنن" 6/ 253، وأورد ابن حزم في "المحلى" 9/ 264 عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس بعد ما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، إذا ذهب نصف ونصف، فأين موضع الثلث؟ .. ، فذكر الحديث. وفي آخره: قال ابن عباس: فلو أعطى من قدم الله فريضة كاملة، ثم قسم ما يبقى بين من أخر الله بالحصص، ما عالت فريضة، فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هبته والله!. وروى بعضه عبد الرزاق في "مصنفه" (19022) و (19024)، وسعيد بن منصور في "السنن" 1/ 44. وانظر "المغني" 9/ 28 - 29.

هريرة لمَّا أكْثَر الروايةَ بعد موتِ عمرَ رضي الله عنهما: إني لو رَويت ذلك في أيَّامِه، لرأيتُ الدِّرَّةَ تفعلُ وتصنعُ (¬1). ويحتملُ أن يكونَ السكوتُ للموافقةِ وحُجةً لا تَتحققُ مع الترددِ؛ لأنه مَقامُ اتَباع وبناءِ أحكام الشرع المُوجبةِ للأموالِ، والمُريقةِ للدماءِ، والمبيحةِ للفُروجِ، فكيفَ يُقدَمُ عليها بأمرٍ يتردَّدُ هذا التردُّدَ المتقابِلَ الذي لا يُرجحُ إلى الموافقةِ دون المخالفةِ، [و] الذي لا يُبْنى عليه رضاً بنقلِ ملْكٍ، ولا إتلافِ مال، حتى لو أمْسَكَ عن بيع مالِه، لم يكُ ذلك رضاً ولا إذناً، ولو أمسكَ عن إفسادِ مال، لم يكُ ذلك إذناً مُسقِطاً للضَّمانِ، فكيف يُبنى من الِإمساكِ حُجَّة هي آكَدُ حُجَّةٍ لأهلِ الِإسلامِ. قيل: التَّرددُ المذكورُ يُتصوَّرُ في حق النبىِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ بأن يكون مُنتظِراً للوَحْي، وكم قضيَّةٍ وسؤالٍ وحادثةٍ انتظرَ في حُكْمها الوحيَ، كقصَّةِ عائشةَ رضي الله عنها لما اتُهمَتْ، أمسك حتى جاء الوحيُ، فأقامَ الحدَّ على القاذفِ (¬2)، وقصَّةِ المُتلاعِنَيْن ما زال يقولُ للزوج: "البَيِّنَةَ أو ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (20496)، وأورده ابن عبد البر في" جامع بيان العلم وفضله" 2/ 121، وابن كثير في "البداية والنهاية" 8/ 110. (¬2) قصة الإفك أخرجها عبد الرزاق (2748) و (2749) و (2750)، وأحمد 6/ 194 - 197 و197 - 198، والبخاري (2637) و (2661) و (2879) و (4025) و (4141) و (4690) و (4757) و (6662) و (6679) و (7369) و (7545)، ومسلم (2770)، وأبو داود (4735) و (5219)، والترمذي (3185) و (3581) والنسائي في "الكبرى" (8931)، وابن جبان (4212) و (7099)، والبيهقي 7/ 101 و 302 و302 - 303 من حديث عائشة رضي الله عنها.

حَد في ظَهْرِك" (¬1)، حتى نزلَتْ آيات اللِّعانِ. ويحتمل أن يكونَ سكوته لمهْلَةِ النظرِ، على قول من يُجَوزُ في حقَه الاجتهادَ في الحوادثِ، وَيرَى الاجتهادَ طريقاً لأحكامه في القضايا، والنقل يشهد بصحَةِ ذلك؛ حيث عوتِبَ على الفِداءِ (¬2)، ولو كان فعلُه عن وحيٍ، لما عتِبَ عليه، بل كان ما نزلَ نسخاً للحكم في المستقبل، لا عِتاباً على الأولِ، ومثل عَتْبِه على الاستغفار للمشركين (¬3)، والصلاةِ والقيامِ على قبور المنافقين (¬4)، ثم مع كونه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 238، والبخاري (2671) و (4747) و (5307)، وأبو داود (2254) و (2256)، وابن ماجه (2067)، والترمذي (3179)، والبيهقي 7/ 393 - 394 و 394 - 395 و 395 من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه. وفي الباب عن أنسى بن مالك عند أحمد 3/ 142، ومسلم (1496)، والنسائي 6/ 171 و172 - 173، والبيهقي 7/ 405 - 406. (¬2) أخرجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أحمد 1/ 30 - 31، و32 - 33، وعبد بن حميد (31)، ومسلم (1763)، وأبو داود (2690). (¬3) أخرج أحمد 5/ 433، والبخاري (1360) و (3884) و (4675) و (4772)، ومسلم (24)، والنسائي 4/ 90 - 91 من حديث المسيب بن حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ، فقال: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك"، فانزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] وأنزل الله تعالى في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]. (¬4) وذلك عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي ابن سلول، فانزل =

يَجتهِدُ تارةً، وينتظِرُ الوحيَ تارةً، لم يَخرُجْ إمساكُه عن الِإنكارِ للأقوالِ والأفعالِ عن كونه حُجَّةً مُتَبَعةً، وسُنَّةً محتجاً بها، على أن القومَ لم يكونوا لِيمسكُوا عن لائحِ اعتراضٍ عليه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى (¬1) أئِمتهم ومُتقَدميهم في العلوم؛ طلباً لإِثارة الفائدةِ، وعِلْمِ ما لم يَعْلموا، والنبيُّ [- صلى الله عليه وسلم -]، يُقِرُّهم على اعتراضهم وُيجيبُهم، وكذلك المُتقدَمون من الأئمَّةِ والخلفاءِ. فأمَّا اعتراضُهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقولُهم: ما بالُنا نَقصُرُ وقد أَمنَا؟ واللهُ تعالى يقولُ: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] , فلم تقُلْ: ليس لكم الاعتراضُ، بل أنتم مأخوذونَ بالاتباع من غيرِ سؤال، بل قال لهم: "صدقةٌ تصَدَّقَ الله بها عليكم، فاقْبَلُواَ صدقَته" (¬2). وقالوا له في فَسْخِ الحجِّ: أمَرْتَنا بالفسخ ولم تفسخْ؟ فقال: "لو استَقْبلتُ من أمرِي ما اسْتَدبَرتُ، لما سُقْتُ الهَدْيَ، ولَجعلْتُها عُمرةً، لكنَي سُقْتُ هَدْيِي، ولَبدْتُ رأسي، فلا أحِلُّ حتى أَنْحَرَ" (2). وقالوا له: نَهَيْتَنا عن الوصال وواصَلْتَ، فقال: "لستُ كأحدِكم، ¬

_ = الله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، أخرجه من حديث عبد الله بن عمر: أحمد 2/ 18، والبخاري (1269) و (4670) و (4672) و (5796)، ومسلم (2400) و (2774)، وابن ماجه (1523)، والترمذي (3098)، والنسائي 4/ 36 - 37. (¬1) في الأصل:"وعن". (¬2) سلف تخريجه في الصفحة (26).

إني أظَل عند ربي، فيُطعِمُني وَيسْقِيني" (¬1). ولَمَا قال في شاةِ آلِ مَيْمونةَ حيثُ مَروا بها عليه تُجَر كما يُجَر الحمارُ: "هلَّا أخذَ أهلُ هذه الشَاةِ إهابَها، فدَبَغُوه، فانتفَعُوا به"، قالوا: إنها مَيْتة، ومعلومٌ أنهم لا يجوزُ أن يَظُنُوا فيه أنه لم يَعلَمْ أنها مَيْتة مع جَرهم (¬2) لها، ومع ذِكْرِ إهابِها بالدبْغِ دون سائرِ أجزائِها، لكن كان قولُهم لِإثارة فائدةٍ، وإزالةِ شُبْهةٍ مع قول الله سبحانه: {حُرمَتْ عليْكُمُ المَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فخرجَ جوابُه مَخْرجَ ما عَلِمَه من شبههِم بظاهر الآيةِ، فقال: "إنَما حَرُمَ من المَيْتَةِ أكْلُها" (¬3)، فكأنه أجابَهم بتخصيص عمومِ الآيةِ التي كان من عمومِها الشُبْهَةُ. ولَمَا دُعِيَ إلى دار قومٍ فأجابَ، ودُعِيَ إلى دار قومٍ فلم يُجِبْ، اعترضوا اعتراضَ المُستعلِمِين للفرق، فقال: "إنَّ في بيتِ فُلانٍ كلباً" يعني الذي امْتَنَعَ من قَصْدِه، فاعترضوا عليه اعتراضاً ثانياً يُضاهي الكَسْرَ (¬4) لتعليله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: فإن في بيت فلانٍ هِراً، فلم يُنْكِرْ ذلك، وهو إتباعُ اعتراضٍ على الجواب، بل عدَلَ إلى الفَرْقِ، فقال: "الهرُّ سَبُعٌ ليست بنَجَسٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر لتخريجه الصفحة (26). (¬2) في الأصل: "خبرهم". (¬3) هو عند أحمد 6/ 329، ومسلم (363)، وأبي داود (4120)، وابن ماجه (3610)، والنسائي 7/ 171 - 172، وابن حبان (1285)، والبيهقي 1/ 15 - 16 من حديث ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها. (¬4) لأن الكسر نقض على المعنى دون اللفظ، ويرجع إمَّا إلى منع صحة العلَّة، أو إلى معارضتها بما يفسدها. انظر "علم الجذل في علم الجدل" ص 66. (¬5) مضى تخريجه قريباً في الصفحة (27).

وذلك باب مُتَّسِعٌ، لكنْ فيما ذكرنا كفايةٌ لمن عَقَلَ أنَّ القومَ لم يكُ مِنْ دأبِهم وعادتِهم الإِمساكُ عن أحدٍ في الأحكام الشرعيةِ، ولو سَكَتُوا لأحدٍ يوماً ما، لسكتوا لأفعالِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اعترضوا فيما هو أكبر من ذلك، وهو يوم عُمْرةِ القَضاءِ، فقالوا: أليسَ قد قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}؟؛ وقد صُدِدْنا، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ لتَدْخلنَّ" (¬1)، وقال أبو بكرٍ: أقال لكم: العام؟، فالظاهر مع هذه الحالِ أنَّ سكوتهم موافقةٌ. وأما ما ذهبَ إليه المعترِض من الحِشْمَةِ والمحاباةِ، فقد انهالَ إلينا في السِّيَرِ من اعتراضاتٍ لبعضهم على بعضٍ ما يَمنَع هذا التأويلَ ويُبعِده عنهم، فمن ذلك: ما روِيَ أن عمرَرضي الله عنه لما نَهى عن المُغالاةِ في صَدَقاتِ النساءِ، اعترَضَتْ عليه امرأةٌ، فقالت: لِمَ تَمْنَعنا ما اعطانا الله، والله سبحانه يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬2) [النساء: 20]. ولمَّا نفى نَصْرَ بن حَجَّاج حيث سمعِ امرأةً تشبِّب بذِكْرِه في شِعْرِها ليلًا، وحَلَقَ وَفْرَتة، قالت له أُمُّه: لِمَ نفَيْتَ ولدي؟ فقال: لأنه يَفتِن نساءَ المسلمين، فقالت: فهل نَفَيْتَه إلى بلاد الشِّرْكِ (¬3)؟! فهذا ¬

_ (¬1) هذا الكلام لم يكن في عمرة القضاء، بل هو في يوم الحديبية عندما صدتهم قريش عن البيت، وهو جزء من حديث مطول: أخرجه عبد الرزاق (9725)، وأحمد 4/ 328 - 331، والبخاري (2731) و (2732)، وابن حبان (4872) عن المسور بن مخرمة. (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف": (10420)، والبيهقي في السنن 7/ 233، وأورده ابن كثير في تفسيره 2/ 213. (¬3) أخرج ابن سعد في "الطبقات" 3/ 285 عن عمرو بن عاصم الكلابي، قال: =

اعتراضُ النساءِ على إمامِ وَقْتِه مع شِدَّتِه وبَأسِه. وقولُ عليٍّ عليه السلام على مَنْ قال: الماءُ من الماءِ، ولم يُوجِبِ الاغتسالَ من (¬1) الإكْسالِ: تُراني أرْجمُهُ، ولا أوجبُ عليه صَاعاً من ماءٍ (¬2)! وقولُ من نَفى العَوْلَ منهم: والذي أَحْصى رَمْلَ عالجٍ عدداً ما جعلَ اللهُ في الفَريضةِ نصفاً ونصفاً وثُلُثاً، ذهبَ المالُ بنصفَيْهِ، فأين موضعُ الثُّلُثِ (¬3)؟! ¬

_ = أخبرنا داود بن أبي الفرات، قال: أخبرنا عبد الله بن بريدة الأسلمى، قال: بينا عمر بن الخطاب يعس ذات ليلة، إذا امرأة تقول: هل من سَبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْرَبَها ... أم هل سبيلٌ إلى نَصْرِ بن حجًاجِ فلما أصبح، سأل عنه، فإذا هو من بني سُلَيْم، فأرسل إليه، فأتاه، فإذا هو من أحسن الناس شعراً، وأصبحهم وجهاً، فأمره عمر أن يطم شعره، ففعل، فخرجت جبهته، فازداد حسناً، فأمره عمر أن يَعْتَمَّ، ففعل، فازداد حسناً، فقال عمر: لا والذي نفسي بيده لا تُجامعني بأرض أنا بها، فأمر له بما يصلحه، وسيره إلى البصرة. وفي سند هذه القصة انقطاع؛ عبد الله بن بريدة لم يسمع من عمر بن الخطاب، وعمرو بن عاصم الكلابي قال الحافظ في "التقريب ": صدوق في حفظه شيء. (¬1) في الأصل: "عن". (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (943) عن علي بلفظ: يوجب الحد، ولا يوجب قدحاً من ماء؟!. ورواه البيهقي في "السنن" 1/ 166 عن علىِ أيضاً بلفظ: ما أوجب الحد أوجب الغسل. (¬3) هو من قول ابن عباس، وقد تقدم تخريجه في الصفحة (30).

وقولُ الآخرِ: رَحِمَ اللهُ زيداً، جعلَ ابنَ الابنِ ابناً، ولم يَجْعلْ أبا الأبِ أباً (¬1). والآخرُ يقول: يا أميرَ المؤمنين، إن جعلَ الله لك على ظَهْرِها سَبيلاً -يعني بالحَدِّ في حق الحاملِ-، فماجعل لك على ما في بَطْنِها سبيلَاً (¬2). وقولهم لأبي هريرة حيثُ رَوَى غَسْلَ اليَديْنِ عند القيامِ من النَّومِ (¬3): فما يُصْنَع بالمِهْراس (¬4)؟ ¬

_ (¬1) هو من قول ابن عباس في زيد بن ثابت رضي الله عنهما، انظر المغني لابن قدامة 9/ 68. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 10/ 88 - 89 في الحدود، والقائل هو معاذبن جبل رضي الله عنه. (¬3) حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الِإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنَ أحدكم لا يدري أين باتت يده". أخرجه: مالك 1/ 21، وأحمد 2/ 241 و 465، والبخاري (162)، ومسلم (278)، وأبو داود (105)، والترمذي (24)، والنسائي 1/ 6 و7 و 99، وابن ماجه (393)، وابن حبان (1061) و (1062) و (1063) و (1064) و (1065). (¬4) ذكر هذا الاعتراض أحمد في المسند 2/ 382: " ... فقال قيس الأشجعي: يا أبا هريرة، فكيف إذا جاء مهراسكم؟ قال: أعوذ بالله من شركَ ياقيس". والمهراس: هو الحَجرُ الكبير المنقور، لا يقِلُّه الرجال لثقلِه، يَسعُ ماءً كثيراً، يتطهر الناسُ منه. "النهاية" 5/ 259، و"اللسان": (هرس).

* فصل في قول الواحد من الصحابة

وكلامُ عائشة رضي الله عنها في روايات أبي هريرة بتحقيقِ الأحاديثِ (¬1). وقولُ عائشةَ في روايات ابنِ عباسٍ (¬2). هذا ظاهرٌ عنهم لمن عَرَفَ السيرة، فأين دعوى الإِمساكِ؟ وفي هذا كفايةٌ إلى أن يُوَضحَ في مسائل الخلافِ إن شاءَ اللهُ. فصل فأمَّا قولُ الواحدِ من الصحابةِ، فقد عَدَّه قوم من الأدلةِ والحججِ الشرعية، فعلى قولهم: يكون حجة رابعةً للأدلةِ الثلاثة -أعني الكتابَ والسنةَ والإِجماعَ -وتعلقوا في ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَةِ الخُلفاءِ الراشِدينَ مِن بَعدي" (¬3)، فلا يجوزُ أن يكون ذلك راجعاً إلى روايتهم عنه؛ لأن ذلك قد دخل في قوله: "سُنتي"، ولأنهم عرفوا التنزيل والتأويل، وشَهدوا من أفعالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يَشهدْه التابعون، فكان قولُهم حجةً لهذه المزية، وقد أشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك حيث ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (3568)، ومسلم (2493)، وأبو داود (3655)، والترمذي (3643)، وأحمد 6/ 118، 138، 157، 257 عن عروة بن الزبير أنَ عائشة قالت: ألا يُعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلسَ إلى جنب حُجرتي يحدِّث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُسمعُني ذلك، وكنت أُسَبح، فقام قبل أن أقضي سُبحتي، ولو أدركتُه لرددتُ عليه، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم. أي: أنها أنكرت عليه كثرة تحديثه وسرده للأحاديث وعدم تمهله وإعادته ليفهم عنه. وانظر "الِإجابة لِإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة": 121. (¬2) انظر "الِإجابة لِإيراد ما استدركته عائشة علئ الصحابة": 87 - 101. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة: (280) من الجزء الأول.

قال: "أَصحابي كالنُجوم، بأيّهم اقتديتم اهتَديتم" (¬1). فعلى هذا القولِ هو حجة وُيقدَمُ على القياسِ كما تُقدمُ سنَةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وذهب قومٌ إلى أنه كأقوال المجتهدين ليس بحجةٍ (¬3)؛ لأنَّ قولَهم الذي لا يصدُر عن روايةٍ هو المختلفُ فيه، ورأيهم لا وَجه لترجيحِه على رأينا وقياسِنا، ولو ترجح رأيهُم لقُربهم، لترجحَ الرأيُ بقُرب الخلفاء والأئمة، ولترجح على الأئمةِ أقربُهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان كذلك لكان قولُ أبي بكرٍ حجةً على من دونه، وقول عمرَ حجةً على من دونه ... وعلى هذا. ولا وجه لذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمِ يجعل الأفقه الأقرب، بل قال للأقرب: "رحم اللهُ امراٌ سمع مَقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حاملِ فقه إلى مَن هو افقه منه" (¬4). وقد يروي الصحابي للتابعي. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة: (280) من الجزء الأول. (¬2) وهذا قول المالكية وأكثر الحنابلة وبعض الحنفية، وهو رأي الشافعي في القديم. انظر هذا الرأي وأدلته في: "العدة" 4/ 118، و"التمهيد" 3/ 331، و "المسودة": 335، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 422، و"شرح تنقيح الفصول" 445، و"التبصرة": 395، و"البرهان" 2/ 1358، و" الفصول في الأصول" للجصَّاص 3/ 361، و"أصول السرخسي" 2/ 106. (¬3) هو قول الشافعي في الجديد، والرواية الثانية للِإمام أحمد، ورجّحه الغزالي والآمدي وابن الحاجب وأبو الحسن الكرخي، انظر المصادر السابقة و"أصول مذهب الِإمام أحمد" 394 و398، و "إِرشاد الفحول": 243، والمستصفى 1/ 261. (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة: (7) من الجزء الأول.

وقد أطلق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اسم الأفقه على الأبعد عنه، وليس للقُرب والمشاهدة إلا منزلة التَقدم، فأمَّا الآراء فإنها صفات مخلوقة في الفِطَرِ، فلا مَزية فيها بالتقدم، ولو كانت الآراء تَتَقاصر بالتأخر، لما بقي للأواخر من الرأي ما يصلح للمعاشِ ولا المعاد، بل كانت الآراء تَتَلاشى. وذهب قوم إلى أنَّ قولَ الواحد من الصحابة حجة مع القياس الضعيف، وليس بصحيح؛ لأنّه ما لم يكن حجةً من نفسه لايَصيرُ حجةً بضم القياس إليه، لقول التابعي، ولأنه لو كان قول الصحابي لقوته، حجة مع قياس ضعيف لكان قولُ التابعي حجةً مع قياس قوي وجَلى، ولأنهم إن أشاروا بالقياس الضعيف إلى الخَفي وذهبوا إلى أنه حجة في نفسه، فبانضمامه إلى غيره ما تجدَّد له في نفسه حجة، فكيف تجدَد في غيره بأن صار حجة به؟ وإن ذهبوا إلى أن القياس الضعيف ليس بحجة، فكيف جعلوا قول الصحابي بانضمام ما ليس بحجة [له] (¬1) حجة؟ ولمَ خصّوا ذلك الضعيف دون أن يجعلوا انضمام صحابي آخر إليه شرطاً في كونه حجة، والأشخاص إلى الأشخاص حجة في الشرع كالبينَة. على أن هذا قول فاسد من وجهٍ آخرَ، وهو: أنه لا يكون الإجماعُ مع كونه من أعظِمِ الأدلة إلا إذا صدر عن دلالةٍ، ولو قياساً أسندوا الحكم إليه، لم نحتجْ أن نقولَ في الإجماع: إنه لا يكون حجة إلا بانضمام قياس إليه. كذلك لا نَحتاج - مع علمنا بأنه لا يذهب ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق.

- قول الصحابي هل يخص به العموم؟

الصحابي إلى مذهبِ لا يكون مستنداً إلى رواية إلا بقياس ورأيٍ- أن نَعتبر مع قوله ليكوَن (¬1) حجةً قياساً ضعيفاً، بل نكتفي بعلمه أنه ما قال ذلك إلا عن قياس، كما اكتفينا في الإجماع بذلك، وقد ذهب الشافعي -رحمة الله عليه- في أحدِ قولَيه إلى أنه ليس بحُجةٍ، فلا يُحتج به ولكن يُرجحُ به الدليلُ. فصل واختلف القائلون بأنه حجُةٌ: هل يُخصصُ به العمومُ؟ على مذهبين: فقال قوم: يُخصّ به العموم؛ لأنه دليلٌ ثبت به الحكمُ الشرعي، فجازَ أن يُخص به العموم وُيصرف به الظاهر، كالقياس. والثاني: لا يُخص به العموم؛ لأن العمومَ ظاهرُ كلامِ صاحبِ الشريعة، فلا يُتركُ لِقَول من ليس بمشرع (¬2). فقال من نصر المذهبَ الأول: إذا جاز أن يُثبتَ به حكمٌ شرعي وإن لم يكن قولًا للشارع، جاز أن يُخَص به العمومُ وُيصرفَ به الظاهر، وان لم يكنْ قولًا للشارع. فصل ويترتب على ذلك التنبيه، وهو فَحوى الخِطاب، وقد عدَّه قومٌ من ¬

_ (¬1) في الأصل: "ليكن". (¬2) سيأتي تفصيل هذه المسألة وبيانها في 3/ 397.

أدلة النُّطق، وعده آخرون من المعقول (¬1). وصورتُه: نَصٌ على الأعلى بحكم يُنبه به على الأدنى، أو على الأدنى ليُنبه به على الأعلى، كقوله سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فنبه بأداءِ القِنطارِ على أداءِ الدينار، ونبه بنفي أداء الدينار على نفي أداء القِنطار، ونَهى عن التأفيف في حق الأبوين، ونبه بذلك على ما هو أكثر منه من الأذايا، ووجهُ قلة الأذية بالتأفيف: أنه دالٌّ على التبرمِ والضجرِ، وليس بصريح، والصريحُ آكد في تأليمِ القلوبِ. وقد سماه قوم: قياساً جلياً، وكنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التضحيةِ بالعَوراء (¬2)، فكان ذلك منه تَنبيهاً على العَمياء، إذ فقدُ العينِ الواحدةِ أقلُ في التعيب والمضرة؛ لأنها قد ترعى من أحد الجانبين، والعمى يعدمها الرعي ورؤيةَ العُشبِ والمرعى، ويعدم منها عضوان مُستطابان. ووجه من جعله قياساً: أنه ليسَ في نُطقِ الناهي عن التأفيف نَهيٌ عن الشتم، وليس في لفظِ الناهي عن العَوراء لفظُ نهي عن العمياء، لم يبقَ إلا أنه مَعقول من لفظه أنه لما كَرِه العَوَر -وهو أقل تعييباً- كره العمى لكونه أكثرَ، ولما صانَ قلب الوالدينِ بنَهيه عن التأليم بالتأفيف لكونه دالًا على نوع تبرم وتضجر، كان المعقول منه أنه مستدعى لصيانة قلبيهما عن التأليم بالشتم الذي هو أوفى تأليماً وأذيةً من طريق الأولى. ¬

_ (¬1) لهذه المسألة تفصيل وبيان في 3/ 258 وما بعدها. (¬2) تقذم تخريجه ص (37) من الجزء الأول.

* فصل في دليل الخطاب

ووجهُ من قال: إنَّه نُطْقٌ: أن العربَ وضعتْ هذا مبالغة، فإذا قال: هذا الفرسُ لا يلحقُ غُبارَ فَرسي. كان أفصحَ عندهم من قولِه: سَبقه فرسي. وإذا قال: فُلان يأسف على شَم قُتارِ (¬1) مَطبخه. كان أبلغ من قوله: لا يُطعمني من طعامِه ولا يَسقيني من شرابه. واذا كان تَنكبُ النطقِ المُنبىء عن معنى إلى نطقٍ موضوع هو أوفىَ في التفهيم، كان ذلك نُطقاً، ولا يكون قياساً؛ لأن القياسَ مًا احتاجَ إلى نوعِ استنباطٍ وتشبيهٍ. فصل ويَتلو ذلك: دليلُ الخطاب (¬2). وفيه خلافٌ كبير بين أهل العلم الأصوليين والفقهاء في أصله: هل هو دليل أم لا؟ ثم في تفاصيله اذا عُلَّق الحكمُ على وصفٍ أو شرطٍ أو غايةٍ، أو اسم، هل يدل على نفي الحكم عما انتفى عنه ذلك الوصفُ وتلك الغاية وذلك الشرط أو الاسم؟ أو لا يدلُ على النفي بل يكونُ الحكمُ فيما علق عليه، ويكون ما لم يعلقْ عليه على حكم الأصل إلى أن تقومَ دلالة، أو يكون دليلًا في تعليقِ الحكمِ بالغايةِ خاصةً أو الشرطِ والغاية دونَ الوصفِ أو بالثلاثةِ دونَ الاسم أو بالجمع، ذلك كله مُستوفى في مسائلِ الخلاف إن شاء الله، إلَا أن من اثبته جعله من ¬

_ (¬1) القُتار: ريح القِدر والشواء. "القاموس المحيط": (قتر). (¬2) ويسمى كذلك مفهوم المخالفة، وانظر "العدة" 2/ 448، و"شرح مختصر الروضة"2/ 725.

- فصل في التعليق على الغاية

أدلة المعقول، والمحققون أكثرهم على إسقاطه من الأصوليين (¬1)، ووافقهم ابن سُرَيج (¬2) والقاضي أبو بكر (¬3). ودليل الخطاب عند من أثبته، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" في سائمةِ الغنم زَكاة" (¬4)، فدل ذلك عند من جعله دليلًا على نفي إيجاب النفقة لغير الحوامِل، ونفي إيجابِ الزكاة في غير السوائم. فصل في التعليق على الغاية مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَبايعان كلُّ واحدٍ منهما بالخيار ما لم يَتفرَّقا" (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة": 218، و "المستصفى" 2/ 194، و"الإبهاج" 1/ 235. (¬2) هو أبو العباس أحمدُ بن عمرَ بن سُريج البغدادي، من أعلامِ فقهاءِ المذهب الشافعيّ، له مصنفات كثيرة تبلُغ نحو (400) مصنف، منها "الودائعَ" وتصنيف على "مختصر المزني"، توفي ببغداد سنة (306) هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 4/ 287 - 290، و"سير أعلام النبلاء" 14/ 201. (¬3) هو محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي الشافعي، المعروف بالقفّال الكبير، كانَ فقيهاً وأصولياً ولغوياً. وإمام وقته فيما وراء النهر، وعنه انتشرَ فقهُ الشافعى بما وراء النهر. توفي بشاش سنة (365) هـ. انظر "طبقات السبكي" 3/ 200 - 222، و"سير أعلام النبلاء"16/ 283. (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة (37) من الجزء الأول. (¬5) أخرجه أحمد 1/ 56، والبخاري (2111)، ومسلم (1531)، وأبو داود (3454)، والنسائي 7/ 248، وابن حبان (4916)، والبغوي (2047)، من=

- فصل في تعليق الحكم على الأسماء

و" لا زكاةَ في مالٍ حتى يَحولَ عليهِ الحَوْل" (¬1)، و "على اليدِ ما أخَذَت حتى تُؤديه" (¬2). فيدلُّ ذلك على أن ما بعد الغاية بخلاف ما قبلها. فصل فأمَّا تعليقُ الحكم على الأسماءِ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعلَت لي الأرض مسجداً وجُعِل تُرابها طهوراً" (¬3)، فيدل على أن غيرَ التراب عندهم ليس بطهور (¬4)، واستقصى قومٌ إلى أن جعلوا تعليقَ الأحكامِ على أسماءِ الألقاب يدلُّ على أن ما عداها بخلافِه، وتركُ المكالمةِ لهمَ ¬

_ = حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، بلفظ: "المتبايعان كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه بالخيار، ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار". (¬1) أخرجه بهذا اللفظ ابنُ ماجه (1792) من حديث عائشة -رضي الله عنها- وأخرجه عن على -رضي الله عنه-: أحمد 1/ 148، وأبو داود (1573)، والبيهقي 4/ 95، والدارقطني 2/ 91، وابن أبي شيبة 3/ 158 و 159، بلفظ: "ليس في مال زكاة حتى يحولَ عليه الحول". وفي الباب عن أنس وابن عمر، انظر" نصب الراية"2/ 329 - 330. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 8 و12، وأبو داود (3561). والترمذي (1284)، وابن ماجه (240) والدارمي 2/ 264. (¬3) جزء من حديث خصال النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي فُضل بها على غيره، أخرجه البخاري (335) في التيمم، و (438) في الصلاة، و (3122) في الجهاد، ومسلم (521)، وأحمد 3/ 304، والنسائي 1/ 209 - 211، والدارمي 1/ 322 - 323، وابن حبان (6398) من حديث جابر بن عبد الله. وفي الباب عن أبي ذر عند أحمد 5/ 148، وأبي داود (4891) أوالحاكم 2/ 424 (¬4) هذا رأيُ أكثر الحنابلة، كما قرره المجد في "المسودة" ص (352)، وانظر "العدة" 2/ 475، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 509 - 510.

أصوبُ، لكن لا بُدَّ من إيضاحِ فَضيحتهم في ذلك، فإنَّ المقالات البعيدة إذا لم يُتكلم عليها بإيضاحِ فسادها اشْتاقَت قلوب المتفقِّهة إليها، لتوهم أن القائلين بها على شيءٍ، ويأتي شرح ذلك كله في مسائل الخلاف إن شاء الله.

* فصل في معنى الخطاب، وهو القياس

فصل في معنى الخطاب وهو القياس، وقد مضى تحديده في جَدل الأصول (¬1)، ونذكر هاهنا حدودَ المحقَقين من الفقهاء: فقال قوم: رد فرع إلى أصل بمعنى يجمعهما. وهذا حَد حَملي يشمل قياس العلَّة، والدلالة، والشبه، والصحيح، والفاسد. وقياس العلَّة من ذلك هو: حملُ فرع على أصل بعله جامعةٍ بينهما، وإجراءُ حكم الأصل على الفرع. وقيل: إن قياس العلَّة الصحيح: إثباتُ حكم الأصل للفرع لاجتماعهما في علَّةُ الحكم. والعبارات في ذلك كثيرة (¬2)، وهذا أسَدُّ ما رأيتُ في كتب المحققين، وسمعتُ من ألفاظ الأئمة المبرزين. ومثال قياس العلة: قياس النبيذ على الخمرِ بعلة أن فيه الشدَّةَ المُطربةَ، وقياس الفأرةِ على الهر (¬3) بعلة الطيافة، وقياس الأرز على ¬

_ (¬1) انظر الصفحة (433) من الجزء الأول. (¬2) انظر"العدة"1/ 174، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 223. (¬3) في طهارة سُؤرها.

- فصل في قياس الدلالة

الحِنطة (¬1) بعلة الطعم، وأنه مَطعومُ جِنس. فصل وقياسُ الدلالةِ، وهو على ثلاثةِ أضرب (¬2): أحدها: الاستدلال بخَصيصةٍ من خصائص الشيء عليه، وذلك مثل: قولنا بنفي وجوب سجودِ التلاوة، لما وجدنا فيه من خَصيصةِ النافلة، وهو جواز فعلهَ مع عدم الضرورة على الراحلة، فجواز الفعل مع عدم العُذر على الراحلة من خصائص النوافل؛ فيستدل به على كونه نافلة (¬3). والضرب الثاني: أن يُستدل بالنظير على النظير، كاستدلالنا في وجوبِ الزكاةِ على مالِ الصبي وفي ماله بوجوب العشر، وهو نوعُ زكاةٍ في زَرْعه، فنقول: مَن وجبَ العُشر في زَرعِه، وجب رُبعُ العشر في ماله. وان مَنعوا قولنا: "في" (¬4) قُلنا: "مَنْ وَجب العُشر لأجل زَرعه"، فلا يبقى منع. وانما يُحقق هذا القياس تَحقيق النظارة إذا طولبتَ بالجمعِ أو ¬

_ (¬1) في جريان الربا فيه. (¬2) زاد أبو الخطاب ضرباً، وهو: قياسُ الاسم الخاص على الاسم الخاص، مثل: قياس إزالة النجاسة على رفع الحدث بجامع كونهما طهارة شرعية، فلا تجوز إزالة النجاسة بالخل كما لا يجوز رفع الحدث به. انظر "التمهيد" 1/ 29، و"اللمع": 66. (¬3) انظر "المغني"2/ 364 - 366. (¬4) أي في قوله: "من وجب العشر في زرعه".

- فصل في قياس الشبه

ابتدأتَ به لتُكفَى مؤنة المنع أو المطالبة. وتحقيق النظارة بينهما: أن كلُّ واحدٍ حق لأجلِ المال وجبَ مواساةً على وجه القُربة بدليل اعتبار النية، وسمَّاه الشرع: زكاة، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" يُخْرَصُ الكَرمُ فَتُؤخذُ زكاتُه زبيباً، يُخْرص الرُّطب فتؤخذ زَكاته تَمراً" (¬1)، ونصرف كلُّ واحد منهما مَصرف الآخر، ويجب طُهرةً للمال، وإنما خرج عن نظارته بالحول؛ لأن الحول في سائر الأموال جُعل لتكامل النماء، وهذا تكامل نماؤه باسْتحصادِه. ومثال آخر لهذا القسم: قولنا في ظهار الذمي: مَن صح طلاقُه صح ظِهارُه كالمسلِم؛ لأن الظهار نظير الطلاقِ حيث كان قولًا يختص الأزواجَ دال على الإعراض عن الزوجة، وكلُّ واحدٍ منهما يؤثر في تحريم الأبضاع، وحقيقته القول (¬2). فصل والثالث من ضروب قياس الدلالة: قياس الشبه، مثل: قياس الطهارة في إيجاب الترتيب والموالاةِ، على الصلاة من حيث اشتبها في البطلان بالحدثِ. وقد أخرجه قوم عن أن يكون دليلًا، وسنذكر ذلك في الخلاف إن ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث عتاب بن أسَيد: أبو داود (1604). والترمذي (644)، والنسائي 5/ 109 وابن حبان (3279)، والبيهقي 4/ 122. وأخرجه مرسلاً من حديث سعيد بن المسيب: مالك في "الموطأ" 2/ 703. (¬2) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 11/ 56.

- فصل في القياس الجلي والواضح والخفي

شاء الله. فصل وقد قسم بعضُ أئمة الفقهاء البغداديينْ القياس على ثلاثة أضرب، فقال: قياس جَلي، وقياس واضح، وقياس خَفي (¬1). قال: فالجلي: مالا يَحتمل إلا معنى واحداً، فهو بين المعقولات كالنصِّ بين الملفوظات، إلا أن بعضَ الأقيسةِ الجليةِ أجلى من بعض. وجعلَ الشافعي رضي الله عنه التنبيهَ (¬2) من قبيلِ القياس الجلى، كقولهِ تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]؛ لأنًّ تَحريم الضرب ليس بلفظه، إذ ليس هو فى لفظه لكنه فى معناه، وكذلك قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، ومن ذلك: "نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَضحية بالعَوراء" (¬3)، ليس في لفظه النهي عن العمياء، لكن في معناه، فهذا عند الشافعي من القياس الجلي (¬4). ¬

_ (¬1) هذا التقسيم للقياس باعتبار قوته وضعفه، وأكثر الأصوليين يَنصون على أنه ينقسم الى قسمين: قياس جلي أو واضح، وقياس خفي. فيدرجون الواضح الذي جعله ابن عقيل ضرباً مستقلاً بالجلي. انظر "العدة" 4/ 1325 و"المسوّدة" ص (374)، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 223، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 207. (¬2) أي فحوى الخطاب. (¬3) تقذم تخريجه في الصفحة: (37). (¬4) انظر قول الشافعية في ذلك وأدلتهم التي يستندون اليها. في "المحصول" 5/ 121 - 123، و"البحر المحيط" للزركشي 5/ 36.

وامتنع جماعة من الأصوليين والفقهاء من إدخال هذا في جملة القياس، فقالوا: ما أكثر ما اغترَّ بهذا قوم وقالوا: إنه قياس، حيث لم يكن في لفظه نهي عن الضرب ولا ذكر العمياء، وإنما هو في معناه. وليس كما ظنوا، فإن الوضع هو للمنع نُطقاً، وصار كقول المتهدِّد: افعل ما شئتَ وأكثِر مما نَهيتُك عنه. قال الله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وقا. ل لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64] هذا كله بلفظ الاستدعاء، فهو أكثرُ من قولكم في التنبيه: ليس فيه ذكر الضرب، لكن وضِعت الصيغةُ التي هي بصورةِ صيغةِ الأمرِ، تهديداً لضد مَا وضِعَت صيغة الأمرِ، فإنَّ التهديدَ زجر عن جميع ما ذكره سبحانه، كذلك ذكرُ التأفيف والدينارِ صيغة موضوعة للنهي عن الكثر، فإذا جازَ أن تضع: "افعل ما شئتَ" زجراً عن فعل، كان وضعها للنهيّ عن التأفيف، نهياً عن الضرب بالصيغة لا بالمعنى، وهذا واضح في هذا الباب. وأدخل هذا المُقَسم في القياسِ الجلي قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْضي القاضي حينَ يَقْضي وهُو غَضْبان" (¬1)، وهو دونَ الأول، والأوّل أجلى، وإنَما أدخل هذا في باب الجليّ، لأنَّ السابق إلى الفَهم أنَ الغضب يَشغلُ القلبَ، وُيزعج الطبعَ، وُيحيل المزاجَ، ويعمي عن الرأي، إذ مبنى الرأيّ على الاعتدالِ، فيتعدّى ذلكَ إلى كلُّ مُزعج للطبعِ مزيل للاعتدالِ من الطرب، والحزن، والحَقْنِ (¬2)، والخوف، والجوع ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (525) من الجزء الأول. (¬2) الحقن: هو احتباس البول، والحاقن: هو الذي حَبسَ بولَه. "اللسان": (حقن).

المفرط، والعطش. ومن الجلي أيضاً عنده (¬1) - وإن كان دون الأول- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفأرة تموت في السمن: "إنْ كانَ جامداً فالقوها وما حَولها، وإن كان مائعاً فأريقوه" (¬2). فيسبق إلى الفهم أن كلُّ جامدٍ من دبس وشحم كذلك يؤخذ ما حولها من جامِده وُيراق مائِعُه؛ لأن الجامد مُتماسك لا تَتَعدى نجاسة ما لاقَته إلى ما وراء المُلاقَى منه، والمائع بخلافه. ومن الجلي عنده أيضاً: ما نص عليه، مثل قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الى قوله {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ نَهيتكُم عن ادَخارِ لُحوم الأضاحي لأجلِ الدَافَة" (¬3). ¬

_ (¬1) أي عند الإمام الشافعي رحمه الله. (¬2) أخرجه من حديث ميمونة -رضي الله عنها-: أحمد 6/ 335، والبخاري (235)، و (236) في الوضوء، و (5538) و (5539) في الذبائح والصيد، وأبو داود (3841) في الأطعمة، والترمذي (1798) في الأطعمة، والنسائي 7/ 178، والدارمىِ 2/ 109، وابن حبان (1392)، والبيهقي 9/ 353، وابن أبي شيبة 8/ 280. وفي الباب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عند أبي داود (3842). وعبد الرزاق في "المصنف" (278)، والبيهقي 9/ 353، وأحمد 2/ 232، 265 ,490. (¬3) أخرجه مسلم (1971) في الأضاحي، وأبو داود (2812)، ومالك في "الموطأ" 2/ 484 - 485، والنسائي 7/ 235، والبيهقي 9/ 293، وابن حبان (5927)، وأحمد 6/ 51 والدافَّة: من الدّف وهو السير السريع. =

القسم الثاني: وهو الواضح، مثل قوله سبحانه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فالذي ظهر من ذلك ووضح أن نُقصان الحدِّ في حقها لأجلِ الرق الذي فيها لا لأجل الأنوثة، إذ لو كإن لأجل الأنوثة لأثرت بحدِّها (¬1) في التنقيص، ومعلوم أنَ الأنوثةَ لم تُؤثَر في تكميل الجلد ولا في إحصان الرجم، فلم يبق إلا مَحْضُ الرق، وذلك موجود في رِقِّ العبد، فَيُعدَّى إليه تنقيصُ الحدِّ. وكلُّ ما ثبتَ فيه علةُ الأصلِ بضربِ من الدليل، فهو واضح عند هذا المُقَسم، ولا بأس بما ذكره (¬2). قال: وأمَّا الخَفي، فهو: قياس الشَّبَه، وهو: أن يَتردد فرعٌ بين أصلين له شبة بكل واحد منهما وشبهه بأحدهما أكثر أو أقيس شَبهاً وآكد تأثيراً، فإنه يُرد إليه. وهذا إنَما يكون إذا لم يكن أحدُ الأصلينِ علةً مدلولًا علي صحتها يتعدى إلى الفرع. ومثال ذلك: صحةُ ملكِ العبدِ، فإن العبدَ يتردَّدُ بين أصلين في الشبه، فيشبهُ الأحرارَ من وجه؛ لأنه مُكلفٌ يجب عليه القِصاص إذا قَتل عمداً، ويملكُ الأبضاعَ، ويوقع الطلاقَ بنفسِه، وتجب عليه ¬

_ = والدافة -كما قال ابن الأثير: قوم من الأعراب يريدونْ المصر. يريدُ: أنهم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم النبى - صلى الله عليه وسلم - عن اذخارِ لحوم الأضاحي ليفرقوها، فينتفع أولئك القادمون بها. (¬1) في الأصل: "بحدتها" ولم نَرَ لها وجهاً. (¬2) انظر "العدة" 4/ 1325، و"المسوَّدة" ص (347 - 375)، وقد أطلق القاضي أبو يعلى على القياس الخفي، اسم: " قياس غَلبةِ الشبه".

الحدودُ والكفاراتُ، ويتعلقُ بإقرارِه حكمُ الإِلزامِ للحقوقِ في ذِمته، وإيجابِ القَوَد المفضي إلى قَتله وإسقاط حقِّ سَيدِه من رقِه وماليتهِ، ويصح أمانُه وإيمانه وردَّتُه، وهذا حكمُ الآدميةِ في الأصلِ، ويشبهُ البهائمَ من حيث إنه مملوك يُباع وُيبتاع ويوهب، وتجب قيمتُه عند الإتلاف، ويضمن بالغُصوب والأيدي المتعدية. فإلى أيّ الأصلين كان أميلَ وبأيِّهما كانَ أشبه وجَبَ إلحاقُه به، وهذا من أحسنِ الأقْيسة. فلا عبرة بقول من أسقطه، وسنذكر ذلك في مسائل الخلاف إن شاَء الله. ونُشير إلى الدلالةِ هاهنا، وذلك أن الشرع قد ورد باعتبار الأشباه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي سألَه عن القُبلةِ في الصومِ: "أرأيتَ لو تَمضْمَضتَ" (¬1). وقال للخَثعمية حين سألته عن إدراكِ فريضةِ الحجِّ لأبيها وهو شيخٌ لا يَستمسك على الراحلةِ لتحجُّ عنه: "أرأيتِ لو كان على أبيكِ دينٌ فقضيتهِ، أكانَ ذلك ينفَعُه؟ فَدَينُ الله أحق" (¬2). وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رحمة الله عليه: الفَهم الفَهم فيما تَلَجْلج في صَدرك مما ليس في كتاب الله ¬

_ (¬1) السائلُ هو عمر-رضي الله عنه-، والحديث أخرجه أبو داود (2385) في الصوم، وابن أبي شيبة 3/ 60 - 61، والدارمي 2/ 13، والبيهقي 4/ 218، وأحمد 1/ 21، وابن حبان (3544)؛ وصححه الحاكم في "المستدرك" 1/ 431، ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه بنحوه مالك في "الموطأ" 1/ 359، وأحمد 1/ 346، و 359، والبخاري (1513) و (1855)، ومسلم (1334) وأبو داود (1809)، والنسائي 5/ 117 - 119، والبيهقي 4/ 328، والترمذي (928)، وابن ماجه (2909)، والبغوي (1854)، وابن حبان (3989) و (3990). من حديث عبد الله بن عباس.

- من فصول قياس الشبه

ولا سُنةِ رسولِ الله، ثم اعرفِ الأشباه والأمثال وقِس بأشبهها بالحق (¬1). فصل من فصول قياس الشَبه واعلم أنه إذا ثبتَ في الأصلِ علَّةُ للحكمِ وكانَ الفرعُ يُشبهُ الأصلَ في غير العَلّة، فهل يجوزُ إلحاقُ الفرع به بذلك الشبه وإن لم يشبهه في العلَّة؟ اختلف في ذلك العلماء، ولأصحابِ الشافعيِّ وجهان حسب الاختلاف: فمنهم من قال: يجوز ذلك (¬2)؛ لأنَ شَبهه به فيما أشبهه يغلب ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني 206/ 4، والبيهقي 10/ 115، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" 1/ 200، وأورده الِإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 85 - 86، وابن حَزم في "الإحكام" 8/ 1003، وقال: " إن نسبته إلى عمر، لا تصح". وتعقبه الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"4/ 196، وصحّح نسبته إلى عمر -رضي الله عنه-. (¬2) وهو ما عليه الأكثرون من الشافعية، ويرشد إليه قول الِإمام الشافعي في كتاب "الأم ": "والقياسُ قياسان: أحدهما: يكون في مثلِ معنى الأصل، فذلك الذي لا يحل لأحد خلافه، ثم قياس: أن يشبه الشيء بالشيء من الأصل، والشيء من الأصل غيره، فيشبه هذا بهذا الأصل ويشبه غيره بالأصل غيره، وموضع الصواب فيه عندنا والله تعالى أعلم أن ينظر: فأيهما كان أولى بشبههِ صِير إليه: فإن أشبه أحدهما في خصلتين، والآخرَ في خصلةٍ، ألحقه بالذي هو =

على الظن أنَه بذلك الشبه مثلُه في جَلب حكمِ الأصل إليه وموافقته في حكمه. ومنهم من قال: لا يجوزُ ذلك (¬1)؛ لأنه قد ثبت أنَّ الحكمَ في الأصل لأجلِ العلَّة، لا لما أشبهه فيه الفرع فيفضي إشراكه في حكم الأصل بغير علته، ويفارق هذا إذا لم تكن للأصل علَّةُ؛ لأنه لا يُفضي إلى إثبات الحكم في الفرع بما لم يثبت به حكم الأصل، لكنا لم نجد إلا الشبه، فعلقنا الحكم في الفرع بما غلب على ظننا أنَّه هو الذي تعلق به حكمُ الأصلِ. ويمكن أن يقال على هذا: إن الأحكام الشرعية قد تَثبت في الأصلِ المقيسِ عليه بعلتين، ولا يمنع تعدية الحكم إلى الفرع بإحداهما مشاركةُ (¬2) الفرع للأصل في تلك الواحدة، ومعلوم أن الشَّبهَ طريقٌ لإثباتِ التعديةِ لحكمِ الأصل إلى الفرع، فلا يُمنع إلحاقُ الفرعِ بالأصلِ لأجلِ اشتراكِهما في الشبهِ، وإن انفرد الأصل بالعلة التي لم يشاركْه فيها الفرعُ، فيصيرُ الشبهُ كإحدى العلتين، فلما لم ¬

_ = أشبه بالخصلتين". انظر"الأم" 7/ 85 باب اجتهاد الحاكم، وارجع إلى قياس الشبه، ورأى الشافعية في حجيته في "المحصول" 5/ 201 - 203، و"البحر المحيط" 5/ 234 - 241. (¬1) ممن ذهب إلى ذلك من الشافعية: أبو إسحاق. الشيرازي، وأبو بكر الباقلاني، وأبو بكر الصيرفي. انظر "المستصفى" 2/ 310، و"المحصول" 5/ 203، و"البحر المحيط" 5/ 236. (¬2) في الأصل: "ومشاركة".

- فصل فيما يفتقر إليه القياس من أصل وفرع وعلة وحكم

يقفْ إلحاقُ الفرعِ بالأصلِ أن يشاركه في العلتين، بل جاز إلحاقُه به لمشاركتِه في إحداهما، كذلكَ لا يمنعُ الإلحاقُ لمشاركتِه له في الشبه وان لم يشاركْه في العلَّة. ولِمن نصرَ الأول -وهو المنع- أن يقول: إن العلتينِ مُتساويتان، وكلُّ واحدة صالحة لجلب الحكم، فلذلك اكتفينا في الالحاقِ للفرع بالأصل باشتراكِهما (¬1) في إحدى العلتين، وليس كذلك الشبه؛ لأنه لاَ يساوي العلَّة، فإذا وُجِدَ الحكمُ في الأصلِ مع وجودِ العلةِ فيه، ولم يوجدْ في الفرع لم نأمنْ أن يكونَ الشبهُ الذي اشترك فيه الفرعُ والأصلُ خِلواً عن جَلب الحكمِ، وإنما الجالبُ للحكمِ في الأصلِ العلّةُ لقوَّتها وضعفِ الشبهِ، بخلافِ ما إذا انفرد الشبهُ عن علةٍ في الأصل؛ لأنه لم يبقَ لنا ظاهر به يُجلب الحكمُ إلى الأصلِ إلا الشبهُ، وقد شاركه فيه الفرعُ، فلذلك عَدينا حكمَ الأصلِ إلى الفرع (¬2). فصل فيما يفتقر إليه القياس قال المحققون من العلماء: ولا بُدٌّ للقياس من أصل، وفَرعٍ، وعلّةٍ، وحُكم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لاشتراكهما". (¬2) اكتفى المصنف -رحمه الله- بأن يسوق رأي المجيزين والمانعين لقياس الشبه، دون أن يرجِّح بينهما، والذي اختاره أكثر الحنابلة، ونصره القاضي أبو يعلى، أن قياسَ الشبه حجةٌ يعتدُّ بها، وأن الحادثة تلحق بأقربهما اليها، وأكثرهما شبهاً بها. انظر"العدة" 4/ 1325 - 1329، و "المسودة" ص (374)، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 188.

فالأصل: ما تَعدى حكمه إلى غَيره. ومن الأصوليينِ من يقول: إنَ الأصلَ هو: النصُّ الواردُ فيما جعلتموه أصلًا، مثل نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحريم التفاضل في الأعيان الستة (¬1)، وهذا وإن كان هو الأصل في إثبات الحكم، فهو مختص بالأصولِ لا يَتعدَّى عنها، وأما الذي يَتعدى ما في المنصوص عليه من العلّة، فكانت هي الأصول، إذ كان ثبوت الحكم في الفرع بمعناها دون النص. ومن الفقهاء من قال: الأصلُ: ما ثَبت حكمه بنفسه (¬2). وُيريد بذلك ماثبت حكمه بلفظٍ يخصه. وقد اعترض هذا القائل على من قال: بأن الأصلَ ما تعدى حكمُه إلى غيره: بأنَّ الذهب والفضة أصلان، ولم يثبت بهما حكم غيرهما عند أصحاب الشافعي. فأجابَ عن ذلك: بأنا إنْ عللَّناهما بالوزن فقد تَعدى حكمهما، وإن قلنا: العلَّة الثمنية على قول الشافعي -رضي الله ¬

_ (¬1) ورد هذا في حديث أبي الأشعث قال: كان أُناس يتبايعونَ آنية فضة في مغنم إلى العطاء، فقال عبادة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبرِ، والشعيرِ بالشعيرِ، والتمرِ بالتمرِ، والملحِ بالملحِ، إلا مثلًا بمثل يداً بَيدٍ، فمن زاد أو استزاد، فقد أربى. أخرجه مسلم (1587)، وأبو داود (3349)، وابن ماجه (4454)، والنسائي 7/ 274 - 276، والبيهقي 5/ 277، وابن حبان (5015). (¬2) يُرجع إلى معنى الأصل في "العدة"1/ 175، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 229 - 230، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 14 - 15.

عنه- فلا (¬1)، فإن الذهبَ والفضةَ ليسا عندَ أصحاب الشافعيّ -رحمةُ الله عليه وعليهم- لا أصلينِ ولا فرعينِ، بل ثبت حَكمهما بالنص من غير أن (¬2) يُعدَّى إليهما حكمُ غيرِهِما، ولا يُعدى حكمُهما إلى غيرهما، فلا يُسَميان بواحدٍ من الاسمينِ لا بفرع ولا بأصلٍ. وقد قال بعضهم: إنْ صارتْ الفُلوس أثماناً عُدي حكمُهما إليها، فحرم التفاضل فيها. فعلى قول هذا القائل قد وُجدت خصيصةُ الأصل فيها. واعتُرضَ الحد الذي ذكره من قال: ما ثبتَ حكمه بنفسه، بأن قيل: ليس لنا شيءٌ ثبتَ بنفسه من سائرِ الأحكام، وما فسره به من قوله: أردتُ: ما ثبتَ بلفظٍ يخصُه. فلا يَقتضيه لفظُه؛ لأن اللفظ الذي يخصّه إنما هو غيره، وليس هو نفسه. فصل والفرع هو: ما تَعدى إليه حكم غيره. ومن الأصوليين من يقول: إنه الحكم، كما جُعل الأصلُ النص. فلحظ في ذلك أنَ الذي تفرع عن الأصل إنما هو الحكم، فجعله فرعاً له. وقد بينا أن الأصل هو: المنصوص على حكمه، والفرع هو: الذي ثبت بالعلة حكمه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا" أي لا يتعدى حكمهما. (¬2) ليست في الأصل.

فصل والعلة هي: التي ثبتَ الحكم لأجلها، أو نقول: ما أوجَبت الحكم، أو نقول: ما غَيرت المعتلَ، وهو المحكوم فيه -على قول أبي علي الطبري (¬1) - كما تُغيَّر علةُ المرض المريضَ الذي تقومُ به. فصل والمعلول هو: الحكم (¬2)، ولذلك يقول القائل: بمَ تُعلل هذا الحكم؛ ويقال: اعتل فلان بكذا. فيما ذهبَ إليه من الحكم. وقال أبو علي الطبري -من أصحاب الشافعيّ رحمة الله عليه-: إنه المحكومُ فيه، كما يسمى مَن حلَّته العِلة وقامَ به المرضُ: مَعلولًا. والأول أصحُ؛ لأن معلولَ العلَّة هو ما أثارته، وما أثارت سوى الحكم دون ذاتِ ما قامت به العلةُ، بخلافِ الجسمِ، فإنَّ العلَّةَ تقومُ به وتوثر فيه، فلهذا كان الجسمُ معلولًا. فصل والمُعلل: حكمُ الأصل؛ لأنَه المطلوبُ علتُه. والمُعَلل هو: الناصب للعلَّةِ، وقد يُسمّى ذلك: المستدل بالعلة؛ ¬

_ (¬1) هو الحسن بن القاسم أبو على الطبري شيخ الشافعية، من مصنفاته "المحرِّر في النظر" وهو أول كتاب في الخلاف المجرد، و"الإفصاح في المذهب"، درس ببغداد، وتوفي فيها سنة (350) هـ. "تاريخ بغداد" 8/ 87، "سير أعلام النبلاء" 16/ 62 (¬2) انظر "الكافية في الجدل": 61 - 62.

- يجوز أن تكون العلة صفة ذاتية أو شرعية، واسما مشتقا أو علما أو حكما

لأنَه بمنزلة الناصب لها. والمُعتَل هو: المحتج بالعلة. فصل والحكمُ الذي هو من جملة ما احتاج إليه القياس وشرط له، هو: قَضاء الشرعِ المستنبط. وصورته: قول القائِس: فكانَ، فوجبَ، فلزمَ، فلم يَجزْ، فأبيحَ، فاسْتُحب، فاسْتُحِق، وما شاكلَ ذلكَ من العباراتِ بحسب المسألة المختلَفِ فيها. فصل ويجوزُ أن تكونَ العلَّة صفةً ذاتيةً أو شرعيةً، واسماً مشتقاً أو عَلماً أو حُكماً (¬1): فالصفة الذاتية: كالطعم والقوت في الأعيان المنصوص عليها. والشرعية: كقولنا: عبادة أو كفارة. والاسم المشتق: كقولنا في النَّبّاش (¬2): سارق، وفي واطىء الأجنبية بغير شُبهة: زان. ¬

_ (¬1) تُنظر مسألة تعليل الحكم بالأسماء المشتقة وأسماء الألقاب في "العدة" 4/ 1340، و"التمهيد" 4/ 41، و"المسوّدة " 393، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 42. (¬2) نَبش الموتى: استخراجهم بعد الدفن، والنباش: الفاعل لذلك."اللسان": (نَبشَ).

والاسم العلم: كقولنا: ماء أو تراب. والحكمُ: كقولنا: مَن صَح طلاقه صَح ظِهاره، ومَن وجب العُشرُ في زَرعهِ أو لأجلِ زَرعه، وجبَ رُبع العُشر لأجل مالهِ، وما لا تجبُ الزكاةُ في ذكورِه لا تجبُ في إناثِه، كغير الخيل من الوحوشِ والبغالِ والحمير (¬1). فصل وقال قوم من أهلِ الجدل: إنَّ الاسمَ العَلم لا يجوزُ أن يَكون علةً (¬2): لأن العلَّةَ: ما أفادت معنى يتعلق به الحكم، والاسم إنما هو مُواضَعةٌ بين أهل اللغة للتعريف، وما كان للتعريف لم يتضمن التعليل، كقولنا: زَيد وعَمرو، ولهذا كان مَوجوداً قبل الشرع. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العللَ الشرعيةَ أمارات من جهةِ صاحب الشرع جُعِلتْ علامات على الأحكام وصارت علةً بجعلِ جاعلٍ، وكذلك لَو وَرد التعليلُ به من صاحبَ الشرع، فقال: أزيلوا النَّجاسةَ بالماءِ لا بغيرِه؛ لأنَّه ماء، وتَيمموا بالتراب؛ لأنه ترابٌ، كان تعليلًا صحيحاً، وإذا جاز وُرودُ الشرع به (¬3)، لم يجز المنعُ من كونِه علةً؛ ألا ترى أن العقوبةَ لما لم يجزْ أن تكون مُعللةً بإحسانِ المحسِن، وطاعةِ المطيعِ، لم يجزْ أن يردَ الشرعُ بها، فيقول: عاقبوا زيداً؛ لأنه ¬

_ (¬1) انظر تفصيل مسألة زكاة الخيل في "المغني" 4/ 66 - 69. (¬2) وهو ما اختاره بعض الشافعية منهم الفخر الرازي، انظر "التبصرة" 454، و"المحصول " 5/ 311. (¬3) ليست في الأصل.

أحسن أو بَر والديه، أو لأنَه وحد الله وشكر أنْعمه. وأبداً يوردون على هذا، أنَ صاحبَ الشريعة نفسُ قولهِ حجة، فلذلكَ حَسُن منه ذلك، ونحن لا نُجوِّز أن يُعَلَّل إلا بماله شروط العِللٍ، وهذا ليسَ بصحيحٍ؛ لأن صاحبَ الشريعةِ مع كون قوله حجة، فإنَه إذا أخرجَ الكلامَ مَخرجَ التعليلِ لم يُخرجه إلا بشروطِ التعليل، وكذلكَ لو قالَ في العقلياتِ من العلل: إنما أوجبَ كونَ الجسمِ مُتحركاً قيامُ السوادِ به، لم يجزْ. لِما ثبتَ من أن علّة كونِ المتحرِّكِ مُتحركاً هو الحركةُ، وقيامُ السواد به لا يوجب إلا كونه أسوداً. وكذلك لو قال: أحسنوا إلى زيدٍ؛ لأنه مُسيء، وعاقبوا عمراً؛ لأنه محسن. لم يكن هذا تعليلًا صحيحاً، بل لاتجوزُ علةُ ذلك لما فيه من الاختلالِ والفساد، ولم يصر صحيحاً لأنه ورد من جهةِ الشارع. وكذلكَ القولُ بأنَ زيداً حيُّ وهو ميت، أو أبيض وهو أسود، لما كان كذباً ممن وجد، ولا يجوزُ ورودُه من صاحب الشرع، كذلك إضافةُ المعلولِ إلى مالا يَليق بأن يكونَ علةً له، بَل علةً لضِده. فإذا ثَبتت هذه القاعدة عُلم أن كلَ شيءٍ علل به الشرعُ، أو حسنَ أن يُعلّل به، جازَ أن يُعلّق الحكمُ عليه تعليقَ المعلولِ على علتِه. فصل وقال قوم من أهلِ الجدلِ والفقهاءِ: لا يجوزُ أن يكونَ الحكُمُ علةً للحكم (¬1). ¬

_ (¬1) والراجح المختار أنه يجوز أن يكون الحكم علَّةُ لحكم آخر. انظر "التمهيد" 4/ 44، و"المسوَّدة": 411.

وهذا القائلُ لا يرى أن جعْلَ المعلولِ علةً سؤالًا صحيحاً؛ لأن المعلولَ هو الحكم، فلا يجوز أن نجعله علةً من حيثُ إيرادُه سؤالًا، وهو لا يراهُ علةً من حيثُ الاستدلالُ به. قال: لأنَ الحكمَ معلولُ علةٍ لا ثباتَ له إلا بها، فلا يكونُ له استقلال إلا بالعله، فكيف يكون علةً لحكمٍ هو مثله؟! وما ذلك إلا بمثابةِ من قال: إن التحركَ الذي هو معلولُ الحركةِ علةٌ لتحركِ الجسم. ومما يدلُ على أنَّ الحكمَ لا يكونُ علةً وانما يكونُ دلالةً على الحكم: أنا إذا قلنا: ما كانَ رباً في دار الإسلام كانَ رباً في دار الحرب. لا يقتضي أنه إنما كان رباً في دار الحرب؛ لأنه في دار الإسلام، ولكنَّه إنما كان رباً في الدارين جميعاً لأجلِ التفاضل فيما حَرُم فيه التفاضل، وذلك هو العلَّة. فإذا جعله المخالفُ رباً في دار الإسلام، علمنا أنه كان للعلةِ التي هي التفاضل في الجنسِ، وذلك مَوجود فَي دارِ الحربِ، فكان رباً فيها بوجودِ علته. قال بعض أئمةِ الأصول: وهذا استصحاب حالٍ بصورةِ قياس، ومعناه: أنه قد ثبت كونه رباً في دارنا، فمن ادعى أنَّه ليسَ برباً في دارِ الحربِ فَعليهِ الدليلُ. فيقالُ: إن أردتَ أن ذلكَ ليس بعلةٍ موجبةٍ، فهذا حكمُ جميعِ عللِ الشرع، وإنما الموجبة العللُ العقليةُ. وإن أردتَ أنها ليست أمارة، فليس بصحيح؛ لأنك أقررتَ بانها دلالةٌ، والدلالةُ أمارة، ويدل على ذلك أنه قد توجدُ في ذلك إحدى

الدلائل التي تثبت العلَّة، ألا ترى أنه يجوز أن يقولَ صاحبُ الشرع: ما كلانَ رباً في دارِ الإسلام يكون رباً في دار الحرب، كما قال: "مَنْ بَدلَ دينَهُ فَاقْتُلوه" (¬1)، فيكونُ علةً، وعلى أنَّ ما كلان رباً في دار الإسلام فقد تضمن العلةَ الموجبةَ للربا، فصح وصفُه بأنَّه علةٌ لكونه رباً في دارِ الحرب. ولعلَّ هذا القائلَ افْترقَ في نفسهِ ما كان غَرضَ الحكمِ وما لم يكنْ غرضه، وليست العللُ موقوفةً على ذلك، وإنما هي ما جُعلت بدليل شرعي، وكل علَّةُ يطالب بصحتها فمن مستندها يعطي أنها لم تقمْ بنفسِها، فيجب أن لا تَصح لنا علَّةُ، إذ لم نَنفِ أن يكونَ الحكمُ علةً إلا لكونهِ يَستندُ إلى غيره. فصل وقد تكونُ العلةُ وجودَ صفةٍ أو اسم، وقد تكون نفياً، كقولنا: ليس بمطعومٍ (¬2) ولا ثَمنٍ، أو ليس بموزونٍ وليس بتُرابٍ (¬3). وكذلك في الحكم: مالا يجوزُ بيعهُ لا يجوزُ رَهنه، فيكون النفيُ نافياً للحكمِ، ألا ترى أنه يحسنُ أن نقول: لا تَحسُنُ عقويتُه؛ لأنه لم يُسىء. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة: (39) من الجزء الأول. (¬2) أي ليس بمطعوم فيجوز التفاضل فيه. (¬3) أي ليس بتراب فلا يجوز التيمم به.

- يجوز إثبات كل حكم شرعي طريقه الظن بالقياس

فصل ويجوزُ إثباتُ كلَّ حكم شرعي طريقُه الظنُّ بالقياس، سواء كانَ كفارةً أو حدَّاً أو مُقدراً من المقدرات (¬1). ومنع أصحابُ أبي حنيفة من إثبات ذلك بالقياس (¬2)، واستدلوا في ذلك بأن الحدود شُرعت ردعاً، وذلك لا يدرك بالقياس، وكذلك الكفارات لإسقاط المآثم. وربما قالوا: إن القياس هو رد الفرع إلى أشبه الأصلين به، والشبَه الآخر شُبهة فيه، والحدود تَسقط بالشبهة بل لا تجب مع نوع شُبهة. وهذا لا يصح؛ لأن ذلكَ حكم شرعي ثبتَ بخبر الواحد فثبت بالقياس، كسائر الأحكام. يوضح ذلك: أن سائر الأحكام ألطاف ومَصالح، وكما لا يَعلم مقادير الأجرام ومقابلاتها إلا الله، ينبغي أن لا يُعلم مقدار مصالح الأدميين وألطافهم بالأراء والقياس، وما اعتل نُفاةُ القياس إلا بهذا في سائرِ أحكام الشرع، ولو جاز أن لا يثبت حَد ولا كَفارة لما ذكروا من كون الشبه الآخر الذي لا تَشهد به شُبهة، لكان الخلاف المسوغ شبهةً حتى لا يجبَ حد مع خلاف، بل لا يجب [إلا] (¬3) مع الإجماع. ¬

_ (¬1) تنظر هذه المسألة، وما قرره الحنابلة ومعهم الشافعية من جواز إثبات الحدود والكفارات عن طريق القياس، في: "العدة" 4/ 1409، و"التمهيد" 3/ 449، و"المسوّدة": 398، و "شرح مختصر الروضة" 3/ 451. (¬2) انظر قول الحنفية هذا في: "أصول السرخسي" 2/ 157 - 164. (¬3) زيادة يستقيم بها السياق.

على أننا لا نُثبت حداً ولا كفارة إلا بقياس دل دليل شرعي على إثباتِ علةِ الحكم به، فصار ثابتاً من جهةِ صاحب الشرع، وقد ناقضوا بقياسهم كفارةَ الأكلِ على الجماع بما جمعوا بينهما به من أنه أفطر بمتبوع جنسه وبمقصوده (¬1). ¬

_ (¬1) وذلك فيمن أفطر عامداً بالأكل في نهار رمضان حيث أوجبوا عليه كفارة المواقع زوجته في نهار رمضان، والتي ورد بها النص، ودليلهم في ذلك القياس.

* فصل في استصحاب الحال

فصل في استصحاب الحال (¬1) وهو ضَربان: استصحابُ حالِ العقلِ في بَراءة الذمم من الحقوق، وهي العباداتُ والغراماتُ، كقولِ القائلِ في إسقاطِ ديةِ المسلمِ إذا قُتِلَ في دارِ الحرب، أو في إسقاطِ ما زادَ على ثلث الدية في قَتل الكتابي خطأ: الأصلُ براءةُ الذمة وفراغُ الساحة، فمن ادّعى شَغلها فعليه الدليل. ولسنا نجدُ في الشرعِ ما يشغلها بديةِ المسلم المقتولِ في دار الحرب، ولا بما زاد على الثلث في قتلِ الكتابي، فيبقى على حكمِ الأصل. فهذا دليل يفزعُ إليه المجتهدُ عند عدمِ الأدلةِ. والثاني: استصحابُ حالِ الإِجماعِ، وهذا مُختلف فيه، وهو مثل قول الشافعي في حق المتيمم إذا وَجَد الماءَ في صلاته: إن صلاتَه انعقدت بالإِجماع، فلا يزول عن ذلك إلا بدليل. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاءَ الله. ¬

_ (¬1) الاستصحابُ لغة: طلب المصاحبة واستمرارها. وشرعاً: استدامة إثبات ما كان ثابتاً، أو نفي ما كان منفياً. "إعلام الموقعين" 1/ 294، وانظر: "شرح مختصر الروضة" 3/ 147 حيث عرفه الطوفي: "بالتمسك بدليل عقلي أو شرعي لم يظهر عنه ناقل".

* فصول تجمع أنواعا من الأقيسة، وبيان الأحسن والأقوى منها والأرك وتحقق ما أهمله كثير من الفقهاء

فصول تجمع أنواعاً من الأقيسةِ، وبيانُ الأحسن والأقوى منها والأَرَكِّ، وتُحققُ ما أهمله كثير من الفقهاءِ. فصل في التقسيم (¬1) وقد سبق تحديدُه، وتَقريبه ها هنا: أن يذكرَ المستدلُّ كلَّ قِسم يتوهم أن الحكم يتعلق عليه ويُبطله، سوى القسم الذي تعلق به الحكم، وأكثر ما يتفق هذا ويكون مثلُه في الموضعِ الذي يتفق الخُصماء أو الخصومُ على أن للحكمِ علةً واحدةً. مثاله: ما يُقال في أن الشفيع يأخذ (¬2) الشِّقْص (¬3) بالثمن الذي وقع العقدُ عليه. فيقولُ المستدِلُ على ذلك: قد دلَّ على ثبوتِ الشفعةِ للشفيعِ ¬

_ (¬1) التقسيم هو: حصر المعترض مدارك ما ادعاه المستدل علةً، وإلغاء جميعها "شرح مختصر الروضة" 3/ 491، و"التمهيد" 4/ 22، و"العدة" 4/ 1415، و"المسوَّدة": 426 وانظر ما تقدم في الجزء الأول (472). (¬2) في الأصل: "فى حدِّ". (¬3) الشقص: هي القطعة من الأرض، والجمع: أشقاص، انظر "اللسان": (شقص).

- فصل في الاستدلال بالعكس

بعد تمام الشراءِ، وأنه ياخذُه بعوض، فلا يخلو ذلك العوضُ إمَّا أن يكونَ قدرَهُ ما يرضى به الشفيعُ، أو ما يرضى به المشتري للشقص، أو يَتراضيان به، أو بقيمةِ الشقص، أو بالثمنِ الذي وقع عليه العقدُ، إذ ليس هاهنا قسم آخر له تعلق به. ثم يَشرع في إفسادِ كلِ قسم سوى القِسم الذي يتعلق به الحكم، فيقول: ولا يجوزُ أن يكونَ القدرُ هو ما يرضى به الشفيعُ؛ لأنَّه قد يكونُ رضاه بالأقلِ الذي يَستضر به المشتري، والضررُ لا يزال بالضررِ، ولا يجوزُ أن يكونَ ما يرضى به المشتري، فإنه قد يرضى بالأكثرِ الذي إن أخذَ به الشفيعُ اسْتَضر، وان لم ياخذ [به] (¬1) لما يرى من كثرتهِ استضرَّ بإسقاطِ شُفعتِه، ولا يجوزُ أن يكونَ ما يتراضى به الشفيعُ والمشتري معاً؛ لأنه يؤخذُ من غير رضَى، وربما لا يتراضيان على شيءٍ، فيؤدي إلى إسقاطِ الشفعةِ، ولا يجوزُ بقيمةِ الشقص؛ لأنها قد تزيدُ على الثمنِ فيستضرُ به الشفيعُ، وقد تنقصُ عن الثمن فيستضرُ المشتري، فلم يبقَ إلا الثمنَ الذي وقع العقدُ عليه، وفي الأخذِ بالثمنِ إزالةُ الضررِ عنهما (¬2)، فوجبَ الأخذُ به دونَ ما سبق من الأقسام. فصل ومنها: الاستدلال بالعكسِ، وهو:. رَد آخِر، الأمرِ إلى أولِه، أو أولِه إلى آخِره (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة ليست في الأصل. (¬2) في الأصل "عنها". (¬3) انظر "العدة"4/ 1414، و "التمهيد" 3/ 358، و"المسودة" 425.

وأصله في اللغة: شَدُّ رأسِ البعير بخِطامِه إلى ذِراعه. وعند أهلِ الجدلِ: أن يتبدلَ ترتيبُ الكلامِ ويتحفظَ معه أمران: الصفةُ والصدقُ. ومثال ذلك: قولك: رجل قائم. فإذا عكستَ قلت: قائم رجلٌ. فتجعلُ المبتدأ خبراً والخبرَ مبتدأ، ويتمُ ذلكَ عندهم في النفي العام أبداً، ولا يتمُ في النفي الخاصّ أبداً. والإثباتُ الخاصُ يتمُ فيه أبداً، وأما الإثباتُ العام فلا يتمُ فيه إلا إذا جعلته خاصاً، فإذا قلت: كلُّ مسكرِ حرام. كان هذا صدقاً، وإذا عكست فقلت: كلُّ حرامِ مسكر. لا تصدقُ إلا إذا خصصت فقلت: وحرامٌ ما يُسْكِرُ. وأما صورتُه عند الفقهاءِ: فكقولِ الحنفيّ في الماءِ إذا تغيرَ بالخل أو الزَّعفران: إنه لو كان تَغير الماءِ بالزعفرانِ يمنعُ الوضوءَ به، لكان وقوعه فيه يمنعُ (¬1)، كالنجاسةِ إذا حصلتْ في ماء قليل، لما منعَ تغيرُ الماءِ بها من الوضوء منع وقوعها فيه. وذلك أنه يدعي أن التغييرَ والوقوعَ يفترقان وينعكسان، ما يمنع وقوعه يمنع تغيره، ثم يُبدل فيقول: ما يمنعُ تغيرَه يمنعُ وقوعَه، على ترتيبِ أهلِ الجدل، إلا أنه ينقلُه إلى الزعفران فيقول: ثم وجدتُ الزعفرانَ وقوعه لا يمنع، فتغيرُه لا يمنعُ. فحقيقةُ العكسِ عند أهل الجدلِ: ما يمنعُ وقوعَه يمنعُ تغيّره، وما يمنعُ تغيرَه يمنعُ وقوعَه، إلاَ أنه لا يتمُ له إلا إذا أتى بهما خاصَّين منكرين. والفقهاءُ يريدونَ بعكسِ العلَّةِ: عدمَ الحكمِ عند عَدمِ العلَّةِ بكل ¬

_ (¬1) أي لكان مجرد وقوع الزعفران في الماء يمنع الوضوء، حتى لو لم يحُدث تغيراً في طعمه أو لونه.

حال، وهو هذا، لأنهما لا يَفترقان أبداً. ومثال آخر: من صَح طلاقُه صح ظِهاره، عكسُه عند أهلِ الجدلِ: مَن صح ظهاره صح طَلاقُه. ويعبر عن ذلك: لو لم يَصح ظهارُ الذميّ لم يصح طلاقُه، كالصبيِ والمجنونِ. فصل وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في صحةِ الاستدلالِ بهذا- أعني العكس الذى ذكرناه ومثلناه-. فمنهم من قال: لا يصح (¬1)؛ لأن عدمَ العلَّةِ لا يدلُّ على عدمِ الحكمِ في الشرعياتِ، لأن الحكمَ قد ثبت بعكس، فإذا زالت إحدى العلتينِ جاز أن تخلفَها علَّةُ أخرى، وكذلك عدم أخذ الحكمين لا يدلُ على عدمِ الحكمِ الأخرِ لجوازِ أن يختلف طَريقُهما. ومنهم من قال: يصح الاستدلالُ به، وهم الأكثرونَ من الفقهاءِ وأهلِ الجدل، وهو أصح (¬2)؛ لأن الحكمينِ إذا كان طريقُهما واحداً وثَبتا معاً جاز أن يُستدل بوجود أحدِهما على وجودِ الآخر، وبعدم أحدِهما على عدم الآخر؛ لأن القرآن تضمنَ الاستدلالَ بالعكسِ، قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والمراد بقولِه: إلا الله: غير، وهي صفة، فوصفَ الألهةَ التي ادعوها بانها غيرُ ¬

_ (¬1) نُسِبَ ذلك إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وغيره من الشافعية، انظر؛ "شرح الكوكب المنير"4/ 219، "البحر المحيط" 5/ 46 - 48. (¬2) وهو اختيار أكثر الاصوليين والفقهاء، وقد استدلى به الشافعي في عدة مواضع. انظر: "البحر المحيط" 5/ 47.

- فصل: من جملة العكس جعل العلة معلولا والمعلول علة

الله، ولم يتعرضْ لذكرِ الواحدِ في هذا الموضِع البتة، فكأنه قال سبحانه: لو كانَ فيهما الألهةُ التي تدعونها لفسدتا، فلما لم تفسدا علمنا أنها ليست آلهة. وهذا استدلال بالعكسِ. فصل ومن جملةِ العكسِ ما يقوله الفقهاء: جعلُ العلَّةِ معلولاً والمعلولِ علَّةُ (¬1)، وهو: أن يقدم المؤخر ويؤخر المقدمَ. والمعلولُ، هو: حكمُ الفرعِ. مثاله: قولُ أصحابِنا وأصحاب الشافعي في الصداقِ: ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون صَداقاً، كَالعشرةِ. فيقولُ الحنفي: أنا أقول: ما جاز أن يكون صَداقاً جاز أن يكون ثمناً، كالعشرةِ، وذلك أنك تقول: العشرةُ جازتْ في الصداقِ؛ لأنها جازت في الثمنِ، فعلتُك الثمنُ، وحكمُك جوازُ الصداق. وأنا أقول: بل العشرةُ جازت ثمناً؛ لأنها تجوزُ صداقاً، فأجعلُ العلَّةَ جوازَها صداقاً، والحكم جوازَها ثمناً، فلا يكونُ أحدُنا أولى به من الآخِر، فيقف الدليلُ. وهل يصحُّ هذا السؤال أم لا؛ على مذهبين: أحدهما: يصح؛ لأنه يقفُ معه الدليلُ (¬2). ¬

_ (¬1) جعلُ العله معلولًا، والمعلول علَّةُ، هو نوع من أنواع قياس القلب، كما صرح به الكلوذاني في" التمهيد" 4/ 215 - 212 والمجد في" المسوَّدة": 446، وانظر: "شرح الكوكب المنير"4/ 335. (¬2) هذا رأي الحنابلة والشافعية، انظر: "التبصرة": 479.

- فصل في الاستدلال بالاستقراء

والمذهب الثاني: أنه لا يصح ولا يقدم في الدليل (¬1)؛ لأن الحكمينِ إذا أوجبَهما دليلٌ واحدٌ فلا يفترقان، فوجود أحدِهما يدل على وجودِ الآخرِ، فإذا كان النَكاح الصحيح يوجب الطلاقَ والظهارَ، فصحة الظهارِ تدل على صحةِ الطلاقِ، وصحة الطلاقِ تدلُّ على صحةِ الظهارِ، كما أن وجوبَ نَفقةِ الزوجة يَدل على وجوبِ السكنى والكسوة، ووجوث الكسوةِ يدل على وجوبِ النفقةِ، ولأنه يصير بمنزلةِ منعِ علةٍ وادعاءِ علّة؛ ولأن علتك قاصرةٌ وعلةَ المستدلِ متعدية، والمتعدية أولى. فصل ومن ذلك: الاستدلال بالاستقراءِ في لغةِ الجدليين، ويسميه الفقهاء: شهادة الأصول (¬2). وهو: أن يستقر حكمٌ في أصولِ الشريعة على صفةٍ واحدة ثم يتنازعُ المجتهدان في فرعِ حكمٍ يوافق تلك الأصول، فإلحاقه بتلك الأصولِ أولى، كما تقولُ في نواقضِ الوضوء، كالنوم والبولِ والغائطِ والريحِ والمذي: كلُّ ذلك ينقض الوضوء خارجَ الصلاة وداخلَ الصلاة، والكلام والمشي والقيام والضرب: كلُّ ذلك لا ينقض الوضوء خارج الصلاةِ ولا داخلَ، ثم اختلفوا في القَهْقَهةِ، فقال الحنفي: تَنْقُض الوضوء داخلَ الصلاة ولا تنقضة خارج الصلاةِ (¬3). وذلك مخالفٌ ¬

_ (¬1) ذهبَ إلى ذلك الحنفية، والقاضي أبو بكر الباقلاني. انظر "تيسير التحرير" 4/ 161. (¬2) أي من الطرق الدالة على صحة العلَّة، الاستقراء أو شهادة الاصول، انظر "العدة" 5/ 1435. (¬3) انظر "المغني"1/ 239.

- فصل في الذرائع

للأصول الناقضةِ للوضوء وللأصولِ غيرِ الناقضة، فمن يلحقه بالأصولَ أولى. فصل ومن ذلك: ما يسميهِ الفقهاءُ: الذرائع، ويسميه أهلُ الجدلِ: أنه المؤدي إلى المستحيل في العقل أو الشرع. من ذلك: قولنا وأصحابُ الشافعي في إيجاب القِصاص على المشتركين في القتل أو إيجابهِ في القتلِ بالمثقل: إَن القولَ بإسقاطِ القود يفضي إلى إهدار الدماء. ومنه: قول أصحابنا وأصحاب الشافعي في اعتبارِ الولي لعقدِ النكاح: إننا لو لم نَعتبرْ اَلولي، لأفضَى إلى تضييع الأبضاعِ وإسقاط حقوقِ الأولياء؛ لأن الغالبَ من حالِها انخداعُها وميلُها إلى من تَشتهيه دون من يكافئُها. ومنه: القول بأننا لو صححنا القراضَ (¬1) على العروض، لأدى إلى أن يأخذ رب المال جميعَ الربحِ لحاجةِ العاملِ أن يشتري مثلَ العروض برأسِ المالِ والربحِ الذي اجتهد في تحصيلِه، فيقعُ عملُه ضياعاً، أَو يأخذَ العاملُ بعضَ رأسِ المال لتحصيلِه لمثلِ العروضِ بأقل ما باعه. ¬

_ (¬1) القِراض: هي شركةُ المضاربةِ؛ بأن يكونَ المالى من أحد المتعاقدين، والعملُ والجهدُ من المتعاقد الآخر، وَيشترطُ جمهور الفُقهاء لصحتها أن يكون رأس المال نقداً، ذهباً أو فضة، ولا يصح أن يكون عروضاً.

ومنه: أنا منعنا تزوجَ المسلمِ بالأمةِ الكافرةِ لئلا يؤدي إلى استرقاقِ الكافرِ ولد المسلم. والاعتراضُ على هذه الدلالةِ من وجهين: أحدهما: أن يقالَ: إن الشريعة كما حسمت المضار أثْبَتَت (¬1) جوازَ التوصلِ إلى الأغراضِ وإسقاطِ العقوبات بالشبهاتِ، ولم تحملْنا على القتلِ لمن قَتل بالعصا الصغيرة، إذا قامت بقتله بينة هي شاهد وامرأتان، أو شهدَ بذلك الفساق، وغير ذلك من الأسباب التي تسقط، وإذا اشتركَ من يجبُ عليه ومن لا يجبُ، أو عفا أحدُ الأولياء عن الجارحِ (¬2) كلُّ ذلك أُسقط به الاستيفاء، ولو كان القصدُ الاحتياط لما بناهُ الشرعُ على الدَّرء والِإسقاط؛ لأنهما ضدان، وتعليلُ الولي بما ذكروا يزول بإذن الأولياءِ لها في النكاح، فتزول الذريعة. وانفرادُ أحد المتضاربين، غيرُ ممتنعٍ في المضاربةِ، كما أفردَ ربُ المالِ بالخسارِة وجُبر المالُ بالربحِ، ويخرج عمل العامل ضياعاً. وتملكُ الكافرِ المسلمَ حكماً جائز غيرُ ممنوعٍ منه شرعاً بدليلِ الإرثِ. والوجه الثاني: أن يُقالَ: ما ذكرتموه يُفضي إلى ما احتَرزتم عنه، ويقررُ الوجوهَ التي تحصل منها الذريعةُ، وهو: أن قتل الجماعةِ بالواحدِ يفضي إلى إخراجِ القتلِ عن بابه؛ لأنه مما يَسقط بالشبهة إجماعاً، والشركة شبهة من حيثُ إنَ كلُّ واحد من الجراحات يَتغطى حكم سِرايته بالجراحة الأخرى، ولا يُدرى لعله ماتَ من فعلِ واحدٍ دون ¬

_ (¬1) في الأصل: "ثبت". (¬2) في الأصل: "الخارج".

- فصل: لا خلاف في جعل الإثبات علة للأحكام الشرعية

الباقين، أو من فعلِ اثنين أو ما شاكل ذلك، فنكون بقتلِنا الجميع قاتلين غير قاتل في طَى قاتل، والدماء على أصلِ الحَقْن في حقَ الظالمِ والمظلومِ، ونتبعُ كلَ مسألةٍ بمثلِ هذا. فصل لا يختلفُ أهلُ الجدلِ في الِإثباتِ أنَه يجوزُ أن يُجعل علةً للأحكام الشرعية، مثلُ قولِنا: مطعوم، فلا يجوز التفاضلُ في بيعِ بعضهِ ببعض، ومُشتد فحرم، ورقيق فضمن باليدِ، ومُسلم فلا يُقتل بالكافر، وكافر فلا يقتل به المسلمُ، وأبٌ وعدوٌ فاسق، فلا تُقبل شهادتهُ. واختلفوا في النفي: هل يصح أن يُعلل به الحكم الشرعي؟ فقال أصحابُنا والمحققون من أصحاب الشافعي وكثيرٌ من أهلِ الجدل: يصحُّ (¬1)، وقد تُنعتُ النكرةُ بالنَفي فَي العربية، قال سبحانه: {إنها بَقَرةٌ لا فارِضٌ} [البقرة: 68] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة: 71]، {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} [البقرة: 254]، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشعراء: 88]،، كما وصف ونعتَ بالإثباتِ، فقال سبحانه: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69]. ¬

_ (¬1) هذا ما اختاره الحنابلة، ووافقهم في ذلك بعض الشافعية كأبي إسحاق الشيرازي، والفخر الرازي، والقاضي البيضاوي. انظر "المسوَّدة": 418، و"شرح الكوكب المنير"4/ 48، و"التبصرة": 456، و"المحصول" 5/ 295 - 299.

واستدل من نص [على] (¬1) ذلك بأن الدلالة قد تكونُ بنَفي على نفيِ ما دل إثباته على الإثباتِ، مثاله: أن العِلم والقُدرةَ دليلان على حياةِ مَن قاما به واتصف بهما، فلا عالم قادر إلا حى، وكما دل إثبات القُدرةِ والعِلم على إثباتِ الحياةِ دل نَفيُ الحياةِ من المحلِّ، على نفي العلمِ والقدرةِ. ونقول في الفقه: ليس بماءٍ، فلا يجوز الوضوء به. ليس بترابٍ، فلا يجوزُ التيممُ به. ليس بعَدلٍ، فلا تُقبلُ شهادتهُ. ليس من جنسِ الأثمان ولا مَطعوم، فلا ربا فيه. لا يجوزُ الانتفاع به فلا يجوزُ بيعُه (¬2). أو غيرُ منتفع به، فلا يجوز بيعُه (2). والعقلاء لا يُنكرون قول القائل: زيد ليس في الدارِ؛ لأنه لا صجة في داره ولا دابته على بابِ دارِه، كما لا ينكرون قول القائل: إنه في الدارِ لضجةِ غلمانِه ووقوفِ فَرسِه. وقال قوم: لا يصح أن يستدلَ به (¬3)؛ لأن النفيَ غير شيء، وما ليس بشيء لا يَدل؛ لأن الدلالةَ زيادةٌ على كونِ الشيء شيئاً؛ لأن لنا أشياء لا تدلُ، فلا يدل إلا شيءٌ. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل والسياق يقتضي إثباتها. (¬2) مكرر في الأصل. (¬3) هذا مذهب الأحناف، واختاره الآمدي وابن الحاجب، وتبعهما ابن السبكي، وقال الأمدي: منعه الأكثر. انظر "تيسير التحرير"4/ 2، و"فواتح الرحموت" 2/ 274 و" جمع الجوامع" 2/ 280، و"الإحكام" للآمدي 3/ 295، و"مختصر ابن الحاجب" مع شرحه للعضد 2/ 214.

وهذا لا يصحُّ؛ لأن العدمَ وإن لم يكنْ شيئاً فإنه يدلُ، يقولُ العقلاءُ: لا روحَ في الشِّعر؛ لأنه لا حِس فيه. فإن قيلَ: فهذا ليس باستدلالٍ بالنفي، لكنه قول بالنفي لعدم الدليلِ، فكان قولُهم: لا روحَ فيه لأنه لا حِسَّ فيه، معناه: لا اثبتُ فيه روحاً إذ لا أجدُ فيه دلالة الروحِ. فهذا عدمُ الدليل لا أنه دليل. وكذلك قولُهم: لا ضَجة في دارِه فليس هو في دارِه، تقديرُه: لا أجدُ دليلَ كونِه في الدار، فلا أثْبتهُ في الدارِ، وكلُ ما جاء من هذا القبيلِ فهذا معناه، فأمَّا أن يكونَ النفي دليلًا فكلاً. قيل: بل قد يكونُ دليلَاً للنطقِ، ويرجعُ إلى أحدِ أصلين: إمَّا دليلُ الخطاب، فيكون قول القائلِ من أصحابنا أو أصحابِ الشافعي في النُّورَة: ليس تُراباً، وفي الخَل: ليسَ بماءٍ، وفي المعلوفة: ليست سائمةً، اعتماداً على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلت لي الأرض مَسجداً، وجُعل تُرابها لي طهوراً" (¬1)، وقوله: "الماءُ طهور" (¬2)، فيكونُ الحكمُ المعلقُ على الاسمِ دل على نفيه عن غيره، فيكون دليلاً فيما هذا سبيلُه من الأسماءِ والأوصافِ، فإذا علق نَفي الحكم على نفيها، كانَ ذلكَ بدليل الخطابِ. أو يكون اعتماداً على أصلٍ آخر وهو: أن الأصلَ نفيُ الأحكام من إيجابِ زكاةٍ في المال، ومن طهوريّةٍ في الجامدات والمائعاتِ سوى ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة: (45). (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة: (39) من الجزء الأول.

الماءِ، فإذا عَلَّق الشرعُ حكمَ الطهوريّة على التراب، والزكاةَ على السائمةِ، وقال القائل في الجِصّ: ليس بتراب، وفي الَمعلوفةِ: ليست سائمةً؛ كان معتمداً في نفي الحكم علىَ الأصلِ، حيث انتفى المعنى الذي عُلِّقَ الحكم عليه في الشرع، وهو الترابيةُ في الطهارةِ، والسومُ في الزكاة، فهذا وجهٌ من جوهِ الدَلائلِ لا عدمَ الدليل الذي عولت عليه. ويقال: إنَّ النفيَ وإن لم يكنْ شيئاً، فإنه يجوز أن يجعل دليلاً على نفي مثلِه، فإن الشرعَ والعقلَ لا يمنع من ذلك. ألا ترى أنه قد عَلق الشرعُ جوازَ التيممِ بالتراب على عَدم الماءِ، والانتقالَ إلى الإِطعام أو الصوم عند عدم الرَقبةِ، والعدم ليس بشيء، فلأجلهِ أحدث حَكماً آخرَ وَنقل إليه. ويحسنُ أن يقالَ: من أساءَ فعاقِبه، ولا تعاقبْ من لم يُسىء. وعدمُ الِإساءةِ ليست شيئاً، ويحسن أن نُعلِّلَ بالنفي، فنقول: إنما لم يُعاقَب؛ لأنه لم يسىء، ويُقال: إنما لم أستودعْه المالَ؛ لأنه ليس بثقة. ويستدلون بالإِثباتِ على النفي، فيقالُ: إنه فاسق، فلا تقبل شهادتُه، ومحسنٌ، فلا تَحسن عُقويتُه، ومَطعومٌ، فلا يجوز التفاضل فيه. ولا يُستنكر أن يكونَ الاثبات جَلَبَ نفياً، والنفي ليس بشيء، فكما لا يُقال ذلك في الحكمِ، كذلك لا يقالُ في دلالةِ الحكمِ. وأصلُ التعاليل الشرعية أماراتٌ ودلائل، وقد يقعُ النفي أمارة ودلالةً، فيقالُ: لا عقلَ لهذا؛ لتَخَبُّطِ (¬1) أفعالهِ. ولا حياةَ فيه؛ لأنه لا حِس فيه ¬

_ (¬1) في الأصل: "لتثبط"، والصواب ما اثبتناه.

- فصل: إذا كان القياس استثناء اختلف في صحته

ولأ نَماء. وعلى هذا أبداً، فلا تَغترَّ بقولِ مُهول يقول لك: العدمُ ليس بشيء وكيف يدل ما ليس بشيء على حكمٍ أوحال. فإن هذا وأشباهَه كلام خِلو من معنى يمس ما ذكرناه. فصل وإذا كان القياس استثناء، فقد اختلفَ العلماءُ في صحته. فقال قوم: يجوز الاستدلال به. وقال قوم: لا يجوزُ، وذلك مثلُ قولِ أصحاب الشافعي في السباعِ: حَيوان ليس بكلبٍ ولا خنزير فكان طاهراً، أَصلهُ الشاةُ. فجعلَ الحيوانَ علَّةُ، واستثنى منه الكلبَ والخنزيرَ. وهذا عندي يُبنى على أصلٍ وهو: القولُ بتخصيص العلَّةِ، فمن قال بجوازِ التخصيصِ ساغ الاستثناءُ عنده في هذهِ العللِ، والكلامُ فيها فرغ على ذلك الأصلِ (¬1)، فنُشير ها هنا إلى ما يليقُ بالفصلِ، وهو: أن الحيوانية لو كانت علَّةُ لساغتْ في سائرِ الأحياءِ، ولا يُعرف كونُ العلَّة علةً إلا بجريانها وسلامتها، ولأنَّ من اعتمدَ على التخصيصِ أغناه ذلك عن وصف هو سلب واستنثاء. فإن قيل: لو كان السلبُ والاستثناءُ يُفيد التخصيصَ أو يعطي ما ذكرتم، لكانت العلةُ ذاتَ الوصفين مخصوصةً؛ فإذا قالَ الشافعي: مطعومُ جنسٍ، خصَ تحريمَ التفاضلِ في الجنسيةِ، ألا تراه لو قال: مطعوم، وأمسك عن الجِنس لساغ في كلُّ مطعوم بيع بمطعوم. ¬

_ (¬1) سيأتي فصل تخصيص العلَّة في المباحث الآتية.

- فصل في (غير) هل تدخل على العلة؟

قيل: لا يلزمُ هذا؛ لأن الطعمَ علَّةُ في تحريمِ التفاضلِ أينما وُجد، لكن بشرطِ ملاقاةِ جنسِه، البر للبرِّ، والشعيرُ للشعيرِ، ولا نقول: إنه علَّةٌ في البر وليس بعلةٍ في الشعيرِ، والمستثني في العلَّة بنفي الكلب والخنزيرِ مُخرجٌ لهما من الحيوانية، فقد تخصصتْ الحيوانيةُ، وهي اَلعلةُ، فوقف على محل دون محل، فالحياةُ توجبُ طهارةَ الشاةِ ولا توجبُ طهارةَ الكلبِ والخنزيرِ، فترددَ السبعُ بينهما لأنه لا يمكنُ أن يُقاسَ عليهما جميعاً مع تضادِ الحكم فيهما. فصل في (غَير) هل تدخل على العلَّة أما من قال بالاستثناءِ في العلِل، فجوّز ذلك من غيرِ تفصيل، ومن منعه ولم يسوَغْه في العللِ، فقد اختلفَ هذا القبيلُ بحسب اختلافِ حالِ (غير)، فإنها قد تجيء بمعنى الصفةِ (¬1)، وتجيء بمعنى الاستثناءِ، فإذا جاءت بمعنى الصفةِ أجازها الفريقان، وإذا جاءت بمعنى الاستثناء كانت على ما ذكرنا من الخلافِ، وقد جاءت في قولِه تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95]، على الوجهين، فقرىءَ: {غيرَ أولي الضرر} بالنصب (¬2)، فكانت استثناءً، وجاءت بالرفع فكانت صفةً (¬3)، كأنه قال: لاَ يَستوي القاعدون من ¬

_ (¬1) وهو الأصل فيها، انظر "المساعد على تسهيل الفوائد" لابن عقيل، 1/ 590. (¬2) هذه قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي، انظر "حجة القراءات" لابن زنجلة: 210، و"الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي 3/ 178 - 179. (¬3) وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، على أنها صفة للقاعدين. انظر المراجع السابقة.

- فصل في العلة إذا كانت ذات وصف واحد وصحت كانت أولى

المؤمنينَ السليمون، فالسلامةُ وصف له نُطقان: إن شئتَ قلتَ: سليماً، وإن شئتَ قلت: بلا ضرر به. تقولُ في الصفة: جاءني القومُ غيرُ زيد. بالرفعِ، وتقول: جاءَ القومُ غيرَ زيد، بالنصب استثناءً، فأثبتَ المجيء للقومِ ونَفيتَه عن زيد، فإذا جعلتها وصفاً: وصفتَ القومَ الجائين بانهم غيرُ زيد، تقولُ: المئةُ غيرُ الواحدِ، والواحدُ غيرُ المئةِ، فالمئةُ وصف للجماعةِ من العدد المخصوصِ، والواحدُ صفةٌ لزيدٍ، ولا نتعرضُ لزيدٍ بنفي ولا إثباتٍ. فصل في العلَّةِ إذا كانت ذاتَ وصفٍ واحدٍ وصحت كانت أولى (¬1) وذلك مثل قولنا في العبد: مُقوم فَضمن بقيمتهِ بالغاً ما بلغ، كالبهيمة. قاتل فلا يرث، كالبالغ وكالعامد. وارث فلا وصيةَ له. وذات الوصفين، مثل قولنا: حُر مُسلم، مَطعومُ جنس، شرابٌ مُشتدّ. وذات الثلاثة أوصاف والأربعة والخمسة، مثل قولنا: ماءُ تغير بمخالطةِ ما ليسَ بمُطهرٍ، والماء مُستَغنٍ عنه. حُرةٌ سَليمة مَوطوءة في القُبل، ولا حَصَر في هذا على مُعلل. ولا عبرةَ بقولِ من قال: إنه لا يُزاد القياس على خمسة أوصاف. ¬

_ (¬1) يريد بهذا: أنه إذا تقابلت علتان من أصل واحد، وكانت إحداهما ذات وصف واحد، والأخرى ذات وصفين أو أكثر، فالعلة ذات الأوصاف الأقل، هي الأولى بأن تجعل مناطاً لثبوت الحكم. وهذا ما قرره القاضي في "العدة" 4/ 1331، وأبو الخطاب في "التمهيد" 3/ 235، وانظر "المسوَّدة": 379.

فإنَّ هذأ بحسب اجتماع الفَرع والأصلِ في العلَّة مهما بلغت أوصافُها. وقد قال أصحابنا وأصحابُ الشافعي في مسألةِ من كان بقُرب المصر يجبُ عليه الحضورُ إذا سمع النداء: حُر مُسلم صَحيح مُقيم في موطنٍ يبلُغهُ النداءُ من موضع تصحُّ فيه الجمعةُ، فهوكالمقيمِ في المِصْرِ. وهذا القياس يَتضمن سبعةَ أوصاف. فَوجه من جَعل الأولى من القياس ما قلَّ أوصافَه أن قال: إن ذلك مُؤذِن بقلةِ دخولِ الفسادِ، كمدينةٍ تكتفي في الحراسة بسورٍ واحد وحارسٍ واحد. ومن الناس من قال: الكثيرةُ الأوصاف أولى (¬1)؛ لأن ذلكَ مؤذن بكثرة شَبَه الفرع بالأصل، وخاصة على أصلِ من يقول بأنَ التسويةَ بين الأصلِ والفرعِ دافع للنقض. واعترض بعضُ أهل الجدلِ على اعتلالِ القائلِ الأول وقوله: أقل لدخول الفَساد، وقال: هذا قولُ من يظن أن الأوصافَ موضوعة للاحتراز، ولذلك شبهها بالأسوارِ والحصونِ، وليس الأمرُ على ذلك؛ لأن الأوصافَ إنما تدخل في التعليلِ بحسب تأثيرها في جَلب الحكم لا للسلامة من النقضِ، ولذلك لايعتد بوصف هو حَشوَ خِلْو من معنى، وإن كان دافعاً للنقض، وما هو إلا بمثابة الشبه في باب القِيافة، وكلما كثر الشبه تأكًد الظن في إلحاق الولد بالمُشبَّه به. ¬

_ (¬1) هو رأي بعض الشافعية كما في "التبصرة": 489، و"اللمع": 80.

فصل وقد تضم إلى أوصافِ العلَّة الشرائط، كقولِ القائلِ: زَانٍ محْصَن، وقولنا: ملكَ أربعينَ من الغنم سائمة حولًا، وسرق نِصاباً من حِرز مثله لا شبهة له فيه. أُم حرة سليمة صحيحة مقيمة رشيدة، خالية عن الأزواجِ، راضية بأجرةِ المثل، فكانت أحقَ بولدِها. فإن هذه العللَ تَجمع أوصافاً وشروطاً، كالحولِ والسوم مع ذكر النصاب من الغنم، وذكر الوطنِ مع الحريةِ والإِسلام والذَكوريةِ. فعمل العلَّةِ: الجلب، وعمل الشرطِ: أنه مصحح لعملِ العلَّةِ. فصل وينفصل الشرط عن العلَّةِ بأن العلَّةَ تليق بتعليقِ الحكمِ عليها، والشرط لا يليق بتعليقِ الحكم عليه. بيان ذلك: أنه لا يحسن أن يعلق على الاحصان - وهو نوع فضل مكتَسب - إيجابُ الرجم، ولا على السوم والحولِ إيجاب الزكاة، وإنما الذي يليق: العقوبة بالجريمة، وهي: الزنا، وسرقة النصابِ. والمواساة بالمقدارِ من المالِ، وهو: الغنى، لا بالأجلِ وقلةِ المؤونةِ، وهما مرفقان بربِ المال ليتكاملَ النماء وتقل المؤونة، فتسهل المواساة. فصل واختلفَ أهل الجدل في العلّة التي تكون صورةَ المسألة (¬1)، مثل ¬

_ (¬1) انظر "البرهان" 2/ 1098.

قولنا في حجة رهنِ المشاع: إنه رهن مشاع، فصح، كما لو رهنه من الشريك، وهبةُ مشاع فصحت، كما لو كانت مما لا يَنقسم (¬1)، وفي الطهارة: بأنها طهار بالماءِ، فصحت بغير نية، كإزالة النجاسة (¬2)، وفي بَيع اللحم بالحيوان (¬3): إنه بيعُ لحمٍ بحيوان، فلم يصح، كبيع اللحمِ بالمُدَبر، وبيع اللحم بالبعير المنكسر. فقال بعضُهم: لا يصح؛ لأن ذلك يُفضي إلى أن يكون نفسُ العلَّةِ هو المعلل له. ولأنه يؤدي إلى التنافي؛ لأنه يفضي إلى كونِ المسألةِ معللة لا معللة؛ لأنك إذا قلتَ: حرمت الخمرُ لأنها خَمر. فقد علَلت وبينت أنها معلَلة، إلا أن معنى قولك: لأنها، غير معللة لعينها، وهذا يدل على أنها غير معللة. ومنهم من قال بصحتها -وهو عندي أصح- إذا دلت الدلالة على صحة العلَّة، ألا ترى أنَكَ تعلل لوجوب الحدِّ على الزاني بأنه زان، والقطعِ على السارقِ بأنه سارق، فنفس السؤالِ يجعل علةً لصلاحيتهِ علةً، فلا تَنظر إلى أعداد التسميات، كما ينظر بعض المتفقهة، فيقول: هذه المسألة، فأين العلَّة؟ طلباً لأعدادِ أركانِ العلَّة التي قد عدوها من وصفٍ وحكم وأصل، وإنما العبرةُ بما يدل الدليل على أنه علَّةُ وما يصلحُ لجلب الحكمِ، فلا فرقَ بين أن يكون عينَ المسألة أو غيرَها. وقد أشبعت الكلامَ في ذلك في الأسئلة على القياس في سؤالٍ يكثر من المتفقهة وقولهم فيه (¬4): هذه المسألة، فأين العلَّة؛ أو ¬

_ (¬1) "المغني" 6/ 456، و8/ 247. (¬2) "المغني" 1/ 156. (¬3) نفس المصدر 6/ 90. (¬4) في الأصل "في".

هذه العلةُ، فأين المسألة؟ بما فيه كفاية. وبينت أنه سؤال باطل. فصل واختلفوا في العلَّةِ الواقفةِ التي لا تَتعدى أصلها (¬1)، مثلُ قولنا في تعليل (¬2) غير الماء لإِزالة النجاسة: لأنه مائعٌ لا يرفع الحدثَ. وقولِ أصحاب الشافعي -رحمة الله عليه-: إنَّ علَّةُ الربا في الذهبِ والفضةِ كونُهما ثمنينِ للأشياءِ غالباً. وقد حُكي عن أبي بكر القَفّال (¬3) -من أصحابِهم- أنه عللهما بالاسم، وذلك غير صحيح، لأنه قد أجمع القائمون أنَّ لهما علةً واحدة، ومتى علل بالاسم مع كون اسماهما اثنين، فيصير خَرقاً لإِجماع القائسين حيث يكونُ تعليلهما بعلتين. وذهب جماعة من الفقهاءِ (¬4) وأهلِ الجدل إلى إبطالها، كأبي الحسنِ الكرخي (¬5) ومن نذكره في مسائلِ الخلافِ إن شاء الله. ¬

_ (¬1) وتسمى بالعلة القاصرة، والخلاف إنما هو في القاصرة المستنبطة، أما المنصوصة أو المجمع عليها، فاتفقوا على صحتها، انظر "العدة" 4/ 1379، و "التمهيد" 4/ 61، و،"المسودة": 411 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 317. (¬2) في الأصل: "تعلل". (¬3) تحرفت في الأصل إلى: "البقال"، والقفال تقدمت ترجمته في الصفحة: (44). (¬4) إبطال العلَّة القاصرة هو مذهب الحنفية وأكثر الحنابلة، انظر "أصول السرخسي" 2/ 158، و"فواتح الرحموت" 2/ 276. (¬5) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي الكرخىِ مفتي =

- فصل في التعليل بأن الشيء مختلف فيه

واعتل من صَححها (¬1): بأنها يجوزُ أن تكونَ علةً بالنص، كذلكَ جازَ أن تكونَ علةً بالاستنباطِ. قالوا: ولأنه إذا دل الدليل على صحتِها، ووجد الحكمُ بوجودِها وعُدمَ بعدمِها؛ ظهر أن الحكمَ ثبتَ لأجلها، فصارت كالمتعديةِ ولم يضر عَدمُ تعديها. واعتل من ذهبَ إلى إبطالِها: أنها لا تفيد إلا ما أفاده النصُ، وفي النصِ غنية عنها في تعليق الحكمِ عليه دونها. ولأصحاب الشافعي أن يمنعوا عدمَ الفائدةِ؛ لأن العلمَ بعلةِ الحكمِ علم زَائد على العالم بالحكمِ، والتعدي فائدة أخرى، فلا تَجحد فائدة مظفورٌ بها لفائدةٍ لم تَتحصلْ، فالنصُ أفادَ منعَ التفاضلِ والنَساءِ، والعلة كونهما ثمناً. وقد أوقفَ من خالفهم تحريمَ التفرقِ قبل القَبض في بيع الأثمان بعَضِها ببعض، وعللوا ذلكَ بكونه صرفاً، وذلك غيرُ متعدٍ. وعلَّل القائمون كلهم عدمَ نفوذِ إعتاقِ الصغير والمجنون بأنه غير مُكلَّف، وليس بمتعدٍ. ¬

_ = العراق، وشيخ الحنفية، انتهت إليه رئاسة المذهب، وانتشرت تلامذته في البلاد، صنف "المختصر في الفقه" وله رسالة في أصول الحنفية، توفي سنة (340) هـ" تاريخ بغداد" 10/ 353 - 355، "سير أعلام النبلاء" 15/ 426. (¬1) هم أكثر الشافعية والمالكية وبعض المعتزلة، وهو اختيار أبي الخطاب، وابن قدامة، والمجد ابن تيمية من الحنابلة. انظر "المحصول" 5/ 423، و"التبصرة": 452، و، "المستصفى" 2/ 345، و "اللمع": 72، و"المعتمد" 2/ 801.

فصل في التعليل بأن الشيء مختلف فيه مثل قولِ القائلِ في إباحة الخيل: بأنه حيوانٌ مُختلفٌ في وجوب الزكاة فيه، فجاز كلُه، كالمعلوفةِ من الماشيةِ، أو حيوانٌ مختلفٌ في أكلِه، فطهرَ جلدُه بالدباغ، أو كان سُؤره طاهراً، أو فطهر بالذكاة، هل يصح أن يجعلَ ذلك علةً أم لا؟ فذهب قومٌ إلى المنعِ. قالوا: لأن الحكمَ، وهو: جوازُ أكلِه والمنعُ من أكلِه، مُضافٌ إلى عصرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاختلافُ حادثٌ بَعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فيؤدي إلى أن يسبقَ الحكمُ علتَه. وذهب قومٌ إلى أن ذلك جائز، إذ كان لكونه مختلفاً فيه تأثيرٌ في الحكمِ المعلًقِ عليه، كقولنا على ذلك (¬1): إنً النبيذ مختلفٌ في إباحته، فلا يفسقُ شاربُه متأوِّلاً، وكقولنا في الشاهد واليمين: حكمٌ مختلفٌ فيه اختلافاً ظاهراً واجتهاداً بيَناً، وليس فيه مخالفةُ نص من كتابٍ ولا سُنةٍ ولا إجماعٍ، فاذا حَكَم به حاكم نَفَذ حكمُه ولم يُنقَض، كسائرِ المُجتَهَدِ فيه من الأحكامِ. فهذا تأثير صحيح في نُفوذِ حكمِ الحاكمَ. وقولهم: يُفضي أن يَسبق الحكمُ علته. ليس بصحيح؛ لأنً كونه مختلفاً فيه من أحكام الشرعِ، وتسويغه من أحكام الشرع، ولأن المجتهدَ لم يؤخذ عليه إَلا ما يصل إليه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا اعتبار ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل الى: "ملك".

- فصل: يجوز أن يجعل الوصف المركب علة

بما كان في زمانِه إذا لم يكن [له] (¬1) به علم، والله أعلم. فصل ويجوزُ أن يُجعلَ الوصفُ المركبُ علةً (¬2)، والوصفُ المركبُ أولى من الأصلِ المركبِ، كقولنا في الحُليّ: لا تجبُ فيه الزكاةُ إذا كان للصغير، فلا تجبُ فيه الزكاةُ إذا كان لكبيبر، كالجواهر. وكقول أصحاب أبي حنيفة في بيع المدبَّر: حيوانٌ لا يجوزُ بيعه باللحم، فلا يجوز بيعُه بحال أصله الحر. فوصفُه بهذه الصفةِ قد وجد وسُلِّم، وإن اختلف الخصمان في طريقِ وجوده، لكن تقف صحة كونه علةً على الدليل، كسائر الأوصاف، وهل تجب مُساواة الكبير والصغير في الزكاة أم لا؟ فصل في تعليلِ المعلل بالشيء، وقوله: إنه مجمع عليه، فإنه تصحُ علته إذا أثرت (¬3). ¬

_ (¬1) ليست فىِ الأصل. (¬2) العلّةُ ذات الوصف المركب: هي العلَّة المركبة من عدة أوصاف كما في تعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان. ويجوز التعليل بالوصف المركب عند أكثر الأُصوليين، ونقل عدمُ جواز ذلك عن الآشعري وبعض المعتزلة. انظر "المستصفى" 2/ 336، "المحصول" 5/ 305 و"مُسَلم الثبوت" 2/ 291، و"أصول السرخسي" 2/ 175 و"شرح تنقيح الفصول": 409، "شرح الكوكب المنير" 4/ 93. (¬3) انظر "شرح الكوكب المنير" 4/ 93، و "المسوَّدة": 409.

ومثاله: ما نقولُه فيمن عَقد على ذاتِ مَحرم: يجب عليه الحد؛ لأنه وَطء حُرِّم بالإِجماع لم يصادْف مِلكاً ولا شبهةَ مِلك، والواطىء من أهلِ الحدِّ، عالمٌ بالتحريمِ، فوجبَ عليه الحد، كما لو لم يعقد. وكما يقول أصحاب أبي حنيفة في المتولد من بين الغَنم والظباء: تجب فيه الزكاة؛ لأنه منفصل من حيوانٍ تجب فيهِ الزكاة بالإجماع، فجازَ أن تجبَ فيه الزكاةُ، كالمتولِّدِ من بينِ السائمةِ والمعلوفةِ، وهذا يصح إذا أثرَ الوصف في الحكمِ؛ لأن لكونه مجمعاً عليه تأثيرٌ في وجوب الحد وإسقاطِ الحد، ولكونه مجمعاً عليه تأثيرٌ في وجوبِ الزكاةِ. فصل (¬1) والحكم الواحد في الشرعِ يتعلق بأسباب مختلفة، كالقتل يجب بالقتلِ العمدِ، وبالردَّة، وبالزنا مع الإِحصان. وتحريمِ الأكل دل عليه المنغ من القَتل، كنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قَتلِ الضفدعِ (¬2)، فدل تحريم قتلهِ على المنعِ من أكلهِ. وإباحة القَتلِ دل على تحريمِ الأكل، كالخمسِ المؤذيات نص على إباحة قَتلهِن (¬3)، فكان إباحة قتلهن دالاً ¬

_ (¬1) انظر "المسودة": 416 - 417 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 339 - 340 و"شرح الكوكب المنير" 4/ 71، و"البرهان" 2/ 819 - 830، و"المستصفى" 2/ 342، و"فواتح الرحموت" 12/ 282. (¬2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 453 و499، والنسائي 7/ 210، وابن ماجه (3223)، والد ارمي 2/ 15 - 16، والبيهقي 9/ 258، وأبو داود (5269). (¬3) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَمس فواسق يقتلن في الحِل والحَرَم: العقرب، والحِدأة، والغُراب الأبقع، والفأرة، والكلبُ العقور". أخرجه: "البخاري (1829)، ومسلم (1198). (71) =

على تحريمِ أكلهن، وكالأمرِ بقتل البَهيمة الموطوءة (¬1)، ووجوبُ الغُسلِ يَتعلقُ بالجنابةِ والحيضِ والنفاسِ، وقد يجبُ على الشخصِ الواحِد القتلُ بأسبابِ تجتمع فيه، كرجلٍ قَتَلَ وارتَد، فإن عُفيَ عن القصاصِ قُتل بالردَة، وإن تابَ عن الرِّدة ولم يُعف عن القصاص قُتل قَوَداً. فأمَّا الأصلُ الواحدُ إذا عُرف حكمهُ بنص أو إجماعٍ وله وصفان، هل يجوزُ أن يكونَ كلُّ واحدٍ من الوصفين علةً بانفرادهِ ثبت الحكمُ فيه لأجلهِ؟ فإن تنافتْ فروعُها امتنعَ أن يكونا صحيحين، وإن لم تتناف فروعُها وقامَ الدليلُ على صحةِ كلِ واحدٍ منهما بنطقٍ أو ببينةٍ تَنطق، جازَ أن يُعلل بكِل واحدةٍ منهما، وكذلك إذا دلَّ على صحة كلُّ واحدة منهما الإِجماعُ. ومثال ذلك: أن بيعَ السمك في الماء لا يجوزُ، وهذا حكم متفق عليه، ومعلل بأنه غير مملوك للبائع، ومعلل أيضاً بأنه مجهول الصفة، ومعلل أيضاً بأنه غيرُ مقدورٍ على تسليمه، فإن حصل في شبكةِ الصياد سمك بحيث لا يمكنهُ أن يتخلصَ، فقد ملكه، فإن كان فشاهَداً مَرئياً صحَ، إمَّا في شَبَكَةٍ أو بركة صافيةِ الماءِ بحيث كُشفَ للناظرِ من وراءِ الماءِ الصافي، صَحَّ بيعُه، لحصولِ الملكِ والرؤيةِ والقُدرة على ¬

_ = والترمذي (8371)، وابن حبان (5633)، وأحمد 6/ 33، 87، 259، والنسائي 5/ 208، والبيهقي 5/ 209. (¬1) لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة". أخرجه أبو داود (4464)، و (4465)، والترمذي (1454)، وابن ماجه (2564)، والبيهقي 8/ 233 - 234، وأحمد في المسند (242)، والحاكم 4/ 355.

تسليمهِ، وفي ذلك زوال العللِ الثلاثِ التي كانت مانعة من بيعِه. وإن زالت علتان وبقيت علةٌ من الثلاثِ، مثل أن يحصلَ ولا يمكنه الخروجُ منها لكنه التبسَ بالشبكةِ أو ركب بعضه بعضاً فصار كالصُبْرَةِ فلم يشاهَد لم يصح، لتخلفِ علَّةُ واحدة من الثلاثِ، وهي عدم رؤيةِ التَّحْتاني، مع كونِه مختلفاً لا يُقنع نظر الأعلى منه عن نظرِ الأسفلِ، بخلافِ الأطعمةِ المتساويةِ الأجزاءِ. وكذلك إن أزلتَ علَّةُ علةً وبقيت الأخرى نهضت الباقية بالمنعِ كما منع الثلاث، ومن هاهنا امتنعَ اعتبارُ العكسِ عندنا وعند المحققين من أهلِ الجدل؛ لأنَ بقاءَ علة من العللِ يَمنعُ، فلا يمكن أن تنعكسَ العلةُ مع بقاءِ خلفها، بخلافِ العللِ العقليةِ؛ فإنَ معلولَها لما لم يثبتْ إلا بها وحدَها لا جَرَمَ وجب العكس، فإذا قلتَ: كلُّ جسمٍ قامت به الحركةُ، فَهومتحرك، وكل جسمٍ لم تَقمْ به حركة، فليس بمتحركٍ. صَحَّ ولزم ذلك، إذ ليس للمعلولِ -وهو التحرك- علَّةً سوى الحركةِ، فلا يخلفها ما يَعمل عملَها. وإذا قلتَ في الشرعية: كلُّ امرأةٍ قامَ بها الإِحرام إذا اتصفت بالإِحرام كانت مُحَرمة. لا يمكنُ أن تقولَ: وكل امرأةٍ لم تتصفْ بالإِحرام فَهي مباحةٌ. لصحةِ تخلُّفِ علةٍ تعملُ عملَ الإحرام، وهي الصومُ، أو العدةُ، أو الحيضُ، فافهم ذلك، فهذا على قولِ من لم يَعتبر العكسَ في العللِ الشرعيةِ. وأمَّا على قولِ من اعتبرَ العكسَ، فإنَه لا يجيزُ، قال: لأنه لا يمكنُ الدلالةُ على حجتها بالنطقِ ولا بالبينةِ ولا بالإِجماعِ ولا بالسلبِ

والوجودِ ولا بشهادةِ الأصولِ، فحينئذٍ تفسدُ لعدم الدليلِ على صحتِها لا لأجلِ أنَ الحكمَ الواحد لا يتعلقُ بعلَتين. وهذا لا يلزم؛ لأنَه إذا ثبتَ لكِل واحدةٍ من العللِ التاثيرُ والجلبُ للحكمِ بدلالةِ النطقِ أو البَيّنةِ أو الإجماعِ، واجتمعتْ في محلٍ فجُلِبَ الحكم، لم يمكنْ أن تَخلوَ كلُّ واحدة من أن تكونَ مؤثِّرة، ويبينُ ذلك بحالِ انفرادِها، وأنها تَستقل بالحكمِ، وهذا كافٍ في نفي اعتبارِ العكس، وفي صحةِ ثبوت الحكمِ بعللٍ عِدةٍ. فصل فإذا صحَّ إثباتُ الحكمِ في الأصلِ بعلتين، وتعليلُه بعلتين، وكانَ أحد الوصفينِ أعمَّ من الآخرِ، ودل الدليلُ على صحةِ كلِّ واحدةٍ، كان المعلِّل بالخيارِ بين أن يستدل بالعامةِ وبين أن يستدل بالخاصةِ، كالخبرين؛ أحدهما يدلُّ على حكم بعمومِه، والأخر يدل عليه بخصوصِه، كان مخيراً في الاستدلالِ بأيِّهما شاء (¬1). وقال قوم: الخاصَّةُ أولى، لأنَّها تصرحُ بالحكم. ولم يسلموا أن الخبرَ العامَ يساوي الخاصَ بل الخاصُ في الحكمَ المقدم. فصل وإذا صحتا -أعني: العلتين المثبتتين للحكم- فلا فرقَ بين أن يكونَ فروعُ إحداهما أكثرَ من الأخرى أم تتساوى (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "المسوَّدة": 379 - 380، و"العدة" 5/ 1534 و"البرهان" 2/ 1291. (¬2) وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب، وعليه أكثر الشافعية. انظر =

- فصل: الحكم الواحد في الشرع يتعلق بأسباب مختلفة

وقال قوم من أهل الجدل: مِن شرط صحتهما أن تتساويا في الفروع؛ لأن الكثيرةَ الفروعِ هي التي يثبت بها الحكمُ، فلا يُحتاج في إثباتِه إلى ما قلَّت فروعُها. وهذا لا يصحُّ؛ لأن كثرةَ الفروع لا تدل على صحةِ العلَّةِ (¬1). فصل في القياسِ على أصل مختلف في حكمهِ (¬2) فإن كان قد ثبتَ عند المعلّلِ بنصٍ من كتابِ أوسنةٍ، جاز القياسُ عليه؛ لأن الاعتبارَ بالدليلِ، وليس الدليلُ كلهُ الَاتفاق، بل غيرُ الاتفاقِ أدلة كثيرة، والاتفاق واحد من جملة أدلة، فإذا لم يوجد الاتفاق ووجدَ دليل آخر ثبت الحكم (¬3). وإن كان القياسُ على أصل يوافقُه خصمهُ في حكمِه ويخالفهما فيه غيرهُما من أهلِ الاجتهاد، فإن كان لهما عليه دليل صحيح صحَّ القياسُ عليه، وإن لم يكن لهما عليه دليل لم يجز العملُ على هذا القياس؛ لأن حكمَ أصلهِ لم يثبتْ بدليل شرعي، لأنَ اتفاقَ الخصمين ¬

_ = "التمهيد" 4/ 248، و" المسوًدة": 381، و" البرهان" 2/ 1272، و"التبصرة": 488. (¬1) هو رأي بعض الشافعية كما في "التبصرة": 488. (¬2) انظر هذا الفصل في "العدة"4/ 1364، و"التمهيد" 3/ 437 و"المسوَّدة": 401 - 452، و"شرح الكوكب المنير"4/ 100. (¬3) وخالفَ في ذلك بشر المريسي، واشترط أن يكون الأصلُ منصوصاً عليه، أو مجمعاً على تعليله حتى يجوز قياس الفرع عليه، انظر المراجع السابقة، و"المحصول" 5/ 368.

- فصل في القياس على أصل مختلف في حكمه

ليسَ بدليل من أدلَّةِ الشرعِ، وإنَّما في الجدال إذا اتفق الخصمان كفى، لكن ليس القياسُ على هذا الوجه قياساً مدلولًا عليه، بل قياسٌ اتفقا على حكمهِ في الأصلِ. فصل في القياسِ على العام الذي دخله التخصيصُ، وعلى المخرجِ من العمومِ. مثاله: قولهُ عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]،ثم خُصَّ بقوله عز وجل: {فَإنْ أَتَيْنَ بفاحشةٍ فَعَلَيْهِن نُصْفُ مَا عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العذاب} [النساء: 25]، وقوله تعالى: {والسارِقُ والسارِقةُ فَاقْطَعوا أيديهما} [المائدة: 38]، خصَّ بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قَطْعَ في ثَمرٍ ولا كَثَر" (¬1). فيجوزُ القياسُ على الأصل الخاص المخرجِ من العموم، فيقاسُ العبيدُ في تَنصيفِ الحد على الإماءِ، وتُقاس الأموال التي ليست في الإحراز على الثمر والكَثَر. ¬

_ (¬1) روي هذا من حديث رافع بن خديح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا قطع، في ثمَرٍ وكَثَر" أخرجه مالك 2/ 839، وأحمد 3/ 463 - 464، وأبو داود (4388) و (4389)، والترمذي (1449)، والنسائي 8/ 87 - 88، وابن ماجه (2593)، وابن حبان (4466)، وعبد الرزاق (18916)، والبيهقي 8/ 262 - 263 والكَثَر: جُمار النخل، وهو شحمُه الذي في وسط النخلة."النهاية" 4/ 152

- فصل في القياس على العام الذي دخله التخصيص وعلى المخرج من العموم

فصل فأمَّا القياسُ على ما بقي تحت العموم بأن يُقاسَ على السارِق في وجوبِ قطعِ الجاحِد للوديعة أو الخائنِ والمختلسِ، ويُقاس على الزاني في وجوبِ مئة جلدةٍ اللّائِطُ ومَن أتى بَهيمةً، فهذا مُختلَف فيه. فقيل: لا يجوزُ؛ لأن لفظَ العموم لما دخله التخصيصُ ضعفَ عن الاستيعابِ عند قوم، وصار مجازاً عند قومٍ، فإذا ضعفَ لفظهُ وزالت حقيقتهُ، ضعفَ معناه. وقيل: يجوز، وهو الأصحُ عندنا وعند أصحابِ الشافعي (¬1)؛ لأن العلَّةَ التي تُستنبطُ منه قد صحت، والمعنى الذي فيه لا يضعفُ، والاعتبارُ بالدليل على صحةِ العلَّةِ. فصل من هذا القبيل وهو المخصوص حُكي عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يُقاس على المخصوص (¬2)، فحمله المحققون من أصحابه -رحمة الله عليهم- ¬

_ (¬1) انظر "العُدّة" 2/ 538، و"المسوَّدة": 116، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 38، و"المنخول": 153، و"التبصرة": 448، و"البحر المحيط " 5/ 71. (¬2) ورد ذلك في قوله -رحمه الله- في "الرسالة" في الصفحة: 545: "ما كان الله فيه حكم منصوص، ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيفٍ في بعض الفرض دون بعض: عُمِلَ بالرخصة فيما رخَص فيه رسول الله دون ما سواها، ولم يُقس ما سواها عليها، وهكذا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حكم عام بشيءٍ ثم سن فيه سنة تفارق حكم العام".

على أحد أمرين: إمَّا الأحكام التي خُص بها أشخاص، كرضاع سَهْلة لسالم وكان كبيراً (¬1)، والرخصة لأبي بَكرة في دخوله الصف رَاكعاً (¬2)، وكرخصته لأبي بُردة في الذَبح للعناق أضحية (¬3). وإما الرخصُ التي اختصت معانيها بها، وذلك كالمسحِ على الخُفين لم نَقِس عليه برقعاً ولا عِمامةً ولاقُفازين، حيث جعَل ذلك ¬

_ (¬1) روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَهلة امرأة أبي حذيفة، أن ترضع سالماً مولى أبي حذيفة حتى تذهب غَيرة أبي حذيفة، فأرضعته وهو رجل. قال ربيعة: فكانت رخصة لسالم، أخرجه مسلم (1453)، والنسائي 6/ 105، وأحمد 6/ 38 و 39 و 201 و356، وابن ماجه (1943)، والبيهقي 7/ 459 وابن حبان (4213)، وعبد الرزاق (13884). وتخصيص الحكم بسالم وسهلة هو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر وأبي هريرة، وابن عباس، وسائر امهات المؤمنين -غير عائشة-، وانظر تفصيل ما قيل في المسألة في "المغني" 11/ 320 - 322، وكلام ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" 5/ 577 - 593. (¬2) عن أبي بكرة -نفيع بن الحارث -رضي الله عنه- أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع، قال: فركعتُ دونَ الصف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "زادكَ الله حِرصاً ولا تَعُدْ". أخرجه البخاري (783) في الأذان، وأبو داود (683) و (684) في الصلاة، والبغوي في "شرح السنة": (822) و (823)، وابن حبان (2194) و (2195)، والبيهقي 6/ 103، وأحمد 5/ 39، 45، وعبد الرزاق (3376)، وانظر "المغني" 3/ 76 - 78. (¬3) عن البراء بن عازب: أنَّ خالي -أبا بردة- ذبحَ قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال =

للمشقةِ اللاحقةِ التي لا يساويها خلعُ غيرهما فيها (¬1)، ومثل الرخصةِ في تَحلل المُحصَرِ عن الإحرام بالعدو الصاد عن المسجدِ الحرام وبقاعِ المناسك الواجبة بالإِحرام، فلا يقاسُ عليه الحصرُ من المرضِ؛ لأنه يُمكنه التخلصُ من العدو بالتحلُّل، ولا يتخلص من المرض، ولا يُقاس موضعُ النجاسة على البدنِ والثوب على نجاسةِ أثرِ الاستنجاء حتى يقتصر (¬2) فيه على المسح (¬3)؛ لأن المشقة بالتكرر هناك لا توجدُ في غيره، ولا يقاس على تكررِ أيمانِ القَسامة أيمان في حقٍ من الحقوقِ لتَغلظِ الدماءِ وتَخصصِها بالغِلظة من سائرِ الحقوق، فهو من البابِ الذي علته غير مُتعدية. وقال بعض أصحابِه (¬4): وكل ما كان مستثنى للضرورة أو الرخصة ¬

_ = النبي صلى الله عليه وسلم: "شاتك شاة لحم وليس من النسك في شيء" فقال: يا رسول الله، فعندي عَنَاق جَذعة هي خير من مُسِنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُوفي عنك ولا توفي عن أحدٍ بعدك". أخرجه البخاري (5557)، ومسلم (1961) (9)، وأبو داود (2800)، والنسائي 7/ 223، وابن حبان (5910) و (5911)، والبيهقي: 9/ 277، والدارمي 2/ 80. والعَنَاق: الانثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة. "اللسان": (عنق). (¬1) انظر "الرسالة": 546، ومنعُ المسح على العمامة هو قول الشافعية ومالك وأبي حنيفة، وجوز الحنابلة المسح عليها. انظر "المسألة فيا المغني" 1/ 379 وما بعدها. (¬2) في الأصل: "يقتضي". (¬3) انظر "المغني" 1/ 218 - 219. (¬4) منهم أبو منصور البغدادي حيث قال: لا يجوز القياس عندنا على الرخص؛ =

* فصل في الاستحسان

للمشقة من جُملة محظورٍ لا يجوز القياسُ عليه (¬1). فصل في الاستحسان والاستحسانُ في اللغةِ: استفعالٌ من الحُسنِ، وهو: أن يرى الشَيء حَسناً أو يعتقده حَسناً، يقول الرجلُ من أهلِ اللغةِ: استَحسنتُ صورةَ زيد، ورِكْبَةَ (¬2) عمروٍ، ودارَ خالدٍ. كما يقول: استصوبتُ رأيهُ واستعقَلتهُ واستَجهلته، أي: وجدتُ رأيه صواباً، ورأيتُه عاقلاً، أو وجدته عاقلًا، ووجدته جاهلًا. ومراد الفقهاء بذلك: الرأي والاعتقاد، وهو: أن يعتقد وَيرى أن هذا الحكم في الشرع حَسَن، فإن كان ذلك الدليل شرعياً، فَهو صحيح (¬3). وقد نَطَق بالاستحسانِ أبو حَنيفة (¬4). ¬

_ = لأنه معدول بها عن الأصل وما عدا محل الرخصة يبقى على الأصل. "البحر المحيط" 5/ 57 - 58. (¬1) عقد الزركشي مبحثاً ذكر فيه أمثلة على استعمال الشافعية القياس في الرُّخَص التي تبين معناها. "البحر المحيط" 5/ 58 - 61. (¬2) الرَّكْبة: ضربٌ من الركوب، يقال: هو حسن الركبة. "اللسان": (ركب). (¬3) للاستحسان عدة تعريفات، من أجودها تعريف أبي الحسن الكرخي: "العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليلٍ شرعي خاصَ بتلك المسألة" انظر: "التلويح على التوضيح" 2/ 81، و (المسودة) 451 - 454 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 190، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 431. (¬4) انظر "أصول السرخسي" 2/ 200 و "ميزان الاصول" 2/ 898 و"فواتح =

وقد نَص عليه صاحبُنا أحمد ابن حنبل، فقال في المُضارِب إذا خالف رب المال في الشراء: الربحُ لصاحِب المال، ولهذا أجرةُ مثله، وكنتُ أذهب إلى أن الربحَ لصاحب المال ثم استحسنتُ (¬1). وقال في رواية المَروذي (¬2): يَجوز شراءُ أرض السوادِ ولا يَجوز بَيعها، فقيل له: كيف يُشترى. ممن لا يملك؛ فقال: القياسُ كما تقول، ولكن هو استحسان (¬3). وقال الشافعي -رحمة الله عليه- في السارِق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت، فقال: القياس أن تُقطع يمناه، والاستحسان أن لا تقطع (¬4). وقال في الاستِحْلافِ بالمصحِف: حَسن (¬5)، أي للتخويف والردع. وجملته: أنه تركُ القياسِ لدليلٍ أقوى منه. ¬

_ = الرحموت" 2/ 320، و"كشف الأسرار" 2/ 290. (¬1) وردت هذه الرواية عن أحمد في "العدة" 5/ 1604. (¬2) هو أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروذي، من أجل أصحاب الإمام أحمد، وقد نَقل عنه الكثير من المسائل، توفي سنة (275) هـ. انظر "سير أعلام النبلاء" 13/ 173 و"طبقات الحنابلة" 1/ 56. (¬3) واستند الإمام أحمد -رضي الله عنه- في هذا الاستحسان، الى فعل الصحابة حيث رخَّصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها. انظر العدة 5/ 1605. (¬4) انظر "الأم" 6/ 53، و"الإحكام"، للآمدي 4/ 157. (¬5) نفس المصدر 6/ 279.

وقال أبو الحسن الكَرخي: والاستحسان: تركُ الحكمِ إلى حكمٍ أولى منه. وقال قوم: الاستحسانُ هو: تخصيصُ العلَّةِ. وقال قوم: هو تركُ الطريقة المطردة لطريقةٍ غيرِ مطردة لأمرٍ يختصُ بذلك الحكم. وقال قوم: هو تركُ القياسِ لدليل أخفى منه. وقال بعضُهم: إذا امتد القياسُ على بعضِ الأصولِ أدى إلى التفاحشِ، وخرج عما يعرفهُ الفقهاء، فحينئذٍ نرى أن يُقطع من جملة البابِ، ويحكم له بحكم آخر. وقال القاضي أبو عبد الله الصَيْمَري الحنفي (¬1) -رحمه الله-: الاستحسانُ هو: العلمُ بالشيء على الوجهِ الذي لوقوعهِ عليه يكون حسناً، والاستقباح هو: العلمُ بالشيء على الوجهِ الذي لوقوعهِ عليه يكونُ قبيحاً. وقال بعضُ أصحاب أبي حَنيفة: لا يجوزُ أن يشترط فيه العلم؛ لأن القصد به غلبة الظنَ، وليس الاستحسانُ القولَ بغيرِ دليل. قالوا: وقد روي عن إياس بن مُعاوية (¬2): قيسوا القضايا ما صلح ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري، من كبار فقهاء الحنفية، والمناظرين، عُرِفَ بوفرة العقل، والصدق في النقل، توفي سنة (430) هـ، عن إحدى وثمانين سنة. انظر "تاريخ بغداد" 8/ 98، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 616. (¬2) هو أبو واثلة إياس بن معاوية، قاضي البصرة، يضرب به المثلُ في الذكاء =

الناس، فإذا فسدوا فاستحسِنوا. وقال أيضاً: ما وجدتُ القضاءَ إلا ما يستحسنُه الناسُ. قالوا: وقد أمر الله سبحانهَ باتباع الأحسن، قال تعالى: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. قالوا: فيتركُ القياسُ للكتاب في حقِّ من قال: "مالُ صدقةٍ" القياسُ يقتضيِ العمومَ فحملناهُ عَلى الأموالِ الزكاتيةِ لقولهِ تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]. وللخبرِ في القهقهةِ (¬1)، وخيارِ الثلاثِ في البيعِ (¬2)، ولسبقِ الحدثِ ¬

_ = والدهاء والسُؤدد والعقل، توفي سنة (121) هـ. انظر "حلية الأولياء" 5/ 177، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 155. (¬1) قوله: و"للخبر في القهقهة"، يشير إلى رأي الحنفية في قولهم بوجوب الطهارة لمن قهقه في الصلاة، وهو حكمٌ معدول به عن أصل القياس، ذلك أن القياس في نواقضِ الوضوء جميعها، أنها تنقضُ الطهارة في الصلاة، كما تنقضها خارج الصلاة، وهذا أمرٌ لا يتحقق في القهقهة، اذ لا تنقض الوضوء إلا في الصلاة، والذي أوجب العدول عن هذا القياس ورود الخبر في القهقهة: "من ضحكَ منكم قهقهة فليعد الصلاة والوضؤ جميعاً". وسيأتي تخريجه في 2/ 143. وانظر: "أصول السرخسي" 2/ 153. (¬2) يشير بقوله: "خيار الثلاث في البيع" إلى أن الأصل في البيع أن يكون لازماً، إلا أنه قد عُدِل عن هذا الأصل لورود الخبر الذي جوز خيار الشرط ثلاثة أيام. وهو ما رواه ابن عمر أن حَبَّان بن منقذ كان يُخاع مما ابتاع فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له الخيار فيما يشتري ثلاثاً. أخرجه: الدارقطني في "السنن" =

في الصلاةِ. والإِجماعِ؛ (¬1) كإسلامِ الدراهمِ في الحديدِ (¬2)، وأجرةِ دخولِ الحمامِ مع الجهالة. ولقولِ الصحابي، بمثلِ مسألة زيد بن أرقم لقول عائشة (¬3)، ¬

_ = 3/ 54 - 55، والحاكم في "المستدرك" 2/ 22، والبيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 273، والحميدي في "المسند" 2/ 292 - 293. (¬1) أي يترك القياس للإجماع الوارد على خلافه، فيقتضي العدول وقطع المسألة عن حكم نظائرها. (¬2) كان يقول الرجل للصانع: اعمل لي آنية من نحاس أو حديد -ويبين نوعها وصفتها- ويقدر ثمنها بكذا من الدراهم. فالقياس أن هذا لا يجوز؛ لأنه بيع معدوم، لكنه جاز استحساناً لإجماع الناس على التعامل به. انظر "كشف الأسرار" 4/ 5، "أصول السرخسي" 2/ 203 (¬3) أخرج البيهقي في "السنن" 5/ 330، والدارقطني في "سننه" 3/ 52، وعبد الرزاق في "المصنف": (14812) و (14813)، عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته: أنها دخلت على عائشة -رضي الله عنها-، فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين، إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمئة درهم نسيئة، واني ابتعته بستمئة درهم نقداً. فقالت لها عائشة -رضي الله عنها-: بئسما اشتريت، وبئسما شريت، إن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل، إلا أن يتوب. فقول عائشة -رضي الله عنها- مخالف للقياس؛ لأن البيعة الأولى مختلفة عن البيعة الثانية، وقد ثبت عليه بالبيعة الأولى الثمن كاملاً، إلا أنه قد عُدل عن هذا القياس لقول عائشة -رضي الله عنها-، والذي يرجِّح سماعها النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيع، حيث جعلت جزاء مباشرته بطلان الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانظر "المنار": 735.

وتقديرِ عينِ الدابةِ ربع قيمتها لقول عمر (¬1)، وقتلِ الجماعةِ بالواحدِ لقول عمر (¬2). والاستدلالِ بمن حَلف أن لا يصليَ لا يحنثُ حتى يأتىَ بمعظم الركعةِ، لأنَ الأقل ملغى، ومن حلفَ أنه يهودي أو نصرانيٌ، القياسُ إن لا تجب عليه الكفارةُ؛ لأنَهُ لا يحلف الله، ولكن حَنثناهُ استحساناً؛ لأنه هتكَ حرمةَ الدينِ، فصار كالحالفِ بالله في هتكِ الحرمةِ. وجملةُ ذلك أنه ينقسمُ ثلاثةَ أقسام: أحدُها: تركُ القياس لدليل أقوى منه، فهذا نقول به، وهو صحيحٌ. والثاني: تركُ القياسِ لغيرِ دليل، فهذا لا يجوزُ لأحد أن يذهبَ إليه؛ لأنه مجردُ هوى النفسِ واستحسانها. والثالثُ: ترك القياس للعُرفِ والعادةِ، فهاهنا يتصورُ الخلافُ. ومن وجهٍ آخر، وهو أن ما يرونه أقوى من القياسِ، يتكلم عليه وأنه ليس بأقوى. فأمَّا الأولُ: هو أن القياسَ حجةٌ شرعيةٌ، ودليل يجبُ المصيرُ إليه، فلا يجوز تركُه للعرفِ الطارىء كالكتابِ والسنَةِ والِإجماعِ. ¬

_ (¬1) أخرج عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 77 عن شريح: أن عمر كتب إليه: في عين الدابةِ ربع ثمنها. (¬2) يعني قول عمر -رضي الله عنه-: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به"، تقدم في الصفحة: 369 من الجزء الأول.

وأما الكلامُ في الثاني؛ هو: أن تلفيق شهودِ الزنا والسرقةِ ليس بأمرٍ قوي لإِقامةِ حد الزنا والقطعِ في السرقةِ، وقد نوافقهم في موضعِ الاستحسانِ، ونخالفهُم أنه عُدِلَ بهِ عن القياسِ، بل القياسُ هو موضعُ الاستحسانِ، كقولهم: القياسُ أن لا يُباعَ على المفلِس ماله، لأنه مكلف، وإنما استحسنا في بيعِ دراهمَ بدنانيرَ، لأنهما كالجنسِ الواحدِ. فنقول: بل القياسُ من امتنعَ من أداءِ حقٍّ أخذَ به جبراً، إذا أمكن الاستيفاءُ منه. وقد نُعارض مثل قولِهم بالاستحسانِ، بأن نقولَ: إن كان القياسُ اقتضى أن لا يجبرَ مكلف على بيعِ مالِه، فالقياس أن [لا] (¬1) يضيعَ على مسلم حق. ثم إنهم تركوا الاستحسانَ في مواضعَ، وأخذوا بالقياسِ فيها. قالوا: لو أسلمَ رجل إلى رجل آخرَ في ثوبٍ ثم اختلفا، فقالَ صاحبُ السلم: هو هَروي، وقال المُسلِم: هو مَروي، تحالفا، فحلفَ من عليه السَلَمُ: ما هو هروي وتَبرَّأ. وحلفَ صاحبُ السلم: ما هو مروي، ورد عليهِ رأس المال، فإنْ أقامَ كلُّ واحدٍ منهما بينةً فالبينةُ بينة الطالِب، وإن اتفقا على الجِنس على أنه مروي واختلفا في المقدارِ، فقال الطالبُ: هو ستةُ أذرع في ثلاثة أشبار، وقال المسلم إليه: هو خمسةُ أذرع في ثلالةِ أشبار، تحالفا وترادا في القياس. وأما في الاستحسان فينبغي أن يكون القولُ قولَ المطلوب مع يمينه، فأخذ بالقياسِ وترك الاستحسان. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

- المخصوص من القياس بدليل صحيح يصير أصلا من أصول الشرع

فصل والاستحسانُ أعم من تخصيصِ العلَّةِ؛ لأن تخصيصَ العلَّةِ كتخصيصِ العمومِ، يتركُ القياسُ في موضعٍ واحدٍ من الجنس والباقي على القياسِ. والاستحسانُ قد يكونُ ترك القياسِ رأساً، كالنسخ، وقد يكونُ مثلَ تخصيصِ العلَّةِ وتخصيصِ الخبر. فصل والمخصوصُ من القياسِ بدليلٍ صحيحٍ، كخبر، أو إجماع، أو غيرِهما من الأدلةِ، يصير أصلَاً من أصولِ الشرع (¬1)، فإن دلت الدلالةُ على تعليلهِ جاز القياس عليه. وهذا كما يقول: إنَ ديةَ الخطأ تجب على الجاني، قياساً ومعقولاً، كقتل العمد، وأبدال سائرِ المتلفاتِ، أوجبناها على العاقلةِ للسنةِ، ولقول عمر وعلي رضي الله عنهما، ثم وجدناه معللاً، وهو أنَه أرش جنايةٍ على حُرٍّ خطأً، فتحملهُ العاقلةُ مواساةً، يقاسُ على ذلك ما دون النفسِ على اختلافِ الفقهاءِ في القدرِ. فأصحابُ أبي حنيفة يقيسون عليه المقدَّر، وهو الموضِحةُ (¬2)، وأصحابُنا ما دون الثلثِ، وأصحابُ الشافعي الجميع حتى مالا مقدر فيه، مما دون الإِيضاح. ¬

_ (¬1) انظر "العدة"4/ 1397، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 22، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 303، و"التمهيد" 3/ 444، و"المسودة ": 399. (¬2) الموضحةُ: هي الشجة توضح العظم وتظهره وتكشفه. انظر "أنيس الفقهاء"/ القونوي، تحقيق عبد الرزاق الكبيسي ص: 294.

وأصحاب أبي حنيفة يسمون مثلَ هذا: القياسَ على موضع الاستحسانِ، واختلفوا في جوازِه، فأجازه بعضُهم، ومنع منه بعضهم (¬1). وقال أبو الحسن الكَرخي: لا يجوز القياس على المخصوصِ من جملةِ القياسِ إلا في ثلاثةِ مواضعَ: أحدُها: أن يكون علَّةُ منصوصاً عليها، كقولهِ - صلى الله عليه وسلم - في سؤر الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" (¬2). وهذه علَّةُ صاحب الشرع، يعني أنه لا يمكنُ الاحترازُ منها، فقِسنا على ذلك كلُّ ماَ لا يمكَنُ الاحتراز منه من الحشرات. أو يكون مجمعاً على تعليلهِ وإن اختلف في علَّتِه. أو يكون موافقاً لبعضِ الأصولِ، أو يكون مما لم يفصلْ أحدٌ بينه وبين المخصوصِ، كالأكلِ والجماعِ في رمضانَ ناسياً، ظناً منه أنه لم يفصلْ أحمدُ وغيرهُ بينهما. ¬

_ (¬1) رأي عامة الحنفية: أنَ الشرع إذا ورد بما يخالف في نفسه الآصول، فإنه يجوز القياسُ عليه إذا كان له معنى يتعداه. وراجع تفصيل رأي الحنفية في "كشف الأسرار" 3/ 1031 - 1032 و"أصول السرخسي" 2/ 153، و"ميزان الاصول" 2/ 914. (¬2) أخرجه: مالك في "الموطأ" 1/ 22 - 23، وأحمد 5/ 303 و309، والترمذي (92)، والنسائي 1/ 155 - 178، وابن ماجه (367)، والدارمي 1/ 187 - 188، والبغوي (286)، والحاكم 1/ 160 وصححه، وابن حبان (1299)، من حديث أبي قتادة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنها ليست بنَجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات" وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وعن محمدِ بن شُجاعِ الثلجي (¬1): أنه لا يجوزُ القياسُ عليه إلا إذا كان طريقهُ مقطوعاً به. وكلُّ ذلك غيرُ صحيح عندنا؛ لأنَّهُ إذا دلًت الدلالةُ على تعليلهِ، جاز القياسُ عليه كسائرِ الأصولِ، فأمَّا مخالفتُه لسائرِ الأصولِ الأخَرِ فتوجبُ الرجوعَ إلى الترجيحِ، فيعارض الأصلان، على أنهم قد قاسوا أرشَ الموضحةِ فما زاد على ديةِ الجنينِ، وهو عارٍ وخالٍ عما ذهبوا إليه. فصل فعلى هذا إذا قاسَ الشافعيٌ على موضعِ الاستحسانِ فقال الحنفيُ: لا أُسَلِّم لك الحكمَ في الأصلِ على حكم القياسِ، مثلَ أن تقيسَ ما دونَ الموضِحةِ على الموضِحةِ، فيقولُ الحنفيُ: لا أسَلمُ أنَ الموضِحَة على أصلِ القياس، فهذا فاسدٌ؛ لأن القياسَ ليس مذهبه الآن، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يمنعَ على مالا يقولُ به، وإنما وزانه أن يقولَ: لا أسَلِّمُ على مقتضى العقلِ، وهو فاسدٌ، فكذلك هذا. وقيلَ: ينظر في ذلك، فإن كان صاحبُ المذهب روي عنه روايتان رواية قياساً وروايةٌ استحساناً، فالمنع صحيح. فإن قال: فيه قياس واستحسان وبه أقول، فلا يجوز له الممانعة على القياس، وإن قال: فيه قياس واستحسان، وسكت، فإن اختارَ أصحابُه القياسَ صحت الممانعةُ، وإن اختاروا الاستحسانَ لا يصح، والله أعلم. ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله محمد بن شجاع البغدادي الحنفي، المعروف بابن الثلجي، عُرِف بالورع والتعبد، له كتاب في "المناسك"، توفيَ سنة (266) هـ. انظر "سير أعلام النبلاء" 12/ 379، و"الوافي بالوفيات" 3/ 148، و"الفوائد البهية":171.

- فصل في القياس على الأصل المركب

فصل في المركب (¬1) واعلم أن القياسَ على الأصلِ المركبِ على ضربين: أحدُهما: أن يَبني دليلًا على دليل ويقيس مختلفاً على مختلفٍ ثم يدلّ عليه، وهذا حَسَن يستعمل في كلّ علمٍ، وأكثرُ ما يستعملُه أهلُ الأصولَ. مثالُه من الفقهيات: أن يُسألَ عن بيعِ الأرز بالأرز متفاضلًا فيقول: لا يجوزُ. فيطالَبُ بالدليلِ، فيقول: لأنه مطعوم جنس، أو لأنه مكيلُ جنس، فحرم التفاضل فيه كالبُرّ. فيقولُ السائلُ: هذا قياس، وأنا لا أسلمُ لك أن القياسُ حجة. فيستدلُ على صحةِ القياسِ بالإِجماعِ، فيقولُ: لا أسلمُ لكَ أن الإِجماعَ حجة. فيستدلُّ عليهِ بالكتابِ، وهي آية الِإجماع: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]، فهذا تركيب على أصل لم يُسلمْه خصمه، لكنه أصل يختصُ به المستدِلُّ، ثم يقيمُ الدلالةَ عليه. وقد استدلَّ الشافعيُ -رحمة الله عليه- بمثلِ هذا في مواضعَ: منها: أنه قال: ولو كان الصوفُ والشعرُ والريشُ لا يموتُ بموتِ ذاتِ الروحِ، أو كان يطهرُ بالدباغ، لكان ذلك في قرنِ الميتةِ وسِنّها، ¬

_ (¬1) يرجع في هذا الفصل إلى "شرح مختصر الروضة" 3/ 552، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 313.

وجازَ في عظمِها؛ لأنهُ قبلَ الدباغ وبعدَه سواء. فقاسَ الصوفَ والشعرَ على العظمِ، ومعلومٌ أنه لا يسلَم له أصحابُ أبي حنيفة الأصلَ، بل يقولُ أبو حنيفةَ: إنً العظَم لا ينجس بالموتِ. ولا شكَّ أن الشافعيَ رضي الله عنه لم ينظرْ إلى منعِ أبي حنيفة، بل عوَّل على الدلالةِ القائمةِ في كونِ العظمِ يحيا ويموتُ بقوله سبحانه: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78 - 79]. وقال في البكرِ البالغةِ: يجوزُ للأبِ إجبارُها، ولو كانت إذا بلغت أحقِّ بنفسِها أشبه أن لا يجوزَ ذلك عليها قبل بلوغها، كما قلنا في المولودِ يقتلُ أبوهُ: يحبسُ قاتلُه، حتى يبلغَ [فيقتصَّ] (¬1) أو يعفوَ. ونريدُ به: لو لم يجزْ للأبِ إجبارُها بالغةً لم يجزْ تفويتُه عليها قبل بلوغها، كالقودِ للصغيرِ فيما يقعُ فيه، وهو يعلمُ أنَّ أبا حنيفة يقولُ: بأن الوليَّ يستوفي القصاصَ للصغيرِ، لكنه عوّلَ على أنه يدل عليه بأن القصاصَ للتَشَفي وذلك يفوّتُ على الوارِث، ولأنه حق الصغيرِ فلا يفوتُ عليه، كالمالِ، وهذا يدلُّ من كلامِه أيضاً، على أنَّ عنده يجوزُ القياسُ على فرعٍ لأصلٍ آخر. فصل والضربُ الثاني (¬2): الذي يستعملهُ المتفقهة يريدون به هذا الذي ذكرناه، إلا أنَّه بَعُدَ البناءُ عليه لبُعْدِ ما بين المسألتين، كما يقولُ أصحابُنا وأصحابُ الشافعي: في أنَّ بيعَ اللحمِ بالحيوانِ لا يجوزُ؛ ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أي: الضربُ الثاني من القياس على الأصل المركب.

لأنه بيع لحمٍ بحيوانٍ ولا يجوز، أصله بيع اللحمِ بالمدَبر (¬1)، أو بيع عين غائبةٍ، فلا يصحُّ، أصله المدَبرُ. وأنثى، فلا يصح منها عقد النكاحِ، كبنتِ خمسَ عشرةَ سنة، وكقولِ أصحاب أبي حنيفة: رهن مشاع، فلا يصح، أصلة نصف الكلب، ومعلومٌ أنَ المدبَر الغائبَ لا يصحُّ بيعة عند الشافعي للجهلِ بصفتِه، وعند أبي حنيفة لكونِه مدبراً مطلقَ التدبير، لا للجهل بصفته، ونصف الكلبِ لا يجوز رهنهُ عند الشافعي، لنجاسةِ عينهِ، وعند أبي حنيفة لإشاعتهِ، فهذا وأمثاله قد اختلفَ أهلَ الجدلِ في صحتِه؛ فقال قوم: إنه فاسدٌ. والدليل عليه: هو أن الطريقَ إلى العلم بحكم الأصلِ لا يختلف، كتحريم التفاضلِ في البر، وإنما يختلف الطريق إلى العلم بالعلةِ، وفي المركَبِ تختلف الطريق إلى العلمِ بالحكمِ، لا طريق العلمِ بعلتِه. ولأنَّ الأصلَ إذا اختلفَ القائسون في علتِه، كالأشياءِ الأربعةِ: البر والشعير والتمر والملحِ، قال أبو حنيفةَ: العلةُ فيها الكيلُ المعتاد. وقال الشافعي: العلَّة هو الطعْم. وقال مالك: القوت (¬2). فيثبت الشافعى الربا في الفواكهِ غيرِ المكيلةِ والموزونةِ ولا يثبته في الجصِّ والنُورَةِ، وأبو حنيفةَ يثبته في الجصِّ والنورةِ دونَ الفواكِه. فلو تركَ أحدهما قولَه ¬

_ (¬1) المدبر: هو العبد يُعلق عتقه على موت سيده. "اللسان": (دبر). (¬2) انظر "المغني" 6/ 53، و"المجموع" 9/ 395، و"حلية الفقهاء" للقفال: 4/ 149، و"البناية في شرح الهداية" للعيني 6/ 525، و"مواهب الجليل" 4/ 336

لقيام دليلٍ، بأن يقول: دلالةُ الطعْم ليس بعلةٍ لزالَ الخلافُ عن الرمانَ والبقولِ، وكذلكَ لو دلتْ دلالة على أنَّ الكيلَ ليس بعلةٍ لزال الخِلاف عن الجصِّ والنورة، بحيثُ لا يكونُ فيه الربا إجماعاً، هذا هو القياسُ الصحيحُ. وفي مسألةِ التركيب: لو دل الدليلُ على فسادِ أحدِ القولين لم يزل الخلافُ؛ ألا ترى أنَ الخلافَ في ابنةِ عشرينَ سنة، هل يجوزُ أن تزوِّج نفسَها أم لا؟ والأصلُ ابنةُ خمسةَ عشرَ سنةً. فيقولُ الخصمُ: لو دل الدليلُ على أنَ ابنةَ خمسةَ عشرَ سنةً بالغ، لجوزتُ لها أن تُزوِّجَ نفسها، وإذا تركتُ قولي في بلوغِها، لم يزل الخلافُ في ابنةِ عشرينَ سنة، وكذلكَ لو قامَ الدليلُ على أنَ خمسةَ عشرَ ليس ببلوغ لم يزل الخلافُ. ومن قالَ بصحتها استدلَّ بأنَّ الحكمَ في الأصل المركبِ متفقٌ عليه، وإنَما اختلفوا في علتِه، ألا ترى أنهم اتفقوا على أن ابنةَ خمسةَ عشرَ سنة لا يصح منها النكاحُ، وإنما قالَ الشافعي: لكونها أنثى. وقال أبو حنيفة: لكونها غيرَ بالغٍ. وذلكَ لا يمنعُ صحةَ القياسِ عليه، كاختلافِهم في علَّةُ الأصل في غير المركب. قلنا: غير المركب اتفقوا على أن طريقَ العلمِ بحكمهِ واحدة، وعلى تعليله، فإن علته واحدة، ثم اختلفوا في عينِها، على حسبِ الدلالةِ عند كلِ واحدٍ، ولو دلتْ عنده دلالة على أن التي ادَّعاها فاسدة لرجعَ إلى قولِ صاحبه، وهذا لا نجدُه في المركب؛ لأنه لم تُستنبطْ منه علتهُ، ولو دل على فساد أحدِهما لخرج أن يكونَ أصلًا بحال. وغير المركب لو اتفقوا على فساد أحدهما كان أصلًا على حاله، ويقوى

- فصل في القياس على الأصل المخالف للأصول

بالاتفاق. فصل وأما القياسُ على الأصلِ المخالفِ للأصولِ، وهو على موضعِ الاستحسان، وصورتُه كما نَقولُ: إذا قالَ المشتري للبائع: بعني. فقالَ: بعتُكَ. انعقدَ البيعُ قياساً على ما يقولُ المتزوجُ للوليّ: زَوجني بنتَك فلانة. فيقولُ: قد زوجتكَها. وكما نَقيسُ جماعَ الناسي في الحجّ -على أحدِ القولينِ- على الجماع في الصوم، فعند جماعةٍ من أصحاب الشافعيّ وغيرِهم يجوزُ الَقياس علىَ هذا الأصلِ. وعند أصحاب أبي حنيفةَ لا يجوزُ القياس على الأصل المخصوصِ من جملة القَياسِ؛ لأن الجماعَ (¬1) يبطلُ العباداتِ كلَّها، عامداً وناسياً، كالصلاةِ والوضوء والاعتكاف، هذا هو القياسُ، إلا أنَّا قلنا: جماع الناسي لا يبطلُ الصومَ استحساناً؛ لخبرِ الأكل (¬2)؛ لأنَّ أحداً لم يفصل بين الأكلِ والجماعِ في الصوم قياساً، وليس كما ظنوا. فإن مذهبنا أن وطءَ الناسي (¬3) يُبطلُ بخلافِ أَكلِ الناسي، فأمَّا الجماعُ في الحجِّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإجماع". (¬2) وهو ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكلَ الصائمُ ناسياً، وشربَ ناسياً، فليتم صومَه فإنما أطعمه اللهُ وسَقاه". أخرجه: أحمد 2/ 425 و 491 و 513 - 514، والبخاري (1933) و (6669)، ومسلم (1155)، وأبو داود (2398)، والترمذي (722)، وابن ماجه (1673)، والدارقطني 2/ 180 والبغوي (1754). والبيهقي 4/ 229، وابن حبان (3519) و (3520). وابن خزيمة (1989). (¬3) انظر في فساد صوم من وطىء ناسياً في شهررمضان "المغني" 4/ 374، وفساد حج من وطىء ناسياً "المغني" 5/ 173 - 174.

- فصل في القياس على الخبر المخصص للعموم

فإنَا نقيسهُ على سائرِ الأصولِ، ولا نقيسهُ على الصومِ. وجملتُه: أن عندهم لا يجوزُ القياسُ على موضعِ الاستحسانِ إلا إذا نص على علّةٍ؛ لأنَ النصَ على العلَّةِ، كالنصّ على وجوب القياسِ. أو أجمعت الأمَّةُ على تعليلِ موضعِ الاستحسانِ وان اختلفوَا في علتِه أو يكونَ مما لم يفصلْ أحدٌ بينه وبين المخصوصِ فيكونُ حكمُه حكمَ ما خُص من جملةِ القياس (¬1). فصل (¬2) وأما القياسُ على الخبرِ المخصّصِ للعموم، فقد أجازه أبو الحسن الكرخي، وعند محمدِ بن شجاع: إن كان الخَبرُ مقطوعاً به جاز القياسُ عليه، وإن لم يكنْ مقطوعاً به لم يجزْ القياسُ عليه إذا خالف الأصولَ. وهذا لا يصح؛ لأنَّه قد وردَ التعبدُ بوجوب القياسِ، ومخالفته لقياسٍ آخرَ، لا يمنعُ من القياس عليه إذا دلتَ الدلالةُ على صحةِ علّتهِ، والمنصوصُ على علته أوَ المجمعُ على تعليله أولى؛ ولأنَّ الاعتبارَ بالدليلِ الدال على صحةِ العلَّةِ سواء كان نصاً أو غيرَه، كسائرِ الأقيسةِ. ¬

_ (¬1) هذا التفصيل هو رأي أبي الحسن الكرخي وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. (¬2) هذا الفصل تابع للفصل الذي تقدم فيه البحث عن جواز القياس على الفرع المخالف للقياس، واعتباره أصلًا قائماً بذاته.

- فصل يجمع مسائل في الشرع طريقها القياس

فصل يجمع مسائل في الشرع طريقها القياس منها: أنَّ اللهَ سبحانَه قالَ: {ومَن قتلَ مؤمناً خطأً فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ ودية مُسلمة إلى أهلِه} [النساء: 92]، فنصّ على الذكرِ؛ لأنَ لفظَ (مؤمنٌ) لا يقع إلا على الذكرِ، وهو نكرة أيضاً، فلا يعمُ الذكَرَ والأنثى، ووجب في قتلِ المؤمنةِ تحرير رقبةٍ قياساً على المؤمنِ. ومنها قولُه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43، المائدة: 6] ولم يذكر الحائضَ والنُفَسَاءَ إذا انقطعَ دَمُهما ولم يجدا الماءَ، فأمر بالتيمم عند عدمِ الماء، وكانَ ذلك قياساً على المنطوق به من الأشخاصِ المحدثينَ الذين انتظمتهم الآيةُ. ومنها: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49]، فخص المؤمناتِ بالذكرِ، وقيسَ عليهن الذمياتُ أيضاً، فإنهنَ إذا طُلقنَ قبلَ الدخولِ لم يكن عليهنَ عدة، وقضيَ بالقياسِ، ولم يُعولْ على دليلِ الخطابِ في هذا البابِ تقديماً للقياس عليه. ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ

الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فكان المعقولُ منعه سبحانه من البيعِ لئلا يشتغلَ بهِ عن الصلاةِ، فقيسَ عليه الإجارةُ والنكاحُ وسائرُ الأعمالِ من البناءِ والنَجارةِ. ومنها: قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ولم يذكرْ الذينَ يرمون المحصَنينَ من الرجال، ومعلومٌ أنَ إيجابَ الحد على الذكورِ، كان قياساً على مكانِ النطقِ؛ لأنَه قذفَ شخصاً محصناً، وهتكَ عِرضاً سليماً، فنَظَرَ القائسون إلى المعنى، ولم يَقصروا الحكمَ على النطقِ وهذا هو عينُ القياس. ومنها: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فخصّ الحجبَ بالِإخوةِ ذكراً، فعداه القائسون إلى الأخواتِ بالمعنى، فجعلوا الأخواتِ كالإِخوةِ في حجب الأم من الثُّلث إلى السدسِ، بعلة أنهم أولادُ أبٍ وأولادُ أمٍ. ومنها: قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] الأية، ولم يذكرْ الجداتِ أمهاتِ الأباءِ والأمهاتِ، ولا بناتِ البناتِ ولا بناتِ البنين، ولا خالاتِ الأبوين وعماتِهما. فإن اعترضَ أهلُ الظاهرِ فقالوا: إنما ثبتَ ذلك بالاسمِ؛ لأنَّ أمهاتِ الأمهاتِ أمهاتٌ، وبناتِ البنين والبناتِ بناتٌ. قيل: هذا لا يصح؛ لأنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالَ للجدة: لا أجدُ لكِ في كتاب الله شيئاً (¬1). وهو سيدُ اللغةِ، ولو كانت ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 513، وأبو داود (2894)، والترمذي =

- فصل يجمع الأقيسة على السنة

أمّاً في اللغةِ، لكانت موجودة في ذكرِ الأمهاتِ على زعمِكم، ومحال أن يعدمَ هو الاسم ونجدُه من بعده، ولا يقالُ في لغةِ العرب لعماتِ الجدِّ عمات حقيقة، ولا لبنت بنتِ الأخ بنتُ أخ حقيقة. فصل يجمع الأقيسةَ على السنةِ من ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من باعَ عبداً ولهُ مالٌ فمالُه للبائع إلا أن يشترطَ المبتاعُ" (¬1)، وحكمُ الجاريةِ إذا بيعتْ ولها مال حكمُ العبدِ إجماعاً إذا (2 بيع وله مال 2) قياساً على العبدِ، فالإجماعُ على الحكم، والقياسُ على العبدِ قول القائس. ومن ذلك: ما رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُفعَ القلمُ عن ثلاثة: عن الصبى حتى يحتلمَ، وعن المجنونِ حتى يفيقَ، وعن النائمِ حتى يَستيقظَ" (¬3). وروي: "ينتبه" فخصَّ هؤلاء بالذكرِ، وحكمُ الِإناثِ من ¬

_ = (2101)، وابن ماجه (2724)، والبيهقي 6/ 234، وابن حبان (6031) والحاكم 4/ 338. (¬1) أخرجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- البخاري (2379) ومسلم (1543) (80)، والترمذي (1244)، والنسائي 7/ 296، وابن ماجه (2211)، والبيهقي 5/ 324، وابن حبان (4922). (2 - 2) في الأصل: "بيعت ولها مال"، ولعل المثبت هو الصواب. (¬3) أخرجه من حديث عائشة -رضي الله عنها-، أحمد 6/ 144، وأبو داو (4398) والنسائي 6/ 156، وابن ماجه (2041)، وابن حبان (142). وفي الباب عن ابن عباس، وأبي هريرة وأبي قتادة، وغيرهم انظر "نصب الراية"4/ 161 - 165.

- فصل فيما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأشخاص حمل عليهم غيرهم في تلك الأحكام

هؤلاءِ حكمُ الذكورِ، وما ورد الحكم الذي هو العفو إلا في الذكور. ومن ذلكَ: ما روي عن النبي فى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن أعتقَ شِركاً لهُ في عبدٍ،- ويروى: مملوكٍ - قومَ عليه قيمةُ عدل، وإلا عَتَق منهُ ما عَتَقَ، ورق ما رق (¬1) "فكان حكمُ الإِماءِ حكمَ العبيد قياساً عند القائسين. ومن ذلكَ: ما روى ابنُ عباس عن ميمونةَ أن فأرةً وقعتُ في سمنٍ فأُخبرَ النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "ألقُوها وما حَولَها وكُلوا" (¬2). فقيسَ على الفأرةِ ابنُ عِرس (¬3) والعصفورُ وكل ميتٍ له دم سائلْ عند قومِ، وما لا دمَ له أيضاً عند قوم، وقيسَ على السمنِ الدبسُ الجامدُ وَالزبدُ واللبنُ وسائرُ الجامدات. فصل فيما حكمَ النيى صلى الله عليه وسلم لأشخاصٍ، حُمِلَ عليهم غيرُهم في تلك الأحكام وذلك قياس عند قومٍ وليست أقيسةً عند قوم. وعلى الأول أكثرُ العلماءِ من القائسين. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك 2/ 772 والشافعي 2/ 66 وأحمد 2/ 2 و15 و77 و 105 و112 و142، والبخاري (2522) و (2523) ومسلم (1501)، وأبو داود (3940) و (3941) و (3942) و (3943)، والترمذي (1346)، والنسائي 7/ 319 وابن حبان (4316)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة (52). (¬3) ابن عِرس: دُوَيبة معروفة تَشبه الفارة وهي دونَ المنَوْر، تفتك بالدجاج ونحوها. والجمع (بنات عِرس). انظر "لسان العرب" و"المعجم الوسيط": (عرس).

منها: حديثُ الأعرابي الذي ساله عن المواقعةِ لامرأتِه في نهارِ رمضان، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أعتِقْ رَقَبة" (¬1) حُمل ذلكَ على كلِّ مجامع في نهارِ رمضان، وصار كأنه قال: لأنَكَ جامعتَ في نهارِ رمضان. ومنها: قولُه - صلى الله عليه وسلم - لفاطمةَ بنتِ قَيس لما طلقها رِفاعة ثلاثاً، فتزوجتْ عبدَ الرحمن ابن الزبير، وذكرتْ أن معهُ كهُدبةِ الثوب، فقال: "لعلك تريدي أن تراجعيْ رفاعةَ" أو كما قال، ثم قالَ لها: "لا حتى تذوقي عُسيلتَه ويذوقَ عُسَيلتك" (¬2)، حُمل على كلِّ امرأةٍ طلقَها زوجُها ثلاثاً، فزوجت بغيره، لا تباحُ للأول بمجرد العقد حتى توجدَ الإصابةُ. ومنها: قولُه لفاطمةَ بنتِ أبي حُبَيش: "إنما هو دمُ عرقٍ، فتوضئي لكلِّ صلاة" (¬3)، فكان محمولاً على كلُّ مستحاضةٍ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة 40. (¬2) أخرجه مالك 2/ 531، والبخاري (5792)، ومسلم (1433)، والبيهقي 7/ 375، وابن حبان (4121). والصواب أن قوله - صلى الله عليه وسلم - لتميمة بنت وهب انظر "الفتح" الحديث (5317). وهدبة الثوب: هي طرفه الذي لم ينسج، تعني بذلك أن متاعَه رخو كهُدبة الثوب. (¬3) ورد ذلك في حديث عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قالت: فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:" إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة، فاتركي الصلاةَ، فإذا ذهبَ عنكِ قدرُها، فاغسلي عنك الدم وصلي ". أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 61، وأحمد 6/ 42 و137 و194 والبخاري (306) و (320) و (325) و (331)، ومسلم (333)، وأبو داود (282) و (298)، والترمذي (125)، وابن ماجه (624)، والنسائي 1/ 181 و 185 و186، وابن حبان (1350) و (1351) و (1352) و (1353) و (1354).

ومنها: قوله لهندٍ زوجةِ أبي سُفيان لما شكتْ إليه شُحَّ أبي سفيان: "خُذي ما يكفيكِ ووَلَدك بالمعروفِ (¬1) "، فحملَه قومٌ على كلُّ مستحقٍّ لدينٍ، زوجةً كانت أو غيرَ زوجةٍ، وحملَه قومٌ على كلِ زوجةٍ دونَ أربابِ الديونِ. واستدل من قالَ: ليسَ هذا من باب القياسِ، إنما عُلِمَ التعدي بالنصِّ، وهو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "قَولي للواحدِ قوَلي للجماعةِ" (¬2) "قولي لامرأةٍ واحدةٍ قولي لمائةِ امرأةٍ" (¬3). فلما كان حكمُه - صلى الله عليه وسلم - للواحد وعليه، حكمه ¬

_ (¬1) ورد هذا في حديث عائشة -رضي الله عنها. أخرجه: أحمد 6/ 39 و 50 و 206، والبخاري (2211) و (5730) و (5364) و (7180)، ومسلم (1714)، وأبو داود (3532)، وابن ماجه (2293)، والنسائي 8/ 246 - 247، والبيهقي 7/ 466 و477 و 10/ 269 - 270، وابن حبان (4255) و (4256). (¬2) اشتهر هذا الحديث في كلام الفقهاء والأصوليين، وليس له أصل ولا سندٌ في كتب الحديث. نبَّه إلى ذلك ابن كثير، والمزي، والذهبي، والسبكي، وابن حجر العسقلاني. انظر "موافقة الخَبَر في تخريج أحاديث المختصر" لابن حجر العسقلاني: 1/ 527، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (578). والحديث التالي يؤدي معناه. (¬3) ورد ذلك في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسولَ الله على أن لا نشرِكَ بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتلَ أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما استطعتن وأطقتن" قالت: فقلت: الله ورسولُه أرحمُ بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة =

للجماعة وعليهم، كان غيرُ هؤلاء الأشخاصِ داخلينَ بحكمِ هذا النطقِ دونَ القياسِ، وذلك لأنَه مبعوث إلى الكافة. فيقالُ: هذا حثٌ منهُ - صلى الله عليه وسلم - على القياسِ؛ لأنَ بيانَه للواحِد لا يعمُّ الجماعةَ من جهةِ اللفظِ، والحكمُ للشخص الواحِد والخطابُ خاصٌ له، فكان يجوزُ أن يختصَ ذلك الواحد، كأبي بُردةَ في الجذعةِ من المعزِ (1)، وكسالم في الرضاعِ بعد علو السن وخُروجه عن حَدِّ الرضاع (1)، وكأبي بكرةَ في (¬1) في دخولِه الصف راكعاً وإنما عم من حيث المعنى، فقولُه: "قولي للواحد قولي للجماعةِ"، "حكمي في الواحدِ حكمي في الجماعةِ" دالٌ على القياسِ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بإجراءِ المعنى على عمومِه وهذا هو عينَ القياسِ. فصل إذا نصَّ صاحب الشرعِ على حكمِ شيء، وقال: قيسوا عليه ما هو مثلُه ونظيرُه، فإنَا نبحثُ عن علته، ثم نقيس عليه لنعطيَ اللفظةَ ¬

_ = واحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة". أخرجه: أحمد 6/ 357، والنسائي 7/ 149، والترمذي (1597) وابن ماجه (2874)، والحاكم 4/ 71، وابن حبان (4553). قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة (98).

حقَّها، وهو قولُه: ما هو مثلُه. وهذا إجماع، وإنما يقعُ الاجتهادُ منا في معرفةِ العلَّةِ ومعرفةِ النظيرِ. ولو لم يأمرْنا بالقياسِ عليه لكن نص على علتِه بأن يقولَ: حرمتُ هذا لكذا، فإنه يجوزُ القياسُ عليه، واجتهادُنا يقعُ في طلب النظيرِ ووجودِ العلَّةِ فيه، دونَ معرفةِ العلَّةِ. وكذلك لو أجمع العلماءُ على علته، كان حكمُه حكمَ ما نصَّ عليهِ صاحبُ الشرع، وكذلكَ لو أجمعَ العلماءُ على تعليلهِ ولم يثبتوا علته، فإنَه يجوزُ القياسُ عليه، وكذلك إن دلتْ الدلالةُ على تعليله، جازَ القياسُ عليه. وقال بشر المريسي (¬1): لا يجوزُ القياسُ على أصلٍ ما لم يكنْ منصوصاً على علتِه أومجمعاً على علتِه. وقال قومٌ: لا يجوزُ القياسُ على أصل لم يرد النصُّ بالقياسِ عليه. وهذا غيرُ صحيح؛ لأنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورضوانُ اللهِ عليهم قاسوا على أصولٍ لم يرد النصُّ بالقياسِ عليها بعينِها، ولا وردَ النصُّ على عللِها ولا تعليلها، ولو كان ثم نص لبانَ لنا وظهر، كما ظهرَ حكمُ الأصل. ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي البغدادي. غلبَ عليه الكلام، وانسلخ من الورع والتقوى، وقال بخلق القرآن، حتى كان عينَ الجهمية وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره العديدُ منهم. انظر: "تاريخ بغداد" 7/ 56 - 67، و"الوافي بالوفيات" 10/ 151، و"سير أعلام النبلاء"10/ 199 - 202.

- فصل في بيان القياس على أصل ثبت حكمه بالنص

ولأنَه إذا دل الدليلُ على صحةِ القياسِ على الجملةِ، وأنَه أصلٌ من أصولِ الشرعِ يجبُ العمل به، فإذا وجدنا بعدَ ذلكَ قياساً صحيحاً، ودلَّت الأماراتُ على صحتِه، علمنا أنَه من جملةِ القياسِ الذي قامَ الدليلُ على وجوب العملِ به؛ ولأنَّه إذا دلَّ دليل على صحتِه بعدمِ النصِّ على علتِه، أَو عدمِ الاجماعِ على علتِه لا يُمنعُ من صحتِه، كالحكمِ. فصل في بيانِ القياسِ على أصلٍ ثبتَ حكمهُ بالنص فمن ذلكَ: أن الله سبحانه نصَّ على حد الإِماءِ على النصفِ من حَدِّ الحرائر، فقال سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والمحصناتُ ها هُنا الحرائرُ، ثم قاسَ العلماءُ عليهن حدَ العبيدِ. وعن عامرِ بن سَعدٍ أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه ضربَ العبدَ في الفرية أربعينَ. وعن [ابن] (¬1) أبي الزنادِ عن أبيه قال: حضرتُ عمرَ بن عبد العزيز جلدَ عبداً في فريةٍ ثمانين، فأنكرَ الذين شهدوه من الناسِ وغيرُهم من الفقهاءِ، فقالَ عبدُ الله بنُ عامر: أدركتُ واللهِ عمرَ بن الخطاب فما رأيتُ إماماً جلدَ أعبداً في فريةٍ فوقَ أربعين (¬2). ¬

_ (¬1) ساقطة من الأصل. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ"2/ 26، وعبد الرزاق 7/ 438، والبيهقي 8/ 251، وابن أبي شيبة 9/ 504 من طريق سفيان عن عبد الله بن أبي بكر.=

وقيلْ؛ إن الضاربَ للعبدِ ثمانين في الفِريةِ، أبو بكر بن محمد بن عمروِ بن حزم (¬1). وإذا فسختِ المعتقةُ تحتَ عبدٍ نكاحَها، إن كان قبلَ الدخولِ؛ لا عِدةَ عليها، وإن كان بعدَ الدخولِ؛ اعتدتْ عِدةَ المطلقة (¬2)، لقولِ اللهِ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، ولقولهِ تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. وكذلك انفساخهُ بالرضاعِ، وهو أنْ تُرضعَ امرأةُ الرجلِ الكبيرةُ، امرأتَه الصغيرةَ يبطلُ نكاحُها عند الجمهورِ، خلافاً للأوزاعي (¬3)، ثم في عدتِها ما ذكرناه. وقاسَ الجمهورُ استعمالَ آنيةِ الذهب والفضةِ في الوضوء والاغتسالِ والبخورِ، على الأكلِ والشرب (¬4)، وقاسوا ما سوى الحجرِ في الاستنجاءِ على الحجرِ، وما سوى الشَّثَ (¬5) والقَرَظِ (¬6) في الدباغ ¬

_ =والمقصود بالفرية: القذف. (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 503. (¬2) انظر "المغني" لابن قدامة 11/ 214. (¬3) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 11/ 327 وما بعدها. (¬4) انظر "المغني" 1/ 101 وما بعدها. (¬5) الشَّث: نبت طيب الريح يدبغ به، وجمعه شثاث."القاموس المحيط": (شثَّ). (¬6) القَرَظ هو ورقُ السلَمِ، أو ثمر السنْط، يُدبغ به ويصبغ. تقول: أديم مقروظ. أي: مدبوغ من القَرَظ. "القاموس المحيط": (قرظ).

على الشَثِّ والقَرَظِ، وقاسوا تقليمَ الأظفارِ في الإِحرام على حلق الشعرِ، وقياسُ الجماع في العمرةِ على الجماعِ في الحجِ، وقاسَ الشافعيُ النبيذَ على الخَمرِ، وقاسوا على الأربعةِ في الربا (¬1) ما سواها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أي الأصناف الأربعة: البُرُّ، والتمر، والشعير، والملح، والتي تتحقق فيها علَّةُ المطعومية.

فصول في الاعتراضات على الأدلة التي قدمنا ذكرها

فصول في الاعتراضاتِ على الأدلةِ التي قدمنا ذكرها فنبدأ بالكلامِ على الاستدلالِ بالكتابِ حسب ما بدأنا بدلائل الكتابِ، وذلك من ثمانيةِ أوجه: أولُها: الاعتراضُ بانَك أيها المستدلُّ لا تقولُ به، وذلك من وجهين: أحدهما: أن يكونَ استدلالُه بأصلٍ لا يقولُ به، مثل استدلال الحنفي بدليلِ الخطاب، وله أن يقول: هذا من مسائلِ الأصول ولي فيها مذهب. أو يكونَ استدلالًا بشرطٍ أو علةٍ، ويكونَ ممن يقولُ بهما. والثاني: أن لا يقول به في الموضِع الذي استدلَّ به، مثلُ استدلال الحنفي في شهادة أهل الذمة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ. .} [المائدة: 106]، فيقول الشافعي: هذا مما لا تقولُ به؛ لأنَه وردَ في قضيةِ المسلمين، وعِندكَ لا تُقبلُ شهادتُهم على المسلمينِ (1). (1) انظر "الأم" 6/ 246.

وتكفَفَ بعضهم الجوابَ عنه فقالَ: إنَه لما قبلَ شهادتَهم على المسلمين؛ دلّ على أنَّ شهادتهم على الكفارِ أولى بالقبولِ، ثم دلَّ الدليلُ على أن شهادتَهم لا تقبل على المسلمين، وبقيَ في حقّ الكفارِ على ما اقتضاه. وهذا ليسَ بجوابٍ صحيحٍ؛ لأنه تعلَّق بالأولى، وذلك أنَّ الخطابَ ارتفعَ حكمه فكيفَ يبقى مع ارتفاعِ حكمِ فحواه؟ وثانيها (¬1): أن يقولَ بموجبِها وذَلك على ضربين: أحدُهما: أن يحتجَّ من الآيةِ بوضعِ اللغةِ، فيقول السائل بموجبها في وضعِ الشريعةِ، أو يكونَ ذلك بالعكسِ، بأن يحتجَ من الآيةِ بوضعِ اللغةِ، ويتبع ذلك بأنَّ القرآنَ نزلَ بلغةِ العرب، وأنا لا أنتقل عنه إلا بدليل ينقلني. وللمستدلِّ أن يقولَ: إطلاق الكتاب ينصف إلى ما استقر في الشرع، وهو الوضعُ الثاني، فيقضي على اَلأول، وهذا يأتي في التعلقِ في تحريمِ المصاهرةِ بالزنا بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، والمراد به: لا تَطَؤوا ما وطىء آباؤكم. فيقول مخالفهُ فيها: بل ينصرفُ إطلاقُ النَكاحِ فى النَكاحِ في الشرع، وهو العقدُ، فيكون معناه: لا تتزوجوا من تزوجَ بهن آباؤكُم. وينتقلُ الكلامُ بينهما إلى الأسماءِ، هل فيها منقول، أو هي مُبقاة على وضعِ اللغةِ؟ وذلك مستوفى في مسائلِ الخلاف إن شاء الله. ¬

_ (¬1) أي ثاني الأوجه الثمانية.

والضربُ الثاني (¬1): أن يقولَ بموجبهِ في الوضعِ الذي احتجَّ به، وذلك مثل أن يستدل الشافعيُّ في العفوِ عن (¬2)، القِصاص إلى الدية من غير مصالحةٍ ولا رضا من الجاني بقولِه تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، والعفوُ هو الصفحُ والتركُ، فيقول الحنفي: أنا قائل بموجبهِ، والعفو هاهنا هو البذل، ومعناة: إذا بذلَ الجاني للولي الديةَ، اتبعَ بالمعروفِ. فيسلك الشافعى الترجيح، وأن العفوَ في الإِسقاطِ أظهر، فإنَ ورودَها في الإسقاطِ أكثر، ومعناها بالإِسقاط ألحق وأشبهُ. وذلك في عرفِ القرآن والتخاطب، فإنَها لم تَرِد إلا للإِسقاط: {واعف عَنا} [البقرة: 286]، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، وقرنَ العفوَ بالغفران فقال: {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الخضروات: "عَفوّ، عفا الله عنها أو عنه" (¬3). ويسلك مسلكاً ثانياً إن وجدَ من ساقَ الآيةَ وأمثالَها، مما يؤكد أحدَ الوضعينِ فيها على الوضعِ الآخرِ، فإن قويَ الوضع لما أراده السائل ¬

_ (¬1) أي الضرب الثاثي من الوجه الثاني. (¬2) في الأصل: "على". (¬3) أخرج الدارقطني 2/ 97، والبيهقي في "السنن" 4/ 129، والحاكم في "المستدرك 1/ 401 عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛ "فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر، يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأمَّا القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر؛ فعفوٌ عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأورده المتقي الهندي في "الكنز" (15879).

صحَ قولُه بالموجِب، وإن قويَ ما أراده المستدل اندفع القولُ بالموجبِ. فاسلكْ ذلك أبداً تجد البغيةَ بعونِ الله. ثالثُها: أن يدعي السائلُ إجمالَ الآيةِ التي استدلً بها المستدلُّ، إمَّا في وضعِ الشرعِ، أو في وضعِ اللغةِ. فأمَّا إجمالُها في الشرع؛ فمثل استدلال الحنفي في نيةِ صوم رمضانَ من النهارِ بقولِه تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وهذا قد صامَ بعد شهودِه الشهرَ فخرجَ من عُهدةِ الأمرِ. فيقولُ المعترض: هذا مجملٌ؛ لأنً المرادَ به: فليصمُه صوماً شرعياً، ونحنُ لا نعلمُ أنَّ مَنْ صامَ بنيةٍ من النهارِ قد أتى بصومٍ شرعي، فكيف يعلمُ أنه خرجَ من عهدةِ الأمرِ؟!. فيسلكُ المستدلُ أحدَ مسلكين: إمَّا أن يوضحَ أنَّ الصومَ مُبَقّى على ما كانَ عليه في اللغةِ، وأنه لم ينقلْ عن الوضعِ اللغوي، فمدعي نقلهِ يحتاجُ إلى دليلٍ، وإذا احتاجَ إلى دليلٍ لم يتحقق الإِجمالُ الذي ادعاه، فإن كان ممن يرى نقلَ الأسماءِ عن اللغةِ إلى الشرعِ، سلك بيان أن الصوم الشرعي بنيةٍ منَ النهارِ، وأن صومَ النافلةِ شرعيٌ، وقد عُهدت في الشرع صحتُه بنية من النهارِ، فينصرف الإِطلاقُ من الشرعِ إلى الصومِ المستقرِ في الشرعِ، وهذا ما طالبتُ به. وأما الإِجمالُ في اللغة، فهو مثلُ استدلالِ شافعي في أن الِإحرامَ بالحج لا يصحُّ في غير أشهرِ الحج، لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ

مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ ...} الأية [البقرة: 197]. فيقول مخالفهُ: هذه آيةٌ مجملة؛ لأنَ الحجَّ ليس باشهرٍ، ألا تراهُ قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فصرحت الآيةُ بأن الحَج غيرُ الأشهر؛ لأنَّ الحجَ لا يُفرضُ فيهنَ وهنَ الحَج. فلا بُدٌّ من معرفةِ المرادِ بالمضمرِ ما هو؟ هل هو إحرامُ الحج؟ أو أفعال الحج؟ إذ لهُ إحرام وأفعالٌ، فوجبَ التوقفُ إلى أن يعلمَ ما المرادُ به، وما هذا سبيلهُ فما وضحَ منه دليل للحكمِ المستدل عليه، فإذا شرعَ في الدليلِ على أنٌ المرادَ به وقتُ إحرامِ الحج، فإن كان بغيرِ لفظ الآيةِ تحققَ إجمالُها الذي ادعاة المعتَرض؛ لأن حاجتَه إلى الدلالةِ تفسيرٌ ومعرفة للحكمِ من غيرِ اللفظِ، وحدُّ المجملِ: ما لم يُعرفْ معناهُ من لفظهِ. وإن حقَق من نطقِ الآية، أنَّ المرادَ به: وقتُ الِإحرامِ، فقد أجابَ. مثال ذلك: أن نقول: أجمعنا على أن الأفعالَ في أيامٍ وقوفٌ ورمي وطواف، لا تزيدُ على الأيام المعدودةِ، فلم يبقَ ما يتحققُ في الشهورِ، إلا الإِحرامُ يقعُ من شَوال إلى التاسع من ذي الحجة، فيجري كلُّ قبيل في يومٍ من هذه الشهورِ، فهو وقتٌ ممتدٌ لمن أرادَ الإِحرامَ، ولأنه نطق بما يعطي الِإحرامَ، وهو قوله: فَرَضَ، والفرض: الِإيجابُ والِإلزامُ، وهو الِإحرامُ، ولهذا عقَبه بالنهي، فقال: فمن فرضَ، فلا رفثَ، فعَقَب الفرضَ بفاءِ التعقيب لتجتنبَ المحظوراتِ، والذي يتعقبُه التحريم والتجنبُ إنما هو الإِحَرام، فأمَّا الأفعال، فإن جميعها يسبقه التجنب، فمثلُ هذا البيان رفعَ الإِجمالَ الذي ادَّعاهُ

المعترضُ، فتأمل كلَّ آيةٍ يدّعي فيها الإِجمال، فإذا وجدت فيها مثلَ هذا بَطل دعوى الِإجمال. ورابعها: المشاركةُ في الدليلِ. فيقرر السائل أن له في الآيةِ دلالةً من وجهِ، كما أن للمستدل دلالةً من وجهٍ، ولا يقعُ سؤالُ المشاركةِ إلا من مُسَلم وجهَ دلالةِ المستدل منها، فلا يحسن بعد قولِه: إنِّي مُشارك لكَ في الآيةِ، أو إنها مشتركة الدلالةِ بَيني وبينك. أن يأتي بالمطالبةِ، كما لا يحسنُ في القولِ بموجب العلَّةِ، أن يعقبه بالمطالبةِ، لأنَ القائلَ بالشركةِ مقر بالدلالةِ؛ لأن الَشركة في الدلالةِ أن يكونَ لكلِّ واحد من المستدلِ بها دلالةٌ، فإذا عادَ يقول: ما وجه الدلالةِ؟ كان بمثابةِ من ادُعي عليه دار في يديه، فقال: المدعي شريكي فيها. ثم عادَ يقولُ: أقمِ البينةَ على أنَ لك فيها حقاً. فإنَه لا يُعوَّلُ على مطالبته بعدَ إقرارِه بمشاركتهِ إياه في المِلكِ، ولا يحسنُ أن يتعقبَ دعوى المشاركةِ دعوى الإِجمالِ، فإن المشاركةَ إنما تكونُ بعد ثبوتِ الدلالةِ التي أقرَ بمشاركتِه فيها، وبعد الإِقرارِ بالدلالةِ لا تجوزُ دعوى الإِجمالِ؛ لأنَ المجملَ: ما لم يعقلْ معناه من نُطقِه، والدلالةُ لا تكون إلا بمعقولٍ؛ لأن الدلالَة مرشدةٌ، وكيف يُسترشد بما لايعقل؟ ومثالُ ذلك: استدلالُ الشافعي أو الحنبلي في النكاحِ بغير ولي بقولِه تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، فلو لم يكن تزويجها إلى الأولياءِ، لما نهاهم عن العَضْلِ، إذ لا يتصورُ العضل عندهم.

فيقولُ الحنفيُ: لي في الآية مثلُ مالكَ، وهو قولُه: {أَنْ يَنْكِحْنَ}، فأضافَ النكاحَ إليهنَّ، فيدل ذلك أن لهن أن يعقدنَ، ونحن أرجحُ استدلالًا بها؛ لأن العقدَ إذا اطلقَ اقتضى العقدَ الصحيحَ، والعضلُ قد يكونُ بحق وبغيرِ حقٍ. خامسُها: الاعتراضُ باختلافِ القُراءِ في الأيةِ، فيصيرُ كتقابُل اثنينِ أو روايتينِ في تفسيرِ الآيةِ، فيوقفُ الاستدلالُ بنا، قالَ بعض المشايخِ: وهي آكد من الخبرين (¬1)؛ لأن كلُّ واحد منهما يجوزُ أن يكون حقاً، ويجوزُ أنْ يكونَ باطلاً، والقراءتانِ نزلَ بهما القرآن، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "نَزل القرآنُ على سَبعةِ أحرفٍ" (¬2) فلا يجوزُ على واحدة منها الخطأ، وإنما يبقى التأويلُ، فيقعُ فيه الترجيحُ، فالمُخَفصُ من ذلكَ أن نقولَ بهما إنْ أمكنَ ذلك، أو نرجحَ القراءةَ بنوع نقل، أو نُرجحَ القارىء بها لكونه الأعلمَ، أو أنَ الشواهدَ لها أكثر، أو أنَها توجب الاحتياط. مثال ذلك: استدلالُ الشافعي أو الحنبلي في إيجابِ الوضوء لمن ¬

_ (¬1) أي آكد من كلُّ من الخبرين الواردين بطريق الأحاد. (¬2) ورد في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلَ القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفرٌ -ثلاثاً-، ما عرفتم منه، فاعملوا به، وما جَهلتم فردوه إلى عالمه". أخرجه أحمد 2/ 300، والطبري في "التفسير" 1/ 11، وابن حبان في "صحيحه" (74) و (743)، وأورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 51، وابن كثير 2/ 10 في" تفسيره" وقد صَححَ إسناده. وفي الباب عن ابن مسعود، وأُبي بن كعب.

لمسَ النساءَ بقولِه تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1) [النساء: 43، المائدة: 6] وهو حقيقة في المماسةِ باليدِ. فيقولُ الحنفي: قد قُرىء: {أو لامَستُم}، وهو على وزنِ فاعلتم، وذلك اسمٌ للجماعِ وكنايةٌ عنه، إذ به تتحققُ المفاعلةُ، وليس حملُك له على اللَّمسِ باليد بتلك القراءةِ، بأولى من حملِنا له على الوطءِ بهذه القراءِة (¬2). فيقولى المستدلُّ: من قرأ: {لمستُم} انصرفت قراءتُه إلى الِإمساسِ باليدِ صريحاً، ومن قرأ: {لامَستُمْ} وقع على الوطءِ كنايةً، فكانَ الصريحُ أولى، ولأنَّا نجمعُ بين إيجاب الطهارتينِ بالقولِ بالقراءتين، غسلاً بالجماعِ ووضوءاً باللمسِ باليد. سادسُها: الاعتراضُ بالنَّسخ؛ وهو من ثلاثةِ أوجه: أحدُها: أن يُنقلَ الناسخُ صريحاً، وذلك مثلُ: استدلالِ الحنبلي والشافعي في إيجاب الفدية على الحاملِ والمرضعِ إذا أفطرتا في رمضانَ خوفاً على الجَنينِ والولدِ بقولِه تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فيقولُ الحنفى: قد قالَ سلمةُ بن الأكوع: إنَّها منسوخة (¬3) بقولهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ¬

_ (¬1) أو {لمستم} بغير ألف هي قراءة حمزة والكسائي. و {أو لامستم} بالألف، هي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وعاصم، وابن عامر، انظر "الحجة للقراء السبعة" لأبي علي الفارسي: 3/ 163 و"الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" لمكي بن أبي طالب: 1/ 391. (¬2) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 1/ 256 وما بعدها. (¬3) الخبر عن سلمة بن الأكوع، قال: لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ =

فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فيجيبُ الشافعيُّ أو الحنبليُّ: بأنها منسوخة في حقّ من كانَ له الِإفطار من غيرِ حمل ولا رَضاع، وحكمُها في حق الحاملِ والمرضعِ باق. والثاني: أن يُدَّعى نسخُها بآية أخرى متأخرة، مثل استدلالِ الحنبلي والشافعي فى تخيرِ الإِمام في الأسرى بين المَنِّ والفِداءِ، بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، فيقول الحنفي: قد نُسخ هذا التخييرُ (¬1) بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]؛ لأنها متأخرةٌ. فيجيبُ المستدلُّ: بأنا نجمعُ بين الآيتين، فنستعملُ القتلَ في غيرِ الأسرى، والتخييرَ في الأسرى، ولا وجهَ لدعوى النسخِ مع إمكانِ الجمعَ. والثالثُ: أن يُدَّعى نسخُها بأنها شرعُ من قبلَنا، وقد نسخَها شرعُنا ¬

_ = مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، كان من أراد منا أن يفطر أفطرَ وافتدى، حتى نزلت الأية التي بعدها فنسختها. أخرجه البخاري (4506)، ومسلم (1145)، وأبو داود (2315) والترمذي (798)، والنسائي 4/ 190. (¬1) أخرج الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] قال: الفداء منسوخ، نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. وهو مذهب ابن جريج والسدي وابن عباس. والذي رجحه الطبري أن الآية محكمة، وأن حُكم الفِداء والمن باق لم ينسخ. وهو مذهب ابن عمر والحسن وابن سيرين ومجاهد وأحمد والشافعي. انظر "تفسير الطبري" 27/ 26، و"أحكام القرآن" للشافعي 1/ 158، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي: 466.

كاستدلالِ الشافعي أو الحنبلي في ايجابِ القِصاص في الطرفِ بينَ الرجلِ والمرأةِ بقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فيقول الحنفي: هذا راجعٌ إلى حكم التوارةِ؛ لأنه قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} ... وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، وقد نُسختِ التوراةُ بالقرآنِ، وشريعةُ موسى بشرعِ محمدٍ صلى الله عليهما. فيجيبُ الشافعي: بأنَّ شرعَ من قبلنا شرعٌ لنا نتمسكُ به، وندلُ على ذلك بأدلتنا في تلك المسألة -وسنذكرها في مسائلِ الخلافِ إن شاء الله- وعمدتُنا: أنَّ شريعةَ من قبلَنا (¬1) شرعٌ ثابتٌ بدلالةٍ مَرضيّةٍ، فلا نعدِلُ عنها، ولا نحكمُ برفعِ أحكامِها إلا بصريحِ نَسخ، فأمَّا بنفس شريعةٍ تَحتمل التقريرَ للكلَ، وتَحتمل نسخَ البعضِ وتَبْقِيةَ البعضِ، فلا وجهَ لإزالة الأحكامِ الثابتةِ بالاحتمالِ. وسابعُها: التأويلُ، وهو ضربان: تأويلُ الظاهرِ، مثلُ استدلالِ الشافعي والحنبلي في إيجاب الإيتاءِ في الكتابةِ (¬2) بقولِه تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فيقول الحنفي: إنَّما أرادَ به مالَ الزكاة، ويشهدُ لذلك إضافتُه إلى الله سبحانه، أو نحملهُ على الإيتاءِ من طريقِ الاستحبابِ بدليل نذكره. والثاني: تخصيصُ العموم، كاستدلالِ الشافعي في قتلِ شيوخِ المشركين بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فيقولُ الحنفي: ¬

_ (¬1) في الأصل: "قبله". (¬2) هو أن يدفع السيد إلى عبده المكاتب جزءاً من مال الكتابة، أو يضع عنه جزءاً منه.

هي مخصوصة في الشيوخِ بدليل. فلا جوابَ عن ذلك إلا النظرُ في الدليلِ، هل يصلحُ للتخصيصِ أوْ لا؟ فإن لم يصلحْ ردهُ، وإن صلحَ تكلم عليه كلامَه على الأدلةِ المبتدأةِ، فإذا تكلّم عليه سَلمَ لهُ الظاهرُ والعمومُ. وثامنُها: المعارضةُ، وهي ضربان: معارضةُ بالنطقِ، ومعارضةُ بالعلةِ. فالمعارضةُ بالنطقِ: مثلُ أن يستدل الشافعيُ في تَحريم شعرِ الميتةِ بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فيعَارضُ الحنبلى أو الحنفيُ بقولهِ تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} [النحل: 80]، فيقولُ الشافعيُ: إنً الله سبحانهَ جعلَ من أصوافِها، ونحن نقولُ بأنَ منها ما هو أثاثُ ومتاعٌ يباحُ استعمالهُ، وهو ما جُزَّ بعدَ الذكاةِ، وقُطعَ عنها حَال الحياةِ، وجعل له غاية، وهو الموتُ. وإن عارضَ بعله تكلم عليها بما يتكلمُ على العللِ المبتدأةِ، ليسلمَ دليلة.

- فصول في الاعتراضات على الاستدلال بالسنة

فصول في الاعتراضات على الاستدلال بالسنة وهو من ثلاثة أوجه: أولها: الردُ. والثاني: الكلامُ على الِإسنادِ. والثالث: الكلامُ على المتنِ فصل فأمَّا الردُ، فمن وجوهٍ: أحدُها: ردُ الرافضةِ أخبارنا في مَسحِ الخفينِ، وايجاب غَسل الرجلين (¬1)، وزعمِهم أنهم لا يقبلونَ أخبارَ الآحادِ. فجوائنا لهم من ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) فهم لا يوجبون غسل الرجلين في الوضوء، بل يقولون بمسحهما فقط، واحتجوا بقراءة خفضِ: {وَأَرْجُلَكُمْ} في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بعطف: (أرجلكم) على الممسوح لا على المغسول، وهو خلاف ما عليه جمهور أهل السنة. انظر "المغني" 1/ 184 وما بعدها.

أحدُها: أن أخبارَ الآحادِ أصلٌ من أصولِ الدينِ، فإن منعوا ذلك، نقلنا الكلامَ إلى ذلك الأصل. والثاني: البيان لتواترها من طريقِ المعنى، فإن جميعَ أصحابِ الحديثِ فيها بينَ ناقلٍ وقابل، فهو كشجاعةِ علي (¬1)، وسخاءِ حاتم (¬2)، وفصاحةِ قُسٍّ (¬3). وفَهاهة باقِلٍ (¬4)، جملتها تواتر، وخبّرونا بها آحاد. والثالث: أن يناقضوا بما خالفوا فيه، فإنهم أثبتوا ذلكَ بأخبارِ الآحادِ، كتصدُّقِ عليٍّ عليه السلام بخاتِمه في الصلاةِ (¬5)، ونكاحِ ¬

_ (¬1) يعني علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. (¬2) حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي، أبو عدي، كان من أجواد العرب في الجاهلية، وكان يضرب بجوده وسخائه المثل، توفي سنة (46) قبل الهجرة. "الأعلام" 2/ 151، "مجمع الأمثال" 1/ 82. (¬3) قس بن ساعدة بن حذافة بن زهير الإيادي، من حكماء العرب قبل الإسلام، يضرب المثل بفصاحته وبلاغته، توفي سنة (23) قبل الهجرة. "الأعلام" 5/ 196، "المعارف" لابن قتيبة: 61. (¬4) رجل جاهلي من إياد، يضرب بعيه المثل، فيقال: أعيا من باقل. قيل: إنه اشترى ظبياً بأحد عشر درهماً، فمر بقوم سألوه عن ثمنه، ففتح أصابع كفيه ودلع لسانه، يريد: أحد عشر، فهرب الظبي منه. "المعارف": 608، "مجمع الأمثال" 2/ 72، و"الأعلام"2/ 42. (¬5) عن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوع، فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلمه ذلك فنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأية: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على =

المتعةِ، والمنع من الصلاةِ على ما ليسَ من الأرضِ، أو نبات الأرض (¬1)، ونقضِ الوضوءِ بأكلِ لحم الجزورِ (¬2)، وما شاكلَ ذلك. الثاني: ردُّ أصحاب أبي حنيفةَ أخبارَ الآحادِ فيما تَعُمُ به البلوى (¬3) ¬

_ = أصحابه، ثم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". أورده الهيثمي في "المجمع" 7/ 17 وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه من لم أعرفهم، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 293، وأورد نحوه عن ابن عباس: السيوطي في "الدر المنثور" 2/ 293 والهندي في "الكنز" (36354) والشوكانىِ في "فتح القدير" 2/ 56. وذكر ابن الأثير في "جامع الأصول" (6515) نحوه عن عبد الله بن سلام. وذكر ابن كثير في "تفسيره" بعض رواياته، ثم قال: وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. انظر "تفسير ابن كثير" 2/ 71، "تفسير الطبري" 6/ 288،"فتح القدير" 2/ 56. (¬1) فهم يشترطون في مكان سجود الجبهة أن يكون على الأرض أو على شيء من نبات الأرض. انظر "الروضة البهية" 1/ 66. (¬2) الوضوء من أكل لحم الجزور، ورد في الحديث الذي رواه جابر بن سَمُرة، قال:" أمَرَنا رسول الله ي أن نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم". أخرجه: ابن أبي شيبة "المصنف" 8/ 46 - 47، وأحمد 5/ 102، 105، ومسلم (360)، وابن حبان (1125)، (1127). كما أخرجه من حديث البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أنصلي في أعطان الإبل؟ قال:"لا". قيل: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم"، قيل: أنتوضا من لحوم الإبل؟ قال:"نعم"، قيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "لا". أخرجه: أحمد 4/ 288، وابن ماجه (494)، وأبو داود (184) والترمذي (81)، وابن حبان (1128)، وابن خزيمة في "صحيحه" (32). فنقض الوضوء بكل لحم الجزور لم يتفرد به الشيعة بل هو قول الإمام أحمد ابن حنبل وأحد قولي الشافعي. انظر "المغني" 1/ 250 وما بعدها. (¬3) ينظر رأي الحنفية في رد خبر الواحد إذا ورد موجباً للعمل، فيما تعمُّ به =

كردّهم خبرَنا في مسّ الذكر (¬1). وقالوا: ما يعمُ به البلوى يكثرُ سؤالهُم عنه، وجوابه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نقله الواحدُ اتُّهِمَ، واقتضى الحالُ أن ينقله العددُ الكثير والجمُّ الغفيرُ. فننقلُ الكلامَ معهم إلى ذلك الأصلِ، ونناقضهم بما عملوا فيهِ بخبرِ الواحد، كالمنعِ من بيعِ رباع (¬2) مكةَ، وإيجابِ الوتر (¬3)، والمشي خلفَ الجنازة (¬4). الثالثُ: ردُّ أصحابِ مالك فيما خالفَ القياس، كردّهِم خبرَ خيارِ المجلسَ (¬5). ¬

_ = البلوى، وما يَستندون إليه من أدلةٍ وحجج في "أصول الجصاص" 3/ 113، و"أصول السرخسي" 1/ 368، و"تيسير التحرير" 3/ 112. (¬1) الوضوء من من الذكر ورد في حديث بُسرة بنتِ صفوان، أن النيي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مَس أحدُكم ذكره، فليتوضأ" أخرجه: مالك في "الموطأ"1/ 42، والشافعي في "المسند" 1/ 34، وأحمد 6/ 406، وأبو داود (181)، والترمذي (83)، والنسائي 1/ 100، 216، والحاكم 1/ 137، والدارقطني 1/ 146، والبيهقي 1/ 129، 130، وابن حبان (1112) و (1113) و (1114). والحديث إسناده صحيح، صححه غير واحد من الأئمة. أما الحنفية فقد ردوه لتفرد بسرة به عن سائر الصحابة مع حاجتهم إلى معرفته، انظر" أصول السرخسي" 1/ 368. (¬2) الرباع: جمع رَبْع، وهو الدار، أو المنزل، وانظر تفصيل المسألة في "المغني" 6/ 364 وما بعدها. (¬3) انظر "المغني" 2/ 591 وما بعدها. (¬4) انظر المصدر السابق 3/ 397 وما بعدها. (¬5) تقدم في الصفحة: 44.

والجوابُ لهم: إفسادُ ذلك الأصلِ بأدلتنا ويناقضونَ فيه بما قالوا به مما يخالفُ القياسَ. الرابعُ: ردُّ أصحاب أبي حنيفة فيما خالفَ قياسَ الأصولِ، كردهم خبرنا في المصراة (¬1)، والقرعةِ (¬2)، وغيرهما. ¬

_ (¬1) خبر المصراة رواه أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصرّوا الإبلَ والغنم، فمن ابتاعها بعدَ ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يَحلبها، إن رضيَها أمسكها، وان سخطها ردَّها وصاعاً من تمر" أخرجه مالك 2/ 683، وأحمد 2/ 242، والبخاري (2150)، (2151)، ومسلم (1515)، (1524)، وأبو داود (3443)، والترمذي (1251)، (1252)، وابن ماجه (2239)، والنسائي 7/ 253، وابن حبان (4971). والتصرية: هي أن يجمعَ اللبن في ثدي الإبلِ والغنم، حتى يُوهمَ ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير. ووجَّه الحنفية رد هذا الخبر، بأنه مخالف للأصول من وجوه: أولًا: أنه معارض لقوله صلى الله عليه وسلم:" الخراج بالضمان". ثانياً: أن فيه معارضة لمنع بيع الطعام بالطعام نسيئةً، وذلك لايجوز باتفاق. ثالثاً: أن الأصل في المتلفات إمَّا القيم واما المثل، وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلًا. رابعاً: في ردِّ صاع من تمرٍ بدل اللبن، بيع طعام مجهول بالمكيل المعلوم، لأن اللبن الذي دلس به البائع غير معلوم القدر. قال ابن رشد: "ولكن الواجب أن يستثنى هذا من هذه الأصول لموضع صحة الحديث، وهذا كأنه ليس من هذا الباب، وانما هو حكم خاص" انظر "الهداية في تخريج أحاديث البداية": لأبي الفيض العماري: 7/ 334. (¬2) الحديث بمشروعية القرعة رويَ مسنداً من حديث عمران بن حصين، أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، وليس له مال غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فاعتق اثنين، ورد أربعة في الرِّق. أخرجه أحمد 4/ 438 =

والجوابُ: أنَّ قياسَ الأصولِ هو القياسُ على ما ثبتَ بالأصولِ، وقد بينا الجوابَ عنه، ولأنهم قد ناقضوا فعملوا بخبرِ الواحدِ في نبيذِ التمرِ (¬1)، وقَهقهة المُصلي (¬2)، وأكلِ الناسي في الصومِ (¬3). والخامسُ: رذُ أصحابِ أبي حنيفة أخبارَنا مما يوجبُ زيادةً في ¬

_ = و 445، ومسلم (1668)، وأبو داود (3961)، وابن حبان (5075). وأخرجه مرسلًا من حديث سعيد بن المسيب: أحمد 4/ 445، وعبد الرزاق (16751)، والشافعي 2/ 67، والبيهقي 10/ 286، وابن حبان (5075). (¬1) قوله فعملوا بخبر الواحد في نبيذ التمر، يشيرُ بذلك الى قول الحنفية بأن نبيذ التمر لا يسمى خمراً، ولا يقام الحد على من شربَ قليله الذي لا يسكر، وإنما الحد على من سكرَ بالفعل. والخمر المحرم الذي يجب الحد في قليله وكثيره عندهم هو ما كان مصنوعاً من ماء العنب اذا غَلا واشتد وقذف بالزبَد، وما عدا ذلك من الأشربة فإنما يجب الحد على السكر منها، لا على مجرد الشرب. وقد ساق الحنفية عدة آثار وأخبار في ذلك، الا أنها لا تقوى على معارضة الأخبار التي ساقها جمهور الفقهاء في ذلك. انظر تلك الأثار في "نصب الراية" 4/ 307 - 310، وتفصيل المسألة في "المغني" 12/ 514 وما بعدها. (¬2) انظر "نصب الراية" 1/ 47 - 54، و"المغني" 2/ 451. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة (114). وقد أخذ الحنفية بهذا الحديث رغم مخالفته للقياس؛ لأن الصوم يفوت بفوات ركنه، وهو الاحتباس عن الطعام والشراب، ورغم ذلك تركوا هذا الأصل، وأخذوا بحديث الأحاد الوارد في شأن الناسي.

نصِ القرآنِ وأن ذلكَ نسخ، كخبرنا في إيجابِ التغريب (¬1)، فقالوا: هذا يوجب زيادة في نص القرآنِ، وذلك نسخ، فلا يقبلُ فيه خبرُ الواحد. والجوابُ: أنَ ذلك ليس بنسخ عندنا؛ لأن النسخَ هو الرفعُ والِإزالة، ونحن لم نرفعْ ما في الآيةِ من الجلدِ، إنما ضممنا وزِدنا إليه التغريبَ، وهو عقوبةٌ أخرى؛ ولأنهم قد ناقضوا في ذلك حيثُ زادوا الوضوءَ بالنبيذِ في آيةِ التيممِ بخبرِ ابنِ مسعود (¬2). ¬

_ (¬1) ورد ذلك في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، الثيِّب بالثيِّب، جلدُ مائةٍ والرجم، والبكِرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ ونَفيُ سَنة"، وقد تقدم تخريجه في الصفحة: (193) من الجزء الأول، وانظر أيضاً "المغني" 12/ 322 وما بعدها. (¬2) عن عبد الله بن مسعود، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجن: "عندك طهور؟ " قال: لا، الا شيءٌ من نَبيذ في إداوة، قال:" تمرة طيبة، وماء طهور". زاد الترمذي: "فتوضأ منه" أخرجه: أبو داود (84)، والترمذي (88)، وابن ماجه (384). قال الترمذي: وانما رويَ هذا الحديث عن أبي زيد عن عبد الله ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا تعرف له رواية غير هذا الحديث. وقد بين الزيلعي في "نصب الراية" علل هذا الحديث التي توجب. ضعفه. انظر "نصب الراية" 1/ 137 - 148.

- فصل في الاعتراض على الإسناد

فصل في الاعتراض على الإِسناد وأما الاعتراض على الإسنادِ، فالكلام عليه من وجهين: أحدهما: المطالبة بإثباتهِ، وهذا إنما يكون في الأخبارِ التي لم تدون في السننِ والصحاحِ، ولم تسمعْ إلا من المخالفينَ، كاستدلالِ الحنفي في صدقةِ البقرِ بأنَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في أربعينَ مسنة وفيما زادَ بحسابه" (¬1)، فلا جواب عن هذا إلا أن يبَينَ إسنادَه، ويحيلَه على كتابٍ موثوقٍ به معتمد عليه. الثاني: القدح في الإسنادِ، وهو من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدُها: أن يذكرَ الراوي بأمرٍ يوجب ردَّ حديثه، مثلَ الكذبِ أو البدعةِ أو الغفلة. والثاني: أن يذكر أنه مجهول. وجوابه: أن يبينَ للحديثِ طريقاً آخر فيزيل جهالتَه رواية الثقاتِ عنه، أو بثناءِ أصحابِ الحديث عليه. ¬

_ (¬1) عن معاذ بن جبل قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم الى اليمن، فأمره أن يأخذ من كلُّ ثلاْثين بقرة تبيعاً، أو تبيعةً، ومن كلُّ أربعين مسنة، ومن كلُّ حالم ديناراً، أو عدله معافر. أخرجه أبو داو (1576)، والترمذي (623)، وعبد الرزاق (6841)، وابن ماجه (1803)، والحاكم 1/ 398، والبغوي في "شرح السنة" (1517) وأما قوله: "وفيما زاد بحسابه" فلم أقف له على أصل في كتب الحديث التي بين يدي. وانظر "نصب الراية" 2/ 346 - 353.

والثالث: أن يذكرَ أنَهُ مرسلٌ، وجوابُه: أن يبيِّنَ إسنادَه، أو يقولَ: المرسَلً كالمسند إن كان ممن يعتقدُ ذلك. وأضاف أصحابُ أبي حنيفة إلى هذا وجوهاً أُخَر: منها أن يقول: السلف رَدُّوه (¬1)، كما قالوا في حديثِ القَسامة (¬2)، أن عمرَو بن شعيب (¬3) قال: والله ما كان الحديثُ كما حَدثَ سهل (¬4). ¬

_ (¬1) ومما يدخل في هذا عند الحنفية، أن يجري الاختلاف بينَ الصحابة في حكم، ويكون هذا الحكم قد تضمنه أحد الأحاديث المرفوعة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكونُ اختلافهم دليلًا على ضعف الخبر، وعدم صحة نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ذاك لما اختلفوا، ولسلموا بماكشفَ عنه الخبر. انظر: "الفصول في الأصول " 3/ 117، و"أصول السرخسي" 1/ 369. (¬2) تقدم شرح معنى القسامة في الجزء الأول، الصفحة (106). (¬3) عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، من التابعين، روى عن أبيه وعن الربَيع بنت معوذ، توفي سنة (118) هـ. "تهذيب الكمال" 22/ 64، "شذرات الذهب" 1/ 155. (¬4) هو سَهل بن أبي حَثْمة بن ساعدة الأنصار -رضي الله عنه- راوي حديث القَسامة: أن عبد الله بن سَهل، ومُحَيصةَ بن مسعود أتيا خَيبر في حاجة لهما، فتفرقا، فقتلَ عبدُ الله بن سَهل، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم أخوه عبد الرحمن بنُ سهل وابنُ عفه حُوَيصة، فتكلم عبد الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "الكُبْرَ الكبْرَ"، فتكلما بامر صاحبهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تستحقون صاحبكم- أو قال: قَتيلكم -بأيمانِ خمسين منكم" قالوا: يا رسول الله، لم نَشهده، كيفَ نحلف عليه؟! قال: "فتبرئُكُم يهود بأيمان خمسين منهم". قالوا: يا رسول الله، قوم كفَّار. قال: فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من قِبَلِهِ. قال سهل: فدخلتً مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الِإبلِ ركضةً. أخرجه مالك 2/ 877 - 878، وأحمد =

وجوابهُ: أنَه إذا كان الراوي ثقةً لم يُرد حديثهُ بإنكارِ غيرهِ؛ لأن المنكرَ ينفي، والراوي يثبتُ، والإِثباتُ مقدَمٌ على النفي، لأن المثبتَ معه زيادة علمٍ. ومنها: أن يقولَ: الراوي أنكرَ الحديث، كما قالوا في قولهِ صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأةٍ نُكحتْ بغير إذن وليها، فنكاحُها باطل" (¬1): إن راويهُ الزُهْري (¬2)، وقد قال: لا أعرَفه. فالجواب عنه: أنَ إنكارَ الراوي لا يَقدحُ في الحديثِ؛ لجوازِ أن ¬

_ = 4/ 142، والبخاري (2702)، و (3173)، و (6142)، و (6143)، ومسلم (1669)، وأبو د اود (4520)، و (4523)، والتومذي (1422)، والنسائي 8/ 8 - 9، والبغوي (2546)، والبيهقي في "السنن" 8/ 118 - 119، وابن حبان (6009). (¬1) أخرجه من حديث عاثشة -رضي الله عنها-: أحمد 6/ 47 و 165 - 166، وأبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، والدارقطني 3/ 221 و 225 - 226، والحاكم 2/ 168، والبغوي في "شرح السنة" (2262)، وابن حبان (4074). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقد صح وثبت بروايات الأئمة الأثبات، سماع الرواة بعضهم من بعض، فلا تعلل هذه الروايات بحديث ابن علية، وسؤاله ابن جريج عنه، وقوله: إني سألت الزهري عنه فلم يعرفه، فقد ينسى الحافظ الحديث بعد أن حدث به، وقد فعله غير واحد من حفاظ الحديث. (¬2) محمد بن مسلم بن عبيد الله، أبو بكر الزهري المدني الحافظ، من مشاهير التابعين، توفي سنة (124) هـ. انظر "تذكرة الحفاظ"1/ 108، "شذرات الذهب" 1/ 162.

يكونَ أنْسِيَهُ، وقد صنفَ الناس فيمن نسيَ ما رواه (¬1)، فرويَ له عن نفسه، فقال: حدثني فلان عني، حتى قالوا: فصارَ بنسيانِه بينه وبينَ نفسهِ رجلٌ. ومنها: أن يقولَ: راوي الحديثِ لم يعملْ به، ولو علمَ صحتهَ لم يعدلْ عن العمل به، كما قالوا في حديثِ الغَسلِ من ولوغِ الكلبِ سَبعاً (¬2): راويه أبو هُريرة، وقد أفتى بثلاث مرات (¬3). فالجوابُ: إنَ الراوي يجوز أن يكونَ قد نسي في حالِ الفُتيا أو أخطأ في تأويلهِ، فلا تُتركُ سنةٌ ثابتةٌ، لأجلِ تركهِ لها. ومنها: أن يقولَ: إنَّ هذه الزيادةَ لم تُنقَل نقلَ الأصلِ كما قالوا في حديث: "فيما سَقَت السماءُ العشرُ، وفيما سقي بنَضح أو غَرْب نصفُ العشر إذا بلغ خمسةَ أوسق" (¬4)، فقالوا: هذا الحديث رواةَ ¬

_ (¬1) منهم الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت، صنف كتاب "من حَدث ونسي". (¬2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ولغَ الكلب في إناء أحدكم، فاغسلوه سَبع مرات". أخرجه: مالك 1/ 34، وأحمد 2/ 460، والبخاري (172)، ومسلم (279) (90)، والنسائي 1/ 52، وابن ماجه (364)، والبغوي (288)، والبيهقي 1/ 240، وابن حبان (1294). (¬3) أخرج الدارقطني عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة، قال: إذا ولغ الكلبُ في الإناء، فاهرقه ثم اغسله ثلاث مرات. كما أخرج الدارقطني عن أبي هريرة أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه، وغسله ثلاث مرات. "سنن الدارقطني" 1/ 66، وانظر "نصب الراية" 1/ 130 - 132. (¬4) الحديث- دون قوله: "إذا بلغ خمسة أوسق"- أخرجه من حديث عبد الله =

فصل في الاعتراضات على المتن: القول المبتدأ

جماعةٌ، فلم يذكروا الأوسُقَ، فدل على أنهُ لا أصل لها. فالجوابُ: أنه يجوزُ أن يكونَ قد ذكرَ هذه الزيادةَ في وقتٍ لم تحضر (¬1) الجماعة، أو كانَ هو أقربَ إليه، فسمع الزيادةَ دونهم، فلم يجزْ ردُ خبرِ الثقةِ مع هذا التجويزِ والاحتمالِ. فصل وأما الكلامُ على المتنِ: فالمتنُ ثلاثةُ أقسام: قولٌ، وفعلٌ، واقرارٌ. فالقولُ ضربان: مبتدأٌ، وخارجٌ على سببٍ. فالمبتدأ: كالكتاب، يتوجهُ عليه ما يتوجهُ على الكتاب، وقد قدمنا شرحَه، إلا أنا نذكرُ هَاهنا ما يتوجهُ على المتنِ بأوضحِ أمَثلةٍ، ولربما اتفق فيه زيادة، لم تكن في الكتاب. واعلم أن الاعتراضَ على المتنِ من ثمانيةِ أوجه: ¬

_ = ابن عمر: البخاري (1483)، والترمذي (640)، وأبو داو (1596)، والنسائي (5/ 41). وهو من حديث جابر بن عبد الله عند مسلم (981)، وأبي داود (1597)، والنسائي 5/ 42. أما التقييد بلفظ: "خمسة أوسق" فقد ورد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، أخرجه البخاري (1448)، ومسلم (979)، وأبو داو (1558) و (1559)، والترمذي (626) و (627)، وابن ماجه (1793)، وابن خزيمة (2293) و (2294) و (2295) و (2298). (¬1) في الأصل: "يخص"، ولعل المثبت هو الصواب.

- الأول: أن يستدل بما لا يقول به

أحدُها: أن يستدلَّ بما لا يقولُ به، وذلك من ثلاثةِ أوجه: منها: أنْ يستدل بحديث، وهو ممن لا يقبلُ مثلَ ذلك الحديث؛ كاستدلالِهم بخبرِ الواحدِ فيما يعم البلوى به، أو فيما خالفه القياسُ، وما أشبه ذلك مما لا يقولون فيه بخبرِ الواحدِ. فالجوابُ: أن تقول: إن كنت أنا لا أقول به، إلا أنَك تقولُ به، وهو حجةٌ عندك، فيلزمُك العملُ به. وهذا قد استمرَ عليه أكثرُ الفقهاءِ، وعندي أنَّه لا يحسنُ الاستدلالُ بمثلِ هذا؛ لأنً الدليلَ على المذهب المسؤولِ عنه، إنَما يكونُ بما يعتِقدُه المستدل دليلًا، فإذا استدلَّ بمَا يعتقده غيرُهُ دليلاً وهو يعتقده غيرَ دليلٍ لمْ يَكُن مُسْتَدِلًا، لكنَّ صورتَه صورةُ المستدلِ، ومعناهُ معنى الملتزمِ على مذهبِ غيرِه، والمفسدِ لمذهبِ غيره. وليس هذا من الاستدلالِ في شيء. ومن نصرَ الأوّل قال: على هذا ليس يحسنُ بنا أن نستدل على نبوةِ نَبينا - صلى الله عليه وسلم -، بما نتلوُه من آي التوراةِ والِإنجيل المغَيرين المُبَدَّلَين، لكن نستدل به على أهل الكتاب اعتماداً على تصديقِهم، لما فيه من الأخبارِ التي يعتقدونهاَ أخباراً لله سبحانه، التي أوحاها إلى موسى وعيسى عليهما السلام. والثاني: أن يستدلَّ منه بطريقٍ لا يقولُ به، مثل أن يستدلَّ بدليلِ الخطاب وهو لا يقولُ به، كاستدلالِهم في إبطالِ خيارِ المجلسِ، بما روي عنَ النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن بيعِ الطعام حتى يُقبضَ" (¬1) فدل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2135)، ومسلم (1525) (29)، وأبو داود (3497)، =

- الثاني: أن نقول بموجبه

على أنه إذا قُبض في المجلسِ جازَ بيعهُ. فيقالُ لهُ: هذا احتجاج بدليلِ الخطاب، وأنتَ لا تقول بهِ، فيقول في الجواب عن هذا: هذه طريقة لبعضِ أصَحابنا، وأنا ممن أقولُ به. أو يقولُ: إَن هذا اللفظَ للغايةِ، وأنا أقولُ به فيماَ عُلقَ الحكم فيه على الغايةِ. والثالثُ: أن لا يقولَ به في الموضعِ الذي وردَ فيه، كاستدلالهِ على أن الحرَّ يقتلُ بالعبدِ، بقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن قتلَ عبدَه قَتلنا" (¬1). فيقالُ له: القتلُ الذي يتناولُهُ الخبرُ لا نقولُ به، فإنَّه لا خلافَ بيننا أنَه لا يُقتلُ بعبدِه. وقد تكلَف بعضهُم الجوابَ عنه فقال: لما أوجبَ القتلَ على الحر بقتلِ عبده، دل على أنه يُقتلُ بعبدِ (¬2) غيره أولى. ثم دل الدليلُ على أنه لا يقتلُ بعبدِه، ونفي قتله بعبدِ غيرهِ على ما اقتضاه. والاعتراضُ الثاني أن نقولَ بموجبه، وذلك على وجهين: ¬

_ = وابن ماجه (2227)، والترمذي (1291)، والطبراني في "الكبير" (10874). وابن أبي شيبة 6/ 368، وأحمد 1/ 215، وابن حبان (1847). من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-. (¬1) أخرجه أحمد 5/ 11، وأبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي 8/ 20 - 21، والبيهقي 8/ 35، وابن ماجه (2663)، والد ارمي 2/ 191، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه-. (¬2) في الأصل: "بعبده"، والمثبت هو الأنسب لاستقامة العبارة.

أحدُهما: أن يحتج المستدل باحدِ الموضعين، فيقول السائلُ بموجبه بالحملِ على الموضعِ الآخر، مثل أن يستدل الشافعيُ في نكاحِ المحرم بقولهِ عليه الصلاة والسلام: "لا يَنكحُ المحِرمُ ولا يُنبكح" (¬1). فيقولُ الحنفي: النكاحُ في اللغةِ هو الوطءُ، فكأنَّه قال: لا يَطأ المحرِمُ الرجلُ، ولا يُوطىء: لا تُمكنُ المرأةُ المحرمَ مِن وطْئِها. فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أن يقولَ: النكاحُ في عُرفِ الشرعِ هو: العقدُ، وفي عرفِ اللغةِ هو: الوطءُ، واللفظ إذا كان له عرف في اللغة وعرف في الشرع حُمِلَ على عُرف الشرع، ولا يُحمَلُ على عرفِ اللغةِ إلا بدليل. والثاني: أن يبينَ من سياقِ الخبرِ وغيرِه، أن المرادَ به ما قاله. والضربُ الثاني: أن يقولَ بموجبهِ في الموضع الذي احتجَ به، كاستدلالِ أصحابنا في خيارِ المجلس، بقولهِ صلى الله عليه وسلم: "المتبايعانِ بالخيارِ مالم يتفرقا" (¬2)، فيقول المخالفُ: المتبايعانِ هما المتشاغلان بالبيع قبل الفراغ، وهما عندي هناك بالخيار. فالجوابُ عنه من وجهين: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 57، 64، 68، ومالك في "الموطأ" 1/ 348، ومسلم (1409)، والترمذي (840)، وأبو داود (1841)، والنسائي 5/ 192، وابن ماجه (1966)، والبغوي في "شرح السنة" (1980)، وابن حبان (4123). من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه-. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة (44) من هذا الجزء.

- الثالث: أن يدعي الإجمال

أحدهما: أن يبينَ أن اللفظَ في اللغةِ حقيقة فيما ادعاه. والثاني: أن يبينَ الدليلَ عليه من سياقِ الخبرِ أو غيرهِ، أنَّ المرادَ به ما قاله. فصل والاعتراضُ الثالث: أن يدعى الإجمالَ، إمَّا في الشرعِ أو في اللغةِ، فأمَّا في الشرع؛ فمثلُ أن يحتجَ الحنفيُّ في جوازِ الصلاةِ بغيرِ اعتدال، بقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلوا خَمْسَكم" (¬1)، وهذا قد صلى خمسَه. فيقولُ الشافعي أو الحنبلي: هذا مجمل؛ لأن الأمرَ بالصلاةِ الشرعيةِ هنا، وذلك لا يعلمُ من لفظِ هذا الخبرِ، بل يقتصرُ في معرفتهِ إلى غيره، فلم يحتج به، إلا بدليل يدلُ على أن تلكَ صلاة. فيجيبُ عن هذا: بأن اللفظَ يقتضي صلاةً في اللغةِ، لأن القرآنَ بلغتِهم، فإذا صلى صلاةً شرعيةً حصل ممتثلًا، فينتقلُ الكلامُ إلى ذلك الأصل، وأن يقولَ الشافعي أو الحنبليُ: بأن إطلاقَ الأمرِ بالصلاةِ، ينطلقُ إلى ما تقررَ في الشرع، ولسنا نعلمُ أن من صلى ولم يعتدلْ أنه قد وفى الصلاةَ الشرعيةَ، ولَا خَرَجَ من عهدةِ الأمرِ بها. وأما المجملُ في اللغةِ؛ فمثلُ أن يستدل الحنفيُ في تضمينِ ¬

_ (¬1) حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع، فقال: "اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم"، أخرجه: أحمد 5/ 251، والترمذي (616)، وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم في "المستدرك" 1/ 9، والبغوي 1/ 23.

- الرابع: أن يدعي المشاركة في الدليل

الرهنِ بقولهِ عليه الصلاة والسلام: "الرهنُ بما فيهِ" (¬1). فيقولُ له الشافعيُّ أو الحنبلي: هذا مجملٌ؛ لأنه يفتقرُ إلى تقدير مضمرٍ، فيحتملُ أن يكونَ معناهُ: الرهن مضمون بما فيه، ويحتمل أن يكونَ معناهُ: مبيعاً بما فيه، ويحتمل أن يكونَ المرادُ به: محبوساً بما فيهِ. فوجبَ التوقفُ فيه إلى أن يرد دليل يرجحه إلى أحدِ محتملاتهِ. فالطريق في الجواب أن يبينَ أن المرادَ به ما ذكرنا. إمَّا من طريقِ الوضعِ، أو من جهةِ الَدلالةِ، وذلك أن قولَنا: محبوسٌ بما فيه، وهو رهنٌ. كقولهم (¬2): مضمونٌ بما فيه، وليس برهن. فصل في الاعتراضِ الرابعِ، وهو: أن يدعيَ المشاركةَ في الدليلِ. ¬

_ (¬1) هذا الحديث روي مسنداً ومرسلاً: أما المسند فرواه الدارقطني في "السنن" 2/ 32، 34 من حديث أنسِ بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرهن بما فيه" وقد بين الإمام الدارقطني ضعفَ هذا الحديث بل بطلانه؛ لأن في سنده رجالاً لا يؤخذ بحديثهم لضعفهم. انظر "سنن الدارقطني" 3/ 32، 34. وأما المرسل فرواه أبو داود في "المراسيل" عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الرهن بما فيه"، قال ابن القطان: "مرسلٌ صحيح"، ومعنى الحديث: أنه إذا هلك الرهن وعميت قيمته، يقال حينئذ للذي رهنه: زعمتَ أن قيمته مائة دينار، أسلمته بعشرين ديناراً، ورضيتَ بالرهن، ويقال للآخر: زعمتَ أن ثمنهُ عشرة دنانير، فقد رضيت به عوضاً من عشرين ديناراً. انظر "نصب الراية" 4/ 422. (¬2) في الأصل: "قولهم".

وذلكَ: مثل أنْ يستدل الحنفى في مسألةِ الساجة (¬1) بقولهِ عليه الصلاةُ والسلام: "لا ضررَ ولا ضرارَ" (¬2)، وفي نقضِ بناءِ الغاصبِ إضرار به، فوجب أن لا يجوز. فيقولُ الشافعيُّ أو الحنبليُّ: هو حجةٌ لنا؛ لأنَ في إسقاط حق مالِك السَّاجة من ردَها بعينها، والعدول عنه إلى رد قيمتها، إضراراً بمالِكها المغصوب منه، ولربّما تعددت القيمة، فبقي ذلك حقاً وديناً في ذمَّةِ الغاصبَ، وانتقالُ الحق من عينِ مالِه إلى ذمّةِ غيرِه غايةُ الِإضرارِ. ومَعنا تَرجيح، وهو: أنًّ المتعديَ جلبَ الإضرارَ بتعديه، والمغصوبُ منه بريء من الابتداءِ بالإضرارِ، فكان بنفي الإِضرار عنه أحق. ¬

_ (¬1) مسألة الساجة التي يقول بها الحنفية هي: إذا غصَبَ أحدُهم ساجةً أي خشبة، وأدخلها في بنائه، فإن كانت قيمةُ البناء أكثر من قيمة الخشبة، فإنه يملكها، ويعوضُ صاحبُها قيمتَها، وان كانت قيمتها أكثر منِ قيمة البناء لم ينقطع حق المالك عنها. واستدلوا على ذلك بحديث: "لا ضرر ولا ضِرار". انظر "الأشباه والنظائر" لابن نجيم: 88، و"بدائع الصنائع" 9/ 4417. (¬2) حديث حسنٌ بطرقه وشواهده، رواه الإمام مالك مرسلاً في "الموطأ" 2/ 745 ورواه موصولًا من حديث أبي سعيد الخدري، الدارقطني 3/ 77، و 228/ 4، والبيهقي 6/ 69، والحاكم 2/ 57 - 58، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد 1/ 213، وابن ماجه (2341)، والدارقطني 4/ 228. وعن عبادة بن الصامت عند أحمد 5/ 326 - 327، وابن ماجه (2340). وعن أبي هريرة عند الدارقطني 4/ 228 وعن عائشة عند الدارقطني 4/ 227، والطبراني في "الأوسط" (270) و (1037).

- الخامس: اختلاف الرواية

فيجيبُ الحنفيُّ بما يقررُ نفيَ الإضرارِ معهُ برد القيمةِ. فصل في الاعتراضِ الخامِس، باختلافِ الروايةِ. مثلُ أن يستدل الحنبليُّ أو الشافعيُّ في إباحةِ الجنينِ بذكاةِ أمّه بقولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمه" (¬1). فيقولُ الحنفيُّ: قد روي: ذكاةَ بالفتحِ، وروي ذكاةُ أمة بالضم، والفتح يعطي أن تكون ذكاته مثل ذكاة أمه، كقوله سبحانه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، وقال في موضع آخر: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، وقول الشاعر: فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدُها (¬2) وإذا تردد بين أن يكون ذكاتُه نفسَ ذكاةِ أمّه، وبين أن يكون مثلَ ذكاة أمِّه، وقف الدليل على الترجيح. وكان ما ذهب إليه أبو حنيفة أشبه؛ لأنَّ الباب بابُ حظرٍ في الأصل، إلى أن يحصل يَقينُ الذكاة، ومما يرجِّح ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري أحمد 3/ 31، 39، 53 وعبد الرزاق (865)، وأبو داود (2727)، والترمذي (1476) وابن ماجه (3199)، والدارقطني 4/ 274، والبيهقي 9/ 335، وابن حبان (5889)، والبغوي (2789)، قال الترمذيْ هذا حديث صحيح، وقد رويَ من غير هذا الوجه عن أبي سعيد، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. (¬2) صدر بيت لمجنون ليلى قيس بن الملوح، وعجزه: (ولكن عظمَ الساقِ منكِ دقيق). وهو في ديوانه: 207، و"الكامل" للمبرد: 1038.

هذا، أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الصيد: إ إذا أصابَه السهمُ، ووقع في الماء، فلا تاكله، لعل الماء أعانَ على قَتلِه " (¬1)، فحكمَ بحظرِ صيدٍ حصلَ العقرُ فيه، لتردّد الأمر في مساعدة التخنق بالماء، فكيف يبيحُ ما وقع العقر في غيره، وقطعنا على تَخَنقِهِ الصرف الذي لم يَشُبْهُ عقر ولا مباشرة باَلة الذكاة؟ بل يكون تَنبيهاً، ويبقى الجنينُ على ما ورد به نص الكتاب من تحريم المُنْخَنِقَةِ. ومثل استدلال الشافعي أو الحنبلي في تخيير أولياء الدم بين القَوَد والدِّية، بقوله - صلى الله عليه وسلم - في قتيل خُزاعة: "وأنتُم يا خُزاعة، فَقد قَتلتم هذا القَتيل، وأنا واللهِ عاقِلُه، فمن قتل بعد ذلك قَتيلًا، فأهلُه بين خِيَرتَين؛ إن احبوا قَتلوا، وإن أحبّو أخَذوا العَقْلَ" (¬2) فيقول الحنفي: قد روي: ¬

_ (¬1) ورد هذا من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذا أرسلتَ كلبك وسميت، فأمسَكَ وقَتَلَ فكُلْ. وإن أكَلَ، فلا تأكل، فإنَّما أمسَكَ على نفسه، وإذا خالط كلاباً لم يُذكر أسم الله عليها، فأمسكن فقتلْنَ، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتل. وإنْ رميتَ الصيدَ فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به الا أثرُ سَهمِك"، فكلْ. وإنْ وقع في الماء، فلا تأكل، فإنكَ لا تدري الماء قتله أم سهمُك"، أخرجه: البخاري (5484)، ومسلم (1929) (6) (7)، وأبو داود (2850)، والترمذي (1469)، والدارقطني 4/ 294. (¬2) أخرجه البخاري (112)، و (2434) و (6880)، ومسلم (1355)، وأحمد 2/ 238، وأبو داود (2017) و (4505). وأبو عوانة 4/ 42، وابن حبان (3715)، والطحاوي في "شرح مشكل الأثار" (3145) و (4793)، والبيهقي في"الدلائل" 5/ 84، وفي "السنن" 8/ 52، والدارقطني 3/ 97 - 98، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

- السادس: النسخ

"إنْ أحبوا فادوا" (¬1)، والمفاداةُ مفاعلة، فلا يكون إلا صُلحاً بالتراضي، والخبرُ خبر واحد، فيجب أن يتوقف فيه حتى يعلم أصل الحديث. فالجواب: أنه قد روي الجميع، والظاهر منهما الصحة، فيصير كالخبرين، فنجمع بينهما، فنقول: يجوز بالتراضي وبغير التراضي، وهم يسقطون العمل بخبرنا، فمن عمل بالروايتين كان أولى. فصل والاعتراض السادس بالنسخ؛ وذلك من وجوه: أحدها: أن ينقل نسخه صريحاً. والثاني: أن لا يكون صريحاً، لكن ينقل ما ينافيه متأخراً، فيدعي نسخه بذلك المنافي المتأخر عنه. والثالث: أن ينقل عن الصحابة العمل بخلافه ليدل على نَسخه. الرابع: أن يدعي نسخه بأنه شرع من قبلنا، وأنه نسخه شرعنا. فصل فأمَّا النسخ بالصريح؛ فمثل أن يستدل الشافعي في طهارة جُلود الميتة بالدباغ، بقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهابٍ دُبِغ فقد طَهُر" (¬2). فيقول الحنبلي [من] أصحابنا (¬3): هذا منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عُكَيْم: "كنتُ رخصتُ لكم في جلودِ الميتة، فإذا أتاكم ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن" 8/ 53. (¬2) تقدم في الصفحة (34) من هذا الجزء، (¬3) في الأصل: "لأصحابنا".

كتابي هذا، فلا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصب" (¬1). وهذا صريح نسخ كلُّ خبر ورد في طهارة الجلود بالدباغ. فيقول الشافعي: هذا عادَ إلى تحريم الِإهاب، وبعد الدباغ لا يُسمى إهاباً، لكن يسمى جلداً أو أديماً. فيقول أصحابنا: إنما عاد النهي إلى ما كان تَقدم من الِإباحة، فانقلوا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أباح اهُبَ الميتات، فلا يجدوا ذلك في نقل صحيح. لم يبق إلا أنه عاد النهي إلى ما كان مباحاً وسماه إهاباً، استتباعاً للاسم الأول، كما سميت المطلقةُ زوجةً، والمطلق بَعلاً بعد الطلاق استِتباعاً. فصل وأمَّا النًسخ بنقلِ المتأخِّر، فمثل: أن يستَدِل الحنبلي أو الظاهري في جَلْدِ الثَّيِّب مع الرَّجمِ بقوله عليه الصلاة والسلام: "خُذُوا عني، قد جَعَلَ الله لَهنَّ سَبيلًا، البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثَّيِّبِ جلدُ مئةٍ والرَّجمُ" (¬2). فيقول له الحنفيُّ أو الشَّافعيُّ: هذا منسوخٌ بما رُوي: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجَمَ ماعِزاً ولم يَجْلِدْهُ (¬3)، وهذا منه كان متأخِّراً عن قَوله الذي ¬

_ (¬1) تقدم في الصفحة (194) من الجزء الأول. (¬2) تقدم في الصفحة (193) من الجزء الأول. (¬3) قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي أخرجها أحمد 2/ 286 - 287 و 453،=

تَضَمَّنه خَبَرُكم؛ لأنَ خبرَكُم وَرَدَ أولَ ما شُرِعَ الجلدُ والرجمُ. فالجوابُ: أنَ قولَهُ في خبرِكم: "ولم يَجْلِدْه"، نفيٌ لا يحيطُ به الراوِي، وعساهُ شاهَدَ الرجمَ خاصَةً، فروى ما شاهدَ، وعساهُم سَبقُوا إلى رجْمِهِ ذُهولاً عن الجَلْدِ، فسقطَ بالسهْوِ عنه. والذي يوضحُ هذا ما روي: أنَّ علياُّ -كرمَ الله وجهه- جَلَدَ شُراحَةَ الهَمْدانِيةَ يومَ الخميسِ، ورجَمها يومَ الجُمُعَةِ، ثم قال: جلَدْتُها بكتابِ اللهِ، ورجَمْتُها بسنةِ رسولِ اللهِ (¬1)، فكان هذا من على -كرم الله وجهه- ¬

_ =والبخاري (5271) و (6815) و (6825) و (6167)، ومسلم (1691) (16)، وابن ماجه (2554)، والترمذي (1428)، والنسائي في "الكبرى" (7177) و (7178)، والبيهقي 8/ 219 من حديث أبي هريرة. وأخرجها أحمد 3/ 323، والدارمي 2/ 176، والبخاري (5270) و (5272) و (6816) و (6820) و (6826) و (7168)، ومسلم (1691) (16)، وأبو داود (4430)، والترمذي (1429)، والنسائي في "المجتبى" 4/ 62 - 63. من حديث جابر بن عبد الله، وأخرجها أيضاً الطيالسي (2627)، وعبد الرزاق (13344)، وأحمد 1/ 245 و 314 و328، ومسلم (1693)، وأبو داود (4425) و (4426)، والترمذي (1427)، والنسائي في "الكبرى" (7171) و (7172) و (7173)، وأبو يعلى (2580)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 143، والطبراني (12304) و (12305) و (12306) من حديث عبد الله ابن عباس. وهي مروية أيضاً من حديث غيرهم من الصحابة كجابر بن سمرة. وأبي سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب، وعمران بن حصين، ونعيم بن هزال. (¬1) أخرجه أحمد 1/ 93 و 107 و 116 و 121 و 140 و141 و 143 و 153، والبخاري (6812)، والنسائي في "الكبرى" (7140) و (7141)، =

رِوايةً وعملًا، وهو إثباتٌ معه روايةٌ، وخَبَرُكم نَفْيٌ معه احتمالٌ، فبقيَ لفظُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجَمْعِ بينَ الجلدِ والرجمِ بحالهِ، فلا يُنْسخُ (¬1) بمحتَمِل فتَردِّدٍ. فصل وأما النسخُ بعملِ الصحابةِ بخلافهِ، فمثلُ: استدلالِ الحنفي في مسألة استئناف الفَرِيضةِ في زكاةِ الإِبل بقوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا زادَتِ الإِبل على عِشْرِينَ ومئةٍ، استَؤنِفَتِ الفَرِيضةُ في كلِّ خَمْسٍ شاءٌ" (¬2). ¬

_ = والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 140، والحاكم 4/ 365. وقال: صحيح، ووافقه الذهبي. (¬1) يعني قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا .... "الخ. وانظر: "أصول السرخْسي" 2/ 71 و"التمهيد" للكلوذاني 2/ 378. (¬2) وأخرجه إسحاق بن راهوية في "مسنده" كما ذكر الزيلعي في "نصب الراية" 2/ 343، وأبو داود في "مراسيله" (106)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 375، وابن حزم في "المحلى" 6/ 33 - 34 من طرق عن حماد بن سلمة قال: قلت لقيس بن سعد: خذلي كتاب محمد بن عمروبن حزم، فاعطاني كتاباً، أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لجده، فقرأته، فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومئة، فاذا كانت أكثر من ذلك، فعد في كلُّ خمسين حقة، وما فضل فمنه يعاد إلى أول فريضة من الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كلُّ خمس ذود شاة. وأخرجه موقوفاً الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 377 عن عبد الله بن =

فيقول الحنبلي أو الشافعي: هذا الخبرُ منسوخٌ؛ لأن أبا بكر الصديقَ وعمرَ -رضي الله عنهما- لم يعملا به، وأمْرُ الزكاةِ ظاهرٌ غيرُ خافٍ، فلو عَلِما بقاءَ حُكْمِه لعملا به، لم يَبْقَ إلا أنهما علما نَسْخَه. فالذي ينبغي أن يجيبَ به: هو أن يتكلمَ على عملِ الصحابة بأنه يجوزُ أن يكون لم يَبْلُغْهما، أو بلغَهما فتأوَّلاهُ كما تأوَّلْتُم (¬1). فصل وأما النسخُ بأنه (¬2) شرع مَنْ قَبْلنا (¬3): فمثل: استدلال الحنبلي أو الشافعي في مسألة إحْصَان الرجم، وأنه لا يُعْتبرُ له الإسلام، بما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمَ يهوديّين زنيا بعد إحصانهما (¬4). ¬

_ = مسعود أنه قال في فرائض الإبل: إذا زادت على تسعين، ففيها حقتان إلى عشرين ومئة، فإذا بلغت العشرين ومئة، استقبلت الفريضة بالغنم، في كلُّ خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففرائض الإبل، فإذا كثرت الإبل، ففي كلُّ خمسين حقة. وأخرجه موقوفاً أيضاً ابن أبي شيبة 3/ 125، والبيهقي 4/ 92 عن علي قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومئة، تستأنف الفريضة. (¬1) انظر "التمهيد" لأبي الخطاب الكلوذاني 3/ 193. (¬2) فى الأصل: "فإنه"، والذي يقتضيه السياق ما أثبتناه. (¬3) في الأصل: "قبلها"، وهو تحريف. (¬4) قصة رجم اليهودي واليهودية اللذين زنيا أخرجها مالك 2/ 819، وأحمد 1/ 5 و 7 و 17 و 61 - 62 و 63 و 76، 126، والدارمي 2/ 178، والبخاري (3635) و (6841)، ومسلم (1699) (26) و (27)، وأبو داود (4446) و (4449)، وابن ماجه (2556)، والنسائي في "الكبرى" (7334) من حديث =

فيقول الحنفي: إنما رجمهما بحُكمِ التوراةِ، فإنه أمرَ بإحْضارِ التوارة، ثم عمل بذلك، وشرعُنا قد نسخ حكمَ التوراةِ. فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَثِقُ بنقلِ هذهِ التوراةِ، لما تطرق عليها من التبديلِ والتغيير، وإدخالِ كلامٍ غيرِ كلام اللهِ فيها، وفيها العجائبُ، وكم حوادثَ طَرأَتْ فاستأصلت ما كان منها، فأعادُوا تَسْطِيرَ ما تَلَقَّفُوه من الرِّجالِ، فهذا يمنعُ النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يعملَ بحكمها في الجملةِ، لا شَرْعاً لموسى، ولا شرعاً له مُوافقة لموسى، ومتابعةً بحكم نَقْلِها، لم يَبْقَ إلا أنه عَلِمَ ذلك بطريقِ مِثْلِه، وهو الوَحْيُ المعصومَ عن الزيادةِ والنُقْصانِ، وكيف يجوزُ أن يُظَن بأنه يقيمُ حداً، ويتلفُ نَفْساً بحكم لم يَثْبُتْ أنه شرع الله سبحانه بطريقِهِ الذي يثبتُ الشرع بمِثْلِهِ؟ وهل يجوزُ أن يَفْعَلَ فيهم إلا ما يفعلُه فينا بما شَرَعَ الله له، مع قول الله سبحانه له: {وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهم بما أَنّزَلَ الله} [المائدة: 49]؟ وإنما اسْتَدْعا بالتَوْراةِ، ووافَقَهم على كذبِهم حيثُ قالوا: إن عقوبةَ الزَّاني (¬1) التَّحْمِيمُ (¬2) لِيُبَيِّنَ كذبهم فيما أخْبَروا به، وفيما كَتَمُوهُ من ذِكْرِهِ صلى الله عليه في التوراة. ¬

_ =عبد الله بن عمر. وقد رويت قصة رجمهما أيضاً عن غيره من الصحابة، وفي بعضها: أنهما كانا محصنين. انظر "فتح الباري" للحافظ ابن حجر 12/ 167 - 169. (¬1) في الأصل: "الزان". (¬2) في" اللسان" (حمم): حمَّم الرجلَ: سَخم وجْهَه بالحُمَم، وهو الفحم، وفي حديث الرجْم: أنه أمر بيهودي مُحَمم مَجْلود، أي مُسْوَدّ الوجه، من الحُمَمَة وهي الفَحْمة.

فصل وقد ألْحَقَ أصحابُ أبي حنيفة وجهاً آخر، وهو النسخُ بزوالِ العِلَّةِ (¬1)، وذلك مثل: أن يستدلَّ الشافعي أو الحنبلي في تَخْلِيل الخَمْرِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أبا طَلْحَة عن تخليلها، وأمرَه بإراقَتِها (¬2)، فقالوا: كان أوَّلَ ما حُرمَ الخمرُ وألِفُوا شُرْبَها، فنهى عن تَخْليلِها تغليظاً وتشديداً، وقد زالَ ذلك المعنى، فزالَ الحكمُ. فالجواب عن ذلك: أن نَتَبَيَّنَ أن النَهْيَ كان حُكْمَ اللهِ في الخَمْرِ كإيجاب الحَدِّ والتَّفْسيقِ بشُرْبِها. والتنْجيسِ بها، فدعوى أنه كان لتلك الحالِ تشديداً، وأنه زالَ باعتيادِ الترْكِ، نسخ بغيرِ دليل، بل لمجرَّدِ احتمال، على أنَّ النهيَ منطوق به، والعلةَ منطوق بها، فقوْلُه جواباً لأبي طلحة حيثُ قال له: أفأخَللُها؟ قال: "لا، أهرقْها"، قال: إنها لِأيْتام، قال: "أرَقها"، والله سبحانه عَلَّلَها بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، وهذانِ النُّطْقانِ لا يجوزُ أن يُسْقطا بمجرَّدِ قولِكم: يجوزُ أن يكونَ حالُ النهي اقْتَضَت ¬

_ (¬1) كذا قال المؤلف رحمه الله، والمسطور في كتب أصول الحنفية أنه لا يعد نسخاً، وقالوا: هو من قبيل انتفاء الحكم لانتفاء العلَّة. انظر "التقرير والتجبير" 3/ 71، و"فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت" 2/ 86. (¬2) أخرجه أحمد 3/ 119 و 180 و 260، والدارمي 2/ 118، ومسلم (1983)، وأبو داود (3675)، والترمذي (1294) عن أنس بن مالك. وأخرجه الترمذي (1293) عن أنس، عن أبي طلحة الأنصاري.

الاحْتِدادَ (¬1)، ثم فَتَرَ النهيُ ونُقِضت الأحكامُ، كما لا يجوزُ ذلك في إيجابِ الحد، والتفسيقِ، وسقوط التغْريمِ على متْلِفِها، ونجاستِها، ويدَعى أن ذلك كان في حالِ احتدادِ النهي، وقرْبِ عَهْدِهم بها. فالنهي مطلق والأحكام ثابتةٌ، والنسخ ممتنع بعدم النطقِ الصالح للنسخِ، بل قد أبْقَى الشرع أحكاماً على سبيل التعَبُّد بعد زوال عِلَلها، كإبقاء تشريع الرمَلِ (¬2) والاضْطِباعِ (¬3)، وإن كانا وُضعا لاظهار الجَلَدِ للمشركين، وقد زال الخوف وبقيا تعبداً خِلْواً من عِلةٍ، وكذلك إبقاءُ القَصْرِ بعد اشتراطِ الخوف، فلما قَالوا له: يا رسولَ الله، ما بالُنا نقصر وقد أمِنَا، والله تعالى يقول: {إنْ (¬4) خِفْتُم} [النساء: 101] فقال: "صَدَقَةٌ تَصدَّقَ الله بها عليكم" (¬5)، فكان لأجل الخوف، فلما ¬

_ (¬1) أي: الشدة. (¬2) الرَمَل، بالتحريكِ: الهَرْوَلَةُ يشير بذلك إلى رَمَلانهِ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابهِ ليرُيَ المشركين قوَّتهم. انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 13 و"سنن الترمذي" (857) و"النهاية في غريب الحديث والأثر". (رَمل). (¬3) الاضطباع: أن يُدخلَ المُحرمُ الرداءَ من تحت إبْطِهِ الأيمنِ، ويردُّ طَرَفَهُ على يسارِه، ويُبدي مَنْكِبَهُ الأيمَنَ ويُغَطي الأيْسرَ، سمي به لإبداءِ أحد الضبْعَيْن. وهو العضُدُ أو الإبْطُ. قاله المجد في "القاموس" (ضبع). وانظر: "مسند أحمد" 1/ 306 و"سنن الترمذي" (859) و"سنن أبي داود" (1883) و"سنن ابن ماجه" (2945). (¬4) في الأصل: "وإن". (¬5) تقدم تخريجه في الصفحة: 26.

- السابع: التأويل

زالت العلَّةُ بَقِيَ مجرَّدَ صدقة. فإذا كانت الشريعةُ على هذا، لا يجوز أن يُقدَمَ على نسخ النطقِ الصريح بالنهي المطلقِ لأجْل دعوى علَّةٍ ما ثبتت، ودعوى أَنها قد زالت، ودعوى أنها إذا زالت انْتَسخ الحكمُ، والكلُّ لم يَثْبُت، ولا أصْلٌ استقر في الشرعِ، ولا نُسَلِّمه لك. فصل والاعتراضُ السابع: التَّأويل، وذلك على ضرْبَين: تأويل الظاهرِ؛ كاستدلالِ الحنفي في إيجابِ غَسْلِ الثوب من المَنِيِّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان رَطْباً فاغْسِلِيه، وإن كان يابِساً فَحُكَيه" (¬1)، فحَمَلَه أصحابُنا وأصحابُ الشافعي على الاستحبابِ بدليلٍ. ومثل: استدلالهم في الشفْعَةِ بالجِوَارِ بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الجارُ أحقُ بصَقَبِه" (¬2)، فيقول أصحابنا: هو محمولٌ على العَرْضِ عليه ¬

_ (¬1) لا يُعرفُ هذا الحديث مرفوعاً من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، والمنقول أن عائشة -رضي الله عنها كانت تفعلُ ذلك من غير أن يأمرَها. قالت: كنتُ أفركُ المَنِى من ثَوْب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان يابسا، وأغسلهُ إذا كان رَطباً. انظرَ: "نصب الراية" للزيلعي 1/ 209 و"شرح معاني الآثار" 1/ 49 و" سنن الدارقطني" 1/ 125 وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 279 عن أم سلمة وقال: رواه الطبراني في"الكبير" وفيه أبو بكبر الهُذليُّ وهو ضَعيف. وانظر "المعجم الصغير" للطبراني 1/ 25. (¬2) أخرجه أحمد 6/ 10 و 390، والبخاري (2258) و (6977 - 6981)، وأبو داو (3516) وابن ماجه (2495) و (2498)، والنسائي 7/ 320، وابن حبّان =

استحباباً، والِإحسانِ لجوارِه بدليلِ المسألة، وهي أن الشُّفْعة لا تُسْتَحَق إلا بالشَرِكةِ، فيُجْمَعُ بين هذا وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعةُ فيما لم يُقْسَمْ، فإذا وقعتِ الحدودُ، وصُرِّفت الطرقُ، فلا شُفْعَةَ" (¬1). فصل وأما تخصيصُ العمومِ، مثل: استدلالِ أصحابنا وأصحاب الشافعي في قتل المُرْتَدةِ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بَدل دينَه فاقتُلُوه" (¬2) ¬

_ = (5180) و (5181) و (5183)، وانظر "أصول السًرَخْسي" 1/ 144. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "بصَقبه"، قال البغوفي في "شرح السنة" 8/ 242: والسقَبُ: القُرْبُ بالسين والصاد، يريدُ بما يليه، وبما يقربُ منه، وليس في هذا الحديث ذِكْرُ الشُّفْعةِ، فيحتمل أن يكمنَ المرادُ منه الشفْعةَ، ويحتمل أنه أحقٌ بالبرِّ والمعونةِ. (¬1) أخرجه أحمد 3/ 296 و 3172 و 399، والبخاري (2213) و (2214) و (2257) و (هـ 249) و (2496) و (6976)، وأبو داود (3514)، وابن ماجه (2499)، والترمذي (1370)، والنسائي 7/ 321، وابن حبان (5184) و (5186) و (5187) من حديث جابر بن عبد الله. وأخرجه أبو داود (3515)، وابن ماجه (2497)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 121، وابن حبان (5185) من حديث أبي هريرة. ورواية أبي داود مختصرة بلفظ: "إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة". وقوله صلى الله عليه وسلم: "وصُرفت"، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 4/ 436: أي بُنيت مصارفُ الطرقِ وشوارعها، كأنه من التصرف أو من التصريف، وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصِّرف بكسر المهملة، الخالص من كل شيء. (¬2) تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: (39).

- الثامن: المعارضة

فيخُضُه الحنفي بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُها قُتِلتْ وهي لا تُقَاتِلُ" (¬1)، وبما يذكرُهُ من القياسِ. فالجواب: أن يُتَكلمَ على الدليل، فيُبْقَى له العمومُ. فصل في الاعتراض الثامن: المُعارَضَةُ وهي ضربان: معارضة بنُطْقٍ، ومعارضةٌ بعِلَّةٍ: فالمعارضةُ بالنطقِ، مثل؛ أن يستدل الشافعي في جوازِ صلاةٍ لها سبَب في أوْقاتِ النهْيِ بقوله صلى الله عليه وسلم: "من نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها، فَلْيُصَلها إذا ذَكَرَها" (¬2)، فيُعارضهُ الحنفى أو الحنبلي بنَهْي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاةِ في هذهِ الأوقاتِ (¬3)، ويُقدَمُ خبرَه على العموَمِ، لكونه نَهْياً ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2652)، وابن ماجه (2842)، وانظر "عون المعبود" 7/ 329، و"إيثار الِإنصاف في آثار الخلاف" لسبط ابن الجوزي: 241، و"التمهيد" للكلوذاني 1/ 12، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 243، و"شرح مختصر الروضة"2/ 577، و"المستصفى" 2/ 148، و"التمهيد في تخريج الفروع" للإسنوي: 413. (¬2) أخرجه البخاري (597) ومسلم (1558) وابن ماجه (696) والترمذي (77 - 178) والنسائي 1/ 236، وانظر "فتح الباري" 2/ 268 و" شرح مختصر الروضة" 2/ 577، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 366. (¬3) يريد قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمسُ، ولا صلاةَ بعد العصرِ حتى تغيبَ الشمس" أخرجه أحمد 3/ 95 والبخاري (586) ومسلم (827) والنسائي 1/ 278 من حديث أبي سعيد الخدريِّ -رضي الله عنه-.=

- فصل: القول الخارج على سبب ضربان: مستقل بنفسه، وما لا يستقل بنفسه دون السبب

مخصَصاً لأوقاتٍ، والخاصُ يَقْضِي على العامَ. فالجوابُ له من وجهَيْن: أحدهما: أن يُسْقِطَ المعارضةَ بما ذكرنا من وجوهِ الاعْتِراضاتِ، والثاني: إن يُرَجحَ دلِيلَه بما يَجِدُ من وجُوهِ التَرْجيحاتِ. فصل فأمَّا الخارجُ على سبَبٍ فضرْبانِ -على ما قَدمنا- مستقِل بنفسِهِ دونَ السبب، والكلامُ عليه كالكلام على السنةِ المُبْتَدَأةِ، وزادَ أصحابُ مالك في الاعتراض عليهَ زيادةً على ما يُتَكَلمُ به على المبتدأ، وهو أن قالوا: هذا مقصور على السبب الذي وَرَدَ فيه، وذلك مثل: استدلالنا في إيجاب الترْتيب في الطهارةِ بقوله: "ابدَؤُوا بما بَدَأ الله بهِ" (¬1)، فقالوا: هذا وَرد في الَسعْيِ بين الصفا والمَرْوَةِ، وأرادَ به ¬

_ =وانظر "الرسالة": 316 - 330، و"فتح الباري" 2/ 25 و"شرح الكوكب" 5/ 604 و"المستصفى" 2/ 148 و"شرح مختصر الروضة" 2/ 577 و"إحكام الفصول": 666، و"شرح معاني الآثار" 2/ 186. (¬1) هذه رواية النسائي 5/ 236، وصححها ابن حزم والنووي كما في "نَيْل الأوطار" 2/ 56 وصححها الأبادي، في "عونِ المعبود" 5/ 367. وأخرجها الدارقطني في "السنن" 2/ 254. وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في إسناد هذه الرواية: ورجاله ثقات. لكنَ هذه الرواية شاذَّةٌ، فإنَ مالكاً وسفيان ويحيى بن سعيد القطَان قد اجتمعوا على رواية: "نبدأ". انظر: "زاد المعاد" 2/ 227 ونقل الشوكاني عن ابن حجر قوله: وهم أحفَظُ من الباقين. ورواية: "نبدأ" أخرجها مالك في "الموطأ" 1/ 305 وأبو داود (1888) =

ابدؤُوا فِعْلا بما بدأَ الله به قولًا، فوجبَ الترتيبُ حيثُ ورد، وفيما ورد، ولا يُحْمَلُ على غيرِهِ إلا بدَلالَةٍ. والجواب: أن اللفظَ صالح لِإيجابِ الابتداء بكل ما بدا الله به، وصالحٌ أن يكون معللاً بكونِ الله سبحانه بدأَ به، وفي ذلك معقول، وهو أنه ما بدأ به إلا وهو الأوْلى عندَه سبحانه في الفِعْلِ، فإذا جاء في طَيِّ الأمرِ المطلق، اقتضى ما اقتضاهُ الأمرُ المطلق، فلا يُتْرَكُ عمومُ الففْظ لخصوصِ السبب، وسيأتي الكلام عليه في مسائل الخلاف إن شاء الله. فصل الثاني: مالا يَستقل بنفسه دونَ السبب، فالذي يخصُّه من الاعتراضِ دعوى الإجْمالِ، وذلك مثل: أن يستدل الشافعي أو الحنبلي في مسألة مُدِّ عَجْوَةٍ بما روي: أن رجلًا أتى النبى - صلى الله عليه وسلم -، ومعه قِلادَة وفيها خَرَز وذَهَبٌ، فقال: إنى ابتَعْتُ هذا بسبعةِ دنانيرَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا حتى تُمَيِّزَ" (¬1). فيقول الحنفي: هذا مُجْمَل؛ لأنه قضية في عَيْنٍ، فيُحْتَمَلُ أن ¬

_ =والترمذي (862) واُبن ماجه (3074) من حديث جابر بن عبد الله. وانظر: "المسوَّدة": 130 و "اللمع في أصول الفقه": 38 و"التبصرة": 144 و"شرح مختصر الروضة" 2/ 501 و"أصول السرَخْسي"1/ 200. (¬1) أخرجه مسلم (4051)، وأبو داود (3351)، والترمذي (1255)، والنسائي 7/ 279 من حديث فَضالةَ بن عُبَيْد. وانظر "شرح النووي على مسلم" 11/ 20، و"عون المعبود" 9/ 200.

* فصل في الاعتراضات على الفعل

يكون الثمن مثلَ الذَّهب الذي فى القِلادة، فنهاه لذلك، ويحتمل أن يكون أكثرَ، فنهاه لأجلِ الزيادة، لا لأجْل اجتماعِ الذهب وغيْرِه، فوجبَ التوقفُ حتى يُعْلَمَ. فالجواب عنه: أن هذا زيادةٌ في السبَب المنقولِ، والحكمُ إذا نُقِلَ مع سببه لم تَجُزِ الزيادةُ عليها إلا بدَلالَةٍ والسبب كون الذَهب مع الخَرَزِ، والذهبُ بالذهب، والحكمُ هو النهي، فما ادعَيْتَه زيادةٌ لم تُنْقَلْ، على أن الظاهرَ أن عاقلًا لا يبيعُ ذهباً بذهبٍ مثلِهِ، أو ذهبُه أكثرُ من الذهبِ الذي باعَهُ به ومعه زيادة خرزٍ، فليس هذا البيعَ المعتادَ، بل الظاهرُ أن الذهبَ الذي في القلادةِ أقَل. ولأنه لو كان المَنْعُ لِمَا ذكرتم لنُقل، ولا يجوزُ أن يُنقلَ مالا يَتعلَّقُ الحكمُ به، ويُسْكَتَ عما تعلقَ به الحكم، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَفْصِلْ، ولو كان لِمَا ذكرتم لكان موضِعُ الاستفصالِ إن لم يَعْلَم كيفيَّةَ الحالِ، ومكانُ البيانِ للعلَّةِ إن كان عَلِمَ، ليُجتنبَ أمثالُ ذلك من البيوعِ. فصل وأما الفعلُ فيَتَوَجَّهُ (¬1) عليه ما يتوجه على القولِ من الاعتراضِ، فالأول: أن يبين أن المُسْتدِل لا يقولُ به، وذلك مثل: أن يستدل الحنفي في قتل المسلم بالكافر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مسلماً بكافر، وقال: "أنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بذِمتِهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيوجه". (¬2) أخرجه الدارقطني، وقال: لم يسنِده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروكُ =

الاعتراض الثاني: المنازعة في مقتضاه

فيقول له الحنبلي أو الشافعي: هذا لا نَقُولُ به، فإن الذي قَتَلَه به كان مُسْتأمِناً، لأنه كان رسولًا، ولا يُقْتل المسلمُ بالرسولِ عندَ أبي حنيفة. وقد تكلفَ بعضُ أصحابِ أبي حنيفة الجوابَ عن ذلك، فقال: لما قَتَل المسلمَ بالرسولِ، كان ذلك دالاً على قتلِ المسلم بالذِّمِّيِّ من طريق الأوْلى، فنُسِخَ قَتْلُ المسلمِ بالرسولِ، وبقي الذميُّ على مُقْتَضَاهُ الأولَ. فصل الاعتراضُ الثاني: المنازعةُ في مُقْتَضاه، وهذا النوع يتوَجه على الفعلِ من طريقين: أحدهما: أن يُنازِعَه فيما (¬1) فَعَلَ، والثاني: أنْ ينازِعَه في مُقْتَضَى الفعلِ. فأمَّا الأولُ: فمثل: أن يستدل الشافعي في تَكْرارِ مسح الرأسِ بما رُوي: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تَوَضأ ثلائاً ثلاثاً، وقال: "هذا وُضوئى، ووضُوءُ ¬

_ =الحديثِ. ورُوي مرسلاً من طريق عبد الرحمن بن البيلماني، وعن عبد الله ابن عبد العزيز الحضرمي، أخرجهما أبو داود في مراسيله. وقد أوفى الحافظ الزيلعى على الغاية في الكلام على هذا الحديث فانظر "نصب الراية" 335/ 4. و"شرح معاني الآثار" 3/ 192 و"إيثار الإنصاف" لسبط ابن الجوزي: 397 و"سبل السلام" 3/ 458 و "نَيْل الأوطار" 7/ 9 و"الاختيار لتعليل المختار" 5/ 27 و"اختلاف الحديث" للشافعي بحاشية "مختصر المزني": 564 و"شرح الكوكب المنير"3/ 263. (¬1) في الأصل: "فما".

الأنبياءِ قَبْلي، ووضُوءُ خليلِي إبراهيمَ" (¬1). فيقولُ (¬2) الحنفي: قوله: "توضأ ثلاثاً" معناه غَسَلَ، لأن الوُضوءَ في اللغة هو النظافةُ وما تحصل به الوَضَاءَةُ، وذلك إنما يحصل بالغَسْل دونَ المسْح. فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن يُبَينَ أن الوضوءَ في عُرْفِ الشرع هو الغَسْل والمَسْحُ جميعاً، وفي اللغة عبارة عن الغَسْل، فوجب أن يُحمل على عرف الشرع، والثاني: أن يُبينَ بالدليلِ من جهة السياقِ أو غيرِه أن المرادَ به الغسلُ والمسح، مثل: أن يقولَ الشافعي: لما كان قولُه في الأولى: "توضأ مرة مرة" رجع إلى مسح الرأس مع غسل الأعضاء وجب أن يكون قولُه: "ثم توضا مرتَيْنِ مَرتينِ" راجعاً إلى جميعِ الأعضاء دون أن يخرجَ الرأسُ من الثانيةِ والثالثةِ، وقد انتَظَمَها الخبرُ. الطريقُ (¬3) الثاني: أن يُسَلمَ ما فعلَه عليه الصلاةُ والسلام، لكِنه ينازعُه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (419) والبيهقي، في "السنن الصغرى" 1/ 53 وفي "السنن الكبرى" 1/ 80 من طريق ابن عمر، وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العَمِّيِّ عن أبيه. قال البوصيري في "الزوائد" 1/: في الإسناد، زيدٌ العَميُ وهو ضعيف. وعبد الرحيم متروك، بل كذاب. وانظر "نصب الراية" 1/ 28، و"الاختبار لتعليل المختار" 1/ 7 و"الكافي" لابن قدامة 1/ 65 و"المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى 1/ 73 و"نيل الأوطار" 1/ 159. (¬2) في الأصل: "فَقول". (¬3) في الأصل: "فالطريق".

الاعتراض الثالث: دعوى الإجمال

في مُقْتضَى فعلِه، وذلك مثل: أن يستدلَّ الشافعي أو الحنبلي في الاعتدالِ في الرُّكوعِ والسجودِ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذلك، فيقولُ المُخالِفُ: فِعْلُه لا يَقْتَضِي الوجوبَ (¬1). والجواب عنه من ثلاثَة أوْجُه: أحدها: أن يقولَ: فِعْلُه عندِي يَقْتَضِي الوجوبَ، وان لم تُسَلِّمْ، دللْتُ عليه، والثاني: أن يقولَ: هذا بيان لمُجملٍ واجبٍ في القرآنِ، وبيانُ الواجب واجبٌ، والثالث: أن يقول: قد اقْتَرَنَ به أمْر، وهو قولُه عليه السلامَ: "صَلوا كما رَأيْتُمُوني أصَلِّي (¬2). والأمرُ يَقْتضِي الوجوبَ. فصل الاعتراضُ الثالث: دعوى الإجمالِ، وهو مثل: أن يستدلَّ الشافعي في طَهارَةِ المَنِيِّ بأن عائشةَ أمَ المؤمنين رضي الله عنها قالت: كنت أفْرُكُ المنيَّ من ثَوْب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي" (¬3)، ولو كان نَجِساً لقَطَعَ الصلاةَ. فيقول الحنفي: هذا مُجْمل لأنه قَضِية في عَيْن، فيحتمل أنه كان قليلًا، ويحتمل أنه كان كثيراً، فوجبَ التوَقُّفُ فيه. ¬

_ (¬1) انطْر في هذه المسألة: "أصول السرخسي" 2/ 87 و"المسوَّدة": 76 و"إرشاد الفحول": 74 و"إحكام الفصول": 223 و"شرح تنقيح الفصول": 288 و"التمهيد" للكلوذاني 2/ 316. (¬2) أخرجه أحمد 5/ 53 والبخاري (631) والدارمي (1253) من حديث مالك ابن الحويرث. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة: 166. أخرجه ابن خزيمة (290) بنحو اللفظ المذكور

الاعتراض الرابع: المشاركة في الدليل

فالجواب: أن يبينَ بالدليل أنه كان كثيراً، لأن عائشةَ احْتَجَّتْ بهذا الخبرِ على طَهارَتِهِ، ؤلَا يجوزُ أن تَحْتَج بما يُعْفَى عنه مع نجاسَتِه، ولأنها أخْبَرَت عن دوام الفعل وتَكَررِه، وَيبْعُدُ أن يستويَ حالهُ في القِلةِ مع تكررِه. فصل والاعتراضُ الرابع: المُشارَكةُ في الدليلِ، مثل: أن يستدل الحنفي في جوازِ تَرْكِ قِسْمةِ الأراضي المَغْنُومَةِ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ قِسْمَةَ بعضَ خَيْبَرَ (¬1). فيقول الشافعي أو الحنبلي: هذا حُجة، لأنه قَسَمَ بعضَه، وفعلُه يقتضي الوجوبَ، وأما تَرْكُه لِماْ تركَ فيُتأوَّلُ على وَجْهٍ من وجوهِ العُذْرِ، إمَّا لنوائبه أو مهمات الأسلام. فيجيب الحنفي بأن يَتَأوَّلَ القسْمَ ليَجْمَعَ بينَه ويينَ التَرْكِ، ويقولُ: لستُ أوجِبُ القِسْمَةَ، وفعلُه وتركهُ بيانٌ لجوازِهما، وأصْرفُه عن الوجوب بدليلٍ. فصل والاعتراضُ الخامس: اختلافُ الروايةِ، وذلك مثل: أن يستدل الحنفي في جوازِ نكاح المُحْرِمِ بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - تَزوجَ مَيْمُونَةَ وهو ¬

_ (¬1) انظر "سنن أبي داود" (3393) و "الكافي" لابن قدامة 4/ 160 و"الأموال" لأبي عبيد: 581 و"الموطأ" 2/ 540 و"الاستخراج" لابن رجب: 228 و"أصول السرخسي" 2/ 8.

الاعتراض السادس: دعوى النسخ

مُحرِم (¬1). فيقول الشافعيُّ أو الحنبليُّ: رُوي أنه تزوجها وهما حَلالانِ (¬2). والجواب عنه من وجهين (¬3): أحدهما: أن يَجمعَ بين الروايتيْنِ إن أمْكَنَهُ. والثاني: أن يُرَجحَ روايتَهُ على روايةِ المخالفِ. فصل والاعتراض السادس: دعوى النسخِ، وذلك مثل: أن يستدل الحنفي في سجود السهْوِ بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ بعدَ السلامِ. فيقول الشافعي: هذا منسوخ بما روى الزهْرِيُّ قال: كان آخِرَ الأمْرَيْنِ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - السجودُ قبل السلامِ (¬4). ¬

_ (¬1) حديث زواجه - صلى الله عليه وسلم - ميمونةَ وهو مُحرم، أخرجه البخاري (5114) ومسلم (1410) وأبو داود (1827) والترمذي (842) والنسائي 5/ 191 من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وقال ابن القيم في "زاد المعاد" 3/ 372: وأما قول ابن عباس- يعني حديثه هذا - فمما استُدرك عليه، وعُد من وَهْمه. وانظر "فتح الباري"10/ 207 و"نيل الأوطار" 5/ 13 و"شرح معاني الآثار" 2/ 268، و"التمهيد" للكلوذاني 3/ 206. (¬2) انظر "سنن أبي داود" (1826) و"صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 200 و"مسند أحمد" 6/ 333. (¬3) انظر "أصول السرخسي" 2/ 21. (¬4) "السنن الصغرى" للبيهقي 1/ 316. وانظر هذه المسألة في "زاد المعاد" 1/ 286 و"سبل السلام"1/ 389. و"بداية المجتهد" 1/ 270

الاعتراض السابع: التأويل

فالجواب للحنفي أن يقولَ: أنا أجْمَعُ بينهما بالتأويلِ، أو (¬1) يتكلمَ على النسخِ بما يُسْقِطُه (¬2). فصل الاعتراض السابع: التأويل، وهو مثل: أن يستدل الحنفي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجَ ميمونة وهو مُحرمٌ. فيتأولُه الحنبلي أو الشافعيُّ، فيقول: معناه أنه مُحْرِم بالحَرَمَ لا بالإِحْرام (¬3)، مثل قولهم لمن كان بتِهامَةَ: مُتْهِمٌ، ومن كان بنَجْد: مُنْجِدٌ، وأَنشدُوا في عثمان رضي الله عنه حيثُ كان بحَرَمِ المدينةِ: قتلُوا ابنَ عفانَ الخليفَةَ مُحْرِماً ... وَدَعا، فلم يُرَ مثلُه مَخْذُولًا (¬4) وَيحْمِلُه على ذلِكَ بالدليل. فالجواب: أن يَتكلَّمَ على الدليلِ الذي صَرَفَه به عن ظاهِرِه ليُسقِطَه، ويَبْقى له الظاهرُ. فصل والاعتراضُ الثامن المعارضة، وذلك يكون بظاهرٍ، وقد يكون بعلةٍ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أَن". (¬2) وقد أطال الطحاويُّ النَّفَس في مناقشة هذه المسألة في "شرح معاني الآثار" 1/ 440 وانظر "نصب الراية" 2/ 170 والاعتبار في "الناسخ والمنسوخ من الآثار" للحازمي: 115. (¬3) انظر "زاد المعاد" 3/ 374، و"غريب الحديث" للخطابي 1/ 323. (¬4) من كلمة نفيسةٍ للراعي النميري في "ديوانه": 231.

* فصل في الاعتراض على الإقرار

فالظاهر: مثل أن يستدل الشافعي في رفع اليد بما روى أبو حميد الساعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حذو منكبيه (¬1). فيعارضه الحنفيُّ بما روى وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حيال أذنيه (¬2). والجواب أن يتكلم على المعارضة بما ذكر من وجوه الاعتراضات (¬3)، أو يرجح دليله على ما عورض به بما نذكره في فصل الترجيحات إن شاء الله. وإن كانت المعارضة بالعلة، فالجواب عنه أن يتكلم عليها بما يتكلم على العلل. فصل وأما الإقرار فضربان على ما قدمنا (¬4): إقرار على قول، وهو كقوله عليه السلام في الاعتراض والجواب، واقرار على فعل. فهو كفعله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتراض والجواب على ما قدمنا. فصل الاعتراض على الاستدلال بالإجماع، وهو من أربعة أوجه: أولها: من جهة الرد، وهو من ثلاثة أوجه: أحدها رد الرافضة (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (735، 736، 738) ومسلم "بشرح النووي" 4/ 315 وابن ماجه (862). (¬2) أخرجه النسائي 2/ 122 وابن ماجه (867). (¬3) انظر "شرح الكوكب المنير" 4/ 628 - 633. (¬4) انظر: الصافحة (24). (¬5) انظر "المسوَّدة": 315 و"التمهيد" 3/ 224 و"شرح الكوكب المنير"2/ 213 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 14 و"شرح تنقيح الفصول": 324 و"التبصرة في =

فإن عندهم أنه ليس بحجة في شيء من الأحكام، فالجوابُ أن يقال: هذا أصل من أصول الدين، فإذا لم تُسلموا دللناَ عليه بما سنذكره في مسائل الخلاف من هذا الكتاب إن شاء الله (¬1). على أنه إن لم يكن حجة عندهم، ففيه حجة، وهو قولُ الإمام المعصوم عندهم، فوجب الأخذ بِه. فصل في الثاني منَ الرَّد: وهو رد أهلِ الظاهرِ لإِجماع غير الصحابة (¬2). فالجوابُ: أن ذلك أصل لنا، وندل عليه بما يأتي في مسائل الخلافِ إن شاء الله (1). ¬

_ = أصول الفقه": 349 و"إرشاد الفحول": 132 و"أصول السرخسي" 1/ 295 و"فواتح الرحموت" 2/ 211. قلتُ: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" 2/ 213: وروي- أي إنكار الإجماع -عن الإمام أحمد- رضى الله عنه-، وحُمِل على الوَرعَ، أو على غير عالمٍ بالخلافِ، أو على تعذرِ معرفة الكُل، أو على العام الَنطقي، أو على بُعْدِه، أو على غيرِ الصحابة لحصرهم وانتشار غيرِهم. وانظر "المسوَّدة": 315 - 316. (¬1) في الجزء الأخير في الكتاب الصفحة 101 وما بعدها. (¬2) انظر: "النبذة الكافية في أحكام أصول الدين" لابن حَزْم: 18 و"مراتب الإجماع له": 11 و"المستصفى" 1/ 189 و"الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم.

الثاني: المطالبة بتصحيح الإجماع

فصل في الثالث من وجوه الرَّد: رَدُ أهل الظاهر لما ظهر فيه قولُ بعضِهم وسكت الباقون، فإنَّ عندهم أن ذلك ليس بحجة (¬1). فالجواب أن يقال: إن ذلك حجةٌ، فإن لم يُسَلِّموا نقلنا الكلام إليه لما سيأتي في الخلاف إن شاء الله (¬2). فصل الاعتراض الثاني بعد قبول الإجماع المطالبة بتصحيحِ الِإجماع، وذلك: مثل أن يستدل الحنبلي أو الشافعي في تغليظ الدية بالحرم بأن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم غلظوا بالحرم. فيقول الحنفي: هذا قولُ نَفَرٍ من الصحابة وليس بإجماع (¬3). فالجواب: أن يُبَينَ ظهورَ الِإجماع بأن يقول: شأنُ القتلِ مما يشيع وينتشر ويُتَحَدثُ به وُينْقَلُ القضاء فيه لا سيما في قضية عثمان رضي الله عنه، فإنه قضى في امرأة قتلت في زحام الطواف بتغليظ الدِّية والطواف يَحضُرهُ الناس من الأفاق، ولم يخالفه أحد، فالظاهر أنَّه إجماع. ¬

_ (¬1) انظر "النبذة الكافية": 22، و"المستصفى"1/ 191. (¬2) في الجزء الأخير من الكتاب الصفحة 190. (¬3) انظر "بداية المجتهد" 4/ 279.

الثالث: نقل الخلاف عن بعضهم

فصل والاعتراض الثالث أن ينقل الخلاف عن بعضهم، مثل: أن يستدل الحنفيُّ في توريثِ المبتوتة بأن عثمان رضي، الله عنه ورَّث تُماضرَ بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف بعدما بت طلاقها. فيقول الشافعيُّ: روي عن ابن الزبير أنه خالف، فقال: ورثَ عثمانُ تماضر، أما أنا فلا أرى توريث المبتوتة (¬1). فالجواب: أن يتكلم على قولِ ابن الزبير بما يسقطه، فيسلم له الإجماع. فصل الاعتر اض الرابع أن يتكلم عليه بما يتكلم على متن السُّنة وقد بينَاه. فصول الاعتراض على قول الواحد من الصحابة اعلم أن الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أحدها: الرد، وأنَّهُ ليس بحجة، فيدل المستدلُّ به على ذلك ¬

_ (¬1) انظر "إيثار الإنصاف": 179، و"السنن الصغرى" 3/ 126 و "الموطأ": 448.

الثاني: أن يعارض قول الصحابي بنص كتاب أو سنة

الأصل، وأنه حُجة بما يأتي ذكره في مسائل الخلاف إن شاء الله (¬1). والثاني: أن يعارض قول الصحابي بنص كتاب أو سنةٍ. فجواب المعارضة: الكلامُ عليهما بما يتكلم على الكتاب والسنة المستدل بهما ابتداءً بما بينا. فصل الاعتراض الثالث: أن ينقلَ الخلافَ عن غيرِهِ من الصحابةِ، فتصيرَ المسألةُ خلافاً بين الصحابةِ، فيقفَ دليلُه. والجوابُ عن ذلك: أن يتكلمَ على ما ذَكَر من قَوْلِ غيرِهِ بما يُسْقِطُهُ، إمَّا بتأويل يجمعُ به بين القَوْلينِ، أو ترجيح لقولِ من استدل به، فيسلم له قَوْلُ من استدل بقولِه من الصحابةِ. والترجيحُ: ان يذكر أنَ المُستدِل بقولهِ كان أعرفَ وأقْرَبَ إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -، أوْ أخص به، أو بكوْنهِ من الخُلفاءِ. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَتي وسُنةِ الخُلفاءِ الراشدين من بَعدِي" (¬2)، أو يكون استدلالهُ بقَوْلِ الأخصِّ منهم كأبي بكر وعمرَ، فيقول: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاقتداءِ بهما، فقال: "اقتدوا باللذَيْنِ مِن بعدي: أبي بكرٍ وعمر" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الجزء الأخير من الكتاب الصفحة 199. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة 280 من الجزء الأول. (¬3) أخرجه الترمذي (3663) وأحمد 5/ 399 وابن ماجه (97) وابن حبان (6902) من طريق حذيفة بن اليمان.

* فصول في الاعتراضات على فحوى الخطاب

فصول الكلام على فحوى الخطاب (¬1) اعلم أن الاعتراضَ عليه من وجوه: أحدّها: المطالبة بتصحيحِ المعنى الذي يقتضي تأكيدَ الفَرْعِ على الأصل، وذلك مِثْل: أن يقولَ الشافعيُّ في إيجاب الكفَارةِ في قَتْلِ العَمْدِ: إنَما وجبتِ الكفَارة لتغطيةِ المأثَمِ أو رَفْعِهِ؛ فإذا وجبت في قَتْلِ الخطأ ولا إثْمَ فيه، فافي العَمْدِ أولى (¬2). فيقول الحنفيُّ أو الحنبليُّ (¬3): لا أسلمُ أنَ الكفارةَ وُضِعَتْ لِرَفْعِ المأثَم، وما ذكَرْتَة مِن قَتْلِ الخطأ، فهو الدالُّ على خلافِ ما ادعَيْتَ؛ لأنَ قَتْلَ الخطأ لا مأثَمَ فيه، فكيف تستدل على أنها وضِعَت لِرَفْعِ المأْثَم؛ والأَصْلُ [الذي] به نَبَّهتَ ما وَجَبتْ فيه لمأْثَمٍ، على أَنَّها لو وَجَبَتْ فيما لم يتمحَّضْ مَأْثَمةً مُطبقةً لنوعِ تكفيرٍ أو تطهير، فمن أين لنا أنها تُقاومُ جُرماً كبيراً ومأْثماً مَحْضاً؛ ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 2/ 189 و"إحكام الفصول": 439 و"شرح تنقيح الفصول": 54. (¬2) انظر: "الأم" 6/ 9 و"شرح النووي على مسلم" 11/ 177 و"نَيْل الأوطار" 7/ 7. (¬3) انظر "إيثار الإِنصاف": 405 و"تفسير القرطبي" 5/ 331.

الثاني: أن يقول بموجب التأكيد

فيقولُ الشافعيُّ: الدلالةُ على أنها وُضِعَت لذلك تَسْمِيَتُها بكفارة، وقولُه صلى الله عليه وسلم في عِتْقِ الرقبةِ في عمْدِ الخطأ: "أعتقوا عنه رَقَبَةً، يَعْتِقِ الله بكل عُضْوٍ منها عضْواً منه من النارِ" (¬1) وإذا لُحِظَ وَضعها وأنها مُتَتَبعٌ بإيجابِها مواضعَ الجرائم والهُتوكِ، فلا تتعدّى قَتْلًا، أو هَتْكَ صيام أو إحرام، أو قَتْلَ صَيْدٍ، أو ارتكابَ محظورٍ في الحج، أو هَتْكَ حُرْمةِ اسمٍ أقسِمَ به، عُلِمَ بذلك أنها وُضعت مُكَفِّرة للذنوب، وشذَّ قَتْلُ الخطأ من بين هذه الجرائمِ فوجَبَتْ فيه، لأنه صورةُ جريمةٍ، لأنه قَتلُ نَفْسٍ بغَيْرِ حقٍّ، وغالبُ الحالِ فيه: أنه لا يخلو من تَفْريطٍ في الاحتياطِ والتأمُّلِ، وإن لم يكن، فهو نادر من الجِنْسِ، فألْحِقَ بالغالبِ كما أُلحِقَ المتودع (¬2) في سَفَرهِ في استباحةِ الرخص بالغالب من المسافرين في أرباب المشاقِّ، وكالآيسةِ في العِدةِ والطِّفلَةِ ألحقاَ بمَنْ يُتَصَوَرُ في حقَهن شَغْلُ الرحِمِ بإيجابِ العِدَّةِ والاستبراءِ. فصل في الاعتراض الثاني أن يقولَ بموجب التأكيدِ، مِثْلَ أن يقولَ: لما كان القَتْلُ العَمْدُ آكدَ، غُلِّظَ فيه بإيجابِ القَوَدِ. فيقول الشافعي: القَوَدُ لحَق الآدميَ، ولذلك يسقطُ بعَفْوِهِ، ويؤخَذُ فيه المالُ بصُلْحِهِ، وينحط عن رُتبةِ العقوبةِ بذلك إلى رُتبةِ المُعاوضةِ وأحكامِ الأموالِ، وذلك لا يقضي حق الله سبحانه من القَتْلِ، كما ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 3/ 490، 491، وأبو داود (3964) من حديث واثلة بن الأسقع. (¬2) أي: المسافر في دَعَةٍ دون مشقة.

الثالث: الإبطال

لم يَقْضِ في شِبْهِ العَمْدِ والقَتْلِ في الحَرَم تَغْليظ الدِّيةِ عن إيجاب الكفارةِ، فكما لم يَنُب إيجابُ القيمةِ من الصَيدِ المملوكِ عن الجزاءِ، ولا وجوبُ المَهْرِ في الوطْءِ بشُبْهةٍ في نهارِ رمضان عن كفَّارةِ الصوْم، بل حق اللهِ تعالى إذا تغاير لم يسقُط بالتغليظِ بغيرِهِ، كإيجاب الحَدِّ على الزاني في نهارِ رمضان لا يُسقط عنه كفارة الصيام، فأوْلىَ أن لا يُسقطَ تغليظُ حق الآدميِّ هُنا حقَّ الله تعالى. فصل والاعتراضُ الثالث: الإِبْطالُ، وهو أن يُبْطِلَ هذا بالردَةِ، فإنَّها أعظمُ في المأثم من قَتْلِ الخطأ: ثم لم تجبْ في الرِّدَةِ مع وجوبها في قَتْلِ الخطأ، فقد بأن أنَها قد تَجِبُ في الأَدْوَن ولا تَجِبُ في الأغْلَظِ. فالجوابُ للشافعيِّ أن يقول: إن الردَةَ مُحْبطَة للأعمالِ عند كافةِ العلماءِ، فكيفَ كفرُ أعمالُ الخير وهي لا تَقَعُ معها إلَّا مُنْحَبِطَةً، ولأنَّه ليس من جنسِ الردَّةِ من الكُفْرِ ما يوجبُ تكفيراً، والقَتْلُ فيه ما يُوجبُ، وهو الخطأ، وعَمْدُ الخطأ، فنبَّه إيجابُها في أدْوَنهِ على إيجابِها في أعلاهُ، على أنَ الردِّ ةَ قد أوجَبَت لله تعالى قَتْلَ المرتد، فما خلا من عقوبةٍ عظمى لأجْلِ جريمتِهِ العُظْمى. فصل في الاعتراضِ الرابع وهو أن يُطالبَهُ بِحُكْمِ التأكيدَ، وذلك مِثْلَ أَن يقولَ الحنفي أَو الحنبلي لأَحدِ مَذْهَبَيهِ في إزالةِ النجاسةِ بالخَل: إنه إذا جازَ بالماءِ فبالخل

الخامس: أن يجعل التأكيد حجة عليه

أجْوَزُ لحِدتِهِ وقَلْعِهِ للآثار، فيقول الشافعيُّ: فالأوْلى يُوجبُ أن يكونَ مَذْهبُك في الإِزالةِ بالخلِّ أولى من الماء؛ لأنه أبلغُ، وعندك الماءُ أفضَلُ، فلا يطابقُ مذهبُك دليلك! فيقول الحنفيُ: إنَّما كان الماءُ أَولى؛ لأَن فيه نصّاً مُتَأوّلًا، فتعلَّقت الفَضيلةُ به لأَجل ذلك (¬1). فصل في الاعتراضِ الخامس أن يجعلَ التأكيدَ حُجة عليه، وهو مثل استدلال الحنبليّ أو الشافعيِّ في اللواط بأَئه إذا وجبَ الحدُّ بالوَطْءِ في القُبُل مع كوْنِهِ مما يُستباحُ بَعْقدٍ وَبملكٍ، فلأن يجبَ في اللواطِ وهو ممّا لايُستباح بَعْقدِ نكاحٍ ولاملْكِ يمينٍ أولى (¬2). فيقول الحنفيُّ: هذا هو الحُجةُ؛ لأنَّ اللواطَ لما كان أغْلَظَ في التحريمِ لم يُجْعَلِ الحد مُطَهِّراً له، ولا مُطيقاً لتكفيرِهِ لتَغَلظِهِ. فيقول الشافعيُّ أو الحنبليُّ: ليس وَضْعُ الشرْع على ما ذكَرْتَ، بدليلِ أَنَّ العقوباتِ تتغلَّظ بتَغَلظِ الجرائمِ، فقُطِعَ بسرقةِ اَلمالِ، ثم ضوعفَتْ بقطعِ الرِّجْلِ مع اليَدِ بأخذِ المالِ والسعْيِ في الأرْضِ بالفسادِ في ¬

_ (¬1) انظر في هذه المسألة: "الاختيار لتعليل المختار"1/ 35 و"إيثار الإنصاف": 46 و"الكافي" 1/ 28 و "السنن الصغرى" 1/ 80. (¬2) قارن "بالكافي" 4/ 85 و"زاد المعاد" 5/ 40 و" ملتقى الأبحر"1/ 334 و"إيثار الِإنصاف": 209 و"نَيْل الأوطار" 7/ 116 و" المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" 2/ 317.

السادس: أن يقابل التأكيد بما يسقطه

حقِّ قاطع الطريق، وتغلظ القَتْلُ فيه بالانحتامِ، وتغلظ حد الثيب على حد الأبكارِ، ولأنَّه لو كان هذا صحيحاً لَما وَجَبَ به التعزيرُ رأساً، بل كان لا يُعاقَبُ باللواطِ حداً ولا تعْزيراً. فصل في الاعتراض السادس أن يُقابلَ التأكيدَ بما يُسْقِطُه: وهو أن يقول: إن كان اللواطُ آكدَ في التحريمِ، إلّا أن الفساد في وَطْءِ النساءِ أعظمُ؛ لأنَه يُفْضي إلى خَلْطِ الأنسابِ وإفسادِ الفراشِ، فهو بالحد أوْلى. فيقال: الفسادُ في اللواطِ أشد؛ لأنه يقطعُ النسْلَ بوَضْعِ النطَفِ في غيرِ محل الحَرْثِ، وقد أشار الله سبحانه إِلى ذلك فقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} [العنكبوت: 29]، والمراد به سبيلُ النَسْلِ، والله اعلم (¬1). فصول الكلام على دليلِ الخطابِ وهو جارٍ مَجْرى الخطاب في أكثرِ الاعتراضات، إلا أن الذي يكثُرُ فيه وجوهٌ أحدُها: الرد مثْلَ أن يستدلَّ الشافعيُّ أو الحنبليُّ في تَبَع الثمرةِ للنخْلِ المَبيعِ قَبْلَ التأبيرِ بما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ باع نَخْلًا بعد أن تُؤبرَ، فثمرتُهَا للبائعِ إلا أن يشرطَها المبتاع (¬2) " فدلَّ على ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" 13/ 341 و"معاني القرآن" للفراء2/ 316. (¬2) أخرجه البخاري (2204) و (2716) ومسلم "بشرح النووي" 10/ 433 =

الثاني: أن يعارضه بنطق أو بفحوى النطق أو بالقياس

أنَّه إن باع قَبْلَ أن يُؤبرَ فثمرتُها للمشتري. فيقول الحنفيُّ: هذا استدلال بدليلِ الخطابِ، وعندنا أنَّ ذلك ليس بحُجَّةٍ. والجوابُ للشافعيِّ أن يقولَ: هو عندنا حُجَّة، فإِن لم يُسَلِّم، يُقْلَبِ الكلامُ إليه. فصل والثاني: أنَّ يقولَ: هذا احتجاجٌ بنَفْسِ الخطاب، فإِنه قال: مَنْ باعَ، و"مَنْ" حرث من حروفِ الشرطِ، فدل على أنَ التأبيرَ شَرْط في كَوْنِ الثمرةِ للبائع، وعندهم أنَّ ذلك ليس بشَرْطٍ. فصل والثالثُ: انَ ذِكْرَ الصفةِ في الحُكْمِ تعليل؛ ألا تَرى أنه إِذا قال: اقطعوا السارقَ، كان معناه: لسرقته، وحُدُّوا الزاني، معناه: لزناه، فكذلك لمّا قال: "من باع نَخْلاً بعد أَن تُؤبَّرَ، فثمرتها للبائعِ"، وجب أن يكونَ معناه: لكونها مؤبرةً، وعندهم أنَّ ذلك ليس بعلَّةٍ. فصل الاعتراض الثاني أنَّ يُعارضَه بُنْطقٍ او فَحْوى النطْقِ، وهو التنبيهُ، أو بالقياسِ. ¬

_ =والترمذي (1244) وابن ماجه (2211) من حديث عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-. وانظر "الفقيه والمتفقه" 1/ 212. و"التمهيد" للكلوذاني 2/ 189 "وشرح مختصر الروضة" 2/ 764.

الثالث: التأويل

والجوابُ: أن يتكلَّم على هذه المعارضاتِ بما يُسْقِطُها، فيبقى الدليلُ. فصل والاعتراضُ الثالث: أن يتكلَّمَ عليها بالتأويلِ؛ وهو أن يُبَينَ فائدةَ التخصيصِ بأن يقولَ: إِنَّما خَصَّ هذه الحالَ بالذكْرِ؛ لأنه مَوضعُ إِشكالٍ، مثلَ أن يستدلَّ الحنفيُّ في إِسقاطِ الكفارةِ في قتْلِ العَمْدِ بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فدكَ على أَنه إذا قتله عَمْداً لم تجبِ الكفارةُ (¬1). فيقولُ الشافعيُّ أَو الحنبليُّ لإِحدى الروايتين (¬2): إِنَّما خَصُّوا الخَطأَ بالذكْرِ لأَنه موضعُ إِشكالٍ حتى لايَظُن ظانٌّ أَنه لا يجبُ عليه الكفارةُ لكونه مُخْطئاً، أو خُصَّ بالذكْرِ؛ لأَنَ الغالبَ أَنه لايَقَعُ قَتْلُ مؤمنٍ لمؤمنٍ إِلأ على هذه الصفةِ. ومثْلُه أيضاً: أنَّ يَستدلَّ الحنفيُّ في المَنْعِ من التيمُّم في الحَضَر بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، فدلَّ على أنه إِذا لم يكن في السفرِ لم يتيمَّم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "إيثار الإنصاف" للسبط: 405 و"ملتقى الأبحر" 2/ 282 و" شرح معاني لآثار" 3/ 177. (¬2) انظر "الكافي " 4/ 52 و"الروايتين والوجهين" 2/ 298. (¬3) "الاختيار لتعليل المختار" 1/ 20 و"مختصر الطحاوي": 20 و"فتح الباري" 1/ 588.

فيقول الحنبليُّ أو الشافعي: انما خص السفر بالذكْرِ؛ لأن غالبَ تعذرِ الماءِ يكون في السفرِ، فأحمله على ذلك بدليلِ كذا وكذا. والجواب: أن يتكلم على الدليلِ بما يسْقطه، ليسلم له الدليل.

* فصول الكلام على معنى الخطاب وهو القياس

فصول الكلام على معنى الخطاب وهو القياس فصل في عدد الَأسئلةِ التي يُعترضُ بها عليه قال بعضُ الائمةِ: وُيعترضُ على القياسِ من عشرةِ اوجهٍ. وقال بعضُهم: يُعترضُ عليه بأربعةَ عَشَرَ سؤالاً: فالأوَّلُ: الاعتراضُ على وَضْعِ القياسِ. والثاني: الاعتراضُ بالممانعةِ فيه. الثالثُ: المطالبةُ بتصحيح العِلَة. الرابعُ: إِفسادُة بعَدَمِ تأثيره. الخامسُ: النَقْضُ. السادسُ: القَوْلُ بموجبه. السابعُ: القَلْبُ. الثامنُ: الكَسْرُ. التاسعُ: فسادُ الاعتبارِ.

- فصل في حدود هذه الاعتراضات والأسئلة على القياس

العاشرُ: المعارضَةُ. فالأربعة التي زيدت: منها تفصيلٌ دخل تَحْتَ إجمالِ قولِ الأولِ، والممانعة فيه. فقال مَنْ جعل الأسْئِلةَ أربعةَ عشر: ومن الأسْئلةِ: مَنعُ الحكمِ في الأصْلِ. ومَنْعُ الوصفِ في الأصلِ أو في الفَرْع، وان لا تُوجبَ العلةُ أحكامَها، وفسادُ الوَضْع غَيْرُ فسادِ الاعتبارِ، وأن يُعْتَرَضَ بعلةٍ على أصْلِها. فهذه جملةُ الأَسئلة (¬1). فصل في حدودِ هذه الاعتراضاتِ والأسْئلةِ على القياس، وأمثلتها لينكشفَ للمبتدي ويُسفر للمنتهي، وبيان ما ينبغي أن يكونَ جواباً لها. فالأوَّلُ: الاعتراض على وَضْعِ القياسِ، إِما على جملته من جهةِ نُفاةِ القياسِ؛ كأهلِ الظاهرِ والإمامية، وهو الرد والمَنْعُ من كَوْنِهِ حُجَّةً في دين الله تعالى. فالجوابُ عن هذا النوعِ من الاعتراضِ: إقامةُ الدِّلالةِ على كونهِ دليلًا من أدِلةِ الشرعِ بما نذكرُهُ في مسائلِ الخلافِ إن شاء الله. فصل والثاني: الرد له من جهةِ مثبتي القياسِ بادّعائهم أنك احَتَجْجتَ به في غيرِ موضعه؛ لأنه دليلٌ ظنيٌ، وقد استدللتَ به في محل لا يُقبَلُ فيه ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 99 و"أصول السرخسي" 2/ 118، 232، و"شرح الكوكب المنير"4/ 229 و"الفقيه والمتفقه" 1/ 214 و"الإبهاج في شرح المنهاج" 3/ 84 و"روضة الناظر" 2/ 262.

إلا الدليلُ القَطْعىُّ، وذلك قد يودُ من حنبليٍّ أو حنفى على شافعيٍّ استدلَّ على إثبات: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من الفاتحةِ وكلِّ سورةٍ بأنها مكتوبةٌ في المصاحفِ بلا نكير، مَتْلُوَّة في المحاريب بغيرِ تغيير، فهي كسائرِ الآيِ من السُّوَرِ. فللشافعيِّ أن يقولَ: إنني غيرُ مستدل بقياس، لكني مستدلٌ بدليل قطعيٍّ، وهو الإِجماعُ. وتعاطى بعضُهم فقال: إني مستدل بعلةٍ تُوجبُ العلمَ، وهى إجماعُهم على كَتْبِهِم لها في المصاحفِ، وتلاوتهم لها في المحاريب، فإذا كانت علةً تُوجبُ العِلْمَ، ثبتَ بها ما طريقُهُ العِلْمُ كالعِلَلِ العقليةِ (¬1). فيقول الحنبليُّ أو الحنفيُّ: أما الإجماعُ على الكَتْب والتلاوةِ فلا يُصَرِّحُ بالإجماع على انها آية مما يُكتبُ في ابتدائهِ أو كُتِبَتْ، بل يجوزُ أن تكون تلاوتُهم لها وكَتْبُهم إياها ابتداءً تبرك، واستفتاح باسمِ الله، كما كان يكتبُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬2) الآية [آل عمران: 64]. فأَمَّا دعوى التعليلِ بعلةٍ قطعيةٍ، فالذي ذكرْتَهُ في الأصْلِ وهو جميعُ آيِ القُرآنِ، فإن كان موجوداً في الفَرْع، فأثْبتْ به ولا تَجْعَلْهُ علةً، وإن لم يكن موجوداً في الفَرعِ، فلا يصحَ قياسُكَ، وما مَثَلُكَ في ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد"4/ 102. (¬2) أخرجه البخاري (4424) ومسلم (1773) من حديث ابن عباس. وانظر "شرح النووي على مسلم" 12/ 322.

- فصل: من الاعتراض رد القياس من مثبتي القياس في محل لا يليق القياس بإثباته

هذا إلا مَثَلُ مَنْ قال: الشعيرُ فيه الربا؛ لانه مَنْصوص على تحريم التفاضلِ فيه، فأشْبَهَ البُرَّ. فإنه قد ادَّعى اجتماعَ الشعيرِ مع البُر في النَّصِّ (¬1)، فمنعه ذلك من أَن يكونَ قائساً؛ لأنَّه إنَّما يُقاس غيرُ المنصوصِ على المنصوصِ، وفي دُخولِ الشعير مع البُر في النص على تحريمِ التفاضُلِ ما يمنعُ القياسَ وُيغني عن أخْذِ حُكْمِ أحدِهما من الآخَرِ؛ إذ ليس أخْذُ حكْمِ الشعيرِ من البُر بأولى من أخْذِ حُكْمِ البُر من الشعير مع استوائِهما في اشتمالِ النصِّ عليهما وتناوُلِهِ لهما، كذلك إذا كان الإجماعُ قد انعقد في الفَرْعِ كَتْباً وتلاوةً، وفي الأصْلِ كذلك، فلا وَجْهَ للقياسِ، فهذا مما يصَور صورةَ القِياس وليس بقياس صحيح، كما قُلنا في قياس البُر على الشعيرِ، والشعيَرِ على البُر. فصل ومن الاعتراضِ: ردُ القياسِ من مُثْبتي القياسِ في محل لا يليقُ القياسُ بإِثباتهِ، كإثباتِ الأسماءِ فيمنع أصحابُ أبي حنيفةَ من إِثباتِها به، وإثباتِ اللغةِ في الجملةِ، وذلك مثل تَسْمِيَتنا النبيذَ خَمرْاً؛ لُمخامرتِه العَقْلَ وتغطيته له وفِعْلِهِ كفِعْلِ الخَمْرِ، وعساهم يقولون: إن الأسماءَ واللغاتِ مفروعٌ منها، وذلك إِما بالإلهام والتعليم من الله ¬

_ (¬1) يريدُ حديث عبادة بن الصامت: (إني سمعتُ رسول - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بَيْع الذهب بالذهب، والفضًةِ بالفضةِ، والبر بالبُر، والشعيرِ بالشعيرِ، والتمْرِ بالتَمْرِ، والمِلْحِ بالمِلْحِ، إلْا سواء بسواءٍ، عَيْناً بَعْينٍ، فمن زاد او ازداد فقد أربى". تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: 48.

سبحانه لأدم حيث علَّمه أَسماءَ الأَشياءِ، والأعمالُ كلها داخلة فيها، أو من حيثُ إنَّ أهْلَ اللغةِ لم يتركوا شيئاً إلّا وقد وضعوا له اسماً، فلم يَبْقَ للقياسِ مساغٌ (¬1). فيُقال: إِن الإشباعَ في هذا يأتي في مسائلِ الخلافِ أنَّ شاء الله (¬2)، لكنا لا نُحِب أنَّ نُخْليَ هذه الشبهةَ من جواب، وذلك أنَّ الله سبحانه قد ألْهَمَ آدمَ وعلمه، وكما قال سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وأنزلَ في آخرِ أمرِ النبى صلى الله عليه وسلم وزمانه قولَه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، ثم إِن الحوادثَ التي تجدَّدَتْ فى أعصارِنا بَعْدَهُ عَصْرَاً بعد عَصْرٍ، ولم يَنزل فيها قُرآن، ولا وَرَدَ فيها سُنة مِثْلَ الخُنْثى المُشْكِل، والغَرْقى، والهَدْمى، وميراث المُعْتَقٍ بَعْضُهُ، والنهبى، ومسألة الجد مع الأخوة وما شاكل ذلك كلَّها من دينِ الله، لكن عَنى بتَتِمَّةِ الدين: ما كان بَعْضُ أدلَتةِ نَصاً، وبعضُها استنباطاً، وما خلا كتابُ الله وسُنةُ رسولةِ من أدلةِ الأحكامِ الحادثةِ بما وَفقَ القائسين له من الاستنباطات والِإلحاقاتِ، وأخذِهم للمسكوتِ من المنطوقِ، كذلك علم آدم الأسماءَ بَعْضَها نُطْقاً وبَعْضَها إلْهاماً، وبَعْضَها بأن وَهَبَ له القُوَّةَ لاستنباطِ الاسمِ لما لم يُسَم مما سُمَّيَ بطريقِ المُشاكلةِ والمشابهةِ. ¬

_ (¬1) انظر "المستصفى" 2/ 331 و"شرح تنقيح الفصول": 412 و"الإحكام" للآمدي 3/ 210 و "أصول السرخسي" 2/ 156. وانظر في مسألة أصل اللغة: "المُزهر" للسيوطي 1/ 20 - 28. (¬2) انظر الصفحة 397 من هذا الجزء.

- فصل: رد أصحاب أبي حنيفة للقياس في الحدود والكفارات

وأيْضاً، مثال لِإثباتِ اللّغاتِ أيضاً، فمِثْلُ قياسِنا لَفْظَةَ السَّراحِ والفِراقِ على صيغةِ الطلاقِ، فيقال: هذا إِثباتُ لغةٍ بالقياسِ ولا يجوزُ ذلك. فيكون الجواب الدلالةَ على ذلك الأصْلِ بما سنذكرة في مسائل الخلافِ إِن شاءَ الله (¬1). فصل ومن الاعتراضِ بردِّ القياسِ أيضاً من جهةِ القائلين به في الجُملةِ ردُّ أصحاب أبي حنيفةَ للقياسِ في الحدودِ والكفَّاراتِ والمقدَّراتِ في الجُملةِ، وَاعتلالُهم في ذلك بأَنَّ طريقَ ذلك العِلْمُ بمقاديرِ مراتبِ الإجْرام، ولا يُعْلَمْ ذلك بالأماراتِ، على (¬2) شافعيٍّ أو حنبليٍّ قاسَ اللِّواطَ عَلى الزنا في ايجاب الحدِّ (¬3)، وقولهم: إنَّه لا طريقَ إِلى معرفةِ ذلك؛ لأنَّه إِنَّما يُعلمُ بالَعِلْمِ بمقْدارِ الجُرْمِ وما يستحق عليه من العقوبةِ، ولا يعلمُ ذلك إِلّا الله سبحانه. فيقول القائسُ: يجوزُ ذلك عندنا، وإِن لم تُسَلِّمْ، دَلَلْتُ عليه. ونذكرُ ما وضعناه من الأدلَّةِ في كتابنا هذا في هذه المسألةِ في مسائل الخلافِ (1)، ونذكر مناقضاتِهم فيما قاسوا فيه من هذا القبيلِ، كقياسِهم الردَّ في قُطَّاع الطريقِ في استحقاقِ الحَدِّ على الرد في الجهادِ في ¬

_ (¬1) انظر الصفحة 403 من هذا الجزء. (¬2) على شافعي: متعلق "ردُّ أصحاب". (¬3) انظر في هذه المسألةِ: "نَيْل الأَوطار" 7/ 117 و"الكافي" لابن قدامة 4/ 85 و"عون المعبود" 12/ 153. و"عارضة الأحوذي" 6/ 240.

- فصل: رد القياس من جهة مثبتي القياس

استحقاق السهْم، وقياسِهم الأكلَ على الوَطْءِ في شَهْرِ رمضان في ايجابِ كفَارةِ الصَوْم. فصل ومن الاعتراض: ردُّ القياس من جهةِ مثبتي القياس، كردهم (¬1) القياسَ في إِثباتِ حَيْضِ الحامل بالقياسِ، وهو أنه دَم رأتهُ في وَقتِهِ على صفتهِ ونَعْتِهِ فكان حَيْضاً كاَلدم الذي تراه غير الحامِل. فيقولُ الحنبلي أو الحنفيُّ: هذا امر طريقُهُ الوجودُ فلا يثبتُ بالقياسِ، وما ذلك إلّا بمثابةِ مَنْ قال: هذا شَخْص أسمر طويلٌ. فكان ولداً لزيدٍ كابنهِ فُلانٍ وكان مُشابهاً له في الصورةِ. فالجواب: إِنه لا يمتنعُ أن يجعلَ صاحبُ الشريعةِ أمارَةً هي عَلَم على كوْنِ الدمِ حَيْضاً، ودِلالةً على كَوْنِ الدمِ له حُكْمُ دَم الحيضِ كما أنَه جعل وُجودَ سنين معلومٍ وقَدْرٍ معلومٍ ولَوْنٍ معلومِ، مِثْلَ أنَّ نقولَ: إِذا رأتْ بنتُ عشر سنينَ دماً فهو حَيْض، ومِثْل مَا قال في الصفة: "دَمُ الحيض أَسْوَدُ يُعرفُ " (¬2)، ومثل ما قال في العَدَدِ: "تحيضي في عِلْمِ الله ستاً اوسَبْعاً كما تحيضُ النساءُ ويَطْهُرْنَ لميقاتِ حَيْضِهِنَ ¬

_ (¬1) في الأصل: ردهم. (¬2) يُريدُ قولَه - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حُبَيْش وكانت تُستحاضُ: "إذا كان دمُ الحيضِ فإنه دم أسودُ يُعرَفُ، فإِذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الأخَرُ فتوضئي وصلي". أخرجه أبو داود (304) والنسائي 1/ 123 و 183 - 184. وانظر "الكافي" لابن، قدامة 1/ 42. و"شرح معاني الآثار" 1/ 103.

وطُهْرِهِن" (¬1). فصل ومن جُملةِ رَد القائسين للقياس: اعتراضُ أصحاب أبي حنيفةَ على مَنْ أثبتَ البدلَ بالقياسِ، كإثْباتِ البدلِ لدم الإَحصارِ بأنه هَدْي متَعلِّق بالإحرامِ، فأشْبَهَ هَدْيَ التمتعِ. وقَوْلِهم: إن البَدَلَ ما سَد مَسَد المُبْدَلِ، وذلك لا يعلمُهُ الأ مَنْ يعلمُ مقدارَهما من الأصلح. والجوابُ: إِنه يثبت بالقياسِ عندنا، ويدلى عليه بما سنذكره في مسائلِ الخلافِ (¬2) إنْ شاءَ الله، ثم يُناقَضون بما أثبتوه من الإِبدالِ بالقياسِ كوَضْعِهم. فصل ومن الاعتراضِ برد القياسِ من القائلين به: ردُ اصحاب ابي حنيفةَ للقياسِ في إثباتِ المُقدرات مثل قولِ الشافعي في حد البَلوغ: السنَةُ السابعةَ عَشْرَةَ يُحكم فيها ببلوغِ الجاريةِ، فحُكم فيها ببلوغِ الغُلام في الثامنة عشرة. فيقولُ الحنفيُّ: هذا إثباتُ تقدير بالقياسِ، والتقديرُ لا يُعرَفُ له ¬

_ (¬1) أحرجه الترمذي (128) من حديث حمنة بنت جحش. وقال: حديث حسن صحيح. (¬2) في الجزء الأخير من الكتاب.

معنى فيُقاسُ به، وإنما بالتوقيفِ (¬1). فالجوابُ أن يُقالَ: عندنا يجوزُ إثباتُه بالقياسِ، وإن لم تُسَلم، دلَلْتُ عليه. ويُناقَضون بتقديرهم خَرْقَ الخُفِّ بثلاثِ أصابع بالقياسِ على المَسْحِ حيث قال الراوي: كان مَسْحُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خطوطاً بالأصابع (¬2)، وقَدروا العَدَد في الجمعةِ بأربعةٍ بالقياسِ (¬3). فصل ومن الاعتراضِ بالردِّ له أيضاً: رد اصحابِ أبي حنيفةَ له إذا زادَ في نَص القرآنِ، مثل قياسِ الحنبليُّ أو الشافعيِّ في إيجاب النيةِ في الوضوء على التيمُّمِ، فيقول: هذا قياسٌ يتضمن الزيادةَ في نَص القُرآن (¬4)؛ لأن القرآنَ نص علي غَسْل الأعضاءِ المخصوصةِ، وهذا القياسُ يزيدُ فيها ايجابَ النيةِ، والزيادةُ في نَص القرآنِ نَسْخٌ له، ولا يجوزُ نَسْخُهُ بالقياس. فالجوابُ: أن ذلك ليس بنسْخ، ويدلُّ عليه إذا منعوا، بما نذكرهُ من الأدلةِ على ذلك الأصل في مسائلِ الخلافِ (¬5)، ويُناقَضون بزياداتِهم في النصوصِ بالأقيسةِ، من ذلك قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] فزادوا فيه اعتبارَ الفَقْرِ، فقالوا: إنَّ كانوا فقراءَ، بدليلِ القياسِ (¬6). ¬

_ (¬1) "شرح مختصر الروضة" 3/ 553. (¬2) انظر "الاختيار لتعليل المختار" 1/ 24 و"الإحكام" للباجي: 547. (¬3) انظر "المغني" 3/ 204. (¬4) انظر "التمهيد" 4/ 105 و"أصول السرخسي"2/ 283. (¬5) انظر 4/ 241. (¬6) التمهيد 41/ 105.

فصل ومما اعترضوا به من رَدِّ القياسِ مع قولهم بالقياسِ في رَد الجُمَلِ، وذلك مثل قياسِنا وأصحاب الشافعيِّ في إجازةِ المساقاةِ وإثباتِها على المضاربةِ، فيقول الحنفىُّ: المساقاةُ أصل من الأصولِ، وجُمْلةٌ من الجملِ، وليس في قوةِ الرأيِ إثباتُ جُمْلَةٍ به، كما لا يجوز اثباتُ صلاةٍ سادسةٍ بالقياسِ (¬1). والجواب: أنَّ عندنا يجوزُ ذلك كما يجوزُ إِثباتُ التفصيل، وان لم يُسَلم ذلك، دلَلْنا عليه بما سيأتي في مسائلِ الخلافِ إن شاءَ الله (¬2). فصل ومن الاعتراضِ برد القياسِ أيضاً: مُخالفةُ دليل هو أقوى من القياسِ، مثل أن يقول: هذا قياس يخالفُ دليلاً مَقْطوعاً، مثل نَص قرآنٍ او سُنَّةٍ متواترةٍ او الاجماع، فيُجيبُ المعللُ عنه بأن يُبَينَ أنَّ ما اعتقده نَصاً مقطوعاً به ليس على ما اعتقده، وإنما هو ظاهِرٌ يُحتمل أو عُمومٌ، فيصرفه عن ظاهرِهِ وعُمومهِ بالقِياسِ، ولا جوابَ عنه إلا هذا، فإنه متى ثبتَ أنَ ذلك نَص أو دليلُ قَطْع في الجملةِ، سقط حكْمُ القياسِ، فلم يكن له مساغٌ في إثباتِ الحكْمِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "الإحكام" للباجي: 549. (¬2) انظر 4/ 240. (¬3) "التمهيد"4/ 156.

فصل ومن الاعتراض بردِّ القياس من مُثْبتي القِياسِ قولهم: إِنه يُقابلُهُ قولُ الصحابى ويُخالفُه، فلا يُعْتَد بقياس يُخالفُه قَوْلُ الصحابي. فيقول الشافعيُّ: دَعْ تَقابُلَهُ، وهل هو إلا قَوْلُ مجتهدٍ يُصيبُ تارةً ويُخطىءُ أخرى، والقياسُ دليل من أدلّة الشرعِ، وينقل الكلام إلى ذلك الأصل، وإن أمكنه أن يُوافِقَ بين قَوْلِ الصحابيِّ وبينه بنوع بيانٍ، أو يتأوّلَ قَوْلَ الصحابي بما يُخرجه عن مخالفةِ القياسِ فعل (¬1). فصل ومن الاعتراضِ برد القياسِ من القائلين به في الأصلِ، ردُّ أصحاب أبي حنيفةَ القياسَ إِذا تضمَّن تخصيصَ العموم ابتداءً، أعني العمومَ الذي لم يُخَصَّ، وذلك مثل استدلالِ الشافعيِّ على أنَّه لا تنقضي عِدَةُ امرأةِ الصغيرِ بوَضْعِ حَمْلِها بعد موتِه، بأَنه حَمْلٌ مُنْتَفٍ عنه قَطْعاً ويقيناً فأشْبَهَ الولدَ الذي ولَدَتْة لِدُونِ ستَّةِ أشْهُرٍ منذ تزوجها (¬2). فيقول الحنفيُّ: هذا تخصيصٌ مبتدأ لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، بالقياسِ، وعندي لا يجوزُ. فيقول الشافعي: هذا عندي جائز؛ لانَ المعنى الذي جازَ به تخصيصُ العمومِ الذي قد خُصَّ بالقياسِ إنما هو لان القياسَ يتناولُ ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد"4/ 106. (¬2) "التمهيد"4/ 106، وانظر "مختصر المزني": 218.

الحُكْمَ بصريحِهِ، والعمومُ يتناولُ الحكْمَ بظاهرهِ، وهذا موجودٌ في العمومِ المبتدأ. ويمكن أيضاً أن يُبَينَ أن اللفظَ مخصوصٌ في الحَمْلِ الذي قِسْنا عليه والحَمْلِ الحادثِ بعد الموتِ، فلم يكن القياسُ الذي ذكَرْناه مُبْتَدأً به التخصيصُ، إذ قد بان تخصيصه فيما ذكَرْنا من الموضعَيْن. فصل ومن هذا القبيلِ: رد مَنْ لا يرى تَخْصيصَ العموم بالقياسِ رأساً إذا قابله العمومُ. فيقول المستدلُّ: يجوز ذلك؛ لأن القياسَ دليلٌ شرعيٌّ خاص فى الحُكْمِ مصرحٌ به فخُصَّ به العمومُ كخبرِ الواحدِ (¬1). فصل ومن ذلك: أن يُعْتَرضَ على الأصلِ بأنَه لا يجوزُ القياسُ عليه، مثل استدلالِ الحنفيِّ على جوازِ صوم شهرِ رمضان بنيَّةٍ من النهارِ (¬2) بالقياسِ على صَوْم يومِ عاشوراء، فيَقول المُعترضُ: إن صَوْمَ يوم عاشوراء إنْ كان واجَباً فقد نُسِخ، فلا يجوزُ القياسُ عليه. فيقول المستدل: إنَّما نُسِخَ وُجوبُه دون إجزائه بنيّهٍ من النهارِ، والأَولى ¬

_ (¬1) انظر"شرح الكوكب المنير" 3/ 379 و"أصول السرخسي" 1/ 141 و"فواتح الرحموت" 1/ 357. (¬2) انظر "ملتقى الأبحر" 1/ 197 و"الاختيار لتعليل المختار" 1/ 126 و"رحمة الأُمة" 194 و"إيثار الإنصاف": 77 و"التمهيد" 4/ 108

أنْ يقال ما ذكرْته أنا في النظرِ. خاطراً، وهو: أنَّ صَوْمَ يومِ عاشوراء أول ما شُرِعَ بالنقلِ الصحيحِ،- حيث دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ فوجدهم يصومونه، فسألهم في أثناء النهار عن صومهم له فقالوا: هذا يومٌ نجى الله فيه موسى، وساقوا فضائِلَه فقال: "أَنا أَحق بأخي موسى"، أو قال: "بصِيامهِ" ثم صامَ ذلك اليَوْمَ وأمر بصيامه (¬1)، فلا يخلوا أن يكونَ فَعَلَ ذلك إيجاباً بوحْيٍ نزل بإيجابهِ فقد حَصَلَ الوجوبُ بالوحْي (¬2) حيث أشْعِرَ بحالهِ في أثناءِ اليَومِ، فما تأخرت النية عن حالِ الوجوبِ، وما هذا سبيلُه كذا تكونُ نيَّتُه، كاستدارةِ أهلِ قُباء إلى الكعبة حيث سمعوا وإن كان الاستقبالُ شَرْطاً من ابتداءِ الصلاةِ المفروضةِ، لكنْ لمَا لم تُفْرَضْ على أولئك إلا في أثناءِ الصلاةِ؛ لوجودِ سَبَب الِإيجاب في أثنائِها، قُنع منهم باستقبالِها في أثناءِ الصلاةِ، فهذا علىَ أشد ما قَيل، وأنَه وَجَبَ لكن على هذه الصفة، وصَوْمُ شهرِ رمضانَ ليس من هذا القبيلِ، بل هو صَوْمٌ وُجِد سَبَبُ إيجابه قَبْلَ الشروع فيه، فكانت النيةُ فيه على حُكْمِ وَضْعِها في الواجباتِ كلَّها من الصوَم وغَيْرِهِ، وبهذا القَدْرِ انقطع القياسُ عليه. وإن سَلكْنَا مَسْلَكَ أصحابِنا، فإنهم والمحققون من أصحاب الشافعيِّ لم يُقِروا بوجوبهِ وإنما كان تطوُّعاً، والتطوعُ ما زال في شَرْعِنَا نِيتُهُ من النَّهارِ، ولقياسِهم عليه جوابٌ يخُصُّهُ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2004) و (3397) ومسلم "بشرح النووي" 8/ 250 وأبو داود (2444) من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-. (¬2) في الأصل: "والوحي": ولعل الجادَةَ ما أُثْبِتَ.

فصل ومن ذلك ردُّ القياسِ لِما ثبتَ من تَخْصيصِ أصْلِهِ بحكْمٍ يختصُّهُ، وانقطاعهِ عن الفَرْع، مِثْلَ قياسِ الحنفيُّ عَقْدَ النكاح بلَفْظِ الهِبَةِ على نكاحِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (¬1)، فيقول: نكاحٌ عُقِدَ بلَفْظ الهبةِ فكان صحيحاً، كنكاحِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فيقول الحنبليُّ أو الشافعيُّ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصاً بذلك دون أمَتهِ، فينقطع القياسُ عن أصله كما انقطع في باب عدَدِ المنكوحات. فيقول المستدلُّ: إنً حكمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمتِهِ واحَدٌ في حُكم الأصلِ إلا أنْ تَرِدَ دلالةُ التَخْصيصِ، ولا يجوزُ أن يَرِدَ هذا السؤالُ ممن يَحْتَجُّ بافعالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويجعلها كأقوالِهِ، وهل يحتجُّ بأفعالهِ إلا مَنْ يجعلُهُ مشارِكاً في التكليفِ وسائرِ أحكام الشَّرع، ولو كان مخصوصاً في أصْلِ التكليفِ لانقَطَعْنا عن الاقتداَءِ به، إَلا أن تقومَ دلالةُ اتباعهِ والاقتداءِ به في بَعْضِ أحوالهِ، فدعواها هنا تحتاجُ إلى دلالةٍ، وإلا فَنَحْنُ باقون على حُكْم الأصْلِ وهو وجوبُ المساواةِ في جميعِ أحكامه. فيحتاج المُعترِضُ أن يتكلَّف الدلالةَ على تَخْصِيصه بذلك بالآية، وهو قولُه سبحانه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} إلى قوله {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50]، فيقع الترجيحُ في تردُّدِ الهاء إلى الهِبَةِ أو إلى المرأةِ الموهوية وتخصيصه بها زَوْجةً من ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 109 و" أصول السرخسي" 1/ 179 و "إيثار الِإنصاف": 148، و"مسند" أحمد 5/ 330، و"فتح الباري" 10/ 257، و"سنن النسائي" 6/ 91.

دون سائرِ المؤمنين (¬1). فصل ومن هذا القَبيلِ وهو دَعوى تخْصيصِ الأصل بما يُقطعُ عنه الفَرْعُ أن يُقاسَ عليه: قياسُ أصحابنا، وأصحاب الشافعيِّ في بقاءِ حُكْمِ الإحرام بَعْدَ الموتِ للمُحرم مِنَّا على المُحرِمِ الذي وَقَصَتْهُ ناقتُهُ في عَصرِاَلنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى في حقه بما قَضى من النَّهْيِ عن تَخْميرِ رأسه، وتكفينهِ في ثَوْبَيْهِ، ونَهْيِهم أن يُقربوه طيباً، فيقول الحنفيُّ: ذلك المحرمُ كان مخصوصاً ببقاءِ إحرامه، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - أخبرَ أنَّه يُبْعثُ مُلَبياً (¬2)، ولا نَجدُ ذلك في المُحرم مِنَّا إذ لا يشهدُ له الصادقُ ببعْثهِ مُلَبياً، فبقيَ على الأصْلِ من سُنَّةِ بني آدم المنطوقِ بها من جهةِ الملائكةِ عن الله سبحانه حيثُ غسلوا أبانا آدمَ صلى الله عليه. فيقول المستدلُّ: بل العِلَّةُ الحالُ التي كان عليها، وهي الِإحرامُ ومَوْتة عليه، ويكون التجنُّب وإخبار النبيِّ ببَعْثِهِ مُلَبيا أو ملبِّداً بسبب مَوْتِهِ على الإِحرامِ وتَجْنيبهم له ما يتجنَبُه المُحْرم، كما قال في شهداءِ أحد: "زملوهم في كلومِهم ودمائِهم، فإنَّهم يبعثون يَوْمَ القيامةِ ¬

_ (¬1) انظر في هذه المسألة: "تفسير القرطبي" 14/ 212، و"تفسير الخازن" 3/ 474، و"الخصائص الكبرى" للسيوطي 2/ 246، و"المُحلَّى" 9/ 464. (¬2) يريدُ ما أخرجه البخاري (1266) من حديث ابن عباس قال: بينما رجلٌ واقفٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفةَ إذ وقع من راحلته فأقْصَعَتْهُ- أو قال: فأقْعَصَتْهُ- فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماءٍ وسِدْرٍ، وكفنوه في ثوبَيْن، ولا تُحنطوه ولا تُخَمَّروا رأسه، فإنَّ الله يبعثه يوم القيامة ملبيْاً". وأخرجه مسلم بشرح النووي "8/ 368 والنسائي 5/ 195، وانظر التمهيد 4/ 110.

وأوْداجُهم تَشْخُبُ دماً، اللونُ لون دمٍ، والريحُ ريح المِسْكِ" (¬1)، فكأنَّ دَفْنَهُم بآثارِ الشهادةِ أَوْجَبَ لهم ذلكَ وعمَّ شهيدٍ بعْدَهم، ولم يَجْعَلْ ذلك لهم خاصّةً، ويجعل ما أَخْبَرَ به عنهم يومَ القيامةِ خِصّيصَةً تخصُّهم، ولا فَصْلَ بين القِضَّتَيْن. ولأصحابِ أبي حنيفةَ أن يقولوا: لَفْظُ التعليلِ يُقَدَمُ على الحالِ، ونحن نُعَلِّلُ بقَوْلهِ: "فإنَّه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ مُلَبِّياً" ولَفْظ التعليلِ أحق بتعليقِ الحكمِ عليه من الحالِ، وخرج الشهداء بدلالةِ الِإجماعِ وبأنَّ الشهادةَ لا يثبتُ حُكمها إلّا بَعْدَ المَوْتِ، إذ هي حُكْمُ الموتِ على صفةٍ، وهو القَتْلُ من [أجل] إعلاءِ كلمةِ الله، والِإحرامُ عبادةٌ تختصُ الحياةَ، والله أعلم. فصل ومما يُرَدُ القياس به أن يُقالَ: إنَك قِسْتَ على أصلٍ، الخلاف فيه كالخِلافِ في الفَرْعِ، ومثالُ ذلك: أنَّ يقيسَ أصحابُ الشافعيِّ الخِنْزيرَ على الكَلْبِ في وُجوبِ العَدَدِ في الغَسْلِ من وُلوغهِ (¬2). فيقول الحنفيُّ: أَنا أُخالفُك في وُلوغِ الكلبِ، كما أُخالفُكَ في وُلوغِ الخِنزيرِ، ومن قاسَ مخْتلِفاً على مُخْتَلِفٍ، فقد ادَّعى في الأصلِ كما ادَّعى في الفَرْعِ، ولا دلالةَ على دَعْواه منهما فيما استدلَّ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 431، والنسائي 4/ 78 و 6/ 29 من حديث عبد الله ابن ثعلبة. (¬2) انظر "شرح النووي على مسلم" 3/ 176، وشرح "معاني الآثار" 1/ 21، و"فتح الباري"1/ 370، و"عون المعبود"1/ 137.

فيقول الشافعيُّ: إنَّ الكَلْبَ هو الأصْلُ من حيثُ وَرَدَ الخبرُ في غَسْلِ وُلوغهِ، فإذا صحَ الخَبرُ فيه وقد صحَّ، كان هو المنطوقَ، وغيرُهُ مسكوتاً عنه، وهذا شَرْطُ القياسِ، فلا علينا من مَنْعِكَ وتَسْليمك بعد أنَّ صحَّ الحديثُ في النُّطقِ بالعَدَادِ، ومنازعتكَ لا تُخْرِج الخَبرَ انَ يكونَ دليلاً، بل الخَبَرُ يَقْضي على مَنْعِكَ ومُنازعتِك، فأنا ادلُّ به على مَنْعِكَ. فصل وما (¬1) يغمضُ من فَسادِ القياسِ ذكرته لِتَحْذَرَ منه ومن أمثاله وتَنْهى عنه مَنْ سَلَكَهُ. وتخليصُ الفَرْعِ من الأَصْلِ فيه أَن يقيسَ على أصْلٍ ليس فيه دليلٌ يخصُّه. وإنَّما هو ومسألةُ الفَرع التي هي موضعُ الخلافِ فَرْعانِ أو أصلان، فلا يجوزُ قياسُ أحدِهما على الآخَر؛ لأنَ ليس أحدُهُما بأن يكونَ أصلاً بأوْلى من الآخَرِ، ولا كَوْنُ أحدهما فَرْعاً بأوْلى من الَآخَرِ لِتَساوي الأَصْلِ والفَرْعِ فما الذي أحْوَجَ أحدَهما إلى الَاخَرِ؟ مثالُ ذلك من الأقيسَةِ الفاسدةِ: أنَّ يُسأل شافعيٌّ عن البُقول: هل يَجْري فيها الربا؟ فيُجيبُ بإثباتِ الرِّبا، فإذا طولبَ بالدليلِ قاسَ البُقولَ على الفواكهِ، فإذا نازَعَه المخالفُ في الفواكهِ كما نازعه في البُقولِ فَزِعَ إِلى الدلالةِ على ذلك بَقْولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الطعامَ بالطعامِ إِلّا مِثْلًا بمِثل" (¬2)، أو يستدلّ بقياسِ الفواكهِ على البُرِّ إِذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "وممّا". ولعلَّ الجادة ما أَثبتناه. (¬2) أخرجه مسلم "بشرح النووي"11/ 22 من طريق مَعْمر بن عبد الله، وقال=

سُئِل عن الرِّبا في الفواكه، ويعَلِّلُ بأنَه مطعوم، فهذا مّما لا يدخلُ في الأَقْيسَةِ، لاستواءِ الأصلِ فيه والفَرْع في الدلالةِ، فلا مَزِيَّةَ لأحدِهما فيكونَ بتلك المَزِيةِ أصْلاً، ولَا يَنْحَطُّ أحدُهما عن الأخرِ فيكونَ بذلك الانحطاطِ فَرْعاً، فهو كَمَنْ أرادَ أنَّ يُوَزَعَ الأعيانَ المَنْصوصَ عليها فيجعلَ الشعيرَ مَقيساً على البُرِّ بعِلَّةِ الطعْمِ، وذلك فاسدٌ لِما ذكرْنا، كذلك هذا. والعلَةُ في الجميعِ أنَّ الدلالةَ شَمَلَتْ الشعيرَ والبُرَّ وهو النَصُّ. كذلك النص في الطعْم شَمَلَ الفاكهةَ والبُقولَ، فَتجنَبْ من الأَقْيسَةِ ما هذا سَبيلُهُ، فَمِثْلُ هَذا القياسِ مَرْدودٌ، لفسادهِ، فلذلك ذكَرْتُه في جُمَلةِ فُصول الردودِ. فصل فإِن قاسَ قائسٌ على أصلٍ مُجْمَعٍ عليه، فقال المُعترضُ: إنَ الِإجماعَ إِنَما يصدرُ عن دليلٍ. فيحتاجُ أنَّ يُبَينَ الدليلَ، فعساه يَشْتَمِلُ على الفَرْعِ كاشتمالهِ على الأصْلِ، فلا يكونُ في القياسِ فائدة، فيكون من قبيلِ القياس الأولِ، وهُو من الأقْيسةِ الرائجةِ التي يغترُّ بها مَنْ لا يَعرِفُ عُمَدَ الأقَيسَةِ وشروطَها، وهذا من الانتقادِ الذي يَغْفُلُ عنه كثيرمن الفُقهاءِ ممن لا مُعاناةَ له بهذا العِلْمِ فَضْلاً عن المُتَفقِّهةِ. فالجواب: أَنَّ دليلَ الأصلِ [لا] (¬1) يجوزُ أَن يكونَ نَصّاً، لأَنَّه لو كان نَصّاً لَما خَفِيَ عن المُجتهدين وغيرهم. لم يَبْقَ إِلّا انَه في الظاهرِ علَّةُ ¬

_ = المِزي في "التحفةِ" (11482): انفرد به مسلم وأخرجه أحمد 6/ 400، والبيهقي في "السنن الصغرى"2/ 244 من الطريق نفسِها. وانظر "مختصر المزني": 76، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 87. (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

الحُكْمِ، فإِذا اجتمعا في علَّةُ الحكْمِ فهو المُصَححُ للقياسِ. والظاهرُ أنَ الإِجماع حصل لاتفاقهما في عِلةِ الحكمِ. وقد قال إِمامٌ في الجدل والفِقْهِ في الجَواب عن هذا الإِشكالِ: إِن دليلَ الأصل إِنْ شَمَلَ الفَرع، أو وقع الإِجَماعُ فيه كما وقع في الأصْلِ، فثبت انَه يخصه، وان القياسَ، جائز عليه. فصل ومن جُملةِ هذا القبيلِ الذي يَرد به القياسَ بَعْضُ مَنْ يقول بالقياسِ: أنَّ يقولَ المُعترضُ على القياسِ للقائسِ: إِنك قد قِسْتَ على موضعِ الاستحسانِ، وموضعُ الاستحسان مَخْصوصٌ، وكل مَخْصوصٍ فلا يُقاس عليه؛ لان المَخْصوصَ مُقْتَطَعٌ، ومَنْ جَمَعَ بَيْنَ مُقْتَطَعٍ وغَيْرِهِ، رامَ إزالةَ اقتطاع الشَرْع، فكان بمثابةِ مَنْ قَطَعَ بَيْنَ ما جمع الشَرْعُ بينهما (¬1). فالجوابُ عنه أن يُقالَ: أنَّ القياسَ عندنا جائزٌ على كلِّ أصل يُوجَدُ فيه علَّةُ الحُكْمِ، ولأنَه اذا ثبتَ بالخَبَرِ أنه الحُكْمُ، صارَ أصلًا وكان القياسُ عليه أولى من القياسِ على غَيْرِهِ، وإِذا كان مَخْصوصاً عندكَ من القياس لم يَمْنَعْ ذلك كَوْنَه أصْلاً، وقد قاسَ أبو حنيفةَ جماعَ الناسي في صوم رمضان على أكْلِ الناسي (¬2)، وإن كان إسقاطُ القضاءِ عن الآكلَ ناسياً ليس يُقاسُ، لكنه استحسانٌ، وسنُشْبِعُ إِن شاءَ الله الكلامَ على ذلك في مسائلِ الخلافِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 111. (¬2) انظر "الاختيار لتعليل المختار"1/ 133 و"رحمة الأمة": 199. (¬3) في الجزء الأخير من الكتاب.

فصل ومن هذا القبيلِ أيضاً: أنَّ يقولَ المُعترضُ على القياس: إنَك جَعلتَ الاسمَ عِلَّةً، مثل قَوْلنا: كلب أَو تُرابٌ، فيقولُ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ (¬1): قد قدمْنا القولَ في جواز ذلك، وأنَّ الأسماءَ يجوزُ أن تُجعلَ عِلَلاً بالأحكام الشرعيةِ، وسندلُّ في مسائلِ الخلافِ إِن شاءَ الله على هذا الأصْلِ (¬2). فصل ومما يردُّون به القِياسَ أيْضاً اعتراضُ من اعترضَ على القياسِ بأَنَه نَفْى للاسمِ، ونَفي الاسمِ لا يجوزُ أن يُجعلَ علَّةً للحُكْمِ، مِثلَ قَولِنا وقولِ أصحاب الشافعيُّ في النورةِ والجِصِّ: ليس بترُاب، أو لا يَقَعُ عليه اسمُ التُّرابَ، فيقول الحنفي: هذا نفي اسمٍ، فلا يكونُ عِلَّةً لِنَفْي الحكمِ ولا لِإثْباتِهِ. فجوابُ المستدلِّ: أنَّ الاسمَ يُعلَّلُ به عندي لِإثباتِ الحكمِ الذي نفيته بنفي الاسم، والدَلالةُ عليه تأتي في مسائلِ الخلافِ إن شاءَ الله. فصل ومن هذا القَبيلِ في رد القياس: أن يقولَ المُعترضُ للقائس: إنَّك جَعَلْت الخلافَ علَّةً، والاختلافُ حادثٌ بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - والعِلةُ ¬

_ (¬1) انظر"التمهيد" 4/ 114. (¬2) انظر الصفحة 397 من هذا الجزء.

أمارةٌ شرعيَّةٌ تحتاجُ إلى نَصْب صاحب الشريعةِ، وذلك مثل قَوْلِ أصحاب أبي حنيفة في الكلب: إنَّه حيوَان مُختلف في إباحةِ لَحْمِهِ، فلم يَجَب العَدَدُ في وُلوغه، كالسِّباع (¬1). والجوابُ: أَنَ هذا وإن كان حادثاً، فيجوزُ أن يكونَ أمارة، كما كان الإجماعُ حادثاً، وكان دليلًا معلوماً. فإن قيل: إن الإجماعَ إنما كان دليلًا لأن صاحبَ الشريعةِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالةٍ" (¬2)، قيل: إنْ عولْتَ على هذا في هذا الأصلِ العظيمِ، لم يَثْبُتْ؛ لأن خَبرَ الواحدِ في الأصلِ طريقٌ مَظْنونٌ، والإجماعُ مقطوعٌ، فكيف يثبتُ أصلٌ مقْطوعٌ بدلالةٍ مَظْنونةٍ؟ ولا سيَّما هذا الخَبَرُ وليس بثابتٍ عند القَوْم، ولو صح لم يكُ فيه على الإِجماعِ فيما نحنُ فيه من الأحكام حُجة؛ لأنه لم يَقُلْ: أمتي لا تجتمعُ عَلى خَطأ، وإنما قال: "على ضَلالةٍ" والخطأ هُنا ليس بضَلالةٍ، لأن خَطاَ المُجتهدين في الأحكامِ ليس بضلالةٍ، بدليلِ أن ¬

_ (¬1) انظر "رحمة الأُمة": 33 - 34، و"الدر المختار" 1/ 37، و"فتح القدير" لابن الهمام 1/ 64، و"المغني"1/ 613. (¬2) أخرجه ابن ماجه (3590) من حديث أنس، والترمذي (2167) من حديث ابن عمر، وأبو داود (4253) من حديث أبي مالك الأشعري. وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوَجهِ، ونقل البوصيري في الزوائد عن العراقي أن طرق هذا الحديث كلها فيها نظر. وأخرجه أحمد 4/ 204 و 205، والبخاري (7352)، ومسلم (1716)، وابن ماجه (2314)، وأبو داود (3574) من حديث عمرو بن العاص. وأخرجه الترمذي (1326) والنسائي 8/ 224 من حديث أبي هريرة.

الضَّلالةَ إذا ثَبَتَتْ في حق الجماعةِ كانت في حق الواحدِ كذلك. ومعلومٌ أنَ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكمُ فأصابَ، فله أجْران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر"، وما فيه أجر لا يُسَمَّى من الجماعة ضلالةً. فالأشْبَهُ أن يكونَ هذا الحديثُ إنْ صحَّ، راجعاً إلى أنَ أمَّةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا تجتمعُ على عبادةِ غَيْرِ اللهِ، ولا على مُخالفةِ ما جاءَ به رسولُ الله في أصْل، بخلافِ امَّة موسى حيث عَبَدتِ العِجْلَ في حال غيْبتهِ، وعَبَدتْ عُزيراً بَعْدَ وفاته، وأمة عيسى اتَخذَتْهُ وأمَّه إلهيْنِ مع الله سبحانه، وهذه الأمةُ لا تجتمعُ على ما هو كهذه الضَلالاتِ، بل إنْ شَذَت منها طائفة مَرَقَتْ، فإنَما تَمْرُقُ وَحْدَها، والكلُّ عادلون (1) عنها، مبَدعون (¬1) لها، وغايةُ ما ينتهي إليه مُبْتَدعةُ هذه الأمةِ الابتداعُ في إثباتِ وَصْفٍ من أوصافٍ لا تَليقُ به، أو جَحْدُ وَصْفٍ يَنْبغي أن يُوصَفَ به لنوع من تأويل، أو شُبْهَةٍ بظاهرِ تنزيلٍ، وانْ عوَّلَ على الأمَّةِ، فلايثبت له شيء مما رامَ. وُيقالُ له أيضاً: فالاختلافُ أيضاً لا يكونُ عِلَّةً إلَأ أن يكونَ على كَوْنِها عِلَّةً دليل شَرْعيٌّ كغَيْرِها من العِلَلِ، ولأنَّ الاختلافَ يتضمَّنُ خِفَّةَ حُكْمِ اللَّحْمِ، وذلك معنىً موجودٌ فيه قَبْلَ الاختلافِ. وكذلك إن جَعلَ الاختلافَ علَّةً لقولهم في المُتَولدِ بين الظباءِ والغَنَم: إنَه مُتَولدٌ من حيوانٍ تجبُ فيه الزكاةُ بالاتفاقِ، فإن اعترضَ عليهَ بأن الاتفاقَ حادِث، كان الجوابُ بما مضى، وأن الاتفاقَ يدذ على تأكُدِ الزكاةِ فيه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عادلين، مبدِّعين".

فصل ومن هذا القبيل، وهو ردُّ القياس: أنَّ يقال على القياسِ: إن العِلَّةَ متأخَرَةٌ عن الحُكمِ فلا تكونُ علةً له، وهذا كما قاسَ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ الوضوء على التيممِ في إيجابِ النيَّةِ، فقال أصحابُ أبي حنيفةَ: إنَّ فَرْضَ الوضوء تَقَدَّمَ على فَرْضِ التيمُّمِ فكيف تُوجدُ للمتقدمِ في الفَرْضِ حُكْماً وشَرْطاً من المتأخرِ؟ والعِلةُ لا يجوزُ أن تتأخَّر عن معلولها (¬1). والجوابُ: أن العِلَلَ الشرعيةَ دلائلُ وأماراتٌ، ويجوزُ أن تَقَعَ الأماراتُ والدلائلُ متقدمةً على مَدْلولِها ومُتأخرةً عنه ومع شروع الحُكْمِ، حتى جازَ ذلك في الدلائلِ القطعيةِ كالمُعجزاتِ؛ فإن بَعْضَها تأخر عن النبوَّةِ، وبَعْضَها قارَنَ، وكل واحدٍ دلالةٌ على نبوَّتهِ - صلى الله عليه وسلم - المُتأخرُ والمُقارِنُ، وكذلك ما ضمَّن الله سبحانَه المُحدثاتِ من دلائلَ دلت على وُجودهِ سبحانه، وهو الأوَّلُ في الحقيقةِ. فإذا ضَمَن الله سبحانه في التيممِ المتأخرِ دلالةً تدل على وُجوبِ النيةِ في الوضوء، لم يكُ ذلك. خارِجاً عن أسلوب الأدلةِ، وانما يمتنعُ ذلك في العِلَل العقليةِ؛ لأنه لا يُتَصَوَّرُ تحركُ اَلجسْم بحركةٍ يتأخَّرُ وجودُها عن تحركِهِ، وكذلك لا يكون الجِسْمُ أسوَدَ لسوَادٍ يقومُ به في مُستقبلِ الحال متأخراً عن كَوْنِهِ أسوَدَ. ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 111 - 112، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 79.

فصل ومن ذلك أن تكونَ العِلَة التي عللَ بها تضادُّ عِلةَ الشرْع في الحكْم المعَللِ له، وذلك مِثْل أن يعلِّلَ الحنفيُّ جوازَ بَيْعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ بَأنه جِنْسٌ واحدٌ مكيل بيع بَعْضه ببَعْض على وَجْهٍ يتساويان في الكَيْلِ في حالِ العَقْدِ، فوجبَ أن يجوزَ كبَيْعِ التمْرِ بالتمْرِ (¬1)، فيقول الحنبليُّ أو الشافعيُّ: هذه عِلةٌ تُضادُّ عِلَّةَ صاحب الشريعةِ - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال لمّا سئل عن بَيْعِ الرطَب بالتمْرِ، فقال: "أينقص الرُّطَب إذا يَبسَ؟ " فقيل: نعم، فقال: "فلاَ إذاً" (¬2)، فهي فاسدة من حيث تضمنتَ اعتبارَ التساوي حالَ العَقْدِ، وإهمالَ ما يتجدد من التفاضلِ بعد العقد. والجواب للحنفي في مِثْلِ هذا: أن يتكلم على الخَبَر بطَعْن أو تأويلٍ إن أمكَنَه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد"4/ 113. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 485 من طريق زيد بن عيّاش. وأخرجه من طريق مالك: الشافعي في "الرسالة": 331 - 332. وأبو داود (3359) وابن ماجه (2264) والنسائي 7/ 268 - 269، والترمذي (1225) وقال: هذا حديث حسن صحيحٌ والعملُ على هذا عند أهلِ العِلْمِ. وهو قولُ الشافعِّي وأصحابنا. وقد أوفىَ الشيخ أحمد محمد شاكر- رحمه الله- على الغاية في الكلام على هذا الحديث في "الرسالة"، فانظر كلامه فإنه جَيد. (¬3) انظر "أصول السرخسي" 1/ 367 و"إيثار الإنصاف": 290، وممن نصر هذا الرأي ابن حَزْمٍ في "المُحلِّى" 8/ 461 - 462، وانظر "المغني" لابن قدامة =

فصل ومن ذلك: الردُّ للقياسِ بأنَّ حُكْمَ الفَرْعِ ضدَّ حُكْمِ الأصْلِ. مثالُ ذلك: إذا علَّلَ لسقوطِ القَوَدِ في القَتْلِ بالمُثَقَّلِ. فيقول الحنفي: إنَّها آلة تَقْتُلُ، فاستوى صغيرُها وكبيرُها كالمُحَدَّد. أو علَّل الشافعيُّ في وُجوب، النيةِ في الطهارةِ بأنَّها طهارةٌ فاستوى جامدُها ومائِعُها في النِّيَّةِ كإزالةِ النجاسةِ (¬1). فيقول المعترضُ مِن هؤلاءِ على هؤلاءِ ومن الآخرين على أُولئك: إنَّ هذا فاسدٌ، لأنَّه أَخَذَ حُكْمَ الشيء من ضِدِّه، لأنَّ الصغيرَ والكبيرَ في المُحَددِ يَسْتَويان في إيجابِ القَتْلِ، وهم يزيدون في الفَرْعِ تَساوي الخشبةِ الصغيرةِ والكبيرةِ والحجر الكبير والصغير في إسقاطِ القَتْلِ. ويزيدُ أَصْحابُنا وأَصحابُ الشافعي بالاستواء في إزالةِ النجاسةِ في إسقاطِ النيةِ، وفي الفَرْعِ في إيجابِ النيةِ، فلا يجوزُ قياسُ الشيء على ضِدِّه، لأن مبنى القياس على التسويةِ والتشابهِ ويبعدُ تساوي حُكْمَى المتضادَيْن. فالجوابُ أن يقول: إنَ حُكْمَي التسويةِ بين الصغيرِ والكبيرِ في الأصلِ والفَرْعِ، وهذا حكمٌ قد تساوى فيه الأصلُ والفَرْعُ، فلا علينا من تضادِّ غَيْرِهِ، فإنه ليس بحُكْم للقياسِ لكنه حُكمٌ شرعيٌّ اخرُ ليس من حُكْمِ العِلةِ في شَيْءٍ. ومِثْلُ هذا لا عِبْرَةَ به في باب الأدلةِ، ألا ترى أنك إذا قُلْتَ: إنَّ عيسى، كموسى في النبوَّةِ بدلالَةِ المعجزةِ، ¬

_ = 4/ 12، و"شرح معاني الآثار" 4/ 6. (¬1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 113 - 114، و"المهذِّب" للشيرازي 2/ 176، و"شرح معاني الآثار" 3/ 186.

ومحمد كَهُما في النبوَّةِ بدلالةِ المعجزةِ، لم يَلْزَم في التساوي في الإعجاز أن لا تتضادَّ نفسُ المعجزةِ أو تتغايَرَ، بل لو كان أحدُهما يُميتُ الأَحياءَ، مِثلَ إصعاقِ السبعين لموسى الذين بُعِثوا من بَعْدِ موتِهم، وإخراجِ يده بَيْضاءَ بَعْدَ عدم بياضِها، وكان الأخَرُ يُحيي الموتى وُيزيلُ بياضَ البَرَصِ، لم يَمْنَع ذَلك التضاد والتباعدُ والتغايرُ من اجتماعِ الكل في دلالةِ الصدقِ والرسالةِ. وكذلك اختلافُ مُعجزِ نبينا بكونه انفلق له القَمَرُ في السماءِ، ومعجز موسى فَلْقُ البحرِ في الأرْضِ، كذلك حُكْمُ علَّةُ المُعَللين ها هُنا: التسويةُ بين الصغيرِ والكبيرِ، والجامد والمائعِ دون ما وراءَ ذلك. فصل ومما ردوا به القياسَ: قولُهم: إن هذا قياسٌ لم يُصَرح بحُكمهِ، ومثال ذلك قولُ أصحابنا وأصحاب الشافعيُّ في مسألةِ القَتْلِ بالمُثَقل: إنه آلةٌ تقتلُ غالباً، فأشبَهَتِ المُحددَ (¬1) 0 أو يقول الحنفيُّ في نَفي النيةِ في الوضوءِ: بأنَها طَهارة بالماءِ أشبهَتْ إزالة النجاسةِ، فيقول المعَترضُ من كلُّ طائفةٍ على مُخالفهِ المُعَفَل بمِثْل هذا: إنّك لم تُصَرحْ بالحُكْم الذي تُثْبتُه عِلتُك، بل قَوْلُك: فأشبَهَ، أجْمَلَ (¬2) الحُكْمَ إجمالاً، فلا يُعْلَمُ من حُكْمِكَ ما تُريدُهُ، ألا ترى أنك إذا قُلْتَ: زْيدٌ أشْبَهَ عَمْراً، أو يُشْبهُ عَمْراً، لم يُعْلَمْ في ماذا يشْبِههُ. فالجواب أن نَقول: إنما أرَدْت التشبهَ في الحُكْم الذي اختلفنا فيه ودَلَلْتُ عليه، وعنه سُئِلْت، فكان ¬

_ (¬1) انظر" التمهيد" 4/ 113. (¬2) في الأصل: إجمال.

ذلك بمنزلةِ النًّطْقِ به، والأصلُ فإنَّما هو المُحَددُ. وقولي: فأشْبَهَ، قد بَينْتُ أنه عبارة عن الحُكْمِ الذي دَلَلْتُ عليه، ولو صَرحْتُ به أمْكَنني وجازَ، وصار مما شَبَّهْت به من ذِكْرِ تَشَبُّهِ زيدٍ بعمروٍ قولنا: زَيْدٌ قَتَّالٌ فأشْبَه عَمْراً، أو: زيدٌ قارِىء فأشبَهَ عَمْراً، فإنه لا ينصرفُ التشبيهُ الأ إلى القَتْل أو القراءةِ.

الاعتراض الثاني: الممانعة

فصول الممانعة وهي الاعتراضُ، والسؤال الثاني على القياسِ بَعْدَ الرد له. وحدها: تكذيبُ دَعْوى المُسْتَدِل، إمَّا في المُقَدمةِ، وهي وَصْفُهُ في الفَرْعِ، أو الوصف في الأصلِ، أو فيهما جميعاً، أو في حكم الأصلَ. فالذي يُبْدَأُ بهِ: مَنْعُ الحكْمِ في الأصلِ، فيجابُ عنه من أوْجُهٍ: أحدُها: أن يُبَيّنَ أن الروايةَ الصحيحةَ تَسْليمُ الحُكمِ في الأصْلِ، وهذا لا يجوزُ أن يكونَ من طريقِ الدلالةِ على صحةِ الروايةِ، لكن يُبَيّنُ أن المَرْوِي عن صاحبِ المَذْهبِ هو التسليمُ. ومثالُ ذلك: أنَّ يستدل الشافعيُّ على أن من أحْرَمَ بالحج تطوعاً وعليه فَرْضُهُ أنه يَنْعَقِدُ فَرْضاً، بأنه أحْرَم بالحجِّ وعليه فَرْضُهُ، فوقع عن فَرْضهِ كما لو أحرمَ بالحجِّ مُطْلَقاً (¬1). فيقول المخالفُ: لا أُسلمُ الحُكْمَ في الأَصْلِ، فإنَّ الحسنَ بنَ زيادٍ (¬2) روى عن أبي حنيفةَ أنَّه لا يقع عن فَرْضِهِ. ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 119. (¬2) من أصحابِ أبي حنيفة. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 9/ 543 =

فالجوابُ عنه: أن يبين صحة روايةِ التَسْليمِ، وأنها هي المذهبُ المعوَلُ عليه، لأن أبا الحَسَنِ الكَرْخي (¬1) ذكرها، ولم يذكر روايةَ الحسنِ بن زيادٍ، لأنه ضَمِنَ أنه لا يذكر إلا الصحيحَ، وليس أبو حنيفةَ ممن يقولُ بقَوْلَيْن، فلا بُدَّ من تقديم إحدى الروايتين عنه على الأخرى، فيجبُ تقديمُ التي عول عليها أبوَ الحسنِ الكَرْخيُّ حيث بينها فيما ضَمِنَ فيه على نَفْسهِ الصحه واثباتَ مَذْهبهِ بها. الوَجْهُ الثاني من الأجوبةِ: أن يبين الأصلَ في موضع مُسَلم. وذلك مثل: أن يستدل الشافعي في إثباتِ الترتيب في الطهارةِ بأنها عبادةٌ يُرجع إلى شَطْرِها في حالِ العُذْرِ، فوجب فيها الترتيبُ كالصلاةِ (¬2). فيقول المعترضُ: لا أسلمُ وجوبَ الترتيب في الطهارةِ، لأن عندي مَنْ تَرَكَ أرْبَعَ سَجداتٍ من أربعِ ركْعاتٍ، جازَ أن يأتيَ بهِن متوالياتٍ. فيقول المستدل: إنني جَعَتُ أصْلَ قياسي ترتيبَ الركوعِ على السجودِ وذلك مُسَلَّمٌ. والثالث: أن يدل على صِح حُكْمِ الأصلِ إذا لم يكن واحد من الطريقَيْن الأولَيْن، وذلك مثل: أن يستدل على وُجوبِ غَسْلِ الاناءِ من ¬

_ = و"تاريخ بغداد" 7/ 314 و "تاج التراجم" لابن قُطلوبغا: 150. (¬1) تقدمت ترجمته في الصفحة: 87. (¬2) انظر "التمهيد" 4/ 118.

وُلوغِ الخِنْزِيرِ بأنه حيوانٌ نَجسُ العينِ فوجب غَسْلُ الإناءِ من وُلوغهِ سبعاً كالكلبِ (¬1). فيقول المعترض: لا أُسلمُ حُكْمَ الأصلِ. فلِلْمُسْتَدِل أن يدل عليه وينقلَ الكلامَ إليه بقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلبُ في إناءِ أحدِكُم فاغسلوه سبعاً إحداهنَّ بالترابِ" (¬2). فإن. قيلَ: هذا انتقالٌ من المسؤولِ عن المسألةِ التي سُئِل عنها، وذلكَ عَجْزٌ عَن نُصْرَةِ ما بدأ بنُصْرته، فهو عَيْنُ الانقطاعِ. قيل: إنه ليس بعَجْزٍ ولا انتقالٍ ولا انقطاع، لأنَ المسؤولَ قد لا يكون له طريقٌ إلى إثباتِ الحكْمِ فيما سأله عنه إلّا من جهةِ هذا الأصلِ فبِهِ حاجة إلى القياسِ عليه. فإن قيل: فهلا استَسْلَمَهُ منه قَبْلَ استدلالهِ؟ فإنْ سلمه له، وإلا دل عليه وبنى الكلامَ عليه لئلا يحتاج إلى ما قد أوْقَعَ الإشكالَ، هل هو انقطاعٌ واتصالٌ، أو ليس كذلك؟ قيل: لا حاجةَ به إلى ذلك، لأن ذلك تطويل للكلام وعُدول عن السؤالِ إلى مَسْألةٍ أخرى، فإذا ابتدأ بالدَلالةِ على ما سُئَل عنه، ثم دَفَعَتْهُ الحاجةُ إلى الدلالةِ على ما نُوكِرَهُ ومُونِعَهُ دلَّ عليه، ولم يكن ¬

_ (¬1) انظر "المهذب" للشيرازي 1/ 48، و"نَيْل الأوطار" 1/ 33، و"المُغني" 1/ 63، و"فتح الباري" 1/ 368. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة: 148.

ذلك خُروجاً عن قانونِ الجَدَلِ ولو وَجَبَ ما ذَكَرْتُم لوجبَ إذا سُئِل عن مسألةٍ يقتضي الحالُ استدلالَه فيها بالعُمومِ أو بدليلِ الخطاب فدل بذلك، فناكره السائلُ وقال له: هذا ليس بدليلٍ عندي، أن لاَ يَشْرعَ في الدلالةِ على أن العُمومَ صيغةٌ، وأن دليلَ الخطاب حُجةٌ، بل يقالُ له: هذا انتقالٌ، وهلا بدَأتَ السائلَ لك بالاستفْصَالِ عن تَسْليمه أو مَنْعِهِ لئلّا يحتاجَ إلى هذا المُوهِمِ أنه انتقال؟ بل كان الأمْرُ فيه على ما ذَكَرْنا من المُضيِّ على سَنَنِ ما سُئِل عنه والدلالةِ عليه بما يعتقدهُ دليلاً، فإن مونع فَدَعتْهُ الحاجةُ إلى إقامةِ الدليلِ على صحةِ ما استدل به، فَعلَ ذلك، وكان سُلوكاً لقانونِ الجَدَلِ، كذلك هاهُنا ولا فَرْقَ بينهما، وهذا كلُّه لمعنى أصليٍّ، وهو أنَّ مَنْ كان معه في حُكْم الأصْلِ مِثْلُ هذا الخبرِ المشهوار المُدوَّنِ في الكُتبِ والسُّنَنِ، لا يجوز أن تَضْعُفَ نَفْسُهُ في البناءِ عليه، بحيث يستسلمُ حكْمَهُ مَنْ عَساهُ لم يَسْمَعْهُ أو لم يَعْرِفْ محلَّه من إثْباتِ الحُكْمِ. ويطولُ علينا في الجَدَلِ أن نَبتعد عن إسناداتِ الأحكل أم إلى مِثْل هذه الآثارِ لأجْل شُبَهِ المُخالفين. فصل فإن استدل أصحابُنا أو أصحابُ الشافعي في مسألة إِثباتِ الخيارِ في النكاحِ بالعيوب، بأنَ العَيْبَ، معنى يمنعُ أكْثَرَ المقصودِ أو مُعْظَمَ لمقصودِ، فأُثْبِتَ الخَيارُ كالجَب والعُنةِ، فقال المُعْتَرِضُ: لا نُسَلِّمُ أَن الجَب يُثبتُ الخيارَ، وإِنَما المثبتُ للخِيارِ عدم استقرارِ المَهْر (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 119 - 120. وانظر: "الاختيار في تعليل المختار" 3/ 115 و"رحمة الأمة": 400 و "المغني" 6/ 471.

فالجوابُ: أنَّ هذا ليس مُمانعةَ الحكمِ في الأصْلِ، لأن الحُكمَ حاصلٌ بوجودِ الجَب والعُنةِ في الزوجِ، وكَوْنُ الجَب يتضمن معنىً لأجْلِهِ تَعلق الحكمُ به لا يمنعُ تعليقَ إلحكمِ عليه. وما ذلك إلا مثلُ تعليقِ المسحِ على الخُفين، وتعليقِ الرخَصِ على السفرِ وان كان المعنى في الاثنين ما تضمنا (¬1) من المشقةِ في الخَلعِ والسفرِ. فصل فإن مُونعَ الحكمُ في الاصل، ففَسرَ (¬2) لفْظهُ بَتفسير مُسَلم لا تتناولهُ ممانعةُ المانعِ، مثلَ أن يستدل الحنفيُّ في أنَ الإجارةَ تبطل بالموتِ: بأنه عقد على مَنفعةٍ فبطلَ بالموتِ كالنكاح. فيقول الشافعيُّ أو الحنبليُّ: لا أسلمُ الحكمَ في الاصلِ؛ فإن النكاحَ لا يبطُل بالموتِ، وإنما ينقضي وينتهي بالموتِ، لأنه معقودٌ إِلى الموتِ، ولذلك استقر بالموتِ جميعُ المهرِ كما يستقر بالدخولِ. فيقول المستدل: أريدُ بقولي: فبطل بالموت: أنَّه لا يَبْقى بعد الموتِ، وهذا مُسلمٌ. فيقولُ المعترضُ: إن زوالَ الحكمِ بتمام الشيء لا يُسَمى بُطْلاناً في اللغةِ ولا في الشرع، ألا ترى أنه لا يقالُ: بَطلت الإجارةُ إذا انقضت مُدتها، ولا بطلت الكتابةُ إِذا استُوفيتْ نُجومُها (¬3)، ويقال ذلك إِذا تلِفت العينُ المسَتأجَرةُ قبل انقضاءِ المدةِ، وعَجز المُكاتَبُ قَبْلَ إيفاءِ النجومِ، وكذلك العبادات يقالُ عند تمامِها: ¬

_ (¬1) في الاصل: "تضمنها". (¬2) في الأصل: "فقس". (¬3) النجوم: الوُقوتُ المضروبة. انظر "القاموس": (نجم).

تَمت، وعند انقضائِها: فُرغَ منها، ولا يُقالُ: بَطَلتْ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أَمنِ الفَواتِ: "فَمَنْ وقَفَ مَوْقِفنا هذا من ليْلٍ أو نهارٍ، فقد تمَّ حَجه وقَضى تَفثَه" (¬1) ولم يقل: بطل حَجه. وقال: "فمَنْ تشهد من صلاتهِ فقد تمت صلاتُه" (¬2). ولم يقل: بَطلتْ. فصل فإنْ قال المُعترضُ: إنَّ حْكَمَ الأصلِ لا يتعدى إلى الفَرع، مِثْلَ قولِ الحنفي (¬3) في ضَمِّ الذهب الى الوَرِق في الزكاة: انهما مالان زكاتُهما رُبْعُ العُشْرِ، فضُم أحدُهما إلى الآخَرِ، كالصحاحِ والمكَسرة. فيقول له المخالفُ: إن الحكمَ في الأصلِ هو الضم بالأجزاءِ، وفي الفرع بالقيمةِ، فليس يتعدَّى حُكْمُ الأصلِ الى الفَرْع، فيقول المُستَدل: إِنما ألحقْتَ حُكمَ الفرع بالأصلِ في وجوب الضَم، ولا يلزمني أنَّ تستوي صفةُ الضم، ألاَ تَرى أنا نقيسُ الكفَارة على نيّةِ الزكاةَ، وانتَ تقيسُ الطهارةَ على، الصلاةِ في النيةِ وإن اختلفا. ¬

_ (¬1) جزءٌ من حديث أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي 5/ 264 من حديث عروة بن مُضَرس الطائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه من الطريق نفسها: أحمد في "المسند" 4/ 15، وابن ماجه (3016) (¬2) أخرجه أبو داود (970)، وانظر "المغني" 1/ 379، و"المحلى" 3/ 278. (¬3) في "التمهيد"4/ 122: كقولِ أصحابِنا، يعني الحنابلة. قلت: وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. انظر: "الكافي" لابن قدامة 1/ 405، و"المغني" له 3/ 8، و"الروايتين والوجهين" لأَبي يعلى 1/ 241، وانظر "المحلى" 6/ 80/ - 83، و"رحمة الأُمة": 175.

ويمكنُ المعترضُ أن يقولَ: إن الضم الموجودَ في الأصلِ هو نوعٌ غيرُ النوعِ المثبتِ في الفَرع، ويُمكنُ إثبات حُكمِ الأصلِ في الفرعِ، وإنما أثبتَ غَيرَهُ، وتخَالفُ النيةُ لأن الغَرضَ إثباتُ وجودِ القَصدِ إلى العبادةِ، وذلك موجودٌ فيهما. فصل فإن اعترضَ معترض على حُكمِ الأَصلِ: بأني لا أعرفُ مَذْهَبَ مَنْ أنصرُهُ فيه، فإنْ أمكنَ المستدلَّ أن يُبَين مذهبَ المخالفِ، وإلا دل عليه، وكذلك إن كان فيه قولان أو وجْهانِ أو روايتان، فإنْ أمكنَ المسؤولَ أن يُبينَ أن أحدَ القولَيْن رجع صاحبُ المذهب عنه، أو يُبينَ أن إحدى الروايتين مرجوعٌ عنها، أو أنها هي روايَةُ الأصلِ أو الصحيحةُ بتَعويلِ مشايخِ المذهب عليها وثِقةِ رُواتها، وكذلك في أحدِ الوجَهين إنْ تعذَّر عليه ذلك، دَل على إثبات الحكم في الأصلِ على ما تقدم (¬1). فصل فأمَّا ممانَعةُ العلَّةِ في الأصلِ، ويُسَميه بعضُهم مُمانعةَ الوصْفِ في الأصلِ، فمِثل أن يستدل أصحابُنا أو أصحابُ الشافعيِّ على وجُوب الموالاةِ في الوُضوء: بأنها عبادة يُبطلُها الحَدَثُ، فكانت الموالاةُ واجبةً فيها كالصلاةِ (¬2) فيقولُ المخالفُ: لا أسلمُ أن الصلاةَ يُبطِلُها الحدثُ، وإنما يُبطلُ ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 121 - 122. (¬2) انظر "التمهيد" 4/ 118.

الحدثُ الطهارة، وتبطُل الصلاةُ لعدمِ الطهارةِ. فيُجيبُ المُسْتدل بأن يُبين بُطلانَ الصلاةِ التي لا طهارةَ فيها بالحدثِ، وهو إذا سبقَه الحدثُ، فإنَ المخالفَ يُبطلُ طهارته ولا يُبْطلُ صلاَته، وهو قولُ الشافعيِّ وروايةٌ عن أحمدَ، فلو تعمد الحدثَ بعد سَبقِ الحدثِ بطلت صلاُته، فقد بان صحَةُ ما ذكرتُ من بُطْلان الصلاةِ بالحدثِ، وبطلت ممانعتُك، على أنه يُمكنُ القولُ ببطلانِها بالحدثِ بواسطة بُطلانِ الطهارةِ، فيقول: أردْتُ بُطْلان الصلاةِ به أنه يُبطِلُ شرطَ الصلاةِ فتبطل. والمبطِلُ على ضَرْبَين: مُبْطلٌ بلا واسطةٍ، ومبطلٌ بواسطةٍ، ألا ترى أن القاتلَ على ضَرْبَيْن: قاتل يباشِرُ النفْسَ بالقَتلِ، وقاتلٌ يمنعُ الشرطَ، فالجارحُ مباشرٌ محل الحياةِ فيُزهِقها، والمانعُ لها بالحَبْسِ شرطَ الحياة، وهو الأكلُ والشرْبُ فيُزهِقُها قاتلًا، كذلك هذان يُبطلان، فمُبطلٌ يباشِرُ الصلاةَ، ومُبطلٌ بواسطةِ إبطالِ شَرْطها. فصل ومن ذلك قَولُ أصحاب أَبى حنيفةَ في إِيجاب زكاةِ الفِطرِ عن العَبدِ الكافِر: أنَ كلَّ زكاةٍ وجبت عن العَبدِ المسلم وجبَ إخراجُها عن العبدِ الكافرِ كزكاةِ التجارةِ. فيقول المُخالِفُ: لا أسلِّمُ انها تجبُ عن العَبدِ، بل تجبُ عَن قيمتهِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 116، و"المحلِّى" 6/ 132، و"نيل الأوطار" 4/ 181 =

فيقول المُسْتدل: أدل على ذلك بأن الذي في مُلكهِ العَبْدَ دون قيمتِه، ولهذا اذا تَلِفَ العبدُ سقطَتْ. فيقول المُعترضُ: إن العَبْدَ له قيمة توجدُ بوجوده وتُعدَمُ بعدمِهِ وان لم يتعين مُلكهُ عليها؛ ألا ترى أنه يملكُ الدين وُيزكي عنه وإن لم يتعينْ مُلْكُهُ عليه. فصل ولنا نوع من الممانعات، وهي إنكارُ السائل أو المعترض في الجُملةِ علةَ الأصْل على مَذهب المُعَلِّلِ، ويوردُها قوم بَلْفظٍ، هو: أنه لا يصح الوصْفُ في الأصلِ على مذهبِك. وكيفَ ما أوردها المعترِضُ فإنها ممانعة من جملةِ ممانعاتِ الوصفِ في الأصل. ومثال ذلك: قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ: إنَّ اللعانَ فُرْقة تختص بالقَولِ، فوجبَ أن لا يتأبدَ تحريُمها، كالطلاقِ (¬1). وكذلك قولُ الحنفيِّ أيضاً في المنْع من إضافةِ الطلاقِ إِلى الشعرِ: إنَّه معنى تتعلَّقُ صحتُه بالقولِ، فلم يصح تعليقُه على الشَعر كالبَيعَ. فيقول الشافعيُّ: عندك أنَّ الطلاقَ لا يختص بالقَوْلِ، فإنَه يَقَعُ بالكنايةِ (¬2) مع النيةِ، وليست قَوْلاً. ¬

_ و"رحمة الأمة" 181. (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 117. (¬2) كذا بالنون والياء. قال العسكري في "الصناعتين": 368: في تعريف =

فإن قال المُسْتَدِلُّ: الكنايةُ قائمةٌ مَقامَ القَوْلِ ونائبةٌ عنه، قيل: لا يَمْنَعُ ذلك صحةَ المُمانعةِ، لأنها ليسَتْ بقَوْلٍ وإن نابَتْ عنه؛ ألا تَرى أنه لو قال قائل: إن الطلاقَ مُختص بالصريحِ، فنقول له: ليس كذلك لأنه يَقَعُ بالكنايةِ مع النيةِ، فيقول إن الكنايةَ نائبةٌ عن الصريح فكان مُختصاً بالصريح، لأن ما نابَ عن الصريحِ صريح [و] لم يصح كذلك قَولُهُ: الكِنايةُ نائبةٌ عن القَوْل فكان مُخْتصاً بالقَوْل، لا يكون قولاً صحيحاً. فصل وأما إنكارُ العِلةِ وممانعتُها في الأصْلِ، فمِثْل أن يقولَ أصحابُ أبي حنيفة في لِعان الأخْرَسِ: إنه معنى يَفْتَقِرُ إلى لَفْظِ الشهادةِ، فلا يصحُّ من الأخرس، كالشهادةِ بالحقوقِ. فيقول أصحابُ المشافعيِّ: لا نُسَلمُ أنه يفتقرُ إلى لَفْظِ الشهادةِ. فيحتاجُ المستدلُّ أن يُبَيِّنَ أن مَذْهَبَ، صاحب المذهب ما ذَكَرَهُ، أو يدل على ذلك (¬1). فصل فأمَّا ممانعةُ العِلةِ وانكارُها فيهما، فمثل قولِ أصحابِ أبي حنيفة ¬

_ = الكناية: هو أن يكني عن الشيء ويُعرِّض به ولا يُصَرح. وانظر "الكليات" لأبي البقاء4/ 108. ووقع في "التمهيد" 4/ 117: الكتابة بالتاء. ويريد: له وقوع الطلاق على طريقِ الكتابةِ، كأَن يكتبَ خطاباً أو رسالةً، لأَن البيان بالكتاب بمنزلةِ البيان باللسان. (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 123.

الاعتراض الثالث: المطالبة بتصحيح العلة

في المتمتّعِ إذا لم يَصُم في الحجِّ: أنَه يسقط الصوم، لأنَّه بَدَل بوَقْتٍ، فوجب أن يسقطَ بفواتِ وقْتِهِ، كالجُمعةِ. فيقول المعترضُ: لا أسلمُ أن الجُمعةَ بَدَل، ولا أسلمُ في الفَرْع أنَه مؤقَّت. فيحتاج المستدل أن يُبَينَ تَسْليمَهُ من مَذْهَبِهِ، أو يدل عليه (¬1). فصل المطالبةُ بتصحيح العِلةِ، وهو السؤالُ الثالثُ عن القياسِ. فصل واذا طولب المستدل المعللُ بتصحيحِ العِلةِ والدلالةِ عليها لَزِمَهُ ذلك، وتكون الدلالةُ عليها نُطْقاً وتَنبيهاً واستنباطاً. فالنطقُ، كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، ومثل قوله فى - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما نهيتكم عن ادخار لحومِ الأضاحي لأجْلِ الدافَّةِ، ألا فادًّخروها" (¬2). وأما الفحوى، فَمِثْلُ قولِه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ ¬

_ (¬1) "التمهيد" 4/ 124. (¬2) تقدم تخريجه في الصحفحة: 52.

يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، وفحوى هذا أن الكوافِرَ من الفتياتِ لا يجوزُ نكاحُها، وأنَّ الإيمانَ علةُ الإباحةِ. وكذلك نَهْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الكالىء بالكالىءِ (¬1)، يريدُ بَيْعَ الدَّيْنِ بالدَّيْنِ، يدلُّ على أن نَهْيَهُ لأجْلِ كونه (¬2) دَيْناً، وكذلك إذا نُقِلَ الحُكْمُ مع سَبَبهِ دل على تَعَلقِهِ به، كقولهم: سها رسول الله فسجد، وزَنا ماعزٌ فَرَجمه رسولُ الله، والظاهرُ أنه سها فسَجَدَ لأجْلِ سَهْوِهِ، وزَنا ماعز فَرَجَمَهُ لأجْلَ زناه. فصل وأمَّا الدلالةُ من جهةِ الاستنباط فمِنْ وجوهٍ: أحدُها وجودُ الحكمِ بوجودِها وارتفاعُهُ بارتفاعِها وزوالها، وذلك مثل أن يُعَللَ تحريمُ الخمرِ بأن فيه شِدَّةً مُطْرِبَةً لأنه إذا كانت عصيراً فهو حلال، وإذا حَدَثتْ فيه الشدَّةُ المطربةُ حَرُمَ، فإذا زالت الشدةُ صارَ حلالاً، وليس نسبةُ الحُكْم إلى العلَّة الآ لوجوده عند وجودِها، وزوالهِ عند زوالِها من غير أن يُشاركَها غيرها في الوجودِ والزوالِ، ولا يقنَع بالمشاركِ حتى يكونَ ممَّا يَظْهَرُ من مِثْلِهِ تأثير [في] ذلك الحُكْم وتَعَلُّقٌ به يوشكُ أن يكونَ مُشارِكاً، فنَفْيُ الصلاحيةِ عن الشريكِ كافٍ في نَفْيِ تعلقِ الحُكْمِ به. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في" السنن الكبر ى" 5/ 290، و"السنن الصغرى" 2/ 247 من حديث ابن عمر، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 57، وصححه على شرط مسلم، وانظر "غريب، الحديث" لأبي عبيد 1/ 23. (¬2) وفي الأَصل:"كونها".

وبَعْضُ أهل الجَدَلِ قال: إنْ وُجِدَ مع العِلةِ شريكَ وجَبَ أن لا يُحْكَمٍ بكونِها علةً حتى تَدُل على أن الحُكْمَ وجِدَ لأجْلِ تلك العِلةِ خاصة، وأنه زال لزوالِها خاصةً، وذلك مثل أن يَدعيَ مَنْ مَنَعَ تَعْليلَ الخَمْرِ بأن التحريمَ مَنَعَ الاسمَ، لأن العصيرَ اذا حدثَتْ فيه الشدةُ المُطْرِبَةُ سُمي خَمْراً، فإذا زالت زالَ الاسمُ، فَتَبَين أن التحريمَ يَتْبَعُ الاسمَ، فيحتاجُ الشافعي أو الحنبلي أن يُوضِّحَ أن التحريمَ تَبعَ الشِّدَّةَ دون الاسمِ، وزال بزوالِ الشدةِ دون الاسمِ، ويدلى على ذلك بأنه إذا طُبِخَ زال عنه اسمُ الخَمْرِ، والتحريمُ باقٍ لبقاءِ الشدةِ المُطْرِبَةِ. فصل ومن ذلك أن يَبْطُلَ ما سِوى العِلةِ المذكورةِ في الأصْلِ، فتصح العِلةُ المذكورةُ؛ لأن الأصْل إذا كان مُعَللًا فبَطَلتِ العِلَلُ التي يَنْتهي إليها التقسيم سوى واحدةٍ، دل على أن التي لم تبطُلْ هي عِلتُهُ. مثالُ ذلك: أن يَدعيَ أن العلَّةَ في الأعيانِ المنصوص على تحريمِ التفاضل فيها، وهي البُر والشَعيرُ والتَّمْرُ والمِلْحُ الطعْمُ (¬1)، فإذا بَطَلَ ما سوى الطُّعْمِ من الكَيْلِ والقُوتِ والطعْمِ والكَيْلِ معاً صح أن العِلةَ للطعْمِ، فإنْ كان خَصْمُهُ يذهبُ إلى أن العِلةَ الكَيْلُ فإذا أبْطَلَ عِلةَ خَصْمِهِ خاصةً ثبتت عِلتُه، وكان في مُوافقةِ خَصْمِهِ له على إبْطالِ ما سوى عِلتَيْهما غِنىً عن التكلفِ لإسقاطِ ما عداهما، لأن تعاطي الدلالةِ على مَوْضعِ الاتفاقِ قَطْع لِلْوَقْتِ وتَضييع للكلامِ. ¬

_ (¬1) انظر "رحمة الأمة": 274 و"المغني" لابن قدامة 4/ 5.

فصل ومن ذلك ما ذكره أصحابُ الشافعيُّ رحمةُ الله عليه وعليهم من شهادةِ الأصولِ، وإنما يكونُ ذلك في العلَّةِ إذا كانت حُكْماً، كقولهم: ما كان رباً في دارِ الاسلام، كان رباً في دارِ الحرْب؛ لأن الأصولَ تَشْهَدُ أن العقودَ بين المسلمين تستوي فيها الأمكنةُ منَ دارِ إسلام أو حَرْبٍ، فدلتْ التسويةُ في عامةِ العقودِ على أن إثباتَ الربا في إحْداهما رباً في الأخرى (¬1). وكذلك قولُهم في زكاةِ الخَيْلِ: مالا تجبُ الزكاةُ في ذُكورِهِ إذا انفَرَدَت لا تَجِبُ في إناثهِ؛ لأن الأصولَ التي تجبُ فيها الزكاةُ من سائرِ الحيوانِ يستوي ذكورُها وإناثُها (¬2)، فاستوى في هذا النوع المختلفِ فيه، فكانت التسويةُ في الأصولِ في هذه المسائل وأَمثالِها هي الدلالةَ التي يَفْزَعُ إليها المستدل إذا طولبَ بتصحيح عِلتهِ أو الدلالةِ عليها، والله أعلمُ. فصل فإن طولبَ مُعَللٌ بالدلالةِ على صحةِ العِلةِ، فقال: الدلالةُ على صِحَّتِها ما دلت على صحةِ القياسِ؛ لأن الشرْعَ أوجَبَ انتزاعَ العِلةِ وقد انتزعَها، لم يكن هذا الجوابُ كافياً؛ لأن كوْنَ الأصْلِ واجباً (¬3) تَعْليله انما يكون اذا كان مما يصح تعليلُهُ، وإذا جاز تَعْليلُه، لم يدل ¬

_ (¬1) انظر "المغني"4/ 30، و"المُحلى" 8/ 514. (¬2) انظر "نَيْل الأوطارِ" 4/ 136، و" المحلى"5/ 226 - 229. (¬3) في الأصل: "واجبٌ بالرفع".

ذلك على صحةِ علتهِ التي انتزَعَها إلا أنْ يبين أنه لا يُمكنُ أن يُعَللَ بغيرِ ذلك، فيكون حينئذٍ دلالةُ التقسيم، وقد ذكرناها. فصل فأمَّا اطرادُ العِلةِ في معلولاتِها وجَرْيُها، فقد اختلف الناسُ فيه، فمنهم مَنْ جَعَلَهُ دلالةً على صحتها. ولأصحابِ الشافعيِّ فيه وَجْهان: فمنْ جعله دليلاً تعلق بأن هذه العلَّةَ لو لم تكُن صحيحةٌ لكان يردها أصل من أصولِ الشريعةِ فلما لم يردَّها شيءٌ، دل ذلك على صِحتِها، وقد دل على ذلك قولهُ تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] فاستدل عليهم لصحتِهِ أنهَ من عند الله بِعدمِ الاختلافِ والمناقضةِ (¬1). وذهبَ الأكثرون إلى أنه لا يكونُ دلالةً، لأن كلُّ واضع لِمذْهب يُمكنه أن يَطْرُدَهُ لا تَبَعاً للأدلةِ ولا التأثيرِ، لكن بتركِ كلِّ قَوْلٍ يُخالفُ وضْعَهُ وبطَلب أنَّ لا ينتقضَ وَضْعُه، حقاً كان المذهبُ الذي يضعُهُ أو باطلًا. وإِذا كان الطرْدُ فِعْلَ القائسِ لأنه إذا استخْرجَ الوصْفَ من الأصْلِ، طَردَهُ في كلُّ موضع وُجِد فيه، لم يَغْلِبْ على الظن إثبات الحُكْمِ في الفَرْع، لأن الذي ينبغي أن يطردَهُ بعد ثُبوتِ كَوْنِهِ عِلَّةً في الأصلِ، فلا يكَون طَرْدُهُ دِلالةً على كَوْنهِ عِلَّةً، بل يكون كونُه علةً ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" للكلوذاني 4/ 35 و"الوصول إلى الأصول" لابن برهان 2/ 303.

أوجَبَ الحكمَ في كلُّ محل؛ ألا ترى أن القائسين أجمعوا على أنَّ العلَّةَ في الأعيانِ المنصوصِ عليها في تحريم التفاضلِ واحدةٌ، ثم اختلفوا في تلك العلَّةِ الواحدةِ، وكل واحدٍ منهم ذكر علةً اطردَتْ في الفُروع (¬1)، فمن قال: الطُّعْمُ. لم يُخْرِجْ مطعوماً عن كَوْنهِ يحرمُ فيه الربا لوجودِ اَلعلةِ فيه لا قَصْداً لطَرْدِها بل هي المُوجبةُ لذلك، حيث اجتهد فلم يُفْضِ به اجتهادُهُ إِلأ إلى أنها علَمُ الحُكْمِ شَرْعاً. وكذلك مَنْ قال: هي الكَيْلُ، طَرَدها في كلُّ مكيل مطعوماً كان أو غَيْرَهُ. وكذلك من قال: انها القوتُ. طردها في كلُّ قوتٍ. ثم اتفقوا جميعاً على واحدةٍ من العِلَلِ، هي الصحيحةُ دون الباقياتِ وإن كان الطرْدُ قد شمل الكل، فلو كان الطرْدُ عندهم دلالةً على الصحة لكانت العِلَلُ كفها عند كلُّ واحدٍ منهم صحيحةً، فلما اتفقوا على أن الطرْدَ في الكل والصحةَ مختصةٌ بواحدةٍ، بَطَلَ أن يكون الطرْدُ بإجماعِهم دلالةً على الصحةِ. فصل وقد ذكر بعضُ أهلِ العلمِ أن سلامةَ العِلةِ مما يُوجبُ فسادَها دِلالةٌ على صِحتِها، وذهب إليه بعضُ أصحابِ الشافعيُّ رحمة الله عليه قالوا: لأنها لو لم تكن علةً لم تَسْلَمْ مِنْ وجْهٍ من وجوهِ الفسادِ الذي يُعترضُ به على العِلَلِ، ويكون ذلك كافياً في إثباتها، وهذا لا يكفي؛ ¬

_ (¬1) انظر "المغني"4/ 5 - 6، و"تفسير القرطبي" 3/ 352 - 353، و"الفروق" للقَرافي 1/ 259 - 261.

فإنَّ تطرُّقَ الفسادِ قد يكونُ لِما قدَّمْنا ذِكرَهُ، وهو وضْعُ المذهب، على أَنّه لا يَقْبلُ على العِلةِ نَقْضاً، فنضع المذهبَ لِصحتِها على وجْهٍ لايقْبل المناقضةَ، وأفعالُ الإنسانِ ووضْعُهُ لا يكونُ ذلك دِلالة على صِحة مَذْهبهِ، ولذلك لو أنَّ مُدعي النبوَّةِ قنعَ في الدلالةِ على أنَّ المُنكرين لنبوَّتهِ لا يجدون ما يُكذّبُه لم يَكفِ ذلك دِلالة على صِدْقِهِ حتى يُقيمَ شاهداً بصدْقِهِ، لأن الخَصْمَ يجوزُ أنَّ يُقَصرَ، والمُكذِّبَ لهذا المُدعي يجوز أنَّ يُقَصرَ عن إيرادِ ما يُفْسِدُ قَوْلَ المتنبّىءِ ودعواهُ وعِلةَ المُعَلل، وكذلك المُدعي لسائر الحُقوقِ لا تكون الدلالةُ على صحةِ دعواه كوَنَ المُدعى عليه لا يجدُ ما يردّ دَعْواه ويكذبها، بل لا يُصَحَحُ دَعْواهُ إلأ حُجة يرتضي بها الشرع لإثباتِ دَعْواه هي غَيْرُ عجزِ المُنكرِ (¬1). فأمَّا قولُه سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] فلا يُشْبهُ ما نحن فيه؛ لأن القرآن لما تضمن الأخبارَ السالفةَ والآنِفَةَ، والغُيوبَ المنتظرةَ والدلائلَ الباهرةَ وزعم القَومُ أنه مِنْ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه ظَفِرَ بما فيه من ذلك بالمُدارَسةِ والاطلاع على السِّيَرِ، كان من جواب الله سبحانه لهم وما أبطلَ به دَعواهم أنَّ قالَ: لو كان هذا من مخلَوقٍ لَما خَلا من اختلافٍ، فكان مُضيهُ على سَنَنٍ واحدٍ، وان كلُّ ما أخبرَ به عن الماضي كان كما أخْبَرَ به، وما كان من المُستقبلِ جاءَ كَفَلَقِ الصبْحِ كَوَعْدِه بإحدى الطائفتين يَوْم بَدْرٍ، وبالفتحِ، وبغَلَبةِ الروم، وبموتِ أبي لهب على الشرك، وبإظهارِ دينهِ على الأديانِ كلها لمَ يَنْخَرمْ من ذلك شيءٌ علِمَ أنَّه لا يَقعُ ذلك بحيث لا يتطرَّقُ اليه اختلافٌ إلّا مِمَّن يطلعُ على الغُيوبِ ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 34

بعِلْم أزلي وإحاطةٍ ربانيةٍ (¬1). فإن احتجَّ مُحْتَج بكونِ الطردِ دِلالةً بأنْ قال: إني تَتَبعْت (¬2) الأصولَ فما وجَدْتُ ما يعترض عليها، فلهذا احتَجَجْتُ بها، وهذا بمنزلةِ المُحتَجِّ بالعمومِ إذا زَعمَ أنه تَتَبعَ الأصولَ فلم يجد ما يُخَصِّصُه، كانَ لهُ الاحتجاج بهِ، فجوابُ هذا المُحتج أنْ يُقالُ لهُ: دَعواكَ لذلكَ لا تُصحِّحُ دليلَكَ؛ لأنكَ تحتاجُ إلى اثبات مَا ادعيتَهُ مِنَ العِلةِ أولًا ثم دَعْواكَ أنكَ تَتبعْتَ الأصولَ، فليس تَتَبعُكَ وعَدمُ وُجْدانِك كافياً، لأنكَ قد لا تَجدُ ما يكونُ موجوداً لِغَيرك؛ إمَّا لقصورِكَ عن الطلبِ وتحقيقه، أَو لِمحبَّةِ المذهبِ وسلامته من المناقضةِ. ويجوزُ أَن لا تَجِدَ في حالٍ وتَجدَ في حالٍ أُخْرى، فلا تَجْعَلْ عدمَ وُجدانِك دليلاً، كما لا تجعلْ عدم وُجْدان ما تكذِّبُ به المتنبّىءَ والمُدعي دليلاً على صحةِ النبوةِ والدعوى، وفارقَ العُمومَ لَأنَّ في اللَّفْظِ ما يُعطي الشمولَ والاستغراق، وإِنَّما ذهبَ قَوْمٌ إلى أَنّه يَسْتَقرِىءُ الأُصولَ لئلا يكونَ فيها ما يُخَصِّصُهُ، وغايةُ ما على المستدلِّ بالعُمومِ أَن لا يعلمَ تَخْصيصَه، وعلى المُعترضِ إثباتُ تَخْصيصِه. وفي مَسأَلتِنا: على المُعلِّلِ أَن يدلَّ على كَوْنِ ما عَلَّل به عِلَّة ودليلاً، والعِلَّةُ لا تكون عِلَّةً إلاّ بدِلالةٍ على صِحتِها، فأينَ العمومُ من مسألتنا والحالُ هذه؟ ¬

_ (¬1) انظر " التمهيد"4/ 35، و"شرح الكوكب المنير"4/ 400. (¬2) في الأصل: "سمعتُ". ولعل الجادةَ ما أثبتناه. ويدل عليه ما بعده من قوله: إنكَ تَتَبعْتَ ... الخ.

الاعتراض الرابع: عدم التأثير

فصل وقد تكون الدلالةُ على صحَّةِ العِلةِ سبباً يُنقَلُ مع الحُكْم، مثْلَ قولِ أصحابنا أو الشافعية: إِن الثيبَ لا تُجَبرُ على النكاحِ لأنهاَ حرةٌ سليمةٌ موطوءةٌ في القُبُل، فلا تُجْبرُ على النكاحِ كالبالغِ، فنطالبُ بالدلالة على صحةِ العِلةِ، فنقول: الدليلُ عليه ما رُوِي أنَّ خَنْساءَ زوجَها أبوها وهي ثَيِّبٌ، فخيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فدلَّ على أنَّ لِلْوَطءِ تأثيراً في نَفْيِ الإجبارِ (¬1). فصول الاعتراض بعدم (¬2) التأثير (¬3). وهو السؤالُ الرابعُ على القياسِ. وهو: أن يُبَينَ المُعترِضُ به وجُودَ الحُكْمِ مع عَدَمِ العِلةِ، وهو ضَرْبان: أَحدُهما: عدمُ التأثيرِ في وصَفٍ إذا اسْقِطَ من العِلةِ انتقضت العِلةُ. والثانى: عدمُ التأثيرِ في وصفٍ إِذا أسْقِطَ من العِلةِ لم تَنْتَقَض ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد"4/ 128، وانظر: "صحيح البخاري" (6945)، و"سنن الترمذي" (1108)، و"سنن أبي داود" (2101)، و"سنن النسائي" 6/ 86، و"مسند أحمد" 6/ 328، و"الإصابة" 7/ 611. (¬2) في الأصل: "بعد". (¬3) انظر في هذه المسألة: "التمهيد"4/ 125 و"المسوَّدة": 421 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 547، و"شرح إلكوكب" 4/ 264 و"إرشاد الفحول": 382 و"الإبهاج" 3/ 111 و"شرح تنقيح الفصول": 401 و"فواتح الرحموت" 2/ 338.

العِلَّةُ. وقد تبيَّنَ ذلك في الأصلِ أو الفَرْعِ أو فيهما. وقد اختلفوا: هل يُؤثرُ ذلك؟ فقال قَوْمٌ: جميعُ ذلك قادحٌ في العِلةِ. وقال قومٌ: لا يشترطُ التأثيرُ في الأصلِ ولا في الفَرْع، بل يكفي أن يكونَ مؤثراً في موضعٍ من الأصول، وهو مذهبُ القاضيَ الإمام أبي الطيبِ (¬1) -رضي الله عنه. مِثالُه: قولُ أصحاب الشافعيُّ في المُرتد: يجبُ عليه قضاءُ الصلوات؛ لأنه ترك الصلاة بمعصيةِ، فأَشْبهَ السكرانَ. فيقول أصحابُنا وأصحابُ أبي حنيفة: لا تأثيرَ لهذا الوَصْفِ في الأصلِ؛ لأنَّ السكران لو لم يكن عاصياً بالسكرِ بأن كان مُكْرهاً على الشرب أو مُتداوياً به عندهم بفتوى مُفْتٍ أفتاه بالتداوي، أو دَفَعَ اللقمةَ المُخنقَة بِجرع تجرعها منه إذ لمِ يَجدْ بُقْربهِ سواه، فأسكَرَتْهُ تلك الجُرَعُ، أَو شربَها جاهلاً بأنها خَمْرٌ فأسْكرتْهُ، فإنه في هذه المسائل كلَّها لم يَعْصِ بالشُّربِ، ويقضي ما ترك من الصلواتِ حالَ السكرِ. فالجوابُ عن هذا على قَولِ مَنْ رأى التأثيرَ في أصل من الأُصولِ وموضع منها كافٍ أَن يقولَ: للمعصيةِ تأثيرٌ في القَضاءِ، وذلك إذا شَرِبَ دواءً ليزولَ عَقْلهُ فزال، لم يسقط عنه فَرْضُ الصلاةِ ولزِمَهُ القضاءُ. ¬

_ (¬1) هو أبو الطيب الطبري، من كبار فقهاء الشافعية، مات سنة (450 هـ)، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 17/ 668 و"طبقات الشافعية الكبرى" 5/ 12، وانظر قوله هذا في "لمع الشيرازي": 114.

ولو لم يَقْصدْ ذلك، أو زال عَقْلُهُ بغيرِ فِعلهِ رأساً لم يجب عليه قضاءُ الصلواتِ التي لم يؤدها حالَ زوالِ عَقلِهِ، وكان ذلك لمعنىً يعمُّ كلَّ معصيةٍ؛ وذلك أنَ العَقْلَ شَرْطُ الخِطاب، فإِذا تَسَبَّبَ لِإزالتهِ كان ذلك إِطْفاءً لنورِ الله وتعرضاً لإسقاطِ خطابهِ، فكان أهلًا أن يبقى عليه الخِطابُ تغليظاً؛ إِذْ لم يسقُط الخطابُ عمن زال عَقلُهُ لا بفِعْلهِ إلا تَخْفيفاً من الله ورحمة. واحتج مَنْ سلك هذا في بيانِ التأثيرِ، بأن التأثير دِلالة على صحةِ العلَّةِ، بحيث ما وُجِدَ دل على كونِها عِلَّةً في هذا الحكمِ وإِنْ لم يؤثَر في هذا المَوضعِ. والذي يوضحُ ذلك ويشهدُ له: أنَّ العِلةَ يجوزُ أنَّ تكونَ لازمةً في الأصلِ لا يُمكنُ انتزاعُها منه، فلا يكونُ عدمُ تأثيرِها في أصلِ العلَّةِ وفَرعِها مانعاً من كَونِها عِلَّةً. والصحيح عند أكثرِ المُحقَقين: أنَّ العِلَةَ إذا لم تؤثرْ في أصْلِها كانَتْ فاسدةً لأنَه متى لم يكن لها تأثير في الأصلِ، فليست عِلَّةً فيه، ولهذا لا يُمكنُ تعليلهُ بها، فالقائسُ، إِنَما يدعي ثُبوتَ الحُكْمِ في الفَرعِ لوجودِ علةِ الحُكْمِ في الأصلِ جاريةً على الفَرْعِ. وبيانُ ما ذكرنا أنَه لا يُمكنُ تعليلُ الأصل بها، فنقول فى السكرانِ: إنَّه وجبَ عليه القَضاءُ لأنَّ عَقلَه زال بمعصيةٍ، إذْ لا فَرْقَ فيه بين أن يكونَ بمعصيةٍ أو بغيرِ معصيةٍ، ولا يجوزُ أن يُعللَ الأصلُ بوصْفين يحتاجُ الأصلُ إلى وُجودِ أحِدهما في ثُبوتِ حُكْمهِ. وإِذا زال عَقْلهُ بغيرمعصيهٍ، وهو أن يكونَ أكْرِهَ على الشربِ، فإِن

القضاءَ يجبُ، ولا بُدَّ أنَّ يكونَ لهذا عِلة ليستْ ما ذكره، وتلك العِلةُ تَشْمَلُ المُكْرَهَ وغَيرَ المُكْرَهِ. فأمَّا قولهم: إنَ التأثير دليلٌ. فليس بجوابٍ، لأن الاعتراضَ بعدَمِ التأثيرِ نَوْعُ إِفسادٍ للعِلةِ، وليس بمُطالبة بدليلٍ على العِلةِ، ولو كان مطالبَة بالدليلِ لم يكن صحيحاً؛ لأنَه ليس يتعينُ على المُسْتَدل أنَّ يَدلَّ بدليلٍ دون دليلٍ على صحةِ العلَّةِ، ويجوزُ أن يكونَ دليلُه غَيْرَ التأثير، وكان يكفيه أن يقول: على العلَّةِ دليلٌ غيرُه، فلا معنى لهذا السؤالِ، ولأنه لو كان تأثيرُها في موضع من أصولِ كافياً في تعليقِ الحُكْمِ بها، لم يحتج إلى ذِكْرِ الأصول، فإِنَّ ذلك الموضعَ يثبت صحَتها وتعلقَ الحكمِ بها في الفَرْعِ، كما أثْبَتَهُ بذلك في الاصْلِ. فإِن قيل: في الأصل الحُكْمُ ثابتٌ والفَرْع لم يثبُتْ فيه. قيل: إذا ثَبَتَ وجودُ العِلةِ لهذا الحُكْمِ في هذا الفَرْع ثبت بذلك الحُكْمُ فيه؛ فأمَّا الأصلُ الذي لا يُمكنُ انتزاعُ العلَّةِ منهَ فلا يلزم، لأنا لا نقول: إِن زوالَ العلَّةِ والحُكْمِ شَرْطٌ، وإِنما نقول: إِنَ زوالَ العلَّةِ مع بقاءِ الحكمِ لا لعلةٍ خَلَفَتْها مُفْسِدٌ لكونِها عِلَّةً. فإن قيل: فكذا نقولُ في المَوضعِ الذي لايؤثر، مثلَ أنَّ يَحْرُمَ وطؤها بالإِحرام والصوْم، فإِذا زال أحدُهما بقي الآخَرُ، فكان التحريمُ باقياً. قيل: إِنَ كان الذَي خَلَفَ هذه العِلةَ بقي الحُكْمُ لبقائهِ يجوز أن يرتفعَ مع بقاءِ هذه العِلَّةِ، كالذي ذكَرْتموه في الصوم والإحرامِ، فلهذه العِلَةِ تأثير يُمكنُ بيانُه، وهو أن تزولَ التي خَلَفَتها ويبَقى التحريمُ متعلقاً بالعِلَّةِ، فإِذا زالت العِلَّةُ زال التحريم، وان كان ما خَلَفَ العِلَةَ

لا يصح أنَّ يزولَ مع وجودِها، فذلك هو العلَّةُ دون ما ذكرتموة، ولأنَّه إذا أمكنَ تعليل الأصلِ بعلَّتَين إحداهما أعمَ من الأخرى كانت العامة هي العِلةَ دون الخاصةِ، ولم يعللْ بهما جميعاً، بل يعلَّلُ بالعامةِ فقط. فإن قيل: أليس العلَّة المنصوص عليها لا تفسد بعدم التأثيرِ وكذلك المستنبطة؟ قيل: المنصوصُ عليها لا يلزم تأثيرها، ولذَلك لا تسْمَع دعوى المعترض عليها بعدمِ التأثير. فإن قيل: فإِذا دَلَلْتُم على صحةِ العِلةِ بغيرِ النص، وجَبَ أن يقومَ ذلك الدليل مقام النص فى المنع من الاعتراضِ عليها بعدم التأثيرِ. قيل: ليس يلزم ذلك، لأن غيرَ النص لا يزيل الاحتمالَ فيها، وعدمُ التأثيرِ يقدح في دليلِك، فلهذا سمعت دعواه، وهذا بمنزلةِ أنَّ يسقطَ القياس مع النص ويعترضَ به على العمومِ لأنَه محتَمل. فإِن قيل: إذا ثبتَ كون هذه الأوصافِ علةً في موضع من الأصولِ وجَبَ أن تكونَ عِلة حيث ما وُجِدتْ، لأن الطَرْدَ شَرْطٌ، فثبت كون هذه الأوصافِ علةً في هذا الأصل، وهو ترك الصلاةِ بمعصيةٍ. قيل: من يقول بتخصيص العِلَّةِ لا يلزمُهَ مدا السؤالُ، لأنه إِذا بأنَ أَنَ العِلةَ غير مؤثرة في هذا الأصلِ كانت العِلة مخْتصَّةً بما اثرَتْ فيه. وأَما مَنْ قال: إن العِلةَ لا يجوز تَخْصيصها [فقد] أثْبَتَة عِلَّةً في هذا الأصلِ، ولا يكون أصلًا تقاس عِلَّته به، بل هو بمنزلةِ الفَرْعِ المختلفِ فيه؛ لأن تعلقَ هذا الحكمِ بهذهِ العلَّةِ فيه ثبت بأصل آخر وهو الذي بان فيه تأثير العِلةِ، وجرى هذا الأصْلُ مَجْرى الفَرْع الذي رَدَدْتَ إليه، وقد بَينا فيما قَبْلُ أن قياسَ بعضِ الفروع علىَ بعض لا وجْهَ له، لأنَ أحدَهما ليسَ بأولى بأن يكونَ أصلاً للَآخَر.

فصل في مثالِ عدم التأثيرِ في وصفٍ إِذا أُسْقِطَ من العلَّةِ انتقضت العِلَّةُ فهو أنَّ يقولَ الشافعيُّ أو الحنبليُّ في النيةِ في الوضوء: إنه طهارة عن حَدَثٍ فافتقرت إلى النيةِ كالتيمُّمِ، فيقول الحنفيُّ: لا تأثيرَ لقولِك: طهارة؛ فإِنَ ما ليس بطهارةٍ أيضاً يفتقرُ إلى النيةِ وهو الصومُ والصلاةُ. فيقول المستدلُّ هذا ليس بقياسِ علَّةٍ ولكنه قياسُ دِلالةٍ، والتأثير إِنما به يُطلَب في قياسِ العلَّةِ، لانَ المَعللَ يدعي أنَّ الحُكْمَ ثَبَتَ لهذه العلَّةِ، ولا يُعلمُ ثبوتُ الحُكْم بالعلَّةِ إلا بالتأثيرِ، فأمَّا في قياسِ الدلالةِ فلا يَلْزَمُ، لأنَه لم يَدعِ أنَّ الحُكْمَ ثَبَتَ لهذه العلَّةِ، ولكن يدَّعي أنه دليلٌ على الحُكْمِ؛ ولهذا لزِم التأثيرُ في العِلَلِ العقليةِ. والثاني: أن يقولَ: هذه العِلًةُ منصوص عليها فلا تحتاجُ الى التأثيرِ، وذلك لأن العلَّةَ لا يلزم بأن يدَلَّ عليها بأكثرَ من دليلٍ، فإذا حصلت الدلالةُ عليها لم يلزمْ أنَّ يستدل عليها بالتأثيرِ أيضاً. مثالُ ذلك (¬1): أن يقولَ الحنبليُّ أو الشافعيُّ في رِدةِ المرأةِ: إنَه كُفْر بعد إيمانٍ فأوْجَبَ القَتْلٍ كرِدةِ الرجل، فيقول المخالفُ: لا تأثيرَ لقولك: كُفْر بعد إيمان، فإن كُفرَ الرجلِ لو كان قَبلَ الإيمانِ أوْجَبَ القَتْلَ، فيقول: الكُفْرُ بعد الإيمان منصوص عليه، قال عليه السلام: ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 129 - 130 و "المغني" 8/ 86 و"نَيْل الأَوطار" 7/ 193 و"شرح معاني الآثار" 3/ 220 و"السنن الصغرى" للبيهقي 3/ 278 و" المحلَّى" 11/ 118.

"لا يحلُّ دَمُ امرىءٍ مسلمٍ إِلاّ بإحدى ثلاثٍ: كُفْرٍ بعد إِيمان " (¬1)، والتأثيرُ يُتَوَصَّلُ به إِلى معرفةِ علَّةِ الشرعِ بنوعِ استنباطٍ، فإِذا ظفِرنا بنصِّ صاحبِ الشَّرعِ ثبتَ كَوْنُه علَّةً، فاستغنى عن تعريفِ ذلك بالاستنباطِ. والثالثُ: أَن يُبيِّنَ تأثيرها في موضعٍ من المواضعِ، وذلك مثل أَن يقول الشافعي في لبنِ الميتةِ: إنَّه نَجسٌ (2 [لأنه غير ماءٍ لاقى نجاسةً فينجس] 2) كما لو وَقَع في اللبن نجاسة. فيقول الحنفيُّ: لا تأثيرَ لقولِك غير الماءِ لاقى نجاسةً، لَأنَّ الماءَ نَفْسَهُ يتنجَّسُ أَيضاً بمُلاقاةِ النجاسةِ، وهو القليلُ. فيقول المستدل: تأثيرُهُ في القُلتَيْن، ويكفي التأثيرُ في موضعٍ واحدٍ؛ فإنه لو اعتُبرَ في كلُّ محل لكان عَكْساً، ولا يُشْتَرطُ العكْسُ في عِلَلِ الشرعِ، وإنَما يُعتبرُ في عِللِ العقلِ. فصل وأَما عدمُ التأثيرِ فيما لا تنتقضُ العلَّةُ بإسقاطِه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة: 8. (2 - 2) زيادة يقتضيها السياف، وانظر "المهذب" للشيرازي 1/ 11 و"المغني" لابن قدامة 1/ 77 و"تحفة الفقهاء" 1/ 52.

مثالُه: أن يقولَ الشافعيُّ في المتولد من بين أصلين: لا زكاةَ في أحدِهما بحال، فلم تجب فيه الزكاةُ (¬1) كما لو كانت الأمهاتُ من الظباءِ، وهذا قياسٌ على أَبي حنيفة، ولا يُسَلمُهُ أصحابُنا لهم، فيقول المُخالفُ: لا تأثيرَ لقولك: بحالٍ، فإنك لو اقتصرتَ على قولك: لا زكاةَ في أحدهما لم ينتقض بشيءٍ، فقولُك: بحال، حَشْوٌ في العِلةِ لا تحتاجُ إِليه. فيقولُ الشافعي: هذا ذكرْتُه للتأكيد، وتأكيدُ الألفاظِ لا تعدُّها العربُ حَشواً ولا لَغْواً، ولهذا جاء بها القرآن، قال سبحانه: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] فأكَد ثم أَكد، ولم يُعَدَّ ذلك لَغْواً. أو يقول: هذه الزيادةُ ذكرتُها لتأكيدِ الحُكْم، وذلك مثل أن يقولَ الشافعيُّ في القذفِ: إنَه يتعلق به رد الشهادة، لأَنه كبيرة تُوجبُ الحد، فتعلق بها ردالشهادةِ، كالزَنا. فيقول المخالفُ: قولُك: يُوجِبُ الحد حَشْو في العِلةِ لا يُحتاجُ إليه، فيقول: إن تعلقَ الحدِّ بها يدلُّ على تأكدِها، وتأكدُ العِلةِ يُوجبُ تأكدَ الحُكْمِ، وما يُوجبُ تأكيدَ الحكمِ لا يُعَدُ لَغْواً. أو يقول: إِن هذه الزيادةَ ذكرتُها للبيانِ، وذلك (¬2) مثل أن يقول الشافعيُّ في التَحرِّي في الأواني: إنه جنْس يدخُله التحرِّي إِذا كان عددُ المُباحِ أَكثر، وإِن لم يكن عددُ المباحِ أَكثَرَ، كالثيابِ. ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 136. (¬2) في الأصل: "ولذلك".

فيقول المخالفُ: لا تأثيرَ لقولِك: إذا كان عددُ المُباح أكثر، فإنَك لو قلتَ: جنس يدخُله التحري لكفاك، فقولُك: إذا كانَ عددُ المُباحِ أكثرَ، حَشْوٌ لا يُحتاجُ إليه، فهو كما لو قال: مطعومٌ مقتاتُ جِنْسٍ فيقول الشافعيُّ: هذا بيان لما تقتضيه العلةُ، وذلك أني لو قُلتُ: جِنْسٌ يدخلُه التحري لكان معناه: إذا كان عددُ المُباحِ أكثرَ، وبيانُ ما يقتضيه الكلامُ لا يُعدُّ حَشْواً، ويُخالفُ ذِكْرُ القوتِ مع الطعْمِ، لأن ذلك ليس ببيانٍ لمعنى العِلَّةِ، ألا تَرى أنَّ بذِكْرِ القوتِ يَخْرجُ (¬1) ما ليس بقوت، وهذا بيان لِمعنى، ألا ترى أنه لا يخرجُ من العلَّةِ شيءٌ فوِزانُه أن نُضيفَ إلى الطعْمِ ما هو بيان لمعناه بأن نقول: مطعومُ الآدميين في جنس، فيجوز حين كان ذلك معنى المطعوم، لأنَ إطلاقَه إليه ينصرفُ، دون طُعْمِ البهائمِ والجنِّ، وهو النجايل والأتْبانُ والحشائشُ والعظام. وجوابٌ رابع أن يقولَ: هذه الزيادةُ لتقريب الفَرْع من الأصلِ، وذلك مثل أن يقول الشافعيُّ في جلدِ الكَلْبِ: أنه لا يطَهرُ بالدباغِ (¬2)، لأنَّ ما بعد الدباغِ حالة حُكمَ فيها بطهارةِ جلْدِ الشاةِ، فوجب أن يُحكمَ فيها بنجاسةِ جِلدِ الكلب، كحالِ الحياةِ. فيقول الحنفيُّ: لا تأثير لقولِك: يُحكمُ فيها بطهارةِ جِلدِ الشاةِ، فإنك لو قُلْتَ: حالة يحكمُ فيها بنجاسةِ جلدِ الكلبِ كفى، فالزيادةُ عليه حَشْوٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "من ما". (¬2) انظر "مختصر المزني": 1، و"نيل الأَوطار" 1/ 62 و"المحلَّى"1/ 123 و"إيثار الإنصاف": 47 - 49.

فيقول الشافعيُّ: هذه الزيادةُ ذكرتُها لتقريب الفرع من الأصل، وان ما بعد الدِّباغ يجري مَجْرى حالِ الحياةِ بدليلِ أنهمَا يستويان في إيجابِ الطهارةِ، وإذا لم تؤثر الحياةُ في طهارةِ جلدِ الكَلْبِ دل على أنَّ الدِّباغَ مثلُه، وتقريبُ الفَرْعِ من الأَصلِ يزيدُ في الظَّنِّ، فلا يُعَدُّ حَشْواً. فصل ومن ذلك: إذا كان التأثيرُ على أصلِ المعللِ، نَظَرْت، فإن كان ذلك في الأصل المقيس عليه، يسقط سؤال المُعترِض له، فلا تأثيرَ لهذه العلَّةِ في الأصلِ؛ لأن المُعللَ لا يُسلمُ ذلك. مثالُ ذلك (¬1): أَن يُعلِّلَ الشافعيُّ في إنكاحِ الثَيّبِ الصغيرةِ أَنّها حُرَّةٌ سليمةٌ موطوءةٌ في القُبُلِ، فلا يجوزُ إجبارُها، كالكبيرةِ. فيقول [المعترضُ]: لا تأثير لهذه الأوصافِ في الكبيرةِ، فإنَها لا تُجْبَر وإن لم تكُنْ مَوْطوءةً في القُبُلِ. فيقول الشافعيُّ: لا أُسلمُ، فإنَ عندي تُجْبَرُ البكرُ الكبيرةُ. فإن عدل المعترِضُ عن ذلك الى المطالبةِ بالدليل على صحةِ العِلةِ، دل بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - جعل للثُيوبةِ تأثيراً فقال: "الثيبُ أحقُ بَنْفسِها، والبكرُ تُستَأذنُ فى نَفْسها" (¬2) وإن كان في غَيرِ الأصلِ لم يكن ذلك دليلًا عَلى صحةِ العلَّةِ؛ لأَن تأثيرَ العلَّةِ على أصلهِ بمنزلةِ طَرْدِها، لأنه لما جعلها عِلَّةً أجراها في معلولاتها ورَفعَ الحُكْمَ بارتفاعِها، وهذا ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 4/ 128، و"المغني" 6/ 344. (¬2) أخرجه مسلم (1421) وأبو داود (2098) والترمذي (1108) والنسائي 6/ 84 من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

مِثْل أن يدعي أن الكَيْلَ عِلة في أعيانِ الرِّبا ثم يُبَيِّن صحتَها بأن الفواكه لا رِبا فيها، لأنها ليست مكيلةً. فيقول المُعترضُ: لا أسلِّمُ ذلك الحُكْمَ، وإنما ذُهب أنَّه لا ربا في الفواكهِ لأنك جَعلتَ العلَّةَ في المنصوصِ عليها الكَيْلَ، فلا يكونُ ذلك دلالةً على صحةِ كَوْنِ الكَيْلِ عِلَّةً. فصل إذا لم يكُن للوصفِ تأثير في الأصلِ، ولا في شيءٍ من الُأصولِ لم يكُن عِلَّةً، وعلى ذلك أَكثَرُ الناسِ وجماعةُ أَصحابِ الشافعيّ، وكل من لم يَجْعَل الطردَ دليلًا على صحتِها. مثالُ ذلك: ما قاسَ بعضُ الفقهاءِ القائلين باعتبارِ العددِ في أحجارِ الاستجمارِ، أنها عبادة تتعلَّق بالأحجارِ لم تَتَقَدمْها معصيةٌ، فاعتُبرَ فيها العَدَدُ، كَرَمْي الجمارِ، فإن قولَهُ: لم تتقدمْها معصيةٌ لا تأثيرَ له في الأصلِ ولا فيَ الفَرْعِ؛ فإنَّه لا فَرْقَ في الاستجمار (¬1) بين أَن يتقدمَهُ معصيةٌ أو لا يتقدمَة حتى لو أنه أحدث في مسجدٍ فإنه قد تقدَّمه معصيةٌ، ومع ذلك يُعتبرُ فيه العددُ (¬2). وكذلك رَمْيُ الجِمارِ لو تقدمه خذف بالحصى قَلَعَ به عُيونَ الناسِ ثم رمى فإنه قد تقدمه معصيةٌ، ويعتبر فيه التكرار. فيقول المعللُ: تأثيرُهُ في الرجْمِ للمُحصَن (¬3)، فإنه لما تقدمَتْهُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاستنجاء". (¬2) انظر "التمهيد" 4/ 131، و"المغني" 1/ 127 - 129، و"المحفَى" 1/ 95، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 29. (¬3) في الأصل: "للتحصن".

معصيةٌ لم يُعْتَبَرْ فيه العَدَدُ، بل لو مات المَرْميُّ بحجرٍ واحدٍ كفى وأجْزَأ في إِقامة الحَدَ. فيُقال: ليس المُوجبُ لِنَفيِ التقدير تقدُّمَ المعصيةِ ولا علَلهُ أحدٌ بذلك، وكيف يُجْعلُ تَقَدمُ المعصيةِ علًّةً لإسقاطِ التكرارِ، والمعصيةُ أبداً تُوجبُ تأكيدِ التعذيب، فأمَّا أن تكون عِلَّةً لإِسقاطه فلا، وليس يكفي في بيانِ التأثيرِ أنَّ يُعْدَمَ، ولا الحكم في موضع، وإنَما يُعتبرُ أنَّ يزولَ الخكْم لزوالِ العِلَّةِ، وإنَما يُبَين ذلك أن يكونَ زوالُ الحُكْم مَعَلَّلًا بزوالِ تلك العِلَّةِ، مثلَ: أنَّ يزولَ تحريمُ الخمرِ ونجاستُهُ بتخَللهِ وزوالِ شدَّتهِ المُطربةِ فيه، وكذلك أنَّ كان زوال الحُكْمِ بزوالِ بعض أوصافِ العلَّةِ، فإنَّ تلك العِلَةَ مؤثرة. فصل فأمَّا الوصفُ إِذا كان يمنع من نَقْضِ العِلةِ فهل يكونُ مانعاً من نَقْضِها كافياً في التأثيرِ؟ قال بعضُ الناسِ من أهلِ الجدلِ وبعضُ أصحابِ الشافعيِّ: يكون تأثيراً. والذي عليه المُحقِّقون انَّه ليس بصحيحِ؛ لأنَّ النَّقْضَ يَمْنعُ منه اللفظُ، فقد يكون المانعُ من النًقْضِ اللفظ الذي يزيدُهُ المُعَلَلُ في العلَّةِ بوضْعِه مع كَوْنهِ لا تَعَلقَ للحُكْم به، ويسقطُ الوصفُ الذي يتعلق به الحكمُ، وهذا كما لو قال أصحابُ أبي حنيفةَ في إِزالةِ النجاسةِ بالمائعاتِ: إِن اللَّبَنَ مائع طاهر مشروب فجاز إزالة النجاسةِ به كالماءِ. كان قولهم: مشروب، يمنعُ دخولَ النقض بالدهنِ والمَرَقِ، وإن كانَ وصفاً لا تعلقَ للحكمِ به، وإِنَّما العِلًةُ أنه مَنْفى، لان مشروباً لا تأثيرَ

له لأنَّ المأكولَ والمشروبَ سواء. فصل فإن علل بعض القائلين باسقاطِ الزكاةِ عن الحُليِّ بأنه يُعد لاستعمال مُباحٍ فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ كالثياب المُعَدَةِ لِلبْسِ أو التي لا يُنْوى بها التجارةُ، فقيل له: لا تأثيرَ لقولكَ: لاستعمالٍ مُباحٍ في الأصلِ، لأنه لو أعد لنفْسِهِ الحريرَ كان مُعَداً لاستعمال محظورٍ ولا تجبُ فيه الزكاةُ (¬1). فقال: للإباحةِ تأثير في الأصول، لأن زوالَ العَقلِ إذا كان بأمْرٍ مُباحٍ، كدواءٍ شَرِبَه للتداوي تعلَّق به سقوطُ الفَرْضِ، واذا [كان] بأَمرٍ محظورٍ، مثلَ أن شَربَهُ ليزيلَ عَقْلَهُ لمِ يسقُطْ عنه الفَرضُ، فهذا جواب بعيد؛ لأن تأثيرَ العِلةِ يجبُ أن يكون في حُكْمها، إمَّا في الأصلِ في أصح المَذْهبين الذي نَصَرْناه، أو فيْ بَعْضِ الأصولِ، فأمَّا حُكْمٌ آخرُ وهو سقوطُ فَرضِ الصلاةِ فلا وجْهَ له. فصل في الوصفِ إذا جُعل تَخْصيصاً لحكمِ العلَّةِ مِثْل أن يقولَ المُسْتدل في تَخليلِ الخَمْر: بأنَّه مائع لا يطهرُ بالكَثرةِ، فلا يطهر بصَنْعةِ آدمى، كالخَل النَّجِسِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 3/ 9. (¬2) انظر "التمهيد" 4/ 133 و"شرح الكوكب المنير" 4/ 275، و"المغني" 8/ 221 و"إِيثار الِإنصاف": 375.

فقال المُعترضُ: لا تأثيرَ لقولِك: "بصنعةٍ"، في الأصل؛ لأنه لا يطهرُ بصنعِة آدمي ولا بغيرِ ذلك، فقد اختلف الناسُ في ذلك، فقال بعضُ أهل الجدلِ وبعضُ أصحاب الشافعيُّ: إِنَّ هذا ليس بسُؤالٍ صحيحٍ؛ لان التأثيرَ لا يطالبُ به في الحُكْمِ، وإِنما يُطلبُ في العِلةِ. ومنهم مَنْ يقولُ: إن الحُكْمَ إِنما هو عدمُ الطهارةِ، وتعلُّقُ ذلك بالصنْعَةِ من تمام العلَّةِ، فيجبُ بيانُ تأثيرِه، وهذا أصح؛ لأنَ تَفْصيحَ هذا: أنَ الحُكْمَ إذَا أَدْرِجَ فيه حُكْم حَسُنَ أن يُوردَ عليه ما يُورد على الأوصافِ المُخَلصةِ من الأحكامِ، وما ذلك إلّا بمثابةِ ما سمِعْناه من الخُراسانيين كثيراً، وهو قولُهم في وصْفِ العِلَّةِ: هذا عَيْنُ سؤالي، فأين دليلُك؟ أو: هذا دليلُك، فأين المسْالةُ؟ مِثالُ ذلك: قولُ المُسْتَدل على تحريم النَّبيذ: شَرابٌ فيه شدةٌ مطرِبةٌ فكان مُحرماً كالخَمْرِ (¬1). فيقول: إنَّما سألْتُكَ عن هذا الشراب الذي فيه شِدَةٌ مُطْرِبَةٌ، فأتَيْتَ بَنْفسِ ما سَألْتُكَ عن حُكْمِهِ والدلالةَ عليه، فَجَعَلْتَهُ دليلاً. فالجوابُ أنَّ يقولَ: إِنك ليس من حيثُ أتيتَ بما يَصلُحُ أن يكونَ دلالةً فأدْرجْتَهُ في سؤالِك يمنعني ذلك من تعلقي بالاستدلالِ به، لأنه لو مَنَع ذلك من الاستدلالِ لكان للسائِل أن يَمنعَ المُستدِل الاستدلالَ، فإنه يمكنهُ أن ينطقَ بكل صالح للاستدلالِ به في اثناءِ سؤالهِ، فإِذا منعه ذلك من الاستدلالِ به امتنع عليه الدليلُ وانسدَّ عليه طريقُ التعليلِ، حتى إِذا قال له: هل تحسنُ عقوبةُ المسيء؟ فيقول: ¬

_ (¬1) "المغني" 8/ 220، و"المحلّى" 7/ 508.

نعم، فيقول: ولم حَسُنَ ذلك؛ فقال: لأنه مسيء قال: هذا سؤالي، فأَين دليلُك؟ وكل ما أَبطَلَ الاستدلالَ فباطلٌ، ولم يَبقَ إِلاّ أَن التحقيقَ في ذلك: أن كلُّ وصفٍ مُدْرج في حُكْم فيتسلط عليه مايتسلطُ على المُفْرَدِ من الأسئلة غير المُدرجِ في الأحكامِ، وكل ما صلح للاعتلالِ به، والاستدلالِ إذا لم ينطقْ به السائلُ ويُدْرجُه في سؤالِه، صلح للاستدلالِ به وإن أدرجه السائلُ في السؤالِ. فصل وإذا كان في العِلَّةِ زيادةُ وصفِ تَطَّردُ العِلَّةُ دونه، مثلَ أَن يُعَلل بصحةِ الجمعةِ من غيرِ إمام بأنها صلاة مفروضة فلم تَفتَقِرْ إلى إذن الأمام، ولو قال: صلاة، فلا تفتقرُ الى إذْنِ الأمام أمكنَ ذلك واطردتَ العلةُ (¬1). فمن الناسِ مَنْ يقولُ: هذه الزيادةُ لا تضرُّ، لأنَّها تُنبهُ على أَنَ غَيْرَ الفرائضِ لا تحتاجُ إِلى الِإمامِ، فكأنَّه ذَكَرَ لَفظاً يعمُّها. وقد قيل: إن الغَرَضَ من هذا الوَصْفِ الزائدِ تَقريبُ الفَرعِ من الأصلِ بكثْرةِ ما يجتمعان فيه من الأوصافِ. ومنهم مَنْ قال: لا نحتاجُ إلى هذا الوصْفِ الزائدِ ولا ينبغي أن يدخل على العلَّةِ لأنها تَسْتَقلُّ دونهُ وليست ببيانٍ، ولا حاجَةَ بنا إلى التنبيه، واللفظُ يعم دونَه، ولا إلى تَقريب الفَرع من الأصل بزيادةٍ على علةِ الحُكْمِ. ¬

_ (¬1) انطر "التمهيد" 4/ 134، و"الكافي" لابن قدامة 1/ 330، و "المغني"

فأمَّا إذا كانت الزيادةُ للبيانِ كقولِنا في الأواني: إنَه جنسٌ يدخلُه التحري إِذا كان المباحُ أكثَرَ، فدخله إذا استويا، فإنا لو قُلْنا: يدخلُه التحري كفى، ولكن هذه الزيادةَ لبيانِ موضعِ دخولِ التحري وليست بزيادةٍ في العلَّة فكانت جائزة، فكذلك إذا كانت الزيادةُ تأكيداً جاز كقَولنا في المتولد بين الظباءِ والغَنَمِ: إِنه متولدٌ من بين جنسين لا زكاةَ في أحدِهما بحال، فإن قَولنا: لا زكاةَ في أحدهما، كافٍ في النَّفي على العموم في جميعِ الأحوالِ، فإِذا قُلْنا: بحال، كان تأكيداً لا يُفيدُ إلأ ما أَفاده اللفظُ، فلم يكن زيادةً في العلَّةِ.

الاعتراض الخامس: النقض

فصول النَّقض والنقض (¬1): وجودُ العِلَّةِ مع عدم الحكمِ على قَوْلِ مَنْ لا يرى تخصيص العِلَّةِ. وإذا كانت مُنتقضة كانت فاسدةً عند مَنْ لا يرى تَخْصيصَها. فأمَّا مَنْ يرى تَخْصيصَها فإنه يجعلها كالعموم الذي خَصه الدليلُ، ويأتي الكلامُ في ذلك مشبعاً إن شاء الله في مسائل الخلافِ (¬2). فصل والعلَّةُ على ضربَينْ: عِلَّة وُضِعَت للجنس. وعلَّة وُضِعَتْ لِلْعَيْنِ. فالموضوعةُ للجنسِ تجري مَجْرى الحَد؛ تَفْسُدُ بأن ينتقضَ طَرْدُها، أو يُحيلَ عَكْسُها، وذلك مِثْلُ أنْ نقولَ: الشركةُ هي المُوجبةُ ¬

_ (¬1) انظر "أصول السرخسي" 2/ 233، و" اللمع" للشيرازي: 114، و"شرح الكوكب المنير"4/ 281، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 500، و"إرشاد الفحول": 387. (¬2) انظر 3/ 265.

للشفْعَةِ، والعَمْدُ المَحْضُ هو المُوجبُ لِلْقَودِ، فمتى تَعَلقَتْ الشُّفْعَةُ بغير الشركةِ، أو لم تَثْبُت مع الشركةِ، بطلَتِ العِلةُ. وكذلك لو قال قائلٌ: إن المُبيحَ للدَّم الرِّدَّةُ، كان ذلك مُنْتَقَضاً؛ لأن الدمَ يُستباحُ بغيرها. وأَما إِن كانت العِلَّةُ للأَعيانِ، نَظَرْتَ، فإِن كانت للوجوبِ، فمتى وُجِدت العلَّةُ دون حُكمِها، كانت مُنْتَقَضةً، مِثل أن يقول الحنفيُّ: إِنَّ الوضوءَ طهارةٌ، فلا يفتقرُ إِلى النيةِ كإِزالةِ النجاسةِ، فيُنْقَضُ عليه بالتيمُّمِ؛ لأنه طهارةٌ ويفتقر إِلى النيةِ بإِجماعِنا. فإِنْ أنكَر المعللُ الحُكْمَ في موضعِ النقْضِ، أو أنكر وجوبَ العلَّةِ فيه إِذا كانت حكْماً، فإِن كان مسؤولاً، لم يكن للناقضِ إِثبات ذلك الحُكْمِ بالدليلِ. وإِن كان معارِضاً، فقد اختلف الناسُ في ذلك: فمن القائسين من أجاز للمسؤولِ نَقْض عِلةِ المعارضِ بأصلهِ، ووجْهُ ذلك: أنَ هذه العِلةَ التي عارَضَه بها المُعترضُ ليست حُجَّةً عند المسؤولِ لانتقاضِها على أصْله، فكان له ردُّها كما لو عارضه بدليلِ الخطابِ وهو لا يقول به، ولانً المسؤولَ قد لا يكون رد هذا القياسَ إلا بنَقْضهِ، فإِذا مُنعَ من ذلك وقف عليه الكلام. ومنهم مَنْ قال: ليس له نَقْض علَّةُ المُعترض بما يَنْفرِدُ به؛ لأنَ الموضعَ الذي يَنْقُضُ به عليه المعترضُ العِلةَ حُجةٌ للمعترضِ، كما هي حُجة في المسألةِ التي تكلَّما فيها، وذلك مثل أن يستدل الحنفيُّ في أنَ تسميةَ المهْرِ إذا كانت فاسدةً وثبتَ مَهْرُ المَثْلِ، لم يَتَنصَّف

بالطلاقِ؛ بأنَّ عَقْدَ النكاحِ خلا عَنْ تَسْميةٍ صحيحةٍ، فوجب بالطلاقِ قبل الدخولِ المُتْعَةُ، فيُعارضُه الشافعيُّ بأن هذا مَهْرٌ وجَبَ قبلَ الطلاقِ، فوجب أن يتَنصَّفْ بالطلاقِ قَبْلَ الدخول، كما لو سُميَ في العَقْدِ (¬1). فيقول الحنفيُّ: ينتقضُ ذلك على أصْلي بالمُفَوضةِ إذا فُرِضَ لها المهرُ قبل الطلاقِ. فيقول المعترضُ: هذه حُجةٌ عليك في ذلك الموضع، كما هي حُجةٌ هاهُنا، ولو جاز لك أن تُبطلَها بذلك الموضعِ، لأمْكنَكَ أن تُبطلَها بالمسألةِ التي تكلمْنا فيها، ولا بُدَّ أن يكون لك دليلٌ يمنعك من استعمالِ هذا القياسِ في هذين الموضعَيْن، فتحتاج أَن تُثْبِتَهُ؛ لتسقطَ عنك المعارَضةُ. ويُفارقُ القياسُ دليلَ الخطابِ؛ لأن دليلَ الخطاب ليس بحُجةٍ عنده، والقياسُ عنده حُجةٌ، فلا يتركُه إلا بما هو أوْلىَ منه. فأمَّا إذا قال المستدل: إني لا أعرفُ الروايةَ في المسألةِ التي أَلْزَمه إِياها المعترضُ نَقْضاً، فقد قال بعضُ أصحاب الشافعيُّ: ينبغي أن يقولَ له المعترضُ: ينبغي أن لا تحتج بهذا القياَس، لأنك تعلمُ أنه سليم من النقْضِ. ويمكنُ المسؤول أن يقولَ: هذا القياسُ حُجةٌ ما لم أعلمْ ما يُفْسدُهُ، كالتمسكِ باستِصْحابِ الحالِ، وبالقياسِ، مالم يُعْلَم هل نزل نصٌ في الحُكْمِ في عصرِ النبى - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يجوزُ ما لمْ يَسْمَعْ نُزولَ نَصٍّ، ولايُقالُ: إنه عَمِل بالشكِّ. ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد"، 4/ 159.

ولقائلٍ أن يُجيبَ عن هذا: بأن استصحابَ الحالِ تمسك واجبٌ بأصلٍ موضوع، وهاهنا لا يثبتُ أنَه قاسَ حتى يعلم سلامتَه من النقضِ. فإِنْ قال المستدلُّ: انا أَحملُ هذه المسألةَ على مُقْتضى القياسِ، وأثبتُ فيها مِثْلَ حُكْمِ علتي. قيل: هذا إثبات لمذهب صاحبك بالقياسِ، وليس لك هذا، إلاّ أن يُنْقَلَ عنه أنه عللَ هذا الَحُكْمَ بهَذه العِلةِ فيُجْريها (¬1). فصل وإذا نُقِضَتِ العِلةُ، فالجوابُ عنها من وجوه: أحدُها: أنَّ لا يُسَلَمَ للناقضِ مسألةَ النقْضِ. وذلك مثل أنَّ يقولَ الشافعيُّ في المخالفِ عند هلاكِ السلعةِ: إنَه فَسْخُ بَيْع يصح ردِّ العَيْنِ، فيصحُّ مع رد القيمة، كما لو اشترى ثَوْباً بَعْبدٍ وتقابَضا، ثم هلك العَبْدُ ووجد مُشْتري الثوبِ بالثوْبِ عَيْباً. فيقول الحنفيُّ: هذا يبطُل بالإقالةِ (¬2). فيقول الشافعيُّ: لا أسلمُ الإِقالةَ، فإنها تجوزُ عندي مع هلاكِ السلْعةِ. والثاني: أن لا يُسَلَمَ وجودَ العِلةِ. ¬

_ (¬1) "شرح الكوكب المنير" 4/ 287. (¬2) انظر"رحمة الأمةِ": 274، و" ملتقى الأبحر" 2/ 33، وانظر"عون المعبود" 9/ 331، و"سنن ابن ماجه" (2199).

ومثالُ ذلك: قولُ الحنفيُّ في المضمضة: إنها تجبُ في الغُسْلِ لأنها عُضْوٌ يجبُ غَسْلُهُ من النجاسة، فوجب غَسْلُهُ من الجنابةِ كسائر الأعضاءِ. فيقول الشافعيُّ: هذا يبطلُ بالعَينِ. فيقول المخالفُ: العَيْنُ عندي لا يجبُ غَسْلُها من النجاسة، فلا يلزمُ النَّقْضُ (¬1). الثالث: أن يَدْفَعَ النقْضَ بمعنى اللفْظِ، وذلك شيئان: مقتضى اللفظ، وتَفْسيرُ اللفْظِ. فأمَّا مُقْتضى اللفْظِ: فهو مِثْلُ أَن يقولَ الشافعيُّ في مَهْر المُسْتكْرَهَةِ على الزنا: ظَلَمها بإتلافِ ما يتقوَّم فلَزمَ الضمان، كما لو أتْلَفَ ما لَها عليها (¬2). فيقول الحنفيُّ: هذا ينتقضُ بالحَرْبى إذا وطِئها. فيقول: قولنا: ظَلَمَها، رجع إلى هذا المستكرِهِ الذي هو من أهلِ الضمانِ، إذْ لا يجوزُ أن يَخْلو قولُنا: ظَلَمها، من فاعل مُعَينٍ تعودُ "هاء" الضميرِ إلِيه، وليس إِلا هذا المُسْتكرِه الذي هو من أهلِ الضمانِ، فصار كأنا قلْنا: هذا الذي هو من أهلِ الضمانِ ظَلمها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "الاختيار لتعليل المختار"1/ 11، و"فتح الباري" 1/ 483. (¬2) انظر "المهذب" للشيرازي 2/ 62، و"التنبيه" له: 108، و"المغني" لابن قدامة 5/ 166. (¬3) "لتمهيد"4/ 146.

ومثل أن يقولَ الشافعيُّ في ضمانِ المنافعِ بالغَصْب: إِن ما ضُمِنَ بالمُسمَّى في العَقْدِ الصحيحِ، جاز أنَّ يُضْمَنَ بالإتَلافِ بالعُدْوانِ المَحْضِ، كالَأعيانِ. فيقال: هذا يبطُلُ بالحَرْبى، فإنه يضمَنُ المنافعَ بالمُسَمى في العَقْدِ الصحيح، ولا يَضْمَنُ بالإتلافِ. فيقول الشافعيُّ: هذا لا يَلْزَمُ، لأنّا لم نَقُل: إن مَنْ ضَمِنَ بالمُسَمى ضَمِنَ بالإتلافِ وإِنما قُلْنا: ما ضُمِن بالمُسمى ضُمنَ بالإتلافِ، وتلك المنافعُ يجوزُ أن تُضمَنَ بالإتْلافِ، وهو إذا أتلفها مسلم أو ذميٌّ، فلا يلزَمُني النقْضُ. وأمَّا الدَّفْعُ بالتفسير: فهو أَن يحتمل اللفْظُ أَمرَيْن احتمالاً واحداً ففسره بأحدِهما ليدفَعَ النَقْضَ. وأضافَ أصحابُ أبي حنيفة وأصحابُنا الى ذلك، التسويةَ بين الأصلِ والفَرْع في مسألةِ النقْضِ، ومثالُ ذلك: أن يَقولَ في إيجاب الِإحدادِ على المبتوتةِ: بأنها معتدةٌ بائن، فلزِمَها الِإحدادُ كالمتوفّى عنهَا زَوْجُها (¬1). فيُقالُ له: هذا ينتقضُ بالذميةِ. فيقول: يستوي فيه الأصلُ والفَرْعُ؛ فإن الذميةَ لو كانت متوفىً عنها زوجُها لم يجب عليها الإحدادُ. ¬

_ (¬1) "التمهيد" 4/ 168، وانظر"ملتقى الأبحر" 1/ 293، و"رحمة الأمة": 449.

فيقول أصحابُ الشافعيُّ: ليس هذا جواباً صحيحاً، لأنا نَقَضْنا بالمبتوتةِ الذميَّة. فقالوا: وينتقضُ أيضاً بالذميةِ المتوفى عنها زَوْجُها، فيصير النقْضُ نَقْضَيْن. ومما دفعوا به أيضاً أن قالوا: هذا موضع استحسان. مثالهُ: أن يقول في الكلام في الصلاةِ ناسياً: إنَّ ما أبْطَلَ العبادة عَمْدُهُ أبْطلَها سَهْوهُ، كالحَدَثِ. فيقول المعترضُ: إن النص دل على انتقاضهِ، فيكون آكَدَ للنقْضَ (¬1). والثالث من أَجوبتهم: أنَّ قالوا: عندنا تخصيصُ العِلةِ جائز. فيقال: إنكم دخَلْتُم مَعَنا على مراعاةِ طَرْدِها والاحترازِ من نَقْضِها، ولهذا احتَرَزْتُم من سائر النقوض ولم تَرْجعوا فيها الى جواز التخْصيصِ. فصل من فُصولِ النقضِ أيضاً وإذا نَقَضَ المُعترضُ العِلةَ بُحكْم يَتَفقان عليه إلّا أن المُعَللَ يُنكرُ التسميةَ الشرعيةَ، فإن للناقض بيانَ ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) انظر"التمهيد"4/ 166، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 291، وقد نقل كلام ابن عقيل. (¬2) "التمهيد" 41/ 142.

مِثالُه: تعليلُ الحنفيِّ في أنَّ عِوضَ المنافعِ في عَقْدِ الإجارةِ لا يُسْتَحَق بمُطْلقِ العَقْدِ بأن يقولَ: عَقْد على مَنْفعةٍ فأشْبهَ المُضاربةَ (¬1). فيقول المُعترضُ: ينتقضُ بالنكاحِ. فيقول المعللُ: النكاحُ معقود على الحِل والإباحة دون المنافعِ. فيقول المُعترِضُ: إن العَقْدَ يتناولُ ما يستَوْفيه من المنافعِ، فأمَّا الحِل فَحُكْم شرعيٌ يحصلُ له بالشرْع لا بالعِوَضِ ولا بالعَقْدِ، وأحكامُ الشرعِ لا تحصلُ بالأعواض ولا بمِلْكٍ ولا تَقْبلُ العُقودَ، وكما لا يُقالُ: يُعقدُ على الملكِ في الأَعيان، لكن يُعقدُ عليها فيحصلُ الملكُ، كذلك لا يُقال: يُعقدُ على الحِلِّ، لأن الملكَ والحِل جميعاً حُكْمانِ. وكذلك اذا قال الشافعيُّ: إنَ عقدَ السلَمِ معاوَضَة مَحْضَة، فلم يُشترطْ لها التأجيلُ، كالبَيْع (¬2)، فقال السائلُ: ينتقضُ بالكتابةِ، فإن للشافعيِّ أن يقولَ: الكتابة ليست مَحْضَ مُعاوَضةٍ. فللسائلِ أن يبين ذلك، لأنه بيانُ اسم وليس بإثباتِ حُكْم، والأسماءُ لا ترجعُ إلى المذاهبِ، فلا يكون بيانُه استدلالًا على المسؤولِ، بل بياناً لحُكْمِ الوَضْعِ اللغويِّ. ¬

_ (¬1) انظر: "إيثار الِإنصاف": 334، و"المغني" 5/ 267، و"المحلَّى" 8/ 182. (¬2) "المهذب للشيرازي" 1/ 297.

فصل منه أيضاً إذا دفع المُستدل النقْضَ بإطلاقِ الاسمِ في عُرْفِ الاستعمالِ جازَ (¬1). ومثاله: أن يقولَ الشافعيُّ في الرَّجْعَةِ بالوَطْءِ: إنه فِعْل من ناطقٍ فلم تحصل به الرجعةُ، أو فِعْلٌ من قادرٍ على النطقِ فلم تحصُل به الرجعةُ، كالضرْبِ (¬2). فيقول المُعترضُ: ينتقض بلفظِ الرجعةِ، فإنه فِعْلُ اللسانِ وتحصلُ به الرجْعةُ. فيقول المستدل: اللفظُ لا يُسمى فِعْلاً في العُرْفِ والوَضْعِ، ولذلك قالوا: أفعال وأقوال، وفي الشرع أيضاً قد عُلِّقَ على كلُّ واحدٍ منهما من الأحكام ما ميزَ أحدَهما من الأَخَرِ حتى منع أن يكونَ إطلاق الفِعْلِ يقعُ على اَلقولِ. فأمَّا إنْ فَسرَ اللفْظَ بما يدفع النقْضَ، نَظَرْتَ، فإن كان فَسرَهُ بما يقتضيه ظاهِرُ لفْظِهِ اندفع عنه، وإنْ فَسرَهُ بما هو عدول عن ظاهرهِ كأَن خَص اللفْظَ العامَّ أوعَدَل به عن ظاهرهِ من عُرْفِ الاستعمال لم يقبلْ منه ذلك. مثال الأول: أن يقول في زكاة المتولدِ بين الغَنَمِ وفُحولِ الظباءِ: ¬

_ (¬1) "التمهيد" 4/ 143. (¬2) "المهذب" 2/ 103، و"مختصر المزني ": 196، وانظر: "المحلَّى" 10/ 251، و"المغني" 7/ 189، و"نَيْل الأوطار" 2/ 256.

إنه متولِّدٌ من أَصلين لا زكاةَ في أَحدِهما، فلم تَجِبْ فيه الزكاةُ، كالمتولِّدِ من بين وحْشَيْن (¬1). فإذا نَقَضَ عليه بالمتولِّدِ من بين الساءمة والمعلوفة قال: أردت بقولي: لا زكاة في أحدهما بحال, وذلك يقتضي نفي الزكاة في أحدهما نفياً مطلقاً فكأنني قلت لا تجب بحال ولمعلوفة تجب الزكاة في أعيانها بحال, وهو إذا سامت, ويقرر ذلك بأن النفي المطلق يقتضي بظاهره عموم الأحوال, فسواءٌ نطق به أم لم ينطق, لأن القول "بحال" تأكيد لايخل بفائدة الإطلاق. ومثالُ الثاني: أنَّ يُعَلِّل الحنفيُّ في المُقِر إذا عطف المُفَسرَ على المُبْهم فيقول: له على مئة ودِرْهَم، أن ذلك يكونُ تَفْسيراً للمئةِ بأنه مُفْسرٌ يثبتُ في الذمةِ عُطِفَ على مُبْهَم فكان تفسيراً له، كقوله: عليَّ مئهٌ وخمسون درهماً (¬2)، فينقضه المعترِض بما إذا قال: له عليَّ مئةٌ وثوبٌ. فيقول: أَردتُ بقولي: يثبتُ في الذمَّةِ ثُبوتَه بالإتْلافِ، والثوبُ لا يَثْبُتُ في الذمةِ بالإِتْلافِ. فهذا لا يُقْبَلُ، لأن لَفْظَهُ لا يقتضي ثُبوتاً دون ثُبوتٍ، وقد ثَبَتَت الثيابُ في الذمَّةِ ديَةً في الحُلَلِ (¬3)، وهو مَذْهبُنا ومذهَبُ جماعةٍ من السلفِ. فصل ومنه أيضاً إِذا كان التعليلُ للجوازِ لم يُنْقَض بأعيانِ المسائلِ، ¬

_ (¬1) "التمهيد" 4/ 144. (¬2) انظر "المغني" 5/ 111. (¬3) انظر "المغني" 12/ 7.

وذلك: مثل أَن يقول أَصحابُنا وأَصحابُ الشافعيُّ في الزكاةِ في مالِ الصبيِّ: بأنه حُر مسلم، فجازَ أَن تَجِبَ الزكاةُ في ماله، كالبالغِ (¬1)، فلا يصح أَن يُنْقَضَ بأموالهِ غير الزكاتيةِ، كالمعلوفةِ وعروض البذْلَة وما دون النصاب، لأن حُكْمَ التعليلِ الجَوازُ، وذلك يقتضي حالةً واحدةً، والمُخالفُ لا يوجبُ الزكاةَ بحال فكان حجة عليه، ولم يلزم المعلِّل الزكاةَ في جمعِ الأحوالِ، ولأن لتلك الأموالِ بأعيانِها حالاً تجبُ الزكاةُ فيها في حقِّ الصبى والبالغِ، وهو إذا عُدِلَ بها إلى السوْم والتجارةِ وانضم إلى ما دون النصابِ ما كملَهُ. ومن ذلك أيضاً: إِذا علَّل للنوعِ ولم يَنْقُضْ عليه بعين مِثْلِهِ. ومثالُه: أن يقول في زكاةِ الخيلِ: إنه حيوان تجبُ الزكاةُ في إناثهِ فوجبت في ذكورهِ إذا انفردت، كالِإبلِ (¬2)، فلا ينقض به بذكورِ الِإبلِ والغنمِ إذا كانت معلوفة أو دونَ النصابِ، لأن التعليل للنوعِ والعلفِ وما دون النصابِ حالٌ من أحوالِ النوع، وفي النوع ما يَثْبُتُ الحُكْمُ فيه، وهو إذا كانت ذكورُ الأَنعام نصاباً سَائمة. ¬

_ (¬1) "مختصر المزني": 44، و"بداية المجتهد"2/ 33، و"المهذب" 1/ 140، قال أبو إسحاق الشيرازي: وتجب في مال الصبيِّ والمجنون لمِا رُوي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" ابتغوا في أموالِ اليتامى لا تأكُلها الزكاةُ". وانظر: "نصب الراية" 2/ 331 - 335 - فقد أوفى الحافظ الزيلعي على الغاية في الكلام على هذا الحديث -و"المغني" 2/ 390، و" المحلَّى" 5/ 205، و" التمهيَد" 4/ 148. (¬2) انظر "المغني" 2/ 389.

فصل واختلفوا في دَفْعِ النقضِ بالتسويةِ بين الأصلِ والفَرْعِ، فأجازه قومٌ، ومنَعَ منه قوم. والذي عليه أصحابُ الشافعيُّ والمحققون أنَّه لا يُدْفَعُ، واليه أذهب (¬1). وذهبَ أصحابُنا وبعضُ أَصحابِ أَبي حنيفةَ إِلى أنه يَدفَعُ النقْضَ (¬2). ومثالُه: تعليلُ مَنْ أَوْجَبَ الِإحدادَ في حق البائنِ بأنها بائنٌ، فوجب عليها الِإحدادُ، كالمتوفى عنها زَوْجُها، فإذا نَقضْتَ عليهم بالذمِّيةِ والصغيرةِ قالوا: يستوي الأصلُ والفَرعُ في ذلكَ، لأن المتوفى عنها الزوجُ إِذا كانت ذميةً أو صغيرةً لم يَجِبْ عليها الإِحدادُ، وغرضُنا بالعلةِ: التسويةُ بين الأصلِ والفَرْعِ. فيقال: إِنَّ هذا نَقْض للعلَّةِ في الأصلِ والفَرْع، والعلَةُ المنتقضةُ فاسدةٌ؛ لأَن الطردَ شَرْط ومتى عُلل بهذه العلَّةِ في الأَصلِ وهي المتوفَى عنها، وفي الفَرْعِ وهي البائنُ، انتقضت بالذميةِ. وقولهم: الغرض التسويةُ. فإنما يصحُّ إِذا كانت التسويةُ بعلَّه، والمنتقضةُ ليست علَّةً تصلح لجَلْبِ الحُكْمِ، فيتعطل بَنْقضِها عن جَلْبِ الحُكْمِ في الَأصلِ والفَرْعَ. والتسويةُ في التعطيل لا تنفع في التعليلِ، على أنَ حُكْمَكَ ليس هو التسوية، وإِنَما حُكمك وجوبُ الإِحدا؛ وإِن كان حكمُكَ هو التسويةَ بين المطلَّقةِ والمتوفَّى عنها، احتَجْتَ إلى أَصلٍ تقيسُ عليه العِلَةَ. ¬

_ (¬1) نقله صاحب "الكوكب المنير" 4/ 288 (¬2) في الأصل: البعض.

فصل منه أيضاً إذا انتقضت علَّةُ المستدل فزاد فيها وصْفاً، فقد انقطعت حُجتُهُ التي بدأ بها، وعجز عن استتمامِ ما بدأ به من نُصْرَةِ الحُكْمِ فيها، وكان ذلك انتقالاً عمّا احتجَّ به (¬1). وقال بعضُ أهلِ الجدلِ: لا يُعَد انقطاعاً إذا كان الوَصْفُ معهوداً معروفاً في العلَّةِ، وإنما أَخل به سَهْوٌ أَو سَبَقَ على لسانهِ بَعْضُ أَوصافِها دون بَعْض، وإليه ذهب بعضُ أصحاب الشافعيِّ، واتفقوا في غير المعهودِ أنه يكون انقطاعاً، وعندي أَنَ الأَمرَيْن سواءٌ، إلاّ أَنَ السَّهْو والغَفلةَ وغير ذلك وإن كانت أعذاراً تسقطُ اللاَئمةَ والمَعْتَبَةَ، فإنها لا تُخْرِجُ المعذورَ بها عن العَجْزِ، فإن أكثر الأعذارِ عَجْز، والعَجْزُ انقطاع. ولو كان السَّهْوُ عُذْراً يمنع من الانقطاع، لكان الجَهْلُ عُذْراً أَيْضاً، ومن أين لنا أنه مع كوْنِ الوصفِ معروفاً لنا أنه معروف عند هذا الذي أخَل به؟ فصل منه أيضاً وإذا نقض الناقضُ العلَّةَ بحكم منسوخ كان في زمانِ النبى - صلى الله عليه وسلم -، أَو بما خُصَ به النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل أَن يقول: تكلم في صلاته بخِطابِ ¬

_ (¬1) انظر "المسوَّدة "431، و" شرح الكوكب المنير" 4/ 290، و"التمهيد" 4/ 146.

الآدميين فوجبَ أن يَبْطُلَ كالعامدِ (¬1). فيقال: ينتقضُ بالصلاةِ في صَدْرِ الإسلام. أو يقول: نكاح عُقِد بغير لَفْظِ الإنكاحِ والتزويجِ فلم يَصِح، أو فكان فاسداً، كما لَوْ عُقِدَ بلفظِ الِإجارةِ. فيُقالُ: هذا يبطُل بنكاحِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك لو قال الحنبليُّ أو الشافعي في صَوْم رمضان: صَوْم واجب فلا يصحُّ بِنيةٍ من النهارِ، كصَوْمِ القَضاءِ والنذْرِ وَالكفارةِ. فيقول الحنفيُّ: هذا ينتقض بصوم عاشوراء، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمَرَنا بالإمساكِ في أثناءِ نهارِهِ لما دخل المدَينةَ في أول الأمرِ. فقد أختلف أهلُ العِلْمِ في ذلك، فمنهم مَن ألزمَ ذلك واحترزَ عن النقْضِ به حيث رآه نَقْضاً، وعلَّل بأنَ العِلَةَ عامة يجب إثبات الحُكْمِ بها في جميعِ ماشَمِلَتْهُ. ومنهم مَنْ قال: لا تنتقضُ، لأن العلَّةَ وُضِعت لإثبات حُكْم فلا تنتقضُ إلأ بما يُضادها واشتملت عليه، وما نسِخ أو سقط لمْ يَدْخُل في التعليل ولا يَرِد عليه. فصل وقد سبق الكلامُ على دَفْعِ النقْضِ بالاستحسانِ، فإنَّه مِن بَعْضِ ما يرى أصحابُ أبي حنيفة الدفْعَ به. ¬

_ (¬1) "التمهيد" 4/ 147، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 291، و"المغني" 2/ 32.

الاعتراض السادس: القول بموجب العلة

فصل القَوْلُ بموجب العِلةِ أَوْ فَى سؤال يرِدُ على العلَّةِ (¬1) لأَنَّه يُسْقِطُ احتجاجَ المُحتج بها؛ لَأن الحُجةَ إِنَما تقومُ على الخَصْمِ فيما ينكرهُ لا فيما يقولُ به. والعلَّةُ نوعان: أحدُهما تعليل لإثباتِ مَذْهب المُعَللِ. والثاني: تعليل لإِبطالِ مَذْهبِ مُخالفِهِ. والَأوَّلُ نوعان: أحدهما: تعليلٌ: عامٌ إيجاباً كان أو نَفْياً، فلا يمكن القولُ بمُوجبِ ذلك، لأن مسألةَ الخلافِ داخلة في العمومِ، ولا يكون قائلاً به حتى يكون قائلاً بعُمومِه، وذلك مِثل أَن يقولَ الحنبلي أو الشافعيُّ في إيجابِ القيامِ على المُصَلي في السفينةِ: بأنّ القيامَ فَرْض يجبُ على المصلي في غير السفينةَ فوجب على المُصلي في السفينةِ كسائرِ الفروضِ. فيقولُ المُعترضُ: أقول بموجب العلَّةِ إذا كانت السفينةُ واقِفَةً. لم يكن ذلك صحيحاً، لأنَ العلَّةَ تُثْبتُ ذلك في كلِّ حالٍ، فإذا سلَّمه في حالٍ بَقِيت العِلةُ حُجَّةً في غير تلك الحالِ، وما هو الا بمثابة شافعيٍّ أو حنبليٍّ استدل بقَتلِ المرتدة بقولهِ: "مَنْ بَدل دينَه فاقتلوه" (¬2). فيقول الحنفيُّ: أنا قائل بالخبرِ في الرجالِ، فيقال: ليس هذا قولًا بالعمومِ بل بالخصوصِ، فهو فيما نَفى من الخبرِ حُجة بحالهِ. ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الناظر" 2/ 1 - 298 و"شرح مختصرها" 3/ 555 و"الِإبهاج" 3/ 131 و"التمهيد" 4/ 186،و"المحلى" 4/ 185. (¬2) سبق تخريجه في الصفحة 39 من الجزء الأول.

وكذلك في النَّفْي العام إذا قال في المائعاتِ: إنَّه مائع لا يرفَعُ الحدثَ، فلا يُطَهرُ المحلَّ النَجِسَ، كالدُّهنِ. فيقول المعترضُ: أقولُ بمُوجبهِ في الخَل النجِس. لم يكن صحيحاً، لأنَّ العِلَّةَ تقتضي أنْ لا يَطْهُرَ بكل حال، لأن النفيَ على العُمومِ. والثاني: أن يكونَ التعليلُ للجوازِ مثل أن يقول المُخالِفُ: إن الخَيْلَ حيوان تجوزُ المُسابقةُ عليه، فجاز أَن يتعلق به وجوبُ الزكاةِ كالِإبلِ. فيقول المُعارِضُ: أقولُ بموجبهِ، لأن زكاةَ التجارةِ تتعلَّق به. فإن قال المستدلُّ: إنّ الألف واللام يستعملان للعهد، والذي سألْتَ عنه هو زكاةُ السَّوْم، فانصرف الحكْمُ الى ذلك. لم يكن صحيحاً؛ لأن العِلةِ يجب انَ تكون مُسْتَقِلةً بألفاظِها غَيرَ مبنيةٍ على غيرِها؛ لاَنها حُجَّةُ المذهبِ لا تختصُّ السائلَ. فإن قال: الألِفُ واللام لاستغراقِ الجنسِ إذا لم يكن عَهْد، فاقتضت العلَّةُ ايجابَ أجناسِ الزكاةِ في الخيل، قيل: الذي يَقتضي لامُ الجنسِ واحدٌ منه، ولو اقتضى جميعه لم يصح، لأن جميع أجناس الزكاةِ لا تجبُ في الخيلِ. فَصل فإن علل الشافعي في إيجاب القَوَدِ في الطرَفِ بأنه أحدُ نَوْعي القِصاص، فجاز أَن يثبت معجلاً، كالقِصاص في النفس.

فقال المُعتَرِضُ: أقولُ بموجب ذلك إذا قطع يَدَهُ، فجاء آخَرُ فقتله فإنه يجبُ القصاصُ في اليدِ مُعجلاً. قيل له: لم يَجِبْ مُعَجلاً، وانما تُعجل بقَتْلِهِ. ويمكن المعترض أن يبين القَوْلَ بموجب العلَّةِ اذا قطع أحدُهما يَدهُ وضَرَب الآخرُ عُنُقَهُ في حالةٍ واحدةٍ، فإن هاهُنا يجبُ القِصاص مُعَجلاً. فصل فأمَّا النوعُ الآخرُ، وهو التعليلُ لإبطالِ مذهب المخالفِ، مثل: أن يقولَ الحنفيُّ: إن الحج عبادة فلا تجبُ بِبَذل الَطاعةِ، كالصلاةِ. فيقول المعتَرضُ: أقولُ بموجب هذه العلَّة، فانها لا تَجبُ عندي ببذْل الطاعةِ، وإنما تَجبُ بالاستطاعةِ لانه لو عَلِمَ أنه إذا امَرَهُ أطاعَ لَزِمَهُ الحج، وإن كانَ لم يَبْذُلْ له الطاعة. ويمكن المستدل أن يقولَ: إنما سألتني: هل يجبُ الحج ببذْلِ الطاعةِ؟ ولأنه إذا عَلِمَ أنه يُطيعُه إذا أمَرَهُ، فقد عَلِمَ أنه باذِل للطاعةِ. ويمكن المستدل أن يقولَ: إنما دلَلْتَ في المَوْضعِ الذي بذل فيه الطاعةَ ولم يكن واثِقاً ببَذْلِهِ قَبْلَ ذلك. ويقولُ أيضاً: إنما صار مُسْتطيعاً ببذْلِ الطاعةِ، فبها تعلق الوجوبُ. وكذلك إذا استدل الحنبليُّ أو الشافعي في أن الإجارةَ لا تَنْفَسخُ بالمَوْتِ، بأن الموْتَ معنىً يزيل التكليفَ، فلا يُبطل الإجارةَ

كالجنونِ (¬1). فيقول الحنفيُّ: أقولُ بموجب الدليلِ وأنها لا تبطُل بالموتِ، وإنما تبطلُ بزوالِ الملْكِ، ولهذاَ عندي إذا باعَها ورضي المستأجرُ بَطَلَتِ الإجارةُ، فيكون السؤالُ وقعَ عن ذلك وأن الموتَ سبب فيه، وأن زوالَ الملْكِ لا يُبْطلُها بدليل عِتْقِ العَبْدِ المستَأجَرِ. فصل ولا يجوزُ القَوْلُ بموجبِ العلَّةِ في الأصْل، لأنه لو جاز ذلك لم تَسْلَمْ علًة، لأن التعليلَ وقع لإلحاقِ فَرْعٍ بالأَصْلِ، لأن الأصلَ قد ثبتَ حكْمُهُ لا مِنْ جهةِ القياسِ. فصل سؤال على العلَّةِ أفاده الِإمامُ أبو إسحاقَ -رضي الله عنه- وهو: أن العِلةَ لا تستدعي أحكامَها، وذلك أن تكونَ العِلةُ تَجْلِبُ حُكْمَينِ، فيتعلَّق عليها أحدُهما دون الآخَرِ، مثالُهُ: أن يقولَ الحنفيُّ في صَوْم رمضان: لا يَفْتَقِرُ الى تَعْيينِ النيةِ, لأنه مستحقُّ العينِ، فهو كرد الوديعةِ. فيقول أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ: استحقاقُ العَيْنِ كما يُوجبُ إِسقاطَ التعينِ يُوجبُ إسقاطَ النيةِ، فلو أسْقَطَ التعينَ لأسْقط النيةَ كما ¬

_ (¬1) "المهذب " للشيرازى 1/ 407 و"رحمة الأمة": 345 - 346 و"المغني" 5/ 281.

قال زُفَرُ (¬1) وكما قُلْنا في الوديعةِ. فالجوابُ: أَن يُبينَ اختلافَ الحُكْمَيْن، وذلك أَن يقولَ: النيَّةُ تُراد لِتَحْصيلِ القُربَةِ، والزمانُ يحتملُ القُرْبَةَ وغَيرَ القُرْبَةِ، وهو إمساكٌ لا قُرْبَةَ فيه، بل على سبيلِ الحِمْيَةِ أوالإهمالِ من غيرِ عقيدةٍ، والتعْيينُ يُرادُ للتمييز بَيْنَ أصنافِ القُرَب، ولهذا المعنى لا يكفي في الصلاةِ أن يَنْوي: أصلِّي، حتى يَنْوِي ظهْراً أو عَصْراً، وزمانُ رمضان لا يحتملُ أصنافَ القُرَب، ولهذا المعنى افتقر طَوافُ الزيارةِ إلى النيَّةِ لتحصيلِ القُرْبةِ، ثمَ لا يفتقر إلى التعيينِ، لأنَّه لا يحتملُ الوَقْتُ أصنافَ القُرَبِ. ¬

_ (¬1) زفر بن الهذيل بن قيس البصري، من فقهاء الحنفية المجتهدين، توفي سنة (158) هـ. "الجواهر المضية" 2/ 207.

الاعتراض السابع: القلب

فصول الاعتراضِ بالقَلْبِ (¬1) فصل اختلف أهلُ العِلْمِ في القلب: هل هو سؤالٌ صحيحٌ أم لا؟ فمنهم مَنْ قال: ليس بسُؤال صحيح، فاعتَل لفسادهِ بأنَه فَرْضُ مسألةٍ على المستدلِّ، وإِنما الفَرْضُ إلى المُستَدلِّ. ومثالُ ذلك: أنَّ يُعَلِّلَ أصحابُ أبي حنيفة مَسْحَ الرأسِ بأنهُ عُضْوٌ من أَعضاءِ الطهارةِ فوجبَ أن لا يُجْزِىءَ منه ما تقَعُ عليه الاسمُ، كسائرِ الأعضاءِ. فيقول السائلُ: أَقْلِبُ فأَقولُ: فوجب أَن لا يتقدَّرَ بالرُّبْعِ، كسائِر الأعضاءِ. فالمسؤولُ فَرَضَ الكلامَ في إبطالِ مَذْهَبٍ يُخالفُه حيث قال: لا ¬

_ (¬1) انظر في هذا الفصل: "التمهيد" 4/ 202 و"أصول السرخسي" 2/ 238 "المسوَّدة": 445 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 519 و"فواتح الرحموت" 2/ 351 و"شرح تنقيح الفصول": 401 و "رشاد الفحول": 383 و"اللمع": 115 و"شرح التلويح على التوضيح" 2/ 94 و"شرح الكوكب"4/ 331.

يجزىء ما يقع عليه الاسمُ، والسائلُ فَرَضَ الكلامَ في إبطالِ تقديرِ المخالف، ويتعذرُ في القَلْب أن يَنْفيَ ما أثْبَتَهُ المُعَللُ، أو يُثْبِتَ ما نفاهُ، لَأن النفْيَ والإثباتَ لَا يتفقان في الأصلِ، وانما يتفق في الأصلِ حكمانِ مختلفان. وأكثرهم قالوا: إنَه سؤالٌ صحيحٌ. ولأَصحابِ الشافعي وجْهان، كالمَذْهَبيْن (¬1). وقال أبو علي الطبري (¬2): هو من أَلْطفِ ما يستعملُه المناظِر. واعتلَّ منْ ذهب إِلى صحتِهِ أَنه احتج عليه بعلّتهِ وأصْلِهِ في حُكْمٍ لا يُمكنهُ أَن يَجمعَ (¬3) بَيْنَه وبين حُكْمهِ؛ لأَنَّهما اتَفقا على أَن ما زاد على الرُبْعِ ليس بواجبٍ، وبأنَّ ما خالفَ قولَهما فاسدٌ، فإذا نَفى العلَّةَ بالتقديرِ، لم يَبْقَ إِلاّ أنْ يُجريَ ما يقَعُ عليه الاسمُ، فقد صار ما أَثْبَتَهُ بالعِلَّةِ ينفي الحُكْمَ الذي أَثْبتهُ المستدل، وجرى ذلك مَجْرى أَن يَنْفيَهُ صريحاً. فإنْ قال مَنْ نَصَر القَوْلَ الأوْلَ: إِنَّ حُكْمَ المستدل وحُكْمَ القالبِ يجوزُ أَن يَجْتَمِعا ولا يتنافيا، وذلك أنه يجوزُ أَن يكونَ التقديرُ بالربُعِ، والاقتصارُ على ما تقَعُ عليه الاسمُ فاسِدَيْن، فلا يكون نَفْيُ أَحدِهما إثْباتاً للآخَرِ. ¬

_ (¬1) "اللمع": 115 و"التبصرة": 475 كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي. (¬2) تقدمت ترجمته في الصفحة (60). (¬3) في الأصل: "يخرج".

- فصل فيما يتميز به القلب من بين المعارضات

فالجوابُ ما قدمْتُهُ من اتفاقهما على إِفسادِ ما عداهما، فصارا مُتنافيَيْن، فمتى ثَبَتَ فَسادُ أحدِهما ثَبَتَ الآخرُ. فصل إذا ثبتَ هذا: فإنَّ القلْبَ معارضةٌ، وإنَّما يتميزُ من بينِ المعارضاتِ لأنه عارضَهَ بعلتهِ في أصلهِ، والمعارضةُ تكون بعله أخرى في أصلهِ. ويُحكى عن بعضِ أصحاب الشافعيُّ أن ذلك إفسادٌ وليس بمعارضةٍ لأن علتَهُ تعلق عليها حكماَن متضادان (¬1)، وهذا ليس بصحيح، لأنه إنما يكون كذلك اذا كانا متساوِيين من كلُّ وجهٍ، ولا بُدَّ أنَّ يكون لتعلق أحدِ الحُكْمين بها تَرْجيحٌ على الآخَرِ، أو يتوجه على أحدِهما (¬2) إِفسادٌ، فيسلم الآخر،. ويجريان مَجْرى العِلتَيْن إذا تعارضا، فيكون الطريق في الجواب عن القَلْب بأنْ يُعتَرضَ عليه بما يُعترضُ به على العلَّةِ المُبْتدأةِ. فصل وأمَّا إذا كان الحُكْمُ للتسويةِ، مثْل: أَن يُعللَ أصحاب أبي حنيفةَ طلاقَ المُكْرَهِ بأَنَّه طلاق من مكلَّف صادفَ ملْكَه فوجب أَن تقعَ، كطلاقِ المختارِ. فيقول أصحابنا وأصحابُ الشافعيُّ: فاستوى حكْمُ إقرارِه وإيقاعِهِ كالمُختارِ (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "حكمين متضادَيْن". (¬2) في الأصل: "إحداهما". (¬3) وانظر: "التمهيد"4/ 208 و"الإبهاج" 3/ 129 و"رحمة الأمة": 417 و"المغني"، 7/ 80 و"المحلى"10/ 202.

فقد اختلف القائلون بصحةِ القلب في هذا القَلْب: هل هو صحيح أَم لا؟ فقال قومٌ: ليس بصَحيح، لأنهِ وُجِدَ في الفَرْعِ استواءُ حُكْمِ الإقرارِوالإيقاع في عَدَم الصحةِ وفى الأصلِ استواء الإيقاعِ والإقرارِ في الصحةِ، فحكمُ الأَصلِ والفَرْع متضادان. ومنهم مَنْ قال: يصح، والحُكْمُ في الأصلِ والفَرْعِ سواء لأن الحُكْمَ إنما هو التسويةُ بين الإيقاعِ والإقرارِ دون صحتهِ وفسادهِ، وهذا حُكْمٌ صحيحٌ يجوزُ أن يَنُص صاحبُ الشريعةِ عليه، فيقول: الإيقاعُ والإقرارُ يَسْتَويان، فكل موضع دل الدليلُ على أحدِهما صح الأمْرُ، ومتى فَسَدَ أحدُهما، فَسَدَ الآخرُ. إذا ثبتَ هذا، فإن من الناسِ مَنْ يقول: التصريحُ بالحُكْمُ أوْلى، فكُل مُصَرح بالحُكْمِ يكونُ تعليلُه أولى مِنْ تَعْليلِ مَنْ لايُصَرِّحُ، كما أن النص مقدمٌ على الظاهرِ والعمومِ، وإليه ذهبَ بَعْضُ الشافعيةِ. وذهب آخرون: إلى أنه لا يُقدمُ ولا يرَجحُ بتصريحِ الحُكْمِ، لأن الحُكْمَ هو التسويةُ على ما قدر، والتسويةُ بين الإقرارِ والإيقاع مصرحٌ به، ولا عِبْرَةَ بعدمِ التصريحِ بالصحة والفسادِ، كما أن وقوعَ الطلاق يُصَرحُ به، ولا يُشبهُ هذا ما ذكروه، لأَن الخاص إذا قضى على العام لا يُبْطُله بل يَبْقى حُجةً فيما لم يتناوَلْهُ الخُصوصُ، وها هُنا متى ثبتَ وقوعُ الطلاقِ، بطَلَ التساوي بين الإقْرارِ والإيقاعِ، ويكون الكلامُ على هذا القَلبِ، كالكلامِ على النوعِ الأولِ. فصل وقد يُشَبهُ بالقَلْبِ ويُجْعَلُ كالنوعِ منه جَعْلُ المعلولِ علَّةً والعِلَّةِ

معلولًا، وذلك مِثل ما قال أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ في ظِهارِ الذمِّيِّ: مَنْ صح طلاقُه، صح ظِهارُهُ، كالمُسْلمِ (¬1). فيقول المخالفُ: لا أسلِّمُ هذه العلَّةَ في الأصْلِ، بل صحةُ ظِهارِ المسلم عِلة في صحةِ طلاقهِ، فيكونُ قَلْباً؛ حيث جعل الحُكْمَ في الفَرْعِ علةً لحُكْمِ الأصْلِ. وقد اختلف الناسُ في الجوابِ عن ذلك: فلأصحابِ الشافعيُّ وجْهان: فمنهم مَنْ قال: الجوابُ عنه أن ما ذَكَرَهُ المُخالِفُ من العلَّةِ لا يُعارِضُ عِلةَ المستدلِّ. ويجوزُ أنَّ يكون كلُّ واحدٍ من الحُكمين علةً للآخَر، لأن عِلَلَ الشرْع أدلةَ وأماراتٌ على الحكمِ غَيْر موجبات، فتكونُ إِحدى الَأمارتَين دالّةً على حصولِ الأَمارةِ الأُخرى، فيحسن أَن نقولَ: مَنْ صَحَحت ظهاره فاحكُموا بصحَّةِ طلاقهِ، ومَنْ صحَحت طلاقَه، فاحكُموا بصحةِ ظِهارهِ، وإنما يمتنع هذا في العقلياتِ؛ لأنها عِلَل مُوجبات. وقد وردَ الشرعُ بما يشهدُ لِما قُلْنا في العِلَلِ الشرعيةِ؛ فإنه أمَرَنا بالتسويةِ بين الأولادِ في العطايا والهِباتِ، وبين تسوية ما بين النساءِ في القَسْم، فاذا عَلمْنا أنه قَسَمَ لامرأةٍ وأعطى ولداً عطيةً عَلِمْنا بذلك أَنّه قَسَمَ للأخرى وأعَطى الولدَ الآخَرَ عَطيةً، ويكون وجودُ كلِّ شي من ذلك في حق بعضِ النساءِ وبعضِ الأولادِ دلالةً على وجودِهِ في حقِّ المرأةِ ¬

_ (¬1) "التمهيد"4/ 210 وانظر "الكافي" لابن قدامة 3/ 165 و"رحمة الأمة": 425.

الأخرى والولدِ الآخرِ. ومنهم مَنْ أَجاب بغير هذا، فقال: بأَنَّ هاتَينِ كالعِلَّتَيْن عارضتان، واعتل في ذلك بأن العلةَ تقتضي الحُكْمَ، فلا يجوزُ أن تقتضي ما يقتضيها وتوجبُ ما يُوجبها. فقيل له: هذا حُكْمُ العِلَلِ العقليةِ الموجبة (¬1)، فأمَّا هذه فإنَّها أمارَة. فأَجابَ: بأنَّ هذه وإن كانت أمارَةً، فقد جُعلتْ بمنزلةِ المُوجبةِ، ولهذا لم نُجوِّزْ تخصيصَها كما لا تُخَصصُ العقليةُ لأنها بعد جَعْلِها علَّةً وجبَ أن تُعْطى حُكْمَ العِلَلِ، ولو رُوعيَ فيها معنى الأمارةِ دون العلَّةِ لجازَ تَخْصيصُها كما يجوزُ تَخْصيصُ الألفاظ. وبهذا فارقَ ما احتج به الأوَّل من التسويةِ بينه وبين الأولادِ والنساءِ لَأن العِلْمَ بذلك لا من جهةِ العلَّةِ، لكنْ بمحْضِ الأمارةِ، ولهذا يجوزُ أن يُدْفَعَ إليها مَرةً واحدةً، فثبت أنه ليس أحدُهما علةً للآخَرِ؛ اذ لو كان علَّةً لاحتاجَ المعلولُ إلى العلَّةِ وما وُجدَ معه، فما وُجِد عنه ولا لأَجْلِهِ. فإن قيلَ: فمثلُه نقول في مَسْألتنا، إذا لْبتَ صحةُ الظهارٍ من شَخْصٍ ثَبَتَ صحةُ الطلاقِ منه، واذا ثبَتَ صحَةُ الطلاقِ منه ثْبَتَ صحةُ الظهارِ منه. قال: لا يُمكنُ ذلك، لأن العِلةَ يجبُ أن تكونَ جاريةً في معلولاتِها، واذا وجَبَ كونُ السابقِ منهما علةً وجَبَ كونُه علةً حيث وُجدَ، لأن العِلة وجودُهُ دون سَبْقِهِ، ومنْ قال بهذه الطريقةِ، أجابَ عن هذه المُعارضةِ بأَن علةَ المستدلِّ تتعدَّى وتُفيدُ حُكْماً، وهو ظِهارُ الذميِّ، ¬

_ (¬1) لأن الحُكْم لا يثبتُ في العَقْلِ بأَكْثَرَ مِنْ علَّةٍ واحدةٍ. انظر"التمهيد" 4/ 212.

- فصل في أضرب القلب

وعلَّةُ السائل لا تتعدى، وهو ممن يقولُ: إن الواقفةَ ليست بعلةِ، ومَنْ قال: هي عِلة، يقول: المُتعديةُ اولى منها. ومما تترجَّح به علَتُنا أَيضاً: أَنَّ الطلاقَ سابقٌ للظهارِ، لأَنَّه كان موجوداً قَبْلَ الشَّرْعِ، والظهارُ ثَبَتَ حُكْمُهُ في الشَرْعِ (¬1)، والله أَعلم. فصل من القَلْبِ أيضاً واعلم أن القَلْبَ على ثلانةِ أضْرُبٍ. قَلْب بحُكْمِ مَقْصودٍ. مثالهُ: أن يستدل أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ في بيع الفضولي وأنه باطل، لأنه عَقْد على مِلْكِ العَيْنِ بغيرِ ولايةٍ ولا نِيابةٍ فلم يَنْعَقِدْ كما ساغ ملْكهُ لِغَيرِهِ أو لِنَفْسهِ اتّفاقاً منه على إذْنِه بأنْ يقولَ: ابْتَعتُ عَبْدَ زيْدٍ هذا بمئةٍ (¬2). فيقول الحنفيُّ: أقلِبُ فأقولُ: فلم يَبْطُلْ لِعَدَمِ الإذْنِ كالشراء. فالجوابُ عنه: الجوابُ عن العِلَلِ المبتدأةِ كيف جاء الإفسادُ وعلى أَيِّ وَجْهٍ تأتى، والذي يكثر من الأجوبةِ فيه أن يقولَ: هذه الأوصافُ لا تؤثرُ في حُكْمِ القَلْبِ، فإنّك لو قُلْتَ: عَقْد فلم يَبْطُلْ لِعَدمِ الإذْنِ. لم يَنْتَقِضْ عليك بشيءٍ. ¬

_ (¬1) "التمهيد" 4/ 214. (¬2) انظر: "رحمة الأمة": 267 والمسائل الفقهية من كتاب "الروايتين والوجهين" لأبي يعلى 1/ 352. و"الكوكب المنير"4/ 332 و"ايثار الإنصاف ": 305 و"شرح مختصر الروضة"3/ 526 و"المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف"11/ 55.

والثاني: أن يقول: هذه الأوصافُ تقتضي إبطالَ العَقْدِ فلا يجوزُ أَن يُعَلَّقَ عليها الصحَّةُ، لأَن العِلَلَ لا يُعَلَّقُ عليها ضِدُ مُقْتضاها. ومِن أصحاب الشافعيِّ من أجابَ عنه: بأن هذا القَلْبَ فَرْضُ مسألةٍ في غيرِ الموضَعِ الذي نُصِبَ له الدليلُ، وهذا لا يجوزُ. وهذا جواب فاسد، لأنه إنْ كان فَرْضاً إلّا أن في إثْباته إِبطالَ حُكْمَ المُعَللَ. فصل والضرْبُ الثاني: قَلبُ التسويةِ، وقد مضى الكلامُ فيه مُسْتَوْفىً. والضرْبُ الثالث: جَعْلُ المعلولِ علةً، وقد مضى بيانُه ومثالُه والكلامُ عليه. وإنَما قَصدت بإعادةِ هذه الفصولِ الحَصْرَ. فصل ومَّما يُذكَرُ في القَلْب وليس بقَلْب، وإِنما هو معارضَة في الحقيقةِ أنَّ يقولَ المستدل في جَوازِ تقديم الكفَّارةِ على الحِنْثِ: إنه كفر بعد الحَلِفِ فأشبهَ إِذا كفر بعد الحِنْثِ. فيقول المُعارِضُ: إنَّه كفر قَبْلَ الحِنْثِ فأشْبَهَ اذا كفر قَبْلَ اليمين، وهذا عَيْنُ المعارَضةِ، فلا وَجْهَ لاعتقادِهِ قَلْباً (¬1). ¬

_ (¬1) "التمهيد"4/ 214 - 215.

الاعتراض الثامن: فساد الاعتبار

فصول الاعتراض بفسادِ الاعتبارِ (¬1) اعلم أن فسادَ الاعتبارِ يَتَسعُ القَوْلُ فيه وتكْثُرُ أنواعُه، فمن ذلك: أن يقولَ المستدل على أن قَدْرَ الدرهم من النجاسةِ يجبُ إِزالتُه: إِنها نجاسة مَقْدور على إِزالتِها من غَيرِ مَشَقةٍ، فوجب اعتبار إزالِتها لصحَّةِ الصلاةِ، كالزائدِ على قَدْرِ الدرهم. فيقول المعترض: إِنك اعْتَبرتَ القليلَ بالكثيرِ في التحريمِ، والأصول فَرقَتْ بين القليلِ والكثيرِ، لأنً القليلَ من العملِ لا يفْسِد الصلاةَ والكثيرَ يُفسدُها، وكذلك كلام الناسي وغيرهما، فكان اعتباراً فاسِداً. فالجواب عن ذلك: إِما عن طريق مَنْ يوجب الدلالةَ على صحةِ العلَّةِ في الأصل، ولا يكْتفى فيها بالطرْدِ ولا بسلامتها على الأصولِ، فلا يلزَمه الجوابُ عن ذلك، لأَن الدلالةَ إذا دلَّتْ على صحَّةِ العلَّةِ في الأصْلِ وكانت موجودةً في الفَرْعِ وجَبَ اجتماعُهما في الحكْمِ، وما ¬

_ (¬1) انظر في هذا الفصل: "شرح الكوكب المنير"4/ 236 و"التمهيد" 4/ 191 و"شرح مختصر الروضة"3/ 467 و"رشاد الفحول": 386 و"الإحكام للآمدي" 4/ 76.

ذكره من اختلافِ القليلِ (¬1) والكثيرِ في الأصولِ، فإِنَّما هو في حُكْمٍ اخر، فلم توجد علَّةُ ذلك الحُكْمِ في القليلِ، فلم يشارِك القليلُ الكثيرَ في حُكْمِهِ، بخلافِ مَسْألتنا. وأمّا مَنْ يَقنَعُ في صحةِ العلَّةِ بجريانِها وسلامتِها على الأصولِ، فيُجيبُ: بأن الأصولَ ليسَتْ مُتفِقَةً فيما ذكَرْتَهُ، بل منها ما يستوي فيه القليلُ والكثيرُ مِثْل الكلام العمْدِ في الصلاةِ، وتركِ شيءٍ من الوضوء، والزيادةِ في الرِّبا، وما أَشبهَ ذلك. وإذا كان من الأحكامٍ ما يستوي فيه القليلُ والكثيرُ، وفيها ما يختلفُ، كانت الأصولُ متعارِضة، فلا مخالفةَ وكانت علتي سليمةً. فإنْ قيل: العِلةُ إذا خالفَت بعضَ الأصولِ، كَفى في إفْسادِها وإنْ وافَقَتْ غَيْرَهُ، ألا ترى أن العلَّةَ تُنْقَضُ بمسألةٍ واحدةٍ وإن كانت جاريةً في غيرِ تلك المسألةِ. فالجوابُ: أن النقْضَ كونُ الوصفِ علةً للحُكْمِ إذا كانت موجودةً فيه، والحكمُ معدومٌ. وفي مسألتِنا اختلفَ القليلُ والكثيرُ في غيرِ الحُكْمِ الذي يُصيبُ العلَّةَ، وإنما يفسدُ اعتباره إذا كان مُخالِفاً لجميع الأصولِ، فإذا كان منها ما يُوافقُ اعتبارَه، لم يُعترضْ بالفسادِ على ما وافَقَ اعتبارَهُ، فلا يُعترضُ على اعتبارِهِ. فإن قيل: إذا كان فى الأصولِ ما يُخالفُ هذا الاعتبارَ وفيها ما يُوافقُه، وجبَ تقديمُ المُعترضِ، كماْ يقدَم الجَرْحُ في الشهادةِ على التزكيةِ والتعديلَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: العِلَل.

فالجوابُ: أَن ذلك ليس بجارح، لِما بيَّناهُ مِنْ أنَّه لم يَجْرَحْ فيما وافق هذا التعليل، لأنه ليس في حُكْمِهِ، وإنما الجارحُ بَعْضُهُ، وقد قَدَّمناه، ولأنَ الجارحَ في الشهادةِ إنَّما قَدَّمْنَاهُ لأنه عَلِمَ ما خفيَ على المُزكين، لأن ما يَجْرَحُ أبداً يستسرُّ به في العادةِ، وما يُمْدَحُ به وُيزكَّى يتظاهرُ به الناسُ في العادةِ. وفي مَسْألتِنا هما سَواءٌ وكان ذلك بمثابةِ أن يختلفَ المُتبايعانِ في شَرْطٍ يُفسِدُ العَقْدَ، فأحدُهما يدَّعيه والآخَرُ يُنكرُهُ، فإنا لا نُقَدمُ ما يَجْرَحُ العَقْدَ بل ما يُصَححُة (¬1). وفَرْق آخَرُ: وهو أن الشهادةَ لا يُرجحُ فيها بكَثْرةِ العَدَدِ، فإذا تقابَلَ الجَرْحُ والتعديلُ تعذرَ الحُكْمُ بالشهادةِ، والقياسُ يُرجحُ فيه بكَثْرةِ الأصول وِالنظائرِ، فإذا تقابلت الأصولُ بقيَ أصْلُ العِلةِ فرجَحَتْ به. فإن قيل: فقد افترق الحالُ بين قليلِ النجاسةِ وكثيرِها؛ فإنه عُفِيَ عن يسيرِ الدمَ. قيل: إنما افترقا للمشقةِ بازالةِ القليلِ من الدم وتعذُّرِ الاحتراز منه، فلا تُوجدُ فيه علتُنا، فأمَّا قَدْرُ الدرهمِ فليس بيسَيرٍ؛ ألا تَرى أنَّ ما زادَ على الدرهمِ يستوي حكْمُهُ وحُكْمُ ما هو أكثرُ منه (¬2). وكذلك انْ قال المُعترضُ: اعتَبرْتَ الصغيرَ بالكبيرِ في الزكاةِ، واعتَبَرْتَ الثيبَ الصغيرةَ بالكبيرةِ في الولايةِ، والبكْرَ الكبيرةَ بالصغيرةِ في الإجبارِ، واعتَبَرْتَ حق الله تعالى بحق الآدميَ وكذلك في إيجابِ ¬

_ (¬1) "التمهيد"4/ 196. (¬2) انظر: "المغني"1/ 248 - 249.

الكفَارةِ والقَتْلِ على الصبيِّ اعتباراً بالدَيَةِ، وكذلك اعتبر الشافعيُّ الحيَّ بالميتِ في [عدم] إِسقاطِ المَضْمَضَةِ والاستنشاقِ في غَسْلِهما. فالجوابُ عن ذلك ما مضى، وُيزادُ في حقِّ الميتِ بأن يقولَ الشافعيُّ: إِنِّي لم أعتبِرْ الحيَّ بالميِّتِ بل الحيَّ بالحيِّ، لأنَّ الغُسْلَ الموقَعَ في الميت إنّما يجبُ على الحيِّ، ولأن ايجابَ الغُسْلِ في حق الميِّتِ آكَدُ لأنَه لا يجبُ إلأ مُسْتَوْعَباً، وغُسْلُ الحيِّ ينقسُم إلى استيعابٍ واقتصارٍ. وكذلك: إن قال أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ لحنفي: اعتَبَرْتَ غَيْرَ النبى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في عَقْدِ النكاحِ بلفْظِ الهِبَةِ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مخصوصٌ في النكاحِ بأحكام كثيرةٍ. فيقول المستدل: إِنَّ ما جازَ للنبى جاز لغيرهِ إلا أن يَثْبتَ تَخْصيصٌ له في حكمٍ بعينه، ويحتاجُ المعترضُ أن يُثْبتَ أنَّه مَخْصوصٌ بذلك، لقولهِ تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] حتى يصحَّ سؤالُه وتقربَ الدلالةُ من الآيةِ. وكذلك إِن استدلَّ حنبليٌّ أو شافعيٌّ في أَنَّ النكاحَ الموقوفَ (¬1) ليس بصحيحٍ، لأنَه عقد لا يملكُ الزوجُ المُكلفُ ايقاعَ الطلاقِ فيه، فكان فاسداً، كنكاحِ المُعْتدةِ. فيقول المعترضُ: هذا اعتبار فاسدٌ، لأن الطلاقَ من أحكام العقدِ وفروعِه، فلا يجوزُ أَن يُستدلَّ بفسادِ الفَرْعِ على فسادِ الأَصلِ. ¬

_ (¬1) النكاح الموقوف، هو عقد نكاح اشتُرطت إجازته من الولي أو أحد الزوجين أو السيد.

فالجوابُ: أنَّ ما طريقُه الدِّلالةُ والأمارةُ يجوزُ فيه مِثْلُ ذلك، وعللُ الشرعِ من هذا القبيلِ، فيجعل عدم حُكْمِهِ دليلاً على فسادهِ، لأنَ العَقْدَ يُعْقَدُ لإفادةِ أحكامِهِ، ولهذا لو شرط إِسقاطَ حُكْم من أحكامهِ، فَسَدَ العَقْدُ. وكذلك إنْ قال: اعتبرتَ الوضوءَ بالتيمُّمِ في النيةِ، والتيمُّم بَدَلٌ والوضوءُ اصل، فلا يُعتبرُ الأصلُ بالبَدَلِ. فالجوابُ: نَحْوُ ما مضى. وكذلك إن قال: إنَّ حُكْمَ الأصلِ أقوى من حُكْمِ الفَرْع في قياسِ أصحابنا وأصحابِ الشافعيُّ موضعَ الاستنجاءِ على سائرِ اَلبَدَنِ في وُجوبِ الَإزالةِ فيه. فيقولُ المُعترِضُ: النجاسةُ الموجودةُ في سائرِ البَدنِ آكَدُ حكْماً، ولهذا يجب إزالتُها بالماءِ بخلافِ موضعِ الاستنجاءِ. فالجوابُ: أن العِلةَ الموجبةَ للإزالةِ يشتركُ فيها الأصْلُ والفَرْعُ، فوجبَ اعتبارُهُ به وتأكد الأصلُ في حُكْم آخرَ لا يَمْنَعُ القياسَ، لأن الاصلَ يكونُ اقوى من الفَرْعِ، فإنَه يثبتُ بالنص أو يَقَعُ الإجماعُ على حُكمهِ، ولا يمنعُ ذلك القياسَ عليه (¬1). ومِثْلُ هذا أيضاً: قياسُ النبيذِ في التحريمِ على الخَمْرِ، وإنْ كان تحريمُ الخَمْرِ آكَدَ فإنه يوجبُ قليلُه الحد والتفسيقَ ويكفُرُ مُسْتَحله، إلا أن العلَّةَ المُوجبةَ للتحريمِ يشتركان فيها، فكان الفَرْعُ معتبراً به. ¬

_ (¬1) انظر"التمهيد"4/ 198.

فإن قيل: فقد اعترض الشافعي فى مناظرتِه محمدَ بن الحسن (¬1) بمثلِ هذا الاعتراضِ، حيث قال محمدُ بنُ الحسنِ في الزِّنا: إِنه ينشر الحُرْمَةَ واعتبرهُ بالوَطْءِ المُباح، بأنَّ هذا جماع وهذا جماع، فقال الشافعيُّ: هذا جماع حُمِدْت به، وهذا جماعٌ رُجِمْتَ به. فالجوابُ: أنّ هذا خَرَجَ مَخْرجَ الفَرْقِ بين الجِماعَيْن، لأن الجماعَ إذا حُمِدْتَ به كان له حُرْمَة تقتضي المحْرميَّةَ في حقِّ الموطوءَةِ، والذي يوجبُ الحدَّ لا حُرْمةَ له فلا يتعلَّق به التحريمُ. فصل ويحصل فسادُ الاعتبارِ من وَجْهَيْن، بعد انتشارِهِ في الكتابِ بما ذكَرْتُ من الوجوهِ: احدُهما من جهةِ النص. والثاني من جهةِ الأصولِ. فما يُعرفُ بالنصَ، هو أن يَعْتَبِرَ حُكْماً بحُكْمٍ، وقد ورَدَ النصُّ بالتفرقةِ بينهما، كاعتبارِ أصحابِ أبي حنيفة تخليل الخَمْرِ بالدباغ (¬2). فيقول الشافعيُّ: النصُّ فرقَ بينهما، لأنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - نَدَبَ إلى الدباغِ في شاةِ مولاة ميمونةَ (¬3) ونهى أبا طلحة عن التخليلِ لخَمْرِ ¬

_ (¬1) محمد بن الحسن أبو عبد الله الشيباني، من كبار أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة (187) هـ. "الجواهر المضية" 3/ 122. (¬2) انظر "إيثار الإنصاف": 375 و"المغني" 12/ 517 و"المحلى" 7/ 516. (¬3) يريد قوله - صلى الله عليه وسلم - حين مر بشاةٍ ميتةٍ لمولاة ميمونه: "هلّا أخَذْتُم إهابها،=

الأيتام (¬1). وما فرقَهُ النص لا يجمعُه الرأيُ والاجتهادُ. وجوابُ الحنفي عن هذا: أَن يُبَيّنَ صحةَ اعتباره وأن الشرع ورد باعتبارِ أَحدِهما بالآخَرِ؛ فإنه قال: يُحِل الدِّباغُ الجِلْدَ كما يُحل الخَل الخَمْرَ، ويتكلَّم على خبر النهى عن التخليلِ بما يُسْقِطُ الحجةَ منه. وألحَقَ أَصحابُ أَبي حنيفة بهذا حَمْلَ المُطْلقِ على المُقَيدِ، حيث قِسْنا كفارةَ الظهارةِ على كفارة القَتْلِ في اعتبارِ الإيمانِ، فقالوا: القُرآنُ فرقَ بينهما فلا يجوزُ اعتبار أَحدِهما بالآخَرِ، وهذا غيرُ صحيح، لأن النص ما فرقَ بينهما في اعتبارِ الإيمانِ بل ذكره في أحدِهما وسكت عنه في الآخر (¬2)، وأبداً يُقاسُ المسكوتُ على المنطوقِ. وأَمَّا ما يُعرفُ بالأُصولِ، فَمِنْ وجوهٍ: أَحدُها: أَن يَعْتبرَ حُكْماً بحُكْم، وأحدُهُما مبنى على التوسعةِ والآخر على التَّضْييقِ، كاعتبارِ الكفَّارةِ في رمضان بالقضَاءِ، والقطعِ بالضمانِ، فيُقالُ: هذا اعتبارٌ باطلٌ، لأنَّ أَحدَهُما مَبْناهُ على التَّضْييقِ والآخَرَ على التوسعةِ، فلا يُعتبرُ أَحدُهما بالآخَر. ¬

_ =فد بغتموه، فانتفعتم به". وتقدم تخريجه في الصفحة: 34. (¬1) أخرجه أحمد 3/ 119 والدارمي 2/ 159 من حديث انس بن مالك. (¬2) يريد أن القرآن اعتبر كون الكفارة رقبةً مؤمنةً في قَتْلِ الخَطأ بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وسكت عن كونِها مؤمنة في كفارةِ الظهار في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وانظر في هذه المسألة: "تفسير القرطبي" 5/ 314 و17/ 280 و "المغني" 13/ 517 - 519.

أو يَعتبرَ الابتداءَ بالدوامِ، كاعتبارِ ابتداءِ النكاحِ باستدامته في الإحرامِ، فيُقالُ: الاستدامةُ أقوى والابتداءُ أضْعَفُ، فلا يُعْتَبَرُ أحدُهما بالآخَرِ. أو يَعتبر الرق بالعِتْقِ، أو العِتْقَ بالبيعِ، وبُنيَ أحدُهما على الضعفِ والآخَرُ على القُوةِ، فلا يجوزُ اعتبارُ أحدِهما بالآخَرِ. والجوابُ: أنَّ يُبَيِّنَ أنهما في الموضع الذي علل سواءٌ (¬1). والثاني: أن يعتبر فرْعاً بأصْلٍ، وهما مختلفان في نظائرِ الحُكْمِ كاعتبارِ الصبى بالكبيرِ في إيجاب الزكاةِ، وهما مختلفانِ في أصولِ الفُروضِ، كالصلاةِ والصيامِ والحج. وكاعتبارِ المرأةِ بالرجلِ في إيجاب القَتْلِ بالردةِ، وهما مختلفان في القَتْلِ بالكُفْرِ الأصليِّ، وما أشبه ذلكَ. والجوابُ: أن يُبَينَ أن ما ذُكِرَ أنه نظير للحُكْمِ ليس بنظيرٍ، وإِنَّما نظيرُ الحُكْمِ غيرُهُ، وهما يتفقان فيه (¬2). وأضاف اصحابُ ابي حينفة وُجوهاً أُخَرَ، فقالوا: لا يجوزُ اعتبارُ المُتقدم بالمُتَأخِّرِ، كاعتبار أصحابنا وأصحاب الشافعيُّ الوضوءَ بالتَيَممِ في اشتراطِ النَيةِ لان آية التيمُّم نزلت مُتأخرَةً عن آيةِ فَرْض الوضوءِ، ووجَبَتْ فيه النيَّةُ قَبْلَ أَن يُشْرَعَ التيممُ، فلا يجوزُ أَن يُجعَلَ ¬

_ (¬1) انظر "المعونة في الجدل": 114. (¬2) "المعونة في الجدل": 114 - 115 و"التمهيد"4/ 197.

وجوبُ النيةِ في التيممِ علةً لوجوبِها في الوضوء؛ لأنَه يؤدي إِلى أن تتأخرَ العلَّةُ عن الحكمِ، والأصلُ عن الفَرْع، وهذا لا يجوزُ. والجوابُ: أَنّا لم نَجْعَل التيمُّمَ عِلَّةً لوجوبِ النيَّهِ في الوضوءِ وإنَّما جعلناه دليلاً، فقُلنا: لمَا أوْجَبَ الله تعالى التيممَ بعد الوضوء وأوجَبَ فيه النية، وهو بَدَلٌ عَنْهُ وقائمٌ مقامَهُ، دلنا ذلك على أن النيةَ واجبةٌ في الوضوءِ، لأنَه الأصْل، إذ البَدَل لا يُفارق [المُبْدَلَ] (¬1) في باب النيةِ في الأصول، بدليلِ الكفاراتِ إثباتاً والعِدَدِ سَلْباً، وهذا مِنْ طريقِ الدَلالةِ، والدَلالةُ يجوز تأخُّرها عن المَدْلولِ، فَيضمنها الله دلالةً على السابقِ لها في الوجودِ، وهذا كما ضَمَن المحْدَثاتِ دلائلَ دلتْ على محْدِثِها وصانِعها، فدلت المحدثات على القديمِ سبحانه. واستدللنا بالمُعْجزِ المتاخِّرِ على نبؤَةٍ سابقةٍ تثبتُ بمُعْجزٍ قَبْلَ المُعجزِ الثاني والثالثِ. ومما الحقوه وأضافوه إِلى فسادِ الاعتبارِ: أنَه لا يجوزُ الاستدلالُ بنَفي وقوع الطلاقِ في النكاحِ الموقوفِ على نَفْيِ أصلِ النكاحِ، وقد سَبَقَ الكلامُ عليه. ومما أضافوه أيضاً أن قالوا: لا يجوز أن يعَلقَ الحكْمَ على معنى مُتَوهمٍ، كاستدلالِ الشافعيِّ في نكاحِ المسلمِ الأمةَ اليهوديةَ: أَن هذا يؤدي إِلى أن يسترق الكافرُ ولَدة منها (¬2)، فقالوا: الاسترقاقُ معنىً مُتَوهَّمٌ، فلا يجوزُ إبطال العَقْدِ بسَبَبِهِ. والجوابُ: أنَّ الولدَ مِنْ مقاصدِ النكاحِ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق، وانظر "المعونة في الجدل": 115. (¬2) انظر "المغني" 9/ 554.

- فصل في فساد الوضع

"تناكحوا، تكثُروا (¬1) "فجاز أن يُجعلَ علَّةً للحكم ولأنَّ العلَّةَ كونه مما يؤدي إلى أن يسْتَرق ولدة منها، وهذا معنىً فتَحقق غيرُ فتَوهم، ولأن هذا متفق على استعمالهِ. فأمَّا ما نَحْن فيه فاستعملناه هاهنا وهم استعملوه في السلَمِ في المعدومِ، فقالوا: ربما مات المُسلم إليه ولا نجدُ المُسلم فيه. فصل في فسادِ الوَضْعِ (¬2) وهو: أنَّ يعلقَ على العلَّةِ ضِدُّ ما تقتضيه. وانما يعرف ذلك من وَجْهَيْن: من جهةِ الرسولِ، ومن جهةِ الأصولِ. فأمَّا جهة الرسولِ، فَمِثْلُ: قَوْلِ الحنفيُّ في تنجيِسِ سؤرِ السَّبُعِ: لأنَه سَبُع ذو نابٍ، فكان سؤرُهُ نَجِساً، كالخِنزير. فيقول له الشافعي: كوْنه سَبعاً جُعِلَ في الشرع علةً للطهارةِ؛ والدليلُ عليه ما روي أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعِيَ إلى دارِ قَوْم فأجابَ، ودُعي إِلى دارِ قوم فلم يجبْ، فقيل له: دعاكَ فلان فأجَبْت، ودعاك فلانٌ فلم تجِبْ! فقال: "إنَ في دارِ فلانٍ كَلْباً"، فقيل: وفي دارِ فلانٍ هِرة، ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في مصنفه (10391)، وضعَّفه المُناوي والأَلباني. انظر: "التيسير بشرح الجامع الصغير" 1/ 456 و"ضعيف الجامع": 365. (¬2) انظر في هذا الفصل: "التمهيد" 4/ 199 و"شرح مختصر الروضة"3/ 472 و"شرح الكوكب المنير"4/ 241 و"فواتح الرحموت" 2/ 346 و"المعونة في الجدل": 111.

فقال: "الهرةُ سَبُع (¬1) ". فجعل كَوْنَ الهِرةِ سَبُعاً علةً في الطهارةِ، فلا يجوز أنَّ يُجْعلَ علةً للنجاسةِ. والجوابُ أَن يتكلم على الخَبَرِ بما يُسقطه لتسلمَ له العلَّةُ. وأما ما عُرفَ من جهةِ الأُصولِ، فمِثْلُ: أن يقولَ الحنبليُّ أو الحنفيُّ في قَتْلِ العَمْدِ: إنه معنى يوجبُ القَتْلَ، فلا يُوجبُ الكفارةَ، كالردَّةِ. فيقول الشافعيُّ: علقْتَ على العلَّةِ ضد مقتضاها (¬2)، لأن كَوْنَهُ موجباً للقَتْلِ سببٌ للتغليظ، فلا يجوزُ أَن يُجْعَلَ سبباً لأسقاطِ التخيير بالتكفير. والجواب للشافعيِّ أن يقولَ: إِنه لا يقتضي إلا ما عُلقَ عليه، لأنه إِذا تغلًظ بوجوبِ القَتْلِ وجب أن يُستغنى عن تغليظٍ آخَرَ. وأجاب بعضُهم عنه: بأن هذا يبطلُ بالأصلِ، وهو الردةُ، فإنها أوجبتِ القَتْلَ، ثم لم تُوجب الكفارةَ. وهذا ليسس بصحيحٍ؛ لأَن السائلَ لم يقلْ: إِنَّ وجوبَ القَتْلِ علَّةُ لإيجابِ الكفارةِ. وإنما قال: سببٌ للِإيجابِ، وسببُ الِإيجابِ لا يصلُحُ أَن يُعَلقَ عليه الِإسقاطُ. وإِن كان لا يتعلَّقُ به الِإيجابُ كالشاهِد الواحدِ على الِإيجابِ، لا يُحْتَج به في الِإسقاطِ، وإن كان لا يتعلَقُ به الإيجابُ، وكذلك هاهُنا. ¬

_ (¬1) تقدم خريجه في الصفحة: 27. (¬2) في الأصل: "نقيضاها". وانظر التمهيد 4/ 200.

- فصل في اعتراض العلة على أصلها

فَصْلٌ في اعتراضِ العلَّةِ على أصلها وذلك من وَجْهين: أحدُهما: أَن تُسْقِطَ أَصْلَها، كعِلَّةِ أَصحابِ أَبي حنيفة في جواز الصلاةِ بلفظ التعظيم: أنّه لفْظ يقصَدُ به التعظيمُ لله سبحانه فأَشْبَهَ لَفْظَ التكبيرِ، فإن الأَصلَ ثبت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاحُ الصلاة الطهور، وتحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التسليم (¬1) " وهذا يقتضي تخصيص التحريمِ بلفْظِ التكبيرِ، وهذه العلَّةُ تُبطُل هذا، فأبْطَلَتْ أَصْلَها. والثاني: أَن تَخُصَّ أَصلَها، كقولهم في الرِّبا: إِنه مكيل جِنْسٍ، فإِنَّ الأصلَ ثبت بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعوا البُر بالبُر (¬2) " وهو علَة في القليلِ والكثيرِ، وعلَّتكم تخصُّ الأصْلَ في القليلِ، فلا تصحُ، لأنه لو كان ذلك علةً، لَعَمت جميع الأَصلِ، لأنَّ المطلوبَ علَّةُ الأصل. والجوابُ: أن يتكلم على الخبرِ في المَوضعَيْن، ويُبَينَ أَن الخبرَ في الأول لا يقتضي الحَصْرَ، والخبر في الثاني لا يتناول القليل، ليبقى القياسُ بحاله. فصل في الكَسْرِ والاعتراض به على العلَّة (¬3). وهو نَقْض المعنى. وهو وجود معنى العلَّةِ ولاحُكْمَ، كما أنَّ النَقْضَ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3) وابن ماجه (275) والدارقطني 1/ 360 من حديث على رضي الله عنه. (¬2) سبق تخريجه في الصفحة (48) من الجزء الأول. (¬3) انظر في هذا الفصل: "المسوَّدة": 429 و"التمهيد" 4/ 168 و"شرح الكوكب"4/ 293 و"الإبهاج" 3/ 125 و"المعونة في الجدل": 107 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 510.

وجودُ ألفاظِ العلَّةِ ولا حُكْمَ. وقد اختلف فيه أهل العلم: فقيل: ليس من الأسئلةِ اللازمةِ. وقيل: هو لازمٌ. فمن لم يجعله سؤالًا، لم يلْزَمْ عنده الجواب عنه، لأنه يعتقد أنه ليس بكلامٍ على الدليلِ. ومن اعتقده سؤالاً ألزمَ الجوابَ عنه. ومثالهُ: قَوْلُ أَصحابِنا وأَصحابِ الشافعيِّ في بَيع ما لم يَرَهُ: إنه مَبيع مجهولُ الصفةِ عند العاقدِ حال العَقْدِ، فلم يصحَّ بيْعُهُ، كما لو قال: بعتُك عبْداً (¬1). فيقول المخالفُ: هذا ينكسرُ به إذا تزوج امرأةً ولم يَرَها، فإنها مجهولة الصفةِ عند العاقدِ حالَ العَقْدِ، ثم يَصحُّ. فمَنْ مَنَعهُ قال: هذا ليس بكلام على دليلي، لأنَك غَيرْتَ الوصْفَ، وإِذا غيرت الوصْفُ لم يكن الذي تكلمت عليه دليلي. ومن أجاب عنه واعتقده سؤالًا قال: ليس النكاحُ كالبَيْع؛ وأَخَذ يبعد بالمعنى حسب الإِلزامِ بالمعنى، ويوضح في تَبْعيدهِ: أَن النكاحَ لا يُعْقدُ فيه على الصفات، ولذلك لا تُفْرَدُ صفاتُه بالعَقْد ولا يلزمُ اشتراطُها، ولا يثبتُ الخيارُ فيه بالرؤيةِ بخلافِ سائرِ السلع. فيُجيب الحنفي: بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حث على تأملِ صفاتِ المنكوحةِ ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 6/ 299 وما بعدها.

قَبْلَ النكاح، وقال: "تُنكحُ المرأةُ لجمالِها (¬1) ". وُيقرِّب النكاحَ من البَيْعِ بحيث يَنْدفغَ الفَرْق وَيقْرب النكاحُ من البَيْعِ بالمعنى. واعتلَّ مَنْ مَنَع كَوْنَه سؤالًا بما نُحَقَقه في مسائلِ الخلافِ إن شاءَ الله، ولكنا نُعَجِّلُ منه طرفاً هاهُنا بأن نقول: الكَسْرُ كلام على بعضِ الدليلِ أو على غيرِهِ، لأَنَّه لا يَقَعُ إلاّ ممَّن يُسْقِطُ من العلَّةِ وصْفاً، أَو يُغَيِّرُ وصْفاً، فالكلامُ على بعْضِ الدليلِ ليس بكلام على الدليلِ، ويكون ما اسقطه أو غَيَّرُه هو الفَرْق بين مسألةِ الإلزام وبين المسألةِ المُستَدَلِّ عليها. قال: وُيخالفُ نَقْضَ اللَّفْظِ، لأنَه أبْطَلَ العلَّةَ التي ذكرها، ولهذا لم يقبَلْ منه الفَرْقُ، لأنه يكونُ زيادةً على ما ذكره من الدَّليلِ. ولِمَنْ نَصَرَ صحةَ الكَسْرِ أنَّ يقولَ: انما نُوردُ الكَسْرَ على علًةٍ فيها وصْف ليس بمؤثّرِ في الحُكْمِ ولا يتعلًقُ به المعنى, فلا نكون قد نَقَضْنا من العلَّةِ شَيْئاً، ومتى كانت جميعُ أوصافِ العلَّةِ مؤثرةً فلا كَسْرَ. فيقول النافي لصحًةِ الكَسْرِ: فإِذا كان في العلَّةِ وصْف غَيْرُ مؤثرٍ وجَبَ إِسقاطُه والطَعْنُ في العلَّةِ لعَدَمِ التأثيرِ، ولا معنى لإِيرادِ الكَسْرِ. فيقول المُثبتُ للكَسْرِ: عَدَمُ التأثير سؤال لإِفسادِ العلَّةِ، والكَسْرُ طريق أيضاً لإِفسادِ العلَّةِ، فأيَّهما أوْرَدَ، نابَ مَنابَ صاحبهِ. فيقول النافي للكَسْرِ: هذا غيرُ مستقيمٍ، لأنَّه مُتَرَتِّبٌ على سؤالٍ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد فى 2/ 428 والبخاري (5090) وأبو داود (2047) والنسائي 6/ 68 وابن حبان (4036) من حديث أبي هريرة.

قَبْلَهُ تَفْسُدُ به العلَّةُ، وهو بيانُ أن هذا الوَصْفَ لا يتعلقُ به الحُكْمُ، والمعنى مُتعلَق بما سِواه ليتم له إيرادُ الكَسْرِ، وإن ثَبَتَ أنه لا تأثيرَ لوصفٍ من الأوصافِ [فى]، العلَّةِ، فقد فَسَدت العلَّةُ بعدمِ تأثيرِ ذلك الوصْفِ، ولا معنى لإيرادِ الكَسْرِ.

الاعتراض العاشر: المعارضة

فصول المُعارضة (¬1) فصل إذا عارَضَ المُعترضُ العلَّةَ بُنْطقٍ، نَظَرْتَ، فإِن كان نَصّاً كان مُقَدماً عليها، لأنَّ نَصَّ خَبَر الواحدِ مُقَدَّم على القياسِ، وبيانُ ذلك في أصولِ الفِقْهِ وتراتيبِ الأدلةِ وقد مضى (¬2). وإن كان النُّطْقُ ظاهراً أو عموماً، فقد اختلف أهلُ الجَدَلِ فيه، ولأصحاب الشافعيُّ فيه وجْهان: فمنهم مَنْ يقولُ: يُقَدَّمُ النطْقُ، لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "بمَ تحكمُ؟ " قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تَجدْ؟ " قال: بسُنَّةِ رسول الله، قال: "فإن لمَ تَجدْ؟ " قال: أجتَهِدُ رأيي، قال: "الحمدُ لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ اللهَ لِما يرضاه رسولُ الله" (¬3). فأخر الرأيَ عن الكتابِ والسنَّةِ. ومنهم مَنْ قال: يقدم القياسُ، لأنه تناولَ الحُكْمَ بنصهِ وصريحِه وحقيقتِهِ، فكان مقدماً على ما تناوله بظاهرهِ أو عُمومِهِ، كما أنَّ نَص خَبَرِ ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد"4/ 215 و"شرح الكوكب المنير"4/ 294 و"شرح مختصر الروضة" 3/ 527. (¬2) أنظر: ما تقدم في الصفحة (5) وما بعدها. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة (5).

- معارضة العلة بعلة

الواحدِ يخصُّ عُمومَ القرآنِ وإِنْ كان طريقهُ الظنَّ، وطريقُ القرآنِ العِلْمُ والقَطْعُ، لأَنه تناوله بَنصَه. إِذا ثبتَ هذا، فإنَّ أَصحابَ أَبي حنيفة يقولون: لا يُبْتَدأُ التخصيصُ بالقياسِ، فإن كانَ العمومُ مخصوصاً بغيرِهِ، خَصَصْناه به. مثال ذلك: تعليل أَصحابنا وأَصحابِ الشافعيِّ في مسألةِ امرأةِ الصبي إذا مات وهي حاملٌ: أنها تعتد بالَأشهر دون الحَملِ، لأَنَّ هذا الحَمْلَ مَنْفيّ عنه قَطْعاً ويقيناً، فلم يُعْتَدَّ به، كما لو حَدَثَ بعد مَوْتِهِ. فقال أَصحابُ أَبي حنيفة: هذا القياسُ يخصُّ عُمومَ القُرآنِ، وهو قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فلا يُصْرَف عن ظاهرِهِ بالقياس. ووَجْهُ ما ذكرْناه: أَنّه لا فَرْقَ في تَخْصيص العُموم بين ابتداءِ التَخْصيصِ وثانيهِ، لأنَّ للفْظِ المخصوصِ دلالةً فيما لم يُخصّ، كما أن لِلَّفظ في الابتداءِ في الكُلِّ. لا يُخالفُ أَبو حنيفةَ في ذلك وإِنَّما عيسى بن أَبان (¬1) يقولُ: إِذا خُصَ بطلت دلالتُه، فلا معنى لما ذكروه، وعلى أَنه في هذه الآيةِ قد خُصت في الحَمْلِ الحادثِ بعد الموت. فصل وأما إنْ عارضَ بعلةٍ نُظرَتْ: فان كانت من غير أَصلِه، مثل أَن يقولَ الحنبليُّ أَو الشافعي في إزالةِ النجاسةِ: إنَّها طهارة فلا تصحُ بالخَلِّ، كالوضوءِ. فيعارضه السائل؛ بأنها عين يزول حكمها بالماء، فوجب أن تزول بالخل، حَالطيب على توب المحرم. ¬

_ (¬1) هو عيسى بن أبان بن صدقة، أبو موسى القاضي، الفقيه الحنفي، توفي بالبصرة سنة (221). انظر "الجواهر المضية" 2/ 678.

كان على المُسْتدِلِّ أن يتكلم على العلَّةِ التي عارضَه بها بما يتوجه عليها من أَنواعِ الإفْسادِ أَو يُرجحَ عليه، كما لو كان السائلُ هو المستدِل ابتداءً. فصل وأما إنْ عارَضَهُ بعِلةٍ من أصلهِ، نُظرَتْ، فإن كانت العلةُ التي عارضه بها واقعةً مِثْلَ أن يُعَللَ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيُّ في ظِهارِ الذميِّ بأنه يصح طلاقُه، فصح ظِهارُهُ، كالمُسْلمِ. فيقول الحنفي: المعنى في المسلمِ أنه يصحُّ منه الكفارةُ. فيقول المستدل: هذه علةٌ واقفةٌ (¬1)، والواقفةُ عندك ليست صحيحةً، وعلى أني أقولُ بالعلتَيْنِ، لأن حُكْمَ هذه العلَّةِ التي ذكرتها لا يُنافي حُكْمي. ومن الناسِ مَنْ قال: لا حاجةَ به إلى تسْليم العلَّةِ له، بل يقولُ: هذه العلةُ التي ذكرْتها لا تُنافي علتى ولا تَمْنَع تَعلقَ الحُكْم بها، لأَنَها تُوجبُ حُكماً مِثْلَ حكمِ علتي. فإنْ قال: إذا ثبتَ تَعلقُ الحُكْمِ بهذه العلَّةِ، ثبتَ أنَّ حُكْمَ الفَرْع بخلافِ ذلك، لأنه لا يُوجَدُ فيه. قال له المُسْتَدِلُّ: ليس يَلْزَمُ في العِلةِ أنَّ تنعكسَ، ويجوزُ أنَّ يثبت الحكمُ في عَكْسِها لعلةٍ أخرى، فيكون الحكمُ في الأصلِ ثابتاً ¬

_ (¬1) العلَّة الواقفة: هي العلةُ القاصرة. وانظر تمام الكلام عليها في "شرح الكوكب المنير" 4/ 51، و"التبصرة": 452.

- المعارضة بعلة متعدية

بعلتَيْن تُوجدُ إحداهُما في الفَرْع دون الأخرى. فإن قال السائلُ: فقد أقْرَرْتَ بصحةِ علتي التي عارضْتُ بها، وأنا لا أقر بصحةِ عِلتِك التي ادعَيْتَها، فيلزمك الدليلُ، صار هذا مطالبةً بتصحيحِ العلَّةِ وخَرَجَ عن حُكْمِ المعارضةِ. فصل وأما إنِ كانت العلةُ التي عارضَ بها مُتَعدِّية، نظرت، فإن كانت معلولاً بها داخلة في معلولاتِ علَتِهِ، لم تصح المعارَضةُ، لأَنَّها علَّةُ المُعَلِّلِ وزيادةٌ. وذلك مثل: أَن يُعَللَ أَصحابُنا في إحدى الرواياتِ وأصحابُ الشافعي البُر: بأَنَّه مَطْعومُ جنْسٍ، فيقول المالكيُّ: إنَّه جِنْسٌ فكان القُوتُ داخلا في الطعْمِ، كأنَّه قال: مطعوم (¬1)، وكذلك قال أصحابُنا في طعامِ الكفارةِ: لا يجوزُ أَن يُعْطى منه مسكينٌ واحدٌ مُديْنِ في يَوْمَيْن؛ لَأنه مسكين استوفى قُوتَ يوْمِهِ من كفارة، فأَشْبَهَ إذا أَعطاه ذلك عن يَوْمَيْن في يَوْمٍ واحدٍ سَلَفاً لحاجتِه من الغَدِ (¬2). فيقول الحنفيُّ: المعنى في الأصلِ أنَّه استوفى قُوتَ يَوْمِهِ من كفارةٍ. لم تصِح هذه المعارَضةُ، لأنَّ يَوْمَهُ داخلٌ في علَّةِ المعلِّل من أصحابِنا، وهو اليوم المُنكَرُ، قال أبو عليِّ الطبري من أَصحابِ الشافعي: وكذلك إِذا قيل في حرمان الميراثِ بقَتْلِ الصبيِّ ¬

_ (¬1) انظر مقدمات ابن رشد بهامش المدونة 3/ 174. (¬2) انظر "المغني" 13/ 513.

لمَوْروثِهِ: إنَّه قاتل فاشْبَهَ البالغَ (¬1). فقال أصحابُ أبي حنيفة: المعنى في البالغِ أنه مُتهم بالقَتْلِ؛ لأن المتهم في استعجال الميراثِ بالتسَبب إلى القَتْلِ ولم يَحْصُل منه، مِثْلَ إن عدا على موروثه بحديدةٍ أو أطَعمه سُماً قاتلًا، فتدواى فَسلِمَ منه، هذا مُتهَم في تَعْجيلِ الإرْثِ ولا يُحْرَمُ الإرْثَ. وكذلك لو جَرَحَهُ جراحةً يموت بمِثْلِها، فلا زال يُداويها حتى بَرأ، ثم مات من غَير سرايتِها، فإنَّه مُتَّهَم، ولا يُحْرَمُ الإِرْثَ، فإِذا كانت التهمةُ بالقَتْلِ، فهي داخلة في علةِ مَنْ عللَ بالقَتْلِ خاصةً. فأَما إن لم تكن معلولاتُها داخلة في معلولاتِ علَتِهِ، مثل أَن يُعَلِّلَ البُر بأنه جِنْسُ مطعومٍ ونَقيسُ عليه الفواكه. فيقول الحنفي: المعنى في البُر أنه مَكيلُ جِنْسٍ. فيحتاج المستدل أن يتكلم على علَّةُ المُعارِضِ بما يتوجه عليها من إفسادٍ، أو ترجيحِ علته على ما علل به من الكَيْلِ. ويوضِّح أنَّ الطعْمَ وَصْف ذاتيٌّ، والكيل مِقْدار وعَلَم على التساوي، فَيَبْعُدُ أنَّ يكونَ علةً. ومتى عجز عن واحدٍ منها، كان مُنْقَطِعاً بمساواتهِ المُعْترِضَ، وليس يخرجُ من الانقطاعِ إِلا بترجيحٍ لِعلتِهِ. قال بعضُ الشافعيةِ: ولا يُمكنُ أنَّ نقولَ بالعلتَيْن؛ لأَن الإجماعَ انعقد على أنَّ العلَّةَ في البُر واحدة، وليس كما وقع له، بل قد ذهب ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 9/ 152.

- فصل: لا تحتاج علة الأصل إلى أصل ترد إليه

صاحبُنا -رضي الله عنه- في رِوايةٍ إلى أَنَ العِلَةَ ذاتُ وَصْفَيْن، وهما (¬1): الطعم والكَيْلُ (¬2)، فيمكن الحنبلي أن يقولَ بما علل به المعارضُ إذا نَصَرَ هذه الروايةَ؛ لأن ما جعله المخالفون علةً هو عِنْدَ صاحبِنا وَصْف، فالعِلةُ ذاتُ وَصْفَيْن: طُعْمٌ، وكَيْلٌ. فصل ولا تحتاجُ علَّةُ الأصلِ إلى أصلٍ تُردُّ إِليه، لأن الأصل ثبت حُكْمُه لا مِن جهةِ القياسِ على غيرِهِ، وإنما ثبت بالنُّطْقِ، والعلَّةُ مُسْتَنْبَطَة منه (¬3)، فإن كان الأصلُ ثبت حكمُه بالقياسِ على قول مَنْ أجاز القياسَ عليه، فانما يكون القياسُ عليه بغيرِ العلَّةِ التي أُثْبِتَ حُكْمُهُ بها، وتكونُ العلةُ التي ثبت حُكْمُهُ بها جاريةً مَجْرى النُّطْق فيه، لَأنَ القياسَ دليلٌ شرعيٌ، كما أَن النُّطْقَ دليلٌ شرعيٌ، وإِذا قيس عليه بالعلَّةِ التي ثبت الحُكْمُ بها، فلا يكون أصلًا لما قِيسَ عليه، لأن الذي قيسَ عليه مُقاس على الأصْلِ الذي انتُزِعَتْ منه العلةُ، ولا يكونُ أَحدُهما بكَوْنِهِ فَرْعاً أوْلى من الآخَرِ. وأما الفَرْعُ فلا بُد لعلتِهِ من أصْل، لأن الفَرْعَ ثَبَتَ حُكْمُه بغَيْرِهِ. فصل وليس من شَرْطِ علةِ المعارَضةِ في الأصلِ أن تُعْكَسَ في الفَرْعِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: وهو. (¬2) انظر كتاب المسائل الفقهية من "كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى الفراء 1/ 316. (¬3) "التمهيد"4/ 222.

بل يجوزُ أنَّ تُذْكَرَ عِلةٌ في الأصْلِ ويُذكَرَ في الفرع علَّةُ أخرى (¬1). وذكر بعضُهم: أَنه متى لم يعكِسْها في الفَرعِ، لم يحصل الفَرْقُ، لأنَه يمكنه أنَّ يقولَ بعلة الأصل وليس، ما اعتبره هذا القائلُ صحيحاً، لَأنَّ علةَ الَأصْلِ لا بُدَّ أَن يَحْصُلَ بها الفَرْقُ، لأَنها غيْر موجودةٍ في الفَرْعِ، ويكفي عَدَمُ وجودِها في الفَرْع، لأَن يَخْرُجُ بعدَمِ وجودِها أنَّ يكون فَرْعاً، وأَن يكون مُعَلِّلاً بما يَحْصُلُ به العَكْسُ، وهو إذا ذكر علَّة في الفَرْعِ وليست موجودةً في الأصْل فقد خَرَج أنَّ يكون فرْعاً، فصار بذلك فرْقاً صحيحاً. فلا وجْهَ للمطَالبة بالعَكْسِ، وقد حصل الفَرْقَ بما ذكَرْنا مع عَدمِ العَكْسِ. وأما قولُه: أَنَّه يُمكنه القولُ بها في الأصل، فليسٍ بصحيح؛ لأن علةَ الأصلِ التي لم يعكسْها يجوزُ أَن تكون مُنْتَقَضَة على أَصْلِ المعللِ، لأنها تتعدى إلى فُروعٍ لا يقول بها، وإِنما يصح ذلك في العلَّةِ الواقِفةِ، ولأن علَّةُ المُعارِض لا بُدَّ أن تكون مُنعكسة على أصْلِهِ، وإنما في الفَرْع يُعْدَلُ عن ذلكَ، لأن المستدل لا يُسَلَمُ له حصول العكس في الفَرْع، وذلك يكونُ في العلَّةِ إذا كانت حُكْماً أوْ صِفةً شرعيَّةً، مثل أن يُعَللَ أصحابُ أبي حنيفة طهارةَ جِلْدِ الكَلْبِ بالدَباعِ: بأنَّه حيوانٌ يجوزُ الانتفاعُ به حال حياتِه، فطَهُرَ جِلْدُهُ بالدباغ، كالفَهدِ. فيقول الشافعيُّ: المعنى في الفَهْدِ أنه يجوز بَيْعُهُ حال حياتهِ ولا يُغْسَلُ الإناءُ مِنْ ولوغهِ عَدَداً، ويُقْتنى إعجاباً به واستحساناً له لا لأجْلِ الحاجةِ إليه، وليس كذلك الكلب، لأَنَّه نَجِسُ العَيْنِ لا يجوزُ بَيْعُهُ، ¬

_ (¬1) "التمهيد"4/ 223.

- فصل: المعارضة بعلة مجمع عليها

وَيقفُ اقتناؤهُ على الحَاجةِ، فهذا العكْسُ كله لا يقولُ به الحنفيُّ ولا يُسَلِّمُهُ (¬1). فصل وإذا عارَضَه في الأصل بعلةٍ مُجْمَع عليها، وذلك مثل: أن يُعَلِّلَ الشافعيُّ في أَن صفةَ الطلاقِ لا تنعقه قَبْلَ النكاحِ: بأَنَّ مَنْ لا تقَعُ طلاقُهُ المباشِرُ لا تنعقد صفتُه بالطلاقِ كالصبيِّ. فيقول الحنفيُّ: المعنى في الأصلِ أنه غيرُ مكلفٍ فلم تنعقد صفتُه بالطلاقِ، والبالغُ مُكلَّفٌ أَضافَ الطلاقَ إِلى مُلْكِهِ، فأَشْبَهَ الزَّوْج. كان للمستدل أن يقولَ: أنا أقولُ في الأصلِ بالعلًتَيْن. ويتكلَّم على علَّةُ الفَرْع، كما يتكلَّمُ عليها إِذا ابتدأ الاستدلال بها، فيقول: لا تأثيرَ لقولِك: أضافَ الطلاقَ إلى ملْكِهِ في الأصل لأن الزَّوْجَ يَقَعُ طلاقُهُ وإِنْ لمْ يُضِفْهُ إلى ملْكِهِ. وربما قيل على المعارَضةِ: إِنَّ اختلافَ الصبى والبالغِ في التكليفِ لا يمنعُ استواءَهما مع عَدَم الملْكِ، كما استويا في الطلاقِ المُباشر. ولربَّما قيل بلَفْظٍ آخر: وهو أنَّ الصبى إن كان غَيْرَ مكلف، فهذا غَيْرُ مالكٍ، وعدَمُ الملْكِ في مَنْعِ التصرفِ كَعَدَمِ التكليف. فصل واذا كان القياسُ على أصول عدة، فعارضَ في بَعْضِها، لم يكْفِهِ ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 6/ 352، 356. و"نَيْل الأوطار" 1/ 62.

- فصل في الترجيح بين العلل

ذلك في المعارَضةِ؛ لأَنَّ الحجَّةَ باقيةٌ بما بقي من الأصولِ ولو أصلٌ واحدٌ. مثالُ ذلك: أن يستدلَّ أصحابُنا في رواية وأصحابُ الشافعيُّ في نجاسةِ شَعْرِ الميتة، بأَنَّه شعر نابتٌ على ذاتٍ نَجِسَةٍ فكان نجساً، كشَعرِ الكَلْبِ. فيقول الحنفيُّ: المعنى في الكَلْب أنَّ شَعْرَهُ في حالِ حياتهِ نَجِس، فكان نَجِساً بعد مَوْتِهِ. كان للمسَتدل أنَّ يقولَ: هذه معارضةٌ فاسدةٌ، لأنَّها في بَعْضِ الأَصْلِ، وأَنا قِسْتُ على شَعْرِ الكَلْبِ حالَ حياتهِ وبعد مَوْتِهِ، فإِذا عارضني في بَعْضِ أصلي كان التعليلُ باقياً مُسْتَقِلًا بما بقي لي من الأصْلِ. فصل إِذ تعارَضَتْ علَّتان ولم يتوجه على إحداهُما إفسادٌ، وهذا إِنَّما يكونُ في قَوْل مَنْ يعتبرُ جَرَيانَ العلَّةِ وسلامتَها على الأصولِ خاصةً في صحَّتِها. فَأمَّا من اعتبر تأثيرَ العلَّةِ والدلالةَ على صحَّتِها فيقل وُجودُ ذلك. فإِذا تعارَضَت العلَّتان لم يكن بُدٌّ من ترجيحِ إِحداهُما على الأخرى، فيُعملُ بالراجحةِ. فمِما يُرجَّحُ به: أن تكونَ موافقةً لعمومِ كتاب أو سُنةٍ أو قولِ صحابيٍّ، وذلك مِثل أن يُعَللَ مَنْ قال: أنَّ بَدَلَ العبْدِ تَحْملُه العاقلةُ بأَنه يتعلَّقُ بقتلِه القَصَاصُ والكَفارةُ، فحُمِّلت العاقلة بَدَلَه، كالحُر. ويُعَقَلُ مَنْ قال: إنَها لا تَحْملُه: بأنَّه مالٌ تَجبُ قيمتُه بالِإتْلافِ فلا تحملُه العاقلةُ، كسائرِ الأَموالِ، فرجح مَن قال بهذا قياسُه بأَنه مُوافق

للكتاب، فمن [ذلك] قوْلُه تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. ويمكنه أن يُرَجحَ بنوعٍ آخَرَ، وهو أنَ المُتْلفاتِ مُعْظَمها يجبُ على المُتْلفِ، وإِنَّما ثبتَ التحمُّلُ في حق الحُر خاصةً لِما يحصلُ بقَتْلهِ من النائرةِ بين الحيَيْن أو العشيرة فكان إلحاقُ هذا العَبْدِ بسائرِ الأموال أولى. ويُمكنُ مَنْ ألْحقَهُ بالحُرِّ أن يقولَ رد العَبْدِ إلى الحُر أَولى، لأنَّه يُرَد إِلى شَكْلِهِ وجنْسِه، وذلك مثل قَوْلِ أَصحابِ أَحمدَ والشافعيِّ: إن اللعانَ يَمينٌ؛ لأنَّه ذكر الله تعالى على وَجْهِ تأكيدِ الخَبَرِ، فكان كسائرِ الاَيْمانِ، فكان إِلحاقه بها اوْلى مِنْ إِلحاقهِ بالشهاداتِ. فصل ومن ذلك: أن تكونَ إحدى العِلَّتيْن تَخُصُّ أَصلَها الذي انتُزِعَتْ منه، وذلك مِثْلُ علَّةُ أصحابنا في إِحدى الرواياتِ، وعلَّةِ أصحاب أبي حنيفة في البُرِّ أنَّه مَكيلٌ، فإِنها تُخرجُ الذي لا يُكالُ من الرِّباَ على أصلِ أصحاب أبي حنيفة خاصَّةً، فإِنَّ أصحابَنا مع المُوافقةِ لهم في التعليلِ بالكَيْلِ، يخالفونهم في اليَسيرِ. وعلَّةُ أصحاب الشافعيُّ وأصحابنا في الروايةِ الأخرى: الطُّعْم، وهي تَجْمَعُ الكُلَّ، فلا تَخُص أَصْلَها. فصل ومن ذلك: أن يكونَ حكم العلَّةِ موجوداً معها، وحكم الأخرى يوجد قَبْلَها، فتكون المصاحِبَة للحكْمِ أوْلى.

مثالُه: قَوْلُ أصحابنا وأصحاب الشافعيِّ في البائن: لا نَقَقَةَ لها، بأنَّها أَجنبيّة منه، فاَشبَهَتِ المقضيّهَ العِدَّةِ. وقَوْلُ أصحابِ أبي حنيفة: إِنَّها مُعْتدَّةٌ مِنْ طلاقٍ، فأشبَهَتِ الرجعيَّةَ، والنفقةُ تجبُ للزوجةِ قَبْلَ أن يطلقها طَلْقَةً رجعية، فعلتنا المُصاحبهُ أَولى، لكونها لم يَسْبِقْها حُكْمُها بَلْ صاحبَها. فصل ومن ذلك: تَقْديم أصحاب الشافعيِّ تَمْييزَ المستحاضةِ على عادتِها، لأن التمييزَ صفةٌ قائمةٌ فيَ الحالِ، والعادةُ زمانٌ مَضى. فصل وذكر أَبو عليٍّ الطبريُّ من أَصحاب الشافعيِّ: أَنَّ العِلَةَ إذا اتفق الفَرْعُ مع الأصل في الاسمِ بالجِنْسَ والمَعْنى كانَتْ أوْلى. مثالُ ذلك: أن يُعَللَ في رَهْنِ المَشاعِ أو هِبَتِهِ بأنَّه رَهْنٌ، فأشْبَهَ اذا رَهَنَ من اثنين أو وهب من شريكهِ، كذلك اذا علل في المُكاتَب أَنّه لا يجوزُ عِتْقُهُ في الكفَّارةِ بأنَّه مُكاتَبٌ، فلا يُجْزىء في الكفارةِ، كما لو كان قَدْ أدى مِنْ كتابتِهِ نَجْما (¬1). وكذلك إذا مات فإنه مات مكاتَباً فأشْبَهَ إذا لم يكن له وَفاءٌ، وإنما كانت هذه أَوْلى، لأنَّ الغَرَضَ تَقْريبُ الأصلِ من الفَرْعِ، فإذا اشتركا في الاسم كان أقْرَبَ، وهذا صحيحٌ فيما يكون للاسمِ فيه تعلق ¬

_ (¬1) يقال: نَجَّمْتُ المالَ: إذا أديْتَه نُجوماً. والنجْمُ: الوَقْتُ المضروب. انظر "الصحاح" 5/ 2039.

بالحكم. فأَما إذا لم يكُن فيه تَعَلق بالحُكْمِ، فلا وَجْهَ للترجيحِ به. فصل ومما يُرجَّحُ به: أَن تكونَ إِحداهُما مَرْدودةً إِلى أَصْلٍ مُجْمَعٍ عليه، والأخرى إلى أصْلٍ مُخْتَلفٍ فيه، أو تكونَ إحداهما مُفَسرة والأخرى مُجْمَلةً، كقَوْلِ أصحابِنا في الأكْلِ في الصوم: إِنَّه إفطارٌ بغيرِ جماع. وقولِ أصحابِ أبي حنيفة: أفْطَرَ بمَتْبوع جِنسهِ أو أفطر على ما فيَ البابِ من جِنْسِهِ، فإن هذا إجْمالٌ. وكذلك إذا كانَ مع إحدى العلتين زيادة، كأن تكونَ إحداهُما فيها احتياطٌ للعرض، أو تكون إحداهُما ناقِلةً عن العادةِ والأخرى مُثْبِتَةً على حُكْمِ العادةِ، فالناقلةُ أوْلى؛ لأن معَها إفادةَ حُكْمٍ. وكذلك إذا كانت إحداهما تُوجِبُ والأخرى تَنْدبُ، فالتي تُوجبُ معها زيادةٌ. وكذلك إِذا كانت إحداهما حاظِرةً، والأخرى مبيحة. ويُحكى عن بَعْضِ أصحابِ الشافعيِّ أنهما سواءٌ. وسمعتُ بَعْضَ أَئمة الأُصوليين يقول في ذلك قَوْلاً حَسَناً: وأَنَّ الاحتياط بالإيجاب لا وَجْهَ له، بل يجوزُ أن يَقَعَ في الأفعالِ، والعلَلُ موجبة للأحكام، فلا بُدَّ من اعتقادِ الإيجاب، وقد سوَّت الأصولُ بين اعتقادِ ما ليسَ بواجبٍ واجباً وبين اعتقادِ إسقاطِ الوجوبِ فيما هو واجبٌ، فلا وجْهَ للترجيحِ في الاعتقادِ بينهما. فأمَّا في الفِعْلِ الأحوط من غيرِ اعتقادٍ، فذاك غَيْرُ ما نَحْنُ فيه

من العِلَلِ الموجبةِ للأحكامِ، وهذا الكلامُ مؤَيدٌ [من] هذا (¬1) الوجْهِ لأصحاب الشافعيِّ. فَصلُ ومن ذلك أنَّ تكونَ إِحدى العلتين تَسْتوي في معلولاتِها، وذلك مِثْلُ: أنَّ يُعَللَ [الشافعي] العِتْق على المالكِ بالوِلادةِ أو التعْصيب، وُيعَلِّلَ أصحابُنا وأصحابُ أبي حَنيفه بأنه ذو رَحِم مَحْرَمٍ في النَسَبَ، وهذا يختص بالنساءِ والولادةِ، والتعْصيبُ يستوي فيه نساءُ الأقارِب ورجالهُم. ومن ذلك: أن تكونَ إحداهُما متعدِّيةً والأخرى واقِفةً، فالمتعدية أوْلى؛ لأنَها تُفْسِد أحكاماً في فُروعِها. فصل ومن ذلك: أن تكون إِحدى العلتين لا نظيرَ لها في الأصولِ وللأخرى نظائرُ، فالتي لها نظيرُ أوْلى، وذلك مِثل ما قالوا في رَدِّ شهادةِ القاذفِ بعد تويتِهِ مع زوالِ فِسْقِهِ بها، وليس في الأصول ما يُوجبُ رد الشهادةِ مع زوالِ ما أوْجبَ ردها، ولا لنا فِسْقٌ يَمْنَعُ فيزولُ، ويبقى ردُ الشهادة بعد زواله. فصل واعلم أن المُعارضةَ في الَأصْلِ، هي الفَرْقُ الذي يقصدُ به المُعارِضُ قَطْعَ الأصلِ من الفَرْع. ويَنْقَسم كما ينقسمُ أصل القياسِ: ¬

_ (¬1) في الأصل: "لهذا" ولعلَّ الصواب ما أَثبتناه.

فقد يكونُ بقياسِ علَّةٍ، وقد يكونُ بدِلالةٍ، وقد يكونُ بقياسِ شبَهٍ. فأمَّا الفَرْقُ بقياس العِلَّةِ: فالكلامُ عليه أن يتكلم على علةِ الأصل والفَرْع بكل ما يتكلمَ به على العِلَل المُبْتَدأةٍ. والذي ينبغي أنَّ يُعْنى به أَن يَنْظُرَ إلى علَّةِ الأَصْلِ، فإِن كانت علَّةً اتفقا على صحتها، وقد بينا مثالَ ذلك في قوْلِ أَصحابِنا في الطلاقِ هل تنعقد صفتُه قَبْلَ النكاح معلقا على النكاح؛: مَنْ لا يملكُ الطلاق المباشر لا تنعقدُ صفةُ طلاقِه كالطفل. فيعارضُه الحنفيُّ: بأَنَ الأَصل غيرُ مكلف وهذا مكلفٌ، وقد سَبَقَ الكلامُ عليه باستيفاء (¬1). وإِن كانت علَّةُ الأصلِ مُخْتلفاً فيها، مثل أن يقيسَ الشافعيُّ في الربا في الفاكهةِ على البر، فالذي ينبغي أن يُعْنى به، أن يتكلمَ على علَّةُ الأصْلِ بأن يقولَ: لا يجوزُ أن يكون الكَيْلُ علةً، لأن الكَيْلَ يتخلص به من الرِّبا، فلا يجوزُ أنَّ يُجعَلَ علَماً يقتضي تحريمَ الرِّبا، ولأن الكَيْلَ لا يُوجَدُ الحكم بوجودهِ، ولا يُعْدَمُ بعَدَمِهِ، ولأنْ التعليل بالكيْلِ يعودُ على أصْلهِ (¬2) بالِإبطالِ، وما أَشْبَهَ ذلك. واما الفَرْقُ بقياسِ الدلالة فضرْبان (¬3): أَحدُهما: أَن يفرق بحكْمٍ من أَحكامِ الفرع، وذلك مثل: أَن يقولَ الحنفيُّ في سجودِ التلاوةِ: إنَّه سجود يجوز فِعْلُهِ في الصلاةِ، فكان ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (301). (¬2) في الأصل: أهلهِ. وصوابُه من "المعونةِ في الجدل": 116. (¬3) "المعونة في الجدل": 116 ويبدو أن المصنِّف قد أَخذ هذا الفصل منه.

واجباً، كسجود الصلْبِ وسجودِ السهْوِ، فيقول الحنبلي أو الشافعي: المعنى في سُجودِ الصلب أنه لا يجوزُ فِعْلُهُ على الراحلةِ في غَيْرِ حالِ العُذْرِ، وسجودُ التلاوةِ يجوزُ فِعْلُه على الراحلةِ مع عَدَمِ العُذْرِ، فهو كسُجودِ النفل. والجوابُ عنه: أن يتكلم على علَّةُ الأصْلِ وعلة الفَرْع بكُل ما يتكَلمُ به على العِلَلِ. والذي يختص به أنَّ يُبَيَنَ علةَ جوازِ فِعْلِهِ على الراحلةِ. وهو أَنه وُجِد سَبَبُهُ على الراحلةِ، وهي القراءةُ. وسجود الصلب لم يوجد سببُه على الراحلة. ولذلك لم يَجُزْ فِعْلُهُ على الراحلةِ. والثاني: أن (¬1) يُفرقَ بنظيرٍ من نظائرِ الحُكْمِ، وهو مِثْلُ أن يقولَ الحنبلي أَو الشافعي في الزكاةِ في مالِ الصبي: إنّه حر مُسْلمٌ، فأَشبَهَ البالغَ. فيقول الحنفيُّ: البالغُ يتعلَقُ الحج بمالهِ فتعلًقتِ الزكاةُ بمالهِ، وهذا لا يتعلق الحجُّ بمالهِ، فلم تتعلق الزكاةُ بمالهِ (¬2). والجوابُ: أن يتكلمَ على العِلتَيْن بكُلِّ ما يتكلم به على العِلَل، والذي ينبغي أَن يُعْنى به؛ أَن يبين أَن الزكاةَ ليست بنظيرٍ للحج. وأما الفَرْقُ بقياس الشبه، فهو مِثْلُ أنَّ يقولَ الشافعي في نفقةِ غير الوالدِ والولد: إنها لا تجبُ؛ لأنَ كلُّ قرابةٍ لا تَجِبُ بها النفقةُ مع ¬

_ (¬1) في الأصل: "لأن". (¬2) انظر: "إيثار الِإنصِاف":72، و"المغني" 4/ 69، و"المُحلى" 5/ 201 و"رحمة الأمة": 160.

- فصل في الفرق

اختلافِ الدينِ، فلا تجبُ؛ بها النفقةُ مع اتفاقِ الدينِ كقَرابةِ ابنِ العمِّ (¬1). فيقول المخالفُ (¬2): المعنى في الأصلِ أنَّ تلك القَرابةِ لا يتعلق بها تحريمُ المناكحةِ، وهذه القرابةُ يتعلَقُ بها تحريمُ المُناكحةِ، فهي كقَرابةِ الولدِ. والجوابُ: أنَّ يتكلمَ على العلتين بكُل ما يتكلم به على العِلَلِ، والذي يَخْتَص بهذا انْ يُقابلَ الفَرْقَ بَجْمعٍ مِثلهِ، فيقول: إن افترقا في المُناكحةِ فهاهُنا ايْضاً قرابةُ الأب والأخ اجتمعا في تحريمِ أحدِهما على الآخرِ، ورد الشهادةِ، وأحكامَ كثيرةٍ، فيجب أن يجْتَمعا في إسقاط النفقةِ، والله أعلمُ. فصل والفَرْقُ سؤالٌ (¬3) صحيحٌ، خلافاً لبعضِ الخُراسانِيةِ؛ وذلك أَنَّ الفِقهَ هو الجَمْعُ بملاحظةِ المعنى، والفَرْقُ قطع لِما بينَ الأصلِ والفَرْع بأخص منه. وقد يكونُ الجامعُ جَمعَ بالأعم، فيُفَرقُ المُفَرقُ بالمعنىَ الأخَص، وقد يُخطىءُ الجامعُ، فيصيبَ المُفَرقُ، وقد يُصيبُ الجامعُ فيُخطىء المُفَرِّقُ، فلا يُخْرِجُ ذلك الفَرْقَ عن كَوْنهِ سؤالًا، كما لو لم ¬

_ (¬1) "كفاية الأخيار"2/ 87 و"حاشية البيجوري" 2/ 190. (¬2) انظر "رحمة الأمة": 456. (¬3) وهو إبداءُ المُعترضِ معنى يحصلُ به الفَرْقُ بين الأصلِ والفَرْع، حتى لا يُلْحَقَ به في حكْمهِ. انظر: "شرح الكوكب المنير" 4/ 325 و"شرح تنقيح الفصول": 403 و"المسوَّدة": 441 و"الوصول إلى الأصول"2/ 327.

* فصول الكلام على استصحاب الحال

يَخْرجِ الجَمْعُ عن كونهِ دليلًا وقياساً صحيحاً، وما قرع الناسُ في دَفْعِ الشُّبْهَةِ عن الحُجةِ إِلاّ بإظهارِ الفَرْق، كقولِ النبيِّ في الأَسودِ العَنْسيِّ لما قيل له: إِنه يتكلم بالشيءِ قَبْلَ كونه، فقال:" إنه إِذا شُككَ، شَك (¬1) "، وقوله: "الهِرُّ سَبُعٌ ليست بنجِس (¬2) " لما تعلقوا بكونِها في بَيْتِ مَنْ أجابَهُ. فصول الكلام على استصحابِ الحال وهو البقاءُ على حُكْمِ الأصل. وهو أصْلٌ من أصولِ الدينِ، ودليل من أدلةِ الشَّرْعِ (¬3)، يبْنى عليه عدة مسائلَ. قال بعضُ أهلِ الأصولِ: والأصلُ فيه قولُه سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] وفي هذه الآية تقديم وتأخيرٌ، وتقديرُها: يا أَيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياءَ عفا الله عنها، إن تسألوا عنها تُبْدَ لكم، وإن تُبْدَ لَكُمْ تسؤكُم. أي: إِن تسألوا عنها، تَظْهَرْ لكم بنزولِ القرآنِ، وان تظهر لكم تَسُؤْكُم، ومعنى عفا الله عنها: لم تُذْكَرْ. والعَفْوُ: الترْكُ. عن عطاءٍ ¬

_ (¬1) لم نجده. (¬2) سبق تخريجه في الصفحة: 27. (¬3) خالف أكثر الحنفية في كونه دليلاً من أدلة الشَرع، لأن الاستصحابَ أَمرٌ عامٌ يشْمُلُ كلُّ شِيء، وإذا كثُر عمومُ الشيء، كثُرت مُخصصاتُه، وما كثرت مخَصِّصاتُه، ضعُفتْ دلالته، فلا يكونُ حُجةً. قال القَرافي في "شرح تنقيح الفصول": 447: والجواب: أَنَّ الظنَّ الضعيف، يجبُ اتباعُه حتى يُوجَدَ معارِضُهُ الراجحُ عليه، كالبراءةِ الَأصلية؛ فإنَ شمولَها يمنع من التمسك بها حتى يُوجَدَ رافِعُهَا.

عن ابن عباس: فما لم يذكر في القرآن، فهو عفا الله عنه. وكان ابنُ عباس يُسْأل عن الشيءِ الذي لم يُحَرَّم فيقول: هو عَفْوٌ. وعن عُبَيْد ابن عُمَيْرٍ يقول: ما أحل الله فهو حلالى، وما حرم فهو حَرام، وما سكَتَ عنه فهو عَفوٌ. وهذا عَيْنُ استصحابِ الحالِ. ومن السنة: ما روي في سُنَن أبي عبد الرحمن عن أبي سعيد عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: [قال] "إذا شك أحدُكُم في صلاته، فَلْيُلْغ الشَك، ولْيَبْنِ على اليَقين (¬1) " وهذا عينُ استصحابِ الحالِ الذي يُعَوِّلُ عليه المستدلون به في المسائلَ. وعن عبد الله بن زيدٍ قال: شُكي إِلى النبى - صلى الله عليه وسلم - الرجلُ يُخَيلُ إِليه في صلاته أنه يخرجُ منه شيء، قال: "لا ينصرف حتى يسمعَ صوتاً أو يَجد ريحاً" أخرجه البخاريُّ ومسلم (¬2). وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - اليمينَ على مَنْ أنْكرَ لأن معه الأصْلَ (¬3)، وهو براءةُ ذمَّتِهِ، وقَبِلَ قَوْلَه مع اليمين، لاحتمالِ ما يدعيه المدعي. ومن المبنيِّ على حُكْمِ الأصلِ: أنَ إنساناً لو وجَدَ ماءً قليلاً في مفازَةٍ وجَوزَ نَجاسَتَهُ بولوغِ كلْبٍ أو سَبُعٍ أو خِنزيرٍ، فإنه يجبُ عليه التطهرُ به، ويجوزُ له شُرْبُهُ مُمْسكاً بحكْم الأصلِ وهو طُهوريتُه وما خُلِقَ عليه، فلا يَعْدِلُ عنه إلَا بدليل يُوجبُ نَجاسَتَه وانتقالَه عن الحاق الأولى. ¬

_ (¬1) أخر جه ص سلم (571)، وأبو داود (1024)، النسائي 3/ 27، وأحمد 3/ 72، 83. (¬2) أَخرجه البخاري (137) ومسلم (361) وأَبو داود (176) وابن ماجه (513) من حديث عبَّاد بن تميم عن عمِّه. (¬3) انظر: "فتح الباري" 5/ 444 و"عارضة الأحوذي" 6/ 86 و"سنن ابن ماجه" (2321).

وكذلك حُكْمُ الثوب والمكانِ والطعامِ مع تجويزِ نجاسةِ ذلك كلَه بالعوارضِ النَّجِسَةِ من أَبوالِ الحيوانِ النجِسَةِ وورود النجاساتِ. وعلى عكْسِ ذلك: لو عَلِمَ نجاسةَ محَل من ثَوْبٍ أَو ماءٍ أَو بَدَنٍ، ثم جَوز طهارَتَه بعارض طهرهُ من مجيء مطَر أَوْ إِراقةِ ماءٍ، لم تَجُزْ الصلاةُ عليه، تعويلاً على النجاسةِ المعلومةِ، وإِلْغاء لِما جَوَزْناه من المُزيلِ لها، فإِنَّ ذلك شَكٌ، فلا يرتفعُ ما تَيَقَّنَّاهُ بالشكِّ. وإِذا غابَ عبْدُ إِنسان وخَفِيَ عليه حالهُ، ثم أَهل هلالُ شوَّال، وجَبَ عليه زكاةُ فِطْرِه، لأَنَّ الأَصْلَ بقاءُ حياتِهِ. وكذلك إِذا طالت غَيْبَةُ الحُرِّ وخَفِيَتْ حالُه لا يجوزُ لزَوْجَتِهِ أَن تَتَزَوَّجَ، ولا يجوزُ قسمةُ مالهِ، لأنَ الأَصْلَ بقاءُ حياتِهِ. وإذا أَوْقَفَ لأَجْلِ الحَمْلِ وصيَّةً أو ميراثاً، فخرج على حالٍ لا نعلم: أَحيٌّ هو أَو مَيِّتٌ؟ فلا إِرْثَ له ولا وصيّهَ، لأنَّ الَأصل عدمُ الحياةِ قَبْلَ العلمِ بولوجِ الروحِ فيه، فالقولُ قَوْلُ مَنْ يدَّعي عَدَمَ الحياةِ. ولو تسحر وجل وشَك: هل كان طَلَعَ الفَجْرُ وقْتَ سُحورهِ أو لم

يطلُعْ؟ بنى على بقاءِ الليلِ وعَدَمِ طلوع الفَجْرِ؛ لانه الاصْلُ. ولو أكل، وهو شاك في غُروب الشمسِ، أفْطَرَ، وكان عليه القَضاءُ تمسكاً ببقاءِ النهارِ الذي هو الأصلُ. ولهذا تعلَّق مَنْ تعلقَ بإفطارِ يومِ الشكّ، وهو أن الأصْل بقاءُ شعبانَ ما لم يتحققْ دخولُ شهر رمضان بدليل، هو طلوعُ الهلال. ولو شك في يوم الثلاثين من رمضانَ فعليه الصومُ بقاءً على حُكْمِ الأصلِ وهو شهُر رمضان، لأن الأصلَ بقاؤه. وكذلك ما قاله أصحابُنا وأصحابُ الشافعيِّ إذا تيقن الطهارةَ وشك في الحَدَثِ، يُصَلي؛ لأنَّ الأصْل بقاءُ الطهارةِ، ولو تَيَقنَ الحدثَ وشَك في الطهارةِ، بنى على الحَدَثِ؛ لأنه الأصلُ. وإِذا ادَّعى رجلٌ على رجلٍ دَيْناً، فالأصلُ براءةُ ذمتهِ، ويكونُ القولُ قَوْلَه. وإذا ادعى من ادعيَ عليه أنه قضى ما كانَ عليه وأبْرَأه منه المُسْتَمحِق، كان البناءُ على الاصل، وهو بقاءُ الديْنِ، ولا يَسْقُطُ بدَعوى القضَاء والإبْراءِ من غير بَيِّنَةٍ. وإذا شك لى: هل صلى أم لا؟ فعليه أنَّ يُصَليَ، لأن الأصْلَ اشتغالُ ذمتِهِ بالصلاةِ، فان فاتَتْه صلاة من خمْس لا يعرِفُ عَيْنَها، لَزِمَهُ قَضاءُ خمسِ صلوات، لأنه كلما صلى واحدةً بقيَ شاكاً في براءةِ ذمته بأداءِ تلك الواحدةِ، لتجويزِ أن تكونَ الفائتةُ غَيرَها.

- فصل: يترك الأصل لدليل شرعي

فَصْل منه أيْضاً إِنا نَجِدُ مسائلَ معارِضَة للأصولِ فيختلفُ قول العلماءِ فيها: منها: إذا قطع الرجلُ عُضْواً باطشاً من رَجُلٍ، واختلفا في سلامتهِ وشَلَلِهِ، فالأصلُ سلامةُ العُضْوِ، والأصلُ براءةُ ذِمة الجاني ممَّا زاد على صورة العُضْوِ من البَطْشِ الزائدِ على غرامةِ عَيْنهِ دون بَطشِهِ. فمن الناس من يجعلُ القول قَوْلَ الجاني، لأَنَّ الأصْلَ براءةُ ذمَّتِه، ومنهم من يجعلُ القولَ قَوْلَ المجنيِّ عليه، لاَنَّ الأضلَ بقاءُ العُضْوِ على سلامته الأَصليةِ وعدَمُ شلَلِهِ وتعطُّلِهِ. ومن ذلك: إذا ضَرَبَ ملفوفاً في كساءٍ فَقُد بِنِصْفٍ، ثم اختلف الضاربُ له وأولياءُ المضْروبِ في حياتهِ، فقال الجاني: كان ميتاً، وقال الأولياءُ: كان حيّاً، فإِنَ الأصْلَ بقاءُ الحياةِ، والأصل براءةُ الذمة. ومن ذلك: آنيةُ المجوسِ والنصارى، الأصل فيها الطهارةُ، والغالبُ أنهم يستعملون فيها الخَمْرَ والمَيتَةَ والخِنْزيرَ. فصل واعلَمْ أَن الأَصْلَ يُتْرَكُ لدليلٍ شَرْعيٍّ بنُطْقٍ أو استنباط. فالأَصلُ أَن لا وضوءَ من ملامَسَةِ امرأةٍ ولا مسِّ ذكَرٍ، فأَوْجَبْناه بدليلِ الكتابِ والسُّنَةِ. والأَصْلُ أَن لا وُضوءَ على مَنْ مَسَّ الدبُرَ ولا على المرأةِ إِذا مَست زَوْجَها، فأَوجبناه بالقياس. وإذا قال الرجلُ لزَوْجَتهِ: إنْ حِضْتِ، فأنْتِ طالق. فقالت: قد حِضْتُ، وكذبَها، فهي تدعي الحَيْضَ ووقوعَ الطلاقِ، والأصلُ

- فصل في استصحاب حكم الإجماع

عدمُهُما، إِلا أنه جُعِلَ القَوْلُ قولَها لِتَعدُّرِ إِقامةِ البينةِ وأَنَّ الحَيْضَ هي أَعلمُ به منه. وسواءٌ كان الأَصْلُ الثابتُ يثبتُ عَقْلاً كبقاءِ الحياةِ وبراءةِ الذمةِ، أَو يثبتُ شَرْعاً، كبقاءِ طهارةِ الماءِ وطهارةِ المُتَطَهرِ، فهذا من المُتَفقِ عليه، فأَما المختلفُ فيه، فهو استصحابُ حُكمِ الِإجماعِ. فصل في استصحاب حكمِ الِإجماعِ فكَقْولِ اَصحابِ الشافعيِّ في المتيمَّم إِذا رأى الماءَ في الصلاةِ: الأَصلُ انعقادُ صلاتهِ وصحتُها بالإِجماعِ. فمَنْ قال: بَطَلَت برؤيةِ الماءِ. يحتاج إِلى دليلٍ. وكما يقولُ أَهلُ الظاهرِ في الرجلِ إِذا قال لامرأته: أَنْتِ عليَّ حرامٌ. ولا نيَّةَ له: لا حُكْمَ لهذا القَولِ، لأَن الأَصلَ استدامةُ النكاحِ وبقاؤه وصحته وجوازُ الاَستباحةِ فيه إِجْماعاً. فَمَنْ قال: إِن الزوْجةَ تحرمُ بهذا القَولِ، فعليه الدليلُ. وكما يقول أَصحابُ الشافعيِّ في العَيْنِ المَغصوبةِ إِذا ارتَهَنَها الغاصبُ: لا يَبْرأُ من الضمانِ، لأَنَ الأَصلَ بقاءُ الضمانِ، وأَنَّ هذه العَيْنَ دَخَلَت، في ضَمانِ الغاصبِ بالغَصْبِ إِجْماعاً. فَمَنْ قال: إِنَّه قد بَرِىء بحدوث الرهن عليه الدليلُ. فهل يصحُّ التعلُقُ بمثْلِ هذا أم لا؟

الصحيحُ عندي أنه لا يصح التعلقُ به، وهو على خلافٍ بين الجَدليين، ولأصحابِ الشافعيِّ كَرَّم الله وجْهَهُ فيهِ قولان: أحدهما: يصح، وهو قولُ أهْل الظاهرِ. والثاني: لا يصحُّ. وهوالأصحُّ عند الأئمَّةِ منهم الذين رأيْناهُم واستَفَدْنا مِنْهُم. وجْهُ المذهبِ الأول: أنَ الإجماعَ انعقد في مسألةٍ على صِفةٍ، والخلافُ وَقَعَ في مسألةٍ على غيرِ تلك الصفةِ. وذلك أنَ الإجماعَ انعقد على صحةِ الصلاةِ قَبْلَ رؤيةِ الماءِ، والخلافُ حصل في مسألة أخرى وهي صحَةُ الصلاةِ وفسادُها بعد رؤيةِ الماءِ، وانعقادُ الإجماعِ على مسألةٍ لا يكونُ إجماعاً على مسألةٍ أخرى. فإِن قيل: يَلْزَمُ عليه استصحابُ حالِ العَقْلِ، لأنَّ الأصْلَ بقاءُ الطهارةِ قَبْلَ حدوثِ الشك، فأمَّا مع حدوثِ الشك، فلا. قيل: لا فَرْقَ بَيْنَهما، لأنَّا لانَتْرُكُ اليقينَ فيهما من غَيْر دليلٍ ناقلٍ، وحدوثُ الشكِّ ليس بدليلٍ، وكذلك رؤيةُ الماءِ المجرَّدةُ. وقَوْلُهُ: أنْتِ حرام. بمُجَرَّدِهِ ليس بدليلٍ، فأن دلَّ دليل آخَرُ أنَّ رُؤيةَ الماءِ تُفْسدُ الصلاةَ، و "حرام" يقطعُ النكاح، انتقلنا عن الأصْلِ، وإن لم يدل دليل وشَكَكْنا، تَرَكْناهُما على حالةِ الأصْلِ، فأمَّا أن يُجْعَلَ الإِجماع على ما قَبْلَ رؤيةِ الماءِ إجْماعاً على حالةِ رؤيةِ الماءِ بَعْدَها، فلا يتمُّ ذلك. ولو دلَّنا دليل على أنكم إذا شكَكْتُم في الحَدَثِ وجَبَ عليكم الوُضوء، لَتَرَكْنا الأصْلَ للدليلِ.

- فصل في القول بأقل ما قيل

فَصْلٌ ومن ذلك: القَوْلُ بأقل ما قِيلَ. وهو كما نقول: إذا أتْلَفَ رجل ثَوْباً على آخَرَ، فَشهِدَ عليه شاهِدان أنَه يساوي عَشَرَةَ دراهمَ، وشهد آخَرانِ أنَه كان يساوي خَمْسةَ عَشرَ دِرْهماً، فإِنَه، يجِبُ على المُتْلِفِ عند أصحاب الشافعيُّ أقَل الثمَنيْنِ. وكما نقول: في دِيَةِ اليهوديِّ ثُلُثُ دِيَةِ المسلمِ في روايةٍ (¬1)، وكذلك أصحابُ الشافعيُّ، فنقول: الأصل براءةُ الذمةِ، والأقَلُّ قد ثبت بالإِجْماعِ، وما زادَ فلا دليلَ عليه، فلا يلزمه إِلّا بأمْرٍ ثابتٍ ودليلٍ صحيح. فصل من ذلك أيضاً وهوحكمُ الأشياءِ قَبلَ وُرودِ الشَرْع. وهذا مفروض متوهم، لأنَه لم يَنفك العالمُ مِنْ شَرْع. وهذا بأصولِ الدياناتِ أخصُّ منه بالفِقْهِ وأصولهِ. ولكن ذكرْناه لأن الفقهاء بَنَوْا عليه مسائلَ. فَعنْ صاحبنا -رضي الله عنه- فيه: إنها على الحَظْرِ، وبه قالت المعتزلةُ البغداديون. وعَنْهُ رِواية أخرى تقتضي الإِباحةَ، وهو اختيارُ ابي الحسنِ التميمي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "الكافي" 4/ 16 و"التمهيد" 4/ 268. (¬2) انظر "التمهيد" 4/ 269 و "المسودة" 485 - 486 ففيها كلامٌ نفيسٌ.

ولأَصحابِنا وأَصحابِ الشافعيِّ فيها ثلاثةُ أَوْجُهٍ: أَحدُها: أَنّها على الِإباحة وهو قَولُ أَبي العباسِ (¬1) وأَبي إِسحاق المَرْوَزيِّ (¬2)، ما لم يعلم الإِنسانُ فيه ضررا لِنَفْسِهِ أَو لغيرِهِ. والوجْهُ الثاني: وهو قَولُ أَبي علي بن أَبي هُرَيرةَ (¬3): أَنها على الحَظْرِ (¬4)، فلا يجوزُ لأَحدٍ أَن يَنْتَفعَ بشيءٍ إِلا ما يدفَعُ به ضَرَراً. والوجهُ الثالثُ: وهو قَوْلُ أَبي عليٍّ الطبريِّ أنها على الوقف لا يُحكَمُ فيها بحَظرٍ ولا إِباحةٍ، وهو قول أَبي الحسَنِ الأَشعريّ (¬5) وقال بعضُ أَهلِ العلم: فأيُّ شيءٍ حُكِمَ به من حَظرٍ أَو إِباحةٍ أَو وقفٍ، كلُّه حُكْمٌ قَبْلَ ورودِ الشَّرْعِ، وتَوْجيهُ ذلك يردُ في مسائل الخلافِ إِنْ شاءَ الله (¬6). ¬

_ (¬1) يعني: ابن سُرَيج. (¬2) هو إبراهيم بن أحمد المروزي الشافعي، توفي سنة (340). "تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 175. (¬3) هو أبوعلي الحسنُ بن الحسن بن أبي هريرة البغدادي القاضي شيخ الشافعية، له مصنفات، منها "شرح مختصر المزني"، ومسائل في الفروع محفوظة، توفي سنة (345) هـ. "سير أعلام النبلاء" 15/ 430، و" طبقال الشافعية الكبرى" 3/ 256 - 262. (¬4) انظر "التبصرة" ص 532 - 533، و"الإِبهاج" 1/ 142، و"البحر المحيط" (¬5) انظر "البحر المحيط" 1/ 156، و "المحصول" 1/ 159. (¬6) في الجزء الأخير من الكتاب.

فَصْلٌ ومن هذا القبيلِ أيضاً: القوْلُ بأنَّ شرعَ من قَبْلَنا شَرْعٌ لنا ما لم يَثبت نَسْخُهُ، وذلك استصحابٌ لحكْمِ الشرائعِ الأولِ، ومجيءُ النسْخِ، كقيام دلالةِ الصرْفِ عن التمسُّكِ بالأصلِ. وهو على ثلاثة أضرُب: ما نُهينا عنه: فيُحْكمُ بنسْخِهِ كالتمسكِ بالسَّبْتِ (¬1)، وأكلِ الخِنْزيرِ، والتقرب بالخَمرِ. والثاني: ما أمِرْنا بفعلهِ: فهو شَرْع لنا بالخطاب الذي جاءَنا به قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إِلى قولِهِ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. والثالثُ: ما لم نؤمَرْ به، ولم نُنْهَ عنهُ، ففيه مَذْهبان، ولأصحابِ الشافعيُّ وجْهانِ: أحدُهما: انَه شرْع لنا ما لم نُنْهَ عنة، لأن الشَريعةَ الأولى شريعة لله سبحانه ثابتة، لا يجوزُ تَرْكها إِلا بصريح نَسخٍ، وبعْثَة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ليس بصريحِ نَسْخ؛ لإِمكانِ الجَمْعِ بين شريعتِهِ وشريعةِ من قبله، فكيفَ وقد وَرَدَ أمْرُ الله سبحانه لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - باقتدائِه بهم، فقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال ¬

_ (¬1) يريد المصنف ما كان عليه بنو إسرائيل من تعظيم يوم السبت والقيام بأمره، وما ابتلاهم الله عز وجل به من الاحتباس عن العمل والصيد فيه.

- فصل: هل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - متعبدا بشيء قبل بعثته؟

سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} (¬1) [النحل: 123] فصل وقد اختلفَ الناسُ: هل كان مُتَعَبداً بشيءٍ قَبْلَ بَعْثتِهِ؟ فقال قَوْم: كان مُتَعبداً بمِلةِ إبراهيمَ وما وصلَهُ منها وعرَفَهُ، حيثُ كان يتحنثُ في غارِ حِراءٍ، يعني: يَتعبدُ. ومنهم مَنْ قال: لم يَكْنُ مُتَعبداً بشرعِ غَيْرِه مِنَ الأنبياءِ. وقال قوم: كان يَعرِفُ بدليلِ العَقْلِ إثباتَ الصانعِ والوَحْدانيةَ، ويَسْتَقِبحُ عِبادةَ الوَثَنِ، كما عَرَفَ ذلك إبراهيمُ قبلَ النبوةِ بما ذكرهُ الله عنه في كتابه في استقراءِ الكواكِب، ولمَّا رَأى زيدَ بنَ عمرِو بنِ نُفَيلٍ يَمتِنعُ مِمّا يُذبَحُ للوثنِ، امْتَنعَ هو (¬2). وسنُوضحُ هذا إنْ شاءَ الله في مسائل الخلافِ على الاستيفاءِ. ¬

_ (¬1) أغفل المصنف ذكر المذهب الثاني، وهو أن شَرْعَ مَن قبلنا ليس شرعاً لنا، ولم نُتَعَبد به، بل نُهينا عنه. وفي المسألة مذهب ثالث، وهو الوقف. انظر "نهاية السول" 3/ 49، و"البحر المحيط"6/ 41 و 44. (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" برقم (1648) طبع مؤسسة الرسالة، من حديث سعيد بن زيد بن عمرو، وفي اسناده ضعف. وأخرجه أحمد في "المسند" برقم (5369) و (5631) و (6110)، والبخاري (3826) و (5499) من حديث عبد الله بن عمر، لكن ليس فيه قضية امتناعه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عن أكل شيء مما ذبح على النصب، وانظر تمام تخريجه في التعليق على "المسند".

- فصل محقق في استصحاب الحال

فصلٌ مُحققٌ في استِصْحابِ الحالِ أيضاً اعلم- وفًقَكَ الله- أنَّ استصحابَ الحالِ هو البقاءُ على حكمٍ اسْتَندَ إِلى دليلِ عَقْلٍ أو حُجَّةِ سَمْع، ومتى لم يَكُنِ الحالُ المعتمدُ رجوعاً إِلى حُجَّةٍ، لم يَصِحَّ التعلقُ بها. وهذا دليل يَفْزعُ إِليهِ المجتهد عند عدم الأَدِلَّةِ. وقد ذهبَ قومٌ من الفقهاء الأعاجم إِلى أنه ليس بدليلٍ (¬1)، وإِنما هو حقيقةُ الجَهْلِ، ورَدّ للسؤالِ على السائلِ، وطلبُ الدليلِ منه، لأنه يقول: الأصلُ كذا، فَمنِ ادَّعى نَقْلَنا عنهُ، فعليهِ الدليلُ، فكان محصولُ الكلامِ: لا أعلمُ ما يَنْقُلُني، فَهَلُمً دليلًا (¬2) اتبِعُهُ. وليس هذا بكلام من فَهِمَ التمسُّكَ بأحكام الأدِلَّةِ والبقاءَ عليها، وإِنما الجهلُ ما صورةُ العبارةِ عنه: لا ادري. فأمَّا مَن قِيلَ لهُ: ما مذهبُكَ في أمَ الولدِ؛ هل تُباعُ؟ فقال: تُباعُ. فقيلَ له: ولم قُلْت،: إِنها تُباعُ؟ فقال: لأنَّ الأصلَ فيها الرِّق وجوازُ البَيْعِ، فإِنا نَتمسكُ بهذا الأصل إِلى أنَّ يقومَ دليلٌ بالمَنْعِ، فإِنَه (¬3) قد ¬

_ (¬1) نقل هذا المذهب عن جمهور الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين البصري، انظر "تيسير التحرير" 4/ 177، و"المعتمد" 2/ 325، و"البحر المحيط" 6/ 17. وفي الاحتجاج باستصحاب الحال مذاهب أخرى، انظرها في "البحر المحيط" 6/ 18 - 20. (¬2) في الأصل:"دليل". (¬3) في الأصل: "بأنه"

تعلَّقَ بدليل وتمسَّكَ به، ثم قال بعد التمسكِ: فمن ادعى بغير ذلك، فعليهِ الدليلُ. فما (¬1) جَهِلَ ولا تعلَّقَ بجهلٍ، وانما تعلَّقَ بحُكْمٍ بدلالةٍ، وقال: لا أنْصرِفُ عنه إلا بدلالةٍ تَصرفُني، فكان كمن قال: أنا مُتمسِّكٌ بهذه الآيةِ، فلا أتركها حتى يَرِدَ ما ينسخُها، لا يقالُ: إِنه جَهِلَ، ولا إِنه ما اسْتَدلَّ، فكان كأهلِ قُباء لَمَّا كانوا مُستقبلينَ قِبلةَ اليهودِ، لو جاءَهم مَن قال لهم: لِمَ استقبلْتم بيتَ المقدسِ في صلاتِكم، ولِمَ لا تَسْتقبِلُونَ (¬2) الكعبة؟ فقالوا: لأنَّ محمداً رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَقبلَها، وقد ثبت عندنا وجوبُ اتباعِهِ بما قامَ على نبوَّتهِ من الإِعجاز، فلا نَعدِلُ عن هذه القبلةِ إلى غيرِها إِلا بأمرِهِ باستقبال غيرِها، ونهيه لنا عن استقبالها. فإِنه لا يقالُ: هؤلاءِ جُهالٌ ما استدلُّوا، ولا أنهم (¬3) اخبَروا بالجهلِ عن أنفسِهم، بل يقالُ: أدْنى (¬4) كلامِهم تَمسُّكٌ بدليلِ الحكمِ الذي اسْتَداموه وتَمَسكُوا به، وإِنما نَطقُوا بالجهل بالدليل الصارفِ لهم عَمَّا تَمسكوا به من الحكمِ الأوَّلِ، فقالوا: ولا نعلمُ ما يصرِفنا عمَّا نحن عليه، فكان كمَنْ قال: هذه الدارُ في يَدي وتصرفي، فلا أسلمها غيرِي إِلا بأنْ تَقُومَ بينةٌ باسْتِحقاقِها، فإنه متمسك بما يُسْتدلُّ بمثلِه في الأملاكِ، وهو اليد والتَّصرف، وقد شَهِدَ لذلك قولنا: هذا الحكمُ شَرْعُ ¬

_ (¬1) في "الأصل": "بما". (¬2) في الأصل: "تستقبلوا". (¬3) في الأصل:"لكنهم". (¬4) صورتها في الأصل: "أدل".

إِبراهيمَ وموسى وعيسى، فلا يَزالُ شرعاً لكلِّ مَن سَمِعَهُ، ولازِماً لكلِّ من وصلَهُ، إِلا أنْ يَنطِقَ مُحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بصريحِ نسخِهِ، فينصرفَ عن شريعةِ صادقٍ بقول هو نَسْخٌ مِن صادقٍ. ومن قال ذلك، لم يُقلْ: إنَه ما اسْتدَلَّ وِإنما تَعلقَ بالجهلِ واستَطعمَ الدليلَ، ولا إنه رَدَّ الدليلَ على السائلِ، بل اسْتدل على الحُكْمِ الذي تمسَّك به، وقال لغيرِه: فإنْ كان عندكَ ما يَنقُلُني عَمّا تمسكت به لصِحةِ دليلِهِ، فهاتِهِ لأصيرَ إِليه إن كان صالحاً لصَرْفي ونَقْلِي عما أنا عليه. وقد أشارَ الشرعُ إلى ذلك، حيثُ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطانَ ليَأتي أحدَكُم، فينفُخُ بين أليَتَيْهِ، فلا يَنصَرِفَنَ حتى يَسْمَعَ صوتاً، أو يَشَمَ رِيحاً (¬1) فأمَرَنا بالتمسك بما تَيَقَناهُ من الأصلِ، وأن نُلْغِي حكمَ الشَك إِلى أن تقومَ دَلالةُ الحدثِ، وهي صَوْتهُ وريحُهُ، وهذا بعينهِ هو ما نحن فيه مِنَ التمسك بالحكمِ الذي يَثْبُتُ بدَلالةٍ، إلى أن تَصْرِفَنا عنه دَلالةٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 2/ 414، والدارمي 1/ 183 - 184، ومسلم (362)، وأبو داود (177)، والترمذي (75)، وابن خزيمة (24) من طرق عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، بنحوه. وأخرجه بنحوه أيضاً أحمد 3/ 12 و37 و 50 و53. وأبو داود (1029)، وابن خزيمة (29)، وابن حبان (2665) و (2666)، والحاكم 1/ 134، من طريق عياض بن هلال، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه بنحوه أيضاً الحميدي (413)، وأحمد 4/ 40، والبخاري (137)، (177) (2056)، ومسلم (361)، وأبو داود (176)، وابن ماجه (513)، والنسائي في "المجتبى"1/ 98 - 99، وفي "الكبرى" (152)، وابن خزيمة (25) و (1018) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري.

- فصل يوضح أن المتمسك المستصحب للحال مستدل

فصل يُوضحُ أن المُتمسكَ المُستصحبِ للحالِ مُستدِلُ فنقولُ: إِنَه إِذا سُئِلَ عن وجوب الكَفَّارةِ بقتلِ العَمدِ، فلا (¬1) شَك أنَّه إِذا قال: إِنَ الذِّمَمَ خُلِقَتْ بَرِيئةً، ودَلالةُ العقل أوْجبتْ سلامةَ كلُّ ذِفَةٍ وبراءَتَها، فأنا مُتمسِّكٌ بذلك إِلى انْ يَصوِفني عنه دليلْ يُوجبُ شَغْلها. فلا شَك أنه قد استدل، حيثُ أسندَ مذهبه إِلى دَلالةِ العقلَ. فصل وأمّا الاحتجاجُ على إسقاطِ الفَرائِض والغَراماتِ والكفّارات وما جَرى هذا المَجْرى مِما يَشْغَلُ الذِّمَمَ ببراءَةِ الذِّمَمِ، والأصلُ أنَّه لا فَرْضَ، فاحتجاجٌ صحيح؛ وذلك أنَّ الناسَ في مُجوزاتِ العقولِ في الأصل على ثلاثةِ مَذْاهِبَ: منهمِ مَن قال بالحَظْرِ، وهو وجهٌ لأَصحابِنا وعليه عَوَّلَ (¬2) المُحقِّقون منهم. ومنهم منَ قال بالِإباحةِ، وهو وجهٌ آخرُ لأَصحابِنا. ومنهم مَن قال بالوقْفِ. وسنذكرُ الخلافَ فى ذلك فى مسائِلِه مستَوفىً إِن شاء الله (¬3). ومعنى الوقفِ: هو اعتقادُ [ما] (¬4) ذُكِر مِن هذه الأَشياءِ غيرَ محظورةٍ ولا مباحةٍ. ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "بلا". (¬2) فىِ الأصلْ "عولوا". (¬3) انظر الصفحة 505 من هذا الجزء. (¬4) أضيفت لاستقامة النص.

- فصل في ذكر الطعن في التعلق باستصحاب الوقف

واستصحابُ الحالِ على هذه المذاهبِ الثلاثةِ صحيحٌ: فالقائلُ بالإباحةِ يَسْتَصحِبُ ما دَل العقلُ عليه؛ مِن أن هذه الأمورَ غيرُ مفروضةٍ، وأنه لا سبيلَ إلى إيجابها إلا بالسمْعِ، وإلا فبراءةُ الذمة مُستِقرٌّ من ناحيةِ العقلِ. والقائلُ بالحظر يقولُ: إِنَّ الأموالَ والدِّماءَ والفُروجَ وغيرَ ذلك من هذه الأفعالِ ممنوع محظورٌ، إلا انْ يَنقُلهُ السمعُ وُيغيرَ حُكمهُ. ومن قال بالوقفِ قال: الأصلُ أنَّ لا فَرْضَ، وان الذمة بَريئةٌ من كلُّ فرض مما سموه عقلياً وسمعيا. فإذا سُئِلَ هذا القائلُ عن وجوب الكَفَّارةِ، أو غُرْمِ قيمةِ مُتْلَفٍ أو صلاةٍ، أو بعضَ العباداتِ، صَح أنَ يقولَ: قد دَل الله سبحانه في الأصلِ على براءةِ الذمة، فلا نَشْغَلُها بوجوب شيءٍ إلا بسَمْعٍ. وهذا عَيْنُ الاستصحاب؛ لأنه تعلق بحالٍ قد دَلَ دليلُ العقلِ عليها، فهو كالرجُّوعِ إِلى التعلُّقِ بالحالِ الذي دَل السمعُ من النًص والظاهرِ عليها. فصل في ذِكرِ الطعْنِ في التَعلُّقِ باستصحابِ الوقفِ فقال قومٌ: إنما يَسُوغُ هذا الاستصحابُ لقائل يقولُ بالحظْر والإِباحةِ، لأن ذلك قولٌ بمذهبٍ وحكمٍ قد ثبَتَ، والقول بالوقفِ ليس برجوعٍ إلى حُكم ثابتٍ. وما اصابوا في هذا، والدلالةُ على فسادِه: أنَّ القول بالوقفِ هو نفْسُ القولِ ببراءةِ الذِّمَّةِ وزوالِ الفرضِ من ناحيةِ العقل، فقد شارَكَ

في هذا المعنى الذي إليهِ يرجِعُ أصحابُ الإباحةِ وأصحابُ الحظر؛ لأنهم جميعاً يقولون: إن الذمة بريئة، وأهلُ الوقفِ يقولونَ: إِن الذمة بريئة، غير أنهم لا يقولونَ مع ذلك: إن الأفعالَ التي سماها مخالفوهم مجوزات العقولِ محظورة ولا مباحةُ، وليس معنى وصفِ الشيءِ بأنه محظورُ أو مباح براءةَ الذَمةِ منه؛ لِما بينه القومُ في مقالتِهم بأدِلَتهم في باب الإِباحةِ والحظرِ، وإذا ثبتَ هذا، صحَ التَعلقُ ببراءةِ الذَمةِ لكل فريقٍ من هؤلاءِ الثلاثةِ المُختلفينَ في حكمِ الأصلِ: هل هو الحظرُ، أو الِإباحةُ، أو الوقفُ؛ ولا وجهَ للتَّعاطِي لإِخراجِ بعضِهم. فصل وكما أن التمسك بالأصلِ في براءَةِ الذمة واجبٌ، صَح أيضاً بإِجماعِ الفقهاءِ التعلقُ بتأبيدِ الفرض في كلُّ وقتٍ، إذا دَلتِ الدلالةُ على وجوب تكررِهِ، إِما من ناحيةِ لفظَهِ على من أثبتَ للعموم صيغةً، أو بدلالةٍ تقَترِنُ به على مذهب أصحاب الوقفِ والخصُوص، إِلا أنَّ ينقلَ عن ذلك دَلالةُ نسخ فيماَ يتعلَّقُ بالأزمانِ، أو دلالةُ تخصيص فيما يتعلَقُ بالأعيانِ، فيجِبُ المصيرُ اليه، وإِلا فالثبوتُ على الحالةِ التي تُوجِبُ عُمومَها في الأعيانِ والأزمانِ واجب تمسكاً واسْتصحاباً، فما كان من الأحوالِ المُستصحبةِ جارياً هذا المجْرى لَزِمَ التعلُّقُ بها، وما لم يَكنْ من هذا في شيءٍ فليس بصحيحٍ. فصل وأما ما يتعلَقُ به القائلونَ بالتَمسكِ بالصلاةِ بالتَيممِ والمُضِى فيها

وإن طلعَ الماءُ عليه اعْتِداداً بالِإجماعِ على الشُّروعِ فيها، وتمسكاَ به، وتركَ الاحتفالِ (¬1) بما تَجددَ مِنَ القُدُرةِ على الماءِ الطَّالعِ، وإهمالَ الخلافِ الواقعِ، وأَمثالُ هذه المسألةِ من الفِقْهيّاتِ، فهذا ليس بتمسكِ صحيحِ ولا نافعِ لمن تَمسكَ به، لأن المعُوَّلَ عليه في هذا ليس بتمسك بأصلِ باقِ (¬2)، بخلافِ التمسكِ ببراءةِ الذمةِ في مسألةِ كفارةِ قتل العمْدِ، والزيادةِ على ثُلْثِ الديةِ في قتلِ الكتابى خطأً، وإِنما كان التمسُكُ بهذا غير جائزٍ ولا صحيحِ؛ لأَن التمسك ها هنا إنما هو بما كان إِجماعاً، فالحالتانِ قد افْترقَتا؛ إِذ كانت الحالةُ الأُولى حالةَ إجماع، والحالةُ الثانيةُ حالةَ خلافِ، ومُحالٌ بقاءُ حُكم الِإجماع مع طَرَآنِ (¬3) الخلافِ، وكيف يكونُ ذلك وسُلطانُ الِإجماعِ عدمُ التَّسويغِ؟ وتجددُ الخلافِ موجِب للتَسويغِ، فيُفضي إِلى أَن يكونَ ما اتفُقوا عليه هو نفسَ ما اخْتلفوا فيه، وهذا مُحالٌ، فانقطعَ الِإجماعُ الأَولُ عن الخلافِ الثاني؛ لأَن الأَولَ إِجماعٌ على الدخولِ بالتيممِ مع عَدمِ الماءِ، والخلافُ المُجدد هو المُضِيُّ والاسْتِدامةُ في صلاةٍ بتيممٍ مع وجودِ الماءِ. ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: "الاحتفال"، ولعل الجادة ما أثبت. والاحتفال بالشيء أو بالأمر: المبالاة والاهتمام والاعتناء به. (¬2) في الأصل: "باقي". (¬3) طرأَ يَطرأ: ورد، وحصل فجاة. "اللسان": (طرأ).

يُوضِّح هذا: أنَّ المسألةَ الأولى مسألة إِجماع لا يَسوغ الخلاف فيها، فلو مَنَعَ مانعٌ من الشروع (¬1) في الصلاة بالتيممِ مع عدمِ الماءِ كان للِإجماعِ (¬2) خارقاً، وبخرقِهِ الِإجماعَ فاسقاً. والمسألةُ الثانيةُ مسألةٌ من أَصابَ فيها الحَقَّ بإيجابِ الانتقال -وهو مذهبُنا- (¬3)، فلهُ أَجْرانِ لاجتهادهِ وإِصابةِ الحَقِّ، ومَنْ أوْجبَ المُضِيَّ فيها (¬4)، فله أجرٌ لمكانِ اجتهادهِ في طلب الحقِّ، فأين المسألةُ الأُولى من الثانيةِ؟ وكذلك لا نُجِيزُ (¬5) لعاميٍّ أَنَ يقِّلدَ مَن يَمنعُ الدخولَ بالتيمُّم في المسألةِ الأُولى، ونُجِيزُ للعاميِّ تقليدَ مَن أَوْجبَ المُضِيَّ فيها بعدَ طلوعِ الماءِ، فهذا مما لا خفاءَ به. فإذا ثبتَ بهذا انَهما مسألتانِ، فإِذا لم يَكنْ بُدٌّ في تصحيح الأولى من دليلِ عقلٍ أو حجة سَمْعٍ أو إِجماعٍ أو غيره، وجبَ أنه لا بُدَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: الشرع. (¬2) في الأصل: "الإجماع". (¬3) هو المشهور من مذهب أحمد، وبه قال أبو حنيفة والثوري. انظر "المغني" 1/ 347، و"المحرر" 1/ 22، و"تحفهَ الفقهاء" 2/ 44، و "مختصر الطحاوي" ص 21. (¬4) مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وداود: أنه يمضي في صلاته، ولا تنتقض طهارته، ولا تبطل صلاته بحضور الماء. انظر "المجموع" 2/ 310 وما بعدهاث و "بداية المجتهد" 1/ 73 و "المحلى" 2/ 126. (¬5) تصحفت في "الأصل" إلى: "بجير".

في المسألةِ الثانيةِ من دليلٍ من الأدلةِ التي ذَكْرناها، فعلى مَنْ أوْجبَ الخروجَ من الصلاةِ دليلٌ، وعلى مُوجِب المضِيً فيها دليلٌ، وعلى مَن جَوزَ المُضِيَّ فيها ولم يوجِبْهُ دليل، إنَ ذهبَ إِليه ذاهب، سِيما مع وقوع الخلافِ. فإِن قيلَ: فسبيلُ ما تَمسَّكْتُم به في براءةِ الذِّممِ سبيلُ ما ذَكَرْتُم؛ لأَن دليلَ العقلِ إنما دَل على براءةِ الذِّمه من الكفّارةِ، وما زادَ على ثُلْثِ الدِّيةِ، ما لم يُوجب القَتْل، حتى لو أَوجبه مُوجِبٌ قبلَ القتلِ لأَثِمِ وحَرجَ (¬1)، ولمّا تجدَّدَ القتلُ، ساغَ الخِلافُ، وزالَ ما كان من حُكم ذلك الأصلِ. قيل: الأصلُ هناكَ -وهو براءةُ الذمة- دل عليه دليلُ العقلِ، والخِلافُ المتجدد عليه لا يُزيلُ سُلطانَهُ، وليس في قوى الخلافِ ذلك، فأمّا ما نحن فيه مِن الأصلِ الثابتِ بإجماع المُجتهدينَ، فإنه إِنما تناولَ مسالةً مخصوصة -وهي دخول في الصلاةَ بالتيمُم عند عَدم الماءِ-، فلَما تَجددَ طلوعُ الماءِ صارتْ مسألةً ثانيةً علىَ ما قَدَّمْنا، وساغ فيها الاجتهادُ، فزالَ سلطان الِإجماعِ بما بَينَا من الأحكام في مسألةِ عدم الماءِ، ثُم في الثانيةِ من سوغانِ الاجتهادِ، وجوازِ استِفتاءِ العامِّيِّ لمَنَ شاءَ مِنَ المُختلفين فيه، بعدَ ما كان مُتعيناً عليه اتِّباعُ المحرمِ بالصلاةِ على الصَفَةِ المذكورةِ، والدخولُ فيها من غيرِ تأخير لها عن وقِتها. فإِن قال المُستصحِبُ للحال: نحن على ما أجمَعُوا عليه مِنَ الدخولِ في الصلاةِ، والتمسك بها إِلى أن ينقُلنا عنها ناسخ. ¬

_ (¬1) في المخطوط:"خُرج".

قيل: ما أجْمَعُوا قَط على وجوبِ المُضِى في صَلاةٍ، ولاعلى صِحتها مع طلوع الماء بل هم في ذلك مختلفُون؛ لأن القائلين بوجوب الخروجِ من الصلاة مع القُدْرةِ على التَوَضَي بالماءِ، انما قالوا في الأَصلِ: إن المُضى في الصلاة واجب أو صحيح بشرِيطةِ عدمِ الماء ولم يقولوا: إِنَ المتيمِّم يَمْضِي في صلاتِه وإن وجدَ الماء، فهو إِذا وجَدَ الماءَ على غيرِ الحالِ التي أجْمعُوا عليها، فقد زالَ الإجماعُ، وعند زوالِه يَجِبُ إِقامةُ الحجَّةِ، وقد أوْضَحْنا مِن قبل أن هذا ليس هو موضعَ الإجماعِ الذي ظنُّوه، فلا معنى للتَّعَلقِ به. فإِن قالوا: لم يَحصُلْ بعدَ الإِجماع إلا حُدوثُ حادثٍ من رُؤْيةِ الماءِ ووجودِهِ، والحوادثُ لا تَقْلِب الأحكَامَ التي تَثبُتُ بالدليلِ. قيل لهم: تُقابَلون بأن يقالَ لكم: لم يَحصلِ الإجماع قَط على صحَة المُضِيِّ، ولا ايجابه في الصلاة مع وجودِ الماءِ ولا طلوعِهِ، وإنما أَجْمَعَتِ [الأُمَّةُ] (¬1) على ذلك عند عدمِهِ، فلا إِجماعَ هاهنا يرجع (¬2) إليه. على أن قولَكمُ: لا يغير الحادثُ أحكاماً، ليس بصحيح، لأنه قد غير أحكاماً من تسويغ الاجتهادِ بعدَ أن لم يَكنِ الاجتهاد سائغاً، وجوزَ للعاميِّ التقليدَ لمَنْ أوْجَبَ الخروجَ من الصلاة بعد أن لم يكُنْ جائزاً، وزالَ سلطان الِإجماعِ بتَجددِ الخلافِ بعد أَن كان ثابتاً. ثم يقالُ لهم: الحادثُ إذا اخْتلفَ عند وجودِهِ، هل يقْتضِي قَطعَ ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، واثباتها أنسب للسياق. (¬2) في الأصل: "رجع".

العبادةِ، أم لا؟ فعلى من يُوجِبُ القطعَ دليلٌ، وعلى من يُسقِطُهُ دليل؛ لأن الِإيجابَ في هذا والِإسقاطَ من العباداتِ السَمْعيةِ التي لابد فيها من دليل، اللهم إلا أن يكونَ الدليلُ الموُجِبُ لِصحةِ الصلاةِ دليلًا (¬1) يُوجِبُ المُضِى في الصلاة وإن وُجِد الماءُ بلفظٍ يَقْتضِي ذلك أو إِجماعٍ عليه، فإِذا لم يَكُنْ هاهنا إِجماع على هذا ولا لفظٌ يَقْتضِيهِ، وإنما أجمعتِ الأمةُ على المُضِي في الصلاةِ مع عدم الماءِ لا مع وجودهِ، وقد اخْتلفتْ عند طلوعِ الماءِ عليه، فوجب إِقامةُ الدليلِ لزوالِ الإِجماعِ ووقوعِ الخلافِ، وهذا ظاهرٌ لا إشكالَ فيه. فإن قالوا: إِن الإجماعَ على دخولِ الصلاةِ بالتَّيمُّمِ، وصِحَّةِ ما أدى منها مع عدمِ الماءِ على معنى أنه قُرْبة يُثابُ صاحبُها، لم يَقَعْ إِلا عن دليل سَمْعيٍّ، فيجبُ أن يكونَ ذلك الدليلُ في معنى اللَّفظِ الذي يُوجِبُ المُضيَّ في الَصلاة إلى آخرها وإن وُجِدَ الماءُ؛ لأن الأمَةَ لا تُجْمعُ إلا عن دليلٍ، ولا تُجمعُ على تَخْمينٍ ولا تَقْليدٍ ولا واقع، ولا يكونُ الدليلُ في مثلِ هذا إلا سَمْعياًّ، فيجِبُ أن نُقيمهُ مَقامَ اللفظِ المُوجِبِ للمُضِيِّ في الصلاةِ. قيل لهم: لعَمْرِي إن الأمةَ لما أجمعَتْ على ما ذَكَرْتُم إنما أجمعتْ على دليلٍ، ولكن مِن أين لنا أن ذلك الدليلَ هو لفظ يُوجبُ المُضِيِّ في الصلاة وإن طَلَعَ الماءُ؛ ولعل الدليلَ هو لَفْظٌ، مضمونُهُ: صَل ما لم تَجِدِ الماءَ، أو إلى أن تَجِدَ الماءَ، فإِذا وجدْتَهُ، فاخْرُجْ واسْتَأنفِ الفَرْضَ، ولعلَّهُ قياسٌ صحيحٌ اقتضى المُضِى في الصلاة ما ¬

_ (¬1) وقع في الأصل: "دليل".

لم يَجِدِ الماء، ولم يُوجبْهُ مع وجودِه، والقياسُ معنىً ليس بلفظ يُوجِبُ ما ظننْتُموهُ، فمِن أينَ لنَا أنَّ المعنى القِياسِيِّ (¬1) الذي أداهُم إلى وجوبِ الصلاةِ أو صِحتِها مع عدم الماءِ، يُوجبُهُ مع وجودِ الماءِ؟ والقياسُ طريق من طرقِ الأحكام يَجوزُ عندنا أنَّ تُجْمعَ الأمةُ على الحُكْمِ عنه (¬2)، وليس يَصِحُّ الجمعُ بين مسألةٍ دَل القياسُ عليها عند المُجمِعينَ على صحته، وبين أخرى مُختلَفٍ فيها، إِلا بوجْه يُوجِبُ رَد المُختلَفِ فيه إِلى المُتَفَقِ عليه، ومتى تَعاطَوْا هذا ورَجعُوا إِليه، تَركوا التَّعلقَ بالإِجماع، وأخذوا في المقاييسِ الدالةِ على صِحَّةِ المُضِيِّ في الصلاة، وَهذا ما أرَدْناهُم عليه. وقد اعْتَلُّوا لصحةِ مَقالَتِهم التي طَعَنا فيها، ودَللْنا على فسادِها؛ بأن قالوا: إن الشَرْعَ قد قَررَ ذلك؛ حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشَيطانَ ليَأتِي أحدَكُم، فينفُخُ بين ألْيَتَيْهِ، فلا يَنْصَرِفَن حتى يَسْمعَ صوتاً، أو يَشمَ رِيحاً" (¬3) فأثبتهُ - صلى الله عليه وسلم - على حُكمِ اليقينِ، وأسْقَطَ حُكمَ الشَك، فكذلك يَجِبُ أنَّ نكونَ على ما أجمعنا عليه، ونُسقِطَ حُكمَ الاختلاف، لأن المجمعَ عليه مُتيقن، والمُخْتلَفَ فيه متوهَّمٌ، فوجَبَ تَرْكُ الشك لليقينِ. فيقالُ لهم: الجوابُ عن هذا من وجوهٍ: احدها: أنَّ تَوهمَكم أنَّ الأمَةَ مُجمعَة على صحة المُضي في ¬

_ (¬1) في الأصل: "القياس". (¬2) انظر "التمهيد" 3/ 288، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 261، و"المسودة" ص 328 و330، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 121. (¬3) تقدم تخريجه قريباً في الصفحة (323).

الصلاةِ مع وجودِ الماءِ، وأن ذلك مُتيَقَّنٌ وهذا مُتوهمٌ، غلط ظاهرٌ، قد كَرَّرْنا دَفْعَكم عنه، فلا معنى لرجوعكُمْ إِليه، وتعلُّقكم به في كلِّ فَصلٍ، وإنما المُجمعَ عليه المُضِيُّ في صلاةٍ لم يَطلع فيه الماءُ، ولا إِجماعَ على المُضِيِّ فيها مع وجودِه، فأين الإِجماعُ، وأْين اليقينُ في هذا؟ وهذا غيرُالوضعِ المُجمعِ عليه. الوجهُ الثاني من الجواب: أنَا إِنما اسقطْنا حُكمَ الشكِّ في الطهارة بسَمْعٍ، وأوجَبْنا المُضِيَّ على حالة اليقينِ بسَمْعٍ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَوَّى بين الحالتين، وأوْجبَ المُضِى على اليقين بالسمع وتركَ الاحْتِفالِ (¬1) والاعتبارِ بالشك بسمعٍ، ولم يُسقِط حكمه لأنه شكٌّ. والسمعُ من قولهِ: "فلايَنصَرِفَنَّ حتى يسمعَ صوتاً أويَشَم ريحا"فأوْجبَ إسقاطَ حُكمِ الشك بهذا القولِ ولو لم يَقُلْهُ عليه الصلاة والسلام. واخْتلَفَ المسلمون عند حدوثِ الشكِّ: فأجاز مجيزون المُضِيَّ في الصلاة، وحَظَرَهُ آخرون، لا حتياجِ (¬2) حاْظر ذلك إلى دليلٍ، ومُجوِّزِهِ إلى دليل. وهذا هو الشاهدُ لنا، أن الأمَّةَ اخْتلفَتْ عند طلوع الماءِ على المُتيمِّم، فمنهم المُجِيزُ والمُوجِبُ للمُضِيِّ في الصلاة، ومنهم المُوجِبُ للخروجِ منها، فاحتاجَ كلُّ واحدٍ مِنَ الفريقين إلى دليلٍ، كما احْتِيجَ في إسقاطِ حُكمِ الشكِّ إلى قوله عليه السلام: "فلا ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإحفال". (¬2) في الأصل: "لاحتاج".

يَنْصرِفَنَّ"، الذي لولاه للَزِمَتِ الحجة لمُسقِطِ حكمِ الشك. ويقالُ لهم أيضاً: نحن مُتيقِّنونَ عند طلوعِ الماءِ بوجُودِ الخلافِ في حُكمِ الصلاةِ، وزوالِ حُكمِ الإجماع، ومُتيَقَنونَ أيضاً أن أحدَ مذاهب المُختلفينَ لا يَصِح بالدعاوى ولا بالخلافِ والشهواتِ، فيَجبُ أن تُتَيَقَّنَ الحاجةُ إلى الدليلِ عند وجودِ الخلافِ، وهذا مثلُ الَذي قُلْتُموهُ، بل هو أوْلى وأصح. ويقالُ لهم أيضاً: إِن الأمةَ لما اخْتلفتْ في المُضِي في الصلاة عند القُدْرةِ على الماء؛ لوقوع القُدْرةِ على الماء، زالَ ما كُنا عليه من اليقينِ قبلَ القُدْرةِ على الماءِ، لوقوعِ الاختلافِ، وارتفاع الإِجماع، وعدمِ اليقينِ، فجُعِلَ الأمرُ مشكوكاً فيه، فالمُضِيُّ في الصَلاة مشكوك فيه عند رُؤْيةِ الماءِ، كما أن وجوبَ الخروجِ مشكوكٌ فيه عند رؤيةَ الماءِ، فلا معنى لترجيحِ أحدِ القولينِ على الآخرِ بنفسهِ مع هذه التَسْويةِ بينهما في الشَك. قالوا: ومما يُصحِّحُ قولنا ثُبوتُ (¬1) القولِ بأقل ما قِيلَ في أرُوشِ الجِنايات وقِيَمِ المُتلَفاتِ، كدِيَةِ اليهوديِّ وما جَرى مَجْراة، وأننا إذا قلنا: إِن قيمةَ المتلفِ ما بين خمسةٍ وعِشْرينَ (¬2) مثلًا، أخَذْنا بأقلِّ ما قيل، وألْغَيْنا الخِلافَ، وكذلك إذا قال قائلون: إنَّ دِيَةَ اليهودِي دِيَةُ ¬

_ (¬1) وقع فى الأصل: "لثبوت"، والذي يقتضيه السياق، وتسقيم به العبارة ما أثبت. (¬2) في الأصل: و"عشرون".

مسلم، وقال آخرون: نصفُ دِيَةِ المسلمِ، وجبَ الرجوعُ إلى ما عليه الاتَفاقُ، وهو أقَل ما قيل، وألْغِىَ موضعُ الخلافِ، وكذلك يجبُ الرجوعُ إلى المُضِيِّ في الصلاة؛ لموْضعِ الِإجماعِ، واطراحِ الخلافِ. قيل لهم: في هذا أمورٌ كثيرةٌ: أوَّلُها: دخولُكم في هذا على ظَنٍّ منكم أن الأمَةَ قد أجْمعَتْ على المُضِيِّ في الصلاة وإن وُجِدَ الماءُ، كما أجْمَعْنا على اسْتِحقاقِ أقلَ ما قيلَ في دِيَةِ اليهودِيِّ، وهذا تَوَهم قد دُفِعْتُم عنه دَفْعَةً بعد أخرى، وثانيةٍ بعد أُولى، وليس بمثلٍ لِما ذَكَرْتُم. والثاني: أن التعَّلقَ في هذه المسائلِ بأقلِّ متعلق، بموضعين: أحدُهما صحيح، والأخرُ مُطَّروح، إذا سُلِكَ فيه السننُ الذي ذَكَرْتُم، فالصحيحُ: هو وجوبُ أخذِ أقلِّ ما قيل؛ لانه مُستحَق، والساقطُ: إِيجابُ براءةِ ذِمتِه مما زادَ عليه، فإِنَّا لا نُسقِطُ الزائدَ على قَدْرِ ما أجمعُوا عليه، لوقوعِ الخلافِ فيه، وإِن أوْجَبنا أقَل ما قيل. وبان باسْتِصحاب (¬1) هذه الحالِ إذا ذُكرَ على هذا الوجهِ، وجوبُ استصحاب حال أخَرى في مُقابَلتها، وهي أن الجنايةَ لما وقعتْ، أجمعَ المسَلمون على اشتغالِ الذمةِ بجميعِ قِيمتها دون بعضِها، فاذا أجمعوا على أقَل ما قيل أخَذْناهُ، ولم نُسقِطْ ما زادَ عليه مما اخْتُلفَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "استصحاب".

[فيه] (¬1)؛ لأن إجماعَهُمْ على الأقلِّ المُسْتَحَق (¬2)، ليس هو إجماعاً منهم على أنه كلُ المُسْتَحق، وقد تَيَقَّنا اشتغال الذمة بكل المُستحَق، ولا تَصِحُ براءتُها إِلا باداءِ الحقَّ، ولا دليلَ يَدُلُّ على أن ذلك المُؤَدى هو كلُّ الحق، وليس قولُ مَن قال: إن المُستحَق هو ثُلْثُ الديةِ، دليلاً (¬3) على أنه هو كلُ الحق؛ إذ في الأمةِ مَن يقولُ: إن المُستحَق أكثرُ من ذلك، والذَمَةُ لا تَبْرأ بالخلافِ، وإنما تَبْرأ بالدليلِ القاطعِ، وهذا يُسقِطُ ما قالوه إِسقاطاً ظاهراً. ولكن يَصِحُ أن يُوجَبَ (¬4) أقل ما قيل، ويُرجَعَ (¬5) في إسقاطِ ما زادَ عليه إلى شيءٍ من (¬6) الاخْتلافِ في اسْتحِقاقِهِ؛ وهو أنْ يقولَ: الأصلُ أنَّ الذِّمَّةَ بريئةٌ، فلا يُوجَبُ اشتغالُها إلا بدليلٍ سَمْعىٍّ، وقد تَصَفَحْنا السمعَ، فَعلمْنا أنه لا دليلَ على اشتغالِ ذِمَّتِه بشيءٍ يَزِيدُ على أقلِّ ما قيل؛ لأنَّهُ لو كان عليه دليلٌ، لوجَبَ أنْ نَعْلَمَهُ عند طَلَبهِ والبحثِ عنه، وأن لا يُخْلِينَا الله مما يَدُلُّنا على ذلك من ظاهرٍ أوَ قياسٍ أو إِجماعٍ أو حُجَّةِ عقلٍ، فإِذا لم يَكُنْ في أَدلةِ العقْلِ والسمعِ ما يُوجِبُ اشتغال ذِمَتِهِ بأكثرَ من القدْرِ المجْمَعِ على استحقاقِهِ، وجَبَ براءةُ ¬

_ (¬1) زيادة على الأصل. (¬2) في الأصل: "مستحق". (¬3) في الأصل: "دليل". (¬4) فى الأصل: "يوجد". (¬5) في الأصل: "رجع". (¬6) في الأصل: "عن".

ذِمتِه، وليس المرادُ بقولنا: إنَّ أقل ما قيل مُجمعٌ على استحقاقِه، أنَّهُ مجمعٌ على أنه كُل المُستحَقِّ، وإِنما المرادُ به: أنه مُستحق به، وما زادَ عليه فيُختلَفُ فيه، فعلى الزائدِ الدليلُ وإلا فالأصلُ براءةُ الذمة. فصل واعْلَمْ نفَعَك الله أن هذه الطريقةَ التي ذَكَرْناها في وجوب أخْذِهِ أقل ما قيل، وإلغاءِ ما بعدَهُ إذا لم يَدُل على وجوبِه دليلٌ، طريقةٌ مُعتمدةٌ، وفي إِسقاطِ جميعِ ما يُسألُ عنه من إيجاب صَلواتٍ وزكواتٍ وحُدودٍ وكَفاراتٍ وغيرِ ذلك. وصورةُ الاستدلالِ بذلك، وتحريرة: أنَّ نقولَ: الدليل على سُقوطِ فَرْضِ ما سَألْتَ عنه: أنه قد صح براءةُ الذمة في الأصلِ، وأن الإِيجابَ فرضٌ مُحددٌ مُتلَقى من جِهةِ السمعِ، وقد فَتَشْنا السمعَ، وبَحَثْنا عن طُرُقِ الأدلَّةِ ومواضعِها ومَأخَذِها، فعَلِمْنا أنه لا دليلَ في السمعِ على إيجابِ ما سألْتَ عنه. وهذا إِنما هو استدلال بوجودِ العِلْمِ بفَقْدِ الدليلِ وعَدَمِهِ، الذي لا يَثْبُث الحكمُ الا بوجودِه، وليس برجوعٍ إلى أنَّا لم نَجِدْ على ذلك دليلاً؛ لأن القولَ بأنَا لم نَجِدْ دليلًا ليس بُمتَضمن لِعلِمنا بعدم الدليلِ، وإنما هو إخبار عن عدمِ وجودِنا له، وقد يكون الدليل موجَوداً وإن لم يَجِدْة الناظرُ، وقولُنا: قد عَلِمْنا أنه لا دليلَ على ما سألتَ، قطع على فقدِ الدليلِ. فاذا سُئِلْنا: من أين علِمْتمِ ذلك؟ أخبَرنا بطريقِ العلم به، وهو أن الدليلَ الشرعى لو كان موجوداً، لوجَبَ علمنا به مع شدة طَلَبنا له وبَحْثِنا عنه، وتوَفرِ دواعِينا على إِصابتهِ، وتَديُنِنا بالانقيادِ له، بلَ يَجِبُ أن يَجِدَه مَنْ لم

تَكمُلْ فيه هذه الخِلالُ عند طَلَبه، فكيف مَنِ اجْتَمَعتْ له، وتوفَرتْ هِمَمُه ودواعيه على إصابتِه؟! فهذَا دليل وثيقٌ في إسقاطِ فرضِ جميعِ ما سألَ عن الأدلةِ على زوالِ فَرْضِه، إذا كان الدليلُ عليه مفقوداً، فمن ظَن أن هذه الطريقةَ هي الرجوعُ إلى أنا لا نعلمُ على ذلك دليلاً، أو أنا لم نَجِدْهُ، فقد أبعدَ وأخطَأ. وقد يُستدل بمثلِ هذه الطريقةِ بعَيْنِها على إسقاطِ القضايا العقليةِ التي لا دليلَ في العقلِ عليها، ولا ضرورةَ تُلْجِىءُ إلى إثباتِها، وذلك كاستدلالِنا على كذب المُتنبىءِ المُدَعِي للرسالةِ، إذا لم يَظهَرْ على يدِه من الآياتِ ما يَدُل عَلى صدقِه، ولم يكُنْ ما يُخبِرنُا عنه من ثبوتِ رسالته مما يُضْطَرُّ إلى العلمِ به. ووجه الاستدلالِ على كذبِه: أن نقولَ: لو كان صادقاً، وليس إلى العلمِ بصِدْقِه من جهةِ الاضْطِرارِ سبيلٌ، لوجبَ أن يكونَ على ذلك دليلٌ منصوبٌ، ولا دليلَ عليه إلا الآياتُ الباهرةُ، وإذا عَلِمنا أنه لا آيةَ له، عَلِمْناكذبَهُ. وكذلك فقد يُستدَل على سقوطِ إثباتِ أوصافٍ وحقائقَ للقديم والمُحْدثِ أكثرَ مما عَلِمْناها؛ بأنها إذا كانت مما لا تُعلَمُ اضْطِرارَاً، ولم يَكُنْ عليها دليل موجود، وجَبَ القَطْعُ على أنه لا أصلَ لها. وكذلك قد يُستدَل على نفيِ قديمٍ عاجزٍ ومَيْتٍ بمثلِ هذا، في نظائرِ هذه الأمورِ، فيجِبُ أن يُتَنكَبَ في ذلك أجمعَ القولُ بأنا لا نَعلَمُ عليه دليلاً، ولم نَجدْ عليه دليلاً، ونقولَ مكانَ ذلك، وبدلاً منه: قد عُلِمَ أنه لادليلَ عليَه. فنأتي بلفظِ الإثباتِ.

- فصل: اختلف أهل العلم في النافي هل عليه دليل أم لا؟

فصل وقد اخْتلَفَ أهلُ العلمِ في النَّافي: هل عليه فيما نفاه [دليلٌ] (¬1)، أم لا؟ فقال قوم من المتكلمين والفقهاءِ: إن المُنكرَ النافي لا دليلَ عليه، سواءٌ كان ما أنْكرَهُ ونفاهُ مِنَ القضايا العقلية أو مِنَ القضايا الشَرعيةِ (¬2). وقال آخرون من الفقهاءِ والأصوليين: إن النافي لا دليلَ عليه، إذا كان ما نفاهُ من الأحكامِ السمعيةِ دونَ العقليةِ (¬3). وقال المُحقَقُونَ من أهلِ النظَرِ من الفقهاءِ والأصوليِّين (¬4): إن ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) حكى هذا القول غير واحد عن داود وأهل الظاهر، وفي كلام ابن حزم في "الإحكام" ما يشير إليه، وان كان هو قد صحح القول بخلافه، وهو منقول أيضاً عن بعض الشافعية. انظر "البحر المحيط "6/ 32، و" الإحكام " لابن حزم 1/ 75 وما بعدها، و "إرشاد الفحول" ص 245، و، "التبصرة" ص 530، و"إحكام الفصول" ص 619، و "المسودة" ص 494. (¬3) حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني في "التقريب" وابن فورك. انظر "البحر المحيط" 6/ 32. (¬4) هم جمهور الفقهاء والمتكلمين. انظر "أصول السرخسي" 2/ 215 - 216، و"روضة الناظر" مع شرحها "نزهة الخاطر" 1/ 395، و"إحكام الفصول" ص 618، و"المسودة" ص 494، و"إرشاد الفحول" ص 245، و "التبصرة" ص 530، و"الِإحكام" للآمدي 4/ 294، و"الوصول" 2/ 258، و "شرح الكوكب المنير"4/ 525، و"التمهيد"4/ 263، و"شرح مختصر الروضة" 3/ 161، و"البحر المحيط" 6/ 32، و"نهاية السول" 4/ 374، =

النافيَ إذا ادَّعى العِلْمَ بانتفاءِ ما نَفاهُ، لَزِمَهُ إقامةُ الحُجةِ والدليلِ عليه، كما يَلْزَمُ المدَّعى العِلْمَ لإِثباتِ ما أثْبتَهُ الحُجَّةُ والدليلُ، إذا كان الأمرُ المثُبَتُ والمنْفِى المُختلَفُ فيه مما لا يُعلمُ نفيُه وإثباتُه باضْطِرارٍ ودَرْكِ الحواسِّ، فإِنَ ما ثَبَتَ باضْطِرارٍ مِن نفيٍ أو إثباتٍ نَمنَعُ (¬1) المُطالبةَ بالدليلِ عليه، والتعرُّضَ لإِقامةِ الدليلَّ عليه؛ إِذ كان الدليلُ هو المُرشِدَ إلى المطلوب، وما عُلِمَ باضْطِرارٍ فقد تَحصَّلَ، فمُحالٌ أن يُرشِدَ إلى ما تَحصَلَ، كما أن من المُحَّالِ طَلَبُ ما قد ظُفِر بهِ وتَحصَّلَ. والدَلالة على ما ذَهَبَ إليه المحُقَقون -وهو ما نَعْتَقِدُهُ-: أن التوحيدَ مما أجْمَعَ المسلمون على وجوب الدَلالةِ عليه حسَبَ ما أجْمعُوا على إِثباتِ الصانعِ، وحقيقةُ (¬2) التَوحيدِ: نَفْيُ ما زادَ على الواحدِ في قِدَمهِ وصُنعِهِ، وكونُه لا يُشْبِهُ الأشياءَ، [وهو] (¬3) نفى للمِثْلِ. والدَلالةُ على ذلك، وقد اسْتدَلَّ الباري عليه بقولِه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42]، ولأنَّ النَافِي لِمَا نَفاهُ لا يَخْلو من أحدِ أمريْنِ: إمّا أن يدعى العِلمَ بما نَفاهُ، أو لا ¬

_ = و"المستصفى"1/ 232. وفي المسألة مذاهب أخرى: انظرها في "البحر المحيط" 6/ 32 - 34. (¬1) في الأصل: "نفتح". (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "ودقيقة". (¬3) ليست في المخطوط.

يَدَّعِيَ العِلمَ بانْتِفائِهِ؛ لكنَّهُ يُخبِرُ أنه جاهل بذلك أو شاكٌ فيه. فإِن كان مِمن يُخبِرُ بجَهلِه وشكِّهِ، فلعَمْري أنَّ الدَّلالةَ لا تَلزَمه كما لا يَلزَمُهُ إِقامةُ الدليلِ على أنه لا يَجِدُ ألَمَ البَردِ والحَر وحلاوةَ العَسَلِ؛ لتجويزِنا داخلًا دخَلَ على مِزاجهِ، فافسَدَ دَرْكَهُ، ولأن أهلَ النَظرِ قاطبةً لا يُوجبُونَ على الجاهلِ والشَاكِّ دليلًا على ما ادَّعى من جهلِه وشَكِّهِ، ولاَ يَسألونَ عن الطريق المُؤَدِّي إليهما، لأنه لا دليلَ عليهما، ولا طريق إلى إثباتِهما، فلا نقولُ للجاهل: لم جَهِلْتَ؟ وللشاكِّ: لم شَكَكْتَ؟ وإنما تكَلمَ الناسُ مع ابي حنيفة في شَكِّه [فى سؤرِ] (¬1) الحِمارِ لا في عَيْنِ الشك، لكِنْ تكلموا معه في الحُكمِ الذي رَتَبهُ عليه. قلت: وليس ما نحن فيه من جميع ما ذَكرُوا في شيءٍ، بل إذا جَهِلَ، وأخْبَرَ عن نفسِه بذلك، قلنا له: أيقِظْ عقلَكَ بما تُوقَظُ به العقولُ مِنَ النَّظَر، يَظْهَرْ مِن جوهرِ العقلِ ما يَنْتَفِي به الجهلُ: فالذُّهولُ عن النظَرِ، آفةٌ (¬2) يُمكِنُ إزالتها، كما أنَّ العارضَ على المِزاجِ من الآفَةِ يُمكِنُ عِلاجُه (¬3)، فهو إِذا لم يَكُنْ عليه دليل، كان ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. والشك في سؤر الحمار معروف من مذهب الإمام أبي حنيفة. انظر "تحفة الفقهاء" 1/ 54 - 55، و"البناية شرح الهداية"1/ 454 - 456. (¬2) في الأصل: "أنه". (¬3) في الأصل: "بخلافها".

عليه البحثُ الذي هو علاجُ ما عرضَ أو تأصلَ مِنَ الجهلِ. وإن كان النافي مِمن يَدعي العِلْمَ بصِحةِ ما نَفاهُ، تَطرقَ لنا عليه أنَّ نقولَ: من أين غلبَ نفيُ ما نَفيْتَهُ؟ أباضْطِرارٍ أم باسْتدلالٍ؟ فإن ادَّعى الضرِورةَ وكان ذلك الأمرُ مِمّا نَشْرَكُه فيه، سقطَ الاستدلالُ، وإن لم نشْرَكْهُ فيه مع دَعْواهُ الضرورةَ، كان عندنا أحدَ رجلين: إمَّا أن يكونَ صادقاً فيما أخْبَرَ لآفَةٍ دَخَلَتْ عليه، كمن تَدخُلُ عليه الأفةُ في الِإثبات لأشكالٍ يراها مُتخيلَةً له، ولا نَشْرَكُهُ فيها لعدمِ ما عَرَضَ له في أمْزِجَتِنا؛ فإن في الأمراض ما يُشَكلُ الأشْخاصَ ولا أشْخاصَ، كذلك في باب النَفْي. وإنِ ادَّعى أن ذلك عَلِمهُ بطريق الاستدلالِ، طُولِبَ بالدلالةِ بالأدلةِ عليه؛ لأن كلُّ معلوم بالاستدلالِ إنما يُعْلَمُ بدليل، فالدليلُ الذي نَصَبَهُ لنفسهِ في النفيً يجِبُ أن يُقيمَه لنا إذا طالَبْناهُ. فإِن قيل: أليس المُنكِرُ لما كان نافياً لم تَلْزَمْهُ البينه، والمدعى لما كان مُثبِتاً لَزِمَتْهُ؟ قيل: المُنكرُ أسندَ إلى أصل هي أدلة العقلِ على براءةِ الذمَمِ، على أنه ما أخْلاهُ الشرعُ من بينةٍ هي يَمِينهُ، وإلا فقد كان يَكْفِي قولُه في جواب المُدَعِي وقولُه [فيما] (¬1) اسْتَحَق عليه: بأنه (¬2) ما يَسْتَحِقُّ على شيئاً. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) في الأصل: "فإنه".

* فصول تتضمن بيان الأسئلة الفاسدة لتجتنب

فصولٌ تَتضمَّنُ بيانَ الأَسئِلةِ الفاسدةِ لتُجْتنَبَ فصل من الأسئلةِ الفاسدةِ أن تقولَ: لو كانت هذه عِلَّةً في كذا وكذا، لكانت في كذَا وكذا، وهذا إنما يكونُ فاسداً عندي، إذا كان الحُكمُ الذي جَعَلَ اسْتِدعاءَهُ من مُقْتَضى العِلةِ ليس من الحُكمِ الذي أوْجَبَهُ بها في شيءٍ، فأمَّا إن كان نظراً وحُكماً يَصلُحُ أن يكونَ حكماً للعِلة، فقد جعلهُ الشيخُ الإمامُ أبو إسحاق (¬1) سؤالًا حسناً، وهو أن تكونَ العِلةُ لا تستدعي أحكامَها، فأفْسَدَها بذلك. فمثالُ الصحيحِ: أن يقولَ الحنفيُّ في الزكاةِ في مال الصبِى: غيرُ المكلف، فلا تَجِبُ الزكاةُ في مالِهِ، كمن لم تَبلُغْهُ الدعوة. فقال: إن هذه العِلةَ لم تَستاع (¬2) عدمَ إيجابِ العُشْرِ في زَرْعِه، وزكاةِ الفِطْرِ ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي، شبخ الشافعية، مولده سنة (393) هـ، له المصنفات المشتهرة منها: "التنبيه" و"المهذبا في الفقه" و"اللمع" و"شرحه" "الملخص" و "المعونة" في الجدل و"التبصرة" في الأصول، وغيرها. توفي سنة (476) هـ. انظر "السير" 18/ 452 - 464، و"طبقات الشافعية" للسبكي 4/ 215 - 256. (¬2) في الأصل: "تستدير".

في مالهِ، وهما نَظِيرا زكاةِ رُبْعِ العُشْرِ، ولا تستدعي نفيَ رُبْعِ العُشرِ فهذا سؤالٌ حسنٌ صحيحٌ. ومثالُ الفاسدِ: أن يُعَلِّل حنبليٌّ أو شافعيٌ في تحريمِ النَّبيذِ: بأن فيه شِدَّةً مُطرِبة، فكان مُحرماً، كالخمرِ. فيقول المُعارِضُ: لو كانت هذه عِلةَ التحريمِ، لكانت عِلَّةً في التفسيقِ. وكذلك إذا عَلَّلَ في المضمضةِ والاستنشاقِ: بأنهما لا يَجبانِ في الوضوء، فلا يجبان في الجنابةِ. فيقول: لوكان ذلك عِلَّةً للمضَمضةِ، لكان عِلَّةً لِمَا تحتَ اللِّحْيةِ. وإنما كان كذلك؛ لأن التفسيقَ أَبطَأُ من التَّحريمِ، والتحريمَ أسرعُ من التفسيقِ؛ لأن لنا محرماتٍ لا تُفَسِّقُ، ولأن مسائلَ الاجتهادِ لا يُفسَّقُ بها، وباطنُ اللِّحْيةِ مُستتر بحائل ليس من أصلِ الخِلْقةِ. فهذا وجهُ فسادِهِ عند مَن يقولُ: بأن العِلَّةَ إذا لم تَستدعِ أحكامَها كانت فاسدةً. فأمَّا مَن يَرى: أن سؤالَ العِلَة لا تستدعي أحكامَها (¬1). ليس بسؤال لازم، يَعتل في فسادِ السؤالِ الأولِ والثاني: بأنه لا يَمتنعُ أن تكونَ العِلةُ عِلَّةً في أحدِ الموضعين دون الأخير، فلا يُعترَضُ بذلك. ومنها (¬2): أن يقولَ: أَخَذْتُ حكمَ الأسبق من الُمتأَخرِ، كقول أصحابِ أبي حنيفةَ في الاعتراضِ على أصحابنا وأصحابِ الشافعي حيث قاسوا الوضوءَ على التيمم في إيجابِ النية، فقالوا: إن فَرْضَ الماءِ نَزَلَ قبل ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحكاما". (¬2) أي: من الأسئلة الفاسدة.

فرضِ التيمُّمِ، فمتى وَجَدْنا فَرْعاً اخِذَ له الحكم من أصلٍ لم يَسبِقْهُ (¬1)؟ وفساد هذا السؤالِ: من جهةِ أن الادلة لا ينكر فيها مثل هذإِ، وإن تَضَمَّنَ الأول دَلالةً ويسلبها الثاني، فنَأخذ مِن تضمن المتأخر إيجابَ النِّيَّةِ ايجابها استدلالاً للمقدَّم، ويتبيَّن وجوبُها في الماءِ بما ضَمنَ الله بَدلَها من إِيجابِ النَيَّةِ، وهَو التيمُّم. فصل ومنها: أنَّ تَعترِضَ على العِلةِ: بأنك اعتبَرْتَ فسادَ الأصلِ بفسادِ الفرعِ. وذلك مثل قولِ أصحابنا وأصحابِ الشافعيُّ في النكاحِ الموقوفِ (¬2): إنه لا تتعلَّق به الاستبَاحة، فكان باطلاً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "نسبقه". (¬2) العقد الموقوف عموماً: هو العقد الذي فيه تجاوز على حق لغير عاقده، يوجب توقفه على إرادته وإجازته، كعقد الفضولي، أو فيه مانع آخر يمنع نفاذه كالإكراه. ومنه النكاح الموقوف، ومن صوره: إذا زوج الولي العم الصغيرَ، كان النكاح موقوفاً على إجازته في رواية عن أحمد. ومنها: أن يعقد الولي نكاح المرأة ويوقفه على إجازتها، ويذكر أنه لم يعلمها بذلك، فهذا متوقف على إجازتها عند المالكية. ومنها: نكاح الفضولي -وهو من يتصرف لغيره بغير ولاية ولا وكالة- الذي يباشره مع آخر أصيل أو ولي أو وكيل، فإنه يتوقف على الإجازة عند الحنفية. انظر "المدخل الفقهي العام" للأستاذ مصطفى الزرقاء1/ 577، و"شرح حدود ابن عرفة" لمحمد الأنصاري المشهور بالرصاع، والمسائل الفقهية من كتاب "الروايتين والوجهين" للقاضي أبي يعلى بتحقيق الدكتور عبد الكريم=

فيقولُ: الاستباحةُ حُكمُ العقدِ وتُسْتَفَادُ به، فلا يكونُ نفيُها يُوجبُ نَفْيَ العقدَ. وهذا اعتراض فاسد، من حيث إن العقدَ يُرادُ لأحكامِه التي تُستفادُ به؛ إذ ليس يرادُ العقدُ لعَيْنهِ، فإذا وُجِدَ ولم تَتعلقْ به أحكامُهُ لا من جهةِ شرطٍ يحتاجُ إِليه، دَل على فسادِه، كما أننا نَعلمُ صِحَةَ العقدِ ونَستدِلًّ عليه بوجودِ أحكامِهِ ومقاصدِهِ. فصل ومن ذلك: أن يُفَرقَ بين الأصلِ والفرعِ بما لا يقَدَحُ في العِلةِ. مثلُ قياسِ أصحابنا وأصحاب الشافعيُّ النبيذَ على الخمرِ في التحريمِ، فيُفرَقُ بينهَما بالتَفسيق. وقد بَينّا أنه لا يُوجَدُ الفِسْقُ من التحريمِ، ولا يُنفى التحريمُ بنفيِ التَفسيقِ؛ لأنه يجوزُ أن تَجْلِبَ العِلةُ التحريمَ دون التفسيقِ، فلا يكونُ افتراقُهما في التفسيقِ مانعاً من صِحتِها وجَلْبِها للتحريمِ. فصل والفرقُ بين المسألتين يَقَعُ على ضربين: أحدهما: أن يكونَ بياناً للأصولِ المُفْرَدةِ المُلتزَمةِ لا بعلةٍ، فإنه يَكفِيهِ بيانُها وكشفُ معانيها، ولا يَحتاجُ إلى أصل؛ لأن هذا الفَرْقَ هو مُتطوع به؛ إذ كان لا يَلْزَمُه على طريقةِ مَن لا يرى الكَسْرَ سؤالًا صحيحاً، وهذا هو الجوابُ عن الكَسْرِ، وقد ذَكَرْتُ المذهبينِ فيه (¬1). ¬

_ = ابن محمد اللاحم 2/ 82، و"حاشية ابن عابدين" 3/ 97. (¬1) انظر الصفحة (290) وما بعدها.

والثاني: الفرقُ القادحُ في الجمعِ، فهذا يَحتاجُ إلى أصل يَرجعُ إليه؛ ليَصِحً قَدْحُهُ، ويكونَ الأصلُ شاهداً لصحِة القَدْحِ؛ إذ الفَرْقُ (¬1) كالجَمْعِ، والجامعُ لا بُدَّ له من الدلالةِ على صحةِ جمعِه، فالفارقُ كذلك، ومَن أحبَّ أن يُسقِطَ عنه كُلْفَةَ الفرقِ، والدلالةِ عليه، ورَدِّهِ إلى أصلِه، طالبَ المُستدِل بصحةِ الجمعِ. وإنما احتاجَ الفارقُ إلى أصل؛ لأن فرقه دعوى لا بُرهانَ عليها، وليس شيء من الأصولِ إلا وهو مفارقٌ للآخرِ في شيءٍ يقعُ به الافتراقُ صورةً، فلو لم تُعتبرِ الدَلالةُ والرد إلى أصل، لكَثُرَ الفرقُ واتسعَ لقُرْب مُتناولِه، كما أنه لولا احتياجُ الجامع إلى دَلالةٍ، لاتسعَ القياسُ الجاَري (¬2) من تأثيرٍ وجلْبٍ. وقد قال بعضُهم: لا يَحتاجُ الفارقُ في فرقِه إلى أصل، واختارهُ بعضُ أصحاب الشافعيِّ، وتعلَّقَ بأن الشافعيَّ رحمةُ الله عليه فَرقَ بين الجُنُب إذا كانَ إماماً ولم يَعْلَمْ به المأمومُ، وبين الكافرِ: بأن الجُنُبَ يكون إماماً بحالٍ، بخلاف الكافرِ. وهذا لا يَلزَمُ؛ لأن كلامَ الشافعيِّ يَرجعُ إلى أن الجُنُبَ من أهلِ الإِمامةِ، فأشبَهَ المُتطهَرَ، والكافرُ بخلافِ ذلك. وقد قال الشافعيُّ رحمةُ الله عليه في اعْتِدادِ (¬3) المبتُوتَةِ: إنها قياسُ المُتوفَى عنها؛ لاجتماعِهما في كونِهما في عِدةٍ لا رَجْعةَ للزَوجِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "القدح". (¬2) في الأصل: "الحالي". (¬3) في الأصل: "إحداد".

* فصل في بيان الانقطاع

عليها، وإن اختلفا في أنَ إحداهما فارقَها زوجُها. واعترضَ المُزَني (¬1)، فقال: كلُّ ما قِيسَ على أصلٍ فهو يُشبِهُهُ من وجهٍ وُيفارِقُه من وجهٍ آخرَ، ولو لم يَكُنِ القياسُ إلا باستيفاءٍ، بطَلَ، فقالَ أصحابُ الشافعيِّ: الفرقُ الذي ذَكَرَهُ الشافعيُّ يَقْدَحُ في الجمعِ؛ لأنه يَرجِعُ إلى الرجْعةِ؛ فلهذا عارضَ به القياسَ. فصل في بيانِ الانقطاعِ وقد سَبقَ حَدُّهُ وأمثلتُه مُسْتوفىً في جَدَلِ الأُصولِ (¬2)، ونشيرُ إليه هاهنا: فانقطاعُ المُستدِلِّ: أن يَعجِزَ عن بيانِ مذهبهِ، أو يَعجِزَ عن بيانِ الدليل بعدَ بيانِ مذهبه، أو يَعجِزَ عن الانفصالِ عَمّا عارضَهُ السائلُ به بعد بيانِ مذهبهِ وإقَامةِ دليلِهِ، وكذلك إن جَحَدَ مذهبَه الذي يُلزِمُه الحُجَّةَ، وكذلك إن جَحَدَ ما ثَبَتَ بالإِجماعِ أو النصِّ، وكذلك إن انْتقَلَ عما سُئِل عنه إلى غيرِهِ. وفي هذا القَبِيلِ من الانتقالِ ما لا يكوَنُ انقطاعاً، مثلُ: إن سُئِلَ عن رَدِّ اليَمين، فيقولُ: هذا مَبْنِي عندي. على الحكم بالنَكولِ، فأنا ¬

_ (¬1) إسماعيل بن يحيى المزني، أبو إبراهيم الشافعي، صاحب الإمام الشافعي، وله مصنفات كثيرة في المذهب، توفي سنة (264) هـ. "طبقات الشافعية" للسبكي 2/ 93. (¬2) في الصفحة (483) من الجزء الأول

أعتقِدهُ (¬1)، إذا ثبتَ أنه لا يُحكمُ بالنُّكولِ. وكذلك إذا سُئِلَ عن قضاءِ صوم التطوعِ (¬2) على مَن أفْسَدهُ، فيقولُ: هذا يَنْبنِي عندي على أنه لاَ يَلزَمُ إتمامهُ بالشروع، فيدُل عليه. فإن طالبَهُ السائلُ بالدَلالةِ على ما سَألهُ إيّاه، كان انقطاعاً مِنَ السائلِ دونَ المسؤولِ، لأن الأصولَ بعضُها يُبْنى على بعضٍ، وليس كلُّها لها مِنَ الأدلَّةِ ما يَخُصُّهُّا. ومنه ما يكونُ انقطاعاً وانتقالاً، وهو: أن يُسألَ عن حُكم، فيَدُل على ما لا يُبْنى عليه، مثالُه: أن يُسألَ عن وجوب الترتيب في الطَّهارةِ، فيقول: نحن نَختلِفُ في الترتيب وفي النِّيةِ، فأدُلَّ على وجوبِ النيه، فإذا وجبَتْ وجبَ الترتيبُ؛ لأن الترتيب لا تَعلقَ له بالنيةِ. وكذلك إذا اسْتدَلَّ بدليلٍ ثم أوردَ آخرَ، فهو مُنتقِل عن دليلِه الذي ضَمِنَ نُصْرَةَ المسألةِ به، فكان انقطاعاً. فصل وانقطاع السائل،: يكونُ بالعَجْزِ عن بيانِ السؤالِ، وبالعجزِ عن المطالبةِ بالدليلِ، وبالعجزِ عما شَرَعَ فيه، وبجحد مذهبِه، أو ما ثبتَ بنصٍّ أو إجماعٍ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أعتقد". (¬2) في الأصل: "المتطوع".

* فصول التراجيح

فصولُ التراجيحِ فصل في ترجيحِ الظواهرِ وذلك يَقعُ من وجَهينِ؛ ترجيحٌ في الإسنادِ، وترجيح يقعُ في المَتْنِ. فأمَّا الإسنادُ: فيَختَص به أخبارُ الآحادِ؛ إذ ليس تَحتَمِلُ المتواترةُ اختلافاً، فيقعُ فيه ترجيحٌ؛ لأنها انْتهَتْ إلى العلمِ الذي لا يَحتمِلُ التزايُدَ، انما أخبارُ الآحادِ طريقُها الظن، فكلما قَوِيَ طريقُها -وهو الإسنادُ-، كان الأرجحُ إسناداً أقوى في غَلَبَةِ الظن. فصل ومما يَحصُلُ به التَّرْجيحُ في الِإسناد. أن يكونَ أحدُ الرَاوِيَيْنِ (¬1) كبيراً والآخرُ صغيراً، فتُقدَّمُ روايةُ الأكبر، لأنه أضْبطُ. والثاني: أن يكونَ أحدُهما أعلمَ، فتُقدمُ روايةُ الأعلمِ؛ لأنه أعلمُ بما يَرْوِي. والثالثُ: أن يكونَ أحدُهما أقربَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أوعى وأعرفُ بإشاراتِ النبى - صلى الله عليه وسلم - ومقاصدِهِ، ويَعلَمُ كيف خرجَ اللفظُ، وماذا ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "الروايتين".

قَصَدَبه، مثلُ: روايةِ عائشةَ رضي الله عنها في شان أحوالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتِهِ، واغتسالِهِ وطهاراتِهِ، وصلواتِهِ. والرابعُ: أن يكونَ أحدُهما مباشراً للقِصَةِ، أو القصةً تَتعلقً به، فيًقدمً، لأنه أعرفُ، مثلُ: قِصةِ حَمَل بن مالكٍ (¬1) وما شاكلَها من القِصَصِ، وكذلك إذا كانت القِصةُ تتعلقُ به، قُدمَ لأنه أعرفُ. ¬

_ (¬1) قصة حمل بن مالك أخرجها أحمد في "مسنده" 1/ 364 و4/ 89 - 80، والدارمي 2/ 196 - 197، وأبو داود (4572)، وابن ماجه (2641)، والنسائي 8/ 21 - 22، وابن حبان (6021)، والدارقطني 3/ 115 - 117 و 117، والبيهقي 8/ 114 من طرق عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، عن عمر: أنه نشد قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين، فجاء حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فقتلتها وجنينها، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنينها بغُرة عبد، وأن تقتل بها. وأخرجها عبد الرزاق (18343)، ومن طريقه الطبراني (3482)، والدارقطني 3/ 117، والحاكم 3/ 575 عن سفيان بن عشة، عن عمرو بن دينار، به. لكن ليس فيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بأن تُقتَل بها القاتلة. وأخرجها أبو داود (4574)، والنسائي 8/ 51 - 52، وابن حبان (6019)، والطبراني (11767)، والبيهقي 8/ 115 من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس- ولفظه: كانت امرأتان ضَرَّتان، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فماتت المرأة، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العاقلةِ الديةَ، فقالت عمتها: إنها قد أسقطت يا رسول الله غلاماً قد نبت شعرهُ، فقال أبو القاتله: إنها كاذبة، إنه والله ما استهل ولا شرب، ولا أكل، فمثله يُطَل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَجْع الجاهلية، غُرة". فقال ابن عباس: اسم إحداهما: مليكة، والأخرى: أم غطيف.

والخامسُ: أن يكونَ أحدُ الخَبرَيْنِ أكثرَ رواةً، فيكونُ أوْلى؛ لأن الأمرَ بين الجماعةِ أحفظُ منه مع الواحدِ، ولأن الشيطانَ من الواحدِ أقربُ، وهو من الاثنين أبعدُ، وكلما زاد في العددِ، زادَ الشيطانُ بُعْداً. ومِنَ الناسِ مَن قال: لا يُرجحُ بالعَدَدِ، كما لا تُرجحُ الشهادةُ بالعدد، وإليه ذهبَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ (¬1). والسادسُ: أن يكونَ أحدُهما أكثرَ صُحْبةً، فيُقدمُ لأنه أعرفُ بما دامَ من السُّنَنِ، وما نُسِخَ وما لم يُنسَخْ، وبدوام صُحبتِه يَعرِفُ معانيَ الألفاظِ، ومخارج الكلام، ودلائلَ الأحوالِ، فلا يَغمُضُ عليه معنىً، ولايَنْستِر عليه مرادُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالنطقِ. والسابعُ: أن يكونَ أحدُهما أحسنَ سياقاً للحديث، فيُقدمُ لحُسْنِ عِنايتِه. والثامن: أن يكونَ أحدُهما مُتأخراً، فيُقدمُ لأنه يَرْوي [آخرَ] (¬2) الأمرَيْنِ. والتاسعُ: أن يكونَ أحدُهما لم يَضْطَرِبْ لفظهُ، (3 والآخرُ اضْطَرَبَ، فمن لم يَضْطَرِبْ 3) لفظهُ، يُقدمُ لأنه أضبطُ. والعاشرُ: أن يكونَ أحدُهما أوْرعَ وأشد احتياطاً في الحديث، ¬

_ (¬1) انظر "المعونة في الجدل" ص 274، و" التبصرة" ص 348، و"البحر المحيط " 6/ 150 - 151. (¬2) ليست في الأصل، وانظر "المعونة في الجدل" ص 274، و"شرح الكوكب المنير" 644/ 4. (3 - 3) كرر الناسخ هذه الجملة في الأصل.

- فصل: ما يحصل به الترجيح في المتن

فيُقدمُ لأنه أوثقُ. والحادي عشر: أن يكونَ أحدُهما من رواةِ أهلِ الحَرَمَيْنِ، فيُقدم على غيرِه؛ لأنهم أعرفُ بما دامَ من السنَن، قال زيدُ بن ثابتٍ: إذا وَجَدْتُم أهلَ المدينةِ على شيءٍ، فهو السُّنَّةُ. وأشارَ إلى ذلك الوقتِ. فأمَّا زمانُنا هذا، فنعوذُ بالله من انتشارِ البِدعِ بالحَرَميْنِ. والثالي عشر: أن يكونَ أحدُهُما لم تَختلِفْ عنه الروايةُ، والأخرُ اخْتلَفَتْ عنه الروايةُ، وفي ذلك وجْهانِ لأصحابِ الشافعي (¬1): أحدُهما: تتعارضُ الروايتانِ (¬2) وتَسْقُطانِ، وتبقى روايةُ مَن لم تَختلِفْ عنه الروايةُ. والثاني: يُرجحُ؛ لأن الروايةَ التي لم تَختلِفْ عاضدَتْها الأخرى بما وافقَتْها فيه. فصل وأما الترجيحُ في المَتْنِ فَمِن وجوهٍ أحدها: أن يكونَ أحدُ الخَبَريْنِ موافقاً لدليل آخرَ من أصل أو معقولِ أصلٍ يُقوِّيهِ. والثاني: أن يكونَ عَمِلَ به الأئِمةُ، فيكونُ أوْلى؛ لأنه آخرُ ما مات عنه من السنَنِ. وألثالثُ: أن يكونَ أحدُهما نطقاً والأخرُ دليلًا، فالنُّطْقُ أوْلى؛ لأنه ¬

_ (¬1) انظر "المعونة في الجدل" ص 275، و"البحر المحيط" 6/ 160 - 161. (¬2) أي: عمن اختلفت عنه الرواية.

مُجمَع عليه، ودليلُ النطْقِ مُختلَف فيه. والرابعُ: أن يكونَ أحدُهما قولًا والآخرُ فعلاً، ففيه ثلاثةُ مذاهبَ: أحدُها (¬1): أنهما سواء؛ لأن فعلَه كقوله - صلى الله عليه وسلم - في إفادةِ الأحكامِ. والثاني:- أن الفعلَ أوْلى؛ لأن الفعلَ لا يَحتمِلُ التأويلَ، ولا فيه مجاز ولا احتمال. والثالثُ: أن القولَ أوْلى؛ لأن له صيغةً تَتَعدى بلفظِه. والخامسُ: أن [يكونَ] (2) أحدُهما قُصِدَ به الحكمُ، فيكونُ أوْلى مما لم يُقْصَدْ به الحكمُ؛ لأنه أبلغُ في المقصودِ. والسادسُ: أن يكونَ أحدُهما أظْهرَ في الدلالةِ على الحكمِ، فيُقدمُ لأنه أقوى. والسابعُ: أن يكونَ [مع] (¬2) أحدِهما تفسيرُ الراوي، فيُقدمُ؛ لأن الراويَ أعرفُ بالمرادِ. والثامنُ: أن يكونَ أحدُهما ورَدَ على غير سببٍ، فهو أوْلى مما وردَ على سببٍ؛ لأن ما وردَ على سببٍ مُختلف في عمومِه، وما لم يَرِد على سببٍ مُجمَع على عمومِه. والتاسعُ: أن يكونَ أحدُهما ناقلاً، فهو أوْلى؛ لأنه يُفِيدُ حكماً ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحدهما". (¬2) ليست في الأصل.

شرعياً (¬1) والعاشرُ: أن يكونَ أحدُهما إثباتاً والأخرُ نَفْياً، فالإثباتُ أوْلى؛ لأن مع المُثبِتِ زيادةَ حكم ليست (¬2) مع النافي. والحاديَ عشرَ: أن يكونَ أحدُ الخَبَريْنِ مُتأخراً، فيكونُ أوْلى؛ لأنه أحدَثُ الأمرَيْنِ، وقد قال ابنُ عباس-رضي الله عنه-: كنا نَأخُذُ من أوامرِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالأحدَثِ فالأحدَثِ (¬3). ¬

_ (¬1) أي: أن يكون أحد الخبرين ناقلًا عن حكم الأصل والبراءة، والآخر مقرراً ومبقياً لمقتضاهما، فيقدم الناقل، لأنه يفيد حكماً شرعياً ليس موجوداً في الآخر. انظر "منهاج الوصول" مع شرحه "نهاية السول"4/ 501، و"البحر المحيط" 6/ 169، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 687، و"التمهيد" 3/ 209. (¬2) في الأصل: "ليس". (¬3) هو طرف من حديث، وليس في شيء من رواياته: "كنا نأخذ"، وإنما الذي فيها: "كانوا يأخذون"، أو "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون"، أو"إنما يؤخذ بالآخر فالآخر"، أو ما شاكلها. والصحيح: أنه مدرج من قول الزهري في حديث ابن عباس كما سيتبين ذلك من تخريجه. وقد أخرجه مالك 1/ 294، والشافعي 1/ 271، وعبد بن حميد (648)، والدارمي 2/ 9، ومسلم (1113)، والطبري في "تهذيب الآثار" 1/ 101 و 101 - 102 و102، والطحاوي في" شرح معاني الآثار"2/ 64، وابن حبان (3003) و (3563) و (3564)، والبيهقي في "السنن" 4/ 245، وفي "الدلائل" 5/ 21، والبغوي في"شرح السنة" (1766) من طرق عن ابن شهاب الزهرفي، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيد، ثم أفطر، وكان =

والثاني عشرَ: أن يكونَ أحدُهما أحوَطَ، فهو أوْلى. والثالثَ عشرَ: أن يكونَ أحدُهما حاظراً والآخرُ مُبيحاً، ففيه مذهبان، قد قَدمْنا ذكْرَهما: ¬

_ = صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. كذا بإدراجه في الحديث من غير فصل. وأخرجه مسلم (1113)، والبيهقي 4/ 246 من طريق يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، به. وفي آخره: قال ابن شهاب: فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره، ويرونه الناسخ المحكم. وأخرجه الطيالسي (2718)، والحميدي (514)، وابن أبي شيبة 3/ 15، و 14/ 500، وأحمد 1/ 219، ومسلم (1113)، والنسائي 4/ 189، والطبري في" تهذيب الآثار"1/ 100 - 101، وابن خزيمة (2035)، والبيهقي في" السنن "4/ 246 من طرق عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفتح، فصام، حتى إذا كان، بالكديد، أفطر، وإنما يؤخذ بالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد بعضهم في آخره: قيل لسفيان: قوله: "إنما يؤخذ بالآخر" من قول الزهري أو قول ابن عباس؟ قال: كذا في الحديث. وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (9738)، ومن طريقه أخرجه عبد بن حميد (645)، والبخاري (4276)، ومسلم (1113)، والبيهقي في "السنن" 4/ 240 - 241، وفي "الدلائل" 5/ 21 - 22 عن معمر، عن الزهري، به وسياقه أتم. وفي آخره: قال الزهري: و"نما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر. قال الحافظ ابن حجر في "موافقة الخبْر الخَبَر"1/ 85: وجَزْم معمر ويونس وابن إسحاق بفصل المرفوع من الموقوف، فقَدمَ على تردُّد سفيان، وعلى إدراج من أدرجه، والله أعلم.

- فصل: في ترجيح المعاني

أحدُهما: أنهما سواءٌ. الثاني: أن الحاظرَ أوْلى وهما وجهان لأصحابِ الشافعيِّ (¬1) فصل في ترجيح المعاني وذلك من وجوه: أحدُها: أن يكونَ أصلُ أحدهما منصوصاً عليه، فهو أوْلى، لأنه أقوى. والثاني: أن يكونَ أصلُ أحدِهما ثبتَ بدليل مقطوع به، فيُقدمُ على ماثبتَ بدليل غيرِمقطوع به. والثالثُ: أن يكونَ لأحدِهما أصولٌ، فهو أوْلى، لأنها أقوى في النَظَر؛ لكثرةِ شواهدِها. والرابعُ: أن يكونَ أحدُهما قِيسَ على أصل نُص على القياسِ عليه، فهو أوْلى، لأنه قياسُ الشرْعِ. والخامسُ: أن يكون أحدُهما مقيساً على جنسِه، فهو أولى، لأنه أقربُ إليه. والسادسُ: أن تكونَ إحدى العِلتَينِ منصوصاً عليها، فهو أوْلى، لأنها أقوى. والسابعُ: أن يكونَ وصفُ إحداهما محسوساً، ووصفُ الأخرى ¬

_ (¬1) انظر "المعونة في الجدل" ص 277، و"نهاية السول" 4/ 502 - 503.

حُكْمياً، ففيه مذهبان، ولأصحابِ الشافعيِّ فيه وجهان: أحدُهما: المحسوسُ أوْلى، لأنه أثبتُ، وهو الغايةُ التي يُرَد إليها المعلومُ، والحِس أدَل على الحكمِ. والثاني: أن الحكميَّ أوْلى، لأن الحكمَ من جنسِ الحُكمِ، والجِنْسُ أدل على جِنْسِه وأقربُ إليه. والثامنُ: أن يكونَ أحدُهما إثباتاً، والأخرُ نفياً، فالإثباتُ أوْلى، لأنه مُجمَع على جوازِهِ، والنفيُ مُختلَف فيه. والتاسعُ: أن يكونَ وصف إحداهما اسماً، ووصفُ الأخرى صفةً، فالصفةُ أولى، لأنه مُجمع عليها، والاسمُ مُختلَف فيه. والعاشرُ: أن تكونَ إحداهما أقل أوصافاً، ففيه مذهبان، قد، قَدمْنا ذِكْرَهما: أحدُهما: القليلةُ الأوصافِ أوْلى، لأنها أسلمُ. والثاني: الكثيرةُ الأوصافِ أوْلى، لأنها أقوى في التشبيهِ بالأصلِ. والحاديَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما تَطرِدُ وتَنعكسُ، والأخرى تَطرِدُ ولا تَنعِكسُ، فالتي يَجتمعُ لها الطرْدُ والعكسُ أوْلى. والثاني عشرَ: أن تكونَ إحداهما تُوجِبُ احتياطاً، فهي أولى، لأنها أسلمُ. والثالثَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما تَوجِبُ الحَظْرَ، والأخرى تُوجِبُ الإِباحةَ، فقد ذكرنا فيما سبقَ مذهبين، ووَجهْناهما.

والرابع عشرَ: أن تكونَ إحداهما ناقلةً، فهي أولى. والخامسَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما تُسقِطُ الحَد، والثانيةُ تَوجِبُ الحد، وتُوجِبُ الجِزْيةَ، والأخرى تُسقِطُها، ففيه مذهبان: أحدهما: هما سواءٌ. والثاني: ما يُسقِطُ الحد أوْلى، وُيوجِبُ الجِزية أوْلى. والسادسَ عشرَ: أن تكونَ إحداهما توافقُ دليلاً آخرَ لأصل أو معقولِ أصل، فهي أوْلى، لأنها أقوى. تَم جدلُ الفقهاءِ، والله المحمود.

* فصول الخطاب

فصول الخطاب فصل اعلمْ وفقكَ الله أنه لما كان مبنى أصول الفقه على خطابِ الله سبحانَه وخطاب رسوله، وفحواهما ودليلهما، ولحنِهما ومعناهما المستنبط منهما، وقياس المسكوتِ عنه على المنطوقِ به بما يوجبُه الاستنباطُ من التعليلِ، وجبَ تقديمُ بيانِ الخطابِ واستيفاءِ القولِ فيه، لاشتمالِه على أبواب الأوامر والنواهي والأخبار، وما تفرعَ عليهما من الإيجابِ والندبِ والكراهةِ والحظرِ، والتقييدِ والإطلاقِ والعمومِ والخصوصِ، والناسخ والمنسوخِ، وفحوى الخطاب ودليلهِ ومعناه، فذلك كلهُ فرعٌ لهذا الأصل. فصل اعلمْ أنَ الخطابَ من الله سبحانه لمن خاطبه من خلقِه من ثلاثةِ طرق: سماعٌ منه سبحانه بلا واسطةٍ، كخطابِه لموسى ومحمدٍ صلى الله عليهما وسلم. وخطابٌ بواسطةِ الملَك؛ كخطابِه لجماعةٍ من الأنبياء صلواتُ الله عليهم. وكل ذلك حروفٌ وأصواتٌ تنتظمُ معاني الخطاب، الذي هو استدعاءٌ لفعلٍ أو تركٍ أو إخبارٍ عن ماضٍ أو مستقبلٍ، متلقى من لدنِ الله جلتْ عظمتهُ، أو من الملَكِ على ما نطقَ به الكتابُ العزيزُ.

والثالثُ: ألقيَ إلى قلوبِ الرسلِ، إمّا إلهاماً في اليقظةِ، وإما مناماً. والثلاثة اجتمعتْ لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، قال له كفاحاً وسماعاً منه بلا واسطةٍ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285] إلى آخر ما وردَ به الحديث (¬1)، ثم قال: فألهمني أن قلت. ففرق بين قال لي، وألهمني فى حال واحدة. وقال له بواسطةٍ، هو جبريلُ عليه السلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [سورة العلق: 1] {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2]. وأخبرَ - صلى الله عليه وسلم - فيما صحَت به السنَنُ الصحاحُ عنه: "فقال: لي كذا فقلت كذا"، "حيث انقطعَ جبريلُ عني". وكان كما قالَ سبحانه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم: 9 - 10]. وقال مما ألقاه في نفسِه وروعِه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ ¬

_ (¬1) روى أبو حيان والقرطبي عن الحسن ومجاهد وابن سيرين وابن عباس -في رواية- أنَ هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل وسمعهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج بلا واسطة. انظر "البحر المحيط" 2/ 364، و"الجامع لأحكام القراَن" 3/ 425. وأخرج مسلم في صحيحه (173) عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتُهيَ به إلى سدرة المنتهى ... قال: فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقْحِمات.

لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193] وقال النبيُ - صلى الله عليه وسلم -: "إن روحَ القدسِ قذفَ في روعي أن لا تخرج نفسٌ من دارِ الدنيا حتى تستوفيَ ما قسمَ اللهُ لها من رزقٍ وأجلٍ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (¬1). فكانَ في أولِ الأمرِ يرى المناماتِ، فتأتي كفلقِ الصُبح على ما روى في السننِ الصحاح (¬2). فهذه طرقُ الخطابِ من الله سبحانَه لهُ، وقد دلَّ على هذِه الأقسامِ الثلاثة قولُه سبحانَه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ولا يجوزُ أن يكونَ الكلامُ من وراءِ حجابٍ وحياً أيضاً؛ لأنهُ يخرجُ أن يكونَ التقسيمُ صحيحاً، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، وذكر ثلاثةَ عشرَ نبياً كلهم بسياقِ الوحي، فلما انتهى إلى موسى قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، فثبتَ أن تكليمَ موسى بغير واسطةٍ، لتخصيصه بالتكليمِ بعد ذكرِ ثلاثةَ عشرَ نبياً من الرسلِ بالوحي. ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، القضاعي في "مسند الشهاب" 3/ 185 (1151)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 4، والبغوي في "شرح السنَة" (4112) 14/ 304. (¬2) أخرجه أحمد 6/ 232، والبخاري (3) و (3392) و (4953)، و (4955) و (4957) و (6982)، ومسلم (160) و (253) و (254)، وابن حبان في صحيحه (33).

- فصل: في خطاب الرسول لنا

فصل فأمَّا طرقُ الخطابِ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنا: فبالنطقِ والإشارةِ المفهومةِ للحاضرينَ، وبالمكاتبةِ للغائبين: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ...} الى قوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] والإقرارُ الذي جعلَته الدلالةُ كالقولِ، والإذنِ في القولِ والفعلِ اللذَين يقر عليهما. وقد جَمع اللهُ سبحانَه فوائدَ الخطابِ في قولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]. ففائدة منثورِ الخطابُ ومجموعِه: بيانُ ما كلفهم. فصل وأوَّل متلقى به الخطابُ، الإصغاءُ، ثم الفهمُ، ثم الاعتقادُ، ثم العزمُ، ثم الفعلُ، أو التركُ، والانتهاءُ إن كان الخطابُ أمراً أو نهياً، والتصديقُ إن كان خبراً، والرجاءُ الزائدُ على التصديقِ بالوعدِ، والخوفُ الزائدُ على التصديقِ بالوعيدِ. قال الله سبحانه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، فالحضورُ للسماع والإنصاتُ للفَهِم، والإنذار تبليغاً لمبدأ الأمر: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] والائتمارُ واجبٌ. ولا يوصَلُ إليه إلا بالإصغاء والفهم بعد السمع، وما لا يتوصلُ إلى الواجبِ إلا به فهو واجبٌ.

- فصل في اختلاف الناس في أصل الخطاب الموضوع للتفاهم

فصل وقد اختلفَ الناسُ في أصلِ الخطابِ الموضوعِ للتفاهمِ بينَ الناسِ من أسماءِ الأشياءِ في كلِ لغة (¬1): فقال قومٌ: هو مأخوذٌ ومتلقى من جهة التوقيفِ الإلهي: إمَّا الوحي، أو المكالمةُ لمن تولى خطابَه أو إلهامه ذلك لخلقه. وهم أهل الظاهِر، وجماعةٌ من الفقهاءِ، وبعضُ المتكلمينَ. وقالَ قوم: هو متلقى من جهةِ مواطآتِ أهلِ اللغاتِ وتواضعِهم عليه. وهم جماعةٌ من المعتزلةِ، وغيرهم من المتكلمينَ. وقال المحققونَ: الكُل طرق للخطاب، فبعضُه بوضعِ الشرع وإلهامِ الله سبحانَه لبعضِ الخلقِ، وبعضُه بالقياسِ المستنبط بقرائِحهم، وإلحاقِ ما لم يوضع له اسمٌ بما وضِعَ لهُ اسمٌ، وإشراكه بِهِ في الاسمِ، لما اجتمعا فيه من نوعِ خصيصةٍ أو صورةٍ، وبعضُها ¬

_ (¬1) ارجع في هذه المسألة إلى "العدة" 1/ 190، و"التمهيد" 1/ 72، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 471، و "شرح الكوكب المنير" 1/ 285، و"المستصفى" 1/ 318، و "المحصول" 1/ 181، و "البحر المحيط" 2/ 16، و"إرشاد الفحول" ص (12).

- فصل: في الدلالة على فساد قول من قال: إن المواضعة سابقة لخطاب الله سبحانه

بالمواضعةِ، ولعل المواضعةَ توافقُ ما جاءَ من جهةِ التوقيفِ والِإلهام، فيتواطأ الوضعُ الذي أحدثَه الناسُ والوضعُ الإلهامي أو لا يواطِئهُ. وهذا بابٌ لا يمكن سدُّه ولا جحدُه، لأن كلًا من الطرقِ قد دل عليه دليل من النقلِ. فدليل التعليمِ لمن علمه قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، وهذا صالح للإلهام أيضاً، فإن تعليمَ الله سبحانه لمن علمه يَقعُ بالإلهامِ تارةً، وبالمكالمةِ تارةً، بدليلِ قولِه سبحانَه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] وكان تعليم داودَ لصناعةِ الحديدِ في قولِه تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 10 - 11]. ودليلُ الوضعِ بالتواضع، استعاراتُ العربِ للأسماءِ المجازيةِ من الحقائقِ الأصليةِ، من طريقِ المشاكلةِ والمقاربةِ بين المستعارِ له والمستعار منهُ، مثلُ تسميتِهم الكريمَ والعالمَ والفرسَ الجوادَ: بحراً، لمكان الفَيض والنيلِ والاتساعِ. وتسميتِهم المقدام: أسداً وشجاعاً، وما ذلك إلا وضع ناقل للأسماءِ الموضوعةِ إلى غير ما وضعتْ له، بنوع من قياسِ المقايسةِ. وهذا منقولٌ عنهم مستفاضٌ في نثرهِم ونظمِهم. فصلٌ وذهبتْ طائفةٌ من القائلينَ بأنَ الخطابَ مواضعةٌ، أنَ مواضعتَهم سابقةٌ لخطاب الله سبحانَه لهم، إذ لو لم يسبقْ منهم مواضعةٌ، لما فهموا خطابً الله سبحانَه لهم، لكن لما عهدتْ مواضعتُهم فهموا

خطابَ الله سبحانَه بما قد استقر بينَهم وعندَهم من التفاهم للمعاني بدليلِ الخطابِ، فالدلالةُ على فسادِ قوِلهم: أنَ الله سبحانه قادر على أن يضطَرهم إلى فهمِ ما يخاطبهُم به ويلهمَهم فهمَ معانيه، وإذا تحققَ ذلك وصحَ، بطلَ القول باشتراطِ سبقِ المواضعةِ منهم لخطابِه سبحانَه لهم. وآيةُ ذلك: أنه سبحانَه ألهمَ من الهدايةِ إلى أشياءَ، لا يخرجُ بالعلوم الاستدلاليةِ مثلها، من ذلك: إلهامُ الطفلِ تناولَ الثدي ثم التقامَه إَياهُ، لا يرشدهُ أنّ ما فيهِ من اللبنِ ممتنغ عن الجري إلا بنوع جذب ومص، فألهمَه اللهُ سبحانَه الالتقامَ ثم المص، وألهمَ النحلَ عمل المسدساتِ التي يعجزُ عنها كثير من أهلِ الخبرةِ بالهندسةِ، والهامُ البهائم التداوي بالحشائشِ المنتفعِ بها في أوقاتِ الفصولِ التي يختصُ بمعرفِتها بعضُ الناسِ من العلماءِ، وإلهامُها زق أفراخِها زمنَ العجزِ عن النهوضِ، وفطامَها حينَ نهضتها، وإلى أمثالِ ذلك. وهذا إلقاء من اللهِ سبحانه، فهذا يوضحُ أن إلقاءَ الفهمِ لمعاني الخطاب لا يعزبُ عليه سبحانَه، فلا حاجةَ بنا مع معرفةِ الجملةِ، أن نشترطَ سبقَ المواضعةِ من الخلقِ لخطابهِ لهمْ بما يخاطبُهم بهِ في مصالحِهم، لأنَ الفَهم ليس بأكثرَ من الإلقاءِ إلى قلوبِ المخاطبين وجدانَ المعاني المقصودةِ من الخطاب، وذلك بعينه هو إلهامُ القلوبِ ما فاضَ على الأدواتِ من الصنائعَ والأعمالِ والتروكِ والاجتنابِ، بحسب المصالحِ الحاصلةِ للحيوانِ اَلملهمِ ولنوعهِ. ثم إنَا ندخلُ عليهم من نفسِ المواضعةِ فنقولُ: أليسَ قوةُ

المواضعةِ من جهةِ الله سبحانَه؟ فإذا كان هو الممد بالقوةِ التي تتحصل بها، وتصدرُعنها المواضعةُ للخطاب الذي يحصلُ به التفاهمُ فيما بينَهم، كان إمدادُه لهم فهوماً لما يخاطَبهُم به، مغنياً عن اشتراطِ سبقِ مواضعتهم للمخاطبةِ. وفي الجملةِ والتفصيل: أنَّ جميعَ الفهوم التي صدرتْ عنها المصالحُ، هو الذي أمد الخلقَ بها، فكما أنهُ خلقَ الأشياءَ المنتفعَ بها وألهَم الخلقَ الفهومَ للتسبب إليها، وبلوغِ أغراضِهم ومآربهم منها، هو الذي أنزَل الخطابَ وألهمهَم الفهمَ لمعاني الخطابِ. فكما لا يشترطُ تقدمُ التجارب على إمدادِ الله سبحانه بمعرفةِ المصالح والتوصلِ إلى الأغراضِ، كذلك لايشترطُ تقدمُ التخاطبِ بينهم على ما ورد إليهم عنهُ من الخطابِ. وما هذا القولُ من هذهِ الطائفةِ، إلا كقولِ من قَال: بأنَه لا سبيلَ لنا إلى العلمِ بالخطاب من الله سبحانه، إذا لم يسبقْ لنا معرفة له، بمثلها نعلمُ الصوتَ الذيَ نسمعهُ عنة، ولارؤية منّا لهُ مقارنة، نعلم أنّهُ هوَ المخاطِبُ، فلا صلةَ إلى العلم بخطابه. ولا جوابُنا عن هذا القولِ إلا كجوابِنا لهُ -لذلكَ القائِل- وهو: أن في قدرةِ اللهِ سبحانَه، أن يقيمَ لنا من الدلاْئلِ على أنَ الخطابَ خطابهُ، بمثلِ ما دلنا بهِ عليه من الأفعالِ التي لا ينبغي للخلقِ فعلُها من الأفعالِ الخارقةِ، كدك الجبلِ، وإصعاقِ موسى، وقلب العصا ثعباناً. فدل ذلك موسى على أن القائلَ له: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] هو الذي صدر عنه تلك الأفعالُ التي لا تنبغي إلا لله. ودل ما جاء

- فصل في الدلالة على إفساد قول من قال بأن الخطاب والمخاطب والأسماء كلها توقيف

به من الآياتِ لقومهِ على أنه رسولُ الله. فكما لم نعرفْ في القدرةِ إقامةَ الدلالةِ على أنَّ الخطابَ خطابهُ، لم نعرفْ في القدرةِ تفهيمَ السامعينَ لخطابِه، ما وجهه نحوهم من خطابِه، فيوقعُ لهم الفهمُ عقيبَ الخطابِ. ومما يدل على ذلك: أنَّ الإنسانَ مع كونه خلقا من خلقِ الله، وصنعةً من صنائعِه، قد توصلَ إلى تفهيمِ الحيوانِ البَهيمِ ما يريدهُ منه من الصنائعِ والأعمالِ والاصطيادِ، والسعي والوقوفِ بحروفٍ وأصواتٍ يشيرُ بها فيقفُ إذا أوقفهُ، ويسعى إذا استسعاهُ، ويقدمُ على الصيدِ تارةً إذا أرادَ منهُ الِإقدامَ، ويحجمُ إذا أراده بالِإحجام. وكذلكَ خطابُهم الأطفال بكَخْ للقذرِ، وماح للحَلوِ، وواوا للمؤلمِ، وداح للمليحِ، ولكل شيء نطق يفهمونَ منه. وكذلكَ: ما يتواضعُه الخرسُ من الإِشاراتِ من بعضِهم لبعض، ومن الناطقين لهم، كلُّ ذلك يُعْقِبُه الله سبحانَه بإلقاءِ التفهيمِ إليهم وعنهم مع عدمِ سابقِ مواضعةٍ منهم للإِشارةِ، بل الإشارةْ يتبعها الفهمُ، فأولى أنْ يكونَ اللهُ سبحانه يعقبُ خطابَه لمن خاطَبَه بإفهامِه معنى ما خاطبهُ، وهو الخالقُ الصانعُ القادرُ. فصل والدلالةُ على إفسادِ قولِ من قالَ: بأنَّ الخطاب والتخاطب والأسماءَ كلها توقيف، وأنه لولا ذلك لما تمتْ لهمْ مواطأةٌ على خطابٍ، ولا تخاطبَ يتخاطبونَ به، هو: أنَّ الله سبحانه لما خلَقهم أحياءَ ناطقين، كما خلقهم أحياءَ

قادرينَ، وكان في قوةِ خلقِهم وصحةِ قرائِحهم تواضعُ صورٍ اكتسبوها في الأجسامِ، بحسب دواعيهم وعوارضِ حوائِجهم، مثلُ نجارةِ الباب والدولاب، وصناعةِ الَسيفِ والمنشارِ، وفتلِ الحبالِ أسباباً موصلةً إلىَ إصعادِ الَمياهِ من قعورِ الآبارِ، وأشباهِ ذلك، كان في قوةِ ما وضعهُ فيهم من النطقِ، أنْ يصوغوا من الأصواتِ والحروف صيغاً توصلُهم إلى الأغراضِ من التفاهمِ والتخاطب، بما يعرضُ لهم من الدواعي الواقعةِ من بعضِ إلى بعضٍ، واستعانةِ بعضِهم ببعضٍ. وقد قال العقلاءُ الأولُ: الحاجةُ تفتق الحيلةَ. وهذا كلام حسن، لأنَّ الدواعيَ إلى الأشياءِ تحملُ الحى على التوصلِ، فالجائعُ يدري كيفَ يُحصِّلُ الطعامَ، ولعلَّ الحاجةَ إلى الطعام تفتحُ له أبواباً لتحصيلهِ، ولذلكَ ترى أولادَ المترَفين أبطأ في الشهامَةِ والفراهةِ من أولادِ المرتادين للمعاشِ، لما وطنوا أنفسَهم عليه من الغنى بغيرهمِ عنهم، ولله في خلقِه جواهرُ كامنةٌ أصليةٌ لا تظهرُها إلا حاجتُهم ولا تكشفُها إلا ضرورتُهم. ولما كان من ضرورةِ الأحياءِ إلى التفاهمِ والتخاطبِ، كما كان من- ضرورتِهم تحصيلُ المآكلِ والمشارب وجميعِ المآربِ، وكان فْي قريحتهم ما يحصلونَ به أغراضَهم من أنوَاعِ حاجاتِهم من غير تقديم تعليمٍ، ولاتفهيمٍ من غيرِهم لهم، كانَ في قوةِ نطقهم ما يلجئهم إلىَ مواضعةِ ما احتاجوا إليه من التخاطب للتفاهِم، إذ كانت حاجةُ بعضِهم إلى بعضٍ، كحاجةِ الحى إلى ماَ يستمدهُ للبقاءِ من تناولِ الشراب والغذاءِ والوطاء والوِقَاءِ والكن (¬1) ودفعِ الأذى، وغيرِ ذلك من الأوطارِ (¬2). ¬

_ (¬1) الكِن: وقاءُكلِّ شيءٍ وستره. (¬2) في الأصل: "عن الأوطان".

- فصل يجمع شبه القائلين بأن الكل توقيف

حتى إنّهم وضعوا الخطابَ بالمناجاةِ للحاضِر القريب، والمناداة (¬1). للحاضِر البعيدِ، والمكاتبةَ للغائِب الذي لا ينتهي إليه الصوتُ في الهواءِ، فلا ينكرُ لهؤلاءِ اكتسابُ تخاطبٍ للتفاهمِ. ومما يدلُّ على صحةِ ذلك: أننا نجدُ اليومَ من تجدد لصنائعَ محدثةٍ أِنتجتْها القرائحُ، آلاتٍ وأدوات لم تكنْ، ونضع لها أسماءً بالاصطلاحِ، فيُفْهَمُ بذلكِ الوضع، المرادُ من المستدعي لها، كما تَجددَ من الحوادثِ، وتجددت لها أحكام استخرجها متأخرو الفقهاءِ، لم تكنْ في ابتداءِ الإسلام، وما أحدثوا من المباني والصورِ والملاهي وغيرِ ذلك مما حددوا له أَسماءَ بحسب تجدده، وحركوا سواكنَ الطباعِ الأربع باستخراجِ أصواتٍ. ثم وَضعُ الموسيقى؛ فطريقة لإيقاظ الحزن، وطريقة لإيقاظِ السرورِ، وطريقةٌ للتشجيع والإقدام على الحرب (¬2)، هذا وأمثالُه مما يوضَحُ ما ذكرناه من القدرةِ والنحَيزة (¬3). فصل يجمع شُبهَ القائلينَ بأن الكل توقيفٌ. قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فلم يبقَ لنا اسمٌ تقدحُه القريحةُ، ولا تتيحهُ الغريزةُ، ولا يضعهُ المتواضعون. وقال سبحانه للملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ} [البقرة: 32] فدلَّ على أنَ آدمَ والملائكةَ لا يعلمونَ إلا بالتعليمِ بهاتين الآيتين، فلم يبقَ كلامٌ يضعهُ الأحياءُ من ¬

_ (¬1) في الأصل: "المناجاة". (¬2) الضرب بالآلات المطربة محرم، لأنها تصد عن ذكر الله، إلا الضرب بالدف في النكاح فهو مباح. انظر "الكافي" لابن قدامة 6/ 199. (¬3) النحيزة: الطبيعة.

- فصل يجمع الأجوبة عن جميع ما ذكروه

تلقائِهمِ. وقال سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. وقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 3 - 5]، فأضافَ تعليمَ النطقِ والكتابةِ إَليه، فلم يبقَ منطوق به ولا مكتوب يفتعلهُ الإنسان أو يكتسبهُ. وقد كانت الملائكةُ قبلَ خلقِ آدمَ متفاهمةَ مخاطبةَ بدليلِ قولهِ سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا ...} [البقرة: 30]، الآيات. فقد كانوا يفهمون الخطابَ ويخاطبون، ومع ذلك نفوا العلومَ عن نفوسِهم، واستثنوا ما علّمهمْ سبحانَه، فدل بهذِه الآياتِ أن لا شيءَ من الكلامِ بمواضعةٍ، وأنّ جميعهَ تعليم من الله سبحانه. فصل يجمعُ الأجوبة عن جميعِ ما ذكروه. وهو أنّه لا حجةَ في الآيةِ على مقالتنا ولا لمقالتِهم، لأنّا لا ننكرُ أن يكونَ الله سبحانه علمَ آدمَ الأسماءَ، لكنْ من الذي خصَّ التعليمَ بالخطابِ والإسماع له أسماءَ الأشياءِ؟، وما المانعُ من أن يكونَ التعليمُ بالخطاب وبالتفهيمَ والإلهام؛ وجعلُه على صفةِ من يحددُ أسماءَ بالمقايسةِ على ما علمه بالمخاطبةِ، أو يحدث أسماءَ بالمواضعةِ مزيدةً على علمه بالإلهام والمخاطبة. والمدحة لآدمَ بالطريق الذي نقولُه أوفى من المدحةِ والتفضيلِ بما يقولُه المخالفُ. والآية خرجتْ مخرج التفضيلِ لآدمَ عليهم في العلمِ، فالطريقُ الذي نقولُه استخراجُ آدمَ للأسماءِ استنباطاً من صورِ المسمياتِ وإحداثُ أسماءٍ لما لم يسمَّ بالقياسِ على ما سمي، وإلحاقُ كلُّ اسم بمحلٍ يشاكلُ المحَل المسمى بالتوقيفِ.

وذلك يعطي قوةَ الرأيِ والاجتهادِ والتشبيهِ، وهو أوفى من الحفظِ بالتلقينِ. ولذلك مدحَ المعقولاتِ فقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43] والفهومَ، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وذَمّ الذي لم يحظَ من الكتابِ إلا بالتلاوةِ فقال: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] يعني، تلاوةً، وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43]. فالفضيلةُ الكليةُ في علمِ الأشياءِ بطريقِ فهمِ المعنى، والقدرةِ على إلحاقِ ما لم يسم بما سمّي بمعناه المشاكلِ لهُ به، وما هذا في باب الأسماءِ إلا بمثابةِ فقهِ الحديثِ بالِإضافةِ إِلى حفظهِ، فإنَّ الفقيه بمعانيه الذي يُعدّي الأحكامَ بالمعاني، ويفرِّعُ على الأصولِ، أفضلُ من الحافظِ لنطقِ الأحاديثِ. ومن وجهٍ آخر: وهو أن سؤالَهم كانَ. عن الفسادِ في الأرضِ، عندَ إعلامِهم أنهُ جاعل في الأرض خليفةً، فالحفظُ للأسماءِ نطقاً، ليس بالمنافي لإيقاعِ الفسادِ والمنع منه، لكن الفهمُ للمعاني ووضعُ كلِ مسمى موضعه، هو الدالُّ على فضيلةِ العلمِ المانعِ من جري الفسادِ في الأرض. مع كونِ المستخلفِ عارفاً بمصالحِ أهلِ الأرض. على أن الآيةَ لوَ دلتْ على تعليمِ آدمَ، لم يكُنْ فيها مانعٌ من كونِ أهلِ الأرضِ بعد آدمَ تواضعوا الأسماءَ والتخاطبَ، بما وافقوا بهِ ما علمه آدمُ بقرائِحهم، أو وضعوا لنفوسِهم وضعاً، إمَّا لما كانَ في زمنِ آدمَ، أو لما تجدّدَ بعدَ آدمَ من الأغراضِ، فزادهم الله طريقاً، وجعلَ لهم سبيلًا بحسب ما تجدَّد لهم من الحوادثِ، التي لم تكُنْ في زمن آدمَ كما جدد اللهَ سبحانه لأمةِ مُحَمدٍ - صلى الله عليه وسلم - دفةَ الاجتهادِ، لِإحداث الأقيسة

لما حدثَ، ولم يردْ فيه نطق على ما نطقَ به - صلى الله عليه وسلم -، حتى لوِ رآهُ النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعَ به لاستحسنةَ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم غنياً عنه، بما كان ينزلُ إليهِ من الوحي من اللهِ سبحانَه، فصارتِ الأسماءُ المتجددةُ المتسعةُ باتساع حوائج بنَي آدم، كالأقيسةِ المتسعةِ والعلومِ المتجددةِ بعد موتِ نبينا - صلى الله عليه وسلم - فليسَ هاهنا تمانعُ تقابلِ الَآيةِ في حقِ آدمَ، بقولِه في حقِ نبَينا - صلى الله عليه وسلم -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، ثم إنَّهُ لما حدثتِ الحوادثُ بعدهُ، نهضتْ قرائحُ القائسينَ بإلحاق المسكوتِ بالمنطوقِ، وكان الكمالُ الأولُ غيرَ مانع من استنباطِ الأواخِر، كذلكَ في بابِ الأسماءِ مع ما علِمهُ آدمُ من الأسماءِ. ولا اختلافَ بين نطقِ الآيةِ وحقيقةِ المذهب الذي ذهبنا إليه بحمدِ الله ومنّه، ولا فيها ما يثبتُ مذهبَ المخالفِ، من نفي ما أثبتناهُ من إحداثِ التخاطبِ واكتسابِ التفاهمِ، بالمواضعةِ المزيدةِ على المتلقاةِ من وضعِ الشرعِ وإفادةِ الوحي. جواب ثالثٌ: وهو أنة يجوز أن يكونَ قولُه: {الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} راجعاً إلى ما كانَ قد خلقة الله في السماءِ من الملائكةِ والجَنةِ وما فيها وذكرها باسمِ "كلُّ"، لأن المسمياتِ الحاضرةَ التي كان خَلقها سبحانه هي الكلُّ، إذ لم يكنْ من صنائعِ الآدميين وأوانِيهم وآلاتِ إعمالهمِ شىِء حاضر، ووَكلَ تسميةَ ما تجددَ من أسماءِ المسمياتِ إلى أولاد [آدم] عند انفتاحِ أبوابِ قرائِحهم، لاستخراجِ تلكَ الأشياءِ، ثم جعلَ في

- فصل لبيان الفرق بين تفهيم الله سبحانه للخطاب وبين تفهيم المخلوقين بعضهم بعضا

قواهم أنْ جدًدوا لها أسماءَ بنطقِهم، كما كان في قواهم التي منحَهم أن جددوا صورَها وأعمالَها الدقيقةَ، والأعمال الدقيقة التي جددتها قرائحهم عند احتياجِهم إليها، كان في قوةِ نطقِهم التي منحهم أن صاغوا لها أسماء، وضَعوها لها وسموها بها، واللهُ أعلم. فصل: لبيانِ الفرقِ بين تفهيمِ اللهِ سبحانه للخطاب، وبين تفهيمِ المخلوقين بعضِهم بعضاً. فصل لبيانِ الفرقِ بين تفهيمِ الله سبحانه للخطابِ، وبين تفهيمِ المخلوقين بعضِهم بعضاً. اعلمْ وفقكَ الله، أنا لما جعلنا أحدَ طرقِ وضعِ الخطاب المواضعةَ، وجبَ علينا أن نبيِّن كيفَ يبتدا الإنسانُ بالتفهيمِ لصيغ مبتكرةٍ، لم يسبقْ من مخاطبه تفهيمُ معناها، فإَنا لما بينا بالدلالةِ قدرة الله سبحانه على اضطرارِ من خاطبهُ من خلقهِ، إلى فهمِ ماخاطبَه به، وكان ذلك يعزبُ في قدرةِ المخلوقِ، إذ لا قدرةَ له إلا على إنشاءِ الصيغِ التي وضعَها لأمورٍ أرادَها بها ووضَعها لها، فأمَّا إنشاءُ الفهمِ لمن خاطَبه بمعاني مرادِه منها فلا قدرةَ لهُ على ذلك، وجبَ علينا بيانُ الطريقِ الذي يحصلُ به تفهيمُ خطابهِ كما بينا طريقَ قدرتِه على وضعِ صيغِ خطابهِ، ونظمهِ للحروفِ المعبرةِ عن مرادهِ. فنقولُ وبالله التوفيق: إن الواضعَ لصيغِ الخطاب لا يزالُ يخاطبُ بالاسمِ نطقاً، ويشيرُ إلى المسمى بتلك الصيغةِ إشارَةً، تنبه المخاطبَ أن هذهِ الصيغةَ لهذا المشارِ إليه، ولا يزالُ كذلكَ، إلى أن يستقرَ في نفسِ المخاطب بهذا الخطاب وهذا الاسمِ، أنه اسم لذلك المشارِ إليه، وهذا دأبُ الأباءِ والأمهَاتِ مع الأطفالِ، والمعلمينَ للبهائم الصنائع، والناقلينَ من اللغاتِ إلى غيرِها بالتراجم.

فصل واعلمْ أنَّ الله سبحانَه، غيرُ محتاج إلى إقامةِ الدلالةِ على كلامِه لمن كلَّمه، بل هو القادرُ على إيقاعَ ذلك في نفس من خاطبهُ، واضطرارهِ إلى ذلك، لكنه إن أقامَ دلالةً من أفعالٍ خارَقةٍ، فإنما يفعلُ ذلك ليثيبَ المستدلينَ باستدلالِهم، كما أنّه كان قادراً على اضطرارِ الخلقِ إلى معرفتِه، من غيرِ استدلالٍ، بافعالِه، ثم إنه جعلَ السبيلَ إلى معرفتِه والطريقَ إلى إثباتِه، ما ذرأ وبرأ، وما ضمَّن مخلوقاتِه من الدلائلِ على حدثِها واحتياجها إلى صانعٍ، ووضعَ فيها من إحكام الصنعةِ ما دل به على حكمتِه وعلمهِ، فكذلك وضعَ الأدلةَ على أنهُ هو الَمتكلمُ لمن كلمهُ مكافحةً، كموسى دكَّ له الجبلَ، وقلبَ عصاهُ ثعباناً، ومحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أسرى بهِ ليلاً في بعضِ ليلةٍ، وقطع به المسافاتِ البعيدةَ، فهذهِ الدلائلُ إمّا لمجردِ المشيئةِ، أو لإظهارِ جواهرِ الرجالِ بعلوم الاستدلالِ، وإثابتهم على ما يلحقهُم في الاستدلالِ من الكلفِ، كماَ كلفهم سائرَ الأعمالِ مع غنائِه عنها. وقد دل على قدرتِه علىٍ اضطرارِ الخلقِ كلّهم إلى معرفتِه، أنه قد وضعَ في عقولهم ما عرفوهُ بديهة بأولِ وهلَةٍ، مثلُ العلوم الضروريةِ، وعرَّفهم بعضَ الأشياءِ بأدنى فكرةٍ، وعرفهم بعضَها بالاستدلاَلِ الغامض، والبحثِ الدقيقِ، والوسائط البعيدةِ المسافةِ، فلا يعتاصُ عليه فعلُ ما فعلُه بوسيطِه أن يفعلَه مبادأةً بغيرِ تلكَ الوسيطةِ. فصل واعلمْ أنَ أمرِ اللهِ سبحانه ونَهيه لمن أمرهُ ونهاهُ حقيقةٌ، وكلامه لمن كلمهُ حقيقة، وأنَ المأمورَ والمنهيَ محدثٌ، ولا يقف كونُه أمراً، على وجودِ المأمورِ والمنهي، لما أجمعَ عليه أهلُ اللغةِ والعقلاءُ في الشاهِد، أن الموصيَ آمرٌ وناهٍ بوصيتِه، لما كان مضيفاً للكلامِ إلى

من يوصيهِ، فالله سبحانهَ أحق بهذِه الحقيقةِ، لأن الموصي يجوزُ أن تحولَ بينَ وصيتهِ والموصى لهُ العوائقُ، وتقطعَ عنها القواطُع، واللهُ سبحانه العالمُ بكونِ ما يُكَوَّنُهُ، وخلقِ ما يخلقهُ، فيتناولُه أمرهُ ونهيهُ، ولو تَعَذرَ ذلك في الشاهدِ، ولم يتحققْ في حق أحدٍ من المخلوقين، أن يكون آمراً ناهياً مكلماً، إلا بوجودِ من يأمرهُ ويخاطبهُ، لما جازَ أن يقفَ كلامُ الله وأمرهُ سبحانَه ونهيهُ، على وجودِ من يكلمهُ ويأمُره وينهاهُ، كما أن أسماءَ المخلوقينَ، لا تتحققُ إلا بايجادِ الأفعالِ، واللهُ سبحانَه سمى نفسه بأسماءٍ مشتقةٍ من أفعال مستقبلةٍ، وأسماؤهُ لم تفارقْه ولا تزايلُه، فهو سبحانه الإِلهُ ولا مألوهَ، والربُّ ولا مربوبَ، ولا أحدَ من المسلمينَ استجازَ أن يقولَ في تشميةِ الباري إلهاً ورباً: إنهُ مجازٌ، أو إنه لم يكنْ رباً قبلَ الخلقِ ولا إلهاً. فثبتَ أنهُ آمرٌ ناهٍ، مخبرٌ متواعدٌ لم يزلْ، كما أنه لم يزلْ متكلماً، ومن طلبَ لأمرِه وجودَ المأمورِ ولنهيهِ وجودَ المنهي، وادّعى أنهُ متى كان آمراً ولأ مأمورَ، لم يكُ مفيداً، وإنَّما يكون مفيداً إذا تعلقَ بالمأمورِ المنهي، فإنما تطلبُ الفائدةُ من حيثُ جعلَ كلامهَ فعلاً، ولا يتحققُ هذا إلا من قائلٍ بحدثِ الكلام وخلقهِ، فأمَّا من لم يَطلبْ لكونهِ متكلماً فائدةً، كذلك يلزمهُ أن لا يطَلبَ لكونه آمراً ناهياً فائدة. فإن قال:- لسنا نطلبُ لكونهِ متكلماً متعلقاً، ءوإنما نطلُب لكونِه متكلّماً مخاطباً. قيلَ لهُ: فهلْ أثبتَه متكلماً لا آمراً ولا ناهياً ولامثْبتاً لهُ بكونهِ متكلماً أقسامَ الكلامِ؛ فإن قال: نعم، فقد خرجَ عن حد المثبتينَ للكلامِ، وليسَ ذاك

- فصل: لا يجوز على كلام الله الاختلاف ولا المناقضة

مذهَبهُ، ولا مذهبَ أحد من أهلِ اللغةِ، ولا مذهبَ أحدِ من العقلاءِ على اختلافِ لغاتِهم. وإن قالَ: بلْ أثبتهُ متكلماً بأقسامِ الكلامِ. قيلَ: ففي أقسامِ الكلامِ ما لا بدّ لهُ من متعلقٍ، وهو الأمرُ يفتقرُ إلى مأمورٍ، والنهى يفتقرُ إلى منهي، ومع ذلكَ لم تجعلْه آمراً بعد أن لم يكن آمراً، كذلك كونُه مخاطباً ومتكلماً، ولا فرقَ. فصل ولا يجوزُ على كلامِ الله الاختلافُ ولا المناقضةُ، ويجوزُ منهُ وعليهِ المجازُ والاشتباهُ. ولا بُدٌّ أن يوضح معنى كلِّ واحدٍ من هذين المنفيين والجائزين، فالاختلافُ والمناقضةُ تدخُل على الألفاظِ والمعاني، فدخولُها في الألفاظ، مثلُ قوله: زيدٌ حيٌ لا حيٌ، وعمروٌ عالمٌ لا عالمٌ. والمناقضةُ في المعنى: فلانٌ حيٌ ميتٌ، أو عالمٌ جاهلٌ. وهذا القبيلُ قد نفاهُ الله سبحانه عن كلامهِ بقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]. ونفاهُ دليلُ العقلِ عنه، لما وجبَ لذاتِه سبحانَه وصفاتِه من الكمالِ وعدمِ النقائصِ، والكلامُ من صفاتِه، وقد نفى سبحانه التفاوتَ عن أفعالِه بقولِه: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، فكانَ ذلك تنبيهاً على نفيِ النقائِص عن صفاتِه. وأما المتشابهُ: فما تردَّد بين معنيين، أو معانٍ عدةٍ مختلفةٍ في وضعِ اللغةِ، ودخلَ ذلك على أحكامِه، وبين أفعالَه وصفاتِه.

واختلفَ الناسُ في أعيانِ المتشابهِ، وفي المرادِ بهِ في اصلِ الخطاب بهِ وفي عين المرادِ منهُ، وهل كله معلوم أو بعضُه معلوم؟ واختلفوا أيضاً في إطلاقِ المجاز على كلامِه سبحانه، وفي عين المجازِ. مثالُ أصلِ المتشابه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] {أو لمستُم- أو لامستم- النساءَ} [النساء: 43] (¬1). فالقروءُ تترددُ بين الحيضِ والطهرِ، والعفوُ يترددُ بينَ البذلِ والإسقاطِ، واللمسُ والملامسةُ مردد بينَ اللمسِ باليدِ أو الجماعِ، ويصرفُ إلى أحدِهما بدلالةٍ توجبُ أنهُ أولى بصرفِه إليه، بما قد ذكرناهُ في حجاجَ الفقهاءِ وجدلهم. وأعيانهُ هو ما صرفَ إليه بدلالةٍ، فيصيرُ ما تصرفُ إليهِ الدلالةُ من القروءِ والعفوِ واللمس، هو المرادَ باللفظِ، ويزولُ الاشتباه بقيام الدلالةِ. فهذا تشابهٌ في الكلامِ، لكن في قبيلِ الأحكامِ. ¬

_ (¬1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: {أَوْ لَامَسْتُمُ} بألف في [النساء: 43] و [المائدة: 6]. وقرأ حمزة والكسائي: {لمستم} بغير ألف. انظر "الحجة للقرأء السبعة" لأبي عليّ الفارسي: 3/ 165. و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص (205).

فأمَّا المتشابهُ في باب الأفعالِ والصفاتِ (¬1)، فمثلُ قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا} [الكهف: 80]، {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقوله في حق آدم: {فَوَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وفي- حقِّ موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]، وقولهُ في حقِّ عيسى: {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91]، {رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171]. ويدخلُ في هذا القبيلِ من المتشابهِ، الحروفُ المقطعةُ في أوائل السورِ (¬2). فقد اختلفَ الناسُ في هذا، فقومٌ سلكوا فيهِ وبهِ مسلكَ المترددِ في بابِ الأحكامِ، مثلُ القروءِ والعفوِ واللمس، فصرفوهُ بدلائلَ من كتابِ الله ودلائلِ العقولِ، إلى أنَّها إضافات يصرفُها اَلدليلُ هي أحقُّ بالأفعالِ، فقالوا: لأنَّ الاستواءَ الى السماءِ بنفس الذاتِ هو الذهابُ نحوها، وهو في الحقيقةِ عينُ التحركِ إلى فوقِ السماَء صعوداً، والاستواءُ على العرشِ هو التمكُّن والاستقرارُ الذي يكونُ للجسمِ على الجسمِ، كاستواءِ نوحٍ على سفينته، والراكب على دابتِه، وبالنصَ النافي للتشبيهِ ينتفي ذلك عنهُ، وهو قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وبدليلِ العقلِ الذي نفى كونَه جسماً، وهو الوحدانيةُ في الذاتِ والجسم المؤلف بدليلِ إدخالِ أهلِ اللغةِ عليه لفظة: أفعلْ، وهي أجسمْ، وليسَ ذلك إلا لتزايدِ التأليفِ بزيادةِ الجواهرِ. وبالدليلِ الذي نفى عنه الخروجَ من حالي إلى حالٍ، وهو التغيرُ ¬

_ (¬1) انظر الحاشية رقم (1) في الصفحة (169) من الجزء الأول. (¬2) انظر الحاشية رقم (2) في الصفحة (169) من الجزء الأول.

الذي لا يجوزُ على القديمِ بحالٍ، وهو الذي ذكرهُ اللهُ عن خليلهِ إبراهيم ورضيهُ له دليلاً على حدَثِ النجوم، حيثُ استدل بالُأفولِ بعد الطلوع، فأشعرَ ذلك عن الله سبحانه أنهُ لا بهذه الأوصافِ حيثُ قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] بعد أن قال في حق المغيراتِ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، فدل على أنهُ إنما صرفَ الصناعةَ والإلهيةَ إلى مَن ليسَ على هذهِ الحالِ، وهو التغيرُ والزوالُ. فلمّا عدلوا عن حقيقةِ الاستواءِ في الأجسامِ، انقسموا فيما صرفوهُ إليه فقال قومٌ: يعنى قصدَ إلى السماءِ وهي دُخانٌ، يعني بخارَ الماءِ، وقولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: استولى على الملك. وقال قومٌ بعد صرفهِ عن الوجهِ الأولِ: لا ندري ما معناهُ في حقِ. الله تعظيماً لأمرِ الله وشأنهِ عن التأويلِ، خوفاً من مزلةِ قدمٍ، كما نزهوُه عن التشبيهِ، ولهم في ذلك أئمة من السلفِ كأبي بكرٍ الصديقِ وعمرَ بن الخطاب، هذا يقول عندَ سؤالهِ عن الكلالةِ: أي سماءٍ تظلني وأي أرض تقلُّنيَ إذا قلتُ في كتابِ الله برأي (¬1)، وتأويلُ الكلالةِ غايتهُ ¬

_ (¬1) يظهرُ أن ابن عقيل قد دمجَ بينَ أثرين وردا عن أبي بكر رضي الله عنه، من غيرِ مراعاةٍ للموضع الذي ورد فيه الأثر، ذلك أن قولَه: "أيُّ سماءٍ تظلني، وأي أرض تُقلني" لم يرد في تفسيرِه لمعنى الكلالة، بل الذي وردَ في الكلالةِ منسوباً إلى أبي بكر يفيدُ مشروعيه التفسير بالرأي، وذلك ما حدَّث به الشَّعبي قال: سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة، فقال: إني سأقولُ فيها برأيي، فإن يكُ صواباً فمن الله، وإن يك خطأ، فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الولدَ والوالدَ. فلما استُخلفَ عمرُ رضي الله عنه، قال: إني لأستحي الله، أن أرد شيثأ قاله أبو بكر. =

خطأ من وارثٍ إلى غير وارثٍ. وعمرُ يقولُ: هذه الفاكهةُ، فما الأب؛ ثم يستغفرُ الله ويقولُ: ماذا عليكَ يا ابنَ الخطاب؟ (¬1). فالتحرّجُ عن التأويلِ مذهب، والإقدام على نفي التشبيهِ كلُّ المذهبِ، وأما قولُه: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، فراجعٌ إلى حسرتهم على أنفسِهم، يُصدقُه قولُه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] يعني في حقِّ الله. {فَخَشِينَا} [الكهف: 80] يرجع إلى الخضرِ، وأنهُ لما اطلعَ على ما يكونُ منه، خشيَ أن يبلغَ فيكفرَ ويُكفِّرَ أبويه. وقولُه: {آسَفُونَا} [الزخرف: 55] يرجعُ إلى موسى، بدليلِ قولهِ: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150] وهو النهايةُ في الغضبِ، وأبداً يضيفُ الباري إضافةً، ظاهرُها أنها إليه بنونِ العظمةِ وغيرِها، ويريدُ به الإِضافةَ إلى خلقهِ، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة: 245]، والمرادُ بهِ فقراءُ عبادِ الله. وقولُه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] والمرادُ به أنبياءُ الله وأولياءُ اللهِ، وهذا لغةُ العرب ودأبُهم في حذفِ المضافِ، وإقامةِ ¬

_ = أخرجه عبد الرزاق 10/ 354 (19191)، والدارمي 2/ 264، وابن جرير (8745) و (8746) و (8747)، والبيهقي 6/ 223 و 224. وأما قوله: "أي سماءٍ تُظلني وأي أرض تقلني" فذكره ابن عبد البر منسوباً إلى أبي بكر رضي الله عنه، كما ذكره منسوباً إلى علي رضي الله عنه. انظر "جامع بيان العلم وفضله"2/ 64. (¬1) أخرجه الطبري في التفسير 30/ 38، والحاكم في المستدرك 2/ 514.

المضافِ إليهِ مقامهُ. وقولهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] روحُ ملك، وإضافةُ تجميلٍ وتقريبٍ كقو لِه في الكعبةِ: {بَيْتِيَ} [البقرة: 125]، وتسميته روحَ آدم: {رُوحِي} [الحجر: 29]، لا أن البَيت مسكنهُ، ولا الروُح صفتهُ، لكن خلقهُ، وبجَّلَهما بالإضافةِ إليه، وكفى بذلك تعظيماً وتشريفاً. وأما قولُه: {لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]: على مرأى منّي بدليلِ قولِه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46]. والحروفُ المقطعةُ؛ فقد فسرَها قومٌ بالاشتقاقِ، كالكافِ من كافي، والهاء من هادي (¬1). وقال قومٌ: لا يعلمُ تأويلُها إلا الله (¬2)، كما قالتْ جماعةٌ من أهلِ السُّنةِ في التشابهِ بينَ الأفعال والإضافاتِ. وليس في آياتِ الأَحكامِ اشتباهٌ يُعْجِمُ على العلماءِ بحيثُ يمنع الحكمَ والعملَ، إذ ليسَ المقصودُ بآياتِ الأحكامِ إلا الأعمال. وأما آياتُ الاعتقادِ، فإنه يجوزُ أن يكونَ أحدُ أقسامِ التكليفِ فيها التسليمَ للهِ، ورَدَّ معناها إليه، وهو الأشبهُ بقولِه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] أنه سَلْبٌ للعلماءِ الراسخين عِلْمَ تأويلِ المتشابه، لأنَه قال: {يَقُولُونَ آمَنَّا} [آل عمران: 7] ولم يعْطِفْ إيمانَهم بالواوِ، ولو كانوا علموا، لعطفوا إيمانَهم على علمِهم بواوِ العطف، وقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، توطئةٌ للقلوب على تسليم المتشابهِ لمن جاءَ من عندِه المحكمُ. وإنّما يتجاذَبُ المختلَفون من أهلِ الاجتهادِ المعانِي بحسب ما حظي كلٌ منهم مِن الفهمِ، فهذا يحملُ الآيةَ على ما أرادهُ اللهُ منها بالحجةِ، ¬

_ (¬1) انظر "الإتقان" للسيوطي 2/ 24 - 27. (¬2) انظر "البرهان" للزركشي 1/ 173، و"الإتقان" 2/ 24 والصفحة 169 من الجزء الأول.

وهذا يصْرِفُهُ إلى غيرِ الحق بالشُّبهةِ، وللمصيب أجرُ الاجتهادِ وأجرُ الإصابةِ، وللمخطِىءِ أجرُ الاجتهادِ، ولا مأثَمَ علَيه في الخطأ، وهذا فرضُ المجتهدين في المتشابهِ في آي الأحْكامِ.

* فصل في تقديم ذكر الحقيقة قبل المجاز

فصل في تقديمِ ذكرِ الحقيقةِ قبلَ المجازِ واعلمْ أنَّ قولَ القائلِ: حقيقة، ينصرفُ إلى حد الشيءِ، نقول: ما حقيقةُ العالَمِ، وما حَد العالَمِ، وما حقيقةُ الجسمِ، وما حَد الجسمِ؛ فتبْدل الحقيقة بالحد، ويتحدُ الجوابُ عنهما بذكرِ خَصِيْصَةِ المسؤولِ عنهُ. فأمَّا الحقيقةُ في الكلامِ: فهي عبارة عن قول اسْتُعْمِلَ فيما وُضِعَ له في الأصلَ. وأما المجازُ: فهو استعمالُ الكلامِ أو القولِ في غيرِ ما وضعِ لة. وتنفصلُ حقيقةُ الشيء التي هي حده عن حقيقةِ القولِ، بأن حقيقةَ الشيءِ لا نقيضَ لها ولامجازَ فيها، وحقيقةُ القولِ لها نقيضٌ من المجازِ، وهو مشتق من المجاوزةِ به إلى غيرهِ، من قولك: جزْتُ النَهْرَ والساقِيةَ. إذا تجاوزتَه، فهذا معنى الحقيقةِ والمجازِ. فصلٌ في أنواعِ المجازِ وأعيانهِ وهو منقسمٌ إلى: زيادةٍ، إذا حُذفتْ ظَهرتْ مِن الكلامِ حقيقتة،

كقولِه سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، الكافُ زائدة، والمرادُ بهِ ليسَ مثلَه شيء، وإذا انحذفتِ الكافُ ظهرت الحقيقةُ. وإلى نُقْصَانٍ، وذلك مثلُ قولِه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، ومعناه: سلْ أَهْلَ، فحذفَ أهلَها، المراد سؤالهم، وأقامَ القريةَ وكذلك قولُه تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، وحَذَفَ حُبَّ العِجْلِ، ولو ذكرَ حُبَّ العجلِ لكان هو الحقيقةَ. وإلى استعارةٍ بضربِ من القياسِ؛ كقولِهم في، الرجلِ البَليدِ: حمارٌ، لنوع مُشابهةٍ في اَلبَلادَةِ، وفي الكريمِ والعالِمِ: بحرٌ، لضربٍ من المُشاكَلةِ في الفَيْضِ. ومنه تسميتُهم الشيءَ بما يَؤولُ إليه، واستبقاءُ اسمِ الشيءِ لما كانَ عليه، كقولِهم في المَولودِ: يَهْنيْكَ الفارسُ، تفاؤلًا بأن يكونَ فارساً، وقد قالَ سبحانه: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، ويريدُ به ما يصيرُ خَمراً وإِنما يَعصُر عصيراً، وقولُه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]، والمرادُ به ستموتُ وَيمُوتونَ. ومن أقسامهِ أيضاً: تسميةُ الشيءِ بضدِّهِ تفاؤلًا، مثل قولهم في الطَريقِ المَخُوفِ: مَفَازَةً، وفي اللَّسيعِ واللَّديغِ: سليم.

فصل (¬1) وقد نص أحمدُ -رضي الله عنهُ- على كَوْنِ بعضِ القُرآنِ مَجازاً، فقال في قولِه: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} [الشعراء: 15]: هذا في مجازِ اللُغَةِ، فقد أعطى هذا القولُ منه تأويلَ ما أضافه إلى نفسِهِ سبحانه من كونه مع خلقِه، وأَنّه بعلمهِ لا بذاتِه، وقال أيضاً في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]: بعلمه، وهذا يُعطي التأويلَ والمجازَ. وقد تعاطى قومٌ من الرَّافِضَةِ وأَهلِ الظَّاهرِ تنزيهَ القرآنِ من المجازِ، وزعموا أَنَ جميعهَ حقيقةٌ، وأَن الذينَ ذهبوا إلى القولِ بالمجازِ ضاقتْ عليهم طُرُقُ الحقيقةِ، وخفِيتْ عليهم الحقائقُ لجَهْلِهِم بها، وأَخذوا في بيانِ كلِّ آيةٍ وأنها حقيقةٌ مع عدمِ حذفِ التقديرِ، وعدمِ حذفِ الزيادة والنُّقصانِ، وأَخذوا في إعطاءِ كلِّ آيةٍ حقيقتَها، وذهبَ إليه بعضُ أَصحابنا، فقالوا: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} لا تحتاجُ أَنْ تُحْمَلَ على أهلِها، بل القريةُ في الأَصلِ هو المجمعُ مِن الناسِ، لأَنَّ الِإقراءَ، والاقتراءَ والقروءَ والقراءةَ والقرآنَ كلُّ ذلك اسمٌ للجمع، تقولُ العرب: مَا قَرَأتِ النَاقَةُ سَلاً قطُّ، يريدون مَا جمعتْ في رحمها جنيناً قط، وقَرَأتُ الماءَ في الحَوضِ، يريدُ به جمعته، و {فَإذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة: 18] جَمَعْناهُ، فإذا ثبتَ هذا كانت القريةُ مَجْمَعَ النَّاسِ، والسؤالُ لجماعةِ النَّاسِ سؤال لحقيقةٍ هي القريةُ، فأَمَّا أَنْ يكونَ المرادُ بالقريةِ الجدارَ، ويُحملُ السؤالُ على أهلِ ذلك الجدارِ، فلا. وقولُه: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ وهو أَنَ العجلَ حَرقَهُ ونَسَفَهُ موسى في اليمِّ نَسْفَاً، فكان عُبادُهُ يأخذونَ سُحَالَة (¬2) العجلِ مع الماءِ ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 695، و"التمهيد" لأبي الخطاب 1/ 80. (¬2) ما سقط من الذهبِ والفضةِ إذا بُرِدَ، انظر "لسان العرب": (سَحَل).

- فصل في الرد على ما ذكرنا

فيشربُونها، ويقولون: إنَ هذا أحبُ إلينا من موسى وإلههِ، كذا وردَ في التفسير (¬1). وقولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فالمرادُ بالمثلِ هاهنا هو مثلُ قولهِ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ} [محمد: 15]، وسَاقَ ذكرَها، وكأنَّ ما ذكرهُ منها هو نعتُها، كأنَّه يقولُ: ليس كنعتهِ وصِفتهِ شيءٌ. وقولُهْ {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]، ليسَ المرادُ به مواضعَ الصلواتِ، لكنَّ الهياكلَ التي يُصلون فيها تُسمى صلوات، فهي اسم مشتركٌ بين الفِعلِ والمسجدِ، واعتلّوا لهذه المَقالةِ بأَن المجازَ لا يَسلكُهُ أهلُ اللُغةِ إلا ضرورةً وحاجةً منهم إلى الاستعارةِ والحذفِ والزيادة، والباري ليس بمحتاجٍ. قالوا: ولو تَكلَّم بالمجازِ، لجازَ أَنْ يُسمَّى مُتَجوِّزَاً، وقد أجمعنا على أَئه لا يجوزُ تسميتُه بذلك، فدلَّ علي أنه لا يجوزُ عليه التكلم بالمجازِ. قالوا: ولأَنَّه لما لم يَجُزْ أَن يتكلم بغيرِ الحقِ، بل كان كلامهُ كلهُ حقاً، وجَبَ أَنْ لا يتكلمَ بالمجازِ ويكونَ كلامه كلهُ حقيقةً، ولا فرقَ عند العقلاءِ بَيْنَ قولِ القائل: ليس هذا الكلامُ حقاً. وبينَ قوله: ليس هذا الكلامُ حقيقةً. فيقولُ العالِمُ من أهلِ اللغةِ، في استثباتِ الكلامِ الذي يَسمَعهُ من غيرهِ: أحقاً تقولُ؟ كما يقولُ: أحقيقةً تقول؟. فصل يتضمنُ الدلالةَ على ما ذكرنا، وهو ردٌّ لجميعِ ما ذكروا، وكلام عليه ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" 2/ 32، "تفسير ابن كثير" 1/ 126.

لا يجدون عنه محيصاً، وايرادُه على وجهٍ لا يمكنُ التعرضُ بسؤال ولا إلزام ولا مقابلةٍ تنفعهُم. فنقولُ: لو أنَكم تكلمتمْ على كلُّ آيةٍ ذكرهَا الموافِقُون لَنا، حتى تبقى معنا آيةٌ واحدةٌ تعطي المجازَ، لا نطلب مقالتَكم، لأنَ مقالتكم تتضمن النفيَ، فأدنى إثباتٍ يبطل نفيكُم، وقد قالَ تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] فهل تتحقق للجدارِ إرادةٌ؟ فِمنْ قولِكم: لا، لم يبقَ إِلا أنَّ تقديرَه: فوجدَا فيهاجدارَاً مائِلًا كأنه المرِيْدُ من الحيوانِ للانقضاضِ. وقوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34] , وعيسى ليس بقولٍ حقيقة، بل هو شخصٌ لحمٌ ودمٌ وأعصابٌ وعروقٌ، وكلام الحقِّ إما حروفٌ وأصواتٌ، كما قال بعضُ المثبتين، وبعضُهم يقول: صفةٌ في النَفسِ، وبعضُهم يقول: أصواتٌ محْدَثَةٌ، ولا أحدَ قال: إنَ كلمةَ اللهِ لحمٌ ودمٌ وعظامٌ. وقوله لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وهو حيٌّ ناطقٌ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} وأصحابُه أحياءٌ {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وإِنَّما أرادَ به: ستموتُ. وقال سبحانَه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] والذي أَخبر به عنهم حال التِقاطِهِ أنْ قالوا: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [القصص: 9] لكنَّ اللامَ هاهنا كانت لامَ عاقبةٍ كقولِ العرب (¬1): ولِلْمَوتِ ما تَلِدُ الوالِدَه. ¬

_ (¬1) هو من أبيات أوردها ابن الأعرابي في (نوادره) لنهيك بن الحارثِ المازني، من مازن فزارة، وتمام البيت: =

وقالوا: له مَلَكٌ يُنادِي كُل يَوْمٍ ... لِدُوا لِلمَوْتِ وابنُوا لِلخَرابِ (¬2) ومعلومٌ أَنَّ المُرادَ به العاقبةُ، لا أَنّهم يلدونَ للموتِ ويبنونَ للخَراب، لكنهم لَما ولَدُوا مَنْ يَموتُ وبَنوا ما يَخْرُبُ، سُمُوا بذلك في الحال لتحققهِ في مُستقبلِ الحالِ. فلو سَلِمَ لكم ما ادعَيْتم في تلك الآيات، ثَبَتَ لنا ما نُريدُ من إِثباتِ المجَار بهذه الآياتِ، وانعدمَ مذهبُكم، لأَنَ وجودَ ذلك في كتاب الله سبحانَه، ولَو في آيةٍ واحدةٍ، يبطلُ به مذهبكم لأنكم تدّعونَ النفيَ على الإطلاقِ. على أنَا لا نتركُ ما ذكرتُموه على الآياتِ بل نُبطلُه بعونِ الله: فأمَّا قولُكم: القريةُ مجمعُ النَاسِ وجمعُهم. فإن كانَ هذا هو الأصلَ فنُحاجُّكم بقولهِ: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77]، فتراه أراد به: حتى إِذا أتَيَا جمعاً مَن النَاسِ استطعما أهلَ ذلك الجَمْعِ، وهل للجمعِ أهل؟ وذِكْرُ الأهْلِ مرتين يدلُّ على أنَّ المرادَ بالقريةِ البُنْيَانُ الذي يسكُنهُ الجَمْعُ، لذلك قال: أهلَها. وأمَّا قولُهم: وأشرِبوا في قلوبِهم عينَ العجلِ وبُرادتهِ، فَهَبْ أنَّ البُرادَةَ تبِعتِ الماءَ فشرِبُوه، أوَصَلَ العِجلُ إلى قلوبِهم عجلاً أم تكونُ ¬

_ = فإن يكن القتل أفناهمُ ... فللموتِ ما تلدُ الوالده ونَسبه المفضَّل بن سلمة (في كتاب الفاخر)، لشُتَيم بن خويلد الفزاري. انظر "خزانة الأدب" 9/ 533. (¬2) تستشهد به كتبُ الترغيب والترهيب، دون أن تنسبه لقائل معيَّن.

برداة ذهبٍ كان عجلأَ، فتفرقتْ صورتُه عجلاً؟ فإنْ قالوا: نعم. تجاهلُوا. وإِنْ قالوا: لا. قيل: فقد صارَ تقديرهُ، وأُشْرِبُوا في قلوبهم أجزاءَ ذهبٍ كان عجلاً، وهل وصلتْ بُرادتهُ إلى حبّاتِ قلوبِهم؟، وهل تصلُ سُحالةُ الحُلي إلى القلوبِ مباشرةً أو استحالةً، مع كونِ الذهبِ لا يستحيلُ كاستحالةِ الطعامِ, فيصلُ إِلى القلوبِ وصولَ المستحيلاتِ مِن الأغذيةِ، بل يَرْسبُ في المعدةِ، وهل يقالُ في عينِ الشيء: مثلُه إِلا مجازاً؟! وقولكم: المرادُ بمثلهِ هو. فهذا عينُ المجازِ، إِنْ قُدِّرَ في قولِه سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْله شَيْءٌ} ولأَنَّه لَيْسَ المِثْلُ من المِثْلِ بشيءٍ، لأن المِثلَ الشَّبَهُ، والشَّبهُ غيرُ، والمِثْلُ النَّعْتُ، وقولُه: {مثَلُ الجَنَّةِ} ليس مِن بابِ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ}، فهذا قدرُ مَا سَمِعْتهُ منهم في المناظرةِ. وأَمَّا تعلقهم بأَن المجازَ مِن ضَرورةِ اللَّفظِ، والباري سبحانه لا تتَطَرَّقُ عليهِ الضرورةُ، فهذا كلامٌ ضعيفٌ جداً، ولأن العربَ تتعمدهُ لتحسنَ كلامَها وتزينَ به حقائقَ الكلامِ، وتَعُده من القُدرةِ على النطقِ، ويَعُدونَ المقتصر على الحقائقِ مِن غيرِ توسعٍ، ضيِّقَ العبارةِ قصيرَ اللسانِ، والقرآنُ نزلَ بلغتهِم فجاءَ بطريقتهم. ولأَنَّ الموضوعاتِ في الأصلِ كلها منا حاجاتٌ أو ضروراتٌ، وليستْ مِن الله سبحانه كذلك، فِمن ذلك الكلامُ نفسهُ على قولِ مَن أَثْبَتَه حرفاً وصوتاً (¬1)، ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 12/ 244: "إن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، فإن الله ليس كمثله شيء، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علمَ المخلوق وقدرتَه وحياتَه، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوف ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد".

والخِطابُ عند مَن جعلَ الكلامَ في النَّفسِ (¬1) ما وقَعَ ولا استُعملَ في حق المخلوقين إلا ضرورةً وحاجة لفهمِ ما في نفوسِهم، وتفهيمِ المُخَاطَبِ بأَغراضِهم، حتى لو أَمْكنَهم إيصالُ الأغراضِ بغير خِطابٍ لأوصلوا، ولذلك إذا تعذرَ الخطابُ عليهم عَدَلوا إلى المكاتبةِ بالخطِ، ثم إِنّ الله سُبحانَه خاطبَ، ولم يكُ خطابهُ على وجهِ الحاجةِ، فهذا على أصلِ قولهم في المجازِ: إِنَّه حاجةٌ مِنَّا وضرورةٌ. وأمَّا قولُهم: إِنَّ الحقيقةَ حقٌ أو كالحق، والمجازُ ضِد الحقيقةِ أو نقيضها، واللهُ سبحانَه لا يتكلمُ بغيرِ الحقيقةِ. ليس بكلامٍ صحيِح، لأَنَّ الحق مِن الكلامِ صدقهُ وموافقتهُ للعدلِ والجائز، وأَنْ لا يكون باطلاً. والحقيقةُ هي الموضوعُ، فيما وُضِعَ له في الأَصلِ وإِنْ كان باطلاً، ألا ترى أَن قول القائلِ مقالة النَّصارى، وكل باطلٍ قالَه مُبْطِل، هو حقيقةٌ فيما وُضِعَ له مِن الباطلِ، وليس بحقٍ، فالكاذبُ والكافرُ غيرُ محِقين فيما قالاه، بل مبطلان، لكن ليس قولُهما إلا الموضوعَ في أصلِ اللغةِ للباطلِ، ولذلك لا تَعُدُّ العربُ من قال في البليدِ: حمارٌ، وفي اللسيعِ: سليمٌ. كذَّاباً، ولا يقال لمن قال في الكريمِ: رأيتُ بحراً: كذبتَ، ويقالُ لمن قال: ليس زيدٌ في الدارِ وهو فيها: كذبتَ، وإِن كان نفيُ كونه في الدارِ، ليس بأكبرَ من تسميتِه بالماءِ الكثيرِ الغامرِ، وذلكَ ليس هو في الحقيقةِ، وما الحقُّ والحقيقةُ إلا كالتزويرِ والاستعارةِ، ومعلومٌ أن المُزَوِّرَ على خطِ غيره، والمتشبِّهَ به في أخذِ مالا يستحقهُ مذمومٌ، والمستعيرُ للأسماءِ واللُغاتِ ليسَ بمذمومٍ، ما هذا إلا لأَنّ هذا لغةٌ تستعملُ، وليس هذا مستعملاً. ¬

_ (¬1) المتفلسفة يزعمون أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفوس الأنبياء، تفيض عليهم المعاني من العقل الفعال، فيصير في نفوسهم حروفاً وهو زعمٌ باطل. انظر "مجموع الفتاوى" 2/ 244.

- فصل: كل مجاز فلا بد له من حقيقة

وكذلك الرَّامي، إذا أصابَ بِنْتَه أو أَباهُ، لم يكن مُصيباً في موافقةِ الحقِّ بل مخطِئاً غايةَ الخطأ، مرتكباً أكبرَ الحرامِ، وهو مصيبٌ في باب الرمايةِ وبحكمِ الرُّماةِ، فكذلكَ الكذبُ. وتركُ الحقِ كتركِ مقتضَى الشرع في رمي الأب، والتوسعِ الذي هو موضوعُ صناعةِ الكلامِ، كالِإصَابةِ في الرمي، فبانَ تباعدُ ما بينهما. فصل واعلمْ أنَّ كلُّ مجازٍ فلا بُدَّ لهُ من حقيقةٍ، لأنَّ قولَنا: مجازٌ، مثلُ قولِنا: استعارةٌ، ولا بُدَّ للاستعارةِ من مستعارٍ منه، ولا بدّ للمغيرِ من مغيرٍ عليهِ ومُغَير عنهُ، كما لابدَّ للمقيسِ من مقيس عليه، ولابد للمشبهِ من مشبهٍ بهِ. فلو لم يكنْ لنا بحر هو الحقيقةُ، وهو الماءُ الغامرُ الكثيرُ، لمَا كانَ لنا ما يُسمى بحراً بنوعِ عِلْمٍ أوجُودٍ أو سرعةٍ في سعي، ولو لم يكنْ لنا حيوانٌ هو أسد له اسمُ الأسدِ حقيقةً، لمَا أمكننا أن نتَجوَّزَ في الرجلِ المِقْدَامِ في الحربِ باسمِ أسدٍ. فصل فأمَّا الحقيقةُ فلا تفتقرُ إلى مجازٍ، بل لنا حقائقُ مستقلةٌ لايستفادُ منها ولايتجوزُ فيها، وهي ضربان من الأسماءِ: وهي الأسماءُ العامةُ التي لا عمومَ فوقَها بل هي أعمُ العموم، مثلَ قولنا: معلومٌ ومجهولٌ، مظنونٌ ومسهوٌّ عنهُ، ومشكوكٌ فيهِ ومدلولٌ عليه، ومُخبَر عنهُ ومذكورٌ، فهو أوْقَعُ على المعدوم والموجودِ والقديم والمُحْدَثِ، فليسَ شيءٌ إلا ويَصِحُّ كونهُ معلوماً ومنَكوراً مخْبَراً، حتى

ما ليس بشيءٍ وهو المعدومُ، فلا يبقى شيء يقعُ عليه هذا الاسمُ استعارةً ومجازاً، وِإنَما يُتجوز بما تحتهُ مِن الأسماءِ، التي ليستْ أعمَّ العمومِ لوقوعِها على بعض المُسمياتِ، فيُستعارُ بمسمى آخرَ. والضربُ الآخرُ من الأسماءِ: أسماءُ الأعلامِ نحو قولِنا: زيدٌ وعمرو، لأنه اسم موضوع للفرقِ بين الأشخاصِ، لا للفرقِ في الصفاتِ، وإفادة معنى في المسمَّى، حتى إذا أجْريَ على من ليستْ له تلك الصفاتِ قيل: مجاز، نحو قولنا: ضاربٌ وظالمٌ، إذا أُجْرِيَ على من لا ضَرْبَ له ولا ظُلْمَ قيل: إنه مجازٌ، ولا يكون كذباً، وإذا قلنا في زيد: إنه عَمْرٌو كان كذباً، ولم يكن مجازاً، لأنا أوقعنا التسمية على محلٍّ لم تُوقعْ عليهِ بحالٍ، ولا فيهِ ما يُستعارُ إذ لم يُوضعْ لمعنى فيُستعارُ لهُ بوجودِ ذلك المعنى، بخلافِ البلادةِ في الحمارِ المستعارةِ للرجلِ البليدِ، فيحصلُ إيقاعُ اسم زيدٍ على عمروٍ، واسمِ عمروٍ على زيدٍ كذباً، وإشكالًا يزيلُ المقصود الذي وُضِعَ له، وهو الفرقُ. قالوا: وقد يجوزُ في موضعٍ أن يُتجوزَ بالاسمِ العلمِ، ويستعارَ بما عُرِفَ بهِ صاحبهُ من خصيصةٍ يَشْتَهِرُ فيها، ويصيرُ بها كالحيوانِ الموضوعِ له الاسمُ لمعناه وخصيصتِه، وهذا كقولِنا: سيبويه (¬1)، صار ¬

_ (¬1) هو أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قُنبر الفارسي ثم البصري، الملقب بسيبويه، إمامُ النحو وحجةُ العرب، وأولُ من بسط علمَ النحو، لزمَ الخليلَ ابن أحمد، وحضرَ مجلسَ أبي زيدٍ الأنصاري، وصنفَ كتابه المسمّى "كتاب سيبويه" في النحو، توفي سنة (180) هـ، وقيل غير ذلك. وانظر ترجمته: "طبقات النحويين" 66 - 74، و"تاريخ بغداد" 12/ 195، و "نفح الطيب" 2/ 387، و"سير أعلام النبلاء" 8/ 311 - 312.

مشهوراً في النحوِ، وعلي صار مشهوراً في الإِقدامِ والضربِ والطعنِ والثباتِ في الحربِ، وسَحْبَانُ (¬1) المشهورُ في الفصاحةِ، وباقلٌ (¬2) المشهورُ بالفَهاهة (¬3)، وحاتمٌ المشهورُ بالسخاوةِ، وأبو حنيفه (¬4) بالفقهِ، وجالينوس (¬5) بالطب. ¬

_ (¬1) هو سَحبانُ بن زُفَر بن إياس الوائلي، من باهلةَ، خطيبٌ يضربُ به المثلُ في البيانِ، يقال: أخطبُ من سحبان، وأفصح من سحبان. انظر: "تهذيب تاريخ دمشق" 6/ 67، و"خزانة الأدب" 10/ 371 "الأعلام" 3/ 79. (¬2) هو باقلُ الِإيادي، انظر الصفحة (139). (¬3) الفَهاهة: العِي والحمق. "اللسان": "فهه". (¬4) هو أبو حنيفة، النعمانُ بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي، فقيهُ الملةِ وإمامُ العراق، وأحدُ الأَئمةِ الأَربعة عند أهل السنّة، روى عن عطاء بن أبي رباح، وعن الشعبي، ونافع مولى ابن عمر، وتفقّه على حماد بن سليمان، والأخبار كثيرة في فقهه، وورعه، توفي سنة (150) هـ وله سبعون سنة. انظر ترجمته: "تاريخ بغداد" 13/ 323، "وفيات الأعيان" 10/ 419 - 423، و"تهذيب الكمال" 1417،1414، و"تهذيب التهذيب" 10/ 449 - 452، و "سير أعلام النبلاء" 6/ 390 - 403. (¬5) طبيبٌ يوناني، ليسَ يدانيه أحدٌ في صناعةِ الطِّب، صنَف في ذلك كتباً كثيرة، كشفَ فيها عن مكنون هذه الصناعة، ولم يجىء بعده من الأطباءِ إلا من هو دونه، كانت مدة حياته سبعاً وثمانين سنة. انظر "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة 1/ 108.

- فصل في الفرق بين الحقيقة والمجاز

فصارَ الناسُ يستعيرونَ للنحوي المُجَودِ اسمَ سيبويه، فيقولونَ، هذا سيبويهُ زمانِه، وللشجاع: هذا عليٌ، وللجوادِ: هذا حاتمُ طَيىءٍ، وللعيّي: هذا باقلٌ، وللفقيهِ: هذا أبو حنيفةَ زمانه، وللطبيبِ: هذا جالينوسُ زمانِه، كما استعاروا أسماءَ الحيوانات لخصائِصها ومعانيها لِمَنْ وُجِدَ في حقِّه ما يُدانيها من أوصافِها وخصائصها، وهذا الضربُ كاَنَّه قياسٌ على الوضعِ اللغوي بالمعنى الذي سَلكه أهلُ اللغةِ. فصلٌ في الفرقِ بينَ الحقيقةِ والمجاز اعلم أن طريقَ العلمِ بذلك عدةُ أمورٍ: أحدُها: أنَّ الحقيقةَ من الكلام جارٍ في جميع ما وُضِعَ لإفادتهِ نحوُ قولكِ: ضاربٌ وعالمٌ وقادرٌ، الوَاقعُ على كلُّ من لْه ضربٌ وعِلمٌ وقُدْرَةٌ. وكذلك قولُك: إنسانٌ وفرسٌ. المفيدُ للصورةِ المخصوصةِ، تابعٌ أبداً لها أينما وُجِدَتْ مِن غيرِ تخصيص، وإلاَ بطلت دلالةُ الكلامِ وانتقضتْ المواضعةُ. فأمَّا المجازُ فمقصورٌ على موضعهِ لا يقاسُ، فلا يقالُ: سل البساطَ والسريرَ، قياساً على قولِهم: سل الربْعَ القريةَ والعيرَ. والثاني: أنْ يكونَ ما جرى عليه الاسمُ حقيقةً يُسْتَحَق منه الاشتقاق، فإذا امتنعَ الاشتقاق منه عُلِم أنه مجازٌ، نحو تسميةِ الفعلِ والحالِ والشأنِ أمراً على وجهِ المجازِ، والأمرُ على الحقيقةِ بالشيءِ

إنَّما هو نقيضُ النهي عنهُ، وهو اقتضاءُ الفعلِ بالقولِ من الأعلى للأدنى، وُيشْتَقُّ منه اسمُ أمرٍ، ولا يُشتقُ من القيام والقعودِ اسمُ أمرٍ، ولا مِن شيء من الأفعال، فوجبَ أن يكونَ تسمية الحال والشأنِ أمراً واقعاً عليه مجازاً، واتساعاً لا حقيقةً، ومنهُ قولُه تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40] وكيف أمَرُ فلانٍ؟ يعنونَ حاله. والثالثُ: افتراقُهما في الجمعِ، فيقالُ لجمع الأمرِ الذي هو الشأنُ والحالُ: أمورٌ، ويُقال في جمع الأمرِ الذي نقيضُ النهي: أوامرُ، فيقال في الحال أو الشأنِ: كيفَ أُمُور فلان؟ ولا يقال: كيف أوامرهُ؟ فيقال: صالحةٌ. ويقال في أمرِ الاقتضاءِ: كيف أوامرهُ؟ فيقال: سديدةٌ حازمةٌ. والرابعُ: أن يكونَ ما جرى عليهِ الاسمُ حقيقةً، يتعلقُ بغيرِه وما يجري مجرى العزْلَةِ، كالعلمِ والقدرةِ، والأمرِ الذي لكلِّ شيء منه تَعلُّقٌ بمعلومٍ ومقدور ومأمورٍ به، وذلك اتفاق، فإذا سمَّى ما لا تعلقَ له، بأنَّه علمٌ وقدرةٌ وأمرٌ كان ذلك مجازاً، ومنهُ قولُهم في الأمرِ العجيبِ الخارقِ للعاده، كالمطرِ والجرادِ والرياحِ العاصفةِ والزلازل: هذا مِن [أمرِ] اللهِ وعلمِ اللهِ وقدرةِ الله، وإنَما يعنونَ به معلومَهُ ومقدورَه ومأمورَه وفعلَه.

* فصل في القول في إثبات الأسماء بالقياس

فصلٌ في القول في إثبات الأسماء بالقياس اختلفَ الفقهاءُ والأصوليون في ذلك: فذهب أصحابُنا إلى جوازِه (¬1)، وهو ظاهر مذهبِ أحمدَ حيثُ جعل النَّبِّاشَ سَارقاً، والنبيذَ خمراً، وجعل اللِّواطَ زنىً، وسمَّى اللائطَ زانياً. قيلَ لأحمدَ: كلُّ نبيذ غَيَّرَ العقلَ فهو خمرٌ؟ قال: نعم. وبهذا قالَ أكثُر أصحابِ الشافعي (¬2). وقالَ أصحابُ أبي حنيفة وكثيرٌ من المتكلمينَ وبعضُ أصحابِ الشافعي: لا يجوزُ إثباتُها قياساً، وهو مذهبُ القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعةٍ من المتأخرين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ذلك في "العدة" 4/ 136، و"التمهيد" 3/ 454، و"المسودة" ص (394)، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 476 و"شرح الكوكب المنير" 1/ 223. (¬2) ممن قال بذلك من أصحاب الشافعي: أبو إسحاق الشيرازي، وابن سريج، وابن أبي هريرة، والإسفراييني والرازي. انظر "التبصرة" ص (444)،"المحصول" 5/ 311 - 312، و"البحر المحيط" 5/ 130. (¬3) وهو اختيارُ الجويني، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، انظر "البرهان" 1/ 172، و"المستصفى" 1/ 331. و"الإحكام" 1/ 87. وانظر قولَ الحنفيةِ في منع إثبات الأسماء بالقياس: "أُصول السرخسي" 1/ 156، و"مسلم الثبوت" 1/ 185.

فهذا مِن طريقِ الجملةِ، ولا يُسْتَغنى عن ذكرِ تفاصيل الأسماءِ قبل إيرادِ الحجاجِ في إثبات ما يثبتُ منها قياساً. فنقولُ وبالله التوفيق. الأسماءُ على ضربن: فضرب منها: أسماءُ أعلامٍ مَحْضة، وألقابٌ وضعتْ للفرقِ بيْنَ الذواتِ والأشخاصِ، دونَ إفادةِ المعاني والصفاتِ، وهي مثلُ قولكَ: زيدٌ وعَمْرٌو. وكلُ اسمٍ لا يُفيدُ معنى ولا صفةً في المسمى، فهذا الضربُ مما أجمعوا على أنَه لا يَدْخُلُه القياسُ، فلو وضَعُوا زيداً لرجلٍ طويلٍ، وعمراً لرجلٍ قصيرٍ، لم يَجُزْ أن نُسمِّيَ رجلًا آخرطويلًا بزيدٍ لطوله، لأنَّ الاسمَ لم يُوضَعْ على ذلك زيد لطولِه، ولا لصفةٍ فيه أصلاً، وكذلك لا نقيسُ رجلًا قصيراً على عمروٍ القصير فنسميه عمراً. الضربُ الآخر: مفيدٌ للفرقِ في هذه الصفة، نحو قولِنا: قَاتِلٌ وضارِبٌ وعَالِمٌ وقَادِرٌ وخَلُّ خَمْرٍ، وما أشبهَ ذلكَ مما وُضِع لإفادةِ معنى في الموصوفِ، وهذا الضربُ الذي وَقَعَ النزاعُ فيه، فإن من نوعهِ ما قيس منه النبيذُ على الخمرِ، واللائطُ على الزاني، والنَباشُ على السارقِ، فالحُجَّةُ لمن جوزَ القياسَ في هذا النَّوع من الأسماءِ أن قال: إنَا وجدنا العربَ وأربابَ اللسانِ، وضَعُوا وضْعَيْنِ دالين على القياس:

أحدُهما: قولُهم: الخمرُ ما خَامَرَ العقلَ، قالَ ذلك عمرُ -رضي الله عنه- (¬1)، وعن ابن عباس: كلُّ مخمَّرٍ خَمْر (¬2). ولَحظُوا أشكالًا وصوراً وَضَعَت العرب لأمثالِها أسماء فوضَعُوا لها تلكَ الأسماءَ كالصَّهالِ مِن الحيوانِ، سَموهُ فرساً، والنّهاق سموة حماراً، والنعاب سموه غُراباً، وليس شيءٌ من هذهِ الحيواناتِ كانت في وقتِهم، لكن أمثالُها، فَسَاغَ لِمنْ بعدهم أن سموا ما كان في وقِتهم مِن الحيواناتِ بالأسماءِ التي سمى مَن قبلَهم به أمثالَها، وهذا عينُ القياسِ، وليس مع نُفاةِ القياسِ نقل عن أهلِ اللغةِ انهم وضَعُوا ذلك لما يتسلسل من أنواعِها، ويتناسلُ قبيلًا بعدَ قبيلٍ. الوضْعُ الثاني: أنَّهم استعاروا للآدمي أسماءً دَلتْ على لَحظْهم المعاني فيها، فقالوا للبليدِ: حمارٌ، وللمقدام: أسدٌ شجاعٌ، وللكريمِ: بحرٌ، وكذلك العالِمُ، وإنَما استعارواَ هذه الأسماءَ من موضوعاتِها لغير ما وُضِعتْ له، التفاتاً منهم إلى المعنى الذي لحَظُوُه، والوصفِ الذي وجدوا مثلَه في الآدمي، من بَلَادَةِ الحمارِ، وإقدامِ ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث ابن عمر، قال: سمعت عمرَ على هذا المنبر يقول: أيها الناس، إنما نزل تحريمُ الخمرِ وهي من خمسةٍ: من العنب، والتمر، والعسلِ، والحنطةِ، والشعير، وما خامرَ العقلَ فهو خمرٌ. أخرجه: البخاري (5581) و (5588)، ومسلم (3032) (32) (33)، وأبو داود (3669)، والترمذي (1874)، والنسائي 8/ 295، والدارقطني 4/ 248 و 252، وابن حبان (5353). (¬2) أخرجه أبو داود (3680) والبيهقي 8/ 288، من حديث ابن عباس مرفوعاً الى النيي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سكت عنه أبو داود.

الأسدِ، وفيضِ البحر، وهل هذا إلا عين القياس؟! وهذا بعينهِ هو الذي يَلْحظ الفقهاء من المعاني في المنطوقِ التي عَدَّوا به أحكامَها إلى المسكوتِ، وهي الطُّعْم في الحِنطةِ الذي وجدوه في الأرُزَ والذُّرَةِ، فعدّوا به تحريمَ التفاضلِ إليهما، فقد بَانَ بهذه الطريقةِ أنَّهم عَدَوا أسماءَ الحقائقِ من الحيواناتِ الماضيةِ، إلى الحيواناتِ الحادثةِ بالخصيصة، واستعاروا أيضاً بعضَ الأسماء لبعض المسَمَياتِ بالخَصيصة. فإن قيلَ مقابل هذا الوضْعِ: بأنهم وضعوا على خِلافِ المُقَايَسةِ، وملاحظة المعنى بخلافِ عللِ الأحكام الشرعية: إنَّ اجتماعَ السوادِ والبياضِ في الحيوانِ، سمَّوا به الغرابَ أَبقعاً، والفرسَ أبلَقاً، والآدمي أبرَصَاً، وسمَّوا الفرسَ الأبيض أشْهبَ، والأسودَ من الخيلِ أدْهَمَ، ولم يوقِعوا على كلِّ حيٍ لونه أسود هذا الاسم، فَبانَ أنَ الوضعَ على خلافِ ما ظننتم. قِيل: هذا النوعُ مِن الوضْعِ لا يَمْنَع القياسَ، فإِنَ الشريعةَ أيضاً قد غايرت الأحكامَ بَيْنَ المتَشاكِلَيْنِ، كما غايرت بين دم الحيْضِ والاسْتِحاضَةِ، وبَيْنَ المنيِّ والمذيِّ, وهما ينحلان عن الشهوة واللذة بالقبلة والملامسة, وفرقت بين مَيتةِ المسمكِ والجرادِ، وبين مَيتةِ الطائرِ والسارحِ، ولم يمنعْ هذا التحكم من قياسِنا، المسكوت على المنطوق الذي لم يتحكمْ فيه بالفرقِ بيْنَ المتشاكلَين، ولا الجمع بين المختلفَيْن. فإن قيلَ: ففيما وضَعَتِ اللُّغة للنبيذِ من الاسمِ غنىً عن طلبِ

اسم آخرَ بالقياس على الخمرِ، يُوازيه من الأحكام الشرعيةِ؛ أنْ نضعَ حكماً للمسكوتِ عنه، فلا نَطْلُبُ له حكماً من اَلمنطوق به. قيل: وَضَعَتْ له اسْماً من النَّبْذِ كما وضعوا للخمرِ أسماءَ من العصيرِ؛ فقالوا: عصيرُ العنب، ولم يمنعْ ذلك من وَضْعِهِم لها اسماً لتغطيةِ العقلِ، كذلك لا يمنعُ القائسينَ من وضعهم للنبيذِ، اسمَ خمر لتغطيته بشدتهِ العقلَ، على تسميتهِ بما اشتق لهُ من النبيذِ. فإن قيلَ: الوضعُ الذي تَعَلقْتُم به مِن تسميةِ الحيواناتِ ليس بوضعِ قياس، لكن ذلك وُضِعَ لكلِ نوع، فلا يبقى من النوعِ ما يحتاجُ ويفتقرُ إلى القياسِ، وما قولُهم للصّهال: هذا فرسٌ، إلا كقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أشارَ إلى الذهبةِ والحريرةِ، فقالَ: "هذان حرام على ذكورِ أُمَّتي حِلٌ لأناثها" (¬1)، ومعلومٌ أنَّ عينَ تلكَ الذهبةِ والحريرة من ¬

_ (¬1) ورد هذا من حديث علي بن ابي طالب، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً، فجعله في يمينه، وذهباً، فجعله في شماله، ثم رفع يده وقال: "هذان حرامٌ على ذكورِ أمتى". أخرجه أحمد 1/ 96 و 115. وأبو داود (4057) والنسائي 8/ 160، والبيهقي 2/ 435، وابن أبى شيبة 8/ 351، وابن حبان (5434) من حديث علي رضي الله عنه. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو عند الطيالسي (2253)، وابن ماجه (3597). وعن عبد الله بن عباس عند البزار (3006)، والطبراني (10889) وعن أبي موسى عند أحمد 4/ 394، 407 والطيالسي (506)، والترمذي (1720)، والنسائي 8/ 161، والبيهقي 3/ 275.

النوعِ، ليس بمحرَّمٍ بالقياسِ عند أهلِ الشرعِ، فكذلك يجبُ أنْ لا نجعل إشارةَ أهلِ اللُّغة إلى أعيانِ هذه المُسَمَّياتِ بأسمائِها، التي وضعوها لها، اسمَ تخصيص لها، حتى يحتاجَ مَنْ بَعْدَهُمْ إلى وضْعِ أسمائها لأمثالها قياساً، بل الإشارة منهم إذنٌ منهم وتنصيصٌ على الوضع لأسمِائها. قيل: هذه دَعوى وتشبيهٌ بمجردِها، وإلا فأينَ النقلُ عنهم، المُقتضي للوضعِ أنْ يكونَ للنوع كلِه؟ وليس إشارةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الذهبةِ والحريرةِ من هذا بشيء، لأنَّ القرينةَ دَلّتْ على أنه أرادَ النوْعَ، إذ ليس في الحريرة ما يَعُم ذكورَ أمتِهِ وإناثِها، ولا في الذهبةِ، فَضِيقُ المُشَار إليهما عن الحُكمِ، قرينةٌ دَلتْ على أنَّ المنهيَّ عنه متسعٌ لكلِ ذكورِ أُمتِه، والإباحةُ لكل إناثِها، ولا يتسعُ كذلك، إلا النَوعُ كله دُوْنَ الذهبةِ والحريرةِ، اللتين أشارَ إليهما بالحُكْمَيْنِ: الإِباحَةِ لقبيل الإناثِ، والتحم يمِ لقبيلِ الذكورِ. ومما اسْتدَل به مَنْ جَوزَ إثباتَها بالقياسِ؛ أنَّ أهلَ العربيةِ -وهم النحاةُ- جعلوا كلَّ فاعل مرفوعاً، وكل مفعولٍ به منصوباً، ولم يستندوا إلى نقلٍ عن العرب، أنَّها نطقت بذلك، لكن عَرَفُوا ذلك بالقياسِ والاستدلالِ، وذلك أنهم لما رأوهم استمروا على الرفع لكلِ فاعلٍ، والنصب لكلِّ مفعولٍ، جعلوا ذلك عِلَّةً، فقالوا: إنما رفعوا الفاعلَ لكونهِ فاعلاً، ونصبوا المفعولَ لكونهِ مفعولاً، فحمَلوا عليه كلَّ فاعلٍ ومفعولٍ، وإن لم يكْن مما نطقت به العربُ من اللغات المحْدَثَة، وكذلك فَعَلُوا في جميعِ وجوهِ الِإعرابِ من جرِّ المُضافِ [إليه]، والنَصبِ بالحال، والتمييز وما شاكَلَ ذلك.

- فصل في ذكر ما تعلق به المانعون من إثبات الأسماء بالقياس

فصلٌ في ذكرِ ما تَعَلَّقَ به المانعونَ من إثباتِ الأسماءِ بالقياسِ إن جَمِيْعَ المُسَمياتِ قد وُضعَ لها أسماءُ أعيانها، وذواتها وأعراضِها، وأحكامِها، إمَّا بوَضعِ الشرع، كما قال سبحانه: {وعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، أو بوضعِ أهلِ اللغةِ، وما أعقبوا شيئاً حتى أفرَدُوا للمفرداتِ أسامي، وللمُرَكباتِ أسامي، فقالوا في المفرادتِ: حلوٌ، وحامضٌ، وفرسٌ، وحمارٌ، وذئبٌ، وضَبُعٌ، وذكرٌ وأنثى، وأسودُ، وأبيضُ. وقالوا للمركّباتِ بَيْنَ الحُمُوْضَةِ والحلاوة: مُرٌّ، وللمتولَدِ من بَيْنِ الحمارِ والفرسِ: بَغْلٌ، وللمتولدِ من بين الذئب والضَّبُعِ: سمعٌ. وقالوا للمجتمع فيه صورةُ الأنوثةِ والذكورةِ: خنثى، وللمركبِ بين الأسودِ والأبيضِ من الكحلِ: أغْبَر. ومَنْ قال: إنها موضوعةٌ بالطريقين للتعليمِ والوَضْعِ، فقد جَمَعَ بَيْنَ القولينِ، واذا استُوعبَت الأشياءُ بالأسماءِ وَضْعاً سمعياً، غَنِينَا عن القياس، إذ لم يبق شيءٌ يحتاجُ إلى اسمٍ، وما ذلك إلا بمثابةِ ما شَمِلَتْهُ أحكامُ الشرعِ السمعيَّة بنصوصِ الكتابِ والسنةِ، فإنه لا يبقى فيه للقياسِ مَسَاغ. ومن ذلك قولُهم؛ إن الوَاضِعِيْنَ للأسماءِ، لم يضعوها على القياسِ، وذلك أنَهم خالفوا بَيْنَ المُتَشَاكِلَيْنَ في الصُّورةِ، فوضعُوا لهما اسمينِ مختلفينِ.

ومن ذلك أن قالوا: إنَّ القياسَ إنما يُعْلَمُ بأن يَأذنُوا فيه، أو يضعوه على المعنى، فإذا لمُ ينقلْ عنهم إذنٌ، ولا وضع على المعنى، بل على مخالفةِ المعنى، بطل تجويزُ إثباتِ الأسماءِ بالقياسِ، كما أن صاحبَ الشريعة إذا أخْرَجَ الحُكْمَ مَخْرجَ التعليلِ، أو أذِنَ في القياسِ سَاغَ القياسُ، ومع إخراج الحُكْمِ على غيرِ المعنى، وعدم إذنه، لا يجوزُ القياسُ لإِثباتِ الأحكام. ومن ذلك أن قالوا: لو جازَ أثباتُ الأسماءِ المشتقةِ بالقياسِ، لجازَ إثباتُ أسماءِ الألقابِ بالقياسِ، ولَمَّا لم يَجُزْ إثباتُ تلكَ قياساً، كذلك هذه. ومِن ذلك ما عَيَّنُوه في الأسماءِ التي قَصَدَها أصحابُنا بقياسِ الأسماءِ، مثلُ تسميةِ النبيذِ خمراً، والنَّبَّاشِ سارقاً، واللائطِ زانياً، فقالوا: رأيناهم سَموا بعضَ ما حَدَثَتْ فيه الحموضةُ خَلاً، وإْنْ كان مادتُهما واحدةً، كماءِ الحِصْرِمِ مع خل الزبيب والعِنب، فلا يُستدل من تسميتهِم المُشْتَد من عصيرِ العنب خمراً، عَلى تسمَيةِ المُشْتَد من نقيعِ أو طبيخِ التمرِ المُشْتَدِّ خمراً، لأنه يكونُ خروجاً عن وضعهم. ومن ذلك أنْ قالوا: لا يخلو أن يكونوا وضعوا الأسماءَ لأفادةِ المعنى، فما وضعوهُ إن كانوا قد وضعوا للبعضِ ذلك الاسمَ، فيجبُ أن لا نُجريَ ذلك الاسمَ على غيرهِ، لأنَهم وضعوُه للإفادةِ، والفرقُ إفادة لصفتِه في ذاتِه خاصةً، وللفرقِ بينه وبين غيرِهِ، أو يكونوا إنما أجروهُ إجْرأءً على كلِّ محل قامَ به ذلك الوصفُ، فيكون ذلك وصفاً مُطَّرداً لا يدخلُ عليه نقص بإجرائِه على كلُّ ما فيه تلك الصفةِ، فيكون ذلك منهم كالتوقيف، ولنا على إلحاقِ الاسم بكل ما فيه ذلك الوصفُ، فلايبقى للقياسِ

- فصل في جمع الأجوبة عن متعلقات المانعين من إثبات الأسماء قياسا

مساغ مع النصَ منهم، وما جرى مجري النصِ، فهذا جملةُ ما وجدناهُ عنهم. فصل في جَمْع الآًجوبةِ عن مُتعلقات المانِعينَ من إثباتِ الأسماءِ قياساً، وهي خمسة (¬1). فالأولُ: دعواهم أنَ في الوَضْعِ السمعي شَرعاً ووضْعاً، ما يُغْنِي عن القياسِ، كالنُّصوصِ من الأحكامِ، وليس بصحيحٍ من وجْهَيْن: أحدهُما: أنه ليس في الآيةِ أنه علمَ آدمَ بطريقِ السَمع خاصةً، بل بطريقِ السمعِ وطريقِ الاجتهادِ، ينطبقُ عليهِ اسمُ التعليم؛ لانَّهُ هو المُلْهِمُ لسلوكِ القياس باستخراج المعاني المُشتق منها الأسامي، ولا يَمْنَعُ إضافةُ التعليم إليه، أن يكونَ بعضُها مَوْكُولاً إلئ علماءِ أولادِه القائسينَ، كما قالَ سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وإنما كان إيقاعاً على استخراجِ المعنى، وكما قالَ سبحانه في حَقِّ نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وقالَ في القرآنِ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وكانَ بعضُ ذلك سَمْعاً، وبعضُه قياساً أخْرجَه الاجتهادُ في وقتِه، وبعضُه خرَجَ بالقياس بعدَ وفاتِه - صلى الله عليه وسلم -، فكان التمامُ والتِّبْيَانُ، راجعاً إلى ما ضَمنَه مِن المعانيَ التي خُزجَتْ باستنباطِ علماء أمتِه، وإن كانت الإضافةُ إليه والِإنزالُ عليه، كذلك إضافةُ التَّعليمِ إلى آدمَ لا يَمْنَع أن يكونَ ذلك له سمعاً وقياساً، ولِذُرِّيتِه قياساً. على اننا لو سامحنا في أنَّ الأسماءَ عَمَّتْ سَمْعَاً ووضعَاً، لم يمنعْ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ستة"، والمثبت هو الصواب؛ لأن المانعين تعلقوا بخمسة أمور، وسيورد المصنف عليها خمسة أجوبة.

ذلك من أنْ يَشْفَعَ الاسمَ السمعِيَّ الوضعي اسمٌ قياساً، لأنَ الشيءَ الواحدَ قد تَسَمَى باسمين، كما أنَّ الاسمَ المُشْتَرَكَ يقعُ على مُسَمَّييْنِ وأكثر، فإن الأسماءَ لا تتنافى، فإذا وضعوا للنبيذِ، وهو نقيعُ التَّمرِ والزبيبِ والذرةِ والشعيرِ، اسماً من النَّبْذِ، ووجدناهم سَمَّوا عصيرَ العِنَبِ المُشتدِّ اسمَ خَمْرٍ، لتغطيةِ العَقْلِ مضافاً إلى ما سَمَّوهُ به من العصيرِ لأجلِ العصرِ، حَسُنَ بنا أَن نُعْطِي النبيذ بالقياس على عصيرِ العنبِ المُشتدِّ اسمَ الخمرِ، لما فيهِ من تخميرهِ للعقلِ وتغطيتهِ لهُ، وفارقَ الأحكام، فإِنَّه لا يجوزُ أن يَثْبُتَ للعينِ الواحدةِ حُكمان مُتَضادَّانِ: حُكْمٌ هو التحريم، بكون الوعيد (¬1)، فيثبت له بالقياس إيجاب الحد، وهو حكم يُعْطي ما أعطاهُ الأولُ، من الصرْفِ عنهُ والمنعِ. ولأن اللغةَ قد تأتي باسمين ضدّينِ ومتنافيين للذاتِ الواحدةِ، من طريقْ التوقيف، كقولِهم: لسيعٌ وسليمٌ، ومهلكةٌ ومفازةٌ، هذا في المجازِ والحقيقةِ، فأمَّا في الحقيقة ...... (¬2). ولا يأتي توقيفُ الشَرعِ في شيءٍ واحدٍ لحكمينِ مختلفينِ، فافترقا. والثاني: قولُهم: وضعوا الأسماءَ وضعاً يخالفُ القياسَ، مثلُ تسميِتهم المُتَشَاكِلَيْن في الصورةِ باسمَيْنِ مخْتلفينِ، فغير مُسَلمٍ لهم الوَضْعُ، بدليلِ ما قَدَّمنا من استعارتِهم. للاسمِ بالخصيصةِ والمعنى، ونقلهِم الاسمَ من موضوعٍ إلى مثلهِ، وهذا وضع على القياسِ، وما ورَدَ مما ذكروه، غيرُ مانعٍ لنا من أَنْ نَسْلُكَ مسلَك القياس فيما وجَدْنا ¬

_ (¬1) كذا العبارة في الأصل، ولم يتضح معناها. (¬2) في الأصل طمسٌ بمقدار سطر، وأشار له الناسخ بقوله: كذا في الأصل.

مِن التشاكلِ في المعنى، كما لم يمنعْنا مثل ذلك من وضع الشرْعَ، مِن أنْ نقيسَ مهما وجدنا للقياسِ مَسَاغَاً. وهذا المَسْلَكُ مسلكُ أهلِ الظَّاهِرِ من منْعِ القياس، حيثُ قالوا: إنا رأينا الشرعَ خالفَ بَيْنَ الأحكام في المتساوياتِ، كَميتةِ السمكِ والجرادِ، وميتةِ الأنعام والطيورِ كلَّهَا، فالموتُ سواءٌ بين الجميعِ، وجَعَلَ حُكْمَ السمكِ وَالجرادِ الإباحةَ، وحُكْمَ سائرِ الميتةِ الحَظْرَ. فكذلك خالف بين حكم الكبدِ والطِّحالِ، وسائرِ الدماء، فأباحَ وطَهرَ الكبدَ والطحالَ، وحَرمَ ونَجسَ سائرَ الدماء وعند بعض الفقهاءِ القائسينَ جعل بعضَ الدم طاهراً، وهو دمُ السمكِ، ومأكولًا إلحاقاً بالكبدِ، وسائر دماءِ الحيوَانِ نجسة، وحَرمَ قتلَ الصيودِ في الحَرَم وجعلَ إراقةَ دَمِ بهيمةِ الأنعامِ قُرْبةً إلى الله سبحانه في الحَرَمِ. ولم يمنعْنا ذلك من القياس، كما مَنَعَ أهل الظاهرِ، بل جرينا عليهِ في سائرِ المُتشاكلاتِ في العللِ، فجعلنا حكمَ المتشاكلين واحداً، كذلك لا يَمْنَعنا وصفهُمِ للفرسِ الجامعِ بَيْنَ السوادِ والبياضِ أبلق، والغُراب أبْقعَ، من أن نضَعَ للمُسكِرِ من النبيذِ خمراً، كالمُسْكِرِ من عصيرِ العَنب، وكان هذا لمعنى؛ وذلك أن للشرعِ وواضعِ الأسماءِ التحكمً، ولا يمنعُنا جوازُ تَحكُّمهِ من أن نَعْملَ بمقتضى العقولِ فيما لم يَتحكمْ فيه. والثالثُ. قولُهم: لو جازَ إِثباتُ المشتقةِ [به] جازَ إثباتُ الألقابِ به، لا يَلْزَمُ؛ لأن الألقابَ لا تتضمنُ المعاني، فليس فيها شيءٌ يُلْحَقُ به غيرُها بها، فلو سَمَّينَا مَن ليس اسمهُ زيدٌ بزيدٍ، لأجلِ تَسْميَتهِم ذلك

الرجل بزيدٍ، لكنا مُلحِقيْنَ لهُ به في الاسمِ لا لمعنى ولا لخصيصةٍ، وليس هذا طريقَ القياس، إذ كان حيٌّ (¬1) مثله قد سُمِّي بعمرو، فليس بأنْ نُسميه عمراً أو بكراً، بأولى من تسميتنا له بزيدٍ، بخلافِ ما نحنُ فيه مِن النبيذِ المُشتدِّ، لأننا إذا ألحقناهُ بالعصيرِ المُشتدِّ، كان لمعنى هو أخصّ بهِ مِن غيرهِ، فلذلك لم يُسَمَ بهِ الخَلُّ والمُريُّ (¬2) إذ لا شِدةَ فيها، فَوِزَانُه من مسألتنا، أن يكونوا وضَعُوا زيداً لزيادةٍ في جسمِه أو عِلْمِهِ، فكان يَلزمُنا أن نُسَمِّي كلُّ من شاركهُ في تلك الخَصِيْصةِ بزيدٍ، وصارت أسماءُ الألقاب لما لم يَظْهرْ فيه معانٍ مِن أوضاعِ الشَّرع، التي لا يظهرُ فيها تعليل بل نتِبعُ بمجردِ التوقيفِ، لا يمنعُنا منعُ القياسِ عليها من القياسِ على ماظهَرَ لها المعاني. الرابعُ: تَعلقُهم بأَنَّهم لم يُسمُّوا كلَّ حامضٍ حدَثَ من الكرمِ خلاً، كماءِ الحِصْرمِ، ونقيعِ الزبيبِ، فهو من نَمَطِ الثاني. وقد مضى جوابهُ، وإِنَّما غَيروُا العبارةَ، فذاك ذكروهُ لمخالفةِ الاسمينِ بَيْنَ المتَشَاكِلَيْنِ، وهذا تحته، وفي ضمنِه، لأنَهم ذكروا حامضيْن اتَّفقا في الحُموضةِ فسمَّوا أحدَهما خلا، وسموا الآخرَ بغيرِ الخلِّ. الخامسُ: ممّا تعلقوا به أخلُّوا فيهِ بقسمٍ؛ لأنّهم قالوا: إمَّا أنَّ يكونَ وضعوه للمسمَّى الذي وضعوه له بعينهِ، فليس لنا أن نتعدَّاهُ، أو ¬

_ (¬1) في الأصل: "حبر". (¬2) اُلمرّي: إدام يؤتدم به، يُتخذ من الخمر التي طرح فيها السمك والملح وتوضع في الشمس، فتتغير عن طعم الخمر، وتصير حلالاً، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه وجماعة يقولون بحله. انظر "فتح الباري" 9/ 617 - 618.

قصدُوا وَضْعَاً مُطَّرِدَاً، فقد طردوهُ وأوْجَبُوا طردَه، فصار ذلك كالنَّصِّ منهم، وليس يمتنعُ أن يكونَ وضعُهم للاسمِ في النّباشِ لأجلِ نبشهِ، فاشتقوا مِن نبشِه، وسكتوا عن سرقتهِ، تعويلاً على أن الاسمَ العامَّ، يُلْحَقُ به؛ لما وجِدَ فيه مِن المعنى الذي سُمِّيَ به سارقٌ أحياناً سارقاً، ولا يكونُ ذلكَ مِنهم، كالنصِّ المانعِ من إلحاقِه باسمِ السارقِ قياساً. وقولُهم: إِنَّهم لم يأذنوا، فإذا استقْرَينا وَضْعَهم، فوجدناهم وضعوهُ على المعنى واستمروا عليهِ، فلا حاجةَ بنا إلى إذنهِم، كما لا نَحتاجُ في القياسِ الشرعي لِإثباتِ الأحكامِ إلى إذنِ المُشَرِّعِ، مع كوننا نَجِدُ الحُكْمَ مَوضوعاً على المَعنى.

- فصل في معنى قولهم: الأسماء العرفية

فصلٌ في معنى قولِهم: الأسماءُ العُرفية اعلمْ وفقكَ الله، أنَ معنى ذلك هو غلبةُ استعمالِ القومِ له في بعض ماوُضِعَ له أو ما جرى عليه مجازاً لا حقيقةً. مثالُه: أن الرؤوسَ اسم لكلِّ ما علا على حيٍّ أو غيرهِ، ثم إن العُرْفَ قد يَغْلِبُ استعمالَهم له في رؤوسِ الأنعام، واستعمالَ اسم الجاريةِ في الحَدَثَةِ من الآدميات والإماءِ، وإنْ كانَ واقعاً على السفينةِ أيضاً، وكذلكَ اسمُ سِرَاجٍ ووتدٍ تقَعُ على كلِ مستضاءٍ به، وكل ماسِكٍ، كالشمسِ والجبلِ، والعرفُ صرَفَ ذلك إلى سُرُجِ الآدَميِّيْن وأوتادِهم. وكذلك تسميتُهم بالفقيهِ مَنْ عَلِمَ الأحكامَ الشرعيةَ خاصةً، ومُعَلمٍ مَنْ عَلَّمَ الخط خاصةً، وانْ كان كلُّ مَنْ تفقهَ عِلماً فقيهاً بحُكْم الاشتقاقِ، وكل من عَلَّمَ صناعةً غير الخطِّ أيضاً مُعَلماً، لكن غَلَبَ الاستعمالُ في البعضِ، فكانَ ذلك الاسم العُرْفيِّ، ولا يجوزُ أن يكونَ الاسمُ العرفيُّ هو ما ابْتُدِىءَ بوضعِه، لأنه يُوجبُ أن تكونَ جميعُ الأسماءِ عُرْفِيَّةً، حيث كانت كلها قد سبَقَ لها ابتداءُ وضْعٍ وتجَدُّدٍ وحُدُوثٍ، ما خلا الأسماءَ في كلامِ الله سبحانه، ولا يجوزُ أن يكونَ

معنى ذلك الأسماءَ التي وضعهَا غيرُ أهلِ اللُّغةِ من العلماءِ لضروب المُسَمَياتِ المعلوماتِ، وأهلُ الصنائع لأدَوَاتِهم التي قَد حَتْها قرائِحهُمَ لأعمالِهم، وما جدَّده أهلُ الحِرَفِ والمِهَنِ، لأن ما يَضَعُونَه من ذلك بمثابةِ ما يضعُه أهلُ اللغةِ من الأسماءِ، فما بال هذا الوضحِ لحوائج هؤلاءِ وأغراضِهم، سُمَّيتْ عُرفيةً، وما وَضَعَه أهلُ اللغةِ لأغراضِهم لم تُسَم عُرفيةً؟ وللجَميعِ عُرف، ووضع بحَسبهِ وحسب داوعيهِ وأغراضهِ، وهَلَأ انقلبَ فكان ذلك عُرفياً وهذا لغوياً، أو كانَ الجميعُ عرفياً؟! ولا يجوزُ أنْ يكونَ معنى العُرفِ أنه المنقولُ من غيرهِ، فذاك هو المجازُ، وهو باسمِ المجَازِ أحقُّ وأخصُّ منهُ باسمِ العُرف. فإن قيل: فما الدَّاعي للعرب إلى أنْ جاءت إلى أسماءٍ وُضِعَت في لُغتهم للعموم، جعلوها بكثرةِ الاستعمالِ للخصُوصِ، والعاقلُ لا يُغَيرُ وضْعاً أصَلياً لغيرِ ضرورةٍ ولا حاجةٍ ولا داعِ معقولٍ، فأوجدوا ذلك المعنى؟. قيل: إمَّا أن الوجودَ أغنانا عن تَكَلفِ ذِكْرِ الدواعي، والقومُ قد استعملوا على ما نقلنا عنهم، وغَلبُوا الاسمَ للبعضِ مما شَمِلَه الاسمُ الكلى العام، وإنْ تكلفنا ذلك، فقد يجوزُ أن يكونوا استهجنوا قولَهم: وَطْئاً وجِمَاعاً، واسمَ ذلك الفعلٍ، فقالوا في الجماعِ: مَسيساً، وإن كان اسماً عاماً لكلِ تلاقي بَشرَتيْنِ، وقد أشارَ ابنُ عَبَّاس إلى ذلك حيثُ قال: إنَّ الله حَيِيٌّ كريمٌ يَكْنِي، ومما كَنَى أن كنى عن الجِماع باللمْسِ (¬1). وتنكَّبوا عن ذِكرِ الحَدَثِ إلى المكانِ، فقالوا: الغائِط ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (504)، والطبري (9581) والبيهقي 1/ 125.

- فصل: واعلم أنه ليس في القرآن ما ليس بلغة العرب

والعَذرة، أو اقتطعوا الأهمَّ والأقربَ إلى استعمالِهم من الأبْعَدِ، كاقتطاعِهم السراجَ والوتدَ إلى موضوعِهم فيما بينهم، دون ما وضَعَه الله سُبحانه من الشَمس والجبالِ. وخَف عليهم قولهم: دابة، وهو الأعمُّ فكان أسهلَ من القَولِ فيه: فرسٌ جوادٌ وطِرْف (¬1). فصل (¬2) واعلم أَنّه ليس في القرآنِ ما ليس بلغةِ العربِ، وإِنَّما أَشْكلَ على قوم بلغاتٍ مُواطِئَةٍ لما عدا العربيةِ، وليس تخلو لغة من مواطأةِ لغةٍ في كلمات وأسماءٍ شاذةٍ، فأمَّا انْ تكونَ مستعملةً من لغةِ غيرِ العرب، فبخلافِه قال جماعةُ الفقهاءِ والأصوليينَ، وذكَرَهُ أبو بكرٍ من أصحابِنا. ورُويَ عن ابن عباسٍ وعكرمةَ، أنَّ فيه بغيرِ العربيةِ نحو، طه والمشكَاةِ وقِسْطاس (¬3). والدَلالةُ على ما ذهبنا إليه: ما استدلَّ به العلماءُ من آي الكتاب، إلا أَنَّ آكَدَها قولُه تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] فنفى انْ يكونَ أعجمياً، وقَطَعَ اعتراضَهم بتنوعِهِ بين أعجميٍ وعربي. ولا ينتفي الاعتراضُ وفيه أعجميٌ. وقولهُ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ ¬

_ (¬1) هو الكريم من الخيل، والجمعُ طُروف وأطراف، "القاموس المحيط": (طرف). (¬2) سيتناول المصنف هذا الموضوعَ أيضاً في الصفحة 46 من الجزء الرابع، مظهراً أدلته وشبهات المخالفين، فارجع إليه. (¬3) انظر "شرح الكوكب المنير" 1/ 194.

مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 195]. ولأنَّه تحدَّاهم بِه، فقالَ لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، فلو كان فيه أعجميٌ لما قَطَعَ حُجتَهم في كذبِهم؛ لأَنَّه يكون تحدياً لهم بما ليس من صناعتِهم. ولَأنَ القومَ كانوا اتَهموه بأَنَه يَتَلَقَّفُ ذلك من يسار (¬1)، وكان أعجمياً حتى نفى ذلك عنه بقولِه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]، فلو كانت فيه ألفاظٌ أعجميةٌ، أو بغير العربيةِ، لكان تقويةً لتهمتِهم لهُ، وقد نفَى عنهُ الاختلاطَ بالعجُمةِ؛ ليصرفَ عنه قولهم: لقالوا: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} كمانفى عنه الكِتابةَ، وقال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48] ولا ريبَةَ أقوى من تخَلْطِهِ بغيرِ العربيةِ، مع تُهْمَتِهم له بأَنه تَلَقَّفَه ممَّن ليس بعربيٍ، وكان تعريضاً لتهمةٍ أخرى، وهو أَنّهم كانوا يجعلونَ ما فيه من العجميةِ، سبيلاً إلى جحدِ كثيرٍ من كلماتٍ عربيةٍ، ويقولون: ليس بعربي، وإِنَّما هو كلامٌ مُخْتَلطٌ، منقول، وأنتَ تَزْعُمُ أنه بِلُغَتِنَا، فَدعواكَ لا تطابقهُ، ومَنْ نفى عنه الشُّبهةَ لا يُعَرضهُ للشُبهةِ. ¬

_ (¬1) وهو غلم نصراني من أهل عين التمر، كان يقرأ كتباً له بلسانه، فزعمَ كفارُ قريش أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلَّمَ منه، ومن غُلامٍ آخر اسمه جَبر، فأنزل اللهُ سبحانه ما يُبطل دعواهم، وبكشفُ أباطيلهم: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} انظر "تفسير الطبري" 8/ 178، و"أسباب النزول" للنيسابوري ص (190)

فإنْ قيلَ: إِنَما نفَى عن القرآنِ العجميةَ وغيرَ العربيةِ، على الوَجْهِ الذي يُشكِلُ به الكلامُ وَيعمى عن الفهمِ لمعانيهِ، فأمّا الكلماتُ المنثورُة بَيْنَ الكلام المديدِ، فلا تُؤثرُ ولا يكونُ له حكمٌ، وكذلك أجمعنا على انً التحَدي لا يقعُ بالأيةِ والكلمةِ والكلماتِ، وانَما يقعُ بالسورةِ التي يَبِيْنُ فيها عُوارُ العجزِ من القدرةِ، والفرقُ بيْنَ القادرِ والعاجزِ. قيلَ: هذا إِنَّما يكونُ صحيحاً، أنْ لو كانت العربُ قادرةً على نظمِ العربي إلى العَجميِ، والنَظْمُ فرعٌ على فهمِ المنظوم والنطقِ به، ولو لم يكنْ منهم تهمةٌ بأنَّ الذي عَلمَه أعجمى، فأمَّا إذا كَانوا هم لا يُحسنونَ ذلك، قَل أو كَثُرَ وكان هو مُتَّهماً عندهم، بأنه تَلَقَّفَه مِن المعروفِ بيسار مولىً مِن موالي العَجَمِ، فإِنَّه لا ينبغي أن يَفْتَحَ لهم باباً بإدخالِ كلماتٍ قَلتْ أو كَثُرَتْ، ألا تراهُ لم يَعْلَمْ مِن الخطِ، ولا معرفةَ كَتْبِ اسمِهِ، ولا فَهْمِ اسمِه، حتى إنَّه سألَ علياً عنه يومَ عُمرةِ القضاءِ حتى محاهُ متابعةً لشرطِهم (¬1)، ومن يَحْسِمُ مادةَ التهمةِ بَدْءاً في ¬

_ (¬1) ورد هذا من حديث البراء في صلح الحديبية، وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليّ: "اكتب الشرط بيننا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، فقال المشركونَ: لو علمنا أنكَ رسولُ الله بايعناك، ولكنِ اكتب محمدَ بنَ عبدِ الله، فقال رسوُل الله: "أمْحُهُ واكتب: محمدَ بنَ عبدِ الله"، فقال عليّ: لا أمحوهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمحه، واكتبْ محمدَ بنَ عبدِ الله" فقالَ عليّ: لا أمحوه. فقال رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أرني مكانه حتى أمحوَه" فمحاه وكتبَ محمدُ أبن عبد الله .... أخرجه من حديث البراء: أحمد 4/ 289 و 291، والبخاري (2698) ومسلم (1783) وأبو داود (1832) وابن حبان (4869).

باب الخطِّ، لا يفتحُها في بابِ اللفظِ، ولأنه يكونُ إعناتاً لهم أيضاً، إذ لَيس عندهم فَهْمٌ لغيرِ العربيةِ قليلٌ ولا كثيرٌ يعم، والكلمةُ من غيرِ اللغةِ تَحرِمُ النظمَ، وتعجِز عنه، فإدخالة على لغتهِم ما يعجزهم خروجٌ عن تعجيزهم في صناعِتهم، كمَنْ تحدى بَنَّاءً ببناءٍ يتضمن نجارة، ومُتَرسلاً برسالةٍ ضمنها المُتَرَسِّلُ بأبيات من شعرٍ، أو تحدى خطاطاً يَخُط الحروفَ العربيةَ بأنْ يَخُطَّ في خلالِها كلماتٍ وأسطراً بالسريانيةِ أو العبريةِ، فإنه يكون مُعْنِتاً، كذلك ها هنا. فإن قيلَ: فقد جاءهم بحروفٍ تشابهُ العجْمةَ بإعجامِها، ولم يكُ ذلك قَدْحاً في بيانهِ، ولا إعناتاً لهم في إِعجامهِ، وهي المقطعةُ في أوائلِ السُّورِ، فكذلك كلماتٌ منثورةٌ في خلالِ السُّورِ، لا يكون مُؤدياً إلى ما ذكرت من الإِعناتِ. قيل: هذا لا يلْزمُ لوجهين: أحدُهما: أنَه لغةُ القوم، وقد جاء هذا في كلامِهم وأشعارِهم فقال قائلُهم: يناشِدُني حاميم والرمْحُ شَاجِرٌ ... فهلاّ تلا حاميمَ قبلَ التقَدُّم (¬1) ¬

_ (¬1) البيتُ من قصيدة مؤلفةٍ من أربعةِ أبيات، قيلت في حق محمدِ بن طلحة بن عبيد الله القرشي، المعروف بالسَّجاد، لكثرة عبادته حين قتل في معركةِ صفين، وهي: وأشعثَ قوامٍ بآيات ربهِ ... كثيرِ التُّقى فيما ترى العينُ مسلِمِ شككتُ له بالرمحِ جنبَ قميصهِ ... فخر صريعاً لليدينِ وللفمِ على غير ذَنْبٍ غيرَ أنْ ليسَ تابعاً ... علياً ومن لا يتبعِ الحق يظلم يذكرني "حاميمَ"والرمحُ شاجرٌ ... فهلاّ تلا حاميمَ قبلَ التقدمِ =

وقال الآخرُ: قُلْتُ لها قِفي فَقَالتْ قافْ (¬1) أي: وقَفْتُ. فَقَطْعُ حرفٍ من الكلمةِ يُنْبِىءُ عن الكلمةِ لغة القوم، كذلك إذا أتى بكافٍ عن كافي، وهاء من هادي لا يكون خروجاً عن لغتِهم. وقالَ الآخر: لما رَأيْتُ أمْرهَا في حُطِّي ... وأزْمَعَتْ في لدَدي وَلَطَي أخَذْتُ مِنْها بقُروُن شُمْطِ (¬2). ¬

_ = وقد تنازعَ الأبياتَ عددٌ من الشعراء، منهم كعبُ بن حُدير النقدي، وفق ما قاله الجواليقي في أدب الكاتب (361)، وقيل: للمكعبر الضبي، وقيل: إنَه لشريح بن أوفى العبسي، وقيل: إنه لعصام بن المقشعر العبسي، وذكر ابن شَبه: أنه للأشعث بن قيسٍ الكندي. انظر: "شرح أبيات المغني" (4/ 289، 290) و"الكشاف" للزمخشري (1/ 13) (¬1) هو أولُ رجز للوليدِ بن عقبة بن أبي معيط، وتتمته: قلت لها قفي فقالت قاف ... لاتحسبينا قد نسينا الإيجاف والنشوات من معتق صاف ... وعزفَ قيناتٍ علينا عزاف انظر: "شافيه ابن الحاجب" (4/ 271)، و"تفسير الطبري" 1/ 212 و"الأغاني (5/ 131). (¬2) أوردها الطبري في تفسيره (1/ 209 - 210)، ونسبها لبعضِ الرجاز من بني أسد وهي: لما رأيتُ أمرها في حطي ... وفتكت في كذب ولط أخذت منها بقرون شمطِ ... فلم يزل صوبي بها ومعطي حتى علا الرأسَ دمٌ يغطي ولطَّ الحق: أي جحدَه ومنعه وخاصمَ فأحمى الخصومة. والقرون: جمع قرن، وهي الضفيرة، وشمط، جمعُ أشمط: وهو الذي اشتعل رأسُه شيباً. =

- فصل جامع لشبههم

يعني بحُطِّي: أبا جاد (¬1)، لأَن هذا حرفٌ منها. على أنَّ بعض السَّلفِ، كابنِ عباس وعكرمةَ، ذهبوا إلى أنَّ لكل حرفٍ دلالةً على ما اشْتُقَ منه مثلُ: كافٍ مِن كافي، وصادٍ من صادق، وهاءٍ من هادي، وق من قادر وحاءٍ من رحيم ورحمان، فما خلا ذلك مِن معنى لغوي، وما خرجتْ هذهِ الحروفُ عن لغتهم، واللهُ أعلم. فصلٌ جامع لِشُبَهِهِم فمنها دعوى وجود ذلك، كالمشكاة، قيل: لفظةٌ هنديةٌ، واستبرق وسجيل بالفارسيةِ، وطه: يا رجلُ بالنَّبَطِيةِ، وقِسطاس: كلمةٌ روميةٌ، والأب: كلمةٌ لا يعرفها العرب، ولذلك رُوي عن عمرَ أنَّهُ لما تلاها قالَ: هذهِ الفاكهةُ، فما الأب (¬2)؟. وبَعدُوا أن يكونَ إستبرقَ من لغةِ العربِ، لأنَّه على وزنِ استفعل، وليس للعربِ اسمٌ على وزنِ ذلك، ولا يُعْرَفُ أيضاً اشتقاقُه من أي شيءٍ هو. قالوا: ولأنَّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - ليس بمخصوص بالرسالةِ إلى أهلِ لسانٍ ¬

_ = صوبي، من صابَ يصوبُ صوباً: إذا انحدر من علوّ إلى سفل. والمعط: المد والجذبُ، وعنى بذلك إصعادهَ بها وهو يجذبُ ضفائرها، وذلك في انحداره بها وصعوده. انظر تعليق الشيخ أحمد شاكر في حاشية تفسير الطبري 1/ 210 (¬1) يعني أحرف الهجاء المنظومه في: أبجد هوّز حُطي .... (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة (381).

- فصل يجمع الأجوبة على ما ذكروا

واحدٍ، بل بُعِثَ إلى الكُل، فلا يُنْكَرُ أن يكونَ الكتابُ الذي جاء به جامعاً للغةِ الكُلِّ، ليكونَ خطاباً للكل وتعجيزاً للكل. قالوا: ولأنَ النبىِء - صلى الله عليه وسلم - لم يَدعِ أنَّه كلامُه، بل هو كلامُ من أحاط عِلماً باللغاتِ كلَّها، وهو المُنْطِقُ بسائِر اللُّغاتِ، فنظمهُ للغاتٍ عدةٍ، لا يُنْكَرُ في حقَه، وهو مما يَبْعُدُ عن أن يكونَ مِن عنده مع كونهِ لم يُخَالِطْ من أهلِ اللغاتِ إلا العربَ، فالغرابةُ في الألفاظِ، كالغرابةِ في ذكرِ النَّبيين، وقد ضُمَّنَ الكتابُ من النبيين ما لم تعرِفْه العربُ، فإذا ضُمِّنَ من الألفاظِ ما لاتعرِفهُ، دَل على أنه من عندِ من اطلعَ على اللغاتِ كلِّها، كما دَل على أنه من جهةِ العَالمِ بالسير جميعِها، فهذا مؤكدٌ للإعجازِ من هذا الوجهِ، ومُبْعد للتهمةِ عنهُ أنْ يكونَ من عندهِ. فهذا جملةُ ما عرفنا من شُبَهِهِم. فصل يَجْمَعُ الأجْوِبَةَ على مَا ذَكَرُوا أمَّا الأولْ: فدعواهم وجودَ كلماتٍ من غيرِ العربيةِ، فليس كما ظنوا، بل هي كلماتٌ وافَقَتْها الفُرْسُ والنَّبطُ والرومُ فيها، وكم من كلماتٍ اتفقت فيها اللغاتُ، فلا تُنْسَبُ إلى لغةٍ دون لغة. من ذلك قولُهم: سِروالٌ مكانَ سَراويل، والفُرْسُ تُسَمِّي السّما، السماءَ لا غير، وقيل: السور اسم تتفقُ فيه اللغاتُ، ويقولونَ بالفارسيةِ: جِراخ مكان سِراج، وكذلك صابون صابونٌ في كلُّ لغةٍ، ويجوزُ أن تكونَ العَربُ سبقتْ إلى ذلك وتَبعَهم الأعاجمُ والهندُ، ولهذا تقولُ العربُ: باذنجان، ويقول الأعاجمُ: بانكان، كأنَه اسم مُغَيَّرٌ عن صيغتهِ

إلى صيغةٍ تُفارِقُها. على أن في لغةِ العرب من السَّعَةِ ما يكونُ بعضُها بالإضافة إلى بعضٍ كالعُجمةِ لغرابَتها، ولَذلك غُبيَ عليهم الأبُّ، فلمْ يَدْرِ عمرُ ما هو، وقال ابنُ عباس: ما كنتُ أدري ما معنى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14]، حتى سمعتُ امرأةً مِن العربِ تقول: أنا فطرتُه، أي ابتدأتُه، فعَلِمْتُ أنّه أرادَ مُنْشِىءَ السمواتِ والأرض أو مبتدىء السمواتِ والأرض (¬1). وأما تبعيدهُم الإِستبرقَ عن لغةِ العرب، لكونهِ لا يُعْرفُ اشتقاقهُ، ولكونهِ على وزنِ استفعل، مثل استفرغَ، واَستنفذَ، واستخبرَ، واستبرد، واستنفرَ، واستغفر، واستعلن، فلا يلْزمُ، فإِنَهُ ليس يَلْزَمُ الاشتقاقُ في الأسماءِ؛ وقد أنكرَ المطالبةَ به جماعة من أهلِ العلمِ، وكذلك فيهم مَنْ أنكرَ الاعتبارَ بالأوزانِ، وقالوا: يجوزُ أن يكونَ فيها ما ليس بمشتقٍ من شيءٍ، ولا موزونٍ بشيءٍ، ولا على وزنِ غيرِه، فمدّعي نَفْيَ جوازِ ذلك لا يجدُ عليه دليلاً. وبرهانُ ذلك: أَنّه لو كان كلُّ اسمٍ مشتقاً من شيءٍ غيرهِ لتسلسل، وما يتسلسلُ لا يتحصلُ، كما استحالَ ذلك في الحركاتِ التي ادَّعَتْ المُلْحِدَةُ العدميون، أَنّهُ لا حركةَ إِلاَّ مثلُها حركةٌ، ولا صورةَ إلا مثلها صورة، ¬

_ (¬1) الذي وردَ عن ابن عباس في ذلك أنه قال: "لم أكن أعلمُ فاطرَ السماوات والأرض، حتى اختصمَ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يُريدُ استحدثت حفرها". أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 258 وعلَّقه في "الأسماء والصفات" ص (27)، والطبري (13111).

فكذلك يقالُ هاهنا، إذ لو كان لا اسمَ إِلأَ مشتقٌ، فالمشتقُ منهُ مِمَّ يُشْتَقّ؟ على أنَّكم إن أنكرتم استبرق، لأنُّه على وزنٍ استفعل واستعجل، فقد سُمعَ مِن لُغَتِهم ما يُزِيْلُ تَعَجبَكم وينفي استغرابَكم، فقالوا: يثرب وهو اسمٌ لبلادٍ {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13]، وهو على وزْنِ يَضْرِبْ، وفلانٌ اليَشْكُرِيُ مِنْ يَشْكر، ولعلها قبيلةٌ أو بلدٌ. وقالوا: رجلٌ عَدْلٌ. والعدلُ فِعْلُه، ومن ذلك قولهم: أفكل، وهو اسمُ فعلٍ من الأمراض (¬1)، وقيل: هو رِعْدَةُ الحمَّى، وقيل: هو نفسُ الحمَّى، قال يزيدُ بن حُجيّةَ حين انصرافِه من عسكرِ علي عليه السلام إلى معاويةَ -رضي الله عنه-: وقالُوا عليٌّ لَيْسَ يقْتُلُ مُسْلِماً ... فمَن ذا الذي يَسْحي الرقابَ (¬2) ويقْتُلُ وقَالوا الهُدَى هذا فإن نكرَ الهُدَى ... فشَفَتْ يَمِيْني واعْتَرىَ الجِسمَ أَفْكَلُ (¬3) ¬

_ (¬1) جاء في "لسان العرب": الأفكل: على وزت أفعل: الرِّعدة، ولا يبنى منه فعل. (¬2) فى الأصل: "يشجي الرقاد" والمثبت من مختصر تاريخ دمشق 27/ 332. (¬3) يزيدُ بن حُجية صاحب هذه الأبيات، هو يزيدُ بن حجية التيمي، من بني تيم بن ثعلبة بن بكر وإئل، فارق علياً رضي الله عنه، والتحقَ بمعاوية رضي الله عنه، وكان علي قد استعمله على الرّي، فكسرَ الخوارج واحتجنَ المالَ لنفسه، فحبسَه عليّ رضي الله عنه، وجعلَ سعداَ مولاه، فقرَّب يزيدُ ركائبه، وسعدٌ نائم، فالتحقَ بمعاوية رضي الله عنه وقال هذه الأبيات. =

يقولُ: اعْتَراهُ الحُمَى، فسقَطَ ما تعلقوا به. وأما قولُهم: بُعِثَ إلى الكُل فكان كتابُه جامعاً لخطاب الكلِّ، ولغةِ آلكُل، ومُعْجِزاً للكُلِّ. فليس بلازمٍ، لأنه لو رُوْعِيَ هَذا، لكانَ مِن الواجبِ أنْ يجمعَ التركيةَ والزنجيةَ والسنديةَ والهنديةَ. على أنَّ الخِطابَ إذا اعتبرَ للبيانِ، لم يقنعْ الرومُ بكلمةٍ، والفرسُ بكلمةٍ، والنَبَطِيةُ بحرفين، يكونُ كلُّ خطابهِ لهم: يا رجلُ، وانَّما كانَ يجب أنْ يَمُد الكلامَ ويُطَوَّلَه جامعَاً للدعاءِ لهم، والإِنذارِ، وبيانِ الأحكامِ بلُغةِ كلِّ فريقٍ، ولا يخصَّ العربَ بالكلام الجامعِ، ويُفردُ كلُّ طائفةٍ من غيرِهم بالكَلمِةِ، التي لا يَحْصُلُ بها بيانُ التكليفِ لهم، فلا فائدةَ في هذا. وأمَّا الإِعجازُ؛ فليس فيهِ من كلامِهم ما يقتضي التعجيزَ، فإنَّ غايةَ ما فيه عند المُخَالِفِ الكَلِمَةُ والكلماتُ، وذلك مما لا يُتَحدّى بمثله، إذْ لا يتضمنُ فصاحةً ولا تُحُديَت العربُ بمثلهِ، إنَّما تُحُدِّيَتْ بالسورَةِ، حتى قال بعض النَاسِ بالسُّوَرِ الطوالِ دُوْنَ القِصَارِ. ولأن تعجيزَ العرب كفى عن تعجيزِ غيرهم، فاذا عَجزُوا وهم أهلُ الصِّناعةِ كان غيرُهم مِمَّنْ لَيْسُوا من أهل اللسانِ أعجزَ، كما قُلنا في السَّحرةِ في حق موسى، والطَّبِّ في حق عيسى، لما عَجزُوا، وكانَ ¬

_ = ومنها أيضاً: خادعتُ سعداً وارتمتْ بي ركائبي ... إِلى الشام واخترتُ الذي هو أفضل وغادرت سعداً نائماً في عباءة ... سعد غَلام مستهام مُضَلَّلُ "شرح نهج البلاغة" 4/ 84. و"مختصر تاريخ دمشق" 27/ 332.

- فصل في الأسماء المسمى بها الأحكام والعبادات هل فيها شيء منقول من اللغة

عجزهم دليلًا على عجزِ جماعتهم. وأما قولهم: إِنه لم يَدَّعِ أنه كلام، ولكن ادّعى أنَّه كلام الله سبحانه، وأنهُ إذا تعددَت منه اللغات، كان أدل على أنه كلامُ الله الذى يُحيْطُ خَبراً بجميعِ اللغَاتِ، وهو المنشىءُ لجميعِها. فلا يلْزَمُ، لأنهُ لو كانَ القصدُ ذلك، لم يقتصرْ على الكلمةِ بعدَ الكلمةِ، وإِنما كان يُطِيْل الكلامَ مِن كلِّ نوعٍ على وجهٍ يكونُ إعجازاً لأهلِ تلك اللُّغَةِ. فصل في الأسماءِ المسمَّى بها الأحكامُ والعباداتُ هل فيها شيءٌ منقولٌ من اللغَةِ؟ وذلك مثلُ: وُضوء وصلاةٍ وحجٍ ونكاحٍ. وقد اختلفَ فيها أهل العِلمِ من الفقهاءِ والأصولينَ: فذهبتْ طائفةٌ إلى أنها لم تنْقَلْ عَمَّا وُضِعتْ عليه مِن اللّغةِ وهم الأشاعرةُ (¬1)، وهو يَحْكي بعضَ أصولِنا في قولنا: بأن الزنا ينشرُ تحريمَ المُصاهرةِ، ومُستَندُنا قولُه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وأخذَ صاحبُنا بها دُوْنَ حَمْلِها على العقْدِ (¬2). وقولُه: إنً اللمس راجعٌ إلى اللَّمْسِ باليدِ، وهو أحدُ الوَجْهيَنْ لأصحابِ الشَافِعي. ¬

_ (¬1) وهو ما نُقِلَ عن القاضي أبي بكرٍ الباقلاّني انظر "العدة" 1/ 189. (¬2) أي حملَها على الوطءِ دونَ العقد، وعلى ذلك يكون الزّنى موجباً تحريمَ المصاهرةِ، لتحقّقِ الوطء فيه انظر "المغني" 9/ 339 وما بعدها.

وذَهَبَ قوم إلى أنَّ فيها ما نُقِلَ عن اللُّغَةِ إلى وضْعٍ شَرْعي، وهم المعتزلةُ والخوارجُ وجمهورُ أصحابِ الشافِعي (¬1). ويُخرَّجُ مِن كلام صاحبنا وأصحابِه مثلهُ، مثلُ قَوْلِهم في الصلاةِ: إنّها إيمان بقولِه سبحاَنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني: صلاتكم إلى بيتِ المَقْدِس، وجعلُوها إيماناً يحصلُ الإِسلامُ من الكافرِ بفعلِها، ويَخْرُجُ المُسلِمُ من الإِيْمَانِ بتركِها، وجعلوا الأعمالَ كُلها مِن جملةِ الإيمانِ، وجعلُوا أفعالَ الحَجِّ وجملتَه مع إحرامِه حَجَّاً، مع عِلْمِنا بأن أصلَ الإِيمانِ في اللغةِ هو نفسُ التصديق، والحجُّ هو القصدُ، والصلاةُ مجردُ الدعاءِ، وهذا من صاحِبنا وأصحابهِ يُعطي جواز نقلِ الأسماءِ والقول به (¬2)، وعليه حَمَلُوا قولَه سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. ¬

_ (¬1) هذا ما قرره جمهورُ الشافعية، حيث صرّحوا بأن الأسماء الشرعية منقولةٌ من اللغةِ إلى معانٍ وأحكام شرعية. انظر "التبصرة" ص (195)، و "البرهان" 11/ 177 و"المستصفى" 1/ 326. (¬2) وخالفَ في ذلكَ القاضي أبو يعلى، حيث بيّن أن الأسامي الشرعية، واُن ثبتَ وجودُها، فهي غيرُ منقولةٍ عن الوضع اللغوي، بل المعاني اللغويةُ باقيةٌ وزيدَت شروطٌ، عليها، وقال: "فهو في الشَريعةِ كما كان في اللغة، وضُمَّت إليه شروطٌ شرعيةٌ، ولا نقولُ بأنها منقولةٌ من اللغة إلى معاني أحكام الشريعة" "العدة" 1/ 190 وذهب أبو الخطاب. وابنُ قدامة، والطوفي، وغيرهم إلى أن الأسماءَ الشرعيةَ منقولة من معانيها اللغوية، إلى معانٍ جديدةٍ، وهذا ما اختاره ابن عقيل كما هو ظاهر. انظر "التمهيد" 1/ 88 - 89، و"نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر" 2/ 10 - 11، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 490 - 495.

وتحت هذا الاختلافِ للأصوليين مذاهبُ مبْتَدَعةٌ تتفرعُ عنْ قَوْلِهم بالنقلِ، فإِنَهم لَمَّا قالوا: بأن الِإيمانَ اسم لأعمال وتَرْكُ أفعالا وأقوالٍ، أوجبَ أصْلُهم سَلْبَ اسمِ االِإيمانِ عَن تاركِ الأعمالِ، ومُرْتَكِب المَناهي، فَسَلَبَتْهُ المعتزلةُ اسمَ الإِيمانِ، ولم تدْخِلْة فى الكُفْرِ، بل جعلتْه على منزلةٍ بَيْنَ منزلتين، مع بقائهِ على الأصلِ اللُّغوي، وهو التصديقُ، وسَلَبَتْهُ الخوارج اسمَ الإيمانِ وأكسبتْهُ اسمَ الكفْرِ، وحُكِيَ عن الحَسنِ (¬1) أنَّه سَمَّى الفُسَّاقَ باسمِ النَفاقِ، قال أحمدُ فيه: كان يُعَظم الذنوبَ، وقال في الخوارجِ؛ وقد سُئلَ عنهم: هَلْ هُم كُفَار؟ فقالَ: مارقةٌ، اتِّباعاً منهُ للحديثِ المرفوع: "يَمْرقُون من الدينِ كمروقِ السهمِ من الرمية" (¬2)، وعلى عليه السلاَمُ لما سُئِلَ عنهم نفى عنهم الكفرَ والنَفاقَ، واختبطتْ هذهِ المذاهب التي أثْبَتَتْ النقلَ غايةَ الاختباطِ، فبعضهم جعلَ نَفْلَ الطاعاتِ وفرضَها، من ¬

_ (¬1) هو أبو سعيد الحسنُ بن أبي الحسن يسار البصري، مولى زيدِ بن ثابت، سيّد أهلِ زمان علماً وعملاً، ومن كبار التابعين، حيث أدرك عثمان وطلحة وروى عن المغيرةِ بن شعبة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وأنس بن مالك وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وخرَّج له الجماعة. توفي بالبصرة سنة (110) هـ. انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 156، "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص (87)، و"تهذيب التهذيب" 2/ 263، "تذكرة الحفاظ"1/ 66، "وسير أعلام النبلاء" 4/ 564. (¬2) قطعةٌ من حديث على بن أبي طالب الذي أخرجه أحمد 1/ 81 و 113 و131، والبخاري (3611) و (5057) ومسلم (1066)، وأبو داود (4767)، =

الإيمانِ، كأبي الهذيلِ العلافِ (¬1). وبعضُهم أجرى هذا الاسمَ على فرائِضه دونَ نوافِلِه، وقسموا الإيمانَ أقساماً، فكفروا مَنْ تَرَكَ المعرفةَ والتصديقَ، وفَسقُوا مَنْ تركَ فرائضَ الأفعالِ وارتكبَ نواهِيهَا، ولم يكفِّروه، ولم يُكفروا ولم يُفَسقوا مَنْ ترك نوافلَ الطاعاتِ، وجعلوا أعمالَ الفرائض غيرَ مُحْبطةٍ للمعاصي الموجبةِ للفسقِ، وشَرَطُوا في كونِ أعمالِ الطَّاعاتِ إيمَاناً أن يكون تاركاً للكبائرِ، فإن ارتكبَ كبيرةً حَبطَتْ طاعاتُه، وخَرَجَتْ أن تكونَ مُوجِبةً لإِيمانِ الفاعِل لها. وذَهَبَ أصحابُنا نحنُ، إلى أنَّه لا شيءَ من الطاعاتِ يُكَفرُ بمجرَّدِ تَرْكِهِ مع اعتقادِ وجوبِه سوى الصلاةِ. وبعضُ المتأخرينَ في مُصَانَعته في مسائلِ النَّظَرِ، ومجالسِ الجَدَلِ، يُجري المذهبَ على الكُلِّ، وليس بصحيح عن صاحبِ المَقَالةِ، بل الصحيحُ تخصيصُه الصلاةَ. للتسميةِ الشرْعِيَّةِ، ولخصائصَ خَصَّها بها من السنَنِ الواردةِ فيها، وجعلوا جميعَ المعاصي غيرَ مُحْبِطَةٍ لشيءٍ من الطاعَاتِ، واستثنوا مِنْ ذلك ما كان مِنَ المعاصي في نفس شَرْطٍ، كالستْرةِ بالثوبِ المَغْصُوبِ، واستقرارِ القَدَمِ على البُقْعَةِ ¬

_ = والنسائي 7/ 119، وابن حبان (6739). (¬1) هو محمد بن الهذيل البصري العلاف، رأس المعتزلة، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالدٍ الطويل تلميذ واصل بن عطاء، له تصانيف كثيرة، وأقوال غريبة منكرة، توفي سنة (227) هـ، وقيل غير ذلك. انظر: "تاريخ بغداد" 6/ 20 - 23، و"طبقات المعتزلة" 44 - 49، و"وفيات الأعيان"4/ 265 - 267، و"شذرات الذهب"2/ 85، و"سير أعلام النبلاء" 10/ 542 - 543.

- فصل في جمع الدلائل على أن فيها منقولا من اللغة إلى معان وأحكام

المُغْضُوبةِ في الصَلاةِ، وهو أحدُ المذهبين لأحمدَ، وإنما كشَفْتُ ماتفضي إليه مقالةُ القائلِ بالنقْلِ، تحذيراً من سرعةِ الاتباع للمقالاتِ، من غيرِ تَبيين ما في تفاصيلِها من الأخطاءِ، ولزومِ ما عَسَاهُ يُفسِدُ أُصولاً، فإنّ كثيراً من المُتَفَقهَةِ يُسارِعون إلى ذلك، لعدمِ المعرفةِ بما في مَطاوي ذلك. فصل في جَمْع الدلائِلِ على أَن فيها منقولاً من اللغة إلى معانٍ وأحكامٍ أَن الإيمان (¬1) في اللغةِ مجردُ التصديقِ بدليلِ قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 285]، و {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]، يعني صدق بهما، {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما آمَنَ بالقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَل مَحَارِمَه" (¬2)، ومعلومٌ أنَّه صارَ في الشَرع اسماً لا تقَعُ إطلاقُه ولا يفهَمُ منهُ إلا اجتماعَ التصديقِ والأعمالِ التي هي فروعهُ ودلائلُه وتروكهُ، ولاْ يقالُ في الصدق إلا مُقَيداً، ولا يُسمى تاركُ جميعِ الفروضِ، ومرتكبُ سائرِ الفجورِ مؤمناً، إلا بأنْ نُقَيدَ أنَّهُ مؤمنٌ الله، أو يُتْبَع ذلك بأنه فاسقٌ، فإنَّ الإطلاقَ اسمُ مدْحَة، وقد نَطَقَ القرآنُ بذلك حين قال سبحانه: ¬

_ (¬1) والراجح في تعريف الإيمان عند أئمة السلف: أنه تصديق بالجَنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، فهو اعتقاد وقول وعمل. انظر "شرح العقيدة الطحاوية": 459 وما بعدها. (¬2) أخرجه الترمذي (2918)، والطبراني في الكبير (7295)، 8/ 36، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 177، وقال فيه الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقوي.

{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] , وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وعَنَى: صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ، وكان أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: قوموا بنا نُؤْمِنْ ساعةً (¬1). يعنون: الصلاةَ وأفعالَ الخير، والسُّنَن في ذلك ظاهرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإِيمانُ بضْغ وسَبْعُونَ خَصلَةً، أعلاها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذَى عن الطريق" (¬2). والصلاةُ اسم للدعاءِ المُجَردِ، ومعلوم انها إذا أطْلِقَتْ لم تَقَعْ على دعاءٍ في الشرعِ، لكنها تقعُ على تحريمةٍ، وأفعالٍ تتلوا التحريمَة حتى يُقالَ: إنَّه في الصلاةِ بنفسِ التكبيرةِ المُرتبةِ على شروطِها التى لا دعاءَ فيها، حتى إن للأخرسِ صلاةً ولا دعاءَ في صلاتِه، ولأن الزكاةَ في أصلِ اللغةِ هي الزيادةُ، تقولُ العربُ: زَكَا المالُ يزكو إذا نَما وزادَ، وهي في الشرع: تنقيص وتَخْسيرٌ في المالِ، لأنها إخراجُ بعضهِ على وجهٍ، بقصدِ طاَعةِ اللهِ، بإغناءِ الفقيرِ ومواساتهِ، فهذا منقولٌ إلى الضدَّ لا محالةَ، وما وُجدَ فلا يجوزُ جَحْدُه، وهذا كلُّه قد وُجِدَتْ تسمِيتُه في أشياءَ ليست الَأشياءُ التي وُضِعَتْ لها الأسماءُ اللغوية، ومِمَّا يدلُّ على ذلكَ أن الله سبحانه قد حَدَدَ لنا عباداتٍ لم تكنْ لأهلِ ¬

_ (¬1) أوردَ هذا الأثرَ عن معاذ بن جبل البخاري (1/ 45)، وابن أبي شيبة، في كتاب الإيمان. (105) ووردَ عن عبدِ الله بنِ رواحة، عند ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (106). (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 379 و 414 و 445، ومسلم (35) (58)، وأبو داود (4676)، وابن ماجه 57، والترمذي (2614)، والنسائي 8/ 110، وابن حبان (166) و (191).

- فصل يجمع أسئلتهم على هذه الأدلة

اللغةِ، ولا عَرفُوها فيضعونَ لها اسماً، فاحتيجَ إلى وَضْعِ أسماء شرعية لهذهِ الأشياءِ المُحْدَثَةِ، كما أنَّ أهلَ الصنائعِ قد حَددُوا أدواتٍ وآلاتٍ لم تكن وحددوا لها أسماءَ، كذلك هاهنا في العباداتِ المُحْدَثَةِ يجبُ أن يُحْدثَ لها أسماء. فصلٌ يجمعُ أسئِلَتَهم على هذهِ الأدِلةِ قالوا: الإيمانُ غيرُ منقول بل هو التصديقُ على ما كانَ.، وإنما المرادُ بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] فإنهُ لم يُرِدْ به صلاتَكم، وما الذي أحوجنا إلى ذلك، وإنما أراد بظاهرِ الآيةِ: ومَا كانَ الله لُيضيعَ تصديقَكُم بالصلاةِ إلى بيتِ المقدسِ. على أنَّه قد قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، وأرادَ بهِ صلاةَ الفجرِ، فسمَّى الصلاة قُرآناً؛ لأن فيها قرآناً، ولا يقالُ: إن القرآنَ اسمٌ نُقِلَتْ إليه الصلاةُ، كذلك تسميتُه الصلاةَ إيماناً لا يُعطي أنه نقَلَ إليها اسمَ الإيمان، وإنما سمَّاها إيماناً، لكونِها من شواهدِ الإيمانِ. وقولُكم رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمانُ بضْعٌ وسبعونَ جُزءاً أعلاه قولُ: لا إله إلأَ الله، وأدناهُ إماطةُ الأذى عن الطريقِ"، فإنَما هو خبرُ واحد، ونحنُ في أصلٍ عظيمٍ لا يجوزُ الخلافُ فيه، ولا العملُ بخبرِ واحدٍ. ولو ثبتَ أنَّه قولُ النبي عليه الصلاة والسلام، وكان طريقُه تواتراً خارجاً عن

الآحادِ لما كان حجةً؛ لأنَ قولَه: "الإيمانُ بضغ وسبعونَ جُزءاً أعْلاهُ قولُ: لا إلهَ إلا الله " نحنُ مُجْمعُونَ على خلافِ الظاهر، لأنَ الإيمانَ عندنا هو التصديقُ بالقلب، وأَنً جميعَ ما ذُكِرَ من القولِ والأفعالِ شواهدُ لو تجرًدت عن اعتقاَدٍ لكانت مُنْحَبِطَةً، وعندكم أنَّ الاعتقادَ إِنْ لم يكنْ ايماناً، وإِنَما هو بعضُ ايمانٍ، فإنهُ أعلى الشُعَبِ، فلم يبقَ إلا أنه ذكَرَ الخِلالَ المعدودةَ من الأفعالِ باسمِ الِإيمان، لأنها شواهدُ على الإيمانِ، كما سُمِّيَ النبى صلى الله عليه وسلم باسم ما بعثَ به: {ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو} [الطلاق:10 - 11]، وسُمَّيَ عيسى: {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، وهذا وأمثالُه تجوُّزٌ واتساع في الكلامِ. والذي يُوضِّحُ هذا: نقيضُ الإيمانِ، وهو الكفْرُ، فإِنَهُ الاعتقادُ، وجميعُ الأفعالِ من سجودٍ للصَّنمِ والصليب ولزوم السَّبتِ، أو الأحدِ، على ذلك دلائلٌ وشواهدٌ، وليست منَ الكُفر (¬1)، ولأنَ الكفرَ ما أعدم الاعتقادَ، فلمّا زالَ الإيمانُ عُلمَ أنّه ليس هو إلاّ التصديق. وأمَّاقولُكم: إنً لنا عِباداتٍ تتجددُ، فلا بُدَّ لها من أسماءٍ؛ سِيَّما ونبينُا صلى الله عليه وسلم بُعثَ إلى الكافَةِ مَن في زمانِه، وكل عصرٍ بعده، إلى يومِ القيامةِ. فليس بلازمٍ؛ لأنه لم يتجددْ في الشرعِ شيء لم يكنْ له في اللغةِ اسم موضوع، وإلا فبَيِّنوا، ما الذي تجدد من المسميات، كعبادةٍ لم يكنْ لها اسمٌ، أو عقد لم يكنْ له اسمٌ؟ ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً. قالوا: ولأنَّ منْ يُسلِّمُ لكم أن اسمَ الصلاةِ جرى على الأركانِ والأفعالِ، بل لم يَجُزْ عندنا إلا على الدعاءِ فقط، وما خَلَتْ مِن دعاءٍ، ¬

_ (¬1) بل هي من الكفر.

ولو ما تضمنته الفاتحةُ، وهي ركن لا بُدَّ منها، والتشهُّدُ الأخيرُ ركن، وما خلا من دعاءٍ واجبٍ أو ركنٍ، وأمًا الأدعيةُ المسنونةُ والمندوبةُ فكثيرة، ويكفي أن يكونَ فيها دعاء، فتُسمّى به لا لأجلِ الأفعالِ، وما ذلك إلا بمثابةِ الصوم الذي سُميَ به الإِمساكُ عن الأكلِ والشرب والجماع لا لأجلِ النَيةِ، وَالحجُ سُميَ بالقصدِ، ولا ينفكُ الحجُّ من قَصدٍ، لأنه عِدَةُ مناسكَ في أمكنةٍ مختلفةٍ، لا بُدَّ من المضيِّ اليها، والقصدِ نحوها، إذا كان في غيرِها، فَالآفاقي تقْصِدُ مِن دُويرةِ أهلهِ إلى ميقاتِه، ثُمَّ مِن الميقاتِ إلى موقفِ عرفةَ، ثم مِن عرفةَ إلى المزدلفةِ، ثم إلى منى، ثم الى الكعبةِ، ثم السعي بَيْنَ الصفا والمروةِ، ثم العَوْد الى منى، للبيتوتةِ والرمي، وهذه كُلها قُصودٌ، ويندرجُ في إثباتِها الأذكارُ والتروك والتجنباتُ التي وَقَعَ عليه لأجلِها إحراماً، والاعتكافُ ملازمةُ مكانٍ مخصوصٍ بنيةٍ، والايمانُ اعتقاد وتصديق، يستتبعُ أعلاماً ودلائلَ عليه تظهرُ على الأركانِ، ولذلك قال: "بُنِيَ الِإسلامُ على خمسٍ" (¬1) وذَكَرَ الأقوالَ والأفعالَ، ولو كانت مِن ذاتِ الإِيمانِ لم تكنْ مَبْنيةً عليهِ؛ لأنَّ الشيءَ لايُبْنَى على نفسِه. قالوا: ولو سلَّمنا لكم أن الأعمالَ نفسَها تُسمى صلاةً، لم تكنْ لكم فيه حجةٌ، لأنها لا تخرجُ عن وضعِ اللغةِ، وذلك أن هذه الأفعالَ متبعٌ بها فعلَ الإمامِ ومُقْتَفٍ بها على أثرهِ، والتالي للسابقِ يُسمى في ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث عبد الله بن عمر: البخاري (8)، ومسلم (16)، وأحمد 2/ 26 و 93 و 120 و 143، والحميدي (703)، والترمذي (2609)، والنسائي 8/ 107 وابن حبان (158) و (1446).

- فصل يجمع الأجوبة على الأسئلة على طرقنا في نقل الأسماء

اللغةِ المُصلَّي، من حيثُ إنه تالٍ، وذلك يُسمى في السبقِ أوَّلًا ومُصلياً، والزكاةُ الزيادةُ، وقد نَطَقَ القرآنُ بالمضاعفةِ لثوابِها، فما أوقَعَ عليها اسمَ الزكاةِ، إلا بفاعلِ الوضْعِ الذي هو الزيادةُ، وسَقَطَ حكم النقصانِ من المالِ في الحالِ، نظراً إلى الزيادةِ في المالِ، والوضوءُ مأخوذٌ مِن الوَضَاءَةِ، وأصلُه في اللغةِ ما أزالَ الدرَنَ والوَسَخَ، والطهارةُ النزاهةُ، وهذا هو الحقيقةُ مِن الطهارتين: الوضوءُ وإزالةُ النجاسةِ، فأين النقلُ والحالُ هذه؟! فهذا في باب العباداتِ، وأمَّا العقودُ، فإن النكاحَ: الجمعُ والضمُّ، والعقدُ: جمعٌ بَيْنَ قولين، وجمعٌ بين شَمْلَيْن وثمرتين، ولا يخلو ذلك العقدُ من اجتماعِ أشخاص، وبعد العقدِ يُفضي إلى اجتماعِ أشخاص، والسَّلَمُ استسلامٌ، والضربُ مصارفةٌ، فلا حاجةَ إلى القولِ بالنقلَ. فصلٌ يجمعُ الأجوبةَ عن الأسئلةِ على طُرقِنا في نقلِ الأسماءِ. اما دعواهم أن الإيمانَ مجردُ التصديقِ، وانكارُهم أنَه منقولٌ، فلا تَصِح، لأن الوضعَ الأصلي ينبغي أنْ يكونَ حقيقةً لغةً وشرعاً، فإذا كان الوضعُ اللغوي مُعْتدَّا بهِ وضعاً، فالتسميةُ الشرعيةُ لا يجوزُ أن تَقعَ على أشياءَ أَغْياراً لما وَقَعتْ التسميةُ اللغويةُ عليه، أو مزيدةً إلا نقلاً، ألا ترى أن الاستعارةَ والمجازَ لم تكُنْ بوضعِهم لها على ما استعاروه لها من الأسماءِ، مبقاةً بل مستعارةً، فكذلك الوضعُ الشرعيُ يجبُ أنْ لا يكونَ مُبقىً على ما أريدَ به في اللغةِ، مع قولِ الشرعِ: إنهُ الأفعالُ

المخصوصةُ والأقوالُ، ولا تكونُ الصلاةُ هي الدعاءَ، مع تسميةِ صاحبِ الشريعةِ للأفعالِ صلاةً. وقولُهم: ما الذي أحوجَنا إلى حَمْلِ الإيمانِ على الصلاةِ؟ فلأنَّ القومَ أظهروا التأسفَ على من ماتَ من أقاربِهم قبلَ النسْخِ، وقد كان صلى إلى بيتِ المقدسِ (¬1)، وما كان الموتى تركوا الإيمانَ والتصديقَ حتى يتأسَّفوا عليهِ، فترجعَ التسليةُ بنفي الإضاعةِ اليه، بل يندموا على نفي الصلاةِ، فعاد قولُه سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] إليها دون التصديقِ. وقولُهم: إن خبرَ شُعب الإيمانِ خبرُ واحدٍ، ونحنُ في أصل عظيم لا يثبتُ بمثلهِ. لا يَصِح، لأَنَّ الأمةَ تلقته بالقَبولِ، فصار كخبرٍ متواترٍ، وأصولُ الفقهِ ليس يُطلبُ لها قواطعُ الأدلةِ، ولا حكمُها حكمُ أصولِ الدينِ، ولذلك لا يفسقُ ولا يكفرُ مخالفُنا فيها، ولأنَّ خبرَ الواحدِ من الأصولِ الذي صَلَح للقضاءِ على أصلٍ ثَبَتَ بدليلِ العقلِ، وهو براءةُ الذِّمَمِ من الحقوقِ، فجاءت البيناتُ وهي آحادٌ، وأخبارُ الديانات (¬2) ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث ابن عباس، قال: لما وُجّهَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا: كيفَ بمن ماتَ من إخواننا وهم يصلّون نحوَ بيتِ المقدس؟ فأنزلَ الله جلَّ وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]. أخرجه أحمد 1/ 295 و 304 و 347، والترمذي (2964)، وأبو داود (4680)، وابنُ حبان (1717). وله شاهد يتقوى به، من حديث البراء، قال: مات على القبلة قبل أن تُحوَّل رجالٌ قتلوا، فلم ندرِ ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أخرجه البُخارى (40) والطيالسي (722). (¬2) كذ في الأصل، ولعلها: "الديات".

الآحادُ، فشغلت الذِّمَمَ، وأزالت ما كان ثبتَ من فراغِها وخلوَّها بدلائل العقولَ. وأما حملُهم لها على أنَّها شواهد ودلائل على التصديقِ، ودعواهم أن الإجماعَ منا ومنهم حاصل على أن الإيمان وراء ذلك، هو أمرٌ في القلب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سألَه جبريلُ عليه السلام عن الإسلامِ فسرة بالشهادتين، وعَجبَتِ الصحابةُ مِن سؤالهِ وتصديقهِ، فقال: "ذاك جبريلُ أتاكم يُعَلِّمكُم أمرَ دينكُم" (¬1)، وما خَرَجَ مَخْرَجَ البيانِ لا يكونُ على سبيلِ التوسعِ والمجازِ والاستعارةِ، وصَدقَ ذلك القرآنُ، حيثُ فسرَ الإيمانَ بقولِه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 - 2]، وسَاق أفعالَهم مِن الطاعَاتِ، وتَجنبهم للمعاصي الموبقاتِ، وقال: "الحَج عَرَفَة" (¬2)، وأرادَ به الوقوفَ، وليس الوقوفُ هو القصد، وقالَ:" الحَجُّ العَجُّ والثَّج" (¬3) ففسره بالفعلِ والقولِ، وقال: ¬

_ (¬1) قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، أخرجه مسلم (8)، وأبو داو (4695)، والترمذي (2610) والنسائي 8/ 97، وابن ماجه (63)، والطيالسي ص 24، وابن حبان (168) و (173)، والبغوي في "شرح السنة" (2). (¬2) ورد هذا من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحج عرفات، فمن أردك عرفة ليلة جَمعٍ قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك، .... ". أخرجه، أحمد 4/ 309 - 310، وأبو داو (1949)، والترمذي (889) و (890)، والنسائي 5/ 264 - 265، وابن ماجه (3015)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والبغوي (2001)، والبيهقي 5/ 116. (¬3) أخرجه من حديث أيي بكر الصديق رضي الله عنه، الترمذي (827)، ومن =

"مِفْتاحُ الصَلاةِ الطهُورُ، وتحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التَسليمُ (¬1) وقال: {ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] وإنما رَجَعَ ذلك إلى القراءةِ، والأصلُ في كلامِه - صلى الله عليه وسلم - الحقيقةُ، فمُدَّعِي المجاز عليه الدليلُ. وأمّا دعواهم أنَّ الكُفر هو الاعتقادُ، فكذلك ينبغي أنْ يكونَ الإيمانُ هو الاعتقادُ، فهذا دفعُ وضعِ الشريعةِ لاسم الإيمانِ بالقياس على الكفرِ. ولأنه ليس إذا لم يتخلَّفِ الإيمانُ بتخلفِ الَأفعالِ، يَدُلُّ على أنَ الأعمالَ ليست من جملةِ الإيمانُ، ألا ترى أنّ الأعمالَ في الصلاةِ والحجِ، والإمساكَ في الصوم، لا تتخلَّفُ العبادةُ بتخلفِه مع زوالِ النيةِ، ولا يَدُل على أن العباداتِ مجردُ نِيةٍ. وأما جَحْدُهم عباداتٍ تتجددُ، وسؤالُهم عنها، فلا شكَ أنّ العربَ لم تكُ تعرفُ كيفياتُ هذه التعبدات، كمناسكِ الحجِ المخْتلفة، وأركانِ الصلاة، والكفاراتِ المختلفة باختلافِ أسبابِها، ولا الحدودَ المختلفة باختلافِ الجرائمِ، ثُمَ إنّ الشرعَ أوجَبها، وتَعبدنا بها، فلا بُدَّ مِن أنْ يَضَعَ لها أسماء نعرفها بها، فسمّى كُلاً منها باسم: إمَّا موضوع لغيرها، أو جَدّدَ لها اسماً. ¬

_ = حديث ابن عمر رضي الله عنهما ابن ماجه (2896) والبغوي في "شرح السنة" (1847). والعجُّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجُّ: إراقة دم الحيوان في الحج. (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة 290.

وأما تعويلهم على أنَّ الصلاةَ ما خَلَتْ من دعاءٍ والحج من قصدٍ والزكاةَ من مضاعفةِ أجرٍ، والصَّومَ من إمساكٍ، فهذا نظر إلى مالا يستَحِق به الاسمُ شرعاً إلا بانضمام شيء، فلو أتى بالدعاءِ، وتركَ ركناً من الأفعالِ، وأمسَكَ عن كُلِّ مبَاحٍ ومحظورٍ، وقَصَدَ كل مَنْسَكٍ، وأقامَ بكلِّ مكانٍ محترمٍ لكنْ بغير نيةٍ، وغيرِ ستارةٍ وطهارةٍ للصلاةِ، وإلى غيرِ القبلة، لم يَقَعْ الاسم الشًرعي مع وقوع الاسمِ اللغوي في وَضْعِ القَوْم، ومحال أنْ يَكونَ الوَضْع اللغوي مبْقى، وهو ينفى في الشرع، لمكانَ اختلالِ ما اعتبرة الشرع، فما صار الاسم اللغوي بعد وضعَ الشرع ما وضعَ واعتباره لما اعتبرَ من الشروطِ، إلا بمثابةِ المجازِ الذي يحْسُنُ نفيهُ، حتى إنَّه يقالُ للمُمْسكِ من غير نِيَّة: ليس بصائمٍ، وللحاجِّ مع الوطءِ متعمداً: ليس بحاج، لكنه مُفسدٌ للحج، ونقيسه على هذا في صلاةِ المحْدِثِ، فعلِمَ بأن الوَضْعَ منقولً إلى معنى آخر. ألا ترى أن الوَضْعَ اللغويَ الذي لم ينْقلْ، إذا تشعبَ معناة، لم تَقَع التسميةُ عليهِ إلا مجازاً، كالرُّمح إذا قُلعَ سنانُه قيلَ: قناةٌ، والمائدة إذا رُفعَ الطعام عنها قِيل: خِوان، فصَارَ الحجُّ والصلاة إذا رُفع عنهما بعض أنساكِهما وشرائطِهما، في رفعِ الاسمِ عنهما شرعا بعدما سُمِّيتْ، كالأسماءِ الموضوعةِ لغةً لأشياءَ مخصوصه، لا تقع عليها إذا اختلَّت تسمياتها، مع حراسةِ ما وضِعَتْ لأجلهِ في اللغةِ، وهو القصد في الحج، والدعاءُ في الصلاةِ، والإِمساك في الصومِ. وأمَّا تعويلهم على أنها سميَتْ صلاة للاتباع، وأن المأمومَ تالٍ ومُتابع، فهذا إنْ وُجِدَ في المأمومِ، يجب أَن يفْقَدَ في الإمامِ

- فصل يجمع ما تعلقوا به من شبههم

والمنفردِ، كما يفقدُ في كلُّ مبتدىٍء في الرمي والسباقِ وغير ذلك، مما يقالُ فيه: أولُ، ومُصَلِّي، ودعواهُم بقاء الوُضوءِ من حيثُ الوَضَاءةُ، فالغاسلُ أعضاء وُضُوئِهِ بماءِ الوردِ، وَضِيءٌ ومُتَوَضِّىءٌ لغةً، فلِمَ نُفِيَ عَنْهُ الاسمُ شرعاً؟ للإخلالِ بنيةٍ عند قومٍ، وطهورٍ مخصوص عند قوم، وأبدلَ عِند العَدَم بماءٍ يُلَوثُ ولا يَغْسلُ دَرَنَاً، وأجِيزَ بماءِ اُلمدَودِ والآسنِ، ولم يَقًعْ عليهَ الاسمُ، مع حصولِ المعنى اللغوي بالمياهِ المستخرجةِ من الأشجارِ. وأما تعلقهم في العُقودٍ بالاشتقاقِ، فإن العربَ تُوقعُ الاسمَ على من استسلمَ وأسلفَ، وإنْ لم يدفعْ جميعَ ثمنِ السلفِ في مجلس العقدِ، والنَّكاح يُعقَدُ بَيْنَ مشرقيٍّ ومغْربيه ولا جَمْعَ، وإن اجتمعا حقيقة ومشاهدةً من غير إيجابٍ وقبول واقع عليه التسمية في اللغة، وانتَفَتْ عنه تسميةُ النَّكاحِ في الشرعِ، فأين البقاءُ على الوضعِ اللغوي والحالُ هذا؟. فصل يجمعُ ما تعلقوا به من شُبَهِهِم بدعوى ما يحكمُ على أدلتِنا. فمن ذلك قولُه سبحانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 195] {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]، وهذا يعني أنَّ القراَنَ جميعهُ عربيٌ، سِيَّما على قول مَنْ يجعلُ للعموم صيغةً، وأنْتُم مِن جُملةِ القائلينَ بالعموم، فاقتضى أنَه ليس في القرآنِ غَيرُ العربي، وجميعُ مادَللتم على نًفيَ اْلنَبَطيةِ والفارسيةِ عنه،

ينبغي أن تستدلوا بهِ على نفيِ نقلِ شيءٍ منهُ عن العربيةِ، إلى ما ليس منها ولا من وَضْعِها، وأجمعت الأمةُ قاطبةً على أن الله لم يَبْعَث محمداً صلى الله عليه وسلم إلا باللغةِ العربيةِ، ولا أنْزَلَ كتابَه إلا بالعربيةِ، فدعوى نقلِه عنها، أو نقلِ بعضِه أمر يحتاجِ إلى دلالةٍ صالحةٍ للنسخِ، لأنَ النقلَ مِن لغةٍ إلى لغةٍ، أكثرُ من النَقْلِ من قِبْلَةٍ إلى قِبْلةٍ، ومن سجودٍ إلى ركوع، وما شاكَلَ ذلك من هيئاتِ التعَّبداتِ. ولو كان قد نقلَه الله من لُغتِهم إلى غيرِها، لبينهُ النبى - صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً، ولو بينهُ كذلك، لنُقِلَ إلينا نقلًا متواتراً، كما نُقِلَ كلُّ ناسخٍ لمنسوخ، وكل ما نُقِلَ إليهِ من الأفعال، كما نُقلَ مَسحُ الخُفينِ بعد إيجاب غَسلِ الرجلين، والجمعةُ رَكعتانِ في وقتِ الظهرِ التي هي أربعُ، وكما نُقِل قصرُ الصلاةِ في السَّفرِ بعد تمامِها في الحضِر، بل الهمة بكلامِ الله، وبيانُ نقلهِ عن وضعِ اللغةِ العربيةِ، من عباداتٍ وأحكامٍ وعقودٍ، أشدُ وأكَثرُ منَ الهمَّةِ بنقلِ همه في فعل أو مقدارِ فعل متعبدٍ به، فهذه دعوى عظيمة تحتاجُ إلى نقل يكشفُها، ودليل يوازيها ويصلحُ لها، وإذا لم نجدْ، فالتمسكُ بما أخبَرَ الله سبحانَه من كونِ كتابهِ عربياً، ولسانِ نبيه عربياً، واجبٌ لا يجوزُ الميلُ عنهُ والتسهيلُ فيه، أولا تراهم كيف شحوا بأن يغيروا التابوتَ من التاءِ إلى الهاءِ، ونافسوا في ذلك من لغةِ هُذيلٍ إلى لغةِ قُريش، فَمُذْ ظهرت فنقلتْ عنهُ المُشاحةُ في تغييرِ حرفٍ من لغةٍ عربية إلى لغةٍ عربية أيضاً، تمسكاً بلغةِ قريش، حيث كانَ النبى منهم، يعلمون أنَ في القرآن منقولًا عن أصل اللغةِ العربية إلى وضع آخرَ، ولا يكشفوَنه ويتلونه كشفاً ونقلًا يليقُ به! فلما كان النَبى - صلى الله عليه وسلم -، وهو المُخاطبُ بإيجاب البيانِ

بيَّنَ هذا بياناً شافياً، ولا الصحابةُ الذين لم يُسامحوا في كتاب اللهِ تعالى بحرفٍ، نقلوا ذلك نقلاً متواتراً، يَقْطَعُ العُذْرَ ويُوجبُ العِلْمً، ولا ظَهرَ عنهم إجماع يقطعُ به، عُلِمَ أن هذا توهم من قائلهَ ومخاطرةُ من معتقده. قالوا: ولأنَه لو جازَ أن يخاطبهم بالصلاةِ، وهي في لغتهم الدعاءُ، وهو لا يريدُ الدعاءَ، والزكاةِ، وهي في لغتهم الزيادةُ، وهو لا يريدُ إلا التنقيصَ والتشعيثَ، وخاطبهم بالحجِّ، وهو لا يريدُ القصدَ، بل الوقوفَ والرميَ والطوافَ والسعيَ، لجازَ أن يخاطبهم بالقتلِ، وهو يريد منهم قطعَ اليدِ أو الجلدِ، ويخاطبهُم بالصومِ، وهو يريدُ منهم الأكلَ والشربَ، وأن يقولَ: اقتلوا المشركينِ، وهو يريدُ المؤمنينَ، فلما لم يَجُزْ هذا لم يَجُزْ أن يُدعى أنهُ أمرهم بما ليسَ في لغتهم، بل هذا أحسنُ لأن جميعَ ما غيرت إليهِ من الأسماءِ لغة لهم، لأنَ قَطْعَ اليدِ الذي نُقِلَ القتلُ إليهِ، والأكلَ والشربَ الذي أرادَ به الصومَ على ما بينا، كلَّه لغتهُم، والذي جعلتم النقلَ إليه ليس بلغةٍ رأساً، فإذا لم يَجُزْ فيما ذكرنا، ففيما ذكرتُم أولى أنْ لا يجوزَ، لأنَّه ليس مِن لغةِ القومِ رأساً. وقد تكلفَ قومٌ منهم بأنْ نقلوا الوضعَ الأصلي، واستشهدوا عليه بقولِ العرِب، فقالوا: إنَّ الصلاةَ الدعاءُ بدليل كتاب الله، وكلام العربِ في نثرِهم ونظمِهم. فمن كتاب الله سبحانه قولُه: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} [التوبة: 99] ومنه سُمَيتْ الصلاةُ على الميت صلاةً؛ لأنها دعاءٌ

له، وإن لم تَجمعْ رُكُوعاً ولا سجوداً ولا تَشهداً. وقال الأعشى يصفُ خَمَّاراً وخَمراً: لَها حَارِس لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَها ... وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عَليها وزَمْزَمَا (¬1) أي: دعا لها بالبركةِ خيفةَ فنائِها. وقولُ الآخر: وقابلَها الرِّيحُ في دَنِّها ... وصلى على دَنِّها وارتسمْ (¬2) يريد: دعا لها. وقولُ الآخر: تَقُولُ بِنْتي وقَدْ أزمَعتُ مُرْتحلاً ... يارَب جَنِّبْ أبي الأوصَابَ والوَجَعَا عليكِ مثل الذي صلَّيت فاغتمضي ... جفناَ فإنَّ لجنبِ المرءِ مُضطَجعا (¬3) ¬

_ (¬1) انظر ديوان الأعشى الكبيرص (343) طبع مؤسسة الرسالة. (¬2) البيت للأعشى والدَّن: هو الراقود العظيم، لا يقعدُ إلا أن يحفرَ له. انظر: "لسان العرب" صلا و"القاموس المحيط" باب "النون" فصل "الدال". (¬3) البيتان الأعشى، وقد ورد في ديوانه: "وقد قرَّبت مرتحلاً" بدلاً من: "وقد أزمعت مرتحلا". "فاغتمضي نوماً" بدلاً من "جفنا"، انظر ديوانه ص (151).

- فصل يجمع الأجوبة عن ذلك

فصلُ يجمعُ الأجوبةَ عن ذلك إن شاء الله أمَّا تعلقهم بالآياتِ المُضمنةِ بأنَ الخطابَ عربيٌ والقرآن بلغتِهم، فليس فيه حُجةٌ لمنع نقل أسماء منه، كما لم تمنعْ زياداتٌ لا يمكن إنكارُها، جَعْلَ الاسمِ الذين كان خاصَّا لغيرِها أو لبعضِ ما فيها شاملاً لها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عَرَفَةَ" (1)، "الحجُّ العجُّ والثج" (¬1)، ولما سُئلَ عن الصَّلاةِ قال:"صَل معنا" (¬2)، وقالَ: "صَلوا كما رَأَيْتموني أصلي" (¬3)، ووصفَ الصلاةَ بالأفعالِ، وفعلَها على هذه الهيئاتِ والأركانِ، وحكمَ على من تَرَك ركناً منها بالِإبطالِ والِإحباطِ، ورفعَ عنها الاسمَ بتركِ شرطٍ من شرائِطها، وفعلَ أفعالاً مخصوصةً، وقال: "هذا الوُضوءُ الذي لا يقبلُ الله الصلاةَ إلاّ بهِ"وكررَ وقال:"هذا وُضوئي ووضوءُ الأنبياءِ من قبلي" (¬4)، ووقف بعرفة وقال: "مَنْ شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً ونهاراً فقدتم حجه وقضى تفثه" (¬5) وأمر بالنداءِ إِلى الصلاةِ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة 433. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬3) ورَدَ هذا في حديثِ مالك بن الحويرث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري (631) و (6008) و (7246) وابن خزيمة (397) وابن خزيمة (397) وابن حبان (1658) والبيهقي 3/ 120 والبغوي (432). (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة 172. (¬5) لقدم تخريجه في الصفحة 223.

خمسَ دفعاتِ في النهارِ والليلِ، فلمْ يفعل إلا هذه الأفعالَ المَخصوصةَ، وفي هذا جواب عن مطالبتهم بالنقلِ، وجواب عن تكلفهِم نقلَ اللغةِ بالآي والأشعارِ، لأنَّ ذلك يدلُّ على الوضعِ اللغوي، ولم ننكرهُ، وكيف نُنكِرُ الوضع ونحنُ ندَّعي النقلَ، وهل النقلُ إلا فرعٌ للوضعِ. وأمَّا إنكارُهم تغييرَ الوضعِ، فذلك دأْبُ القومِ في مجازاتِهم واستعاراتِهم، نقلُ اسمٍ إلى مسمّى غيرِ ما وُضِعَ له الاسمُ، فما جاءَهم إلا بما هو عادتهم في مواضعتِهم، ولا يُشبه ما ذكروه من خطابِه بالقتلِ يريدُ الجلدَ، وبالصومِ يريدُ الأكلَ، لانه لم يَسْبِقْ منه وضْع قبلَ خطابه، وهنا سبقَ منه الأمرُ بالصلاةِ، ولم يؤخر بيانَ ما أمرَ به منها حتى صار البيانُ وضعاً منه، فَوِزانه أن ينقلَ أسماء ممّا ذكرت، فلا يمنعُ من أن ينتقلَ المرادُ من الوضعِ الأول إلى الوضعِ الثاني، وطلبُ التواترِ وكشفُ النقلِ فلا يلزمُ أكثرَ ممَّا نقلنا، لأنَّ حجتَهُ عليه السلام كانت ظاهرةً ولم ينقل نَسْخُها (¬1)، والأذان كذلك، وقنعَ في نقلِ القِبلةِ بالواحدِ ينادي أهلَ قباء: ألا إنَّ القِبلةَ قد حُوِّلت (¬2)، وقنعَ في تبليغِ الشَّرع ¬

_ (¬1) في الأصل: "فحسبها". (¬2) رود هذا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: بينما الناس بقباءَ، في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال لهم: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزلَ عليه الليلة قراَن، وقد أُمِرَ أن يستقبلَ الكعبةَ فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى ألشام، فاستداروا إلى الكعبة. =

- فصل جامع في المجازات التي سمتها الفقهاء المقدرات

والأمرِ بالإسلام بالواحدِ والاثنين يحملون خطابه وكتابَه، وفيه الدعايةُ إلى الِإسلام، وَإنما لم يَنطبقْ النقلُ على البيانِ بحسب اشتهارِه، لأن الناقلينَ قليلٌ، وكان أكثرُ القوم لا ينقلون، ولهم في الَنقلِ مذاهبُ: فقومٌ لا يَرَوْنَ النقلَ بالمعنى والَلب، فلم تكنْ عادَتهم. وقوم إذا نُقِلَ إليهم شددوا، حتى إن بعضَهم كان يحلفُ على ما ينقلُ وَيرْوي، فلذلك لم يقعْ اشتهارُ النقل، كاشتهارِ بيانِه - صلى الله عليه وسلم -، وشاهدُ ذلك بيانُ الحج منه على رؤوسِ الأشهادِ، والأذانِ عدةَ دفعاتٍ في الليلِ والنهارِ، وضعفَ النَّقلُ حتى اختلفَ العلماءُ فيه هذا الاختلافَ، ولو طلبنا من النقلِ ما يُوازي المنقولَ في الطهورِ، لوجَب أنْ لا نَقْبَلَ خبرَ الآحادِ في العباداتِ، لاشتهارِها وتكررِها منه - صلى الله عليه وسلم -. فصل جامع في المجازاتِ التي سمتها الفقهاءُ المقدرات يحتاجُ إلى معرفتها، لأنها واردة في الأوامرِ والنواهي، وجميعِ خطابِ الشرعِ من الكتابِ والسنةِ، وهي لائقةٌ بهذا البابِ، وهو بابُ الخطاب. وهي التعبيرُ عن الأفعالِ بالأعيانِ والأجسام التي يقع فيها، وهي محالٌّ لها، إمَّا إيقاعاً فيها بالأمر، أو تجنباً لها بالَنهي، وذلك مثلُ: قولهِ ¬

_ = أخرجه مالك في "الموطأ"1/ 195، وأحمد 2/ 26 و 105، والبخاري (7251)، ومسلم (526)، والترمذي (341)، والنسائي 2/ 61، والبيهقي 2/ 26، 105، والبغوي (445)، وابن حبان (1715).

سبحانه: {حُرمتْ عليكُمْ أمهاتُكم} [النساء: 23]. وساقَ ذِكْرَ المحرماتِ، والمرادُ به: حُرم عليكم أفعال وأقوال؛ كالنكاح والجماعِ والاستمتاعِ، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، والمراد به: إمساكُكُم إيَّاها، وتناولُكم منها أكْلًا واستعمالًا، فعادَ النَّهيُ إلى أفعالِنا فيها، ومقصودِنا إلى التناولِ لها والانتفاعِ بها، الذي يَدْخُلُ تحتَ مقدورِنا، إذْ لم تكنْ هي بأعيانِها داخلةً تحتَ مقدورِنا، فتحرمُ ذواتُها علينا. ومِن ذلك قولُه: "رُفعَ عنْ أمتي الخطأ والنسيان" (¬1)، والمرادُ به بعُرْفِ اللغةِ: رَفعُ حُكْمِ الفِعْلِ العَمْدِ ومأثمهُ، ويتجوَّز الفقهاءُ فيقولون: رُفعَ مأثَمُ الخطأ، وإنَّما هو رَفْعُ مأثم الفعلِ والذم عليه والعقاب، وقامَ الدليلُ على أنه لا يرتفعُ الغُرْمُ والضَمانُ الثابت بالعمدِ، ولا يجوَزُ أنَّ يكونَ رفعُ عين الخطأ، إذْ عينُ الفعلِ عمداً وخطأً لا يختلفُ في الوجودِ والفناءِ، لانهما عرضان لهما حكمُ سائر الأعراضِ. ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (1/ 251 - 252) من حديث أبي بكرة، وقال فيه الحافظ ابن حجر: هذا حديث غريب. انظر "موافقة الخُبر الخبَر" 1/ 509. وأخرجه من حديث ابن عباس بلفظ: "إنَّ الله تجاوز عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ابن ماجه (2045)، والحاكم 2/ 198، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 95، والطبراني في "الصغير" 10/ 270، والدارقطني 4/ 170 - 171، والبيهقي 7/ 356، وابن حبان (7219). وعند بعضهم بلفظ: "إن الله وضع" وإسناده صحيح على شرط البخاري، وقال فيه الحافظ ابن حجر: "هذا حديث حسن". انظر "موافقة الخُبرِ الخبر"1/ 510، وفي الباب عن أبي ذر عند ابن ماجه (2043).

- فصل مما ألحقه قوم بهذا القبيل

فصل مما ألحقه قوم بهذا القبيلِ، وأبى قوم من الأصوليينَ أنْ يكونَ منه مثلُ قولِه - صلى الله عليه وسلم - "لا صلاةَ إلا بطَهور" (¬1) و" إلا بفاتحةِ الكتاب" (¬2) و"لا صيامَ لِمنْ لم يبيِّت الصيامَ من الليلِ" (¬3)، "ولا وضؤَ لمنْ لم ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث ابن عمر مسلم (224)، وابن ماجه (272) بلفظ: "لا يقبل- الله صلاةً بغيرطهور، ولا صدقة من غلول". ورواه من حديث أبي بكرة: ابن ماجه (274). ومن حديث أنس: ابن ماجه (273). ورواه من حديث أسامة بن عمير الهذلي، والد أبي المليح أبو داود (59)، والنسائي 1/ 87 - 88، وابن ماجه (271). (¬2) ورد من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه. أحمد 5/ 316، 321، 322، والبخاري (756)، ومسلم (394)، وأبو داود (822)، (823)، (824)، وابن ماجه (837)، والترمذي (311)، والنسائي 2/ 137، 138. وابن حبان (1782)، و (1786)، و (1792)، و (1793)، و (1848). (¬3) روأه أحمد 6/ 287، والطحاوي في "شرح معاني ألاثار" 1/ 325، والنسائي 4/ 196 و 197، وابن ماجه (1700)، والترمذي (730)، والدارمي 2/ 6 - 7، والبيهقي 4/ 202، وأبو داود (2454)، وابن خزيمة (1933). من طريق ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة رضي الله عنها، وإسناده صحيح. إلا أن الأئمة أختلفوا فى رفعه ووقفه، وأكثرهم على وقفه. انظر "تلخيص الحبير" 2/ 188، و"نصب الراية" 2/ 433 - 434.

يذكْر اسمَ اللهِ عليه" (¬1) و"لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ" (¬2) وأمثالُ ذلك، فتضمن اللفظُ نفيَ عينهِ عما تضمن في المحرمات تحريمَ أعيانِها، وفي عفوِ الخطأ والنسيانِ عفو عن أعيانِها، ثم إنَ المرادَ به نفيُ أحكامِ أعيانِها، فمن هذا الوجهِ ألحقه أقوام بالفصلِ الأولَ. وقال بعضُ الأصوليين: هذا موضوعٌ عند أهلِ الجاهليةِ (¬3) ومفهوم لهم قبلَ الرسالةِ إليهم والشريعةِ، لِإزالةِ النفعِ بالعينِ، من ذلك قولهُم: لا كلامَ إلا ما أفادَ ونفعَ، ولا عملَ إلا ما أجدى، ولا عشيرةَ إلا ما عصمتْ ومنعتْ، فيكون المعقولُ من قولي: "لا صلاةَ" و"لا صيامَ" معتدٌ بهما منتفع بثوابِهما مجدٍ ومجزٍ، إلا ما كانَ بتلك الصفاتِ، فعُقلَ من ذلك أنه لا تقعُ تلكَ الأعمالُ شرعيةً إلا بالشروطِ والحدودِ المذكورة التي صيرها بنفيها منفيةً. فهذا هو الأصلُ، وإنْ جازَ أنْ تصرفنا عنه دلالة، فيحملُ النفيُ ¬

_ (¬1) ورد من حديث أبي هريرة: "لا صلاة لمن لا وضوءَ له، ولا وضؤَ لمن لم يذكر اسمَ الله عليه". أخرجه: أحمد 2/ 418، وأبو داود (101)، وابن ماجه (399) والبغوي (209). (¬2) أخرجه الدارقطني (1/ 420)، والحاكم (1/ 246)، والبيهقي (3/ 57) من حديث أبي هريرة. والحديث فيه سليمان بن داود اليمامي، قال ابن معين: ليسَ بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: متروك، ورواه ابن عدي من حديث أبي هريرة، وضعفه. انظر: "التعليق المغني " 1/ 420. (¬3) ليست في الأصل.

- فصل: ليس كل شرعي مجزئا

على نفي الفضلِ، كقولِ العرب: لا رجلَ في هذا البلدِ. إذا كانت حالُه مختلةً في السياسةِ، وفيه عالمٌ من الرجالِ. لكنْ قرينة من دلالةِ الحال دلتْ علي نفي رجلةِ السياسةِ، لا رجلة الذكوريَّةِ، وذلك كقولهِم: لا سيفَ إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليٌ، ولا طعامَ إلا البر واللحمُ. فيكونُ في الشرعياتِ: "لا صلاةَ لجارِ المسجدِ إلا في المسجدِ" من هذا القبيلِ، إذا قامَ بذلك دليل يصرفُنا عن حملهِ على نفي الإجزاءِ إلى نفي الفضلِ، وقد أحالَ القاضي أبو بكر العمومَ في ذلك، فقال: لا يَصح أن يحملَ على نفي الإِجزاءِ والفضيلةِ، وذكر أنَ في ذلك إحالةً وتناقضاً، لأنَ النفيَ لكونِها مجزيةً ومعتداً بها، ينفي كونَها شرعيةً، والنفي لكونِها كاملةً فاضلةً، يوجبُ كونَها شرعيةً معتداً بها، ومحالٌ أنْ يُرادَ باللفظِ الواحدِ عمومُ أمرين متناقضين، أو أمورٌ متنافية، وإنما يحملُ على نفيِ الِإجزاء أو نفيِ الفضلِ، على طريق البَدَلِ كقولهِ تعالى: {وَإذَا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] يصلحُ أنَ يُحملَ على الإيجابِ من اللهِ سبحانه للاصطيادِ تارةً، وعلى الندْب تارةً، أو على الإِباحةِ على طريقِ البدلِ، فلا يَصِحُ أن يُحملَ علىَ العموم، لما بيْنَ الإيجابِ والندبِ والإِباحةِ مِن التضادِ والتنافي في محتملاتِها. فصل ويجبُ أنْ يُعلمَ أنَه ليس كلُّ شرعي مجزئاً، كالصلاةِ التي دخلها بظن الطهارةِ، وبانَ أنه كان غيرَ مُتطهرٍ، وكالحِجةِ بعد الإفسادِ، يمضي فيها مُضياً شرعياً بمعنى مأموربه، ولايقعُ الإِجزاءُ في الموضعين، بل يجبُ قضاءُ الصلاةِ والحج.

- فصل: يجوز أن يراد بالكلمة معنيان مختلفان ومعان مختلفة

فصل ويجوزُ أن يُراد بالكلمةِ الواحدةِ معنيانِ مختلفان (¬1)، ومعانٍ مختلفة، وبه قالَ الفقهاءُ والأصوليون مِن أهلِ السُّنَةِ. خلافاً لابنِ الجبائي، وفرقةٍ وافقته من أصحابِ أبي حنيفةَ في قولِهم: لا يجوزُ ذلك إلا أن تتكررَ اللفظةُ أو تَرِدَ في وقتين مختلفينِ، يُرادُ بها في أحدِ اللفظين، أو في أحدِ الوقتين معنى وفي الآخرِ خلافهُ. ومثالُ ذلك فيما يُفيدُ معنىً واحداً، كلونٍ يفيدُ تغييرَ هيئةِ الجسم، وإنْ اختلفتِ الألوانُ بين سوادٍ وحُمرةٍ، وما يُفيدُ معانيَ مختلفةَ المنافعِ والمقاصدِ، كجاريةٍ تقعُ على السفينةِ، والحدثةِ من النساءِ، وعينٍ تفيدُ الذهبَ، وعينَ الماءِ، والعينَ المبصرةَ، وبيضةٍ تفيدُ بيضَ الطائر، والخُوذةَ، ونكاح يفيدُ الجماعَ والعقدَ، والقروءِ تُفيدُ الحيض [والطهر] (¬2)، والشفقِ يُفيدُ الحُمرةَ والبياضَ. والدلالةُ على صحةِ جوازِه، أنَّ كلُّ عاقل يعلمُ أنَّ قولَ القائلِ: لاتنكِحْ ما نَكَحَ أبوكَ، يصحُّ أنْ يُقصدَ به، لاتعقدْ على ما عقدَ عليه أبوك ولا تطأ منْ وطأ أبوكَ، وإذا نهى عن مَسَاسِ النساءِ، حَسُنَ أن يُقْصَدَ به الوطءُ واللمسُ باليدِ، فإنَّ ذلكَ ليس بمُستقبحٍ في النُطقِ، ولا مُستحيلٍ في العقلِ، فمن ادَّعى امتناعَ ذلك فقد ارتكبَ ما يدفعهُ الوجودُ. ¬

_ (¬1) في الأصل معنيين مختلفين، والصواب هو ما أثبتناء. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

- فصل في جميع ما تعلق به المخالف

ويقالُ لهُ أيضاً: لِمَ أنكرتَ القصدَ إلى ذلك؟ فإن قالَ: يتعذرُ القصدُ باللفظةِ الواحدةِ إلى معنيين مختلفين، قيل: فقد دَللنا على جوازِه، فانتفاءُ التعذُّرِ ينفي الاستحالةَ. وإن قال: لأنه لما لم يجُزْ أن يُرادَ بالقولِ "افْعل" الإباحةُ والحظرُ والزجرُ والإيجابُ والندبُ، كذلك هاهنا. قيلَ له: إنما استحالَ ذلك لأجلِ تضادِّ كلِّ أمرين من هذا القبيل، وعَلِمْنا باستحالةِ القصد إليهما. فصل في جميع ما تعلقَ به المُخالفُ فمن ذلك أنْ قالَ: لو جازَ أنْ يُرادَ باللفظةِ الواحدةِ معنيان مختلفان، لجازَ أن يُريدَ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، المشركين والمؤمنين، وبقولهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] الناسَ والبهائمَ، قال: ولأنَّه لو جازَ ذلك، لجازَ أن يُرادَ بالكلمةِ الواحدِة التي لها حقيقة ولها مجازٌ، حقيقتُها ومجازُها، ولما لم يَجُزْ ذلك، كذلك فيما ذكرتُم من الألفاظِ. قالَ: ونحنُ نسألكُم عن حقيقةِ هذهِ الدعوى وتفصيلها، فنقولُ: هل يَجِبُ حملُ الكلمةِ الواحدةِ التي يصح أن يُرادَ بها معنى واحد، ويَصِحُّ أن يُرادَ بها معنيانِ على أحدِهما، أو عليهما بظاهِرها وإطلاقِها أم بدليلٍ يقترنُ بها؟ قالَ: وهل يريدُ المتكلمُ بالكلمةِ الواحدةِ، المعنيين إذا أرادهما

- فصل في جميع الأجوبة

بإرادةٍ واحدةٍ أو بإرادتين؟ فصلٌ في جميعِ الأجوبةِ فأمَّا الأولُ: فإنما لم يَصِح، لأنه إنما يصح أنْ يُرادَ مِن اللفظِ ما يصح أنْ يجريَ عليه من المعنى في حقيقةٍ أو مجازٍ إذا لم تكنْ متضادَّةً، واسمُ الناسِ لا يجري على البهائمِ في حقيقةٍ ولا مجازٍ، وكذلك اسمُ المشركينَ لا يقعُ على المسلمين في حقيقةٍ ولا مجازٍ، ولو وَقَعَ على ذلك لصح أنْ يُرادَ. وأمَّا الثاني: فغيرُ مستحيلٍ، وكذلك صلحَ حَمْلُ قولِه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] على العَقْدِ والوطءِ، وكان مجازاً في أحدِهما، اللَّهُم إلا أنْ يريدَ قَصرَ اللفظِ على حقيقتهِ وتعدِّيهِ إلى مجازهِ، فإن ذلك متضادٌّ لا يصحُّ القصدُ إليه. وأما سؤالهُم الأول: فالجوابُ عنه أنَه بدليلٍ يقترنُ بها، وإنَما اعتبرنا دليلًا، لمكانِ التردُّدِ والاحتمالِ، وذلك سبيلُ كلُّ مُحتمل مُترددٍ لا يُصرفُ إلى أحدِ مُحَّتَمَلَيْهِ إلَا بدليلٍ. وأما سؤالهم الثاني في الإرادةِ: فإنْ كان المتكلمُ بها هو الله سبحانه فإنَه يريدُه، ويريدُ جميعَ مُراداتِه بإرادةٍ واحدةٍ، كما يعلمُ سائرَ المعلوماتِ بعلمٍ واحدٍ، وإنْ كانَ المُتكلِّمُ باللفظةِ المرادِ بها المعنيَانِ محدثاً فإنَهُ يريدُهما جميعاً بإرادتينِ غير متضادين، وإنَما وَجَبَ ذلك فيه، لصحةِ إرادتهِ لأحدِهما وكراهتِه للآخرِ، فلو كانَ يريدُهما بإرادةٍ واحدةٍ، لاستحالَ أنْ يريدَ أحدَهما دون الآخر.

* فصول الكلام في الأوامر

فصول الكلام في الأوامر فصل في حقيقةِ الأمرِ وهو الصيغةُ الموضوعةُ لاقتضاءِ الأعلى للأدنى بالطاعةِ ممَّا استدعاهُ منه، وعينُها: افعل كذا أو قُلْ كذا (¬1). وقال أبو الحسن الأشعري: هُو قِسمٌ من أقسام الكلام، وهو المعنى القائمُ في النفسِ الذي هو في حقِّ القديمِ واحَدٌ، أمرٌ ونهيٌ وخبرٌ، إلى غيرِ ذلك، وهو في حقِّ المُحدَثِ معانٍ مختلفةٌ، والأمرُ الذي هو قسمٌ منه: ما قولُ القائلِ: افعلْ. عبارة عنه في حقِّ القديم والمُحدث، وحَده عنده المقتضى به الفعل من المأمورِ. وقيل: ما كانَ الممتثِلُ له مُطيعاً والمؤتمِرُ له مُطيعاً، وخاصيةُ الفعلِ عنده أنَّه اقتضاءُ الطاعة والانقياد بالفعل. قالوا: وإنْ قيلَ: طلبُ الفعلِ على غيرِ وجهِ المسألةِ، وكان ذلك صحيحاً، ليفرقوا بينَ الرَّغبةِ والسؤالِ، وبينَ الأمرِ. ¬

_ (¬1) ينظر في هذا الفصل في "العدة" 1/ 157، و"التمهيد" 1/ 66، و 124 و"شرح مختصر الروضة" 2/ 348، وشرح الكوكب المنير" 3/ 10.

والدلالةُ على هذا، هو الدليلُ على إثباتِ الكلامِ حروفاً وأصواتاً. ونَخُصُّ هذا الفصل بما يحتملُه الكتابُ مِن الدلالةِ، فنقول: بأن العربَ قسمتِ الكلامَ أقساماً، فقالوا: اسم وفعلٌ وحرفٌ، ووَسَمُوه بسماتٍ لا يحتمِلُها إلا النطقُ، دون ما قامَ في النفسِ. فقالوا: الاسمُ ما دخلَه الألفُ واللامُ، وما كان عبارةً عن شخصٍ، وما حَسُن فيه التصغيرُ، وما حَسُن فيه التَّثْنيةُ، وما إخبِرَ بهِ أو عَنهُ. وهذا كلُه لا ينطبق إلا على النُّطقِ، ولما جاؤوا إلى ما تَحْتَ هذه الثلاثة الأنحاء قالوا: أمرٌ ونهيٌ وخبر واستخبارٌ ونداء وتمن، ثم قالوا: فالأمرُ: قول الأعلى للأدنى: افعلْ، والنهيُ: قولُه له: لا تفعلْ، والخبرُ: زيد في الدارِ، والاستخبارُ: أزيدٌ في الدارِ؟ والتمني: ليتَ وليتني، والنداءُ: يا زيدُ أقبلْ، وصرفوا مِن هذا الكلامِ أنواعَ التصريفِ، وقالوا في الترخيمِ: يا فُلْ مِن فلان، ويا صاحِ من يا صاحبي، فحذفوا في الترخيمِ حرفاً أو حرفين أو حُروفاً من آخرِ الاسم. وقالوا في النُّدبةِ: يا سَيِّداه يا أبتَاه، فزادوا حرفَ الهاءِ، فطلبوا بالأولِ التعجلَ، وبالثاني التفجعَ، لأنَ حرفَ الهاءِ يخرجُ من الصدرِ وهو محلُ الحزنِ والكمدِ. وقالوا: لعلً للترجّي، وما أحسنَ زيداً للتعجب، وليتَ للتمني، وهذا كلُه مبنيٌّ من حروفٍ وأصواتٍ، ولأنً العربَ لا تصفُ بالعاهةِ في محلٍّ إلا وصحةُ ذلك المحلِ يُضَادُّ العاهةَ، كقولهم: أعمى لِمَنْ كانت العاهةُ في محلِ بصرهِ، وأطروش لِمَنْ كانت العاهةُ في محلِّ سمعهِ، وقد قالوا: أخرسُ لمن كانت العاهةُ في محلِّ نطقهِ، والخَرَسُ ضد

الكلام، كما أن العَمى ضد صحةِ البصرِ، فثبتَ أنَّ الكلامَ ما كان في محَلِّ الخَرَس، وهو النطقُ. ولأنَّ الإجماعَ منهم حاصلٌ على أنَّ للكلام صفاتِ مدح وصفاتِ ذمٍ، فالمدحُ كقولهِم: فصاحةٌ وبيانٌ، وفي المَتكلمِ، فصيح ومبين وناطقٌ وخطيبٌ ومِصقَعٌ، والاختلالُ فيه والذمُّ، اللكنَةُ والفَهَاهَةُ والعِيّ، والمتكلمُ، عييٌ وألْكنُ، والكُلُّ إنما يرجعُ إلى الحروفِ والأصواتِ وإلى مَنْ جَوَّدَ في النُّطقِ وقَصر فيه، دون أن يُعادَ إلى النفس أو إلى ما فيها. وقسموا ما في النفسِ إلى هاجس وخاطر، وفكرٍ، وأَجْروا اسمَ الأمرِ على النطقِ والاستدعاءِ بالقولِ خاصةً، فقالَ دريدُ بن الصِّمَّة (¬1): أمَرْتُكُم أمْرِي بمُنْعَرجِ اللِّوى ... فلم تَسْتَبْيِنوا الرشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ فقلتُ لهم ظُنوا بَألْفَيْ مدجَّج ... سَرَاتهم في الفارسيِّ المُرَدَّدِ (¬2) ¬

_ (¬1) هو دُريد بن الصِّمة بن جشم بن معاويةَ بن بكر، يكنى أبا قُرَة، وهو من الشجعان المشهورين،. وذوي الرأي في الجاهلية شهِدَ حنين وقتِلَ فيها. انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة 2/ 750. (¬2) وقد رود البيت الثاني في الأصمعيات بصيغة: علانية: ظنوا بألفي مدجحٍ ... سراتهم في الفارسيِّ المسرد وورد في "خزانة الأدب": فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّحٍ ... سراتهم في الفارسيِّ المسرد انظر: "الأصمعيات" ص (107)، و"خزانة كالأدب" 11/ 279 وعلى كلا الأمرين، فهو "الفارسى المسرد" لا "المردد"كما جاء في الأصل. والفارسى: هو الدرعُ الذي يصنعُ بفارس. والمسرد: المحكم النسج، وقيل: هو الدقيق الثقب.

وقولُ عمرو بن العاص لمعاويةَ رحمة الله عليهما: أمرتُكَ أمراً حازماً فعصيتني ... وكان من التوفيق قتلُ ابنِ هاشم (¬1) وقول الحُبَاب بن المنذر ليزيدَ بنِ المهلب: أمرتُكَ أمراً حَازِماً فعصيتَني ... فأصبحتَ مَسْلوبَ الامارِة نادما (¬2) والمعصيةُ لا تُقَابَلُ، ولاتصحُ إلا في الأمرِ الذي هو النطقُ، وليس يجوزُ أن يكونَ هذا التوسعُ والمجازُ، ويكونُ الحقيقة قولهم: (إنَّ الكلامَ من الفؤاد) هو الحقيقةُ، كما أن جميعَ الصنائع لاتجذب إلى محالِّها من الأجسامِ صوراً وأبنيةً ونجارةً، إلا بعد أن تُشَكَّل في النفسِ صورُها ومقاديرها، وكم تضاف الأفعالُ إلى آلات ومَحَال، والحقيقةُ في ذلك لغيرِها، فمن ذلك إضافتُهم القتلَ إلى القلمِ، كإضافتِه إلى السيفِ، وقولُهم: قَتَلَ فلانٌ فلاناً بقلمِه، والمرادُ به: تسببَ بالقلمِ والسعيِ عليه، والحقيقةُ للسيفِ، ويُقال للساعي: قتلَه بلسانهِ، وجارحةُ القتلِ يدُ المباشرِ دونَ لسانِ الساعي، فليس قولُهم: إن ¬

_ (¬1) انظر "الكامل" للمبرد: 1/ 345. وابن هاشم هذا، كان قد خرجَ على معاويةَ رضي الله عنه، فأمسكه، فأشار عليه عمرو بن العاص رضي الله عنه بقتله، ولكن معاوية أطلقه، فخرجَ عليه مرة أخرى، ولم يفلح معه العفو، فقال عمرو هذا البيت. (¬2) هذا البيت لحصين بن المنذر، لا للحباب بن المنذر كما ورد في الأصل، وبعده: فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجعَ سالما وقد قاله حصين ليزيدِ بن المهلَّب بعد عزله من الولاية. انظر "وفيات الأعيان" 6/ 290.

- فصل في جمع ما تعلقوا به

الكلامَ من الفؤادِ إلا من هذا القبيل. ويَشهدُ لذلك قولُه سبحانه في الأمرِ خاصةً: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82] فأخبرَ أن أمرهُ حرفان، وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ولم يتقدمْ مِن القولِ إلا اسجدوا، فدَل على أنَه هو الأمر وقال لابليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وقال لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] وقال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] فلما أكلَ قالَ له: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] ومقام الأمرِ صيغةُ قوله: {لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]. فصل في جمعَ ما تعلقوا به قالوا: إذا ثَبَتَ أن الكلامَ معنى قائم في النفسِ، وهذهِ الحروفُ والأصواتُ عبارة عنه، دَخَلَ الأمر في الجملة، لأنه ضربٌ من الكلامِ وقِسْم من أقسامِه، والذي يثبتُ به ذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} [المجادلة: 8] وقولُه سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} [المنافقون: 1] والكذب لا ينطبقُ إلا على الخبرِ، ولو أطبِقَ على القولِ الذي هو الشهادة، لكان تكذيباً لكلمةِ التوحيدِ، ولا يجوز ذلك، لم يبقَ إلا أنه عادَ إلى ما في أنفسِهم من الخبرِ. وقال الشاعرُ:

إن الكلامَ مِنَ الفُؤادِ وإنَّما ... جُعِلَ اللِّسانُ على الفُؤادِ دَليلا (¬1) والعربُ تقولُ: في نفسي كلامٌ. فصلْ في جمعِ الأجوبةِ عَمَّا ذكروه أمَّا الآيةُ الأولى، فإن فيها ما يقابلُها، وهو قولُه: {لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]، يعني بما ننطقُ به، فليس بأنْ يكونَ أَحدُهما الأصلَ، بأولى مِن أنْ يكونَ الآخرُ، هذا أدنى أحوالِ الجوابِ فيقفُ استدلالُهم منها، وأعلاهُ أن تكونَ الحقيقةُ هو الثاني، لأنَّه الذي ينصرفُ الإطلاقُ إليه، فإنهُ إذا قالَ القائلُ: قلتُ، وقالَ زيد، وقلتُ قولاً، وقيلَ لي. لا يعقلُ منه إلا النَّطقُ، وإذا عزى إلى النفسِ كان اتساعاً، لتشبيهِ ما يهجسُ في النفسِ، لأن الهاجِسَ في النفسِ كالناطِقِ، والذي يُوَضحُ صحةَ ما تعلقنا به من التأويل، قولُه تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] فأثبتَ أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وعند هذا القائل أنَّه لا ينطقُ اللسانُ إلا بعبارةٍ عما في النفسِ. وأمَّا الآيةُ الأخرى، فإن التكذيبَ عادَ إلى قولِهم الذي أخْبروا به ¬

_ (¬1) يُنسبُ هذا البيت للأخطل، كما في "شرح شذور الذهب" ص (27)، وليس في ديوانه، وأورده الجاحظُ في "البيانِ والتبيين" (1/ 318)، غير منسوبٍ مع بيتٍ آخر هو: لايعجبنك من خطيب قولهُ ... حتى يكونَ مع البيان أصيلاً

عن معتقدِهم، فكذَّبهم في دعواهم أنَّهم يُصَدِّقونه فيما جاءَ به، لأنَّ معنى قولِهم: نشهدُ، أي نعلمُ ونتحققُ إنَّكَ لرسولُ الله، فكذَّبَهم الله في قولِهم، لا في اعتقادِهم، لأنَّ قولَهم لما تضمنَ الإخبارَ عمَّا في نفوسِهم من التصديقِ كذبَهم الله في ذلك. وأمَّا قولُ الشاعرِ: إنَّ الكلامَ مِن الفؤادِ، فصِدْقٌ، وإنَّه لا يتكلمُ مُتَكَلِّمٌ إلا بعدَ أن يُصَوِّرَ في نفسِه شيئاً يتكلمُ عنه، وانما كان حجةً أنْ لو قالَ: إن الكلامَ في الفؤادِ، ولم يقُلْ، ولو قالَ لكانَ مجازاً، مثل قولِ قائلهم: في نفسي بناءُ دارٍ، ونجارةُ بابٍ، وإدارةُ دولابٍ، وإنما يريدُ به في نفسي أن أبنيَ داراً، كذلك يكونُ قولُه: في نفسي كلامٌ، وإنَّ الكلامَ من الفؤادِ، تقديرُه: في نفسي أنّ أتكَلمَ، وهي القصودُ والعزومُ، وتصديرُ ما يُرادُ أن يظهرَ مِنَ الأعراضِ النَّفْسانية بالكلامِ، وقد أضافوا النُّطقَ إلى العينِ، فقال شاعرُهم: تُخبرُني العَيْنَان مَا القلبُ كاتمٌ ... ولا خيرَ في الشَّحناءِ والنَّظَرِ الشَّزْرِ (¬1) وقالَ الآخرُ: فقالتْ له العينانِ: سمعاً وطَاعَةً (¬2). ويقولونَ: في وجهِ فلانٍ كلامٌ. أي في وجههِ أمارةٌ أنَّه سيتكلمُ. ومِن ذلك إضافتُهُم القتل إلى القَلَم، فقولُ القائل: ما قتلتُ فلاناً إلا بقلمٍ، حيثُ كانَ الكتابُ عاملاً ومُهيئاً لأسباب أوجبتِ القتلَ، ¬

_ (¬1) البيت لأبي جندب الهذلي، انظر "شرح أشعار الهذليين" 1/ 367. (¬2) البيت في "اللسان": (قول) دون نسبة، وتمامه: "وحدّرتا كالدرِّ لما يُثقب".

- فصل في جمع الأجوبة عما ذكروه

وإذا رجعَ إلى الحقيقةِ كان القاتلُ السيفَ لا القلم، كذلك إضافةُ الكلام إلى الفؤادِ مع إضافتهِ إلى اللَّسان، فاللسانُ: هو الآلةُ في الحقيقةَ وما قبلَه من القلب مجازٌ، وما بعده من إشارةٍ ورمزٍ بالعينِ مجازٌ، والحقيقة اللسانُ، بدليَلِ ما قدمنا من الدلائلِ. فصلٌ واعلم أن الصيغةَ التي حَصَلَ الاتفاق من القائلينَ بأن الأمرَ صيغةٌ على كونِها أمَراً، هي لفظةُ: افعلْ، إذا صَدَرَتْ مِمَّن تَلْزَمُ طاعتهُ، وهو المعبَّرُ به عن الأعلى، وذلك هو قولُ السيد لعبدِه أو السُّلطانِ لآحادِ رعيتهِ: ادخلْ واخرج وقمْ. وتوهَّم قومٌ أنَّ الرتبةَ قرينة، وقال المحققون: إنها لم تُسم أمراً إلا لوجودِها من الأعلى للأدنى، فليست الرتبةُ قرينةً، لكنها شرطٌ، لكونِ الصيغة أمراً، كما لا يكونُ تسميةُ قولِ الممهدِّدِ: افعلْ ما شئتَ، تهديداً بقرينةٍ. والفرقُ بينَ القرينةِ وبين نفيِها، أن ما كانَ موضوعاً لشيءٍ، فصارَ بما انضمً إليهِ لغيرِ ذلك الموضوع، فهو الذي استحقَّ الاسمَ بقرينةٍ، مثلُ صيغةِ الاستدعاءِ من الأعلى للأدنى إذا لم نَقُلْ إنها للوجوب، فقارنَها تهديدٌ أو وعيدٌ علىٍ التركِ، صارت أمراً موجباً بعد أن لم تكن موجبةً، وما لا يكونُ قرينةً، مثلُ لفظةِ: افعلْ، إذا صَدَرَتْ عن الدونِ للأعلى قيلَ: سؤالٌ ورغبةٌ، واذا وُجِدتْ من النَّاهي الزَّاجرِ عن الفِعلِ قيلِ: تهديدٌ، ولا يقال: إن الصيغةَ خَرجَتَ عن الأمرِ بقرينةٍ دونَ رتبةِ القائل عن الأمرِ إلى السؤالِ والرغبة، ولا خرجتْ عن الأمرِ بالوعيدِ إلى التَهديدِ، بل هي موضوعةٌ في كلُّ محل حقيقة لمَا وُضِعَتْ لهُ، فهي من الدّونِ حقيقةُ سؤال، ومن المُتَوَعدِ حقيقةُ تهديدٍ، ومن

الأعلى للأدنى أمرٌ، وهذا مسموعُنا من أئمةِ الأصولِ واللغةِ وأهلِ العربية المُعْتَدِّ بأقوالِهم، ومفهومنا مِن الكتب المُعَوَّلِ عليها، فلا نُصْغي إلى قولِ من يقولُ: إنَّ الصيغةَ مشتركةٌ. فهذا افتئاتٌ على اللغةِ وخطأ. ولقد بالغ بعضُ مشايخنا، فقال: مَنْ زَعَمَ أن قولَ القائِل: افعلْ، صيغةٌ متردِّدةٌ بيْن الأمرِ، والتَّهديدِ، والإيجابِ، والندب، والرغبةِ، والسؤالِ، بمثابةِ مَنْ قال: إن قولَ القائل: يا عفيفُ بنَ العفيفةِ، يا كريمُ بن الكريمِ، موضوعٌ للشتمِ والمدحِ، من حيثُ أنَّ نفسَ الصيغةِ تَرِدُ في التعريضِ للشتمِ. فهذا فصل يكفي مؤنةً كثيرةً مِن توهماتِ المتفقهةِ، وُيزيلُ شُبُهَاتٍ قد تَخَمرَتْ عندهم. وهذا الذي ذكرهُ هذا الشيخُ دافعٌ للشُّبهةِ، لأن غايةَ ما يُوهمهم أن الصيغةَ مشتركة، إن الحروفَ واحدةٌ، وبنيةُ افعلْ بنيةٌ واحدةٌ، وإذا سُمِعَتْ مِن وراءِ حجاب لم يُعقلْ ما المُرادُ بها، وهل القائلُ لها مهدِد أو آمرٌ أو نادبٌ أوسائل؟ فيُقالُ: إذا رَجَعْتَ إلى أصلِ الوَضْعِ في قولِ القائل: افعلْ، فإنكَ تَعْقِلُ المرادَ به مِن لفظهِ، وأنَّه مُستدعٍ للفعل مثلُ سماعِك قولَ القائلِ: يا عفيفُ ويا كريمُ، فإنهُ موضوعٌ للمدحِ، واستعمالُ مثلِ الصيغة في محلٍّ آخرَ، لا يُقالُ إنَها تلك اخرِجَتْ إلى ضِدَّها، بل تلك موضوعة في حالِ الخصومةِ للذم، وفي حالِ الواعدِ للتهديدِ والزجرِ، فأمَّا أنْ تكونَ اللفظةُ الواحدة أمراً وزجراً، فمعاذَ الله.

- فصل: صيغة الأمر الصريحة: أمرتك أن تفعل كذا

فصل وصيغةُ الأمرِ الصريحةُ: أمرتُكَ أن تفعلَ كَذا، أو افعلْ فقد أمرتُك. وأمَّا الصريحةُ في الإِيجاب بإجماع النَّاس، قولُ الأعلى للأدني: أوجبتُ عليكَ، أو افعلْ فقدَ أوجبتُ عليكَ أَن تفعلَ. وأصْرَحُ صيغةٍ في النَّدب، افعلْ فقد ندبتُك، أو ندبتُك إلى كذا وكذا، أو أستحبُ لكَ أنْ تفعَلَ كذا. فهذهِ ألفاط لا يقعُ الخِلافُ فيها لأنَّها صريحة فيما وُضِعَتْ لهُ. فصل فأمَّا إذا وَرَدَتْ هذهِ صيغةُ افعلْ مِن جهةِ المُمَاثِل، لا مِن أعلى فتكَونُ أمراً، ولا من أدنى فتكون سؤالاً، فإلى أيِّهما تُمَيَّلُ إنْ مُيِّلَتْ؟ وهل لها اسم يخصُها إن لم تُمَيَّلْ؟ قالَ بعض أهلِ العلمِ مِن أصحاب الأشعري: تكونُ أمراً. وقال بعضُ مَن رأينا مِن الأصوليين على مذهب المعتزلةِ: الطلب والاقتضاء والاستدعاءُ أعمُ مِن قولِنا: أمرٌ وسؤالٌ، فإذا عَدِمَتَا الرُّتبةَ وتساويا فيها، فزعنا إلى الاسمِ الأعم فقلنا: إنَّ قولَ المماثل لمماثلهِ: افعل، طلبٌ واقتضاءٌ، فلا يتخصَّصُ بالسؤالِ ولا بالأمرِ، وهذا قالة اجتهاداً، وهو قولٌ حسنٌ. وسمعتُ بعضَ مَن يتكلم في أصولِ الفقه يقول: إنَ نفسَ الاقتضاءِ مِن المماثِل، يجعل أدونَهما، السائلَ. فقيلَ لهُ: لو كان هذا صحيحاً، لكانت رتبة السيَّدِ تنحطُّ باستدعائهِ مِن عبدِه، فيصير مساوياً،

ويخرجُ بدنوِ رُتْبَتهِ عن كونه آمراً. واعتد القائلُ الأولُ من أصحابِ الأشعري في أنه أمرٌ، بقولِه تعالى إخباراً عن فرعونَ أنه قالَ لخاصتهِ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)} [الشعراء: 35] وبقول الشاعر: أمرتُكَ أمراً جازماً فعصيتني. وعمرو ليس بأعلى من معاوية الذي قال له: أمرتك، وبقول الشاعر: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فسمَّي نفسَه: اَمراً، وليس يخلو مِن أنْ يكون دُوناً أو مُمَاثِلاً. واعتلَّ القائلُ الثاني، بأنَّ الكل أجمعوا على [عدم وجودها] في نفس الآمرِ المخلوقِ، لأن إرادتَه مُحْدثة فيه، وفي حق الخالق سبحانه لا بُد من تقدم إرادةِ مُحْدثةٍ غيرِ محلٍ. والتحقيقُ مِن مذهبِ أصحابِنا: أنَّ الصيغةَ بمجرَّدِها إذا صَدَرَتْ عن الرَبِّ سبحانه -من لَدُنْهُ سبحانَه- أو بواسطةٍ، فهي أمرٌ، وإذا صَدَرَتْ عن المُحدثِ فكان على صفةِ التحصيلِ للنُّطقِ، ومن أهل التَعويلِ على كلامِه، فهي أمرٌ ولا تُعتبر سوى ذلك. فهذهِ تصفيةُ المذاهبِ عن أكدارِ الحكاياتِ وتطويلِ العباراتِ وإغماضِها، مِمَّنْ قصَدَ تضليلَ المبتدىء، أو تعظيمَ هذا الشَّأنِ في نفسِه، أو عَزُبتْ عنه العبارات السَّهلةُ المأخذِ الواضحةُ المتلقى، والله الموفقُ لصوابِ القولِ وإصابةِ الحقِّ بالمُعْتقدِ.

- فصل في الدلالة على أنه ليس الأمر إرادة

فصل والدلالةُ على أنه ليس الأمرُ إرادةً (¬1)، ولا يفتقرُ إلى صدورهِ عن إرادةٍ، خِلافاً لأهلِ الاعتزالِ، إذ قد قدمْنَا الدلالةَ على أنهُ ليس بمعنى في النَفسِ، خلافاً للأشاعرةِ (¬2)، قولُه سبحانه إخباراً عن إبراهيمَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وهذا يدُلُّ على أن المَنَامَ تضمن أمراً لإبراهيمَ بذبحِ إسحاقَ أو إسماعيلَ (¬3)، والمنامُ وحْيٌ في حق الأنبياءِ، ¬

_ (¬1) مقصوده: الدلالةُ على أنه يكون أمراً لصيغته لا لإرادة الأمر، وقد ذكر هذه الأدلة أيضاً أبو يعلى في "العدة" 1/ 216 - 222 والكلوذاني في "التمهيد" 1/ 134 - 137. (¬2) أي خلافاً للأشاعرة الذين قالوا ليسَ للأمرِ صيغةٌ في اللغة، وإنما صيغةُ "افعل" معنى قائمٌ في الذات، مشتركة بين الأمرِ وغيره، يحمل على أحدهما بقبرينة. انظر"البرهان"1/ 212، و"المستصفى"1/ 413، و" المحصول" 2/ 19. (¬3) اختلف في الذبيح من كان؟ إسماعِل، أو اسحاق عليهما السلام فرويَ عن ابن عباس، وابن عمر وعبد الله بن سلام وأبي هريرة رضوان الله عليهم، أنَّ الذبيحَ كان إسماعيلَ عليه السلام. كما ذهب الى ذلك من التابعين سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والشعبي ويوسف بن مهران، وأبو الطفيل. ورويَ عن ابن مسعود والعباس بن عبد المطلب وعليٍّ وضي الله عنهم، أنَّ الذبيحَ كان إسحاق وهو ما رجحه ابن جرير في تفسيره 12/ 86. والذي قطع به ابن كثير، وحشدَ كثيراً من النصوص والآثار لتأييده، أن الذبيح كان إسماعيل عليه الصلاة والسلام. "تفسير ابن كثير" 7/ 27 - 30. وانظر هذا الاختلاف أيضاً في "الدر المنثور" للسيوطي 7/ 105 - 107.

ولذلك صمَّمَ على العلمِ به، وإزهاقُ النفس لا يقدِمُ عليه نبيٌ إلا بوحيٍ، وقد بأنَ بالنَّسخِ أنَّهُ لم يُرِدِ الذبحَ، فهذا أمرٌ لم يصدرْ عن إرادةٍ (¬1). فصل يجمعُ الأسئلةَ على هذهِ الآيةِ، وهي عُمْدَة لأهلِ السنَةِ في هذهِ المسألةِ وفي أصولَ الدياناتِ: فمنها قولُهم: إنها لا تُعطي صيغةَ الأمرِ مِن قولِ إبراهيمَ، ولا ولدِه، لأنَ قولَ إبراهيمَ: {إِنِّي أَرَى}، ولم يقلْ: رأيتُ أنِّي أذبحُك. ولم يقلْ: أمِرتُ أنْ أذبحَك، وقولُ الذبيحِ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، ولم يَقُلْ: ما أُمرتَ، و {تُؤْمَرُ} لفظُ الاستقبالِ. ومنها: أنهُ لو كانَ قد أمِرَ، لكان الأمرُ بمقدماتِ الذبح، من أخْذِ المُدْيَةِ، والتَلِّ للجبين، وأُبهِمَتْ عاقبةُ ذلك عليه، فكان بلاءً مبيناً، حيثُ شهِدَتْ الأمَارات المأمورُ بها بأنْ سيكون الأمرُ بالذبحِ بعد الأمرِ بالمقدّماتِ. ومنها أن قالوا: قد رُوِي أنَّهُ فَعَلَ الذبحَ، لكنْ كانَ إبراهيمُ كُلما قَطَعَ جُزءاً أو عِرقاً التَحَمَ بأمرِ اللهِ، وُيوضِّح هذا أنَه سُمِّيَ الولدُ ذبيحاً، وحقيقةُ الذبيحِ مَنْ حَلَّ الذبحُ فيه، كما أن حقيقةَ اسم قتيل، مَن حَل القتلُ فيه. قالوا: ويُوضِّحُ هذا قولُه سبحانه: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105}، ولا يكونُ مُصَدِّقاً إلا بإيقاعِ الذبحِ. ¬

_ (¬1) أمر إبراهيم بذبح ابنه صدر عن إرادة ابتلاءٍ لإبراهيم وابنِه عليهما السلام. انظر "تفسير القرطبي" 15/ 102.

فصل في جَمْعِ الأجوبةِ عَن الأسئلةِ على هذهِ الآيةِ أما قولُهم: إنَها لا تعطي صيغةَ الأمر، فإنَ قولَه: {أَنِّي أَذْبَحُكَ} ذَكرَهُ بلفظِ المستقبلِ، لأنً الفعلَ مستقبل الأمرِ، ولَو لم يكنْ قد قدم على ذِكْرِ الذَبحِ أمْر اللهِ لة بالذبحِ، لَما قالَ الابنُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، فإنَ رؤيةَ الفعلِ لا تعطي الأمرَ. وقولُه: {مَا تُؤْمَرُ}، ولم يقلْ: ما أمِرْتَ، قد يَجيء الماضي، قال الله سُبحانه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان: 41] والمراد به، اتخذوكَ هُزواً، وقالَ الشاعر (¬1): وإذَا تكون كريهةٌ أُدْعى لها ... وإذَا يُحاس الحَيْسُ يُدعى جُندَب والمرادُ به: إذا كانت كريهة [دُعيت]، وإذا حاسَ الحيسُ دُعيَ جُندَبُ. ويجوزُ أن يكونَ ذَكَرَهُ بلفظِ المستقبلِ بمعنى: افعلْ بما يُستدامُ من الأمرِ، فإن استدامَ ما أمِرتَ بهِ، فافعَلْ، كأنه قولُ مُترجّ من لطفِ الله أنه لا يُسْتَدام الأمر، فعَطَفَ على الدوامِ بالذِّكْرِ، وجَعَلَة شرطاً ¬

_ (¬1) اختلف في قائل هذا البيت، فقيلَ: هُني بن أحمر الكناني، وقيلَ: لزرافة الباهلي، وقيل: لصخرة بن ضمرة النهشلي. انظر: "ذيل الأمالي" (3/ 85)، و"حماسة البحتري" (ص 109) و"شرح أبياتِ مغني اللبيب" (7/ 257). و "خزانة الأدب" (2/ 38). والحيسُ: هو التمر يخلطُ بسمنٍ وأقطٍ، فيعجن شديداً، ثم يندر منه نواه. وأصل الحيس، هو الخلط.

للفعلِ، فقطعَ الله دوامَ الأمرِ بالنسخ، كما وَقَعَ لهُ من الرجاء. وأمَّا قولُهم: إنَّه أمرَ بالمقدِّمات، فلو أمِرَ بذلك لما كان تعجلَ لابنِه الترويعَ بمجرَّدِ الظنِّ بذكْر الذَّبح، لأنَه ليس من طِباعِ الآباءِ أنْ يُرَوعُوا الأبناءَ بمجردِ الظنون، ولا يُنَفرُهُ أيضاً بذكر عاقبةٍ لا يعلم حقيقتَها عن أمرٍ إذا انفردَ كانَ أسهلَ، ولا غَرَضَ في ذلك، لأنَّه إذا بُلي بالأصعب أوجبَ الحالُ التسهيلَ، فأمَّا أنْ يُبلى بالأسهلِ فيواجهُه بالأصعب، فلَيس هذا حكمَ العادةِ ولا الشرع، ولهذا نَدَبَتْ الشرائعُ إلى التسَهيلِ وتركِ التنفيرِ، ولأن الله سبحانه سَماهُ بلاءً مبيناً، وتأكيدُ البلاءِ يدلُّ على تأكيدِ المأمورِ به، فلو كانَ بالأمارةِ ما كان بلاءً، فإذا قالَ: المبين، دلَّ على أنه تعيَّنَ الذبحُ، لا بمقدماتٍ وأماراتٍ. وقولُهم: كتَمَ وأبهمَ العاقبةَ. فلو كان كذلك لما صَعُبَ الأمرُ بكشفِها لابنهِ، لأنه إذا كانَ الله سبحانه ما كَشَفَها لُطْفاً بإبراهيمَ، كيف يُتَصورُ أنْ يَكْشِفَها إبراهيمُ بمجرَّدِ الظن تصعيباً على إسماعيل. وأمَّا قولُهم: إنهُ رُويَ أنه ذُبِحَ والتحمَ، فما أبعدَه!! مع كونِ الله سبحانَه أخبرَ بالفداءِ، وهل يكونُ الفداءُ إلا ما قامَ مقامَ المكروهِ دافعاً لهُ، ومانعاً منه؟ فإذا كانَ إسماعيلُ أو إسحاقُ قد ذُبِحَ، والكبشُ ذُبِحَ أيضاً، فلِمَ اختُصَّ الكبشُ بأنْ يكونَ فداءً؟ قالوا: كان فداءً عن تَعَقب الذَبح موته، فجُعِلَ الكبشُ ذبيحاً تعقَبَ ذبحَه الموتُ، وإسماعيلُ ذُبِحَ ذبحاً لم يتعقبْه الموتُ. قيل: معظمُ البلاءِ ذوقُ الحديدِ، ومعالجة الآلام، فإذا وقعَ، فلا فِداءَ، بل هي مساواةٌ، ولو ذُبِحَ الكبش ثم أحياهُ، لمَا خَرَجَ عن أنْ

يكونَ فِداءً، حيثُ لم يَقعِ الذبحُ بولدِ إبراهيمَ، وحيثُ وقَعَ فلا فداءَ. وأما قولُه سبحانه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] وتسميةُ ولده ذبيحاً، فلأن التصديقَ ليس يقفُ على الفعلِ، بل المُسارعةُ بالطاعةِ مع الاعتقادِ، والعزمُ: تصديق، ولهذا لا يقفُ اسمُ الإيمانِ على امتثالِ الأوامِر الشَرعيةِ، بل يَسبقُ أفعالَ العباداتِ اسمُ الإيمانِ بمجرَّدِ الالتزام. وأمَّا تسميتُهُ ذبيحاً، لأنه أُمِرَ بذبحِه وأطاعَ، وبَذَلَ نفسَه للذبحِ. قالَ سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] يعني: يبذلونها، فسمَّي البذلَ إعطاءً، كذلكَ سمَّى بَاذِلَ النَّفسِ للذبحِ ذبيحاً، وكما سمَّى عيسى قولًا (¬1)، وهو توسُّعٌ في موضعِ ثناءٍ ومدحةِ. على أنَّ الاجتماعَ بيننا وبينهم على أنَ الاسمَ لا يكونُ حقيقةً إلا حالَ الذَّبح، وما دامَ الذبحُ، ولا وقعَتْ التًسميةُ عليه إلا بعد الذَّبحِ، والتَسميةُ لِماَ كانَ من الذبحِ مجاز، كما أن الاسمَ للأمرِ بالذبحِ مجازٌ، فلا فرقَ بيننا في القولِ بالمجازِ هاهنا. ولأنَّ الآيةَ تَضَمَّنتْ بيانَ مِدْحَةِ إبراهيمَ في تصميمه وعزمهِ، وإسماعيلَ في تسليمهِ وصبرِه، وحقيقةُ الذَّبحِ تتضمنُ بيانَ الإِعجازِ والقدرةِ وكمالَ المدحةِ، فكيف تكتمُ مثلُ هذهِ الفضائلِ العظيمة، والمعجزاتِ الباهرةِ، ويُذكرُ التَلُّ للجبينِ، وهو لا يُنسبُ إلى حقيقةِ ¬

_ (¬1) يشير إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)} [مريم: 34].

- فصل في الاستدلالات

الذَّبح، وما يتضمنُه من عِظمِ الصَّبْرِ، وما زالَ الله سبحانَه يقص فضائلَ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم على الاستيفاءِ، تعظيماً لشأنِهم وتخجيلاً لِمَن قصرَ عن حالِهم، كبني إسرائيلَ شدَّدوا في أمرِ اللهِ لهم بذبحِ بقرةٍ ذلك التشديدَ، وهذا الكريمُ أسرَعَ إلى طاعةِ اللهِ في هذا الخَطْب الجسيمَ. فصل في الاستدلالات قال المحققون مِن الفقهاءِ: أجمعنا أنَّ القائلَ: أُريدُ أنْ تقومَ أو تدخلَ الدَّارَ، يحسنُ في جوابه: صدقتَ أو كذبتَ، وقولُه: قُمْ وادخلْ الدارَ، يكونُ جوابهُ: أطعتُ أو عَصيتُ، ومعلوم أنَّهُ لا يُستدلُ على طبعِ الكلمةِ وجوهرها وخَصيصَتها إلا بمتعلقاتها وأجوبتِها، ومعلوم أنَ الأمرَ ما أطيعَ أو عُصِيَ، والخبرَ ما صُدقَ أو كُذِّبَ، فلما كانَ التصريحُ بذكرِ الِإرادةِ، يُعطي الِإخبارَ بدليلِ الجواب الليِّقِ بالِإخبارِ، والاستدعاءُ من غيرِ ذكرِ الإرادة يُعطي الأمرَ, بدليلِ الجوابِ بالائتمارِ، عُلِمَ أنَّ الأمرَ ليس بإرادةٍ، ولا من (¬1) ضرورته صدرورُه عن إرادةٍ. ومما استدلوا به أنْ قالوا: لو كانَ الأمرُ هوَ الإرادةَ للمأمورِ به، أو يقتضي الإرادةَ، لمَا حَسُنَ أنْ يقولَ الماكر: أمرتُكَ ولم أرِدْ، ويقولَ القائلُ: أردتُ ولم آمُر، كما لا يحسُن أنْ يقولَ: أمرتُ ولم آمرْ، ولا أردتُ ولم أرِدْ، لما كانا نقيضين. ¬

_ (¬1) في الأصل. "ما".

- فصل في جمع الأسئلة على هذه الأدلة

ومما استدلوا به: أن الأمرَ لو كانَ هو الإرادةَ، أو كانَ لا يصدرُ إلا عن إرادةٍ، لما عَلِمَ الَآمر آمراً، إلا مَن عَلِمه مُريداً، فلما رأينا العربَ تُسمي المُستدعي الفعلَ مِن العبدِ، آمراً، وإن لم تعلمْه مُريداً، عُلِمَ أنَهُ لا يقتضي الإِرادةَ، ولا هو أرادةٌ. واستدل بعضُهم لهذا المذهبِ أيضاً، بأن جميعَ ما يصدُرُ من الحيِّ مِن الأفعالِ، من قيامٍ وقعودٍ، وركوعٍ وسجودٍ، وأكلٍ وشربٍ، لا يكونُ فعلًا لإِرادةِ الفاعلِ، والكلامُ عند المعتزلةِ فِعلُ المتكلمِ، فإذا لم يكن القيامُ قياماً، والمشيُ مشياً؛ لإِرادةِ القائم والماشي، كذلك يجبُ أنْ يكونَ الكلامُ. فإنْ مانعُوا هذا أحدثوا لغةً لا تعرفُها العربُ ولا أهلُ العُرفِ على اختلافِ لغاتِهم. فصل في جمعِ الأسئلةِ على هذهِ الأدلةِ التي وجدتُها في الكتب، وسمعتُها في النَّظرِ: قالوا: إن جوابَ: "أريدُ مِنكَ" جوابُ: افعلْ، فأمَّا إذا لم يَقُلْ: مِنكَ، لكنه قالَ: أريدُ، ولم يقلْ: مِنكَ، فهو إخبارٌ عن إرادةٍ لا معنى. فوِزَانُه أن يقولَ: يقومُ لي، أو يدخلُ لأجلي قائمٌ أو داخلٌ، ولا بقولُ: لتقمْ أنتَ، ولا لتدخلْ أنتَ، فإنَّه إذا لم يُسَم القائمَ والداخلَ، ولا عيَّنه، فلا يَحْسُنُ أنْ يقولَ واحدٌ: السَّمْعُ والطاعةُ، أو: العصيانُ والمخالفةُ. قالُوا: وأمَّا قولُ الماكِر: أمَرْتُ وَلم أرِدْ، فإنَّما معناهُ: ماكَرْتُ ولَمْ

آمُرْ، وأتيتُ بلفظِ الأمرِ ويصيغتهِ، وما كان استدعائي صادقاً، فالماكرُ بالصيغةِ، خارج عن الآمرِ إلى الماكرِ كخروجهِ بها عَنْ الأمرِ إلى التهديدِ، وصيغةُ الأمرِ في حقِّ الماكرِ، كصيغتِها في حق المستهزىءِ والساخِر. قالوا: وأما قولُكم: يجبُ أن لا يعلمه آمراً إلا مَن عَلِمَه مُريداً، فهو كذلك من طريقِ الاستدلالِ، فكلُ من علمه آمراً علمَ أنه مُريدٌ، حيثُ كانَ حكماءُ العرب الواضعينَ لهذهِ الصيغةِ، إنما وضعوها ترجُماناً عن دواعي تعرضُ، وَإراداتٍ تحدُثُ، فصاغوا صيغةً تدلُ السامعَ المستدعى منه على إرادتِهم لما استدعوه. قالوا: وأمَّا هيئاتُ الإنسانِ وأفعالُه التي يُحدثُها، مِن قيامٍ ومشيٍ وحركةٍ، فإنَّما لم تَدل على إرادةِ مَن قامَتْ به تلكَ الصفاتُ، وصدرت عنهُ تلكَ الأفعالُ، لأنها صُورٌ تستقلُ بنفوسِها وبالفاعلِ لها، سواء فَعلَها ساهياً أو ذاهلًا، فهي فعل، فأمَّا صيغةُ الأمرِ فإنها حقيقةُ استدعاءٍ لفعلٍ، من جهةِ منَ استُدعِيتْ منه، ولا يتحققُ استدعاء من غيرِ مُريدٍ لما استدعاه. فصل في أجوبةِ الأسئلةِ. أما فرقهم بين أريدُ، وأريدُ منكَ، لا وجهَ له، لأنه لو كانت الإرادةُ أمراً، لما كان قولهُ: أريدُ خبراً، كما لا يكونُ ما يوازيها ويساويها خبراً، والذي يساويها أمرآ، ويوازنُ: أردتُ وأمرتُ. ولو قال: أردتُ الماءَ، كان جوابُه من حيث اللغة: صدقتَ أو

- فصل في جمع شبه المخالفين

كذبتَ، ولو قال: أمرتُ بالماءِ، لم يكنْ جوابهُ: صدقتَ أو كذبتَ. وأما المكرُ، فلا يكونُ مستحيلًا، ولا خارجاً عن الأمرِ، لأنه لم ينعدمْ سوى العلمِ بعاقبةِ الأمرِ، هل تحصُلُ من المأمورِ استجابةً، أو لا تحصلُ؟ والآمرُ ممتحن لحالهِ بأمرِه إيَّاه، ولو عُدمَ الأمرُ لأجلِ الجهالةِ بالائتمارِ، لوجبَ أنْ يكونَ من شرطِ الأمرِ علم الآمرِ بطاعةِ المأمورِ، ولا أحدٌ شرطَ ذلك. وأما قولُهم: أنَّ أفعالَ الإنسان وهيئاته تقعُ صورةً، ويصح وجودها مع الذهول، وهذا الأمرُ يحتاجُ إلى استدعاءٍ ولا بُدٌّ من داعٍ وإرادةٍ، فليسَ بكلامٍ صحيح، لأن كلُّ واحدٍ، من صورةِ الفعل، وصيغة اللفظ، لا بُدَّ له من إرادةٍ للفظِ والهيئة، إذ ما يقعُ بغير إرادةٍ له تخصُّه يكَون عبثاً، ومن حيثُ كونُها صيغةً، وكونُ القيام حالةً، وصورةً لا يحتاجُ إلى إرادةٍ، بل قد يبقى من السَّاهين والذَّاهلين. فصل في جَمْعِ شُبَه المُخالفين فيها قالوا: ترِدُ هذه الصيغةُ للإيجابِ، وتردُ للنَّدب، وتردُ للتحدّي وللتعجيز، وتردُ للتهديد، وتردُ للتكوين، فلا يفصْلُ الأمرُ بها عما ليس بأمرٍ الأ بالإرادةِ، فعلِمنا أنَّ الإرادةَ شرط في كون هذه الصيغة أمراً، وصارت كالأسماءِ المشتركة. قالوا: ولأله لا فرقَ عند حكماءِ العرب بَيْنَ قولِ القائل لعبدِه: افعلْ. وبَيْنَ قولِه: أريدُ أنْ تفعلَ.

قالوا: ولأنَّه لو بَلَغَ اعتبارُ الرُّتبةِ في الحدِّ، فقالوا: استدعاءُ الأعلى، وذكروا المُستدعى منه بالأدنى، ومتى كان القولُ من المُماثل أمراً، سقَطَتْ الرتبةُ، وصار ذِكْرُ الرتبة في الحد حشواً، والحدُّ لا يحتملُ الحشوَ. وإذا بطَلَ هذا لم يَبْقَ إلا أنْ يُقْتَصَرَ في حقِّ المماثل على الاسم الأعمِّ، فيُقالُ: اقتضى وطَلَبَ. قال قائل: وإذا تأملتَ القرآنَ وجَدْتَ تَنَكبَ الأمرِ في كلِّ محلٍّ تَدَنَّتْ فيه الرُّتبةُ، مثلُ قولِه عن بلقيسَ: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)} [النمل: 32]، وتنكَّبَ تأمرون، وتَنَكَّبَ مُروني، فقالت: "أفتوني"، و"تشهدون"، لما كانتْ هي الملكةَ، وقالوا: {والأَمْرُ إِليْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تأْمُرِيْنَ} [النمل: 33]. وقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} [يوسف: 46] وقال في حق الشَّيطان: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ...} [إبراهيم: 22] إلى قوله: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]، قيل له: فقد قال سبحانه عن إبليس، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، وسؤى بَيْنَ الأنبياءِ والأمَمِ في لفظةِ الأمرِ، فقال: أتامرُونَي أنْ كفرَ بالله وأشركَ به ما ليس لي به علمٌ (¬1). قال: قد يَرد ذلك مجازاً، وإلا فالحقيقةُ ما ذكرْنَا، لأنَّه لا خِلافَ ¬

_ (¬1) هذا ما ورد في الأصل، وليس في القرآن الكريم آيةٌ بهذا اللفظ، وإنما هي {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [غافر: 42]، ولعل المصَّنف قصد قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} [الزمر: 64].

بيْنَ أئِمةِ (¬1) أهلَ اللُّغة وغيرِهم، أنَّه لا يجوزُ أنَّ يقَع على الدَّاعي لله سبحانه بقوله: اغفرْ لي، وهَبْ لي، ولا تَخْذُلْنِي، أنَّه آمر الله، ولا ناهٍ له، وليس ذلك إلا لدُنُو رُتبةِ الدَّاعي، وعُلُوِّ رُتبةِ الله سبحانَه على جميع خلقِه، والنُّصرةُ لإسقاطِ الرُّتبةِ في الصيغة هدمٌ للحدِّ الذي أجمعوا عليه، أعني أهلَ الصنعةِ القائلينَ بأنَّ امرَ الأمرِ، صيغةٌ تتضمنُ استدعاءَ الفعل بالقول من الأعلى للأدنى، وكفى بذلك دَليلاً على مَن لم يَعتبر الرُّتبةَ، ولا أحدَ جَوَّزَ للابن والعبد أنْ يقولا: أمرْتُ أبي وسيّدي، بل سألناهُما ورَغِبْنا إليهما، ولا استحسنوا في اللغةِ قولَ السَّيد والأب: سألتُ عبدي وابني، بل أمرتُهما. وأما قولُ فِرعونَ (¬2): فإِنَهم بالحكمةِ والرَّأي والحاجةِ منه إليهم، جعلهم بهذه الخصيصة أَعلى، والعلو يختلفُ، وكذلك عمرو (¬3) لَمَّا كان أَعلى بِبَيانِ (¬4) الرَّأي، سُمِّيَ طلبُه فيه أمراً، فالعلو فنونٌ، وليس كله السلطنة. ¬

_ (¬1) في الأصل: (الأُمة). (¬2) يقصدُ قول فرعون: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)} [الأعراف: 110]. (¬3) يريدُ قول عمرو بن العاص المتقدم لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... وكانَ من الوفيق قتل ابن هاشم (¬4) في الأصل: "بأن".

- فصل في تحقيق الأمر على قول من يقول: إن الكتابة كلام حقيقة

فصل في تحقيق الأمرِ على قَولِ مَن يقول: إن الكتابةَ كلام حقيقةً. اعلمْ أنَّ الظاهرَ مِن مَذْهب صاحبنا وأصحابِه أن الكتابةَ كالتلاوة في أصول الدين، وأنَها كالكلاَم في الفروع، فمنْ ذلك قولُهم: إنَ كاتبَ الطلاق كالمَتَلَفظِ به، وإنه لا يفتقرُ إلى النِّيَّه، بل كتابةُ الصريح كالنطقِ بالصريحِ، فلا يتحققُ منهم حد الأمرِ بأنه استدعاءُ الفعل بالقولِ، لأن الكَتْبَ ليس بقول، وإنما هو تعبير عن القولِ ودلالةَ عليه. وقالوا في تحديدِ الكلامِ: هو الحروفُ والأصواتُ المَسْموعةُ، وليس هذا في الكتابةِ، إنما هي حروفٌ مسطورةٌ، فهو في الصُّحُفِ والمصاحفِ حروفٌ بغير أصواتٍ، وهي في الصدورِ لا حروفَ ولا أصواتَ، إذ ليس بمسموع ولا مَرْئي، وإنما هو ثبات في القلب، وهو المُسَمَّى بالحفظِ، وهو دَوامُ الذِّكْرِ له، وليس يُمكنُ أَنْ يقالَ: اَستدعاءٌ بالمفهوم، لأن الحد يجبُ انْ يُملى فيه بالأخصِّ، ولأن قولنَا بالمفهوم باطلٌ، لأنَّ الإشارةَ استدعاء بالمفهوم، وليست أمراً، ولا من أقسام الكلام، ولا قَسم أحد الكتابةَ والإشَارةَ مِن أقسام الكلام، وإنماَ استثناها اللهُ سبحانه في حق زكريا لأنَها تُعَبِّر عن اَلكلام (¬1)، فهي شبيهةٌ به في المُرادِ بها، فتحققَ مِن هذا أنَّ الأمرَ حقيقة لاَ ينطلقُ الأ إلى الحرفِ والصوت، وهي صيغة: افعلْ، دُونَ كَتْبها المُعَبر به عنها، ¬

_ (¬1) يشيرُ بذلك الى قول الله تعالى لنبيه زكريا عليه السلام: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41].

- فصل: الأمر ليس بإرادة

ودون الإشارة المفهومةِ النائبةِ مَنَابَها. وإنْ سميت خَبَراً وأَمْراً، فمجازاً، مثل قولهم: تُخَبرني العينانُ مَا القلبُ كاتُم، وفي وجْهِ فُلانٍ كلام، وقولُهم: في نفسِه كلام. فصل والأمرُ ليس بإرادةٍ، ولا من شرطِ كونِ الصيغةِ أمْراً صُدورها عن إرادةِ المعنى المأمورِ به. وقد اختلفَ أهلُ الاعتزالِ: فقال بعضُهم: لا يكونُ أمراً إلا بإرادةٍ. وقال بعضُهم: بثلاثِ إرادات: إرادة لإحداثِ الصيغةِ، والثانية: إرادة للمأمورِ به، والثالثة: إرادة كونهِ أمراً لِمَنْ هو آمِرٌ له، فقد اجتمعَ أهلُ الاعتزالِ والأشاعرة على أن هذه الصيغةَ لا بُدَّ لها من مُسْتَنَدٍ، فقال هؤلاء: مُستَنَدُها معنى في النَفْس هو الأمر، والصيغةُ عبارةٌ عنه ودلالة عليه، وقال هؤلاء: لا بُدَّ من إرادةَ الآمْرِ أمراً، إلا لحُسْنِ المأمورِ به، ولا النهي إلا لقُبحِ المنهي (عنه) (¬1). فصلٌ في الأَجوبةِ والجوابُ: أن حُسْنَ مَا أَمَرَ الله به سبحانَه، وقُبْحَ مَا نَهى عنه إنَّما عُلِمَ بدلالةٍ هى الإجماعُ، ومَا استند إليه الِإجماعُ. فأمّا أَنْ يكونَ لأجْلِ كونهِ أمراً أو نَهياً فلا، ولو جازَ أَنْ يقال: إن ¬

_ (¬1) هكذا الأصل، وربما كان هناك سقط أو تحريف، ولعل صواب العبارة: "ولا يكون الأمر أمراً إلا لحسن المأمور به ... " وهذا على قول الأشاعرة.

حُسْنَ المُستدعى المأمورِ به، وقُبْحَ المَنْهيِّ عنه كان كذلك لأجلِ الأمرِ والنَّهي، لكان القُبْحُ والحسنُ لأمرٍ يعودُ إلى الفعلِ والتَّركِ، وإِنْ صَدَرَ عن العقلاءِ، ولَمَّا كانَ القبحُ والحسنُ وراءَ الفعلِ، كذلك هما وراءَ الأمر والنَّهي، وتعلقُهم بالحكمةِ وبالِإضافةِ إلى الله تعلُقٌ بالقرينةِ الدَّالةِ على الحُسْنِ، وإلاَّ فمطلقُ الأَمرِ لا يقتضي إلاّ الاستدعاءَ مِن طريقٍ، وأدلةُ الشَرعِ دَلَّتْ على حُسنِ أمرِ الله سبحانه، وقُبْحِ بعضِ ما نَهى [عنه]. وأَمَّا قُبحُ المنهي عنه، فلا يجبُ، فإِنَّه قد نَهى الشَرعُ عن أشياءَ الأَولى تركُها، لا لقُبحِها، كالنهي عن القِران بَيْنَ التمرتين (¬1)، [وكَسَتْرِ البيت] (¬2) بالخِرقة، والجلوس في طريق المارَّة (¬3)، والشُّربِ من ثُلْمةِ الِإنَاءِ (¬4)، ¬

_ (¬1) يشيرُ بذلك إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه عنه ابن عمر أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل مع قوم من تمر فلا يقرن". أخرجه أحمد 2/ 44 و 46، والبخاري (2489) و (5446) ومسلم (2045)، والترمذي (1814) وأبو داود (3834) وابن حبان (5231) و (5232). مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم. (¬2) في الأصل: "كتبين الثيب" ولعل المثبت هو الصواب، وانظر "الإنصاف مع الشرح الكبير" 21/ 332. (¬3) في الأصل: "في المنارة"، ولعل المثبت هو الصواب. (¬4) وردَ ذلك من حديث أبي سعيد الخدري، قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية: أن يشرب من أفواهها. أخر جه البخاري (5625) و (5626)، ومسلم (2023) وأبو داود (3720)، والترمذي (1890). وفي رواية: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من ثُلْمَةِ القدح، وأن ينفخ في الشراب. أخرجه أحمد 3/ 80، وأبو داود (3722)، وابن حبان (5315).

- فصل في ذكر من تجب طاعته

والأكلِ في المُنْخُل (¬1)، وغيرِ ذلك، وليس ذلك قَبيحاً. فأَمَّا المقبحاتُ من المنْهيَّاتِ، فلأدلةٍ شرعية إنْ كانت منهيَّات الشرعِ، أو لأدلةٍ عُرفيةٍ إنْ كانت من حيثُ اللغةُ, فأمَّا بمجرَّدِ صيغةِ النَّهي فلا، وهذا خلطٌ منهم للكلامِ باللغةِ، كخلطِهم الأمرَ باقتضاءِ الِإرادةِ وإلا فأيْنَ التَّحسينُ والتَّقبيحُ من الصِّيغَ اللغوية؟ فصَل في ذِكرِ مَن تَجِبُ طاعتُه اعلمْ أَنَّ الواجبَ: هو الأمرُ اللآَزمُ الحتمُ، الذى سقَطَ على المُكلَّفِ سقوطاً لا يمكنهُ الخروجُ عنه، إلاّ ويُكْسِبهُ ذلك الذَّمَّ واسمَ العصيانِ. مأخوذٌ من قولهم: وجَبَ الحائطُ، ووَجبتِ الشَّمسُ، أيمما سقطا، {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] [أي: سقطت]. والذين تجبُ طاعتهُ هو اللهُ سبحانه، وَمن أَوجَبَ طاعتهُ مِنْ رُسُلِه صلواتُ الله عليهم، والأئمةِ وخلفاءِ الأئمةِ، والوالدين، وسادةِ العبيد الذين مَلكهم رِقَهم، وأَوجَبَ عليهم بحُكْمِ الشَرعِ طاعتَهم، فأمَّا مَنْ عدا ذلك مِن مُسَلطٍ بنفسه ومُستعْلٍ بوضعهِ الاستعلاءَ لا بحُكْمِ الشَّرعِ، فليس بواجبِ الطاعةِ، وإِنْ حَسنتْ متابعتهُ لاستعلائهِ والانقيادِ له، فذلك مصانعةٌ له، حراسةٌ للنَّفسِ بحكْمِ الشَرعِ أيضاً، أَلا ترى أنه لمَّا جاءَ الشَرعُ بالنَّهي عن طاعةِ الوالديْن، حَسنَ عصيانُهما، فقال سبحانَه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15]، وهذا ¬

_ (¬1) المنخل: ما يُنخَل به الشعير والقمح، وهو غير منهى عنه، وإنما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير منخلاً وأن الصحابة لم يكونوا ينخلون الشعير. انظر البخاري (5410) و (5413).

- فصل في الدلائل على ذلك

الفصل ينبني على أن الحَسَنَ ما حَسنَه الشرعُ، والقَبيحَ ما قَبحَة الشَّرعُ، خِلافاً للقَدَرِية. فصل في الدلائِل على ذلك وهو أن المخلوقين في الخَلْقِ والجنْسِ والبُنْيَةِ الحيوانيةِ المُحتاجةِ إلى القوام مِنَ الأغذيةِ سواء، وكذلكَ في تَسَلطِ المَضَارِّ عليهم، ولا فَضْل لبعضِهم على بعض يقتضي طاعةَ بعضِهم أمرَ بعض، وانَما رَتَبَهم الشرع مرأتبَ، فجعلَ مِنهم أنبياءَ، ورُسُلاً، وأئمةً، وخلفاءَ، ووالديْنَ، ومالِكينَ، وفَضلَ هؤلاءِ على مَنْ دُونَهم مِن المُرسَلِ إليهم، كالرَّعَايا والأولادِ والعبيدِ، وجَعَلَ لهم تَعَلُّقَ الرُّتبةِ الشرعيةِ الأمر الواجب، والطاعة اللازمة في مقابلتهِ، ولولا ذلك لم يكُ لأحدٍ على أحد طاعة، لان ما عدا هذه الرتَب التي عَظمها اللهُ سبحانه، وجَعلها سبباً لإيجابِ الطاعةِ، إِنما هي أوضَاع لا لحَقٍ، ولا فَضْلٍ علِمْنَاهُ سَبَباً للإيجابِ. فصل يجمعُ شبهَهُم قالوا: إنَ أهلَ اللُّغةِ قد حَكموا لِما وَضَعوهُ آمِراً برُتْبةٍ، وقابلُوه بطاعةٍ أو عصيانٍ، فسمَّوا الممتثل مطيعاً، والممتنعَ عاصياً، ولو كان الَامرُ لا يُشترط له الإرادةُ، لكان البهيمةُ إذا وجِدَ منه رَوْمُ (¬1) العلفِ ¬

_ (¬1) الرومُ: الطلب "لسان العرب" و"القاموس المحيط": (رَوْمُ).

والماءِ أنْ يكونَ آمراً، ولَوجَب أنْ يكونَ المستهزىء والهاذِي المُبَرْسَمُ (¬1) القاثلُ لعبيده: افعلوا واصنعوا، آمراً، ولَمَا لم يُسَم آمِراً، وما عُدِمَ سِوى ما أمرَ به؛ عُلِمَ أن الأمرَ مشروط بالإرادة. قالوا: ولان النهي لا يكونُ نهياً إلا بكراهةِ الناهي، والكراهةُ ضِد الإِرادةِ، فوجبَ أنَّ لا يكونَ الأمرُ إلا بإرادةٍ. قالوا: لا يخلوا أنْ تكونَ الصيغةُ أمراً لمجردِ كونِها ووجودِها، أو لقرينةٍ معها، ولا يجوزُ أنْ تكونَ بمجردِها، لأنها توجدُ مِن المُبَرْسَمِ إلمَصْروع والنائم والطفل، وليست امراً، ولا يجوزُ أنَّ تكونَ لوجودِ قرينةٍ معهاَ في الجُملةِ، لأنَ مِن القرائِن ما يخرجُ به عن كونهِ أمراً، وهو التهديدُ والتعجيزُ، مثلُ قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38]، {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} [الإسراء: 50]، لم يبقَ إلأ أنْ يكونَ لقرينةٍ تَصْلُحُ لجعلِها أمْراً، وليس إلا الِإرادةَ. وإن قلتم: إِنها إِنما تعتبرُ أنْ تَرِدَ مِن عاقل، فذلك يُعْرَضُ ويحْرَسُ بالإِرادةِ، لأنَّه ليس يُرادُ العقلُ، ولا يُشترطُ إلا ليرِدَ الأمرُ عن إرادةِ الآمرِ. قالوا: ولأنها متى لم تصدرْ عن إرادةٍ، قيل فيمَنْ صَدَرَتْ عنه: إنه ساهٍ أو ذاهل أو هازل أو ماكر، ولا يُسمَى آمراً، كالفعل إذا صَدَرَ مِن غيرِ مُريدٍ لِمَا فَعَلَه كان عَبَثاً، وكان مَن صَدَرَ عنه عابثاً، قال: وهل ¬

_ (¬1) المُبَرسَم: هو من أصابته علَّةُ البِرسام، وهي علَّةٌ يُهذى فيها. "لسان العرب" و"القاموس المحيط" مادة (برسم).

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

خَرَجَتْ لفظةُ افعلْ مِن المُهَددِ والمُعَجِّزِعن كونِها أمْراً، إَلا لعدم إرادةِ مَنْ صدَرَت عنه! قالوا: اللُّغةُ تُوجبُ أنْ نَعْرِفَ بظاهرِ خطاب الله سبحانه مرادَه فيما يستدعيه، والحِكْمَةُ تُوجبُ أنْ لا يأمرَ إِلا بماَ يُريدُه، وما ذهبتُم إليه يُخالفُ اللُّغةَ والحِكمةَ، وإِنْ جَازَ دَعْوى ذلك، فهلّا جوزتُم أنْ يكونَ يؤيدُ بالاستدعاءِ التجنُّبَ، فَيَشْتَبِهُ الأمرُ المُطْلَقُ بالتهدِيدِ. فصل يجمعُ الأجوبةَ عن شُبَهِهم. أمَّا القول بأنها تَرِدُ متردِّدةً، فليس بصحيح، بل هي موضوعة للاستدعاءِ والطلب والاقتضاءِ لا غير، فإذا ورَدَتْ مع قرينةٍ، كانت بحسَب القَرينة، إمَّا تهديداً، وإما تعجيزاً، وليست في الترددِ كالصيغِ المُشترَكةِ مثل: لونٌ، وجونٌ، وقُرءٌ، وشفقٌ، ألا ترى أنَّ تلك إذا وَرَدَتْ لم نَعْقِلْ منها واحداً مِن الأشياءِ التي اشتركتْ فيها، ويوضِّحُ ذلك أنه إِذا قال لعبده: اصبغْ ثوبي لوناً، وائتني غروبَ الشَّفَقِ، فإنَّه يحسُنُ الاستفسارُ عن أيَ الشفقين، وأي الألوان، ولا يَحْسُنُ استفسارُ القائلِ لعبده: افعل، أتريدُ أنْ يَفعَلَ أمْ لا تريدُ أنْ يَفعَلَ؟ ولا استعلامُه عن التهديدِ والتعجيزِ، وما صارتْ إلا بمثابةِ أسماءِ الحقائقِ المَوضُوعةِ لمَا وضِعَتْ له، تُصْرَفُ إلى غيرِ ما وضِعَتْ له بضرب من الاتَساعِ، ولا يُعطي ذلك أنَّها عند الِإطلاقِ تحتاجُ إلى إرادةِ النَاطقِ بها ما وضِعَتْ له، وإِنَما لم تصحَّ مِن البهيمةِ، لأنَّ القولَ والرتبةَ أبعدُها، وهما شرطا الأمرِ، فلا رتبةَ للبهيمةِ ولا قولَ، ولربَّما انقلبَ هذا

عليهم، لأن إِشارةَ البهيمةِ بِطَلَبِ العليقِ والماءِ والحنينِ إلى فصيلِها، وسخلِها، والخروجِ للرَّعي دالة على إرادةٍ منها ذلك، ولم تكن آمِرةً، فقد تكاملَ شرط الأمرِ عندهم، وليست آمرة. وأما دعواهُم أنَّ لا فَرْقَ بَيْنَ قولِهم: أريدُ مِنك أنَّ تفعلَ، وبَيْنَ قولِهم: افعلْ، غيرُ صحيحةٍ، لأنَ أريدُ منك إخبار عن إرادتهِ، ولفظةُ: افعل، استدعاءٌ، والخبرُ يَدْخُلُه الضَدقُ والكذِب. وأَصَحُّ الاجوبةِ عن هذا ما سمعتهُ مِن إمامٍ في الجَدَل، أَنَّ: أريدُ، وأودت، صيغتان تتجردان عن ذِكْرِ فرادٍ منه، بل يكفي فيهما نفسُ المرادِ، فيقولُ القائل: أردتُ كذا، وأريدُ كذا، فلا يقال: ممن تريدُ؟، ولفظةُ: افعل، وآمُرُ، وأمرتُ، لا بُدَّ لها مِن مُعَلقٍ عليه الاستدعاء، وأريدُ، وِزَانُ أشتهي وأحتاجُ، وأردتُ، وِزَانُ اشتهيتُ واحتجتُ، وهما خبران عن أمر وقَعَ في النَّفْسِ من شهوةٍ، والأمْرُ إِنَما هو استدعاء، فبانَ الفرقُ بينهما. وأمًا المُبَرْسَمُ والمَصْرُوعُ، فإِنما لم يكونا آمِرينَ مع وجودِ الصيغةِ، فلأنهما ما قَصَدا الصيغةَ، لا لأنَهما لم يُريدا المُستدعى، وقد اتفقنا على أنَ إرادةَ النُطقِ مُعْتَبَرَةٌ، وإِلا فلا تكونُ طلباً ولا اقتضاءً ولا استدعاءً، وكذلك ما يَسْبقُ على اللسان وَيغْلِبُ بالبرْسَام تكون صورتُه صورةَ الكلامِ. واختلفَ النَاسُ هل هو كلامٌ؟ فعلى مذهبِ المُحَقِّقينَ: ليس بكلامٍ.

ثم اختلفوا في علَّةِ نفي اسمِ الكلامِ عنه: فقال قوم: لأنَّه ليس يعَبِّر عَمَّا في النَّفْسِ، وهم نُفَاةُ الضَيغِ عن كونِها كلاماً، والمُثبتونَ للكلام قائماً بالنَفْسِ. وقومٌ نفوه لأنَه لا يصدُرُ عن إرادةٍ لِمَا يتضمنهُ مِن الاستدعاءِ. ونحنُ نَسْلُبُه (¬1) اسمَ الكلام؛ لأنَه مدفوعٌ إليه، فهو كما يخرجُ من الحروفِ عن غَلَبةِ عُطاسٍ أو سُعالٍ أو تثاؤبٍ. وأَمَّا النهيُ، فلا نُسَلِّمُ كوَنه نهياً لكراهةِ المَنْهي عنه، بل لاستدعاءِ التركِ مع الرُّتبةِ، كما أن الأمرَ استدعاءُ الفعلِ مع الرتبةِ، فلا فرقَ بينهما، وهذا ينبني على أصلٍ كبيرٍ، وان جميع الأفعالِ والكائناتِ مُرادةٌ، وأنَها لا تقعُ إلا بإرادةِ القديمِ سبحانه، وان ما شاءَ كان، وما لم يشأ لم يكن. وأَمَّا التقسيمُ الآخرُ، فالجواب عنه: أنها أمرٌ بكونِها استدعاءً بالقولِ مِن الأعلى للأدنى، ولا يفتقرُ إلى ما هو أكبرُ مِن ذلك، ولا يقتنعُ فيها بدُون ذلك. والقرائنُ تعملُ عملَها في صرفِها لها عن موضوعِها عند قوم، والصحيحُ على ما سمعناه مِن الأئمةِ في اللُّغةِ والنحوِ والأصولِ، أنَ الصيغةَ للتهديدِ وللتعجيزِ تُشَابِهُ صيغةَ الأمرِ، وليست أمراً صُرفَ إلى غيرِ الأمرِ بقرينةٍ. وأّمَّا قولُهم: يكون ساهياً أو ذاهلاً فليس بصحيحٍ، لأنَّه بإرادةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: (نسبله) وهو تصحيف مما أثبتناه.

- فصل: الفعل لا يسمى أمرا حقيقة

الصيغةِ يخرجُ عن كونه ذاهلاً وساهياً، ولو لَزِمَ اعتبارُ إرادةِ المأمورِ به لكونِ الصيغةِ أمراً، لوَجَبَ أن يُعتبرَ عِلْمُ الآمرِ بطاعةِ المأمورِ واستجابتهِ، فلَما صَحَّ كونُ الآمر آمراً، وهو الله سبحانه، مع كونِه عالماً بأَنَه لا فَرْفَ بَيْنَ الأَمْرِ بما لا يريدُهو وبَيْنَ الأمرِ بما يَعْلَمُ أَنّه لا يكونُ مراده ومأمور به (¬1)، والله أعلم. وأَمَّا دعواهُم مخالفَتنا للّغةِ والحكمةِ، فغايةُ ما تُعطي اللغةُ الاستدعاءَ، وقد أثبتناه، وما دعوى الإِرادةِ إلاّ مِن طريق فى دلائلِ أحوالِ المخلوقينَ، وقد دَلتْ دلائلُ أحوالِهم على الانتفاعِ بما أُمروا به، والحاجة إليه اقتراناً بشرطِه في الأمرِ في الجملةِ وفي حقِّ الله سبحانه، وإِنَّما الذي يقتضيه الإِطلاق إرادة صيغةِ الاستدعاءِ، وما وراء ذلك يقفُ علي دلائلِ الأحوالِ، فالإرادة للمأمورِ، والحاجةُ إليه والميلُ وما شاكلَ ذلك، فموقوفٌ على القرائنِ، دلائل الأحوالِ وتفرُّعها يحتاج إلى دلالة. فصل وقال أصحابُنا: والفعلُ لا يسمَّى أمراً حقيقةً، كما لا يُسَمَّى كلاماً حقيقةً، سواءٌ كانت إشارةً مفهومةً أو غير ذلك (¬2). فعلى هذا فعلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن دلَّ على وجوبِ الاقتداءِ بالنبي صلى الله عليه وسلم والمتابعةِ له، فإنّه ليس بأمرٍ. ¬

_ (¬1) الإرادة عند أهل السنة نوعان: 1 - إرادة كونية قدرية، وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، كقوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253]، 2 - إرادة دينية شرعية، وهي المتضمنة للمحبة والرضا، كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]. (¬2) انظر هذا القول في "العدة" 1/ 223، والمسوّدة ص (16)، و،"التمهيد" 1/ 139، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 6.

وذهبَ بعضُ أصحاب الشافعي المتأخّرين، إلى أنه أمر حقيقة (¬1)، وهو ليق بمذهبنا، حيث قَلنا: الكتابة كلام حقيقة، وما في النفس من المحفوظ كلام حقيقة. قال أصحابنا في القرآن: متلوٌ بالألسن مكتوبٌ فى المصاحفِ، محفوظٌ في الصدورِ. فالدلالةُ على أنه (¬2) ليس بأمرٍ، ما تقدم من أنَ الأمرَ صيغةُ استدعاءٍ أو اقتضاءٍ، من الأعلى فعْلًا من الأدنى، وليس هذا منطبقاً على ذلك، وأين الفعلُ من الاستدعاءِ؟! وكذلكَ جعلُ الأقوالِ مُستدعىً بها، وهذه مُستَدعى إلى متابعتِها بغيرِها، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي" (¬3)، وقال للذي سألَ عن الصلاةِ: "صَلِّ معنا" (¬4)، وقال في الحج: "خذوا عنّي مناسككم" (¬5). ¬

_ (¬1) ممّن ذهب إلى ذلك الآمدي، حيث صرَّح بأنَّ لفظ الأمر من قبيل المتواطىء في القول المخصوص والفعل، وتسميته له متواطئاً، يقتضي أن يكون حقيقة في القول والفعل معاً. غيرَ أن جمهورَ الشافعيةِ يرون أن اسمَ الأمرِ حقيقة في القول مجازٌ في الفعل. انظر "المحصول" 2/ 9، و"الِإحكام" للآمدي 2/ 189 و"البحر المحيط" للزركشي 2/ 343. (¬2) يقصد الدلالةَ على أنَّ الفعلَ ليس بامرٍ حقيقة، وأنه إنْ اطلقَ عليه فعلى سبيل المجاز. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة (440). (¬4) لممبق تخرلجه في الصفحة (194) من الجزء الأول. (¬5) تقدم تخريجه 1/ 194.

ولو كان الفعل أمراً، لما احتاجَ إلى أمرٍ من جهة القول باتباعه، مثل قوله: "صلوا كما رأيتموني"، "خذوا عني مناسككم"، كما لا نقولُ في القولَ. ولأنه يَحْسُن أن تقول: فعلتُ وما أمرتُ، ولا تقول: أمرتُ وما أمرتُ، ومن خصائص المجازِ صحةُ نفيه [عن] (¬1) غيرِ المسمى به. ولأنهُ لما لم يكنِ التركُ نهياً، لم يكنِ الفعلُ أمراً، ألا ترى أن استدعاءَ الفعْلِ بالقولِ لما كان أمراً، لا جَرَمَ كانَ استدعاءُ التركِ بالقول نهياً. ولأن الفاعلَ قد يفعلُ لا مُستدعَىً من غيره بفعلهِ، لكنه يفعل لمعنىً يخصه، فإذا كانَ الأمرُ من طبعهِ الاقتضاءَ والاستدعاءَ، وليس في طبيعةِ الفعلِ ولا جَوْهَرِهِ ذلكَ، بَطل أنْ يكونَ أمراً سِوى ما كانَ في جوهِره، وليسَ إلا القولُ الذي يستَدعي به الأعلى من الأدنى فعلًا. ولأنَّه لا يُشتقُّ لفاعلِه منه اسمُ آمرٍ، ولا الفاعلُ مثله مطيع، لكنْ يقال: فَعلَ، ولا يُقال: أمَرَ، ويقالُ: فاعلٌ، ولا يقالُ: آمر، وقد فرقوا بينهما في الجمعِ، فقالوا في جَمعِ أمْرٍ: أوامِر، وفي جَمْع أمر الشأنِ: أمور. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

- فصل فيما تعلقوا به

فصل فيما تعلقوا به فمن ذلك قولهم: ما أمرُ فلانٍ بسديد، قال سُبحانَه: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)} [هود: 97]، وقال سبحانَه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال الشاعر: فقلت لها: أمْري إلى الله كُله ... وإنّي إليه في الِإيابِ لراغبُ (¬1) قالوا: ولأنَّ الأمرَ مأخوذٌ من الأمارة، وهي: العَلاَمة، وفي الفِعْل أمارَةٌ على ما يُراد، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا فَعَل فِعلاً، فانما فعله ليُقتدى به. فصل في الأجوبة عنه أما قولُهم: أمْرُ فُلانٍ، فالمرادُ به: حالُه وشأنُه، والحالُ والشأنُ ليس بأمرٍ حقيقةً، وأما أضافَهُ الله سُبحانَه إلى فرعون، فلا حاجةَ بنا إلى حَمْلهِ على الفعْل، فإنَه سُبحانه أخْبَرَ عنه بأن قال: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)} [غافر: 29]، فكذّبه الله فيما قال، فقالَ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)} [هود: 97] يعني ما يدعو إليه. على أنه لو كانَ في الجميعِ يُراد به الفعلُ والحالُ والشأنُ، فإنهُ مجازٌ، ولذلكَ يَحْسُنُ أن يُقالَ: ما أمرتُ ولا أمرَ فلانٌ، وإن كان فَعَل، وكانَ له حالٌ وشأنٌ. وأمّا قولُهم: إنه من الأمارةِ، فلا يُعرفُ ذلكَ عن موثوقٍ به في ¬

_ (¬1) البيت دون نسية في مجالس ثعلب 2/ 565.

- فصل فيما وضع له الأمر

اللغة، ولو كان منقولًا، احتملَ أنْ يكونَ مأخوذاً من أمارةٍ على الاستدعاءِ الذي في نفس المستدعي، وهي القول، وإلا فلو كان عاماً لوقعَ على الكنايةِ والإشارةِ، ولم يختص بالقولِ. فصلٌ فيما وُضعَ له الأمرُ اعلمْ أنَّ الأمرَ لم يوضَعْ في اللغةِ لإِفادةِ [حُسْنِ] المأمورِ به أو قُبحِه، وكذلك النهى لا يقتضي قبحَ المنهي عنه، وإنما وُضِعَ للزجرِ عن فِعْلِ المنهى عنه واستدعاءِ تركهِ، والتقبيحُ والتحسينُ وراءَ ذلكَ موقوفٌ على دلالةٍ تدلُّ عليه، هذا مَذْهَبُ أهلِ السُنة، وهو مَذْهَبُنا. وزعَمتِ القدرية أن مقتضى الأمرِ كَوْنُ المأمورِ به حسناً في العقلِ، ولولا كونُه في العقلِ حسناً، لما امِرْنا به، ولولا كونُ المنهى قبيحاً في العقل، لما نهانا الشرعُ عنه. فصلٌ في الدلالةِ على ذلك إنّنا نعلمُ أن الآمرَ من أهلِ اللغة، قد يأمرُ بالظلمِ والتعدّي، ويعاقبُ على مخالفته في ذلك، ولا تَنافيَ بين الأمرِ والقبح، يقال: أمرَ بالحسَن، وأمَرَ بالقبيح، وكذلكَ السلطانُ الجائر، يأمرُ بالجَوْرِ، وينهى عن العَدْل، ولا يصيرُ الجَورُ بأمرِه حسناً، ولا يخرجُ بأمرهِ بالجورِ، عن كونهِ بذلك آمراً، فهذا واضحٌ من طريقِ اللغةِ، وما هو إلا بمثابة قولنا: إن القبيحَ مستدعىً، فلا يخرجُ بكونه مستدعىً عن

- فصل في شبهة المخالفين

كونه قبيحاً، ولا يخرج المستدعى بكون المستدعى قبيحاً عن كونه استدعاء، كذلك لا يخرج عن كونه أمراً، ولا يقف الاستدعاء على كون المستدعى حسناً، كذلك لا يقفُ الأمرُ على كَونِ المأمور به حسناً. فصل في شبهةِ المخالفين قالوا: أجمعنا على أن الله سبحانه ما أمرَ إلا بالحسَن، بل ما أباحَ إلا الحَسَن، على خلافٍ بين الناس في الإباحةِ، هل هَي أمرٌ أوْلا؟ ولا نهى إلا عن قبيح. وثبت في العقلِ أنْ لا اعتداد إلا بأوامِر الحكماءِ العقلاءِ، من العربِ والآمرين في الجملة، فوجَبَ أنْ لا يكون، ولم يوقفوه على أمرِ الشرع، ولا الوالِد والنبيّ خاصة، بل عمّوا كلُّ ذي رتبة، فمِنْ أين لكم تخصيصُ ذلكَ بحُكمِ الله سبحانَه؟ وهذا تعاطٍ على اللغةِ بمجردِ اقتراحٍ لا يدل عليه دليل. قالوا: وما تنكرونَ أنْ يكونَ ذلك لوجهٍ هو في العقلِ عليه، أو بحكمِ بعضِ الخلق ومواضعتِهم ذلكَ؟ كما جازَ وضعُ بعض الخلقِ أسماءً ولغاتٍ يتخاطبون بها. قالوا: وبالطريقِ الذي كانَ الشرعُ هو الموجبَ لطاعةِ الأنبياءِ صلواتُ الله عليهم، والخلفاءِ من قِبَلِهِمْ، وساداتِ العبيد، والوالِدين،

- فصل يجمع الأجوبة

وجَبَ الحكمُ بوجوبِ ما وضعَ في العقل حسن الطاعة فيه لذي رتبةٍ من الخلقِ، ولا فَرْقَ بين ما وضعه شرعاً وما وضَعه في العقولِ، وليس سلوككم لإِيجابِ طاعةِ الأنبياء صلواتُ الله عليهم ومن ذكرتُم من الخلقِ إلا لرتبةٍ وضعَها الله، وقد وضعَ الله سبحانَه للعقلِ رتبةً، هي التحسينُ والتقبيحُ، فإذا أمرَ آمِر من الخلقِ بحُكمِ ما وُضِعَ في العَقْل، وجَبَت طاعتهُ ولا فَرْق. فصل يجمعُ الأجوبةَ والجوابُ: أن أهلَ اللغةِ وضعوا الأمرَ صيغةً تستندُ إلى رتبةٍ، فما خرجنا عن وضعِهم في اعتبارِ الرتبة، لكنْ خالفناهم في عَيْنِ الرتبةِ، ومَعْلوم أن الأممَ على الغايةِ في الاختلافِ في التحسينِ والتقبيحِ، فالبراهمةُ والهنودُ والثنوية يحسنونَ أشياء تُقَبحها الشرائعُ، ويستقبحونَ أشياءَ لا تستقبحُها الشرائعُ بل تُحسنها، وليسَ من يقولُ بأن الله قد جعلَ اعتقادَ بعضِ هذه الفِرَق لِحُسْنِ الشيءِ أو قُبحهِ، حُكماً منه بذلك، أولى ممن قال: إنَ اعتقادَ غيرهم من الخلقِ لقبح ما استحسنه الفريقُ الآخر حُكم منه بقبحه، وهذا يوجبُ أنْ يكونَ الله سبحانَه قد حَكَمَ بأنَّه حَسن قبيحٌ، واجبٌ ساقِط، وذلكَ باطلٌ باتفاق.

- فصل في الإباحة هل هي أمر؟

فصل في الإباحةِ هل هي أمر؟ اعلمْ وفقكَ الله أنَ الإِباحةَ إطلاقٌ وإذنٌ، وليست استدعاءً للفعل، وهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ من الأصوليين والفقهاء. خلافاً للبَلخي (¬1) وأصحابه في قوله: إن الإباحةَ أمرٌ، والمباحٍ مأمورٌ به، وهو أمرٌ دونَ رتبة الواجبِ والندبِ، فجعلَ الإباحةَ مرتبة ثالثة، وهي أدنى الثلاثِ مراتب (¬2). ولربما كانَ الخلافُ في عبارة، ولربما وقع الخلافُ في معنى: فأمَّا الخلافُ في العبارة؛ أنْ يقال: معنى قولنا: إن المباحَ مأمور به، أنه مأذون في فِعْلِهِ، ومطلقٌ ومحلل له ذلك، ومدلولٌ من جهة السّمْع على أن له فعلهُ، وله تركَهُ، وأن تركَه وفعلَه سيان، لا ثوابَ ولا عقابَ عليهما، فإن اريد ذلك، فهو اتفاق على المعنى، وخلاف في عبارة. فأمَّا الخلاف في المعنى؛ فهو أنْ يقولَ القائل بذلك: إن الِإباحةَ ¬

_ (¬1) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي، كان على رأس طائفةٍ من المعتزلة تُسمَّى الكعبية، ويعتبر من نظراءِ أبي عليٍّ الجبائي، له تصانيفُ عديدة في علم الكلام والأصول. توفي سنة (319) هـ، وقيل غير ذلك. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد"9/ 384، "وفيات الأعيان" 3/ 45 و"سير أعلام النبلاء" 14/ 313، و"شذرات الذهب" 2/ 281. (¬2) انظر هذا القول للكعبي في "المسودة" ص (65)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 424، و"المستصفى"1/ 74، و"الإحكام" للآمدي 1/ 177.

- فصل في الدلالة على فساد القول بأن الإباحة أمر

للفعلِ اقتضاءٌ له، ومطالبة به. واستدعاء على جهة الإيجابِ أو الندبِ، وأنها نهيٌ عن تركِ المباح، وأن فعلَ المباحِ خير من تركِه الجاري مجراه، وهذا باطلٌ. فصل والدلالةُ على فسادِه: عِلمُ كلُّ عاقل من نفسهِ الفرقَ بين كونهِ آذِناً ومطلقاً لعبده ومن تلزمُه طاعته في الفعل، كوَلَدِه وخادِمه، وبين كونهِ آمراً لذلك الذي تلزمهُ طاعتهُ، ومقتضياً له، وطالباً له، ومستدعياً منه، واذا كانَ ذلك الفرقُ موجوداً للنفس، ومعروفاً لها، بَطلَ دعوى من قال: إن الإباحةَ أمرٌ، لأنَّ الحقيقةَ الواحدةَ لا تنفصلُ ولا تنقسِمُ في النفس، كما لا تنقسمُ حقيقةُ الخبر. ومما يَدل على ذلك: أن حقيقةَ الإباحةِ تعليقُ المباحِ بمشيئةِ المأذونِ له في الفعل، وبمعنى القولِ له: افعله إنْ شئتَ. ومِنْ حقِّ الأمرِ بالفعلِ، أنْ يكونَ اقتضاءً له ومطالبةً به، واستدعاءً لحصوله، ونهياً عن تركِه على وجهِ ما هو آمر به، على ما نُبينه من بعد، فافترقَ لهذا حالُ الإباحةِ والأمرِ. فإِن قيل: وجودُ الفصلِ والفرق في النفس، بينَ الإِباحةِ والاقتضاءِ المطلقِ، لا يمنع من كون الإِباحة ضرباً من ضروبِ الأمرِ، بدليلِ الندب والإِيجاب، فإِنَّ بينهما فصلَاَ وفَرْقاً في النفسَ، ومع هذا فإِنّهما جميعاً أمرٌ، لكنْ بينهما مرتبة، [فَكَما] تدنو مرتبة الندبِ عن الِإيجاب، كذلك هاهنا تدنو مرتبةُ الِإباحةِ عن الندب، فلأجلِ الرتبةِ وُجد الفصلُ في النفسِ، لا لأجلِ أنَّ الِإباحةَ غيرُ الأمر.

- فصل: صيغة الأمر بمجردها تقتضي الوجوب

قيل: الفصل الذي يجدُه العاقلُ في نفسهِ بينَ الإباحةِ والأمرِ، فصلٌ يمنعُ أن يكونَ في الإباحةِ نوعُ اقتضاءٍ، أو مطالبةٍ، أو استدعاءٍ، لكنَّه يجدُ في النفس تخليةٌ وهي نفيُ التقييدِ والكف والمعارضةِ في الفعل أو المؤاخذةِ عليه، وهذا يُخرجُ الإباحةَ عن أنواعِ الأمر إنْ كان متنوعاً. وسنذكرُ مذهَبنا في الندب إن شاء الله. فصل صيغةُ الأمرِ بمجودِها تقتضي الوجوبَ لغةً وشرعاً هو ظاهرُ كلامِه (¬1)، لأنهُ قال: إذا ثبتَ الخبرُ عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وجبَ العملُ بهِ. وبذلك قال جمهورُ الفقهاءِ (¬2). وقالتِ الأشعريةُ: إذا دلَّتْ دلالة على أن الصيغةَ للاستدعاءِ وَجَبَ التوقفُ إلى أنْ تَرِدَ دلالة بإيجابٍ أو ندبٍ (¬3). ¬

_ (¬1) أي ظاهر كلام الإمام أحمد بن حنبل، وقد ثبت هذا عنه في عدد من الروايات. انظر "العدة" 1/ 224، و"التمهيد" 1/ 146، و"المسودة": 14. (¬2) انظر "كشف الأسرار" 1/ 50، و"المحصول "2/ 44 و" إحكام الفصول" 79، و"البحر المحيط" 2/ 352. (¬3) انظر "التبصرة" 27، و"العدة" 1/ 229، و"إرشاد الفحول"94.

- فصل من الدلائل من الكتاب العربي

وقالت المعتزلةُ (¬1): يقتضي الندبَ، ولا يُحملُ على الوجوبِ إلا بدليلٍ، وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافعيِّ (¬2). فصل في الدلائلَ من الكتابِ العربيِّ والدلالةُ على ما ذهبنَا إِليه قولُه تعالى: {ما مَنَعَك ألا تَسجُدَ إذْ أمرتُك} [الأعراف: 12] والتوييخُ على التركِ دلالة على الإيجاب بمطلقِ الأمرِ، وأن مقتضاهُ الوجوبُ، وأيضاً قولُه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وهذا يَدلُّ على أن أمرَهُ حتم، لا تخييرَ فيه بين تركٍ وفعل، ولا توقفَ فيه انتظاراً لدلالةٍ، فهي دلالةٌ على الجميعِ. وأيضاً قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]، والزجرُ والوعيدُ على مخالفةِ أمرِه، دلالةٌ على أن مقتضاهُ الإيجابُ. فصل يجمعُ الأسئلةَ عليها قالوا: أمَّا الآيةُ الأولى، فإن القرائنَ المقترنَةَ بالأمرِ دلتْ على الوجوب، وهو أن الله سبحانَهُ لم يُعْقِبْ تركَهُ للسجودِ بالوعيدِ، بل أبانَ عن مخَالفتِه بالتَقسيمِ عليهِ: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} [ص: 75] ¬

_ (¬1) انظر "المعتمد" 1/ 50 - 51. (¬2) "المستصفى" 1/ 423، "إرشاد الفحول" 94.

والقصةُ واحدةٌ، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [ص: 76]، وأَبانَ عن استكبارٍ. ومَنْ قابَلَ أمرَ اللهِ سبحانَهُ بالاستكبارِ استحق الوعيدَ، وقد نطَقَ القرآن بذلك، فقال: {إلا إبليس استكبر وكان منِ الكافرين} [ص: 74]، ولو لم ينطِقْ بذلكَ لكفى علمُ الله سبحانه بأنَهُ تركَ الائتمارَ لأمرِه على وجهِ الاستكبارِ، فعِلْمُهُ في حقَ اللهِ كنطقِ العبدِ بالاستكبارِ على سيدِهِ فيما أمَرَهُ بهِ، فيصيرُ الوعيدُ منصرفاً إلى استكبارِه عن الندب، ومَنْ تَرَكَ مندوبَ الشرع بعلةِ الاستكبارِ كَفرَ واستحق الوعيدَ، كمنْ قال: أنا أكبَرُ وأجلُّ مِنْ أن اقبلَ الحجَرَ، وأطوفَ بالكعبةِ، لأنني حيٌّ، ناطقٌ، عاقلٌ، وهي جمادٌ. ولو لم يَكُ هذا، لاحتمَلَ أنْ يكون قرينةً اقْترنَتْ بالضَيغةِ فاقْتَضَتْ بالمخالفةِ التوبيخَ والوعيدَ. قالوا: ولأن هذا يدل على وجوب أوامرِ اللهِ سبحانهُ وأوامرِ رسولِهِ، وكلامُنَا في مُقْتَضى الأمرِ في اللغةِ، ولأنه إنما دلَّ على الوجوب لِمَا اقترنَ بهِ مِنَ الوعيدِ على مخالفتِه، ولا يُتَواعَدُ إلا على تركِ واجَبٍ، وكلامُنَاَ على أمرٍ مطلقٍ.

- فصل يجمع الأسئلة عليها

فصل في الأجوبةِ أمَّا قولهم على الآيةِ الأولَة: إِن الوعيدَ كان للقرائنِ التي ذَكَروَها، فإِنّ استدلالَنا من قوله: {مَالِكِ}، {مَا مَنَعَكَ} وهذا لا يقعُ إلاّ مَوْقع ما يلزمُ فِعْلُهُ. وقولُه: {إِذْ أَمَرْتُكَ} بيانُ الموجِب، كقولِ القائلِ: ما مَنَعَكَ أنَّ تستجيبَ لي إِذْ دعوتُك، ولو كان هناَكَ قرينةٌ لذكرَها، لأنَّ الموضعَ موضعُ تقريرِ الحجّةِ، وكيفَ يتركُ مَوضِعَ الحجةِ وَيذكرُ خلقَهُ له بيديهِ، وقد كان الأشبهُ أنْ يقولَ: ما مَنَعَكَ أنَّ تسجدَ لِما امرتُكَ بالسجودِ لَهُ بالأمر المُقْتَضِي للإيجابِ؟، أوْ: ما مَنَعَكَ أنْ تسجدَ مع إيجابِ السجودِ عليك؟. ولأنَهُ يجوزُ أنْ يعودَ الوعيدُ إلى مخالفةِ الأمرِ، وإلى الاستكبارِ، كما أخبرَ الله سبحانهَ عن أهل النار حيث قيلَ لَهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) , ..} [المدثر: 42، 43، 44] إلى آخر الآية، وعندنا يجوزُ أنْ يُعَاقَبَ الكافرُ على كُفْرِهِ ومخالفةِ أمرِ الله، لأن الخطابَ يتجهُ إليه بالكُل. ولو لم يكنِ الأمرُ على ما ذكَرْنا، لمَا ذَكَرَ الأمرَ وعلق عليه الوعيدَ والتوبيخَ، ولو كان هُناك قرائنُ تزيدُ على ما ذُكِرَ، لما طواها في محل إقامةِ الحُجةِ وتأكيدِ المَعْتَبةِ. وقولهم: كلامُنا في اللغةِ. فأمَّا أوامرُ الله سبحانَهُ، فقد يكونُ فيها أمرُ إيجاب بدلالةٍ، فليسَ عندهم أمرٌ يحصل الوعيدُ بمخالفتِهِ، من حيث كونُهً أمراً لا في حقّ الله، ولا في حق

- فصل في الدلائل من جهة الآثار والسنن

غيره. والقرآنُ يقتضي تعلقَ الوعيدِ والتوبيخِ بمخالفتهِ لكونه أمرأ، ولأنَ قولكم: إنّ الوعيدَ هو الدالُّ على كونِه أنَهُ داخلٌ. لا يَحْسُن، لأنَ الأمرَ بمخالفته حَصل الوعيدُ، فنحن باستدلالِنا بالوعيدِ على مخالفته على كونه واجباً، أسعد منكم باستدلالِكم على أنه صار واجباً بالوعيدِ، لأن الوعيدَ جزاءٌ، فالأشبهُ أن يتأخرَ عن الأمرِ المستحقِّ به. فصل في الدلائلِ من جهةِ الآثارِ والمنن ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا أنْ أشُق على أمّتي لأمرتُهم بالسواكِ عند كلِّ صلاةٍ" (¬1)، هذا يَدُل على أن ما أمرَ به وجبَ، ولو أمرَ به لَوجَبَ وانْ شق. وقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة في مَعْنى زوجها -أي لمغيث (¬2) -: "لو راجعتهِ، فإنه أبو ولدكِ" فقالت: أبأمرِكَ يا رسولَ الله؟ قال: "إنما أنا شافعٌ" (¬3) فموضع الدلالةِ أنه أخبرَ بالشفاعةِ، وشفاعتُهُ ندب، فلو كان الأمرُ يقتضي الندْبَ، لكان قد نفى ندباً، وأثبتَ ندباً. وروي أنه مَرَّ برجل يصلي فدعاه فلم يجبه، فلما فرغَ من الصلاةِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التمني (7240)، وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب السواك (252). (¬2) في الأصل: "أبي المغيث". وعلق الناسخ في الهامش بقوله: "كذا بخط ابن عقيل والصواب: مغيث" (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة (5283).

- فصل في أسئلتهم

قال: "ما مَنعك أن تجيبني؟ " قال: كنتُ في الصلاةِ، فقال له: "أما سمعتَ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] (¬1)؟ فوجهُ الدلالةِ أنه تعلّق عليه بصيغةِ الأمرِ في إيجابِ إجابتهِ - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهُ. فصل في أسئلتهم قالوا: لعل مرادَه: "لأمرتُهم" أَمْرَ إيجابٍ، بأن كان قد أوحِيَ إليه لو أمرناهم بالسواكِ لكان أمْرُنا لهم أمْرَ إيجابٍ. وكذلك أرادتْ بريرةُ: "أبامْرِك"؟ أي: بإيجابك، أو باستدعاءٍ شرعي يكسبُني ثواباً في الأخرة؟ فقال: "إنما أنا شافع" لزوجك لا آمرٌ لَكِ بحكم الشرع، لكن بحكمِ الرقةِ عليه أو الشهوةِ، وذلك مما لا يعود إلى ما نحنُ فيه. وكذلك قوله: {استجيبوا} لعله اقتضى بالوعيدِ المقترنِ بها، وهو قولُه: {واعلموا أن الله يحولُ بينَ المرءِ وقلبهِ} [الأنفال: 24]. قيل: لم يُوْجَدْ إلا الأمرُ المجردُ والصيغةُ، وصرفُهُ عن ظاهرهِ إلى أن المرادَ به الإيجابُ يحتاجُ إلى دليلٍ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا تُحمل شفاعتهُ على ما دون الندب، لأن شهوتَهُ للأمرِ تكون موافقتُها موجباً ثواباً، بل آحادُ أمتهِ، فكيفَ في حقّه؟!: وهو الذي إذا أرضاهَ أمرٌ كان من أعظمِ الطاعاتِ، وشهوةُ الوالِد دونَ شهوتهِ وموافقتُها طاعةٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4647)، وسيأتي في 3/ 19.

- فصل يجمع دلائلنا من حيث الاستعمال من أهل اللغة

فصل يجمعُ دلائِلَنا من حيث الاستعمالُ من أهلِ اللغةِ إنّ القوم فَرقوا بين السؤالِ والأمرِ، فقالواِ في الأدنى اذا خاطبَ الأعلى بلفظةِ افعل: سائلٌ، وسمَّوْ اللفظةَ سؤالاً: وقالوا في الأعلى اذا قال للأدنى: افعل: آمر، وسمّوا الصيغةَ مرحلً، وهذا يَدُل منهم على أنَّ الصيغة مع الرتبةِ اذ لم تك موجبَةً لمَا كان لفرقِهم بين السؤال والأمِر معنىً، لأنهما اتفقا في المعنىَ الأعمَّ وهو الاستدعاءُ، لم يبق لفرقِهم معنى سوى انحتامِ الأمرِ وعدمِ انحتامِ السؤالِ. ومما يَدُلُّ على أنَّها صيغة تقتضي الإيجابَ، ما نجده من قوةِ اللفظةِ، ثم من مُتَعَلَّقَاتِها، فأمَّا من قوتها وجَوْهرِها، فهو أنها استدعاءٌ مجرد عن تخييرِ المستدعى منه، والتوسعةِ له في تركِ ما أمر به، مثل قوله: إن شئتَ، وإن أحْبَبَتَ، فكان ذلك جزماً وحتماً, من حيث أنَّ المُستدعي أطلقها إطلاقاً، كما أطلق قولَه -في الخَبَرِ-: فَعلَ، لما لم يكُ منه تردد من حيث اللفظُ -بأن يقول: لَعله فعلَهُ، عساه فَعَلَ- كان خبراً جزماً لا تردُّدَ فيه من طريقِ اللفظِ، وكلُّ من حطَّ هذه اللفظةَ عن رتبةِ الإيجابِ والحتمِ، احتاجَ إلى قرينةٍ أو دَلالةٍ. وأما اقتضاءُ الوجوب من حيث التعلُّقُ، فإن المخالفةَ لها تسمى عصياناً، ويسمّى المخالِفُ عاصياً، فمن قيل له: قُمْ فَلَمْ يَقُمْ، كمن قيل له: لا تقم فقامَ في تسميةِ العرب إياهُ عاصياً، ومن ذلك استحسان حكماءِ العرب توبيخَه وذمَّه وتأديبه على تركِ الائتمارِ، وهو عندهم بمثابةِ من ناداهُ سيدُه فلم يُجبْهُ، فإنه يكون مُهَوِّناً ويستحق العقابَ على

تركِ إجابةِ النداءِ، فإذا نادى عبدَه زيداً: يا زيدٌ، فلم يُجبْهُ مع قدرتهِ على الجواب كان مُهَوناً، فإذا قيل: يا زيدُ أقبِل، فلم يُقبلَ كان عاصياً، فلو لم تكنَ صيغةُ النداء تقتضي الإجابةَ وصيغةُ أقبِلْ تقتضي الطاعةَ حتماً، لَما حَسُنَ عقوبةُ العبدِ على تَرْكِها، لأن الذم والعقابَ لا يحسنانِ إلا على تركِ اللازِم الواجب، ألا ترى أن قولَه: أقْبِلْ إنْ شئْتَ أوْ إنْ أحببت لما كان أمراً موسعَاً، لا جَرَم قَبُحَ العَتَبُ والتَوْيِيخُ والعقابُ على تركِ ما استدعاهُ منه، ولم يحسُن أن يُسمَّى بتركِ ما استُدْعِيَ منه: عاصياً ولا مخالفاً. وما يَدُل على ذلك: أن قولَ القائلِ لعبده، والأعلى للأدنى في الجملة: كُن في هذا المكانِ، هو حَصْرٌ له، وقَصْرٌ على المكانِ الذي أمَرَهُ بالكوْنِ فيه، ومَنْعٌ عن التَفَسحِ في غيرِ المكانِ الذي أمَرَه بالكوْنِ فيه، فمدَّعِي الندب ونفي الوجوب في الجملةِ يدَّعي توسعة في حق المأمور، لا أثَرَ لها في لفظ الأمَرِ وصيغتِهِ، ومدَّعِي الوقف يعطَلُ الصيغةَ عن فائدةٍ رأساً، وليس ذلك دَأبَ العربِ. ومما استدل به بعضُ من وافقنا: أن العَرَب وضَعَت للخَبَرِ جواباً، وللأمْرِ جواباً، فقالوا في جواب الخبر: صدقتَ أو كذبت، وفي جواب الأمر: أطَعْتَ أو عَصَيْتَ. ولا تَضَعُ العصيانَ اسماً للمخالفةِ، إلا وقد ضمَّنت الأمرَ المطلقَ، انحتامَ الامتثالِ لما أمرتْ به. ومما يدلُّ على اقتضائِها الإيجابَ، من جهةِ أَن العربَ وضَعَت لفظة: (افعل) لاستدعاء الفِعْلِ، كما وضعتْا لفظة: (لا تفعل) لاستدعاءِ التركِ، واستدعاءُ التركِ حتمٌ لا تَخييرَ فيه ولا توسعةَ، بل يقتضي بمجرد إيجاب

المستدعى، كذلك استدعاءُ الفعل. يوضحُ هذا؛ أنَ كل استدعاءِ لفعلٍ يتضمَّنُ النهيَ عن ضدهِ، والنهيُ يقتضي قُبْحَ المَنْهِى عنه عندهم، فينبغي وجوبَ المستدعى من حيث وَجَبَ تركُ ضِدِّه وما لا يُمكن تركُ القبيح إلا به فواجبٌ، كما أن ما لا يمكن فِعلُ الواجبِ إلا به واجبٌ، ومتى حملناَه على الندب، جوزنَا تركه، وفي ذلك إسقاطٌ لإيجابِ ما تضمن اللفظُ إيجابَهُ. ومما يدكُ على أنها للوجوب، اعتبارُهم واشترَاطُهم لكونها أمراً أن تَصْدُرَ عن الأعلى للأدنى، وما كان ذلك إلا لكونها صادرةً ممن تَلزمُ طاعته، وهذا خَصِيْصَةُ الوجوبٌ، وهذا لا يُسمى قَرِيْنَةَ، بل شَريْطةً، فإن القرينةَ الزائدةُ (1 وما [عُدت] شرطاَ 1) إلاّ لكونها أمراً، لا معنى زائدِ. وممَّا يَدلُ على أنَّ اقتضاء لفظة الاستدعاءِ الوجوبُ؛ أنَ الإيجابَ مما يَهْجِسُ، في نفوس العَرَب، فلايجوزأن يْهْمِلُوا وضعَ صيغةٍ تخُصه، فلو لى تكن لفظةُ: (فعَل) تقتضي الإيجابَ، لكانوا قد أهملوا هذا الأمرَ الهاجسَ الذي هو أكثرُ ما يعرضُ للنفسِ، وهو الاستدعاءُ الجزمُ، فلا يُعطلُوا هذا الأمرَ العظيمَ الخطر عندهم من لفظةٍ تخضُه، فبطلَ دعوى أصحابِ الوقفِ، وتعطيلِ صيغةِ الأمرِ مِنْ إيجابٍ. ولأنهم لم يجيزوا التأكيد إلا بما يقتضيهِ المؤكدُ، فإنَه لما كان قولهم: رأيت زيداً، يقتضي نَفْسَهُ وذاتَهُ، أكدوه بذلك، فقالوا: رأيت زيداً نَفْسَه. كذلك هاهنا، أكدوا قولهم: (افعل)، بقولهم: فقد حتمتُ وأَوْجَبْتُ عليك أن تفعل، فدكَ على أنَّ أصلَ الأمرِ اقتضى ما أُكَدَ به في الإيجابِ. ¬

_ (1 - 1) في الأصل:" وما هذا شروطاً".

- فصل في جمع أسئلتهم على الأدلة التي ذكرناها

فصل في جمعِ أسئلتِهم على الأدلةِ التي ذكرناها قالوا: تفريقُهم ما بين السؤالِ والأمرِ، لا يَدُل على أنْ لا فرقَ بينهما إلا بالوُجُوب، بل الرتبةُ أعطتْ الفرقَ في التسميةِ، كما افترقَ الاسمُ بين موافقةِ الأعلى للأدنى فيما استدعاه منه، وموافقةِ الأدنى للأعلى فيما استدعاه نَدْباً له، فيقال: أطَاعَ. ولم يَدلَّ على وجوبِ ما أطاعَ فيهِ الأدنى، بل استويا في نفي الوجوب مع اختلاف التسميتين. قالوا: وقولكم: إنها استدعاء مجرد عن تخييرٍ وتوسعةٍ مطلقةً لا تقييدَ، فهذا يوجبُ حَمْلَها على الاستدعاءِ المجرّدِ عن صفةِ انحتام أو إيجابٍ، فيكوَن المُقْتَضي لتجردِها واطلاقِها أحدَ أمرين: إمَّا الوقفُ عن القول بإيجابٍ أو ندب، لأنه الأليقُ بما اقتضاهُ دليلُكَ من نفي الوصفِ؛ لأن نفي القرينةِ أدْعى لنفي الصفةِ، أو إنْ حُمِلَ على أمرٍ -على صفة- حُملَ عَلى أدنى الوجهين، وهو الندبُ، ولا يُحملُ على الوصفِ الأقصى، وهو الحتمُ، إلا بدلالةٍ تقتضي التضييقَ في الاستدعاءِ والانحتام. قالوا: وأما تسميةُ المُخالفِ لها: عاصيا، فليس على ما يَقَعُ لكم من أنه يُقَابِل ذلك بمطلقِ الأمرِ، بل لقرائن ومعانٍ تتصلُ بلفظةِ الاستدعاء، بعْضُها مُشاهدٌ وبعضُها مفهومٌ من تصاريفِ القائل، بحيث يختلفُ الحالُ بين السامعِ له مع العميانِ، وبين السامع له من وراءِ حِجَاب، فتدلُّ تلك القرائنُ على الوجوب، على أنه لا يَسلمُ لكم أن قولَنا: (عاصٍ) اسمُ ذم في اللغةِ، إنما صَار في الشرعِ اسمُ ذم، لكثرةِ

استعماله في مخالفة أوامر الله سبحانه، التي قامت الدلالةُ على تأثيم المخالِفِ لها والمُتَقَاعِدِ عنها، فقيل: عاصٍ لله، ومخَالف لأمرِ الله، والأ فأصلُها في اللغة المخالفةُ، قد يُوجِبُ الذم وقد لا يوجِب. ومن هناك قالوا: أشار عَلَى الأميرِ فَعَصَاهُ، وشاوَرَ فلاناً وخالَفَهُ، ولا يكون بخلاف المشورة مذموماً، ولا بخلافِ الرأي يكون ذَماً، إذْ ليس كلُّ رأي ومشورةٍ تقتضي الِإيجابَ، ولا المشيرُ بمشورتِهِ مُوْجبَاً، والعصيانُ فيً الأصلِ هو الامتناعُ، وبالإضافةِ يُتَبَيينُ حكمُهُ، فإن كَان لما يثبت بالدلالة أن مخالفَتَهُ قبيحة، كان موجِباً للذمَ، وما لم يَثْبُتْ ذلك فيه، وقع عليه الاسم من غير ذم. قالوا: وأمَّا تعلُّقكُمْ بتركِ إجابةِ السيدِ إذا نادى عبدَهُ، أو مُخَالفته، فتلكَ أوامرُ واستدعاءات اقترنَتْ بها قرائنُ من دلائل أحوال، فلا تعَلقَ بها فيما نحن فيه من الأمرِ المطلقِ، ومقتضاه فيَ أصلِ الوَضْعِ. قالوا: والخبرُ يخالِفُ الأمْرَ، لأن الخبرَ إسنادٌ إلى مَا كانَ لا محالةَ، هذا موضوعُه، ولأنه الحُجةُ عليكم، لأنه يحتمِلُ الصدقَ والكَذِبَ، ولا يُغَلبُ فيه الصِدقُ إلا بدلالةٍ تقترنُ بالمُخبرٍ، وهو كونه بالِغاً، عاقلًا، عَدْلاً، لتجتمع فيه شروطُ الصدقِ، فَوِزَانُهُ أن تُقْرَنَ قرائنُ، تقتضِى انحتامَ الاستدعاءِ. قالوا: وأما النهيُ وهو استدعاءُ التركِ، فلم يقتضِ إيجابَ التركِ بصيغتهِ، لكنْ دل على الكراهةِ، فلا يَكْرهُ الحكيمُ إلا القبيحَ، فوجب التَركُ لكون المتروكِ قبيحاً، وكُل قبيح يجب تركه، وليس كذلك استدعاءُ الفعل، لأنه يدل على حُسْنِ المأمور به، وليس كلُّ حَسَنٍ

- فصل في جمع الأجوبة عن جميع الأسئلة

واجباً فِعلُهُ، بل أقل مراتبهِ الندبُ إلى فعلهِ، فحملناه على أدنى مراتبه، ولم نُرَقِّهِ إلى المرتبةِ العليا إلا بدلالةٍ. قالوا: وأما قولُكُم: إن كلَّ مُسْتَدعى فِعْلُه، لا يتحقق فعله إلا بترك ضدِّه، فينبغي وجوبُ المُسْتَدعى من حيث وجَبَ تركُ ضده. فليس بصحيحٍ، لأنه ليس كلُّ ضِدٍ يجبُ تَرْكُه عندنا، وانما هو بحكم الفعلِ، فإن دلت الدلالة على وجوب الفعلِ كان تركُ الضد واجباً، وانْ كانَ الفعلُ نَدْباً، كان تركُ الضدِّ الذي لا يمكن الفعلُ إلا بتركه مندوباً بحَسَبِهِ. وأما إيجابُ الوضعِ للفظِ الإيجاب على مُقْتَضَى العربيةِ، وهو أحسنُ الإِيجاب في نفوس العرب، فنقولَ بموجَبهِ، وأنَّهم وضعُوا لذلكَ: فَرَضْتُ، وأوْجَبتُ، فأمَّا أنْ يَقْتَضِىَ ذلك أنْ يكَون الوضعُ مجردَ لفظةِ الاستدعاءِ، فليس ذلك إلا مُجرد التحكمِ، وإلا فما ادعَيْتَهُ من إجلالِهم وتَنْزيهِهم أنَّ يُنْسَبُوا إلى الأهمال، يزول عنهم، وَيخرجُون عن عُهْدَتِه بوضعِهم لَفْظَةَ الفرضِ والإِيجاب الصريحةِ في ذلك، ويعود السؤال عليك فيقالُ: فيما وضعوه للإيجَابِ غِنى لهم عن أن تُجْعَلَ لفظةُ الاستدعاءِ هي الموضوعةُ للإيجابِ بمجردِها. فصل في جمع الأجوبة عن جميع الأسئلة أما قولُهم: التفرقةُ قد تحصلُ بين الأمرِ والسؤالِ لا من جهةِ الإيجابِ ونَفْي الإيجاب، غير صحيح؛ لأن استواءَهما في نفي الإيجابِ يجعلُهما سواءً في المعنى، والتفرقةُ بين الألفاظِ إنما تقعُ

لاختلافِ المعاني، ومهما أمكن أن يكونَ لكُلِّ لفظٍ معنىً، فلا يجوز أن يُشرك بين لفظين، سيّما مختلفين في معنى واحدٍ، فلما قالوا: سأله ورغِب إليه. إذا كان اللافظُ بالاستدعاءِ أدنى، وقالوا: أمرَهُ. إذا كان المستدعي أعلى، وجَبَ أنْ يكونَ الفرقُ بمعنىً يعودُ إلى الغرضِ به، وليس إلا الاستجابة، ومتى استويا فيها من حيث التوسعةُ والتخييرُ، زالَ الموضوعُ بالفرقِ على مقتضى الأصل. وإنما قيل في الندبِ للأدنى: أطاعَ، وفي الأعلى: أجابَ. لدلالةٍ قامَتْ، وما خلا ذلك الفرق من معنى، وهو أن الرتبةَ تقتضي شيئين: اتحادُ الفعل المستدعى، ومراعاةُ الأعلى أن لا يدخلَ عليه وهْنُ المخالفةِ بأن يُعصى، بخلاف السؤال. وأما قولهم: مقتضى التجردِ عن القرائنِ نفيُ الأوصافِ، فلا ينبغي أن يعتبر (¬1) إيجاباً، ولا انحتاماً، لأن نفيَ القَرينةِ أدْعى لنفيِ صفةِ الإيجاب. لا يصح؛ لأن الاستدعاءَ بقوله: (افْعَلْ) يقتضي بجوهرِ اللفظةِ إيَجادَ المأمورِ به، ولا يحصلُ الإِيجادُ إلا بالإيجاب، فأمَّا الوقفُ لا يُحصل شيئاً، والندبُ يوجب تخييراً بين الترك والفعل، وجميعاً يُعِيْقَانِ عن الإيجادِ الذي اقْتَضَتْهُ الصيغةُ. وأمّا قولهم: لا يُسمى عاصياً، إلا إذا خالف أمراً مُوجِباً، دلت عليه دلالة الوجوب. فينقضهُ سؤالُهم الثاني، وقولهم: إنه قد يقع على مخالفةِ الرأي والمَشورةِ وإنْ لم يَقْتَضيا الوجوبَ. على أن أهل اللغة قالوا: أمَرَ فعُصِيَ، وأمَرَ فأطِيْع، كما قالوا: ¬

_ (¬1) في الأصل: "يعتبروا".

نادى فأجيب، أو تخلف عنه، وأخْبَرَ فَصُدق أوْ كُذبَ، فمدَّعي أنَّ أسماءَ هذه الأجوبةِ وُضِعَتْ لقرائنَ اقْتَرنَتْ بالنداءِ، والخبرُ يحتاج إلى دلالةٍ، (فهو مَوقوفٌ على وَضْعِ اللغة) (¬1) على معانٍ ظاهرةٍ بدعوى معانٍ باطنةٍ لا دلالةَ عليها، وما هو إلا بمثابة من قال: إنَّ قولَ أهلِ اللسانِ: اسْتَطْعَمَهُ فأطْعَمه، واسْتَسْقَاهُ فسَقَاهُ، ليس براجع إلى مجردِ سؤالِ الطعام والشراب وإعطاءِ ذلك لِمنْ سَألَهُ، لكنه لقرائنَ اقْتَرنَت بذلك وقعتَ التسميةُ لأجْلِها. وأّما دعواهُم: القرائن في الأوامِر، وأنها معانٍ تَقِفُ على المشاهدةِ، وبحسَب الأحوالِ، فإنهُ مِنْ جنسِ دَعْوَى مَنْ قال: إنما كان أمراً لشهوةِ الَآمرِ ومحبتهِ وشَغَفِهِ بما أمَرَ به، أو لعدم تهديده ووعيدهِ. وان صرَّحوا بالقرينة وقالوا: إنها حاجةُ الأحياءِ إلى ما يَسْتَدعونَهُ من عبيدِهم، فأوامُر الله سبحانه بَعْدَ القرائن، وصريحُ الإيجابِ يخلو من حاجةٍ، ويكونُ على الإيجاب. على أنه إن لم يَدع لحاجته، فإنه يستدعي منا الطاعاتِ لحاجتِنا إلى الإثابةِ في الآخرةِ، ونفي المضرةِ في الدنيا بما يَحصُلُ من المفاسدِ، والانتفاعِ بعاجلِ المصالحِ. وليس هذا مُعتبراً عندنا، لكن إنْ جعلتم ذاكَ قرينةً في أوامرٍ الخلقِ، لتحصيلِ الوجوبِ، فاجعلوا هذه المصالحَ ونفي المفاسدِ مُرَتِّبَة لإيجابِ أمرِ الشرع. وأمَّا الخبرُ، فإنه مع رتبةِ المُخْبِرِ، وهي العدالةُ، يُحْملُ على ¬

_ (¬1) في الأصل: "وإلا فهو موقف لوضع اللغة".

الصدقِ بظاهِر الوضعِ، وإنْ جازَ عليه الكذبُ بعارضٍ وقرينةٍ تقترنُ بالمُخْبِرِ، ولا يمنعُ احتمالُ الكذبِ فيه مِنْ أَنْ يكون مُطْلقه يقتضي الصدقَ. وفي الجملةِ، لا يُحْملُ على أقل أحوالِه وهو الكذبُ أو الشكُّ، بل يُحملُ على أعلى أحوالِه، وهو الصدقُ بطريقِ الظن. وأمَّا قولُهم: إن النهيَ يقتضي كراهيةَ المنهي عنهُ، وكل مكروهٍ قبيحٌ. فلا يصحُّ الأمران جميعاً؛ ولأن النهيَ لا يقتضي الكراهةَ ولا القُبحَ، بل القبحُ والكراهةُ أَعْلى أحوالِه، وله حالٌ أدنى، وهي الكراهةُ على وجهِ التنزيهِ أَوْ الأَوْلى، كَنَهْيِهِ عن القِران بين تمرتين (¬1)، ونهيه عن العَبَثِ بالحَصَا، أو تقليبِ الحَصَا (¬2)، والالتفاتِ في الصلاةِ (¬3) وإلى ¬

_ (¬1) سلف تخريجه في الصفحة 474 (¬2) يشير إلى ما ورد من حديث أبي هريرة في الجمعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأَنصت غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مَس الحصى فقد لغا" مسلم (857) (26). وما ورد من حديث علي بن عبد الرحمن المعاوي، قال: صليت إلى جنب ابن عمر، فقلبت الحصى، فقال: لا تقلِّب الحصى، فإنه من الشيطان ... أخرجه أحمد (4575)، ومسلم (580) (116)، والنسائي 3/ 37. (¬3) يشيرُ في ذلك إلى ما ورد من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة، فقال: "إنما هو اختلاس يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد" أخرجه: أحمد 6/ 106، والبخاري (751) و (3291)، وأبو داود (910)، والترمذي (590) والنسائي: 3/ 8، وابن حبان (2287)

- فصل يجمع شبه أهل الوقف

أمثالِ ذلك، فكان يجبُ أن تحملوه على أدنى مراتِبهِ من التنزيه، دون الحظر، كما حَمَلْتُم الأمْرَ على أدْنى مراتبهِ، وهو الندبُ. وأمَّا قولُهم: إنه ليس عندنا [كُلُّ] ضد يجب تركهُ، لكنْ بحَسَب المأمورِ به، فإنْ وجَبَ فِعلُه كان الضد المتروكُ بحسَبهِ واجباً، وإن لم يجبْ فعلُهُ، لم يكن تركُ ضدِّه واجباً، وأما الأمرُ المطلقُ في مسألتنا فلا يقتضي إِيجابَ المأمورِ به، فلا يكون تركُ ضدهِ واجباً، لأنه بحسَبِ المتروكِ من الفعلِ. فهذا إنما يُبْنَى على فراغنِا من الدلالةِ على أنَه يَقْتَضِى الوجوبَ مع الإِطلاقِ، فإذا سلَّمتم أنه يكون التركُ بحسب المتروكِ، دلتْ دلائِلُنا -الدالةُ على الوجوب- مُوْجِبَةً تحريمَ الفعَلِ، وهو وجوبُ التركِ، وكان الضدُّ بحسبه علىَ ما قامَتْ عليه دلالتُنا. فصل يجمع شُبَهَ أهلِ الوقف فمما تعلقوا به: أنَ هذه الصيغةَ تَرِدُ للإِيجاب، والندب، والتهديدِ، والتعجيزِ، والِإباحةِ، بدليل قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، للإِيجاب، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى} [النور: 32] للندب، وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] للتهديد، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] للتعجيز، {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، للإِباحة. فصار حكمُها ومقتضاها الاشتراكَ، فأوجَبَ عند الإطلاقِ التوقفَ إِلى حينِ تقومُ دلالة تَصْرِفُها إِلى أحدِ هذه المحتملاتِ، كسائرِ المشتركات من لون وعين وقُرْء وجَون.

- فصل في جميع الأجوبة

ومن ذلك قولهم: لا يخلو مُدَعي الوجوب بمجرّدِ هذه الصيغةِ أَنْ يكون عَرَفَ ذلك بعقل أو بنقل، لا يكون بالعقل، لأنه ليس بطريقٍ لوضعِ اللغاتِ، أوْ بالنقلِ، ولا يخلو أنْ يكونَ تواتراً أو آحاداً، فلو كان تواتراً لعلمناه جميعاً ضرورةً، واشتركنا في معرفتِهِ، كسائرِ ما تواترَتْ به الأخبارُ، وإنْ كان آحاداً، فلا يَثْبُتُ به هذا الأصلُ العظيمُ الذي ينبني عليه حكمُ الشرع من الإيجاب والحَظْرِ، ويستند إليه (¬1) استحقاقُ الوعدِ والِإثمِ، وطريقُ مثله العلمُ دوَن الظن. ومما تعلقوُا به، أن هذه الصيغةَ قد وردتْ في الندب أكثرَ مِنْ ورودِها في الوجوب، ولو كانت للإيجابِ لما غَلَبَ استعمالُهَا في غيرِ موضوعِها، على اسَتعمالِها فيما وضِعَتْ له. فصل في جميعِ الأجوبةِ أما دَعْواهُم وُرودُها لمعانٍ مختلفةٍ ومقاصدَ متغايرةٍ ومتضادةٍ، فهي مشتركة كلَوْن وجَوْن، فليس بكلام يتحققُ عند علماءِ أهلِ اللغةِ؛ لأنَّ الصيغة المُتَجردةَ وهي لفظةُ: (افعل) من الأعلى للأدنى لم تُوضَعْ عندهم إلّا لاستدعاءِ الفعلِ خاصّةً. ودلالةُ ذلك: أنَه لا يَحْسُنُ بالمُستدعى منه الاستفهامُ والاستفسارُ، بأنْ يقول: هل تستدعي مني الفعلَ، أو تُهدِّدني، أو تعجّزني؟ بل يقبحُ ذلك من العبدِ والأدنى في الجملة، بخلاف قوله: اصبغْ ثوبي ¬

_ (¬1) في الأصل (إلى).

لَوْناً، واعَتدِّي بالأقراءِ، وأمْسِكْ عن الطعامِ إذا طَلَعَ الفجرُ، وصَلّ إذا غَابَ الشفقُ، فإنّ ذلكَ لما كان لفظاً موضوعاً لأقسام مختلفةٍ ومعانٍ متغايرةٍ حَسُنَ أنْ يقول: أي لونٍ أصْبِغهُ؟، وبأيِّ الأقْراءِ أعْتَد؟، وأيُّ الفَجْريْنِ الذي أمْسكُ عن الأكلِ عند طلوعهِ؟، وأيُّ الشَفَقَين أصلّي عند غيبتهِ؟، ولا يقبحُ الاستفهامُ فيه وعنه، وإنما التَهدُد والتعجيزُ والإباحةُ، ألفاظٌ موضوعةٌ في تلك الأحوالِ. ولربّما زعمَ قومٌ من الفقهاءِ أنها مستعملةٌ على سبيلِ النقلِ، كلفظِ (حِمَار) منقولةٌ مِنَ النهاقِ إلى البليدِ، ولفظةُ (بحر) منقولٌ من الماءِ إلى العالِم والكريمِ، وليس يَرْتَضي المحققون ذلك؛ فإن العربَ إنما تَسْتَعيرُ الصيغةَ بِمَحَل، ولِما فيه بعضُ مشابهةٍ لما وُضعَ له اسمُ الحقيقة، كبلادة في الإنسان، يُستْعارُ له لأجلها اسمُ حمارٍ، وغزارةِ علم وفيضِ عطاءٍ، يُسْتَعارُ لصاحبهِ اسمُ بحرٍ، وليس بين التهديدِ الزاجرِ المانعِ من الفِعْل المزجورِ عنه، وبين الأمرِ الموضوع للاستدعاءِ واتخاذ الفعلِ المَأمور به، تماثلٌ ولا تشابهٌ؛ فلذلك لَم نَرْتَضِ تشبيهه بالمجازِ. لكنْ نقول: إن قولَ المُتَهدِّد: افعل ما شئتَ، وأكْثرِ من مخالفتكَ إيَّاي ومعصيتك لي، لفظ موضوع عندهم للزجر، كقول المُعَرِّضِ بالقذف حالَ المسَابّة لغيره: يا عفيفُ ابنَ العفيفةِ، وقولِ القائل للمشهورِ بالبخلِ: يا كريمُ، وللجاهل: يا حَكيمُ. هذا موضوعٌ للاستخفافِ، ولا يقال: إنه اسمُ مَدْحٍ استُعِير للذم، ولكنها بمشابهةِ اللفظةِ، كالمجاز الذي يحملُه من لا علمَ لَهُ بالحالِ على الحقيقة (¬1)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاستدعاء".

فإذا خَفِي عليه الحالُ الدالّه على التَّهدُّد والحالُ الدالّةُ على الذَّمِّ، وسَمعَ قائلًا يقول: افعل، قال: مستدع، وإذا سَمع قائلًا يقول: يا عفيفُ، ويا كريمُ، ويا حكيمُ قال: مادحٌ ومُثْنٍ، كما إذا سَمع قائلًا يقول: بحرٌ وحمارٌ، حَمَلَ الأمرَ على الحقيقةِ الموضوعةِ فيٍ الأصلِ دون المجازِ، فهو يشابهُ المجازَ والحقيقةَ من هذا الوجهِ خاصة، فَينْدفعُ بهذا تَشْبيههم صيغةَ الاستدعاءِ بصيغةِ اللونِ والجوْنِ، من جهةِ أن ذاكَ لو سُمعَ على أيَ حالٍ لَمْ يُعْقلْ منه السوادُ أو البياضُ إلا بدلالةٍ تصرِفُ اللفظَ إلى أحدِ محتملاتهِ، على أن دليلَهم باطلٌ بصيغةِ الايجاب، فإنها قد تَرِدُ والمرادُ بها الندب المؤكدُ، كقوله صلى الله عليه وسلم: "غُسْلُ الجمعةِ واجبٌ على كلُّ محتلم" (¬1)، وكذلك الوعيدُ ورَدَ على مَنْعِ الماعُون، ومَنْع إعارةِ الدلوِ، ومنْحةِ اللبنِ (2)، ومَنْعِ فَضْلِ الماءِ (¬2)، وعلى تركِ إجابة الأَذانِ إلى الجماعةِ (¬3)، ووردَ على تركِ الفروضِ، ولَمْ يوجِبْ ذلك الوقتُ عند مجيئهِ مطلقاً، بل حُملَ على الايجاب في الفعلِ، وإيجاب ما تُوُعدَ على تركِهِ، إلا أنْ يَصرِفَنا عنه دلالةٌ، فَبَطَل التَعَلُّق بالاشتراكِ. وأما التقسيمُ علينا في طُرق إثباتِ الوجوب، فإنَّ ما سَطرة أهلُ اللغةِ في كتبِهم يجري مجرى التواترِ، وما استقريناهُ من ألفاظِهم، وما قررناهُ في أدلتِنا، وما تلوناهُ من الآي والسنةِ، وحكيناه عن أهلِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (879)، ومسلم (846). (¬2) سيرد الحديث بنصه في الصفحة (515). (¬3) سيأتي في الصفحة (516).

اللغةِ من حُسْنِ المعاتبةِ على المخالفةِ، على أنا لا نحتاجُ إلى تواترٍ بل الأحادُ في هذا تكفي، وخبرُ الواحدِ المُتَلَقى بالقبولِ تَثبُتُ به مسائلُ الأصولِ عندنا، وليس تَرتقي أصولُ الفقهِ إلى العلمِ (¬1)، ولذلك لا نُفَسق المخالفين فيها، بل نُخَطئُهم فَنُنْزِلهم في ذلك منزلةَ الفقهاءِ؛ ولأنه يَنْقلِبُ عليهم في قولِهم بالاشتراك، فإنه نوعُ إثباتٍ، والوقف، فإنه مذهبٌ، فلا يخلو أنْ يكون ثَبَتَ بالعقلِ أو النقلِ، ويُساقُ التقسيمُ عليهم مَسَاقَتَهم له عَلَيْنا، فلا يجدونَ فضلاً. على أنَّا لا نقنعُ بإيقافِ ما ذكروهُ حتى يَرجحَ جوابُنا، فنقول: إن الوقف لا يكونُ عملًا بمقتَضى الاستدعاءِ المطلقِ، وإنما هو لأجلِ استعمالِ اللفظةِ في مواضع تَقَيَّدتْ بقرائنَ، ومواضعَ عُلِم أنه لم يُرَدْ بها الاستدعاءُ، ونحنُ بادرنا إلى القولِ بالإيجاب، لأنا علِمْنا أنهم استدعوا الفعل للِإيجاد، ولا يحصل الِإيجادُ إلا بالإيجاب. وأمّا تَعَلقُهم بأنَ استعمالَها في الندب أكثرُ، فليس ذلك بدليل على المنعِ من كونها هي الأصلُ في الإِيجاب، ألا ترى أنَّ لفظةَ الوطْءِ حقيقة في الاعتمادِ بالقدم، واستعمالُها فيَ المباضَعةِ والجماعِ أكثرُ، وكذلك الغَائِطُ اسم للأرضَ اللينةِ، واستعمالُها (¬2) في الخارج أكثر، وإن كان ذلك مجازاً في الخارجِ. ¬

_ (¬1) وقد ذهب إلى قطعية مسائل الأصول عددٌ من المتكلمين، كالجويني والغزالي والأنباري، وغيرهم، وقد تبعهم في هذا الشاطبي. (¬2) في الأصل: "واستعمال".

- فصل في شبهات المعتزلة

فصل في شبهاتِ المعتزلةِ قالوا: الأمرُ من الحكيم يقتضي حُسْنَ المأمورِ به، وأقلُ أحوالِ الحُسْنِ الحث عليه، والندبُ إليه، لأنَه لا يريدُ الإباحةَ في دارِ التكليفِ، وأعلى أحوالِه الوجوبُ، فلا يُحْملُ على ما زاد على أقل ما يقتضيهِ اللفظُ إلا بدلالةٍ، كإطلاقِ العددِ، والجمعُ يُحملُ على الأقل في الإقرارِ والأمرِ، ولا يحملُ على ما زادَ على الثلاثةِ إلا بدليلٍ. قالوا: لو كانت هذه الصيغةُ يقتضي الإيجابَ، لَما حَسُنَ ورودُها من الابنِ لأبيه (¬1)، والعبدِ لسيِّده، والوضيعِ للشريفِ، أَلا ترى أنَ لفْظةَ: أوجبْتُ وفرضتُ، لمَّا اقتضت ذلك لم تحسن من هؤلاء لمن هو أعلى منهم، فلما حَسُن أَنْ يقولَ الأدْنى للأَعلى: افعل، عُلمِ أنها لا تقتضي الوجوبَ. قالوا: قولُه لمن هو فوقَهُ: "افعلْ" يقتضي الإرادةَ دونَ الِإيجابِ، كذلك مَنْ هو دونَهُ، وجَبْ أنْ لا يقتضيَ إلا الإرادةَ دونَ الوجوبِ. قالوا: ولأنَّ قولَه: "افعل"، وقولَه: "أريدُ أنْ تَفْعلَ" واحدٌ في المعنى الموضوع له، وهو استدعاء الفعل، وكل واحدٍ منهما يقتضي الإرادة، فإذا لم يقتض قوله: "أريد أن تفعل" إيجابَ الفعلِ عندكم، وجَبَ أنْ يكون: "افعل" مثلَهُ في عدمِ الإِيجاب. قالوا: ما ذهبتُم إليه من القولِ بالِإيجاب، يُفْضي إلى أن تقتضي اللفظةُ الواحدةُ بمعنيين مختلفين: وجوبُ فعلِه والإثابةُ عليه، وتحريمُ تركهِ والعقوبةُ عليه، وليس لنا في اللغة ذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل "لابنه".

- فصل يجمع الأجوبة عن شبه المعتزلة

قالوا: لو كانت موضوعةً للِإيجاب، لكانت إذا استعمِلَتْ في الندبِ مجازاً، كسائرِ الموضوعاتِ إذا نقِلَتَ عما وضِعَتْ له إلى غيره، مثل بحر، متى استعمِلت في الرجلِ العالِمِ كانت مجازاً، حيث كان وضعها للماءِ الغزيرِ الفائضِ المتباعدِ الأقطارِ، فلما كانت في الندبِ حقيقةً عندكم، بطَلَ أن تكون للإيجابِ في أصلِ الوضعِ، بل هي أمر فقط، والأمر استدعاء يحمل بإطلاقِه على المتيقَنِ من مراتبهِ، وهو الندب. قالوا: لو كانت موضوعةً للوجوب لما حَسنَ الاستفهام عن المرادِ بها عند إطلاقِها، كلفظةِ الِإيجاب الَصريحةِ، لما كانت موضوعةً، لَمْ يَحْسنْ الاستفهام عندها. قالوا: لو كانت للوجوب لكانت إذا جاءت دلالة تجعلها للندب ناسخة، وتكون منسوخةً بِرَفْعِ الإيجابِ عنها. فصل يجمع الأجوبةَ عن شبهِ المعتزلةِ. أما دعواهم الأُوْلَى، وأنها لا تقتضي إلا الحسنَ، فشرِح لمذهبهم، ولا فضلَ بينهم فيها وبين من قال: تقتضي الِإطلاقَ والِإذن، فلا نحمله على أكثرَ من ذلك إلا بدليلٍ، وإلا فتحقيق الكلمةِ أنها تعطي إيجادَ المستَدعى، والحسْن معلوم بدليلِ العقلِ، وأن الأمر إذا كان حكيماً لا يستدعي إلا الحَسَنَ، فالحسن أمر زائد على كونِهِ مستدعىً، وذلك من قبيلِ أنة مصلحة وأنه غير مفسدةٍ، كلُّ هذا قَبيل يعلم بدليل، لا من جهةِ الصيغةِ، والمعلوم من الصيغةِ ببادرتِها استدعاء إيجادِ الفعلِ

المأمورِ به. على أن هذا باطلٌ بالنهي، فإنه يدل مِن الحكيمِ على كراهةِ المنهيِّ عنه، وكراهتُة لا تقتضي التحريمَ، لأنه قد يُكرهُ كراهية تنزيهٍ، ثمّ لم يحمل على أدنى ما تتناوله الكراهة. وقد أجابَ مَنْ وافَقَنا في هذا المذهبِ بجوابٍ آخرَ، وهو أن قال: إنْ كان الأمر يقتضي حسن المأمور به، فهو يقتضي قبْحَ ضدهِ، ولا يمكنه تَرك ضدهِ إلا بفعلِ المأمورِ به، فوجبَ انْ يكونَ واجباً، وهذا معْتَرض بتحقيقٍ يكشف عن فسادهِ، وهو أن الضدَّ إنما يجب -عند القوم- تركة إذا ثبتَ وجوب فعلِ ما يضادة، فأمّا إذا كان الفعل لم يثبتْ وجوبه، فلاوجهَ لوجوبِ تركِ ضده، فيصير دَوْراً. وأمّا تعلقهم: بأنها تَحسنُ من الابنِ لأبيه وليس بأهلٍ للِإيجابِ عليه، فإنه يبطل بلفظِ النهي، فإنه يحسن من الابنِ لأبيهِ، والسيّدِ لعبدهِ، وليس بأهلٍ لمنعهِ والحجرِ عليه، ألا تَرى أنه لا يَحسُن أنَّ يقولَ الابن لأبيهِ، والعبد لسيّدهِ: حظرت عليكَ، ولا حرَّمت عليكَ، وَيحسن أنْ يقول له: لا تفعلْ، كذلك لم يحسن أنْ يقولَ: أوجبت عليكَ، أو فرضت، ويحسن أنَّ يقولَ: افعلْ. على أنَّ الصيغةَ مع عدم الرتبةِ ليستْ هي المختلفَ فيها، وإنما الخلاف فيها مع الرتبةِ، وليسَ إذا استعمِلَتْ الصيغة نفسها في بعض المواضعِ التي لا تحتمل الوجوبَ لا يدلُّ على أنها غير موضوعةٍ للوجوب، بدليلِ ألفاظِ الحقائقِ، كلفظةِ: (حمار) تستعمل في الرجلِ البليدِ اَلذي لا يحتمل البهيمةَ، ثم لا يدل على أنه غير موضوع

للبهيمةِ النَهاقِ، كذلك هاهنا. وأما دعواهم في لفظةِ: (افعل) أنها تقتضي الإِرادةَ في حقِ الأعلى والأدنى، وفي صدورِها من الأدنى للأعلى لا تكون موجِبة، كذلك إذا صدرتْ مِنَ الأعلى للأدنى، فغيرُ صحيحٍ؛ لأن النهيَ يقتضي الكراهةَ، سواء وجِدَ مِنَ الأعلى للأدنى، أوْ مِنَ الأدنى للأعلى، ثم لا يقال: إنه لما لم يقتض الحظرَ إذا صَدَرَ من الأدنى، كذلك إذا صَدَرَ من الأعلى. على أنه إذا وَرَدَ من الأدنى للأعلى، سُمِّيَ سؤالاً ورغبةً وطلباً، وإذا ورَدَ من الأعلى للأدنى سُمِّي أمراً، فدل على أنهما مُفْتَرقانِ. وأما قولهمْ إن قولَه: (افعل)، وقولَه: (أريد منك أن تفعلَ) واحدٌ، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يقتضي إرادةَ المأمورِ، فإذا لم تقتضِ أحدهما الإِيجاب، فكذلك الآخر مثلهُ، فدعوى بعيدةٌ؛ لأنَ قولَه: افعل استدعاءٌ، وأريدُ أنَّ تفعلَ، خبرٌ، ولهذا حَسُن في جوابِ أحدِهما: صدقْتَ أو كذبتَ، ولم يَحْسُنْ في جوابِ الآخرِ. وإذا قال: أريدُ منك، كان طلباً لا أمراً، ولهذا يَحْسُن أن يُعلَّقَ على الأعلى والأدنى، بخلافِ افعلْ، فإنه لا يُعلقُ إلّا على الأدنى دونَ الأعلى. وأمَّا قولُهم: يُفْضي إلى أنَّ تكون اللفظةُ الواحدةُ تقتضي شيئينِ مختلفينِ: الإِيجابَ والعقوبةَ على التركِ. فهذا بعيد عن التحقيقِ؛ لأن الإِيجابَ هو انحتامُ الاستدعاءِ، والعقوبةُ على المخالفةِ حكم أوجبَهُ الشرعُ في الأوامرِ الشرعيةِ، والعَرَبُ في الأوامِر العُرْفيةِ، وليس في قوةِ

اللفظةِ إيجاب عقوبةٍ، وما ذلك إلا كما قال المخالف في لفظةِ الِإيجاب، فإنَّ قولَه: أوجبتُ، لفظةٌ واحدةٌ اقتضتْ بنفسها انحتامَ الفعلِ الَمستَدْعى، وكان من حكِمها إيجاب العقوبةِ على المخالفِ لمقتضاها، وكذلك إيجاث الثواب إنما هو بدلالة لا من اللفظةِ، إذ لو لم يخبرِ الله سبحانه بالمجازاةِ لمَا اهتدينا إلى مقابلَةٍ منه، بل يجب طاعتة ولا تجبُ إثابته، فلما أخبرَ صار الثواب حقاً بخبرِهِ، دون لزومهِ للعوضِ والمقَابلَةِ. وأما قولُهم: لو كانت للِإيجاب لكانت إذا استعْمِلتْ في الندبِ مجازاً. فغير لازمٍ؛ لأنه على أحدِ الوجهين ليس بأمرٍ عند أصحاب الشافعي (¬1)، وهو الصحيح عندهم، وإن سلِّم على قولِ صاحِبنا -رضى الله عنه-، فإنما لم يكن مجازاً، لأن تحتها استدعاءً تاماً، فهي كما يَبقى من العموم يكون خصوصاً بالإضافةِ إلى مافوقه، عموماً في نفسِهِ، لكونه يَعمُّ ما تحتَة، لأنَّ الوجوبَ جُملة تَقْتَضي إيجادَ الفعلِ على أشدِّ استدعاءٍ وآكدِه، فيدخل الندب الذي هو نوع حث فيه، فيصير ¬

_ (¬1) هذا ما ذهب إليه الشيرازي ونصره، واختاره الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب والفخر الوازي. والوجه الثاني عند الشافعية: أن المندوب مأمورٌ به. وهو ما ذهب إليه القاضي الباقلاني، والغزالي، والآمدى. وذكر الزركشي أنه الأظهر. انظر: "البرهان": 1/ 249، "التبصرة" ص (36)، "المستصفى": 1/ 75، و"الإحكام" / للآمدي 1/ 208، و"البحر المحيط": 2/ 364، و"المحصول": 2/ 210.

كالجموعِ والعموم يخرجُ منه جملةٌ بعد جملةٍ، والباقي عموم حقيقةً وجَمع حقيقةً، ولوَ بَقِيَ منه ثلاثةٌ من ألوفٍ من الأعداد. كذلك إذا بَقِيَ هاهنا على استدعاءٍ غيرِ منحتمٍ، لكنه محثوثٌ عليه، فهو باقٍ على بعضِ الجملةِ. وأما إلزامُهم حُسْنَ الاستفهام، فلا يُسلَّم على الِإطلاقِ، بل إِنْ حسُن فعلى وجهِ التأكيدِ، فكما أنَ القائلَ: دَخَلَ السلطانُ نفسُهُ. يؤكد بقوله: نَفسُهُ لا لحاجتهِ إلى ذلك، كذلك يقولُ المستفْهمُ: السلطانُ نفسُهُ أو عسكره؟ مبالغة في الاستثباتِ، وكذلك يقول هاهنا: أوجبْتَ على، استيضاحاً زائداً على الحاجةِ، كقولِ المخبرِ: رأيتُ زيداً نفسَهُ. على أنَ الاستفهامَ لأجلِ التردّدِ بين استعمالِ هذه اللفظةِ في الندب وبين استعمالِها في الِإيجابِ، وهذا لا يمنعُ كونها مع الإِطلاقِ منصرفَة إلى الإِيجابِ، كلفظةِ الإِيجابِ يحسُنُ أن يقولَ فيها: هل أردْتَ به الندبَ لمجيئها في المندوب وهو غسل الجمعة، وكذلك لفظةُ الوعيدِ والتهديدِ لمجيئهما في تركِ المندوباتِ، كالماعونِ وما شاكلَ ذلك، كما رُوي: "مَن مَنَعَ فضلَ مائهِ، مَنَعَهُ اللهُ فضلَ رحمتِه يومَ القيامةِ" (¬1) و"من كانت له ما شية إبل أو بقر فمنع حقها بُطح بقاعٍ قَرْقَرٍ ¬

_ (¬1) ورد قريباً من هذا في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من منعَ فضلَ مائه، أو فضل كلئه، منعه الله فضله يوم القيامة". أخرجه أحمد (6673)، وأورده الهيثمي في "المجمع" 4/ 125، وقال: رجال أحمد ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر. وأصلُ الحديث صحيح، فهو عند البخاري (2369) و (7446)، وفيه "ورجلٌ =

تنطحُهُ بقرونِها وتطؤه باظلافِها، كلما نفذَ اخراها عادَ أولاها" قيل: وما حقُها؟ قال: "إعارةُ دلوِها يوم وردها ومنيحة لبنها وإطراقُ فحلِها" (¬1)، وكذلك الوعيدُ على تركِ الجماعاتِ، وقوله: "من سمعَ النداءَ فلم يُجِبْ، صُب في أذنيهِ الآنكُ" (¬2) قيل: هو الصفرُ المذابُ، ثم هو مع الإِطلاق يقتضي الوجوبَ والوعيدَ. وأما قولهم: لو كانت للوجوب لكانت الدلالةُ الواردةُ برفعِ الوجوب نسخاً. هذا باطل بالتخصيصِ إذَا وَرَدَ أبان عن أنه لم يُرَدْ به الشمولُ ولم يكن نسخاً، والنسخُ ما ثبت حُكمهُ ثم رُفعَ، وهذا الدليلُ أبانَ عن مرادِه بالنطقِ، وأنه الندبُ لا الإِيجابُ، وما أوجَبَ العملَ بالِإيجاب ثم رفعَ، بل كان ظاهرُهُ الإِيجابَ ثم كشفَ عن أن المرادَ به الندبُ، فلم يكن نسخاً، كتخصيصِ العموم. ¬

_ =منع فضل مائه، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك". (¬1) أخرجه من حديث جابر بن عبد الله، مسلم (988) (27) (28)، والنسائي: 5/ 27، والبيهقي 4/ 182 - 183، وابن حبان (3255). مع اختلاف في أللفظ عند بعضهم. والقاع: المستوي ليس فيه ارتفاع ولا انخفاض. والقَرقرُ: المستوي الأملس من الأرض. وإطراق فحلها: أي إعارته للضراب. (¬2) لم نجده بهذا اللفظ، وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفاً على أبي هريرة: "لأن تمتلىء أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير من أن يسمعَ المنادي ثم لا يجيبه" المصنف 1/ 340.

- فصل في الأمر هل يقع على الندب حقيقة أو مجازا

فصل في الأمرِ هل يقع على الندبِ حقيقةً أو مجازاً؟ اختلف الناس في ذلك، فظاهرُ كلام أحمدَ أنه حقيقةٌ (¬1)، قال أحمد: آمين، أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن قولَ: آمين مندوبٌ إليه، وقد سمّاه أمراً، وعنى بأمره قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمنَ القارىءُ فَأَمِّنُوا" (¬2)، وقال في الذبيحة: تُقادُ على المذبح قوداً رفيقاً، وتُوارى السكينُ ولا تُظْهَرُ عند الذبحِ (¬3)، أمرَ بذلك رسوَلُ الله. فسمى ¬

_ (¬1) وهو الأصلُ عند الحنابلة، وفق ما صرح به القاضي أبو يعلى في "العدة" 2/ 374، وانظر: "المسودة" ص (16)، و"شرح الكوكب المنير": 3/ 55 - 56. (¬2) ورد من حديث أبي هريرة بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمنَ الإمامُ فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه". أخرجه البخا ري (780)، ومسلم (410). (¬3) عن شدّاد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسانَ على كلُّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحمَم فأحسنوا الذبح وليحدِّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". أخرجه: أحمد 4/ 123 و 124 و 125 ومسلم (1955)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي 7/ 227، وابن حبان (5883). وعن ابن عباس قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحدُّ شفرته، وهي تلحظُ إليه ببصرها، فقال: "أفلا قبلَ هذا؟ أو تريدُ أن تميتها موتتان؟! " أخرجه الطبرانىِ، المعجم الكبير" 11/ 333، و"المعجم الأوسط" 4/ 361.

- فصل يجمع الحجج والأدلة على كونه أمرا

ذلك أمراً وإن كان كلُ ذلك ندباً. وقال الكرخيُ والرازي (¬1) من أصحابِ أبي حنيفةَ: لا يكون أمراً حقيقةً، وإنما حقيقةُ الأمرِ ما أُريدَ به الوجوبُ. واختلفَ أصحابُ الشافعي، فمنهم من قال: إن المندوبَ حقيقةً أمرٌ، وبعضُهم قال: إنه ليس بأمرٍ. فصل يجمع الحُجَج والأدلةَ على كونهِ أمراً من ذلك: أنَ الفاعلَ بحكمِ الندبِ مثل القائل لآمين، والفاعل للسواكِ، والمصلي سننَ الفرائضِ، يُسمى طائعاً، ومن خصائص الأمرِ ودلائلهِ كونُ امتثالِه طاعةً وانفصالِه عن المباحِ الذي لا يكونُ بفعلهِ طائعاً، ولا يكون فعلهُ طاعةً، وإنما يكون مأذوناً فيه، والفصلُ بينه وبين الِإباحةِ يشهد بأنَه مأمور به؛ لأنه يقال: أمرَه فأطاعَ، كما يقال: دعاهُ فأجابَ، ولا يقال: أباحَهُ فأطاعَ، ولا أذِنَ له فامتثلَ. وكذلك إذا فَعَلَ السيدُ ما استدعاه العبدُ منه، لا يقال: أطاعَهُ. لما كان سؤالاً ولم يكُ أمراً، وما تحققَ الفرقُ بين الندب والسؤالِ والِإباحةِ، إلا بكون المندوب مأموراً به، والإباحةُ والسؤالُ ليسا أمرين، وكما يقال: [تكلَّم] فصَدَق أَوْ كَذَبَ، يقال: أُمرَ فأطاعَ أو عَصى. وتحقيقُ أنه إنما كان طاعةً وممتثلاً لتعلقِ الأمرِ به؛ لأنه محالٌ أن يكون طاعة لجنسهِ ونفسهِ أو صفةٍ من صفاتِ نفسِهِ، لصحةِ وجودِه ووجودِ مثلهِ، وما هو من جنسه ¬

_ (¬1) انظر: "الفصول في الأصول": 2/ 82، و"فواتح الرحموت" 1/ 377.

غيرُطاعةٍ. ومحال أن يكون إنما صار طاعةً لحدوثهِ ووجودِه، فإنَ المباحَ حادثٌ وموجودٌ، وليس بطاعةٍ، ولا يجوزُ أن يكون طاعةً لكونه مراداً، لأنَ المباحَ مُرادٌ وليسٍ بطاعةٍ، وكذلك جميعُ الحوادثِ لا تحدث إلا بمرادِه، وليست طاعة، ولا يجوز أن يكون طاعةً لحصولِ العلمِ به والخبرِ عنه، لأنه قد يشركهُ في ذلك ما ليس بطاعةٍ من المباحِ والمحظورِ، وليس كلُ ذلك طاعةً. ولا يجوزُ أن يكونَ إنما صار طاعةً لحصول الثواب ووَعدِ الله سبحانه في مُقابلَتهِ، لأنه لو أمرَ بفعلٍ ولم يضمنْ عليه ثواباً، لكان فعلُه طاعةً إذا وقع موافقاً للأمْرِ، لأن ضمانَ الثوابِ في مقابلتهِ إنما هو بفضلٍ وليس بمستحقٍ عليه سبحانه، وإنما ضمنه تْرغيباً في الطاعةِ، ولأنَه قد يُحبط المكلفُ ثوابَ طاعتِه بالكُفْرِ، ولا يخرجُ عن كونه بعد إحباطِ الثوابِ طاعةً، كما لا يَخْرجُ عن المخالفةِ بالمعصيةِ عن كونها معصيةً بمغفرتِها والعَفْو عنها، فثبت بهذا التقسيم: أنَه لا يجوز أن يكون طاعةً إلا لكونه مأموراً به، إذ لا شيءَ يمكنُ تعليلُ كونهِ طاعةً بشيءٍ سوى ما ذكرنا، هذا هُوَ الذي عليه أهلُ اللغةِ، ولذلك يُقال: فلان مطاعُ الأمرِ، ومعصي أمرُهُ، ويقولون: أمرَ فأطيع، وأمرَ فعُصي قال الله تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} [طه: 92, 93]. وقال الشاعر: ولو كنتَ ذا أمرٍ مطاعٍ لما بدا ... توانٍ من المأمورِ في حَالِ أَمْرِكا

- فصل في الأسئلة على هذه الأدلة

ولم يقلْ أحد منهم: مطاعُ الِإرادةِ، ولا أرادَ فأطيع، ولا أباحَ فأطيع، فثبتَ بهذه الجملةِ: أنَّ الطاعةَ إِنما كانت طاعةً، لكونها مأموراً بها، وإذا كان كذلك وجَبَ انقسامُ الأمرِ قسمين: واجبٌ، ونفل. فالواجبُ بالإِطلاقِ، والندبُ مع انحطاطِه بقرينةٍ أو دلالةٍ عن رتبةِ الإِطلاقِ إِلى التقييدِ بالندبِ. ومما يدلُّ على أنَه مأمور به: أنَ الواجبَ ما يُعاقبُ على تركه، وُيثابُ على فِعلهِ، هذا المستقر في حكمِ الشرعِ، والندبُ ما يثابُ على فعلهِ، ولا يُعاقب على تركهِ، فإذا حملَ على الندبِ، فقد حُمِلَ على بعضِ ما يشتملُ عليه الواجبُ، وذلك لا يُمنَعُ به حقيقة، كالعموم إذا خَرَجَ منه بعض ما شمله بدلالةِ التخصيصِ، بَقي الباقي حقيقةً فيَما يشمله. فصل في الأسئلةِ على هذه الأدلةِ قالوا: إن الواجبَ لم يَصِرْ مأموراً به لكون الفاعل بحكمِه والممتثلِ له مطيعاً، ولا لكون الفعلِ طاعةً، وإنّما صارَ مَأموراً به لكونِ مخالفتِه عصياناً. قالوا: ولا نُسلم أنَ معنى الواجب ما يُثاب على فعلهِ، بل هو ما يُعاقبُ على تركهِ، وتدخلُ الإثابةُ على فِعْله تبعاً، بخلافِ العمومِ، فإنَ لفظة تناولَ الجنسَ واشتملَ عليه اشتمالًا واحداً، فإذا خَرَجَ بعضُه بدليل اللفظِ متناولًا للباقي، فكان حقيقةً فيه، كقولنا:

- فصل في الأجوبة عن الأسئلة

سوادٌ وبياضٌ، وموضعه (¬1) يعُمَّ الكثيرَ والقليلَ. فصل في الأجوبةِ عن الأسئلةِ أما قولُهم: لا نُسلم أنَّ الواجبَ صار مأموراً به، لكونه طاعةً، ولا لكونِ الفاعلِ له مطيعاً، لكن لكونِ مخالفتهِ عصياناً، فليس بصحيحٍ؛ لأن المقابلة للأمر بفعلٍ أو تَرْكِ، فإذا كان الترك يسمى عصياناً، لكونه مخالفة للأمرِ لا غير، وجَبَ أن تكونَ متابعةُ الأمرِ تسمّى طاعةً، لكونه أمراً لا غير ذلك، وما تضادُّ العصيانِ والطاعةِ، إلا كتضادِ التصديقِ والتكذيب، ومَعْلومٌ أن كُل لفظٍ حَسُنَ أن يكون جوابُه: صدقتَ، خبرٌ، وكل ماَ كان جوابهُ: كذبتَ، كان خبراً، كذلك ما تضاد العصيان والطاعة، يجبُ أن يكون كُلّ واحدٍ منهما إذا قابل الاستدعاءَ، كان الاستدعاءُ أمراً. على أنَّ التاركَ للمندوب، يَحْسُن أن يسمّى عاصياً، هذا قياس المذهب. قال أحمدُ في تاركِ الوتْرِ: "رجل سوء"، وهو علي مقتضى اللغةِ كذَلك، لأن كلُّ ما كان بفعلهِ طائعاً، كان بتركه عاصياً، إذ ليس بينهما واسطةٌ. ودعواهم أنَ الثوابَ تبعٌ، وأن العقابَ على التركِ هو الأصلُ، لا تَصحّ؛ (2 لأن المأمورَ به مقَن له رُتبة 2) يكون معاقبا على تركِه، كانت ¬

_ (¬1) في الأصل: "وموضحه". (2 - 2) في الأصل: "لأن المأمور به رتبة يكون معاقباً ... ".

- فصل يجمع شبه المخالفين مما تعلقوا به في أن المندوب ليس بمأمور به

رتبتهُ من الثواب بحسَبه، نطَقَ بذلك الكتاب الكريم في حقِّ طاعةِ نساءِ النبِّي صلى الله عليهَ ومعصيتهِن المقدَّرة، وما من قربة يضاعف عقاب تركِها، إلّا تَضَاعَفَ ثواب فعلها، فلا وجهَ لجعلِ الثواب تَبَعاً، فإنَّ كلَ واحد منهما محثوث به، والأصل في الإيجاب انحتام الاَستدعاءِ، على أن حصول الثوابِ نوعُ ترغيب على وجه الحثِّ، فكيف يكون استدعاءً، على وجه الخبرِ ولا يكون أمراً؟ وإنّما العقابُ بالتركِ زائد على الخبر بزيادةِ ردعٍ. فصل يجمعُ شُبَهَ المخالفين مما تعلقوا به في أنَّ المندوبَ ليس بمأمور به. قولُ النبى صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك" (1)، وقد نُدِبَ، فدَلَّ على أنه ليس بآمرٍ بكونه نادباً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة: "لو راجعتيه، فإنه أبو ولدك"، فقالت: بأمْرٍ منك يا رسول الله؟، فقال: "لا، إنما أنا شفيع (¬1)، فَنَفَى الأمرَ، وأثْبَتَ الشفاعةَ، والشفاعةُ نَدْب، فدلّ على أنها ليست أمراً. قالوا: ولأنّه لو كان المندوبُ مأموراً، لحسُنَ أن يسمّى التاركُ له عاصياً، كالوجوبِ لمّا كان أمراً يُسمى مخالفهُ عاصياً. وأجمعَ الناسُ على أنّه لا يُطلق على من تركَ المندوباتِ أنه خَالفَ أمرَ الله. قالوا: ومن خصائص المجازِ حُسْن نفيهِ. وقد أجمعوا على أنه يَحسن أن يقولَ: إن الله ما أمَرَني بأنْ أصلّي الضُحى، ولا أمَرَني بأن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الصفحة: 494.

- فصل في جمع الأجوبة عن شبههم

أزيدَ على صدقةِ زكاةِ مالي. ولو كان مأموراً لما حَسُنَ نفيُهُ، فإن كلَّ صلاةِ نَفْلٍ وصدقةِ نَفْل مندوب إليها. فصل في جمعَ الأجوبةِ عن شبههِم أمَّا الحديثان، فالمرادُ بهما النفيُ لأمرِ الإِيجاب، بدليلِ أنه علل بالمشقةِ، وذلك لا يقعُ إلا بالِإيجابِ، وليس مَعنى أَن قوله: "أنا شافعٌ" من طريقِ الدِّينِ، لكن من طريقِ المشورةِ في أمرِ الدنيا، ووكَل ذلك إلى ما يراه من صلاح شأنِها في إجابتهِ، ومشاورتُه صلى الله عليه وسلم في أمورِ الدنيا، لا تكون ندباً، وقد خُولِفَ فيها، مثل نزوله بمنزلٍ أشير عليه بالرحيل عنه لما قيل له: أنزَلْتهُ بوحيٍ أم برأي؟ فقال: "بل برأيٍ"، فقيل له: ليس بمنزل (¬1)، وكذلك علَّل بأنه أبو أولادك، ولم يقل: يكون لك [من الأجرِ كذا] (¬2) كما حَث على أعمالِ الطاعاتِ بالوعْدِ. وأما تسميته بالترك عاصياً، فإنه لم يَحْسُنِ الإِطلاقُ، لأنه يعطي الذمَ، وليس في مخالفةِ الندب ذمٌّ إلا على صفةٍ - وهو إذا أهملَه أوْ داومَ عليه (¬3) أو تقيَّد- فيقُال: خالفَ أمرَ الله فيما نَدَبَهُ إليه، ولأنه يُقابله تسميتهُ -بإجماعِ المسلمين- بالفِعْلِ طائعاً، وممتثلًا، ولا طاعةَ إلا لأمرٍ، كما لا تصديقَ إلا لِخَبَرٍ، ولا إجابةَ إلا لدُعاءٍ. وأما نَفْي الأمرِ، فلا نُسلّمه في سائرِ المندوباتِ، بل يقال: خالف ¬

_ (¬1) يشير في ذلك إلى مشورة الحباب بن المنذر على رسول - صلى الله عليه وسلم - في معركة بدر، انظر سيرة ابن هشام: 2/ 272. (¬2) طمس في الأصل. (¬3) أي داوم على الندب ظن فيه الإيجاب.

- فصل: صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر كانت إطلاقا وإذنا وإباحة

أمْرَ الله، لكن بتقيد لا بإطلاقٍ، لأن الإطلاقَ يُوهم الاعلى، وهو الوجوبُ، وهو هاهنا محطوط عن رتبةِ الوجوب، فلا بُدٌّ من تقييدٍ في النفي، فيقالُ: قد خالف أمر الله في السنن أَو النوافل، كما لا بُد من تقييدٍ في الِإثبات، فنقول: أمرُ ندب، لئلا يوهمَ إطلاقهُ الإيجابَ. فصل صيغةُ الأمرِ إذا ورَدَتَ بعد الحظر، كانت إطلاقاً وإذناً وإباحةً، ولا تكون على مقتضى إطلاقِها، وأخذَ أصَحابُنا ذلك من كلام أحمدَ (¬1) -رضي الله عنه- من آيات قامتِ الدلالةُ على أنها للإِطلاقِ، مثل قولهِ سبحانه: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]، وذلك لا يُعطي عندي مذهباً في مسألتنا؛ لأنَّ المختلفين في هذه المسألةِ، مجمعون على أنَّ هذه الآياتِ للإِباحةِ، والِإطلاقِ بحسب دلالةِ الِإجماع، وانما ذهبَ أصحابُنا إليها لدلالةٍ نذكرها، وذهبَ إلى هذا المذهب الواضعُ لأصولِ الفقهِ من الفقهاءِ، وهو الشافعي رحمة الله عليه، فظاهرُ مذهبِه أنها للإباحةِ. واختلفَ أصحابُه على وجهين (¬2): أحدُهما: مثل هذا، والثاني: أنها على الموضوعِ الأصلي من الإيجابِ. وذهبَ أكثرُ الفقهاءِ (¬3) أنها على حُكم أصلهِا، على اختلافِهم فيما ¬

_ (¬1) انظر: "العدة" 1/ 256. (¬2) انظر: "التبصرة" ص (38) (¬3) انظر: "البرهان" 1/ 163 - 165، و"المنخول" 131، و"الإحكام" 2/ 265 - 161، و"نهاية السول" 2/ 272.

تقتضيه في الأصلِ، فمن قال: هي على الوقفِ، قال: هي على الوقفِ، ومن قال: على الندبِ. قال: هي بعد الحظرِ على الندبِ، ومن قال: هي على الإيجابِ، قال: هي على الإيجاب (¬1). ¬

_ (¬1) نَسبَ هذا المذهب لأكثر الفقهاء، القاضي أبو يعلى، وابن تيمية، وابن قدامة، غير أن الآمدي، أفاد بأن مذهب أكثر الفقهاء القول بالإباحة. انظر "العدة" 1/ 256، و"المسودة" 16 - 20. "روضة الناظر" 2/ 76، و"الإحكام" 2/ 260. وقد ذكر المصنف قولين في المسألة، وغفل عن بيان بقية الأقوال، وهي علي النحو التالي: أولًا: القائلون بأن موجَب الأمر قبل الحظر هو الندب أو الإباحة، فهو عندهم بعد التحريم كذلك. ثانياً: أما القائلون بأن موجَب الأمر قبل الحظر هو الوجوب، فقد اختلفوا فيه على مذاهب ثلاثة: الأول: الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وإليه مال الشافعي وبعض أصحابه. الثاني: الأمر الوارد بعد الحظر للوجوب، واليه مال عامة الحنفية. الثالث: الأمر الوارد بعد الحظر يرجع الحكم فيه إلى ما كان عليه قبل الحظر وهو اختيار ابن تيمية والكمال ابن الهمام. ثالثأ: القول بالوقف، وإليه ذهب الجويني، والغزالي، والآمدي. انظر: "البرهان" 1/ 263 - 265، و"المنخول" 131، و"الإحكام" 2/ 165، "نهاية السول" 2/ 272، و"تفسير النصوص" 2/ 361.

- فصل يجمع الدلائل على مذهبنا

فصل يجمعُ الدلائلَ على مذهبِنا والدلالةُ على أنه يقتضي الإِباحةَ والإطلاقَ دون الوجوب، أن النهيَ والحظرَ الذي تقدّم كان مانِعاً من الفعل، وبين الحظر والإيجاب مراتب ثلاثة: الإطلاقُ، ثم الندبُ، ثم الِإباحةُ، ثم الِإيجابُ، فإذا قال السيدُ لعبده، أو المطاعُ في الجملة لمطيعهِ ومن هو دونهُ: لا تدخلِ الدارَ، ثم قال له: ادخلْ. لم يجزْ أنْ نُسْقِطَ درجتين، الِإطلاقَ والندبَ، ثم نرتقي إلى الإيجاب إلا بدلالةٍ، لأن الأقربَ إلى هذه اللفظةِ بعد المنعِ الِإطلاقُ فيما كَان مَنَعهُ عنه والتخليةُ مما كان قيَّده به. ولهذا يحسُنُ أنْ يُقال: أذِنَ له بعد المنعِ، وأطلقَهُ بعدَ الحظرِ، ولا يُقال في حالِ الابتداءِ ذلك، ولا يَحسُنُ أن يقالَ لمن قال لعبدهِ ابتداءً: افعل، أنه مطلقٌ، بل هو مُقيّدٌ بالأمرِ، مستدعىً منه إيجادُ ما أمر به. ويدل على ذلك أيضاً أن كُلَّ أمرٍ بعد حظرٍ في القرآن على الإباحةِ، فيجب أن يُحملَ على ما وَرَدَ به القرآنُ، والدلالةُ على هذه الدعوى قولُه سبحانه: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...} [المائدة: 95] إلى قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...} [الجمعة: 9] إلى قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، وقوله سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].

- فصل يجمع الأسئلة

ويدل على ذلك: أنَّ تقدمَ الحظرِ كان يقتضي الكف عن ذلك الفِعْلِ المحظورِ، فإذا جاءَ لفظُ الاستدعاءِ، وهو صالحٌ لإِزالةِ ذلك الحظرِ، والإذن والإطلاق في فعلِهِ، وجَبَ أن يُحملَ على ما صَلَح له، كما لو استأذنَ الأدنى الأعلى، هل أفْعَلُ كذا؟ فقال له: افعل، كان تقدمُ الاستئذان منه جاعلًا لقول الأعلى له إذناً، وإطلاقاً لا أمراً موجِباً، ولا ندباً، ولا يُوجِبُ وقفاً، كذلكَ تقدّمُ الحظرِ، بل الحظرُ آكدُ، لأنَ الاستئذانَ يترددُ بين المنعِ وبين الِإطلاقِ، والحظرُ يقتضي المنعَ بأصلِ وضعهِ، ويدل على ذلك في حق من قال: إنَ الأعيانَ في الأصلِ على الإِباحةِ، جعل الأفعالَ على الإِباحةِ، فإذا ورَدَ الأمرُ بعد الحَظْر، ارتفِع الحَظْرُ، وعاد إلى الأصلِ، ويَدُل عليه أنَّ تقدمَ الحَظْرِ أو مقارنته لصيغةِ الأمرِ ولفظةِ: (افعل) يخرجُها عن وضعها، بدليلِ التهديدِ، فإنَّه بصيغةِ الأمرِ، لكن لما تقدَّمه الحظرُ أو قارنَهُ الزجرُ جعلهُ موضوعاً آخر. وهو التهديدُ، وقد كان مع التجردِ والإِطلاقِ يقتضي الإذنَ والإِباحة، مثل قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وبعضهُ يقتضي الإيجابَ، مثلُ قولِه: {واستفزز من استطعت منهم بصوتِك} [الاسراء: 64]، فَعُلِمَ أن تقديمَ الحظر مؤثرٌ. فصل يجمعُ الأسئلة قالوا: إذا حظَرَ ثم أمرَ، جازَ أن يكونَ الحظرُ منسوخاً بالإباحةِ، ويجوز أن يكونَ بالندب، ويجوزُ أن يكونَ بالإيجاب، وليس حملُه على أحدِها دون الآخرِ أَولى من العكسِ من ذلك، فبَقيْنا لفظة الأمرِ على مقتضاها، وأسقطنا المتردِّداتِ.

قالوا: ولأن صيغةَ النهي إذا وردَتْ بعد الأمرِ حُمِلت على مقتضاها من الحظْرِ، وإن كان أقلُ احتمالاتِها إسقاطَ الكُلْفَةِ، فإنَّ السيدَ إذا قال لعبدِه: سافرْ إلى بلدِ كذا، ثم قال له: لا تُسافر، احتملَ: فقد أسقطتُ عنكَ كُلفةَ السفرِ، لا أنِّي حظرتُ عليك السفرَ، ثم حُمِل بعد تقدُم الأمرِ على النهي والحظر دون التخفيفِ وإسقاطِ الأمرِ، فَبَطَلَ ما عولتُمَ عليه من تقدُّمِ الحظرِ، وادعيتموه قَرينةً مغيِّرةً لموضوعِ الأمرِ ومقتضاه. قالوا: ولأن القرينةَ ما وَافَقَتْ. دونَ ما ضادتْ وخالفتْ، وبينَ الحظرِ والاستدعاءِ تضاد، فكيفَ يُدَّعى أنَ أحدَهما قَرينةٌ للآخرِ؟! قالوا: وتعويلكم على الأوامر الواردِة في القرآنِ بعد الحظرِ وأنها على الإِباحةِ ليس بمسلّم (¬1)، فإنَ قوله سبحانه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [يقتضي الوجوب]، (¬2) وكان هذا أمراً بعد حظرٍ ونهيٍ عن القتلِ في الحَرَمِ. على أنّا في هذه المواضعَ صِرْنا إلى الإباحةِ بدلائلَ دلتْ على الِإباحةِ لا بمجرّد تقدم الحظرِ. ولو كانت على ذلك من غير دلالةٍ لما مَنَعَنَا ذلك من حملِهَا على الِإيجابِ الذي هو مقتضاها في الأصلِ دون الِإباحةِ، بدليلِ أنَ أكثرَ عموماتِ الكتاب على التخصيصِ، ثُمَّ لا تُحْمَلُ بإطلاقِها على الأكثر، لكن على اَلأصلِ في الوضعِ، وهو العمومُ وإنْ قل. وقالوا: ولأن الأصلَ في الاصطيادِ الإباحةُ، وكذلكَ البيع، وكذلكَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بمسمى". (¬2) زيادة يقتضيها السياق، وهي في "العدة" 1/ 258.

- قصل في الأجوبة عن الأسئلة

إتيانُ النساء، فلما عَرَضَ الِإحرامُ، وكان الصيدُ مشغلاً (¬1) ومُلهياً عنه، والبيغ مشغلًا عن الصلاةِ مع كونه مباحاً في الأصلِ، والأصل إباحةُ وطءِ الزوجاتِ لولا عارضُ الحيضِ، فلمّا ثبتَ عارض التحريمِ على إباحةِ الأصلِ جاءت صيغة الأمرِ بالاصطيادِ والبيع والوطءِ، كأنَ الظاهرَ أنه لمّا زالَ عارض التحريمِ أعادَهم بصيغة الأمرِ إلى مقتضى الأصلِ وهي الإِباحة، فهذه قرائنُ صالحةٌ لجَعْل الصيغةِ إطلاقاً، بخلافِ ما نحنُ فيه من حظرٍ مطلقٍ يعقبه أمرمطلق. قالوا: وأما دعواكم أنَ الأصلَ الإِباحةً، فليس بصحيحٍ، لأنَ عندنا أن الأصلَ على الوقفِ دون الإِباحةِ. فصل في الأجوبةِ عن الأسئلةِ أمَّا الأوّلُ وقولُهم: إذا أمرَ بعد أنْ حظَر جاز أن ينسخَ الحظر بما شاء من إباحةٍ أو إيجابٍ أو ندبٍ، فهو كما ذكرتم، لكن أقل ما يزولُ به الحظرُ، وأوَّله من هذه الأقسام، إنّما هو الإطلاق، ويليه في الرتبةِ الندبُ، والغايةُ هو الإيجابُ، فلا يجوز حملُ الصيغةِ على غايتها في هذا المحلِّ المحتملِ، وليسَ كذلك إذا وردت ابتداءً، فإنَّه لا ترددَ فيها ولا احتمالَ مع أدلةِ الإيجاب المتقدم، وما هو إلا بمثابةِ ما لو تقدمَ استعلامُ العبدِ، هل يفعل أو لا؟ أو اَستئذانه، فَيَعْقُبُ ذلك من السيدِ صيغةُ: افعل، كان إذناً، ولو وردتْ ابتداءً كان أمراً، فقد بانَ أن للتقدّمِ أثراً في التعبيرِ لهذه الصيغةِ. وأمَّا صيغةُ النهي إذا جاءتْ بعد الأمرِ، فإنها تقتضي على ما قال ¬

_ (¬1) في هامش الأصل: "كذا بخط ابن عقيل، وِ الصواب: شاغلاً".

أصحابُنا التنزيهَ لا الحظرَ، وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنهم إنْ طلبوا وِزانَ الأمرِ بعد الحظرِ فوِزانُه من النهي بعد الأمر الإطلاق من عهدةِ الأمرِ، فإنَّ الأمرَ استدعاءٌ حتمٌ، هذا هو المذهبُ، فقوله: لا تفعل. بعد قوله: افعل. يعطي إسقاطَ الفعلِ لا حظرَه ولا التنزيهَ عنه، ووِزانُ الحملِ للنهي بعد الأمر على التنزيهِ، حملُ الأمر بعد الحظرِ على الندب، فاذا لم يُحمل الأمرُ على الندب الذي هوَ أدنى مراتب الأمرِ، بلَ على الإِطلاقِ بعد الحظرِ، حُمِلَ النَهيُ على الإِسقاطِ دونَ التنزيهِ، الذي هو أحدُ مراتبِ النهي. قالوا: وإن سُلِّم وأنه لا يقتضي الإِسقاطَ ولا التنزيهَ، لكن يقتضي ما اقتضاه الإِطلاقُ، ولأنه يطابقُ الأصلَ وهو الحظرُ، وهذا عندي ليس بانفصالٍ، لأنَ تأكده ليس بزيادةٍ على مقتضى الأمرِ، لأن مقتضى الأمرِ إيجابُ الفعلِ، ومقتضى النهي إيجابُ التركِ، فلا وجهَ لتأكيدِ أحدِهما على الآخرِ، ولأنَه مع تأكده تعملُ فيه القرينةُ فَيُحطُ عن رتبةِ الحظرِ إلى التنزيهِ، وقد جعلَ أصحابُنا تقدمَ الحظرِ قرينةً حطًت الأمر عن رتبتهِ، فهلا جعلوه كسائرِ القرائن في حطِّ النهي عن رتبتهِ، وهي الحظرُ، إلى أحدِ أمرين: إمَّا إسقاطُ ما أوجبه الأمرُ، أو التنزيهُ دون الحظرِ، ولا انفصالَ عن هذا عند المنصف. والمنعُ مذهب حَسَن على الوجه الذي ذكرته، وهو أن يجعل للإسقاط. وأمَّا قولُهم: إنً القرينةَ ما وافقتْ، والقَرينة المؤكدةُ للمقتضى ما وافقتْ، مثلُ القرائن

المؤكدةِ للأمرِ تؤكدُ ما يقتضيه من الإيجاب، وتزيلُ الاحتمالَ، مثلَ أن يقرنَهُ بالوعيدِ على التركِ وذِكر الايجابِ والحَتمِ، فأمَّا القرائنُ المخرجةُ للصيغةِ عن موضوعها، فإنها لا تكونُ إلا مخالفةً لمقتضاها لتُخرجها عن موضوعِها في الأصلِ. وأمَّا قولُهم: إنَّ صيغةَ الأمرِ قد وَرَدَت بعد الحظرِ، وأرِيدَ بها الإيجابُ، وهو قولُه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فإنما وجَبَ القتلُ بدلالةٍ وقرينةٍ، وهي قولُه: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] إلى قوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}، إلى قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)} [التوبة: 13]، وهذا نوعُ وعيدٍ وحث وتذكيرٍ بأفعالٍ تقتضي إيجابَ إعزازِ الدين بقتالِهم وقتلهم. وأما المخصوصاتُ من العموم وإن كثرتْ فإنَها ليست استعمالًا بمقتضى الصيغةِ، بل مقتضاها العموَمُ، وإنْ جاءًا لخصوصُ لم يَخرجْ عن أنَّ القصدَ التكثيرُ، فإنَّ الإِنسان لا يقولُ: جاءني سائرُ تميم، وكل ثقيف، إلا ويريدُ به التكثيرَ، فأمَّا الأمرُ بعد الحظرِ فإنه لا يجيءُ إلا وُيراد به الإِطلاقُ بعد التقييدِ، والإِباحةُ بعد المنع. وأما إنكارهم أنَ الأصلَ الإِباحةُ، فهي طريقة خصصنا بها من سلمها دون من يمانعها. وأمَّا قولُهم: إنَّ الأصلَ إباحةُ الاصطيادِ والبيوعِ، فحُرِّمَ لعارضٍ،

- فصل يجمع ما تعلق به من قال: إنها على مقتضاها في الأصل

فلمّا زالَ العارضُ عادَ إلى الأصلِ، وليسَ عَوْدُهُ إلى الأصلِ بأولى من تَبْقيةِ صيغةِ الأمرِ على الأصلِ، فلما تقابلَ أصلانِ، فرددتَ الأمرَ إلى أصلِ الإِباحةِ، عُلِم أنكَ راعيتَ أصلَ الحِل والإِباحةِ، وأسقطتَ لأجلهِ وضعَ الأمرِ في الأصلِ، وما كانَ ذلك إلا لتقدم الحظر. فصل يجمعُ ما تعلق به من قال: إنها على مقتضاها في الأصلِ من ذلك قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ...} [النور: 63] وهذا وعيدْ يشملُ المخالفةَ لكلِ أمرٍ، سواء تقدمهُ حظرْ أوْ كان مبتدأً لم يتقدمْهُ حظرٌ. وقوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...} [الأنفال: 24]، وجميعُ العموماتِ في إيجاب الأوامرِ، وهي على ظاهرِها، إلى أنْ تتحققَ دلالةٌ تصرِفُها عن ظاهِرها. ومن ذلك قولُهم: إن صيغةَ الأمرِ تقتضي الإيجابَ عندكم، وعند من وافقكم من الفقهاءِ والأصوليين، فتقدمُ الحظرِ لا يغيرها عن موضوعِها، كما لو قال: حرَّمتُ، ثم قال: أوجبتُ، فإنه لا يُخرجُ تقديمُ التحريمِ، لفظةَ الإِيجاب عن مقتضاها إلى الِإطلاقِ، ولا الندب، وإن كانت قد تَرِدُ والمرادُ بَها الندبُ، مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعَة واجبْ على كلِّ محتلم" (¬1). ومن ذلكَ قولُهم: إنَ النهيَ استدعى التركَ على وجْهِ الحتمِ، ثم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الصفحة508.

لو تقدَمهُ الأمرُ لم يكنْ تقدمُ الأمرِ قرينةً تقتضي إخراجَ صيغةِ النهي عن مقتضاها، وهو الحظرُ، كذلكَ صيغةُ الأمرِ لما اقتضت استدعاءَ المأمورِ به على وجهِ الإِيجاب والحتمِ، فإذا وردتْ بعد الحظرِ وجبَ أنْ تكون على مقتضاها من الَأصلِ، وهو الإِيجابُ أو الوقفُ أو الندبُ. ومن ذلكَ قولهم: إن صيغةَ الأمر تقتضي إيجاباً عند القائلين بالإِيجابِ، أوْ ندباً عند القائلين بالندبِ، أو الوقفَ عند أهلِ الوقفِ، ولا تخرجُ عن مقتضاها إلا بقرينةٍ، وتقامُ الحظرِ ليس بقرينةٍ، لأن القرينةَ ما يُبيِّن معنى اللفظِ ويماثله، فأمَّا ما يخالفه ويضادُّه، فلا يكون قرينة. وحرّروه قياساً، فقالوا: هذه صيغةُ أمرٍ تجرّدت عن القرائنِ، فكانت على مقتضاها في الأصلِ، كما لو لم يتقدمها حظرٌ. ومِنْ ذلك قولهم: لو كانَ الأمرُ بعد الحظرِ يقتضي الإِباحةَ، لكان سائِرُ أوامِر الشرعِ تقتضي الإِباحةَ، لأنَّ الأصلَ عندكم الحظرُ، فلا أمرَ إلا وهو بعد حظرٍ. وربما قال قوم: إن العقلَ يقتضي الحظرَ، فإذا جاء الأمرُ من طريقِ الشرعِ، وجبَ أن يكونَ على الِإباحةِ، دون الايجابِ والاقتضاءِ رأساً. ومن ذلك قولهم: إنَ اَلإباحةَ ليستْ قِسماً من أقسام الأمرِ، وإنما لم تكنْ من أقسامِه، لأنَ أدنى طبقاتِ الأمر أنَه استدعاءٌ لمَندوبٍ، ليُثابَ عليه، أو واجبٌ أكثرُ ثواباً وأعظمُ أجراً، فأمَّا المباحُ فإنه إطلاقٌ لا ثوابَ في فعلهِ، وإذا لم يكنْ من أقسامِ الأمرِ، فلا وَجْه لقولِكم: إن الأمرَ

بعد الحظرِ يقتضي الإباحةَ. ومن ذلك ما ذكره بعض (¬1) الأئمةِ في النظر: لو كان تقدمُ الحظرِ يُحيلُ في صيغةِ الأمرِ إحالة تغيَره (¬2) عن مقتضاه، لكان الأحق بأنْ يتغيرَ إليه التهديدُ؛ لأن التهديدَ إلى النهي أقربُ، وهذا عُرْفُ القومِ، وأنَهم إذا قدَّموا الحظر والزجر ثم عقَبوه بصيغةِ الأمرِ كان ذلك تهديداً، كقوله: اعملْ ما شئتَ بعد أن حَظَر عليه. وقولُ الباري سبحانَهُ لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] فلما لم يكن تهديداً، فأولى أنْ لا يكونَ إباحةً. ومن ذلكَ قولهم: إذا كان عند أصحاب الوجوب أو الندبِ، يفيد الِإيجابَ أو الندبَ، لكونه أمْراً، وكان تقدمُ الحظرِ لاَ يخرجه عن كونه أمراً، وجَبَ لذلك أنْ يكون محمولاً على فائدتِه في أصل الوضعِ، لأنَ تقدمَ الحظِر لم يُخرجه عمّا لأجله أفادَ ذلك، وهو كونهَ أمراً، كما أنَ تقدمَ خبرِ الأمرِ، أو استخبارهِ، أو بعضِ أقسام الكلامِ أو أقسام الأفعال، لما لم يُحْرج صيغةَ الأمرِ بتقدّمه عليه عن كونِه أمراً لم يكن قرينة تخرجُهُ عن الِإيجابِ أو الندب إلى الإباحةِ والِإطلاقِ. ومن ذلك الأمرُ من أحدِ أقسام الكلام، فلا يخرجُ عن مقتضاه في الأصلِ بتقدم الحظرِ، كالخبرِ وَالاستخباَرِ والنداءِ والتعجّبِ، فإن ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعد" وقد ورد فى الهامش. أنه تصحيف عن (بعض). (¬2) فى الأصل: "ويغيره"

- فصل يجمع الأجوبة عما ذكروه

هذه الأقسام إن ابتدَأ بها كانت على مقتضاها فى الوضعِ، وان تَلَفظَ بها شافعةً لما قدمه عليها من الحظرِ كانت على مقتضاها من أصلِ الوضعِ، فما كانَ منها خبراً قبلَ الحظرِ، كان خبراً بعدَ الحظرِ، وما كان تعجباً أو نداءً، كان كذلكَ قبلَ الحظرِ وبَعْده، كذلك صيغةُ الأمرِ ولا فرق. ومن ذلك قولهم: لو كانَ تقدمُ النهي يقتضي تغييرَهُ عن الإيجابِ إلى الإِباحةِ، وجَبَ أنْ يكونَ السامعُ لصيغةِ افعَلْ من الأعلى للأدنى، لا يحكمُ بأنها أمر حتى يسألَ هل تقدمها حظر أم لا؟ فصل يجمعُ الأجوبةَ عما ذكروه أما الَاياتُ، فإنها محمولة على ما ثَبَتَ أنه أمرُهُ، وعندنا أن هذا ليس بامرٍ، إنما هو إباحة واذن، بدليلِ ما ذكرنا، ولأنّه قارنَه الوعيدُ، فَدَل على الوجوبِ بقرينتهِ لا بمجرّدِ صيغتهِ. وأما إذا قال: أوجبتُ بعد قولهِ: حرمتُ، فإن صيغةَ الايجابِ صريحة في الإيجاب، فجازَ أن لا يؤثرَ بشيءٍ يُغَيِّرُ حكمها، تقَدُّمُ صيغةِ الحظرِ عليها، لأنها لا تصلحُ للإطلاقِ والإذنِ، وانما هي الغاية في الاستدعاءِ والانحتام، ولو أراد الإذنَ لما أتى بصيغةِ الإيجاب، ألا ترى أنه لو استأذنه اَلعبدُ في الدخولِ، فقال له: أوجبتُ عليكَ الدخولَ، لم يُعد إذناً، واذا قال له عقيبَ الاستئذانِ: ادخل، كان إذناً. وأما قولهم: إن النهيَ بعد الأمرِ يقتضي ما اقتضاه في الأصلِ، كذلك الأمرُ بعد الحظرِ، فلا نسلمهُ، بل يقتضي الإسقاطَ لما أوجبه

الأمرُ، فأمَّا أن يقتضي الحَظْرَ، فلا، وكما أن الأمرَ إذنٌ بعد الحظرِ، فالنهيُ تخفيفٌ وإسقاطٌ بعد الأمر، ولا أقولُ كما قال أصحابُنا: يقتضي التنزيهَ، لأن هذا القولَ منهم حطّ لرتبةِ النهي عن الحظرِ إلى رتبةٍ ثانيةٍ هي التنزيهُ، لأن صيغةَ الأمرِ لمّا ورَدَتْ عندنا بعد الحظرِ لم تكُ باقيةً على الأمرِ، لأنَ الأمرَ ليس من أقسامهِ إطلاقٌ ولا إباحةٌ، وانما مقتضاهما الاستدعاءُ، إمَّا إيجاباً، وإما ندباً، واذا أخرجنا الصيغةَ عن جميعِ أقسام الأمرِ، وأخرجنا صيغةَ النهي عن جميعِ أقسام النهي، فلا تحريم ولا تنزيهَ، لكنْ إسقاطٌ بعد إيجابٍ وتكليفٍ. وقد سلم بعض وافقنا في المسألةِ، وفرق بين صيغةِ النهي والأمرِ؛ بأن النهي يقتضي القبحَ والحظرَ، وهو مغلبٌ ومؤكدٌ، والمنعُ أصح. ولأن النهَّي يقتضي الحظرَ بظاهرهِ، من جهةِ أنّه استدعاءٌ للتركِ لا بصيغةِ الحظرِ، كما أن الأمرَ استدعاءُ الفعلِ لا بصيغةِ الِإيجابِ، وصُرِفتْ عن وضعِها لتقدُّمِ الحظرِ إلى الإطلاقِ، فيجب (¬1) أن تُصرفَ هذه عن الحظرِ إلى الإسقاطِ. وأمّا قولهم: تقدمُ الحظرِ ليس بقرينةٍ، لأن القرينةَ ما يُبيّن أو يماثلُ، فليس بصحيحٍ، لأنَّ القرينةَ التي تُبين وتماثلُ هي التي تؤكدُ حكم ما قارنته، كالوعيدِ على المخالفةِ مع صيغةِ الأمرِ، يقتضي الإيجابَ ويعضده، لأنّ الوعيدَ على التركِ من خصيصةِ وجوب المأمورِ به، والقرينةُ التي تخرِجُ الصيغةَ عن الموضوعِ الأصلَ، تباينُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يجب".

وتخالفُ، مثلُ الوعيدِ على فعلِ الشيء مع صيغةِ استدعائه بتَغيرِ الصيغةِ من الأمرِ إلى التهديدِ. وأمّا قولهم: إنَ الأصلَ عندكم الحظرُ، فليس كذلك، بل لنا فيه ثلاثةُ مذاهبَ: أحدُها: الِإباحةُ. والثاني: الحظرُ. والثالث: الوقفُ. والأشبهُ بمذهبِ أهلِ السنةِ الوقفُ، لأنَّ العقلَ لا يبيح ولا يحظرُ، وليس قبلَ الشرع سِوى العقلِ، وهو عاطلٌ عن إباحةٍ وحظرٍ، فلم يبقَ للقولِ بأحدهما إلا وُرُودُ السمعِ. وإن قلنا بالإِباحةِ، فلا يلزمُ أيضاً، لأنَّه لا يكون أمر بعد حظرٍ، لكن بعد إباحةٍ. وإنِ قلنا بالحظرِ، فإنَّه حظر حكميٌ وليس بنُطْقيّ، وفرق بينهما بدليلِ أن الحظرَ الواردَ من جهةِ النطقِ بعد إباحةِ الأعيانِ في الأصلِ على قولِ من يقولُ بِالإباحةِ، وورودُ الإباحةِ بعد حظرِ الأعيان في الأصل لا يكونُ نسخا، وما ذاكَ إلا لأنَّ اَلنسخَ إنما يكون بحكمَ ثبتَ نطقاً، فكذلكَ ورودُ الأمرِ نطقاً بعد الحظرِ حكماً، لا يلزمُ أن يكونَ إباحةً، كما لم يكن نسخاً. وأمَّا قولُهم: إنَّ هذا ليس من جملةِ أقسامِ الأمرِ، لأنَّ الأمرَ با لمباح لا يجِوزُ على الله سبحانه، إذ ليسَ فيه تعريض لإِثابةِ المكلّفِ. فنحنُ قائلون بموجبِ هذا، لأنَّه عندنا إذن وإطلاق، وليس بأمرٍ، لكنْ هو صيغةُ الأمرِ، ومن لَقّب المسألةَ بالأمرِ بعد الحظرِ، فإنّما يجوِّزُ بذلك لأجل الصيغةِ، ولا هو عندنا من أقسامِ الأمرِ وإن كان بصيغته، كقول المُهدِّد: افعل، صيغتهُ صيغةُ الأمرِ، وهو خارجٌ عن أقسام الأمرِ إلى معنى هو التهديدُ، كذلكَ هذه خرجتْ بتقدُّمِ الحظرِ عليهاَ إلى معنى هو الإِطلاق والإِذنُ.

وأمَّا قولهم: لو أثَّر فيه تقدمُ الحظرِ، لكان يجعله تهديداً، لأنَّ التهديدَ إلى النهي والحظرِ أقربُ. فلا يلزم، لأنَّا قد جعلنا هذا حجةً لنا، من حيث كانَ تغييرَ اللفظةِ عن مقتضاها في الجملةِ، وأنت لم تجعلْ تقدُّمَ صيغةِ الحظر عاملةً ولا مؤثرةً في صيغةِ الأمرِ، وإنما لم نجعلها نحن تهديداً، لأنَّ التهديدَ زجرٌ، وهو من آكدِ ألفاظِ الحظرِ، فإن العربيَّ إذا تناهى في الزجرِ، قال لعبدهِ: الآن افعل ما شئتَ، تقديرُه: فسترى ما أفعلُ بكَ من العقوبة. وإخراجُ صيغةِ الأمرِ إلى الزجرِ إخراجٌ عن موضوع إلى ضدِّه، لأنَّ الأمرَ استدعاء والزجرَ كف ومنع، وإخراجُ الشيءِ إلى ضدِّه، لا يقعُ إلا بضرورةٍ، وهي القرائنُ المتأكدة، وشواهدُ الأحوالِ الظاهرةُ، وليس في تقدُّمِ الحظرِ من القوةِ ما يخرجُ صيغةَ الأمرِ إلى ضدِّها من الحظرِ والزجرِ، فأمَّا إخراجُها إلى الِإطلاع، فهو مما يليقُ بالحالِ، لأنَّ الحظرَ أوجبَ منعاً، فأولُ مرتبةٍ ينحط إليها الحظرُ الإطلاق، لأنه لا تتقدمه مرتبة، ثمَّ الندبُ، ثم الإيجابُ، وكُلّه يقتضي إيَجادَ الفعلِ، إلا أنّه في الإباحةِ إطلاق في الفعلَ، وفي الندبِ حثٌّ، وفي الإيجاب حتم والزام، فأمَّا التهديدُ فإحالةٌ، وليسَ يقتضى الإحالةَ، إلا اَلضروَرةُ المحوجةُ إلى ذلك بأقوى الشواهِد، على أنّ صَيغةَ الأمرِ لا تكون تهديداً، إلا إذا تعقبت النهيَ وكانت في مجلس النهيِ، فأمَّا مع تطاولِ الزمانِ، فلا يكونُ تهديداً بحالٍ. وأمّا دعواهم أنّه ما خرجَ عن كَوْنِه أمراً، فيجبُ أن يكون على مقتضاهُ. فليس بصحيح لما قدمنا وأنَّ تقدُّمَ الحظرِ أخرجَهُ عن الأمرِ إلى الإطلاق والِإباحةِ، ولو بقيناه أمراً لبقيَ على مقتضاه في الأصلِ. وَأمّا قياسُهم على الخبرِ، وأنّه لم يخرجْ بتقدُّمِ الحظرِ عن كونه خبراً، والجمعُ بين صيغتي الخبرِ والأمرِ بأنَّه أحدُ أقسامِ الكلامِ، لا يلزمُ؛ لأنَّ الخبَر لا يُبنى في العادةِ على الحظرِ بناءً يخرجهُ عن الأمرِ

به، بدليلِ أنَه إذا قال لعبدهِ: لا تقربن هذه الدارَ ولا تدخلها، ثمّ قالَ بعد ذلك: قد دخلَها عبدي الآخرُ،. لم يؤثّر هذا في الحظرِ الأولِ، ولو قال له: ادخل الآن، سُمّي آذناً، وما عُد إذناً إلا لتقدم الحظرِ، ألا ترى أنَّ العبدَ لو استأذنَ سيِّدهُ في دخولِ الدارِ، فقال لَه سيّدُهُ: ادخلْ، عُد إذناً، ولو قال له: قد دخلَ غيرُك من عبيدي، لم يخرُجْ عن كونهِ خبراً، فصحَّ ما قلنا. وأمّا قولهم: إنه لو كان تقدُّمُ الحظرِ يُغَيِّر مقتضى اللفظِ، لما جاز أن يُحكمَ بأنه لا يحدث حتى يستبرىءَ ويبحثَ، هل تقدمَ الحظرُ أم لا؟، فإنّه باطل بالصيغةِ إذا وردَت بعد النهي والوعيدِ، فمنّها مقتضى التهديدِ، ولا يُقالُ إننا نحتاجُ أن نسألَ حين بادرَ الصيغةَ بالاستدعاءِ: هل كان قبلَها حظر أوْلا؟. فصل يكثرُ ذكرُهُ بين الفقهاءِ، ولا يُحقَّقُ الكلامُ فيه، بل يعلقُ تعليقاً. وهو قولُهم: إنّ ما لا يحصلُ الواجبُ إلا به فهو واجب. فاعلم -وفقكَ الله- أنَ التحقيقَ في ذلك أن يقال: إنَّ ما لا يصحُّ فعلُ الواجبِ إلاّ به على ضربين: أحدُهما: من قِبلِ الله سبحانَهُ. والثاني: من كسب العبْدِ. فالذي من قبل الله سبحانَه: إزاحةُ العلّةِ في التمكنِ من الفعلِ الذي أوجبهُ، ولا يحصلُ ذلك إلا بثلاثةِ أشياء: عقل تامٌّ، يصلحُ للنظرِ في دلائلِ الغير، وفهمِ الخطاب، والاستدلالِ بما ينصبُه سبحانه من الأدلةِ على ما أوجَبهُ عليه من أنواعَ

- فصل في توضيح قول الفقهاء: إن ما لا يحصل الواجب إلا به فهو واجب

التكاليف، ويصلحُ لتلقي أمرِه سبحانه، وإيجابهِ بالاعتقادِ لإِيجابِ ما أوجبه والتزام ما ألزمَه، والعزم على فعلهِ بحسب طاقتهِ وجُهدِهِ في مستقبلِ حالهِ التي لا يصحُّ إيقاعُ الفعلِ إلا فيها، وهي ظرفُ الزمانِ لأفعالِ المُحدثين. الثاني: أداةٌ يعملُ بها صحيحةٌ سليمة، مثل الجوارح، لأيقاعِ الأفعالَ من العباداتِ، وكونها على صفةٍ يصح أن يفعلَ بها ما أمِرَ به من أعمال الأبدانِ، كالصلاةِ والحجِّ وجميعِ الأنساكِ، وصحتها وجودُ الإستطاعةِ والسلامةِ من الآفاتِ المحيلَةِ بينها وبين الأفعالِ. والثالث: الدلائلُ المنصوبةُ على إيجابِ الواجب منها، ونَدْبِ المندوب إليه، على اختلافِ مراتِبها، من حصولِ الظَّن بالأماراتِ، واليقينِ باَلاستدلالياتِ الموجِبةِ للعلمِ، فهذهِ من قِبل الله. واختلفَ أهلُ الأصولِ في تسميتهِا واجبةً على الله، فلم تتحاشَ المعتزلةُ من ذلك، بناءً على أصلهِم وقولهِم بإيجابِ العقلِ ونفي تكليفِ ما لا يُطاقُ. وتحاشى أهلُ السنّةِ من أصحاب الحديثِ والفقهاءِ عن إطلاقِ ذلك، لكن قالوا: إنَ الله تفضلَ بالتزاَمِ ذلك، فأخبرَ عن نفسهِ بأنه لا يُكلفُ نفساً إلا وسعها، وهو الصادقُ في خبره تفضلاً منه، إذ ليس فوقَهُ موجِب يوجِبُ عليه، ولاقضاءَ للعقلِ معه. وأمّا الذي من قِبَلِ العبدِ ومن مقدوراتِه، فما كان طريقاً إلى فعلِ الواجب أو شرطاً له أو تسبُّباً إلى حصولِ شرطهِ، وذلكَ مثلُ الطهارةِ للصلاَةِ، وما لا تتمُ الطهارةُ إلا به، كتحصيلِ الماءِ، إمَّا بعملِ بَدَنٍ

كاستقائهِ من قعرِ بئرٍ أو غدير، أو مالٍ كابتياعه بثمنِ مثلِه أو زيادةٍ لا تخرجُ عن العُرْفِ، وعند قومٍ بثمنِ مثلِه فقط، وكذلك الستارةُ والتسببُ إليها بإجارةٍ أو إعارةٍ أو ابتياعٍ، والتوصّل إلى استقبالِ القبلةِ والوقتِ، ومراعاة الأظلّةِ والأماراتِ الدالّةِ على الأوقاتِ، كزوالِ الشمسِ وكونِ الظلِّ مثله أو زيادة، وطلوع الهلالِ للعلم بدخولِ شهرِ الصيام، وذلكَ إمّا بتوليهِ بنفسهِ إن كان عَالماً، أو بالسؤال للعالمِ به إن كان مَقلداً، فهذا وأمثاله من السعي إلى الجمعةِ، والسيرِ لقطعِ طريقِ الحجِ للوصولِ إلى مكة، وشَرْيِ الرقبةِ للعتق، وخرصِ النخيلِ والثمارِ لإِخراجِ العُشْرِ، وما شاكلَ ذلك، كُلُّ ذلك واجب على العبدِ، لكونه لا يُوْصَلُ إلى الواجب إلا به. والدلالةُ على وجوب ما شرطناه أولًا: أنَ العقلَ أداةُ الاستدلالِ والنظرِ، ولادلالةَ تتحصلُ إلا بإجهادِ العقلِ وإعمالهِ في فعلِ الواجب واجتناب المحظور واكتساب المندوب، والمكلف إنما كُلِّف تعريضاً لهَ بثوابِ الله، ولا ثواب له إلاَ بأعمال، الطَاعات واجتناب المعاصي، وأما ما يكون من الله سبحانه، فلأنّه برأ نفسَهُ ونفى عنهاَ تكليفَ ما لا طاقةَ لنا به ولا وُسْعَ، فقال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولا يَحْصلُ التعريضُ للثواب ومنعِ المفاسدِ، إلا بإزاحة عِلَلِ المكلفين بالإِقدارِ على الفعلِ والتركِ، وكذلك لم يَحْسُن بإجماعِنا تكليفُ الميتِ؛ لعدَمِ ما يفعل به ومعه، والأعمى نَقْطَ المصحفِ، وما ذلكَ إلا لِما فيه من الإِعناتِ، وقد ضمِنَ اللة على نفسهِ أنه لا يكلِّفُ نفساً إلا وسعَها.

وأمّا وجوبُ الدلالةِ، فلأن العاقلَ لا سبيل له إلى العلم بالمدلولِ إلا بعد أن يحققَ النظرَ والاستدلالِ بالدليلِ على المطلوبَ. وأمَّا الدلالةُ على أنه يجب علينا ما لا يمكن فعلُ الواجب إلا به، كالطهارةِ والستارةِ، لأن من تركَ صلاةً من يومٍ، خاطبناه بقضَاءِ صلاةِ يومٍ كاملٍ، ليتحققَ بفعل مالا يمكنُ تحققُ فَعلِ الواجب إلا به فعلُ الواجب، وإن كُنّا نعلمُ أنَّ أربعةً منها وجبتْ ليتحققَ فعْلُ الواجب، وليست واجبةً في الأصلِ. وكذلك غسلُ قصاصِ شعرِ الرأسِ، وليسَ من الوجهِ، ليحصلَ لنا استيعابُ جميعِ الوجهِ. وكذلكَ الِإمساكُ في جزءٍ من الليلِ ابتداءً قبل طلوع الفجرِ، واستقصاءً بعد غروب الشمسِ، ليتحققَ صومُ عامَّةِ النهارِ، وَقد أساء قوم من المتفقهةِ العَبارة فقالوا: فعلنا غيرَ الواجب ليتحققَ فعل الواجبِ، والتحقيقُ أَنَّا نوجِبُ الكلَّ، لعدمِ تحقيقِ العينِ. فصل واعلمْ أن مِن هذا القبيلِ: ايجاباً على الشخصِ المكلَفِ، يَقِف على انضمام مكلّفٍ آخرَ إليه، فمتى لم يحصلْ إجتماعُ غيرِه به وانضمامهُ إليه، لم يتحصلْ خطابُ الشرعِ له بذلك التَّعَبُّد، ولا ايجابهُ عليه، كالجمعةِ لا تقامُ حتى يتحصّلَ مع كلِّ واحدٍ تسعةٌ وثلاثون، وكالجهادِ لا يجبُ حتى يجتمعَ معه جماعةٌ تحصلُ بهم المنَعَة. وأمَّا الشاهدانِ اللذانِ تحمَّلا شهادةً، فمتى طالبَ [صَاحبُ]، الحقِّ كلَّ واحدٍ منهما مجتمعاً بالشاهدِ الآخر، أو منفرداً، لَزِمَه أداءُ ما عنده من الشهادةِ، لأنَّ الاجتماعَ ليس بمشروطٍ، ألا ترى أنَّ أداءَ كلُّ واحدٍ

- فصل من هذا القبيل

بمفْردِهِ يسمعه الحاكمُ ويجبُ عليه سماعهُ، ولا يصح شروعُ كلِّ واحدٍ من الأربعين في الجمعةِ، ولا ينفردُ الواحدُ بالجهادِ من غيرِ منَعَةٍ، واذنِ الإِمامَ. فصل منتفع بعلمهِ لا يسعُ الفقيهُ جهلَهُ، وهو من هذا القبيلِ. وهو أن ما كان شرطاً لحصولِ الوجوبِ على المكلفِ لا يلزمهُ تحصيلهُ، ولا يجب عليه اكتسابهُ والتوصلُ إلى تحصيلِه بإجماع العلماءِ، مثل فقيرٍ لا مالَ له، لا يجبُ عليه اكتسابُ نصابٍ وتحصيلهِ لتجبَ عليه الزكاةُ، ومن لا رقبةَ له وإطعامَ، لا يجبُ عليه اكتسابُ رقبةٍ ليحصلَ من أهلِ الإعتاقِ في التكفيرِ، ولا يجبُ على آحادِ المسلمين أن يتسببوا لإِيجابِ الجمعةِ، مثل جمع أهل قريةٍ لايتمّون أربعين رجلًا، لا يلزمُهم ترغيبُ نازِل ينزلُ عليهم ويستوطنُ قريتهم ليتم عددُ الجمعةِ، فتجبُ عليه الجمعةُ، ولا يجبُ على المريضِ الضعيفِ عن القيام في الصلاة أن يتداوى ويتقوّى ليُصلي قائماً، فتَحقَّقَ من هذا، أنَ التَسببَ لِإيجابِ العباداتِ على المكلفِ لا يجب. وفارقَ التسبُّبَ لما وجَبَ وخوطبَ به، مثل تحصيل الطهارةِ، والستارةِ، واستقبالِ القبلةِ، فإنَ تلك شرائطٌ للواجب الذي خُوطِبَ به مشروطاً بتلك الشروطِ، وهذا لم يجبْ، فلم يلزمْه تحَصيلُ معنى يتجه به الخطابُ بالوجوبِ.

- فصل منتفع بعلمه لا يسع الفقيه جهله

فصل ومن ذلك قياساً عليه وإلحاقاً به، أن العبدَ لا يجبُ عليه أن يرغِّبَ سيدهُ في عتقهِ بالكتابةِ، وكثرةِ المالِ الذي يبذلهُ، لتحصلَ له الحرّيةُ، ليتجهَ نحوه خطابُ الأحرارِ بالجمعةِ، والجهادِ، والحجِ، وغيرِ ذلك من التكاليفِ. فصل ومن هذا القبيل ما يُدْخِلُه الإنسانُ على نفسهِ بكسبهِ، مما يتعذرُ به فعلُ الواجب؛ كالحاملِ تضربُ بطنَها فتنفس، وينقطعُ دمُ الحيضِ عن المرأة فتشرَب دواءً ليعودَ دمُ الحيضِ، ومن يكسرُ ساقَه فلا يستطيعُ النَهضَةَ في الصلاةِ، فهم (¬1) لا يصيرون في سقوطِ الفرض عنهم كالمعذورين بما يفعله الله سبحانه فيهم؛ من الزَمانَةِ، والحيضِ، والنّفاسِ، ابتداءً. فصلٌ ومن هذا القبيلِ: ما إذا أدخلَهُ المكلفُ على نفسهِ لم يزلْ خطابهُ، وإن كان مثل ذلك لو جاءَ من قِبلِ الله سبحانه لأسقطَ التكليفَ، كالسكرِ المغطي للعقل، وتعمّد شرب البنجِ، العامل عملَ الخمرِ في إزالةِ التمييز والتحصيل، فهذا لا يسَقطُ الخطابَ، وبمثله لو كان بإغماءٍ أو جنونٍ أسقطَ الخطابَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فهو".

- فصل من هذا القبيل

فصل واعلمْ أنه كما قدمنا أن الواجبَ إذا لم يمتاز عن غيرِ الواجب، وجب كل ما لا يمكن تحققُ فعلِ الواجبِ إلا بفعله، كفعلِ صلواتَ جميعِ اليوم والليلةِ لتركِ صلاة منها لا تُعرف عينُها، وغسلِ قصاصِ شعرِ الرأسِ ليُعلم تحقيقُ غسلِ جميعِ الوجهِ، والإمساكِ في طرفي النهار من الليلةِ قبلَهُ وبعدَهُ، لتحققِ إمساكِ جميعه، كذلك إذا اختلطت أعيانٌ؛ بعضها نجس أو غير مذكا بطاهرٍ ومذكاً، وأعيان يحْرُم الاستمتاعُ بها والتزويج. وتجب أنْ تقولَ في ذلك: فعلُ غير الواجب مع الواجب، وتركُ غير المحرّم لأجلِ المحرّمِ، لكنْ يقال: اَلكُلُّ واجب، والكُلُّ محرم، إذ لَا ميزة فيه بين الأزمانِ والأعيانِ، فصار الكلُّ واجباً، أو واجباً فيه، والكلُّ محرماً، أو مُحرماً فيه. فصل وخَرَجَ من هذا اختلاطُ واحدةٍ من محارمهِ بأهلِ بلدٍ كثيرٍ، أو بنساءِ أهلِ الدنيا، أنهُ لا يحرم لمَا في ذلك من المشقةِ الفادحةِ، وهجرانِ الأعيانِ بالكُليةِ، بخلافِ الأعيانِ التي يقلُّ عددُها. فصل في الأمرِ المطلقِ المتجردِ عن القرائن اختلفَ الناسُ فيه، فَذهَب صاحبنا رضي الله عنه وأصحابُه إلى

* فصل في الأمر المطلق المتجرد عن القرائن

أنه يقتضي التكرارَ (¬1)، سواءٌ كان معلَّقاً بوقتٍ يتكرر؛ كطلوع الفجر وزوال الشمس أو غروبِها، مثلَ قوله: صلِّ إذا طلعَ الفجرُ، أو إذا زالَتِ الشمسُ أو غربتْ، أو كانَ مطلقاً، مثل قوله: صل وصُمْ. وذهب أكثرُ المتكلمين إلى أنه لا يقتضي إِلا فعلَ مرةٍ، وإليه ذهبَ أكثرُ الفقهاءِ (¬2). ومن أصحابِ الشافعي (¬3) من قال: إنه يقتضي التكرارَ. وقال بعضُ الفقهاءِ: إِن كان معلقاً بشرطٍ يتكررُ أو وقتٍ اقتضى التكرارَ، وإن كان متجرِّداً مطلقاً اقتضى فعلَ مرةٍ (¬4). وقالت الأشاعرةُ: هو على الوقفِ إِلى أن ترِدَ دلالة تقتضي التكرارَ أو فعلَ مرةٍ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر:" العدة": 1/ 264، و"التمهيد": 1/ 186 و"روضة الناظر": 1/ 199، و"شرح الكوكب المنير": 3/ 43. (¬2) انظر: "الاحكام": 2/ 225، و"المحصول": 2/ 98 و"التبصرة" ص (41)، و"البحر المحيط": 2/ 385. (¬3) ممن ذهب إلى ذلك من أصحاب الشافعي، الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في جماعة من الفقهاء والمتكلمين. (¬4) نُسِبَ هذا القولُ إلى بعض الحنفية والشافعية، وهو ما اختاره المجد ابن تيمية، انظر "المسودة" ص (20). (¬5) هذا رأي القاضي أبي بكر وجماعة الواقفية، بمعنى أن الأمرَ المطلق يحتملُ المرة. ويحتمِلُ لعدد محصور زائد على المرة والمرتين، ويشملُ التكرار في =

فصل يجمعُ أدلتَنا على أنه يقتضي التكرارَ ما رُوِي أَنَّ عمرَ بنَ الخطابِ قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمّا صلى بطهارةٍ واحدةٍ فجمعَ بها بين صلواتٍ عامَ الفتحِ، قال له عمر بنُ الخطاب: أعمداً فعلتَ هذا يا رسولَ الله؟، فقال: "نعم" (¬1)، ولو لم يَعْقِل من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وجوبَ تكرارِ الوضوء لتكرارِ الصلاةِ، لما سألهُ عن ذلك واستفصلَ عن عمدٍ فَعَلَ، أو على وجهِ السهوِ. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه لما أمرهم بضربِ شاربِ الخمرِ، كرّروا عليه الضربَ. وروي أن الأقرعَ بن حابس سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أحجنا هذا في كلِ سنةٍ؟ أو في العُمرً مرّةً واحدةً؟ (¬2)، فلو كانَ يقتضي مرةً لم يكُ للسؤالِ معنى. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا ¬

_ = جميع الأوقات، فيتوقف للجهل بالواقع. انظر: "المنخول" ص (108)، و"البحر المحيط" 38812. وذهب الجويني، إلى أن صيغة الأمرِ المطلق تقتضي الامتثال، والمرة الواحدة لا بُدَّ منها، وتحملُ على الوقف في الزيادة على المرة الواحدة. انظر "البرهان" 1/ 229. (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، حديث رقم (277). (¬2) سيرد تخريجه في الصفحة (561).

- فصل يجمع أدلتنا على أنه يقتضي التكرار

منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم فانتهوا" (¬1)، وهومُستصرح لتكرارِ الفعل، فلا وجهَ لمخالفةِ أمرِه والاقتصارِ على ما هو دون الطاقة. ومما يدل على ذلكَ: أن أكثرَ أوامرِ الشّرع على التكرارِ، وإذا ورَدَ أمر شاذ مُتجرًد، وجَبَ حَمْلُه على مُقتضىَ الأكثرِ، لأنّه صار بكثرةِ استعمالهِ عرفَ الشرعِ. ويدل على ذلكَ، أنَ النهيَ استدعاءُ التركِ، والأمرَ اقتضاء بالفعلِ، واستدعاء له، ثم إنَ النهيَ يقتضي الدوامَ والتكرارَ لتركِ المنهي عنهُ، فيجبُ أن يكون الأمرُ يقتضي دوامَ المأمور به. ويدلُّ عليه: أنَ قولَ الأعلى للأدنى: صلِّ، يحسُنُ تفسيرُه بصلاةٍ وبصلواتٍ، فدلّ علي أنّه يقتضي الجميعَ، فوجبَ حملُه على جملةِ مايقتضيه ويحسُنُ تفسيرهُ به. ويدلُّ عليه: أنَّ قولَ القائلِ لِمنْ هو دونَه: احفظْ هذا المالَ، واجلسْ في هذا المكان، وصمْ، وقمْ، وادخُلْ، وكُلْ، واركبْ. يقتضي الشروعَ فيه، ولا يحسُن، الخروجُ عما أمره به من جلوسٍ بعد القيامِ، وتخليةٍ بعد الحفظِ، وإفطارٍ بعد الصيام، وخروج بعد الدخولِ إلا بإذنهِ، حتى إنّه يحسُنُ توبيخُه على مَفارقةِ الحالِ التي أمره بها، حسبَ ما يحسنُ توبيخهُ بتركِ ذلك إذا قيَّده بالدوامِ. ويدل عليه: أنَ الأمرَ يقتضي وجوبَ الفعلِ والاعتقادِ والعزمِ، ثم إنَ الاعتقادَ لوجوبه، والعزمَ على فعلِه يجبُ دائماً متكرراً عندهم إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري من طريق أبي هريرة حديث رقم (7288) وأخرجه مسلم (1337). وصحَّحه ابن حبان (18) - (21).

حين يفرغُ من الأداءِ، وعندنا أبداً يجبُ أن يكون الفعلُ مكرَّراً، بل وجوبُ (¬1) الاعتقادِ والعزم لا يرادان (¬2) لأنفسهما، بل يرادانِ لأجل الفعلِ، وإذا وَجَبَ تكرار غيرِ المقصودِ لنفسهِ، فلئن يجبَ تكرارُ المقصودِ لنفسهِ أولى. ويَدُلُّ عليه: أن الأمرِ بالصلاةِ عامٌ في جميعَ الأزمانِ، والدليلُ عليه أنه يحسنُ أن يقولَ الأمرُ: صلِّ إلا في يوم كذا، أو وقتِ كذا، وصُمْ إلا يومَ العيدِ وأيامَ التشريقِ. ولو كان يقتضي فعلَ مرةٍ لا على الدوام، لما حسُنَ الاستثناءُ، فإن المرّةَ الواحدةَ لا يدخلُ في زمنها أيامٌ، فلمَا حسُنَ الاستثناءُ، عُلِمَ أنها عمتْ الأزمانَ، فحسُنَ أن يخرجَ منها بالاستثناءِ بعضُها، فإذا ثبتَ أنها تقتضي الدوامَ، وجَبَ أن تكون على عمومِها وشمولِها إلا أن تصْرفَ عنه دلالةٌ، كلفظِ العموم، يقتضي شمولَ جميعِ الأعيانِ، إلا ما أُخرِجَ عنه بدلالةٍ. ويَدلُ عليه: أنه لو أمرَ بعبادةٍ قيّدها بوقتٍ، فقال: صل وقت الزوالِ. لتقيَّد ولزمَ فعلُه فيه مرّةً واحدةً، فإذا أطلقَهُ بغيرِ توقيتٍ له لزمَ فعلهُ في سائرِ الأوقاتِ. ويدلى عليه أيضاً: أنَّ مطلقَ الأمرِ اقتضى إيقاعَ الفعلِ في جميعِ الأزمان، لأنَه لا تحديد فيه، فإذا قال: صُم، اقتضى إيقاع الصومِ في جميعِ الأزمانِ القابلةِ للصيام إلا ما خصَّها الدليلُ، فهو بمثابةِ قولهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] عام في جميعِ الأعيان. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يجب"، (¬2) في الأصل: "يردان".

فصل يجمعُ الأسئلةَ منهم على هذه الطرقِ قالوا: أمَّا قولُ عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أعمداً فعلتَ؟ يدلُّ على أنَهُ أشكلَ الأمرُ عليه، ولو كان على التكرارِ لقال له كما قال ذو اليدين (¬1): أقُصِرَتِ الصلاةُ؛ لَمَّا استقرتِ الأربُع رَكعاتٍ، وقولُ الأخر: ما بالنا نقصرُ وقد أمِنّا (¬2)؛ لَمَّا استقر شرط الخوفِ في اْلقصرِ، وهو قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فقال ما قال. وأمَّا قولُه فيِ شاربِ الخمرِ: "اضربوه"، عقلوا منه التكرارَ بقرينةِ دلالةِ الحالِ، وأنَه قصدَ ردعَهُ وإيلامَهُ، ولا يقعُ ذلك إلا بالتكرارِ. وأما قولهم: أحجنا لعامِنا هذا أم للأبدِ؟ فلو كان اللفظُ للتكرارِ لمَا سالَ، وإنما سالَ للإِشكالِ، فهو مشتركُ الدلالةِ، وإنّما حسنَ السؤالُ للاحتمال، ونحن لا نُنْكرُ أنها مع كونها لدفعةٍ تحتملُ التكرارَ. وأمَّا قوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، فأرادَ به أن العجزَ عن بعضِ المأمورِ به لا يُسقط الكُل، وأما الدفعةُ الثانيةُ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب السهو (1227)، وأخرجه مسلم في كتاب السهو في الصلاة والسجود له (573). (¬2) يريدُ بذلك ما رود عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر: أرأيت اقصار الناس الصلاة، وانما قال الله جل وعلا: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد ذهب ذاك، فقال: عجبت منه، حتى سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته". رواه مسلم (686)، وأبو داود (1199) وأحمد 1/ 36.

- فصل يجمع الأسئلة منهم على هذه الطرق

فليست داخلةً تحت الأمرِ. وأما قولكم: إنَ أوامرَ الشريعةِ أكثرُها على التكرارِ، فبدلالةٍ لا بالإِطلاق، وخلافُنا في الأمرِ المطلقِ، على أنَ أكثرَ عموماتِ القرآنِ مخضَصَة (¬1)، ولا يقتضي أن يكونَ الِإطلاقُ للعمومِ مقتضاه للخصوصِ. وأما تعلقُكم بالنهي وأنَه يقتضي التكرار، فلا يلزمُ، لأن النهي منع والأمرَ إيجاب، وفرق بينهما، بدليلِ أنَ اليمينَ على مَنْعِ النفسِ من الفعلِ، وهو قوله: والله لا دَخلتُ الدارَ. يقتضي الدوامَ، واليمينُ على الإلزامِ للفعلِ، مثلُ قوله: واللهِ لأدْخلن الدارَ، تُغْني فيه دخلةٌ واحدةٌ. قالوا: ولأن النهي يقتضي قُبْحَ المنهى عنه، وتركُ القبيحِ لا يتخصصُ بزمانٍ دونَ زمان، إذ هو قبيح أبداً، ولأنَ النهيَ المقيّدَ بوقتٍ يقتضي التكرارَ والدوامَ بخلاف الأمرِ. قالوا: وأمّا قولُه: صل، فإنه لا يقتضي إلا صلاةً واحدةً على طريقِ الحقيقةِ، فأما صلواتٌ فلا، ولهذا لو قال في لفظِ الخبرِ: صليتُ، ما اقتضى إلا صلاةً واحدةً، ويحسُن مِنَ المصلِّي صلاةً واحدةً أنْ يقولَ: قد فعلتُ ما امرتُ. قالوا: وأمّا قولُه: احفظ، فدلالةُ الحال تعطي الدوامَ، لأنَه ليس أحد يحب حِفظَ مالِهِ ساعةً، ثم يضيّعُ، فأما أن يكون تكرر الحفظِ ودوامه مفهوماً من جهةِ اللفظِ فكلا، ولكنْ من جهةِ العرفِ القائمِ في ¬

_ (¬1) فى الأصل: "يخصصه".

حق كل ذي مالٍ يستحفظه. فأمّا قوله: صل، فإنَة لا يقتضي إلا تحصيلَ ما يقع عليه اسمُ صلاةٍ، والتكرارُ لها والاستدامة أمر يقفُ على الدلالةِ. ولأنَّ البر في اليمينِ المعقودةِ على الحفظِ لا يحصل بحفظٍ يتعقبُهُ تضييعٌ، ويحصُلُ البر بصلاة واحدة يتعقبها خروج منها وتسليم. وأمَّا وجوبُ داومِ ما تضمنه الأمرُ من الاعتقادِ والعزم: قالوا: فأمَّا قوُلكم: إنَ صيغةَ الأمرِ تتضمن وجوبَ الاعتقادِ لِإيجاب الفعلِ، والعزمَ على فِعلِه، ثم إِن الدوامَ والتكرارَ مقتضى الأمر بهما، كذلك الفعلُ؛ فليس بلازمٍ، لأنَّ الاعتقادَ والعزمَ يجبُ متكرراً دائماً في حقِ الفعلِ المقيدِ بدَفعْةٍ، وهذا ليس لأجلِ الأمرِ، لكنْ لأنَ الأمرَ يتضمن الإِخبارَ بوجوبهِ، فإذا لم يعتقدْ كذبَ الخبرِ فتصديقُ (¬1) الخبرِ يجبُ دائما، وتكذيبهُ (¬2) منهيٌ عنه دائماً، وليس كذلكَ الأمر لأنَه يقتضي الفعَل، وقد يقال (¬3): إن الفعلَ لا يقعُ دائماً ولا يقتضي الأمرَ به، إلا على وجهٍ يحصلُ به ممتثلًا، وذلكَ يحصل بمرةٍ، كما يحصلُ البرُ بمرة. قالوا: وأما قولكم: إن الأمرَ بالصلاةِ يقتضي فعلَها في جميعِ الأزمانِ. فلا يُسلم؛ لأن الزمانَ غيرُ مذكورٍ ولا يتناولُه اللفظُ، لكنَه ظرفٌ يحتاجُ إليه فِعل المحدِثِ، ولئنْ سلمنا ذلكَ وأنه داخل تحت ¬

_ (¬1) في الأصل: "وتصديق". (¬2) في الأصل: "وتكذيبه". (¬3) طمس في الأصل.

الأمرِ، فإن أردتُم تناولَهُ عموماً لم نُسلِّم، وان أردتم على طريقِ البدلِ وأنه أي الأزمانِ أوقعَ فيه الفعلُ جازَ، فصحيحُ مسلمُ، لكنه لا يقتضي ما أردتُم من التكرارِ والاستمرارِ، كما لو قال: صلِّ في أي وقتٍ شئتَ. وفارَقَ الأعيانَ، لأنه تناولَها عموماً لا على سبيلِ البدلِ، وإنّما تعلقكم بحسنِ الاستثناءِ فليس تخصيصُهُ للعموم، بل لو قال وصرح: صل في أي الأوقاتِ شئتَ. الأ وقتَ الزوالِ كَان استثناء صحيحاً، وإنْ لم يكن الأمرُ يعم سائرَ الأزمانِ، ويوضحُ هذا أنه لو حَلَفَ: ليقتُلَنَّ المشركين. لم يبرَّ إلا بالتعميم، ولو حَلَفَ: ليُصلِّين، برَّ بصلاة واحدة في وقتٍ واحدٍ، فافترق حكم الأعيانِ والأزمانِ المشار إليها هنا، وانّما الأزمانُ التي تشابهُ بعمومِها عمومَ الأعيانِ، قوله: صل الدهرَ، أو صل أبداً، فإذا صرخ باسمِ الزمان على وجهٍ يقتضي الشمولَ، كان عاماً. قالوا: وأما قولُكم: لو قيدَ الأمرَ بوقتٍ لَلزِم إيقاعُه فيه بعينِهِ، ولَحِقَ الإثمُ والتفريطُ بتركِه فيه، واذا أطلقَهُ بغيرِ توقيتٍ، كانت جميعُ الأوقاتِ وقتاً له، وصار على التراخي. ونحنُ نقول: إنّه لا توقيتَ في المطلقِ، ولكنْ ذلكَ لا يوجبُ الدوامَ على ما وقَعَ لكم، فوجبَ أنْ يكونَ فعلُه على التراخي فقط، إذ لا يُفيدُ عدَمَ التأقيتِ والتَعيينِ إلا التراخي. قالوا: وأما قولُكم: إن إطلاقَ الأمرِ اقتضى إيقاعَ الفعلِ في جميعِ الأزمانِ، لأنه لا تحديدَ فيه، فصارَ بمثابةِ قولِه: افعلْهُ دائماً في سائرِ الأزمانِ. فهذِا باطلُ، لأنه إذا قال: صل، أوْ: اضربْ، فلا ذِكْرَ للزمانِ فيه بذكرِ توحيدٍ ولا تَثْنِيةٍ ولا جمعٍ مُعرفٍ ولا مُنكَرٍ، وإنما المذكور جنس الفعلِ فقط، وإنما اقتضى دليل العقلِ إيقاعَهُ في وقتٍ ما غيرِ

معيَّنٍ، فدعوى عموم الأزمانِ فيه خطأٌ، لأنه لا ذكرَ جرىَ للزمانِ في قولهِ: اضربْ وصل، وَإنّما ندعي العمومَ من لفظِهِ، ولفظُهُ هو أن يُنْزِلَ (صل) في الأزمانِ معرَّفاً أو مُنكرَّاً، أو صل دائماً سرمداً وما بقيتَ، ونحو هذه الألفاظِ حتى يجري ذلك مجرى قولهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لأنَ الياءَ والنونَ علامةُ الجمعِ، وهو اسمُ جَمْع بُنِيَ من لفظةٍ واحدةٍ، ولا ذِكرَ له في القول: صلَ. فصلٌ في جمعِ الأجوبةِ عن أسئلتهم أما قولُهم: لما سال عُمَرُ دلَّ على أنَّ اللفظَ ليس بموضوعٍ للتكرار. لا يصحُّ؛ لأنَه لو كان المعقولُ من ذلكَ مرةً لكان الذي أتى به صلى الله عليه وسلم هو مقتضى الأمرِ، فلا وجه لقولِه: أعمْداً، لأنَ المقتضى أبداً يعتمدُ إلى العملِ به، فلا وجهَ لسؤالِ من جاءَ لمَّا استدْعِىَ: لِمَ جئت، ومن أجَابَ لما نُودِيَ: أعمداً أجبتَ، لكنَّ المحتمِلَ للسؤالِ والاستعلام مَنْ فَعَلَ بما يُخالِفُ الوضْعَ، فقال له: أعَمدْتَ إلى المخالفةِ لمعنىَ علمتَهُ من باطنِ الأمرِ لقرينةٍ، أو دلالةٍ خفيت؟ وأمَّا قولهم: عَقَلُوا قَصْدَ الإِيجاعِ فكرروا الضرب. فالإِيجاعُ بالضربةِ يحصلُ، والزجرُ بالجلدةِ كافٍ، إلَّا أن تقومَ دلالةٌ أو تكون الصيغةُ للتكرارِ مقتضيةٌ، وفي الضربةِ الواحدةِ نوعُ إيجاع، ونوعُ إهانةٍ. قوله: أحجُّنا لعامِنا هذا؟ لو كانَ الظاهر منه دفعةً، لما حَسُنَ

- فصل في جمع الأجوبة عن أسئلتهم

السؤالُ مع الظاهرِ، وإنَما يحسُنُ السؤالُ مع أحد أمرين: إما أن يكون هو الموضوعَ له الأمرُ، أو هو المقتضى، فيَحْسُنُ السؤال في الحجِ، لمكانِ المشقةِ الحاصلةِ في التكرارِ، وإما أن يكون موضوعاً للأمرين، فيَسألُ للفصلِ بين الموضوعين، مثلَ سؤالهِ عن سائرِ المشتركاتِ. وأمَّا قوله: "فأتوا منه ما استطعتم" فالتكرارُ داخل تحتَ الاستطاعةِ، وهو عام في هذا وفيما ذكروه، فقصرُهُ على أحدِهما لا يجوزُ إلا بدلالةٍ، ونحنُ نأخذ الدفعةَ الثانيةَ من اللفظِ، فإنَّ قولَهُ: افعلْ، أمر بلا خلاف، والثانية مستطاعة، فكانت مستدعاةً بحكمِ اللفظِ. وأمَّا قولُهم: إنَ أوامرَ الشريعةِ أكثرُها يقتضي التكرارَ بالقرائن والأدلةِ لا بالإِطلاقِ، فهذا حجةٌ من وجهٍ، وهو أنَّ بالكثرةِ صار لنا عرف شرعي، فصرَفْنَا الإطلاقَ إليه. على أن الدلالةَ هي إجماعُهم، وما أجمعوا إلّا لأن الاستداعاءَ اقتضاءُ الدوامِ إلّا أنْ تَصْرِفَ عنهْ دلالة. وأمَّا قولُهم: النهيُ مَنْع، فلذلك اقتضى الدوامَ، فَرْقُ صورةٍ، وإلا فالمعنى جامعٌ بينهما أنَّه استدعاءُ التركِ والكف، وهذا استدعاء للفعلَ. وأما استشهادُهم باليمين فلا يصحُ، لأنَ المُغَلَّبَ فيها العرفُ، ولذلك تُتْركُ فيها الحقائقُ وُيرْجِح إلى العرفِ، والاستعمالُ في الحلفِ على الامتناع من أكلِ الرؤوس واللبنِ لا يحنثُ بأكلِ رؤوسِ غيرِ الأنعامِ، ولاَ بلُبس القميصِ والسَراويلَ تردّياً بهما وتعمماً، وعلى هذا

المثالِ: لو نَهىَ الله -وقد نَهى- عن لبسِ الحريرِ والجلودِ النجِسَةِ، فعم النهيُ، ولو أمرَ بأكلِ الرؤوسِ لعم كلَّ رأس حقيقةً. وافا قولهم: النهيُ يقتضي القبحَ فَعَمَّ، فليس بصحيحٍ؛ لأن من المناهى الشرعيةِ مالا يُعلَّلُ بالقبح، كالقِرانِ بين التمرتينِ، وكل التنزهاتِ. على أن القبيحَ قد يكون في الشرع في حال وزمانٍ دُونَ حال وزمانٍ، كقُبحِ الأكلِ نهارَ رمضانَ، وقبح الصوم يومَ العيدِ وأيامَ التشريقِ، وإلى أمثالِ ذلك من تحريمِ البيعِ وقتَ الندَاءِ، والصَّيدِ في الإِحرام، وإذا كان أكثر نواهي الشريعةِ مؤقتةً غيرَ مؤبدةٍ -وإن كانت مقَبحةً- فاينَ وجوبُ دوام تركِ القبيح ممن عَلَّلَ بالقُبحِ؟ لم يصح تعليلُه، ونحن نعلِلُ في الَأمرِ والنهي بأنه استدعاءٌ مطلقْ لتركٍ كان أو لفعلٍ. ومع هذا البيانِ، فلا يؤمَنُ أن يَستَديمَ التركُ في زمانٍ يكون التركُ فيه قبيحاً، مثل الإِمساكِ ليلًا، فيدخُلُ في حيزِ الوصالِ، وهجرانِ اللبسِ والطِيب بعد التحللِ الأولِ في الحج، فلا يؤمَنُ استدامةُ التركِ في النَهيَ المطلق أنْ يُصادفَ كراهة الشرع واستقباحَة، ولا يستمرُ حُسنُ العباداتِ أيضاً، كما لا يستمرُ قُبْحُ المنهياتِ، فإنَّ لنا أوقاتاً تَحْرُمُ الصلاةُ فيها، والصيامُ يحرم في أوقاتٍ، والطِيْبُ والهيثة طاعةٌ للجمعة والأعيادِ، وهجرانُهما طاعةْ في الإحرامِ، فأينَ دعوى استمرارِ قُبْحِ المنهيِّ أو حُسْنِ المأمورِ؟ وأما النَّهيُ المقيّد بوقتٍ معين، إن كان يتكررُ كتكررِ الشرطِ، مثلَ

قولِه: صُمْ الاثنين، واهجرْ الطيبَ يومَ السبتِ، يكون كالأمرِ سواءً، فإن الأمرَ المعلقَ بشرطٍ يتكررُ بتكررِه وتكررِ الوقتِ، وإنْ كانَ متعلقاً على زمان باسمٍ لا يتكررُ، مثلَ قوله: اهجرِ الأكلَ والطيبَ اليومَ. تخصَّصَ به. وأمّا قولُهم: إنَّ قوله: صلِّ، لا يقتضي إلا صلاة واحدة. فكلام لا يصحُّ، ومنعٌ لا وجهَ له، لأنَ قوله: صُمْ وقُمْ، إذا تركه بعد أن فَعَلَه، حَسُنَ أنْ يُطالَبَ بطريقِ التركِ والقَطْعِ من أين استفاده؟ فكذلك الصلاةُ إذا تركها بعد أنْ فعلها من أين استفادَ التركَ؟ وقولهم: يحسُنُ أن يقول: صليتُ، فيقابله أنه يحسُنُ إذا كرَّر أو استدامَ وأطال أن يقول: صليت، بحكمِ الأمرِ، ويجيبُ من سأله: لِمَ صليتَ؟ بأنَني امتثلتُ الأمرَ. وأمّا قولهم: أنه يَحْسُنُ أن يقولَ: صلَّيتُ الصلاةَ المأمور بها، وامتثلتُ الأمرَ، فلا يُسلم، وإن قال: صليتُ، ولم يقل: الصلاة التي أمرتني، أو امتثلتُ الأمرَ، فلعمري إنه خبرٌ صحيحٌ، ولكنه يلزم عليه إذا كان الأمرُ مقيداً باعتبارِ التكرارِ واشتراطِ الدوام، فإنَّه يحسُنُ أن يُخبرَ فيقولُ عَقِبَ صلاةٍ واحدةٍ: صليتُ، ولا يدل ذلك على أنه جملةُ المأمورِ به، ولا أنَّه قامَ بمقتضاه. وأما قولُهم في الأمرِبالحفظ: إنه يقتضي الدوام بقرينةٍ، وهو أنه لا يريدُ أحد تضييعَ مالِه في حال من الأحوالِ، ولا يؤثرُ حفظهُ في حالٍ دونَ حالٍ، وفي مسألتِنا لا قرينةَ تشهدُ بدوامِ الفعلِ إيجاباً بمجردِ الأمرِ. فكلامٌ لا يلزمُ، لأنَّه كما لا يأتي حالٌ يريدُ فيها ضياعَ ماله، لا

يعلَم هاهنا حالًا أرادَ فيها كون الذي أمرَهُ بالصوم أنْ يُفطرَ، ولا الذي أمَرَهُ بالحجِ أنْ يتحللَ، ولا الذي أمَرَه بالصلاَةِ أو القيامِ أن يُسَلِّم ويجلسَ. وأما البر في اليمينِ، فَقَدْ سَبَقَ الكلامُ عليه، وأنَه ينصرِفُ إطلاقُ اليمين إلى العُرفِ، وليسَ الدوامُ من العُرفِ، بدليلِ أنه إذا حَلَفَ: لأقومنَ على رأس فلانٍ الملكِ، ولأمشين في ركابِه بر بأيسرِ قيام، وأيسَرِ مشي، ولوَ أن الله سبحانه قال: قُمْ على رأسِ فلان، وامشِ في رِكابِه، أو قال من يُطاع من الَاذنين ذلك، فإنه لا يجوزأن يخرج ذلك المأمور من مقتضى أمرِه إلا بالقيامِ على رأسِه إلى أن ينهاهُ ويمشي في ركابِهِ إلى أن ينزل. وأمَّا قولهم في تعلقِنا بإيجاب التكرارِ في الاعتقادِ والعزم: بأنَ ذاك يقتضي الدوامَ حتى إن تقييدَ الفعلِ لا يوجبُ تقييدهماَ، فلا يصح، لأنَّ الفعلَ إنما لم يقتضِ الدوامَ لتقييدِهِ، واقتضى الدوامَ في باب العزمِ والاعتقادِ، فكانَ إطلاقُ الأمرِ بهما هو الموجب لدوامهما، وتقييد الأمر في الفعلِ أوجب تخصصه. وأما قولُهم: إنَ في تركِ الاعتقادِ كفراً وفي تركِ العزم إهمالًا، ولا يجوزُ ذلك في حالٍ. فيقالُ: لو كانَ في تأخرِه تكذيبٌ، لما جاز أن يأمرَ الله سبحانَه باعتقادِ الإِيجاب وقتاً مخصوصاً، وإن كانَ تَركُ الاعتقادِ تكذيباً، وإن في تركِ الاستدَامةِ قطعاً وتركاً، ليسَ في اللفظةِ إباحتَه ولا الإِذنَ فيه، ولذلكَ يحسُنُ أن نقولَ له إذا صامَ ثم أفطر: لم أفطرت؟، وإذا قطعَ

الاستدامةَ: لِمَ قطعتَ؟ وأمَّا قولُهم: إنَّه لا يعمُّ الأزمانَ لكن يعطي التخييرَ بين الأزمانِ. فليسَ بصحيح، لأنَّ قولَه: صلِّ أو صُمْ، يعطِي استدعاءَ الفعلِ مطلقاً، والزمانُ كله صالح للفعلِ فيه، فلا وجَه للبدلِ والتخييرِ مع كونِ الأمرِ مطلقاً، والزمانِ للفعلِ صالحاً. وقولُهم: إنَّ الزمانَ غيرُ مذكورٍ، فإنه ظرف لا بد منه لفعلِ المحدِثِ، فصارَ كالمذكورِ. وأما قولُهم: إنَ عدمَ التَّقْيد لا يقتضي سوى التراخي، فأما الدوامُ فلا. فهذا من أكبرِ الخطأ علي اللغةِ، لأنَّ الأمر استدعاءُ الفعلِ، وظاهرُه الجزمُ والحتمُ، ومن الجزمِ اقتضاءً إيقاعهِ في الزمانِ الذي يلي الأمر إذ لا توسعةَ في اللفظِ من طريق التخييرِ بينَ الفعلِ والتركِ، فلا توسعةَ فيه من طريقِ التأخيرِ عن الوقتِ الذي يلي الأمرَ.

فصول في متعلّقاتهم في نفي التكرار فصل في متعلقات القائلين بالوقف، وهم الأشاعرة (¬1) قالوا: لا خلافَ بين أهل اللسانِ في استحسانِ الاستفهام لمن قال له المطاعُ: اضرب، بأن يقولَ: أضرب واحدة، أمَ عددا محصوراً، أو دائماً؟ ولو أمرَه بضربٍ محصورِ العددِ، لقُبحَ الاستفهام، وما ذلكَ إلا لترددِ الأمرِ بين الضربةِ الواحدةِ والعددِ اليسيرِ، والكثيرِ والدائمِ، فلترددِه حسُنَ الاستفهامُ، ولتخضُصِ العددِ المحصورِ قبحَ الاستفهامُ، يوضحُ هذه الطريقةَ ويؤكدُها حديثُ الأقرعِ بن حابس (¬2) [و] سُراقة بن مالك ¬

_ (¬1) وهو ما ذهب إليه أبو بكر الباقلاني، واختاره الجويني، فقال: "الصيغة المطلقة تقتضي الامتثال، والمرة الواحدة لا بُد منها، وأنا على الوقف في الزيادة عليها، فلست أنفيه ولست أثبته، والقول في ذلك يتوقف على القرينة". انظر أدلتهم في: "البرهان" 1/ 229 - 231 و"التبصرة" ص (41 - 46) و"الإحكام" للآمدي 2/ 229 - 235. (¬2) حديث الأقرع بن حابس: وردَ من حديث ابن عباس أن الأقرع بن حابس سال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله الحج في كلِّ سنة أو مرة واحدة؟ قال: "بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع". =

* فصول في متعلقاتهم في نفي التكرار

وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحج؛ ألِعامِنا هذا، أم للأبد؟ فقال: "للأبد، ولو قلت: نعم لوَجَبَت، ولو وَجبَ، لم تستطيعوا" (¬1)، واقرار النبي صلى الله عليه وسلم على الاستفهام دلالة على حسنه شرعاً ولغةً. وما حسنت إلا لترددِ الأمرِ بين التكرار والمرةِ الواحدة. قالوا: ولأنه لو كان يقتضي الفعلَ مرةً، لما حسُنَ تقييدُه بها بأن يقول: افعلْ مرَةً. ولو كان يقتضي التكرار لما حسُنَ أن يصرح بالتكرار فيقولُ: اضرب مئةً مئةً، أو ألفاً، أو أبداً. فلما حَسُن ذلكَ، دل على أنه ما اقتضاه إطلاقُ اللفظ، ألا ترى أن العددَ إذا صرَح به لما كان مقتضى اللفظِ كفى ذلكَ من غير تصريح ثانٍ، وإذا ثبتَ هذا كانَ المذهبُ في هذا هو الوقفَ، إلى أن تردَ دلالةٌ تصرفُه إلى أحدِ محتَمليه، إما اقتضاءُ دفعةٍ واحدةٍ، أو أكثر. ¬

_ = أخرجه أبو داود (1721)، والنسائي 5/ 110، وابن ماجه 2886، وأحمد 1/ 291. (¬1) هذه الصيغة وردت في حديث، طويل لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أقامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينه سبعاً لم يحج، فذكر الحديث، وفيه فقال: "اجعلوا حجَّكم عمرة" وفيه فقال سراقة بن مالك: ألعامنا هذا يا رسول الله أو للأبد؟ فقال:"بل للأبد" أخرجه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، والنسائي 5/ 267 و 274، وابن ماجه و (3074)، والطيالسي (991).

فصلٌ في الجواب عن متعلقاتِ الواقفيةِ وهو أنَ حُسنَ الاستفهام غيرُ مقصورٍ على المتردِّدِ بين حقيقتين، كما أنَ التأكيد لم يدل على نَفي الوضعِ، وهو قولُ القائلِ: دخل زيدٌ الدارَ نفسُه، وأكلتُ رطلًا من الطعامِ وازناً، ورأيتُ الأمير بعينِه. ولذلكَ لم يقف تحسين الاستفصالِ والاستفسارِ على المشتركاتِ من الألفاظِ كجون (¬1)، ولون (¬2)، وقُرْء (¬3)، وشفق (¬4)، بل حسُنَ الاستفهامُ عن ألفاظٍ يَنصرفُ إطلاقُها إلى حقائقَ هي موضوعةٌ لها، لمكانِ التجوُّزِ فيها، ودخولِ الاستعارةِ عليها حُكماً؛ فإنَّ العَرَب اسْتَحْسَنَت قولَ القائلِ لمن قال: اصبغ ثوبي لوناً، وائتني عند غيبوبة الشفق: أي لونٍ أصبغ الثوب؟، وعند غيبوبة أي الشفقين (¬5)؟ واستحسنت استفهامَ قول القائل: دخلَ السلطانُ البلدَ، وجاءَ الغيث، وماتَ زيدٌ، هل دخل بنفسه، أم ¬

_ (¬1) يطلق الجون على اللون الأحمر، والأبيض، والأسود، كما يطلق على النهار، فهو من الألفاظ المشتركة المترددة بين أكثر من معنى، ولا يحمل على أحد هذه المعاني إلا بقرينة. انظر "لسان العرب"، و"القاموس المحيط": (جون). (¬2) لون كل شيء هو ما فصل بينه وبين غيره، كالسواد، والبياض، والخضرة، والحمرة، انظر "لسان العرب" مادة "لون". (¬3) يستعملُ القرء بمعنى الحيض والطهر، فهو متردد بين هذين المعنيين. (¬4) يطلق الشفق على الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء، وعلى النهار، والخوف، والرديء من الأشياء "القاموس المحيط": (شفق). (¬5) أي الشفق الأحمر أو الأبيض.

- فصل في الجواب عن متعلقات الواقفية

عسكرِه ورَجِلِه؛ وهل هطلَ المطرُ؟ وزهقت نفسُ زيدٍ، أم قاربَ مجيءُ الغيثِ، وكادَ أن يموتَ زيدٌ؟ إذ كان الاستعمال للمجاز في ذلك لا تتحصل به حقيقة الأمرِ فيه. قال بعضُ الأئمةِ: وكما حسُنَ في لغتِهم من القائلِ، وإن كان المؤكدُ مستقلًا، حَسُن الاستفهام من السامع، وإن كان الكلام مستقلًا. فإذا ثبتَ هذا: وجدنا أنَّ الظاهرَ هاهنا ليس بأكثرَ من العموم في الأعيانِ الذي يُرادُ به شمولُها، لأحكام، ثم لما جاءَ بمعنى الخصوَصِ حسُن الاستفهامُ، كذلكَ في مسألتنا، الذي يقتضيه الظاهُر دوامَ الفعلِ المأمورِ به، وقد يجيءُ والمرإدُ به المرةُ، فلذلكَ حسُنَ الاستفهامُ. ولهم أن يقولوا: قد قررتم أنَ الاستفهامَ إنما حَسُنَ بالترددِ والاحتمالِ، وتبينتبم أن جهتي التردُّدِ الاشتراك في الأسماءِ المشتركةِ، كجون، ولَوْن، وقرء، أو الترددُ بين حقيقةٍ: واتساعٍ باستعارةٍ ومجازٍ، ونفيتم الاشتراكَ هاهنا بين المرةِ والتكرارِ، فلم يبق لتحسينِ الاستفهام هنا إلا الحقيقة والمجازُ، فبينوا أنَ استعمالَه في المرةِ مجازٌ، ولنَ يستطيعوا ذلك لما بيَّنا من كونِهما سواءٌ، وما يأتي من أدلةِ من يعتقدُ أنَّ المقتضي فعل مرةٍ واحدةٍ. قيل: أدلتُنا هي التي أوجبت كونَ الِإطلاقِ يقتضي الدوامَ والتكرارَ، فلا حاجةَ بنا إلى إعادتِها. وأما تعلُّقُهم بأنه لو كان يقتضي دفعةً، لما حَسُن أن نقيده بها، ولو

كانَ يقتضي الدوام، لما حَسن تقييده به، ليس بتعلق صحيح؛ لأن الِإطلاقَ يعطي الدوامَ بظاهرهِ، فإذا نطق به أعطى ذلك بصريحه، ولا يجوز جحد حسنِ الترقي من الظاهرِ إلى النصّ، بل لا يحسن حجد التصريحِ بالحقيقةِ مع كونِ الِإطلاقِ ينصرف إليها، مثل قول القائل: رأيت زيدأ نفسَه. فمن حيث حسن الاستفهام، لإِزالةِ الشبهةِ عن المستفهمِ، حسنَ التصريحُ الذي هو أعلى من رتبةِ الظاهرِوالتأكيدِ بذكرِ الحقيقةِ الذي هو أصرحُ من الإِطلاقِ، لِإغناءِ المخاطَب عن كلفةِ الاستفهامَ. فصل يجمعُ ما تعلق به من ذهب إلى أنه يقتضي مرة واحدة (¬1) قالوا: قوله: صلِّ. أمرٌ، بينما قولُه: صلى. خبرٌ عنه، ثم ثبتَ أن قولَ القائلِ: صلى زيدٌ. لا يقتضي التكرار، كذلكَ قوله: صل يا زيد. لا يقتضي التكرارَ. قالوا: قوله: صَلِّ، وصُمْ. لا يقتضي أَكثرَ من إيجادِ ما يقعُ عليه اسم صلاة وصوم، ويقع على فاعلهِ بأنه صلى أو صامَ. يوضحُ هذا: أنه إذا فعلَ صلاة حَسن أن يقول: قد صليتُ. وإذا صامَ يوماً، حَسُن أنْ يقول: صمت، فهذا غايةُ ما في قوة ¬

_ (¬1) انظر أدلة جمهور الأصوليين القائلين بأنَّ الأمرَ لا يقتضي التكرار في: "البرهان" 1/ 227 - 231، و"التبصرة" ص (41 - 46)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 228 - 229، و"المحصول" ص (98 - 107)، و "أصول السرخسي" 1/ 25.

- فصل يجمع ما تعلق به من ذهب إلى أن الأمر يقتضي مرة واحدة

الصيغة، فلا وجهَ لإيجابِ الزيادةِ على الفعلةِ المسماةِ صلاةً وصوماً، إلا بزيادةِ قرينةٍ أو دلالةٍ تزيدُ على الصيغةِ، وإلا فليسَ في الصيغةِ أكثرُ من استدعاءِ صلاةٍ أو دع (¬1)، فإذا قال: صلِّ، كان استدعاء لذلك، وتكريرُ الفعلِ أمرٌ زائدٌ على، الفعلِ، وإعادة له، وليسَ في جوهرِ اللفظةِ اقتضاءان ولا مقتضيان، فمِن أين يجيءُ التكرارمن لفظٍ متحد؟ يوضَح: هذا أنَه لو نفى، صلاةً، انتفى الأمرُ رأساً، وصار نَسخاً، مثل أن يقولَ: صلِّ لا صلاةً واقتل لا نفساً، كانَ ذلكَ كقوله: صَلّ لا تُصلِّ، اقتُل لا تقتُل. ولو قال: صل ولا تُكرّر، لم يكنْ نسخاً ولا رفعاً، فبانَ أن الذى اقتضاه من اللفظةِ صلاة واحدة، إذ بنفيها انتفى أصلُ الاستدعاءِ من اللفظةِ، وبنفيِ التكرارِ لم ينتفِ، فدل على أنَّ التكرارَ زائدٌ، والفعلةُ الواحدةُ أصلُ الاقتضاءِ بها. وقال بعض الفقهاءِ في هذه المسألةِ: لو أن رجلًا قال لوكيلٍ أو نائبِ: طلق زوجتي، لم يملك ان يطلَق إلا طلقةً واحدةً بإطلاقِ هذه الصيَغةِ، ولو كان مقتضى الصيغة التكرارَ لملكَ أن يُطلِّقَ الثلاثَ، كما يملكها إذا قال له: طلق ما شئت، وأوقع جميعَ ما أملكه عليها من الطلاقِ، وإذا بانَ هذا في الطلاقِ، ثبتَ مثلُه في الصلاة والصيام. قالوا: ولو حلفَ لأدْخُلَن الدار، ولأصلين أو لأصُومن، برَّ في يمينهِ بدخلة وصلاةٍ وصوم يومٍ، وإلبر في اليمين كالامتثالِ في الأمرِ، فكما لا يقتضي البر التكرارَ، كذلك إمساكُ الإمر لا يقفُ على التكرار. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

فصل في الأجوبة عما تعلقوا به (¬1) أما تعلّقهم بالخبرِ في قولهِ: "صلى"، فلا يشبه الأمرَ، لأن الخبرَ لا يكونُ إلا عن ماضٍ، والماضي منقطغ غير دائمٍ، ولو كانَ دائماً، فإنما تغيرَ الخبر عنه بأن يقول: هو يصلّي، ولم يقل: صلى، وفي مسألتِنا أمر، وهو استدعاء لفعل يتسع المستقبل لدوامهِ، وتكرارِه. يوضح الفرقَ بينهما: أنه لو كانَ الأمرُ مقيداً بوقتٍ معينٍ، بأن يقول: قمْ نهارَ هذا اليومِ، فابتدأ القيامَ والامتثال، حسُنَ الخبر بأنه قد قامَ، وإن كان الامتثال ما حصل فقد [بطلت الفائدة] (¬2) من الخبر. وأما قولهم: إن قوله: صُم، لا يقتضي إلا صومَ يوم، ولهذا يَحْسُن أن يقول: قد صمتُ. بصوم يوم. واحدٍ، فلا يسلم، بل هذا محض الدعوى، وشرحُ المذهب، وقد كشفنا ذلك من قوله: قم، لا يجوز أن يجلسَ عقيب قومة واحدة، إلا ويحسن الأمرُ له أن يقول له: أمرتك بالقيامِ، فما الذي أوجبَ جلوسَك، وانقُل ذلكَ إلى الجلوسِ والدخولِ والخروجِ تجده مستمراً، لا تجزىء فيه الفعلة أو الساعة، إلا والأخرى تقتضي. وأما قوله: قد قمت، أو صمت، أو صليت. فإنما حَسن؛ لأنه على ¬

_ (¬1) انظر هذه الأجوبة في: "العدة" 1/ 266 - 275، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 43 - 45. (¬2) ما بين معقوفين طمس في الأصل، وانظر: "العدة" 1/ 272.

- فصل في الأجوبة عما تعلقوا به

حُكم العرفِ، ووقوعُه على الشروعِ فيما أمِرَ به، لا أنه فراغ عما أمر به، ولهذا لو أمره بتكرارِ ذلكَ لم يقبح منه أن يقولَ في الفعلةِ الواحدةِ. وأمَّا اليمينُ والطلاقُ، فإن الأيمانَ والوكالةَ ينصرفُ إطلاقُها إلى العُرفِ، والأمرُ ينطلقُ على الحقائقِ، ولذلكَ ينصرفُ اليمينُ على الامتناعِ من أكلِ الرؤوسِ إلى رؤوسِ بهيمةِ الأنعام خاصة، وفي الأمرِ تعم سائر الرؤوسِ، والوكالةُ في الطلاق تنصرفُ إلى الطلاقِ السُنّي دونَ البِدعي، لأنها نيابة في مشروع، والنيابة في المشروعِ مقيدة بالشرع، غيرُ مطْلقة، ولهذا لا يملكُ بالنيابةِ طلاقَها في الحيض، ولا في الطهرِ المجامَعِ فيه، ولو استنابه في بيعِ دراهمَ بدنانير، أو مكيلٍ بمكيلٍ، أو موزونٍ بموزونٍ، اقتضى التناقضَ في المجلسِ بناءً على الشرطِ الشرعيّ. وفي مسألتنا: أنَ استدعاءَ الأمورِ العُرفيةِ، مثلُ القيامِ والقعودِ والدخولِ والخروجِ، أقتضاء الإتيان بذلك، ولم يجز الخروجُ منه إلا بإذن، وإن استدعاء العباداتِ والأمورِ الشرعيةِ، فعرفُها الدوامُ، لأن كثر أوامر الشرع على الدوام. واستدل بعضهم قي النظرِ: بأنَّ أهلَ اللغةِ أجمعوا على تسميةِ المصلي صلاةً واحدةً، والصائمِ يوماً واحداً، عقِبَ الأمرِ المطلقِ بالصلاةِ [والصوم]: مطيعاً، ولو لم يكُ قد أتى بمقتضى الأمر لم يخلعوا عليه اسمَ مطيع. فقال: هذا موجود فيه إذا قيده بالدوام، فإنه يسمى مطيعاً بذلكَ وكان المعنى فيه أنه لما شرعَ في الفعلَ المأمورِ به سُميَ باسمِ

الطاعة، ولأنه باطل بالنهي، فإنه باطلٌ بالنهي (¬1)، فإنه يقتضي الدوإم، ومن ترك ببادرة [مرةً فلا يُسمى منتهي] (¬2) ولا يدل ذلك على أنه قد امتثل كل الامتثال، ولا انتهى كل الانتهاء. فصل ولا تختلفُ الأمةُ أنَّه لا يقتضي فعلَ مراتٍ محصورةً، كمرتينِ أو ثلاث، بل النَّاسُ على ثلاثة مذاهب: من يقفُ فلا يحملُ الأمرَ على مرةٍ ولا على التكرارِ، بل يقول: بحسب ما تردُ به الدلالةُ من الترجيح إلى جانبِ الوحدةِ أو التكرارِ. وبعضُهم يقول: يقتضي مرةً، ولا يُحمل الأمرُ على زيادةٍ إلا بدلالة. وبعضهم يقولُ: على الدوام والتكرارِ، فأما على عددٍ محصورٍ فلا أحدَ يقولُ بذلك. واعلم أنَ أهلَ الوقفِ لا يقولونَ: إنا لا نعقلُ المُرادَ من الأمرِ، وإنه يُرادُ فعلُ مرةٍ، بل يقولونَ: لا نعلمُ هل يُرادُ الزيادةُ عليها أو لا يرادُ؟ فوقفوا عن القولِ بالمرةِ فقط، لاحتمالِ الأمرِ في الزيادةِ، وإلا فمع ثبوتِ كونِ الصيغةِ أمراً بدلالةٍ لابدَّ من مقتضى فعل، لكن ذلك الفعل ¬

_ (¬1) هكذا وردت في الأصل، ولعل الصواب أن تكون العبارة: "فإنَّه باطلٌ بالأمر" لأن سياق الكلام يرشد إلى أن المقصود قياس الأمر على النهيّ، فكما أن النهي يقتضي التكرار، فكذلك الأمر. (¬2) ما بين معقوفين طمس في الأصل.

- فصل: لا خلاف أن الأمر لا يقتضي فعل مرات محصورة

لا يعلمُ مَرةً فقط أو زيادةً على المرة. فصل وإذا وجبَ الدوامُ، فإنَّه إنما يجبُ بحسب الإمكانِ، فيخرج من الزمانِ أوقاتُ حاجاتِ الِإنسانِ وضروراتهِ، وذلكً لنصِّ الكتاب والسنةِ القاضي على الأمرِ بالتقييدِ، كقولهِ تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ} [الطلاق: 7]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" (¬1)، وكذلكَ إن أمَرَ بأمرين مختلفين، فإنَ الزمانَ لا يتّسع لهما إلا على جهةِ القسمةٍ بينهما، فيأتي بهما على وجهِ الإمكانِ، كما إذا قال: صلِّ أبداً، وحجَّ أبداً، فإنَّ الكلَّ يجمعون على قسمةِ الزمانِ بحسبِ الإِمكانِ، كذلكَ مع الإِطلاقِ. فصل في الأمر إذا كان مُعلّقاً على صفةٍ أو شرط، فإنَّه على التكرار، على مذهب من جَعَلَ المطلق منه على التكرار، لكن يسقطُ الفعلُ فيما ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة 548.

- فصل في الأمر إذا كان معلقا على صفة أو شرط فإنه على التكرار

بين الشرطين والصفتين، فلا يدوم مُكرراً إلا بحسب تكررهما، وهم أصحابنا (¬1). ومن قال: إنَّ مطلقه على الوقفِ، قال في المعلَّقِ بالصفةِ والشرط: إنَّه على الوقف أيضاً، وهم الأشعرية (¬2). وأما الطائفةُ التي قالت: يقتضي فعل مَرة، ولا يقتضي التكرار، فانقسموا في المقيَّدِ بالشرط، وهم أصحاب الشافعي رضي الله عنه، فهم فيه على مذهبين، أحدهما: يقتضي التكرار (¬3)، والثاني: يقتضي ما يقتضيه المطلق، وهو دفعه (¬4). ¬

_ (¬1) الأمر المعلق على شرط جارٍ مجرى الأمرِ المطلق عند الحنابلة. انظر "العدة" 1/ 275، و "التمهيد" 1/ 204، و"المسوَّدة" ص (23)، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 204. (¬2) وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، انظر "البحر المحيط" 2/ 391. (¬3) ذكره أبو إسحاق الشيرازى عن بعض الشافعية، انظر: "التبصرة": ص (47). (¬4) وهو الأصح والمعتمدُ عند الشافعية، وهو أن الأمرَ المعلق على شرط أو صفة لا يقتضي التكرار، إذا كانت الصفة أو الشرط لم تثبت كونها علةً للفعل المأمور به، فإذا ثبت كونها علةً، فإنها تقتضي التكرار إذ ذاك. انظر "التبصرة" ص (47)، و "المستصفى" 2/ 8، و"البحر المحيط" 2/ 390، و" الِإحكام " للآمدي 2/ 236 وللفخر الرازي رأي ثالث، وهو أن الأمرَ المعلق على شرطٍ أو صفة، لا يفيد التكرار من جهة اللفظ، وإنما يفيده من جهة القياس، لان ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته. "المحصول" 2/ 107.

فصلٌ في جمعَ أدلتِنا فنقول: إن تعليقَ الحكمِ على الشرطِ، كتعليقِ الحُكمِ على العلةِ، إذ كُل واحدٍ منهما سَبَبٌ فيه، ثم إنَ تكررَ العلّةِ يوجبُ تكرّرَ الحكم، كذلكَ تكرّر الشرطِ. ويَدُلّ على ذلك أيضاً: أنَ أكثرَ أوامرِ الشرعِ المعلّقةِ بالشروطِ تتكرّرُ بتكررِ شروطِها، فصارَ: لكَ عرفَ الشرع، فوجبَ حملُه عليه، وذلكَ مثل قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، و {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] وإلى أمثالِ ذلك. ويدل عليه: أنَّ النهيَ المعلقَ بالشرطِ يقتضي التكرارَ، كذلكَ الأمرُ، لأنَ كُلَّ واحدٍ منهما استدعاءٌ للطاعةِ، هذا استدعاءُ طاعةٍ في التركِ، وهذا استدعاءُ طاعةٍ بالفعلِ، وأيضاً فإن تعليقَ الأمرِ على متكرِّر كتعليقهِ على دائم، ولو قالَ: إذا كانَ الليل فاستيقظْ أو احفظ، وإذا كان النهارُ فصُمْ أو تكسب، وجَبَ دوامُ المأمورِ به ما دامَ اسم الليلِ والنهارِ كذلك، وجبَ أن يتكرَّر هاهنا حين علقه بإجابةِ التوالي والتكرار، فيدل عليه أنَّ مطلق الأمرِ اقتضى التكرار على أصلِنا، بما قدّمنا من الأدلّةِ. فدخول الشرطِ لم يزده إلا المنعَ من التقدم أو التأخرِ، وأنَّه قصرَه عليه دونَ استمرارِه في سائر الأزمان، فبقي مكرراً بتكررِ الأوقاتِ المشروط بها أو الأوصاف.

- فصل في جمع أدلتنا

بيانُ ذلكَ: أنَّه إذا قال له: صم، اقتضى ذلك صوماً دائماً لا يقطعه إلا إذنُه، وإذا قال: إذا كان الاثنين فصُم، وإذا زالت الشمس فصَلّ، اقتضى ذلك تكرر المأمورِ بتكررِ الشرطِ، إذ لا يجوزُ إلغاءُ الشرطِ ودوامُ الفعل. فصلٌ يجمع الأسئلة لهم على أدلتِنا قالوا: لا نسلِّم أنَّ تعلقَ الحكم على الشرطِ كتعلقهِ على العلّةِ، لأنَّ العلةَ موجبه للحكْمِ، أو دلالة عليه، مقتضية له، فلذلكَ تكرّرَ الحكمُ بتكررِها، والشرطُ مصحِّح، وليس بموجب له ولا دلالة عليه، فلم يتكرر الحكمُ بتكرُّرِه. قالوا: ولا تصح دعواكم في تعليقِ الأحكام الشرعيةِ على الشروطِ وأنَّها تتكررُ، بل هي تنقسمُ، فبعضُها لا يتكرَر، فليس لكم الأخذ بما يتكررُ دونَ أن نعملَ نحن بما لم يتكرَّر، كالأمرِ بالحجّ عندَ وجودَ الشرطِ، وهو الاستطاعةُ: الزادُ والراحلةُ وما تكرَّر منها، فلأدلّةٍ قارنتها أوجبتِ التكرار، لا بمجرّد التعليقِ على الشروطِ، وتلك الأدلةُ: إما إجماعٌ أو قياسٌ، وليس هاهنا دلالةٌ. على أن ألفاظَ العموم في القرآنِ أكثرُها مخصوصٌ، ثم لم يجب حملُ المطلقِ منها على الَمخصوصِ بالأدلةِ. قالوا: وما تعلقتم به من النهي، فمن أصحاب الشافعي من سوى بين النهي المعلّق بشرط، وبين الأمر المعلّق بالشرط، فعلى هذا لا

- فصل يجمع الأسئلة لهم على أدلتنا

يَسلمُ، ولو سلمَ، فإنَّ الأمر غير مُشبهٍ للنهي، ألا ترى أنَّ النهيَ يقتضي الحَظر، وهو مؤكد في الوضعِ يُرجَّحُ على غيرِه، ولأنه يقتضي القُبحَ، والقبيح قبيح في كل وقتٍ، فتكرَّر الزجرُ عنه. والأمرُ يقتضي الحسنَ، وليس يجب تكررُ كلِّ حسن. فصل في الأجوبةِ عن الأسئلةِ أما المنعُ، فلا وجهَ له، بل الشرطُ عامل عَمَلَ العلّةِ، فإنَّ قولَ القائِل لزوجته: أنت طالق إذا دخلتِ الدارَ، أو أهلَّ الهلال، في حصول الطلاقِ عنده، كقولِ الشارع: إذا اشتدَّ العصيرُ فهو نجس، وإذا انقضت عدّة الرجعية فهي بائن، وليسَ من حيثُ لم يكن الشرطُ موجباً لم يكُ عاملاً في اقتضاءِ الحكمِ عند وجودِه متكرَّراً، كتكرر الحكمِ لالعلّةِ، بدليلِ أنَّ العللَ العقليةَ توجب المعلول، فلا حركة إلا توجبُ تحرِّكَ الجسمِ الذي تقومُ به، وشدة العصير علّة شرعية، وتعملُ فى إيجاد الحكمِ، عملَ العلل العقليه (¬1) في تكرّرِ الموجب بتكرّرِها في المحل، فلا توجد الشدّ إلا أوجبت تحريماً، كما لا توْجدُ الحركةُ إلا أوجدت تحركاً. وكذلكَ في باب التكرار يستويان، فلو قال. كلما دخلت الدار فأنتِ طالقٌ، كان في تكرّرِ الطلاقِ بالدخولِ كقولِ الشارع: كلما قالَ الرجل لزوجته: أنتِ طالق، فهي طالق، ففد تساوى الشرط والعلّة مع كون أحَدِهما مصحِّحاً والآخر محصِّلاً. وكذلك كمال النصابِ مع الحولِ والسَّوم، متى تكرَّر حصول ¬

_ (¬1) فى الأصل: "الشرعية"

- فصل في الأجوبة عن الأسئلة

أحدِهما، تكرّرَ حصولُ الحكمِ، فلا زكوات متكرّرةً، إلا بأنصباءَ متعدّدةٍ وأحوال متكررةٍ، وإن تعددتِ النصبُ فكان له عشرون مثقالَاً، وأربعون شاةً، وخمس من الإِبل، ومئتا درهم، تعددت الزكاةُ، وإن كان له نصاب واحد، فتكررتْ عليه أحوالُ الزكاة لتعدَّدَت لتعدّدِ الحولِ. وإن كان الغنى بالنصاب علةَ الزكاةِ والحولُ شرطَها، فهذا من طريقِ الألفاظِ والأحكامِ جميعاً. وأما المنعُ الثاني بما ذكروه من الحج، فإن الحج نادرٌ، نَدُرَ من العباداتِ للمشقةِ الحاصلةِ، والحكمُ للغالب دون النادرِ، كنقودِ البلدِ إذا غلبت وندُرَ منها نقدٌ لم يُحمل إطلاقُ الثمنِ عليهِ، هذا في حُكم الشرع، وأما في حكم اللغةِ؛ فإنه لا يُحمل إطلاق الكلامِ إلى ما شذَّ منها، حتى لو قالَ قائل: له علي درهم أو ثلاثةُ دراهم، ثم فسّرها بزعفران أو غزل أو ما يوزن، لم يقبل، وإن كانَ التقديرُ يتسلَطُ على كلِّ موزون يسنح به، لكنْ لما كانَ الغالبُ في الدراهم الوَرِقَ المنقوشَ المضروب، حُمِلَ الإِطلاقُ عليه، وانصرف إليه. كذلكَ غالبُ أحوالِ العباداتِ، دوامُها بدوام العمرِ، وتكررُها بتكررِ أسبابِها وشروطِها وما شذَّ سوى الحجِ للعمرَ، وكلمةِ الإِيمانِ مع دوامِه حكماً من طريقِ الاعتقادِ واستدامةِ الأركان. وأما قولهم: لأدلهٍ أوجبت التكرارَ. فهي التي أوجبت إلحاقَ النادرِ منها بالغالبِ، وإجراءَ حكمِ الغالب على الشاذ. فإن قيل: هذا قد تكررَ منكم، وهو باطلٌ بالمجازِ الذي كثُرَ

استعمالُه، كالغائطِ في الخارجِ كثُر استعمالُه، ولم يوجب انصرافَ الإِطلاقِ إليه، وكذلكَ الراويه، كثُرَ استعمالها في المزادة دون الماء، ولم ينطلقْ إليه الإِطلاق. قيل: ليس كذلك، بل غلَب الاستعمالُ العُرفي حتى لو قال: اشتريت راويةً. لم ينصرف إلى الماء، بل المزادة (¬1)، ووقع ثوبي على الغائط. لم ينصرف إلا إلى الخارج. وأما التفريقُ بين الأمرِ والنهي بالقبحِ، فلا وجهَ له، لأنَّ من الأوامرِ ما يعودُ تكراره قبيحاً، ومن المناهي مالا يكون قبيحاً على العمومِ، فإنه لا يجوزُ فعل ظُهرين في يوم، ولا استدامةُ الصوم جميعَ الدهرِ، ولا المواصلةُ بالليلِ، ومن المناهي مالا يقعُ قبيحاً، كالنهي عن القِران بين التمرتين وما شاكَلَه من التنزّهات دون المحظورات. ومنه مالا يدومُ قبيحاً، بل يتقلبُ حسناً، كالطيب والتقليم والحلق، قبيحٌ في الِإحرام، فإذا تحلّل، واتفق تحلُّله يومَ الجمعةِ عادَ ما كان قبيحاً مندوباً، وهو الزينةُ والطيبُ والحلقُ والتنظّفُ لشعارِ الجمعةِ، فلا قبحَ مستمر، ولا دوامَ في المنهياتِ، كما لا دوامَ في الأوامرِ بحسبِ الأدلةِ الصارفةِ، فوجبَ تساويهما عند الإِطلاقِ، إما تكراراً في الجميعِ، أو عدمَ التكرارِ والقنوع بالمرة في الجميعِ. ¬

_ (¬1) هي المزادة التي يوضع فيها الماء، وتطلق الراوية مجازاً على البعير والبغل والحمار الذي يستقى عليه. "القاموس المحيط": (روي).

فصل يجمع تعلقاتِهم فيها من ذلكَ: أنَّ كُلَّ أمرٍ اقتضى الفعلَ مرّةً واحدةً، إذا كان مطلقاً، اقتضى مرّةً إذا كان مُعَلَّقاً على شرطٍ، كالمقيّد بالدفعةِ الواحدةِ، وهو إذا قال: صلِّ صلاةً. قالوا: وقد دلّلنا على هذا الأصلِ في المطلقِ، فالبناءُ عليه. ومن ذلكَ: أن الشرطَ أفادَ النهيَ عن تقديمِ الفعلِ عَلَيْه وتأخيرِه عنه، فأما تكرّره بتكرره، فلا وجَه له، ولا يعطيه اللفظُ. بيانُ ذلك: قوله: صل إذا زالت الشمسُ، وصُمْ إذا طلعَ هلالُ رمضان وطلعَ الفجرُ من تلكَ الليلة. فإنَه لا يفيدُ إلا منعَ التقدمِ عليه والتأخرِ عنه، فأمَّا التكرارُ فليسَ له أثر في النطقِ، ويبين ذلك في قوله: أنتِ طالق إذا طلعت الشمس. فإنه لا يفيد إلا وقوعَ الطلاقِ عند طلوع واحدٍ، ولا يتكرُر إلا إذا كان في الصيغةِ تكرارٌ ثانٍ، كلما طلعت الشَّمس. فصل في الأجوبةِ فأما الأوّل: فإنَه مبنيٌ على أصل قد خالفناهم فيه، وهو أنَ الإِطلاقَ قد نصرنا فيما تقدم أنَّه يقتضي التكرار، وبنينا أمرَ الشرطِ عليه، فتقابلَ الأصلان، ودلائلنا توجبُ تقديمَ أصلِنا، وما غرضنا إلا التسوية بين المطلقِ والمشروطِ، فإذا سلكوه في اقتضاءٍ مرّة، سلكناه في اقتضاءِ الدوام بما تقدم.

- فصل يجمع تعلقاتهم فيها

أمَّا قولهم: ما أفادَ الشرطُ. إلا المنعَ من تقدّمهِ والتأخر عنه. فلا يصحًّ، لأنَّ الحُكمَ المُعلقَ على، العلةِ يتكررُ بتكررِها، وان كانَ امتناعُه يحصُلُ بامتناعِها، وزوالُه بزوالِها، كذلكَ الشرط يجوزُ أن يُفيدَ الإيقاعَ عندَ وجودِه أيِّ وقتٍ وُجدَ، والمنعَ من الإيقاعِ، قبلَ حصولِه وبعدَ زوالِه، فلا تمانعَ بين تخصُّصِه بالفعلِ مع الدوامِ، وبينَ امتناعِ إيقاعِه قبلَ حصولِه. وأمَّا قولُهم: ليسَ في الملفظِ التكرارُ، فراجع عليهم في دعوى المنعِ، لأنَّه ليسَ في قوةِ اللفظِ المنعُ مِنَ الإيقاع، لكنّه عقل المنع من [الشرط عند وجوده] (¬1)، من حيث عُقِلَ إيجابُ إيقاعِه عندَ وجودِه في الدفعةِ الأولى، كذلكَ عُقلَ تكرُره عند وجودِه دفعةً بعدَ أُخرى، والوجودُ في الدفعةِ الثانيةِ أقرب إلى الوجودِ الأولِ من المنعِ الذي أخذه مخالفُنا من الوجودِ. ¬

_ (¬1) في الأصل طمسٌ، وأثبتناها بما يقتضيه السياق، ويفيد تمام المعنى.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الوَاضِح في أصُولِ الفِقه 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان تلفاكس: 319039 - 815112 فاكس 603243 ص. ب: 117460 AL- Resalah PUBLISHERS BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039 fax: 603243 - P.O.Box: 117460 Email: [email protected]

* فصول في معنى الشروط والصفات التي يتعلق الأمر والنهي عليها

فصول في معنى الشروطِ والصفاتِ التي يتعلق الأمرُ والنهي عليها فصل والشرط الذي أشرنا إليه هاهنا في تعليقِ الأمر عليه، هو كُل أمرٍ عُلقَ وجوبُ إيقاع الفعلِ المأمورِ به أو الكفِّ عن المنهى عنه والاجتناب له به، ولَا يجبُ إيقاعُ المأمور به ولا اجتنابُ المنهيّ عنه إلا بحصوله. وهو تارةً يكونُ شرطاً بالمكانِ، نحو قوله: صل إذا وصَلْتَ الكعبةَ. أو بالزمانِ [نحو]: صلِّ إذا زالت الشمسُ. أو الصفات التي ليست بأفعال العباد، كالصحةِ والقدرةِ وكمالِ العقل، فيقول: صل إذا صح جسمُك، أو أفاقَ ذهنُك. وتارةً يكونُ الشرط والصفةُ من اكتساب العبد، مثل التطهرِ، فيقولُ: صل إذا تطهَّرت. والسترةِ: صل إذا استتَرتَ، وكفِّر إذا حنِثتَ، واعتكف إذا دخلتَ المسجدَ، وطُفْ إذا وَصَلْتَ الكعبةَ. فهذه الشروطُ والصفاتُ سواءً فيما ذكرنا من التعلقِ عليها وحكم الأمرِ المتعلق بها على ما قدمنا لا يختلفُ الحكمُ باختلافِها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في 2/ 572.

- فصل: متى علق الأمر على معنى مستحيل لم يكن أمرا

فصل ومن حُكم الشرطِ أنْ يكونَ مستقبلًا لا ماضياً، ولا مقترناً بالخطاب إذا كان بلفظٍ يقتضي الاستقبالَ، نحو قوله: إذا قامَ زيد فأكرمه، وإذاَ دخَلَ عَمْرو فاستقبله، وإذا وإن: حرفانِ للشرط يقتضيان الاستقبالَ، إذ لا معنى لقول القائل: إذا قامَ زيد فاضربه، وكان حال قولِه قائماً، اللهمَّ إلا أن يُريدَ به: إنِ استدامَ القيام فرجعَ إلى قيام في المستقبلِ، دونَ القيامِ الحاصلِ حينَ وجود تعلقِ الشرطِ (¬1) على القيامِ. فصل ومتى علِّق الأمرُ على معنى مستحيل [لم يكن ذلك] (¬2) أمراً، مثالُه أن يقول: صلّ إذا كان زيد متحركاً ساكناً. وما هو إلا بمثابةِ قولهِ: كُنِ الآن متحركاً ساكناً. فإنه لا يكون أمراً لاستحالته، كذلك المعلق على المحال، لا يكونُ أمراً لاستحالتهِ، فما أحالَ الأمرَ المنجز أحالَ الأمرَ المعلَّقَ. فصل ومن سبيلِ الشرط أن يكون معلوماً متميزاً للمكلفِ، وأنْ يكون له إلى العلم بهِ سبيل، لأنَه لا يجوزُ أن يقولَ له: صل إذا اخترعتَ جسماً في السماءِ، وإذا تشاجرتِ الملائكةُ، وإن كان حملُ المرأة ذكراً أو أنثى، وإن كان زيدٌ مستبطناً للإيمانِ أو الكفرِ، وإلى أمثال ذلكَ من ¬

_ (¬1) بياض في الأصل، وهذه اللفظة استظهرناها من السياق. (¬2) طمس في الأصل، وأثبتنا هذه العبارة وفق ما يقتضيه تمام المعنى المقصود.

- فصل في معنى الصفة

الغيوبِ التي لا سبيلَ إلى علمِها، هذا هو الذي تقررَ عليه حكم الشرعَ. فصل ويجب أن يقالَ: إن الصفةَ من جملةِ الشروطِ، هو ما يصحُّ حصولة ويصحُّ كونه قائماً بالمكلفِ أو بغيرِه من الأحياء والموات، وما ليس هذه سبيله فليس بصفةٍ، بل الحقيقة من اختراع الأجسام وما جرى مجرى ذلكَ عن الصفةِ التي هي شرط، قد تكونُ صفةً للمكلفِ وتكونُ من كسِبه ومن غيرِ كسبِه، وقد تكونُ صفةً لغيرهِ، هذا هو الفرق بين معنى الصفة التي هي شرطٌ، وبين الشرط الذي لم يبطل بصفة. فصلَ في ذلك يفصل به بين الشرطِ العقلي والشرطِ الشرعي. اعلم -وفقك الله- أن الاتفاق قد حَصَل بين الأصوليين، على أنّ ما هوشرطٌ لحكم وصفةٍ بحكمٍ عقلي، فإنه لايوجد ومثله (¬1) إلاوهو شرط، وذلكَ نحو وجودِ الجسم الذي هو شرطٌ لوجودِ حسناتهِ كلّها، وهي الأعراضُ المختصة به، كالأَلوانِ والحركاتِ والسكناتِ والأخذِ في الجهات. وكالحياةِ؛ التي هي شرط لوجودِ العلمِ والقدرةِ وجميعِ صفاتِ الحيّ من الإدراكات. فأمَّا الشرط للعباداتِ الشرعّيةِ، لا يجبُ كونه مع مثلهِ شرطاً أبداً، ¬

_ (¬1) تقدير العبارة: (لا يوجدُّ مع مثله).

* فصل في الأمر إذا تكررت صيغته هل يقتضي تكرار المأمور به؟

وكذلك جميع ما جُعل شرطاً لعبادة من الأمكنةِ والأزمنة كمكان الاعتكافِ وهو المسجدُ، ومناسكُ الحج، وأوقاتً العباداتِ وأوصافً المكلفين، فلذلكَ لم يجب كونً شروطِ العباداتِ ماخوذةً من الشروطِ العقلية. فاعلم ذلكَ واجتنب التعويلَ على أخذِ إيجاب الدوامِ للشروطِ الشرعيةِ، من إيجابِ ذلك في الشروط العقلية. فصل في الأمر إذا تكررتْ صيغته، هل يقتضي تكرارَ المستَدعى وهو المأمور به، أم لا يقتضي التكرار؟ لم أجد عن صاحِبنا ولا أصحابهِ فيه شيئاً، ويقتضي مذهبهم التكرارَ من حيث إنه يقتضي بالصيغة الواحدة، فالتكرار أولى (¬1). وعندي أنه يقفُ على بيانِ المستدعي، فإن أرادَ به التأكيدَ والتفهيمَ، لم يقتضِ التكرارَ، وإن قصدَ الاستئنافَ اقتضى التكرارَ، وإن أطلق ولم ينوِ شيئاً اقتضى التكرارَ، وأخذتُه من تكرارِ لفظِ المطلِّقِ للطلاقِ. وفيه اختلاف بين العلماء على عدة مذاهب: ¬

_ (¬1) وهو ما صرَّح به القاضي أبو يعلى في "العدة"1/ 279، حيث قال: "لأنَ عندنا الأمرُ الأول اقتضى التكرار، والثاني لم يفد غير ما أفاد الأول". وخالف في ذلك أبو الخطاب حيث صرح بأن تكرار الأمرِ بشيءٍ واحد مثل قوله: صل غداً ركعتين، صلً غداً ركعتين، لا يقتضي تكرار المأمور به. انظر "التمهيد" 1/ 210. وسببُ مخالفة أبي الخطاب لجمهور الحنابلة في هذه المسألة: أنه يقولُ بأن الأمرَ المطلق لا يقتضي التكرار ابتداءً، فكان قوله هنا ناشئاً عن قوله هناك. وانظر "المسوَّدة" ص (210).

أحدها: أنه يقتضي التكرارَ. وهو أحدُ الوجهين لأصحاب الشافعي، واختاره شيخنا الإمام أبو إسحاق الفيروز آبادي (¬1) رضي الله عنه. والثاني: لايقتضي التكرار، وهو اختيار أبي بكر الصيرفي (¬2). وقالت الأشعرية فيما حكاه بعضُ الفقهاء عنهم في ذلك: بالوقف إلى أن ترِدَ دلالة بِمَيْله إلى أحد محتمليه: التكرار أو مرة. وقال القاضي أبو بكر: إنّه يقتضي تكرر الفعل، وأنه ليس على الوقف، بخلاف الأمر والعموم. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان أمرهُ في الثاني بلفظٍ يقتضي تقريرَ الأول مثل أن يذكره بالألف واللام، فيقولُ في الأولِ: صل، ثم يقولُ في الثاني: صَل الصلاةَ، فلا يقتضي التكرار بل تعود الألفُ واللامُ إلى الأول. وإن كان الأمرُ الثاني تنكيراً من المأمور فيقول: صل صَلاةً، أو صَل. كان مقتضياً لصلاة مستأنفة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر رأي أبي اسحاق الفيروز آبادي هذا في "التبصرة" ص (50). وهو رأي جمهور الشافعية، انظر "الإحكام" 2/ 271. (¬2) أي أنه حَمله على التأكيدِ ليفيدَ ذات المعنى الأول، ولم يحمله على التأسيس لافادة معنى جديد. (¬3) قال الجصَّاص: "تكرار الأمر يوجبُ تكرار الفعل، وإن كان في صورة الأول، ما لم تقم الدلالة على أنَّ المراد بالثاني هو الأول. نحو قول القائل: تصدق بدرهم، ثم يقول له بعد ذلك تصدق بدرهم، فيكون الثاني غير الأول" =

- فصل يجمع أدلتنا على وجوب التكرار

ومن أصحابِ الشافعي من قال بقول الأشعري، وهو الوقف. والذي يقتضيه ما نصرناه وحكيناه عن أصحابنا التكرار؛ لأن من قال: إن مطلقَ الأمر يقتضي التكرارَ، يقبح أن يتوقفَ عن القولِ في الأمرِ المكررِ بالتكرارِ. ولا يختلفُ العلماءُ في أنه إذا كانَ الأمرُ الثاني بجنس ثانٍ مثل أن يقول في الأصل: صَل، وفي الثاني: صُمْ، وفي الثالث: تصدقْ، أنه يقتضي امتثال الجميع؛ لأن هذا ليسَ بتكرارٍ، وإنما هذه أوامرُ متتابعة ومتعاقبةٌ، والمخصوصُ باسم التكرارِ هو ما كانَ أمراً بجنسٍ واحد فأما إذا كان أمراً بفعلين غيرين (¬1) من الجنس لم يكن متكرراً. فصل يجمع أدلتناَ على وجوبِ التكرارِ (¬2) فمن ذلكَ: أنَ الدلالةَ قد سبقت على أنَ الأمرَ المطلقَ يقتضي تكرارَ المأمورِ بهِ ودوامَه، فإذا بنينا هذا على ذلك الأصلِ كان من طريق الأولى، لأن الأمرَ المكرر آكدُ في اقتضاءِ الدوام من اللفظِ ¬

_ = فالأصل عندهم إذاً أن تكرار الأمر يوجبُ تكرار الفعل ما لم تقم قرينة تدل على أن المراد بالتكرار التأكيد. انظر "الفصول" 2/ 148. (¬1) هكذا وردت في الأصل، ولعل المراد: "متغايرين". (¬2) ظاهرٌ من هذا الاحتجاج، أن ابن عقيل يجمع الأدلة التي تؤيد رأي من قال بأنَ تكرار الصيغة يقتضي تكرار الفعل، ولم يذكر الأدلة التي تؤيد رأيه في أنه يفيدُ الوقف.

- فصل في الجواب عما ذكروه

الواحدِ لأنَّ أقل ما يقتضي التأكيد، وتأكيد ما يقتضي الدوام تأكيد لمقتضاه من الدوام، فصارَ بمثابةِ المقيد بالتكرارِ، وهو أن يقول: أفعل أبداً، أو افعل متَكرراً لمّا تأكد على الاطلاقِ، كان أولى باقتضاءِ التكرارِ الذي اقتضاه الإطلاقُ على أصلنا. ومن ذلك: [قد عرفنا] (¬1) أنَّ كل واحد من اللفظين يقتضي إيجابَ فعلٍ عند الانفراد، فإذا اجتمعا وجبَ أن يقتضيا التكرارَ، كما لو كانَ بفعلينِ مختلفين، مثل قوله: صمُ وصلّ. ومن ذلك: أنَّ المقتضي للفعلِ هو الأمرُ، والثاني كالأوَّل في الإيجابِ، ثم الأول يوجبُ الفعلَ مرّةً، فالثاني يوجبُ الفعلَ أيضاً مرّةً أُخرى. فصل ووجهُ ما ذَهَبَ إليه من قالَ بنفيِ التكرارِ: أن أوامر الله سبحانه في القرآنِ قد تكررت، ولم تقتضِ تكرارَ الفعلِ. قالوا: ولأن اللفظ الثاني يحتملُ الاستئناف ويحتمل التأكيدَ، فلا يوجب فعلًا مستأنفاً بالشكِّ. فصل في الجوابِ عما ذكروه: أن الظاهرَ في تلكَ الأوامر الشرعيةِ تركٌ لأدلة. ولا نسلَّم أن ها هنا شكاً، بل هو ظاهرٌ، ولو كانَ في الثاني شكاً، ¬

_ (¬1) في الأصل: "من عربنا"، ولعل المثبت هو الصواب.

- فصل في قول من تعلق بالوقف

لكانَ الأول لا يفيدُ استدعاءَ المأمورِ، لأن اللفظين سواءٌ، فلما أوجبَ الأولُ الفِعْلَ مرةً، كذلك الثاني يغلبُ على الظنِّ أنَّه يوجب ما أوجَبه الأول، والتأكيدُ إنما نذهب إليه ضرورةً، والاستئنافُ هو الظاهر من استئنافِ الأمر. فصلٌ وتعلَّقَ من قالَ بالوقفِ من أصحاب الشافعيّ (¬1) وغيرهم بأن الصيغةَ الثانيةَ تحتملُ التأكيدَ، وتحتمل التكرارً والاستئنافَ، ولا ترجيحَ لواحدٍ منهما على الآخرِ، فلم يجز القولُ بأحَدِهما مع مقابلةِ الآخرِ، فوجب الوقفُ. فصلٌ وقال القاضي الإمام أبو بكر (¬2): إن قال قائل: فهلا وقفتم في تكرار الأمرِ كما وقفتم في لفظِ الأمرِ والعمومِ وسائرِ ما أخبرتم باحتمالهِ. قيل له: ¬

_ (¬1) وهو منسوب إلى أبي بكر بن فورك. انظر "إحكام الفصول في أحكام الأصول" للباجي ص (206)، و"البحر المحيط" للزركشي: 2/ 393. (¬2) نقل الزركشي في "البحر المحيط": أن كلامَ القاضي أبي بكر الباقلاني في مسألة تكرر لفظ الأمر متردِّد، فتارةَ يميلُ إلى الوقف وهو الصحيح، وتارة يقول: يقتضي إنشاءَ لا متجدداً. وممن حكى الوقفَ عنه أبو الحسين البصري."البحر المحيط"2/ 393 وعلى ذلك فإنَ ابن عقيل قد رجح الرأي الثاني الذي يقتضي التأسيسَ لا التأكيد، على الرغم من أنَّ القول بالوقف هو الذي يتفق مع أصول القاضي أبي بكر.

- فصل فيما تعلق به أصحاب أبي حنيفة

لأجلِ أن كُلَّ لفظةٍ من تلكَ الألفاظ لفظةٌ واحدةٌ معرَّضةٌ ومحتملةٌ للأمرين، والأمرَ الثاني بالفعلِ قول غيرُ الأمرِ الأولِ منفصلٌ عنه، ولكل واحدٍ منهما موجِبٌ ومتعلّق إذا انفرد، والاجتماعُ لا يخرجُهُ عن ذلك، فافترقَ الأمران. ففيما ذكره القاضي الأمام أبو بكرٍ -رضي الله عنه- جوابٌ عما ذكره من اختار الوقفَ من هذا الفصل. فصل فيما تعلق به أصحابُ أبي حنيفة (¬1). قالوا: إذا قال: صلِّ الصلاةَ، وصُمْ الصيامَ، مع تقدم قوله: صلِّ وصُم، زالَ الإشكالُ بكون الألف واللام ترجعُ إلى المعهودِ، ولا معهودَ هنا سوى ما تقدم، فيصير كأنَّه قال: صمُ ذلك الصوم الذي أمرتك به فيكون اقتضاءً بذلكَ وحثاً عليه، واذا قال: صم وصَلِّ كان أمراً بفعل منكر، فاقتضى الاستئناف والابتداءَ، فهو كالأمرِ الأوَّلِ. فصل في الاعتراضِ على ما ذكروه فيقالُ: إنه لا يزولُ الاحتمالُ لوجوه: أحدُها: أنهم لم يفرِّقوا بينَ أن يكونَ قد صلَّى تلكَ الصلاةَ، وامتثل الأمرَ الأولَ، وبينَ أن يكونَ ما فَعَلَ، فيجبُ أن يفصِّلوا ليَصْفو ¬

_ (¬1) انظر: "الفصول في الأصول" للجصَّاص: 2/ 148 - 149، و "تيسير التحرير" 1/ 361 - 362، و"فواتح الرحموت"، (1/ 391 - 392).

* فصل في المأمورات التي يتعذر تكررها فيمتنع ورود الأمر مكررا إلا على وجه التأكيد

لهم ما يدّعونه من نفي الاحتمالِ. الثاني: أن قولَه: صلاة. يحتملُ مثل الصلاة، كقوله: عرضها السماوات، كعرض السماوات، وأنه يفيدُ أْن يأتي بصلاةٍ كالصلاة الأولى، فلا يصفو عوده إلى الأولى مع هذا الاحتمالِ أيضاً. الثالث: أنه يحتمل جنسَ الصلاة، فأين زوالُ الاحتمال؟ فصل في المأمورات التي يتعذر تكرُرها، فيمتنعُ ورودُ الأمر مكرراً إلا على وجه التأكيدِ. وامتناعُ ذلكَ من وجوه شتى: فمن ذلك: ما يمتنعُ من طريقِ العقلِ، كالأمرِبقتل شخصٍ، وذبح شاةٍ، فهذا مما لا يمكن تكراره، إذ لا يقتل الحيُّ إلا مرةً واحدةً، ولا تُذبحُ الشاةُ إلا دفعةً، إذ لا نفس تزهق إلا واحدةً. فإذا قال: اقتل فلانَ المشركَ، واذبح شاتَك. ثم كررَ الأمرَ، لم يكن في التكرارِ إلا تأكيدَ الأمر بفعل المأمورِ به. لاستحالةِ قتلين في شخصٍ ما لم تعد إليه الحياةُ مَرةً أَخرى. وكذلك كسرُ الإِناء، وإتلافُ سائرِ ما إذا أتلفَ لم يُتصوَّر إعادةُ الإِتلافِ له. ومن ذلك: ما يمتنعُ من طريقِ الشرعِ، فجعلَ الشرعُ له كالإتلافِ المقدَّم ذكرهُ، وهو الأمرُ بعتق عبده، فإنه يعتقُ بالإعتاق، ولا يتكرر إعتاقه، إذ لا بقاءَ للرقِّ في العبد بعد العتقِ، كما لا بقاءَ للحياةِ في

- فصل: التكرار في الندب كالتكرار في الواجب

الحيِّ بعدَ القتلِ، فإذا تكررَ قولهُ: اعتق، كان الثاني تأكيداً، بغير احتمال. ومن ذلكَ: امتناعُ التكرارِ لكَوْن الأمرِ الأولِ مستغرِقاً عاماً لجميعِ ما تناوله الأمرُ، مثل قوله: اقتل المشركين، وصم الدهرَ، فإنه لا مشركين لنا بعدَ الاستغراقِ ينصرف الأمر إليهم في الثاني بعدَ استغراقِ الأمرِ الأول لهم، ولا لنا دهران فنكرِّرُ صومَهما، فلم يبقَ للفظِ وجهٌ سوى التأكيدِ. ومن ذلك: أن تكونَ دلالةُ حالي أو عرف متواضع فيما بين الأمرِ والمأمورِ يدل ذلكَ على أنَ المرادَ بالتكرار الواحدُ غيرُ المتكررِ، أو دلالةُ حالٍ تدلُّ أنَ المرادَ بالثاني التأكيدُ، مثل عطشان يأمر باستقائه الماء، ثم تكرر اللفظةُ، فيعقلُ منها الاستعجالُ دونَ التكرارِ. فصلٌ واعلم أن التكرارَ في الندب كالتكرارِ في الواجبِ، فما أوجبَ تكرارَ المأمورِ به في الأمر الواجب، كان تكرارهُ في الندب مؤذناً بتكرارِ المندوب، فكونُ المتكررِ فيَ الندب مندوباً، كما أنَ التكرار في الواجبَ واجب. وإنَّما كان كذلكَ لأن التصريحَ بتكرارِ الندبِ يُفيدُ الندبَ إلى التكرارِ، كذلكَ الإِطلاقُ المفيدُ للتكرارِ بالظاهرِ. فصلٌ واعلم -وفّقكَ الله- أنه لا يجوزُ أن يقعَ خلافٌ في أن تكرارَ الأمرِ يقتضي استئنافَ فعل إذا كان بعد امتثالِ الأول، مثال ذلك:

- فصل: إذا كان الأمر بفعل ممتد يستوعب العمر كان الأمر بماضيه مستحيلا

إذا قال: اضرب. فضربَ، ثم قال: اضرب. أن الثاني يفيد ضرباً مُستأنفاً، لأن الأمرَ الثاني لا يعودُ إلى الضربِ الأول، لأن الأولَ وقَع، فلا يحتاجُ في وقوعهِ إلى أمرٍ بعدهَ، ولا يصحُّ بعدَ وقوعهِ من جهةِ الأمرِ إلا التصويبُ، والشكرُ على الطاعةِ، وموافقةُ الأمرِ، فأمَّا بعد الامتثالِ، فلم يبقَ احتمالٌ يقعُ لأجله الخلاف. فصلٌ واذا كانَ الأمرُ بفعلٍ ممتدٍّ يستوعبُ للعمرِ، كالإيمانِ، كانَ الأمرُ بماضيه مستحيلاً، فإذا وَرَدَ الأمرُ به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] كان أمراً بمستقبل وهو الاستدامة، وكان تأكيداً، لأنّ الأمر الأول تناول جميع عُمر المكلف فلم يبقَ أن يكونَ الأمر الثاني إلا تأكيداً، وذلك مثل الإيمان، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ..} [النساء: 136] بمعنى استديموا. فصلٌ في الأمر المطلق، هل يقتضي الفور أو التراخي، أو الوقف؟ اعلم أن شيخنا -رضي الله عنهُ- أخذ من إيجاب صاحبنا الحج على الفور، أن الأمرَ على الفور (¬1)، وقد أخذ جماعة من الفقهاء مثل هذا الأخذِ. ¬

_ (¬1) ذكرَ أبو يعلى في "العدة" 1/ 281، بأن الأمرَ المطلق يقتضي فعلَ المأمور به على الفور عقيب الأمر، واستفاد ذلك من كلام الإمام أحمد رضي الله عنه في أن الحج على الفور.

واعلم أني ذاكر في ذلك فصلًا ينتفعُ به الفقيهُ، وذلكَ أن المحققينَ من أهلِ الأصولِ عابوا أخذَ الأصولِ من الفروعِ، واعتلّوا في ذلكَ بتحقيقٍ واقعٍ يوقعُ ايجابَ القبولِ منهم. فقالوا: إنَّ الفروعَ يحسنُ أن تبنى عليها الأصول، فلا يحسنُ بناءُ الأصول على الفروع لما قد استقر من أن الفرعَ ما ابتنيَ على غيرهِ، والأصلُ ما ابتني عليه غيرُه. قالوا: ولأنَّ المسألةَ من مسائل الفروعِ يجبُ فيها الفورُ، لدليلٍ أوجبَ القولَ فيها بالفور، فلا يجوَزُ أن يوجدَ الأمرُ المطلقُ بحكمِ اللغةِ الفورَ من فرعٍ مقيدٍ بقرينةٍ أو دلالةٍ أوَجبت له الفورَ، ولكنني أخذتُ هذا الأصلَ من أن أصلَ مذهبهِ الاحتياطاتُ في أُصولهِ وفروعهِ، ومن الاحتياط؛ التقديُم والفورُ، فمن ذلك قوله: الصلاةُ تجبُ بأوَّلَ الوقت وجوباً مستقراً، وإنَ الزكاةَ تجب عليه بالحولِ، ولا يُعتَبرُ إمكان الأداءِ، ويجبُ الحج على الفورِ، وصومُ يوم الشك تعجيلًا، فنحنُ نستدلُّ بهذهِ المسائلِ الكثيرةِ أنها جاءت مَن أصل له، وهو قولُه بالتعجيل والاحتياطِ والفورِ من ذلك القبيلِ، والفرعُ ان لم يبنَ عليه لكنه يكونُ دليلًا على أصلِ الرجلِ، سيما إذا عُلل بالاحتياطِ، فيصير تعليلُه أصلًا. فهذا تحقيقُ مذهبنِا، وهو مذهبُ أكثرِ أصحابِ أبي حنيفة (¬1)، ¬

_ (¬1) هذا قول أبي الحسن الكرخي وأبي بكر الجصاص من الحنفية، حيث قالا: بأن الأمر المطلق على الفور لا التراخي. وخالف في ذلك السرخسي والبزدوي، حيث قال السرخسي: "والذي

ومذهب أبي بكر الصيرفي، والقاضي أبي حامدٍ (¬1). وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي (¬2)، والأقلون من أصحاب أبي حنيفة إلى أنَه على التراخي، وهو مذهبُ المعتزلةِ، واختيارُ القاضي الإمام أبي بكر بن الباقلاني. وذهب جمهورُ الأشعريةِ إلى أنَه على الوقف. فهذا جملة ماظهر لنا من الخلاف. وعن أحمد رواية أنَّه على الترّاخي (¬3). ¬

_ = يصحُ عندي من مذهب علمائنا رحمهم الله أنه على التراخي فلا يثبت حكم وجوب الأداء على الفور بمطلق الأمر". وعلى ذلك فإن لأصحاب أبي حنيفة رأيين في اقتضاء الأمر المطلق للفور أو للترَاخي. انظر "الفصول في الأصول" 2/ 103، و" أصول السرخسي" 1/ 26، و" كشف الأسرار"1/ 113. (¬1) نقل عنهما ذلك الشيرازي في "التبصرة" ص (52)، وأبو حامد هو أحمد بن بشر بن عامر العامري المروذي أحد علماء الشافعية توفي سنة (362) هـ. انظر "طبقات الشافعية" للسبكي 3/ 12. (¬2) قاله الشيرازي، والغزالي، والآمدي، وأبي حامد الإسفراييني، وأبي بكر القفال، وغيرهم من الشافعية. انظر "التبصرة" ص (52) و "المستصفى" 2/ 9، و" الإحكام"2/ 242، و"البحر المحيط" 2/ 396، و"مختصر ابن الحاجب" 2/ 83. (¬3) ذكر هذه الرواية عن أحمد القاضي أبو يعلى، واستفادها من رواية الأثرم وقد سئلَ عن قضاء رمضان، يفرق؟ فقال: نعم، قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. قال أبو يعلى:" فظاهرُ هذا انه لم يحمل الأمر على الفور، لأنه لو حمله على =

- فصل في الدلالة على الفور

فصل في الدلالةِ على الفورِ آياتُ الله دلَّت على إيجابِ المسارعةِ. من ذلك: قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وامتثالُ الأمرِ من الخيراتِ لما فيه من حصولِ الثوابِ، واغتنامِ الوقت الصالحِ للفعل قبل الفوات. وقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] , ولو كان على التراخي لما حسن العتبُ. ومن ذلكَ: عتبُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على من دَعاه وهو في الصلاة فلم يُجبه، واحتجاجُه عليه بقوله: "ألم تسمع ... إلى قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] (¬1) ". فما فسحَ له في التأخيرِ إلى انقضاءِ ¬

_ = الفور منع التفريق" اهـ."العدة"1/ 283. والمذهب عند الحنابلة: هو أن الأمرَ على الفور وفق ما تقتضيه الرواية الأولى عن أحمد. انظر "التمهيد" 1/ 215، و"المسودة" ص (24 - 26)، و" شرح مختصر الروضة" 2/ 386، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 48. (¬1) ورد هذا من حديث أبي سعيد بن المعَلَّى، قال: كنت أصلِّي في المسجد، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم أجبْهُ، فقلت: يا رسول الله، إنى كنت أُصلِّي. فقال: "ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] " ثم قال:" ألا أعلمك سورة هي أعظم سورة في القرآن"؟ فقلت: بلى، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني، والقرآنُ الذي أوتيتُه". أخرجه أحمد 4/ 211، والبخاري (4647) و (4703) و (5006)، وأبو داود =

صلاتهِ، وهذا غاية في الفور. ومن ذلكَ أن النهيَ استدعاءُ التركِ والكف عن أفعال مخصوصةٍ، كما أن الأمرَ استدعاءٌ الفعل لأفعال مخصوصة، ثم النهيُ يقتضي التركَ على الفورِ، كذلكَ الأمر ولا فرق. ومن ذلكَ: أن الأمرَ بالشيءِ نهى عن ضدّه معنىً، وذلكَ انه لا يتحققُ المأمورُ ذوُ الضدّ الواحدِ إلا بتركِ أضدادِه، كالمأمورِ بالسكونِ، لا يمكنُه ذلكَ إلا بتركِ الحركةِ، أو بالقيامِ، فلا يمكنُه الامتثالُ إلا بالكفِ عن الجلوسِ والاضطجاعِ اللذينَ هما ضدُّ القيام، والنهيُ يقتضي الفورَ، فاقتضى فعلَ ضدِّه الذي لا يصحُّ التركُ إلاَ به على الفورِ. ومن ذلِك: أن الأمرَ يقتضي ثلاثةَ أشياء: اعتقاد الوجوب. والعزم على الفعل. وفعل المأمور. ثم إنَّ الاعتقادَ والعزمَ على الفورِ، فكذلك الفعل. ومن ذلكَ: أنَ الأمرَ يقتضي الفعلَ، لكونِه استدعاءً له، والتراخي تأخير ليس في اللفظِ، وتخيِير بين وقتٍ ووقتٍ ليس في صيغةِ الأمرِ، فلا وجهَ لإثباتِ معنىً لا يتضمنُه اللفظُ ولا يظهرُ فيه. ومن ذلكَ: أن الوقتَ الأولَ الذي يلي الأمرَ، وقت يحصل فيه ¬

_ = (1458)، والنسائي 2/ 139، وابن ماجه (3785)، والبيهقي 2/ 368، وابن حبان (777).

- فصل يجمع الاعتراضات والأسئلة على ما ذكرنا

الإِجزاءُ، ويقطعُ على انَّه لا مفسدةَ فيه، وأنه يجوزُ النقلُ فيه، ويكونُ ممتثلًا، والثاني والثالثُ من الأوقاتِ تجردَ الفعلُ فيه بين أن يكونَ مفسدةً أو غير مجزىء، أو غيرَ مُوافقٍ لإرادةِ الأمر وعْرضِهِ، ولا يجوزُ أن يطاعَ الأمرُ الموجبُ إلا بفعلٍ متحقق فيه ما قصد به، وذلكَ في الوقتِ الثاني والثالث مقدر. ومن ذلك: أن الله سبحانه لما خصَّ هذا الوقت بإظهار صيغةِ الأمرِ فيه مع إمكانِ التأخيرِ، دل على انه استدعى الفعلَ عقيبه بلا فصلٍ، إذ لو أرادَ الفصْلَ لأخر الصيغةَ إلى الوقتِ الثاني. فصل يجمع الاعتراضاتِ والأسئلةَ على ما ذكرنا قالوا: أما الآياتُ، فإن المغفرةَ ليس إليها طريق معلومٌ فيُسارَع إليها، لكنِ الإضمارُ: سارعوا إلى ما يوجبُ لكم المغفرةَ، وذاكَ هو التوبةُ من الذنوب، وتلكَ على الفورِ بإجماع، لأنها النزوع عن الذنوب. وأما قولهَ: {فَاسْتَبِقُوا} [البقرة: 148]، فإنه أمرٌ مقيد بالتعجيلِ، وكلامُنا في أمرٍ مطلقٍ، وقولُه في حق إبليس: {مَا مَنَعَكَ} [الأعراف: 12]، عساه كانَ أمراً مع قرائن تعطي الإيجابَ على الفورِ، وهذا هو الظاهر. قالوا: وأمَّا النهيُ، فمنه يقتضي التركَ على الدوام، فتناولَ الوقتَ الأول كما تناولَ سائرَ الأوقاتِ، وليس كذلكَ الأمرُ، لأئه لا يقتضي إلا وقتاً واحداً، وليس الأوَّل بأولى من الوقتِ الثاني، فكانت الأوقاتُ كلها سواءً.

قالوا: وقولكم: يقتضي النهيَ عن ضده، فاقتضِى الدوامَ من حيثُ إنه نهى، باطل بقوله: افعلْ أيَّ وقت (¬1) شئت، فإنَه يجوز له التاخيرُ، وإن أدَّى إلى ما ذكره. ولأنَّه لو كان من حيث اقتضى النهيَ، لكانَ على الدوام، حيث كان النهيُ على الدوامِ، فلمَّا لم يكُ على الدوام، بطلَ أنَ يكونَ العملُ به بحكمِ النهي المطلقِ، لكن إن علَّق عليهَ التحريم بحكمِ النهي، فإنه يقتضي تحريماً بحكم نهى يفوتُ به الفعلُ، وذلكَ لا يقتضي المسارعةَ، لكن يقتضي أن لا يفوتَ به الفعلُ. ومع الايجابِ المجرَّدِ وإن كانَ على التراخي لا يفوتُ به الفعلُ. قالوا: وأمَّا أخذكم إيجابَ الفورِ من العزم والاعتقادِ، فلا يصحُّ، لأنهما يجبان على الفورِ مع كونِ الفعلِ مؤخراً بصريحِ النطقِ، وهذا يدلّ على أنَ الفورَ فيهما ليس بمأخوذٍ من جهةِ اللفظ، وإنَّما استفيدَ من جهةِ أنَّ التكليفَ لا ينفكُّ عن اعتقادٍ وعزمٍ، إذ لو كانَ منفكاً منهما، لكان جاحداً أو مهملاً. قالوا: وأمَّا قولُكم: ليسَ في الأمرِ تخيير ولا تأخير، فمن أينَ جاءَ القولُ بالتراخي؟ فإنَّه باطل بقوله: اذبحْ أو اقتلْ، فإنه لا يتعين عليه عين من أعيانِ المقتولينَ، ولا حيوانٌ من حيواناتِ الذبحِ، ويكون مخَّيراً بين الأعيانِ لعدمِ التعيينِ، كذلكَ الإطلاقُ في الأزمانِ، لا يقتضي تعيينَ وقتٍ. قالوا: وينقلبُ عليكم، فيقالُ: ليسَ في اللفظِ تعيين بالوقتِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "قرب".

- فصل: في الأجوبة عن هذه الأسئلة

الأوَّلِ، فمن أينَ أخذتُم التعيينَ له من بينِ سائرِ الأوقات؟ والزمانُ ليسَ بمذكورٍ في الفعلِ، وإنما يدخلُ شرطاً من حيثُ استحالةُ وقوعهِ في غير زمانٍ، فيجبُ أن يكونَ تابعاً للفعلِ، والفعلُ مطلقٌ غيرُ معينٍ، فكانَ الزمانُ بحسبه مطلقاً، فلا وجهَ لتعيينه إذا لم يكن لنا تعيين من ناحيةِ اللفظِ. فصل في الأجوبةِ عن هذهِ الأسئلةِ أمَّا دعواهم أنَّ الأمْرَ بالمسارعةِ عاد إلى التوبةِ لأنها هي التي تحصلُ بها المغفرةُ، فغيرُ صحيح، لأنَ الله سبحانه يقول: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] فليس غفرانه مقصوراً على التويةِ، فالطاعاتُ مكفَرةٌ توبةً وغيرَ توبةٍ، قال سبحانه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، قيل في التفسير: الصلوات الخمس يكفرن ما بينهن (¬1)، والأحاديث في ذلك كثيرة (¬2). ¬

_ (¬1) ورد هذا التفسير لمعنى الحسنات، عن ابن عباس، وعثمان بن عفان، وأبي مالك الأشعري، ومحمد بن كعب القرظي، والضخاك، ومجاهد ومسروق. انظر "تفسير الطبري" 15/ 509 - 519. (¬2) ومن هذه الأحاديث: حديثُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم لو أنَ نهراَ بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمسَ مراتِ ما تقولون؟ هل يُبقي من درنه شيئاً"؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيءٌ، قال: ذلك مثلُ الصلوات الخمسِ يمحو الله بهنَّ الخطايا" أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 379، والبخاري (528)، ومسلم (667)، والترمذي (2868)، =

وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، مقيّد، وكلامنا في المطلقِ، فإنه مقيَّد يوجب المسابقةَ والمسارعةَ في كل أمرٍ يرِدُ مطلقاً، كما إذا قال السيدُ لعبيدِه: سابقوا إلى طاعتي إذا أمرُتكم، صارتْ هذه تقدمةً توجبُ المسارعةَ إلى كلِّ أمرٍ يردُ منه في الثاني مطلقاً. وأمَّا قولهم: النهى يقتضي التركَ على الدوام، فكذلك الأمرُ عندنا، على أنه إنما اقتضى التركَ في كل حال، لأنهَ استدعاء مطلق للتركِ، وهذا موجودٌ في الأمر. وأمَّا قولُهم: إنَّه يبطل التعلق باقتضاءِ النهى عن الضدّ، بما إذا قال له: افعل أي وقتٍ شئت، فذاكَ لا يقتضي إلا النهيَ عن التركِ في الوقتِ الذي يشاءُ الفعلَ، وأمَّا قولُكم: كان يجبُ أن يقتضيَ الدوامَ، فكذا نقول. وأمَّا قولهم: إنَّ العزمَ والاعتقادَ يجبُ على الفورِ وإن كان الفعل مُتراخياً، لأنه متى لم يقدم العزمَ والاعتقادَ كان مهملًا. فلا يلزمُ، لأن الاعتقادَ والعزمَ تابعان للفعل، إذ لأجلهِ وجبا، وإنَّما فتعجّلا مع تقييدِ الفعلِ، لأن الأمرَ بهما مطلق فتعجّلا واختص الفعلُ دونهما بالتقييد، ولو قيّدهما الشرعُ لتقيّدا. وأمَّا قولهم: إنَ تركهما إهمالٌ، فَتَرْكُ الفعلِ مع حصولِ الاعتقادِ والعزمِ تسويفٌ وتمادٍ. ولأنَّه يبطلُ بما لو قيَد الاعتقادَ والعزمَ، فقال: حُجَّ في سنةِ كذا ¬

_ = والنسائي 1/ 230 - 231، والبغوي (342)، والبيهقي 1/ 361، وابن حبان (1726).

حِجّة. ولا يعتقدُ وجويَها، ولا يعزمُ على فعلِها إلاحينَ أشهُرِ الحج من تلكَ السنةِ، ولهذا من لم توجد في حقِّه شروطُ الحج لا يلزمه اعتقادٌ ولا عزمٌ لما لم يخاطب بالفعلِ، ولا يكون بالِإخلالِ بهما مهملًا. وأما قولُهم على قولنا: ليسَ في اللفظِ تخييبرٌ. باطلٌ بالأمر بالذبح، فإنَّه يتخير بين الأعيانِ، ولا تخيير، فإنَه لا عينَ أخص من عين، إذ أغنامُ القطيعِ متساويةٌ، فأمَّا في مسألتِنا، فإن الوقتَ الذي يلي الأمرَ أخص من حيثُ إنه يتضمّنُ إيقاعَ الفعلِ فيه إِجزاءٌ ومصلحة وإرادةٌ بالإِجماعِ، والوقتُ الثاني لا نعلم أنَه صالحٌ، بخلافِ الأعيانِ، ولأنه لا يُخافُ بالعُدولِ عن عينٍ إلى غيرها فواتُ الفعلِ في العين الأخرى، وهنا يُخافُ فوات الفعلِ رأساً، وليس على الاحترام أمارة تُتَوخى وتنتظر. وأما قولهم: ونقابلِكم بأنَّه ليس في الأمرِ تعيينٌ. فلا يصحُّ، لأن الأمرَ يقتضي إيجادَ الفعلِ، وإيجادُه تَضَمَنَ إيجابَه، والوقتُ الذي يلي الأمرَ مع إزاحةِ عللِ المأمورِ فيه وصلاحيته لفعله وجوداً ووقوعاً موقعَ الإجزاء، وهذا صالحٌ لإِيجاب التعيين، فأمَّا التراخي والتأخير، فلا وجَه له، ولذلكَ لا يحسُن اللومُ على فعلِه في أوَّلِ وقتٍ، ويحسُن العتب والتوبيخُ على تأخيرهِ مع تكاملِ شروطِ الفعلِ.

- فصل في الدلالة على فساد قول أهل الوقف

فصل في الدلالة على فساد قول أهل الوقف، وذلك من عدّة وجوه: أحدها: الكتاب؛ وهو قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] فتمادوا بقولهم: ما هيَ، ما لونُها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "شدَّدوا، فشدّد عليهم" (¬1) فقال الله سبحانه في آخر أمرهم: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة: 71] وما كان سوى التوقف والاستفسار، وقد ذمَّهم عليه. فإن قيل: ظاهرُ حالِهم أنهم توقفوا من غير عزم ولا اعتقاد، لأنهم قالوا في الأول: {وَأَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] وفي الأخيرِ قالَ سبحانه: فذبحوها {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] قيل: النقلُ يمنعُ ذلكَ، فإنَه رويَ في التفسير أنَهم بلغوا بثمنها ملءَ جلدِها، ورويَ مسكها ذهباً، روي: لو أنًّ بني إسرائيلَ ذبحوا بقرةً من بقرِهم لأجزأتهم، لكنْ شددوا. ولم يَذكر سوى تعمقِهم في السؤالِ، ولو كانَ ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث مرسلاً عن ابن جريج الطبري في "تفسيره" 2/ 205. ولفظ الحديث كما أخرجه عن ابن جريج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسم شدد الله عليهم؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بُينت لهم آخر الأبد". قال الشيخ أحمد شاكر: وهو مرسلٌ لا تقوم به حجة. وذكر ابن كثير في تفسيره ورودَ هذا الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً، ثم عقب عليه بقوله: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسنُ أحوالهِ أن يكون من كلام أبي هريرة، كما تقدم مثله عن السدي، والله أعلم"، "تفسير ابن كثير"، 1/ 159.

هناك ما هو أوفى من السؤالِ لما علَّق بالتشديدِ على سؤالِهم وتردّدِهم في صفاتِ البقرةِ، لم يحدث سوى التأخيرِ والتوقف، لأنَ المتوقفَ في ذلكَ إنما يتوقفُ لطلب الدليل على جوازِ تأخيرِه وزوالِ المأثم بذلك، وليس يتوقف لطلبَ الدليلِ على سلامةِ تعجيل الفعْل، ويأمن من المأثمِ والعقابِ، والقولُ بانَ تقديم فعلِه حرامٌ، لأنَّ من قاَلَ بالفورِ وبالتراخي جميعاً يقولونَ: إنَّ تقديمَ فعلِه حسنٌ جميلٌ، وإنَّ القائلَ بوجوبِ تقديمه يقول: إنَّه يأثم بالتأخيرِ، والقائلونَ بالتراخي يقولون: إنْ قدمه فقد أدّى الواجب وبرئت ذمتُه، والأحوطُ له في حيازِة المثوبةِ وإبراءِ الذمَّةِ تقديمُه، فإنَّه لا يأمن الفواتَ بمفاجأة الموتِ، وإذا ثبتَ ذلكَ ثبتَ أن مقدم فعلِه ممتثلٌ للمأمورِ به بإجماعِ الأمَّةِ قبلَ القائلين بهذا، فبطَلَ ما قالوه من الوقفِ. ويوضِّح هذا أنَّه لو وجبَ الوقفُ في ذلكَ، لكانَ المقدِّمُ لفعلهِ عقيبَ الأمرِ، مع اعتقادِ وجوبهِ وبراءةِ ذمتِه مخطئاً مأثوماً، لأنَه لا يعلمُ ذلكَ، بل يجوزُ أن يكونَ المرادُ به التأخير [و] في هذ أيضاً خلاف الِإجماع، فلو احتملَ الأمرُ في أصلِ الوضعِ الفورَ والتراخي لكان هذا الِإجماعُ من الأمةِ على أنَّ تقديمَ فعلهِ ليس بمحظورٍ ولا حرامٍ موجباً لحمله بدليلِ السمعِ على أنَّ سائرَ الأوقاتِ وقتٌ له، من عقيبِ الأمرِ إلى ما بعده. فإن قالَ قائلٌ: بأن تقديمَ فِعله حرامٌ لموضعِ الاحتمالِ فيه. قيل له: فأنتَ إذاً قائل بأنَه إنما يجبُ أن يفعل لا محالةَ في وقتٍ يكون بعدَ عقيب الأمر.

فإن قال: كذاك أقول. خالف الإجماعَ الذي وصفناه، وقيل له أيضاً: أفيجوزُ أن يتغير الأمرُ بطولِ عمرِ المكلفِ من بيان وقته، أو لا يجوز ذلك؟ فإن قال: ذلك جائز. قيل: فهو إذاً حرامٌ على المكلفِ فعلُه في سائرِ الأوقات، لأنَّه عارٍ فيها عن دليل وجوبِ فعله من كل وقتٍ منها، كما أنه عارٍ من ذلك في حال عقيب الأمرِ، وهذا يوجبُ التوقفَ عن فعلِه في كلِّ حالٍ، وأن يكونَ إيقاعهُ فيها حراماً وبمثابةِ إيقاعهِ عقيبَ الأمرِ به، وذلك خلافُ الإجماع وإسقاطٌ للتكليفِ، وجعلُ الأمر محرماً أبداً لإيقاع الفعل، وذلك باطلٌ. وإن قال: لا يجوزُ أن يؤخر بيانُه في الحالِ التي تلي حالَ عقيبِ الأمرِ، وأنَّه واجبٌ في الذمةِ إلى حين موتِ المكلَفِ، أو واجب إيقاعُه في وقتٍ محدودٍ معين. قيل له: فما معنى الوقفِ مع البيانِ لحالِ المأمورِ، وأنَه في الذّمةِ أو مؤقّت بوقتٍ محدود؟ والوقفُ لا يسوغُ مع البيانِ. على أنَّ هذا البيانَ يجبُ أن يكونَ مع الأمر وحين وروده، فيبين به حالَ عقيب الأمرِ وأنَّها حالٌ له أم لا؟ كما يجبُ عندَه أن يتبينَ في الحالِ التي تَلي حالَ عقيب الأمرِ ليُعلمَ حكمُه مِن تعلقه في الذّمة أو توقيتِه، ولا مخرجَ من ذلكَ. ون قال قائل: يجوزُ تأخيرُ بيانِ ذلكَ أوقاتاً كثيرة.

- فصل فيما استفدته من الأدلة على القول بالفور

قيل له: فيجوزُ ذلك الشهورَ والسنين الكثيرة، وإلا فما الفرق؟ وهذا يوجبُ صحةَ الوقفِ فيه أبداً، وتحريمَ الإقدامِ عليه في كل وقتٍ، وذلكَ باطل. ومما يدُل على فسادِ القولِ بالوقف، ودعواه على أهلِ اللغة في أصل الوضع: علمُنا باتفاقِ أهل اللغةِ على مَدْح المُسارع الى ما يؤمر به، واعتقادُهم فيه امتثالَ المأمورِ به، هذا معلوم من حاَلهم وحكمِ مواضعتهم قبل مجيءِ الشرعِ. وقولهم: فلانٌ ممن يُسارعُ إلى المرسوم، ولا يبطىء، ولا يتراخى فيما يؤمرُ به، ولذلك ذهبَ كثيرٌ من الناسِ الَى القولِ بالفور دونَ التراخي، وإن لم يقصد أهلُ اللغةِ عندنا ما ادّعوه، ولكنهم قصدوا الى زيادة مَدْحِ من سارعَ الى امتثالِ أمرِ الآمرِ وبادرَ إليه، وإن كان له تأخيرُ ذلك. ومن هذا الوَجْه مَدحَ الله تعالى قوماً بذلك، فقال: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 61]، فبطل دعوى أهلِ الوقفِ. فصل فيما استفدتُه من الأدَلّةِ على القولِ بالفورِ، مضافاً الى ما تقدم ومفرداً عنه. أنَهم قالوا: إنَّ لفظ الأمرِ اقتضى إيجابَ الفعلِ، وكونهُ واجباً يقتضي إيقاعَ موجَبهِ، فوجب إيقاعُ الفعلِ مع الوجوب، ولم يجُز تأخيره، ولذلكَ اقتضى إيقاعَ موجبيه الأخرين، وهما: الاَعتقادُ والعزمُ على الفور.

فكذلكَ الفعلُ، ينبغي أن يقتضي إيقاعه (¬1) على الفورِ. فاعترضَ على هذا بعضُ من لا يرى الفور، فقال: ليس حصولُ الوجوب مؤذِناً بإيجاب الفعلِ حالَ حُصول لفظِ الأمرِ به وحينَ سماعِ لفظه، لأنه مُحالٌ، وَإنما يجبُ في الثاني فإذا انفصلَ أحدُهما عن الآخر، أعني الفعلَ من لفظِ الأمر في حال، جازَ في حالين وثلاث وأكثر. وأمَّا قولُكم: إن الأمرَ اقتضى تعجيلَ فعلِ الاعتقادِ الذي هو أحدُ موجبيِه، فإنه غَلَطٌ من عدةِ وجوه: أحدها: أنَنا لم نقل: إن الاعتقادَ وجَبَ تقديمُ فعلهِ لأجل حصول الأمرِ به فقط، ولكنْ لدليل أوجَب ذلك، فإن وُجِدَ في تقديمِ الفعلِ وما يقوم مقامه، وإلا بطلَ الجمعُ بينهما. والوجة الثاني: هو أنه لو كانَ الأمرُ المقتضي لفعل الاعتقادِ وإيقاعِ الفعلِ، موجباً لتقديمِ فعلِ الأمرين -لِإيجابِه تقديمَ أحَدِهما- لوجَبَ لا محالةَ إيجابُ تقديمِ الفعلِ المؤقت بما يقتضي تأخيرَه لإِيجابِ الأمرِ به تقديمَ اعتقادِ وجوبهِ، فلما اتفقَ على أنه لو قال له: قد أوجبتُ عليك إيقاعَ الصلاةِ في رأسِ الشهر أو الحَوْلِ. لم يَجُز له تقديمُ فعلها عقيبَ الأمرِ. وإن لزِمَه تقديمُ فعل اعتقادِ وجوبها سقطَ ما قلتموه هذا. على أنَه إذا وجبَ عندهم إيقاعُ الفعلِ عقيبَ الأمرِ، امتنعَ وجودُ ¬

_ (¬1) أي الأمر يقتضي إيقاعَ الفعل على الفور.

العزم على أن سيفعل، لأن العزمَ عزم على المستقبلِ، وتوطين للنفسَ على فعلهِ، وذلك لايصح في الواقعِ الموجودِ، فلاوجه لقولهم: يجب تقديم الفعلِ كما يجبُ تقديمُ العزم. اعترضه من يقولُ بالفورِ، فقال له: فما الدليلُ الموجِبُ لتقديم فعلِ الاعتقادِ على الفورِ؟ قال المعترضُ الذي لا يرى الفور: الدليلُ عليه أمور: أحدها: الاتفاقُ على وجوب فعلِ الاعتقادِ على التكرارِ في جميع الأوقاتِ التي يُذكر فيها الأمر، وأنَّ الأمرَ بذلكَ ليس بأمرٍ باعتقادٍ وأخذٍ من الجنس واقع في زمنٍ واحد، وإنَّما أمر بالاعتقاداتِ على الدوامِ، واذا كانَ ذلك كذلك، لَزِمَ إيقاعُه على الفورِ وفيما بعده، وفي كلِّ وقتٍ ذُكرَ الأمرُ بالفعلِ ليتمَّ كونُه على التكرارِ، ولما لم يجب الفعلُ المعتقدُ وجوبُه على التكرار، لم يلزم إيقاعُه على الفورِ وما بَعْده، وهذا واضح في الفصلِ بين الأمرين. اعترض عليه من يقول بالفور فقال (¬1): ولِمَ لَمْ يجب الفعلُ على التكرارِ كما وجب الاعتقادُ لوجوبِه؟ قال: إنَّما لم يجب لأنَّ الله تعالى لم يوجب ذلكَ، ولو أوجبه للزمَ تكرارهُ. قال: وقد يمكن أن يقال: إنَّه إنما لم يجب على التكرار، لكونه مُضراً، وقاطعاً للحرث والنسلِ والمصالح، وليس كذلك فعل ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل.

اعتقادِ الوجوبِ كلما ذُكِرَ الأمرُ، لأنه غيرُ قاطع عن هذه الأمور. قال: ومما يقتضي الفرقَ بينهما أيضاً؛ أن الاعتقادَ مما يتضمنه العلمُ، لوجوبِ الفعلِ لا محالةَ، والتصديق للمخبر عن وجوبهِ وتركِ الإِصرارِ على معصيته؛ وذلكَ أن الأمرَ لا يستقر وجوبه إلا مع العلمِ بأنه واجب، أو التمكين من العلمِ بذلك، فإذا أمرَ بإيقاع الفعلِ والتقرّب به مُعَجلاً أو مُؤجلًا، فلا بدَّ من إعلامِه واشعارهِ بذلكَ، ومتى علم وجوبه، حصل مُعْتقِداً لذلك، لأن اعتقادَ وجوبهِ ليس بأكثرَ من العلمِ بوجوبهِ، فصارَ إفهامُ الوجوب متضمناً لاعتقادِ الوجوبِ، وهذا الاعتقادُ عُلِمَ من فِعل الناظر المستدَل على وجوب ما أُمرَ به، وليسَ لا يصحُّ له العلمُ بوجوب الفعلِ إلا بعدَ إيقاعهِ فَضلاً عن تقديمه، لأنَّه لو عَلمَ بوجوبه واعتقدً ذلك لصح أن يتركه جملةً، ويعصي إذا علمَ وجوبَ ما وقّت بوقتٍ متأخرٍ وجبَ اعتقاد الوجوبِ معجلاً وتأخير الفعلِ، ومحال كونُه عالماً بوجوب الواجب عليه مع تأخيرِ اعتقادِ وجوبهِ، لأن نفسَ الاعتقادِ لوجوبهِ هو العلمُ بالوَجوبِ، فافترق الأمران. قال: ولأنَ الله سبحانه إذا أوجبَ فعلاً، فقد أخبره باستقرارِ وجوبهِ عليه، ولزمه عند ذلك اعتقادُ كونهِ واجباً لكي يكونَ بذلك مصدقاً لخبرِ الله تعالى عن إيجابهِ عليه، والا كان مُكذباً الله، وشاكاً في خَبرِه، وذلك مُحرم بإجماع المسلمين، وهو لا يحتاج في تصديقِ الخبر عن إيجابِ الواجبِ إلىَ إيقاعِ فعلِ الواجب، فافترق الأمران. قال: ولأنه متى علمَ وجوبَ الفعلِ عليه، واعتقدَ ذلك، لم يَخْلُ اعتقاده وجوبَ ذلك، وتصديقَ المخبرِ له عن وجوبه من أن يكونَ عازماً على ما اعتقد وجويَه أو تاركاً هذا العزم، وقد اتفقَ على تحريمِ تركِ

هذا العزم في كلّ وقتٍ، لأنه لا متركَ له مع ذكِر العبادةِ إلا بالعزمِ على تركِ الواجب وكلِّ عصيانٍ، فافترق الأمران. ومما استدلَّ القائلونَ بالفورِ أنَهم قالوا: إنه لا يخلو الأمرُ المطلقُ عن التوقيتِ من أحد ثلاثة أمور: إما أن يكون بفعلِ الشيءِ على الدوامِ والتكرارِ. أو يكونَ أمراً بالفعلِ على البدلِ، فيكون أمراً بفعلٍ غير معين ليوقعَه المكلف أيَّ وقتٍ شاء. أو أن يكون أمراً بفعل واحد لا على الجمع ولا على البدل. قالوا: وقد اتفق على أن ذلك لا يصحُ أن يقال فيما يلزمُ على التكرار، وإنَما الخلاف في فعلى واحد أو جملةٍ يصحُ أن تقدمَ ويصح أنْ تؤخر، فسقطَ هذا الوجْهُ، وإن كان أمراً بفعل على البدل غير معين، بل شائعاً في جميعِ الأوقات، فذلك باطلٌ، لأن ما هذه حاله إنَما هو أمر بافعال مخيرٌ فيها، كلُّ واحدٍ منها غيرُ صاحبهِ، يقعُ في أزمانٍ متغايرةٍ، والأمر إنما اقتضى لفظُه تعلقَه بفعل واحدٍ دون أفعالٍ كثيرةٍ يقع على الضَم أو على البدلِ والتخيير، فلا سبيلَ إلى حَمْل الأمرِ على غير موجَبه ومقتضاه، أو أن يكونَ أمراً بفعلٍ واحدٍ معين، فإن كانَ كذلك وجب أن ينظر أيَ الأزمانِ زمانُه الذي يجب أن يقع فيه، فإذا عرفنا أنَ ذلكَ الزمنَ وحده هو وقته وأنَه هو المراد إيقاعه فيه، وجب أن يكون إيقاعه فيه هو المصلحة، وإيقاعهُ في غيره مفسدة غير مراد. قالوا -أعني هؤلاء القائلين بالفور-: وقد اتفقَ الكُلُّ على أَنَّ الأمرَ

المطلقَ بالفعلِ إذا فُعِل عقيبَ الأمرِ، حَصَل به أداءُ الواجبِ وبراءةُ الذِّمة، وكان فيه المصلحةُ وموافقةُ المرادِ، وإذا ثبتَ ذلكَ من حكمِ الوقتِ الأوّلِ، عُلم أن الوقتَ الثاني وما بَعْده من الأوقاتِ ليس بوقتٍ له، لأن ما يقعُ في الوقتِ الأولِ من أفعالِ العبادِ، لا يصح تقديمُه على وقته، ولا تأخيرُه، ولا إعادته بعدَ عدمهِ، وما يقعُ في غيرِ وقتهِ من جنسهِ، فإنَّه غيرُه، وجبَ لزومُ الفعلِ على الفور. واعترض عليهم من قال بالتّراخي بأنْ قال: أمَّا دعواكم أنَه لا يجوزُ أن يكونَ أمراً بفعلٍ غيرِ معين، وأنَ ذلك الفعلَ قد خُيرَ المكلفُ بين فعلهِ وفعلِ مثلِه في غير وقته، فإنَه عينُ الخلافِ الواقعِ، فلِمَ قلتم ذلك؟ قال: فإن قالوا: لأنَ أمره بالفعلِ ليسَ في ظاهرهِ أنك مُخَيّرٌ بينه وبين غيره. قيلَ لهم: ليسَ في ظاهره أنَك مأمورٌ بواحدٍ من الجنس معيّن بوقتٍ مخصوصٍ دونَ مثله، فلا يجب أن تقولوا بذلك. قال: ويقال لهم أيضاً: ما أنكرتم أنَه متى قيل له: صلّ، أو اضرب. ولم يعَين له وقتاً من وقتٍ، فقد دل بذلكَ على أنَه أمر بفعلٍ من الجنس غير مُعَين، ولم يكن مبيناً عن إيقاعه في وقتٍ مخصوص، ولا أُرِيْدَ من الجنس جزءاً مخصوصاً، وإنَّما ارِيدَ أن يفعل جزءاً من الجنس يقع عليه اسمُ الفعلِ في أيِّ وقتٍ شاء إن علم أنه سيوقع المأمور به، كما أنَه إذا قيل له: اضرب رجلًا، وتصدق على فقير. ولم يخص رجلًا من رَجلٍ، ولا فقيراً من فقير، علم أنَه قصد إلى إيجاب

الفعلِ بغيرِ تعيين أحدٍ بعينه، وإن كُنّا نعلمُ أنَ كُلَّ ضربٍ يُفعل في شخص، فإنَّه غيرُ الضرب المفعولِ في غيرهِ، أو ما من سبيله أن يُفْعَل في غيره، وإن لم يَرد لفظُ التخييرِ بأن يقال له: اضرب من شئتَ، وهذا بيِّنٌ في سقوط ما اعتمدوا عليه. قال: فأمَّا قولُهم إِنً الِإجماعَ قد حصل على أنَّ تقديمَ فعلهِ مصلحةٌ، وأدَاءَ الواجبِ تبرأ به الذِّمةُ، وأنَّ ذلك دليلٌ على أنَّ ما يقعُ بعدَ ذلكَ ليس بواجبِ ولا مصلحةٍ، فإنَّه قول ظاهرُ البطلانِ، لأنه ليسِ في الِإجماعِ على أنَّ تقديمه مصلحة وأداءٌ للواجب، دليلٌ على أنَّ فعلَ مثلِه وتأخيره ليس بواجبٍ ولا مصلحةٍ، وهذا هو الذي يحتاجون إليه، ولا إجماعَ فيه، فيسقط ما قالوه. وممَا استدلَّ به القائلونَ بالفور: قالوا: لو كان على التَراخي، لم يَخْلُ من أحدِ أمرين إما أنْ يكونَ له تأخيرُ الفعلِ إلى غايةٍ معلومة. أو إلى غير غايةٍ. فإن كان إلى غايةٍ محدودةٍ، فذلكَ يوجبُ توقيته، وأن يكون كالصلاةِ الموسَعِ وقتُها بوقتٍ مصروفٍ، وذلكَ خلافُ القولِ بالتراخي، وأنه لا وقتَ يشار إليه. فيقال: إن إطلاقَ الأمر يقتضي توقيتَه به، وألا تمكن الزيادةُ عليه والنقصان منه، فبطل القولُ بذلك، وإن كان له تأخيرهُ أبداً إلى أن يموتَ بغيرِ توقيتٍ، فلا وقتَ إلا وله تركُ الفعلِ فيه، وهذا يوجب ضُروباً من المحال:

أحدها: أن يكونَ الفعلُ نفلاً، وخلافُنا في كل أمرٍ واجب، إمّا بصيغته، وإمّا بدليله، وإما بإطلاقه، وما أخرَجَ الواجب عن كونِه واجباً باطلٌ باتفاقٍ، وليس للندبِ صفة يختص بها، إلا أنَ له فعلَه مع الثوابِ عليه، وله تركُه، فإذا كان هذا صفةَ الواجب على التراخى، وجبَ أن يكونَ نفلَاَ، وذلك باطلٌ. والوجهُ الآخر: أنَ كثيراً ممن قال بالتراخي، يجعلُ المكلفَ بموتهِ قبل إيقاع فعله آثماً حَرِجاً، وذلك باطل، لأنَه تركه عندهم مع أنَ له تركَه، فلم يجبْ تأثيمهُ. والوجهُ الآخر: أنَه يوجب أن يكونَ اللهُ سبحانهَ قد فرضَ فرضاً معلومَ العين، مخصوصاً في زمنٍ مجهول الآخر، لا نعرفُ غايتَه، وذلكَ بمثابةِ تكليفِ المحالِ وما لا يطاق، وإذا قيل ذلك بَطَل القول بالتراخي، وصحَ أنه على الفور. فاعترض من قال بالتراخي فقال: جميعُ ما ذكرتموه باطلٌ، سوى قولِكم: إنَّه إن مات الى المكلّف قبل فعله غير آثم، وقولكم: إنه لا يجوز أن يكون التراخي إلى غاية مُحدّدة، فصحيح لأنه لا حد له، ولا نهايةَ يشارُ إليهما، وإنْ ماتَ قبل امتثِاله فهو عندنا غير آثم، ويخطىءُ من قال: إني أتبيّن بموته أنه كان مفَرطاً. وأمّا قولُكم: إنَه لو كانَ له فعلهُ في كل وقتٍ، وله تركُه إلى أن يموتَ للَحِقَ بالنفلِ، فإنَه باطل؛ لأنَ النفلَ لم يكن نفلًا لأنَه يحل تركهُ، لأن المباحَ له تركهُ، وليسَ بنفلٍ، ولا كانَ أيضاً نفلًا، لأن فعله خيرٌ من تركهِ، مع تحليل تركه، لأن الواجب الموسَّعَ والساقطَ إلى

بدلٍ، فعلُه خيرمن تركه مع تحليل تركه في وقتِ التوسعةِ، وليس بندبِ لو فعل فيه، بل واجبٌ، فلِمَ زعمتم أنَ الندبَ إنما يكونُ ندباً لأجل وصفتم؟ وما أنكرتم أن يكونَ إنَما صارَ ندباً لِما قلتم ولأمرٍ آخر زائدٍ عليه. قال: وإنْ قال أهلُ الفورِ: وما ذلكَ الأمر الذي لأجله وبانضمامه إلى ما ذكرنا صار ندباً؟ قال: لا يلزمنا ذكره. قال: ثم يقالُ لهم: ما أنكرتُم أن يكونَ الندبُ إنَما كان نَدْباً، لأنَّ فعلهَ قربةً، خيرٌ من تركه، لا بشرطٍ، ولا على صفةٍ، بل لجوازِ تركهِ على كُلِّ حالٍ، وأن تكون كل قربةٍ فعلها خيرٌ من تركِها مع جوازِ تركِه لشرطٍ مخصوصٍ أنْ يَدُل على خلافهِ حرمَ التركُ، فليس بندبٍ، وهذه صفةُ الواجبِ على التراخي، والواجبِ الموسَعِ وقتهُ، والساقطِ إلى بدلٍ. وذلك أنه لا يجوز تركُ الواجبِ على التراخي إلابأحدِ شرطين: إما بأن يقول بفعلِ العَزم على أن سيفعلَه في المستقبل، ولا يحلُّ تركُه وتركُ العزمِ على فعلِ مثلهِ فيما بعد. أو بأنْ يتركَه بشريطةِ أنْ يفعلَ مثلَه فيما بعد، ولا يحلُّ تركهُ إلا على أنْ يفعلَ في المستقبلِ مثله، وكذلكَ حكمُ الواجب الموسعِ والساقطِ إلى بدلِ؛ إنَما يسوغُ تركهُ على صفةٍ وبشرطٍ يفارقُ فيها تركَ البدلِ، وإذا كانَ كذلك وضُحَ الفرقُ بين الأمرين، وبطل ما قالوه في

حدّ الندب. قال: فإن قالَ منهم قائل: هذان الشرطانِ باطلان، لا سبيلَ إلى إثباتهما لأجلِ اتفاقِنا جميعاً على أنَّ الأمرَ اقتضاءُ وجوبِ الفعلِ، إمَّا بنفسهِ أو بقرينتهِ، وأنً ما يقتضي وجوبَ فعل معين لا يوجبُ فعلَ عزمٍ على فعلِ مثلهِ بدلَاً منه، ولايوجبُ فعلَ مثلهِ فيما بعد، ولاشيئاً غيره من سائرِ الأجناسِ، وإنَّما وجبَ فعلُه بعينه، وإذا كان هذا مقتضى الأمرِ بالفعل، وكانَ الكلام في مقتضاه، سقطَ ما وضعتم، لأنَّ ما قلتموه يوجبُ التخييرَ بينَ الفعلِ وبينَ مثلهِ فيما بعد، وبينه وبينَ العزمِ على فعلِ مثلهِ فيما بعد، فلا يقتضي التخيير بينَه وبينَ مثلهِ أو بينَ خلافهِ، ولا دلَّ أيضاً على ذلكَ دليل فيصارُ إليه، ولو دل عليه دليلٌ لم يكنْ ذلك من مقتضى الأمرِ وإنما كان من مقتضى الدليل، فليسَ الكلامُ في مقتضى الدليل، وإنَّما هو في مقتضى الأمرِ، فبَطَل ماقلتم. قال: يقال لهم: إنً ما قلتموه ساقطٌ من وجهين (¬1): أحدهما: أنَّ إطلاقَ الأمرِ بالفعلِ لا يقتضي إيقاعَ فعل معيَّن من ذلك الجنسِ المذكور في زمنٍ معيِّن، وإنما يقتضي إيقاعَ فعل واحدٍ من الجنسِ بغير عينه، وغيرِ تعيين الوقتِ، كما أنَّ قول الآمرِ: اضرب رجُلَاَ. لا يقتضي ضرباً معيناً في رَجُلٍ مُعَيّن، وإنما يقتضي فعل جزءٍ من الجنسِ في أيِّ الرجالِ شاءَ المكلّفُ. ¬

_ (¬1) بيين ابن عقيل الوجه الأول، ولم يذكر الوجه الثاني!

- فصل في الأجوبة عما ذكره أهل التراخي

فليسَ لأحدٍ أنْ يدفعَ هذا بأن يقول: ليس للتخييرِ بين فعلِ أيِّ أجزاءِ الضرب شاء، وفي أيّ الرجالِ شاءَ لفظ، والأمرُ إنما اقتضى أمراً معيناً في رَجُلٍ معيّن، فلا وجهَ للتخيير، لأنَّنا قد بّينا فيما سلف أنَّه إذا لم يعيّن جزءاً من الفعل، ولا وقتاً له، فقد خيّره في أي جزء شاء أنْ يفعله في أيّ وقتٍ شاء بغيروجهٍ، فبطلَ ما قالوه. قال: وأما قولهم: إنَّ الدليلَ لم يَدُلَّ على أن إثباتَ العزم بدلًا من الفعل، فليس الأمرُ كذلك، بل قد قامَ الدليلُ عليه، وإن كانَ الأمرُ به لا يقتضي إثباتَ بدلٍ منه، وهو أنَه إذا ثبتَ بما قدمناه أن الأمرَ بالفعل لا يقتضي تعجُّله، ولا يوجبُ تأثيمَ المؤخر له، ولا يقتضي أن يكون أمراً بفعلِ جزءٍ من الجنسِ في وقتٍ معين، وجبَ أن يكون أمراً بفعلٍ واحد من الجنسِ بغيرِ عينه، ومتى ثبتَ ذلك وجب تخييرُ المكلّفِ بين الفعلِ في كل وقتٍ، وبين تركهِ وفعلِ مثلهِ فيما بعد، وإذا كان له تركهُ في كل وقت لم يكن بُدّ من أن يكونَ له تركه على خلافِ تركِ النفلَ. فصلٌ في الأجوبةِ عمَّا ذكره أهلُ التراخي (¬1). أمَّا قولُهم: ليسَ في الصيغةِ ما يقتضي زماناً ولا مكاناً، فكما لا يختص بمكانٍ، لا يختض بزمانٍ. ¬

_ (¬1) تُنظر بعض هذه الأجوبة في "العدة" 1/ 283 - 289. و"التمهيد" 2/ 235 - 240.

لا نُسَلم (¬1)، بل فيها اقتضاء بإيجادِ الفعلِ في الزمانِ الذي يلي الأمرَ بلا فصلٍ، لأنَّ ظاهرَ اللفظِ يعطي الإِيجادَ، ولا تأخيرَ في اللفظِ، ولا مهلةَ ولا تخييرَ، فكأنَ الأمرَ الجزمَ من حيث اقتضى الِإيجابَ النافي للتخييرِ بين الفعلِ والتركِ، اقتضى الِإيجاد عقيبَ الأمرِ بلا تخييرٍ، فلا يبقى إلا الفورُ. ولأنَّه ليسَ في اللفظِ ذكرُ الاعتقادِ والعزمِ ووقتهما، ومع ذلك يجبانِ على الفورِ، وهما تابعانِ للفعلِ. وكذلكَ النهيُ المطلقُ، لا ذكرَ للوقتِ فيه، ومع ذلك يجبُ التركُ على الفورِ. ولما في الزمانِ الذي يعقب لفظ الأمرِ من الموافقةِ والمصلحةِ والإِجزاءِ ونفي المفسدةِ، ولِإجماعِ أهلِ اللغةِ والأصولِ على أنَه وقت لحصولِ الطاعةِ والامتثالِ بإيقاعِ الفعلِ فيه. ولا نُسَلِّمُ الأصلَ، فإنَ المكان الذي يكون فيه المكلفُ عقيبَ الأمرِ يختصُ بالفعلِ ما لم يَكُ فيه مانع يمنعُ الشرعُ من الامتثالِ فيه، كالبقعةِ النجسةِ مع كونِ المأمورِ به صلاةً، إلى ما شاكلَ ذلكَ من الأمرِ بالاعتكافِ، وهو في بقعةٍ ليست مسجداً، فيخرج ويفعل وإن كان في بقعةٍ صالحةٍ وجبَ شروعُه في الفعلِ، لكن يختص المكانُ بالفعلِ تبعاً للزمانِ، إذ لا ينفكُّ بخروجه عنه من تراخٍ بزمانٍ، فلذلكَ اختص بمكانِ الأمرِ. ¬

_ (¬1) ورد في الهامش ما نصه:"بلغ العرض من أول الكتاب بأصل المصنف ومنه نقل".

وقصةُ عامُ الحديبيةِ مشتركة، فإن عمر كان من أهل اللغةِ، وقد تعجّل الوعد (¬1)، وطلب ذلك، واعترض بالتأخير والتعذّر. ولأنَ الوعدَ بالدخولِ يخالفُ الأمر: فإنَ العِدةَ في نفسِ وضعها تقتضي الاستقبالَ، ومن أراد أن يُعَجِّلَ لا يعِدْ، وإنَما تحصلُ العِداتُ بالأمورِ في غالبِ الأحوالِ لنوعٍ تعذَرَ في الحالِ، أو لمصلحةٍ تقتضي التأخيرَ. والأمرُ اقتضاءٌ، وبينَ العِدةِ والاقتضاءِ ما يشهد به طبعُ اللفظِ وجوهرُ الكلامَ. وكذلك لا يحسُنُ الاقتضاءُ بالعِدةِ عقب التلفظِ بها، ويحسنُ الاقتضاءُ بالائتمارِ والامتثالِ عقيب التلفظ به، ولذلكَ لا يحسُنُ أن يسمّى من تأخرت عِدتهُ عن مجلس الوعد مخلِفاً، ويسمي من تأخّر عن امتثالِ الأمرِ مخالفاً وعاصياً في مطَردِ العادِة العربيةِ، إلا فيما كان فيه دلالةُ حال تقتضي التأخيرَ. وقد شهدَ لذلكَ القرآن في قصة المأمورين بذبح البقرة لما توقفوا بنفس الاستعلامِ عن صفاتِها، ذمَّهم الشرع، فقال صلى الله عليه وسلم "شدَّدوا فشدّدَ عليهم" (¬2). ¬

_ (¬1) حصلَ ذلكَ فىِ الحديبية حيث قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه وقد صدهم المشركون عام الحديبية: أليس قد وعدنا الله بالدخول فكيف صدونا. وقد تقدمت الإشارة اليه: 2/ 35. (¬2) سلف تخريجه في الصفحة: 26.

ولو قال قائل: سنذبحُ بقرةً. لمَا ذُمّ بتأخُرِها، ولأنَا لا نعلمُ المصلحةَ في تعجيلِ الوعد، بل قد يكونُ التأخيرُ هو الأصلحَ، وبالإِجماعِ أن التعجيلَ مصلحة، وما بعده من الأوقاتِ لا يؤمَنُ أن يكونَ مَفْسَدةً. وأما التعلقُ بالأيمانِ فلا حُجةَ فيه، لأنَ الأيمانَ من قبيل العِدة، وقد تكلمنا عليها على أنها محمولة على العرفِ، فهي مقيدة به أبداً، ولذلكَ تقيدت الرؤوسُ فيها بالمأكول عُرفاً، وكذلكَ اللبسُ والركوبُ وقف على الملبوسِ والمركوبِ عُرْفاً. فأمَّا الأعيانُ، فلا تتخصَّص على ما قدمنا، والوقتُ الذي يلي الأمرَ يتخصّصُ بما ذكرنا من كونِه صالحاً وغيرَ مفسدةٍ، وإن افتعلَ فيه امتثالٌ وقربةٌ، وليس في بقيةِ الأوقاتِ ما هو [صالح] إلا بتردّد، بخلاف الأعيان، فإنه لا ذبيحةَ تختصُ بمثلِ ذلكَ دونَ ذبيحةٍ أخرى، ولأنه لا عينَ يعدلُ غيره إلى غيرها فيعد متوانياً، أو تاركاً، أو متغافِلًا، بخلافِ الوقت الأوَّلِ، لأنَه تخلى عن الفعل بالتراخي، ولأنَه يجبُ فيه الاعتقادُ والعزمُ، ولا عينَ يتعلّق بها حكمَ سوى التي يذبحها ويعتقُها. فإن قيل: فتخصيصُ الوقتِ الأولِ بما ذكرتم يعطي أنَ بالقرينةِ الدالّةِ على تخصص الوقت ذهبتم إلى الفور، ونحن لا نمنعُ الفورَ بقرينةٍ، وهذا ترك لنصرةِ المسألةِ، لأنَا نتكلمُ في الأمرِ المطلق. قيل: تخصصُ الوقتِ الأولِ بهذه الخصائصِ ليسَ بقرينةٍ، لكن شريطة، ولو جاز أن يدعى قرينةً، لكان اعتبارُ الرتبةِ للأمرِ قرينةً، ومعلوم أنَنا وإياكم نقولُ بوجوبِ الأمرِ لا بقرينةٍ، وإنْ اعتبرنا الرتبةَ في

* فصل: أمر الله بالعبادة إذا تعلق بوقت موسع فهل يتعلق الوجوب بأول الوقت أو بآخره أو بالجميع؟

ذلك، والله أعلم. فصل اختلفَ العلماءُ في أمرِ الله سبحانهَ بالعبادةِ إذا تعلَّق بوقتٍ موسّع، كالصلاة، فهل يتعلق الوجوب بأوّل الوقت، أو بآخره، أو بالجميع؟ فذهبَ أصحابنا إلى تعلقِ الوجوب بجميع الوقت، من أوّله إلى آخره (¬1)، وأصحابُ الشافعيّ إلى أن الوجوبَ يتعلّق بالوقت الأول، وأيّ وقتٍ فَعَلَها فيه، من الأولِ والأوسطِ والآخرِ، كان الفعلُ أداءً للواجبِ (¬2). وقال أكثر أصحابِ أبي حنيفة: يتعلق الوجوبُ بآخرِ الوقت (¬3). ¬

_ (¬1) هذا ما نص عليه الحنابلة، انظر "العدة" 1/ 310، و"التمهيد"1/ 245، و"المسودة" ص (28 - 29)، و"شرح الكوكب المنير"1/ 369، و"شرح مختصر الروضة"1/ 330 - 333. (¬2) أي أن الوجوب يتعلق بأول الوقت وجوباً موسعاً، ففي أي وقتٍ وقع الفعل كان أدًاء لاقضاءً، سواءٌ أكان بأوله أم بأوسطه أم بآخره. وهم في ذلك لا يخالفون الحنابلة من حيث النتيجة والمآل. انظر"التبَصرة" ص (65)، و"المستصفى" 1/ 69، و"المحصول"2/ 174، و"البحر المحيط"1/ 208 - 209. (¬3) بين الجصَاص في "الفصول" 2/ 121 - 122 أن للحنفية في الواجب الموسع رأيين: الأول: أن الأمرَ إذا وردَ مؤقتاً بوقت له أول وآخر، وأجيزَ له تأخيره إلى آخر الوقت، فقد وجبَ في أول الوقت وجوياً موسعاً، فإذا انتهى إلى آخر الوقت بمقدار ما يؤدى فيه الفرض صار وجوبه مضيقاً. وهو معنى ما ذهب إليه محمد =

وقال أبو الحسنِ الكرخي: يتعلَقُ الوجوبُ بوقتٍ غير معيّن، ويتعين بالفعل، كما قال الفقهاءُ أجمعُ في الأعيان المخير بينها في الكفارات (¬1). وقال بعضُ أصحاب أبي حنيفة: إذا فعلَ العبادة في أوّلِ الوقتِ كانت نفلًا يمنع وجوبُهاَ في آخره. ومنهم من قال: يقع مراعاةً (¬2). ¬

_ = ابن شجاع الثلجي. والثاني: أن الوجوب في مثله يتعلق بآخر الوقت، فإن أول الوقت لم يوجب عليه شيئاً، وما فعله في أول الوقت يكون نفلًا يمنع لزوم الفرض في آخره. وهو قول أكثر العراقيين. وانظر "أصول السرخسي" 1/ 31، و"فواتح الرحموت" 1/ 73 - 74. (¬1) هذا ما نقله أبو بكر الجصَّاص عن الشيخ أبي الحسن. انظر "الفصول" 2/ 123 - 125. (¬2) هذه الأقوال ليست منفصلة عن قول أكثر أصحاب أبي حنيفة، بأن الواجبَ الموسعَ يتعلق بآخر الوقت بل هي لازمة لها، ذلك أن الدين قالوا: بأن الواجبَ الموسَّعَ يتعلقُ بآخرِ الوقت، اختلفوا في حكم الواقع في أوله: فقال بعضهم: إن ما فعله في أوَّل الوقت نفل يمنع لزوم الفرض في آخره، مثل رجل محدث توضأ قبل مجيءوقت الصلاة فيكون متنفلًا بطهارته، ويمنع ذلك لزوم فرض الطهارة له عند مجيء وقت الفرض. وقال الآخرون: ما فعلَه في أول الوقت موقوف على ما يظهر من حاله في آخر الوقت، فمن لحق آخره وهو من أهل الخطاب بها، كان ما أداه فرضا، وإن لم يكن من أهل الخطاب بها كان المفعول في أول الوقت نفلًا. وهذا ما عناه ابن عقيل بقوله: "ومنهم من قال: يقع مراعاة" أي مراعاة ما يكون عليه المكلف بالخطاب في آخر الوقت. =

- فصل: في اختلاف القائلين بأنه واجب في جميع أجزاء الوقت هل له تقديمه وتأخيره؟

ووافقنا على المذهب الأول القاضي الإِمام أبو بكر الباقلاني. وما اختلف أهلُ العلمِ أجمعَ على أنَه لا يأثم بالتأخر عن أوله؛ من قال بالوجوب، ومن لم يقل. واتفقوا أنها إذا فعلت بعد خروج الوقت كانت قضاءً، وإذا فُعلت في أوَّلهِ كانت أداءً لا سَلَفاً، بل واقعةٌ موقع الواجب، من قال بأن الوجوب يتعلّق بالوقت الأول منهم، ومن قال يتعلق بالوقت الأخير. اتفقوا على المذهب وأنها تقعُ أداءً في أوَلهِ، قضاءً بعد خروجه. فصلٌ في اختلافِ القائلين بأنه واجبٌ في جميع أجزاءِ الوقت، وأنَ له تقديمَه، وله تأخيرهُ، هل له تركُه في أول الوقت إلى وسطِه وآخِره ببدل يقوم مقامَه، أو لا؟ فقال منهم قائلون: إنَه ليس له تركُه في أوّل الوقت وما يليه إلى حين وقت التضييق إلا ببدل يقوم مقامه. ولأنَه لا شيءَ يصحُ أن يكونَ بدلًا إلا فعل العزم على أدائه في المستقبل، إن بقي بصفة من يلزمه الفعل، وهو شروطُ التكليفِ التي يصحُّ مع وجودِها الخطاب به (¬1). ¬

_ = انظر "الفصول في الاصول" 2/ 122، و "أصول السرخسي" 1/ 32 (¬1) هذا ما ذهب إليه القاضي أبو يعلى حيث بين ثمرة الخلاف بينه وبين من يقول إن الواجب يتعلق بآخر الوقت، فقال: " ... وليس بخلاف في عبادة، لأنا لا نجيز له تأخيرَ الفعل عن أول الوقت إلى آخره إلا بشرطِ العزم" أي بشرط العزم على فعله، انظر "العدة" 1/ 311. وهو رأيُ جمهور المتكلمين وفق ما قرره الزركشي في "البحر المحيط" حيث =

- فصل: في الأدلة والحجج على أن الوجوب يعم سائر أجزاء الوقت أوله ووسطه وآخره

وقال آخرون: إنه مراعى إذا فعل في أول الوقت، لا يقال: إنه فرض ولا نفل؛ فإن دخل آخرُ الوقت على المكلّف، وهو بصفة من يلزمه الفعل تبيّنا أن ما كان فعَلهَ في أوّل الوقت فرض واجبٌ. وإن لم يبق إلى آخر الوقت أو بقي، لكنه لم يكن على صفة من يلزمه الفعل، كان ما وقع منه في أول الوقت نفلًا لا فرضاً. وقال قومٌ من أهل العراق: إنه نفل إذا فُعل في أوّل الوقت، وإنه نائب عن الفرض إذا بقي المكلّفُ بصفةِ من يلزمه الفعلُ في آخرِ الوقت. فصل في جمعِ أدلّتنا وحُججنا، وأدلّةِ من وافقنا في أنَّ الوجوبَ يعمُّ سائرَ أجزاءِ الوقتِ؛ أوَّله، ووسَطه، وآخرهَ. من ذلكَ قولُه تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] فالدلوك: وقتٌ علِّقَ عليه الفعلُ بالأمر المطلقِ، وهو الغروبُ، وسيقَ الأمرُ فيه إلى غايةٍ، هي الغَسَقُ، وليس يقتضي امتداد فعلِها تطويلاً لها إلى غسقِ الليلِ، فلم يبق إلا أنه أراد امتداد الوقت لابتداء فعلها في أيّ أجزاء الوقت الذي ابتداؤه الغروب، وآخره الغسق. وهو غيبوبةُ الشفق. ¬

_ = قال:" وجمهور المتكلمين على أنه لا يجوز تركه إلا ببدل وهو العزم على الفعل في ثاني الحال" "لبحر المحيط"1/ 210.

ومن ذلكَ: أنَ الوقتَ الأول والأوسطَ والأخيرَ أوقاتٌ متساويةُ الأجزاءِ، في أنَّ فعلَ الصلاةِ فيها يسقطُ به الفرضُ، ولا يسقطُ الفرضُ فيها إلا لتساويها في تعلُّقِ الوجوب بها وعليها، فلا يتخصصُ الأخيرُ بالوجوبِ دونَ الأوَّل مع هذا التساَوي. فإن قيل: قد يتساويانِ في الإِجزاء، ويختص الوجوب بواحدٍ لا سيَّما وقد اختَصَّ الأخيرُ بخصيصةِ الوجوب، وهو مأثم التركِ، وإذا جازَ أن تتساوى أجزاءُ الوقتِ، ويختص أحدُها بلحوقِ المأثمِ في الترك فيه، جازَ أن تتساوى الأجزاءُ ويختصّ بعضهُا بالوجوبِ. قيلَ: الأخيرُ لم يحصل المأثم بالترك فيه، لكن لمّا تعذّر الفعل بخروجه للترك فيما قبله أيضاً، صار المأثمُ ظاهراً بالترك في جميع الأوقات عند الإِياسِ والتعذّرِ، وقد يظهرُ المأثمُ عنده ولا يكونُ بالتركِ فيه خاصّةٌ، كآحادِ المكلفين في فروضِ الكفايات، ظهر الإِثمُ في تركِ الآخر من القوم، وكانَ المأثمُ بتركِ الكلِّ، لا بتركِ هذا الذي ظهرَ الإِثمُ بتركِه، وكَذلكَ الأعيانُ في كفارةِ التخيير، وما صار هذا إلا كأصلين: أحدهما (¬1) أعيانُ التكفيرِ المضمنةُ للتخييرِ بأنها تكفر ويسقط الفرض. وعندهم أنَ الوجوبَ لا يعم الأعيانَ الثلاثةَ، بل يختصُّ بواحدٍ منها، وإن كانت سواءً في وقوعِها موقعَ الإِجزاءِ وتفريغِ الذمّةِ والتكفيرِ للذنب، والمكلفين في فروضِ الكفاياتِ الفرضُ يسقط عن الكُل ¬

_ (¬1) ذكر ابن عقيل أحد الأصلين ولم يذكر الآخر!

بفعلِ كلّ واحدٍ منهم، والوجوبُ لا يعمّ الجميع. قالوا: ويقالُ لكم في الأوقات هاهنا ما قلتم لمن عمَّ أعيانَ التكفير بالإيجاب، وهو: أنه لو كَان الإيجابُ عمَّ سائرَ الأوقاتِ، لوجَبَ إذا أخَلَّ بالفعلِ فيها أن يأثمَ بتركِ الصلاةِ في الكُلِّ، كما ادعيتم أنَه لو كانَ الوجوبُ يعمُّ الأعيانَ، لأثِمَ بتركِ التكفيرِ بالكُلِّ إذا أخلَّ بالتكفيرِ، وكما يأثم جَميعُ أهلِ القريةِ والمحلّةِ إذا أخلّوا بفروضِ الكفايات. قيل: تعليقُ الأمرِ على الوقتِ لا يخلو أن يكونَ تعليقَ سببٍ أو شرطٍ: فإذا وجدَ الوقتُ الأولُ، وهو شرط أو سببٌ، حَصل الوجوبُ، لأنَ الأمرَ هو الموجبُ لكونِ الوقتِ شرطاً أو سبباً، فإذا دخل الوقتُ ثم حصلَ الاتفاقُ على أنَّه يحصلُ بالفعلِ فيه الامتثالُ وما يتلوه من الزمانِ، كذلكَ إلى آخر الوقت، فلا وجهَ لتخصيص وقتٍ من هذه الأوقاتِ. وكيف يُدَّعى تخصيص وقتٍ مع كونِ النصِّ عمَّ هذه الأوقاتِ، أعني الأولَ والوسطَ والآخرَ، وهل هو إلا كالعمومِ الذي لا يتخصصُ الأمرُ فيه بعينٍ من الأعيانِ. وأمَّا دعواهم أنَ الأخيرَ يُخَصَصُ بالمأثَم، فلا يلزمُ من وجهين: أحدهما: أنه لا يمتنعُ أن يقال: إنه لا يتخصصُ المأثمُ عند خروجِ الوقتِ بالتركِ في الوقتِ الآخرِ، بل يعم المأثمُ بالتركِ في الأوقاتِ كُلِّها، لأنَ الله سبحانهَ وسعَ الوقتَ رخصةً، بشرطِ الفعلِ، لأنَّه رخصةٌ

لتسهيلِ الفعلِ على المكلفِ، فإذا قابل ذلكَ بالتركِ، تبيّنا أنه ليس بأهلٍ للرخصةِ. وما ذلكَ إلا بمثابةِ من أهملَ فِعْلَ الصلاةِ في السفرِ وتركَ الطهارةَ ولم يُصلِّ يومَ الجمعةِ الجمعةَ، ولا الظهرَ، وهو من أهملَ الظهر، ولكنه يصحُ منه فعلُ الجمعةِ، فإنَه إذا فاتت هذه العباداتُ بتركه أثمَ مأثمَ من تركَ الصلاةَ التامةَ والطهارةَ التامةَ، ولا تبقى عليه الرخصةُ، ويعاتب على تركِ ركعتين، إذ كانت الرخصةُ في الفعلِ، فإذا فوَّتَ الفعلَ لم تتحصل الرخصة، وحوسبَ بالأصلِ. وكذلكَ الرخص في فروضِ الكفاياتِ، فإذا تركَ الكُل أثمَ الكُلُّ مأثم الواجب المتعين، وشوى في المأثمِ بينَ من تركَ تكاسلًا، وبين من تركَ اعتمَاداً على أنَ غيره يفعلُها لا تكاسلًا منه، ولم نقل: يخص بالمأثم من كسِلَ ولم يفعل دون من اعتمدَ على غيره، وظن أن غَيره يقوم بها فلم يفعل. وإنّما لا يأثمُ بالتركِ في الوقتِ الأولِ والأوسطِ قبل أن يخرجَ الأخير بشرط إن لم يتحصل حَصَل المأثم، وهو أن يكونَ عازِماً على الفعلِ في الوقتِ الثاني، وهو متّسعٌ للفعلِ، والعازمُ لا يكونُ تاركاً في الحقيقةِ، لأنَه فاعلٌ للعزم الممتدِّ الذى هو مقدمةُ الفعلِ، والمقربُ إليه الذى هو الأفعال المسَتقبلةُ، كالنيةِ للأعمال الحاضرة. ولو عزبَ العزم في الوقت الأول لأثم بالتركِ، لأنه يفضي إلى أن يتلقى أمْرَ الله سبحانه بغيرِ امتثالٍ ولا عزم على الامتثال، مع إزاحةِ العللِ وتكاملِ شروطِ الفعلِ، وذلك غيرُ الإهمال.

وقد قيل: إنَ الِإثم انتفى بالتاخيرِ، لأنَّ في إيجاب التقديمِ نوعَ مشقّة، لأنَّ الوقتَ يدخلُ وأكثرُ الناسِ على أشغالٍ تركُهَا يُفسد الأموالَ ويخاطرُ فيه بالأنفس، وجوازُ التركِ للعذرِ لا يدُلُّ على نفي الوجوب في حق المُعْسِر والدّين المؤجل. وأما أعيانُ التخييرِ والأشخاصِ في فروضِ الكفايات، فإنَّ الحجّةَ فيها ظاهرة لنا، وهو أنَه لم يتخصصِ الوجوبُ بواحدٍ منها، فليكن هاهنا مثلُه في عدمِ التخصيصِ، وإنّما لم يعم، كما لم يتعين، لأنَّ التعميمَ يزيلُ معنى توسعةِ التخييرِ في التكفيرِ، وتوسعةِ قيام بعضِ الأشخاصِ مقامَ بعضٍ في الكفايةِ بالبعض. فقلنا: إنَّ الفرض يتعلق بواحدٍ على طريق البدلِ لا بعينهِ، ويكفي فعلُ شخصٍ، أيَ المكلفين كان ممن هوَ أهل للفرض. وهاهنا إذا علقنا الوجوبَ على جميعِ الأوقاتِ، لم تزل الرخصةُ، لأنَّ الوقتَ الأولَ والثاني والثالثَ ظروف لفعلٍ واحدٍ فى أيِّها فعل أجزأه. ولا يخلو من فائدةٍ ظاهرةٍ، وهي تعلقُ المأثمِ بالتركِ في الكُلّ، وحصولُ الثواب في الجميعِ؛ الأولُ إن فعل فيه، فسقوطُ الفرضِ والثواب، وفضل التقديمِ، والأخيرُ إن فعلَ فيه، فسقوطُ الفرضِ، وحصولُ الثواب بها، والإِثابةُ بفعلِ العزم عليها من الوقتِ الأولِ إلى حين فعلِها فيَ الوقتِ الآخرِ المتّسعِ لهاَ. وأعطينا تناولَ النص لمجيعها حقَّه من التعميمِ، والاستغراقِ.

- فصل: في الدلالة على فساد قول من قال بأنه يفعل في الوقت نفلا لكنه يسقط الفرض الذي يتعلق بالوقت الأخير

فصل في الدلالةِ على فسادِ قولِ من قال: بأنه يفعل في الوقتِ نفلاً، لكنَه يسقط الفرض الذي يتعلّق بالوقت الأخير. أنَّة لو كان نفلاً لوَجَبَ أن تنعقدَ الصلاة بنيّةِ النفلِ، فإنَ كُل صلاةٍ كانت عند الله سبحانه وفي شرعهِ على صفةٍ صحت تحريمتُها بنيةٍ يتضمنها على تلك الصفة، كالفرضِ، وسنّةِ الفرض، والجماعةِ، والجمعةِ، والقصرِ، والإِتمامِ، فلمّا لم يسقط الفرض بنيةِ النفلِ في أوَّلِ الوقتِ، ولا يسقط الفرض في آخره إلا أن ينويَ في أوّلِ الوقت فرضاً، بطلَ أن يكونَ نفلاً. ويَدُل على فسادِ ذلك: أنَه خوطب بفرض، فإذا أدَى نفلاً، فقد أدَى خلافَ ما أُمرَ به، فهو كما لو خوطبَ بصلاةٍ، فصامَ، أو بحجةٍ فصلّى. ويدُل على أنّها ليست نفلاً أنَ النصَّ قد وردَ بأن جميعَ أجزاءِ الوقتِ وقت لها، فكيفَ يكونُ نفلاً في أوّلِه. وهو جزء من الموسّع، وليس بأن يكونَ نفلاً في أوّلهِ بأولى من أن يكون نفلاً في آخره، مع تساوي أجزاءِ الوقتِ. فإن أعادوا ذلكَ السؤالَ وهو تخصيصُ الأخيرِ بالمأثمِ إذا تركَها فيه فقد سبقَ الجوابُ عنه. ويدل على فسادِ هذا المذهبِ أنَّ من عَلِم أنَّ الصلاةَ في أوّلِ الوقتِ نفل فنواها فرضاً، فإنه لم ينوِ صلاةَ وقتهِ ولا نواها على صفتها،

- فصل: في سؤالهم

وليسَ لنا نّية في أصولِ الشرعِ بتحقّقِ الفعل المنوي على خلافِ ما هو به. فصل في سؤالهم فإن قيل: تقديمُ الزكاةِ قبلَ الحولِ، والكفارةِ قبلَ الحِنث، فيهما معنى النفل، وُيجزيانِ بعدَ الِحنث، ومُضي الحول عن الفرض. وأمَّا النّيةُ، فإنَّ من نوى فرضَ وقتٍ من الأوقاتِ، وقد كان أدّاه في أوّلِ الوقتِ، وقع نفلاً بنيةِ الفرضِ. وعندنا إذا نوى صومَ رمضانَ نافلةً، أو نوى حجّةً نافلةً، وعليه فرضُ الحجِّ، انصرف إلى الفرضِ، فلا تصحُّ دعواكم أنه لا نية تحصل للمنوي على خلافِ صفته. قيل: أمَّا الزكاةُ، ففرضٌ قُدَمَ على وقته باسمِ السلفِ، لمصلحةٍ رآها المشرعُ، هي حاجةُ الفقراءِ، كتقديمِ الصلاةِ في بابِ الجمعِ لمصلحةِ الجامعين. كذلك قال صلى الله عليه وسلم في حقّ العباس: "إنا استسلفنا منه زكاة عامين" (¬1)، ولم يك نافلة. ¬

_ (¬1) هذا الحديث بهذا اللفظ من حديث مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثَ عمرَ على الصدقة، فرجع وهو يشكو العباس فقال: انه منعني صدقته. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "يا عمرُ أما علمت أن عم الرجل صنوُ أبيه؟ إنَّ العباس أسلفنا صدقةَ عامين في عام" أخرجه الدارقطني 2/ 124، وأبو يعلى والبزار،

ولأن سببَ الوجوب تقدّم الإخراج، وهو الغنى بالنصاب، والحولُ شرطٌ هو أجلٌ وُضع رِفقاً بالأغنياءِ، فعجل لطفاً بالفقراء، فما تقدّمت الزكاة على سبب وجوبها، ولا صارت بالتعجيل نفلاً. وأما الكفارةُ فسبُبها اليمينُ، وقد وُجدت قبل الحِنث. قال الله سبحانه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] وما قدمت على الحِنث نفلاً. وكذلكَ لو نوى بالزكاةِ والكفارةِ نافلةً لما وقع عن الواجب، وأمّا نيةُ رمضانَ والحج، فلأنّهما خارجتان عن حكمِ النّيات في أَصولِ العباداتِ، لانقطاعِ العبادتين. وأما رمضان، فإنه تعين عندكم لصوم الفرضِ، ولذلكَ لم يشترط له نيةُ التعيينِ. والحج انقطعَ بانعقادِه بمطلق النية ومبهمها، حتى لو قال: إهلالٌ كإهلالِ زيدٍ، وسأله عن نّية إحرامه، كان على ما نوى زيدٌ، وتعين بعد انعقادِ الحجِّ بالإبهام، فأسقط من النية في المحلين، اعتقاد النفل، وانعقد بنيةِ الصومِ والحج. وفي الصلاةِ تعتبر نيةُ التعيينِ لفرضِ الوقت، ولا تكفي نيةُ مطلق ¬

_ = وانظر "مجمع الزوائد" 3/ 79. وورد من حديث علي بن أبي طالب بلفظ. إن العباس سال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل الصدقة قبل أن تحل، فرخَّصَ له في ذلك. أخرجه الترمذي (687) و (679). وأبو داود (1624) وابن ماجه (1795)، والدارقطني 2/ 123، وأحمد 1/ 104.

- فصل: في الدلالة على فساد مذهب من قال بأنه موقوف على آخر الوقت

الفرضِ، فإذا كانت في الوقتِ نفلاً في نفسِها، لم يكن لعدمِ انعقادِها مع حصول نيةٍ تضاهي حالَها وما هي عليه وجة، فلم يبقَ لعدمِ انعقادِها بنيةِ النفل إلا تَجَزيها فرضاً. فصل في الدلالة على فسادِ مذهب من قال بأنه موقوف على آخر الوقت. فإن وافى وهو حيٌّ من أهلِ الوجوبِ، تبينا أنه كان التعبدُ واجباً. فنقول: إن تعليقِ الوجوب بالشرطِ يفيدُ أنه إذا حصلَ الشرطُ حصلَ الوجوبُ، فإذا تيقنا أن الَشرطَ معدوم لم يوجد، علمنا بذلكَ واستحال أنَّ الِإيجاب للصلاة قد حَصل وثبت مع تجوز شرطه الذي علّق وجوبه (¬1) على وجوده لم يوجد بعد. إذ هذا إسقاط لخصيصةِ الشرطِ ووضعه. ويقال لهم أيضاً: إذا (كانت أجزاءُ) (¬2) الوقتِ جميعُها منصوصاً على أن للمكلف فعلَ الصلاة فيها لم يجز أن يكون وقوعه في بعضِها واجباً مراعى، لأنه خلافُ النصّ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "علق على وجوبه". (¬2) في الأصل طمسٌ واستظهرنا اللفظ من سياق العبارة.

- فصل فيما تعلق به النافون لتعلق الوجوب بالوقت

فصلٌ فيما تعلقَ به النافون لتعلُّقِ الوجوبِ بالوقت (¬1). قالوا: لو كان متعلقاً بالأولِ، لأثمَ بتركهِ فيه، وتأخيرِه عنه بذلك الوقتِ الأخيرِ، لمَّا تحقق تعلّقُ الوجوب به تعلقَ المأثمِ بتركِ فعلِ الصلاةِ فيه، فلما لم يتعلق المأثمُ بتركِ الَصلاةِ فيه، وتأخيرِ فعلها عنه، عُلِمَ أنَه لم يتعلَّق به الوجوبُ. قالوا: ولأنَّ دعوى تعلّقِ الوجوبِ بالوقتِ الأول، دعوى مجردةٌ، لادلالةَ عليها، ولا حجةَ لقائلها، ويدُل عليه؛ أنَّ جميع أجزاءِ الوقتِ وسطاً، وأخيراً، كالوقتِ الأوّل في كونِ الكُل أوقاتاً وأزمنةً، ولا خصيصةَ في واحدٍ منها إلا الأخير (¬2)، ويعنون بذلك خصيصةَ المأثمِ بالتركِ فيه. ¬

_ (¬1) يقصدُ تعلق الوجوب بالوقت الأول، والأدلة التي ساقها ترشد إلى ذلك، والقول بتعلق الواجب الموسع بالوقت الأول، نسبه أبو الحسين في المعتمد الى بعض الناس، ونسبه آخرون الى بعض الشافعية، والذي قرره محققوا الشافعية أنَّ هذا القول لا يعرف في مذهب الشافعي، إذ الوقت موسع، ولا يعتبر قضاءً أداءُ الواجب الموسع بعد فوات الوقت الأول. انظر "المعتمد" 1/ 125 و"البحر المحيط" 1/ 213. (¬2) أي فله مزية على الوقتِ الأوَل والأوسط كون ترك أداء الواجب في الوقت الأخير، مدعاةٌ إلى ترتب الإثم، إذ إنَ انقضاء الوقت الأخير ينبىءُ عن خروج وقت الواجب الموسّع وهذا ما لا يتحقق في الوقت الأول والأوسط.

- فصل في الأجوبة عما تعلقوا به

فصل في الأجوبةِ عما تعلقوا به فمن ذلك: أنا قد بينا علةَ عدم الإِثم من جهةِ أنَّ جوازَ التأخيرِ توسعةً لمكانِ العذرِ والمشقةِ اللاحقَةِ، مع كونِ الصلاةِ فرضاً على الأعيانِ، وأشغال الكُل مختلفةً، فلو لم يوسَّع لهم وقتُ الفعلِ، لشق إن بادروا إلى الفعلِ كافّةً، وأثموا إن أخَّروا. ولأنَّ العزمَ على الفعلِ كانَ تعبُّداً شاغلًا للوقتِ، ممتداً إلى حينِ الفعلِ، وعزمُ المكلّفِ صالح لرفعِ المأثمِ في باب التروكِ إِذا ندِمَ على الماضي، وعزمُ المكلّف على التركِ في المستَقبل مُسقط مأثمَ الماضي. وكذلك قضاءُ رمضان، والدّيونِ المؤجلةِ، لا يأثم بتأخيرها مع وجود العزمِ على الفعلِ في ثاني الحال، وكذلك الكفارات. ولأنا لا نخصص الوجوبَ بالوقتِ الأول، فيلزمُنا ما تعلقوا به من نفي المأثم، بل نقول: الوجوبُ عام في الوقتِ الأوّلِ والأوسطِ والأخيرِ، وأما الدليل على تعلقِ الوجوب بالوقت الأول، فقد سبقَ ويتناوله الأمرُ، ووقع الفعل فيه موقعَ الإجزَاء، وتساوي الأوقات حجّة لنا، حيث عمّمناها بالوجوبِ لتساويها. والتخصّص بالمأثم فلا نسلمه، بل يعمُّ الأوقات التي عمها بالتركِ، ولو سلّمه من خصَّص المأثم، كان جوابهُ عنه: أنه الوقتُ الذي يضيقُ فيه الأمرُ بالفعلِ، وزالت التوسعةُ، ولم يبقَ للعزم مجالٌ، لأنه لا يزالُ العزم بدلاً عند قومٍ، ومتطرقاً به عند قوم، إِلىَ أن لا يبقى

- فصل فيما تعلق به من قال: إن الوجوب يتعلق بوقت من الأوقات غير معين

سوى وقتِ الفعل، فلا يبقى خطابٌ إلا بالفعلِ ونيتهِ المتخصصةِ به، فإذا لم يأتِ بها تحقق المأثمُ على إخلاءِ الوقتِ عن وظيفته، كما كانَ المأثمُ يلحقُ في الوقتِ الأوّلِ والأوسطِ بإخلالِ المكلّفِ بوظيفتهِ من العزمَ. فصل فيما تعلق به من قال: إنَّ الوجوبَ يتعلَقُ بوقتٍ من الأوقاتِ غيرِ معين. قال: لما كانَ المكلفُ مخيّراً في الأوقاتِ كلِّها، صارت الأوقاتُ كالأعيانِ المخيّر بينها في كفاراتِ التخيير. يقال: فيما قدمنا من الدلالةِ على تعميمِ الوجوب، كفايةٌ عن الجواب، وأمَّا أعيانُ الكفاراتِ، فهي الحجةُ عليهم، لأنَّ الكفارةَ واجبةٌ عليه، وإنْ خيرناه في أعيانِها فيجبُ أن نقول بأنَ الصلاةَ واجبةٌ وإن خيّرناه في أوقاتها. فصلٌ يفرد الكلامِ في العزم فإنَه المعتمد في هذه المسألة. اعلم أنَ قوماً يجعلونه بدلًا عن الفعل في الوقت الأوّل (¬1)، ويقولون: إنه المانع من حصول المأثم بالتأخير. ¬

_ (¬1) رأي جمهور المتكلمين أنه لا يجوز ترك الواجب في الوقت الأول إلا ببدل، وهو العزم على الفعل في ثاني الحال. إنظر "اَلبحر المحيط" 1/ 210.

فيقال لهم: لو كان بدلًا لسدّ مسدّ البدل، كسائرِ أبدالِ الشرعِ، كالماءِ عن التراب، والإطعام عن الصومِ، والصيام عن العتقِ، والصوم عن الدمَ في الِإحرامِ، فلما لم يسُد مسدَ البدَلِ، بل كان في الذَّمةِ بحالهِ، بطل كوُنه بدلًا، فقالوا: إنّما هو بَدَلٌ عن تقديم الفعلِ وتعجيله، لا عن أصلهِ، فإذا عزمَ كانَ عزمهُ بدلًا عن تقديم الفعلِ في كل وقتٍ كان فيه عازماً على الفعلِ في الوقتِ الذي يليه. فصارَ كان الشرعَ يقول للمكلّف: لكَ تأخيرُ الفعلِ عن الوقتِ بشرطِ أن تكون فيه عازماً لا مُهملًا. قال لهم المعترض عليهم: فأينَ لنا بدلٌ عن وصفِ فعلِ لا عن أصله، والتقديمُ وصفُ الصلاةِ. فأجابوا: بأنَّ لنا مثلَ ذلكَ بصحيحِ النقلِ، ولا علينا من منعَ بمذهبِ من لم يعلم ذلك بالنقل، وهو الفديةُ الواجبةُ على الحاملِ والمرضعِ إذا خافتا على الجنين والرضيع، ويجب إطعام مسكين عن كل يوم، والصوم واجبٌ في الذّمّة، فلم تكن الفديةُ بدلًا عن أصل الصوم، لكن عن تأخيره، فكما لم يخلُ الوقتُ الأولُ في باب الصلاةِ عن عزم، لم يخلُ زمانُ رمضانَ عن إطعامٍ هو بَدَلٌ عن الصوَم فيه، لا عن أصلِ الصومِ، وكفاراتُ الِإحرامِ، وسجودُ السّهوِ بدلٌ وَجُبران عن وصفِ الصلاةِ لا عن أصلها. وكذلكَ من وجبَ عليه عبادةٌ يعجزُ عن أدائها، وعن قضائِها إلى حين الموت، كان عزمه على فعلِها إن صحَ مسقطاً مأثَم الترك، ولا

* فصول القضاء، والإعادة، والفوات. وهل تجب بأمر ثان، أو بالأمر الأول؟، وهل يسقط الخطاب بفوات وقته؟، وهل يسقط بكل عذر، أو تختلف الأعذار في الإسقاط وبقاء الخطاب

يسقطُ أصلُ الخطابِ بها حتى إنه لوصح (¬1) وجبَ قضاؤها. وكذلك سجودُ السهوّ بدل وجبرٌ، قد يجبُ عن تقديمِ واجب أو تأخيرهِ، لا عن أصلهِ. قالوا: فإن قيل: أينَ لنا أعمالُ قلوب نابت عن أعمال الأركان؟ وهل العزمُ إلا فعلُ القلب؟! قيل: وما الذي هوَّن أفعالَ القلوب، وبها تصحُّ الأعمال، وتحبط الأعمال، وتجب الأعمال؟!، فالنياتُ أعمالُ القلوب، وبها تصح العباداتُ، والندمُ أعمالُ القلوب، وَيجُب ما قبله من الأَعمال وتعضدُه العزوم بصحّةِ التوبةِ الماحيةِ لماَ قبلها، واعتقادُ الكفرِ يُحبطُ كل صالح تقدمه من أعمالِ الجوارح والأركانِ، فلِمَ لا جاز أن يقعَ بدلًا عن إيقاع الفعل في زمانٍ دون زمان؟! فصولٌ القضاء، والإعادة، والفوات. وهل تجب بأمرٍ ثانٍ، أو بالأمر الأول؟، وهل يسقطُ الخطابُ بفواتِ وقته؟، وهل يسقط بكل عذرٍ، أو تختلف الأعذار في الإسقاط وبقاء الخطاب. فصل في معنى الفوات اعلم أنَ الفواتَ اسمٌ لا يستعمل بالاتفاق إلا في فعل مأمور به، ¬

_ (¬1) أي لو تعافى ذاك العاجز عن أداء الفعل، لوجب عليه أداؤه ولا يسقط عنه.

- فصل: في الإعادة

موقّت بوقت، خرجَ وقتهُ ولم يفعلْه المأمورُ، فأمَّا الواجبُ على التّراخي والموسَع وقتُه، إذا تُركَ في وقتِ توسعتِه، فلا يقالُ: فائت. فتحقق من هذا: أن الفواتَ مضى وقتِ العادةِ المحدودةِ، وهذا حدٌّ يخصُّ باب العبادة، وإن أردتَ العمومَ قلت: خروجُ وقتِ الفعل المأمورِ به، الموقَّت. فصلٌ والفائتُ: الفعلُ الخارجُ وقتهُ الذي امِر به فيه. فصل والِإعادةُ اسمٌ لمثلِ ما بطلَ وفسدَ من العباداتِ على وجهِ البدلِ عنه، والإِفسادِ لها، إما بسبب من جهته، مثلِ الوطء في الحج، والصومَ، أو الكلامَ أو الحدثِ في الصلاةِ أو بسبب يطرأ لا من كسب المكلف. ولا يوصف هذا الفعل الموقع عن المفسدِ قضاءً، لكونه بدلًا مفعولًا في وقت العبادة، لكن الغالبُ عليه اسمُ الإِعادة. فصلٌ فأمّا القضاءُ: فاسمٌ لفعلِ مثل ما فات بخروجِ وقتهِ المحدَّدِ به. فكانَ الفرقُ بين الِإعادةِ والقضاءِ، أنَّ الإِعادةَ فعل مثلِ ما فسدَ لكنه في وقتِ العبادةِ. والقضاءَ اسمٌ لفعلٍ، هو مثلُ العبادةِ المؤقته التي خرج وقتها.

- فصل: في الأداء

فصلٌ والأداءُ: فعلُ كل مفعولٍ موقَتٍ في الوقتِ الذي عُرِفَ به، موسّعاً كان أو مضيّقاً. فصلٌ إذا خرج وقت العبادة وفات فعلها، لم يجب قضاؤها إلا بأمرٍ ثانٍ (¬1). وبه قال أكثرُ الفقهاءِ والمتكلمين. وأصحاب الشافعي في أحدِ الوجهين (¬2)، والقاضي أبو بكر والمحققون من الأصوليين، وذهب بعضُ أصحاب الشافعي إلى أنه تجب بالأمر الأول، ولا تسقط بفوات الوقت. وظاهرُ كلامِ صاحبنِا أنَه يسقطُ الأمرُ بالجنونِ، ولا يسقطُ بالإِغماءِ، والحيضِ والمرضِ (¬3). ¬

_ (¬1) هذا ما اختاره ابن عقيل، من أن العبادة التي فات وقتها تسقط ولا يجب قضاؤها الا بأمر ثان، وهو ما نصره أبو الخطاب في "التمهيد"، ورجحه ابن تيمية في "المسوَّدة". وخالف في ذلك القاضي أبو يعلى في "العدة" حيث قال:"اذا كان الأمرُ مؤقتا" بوقت ففاتَ الوقت، لم يسقط الأمر بفواته، ويكون عليه فعله بعد الوقت،. وبذلك الأمر الأول". انظر "العدة" 1/ 293، و"التمهيد" 1/ 205، و"المسؤدة" ص (27). (¬2) وهو رأي المحققين من الشافعية وفق ما قرره الآمدي في الإحكام، انظر "التبصرة" ص (64)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 64، و"المستصفى"2/ 10. (¬3) نقلَ القاضي أبو يعلى في "العدة" (1/ 293)، عن الإمام أحمد ما يومىءُ =

- فصل: يجمع الأدلة على أنه لا يجب إلا بأمر ثان سواء كان تركه لعذو مانع أو لغير عذر

فصل يجمعُ الأدلّةَ على أنَه لا يجبُ إلا بأمرٍ ثانٍ، سواءٌ كان تركهُ لعذرٍ مانعٍ أو لغير عذرٍ. فمن ذلك: أنَ الله سبحانَه إذا علق العبادةَ بوقتٍ، فلا تخلو من مصلحةٍ تختص الوقتَ، وخصيصةٍ تعودُ بالنفعِ العاجلِ والأجلِ، أو لمشيئةٍ وإرادةٍ علقها بذلكَ الوقتِ، ونحنُ لا نعلم أنَ غيرَ ذلكَ الوقتِ كالوقتِ في حصولِ المصلحةِ في فعلهِ ونفي المفسدةِ، ولا الإِرادة والمشيئة، فيصيرُ ما بعد الوقتِ في نفي المصلحةِ وتجويزِ المفسدةِ كما قبلَه من الأوقاتِ، ويصيرُ مثالُ ما إذا قيد حكيمُ الطبِّ شربَ الدواءِ بوقتٍ ففاتَ لا نعلمُ أنَ شربَهُ بعَد خروجِ الوقت سادٌّ مسدَّ شربهِ في الوقت في جلبِ (¬1) مصلحةٍ ولا نفي مفسدة. وكذلك إذا عُلَق الأمرُ بشرطٍ مثل استقبالِ قبلةٍ، أو طهارةٍ، أو ستارةٍ، ففاتَ الشرطُ وتعذّرَ، لم يجز أن يُقدِمَ على الفعلِ بعد تعذرِ شرطهِ. وكذلك إذا خُصَّ الفعلُ والعبادةُ بمكان، فتعذرَ المكانُ، لم يقم ¬

_ = أن الأمر المؤقت بوقت، لا يسقط بفوات وقته ويجب الفعل بالأمر الأول، فقال: "وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في الرجل ينسى الصلاة في الحضر، فيذكرها في السفر: "يصليها أربعاً، تلك وجبت عليه أربعاً" قال أبو يعلى: فأوجبَ القضاء بالأمر الأول، الذي به وجبت عليه في الحضر؛ لأنه قال: تلك وجبت عليه أربعاً، معناه حين المخاطبة. اهـ. (¬1) في الأصل: "باب".

غيرهُ مقامَه لتعذُرِه. وعلّةُ ذلكَ كُله أنا لا نجوّزأن نُقدمَ على إقامةِ وقتٍ مقامَ الوقتِ الذي نص عليه الشرعُ، لأنَّا لا نأمنُ مواقعةَ المفسدةِ في ديننا ودنيانا. وما صارَ إبدالُ وقتٍ بوقتٍ مع عدمِ العلمِ بمساواةِ الوقتِ الثاني للوقتِ الأول، إلا كمن أقامَ فعلا في زيدٍ مقامَ فِعْلٍ في عمروٍ، والوقوفَ بمزدلفة بدلًا من الوقوفِ بعرفة، وصومَ غيرِ رمضانَ بدلًا من صومِ رمضان. ومن ذلك: أنَ الإِيجابَ يتعلَقُ بأعيانٍ وأزمانٍ، ثم إنَ الفرضَ لو تعلَقَ بعينٍ عتقاً في رقبةٍ، أو زكاة وتضحيةً في شاةٍ أو بقرةٍ، لسقطَ الخطابُ بفواتِ العين، ولم يتبدّل بعينٍ أخرى إلا بدلالةٍ، كذلكَ إذا عُينت العبادةُ بالزمانِ ولا فَرْق. والجامع بينهما: المصلحةُ المتحققةُ، أو المشيئةُ عند من لم يعتبر الأصلحَ، وكلاهما لا يمكنُ تعديتهُ إلا بدلالةٍ تقومُ مقامَ الدلالةِ الأولى في التعيين. ومن ذلك: أنَ الأصلَ قبلَ الِإيجاب عدمُ إيجاب الفعلِ في الزمان، وأما إذا فاتَ الزّمانُ المعيّن عُدنا إلى الأصلِ، فلَا نعلمُ تعلّقَ الوجوبِ بوقتٍ ثانٍ إلا بدليل. ومن ذلك: أن الأمرَ استدعاءُ الفعلِ، والنهيَ استدعاءُ التركِ، ثمَّ إنّه لو عين وقتاً بنهي، ثمَّ فاتَ ذلكَ الوقتُ الذي عُيِّنَ التركُ فيه، فإنه لا يقوم مقامهَ وقت للترك، كذلكَ الأمر ولا فرق.

مثالهُ لو قال: اترك البيعَ وقتَ النداءِ من يوم الجمعة، واترك الاصطيادَ إِذا دخلت الحرمَ أو أحرمت. ثم إِنه باعَ وقتَ النداءِ، واصطادَ في الإحرام، ففاتَه التركُ وأراد أن يتركَ البيع بعد خروجِ وقتِ النهي، وكذلكَ أرادَ أن يصطادَ بعد خروجِ وقتِ تحريمِ الاصطياد، لم يكن هذا سادّاً مسدَ التركِ الذي فاتهَ في ذلكَ الوقتِ المخصوصِ، كذلك هاهنا. ومن ذلك: أن الوقتَ الذي عُلقَ عليه الفعلُ مقصود بالفعل، ولذلك يأثمُ بالتأخرِ عنه، ويحصلُ الِإجزاءُ والثوابُ والائتمارُ بالفعلِ فيه، فمدّعي أن ما بعده من الأوقاتِ مثلُه بعَد فواتهِ في قيامهِ مقامه، فعليه الدليلُ. ومن ذلك: أن الصيغةَ ليس فيها ذكرُ أبدالٍ للوقتِ بغيره عند الفوات، ولا أمرٍ بالقضاءِ، ولا من ناحيةِ الشرع تُعطي أن للوقتِ بدلًا، ولا أن الإيجابَ باقٍ بعدَ الفواتِ مع كونه عَرفَ الفعلَ بوقتٍ معين، فإيجابُ القضاءِ لا دليلَ عليه، ولا بُد من طلبِ دليل. ومن ذلك: أن أصولَ الشريعةِ منقسمة إلى فعلٍ يجبُ قضاؤه كالصلوات وصوم رمضان، وفِعل لا يجبُ قضاؤه كالجمعةِ والجهادِ، فليس يمكنُ حملُ هذا الفعلِ الموقتِ على أحدهما دونَ الآخر إلا بدلالة. فإن قيل: المكانُ لا يعدمُ فيفوت، فكذلكَ لم يجب القضاءُ ولم يجز إيجابُ الفعلِ في غيره، والزمانُ يفوت، فكذلكَ جعلنا غيرَه قائماً مقامه.

- فصل: فيما تعلقوا به

قيل: كلامُنا في زمانٍ، وذلك يفوتُ. فصل فيما تعلقوا به فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليُصلّها إذا ذكرها" (¬1)، فذلك وقتُها، لا وقتَ لها غيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم" (¬2)، ومن فاته الوقتُ الأول لعذرٍ، فهو مستطيعٌ للفعلِ في وقتٍ ثانٍ. ومن ذلكَ قولَهم: إنَّ أوامرَ الشرعِ كلَّها على إيجابِ قضاءِ ما فات منها، فدلَّ على أنَّ ذلك يقتضي الأمرَ. ومن ذلكَ قولُهم: إنَّ المأمورَ به هو الفعلُ، فأمَّا الوقتُ، فإنه يُرادُ ظرفاً للإيقاع فيه، فلا وجهَ لسقوطِه بفواتِه، لأنَّ غيرهُ من الأوقاتِ يصلح ظرفاً للفعل. ومن ذلك قولُهم: إنّه يسمى قضاءً، ولو كانَ ذلك فرضاً مبتدأً لما كانَ لتسميته قضاءً وجهٌ، وما سُمِّيَ قضاءً، إلا أنه أقيمَ مقامَ المتروكِ من المأمورِ به، ولو قيل: إنّه نفسُ المتروكِ ولم يعدم سوى الزمان. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في 2/ 168. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 549.

- فصل: يجمع الأجوبة عما تعلقوا به

ومن ذلك قولهم: إن العبادةَ الموقَّتةَ حقٌّ لله سبحانه، تعلَّق بوقتٍ كما أنَّ الدَّين المؤجلَ حقٌّ تعلَّق بوقت، ثم مُضيُّ وقت الأجل لا يُسقط الدّينَ المؤجّلَ، كذلك مُضيُّ الوقتِ لا يُسقط الأمرَ المؤقّت. قالوا: ولأنَّ الأمرَ اقتضى إيجابَ الفعلِ، وفي إسقاطِ القضاءِ تفويت وإسقاطٌ لما أوجبه الأمرُ، وهو الفعل. قالوا: لو سقطَ الوجوبُ بفواتِ الوقتِ، لسقط المأثمُ، فلما لم يسقط المأثمُ -وهو حكم من أحكام الوجوبِ- لم يسقط الوجوبُ. قالوا: ولأنَ الأصلَ الوجوب، فمن ادّعى إسقاطه بفواتِ الوقتِ، عليه الدليل. فصل يجمع الأجوبةَ عما تعلقوا به أما الخبر، فإنه حجّة عليهم، لأنَّه لو كان الأمر الأولُ يقتضي إيجابَ القضاءِ لما احتيجَ إلى أمرٍ، وحيثُ تضمّن الأمر حصلَ إيجابُ القضاءِ به، ولا خلافَ أنَّه إذا ورد الأمرُ بالقضاء، وجب القضاء فلا دلاله (¬1) من الخبر على موضعِ الخلافِ، وموضعُ الخلافِ: هل الأمرُ الأولُ أفادَ إيجابَ القضاءِ؟ ¬

_ (¬1) في الأصل فلأدلة.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " فأتوا منه ما استطعتم"، فهذا مبنى على أنَه قد أمر في الزمانِ الثاني، وما ثبتَ أنَّه أمرٌ إلا في الوقتِ الأول، ولهذا قال: "فأتوا منه"، فاقتضى أن يكونَ المستطاعُ بعضَ الأمر. وأمَّا قولهم: إنَ أوامر الشرعِ كلَّها مقضيّة بعد فواتها. ليس بصحيحٍ، لأنها منقسمةٌ كالجمعةِ والجهادِ وفروضٍ كثيرةٍ من فروضِ الكفاياتِ لا تُقضى، والصلاةُ والصومُ تقضى، فليس حملُ الأمرِ على ما يقضى بأولى من حمله على ما لايقضى. ولأنَّ ما وجبَ قضاؤه منها إنما وجبَ بأدلّةٍ أوجبت القضاءَ، ولم نوجبه بنفسِ الأمر الأول، فلا تعلُّق لهم بذلك، مع كونه مقيّداً بوجوب القضاء، وكلامنا في مطلقِ الأمرِ الذي لم يتعقبه إيجابُ القضاء. وأمّا قولُهم: إنّ الفعلَ هو المأمورُ به، والوقْت ظرف. فالجوابُ عنه أنَّ الفعلَ المأمورَ به في الوقتِ المخصوصِ به، لا أنّ الأمر بفعل مطلق، ألا ترى أن لفظه لا يتناولُ ما بعد الوقت ولا ما قبله ممن ادعى الوجوب في الوقت. وأما قولُهم: يسمّى قضاءً، فلأنَّه أقيمَ مقامَ المتروك، وليس معنا في اللغة ولا الشرع أنَّ القضاء لا يقعُ إلا بالأمر الذي أُمر به الأداء، ألا تسمع إلى قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10]، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]، والمراد بها: إن أقمتموها.

وأمَّا الدّينُ المؤجلُ، فإنَّه يستحق ويستقر بانقضاءِ الأجلِ، فكيفَ يقالُ: إنّه يسقطُ، وهذا وقتُ فعلهِ بهذا الوقتِ، فبينهما تباعدٌ وفرقٌ، وذلكَ لأنَّ الأجلَ وُضع في الذنوبِ رِفقاً لتأخّرِ المطالبةِ، فإذا زالَ الأجلُ وانقضى، حَلّت المطالبةُ، فلا وجهَ لإِسقاطِ الدَّين، وهنا نِيْطت العبادةُ بالزمانِ المخصوص، كما تناطُ بالمكانِ، ثمَّ إنَّ تعليقها بالمكانِ قد يكونُ لمصلحةٍ تختصُّ البقعةَ، ولربما كانت في غيرها مفسدةً، كذلكَ الزمانُ والوقتُ، ولا فرق. وأمَّا قولُهم: إنَّ الأمرَ يقتضي إيجاب الفعل وفي إسقاطِ القضاءِ إسقاطٌ لما أوجَبه الأمرُ. لا يصحُّ، لأنَّ الأمر اقتضى إيجابَ الفعل في وقتٍ مخصوصٌ لا في جميع الأوقاتِ، ولأنَّه يبطُلُ به إذا علقه على شرطٍ، فإنَه لا يجبُ فعلهُ مع عدم الشرطِ، وإن كان مقتضى الأمرِ الإِيجابَ فلم ينظر إلى الإِيجاب المَشروطِ مجرداً عن الشرط، كذلكَ لا يُنظرُ إلى الأمرِ المؤقّت مجرّدَاً عن الوقت. وأما قولُهم: لو سقطَ لسقطَ مأثمُ التركِ. غيرُ لازمٍ، لأنَ الإِيجابَ تعلق بالوقتِ، والمأثمَ تعلّقٌ بتحقيقِ التركِ في الوقت، فشرطُ المأثم تحققَ فيحصل، وشرطُ الإيجاب فاتَ فيسقطُ، فهما ضدّان في الحقيقةِ. وأما استصحابُ الحال، فلا يصحُّ، لأنَّ الأصلَ أنْ لا واجبَ ولا شاغلَ للذّمةِ، فلما جاءَ الأمرُ موقتاً بشرطٍ فمن ادّعاه مع عدم شرط فعليه الدليلُ.

- فصل: خلاف الحنفية في الأمر المطلق إذا لم يفعل عقيب الأمر هل يسقط؟

فصلٌ ووجدتُ لأصحاب أبي حنيفة خلافاً في الأمرِ المطلقِ إذا لم يفعلْهُ المأمورُ به عقيب الأمر، هل يسقط؟ فقال أبو بكر الرازي (¬1): لا يسقط، ويفعله في الزمان الثاني والثالث، وفي سائرِ عُمُره، بخلاف المؤقت. وقال غيره من أصحاب أبي حنيفة: يسقط بمُضيّ الوقت الأوّل، كما يسقط بُمضيّ الوقت في المؤقت (¬2). وجهُ قول الرازي: أنَّ الأمرَ المطلق لم يُعيِّن له وقتاً، كما أنَ ¬

_ (¬1) هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصَّاص، عالم العراق ومفتيها، تفقه بأبي الحسن الكرخي، وكان صاحب حديث ورحلة، وكان مع براعته في العلم ذا زهد وتعبد، عرِضَ عليه القضاء فامتنع. إليه المنتهى في معرفة مذهب أبي حنيفة، من تصانيفه: "الفصول في الأصول" توفي سنة (370) هـ وله خمس وستون سنة. انظر "تاريخ بغداد" 4/ 314 - 315، و"الوافي بالوفيات" 7/ 241، و"شذرات الذهب" 3/ 71، و"الفوائد البنهية" 27 - 28، و"سير أعلام النبلاء" 16/ 340. (¬2) الذي قرره السرخسي أن أكثر مشايخ الحنفية، على أنَّ القضاء يجب بالأمرِ الذي به وجب الأداء، ورجح السرخسي هذا الرأي. ونقل عن العراقيين القول بوجوبِ القضاء بأمرٍ آخر غيرِ الأمر الذي به وجب الأداء. انظر "أصول السرخسي" 1/ 45 - 46، و "ميزان الأصول" 1/ 340 - 343.

المطلقَ في عينٍ من الأعيان، لم يقتض عيناً معيّنة، ثم لو قال: اذبح أو اعتق، كان له أن يذبَح ذبيحةً، فإن كان في ملكه شاة فتلفت غيَّرها، فإنّما مقامها كذلك في الزمانِ، وليس كذلكَ إذا عيّن وقتَ الفعل، فإنه مخصّص، فصار بمثابة ما لو قال: اعتق هذه الرقبة، واذبح هذه البقرة، فماتت سقط الذبحُ والعتقُ. وكذلكَ في النذرِ للعتقِ والأضحيةِ لا يسقط عن ذمته بموتِ الرقابِ والأنعام التي في ملكه، وتسقطُ بموتِ ما عينه من الرقابِ بالعتقِ، ومن الأنعام بالذبح. ووجه من قال: يسقطُ بمضي الوقتِ الأول: أن الأمرَ تناولَ الوقتَ الأوَّلَ بالدليلِ الذي أوجبه كونُ الأمرِ على الفورِ، فصارَ بدلالةِ الفورِ كلفظةِ التعيينِ، فكانَ فواتُ الوقتِ الأوّلِ كفواتِ الوقتِ المعيّن. وأجاب عن هذا مَنْ نصر الأول، وهو مذهب الرازي: بأنَّ الأمرَ وإن كان على الفور، فإنَه ليس لو صرّحَ فقال: صلِّ وعجل، لم يقتضِ ذلكَ أنَ التأخيرَ يسقطُ ولا يخرجُ الوقتَ عن كونه وقتاً للفعل، وإنما التعجيلَ صفة تعودُ إلى الوقتِ من غير تعيين، بدليل أنه إذا قال: "لله عليَّ أنْ أصومَ شهراً معجلاً، لم يسقُطْ بتأخيرٍ لعذرٍ ولا لغيرِ عذرٍ، بل يأثم لكنه يصومُ شهراً بعدَ الشهرِ الذي أخلَّ بصيامه، وبمثله لو قال: لله على أنْ أصومَ هذا اليوم، أو أذبحَ هذه الشاةَ، ففات اليوم، وماتت الشاةُ، لسقطَ الوجوب.

* فصل: الأمر يقتضى كون المأمور به مجزئا

وكذلكَ كُلُّ حقٍ كان حالاّ أو مؤجلاً لم يسقط بالتأخيرِ عن التعجيلِ وعن حلولِ الأجلِ، وكُل حق تَخَصَّصَ بعينٍ، كالجنايةِ المتعلقةِ برقبةِ العبدِ الجاني، والشهر المعين بالإجارة إذا فاتَ لم ينتقل إلى غيرهِ. واعترض على هذا معترض فقال: إنَّ من قال بالفورِ فقد عيّنَ التعجيلَ بدليلِ التعيين، فإذا اقتضي الوقتُ الأوّل من الأصلح والتخصص بالتعبد بحيثُ يأثمُ في التأخيرِ عنه، فلا وجهَ لبقاءِ الأمرِ بعد فواتِه، ولا كون الأوقاتِ الباقيةِ مثلَه في امتثالِ الأوامِر باداءِ الفعل فيها، والله أعلم. فصلٌ الأمر يقتضي كونَ المأمورِ به مُجْزياً وهو قول جماعةِ الفقهاءِ (¬1)، وأكثرِ المتكلَمين من الأشعريةِ وغيرِهم (¬2)، خلافاً لبعض المعتزلة (¬3) أنَه لا يُعلم ذلكَ بمطلق الأمر، بل لا يُعلم إلا بدلالةٍ تدلُ على كونه مُجزياً. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: "العدة" 1/ 300، و "التمهيد" 1/ 316 و"المسودة" ص (27 - 28)، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي: 2/ 399. (¬2) انظر:"الإحكام" للآمدي: 2/ 256، و" البحر المحيط" 2/ 406. (¬3) نقل هذا عن أبي هاشم والقاضي عبد الجبار من المعتزلة. انظر المصادر السابقة. و"المعتمد" لأبي الحسين البصري 1/ 99 - 101.

- فصل: يجمع الدلائل على كونه مجزيا

فصل يجمع الدلائلَ على كونهِ مجزياً. إنَّ الأمرَ المطلقَ اقتضى إيجابَ الفعلِ بالأمرِ، وإذا ثبتَ أنَه إنَما لزمَه الفعلُ المأمورُ به بالأمرِ، وأنه لم يشغل ذمّته بعْد فراغِها سوى الأمرِ بالمأمور به خاصّة، فإذا أتى بالمأمور به على حسب ما تناوله الأمرُ، عادت الذمّةُ فارغةً على حكمِ الأصلِ، وعادَ كما كانَ قبل الأمرِ، ولم يبقَ عليه شيء من قِبلِ الأمرِ، وهذا معنى الإِجزاء. ومن ذلكَ: أنَّه لو نهاه عن فعل شيءٍ فتركه ولم يتعرض له، خرجَ بذلك من عهدةِ النهي، سيما إذا كانَ في وقتٍ معين. ومن ذلك: أنَّ الإجزاءَ ليس بأكثرَ من الخروجِ عن عُهدةِ الأمرِ، وليس الخروجُ من عهدةِ الأمر إلا الائتمارَ بمقتضى الأمرِ، ولو لم يقتضِ الِإجزاءَ لكانَ أفضى إلى قولٍ فاسدٍ، ومعتقدٍ باطل؛ وهو أنْ يقتضي بزياد؛ على ما اقتضاه الأمرُ، فيقعَ الاقتضاءُ بما ليس فيه، والاقتضاءُ بما ليس فيه اقتضاءٌ بما لم ترجع عليه دلالة، وذلكَ لا يعلمهُ المكلَّفُ، وتكليفُ ما يجهله المكلفُ تكليفُ ما لا يطيقه، وذلك ينفى عن الله نطقاً، قال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. ومن ذلك: أنَ عدمَ الإجزاء هو العَنَتُ الذى نفاه الله عن نفسه، فقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128]،وهذا يعطي أنَّ العَنَتَ محزيز عليه، وأنَه ما أعنتَ، ومن أثبتَ الائتمارَ لأمرِه ومتابعتَه غير مجزىءٍ، فقد أضافَ إليه

- فصل: في جمع ما تعلق به من منع اقتضاء الإجزاء

الإِعناتَ. فصل في جمع ما تعلَق به من مَنَعَ اقتضاءَ الإجزاءِ قالوا: إنَّ الأمرَ ليس في صيغته أكثرُ من استدعاءِ المأمور به من الفعلِ وإرادة له، فأمَّا الِإجزاء وسقوطُ الفرض، فلا يدلُّ عليه اللفظُ، فافتقر إلى دليل. قالوا: إن كثيراً من العباداتِ قد ثبتَ جوازُ الأمرِ بما لا يُعتدُّ به، ولا يحتسبُ للمكلفِ به، بل يوجبُ عليه فعله ثم إعادته، وإذا عُلم ذلكَ من الشرع، لم يجُز أنْ يحصلَ لنا العلمُ، ولا غلبةُ الظن بأنَّ الفعلَ مجزىء إَلا بدلالة. قالوا: وبيانُ ذلك: أنه سبحانَه أمرَ بالمُضيِّ في الحجِّ بعد إفسادِه بالوطء، وبالإِمساكِ في اليوم الذي أفطرَ فيه يظنُّه من شعبان ثمَّ بان من شهرِ رمضان، وبالصلاَةِ بغيرِ وضوء ولا تيمّم عند عدم الماءِ والتراب، وما ذلكَ إلا لحكم الأمرِ، ويلزمُ القضاءُ في جميعَ ذلكَ لعدمِ الاعتدادِ له بالامتثالِ الأَول، فلذلكَ احتجنا إلى دلالةٍ هي غيرُ الأمرِ لحصولَ الإجزاء. فصل الأجوبة عما تعلقوا به أمَّا قولهم: ليسَ في اللفظِ ذكرُ الإِجزاء، فلعمري لكنّ فيه أنه اقتضاءٌ بما إذا فعله عادَ بفعلهِ إلى الأصل، ويكفي أن لا يكون فيه

* فصل في المريض والحائض والمسافر هل يلزمهم الصوم أو يجب ذلك حال زوال أعذارهم.

الا استدعاءُ الفعلِ، وقد وُجد، وذِكرُ الإجزاءِ لا يُحتاجُ إليه مع كونِ الأصلِ براءةَ ذمّتهِ وخلوَّ ساحته، وما اشتغلت إلا بالمأمور به، وقد فعله، وإذا لم يكن فيه وجوبُ غيرِ الفعلِ كفى، ولم يحتج أن يكونَ فيه ذكرُ الإِجزاء. وأما العباداتُ المقضية، فإنَّ المُضى في الحج الفاسدِ والصومِ والصلاةِ حصل امتثالُ الأمرِ به بفعلهِ واتمامِه والمضيّ فيه، ولم يجب القضاءُ بذلكَ الأمرِ، وإنّما وجبَ بأمرٍ ثانٍ، ونحنُ لا نمنعُ أن يوجبَ الشرعُ عبادةً مبتدأة بدلالةٍ، ولا إعادةَ عبادةٍ بدلالةٍ، وانما كلامُنا في أمرٍ مطلقٍ لم يتعقبه أمر ثانٍ بإعادةٍ ولا قضاءٍ. على أن تلك فرّط فيها، ولم يأتِ بها على الوجه المأمور به، فكانَ إيجابُ القضاء لتلافي المأمورِ به والِإتيانِ به على ما كان وأخذ بالمضيّ فيما أفسده احتراماً للزمان، وجعلَ كالعقوبةِ على من أفسدَ، وبعضُ العلماءِ جعل الشروعَ موجباً، والإفسادُ منعَ الإجزاءَ، والشروعُ أوجب المضيَّ، كالنفلِ إذا شَرَعَ فيه عند أبي حنيفة، وعلى ما روي عن صاحبنِا في رواية، وبقيَ وجوبُ الإعادِة بمقتضى الأمر الأول. فصل اختلف الناسُ في المريضِ والحائضِ والمسافرِ، هل يلزمُهم الصومُ أو يجبُ ذلكَ حالَ زوالِ أعذارهم غيرَ مستندٍ إلى إيجابِ حال قيامَ أعذارهم؟. فذهب أصحابُنا وأصحابُ الشافعي إلى أن الوجوب يتعلّق بهم حال قيام أعذارهم، ويجب القضاء عند زوال الأعذار، مستنداً إلى

الوجوب (¬1). وفرق صاحبنا (¬2) بين الجنون والإِغماء، فجعلَ المجنونَ والطفلَ غيرَ مخاطبينَ، وجعلَ المغمى عليه مخاطباً حال الإِغماءِ بالأيجابِ. وقال أصحابُ أبي حنيفة: لا يجبُ على الحائضِ والمريضِ، ويجبُ على المسافرِ (¬3). وقالت الأشاعرةُ: لا يجبُ على الحائضِ والمريضِ والمغمى، ولا يخاطبون حالَ قيامِ العذرِ، وإنما يخاطبون بالقضاءِ إِذا زالت أعذارهم، وأما المسافرون فإنهم مخاطبون بالصوم في أحدِ الشهرين، إمّا شهرُ الأداءِ، أو شهرُ القضاء، وأيهما صاموا سقطَ الفرض، وكان التخييرُ واقعاً بين الشهرين، كالتخييرِ بين أعيانِ التكفيرِ في كفاراتِ التخيير (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ذلك في "العدة" 1/ 315، و"التمهيد" 1/ 261، و "شرح الكوكب المنير" 1/ 367، و"المستصفى" 1/ 96، و"الإحكام" 2/ 262، و"البحر المحيط" 1/ 238. (¬2) أي الإمام أحمد، وفق رواية الأثرم عنه في سؤاله عن المجنون هل يقضي ما فاته من الصوم؟ انظر "العدة"1/ 315. (¬3) انظر "فواتح الرحموت" 1/ 85، و"أصول السرخسي" 1/ 35. (¬4) وهو ما اختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، ونصره الرازي. انظر "التبصرة" ص (67)، و"المحصول" 2/ 208.

- فصل: في ذكر ما تعلق به من قال بالإيجاب مع قيام الأعذار

فصل في ذكرِ ما تعلَق به من قال بالِإيجاب مع قيام الأعذار من ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وتقديره بإجماعنا: فافطر، ولو لم يكن الوجوبُ حاصلاً لما كان الِإفطارُ موجباً أو شرطاً، لأنَّ الِإفطارَ في زمانٍ لم يتعلق عليه الإِيجابُ، لا يعتبر لإِيجاب الصومِ في زمان خوطب بالصوم فيه ابتداءً. ألا ترى أنَّ الجنونَ لَما كان يمنعُ الخطابَ لم يُعلَق علَى ما تفوت به الأفعالُ والعباداتُ الِإيجاب في مستقبل الحال. ثم قوله: {فَعِدًةٌ} تقديره: فليَصُمْ بعدةِ الأيام التي أفطر، وموازنةُ عدّة أيام الصيام بعدةِ أيام الإِفطار دلالةٌ أيضاً منَ الآية ومفهومها على أنَه يستندَ إلى الخَطاب في تلك الأيامِ. وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، دلالة على أن اليُسر هو تأخيرُ الأداءِ لأجلِ المرض، ولو كان ابتداءً إيجابٌ، لما ظهرَ اليسرُ في ابتداءِ الإِيجابِ، لأنه نوعُ تكلّفٍ مبتدأ. ومن ذلك: أنَه لو كانَ الوجوبُ لا يتعلَّقُ بأوقات الأعذارِ، لما وَجَبَ عليه الصومُ إلا إذا عادَ وقتُ مثلهِ من الصيام، كالصَّلاةِ لما لم تخاطب بها الحائضُ، لم تجبْ إلا بعودِ مثلِ وقتهِا. ومن ذلك: أنَّ ما يأتي به يسمى قضاءً، وهذا يَدُلّ على أنه بَدَلٌ عن الفعلِ في الوقتِ الأول، ويتقدرُ بمقداره ركعات في الصلاة، وأياماً في الصيام، وينوي قضاءً عن صوم رمضان والصلاة المعينةِ التي فاتت باسمِها الخاصّ، وهذا كُله دلالَة على بدلٍ عمّا فاتَ من

- فصل فيما تعلق به الآخرون

العباداتِ، إذ لو لم يكن عوضاً عن تلكَ ولا بدلاً عنها لما تقدَرت بها كالإِيجاباتِ المبتدأة. فصل فيما تعلًقَ به الآخرون قالوا: لو كان واجباً ما جازَ تركُه كالصَّوم فِي حقِّ غيرِ المعذورِ، ولما ثبتَ جوازُ تركهِ دلَّ على أنَّه غيرُ واجب، كصومِ النفل. قالوا: الحائضُ لا يصح منها فعلُ الصومِ، ولا التوصُّلُ إلى فعلهِ، فلم يجزْ أن تكونَ من أهل الوجوب. فصل في جواب ما ذكروه، ما قدمناه في إيجاب الصلاة في أوَّل الوقت. وأما الثاني: فجوابُه أن المحدِثَ لا يمكنه فعْلُ الصلاةِ قبلَ الطهارةِ، ثم هو من أهلِ وجوبها، فبطل ما قالوه. فصل في الأمرِ إذا وردَ بأشياءَ على سبيلِ التخييرِ، مثلِ العتقِ والإطعامِ والكسوةِ في كفارة اليمين، أو الهدي، وإطعام المساكينِ، والصيام في الجزاءِ، فالواجبُ واحد منها لا بعينه، يتعينُ بفعلِ المكلف. وبهذا قال الفقهاء والأشعرية (¬1)، خلافاً للمعتزلة في قولهم: ¬

_ (¬1) انظر ذلك في"العدة" 1/ 302، و "التمهيد" 1/ 335 و"المسودة" ص (27 - 28)، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 379 و"التبصرة" ص (70)، =

- فصل في جمع أدلتنا

الثلاثة كلّها واجبة (¬1) فصل في جمعِ أدلتنا فمن ذلك: أنَ التخييرَ على ضربين: أحدهما: من طريق التخصيص. والثاني من طريق التعميم. وقد ثبت بإجماعِنا أنَه لو قال لمن في ملكه عبيد: أعتِق واحداً من عبيدِك، أو اقتل واحداً من المشركين. اقتضى ذلكَ إِيجابَ عتق واحدٍ من العبيد، وقتلَ واحدٍ من المشركين لا بعينه، والتخييرُ حاصلٌ في التنكير، كذلك إذا وردَ التخييرُ من طريقِ التخصيص. يوضحُ هذا أن التوضيح لقوله: أعتق واحداً من عبيدك، واقتل واحداً من المشركين، والمعنى: إِما هذا، وإما هذا، وإما هذا، وهذا هو بعينه قوله: فتحرير، أو إِطعام ... أو كسوة، ولا فرقَ بإجماع العقلاء في ذلك، فإذا كان الواجبُ في التخييرِ بالعموم واحداً لا بعينه، كذلكَ في الخصوصِ، وكُلُّ ما يتعلّق به المخالفُ في هذه المسألةِ من وجوبِ التساوي في الأصلحِ، موجود في الأعيانِ الداخلةِ في عمومِ اللفظ، وتعليقِ الأمرِ بواحدٍ منها. ومن ذلك: أن التخييرَ قد يحصلُ بين الأشياءِ المختلفةِ في أعيانِها ¬

_ = و"المستصفى"1/ 67. (¬1) انظر "المعتمد"1/ 87.

ومنافعِها، ولم يجب أن يعم التخييرُ النوعَ الواحدَ من الأعيانِ، ولا المقصودَ الواحد، فكذلك إيجابُ تَساويها في الحكُمِ لا وجه له مع جوازِ اختلافها في الجنسِ والنوعِ والمقصد. وكذلك يجوزُ التخييرُ بين الضدّين، والبعض والكُلّ، كالإمساكِ والإِقدام، والكلام والسكوتِ، والصيام والإفطارِ، والإتمام والقصرِ، والغسلَ والمسح، فما المانع من التخَييرِ بينَ أشياءَ الواجَبُ واحدٌ منها، وليسَ كلها واجباً؟ ومن ذلك. أن خصائصَ الوجوب لا تعم، فإنَّه لو فعلَ الثلاثةَ فأعتقَ وكسا وأطعم، سقطَ الواجبُ بواحَدٍ منها لا بالجميع، ولو تركَ الكُلَّ أثِم بواحدٍ منها لا بترك الجميع، واذا تأخّر عن الفعلِ خوطبَ بفعلٍ واحدٍ لا بالجميع، واذا لم تعمّ خصائصُ الوجوبِ، فلا وجهَ للقولِ بعموم الوجوب، كما أنَّ الواحدَ الذي عُديتْ فيه خصائصُ الوجوب، فلاَ يسقط بفَعلهِ الوجوبُ، ولا يأثم بتركهِ، ولا يُستدعى منه عند تأخيرهِ عنه، لا يكون واجباً، كذلكَ الثلاثةُ العاريةُ عن خصائِص الوجوبِ لا تشتركُ في الوجوب. ومن ذلك: أن الوجوبَ ينفي التخيير، فلا يصحُّ أن يقول: أوجبتُ عليك صلاتين، وأيهما شئت فصلِّ، كما لا يقول: أوجبتُ عليك صلاةً وإن شئت فلا تصلّها، فلما حَسُن هاهُنا أن يقول: بأي الأنواع شئت فكفر، عُلم أنه ليسَ الواجبُ إلا واحداً. ومن ذلك: أنَ العربَ لا تعقلُ من قولِ القائل لعبده: أعطِ زيداً درهماً أو ديناراً، وقوله لوكيله: تصدَّق بدرهمٍ أو دينار. أنه أوجبَ

- فصل في جمع الأسئلة على أدلتنا

عليهما الاعطاءَ لزيدٍ وعمروٍ، ولا إيجابَ التصدقِ بالدرهم والدينار. ولا في الخبر أيضاً إذا قال: رأيت زيداً أو عمراً، ولقيتُ خالداً أو بكراً، يعطي تساويهما في وجوبِ اللقاءِ أو وجودهِ. فصل في جمع الأسئلةِ على أدلتنا قالوا: إذا قال: أعتقْ عبداً، فلا تخييرَ ولا ذكر جُمل تقتضي المساواةَ، بل لفظ تنكير، وهاهنا ذكر جملًا لو رتبها، لاقتضى ترتيبُها التساوي في الوجوب، إذ لا يقامُ مقامَ الواجب إلا واجب، ولهذا أجمعنا على أنه لا يجوزُ التخييرُ بين مندوب وواجَب ومباح، بل بينَ مباحٍ كُله، أو واجبٍ كُلّه، أو ندبٍ كُلّه، وما ذاك إلا لأنَّ التخيير يقتضي التساوي بين المخيَّرات. قالوا: ولأنَّ الضامنَ والمضمونَ عنه يتخيرُ المضمونُ له بينهما في المطالبة، والاستيفاءِ، والوجوبُ يعمهما. فبطل قولك: إنَ التخييرَ بين اثنين ينفي تعميمهما بالإِيجاب، وانما لم يأثم الكُلّ بالترك، لأن الوجوبَ ليس من طريقِ الجمعَ، لكن على طريق البدل، وإنما كان يجبُ الإثمُ عن تركِ الكُل أنْ لو كانت الثلالةُ واجبةً على وجهِ الجمع. فصل في جمعِ الأجوبةِ عن الأسئلةُ أمَّا قولُهم: لا تخييرَ في التكثيرِ، فليسَ كذاك، بل يقتضي التخييرَ، ويظهرُ ذلك بحُسن تفسيره بالتخيير، فيقول: أعتق عبداً، أي

عبيدك شئت، ولو لم يكن في اللفظ تخيير لما حَسُن هذا التفسير، ألا ترى أنَّه إذا قال: أعتق سالماً وغانماً، أيهما شئت لم يحسن، ولو قال: أعتق سالما أو غانماً أيهما شئت حسُن ذلك لما فيه من التخيير، والضامن والمضمون عمّتهما خصيصة الوجوب، وذلك أن أحدَهما التزمَ ثمناً بعقد بيعٍ، أو أجرةً بعقد إجارةٍ، والآخَرَ التزم بعقدِ ضمان، فإذا امتنعا جميعاً من أداءِ الدين أثما مأثم المخل بالواجب عليه، بخلاف مسألتنا، فإنه إذا أخل بالثلاثة لم يأثم إلا بواحدٍ، فبان بأخذ الخصيصة مأخذ الواجب. وقولهم: إنما لم يأثم بالكُل، لأنه لم يجب الجمعُ، فإنما هو واجبٌ على سبيل البَدَل، فباطل بفروض الكفايات فإنه وجب على سبيل البدل، فأي سابق سبق إلى فعله سقط الفرض عن الباقين، كما أن هاهنا إلى أي الثلاثةِ سبقَ أجزأه ومع ذلكَ إذا تركَ الكل أثم. على أنَّ قولَك: ليس بواجبٍ على الاجتماعِ بل على سبيلِ البدل. فهذا هو النّافي لإجراءِ اسمِ واجب على كُل واحدٍ، وهل معنى واجب إلا الاقتضاءُ به على وجهٍ لا يخرجُ عن عهدتهِ الأمرُ إلا بفعلِه؟ فإن قيل: ففروضُ الكفاياتِ حجة عليكم من حيث إنه من فعله من الناس كان مسقطاً لواجب، ثم إذا فعله واحدٌ بقي الباقون غيرَ واجبٍ عليهم، كذلكَ جاز أن تكون الثلاثة هاهنا واجبةٌ قبل الفعل، فإذا فعل واحداً، خرج الباقي عن الوجوب، ولا شيءَ من الأصول يشبه مسألتنا على الوجه الذي ذهبنا إليه، إلا فروضَ الكفايات، فإنها تجبُ على سبيل البدل، أيّ طائفة نهضت بالفعل، سقطَ ذلكَ عن الباقين ونابَ عنهم، وهي فرض على الكُلِّ، والكل موصوفون بالخطابِ بها.

قيلَ: ليسَ فروضُ الكفاياتِ من مسألتنا بشيءٍ، لأنَّه يحسُن أن يقال: يا أهلَ القريةِ؛ صلّوا على موتاكم، ومُروا بالمعروفِ، وانهَوا عن المنكرِ. ولا يقالُ هاهنا: لتخرجْ في الكفارةِ العتقَ والاطعامَ والكسوةَ، إذا تركَ أهلُ القرية ذلكَ أثموا كلُهم، وهنا الإِجماعُ منعقد على أنه لا يأثمُ إلا بواحدٍ. فإن قيل: كلامُكم يعطي أنكم لا تعقلونَ الوجوبَ مع التخييرِ، وليسَ الأمرُ كذلك، فإنكم قد قلتم: إن الصلاةَ تجبُ بأولِ الوقتِ وجوياً موسّعاً، فلما قيل لكم: ما معنى الوجوب، فالمكلفُ مخير بينَ فعلِ الصلاةِ في الوقتِ الأوّلِ، وبين تركهَا لا إلى بدل؟ قلتم: الوجوبُ الموسعُ معقول، وهو قضاءُ رمضانَ، يتّسعُ وقتُ قضائهِ من رمضانَ إلى مثلِه، فيكونُ ما بين رمضانين وقتاً لفعلِ القضاءِ، وكذلك الدينُ المؤجلُ واجبٌ، وهو مخير بين تعجيلهِ فيقعُ عن الواجب، ويين تأخيره، ولم يخرجه التأخير بين زمانٍ وزمانٍ، عن كونهِ واجباً فيَ الزمان الأول، كذلك لا يخرجُ تخيير هذا المكلفِ بين عينٍ وعينٍ، وفعلٍ وفعلٍ، عن كون الأعيَانِ والأفعالِ واجبةً، وليس التخيير هاهنا بأكثرَ من توسعة ورخصة (¬1) بين أعيان، كما أنها توسعة ورخصةٌ في الصلاةِ، وقضاءِ صوم رمضان، والديونِ المؤجّلة بين أزمان، وهو مثلُ مسألتنا سواء، فإنه إذا أخل بالفعلِ في جميعِ الأوقات التي خُير فيها، لم يأثم إلا بالتركِ في وقتٍ يتّسع لفعلها، ولا يكونُ آثماً إثمَ من أخلَّ بفعلٍ واجبٍ يملأ تلكَ الأوقاتِ كلَّها. ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل.

- فصل في جمع شبههم

قيل: إنا لم ننفِ الوجوبَ لأجلِ التخيير، لكنْ نفيناه لأجلِ انتفاءِ خصائصَ الوجوب. من ذلك: أنَها لو كانت كلُّها واجبةً، لوجب إذا فعلَ واحداً أن يبقى وجوب ما لم يفعلْه منها كسائرِ الواجبات، ألا ترى أن الصلواتِ الخمسَ، وصومَ أيامِ رمضانَ لما كانت واجبةً كلُّها، إذا فعل واحداً منها بقيَ الباقي منها على وجوبهِ. وأمَّا أوقاتُ الصلواتِ، فإن الأول تَعين الوجوبُ به، وأُبيحَ له التأخيرُ، كما أبيح الامتدادُ والإِطالةُ إلى آخرِ الوقتِ، وانما لم يحصل المأثمُ بالتأخيرِ لأنه أتى ببدلٍ عن التقديمِ، وهو العزم على الفعلِ في الثاني، فنابَ منابَ التقديم. واحتجَّ بعضُهم في النظرِ بأنَّ الثلاثةَ لو لم تكن واجبةً، لما سقطَ بجميعها الفرضُ إذا فعلَها ثلاثة، فأعتق واحداً، وأطعم واحداً، وكسا واحداً، فلما سقطت فروضُ الثلاثةِ بالثلاثةِ، عُلِمَ أن جميعها واجبةٌ، إذ لو كانَ فيها واحدٌ ليسَ بواجبٍ لكانَ في الثلاثةِ واحدٌ لم يسقط الفرض والواجب (¬1). فصلٌ في جمعَ شبههِم قالوا: إنَ الله سبحانَه سوَّى بينها في الأمرِ، فكُلُّ واحدٍ من الثلاثة ¬

_ (¬1) في الأصل: "الجواب" وكتب الناسخ أمامها "كذا في الأصل".

مأمور به في الإجزاء، فكلُّ واحدٍ يحصلُ به الإجزاءُ وبراءةُ الذَمةِ وحصولُ التكفيرِ به، وفي الأصلحِ والمشيئةِ فكُلُّ واحدٍ منها صالحٌ ومرادٌ، فوجبَ تساويها في الإيجابِ، إذ لا مزيّةَ لواحدٍ منها على الآخر. كما لو تناولَها الأمرُ مطلقاً من غيرِ تخيير. ومن ذلك قولُهم: لو كانَ الواجبُ واحداً، لنصبَ الله عليه دليلاً، وجعل لنا إليه سبيلاً، ولم يبهمه عنا إبهاماً، مع كونِنا لا نعرفُ الأصلحَ لنا، ولا ما فيه فسادُنا، ألا ترى أن سائرَ الواجباتِ وقتها بمواقيتَ وقدَرها بمقادير، وعينها بما امتازت به عن غيرها، ولم يتركْ للمكلفِ، ولا جعلَ إليه إلا مجرَّد الفعل لذلك المعين الموقّتِ المقدّرِ، فلما لم يعين هاهنا، بل ذكرَ الجملَ الثلاثَ، عُلِمَ أن جميعَها واجبةٌ، فأيها فعلَ كانَ مصادفاً للواجبِ الأصلحِ المأمونِ معه الفسادُ. ومن ذلك قولُهم: لو كانَ الواجبُ واحداً، لكانَ إذا كفر ثلاثةٌ من المكلَّفين بالثلاثةِ، فكفَّر كُل واحد من الثلاثة، بواحدٍ عن الذي كفر به الآخر، أنْ يكونَ المكفَرُ بالواجب واحداً منهم لا بعينه، فلما وقع تكفير كُلّ واحدٍ موقع الوجوب، دل على أنَ الوجوبَ عمَّ الجميعَ، ألا ترى أنَّ القِبلةَ لما كانت واحدةً، والصلاةَ المنسيَّةَ الواحدةَ لما كانت واحدةٌ، لا جرمَ إذا صلَّى ثلاثةٌ إلى ثلاثِ جهاتٍ، أنَّ واحداً منهم صلى إلى القِبلة، واذا صلَّى ثلاثَ صلواتٍ، إذا كانَ بينهنَّ أنها صلاةُ نهارٍ لأجلَ المنسية، أو خمس صلواتٍ إذا لم يدرِ صلاةَ نهارٍ أم ليلٍ، فإنَ الواجبَ منها واحدةٌ، ولا نقولُ الجميع وقعتْ واجبةً. ومن ذلكَ قولُهم: إن الوجوبَ قد يعم عدداً من المتعبّدين، ثم يسقطُ بفعلِ الواحدِ منهم، كذلكَ جازَ أن يعم عدداً من العباداتِ،

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

ويسقطُ بفعلِ واحدٍ منها أيّها فعل. ومن ذلك قولهم: إنَه لو كانَ الواجبُ من المخيرّات واحداً لا بعينه، وأنه إنما تعين بفعلِ المكلفِ ونيتهِ، مع كونِ الله سبحانَه عالماً بما يختاره المكلفُ من الثلاثة وينويه، لكانَ ذلكَ معلوماً لله سبحانه، وهو الواجبُ عندَه، والمرادُ به له سبحانه، وأن يعلم أن غيره ليسَ بواجب، فيكونُ تخييره بين ما علم وجوبه، وبين ما علم أنه ليس بواجب، وما ليس بواجب، فهو النفلُ المتطوعُ به، وفي هذا خروج من إجماع الأمّة، فإن القائلينَ بأنَّ الواجبَ واحدٌ من الثلاثةِ لا يقولون: إنّ الواجبَ واحدٌ معين عندَ الله معلوم، وأنَّ غيرَه ليسَ بواجب. فصل يجمعُ الأجوبة عن شبههم أمَّا تعلًقهم بتسويةِ الثلاثةِ في الأمرِ والإجزاء، فغيرُ موجب للكُلِّ، ولاللتسويةِ بينها في الوجوب، كما لم يوجب التسويةَ بينها في العقاب والمأثمِ عند الترك، ولا أوَجبَ التسويةَ بينها في إسقاطِ ما في الذّمةَ إذا جمع بين الكُلِّ في الفعل، ولأنَّ التخييرَ بلفظِ العموم، يتساوى فيه سائرُ الأعيانِ، فإنَّه لا يقول: أعتقْ عبداً من عبيدِك، واقتَل مشركاً من المشركين. إلا وكل عبدٍ يساوي غيرَه من العبيدِ، وكذلكَ المشركُ المنكرُ، ثم مع ذلك لم يقتضِ ذلك مساواتَهم في الإيجابِ، والمعنى في الأصل وهو المطلقُ، فذاكَ جمعٌ، وهذا تخييرٌ، وفرق بينهما، كما لو قال: اعتقْ عبيدَك، واقتل المشركين. اقتضى إيجابَ الجميعِ، ولو قال: اقتلْ مشركاً، وأعتقْ عبداً، لم يقتضِ إلا إيجابَ

قتلِ واحدٍ من العبيد، وقتل واحدٍ من المشركين. وأما الجوابُ عن قولهم: لو كانَ الواجبُ واحداً، لنصب الله عليه دليلاً. فلا وجه للمطالبةِ بالدليلِ عليه، مع كونهِ قد جعلَ الاختيارَ من المكلَّفِ هو المعين له بالوجوب، كما إذا جعلَ التخييرَ إليه بلفظِ العموم، فإنَّه لما نكّر العبدَ فىَ العِتقِ، والمشركَ في القتلِ، صارَ العبدُ الذَي يبادره بالعتقِ، والمشركُ الذي يبادره بالقتل، هو الواجبَ عتقه وقتله، كذلك التخييرُ بلفظِ الخصوص. ولأنَّ هذا باطل بالعقاب على تركه، فإنَّه لم يقم على المتروكِ المستحق به العقاب دليلًا، وَلا جعلَ إليه سبيلًا، ومع هذا فهو واحد، وباقي الثلاثة ليست كذلك، وكونُ المكلَّفِ المختارِ لا يعرفُ الأصلحَ له فيسلكُه ويقصده، ولا المفسدَ فيجتنبه، ولا يجوز أن يرد الاختيارَ إليه، لا يمنعُ أن يكونَ الباري لا يخير إلا إذا علم أنه لا يختار إلا الأصلحَ دونَ المفسد، ولو فصح الباري وصرَّح بذلكَ بأنْ يقول: أيها المكلف كفَر بأيِّ الثلاثة شئت، فمهما اخترتَ التكفيرَ به، فهو المختارُ لنا والمصلحةُ لك. وقد قلنا مثلَ ذلك في جواز ردِّ الاختيارِ والتكليفِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتشريع، فيقول الباري له: احكم بما شئتَ وما ترى، من غير قياسٍ ولا استنباطٍ، بل ما تراه فهو الحكم عندنا. ولأنَ طلبَ الأصلح، وخوفَ مواقعةِ الأفسدِ، إنّما يكون فيما هو معيّن، فأمَّا إذا كان المأمورُ به غيرَ معيَّن، فإنه لا يجبُ البيان، لأنَّ الجميع متساوٍ. وأما قولهم: إذا كفر ثلاثة، كلُّ واحدٍ منهم بغيرِ الذي كفر به

الآخرُ، فاستوعبوا الثلاثةَ أعيان، كانَ الجميعُ واجباً من حيث إنه سقطَ بها الوجوبُ عن ثلاثةٍ، كل واحد منهم قد وجب عليه نوع، فلماسقطَ بالثلاثةِ ثلاثُ كفاراتٍ واجباتٍ. دل على [أنَّ]، الثلاث واجبات، حيثُ سقطَ بها ثلاثة واجباتٍ، فلا يلزمُ، لأن كونَ الثلاثة في حق ثلاثةٍ من المكلفين لا يعتبرُ به الثلاثةُ في حق الواحدِ، فإنه لو أمرَ بلفظِ التنكير فقال: أعتق عبداً، كأعتقَ كُلُّ مُكَفر عبداً، كانَ جميعُ ما أعتقه المكفرون من العبيدِا واجباً، وَبمثله لو أعتقَ واحدٌ جميعَ أولئك العبيد، لم يكن الجميعُ واجباً، بل كانَ الواجبُ منهم واحداً. وأمَّا تعلّقهم بفروض الكفايات، فهو الحجّةُ لنا، لأنه لما كان الفرضُ على الجميع، أثَمَ بتركه الجميعُ، فلو كانَ هاهنا الواجبُ الجميع، لأثم بتركهِ الجميعُ. على أن فروضَ الكفاياتِ لو لم تجب على الكافة لاتكلَ بعضُهم على بعض، فلم يُفعل شيءٌ منها، وهاهنا إذا وجب واحدٌ لا يفضي تركُ اثنين إلى ترك الجميع، لأنه إذا نابَ واحدٌ عن آخر في حقِّ المكفِّر الواحِد، لم يخلدْ إلى تركِ الكل، بل غايةُ ما يخلدُ إلى تركِ الواحد والاثنين، وفي فعلِ الأخركفاية. وأما قولُهم: إنَّ هذا يُفضي إلى أن يكونَ ما يختارُه المكلفُ من الأعيانِ الثلاثةِ هو الواجبَ عندَ الله، وما لم يختره ليس بواجب، وغيرُ الواجب هو النفل، وأحدٌ لا يقولُ إنَ الله خيَّر في هذهِ الأعيانِ الثلاثة بين واجَبٍ ونفل، فهو قولٌ مخالفٌ الإِجماعَ، فلم يبقَ إلا القولُ بأنَ الثلاثة واجبةٌ. فهذا لا يصحُّ من وجوه:

أحدها: أنا وإن قلنا بان الواجبَ تعين بالنيةِ، والفعلِ، إلا أنَه قبل الفعل والنيةِ غيرُ متعين، وليسَ إذا كانَ الله سبحانه عالماً بعين ما يفعلُه المكلفُ ويختاره ويعتقده وينويه، كان ذلكَ موجباً لتعيينه بالوجوبِ، كما أنه يعلمِ مَن الناهضُ من الأمة بفعلِ فروضِ الكفاية، ولا يوجب علمةُ سبحانه بذلك أن التعيين حاصل في حق من علمَ أنه ينهضُ بذلكَ، بل الفروضُ على مَآبها، فلا يتعين سقوطُ الفرضِ على الجميع إلا بفعل الناهض بذلك الفرضِ ونيتهِ واعتقادِه، وكذلكَ من قال له الشرع: أعتقْ عبداً، أو اقتل مشركاً. فإن الله سبحانَه عالم بمن يُصرف إليه العتق من العبيدِ، وُيقتلُ من المشركين، ومع ذلكَ لا يُجعل قبلَ الفعلِ متعيناً. على أنه لو كانَ علمُ الله سبحانه بعين ما يفعلهُ المكلفُ ويختارهُ يجعلُه واجباً بعينه، لم يُستنكر أنْ يكون غيرُه نائباً منابَه، وسادّاً مسدّه، كما زعمَ بعضُ فقهاءِ أصحابِ أبي حنيفة أنَّ الصلاةَ في أول الوقتِ نفل، تمنعُ بقاءَ الفرض، وتنوب منابه في الوقت الأخير عند تحقق الفرض. والمسبوكُ من هذه المسألة أن كُل شيء كان من هذا القبيل من التخيير بين آحاد عدد: كالشورى في الستةِ في باب الخلافة (¬1)، ¬

_ (¬1) تقصِدُ بالشورى في الستةِ: ما وردَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن طُعنَ واشتدَ ألمه فقيلَ له: أوصِ يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أرى أحداً أحق بهذا الأمرِ من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عنهم راضٍ، فسمّى علياً، وطلحة، وعثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعداً رضي الله عنهم. =

- فصل: ويدخل في ذلك ما لا يتحقق أداء الواجب إلا به

والأنواع الثلاثة في الكفارة، والأوقاتِ في الصلوات: الأول والأوسطِ والآخرِ، وما بين رمضانين لقضاء ما فات من صوم رمضان، لايحسُنُ أن يقال في ذلك كلّه: إن الوجوبَ عم الجميعَ، ولا إن الواجب واحد بعينه، بل يقال: إن الكُل متساوي الآحاد في صلاحيته لأداءِ الواجب به إن كان فعلًا، أو فيه إن كان وقتاً للفعل وظرفاً، فالخطأ ممن عمَّهَا بالوجوبِ في اللفظِ، وهذا هو الحاصلُ لنَا. والله أعلم. فصل ويدخلُ في ذلكَ مالا يتحقق أداءُ الواجب إلا به، كفعلِ صلواتٍ خمسٍ في حقِّ من فاتته صلاة من خمسٍ لَا يعلمُ عينها، والإِمساكِ في جزء من الليل لتحقق صوم جميعِ بياضِ اليوم، وغسلِ جزءٍ من قُصاصِ شعرِ الرأس ليتحقّق على جميع الوجه. فصل وممّا يشبهُ ذلكَ ويقاربُه، اشتباهُ الحلالِ بالحرام مما لا يمكن تركُ الحرامِ إلا بتركِه، مثل أخيه ومرضعته بالأجانب، اشَتباهاً لا يمكنُ معه التمييز. فهذا إن كان في دربٍ أو محلّةٍ أو قريةٍ صغيرةٍ، صارَ نساؤها كلُّهن محرماتِ الاستمتاعِ والنكاحَ في حقّه، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهن يحتملُ أنْ ¬

_ = أخرجه من حديث عمرو بن ميمون البخاري (3800)، وابن أبي شيبة 14/ 574 - 578، وابن سعد 3/ 340 - 342. ووجهُ الدلالةِ في هذا: أن عمرَ بن الخطاب لم يقصد أن تعم الخلافة هؤلاء الستة، وانما قصد أن يختاروا واحداً منهم.

* فصل: إذا أمر الله سبحانه بعبادة وعلقها على وقت موسع فإن الوجوب يتعلق بجميع الوقت

تكونَ هي المحرمةَ. فيقال: الكُلّ محرماتُ: بمعنى لا يباحُ نكاحهنّ ولا المتعةُ بهن بملكِ يمين إن كن مملوكات، وكذلك المسلوخاتُ إحداهن ميتةٌ. فصلٌ ومن ذلك اشتباهُ الأواني، يُجعل الكُل محرماً استعمالُه وشربُه إذا لم يمكن التحري، أو أمكن لكنَّ [في]، أحدِها بولاً، أو كان لا تطلق عليها الِإباحةُ قبل التمييز، ويطلق على جملتها التحريمُ عند من لم يرَ التحرّي، ولا يطلق التحريم على جميعها عند من يرى التحري، ومن يرى التحري فيها يقول: إن فيها حراماً وفيها حلالًا يحصل تمييزه بالاجتهاد. فصلٌ إذا أمرَ الله سبحانَه بعبادةٍ، وعلقها على وقتٍ يتسع سعةً توفي على فعلها؛ كالصلاةِ تجبُ لدلوكِ الشمس إلى غَسَق الليل، كما قال اللهُ سبحانه (¬1)، فإنَّ الوجوب يتعلق بجميعِ الوقتِ وجوباً موسّعاً (¬2). ومعنى قولنا: وجوباً موسّعاً، هو أنَّ الصلاةَ وجبت بأوَّلِ الوقتِ، وجعل أوله وأوسطَه وآخره وقتاً لأدائها، فلا يأثمُ المكلفُ بتركِها في ¬

_ (¬1) في قوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]. (¬2) تقدم بحثُ هذه المسألةِ وبيانُها في الصفحة: 43.

* فصل: مجموع أدلتنا على تعلق الوجوب بالوقت الأول والأوسط والأخير، وإفساد قول من خصص الوجوب بالوقت الأخير، ومن جعل الفعل في الوقت الأول نفلا

وقتٍ إذا كان عازماً على فعلها، فيما بقي في الوقت متّسعاً لها، فمن أخلّ بالعزم كان آثماً بإهماله أمرَ الله سبحانَه حيث تركَ تلقيّه بتعبدٍ ما لا فعلاً ولا عزماً، وبه قال القاضي أبو بكر الأشعري (¬1)، وأصحاب الشافعي. وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة: يتعلّقُ بآخرِ الوقتِ الذي لا يتَسعُ إلا لفعلِ العبادةِ. وقال أبو الحسن الكرخي: يتعلق بوقتٍ غير معين، ويتخير المكلّفُ بين فعلِها في أوَلهِ وأوسطِهِ وآخرهِ، ويتعيّن بالفعل. وقال بعضُهم؛ أعني أصحابَ أبي حنيفة: إنْ فعلهَا في الوقتِ الأول وقعت نفلاً، يمنعُ وجوبَ الفعل وتقع مراعاة إن بقىَ المكلفُ على تكليفه إلى آخره تبيّنا أنها وقعت واجبةً، و [إن] لم يبق إلى آخره كانت نفلاً. وقال بعض المتكلمين: إنَه مخيّر بين الأوقاتِ في إيقاعِ الفعل فيها، كما يتخيّر بينَ الأعيان في كفارةٍ للتخييرِ في التكفيرِ بها. فصلٌ مجموعُ أدلِتنا على تعلق الوجوب بالوقتِ الأوّلِ والأوسطِ والأخيرِ، وإفسادِ قولِ من خصصّ الوجوبَ بَالوقتِ الأخير، وإفسادِ قولِ من جعلَ الفعلَ في الوقتِ الأولِ نفلاً، ومذهبِ من جعله مراعىً بحالِ المكلف في آخرهِ. فالدليلُ لصحةِ مذهبنا وأن فعلَ العبادةِ في الوقتِ الأولِ والثاني ¬

_ (¬1) يعني: الباقلاني، كما تقدم في الصفحة: 45.

والأخيرِ حصلَ بحكم الأمرِ، لأنَّ الله سبحانه حيث قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، أجمعنا عَلى أنَّه لم يُرِدِ امتدادها بالتحريمِ عند الدلوك، والتسليم عند غسقِ الليل، فلم يبقَ إلا أنَه أراد امتداد الوقتِ والساعةِ لفعلِها أيً وقتٍ شاء من هذهِ الأوقاتِ التي أوَّلُها دلوكُ الشمسِ، وآخرها غسق الليل، ومحال إخراجُ وقتٍ منها عن تناولِ الوجوب مع اتجاهِ الأمرِ إليه، وليسَ يتلقى الوجوب إلا من صيغةِ الأمرِ التى تناولت هذا الوقتَ الممتد، ولا سيّما مع تفسيرِ الشرع لذلك، فإن جبريلَ صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في الوقتين، الأول والأخير، وقال له: يا محمد، "الوقت ما بين هذين" (¬1)، ولا يجوزُ أن يكون المراد بقوله: الوقت ما بين هذين، الوسط الذي لم يصلَ فيه هو وقت الوجوب، فلم يبقَ إلا أنَه أراد تعميم الطرفين والوسطَ بالوجوب، وإيقاعَ الفعلِ الواجب فيها. ومن ذلك: أنَ المأمورَ المكلف إذا أوقعَ الفعلَ المأمورَ به في الوقتِ الأولِ أو الأوسطِ أو الآخرِ، أسقطَ به الفرضَ، وخرجَ به من عهدةِ الأمر، وما خرحَ به المكلف من عهدةِ الأمرِ فهو الواجب بالأمرِ، والأوقات متساويةٌ في ذلكَ من الأولِ إلى الآخرِ، فَدلَّ على أنْ الوجوب عمَّ الأوقاتِ. ومن ذلكَ: إفسادُ قول من خص الوجوبَ بآخرِ الوقت، أنَّ تعليقَ ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث طويل عن جابر: أحمد 3/ 330 و 351، والترمذي (150)، والنسائي 1/ 363، والدارقطني 1/ 256 و 257، والبيهقي 1/ 268، والحاكم 1/ 195 - 196.

الوجوب بالشرطِ يُفيدُ أنه إذا حصلَ الشرطُ حصلَ الوجوبُ، والشرطُ الوقتُ المذكور، وهو مستمرٌ من دلوك إلىٍ غسق، فإذا لم يتعلق بالأوَلِ خاصةً، فلا وجهَ لتعلقهِ بالآخرِ خاصة، فلم يبقَ إلا تعميمُه بالوجوب، وهو ما ذكرناه. يوضِّحُ هذا: أنَّ الأمرَ المتعلِّقَ بالأشخاص والأماكنِ إذا وردَ كورودِ نصِّ الكتاب في هذه الصلاةِ، لم يتخصصَ أحدُ الأشخاصِ ولا أحَد الأماكن، كذلكَ الأوقاتُ والأزمانُ، ومثال ذلك وقال: احصدوهم من ثنيّة كداء حتى تلقوهم بالصفا. تعلقَ وجوب القتلِ بكل موجودٍ في هذا المكان من الطرفِ الأولِ، وهو الثنيةُ، إلى الصفا، وهو الآخر. ومثالهُ من الأشخاص؛ اقتلوا لدخول بني فلان إلى أن ينتهيَ آخرُهم، أو ينتهيَ دخولُهم، فإن ذلكَ الأمرَ بالقتل لا ينحصر بمكانٍ ولا شخص مما علق عليه الأمرُ، بل يعم جميعَ ما عُلّقَ عليه الأمرُ، كذلك هاهنا. ومن ذلك: أنها إذا فُعلت في أوَّلِ الوقتِ لم يحلَّ أن تقعَ واجبةً وجوباً مضيّقاً، أو تقعِ نفلاً، أو تقعَ مراعاةً بحالِ الفاعلِ لها في آخرِ الوقتِ، أو تقعَ واجبةً وجوباً موسّعاً، بمعنى أنَّها لم يتخصص وجوبُها بالوقتِ الذي وقعت فيه. ولا يجوزُ أن تكونَ وقعت في الوقتِ المضيّق، كما قال بعض من خالفنا، لأن علامةَ التضييق حصولُ التأثيمِ بالِإخلالِ، وليسَ الأمرُ كذلك في التركِ لفعلِها في الوقتِ الأول. ولا يجوزُ أن تكونَ وقعت نفلاً، لأنَّه لو كان كذلك، لجازَ أن تنعقدَ بنية النفلِ، لأنها فيه وصفُها وحكمها، ولمّا لم تنعقد بنيّة

- فصل في جمع الأسئلة على دلائل مسألة في الأمر الموسع

النفلِ، بطَلَ أن تكونَ نفلاً كسائرِ الواجباتِ إذا فُعلت في آخر الوقت، بل كان يجبُ أن تكون بنية النفل أخص منها بنية الفرض، إذ كانت نفلاً عند هذا القائل. ولا يجوزُ أن تقع مراعاةً، لأن عباداتِ الأبدانِ المقصودةَ لا يجوزُ تقديمها على حال وجوبها من غير عذرِ، فإذا بطلت هذه الأقسامُ، لم يبقَ إلا أنها فعلت في وقت وجوبها الموسع، ولأنَه إذا كان جميعُ أجزاءِ الوقتِ منصوصاً على أن للمكلّفِ فعلَه بها، لم يجز أن يكونَ وقوعُه في بعضهِا واجباً مراعاةً لأنه خلافُ موجبِ النصّ، فبطلَ هذا المذهبُ، وفيما دلّلنا به على تعميمِ الوجوبِ للأوقاتِ كلِّها إفسادٌ لمذهبِ من قال: إن الوجوبَ يتعلّقُ بوقتٍ غير معيّن. فصل في جمعِ الأسئلةِ على دلائلِ مسألةٍ في الأمرِ الموسَّع قالوا: حصولُه في الوقتِ واقعاً موقعَ الامتثالِ، لا يدلُّ على وجوبهِ في ذلك الوقت، بدليلِ تقديمِ الزكاةِ وتعجيلها قبلَ الحول، وتقديم الثانيةِ من المجموعين على وقتها (¬1). وأما تعلقكم بتناولِ الأمرِ للأوقاتِ كلّها، ليسَ بدلالةٍ على تساويها في الوجوب كما تساوت في الأمرِ، وانفرد أحدها بحصولِ المأثمِ بالتركِ فيه خَاصةً دونَ سائرِ الأوقات. وأمّا قولكم: لو كان نفلاً لما أسقطَ فرضاً، ولصح بنية النفلِ، ولما ¬

_ (¬1) أي تقديم الثانية من الصلاة المجموعة جمع تقديم على وقتها.

- فصل في جمع الأجوبة عن هذه الأسئلة

وقع مراعى، فالزكاةُ المقدَّمة المعجّلة، فيها خصيصةُ النفل، حيث لا يأثمُ بتركها، ولا يلزمُ دفْعها، ولا يأمره الِإمامُ بإخراجها، ولا يقاتلُ عليها، فجميعُ خصائصِ الوجوب منتفيةٌ عنها، ثم إنّها تُسقطُ الفرضَ إذا حصل شرطُ الوجوب وهو حؤولُ الحولِ، فقد بان أنها وقعت مراعاةً بحؤولِ الحولِ اوعدمِ حؤوله. فصلٌ في جمعِ الأجوبةِ عن هذه الأسئلةِ أما تقديمُ الزكاةِ وتعجيلُ الصلاةِ، فرخصةٌ حصلت لنوعِ منافع وأعذار ودفعِ مضار، لا بمطلقِ الأمرِ والرخصةُ غيرُ أمرِ الإيجاب، فلما اختلفا في السبب الذي أثار الفعلَ في الوقتِ الأولِ والوقتِ الثاني، فكان أحدُهما رخَصةً، والآخرُ بحكمِ الأمرِ والعزيمة. وأمّا قولُهم: قد يستويان في الأمرِ، ويختلفان في الوجوب، كما استويا في الأمرِ واختلفا في المأثمِ، فغير لازمٍ، لأنَ الوقتَ الأَولَ لم يتعلقْ به المأثمُ، لأنَ العزمَ على الفعلِ فيما بقي من الوقتِ قامَ بدلًا، وناب عن تعجيل الفعل وتقديمهِ، والوقتُ الأخرُ لم يبقَ له خلف ولا بدلٌ، فلذلكَ حصلَ المأثم متعلقاً عنده، ولو انعدمَ العزمُ في الوقت الأول على الفعلِ في الوقتِ الآخر، لأثمَ من حين عزبَ عزمهُ وفرقٌ بينَ أن يبقى زمان تَلافٍ (¬1) وفعل، وبينَ انقضائِه. كما أنَ من وجبت عليه كفارةُ تخيير، وكان له رقبة وكسوةٌ وإطعامٌ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "تلافى".

- فصل يجمع شبه المخالفين

فلم يعتق العبدَ حتى مات، فعزمَ على الكسوةِ، فلم يكسُ مسكيناً حتى احترقت أو سُرِقت، فعزمَ على الإطعامِ، فلم يُطعمْ حتى أكله الداجن، فإنه يأثم عند عدم الصنف الأخير، ولا يقالُ: أثم لأنَّ الوجوب اختصّ به، بل أثم لأنه فوّت العبادة، حيث أخّرها حتى فاتت الأعيان. كذلك إذا فاتت الأوقاتُ كلها، وكذلكَ من أخرَ ما عليه من قضاءِ رمضان، لا يمكنُ إلا إذا أخره حتى لم يبقَ ما بينَ رمضانين زمانٌ يتسعُ لقضاءِ الفائتِ مِن صوم رمضانَ، ثم لا يدلّ ذلكَ على أنَّه لم يجب قضاءُ رمضان إلا فيَ ذلكَ الوقتِ الذي يتقدّر بمقدارِ الفائت. بل الصومُ ثابتٌ في ذمته من حين أفطر، وتقديمُ الزكاةِ قبل الحول، وتعجيلُ الصلاةِ في الجمع لا يكونُ به نفلاً، ولهذا لو نوى التطوّع بالزكاةِ المعجّلةِ لم تبرأ ذمته بها، ولا وقعت موقعَ الفرض، وكذلكَ الصلاةُ المجموعةُ، ولو نوى بالمقدمةِ إلى غيرِ وقتها نفلاً لم تنعقد فرضاً، ولا أسقطت الفرض. فصلٌ يجمع شبه المخالفين فمن ذلك قولهم: لو كانَ الوجوبُ يعمُّ الوقتَ الأول والأوسطَ [و] (¬1) الأخيرَ لكانت خصيصته شاملة للأوقات الثلاث، وخصيصةُ الوجوب هي مأثمُ الترك، فأمَّا صيغةُ الأمرِ فليست من خصائص الوجوبِ لأنّها تتناولُ المندوبَ والواجبَ. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

- فصل في جمع الأجوبة عن شبههم

ومن ذلك قولُهم: لو كانَ الوجوبُ متعلِّقاً بالوقتِ الأولِ لما جازَ تأخيرهُ إلى الأوسطِ، ولو تعلَّقَ بالأوسطِ لما جاز تأخيرهُ إلى الأخيرِ، لا إلى بدل، فلما جاز تأخيرُه إلى غير بدلٍ، غلمَ أنه ليس بواجبٍ كسائرِ النوافِل، إذ خصيصةُ النافلةِ ما جاز تركُها لا إلى بَدل. ومن ذلك: قولُ من ذهبَ إلى أنَّ الوجوبَ يتعلَّقُ بواحدٍ من الأوقاتِ غير معيّن، لأنا وجدناه مخيراً بين فعلها في الوقتِ الأول أو الأوسط أو الآخرِ، وهذه خصيصةُ عدم التعيين، كالمخيرِ في واحدٍ من الأعيان المكفرِ بها، فإنَّه لا يقال: إنَ الواجب معين، كذلك الأوقات هاهنا. فصل في جمعِ الأجوبةِ عن شبههم أمَّا قولُهم: إنَّ الأخيرَ من الأوقات اختَص بالمأثم، وهو خصيصةُ الوجوب، فلا يسلَّم، بل هو خصيصة الوجوب المضيّق، فأمَّا الوجوبُ الموسِّع، فليسَ المأثمُ من علاماتهِ ودلائله، والدليلُ عليه: أنَّ الديونَ المؤجلة وقضاءَ رمضان واجبان، ولا يأثمُ بتأخيرهِما لكونِ وجوبهما موسعاً، فلأنَه إنما يأثم إذا تركَ الواجبَ إلى غير بدل. وسنبيّن في جوابهم الثاني أنَّ التركَ هاهُنا إلى بدل، هو العزمُ على الفعلِ في الوقتِ الثاني أو الأخير، على أنَّ وقوفَ المأثمِ [على] (¬1) الوقت الأخير لا يَدُل على اختصاصِ الوجوب به، كما أنَّ فروضَ ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

الكفاياتِ لا يحصلُ المأثمُ على التركِ والإعراضِ ما دام في القرية من يُرجى فعلُه لذلكَ الفرض، مثل صلاةِ الجنازِة، فإذا أعرض الكُلُّ، كان بإعراضِ الأخير منهم ظهورُ الإثمِ أو حصولُه، ولم يَدُل ذلكَ على أنَّ الوجوب لم يعمَّ أهلَ القرية، بل اختصّ بآخرهم إعراضاً عن الفرض وتركاً له. على أن نفيَ المأثم إنما يدُلُّ على نفي الوجوب إذا خلا التركُ عن عذر، فأمَّا الأعذارُ فمنها تُسقط مأثمَ التُّروَك والتأخيراتِ للواجبات، بدليلِ السفر يؤخِّرُ الصومَ، لأجل أنه عذرٌ (¬1)، وكذلك تأخيرُ الصلاةِ في الجَمع، وتركُ الجمعةِ للأشغال وخوف (¬2) تلف الأموال. وهاهنا عذرٌ ظاهر، وهو أنا لو أثمناه بتأخيرِ الصلاةِ عن أول الوقت، وألزمناه فعلَها فيه، فإنَّ مصادفةَ الزوالِ والغروب لأشغالِهم مانعٌ لهم ومعوِّقٌ عليهم ما بهم إليه أشدُّ حاجة، وإن كلفنَاهم مراعاةَ الوقتِ الأوّلِ بتركِ الأشغالِ والتَّرصُّدِ لدخوله لأحْرَجَ وشقَّ، فلما عَلِمَ اللهُ سبحانَه ذلكَ من أحوالهم أسقط المأثم عنهم بالتأخيرِ، كما أسقطه بسائِر الأعذارِ المعيقة، كالسفرِ لأداءِ صوم رمضان وتوسعةِ ما بين رمضانين لقضائه، بخلافِ آخرِ الوقت، فإنَّ فيمَا سبقه من التوسعة غنىً عن رفع المأثمِ بتركها فيه، وفارقَ الواجبُ النفلَ من هذا الوجه، وهو ¬

_ (¬1) بدليل قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. (¬2) في الأصل: "وجوب".

أنَّه سقطَ المأثمُ لنوع عُذرٍ، والنفلُ يَسقطُ لغيرِ عذرٍ. وأمّا قولُهم: لو كان واجباً في الوقتِ الأول والأوسطِ، لما جازَ بتركه فيهما وتأخيره عنهما لا إلى بَدَل. فنحن قائلون بموجبه وأنّه ما جازَ لا إلى بدل بل إلى بدل هو العزمُ على الفعل. فإن قيل: فلو كانَ العزمُ بدلًا لكان يعتبرُ فيه نوعُ تعذرٍ كسائر كالأبدالِ، ولكان يَسقطُ المبدَلُ، لأن البدلَ ما ناب مناب المبدَل، كالأبدالِ في الكفاراتِ والطهاراتِ، ولما لم يَسقط الوجوبُ بالعزم بطل أن يكون بدلًا عن الفعل. قيل: أمَّا التعذرُ فلا يعتبر لكثيرٍ من الأبدال، بل يُعتبر نوعُ مشقّة، بدليلِ المسحِ على الخفيّن مع القدرةِ على غسلِ الرجلين، والعدولِ عن العتق إلى الكسوةِ، وعن الكسوةِ إلى الإِطعام لا لعُذرٍ، لكنه توسعةٌ، لإِزالةِ مشقةِ التعيينِ للغَسل في الطهارةِ، والعتقَ في الكفارةِ. وأمَّا كون العزم لا يُسقطُ وُجوبَ الفعل، فليس ببدل عن أصل الفعل، بل هو بدَل عن فضل التقديم وفعله، فإذا كان على الفعل من أولِ الوقتِ إلى أوسطهِ عازماً، ثم فعلَ في الوقتِ الأخير، صار كأنَّه بعزمه بدأ بالصلاة وطوَّلها إلى الوقت الأخيرِ، لأن تحقُّق العزم على الصلاةِ عملٌ بالقلب ممتدٌّ إلى حين فعلها، فصار كتطويلهَا بعد الشروع فيها، وإنَ لم يكن الإِحرامُ بها في الوقت الأوّل مسقطاً الائتمار (¬1) بها الممتد إلى حين خروج الوقت الأخير في حق من ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا سيما" وهي تحريف.

* فصل: إذا أمر الله نبيه بعبادة، أو فعل فعلا عرف أنه واجب أو ندب أو مباح، فتشركه أمته في الحكم حتى يدل الدليل على تخصيصه

طولها. وعلى أنَّ صوم رمضانَ في السفر، وقضاءه في الحضرِ هو واجبٌ، وإن كان مُخيراً بين فعلِه وتركه لا إلى بَدَلٍ سوى العزمِ على الإتيانِ به في الوقتِ الثاني من وقت الترك. وأما شبهةُ من جعل الوقت واحداً غيرَ معين، وأنَّه لما تخير بين الفعلِ فيها كان كأعيانِ التكفيرِ في كفارةِ التخيير، فالكفارةُ هي الحجة، لأنَّ التكفيرَ وجب من حين الحِنثِ، وإنما خيّرناه في أعيانِها، فلنقل: إنّ الصلاةَ واجبةٌ بالوقت الأول، وإنما خيَّره في الأوقاتِ لأدائها، فأيّ نوعٍ كفَّر به، فالوجوبُ سابقٌ له. فصل إذا أمر الله تعالى نبيّهُ صلى الله عليه وسلم بعبادةٍ، نحو قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الممتحنة: 12] أو فعل فعلاً عُرِفَ انه واجب أو ندبٌ أو مباحٌ فتشركُه أمّته في حكمِ ذلك الأمرِ حتى يدُلَّ الدليلُ على تخصيصه (¬1). وكذلك إذا أمر النبيُّ واحداً من أمته بأمرٍ تبعه الباقون من الأمّة في حكم ذلك الأمر، وإن حكم عليه بحدٍ في جريمةٍ أو كفارةٍ، كان ¬

_ (¬1) انظر: "العدة" 1/ 318، و "التمهيد" 1/ 277 و"شرح الكوكب المنير" 3/ 218، و"المسودة" من (3231) و"شرح مختصر الروضة" 2/ 411

ذلك عاماً في حق كل من ارتكب تلك الجريمة، كقطعهِ لسارقِ رداء صفوان (¬1) ونحوه، أشار إليه أحمد في مسألة الحرام في الطعام، إذا قال الرجلُ في طعامه: هو علي حرامٌ. فجعل حكمه حكمَ تحريم النبي صلى الله عليه وسلم العَسَل الذيمما شربه، فقالت عائشة: أجدُ منك رائحة المغافير (¬2)، وبتحريم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية (¬3). فقد جعل حكمنا حكمه (¬4)، وإن كانت تحلةُ اليمينِ نزلت في النبيّ خاصة. وكذلك قال أحمد: لا يُصلى قبل العيد ولا بعدَها، لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ قبلها ولا بعدَها. وقالت الأشاعرةُ وبعض الشافعيةِ: ذلك يختص النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم دلالةُ التعميمِ لأمته، وكذلك يختص من خاطبه من أمّته إلى أن تقوم دلالةُ العموم (¬5)، وإليه ذهب أبو الحسن ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في الصفحة 219. (¬2) أخرجه البخاري (5267)، ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي لله عنها. (¬3) ورد في الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]. أخرجه النسائي 7/ 71، والحاكم في "المستدرك" 2/ 493، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬4) في قوله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. (¬5) انظر ذلك في "الإحكام" للآمدي 2/ 379 - 386 "التبصرة" للشيرازي =

* فصل في الدلالة على دخول غيره - صلى الله عليه وسلم - في حكم خطابه

التميمي من أصحابنا. فصلٌ في الدلالة على دخولِ غيرهِ صلى الله عليه وسلم في حكمِ خطابِه هو أنه صلى الله عليه وسلم جُعل مناراً للأحكام، وعَلَماً عليها، وقدوةً يُقتدى به فيها، فصارَ خطابُ الله سبحانه له خطاباً لجميع من دعاه إلى الِإسلام، وكذلك حسن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولم يقل: فطلِّقْهن، وهذا يدُلُّ على أنه إذا خاطبه فقد خاطب أمتهُ وجعل خطابُه له نائباً مناب خطابهم. ومن ذلك قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 37]، فأخبر أنه إنّما أباحَهُ ذلك ليكونَ مبيحاً لجميع الأمةِ، ولو كان الأمر يخصُّهُ لما انتفى عنهم الحرجُ بنفي الحرجِ عنه، فصارَ كأنَّه يقول: أرخصنا لكَ في تزويجِ أزواجِ أدعيائكَ لنرخِّص لأمتكَ بذلك اقتداءً بك، ونزولاً على ما شُرع لك، فثبت بهذا أنهم مشاركوه في الحكم الذي يُخاطب به. ومن ذلك: أنَّه كان إذا سُئل عن الحكمِ أجابَ بما يخصُّه، وأحال على نفسه وفعلهِ. فلما سئلَ عن الاغتسال، قال لأمَ سلمة: "أما أنا فأفيض الماء على رأسي" (¬1). ولما سأله الرجلُ عن القُبلة في ¬

_ = ص (73)، و"البحر المحيط" للزركشي: 3/ 186 - 191. (¬1) الذي ورد في سؤال أُم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت له صلوات الله وسلامه =

الصوم؛ قال: "أنا أفعل ذلك" (¬1). ولما اختلف الصحابة رضوانُ الله عليهم في الإكسال والإنزال، رجعوا إلى عاثشة رضي الله عنها، فأخبرتهم بفعله صلى الله عليه وسلم وأنّه كان يغتسلُ من التقاءِ الختانين (¬2). ¬

_ = عليه: إني امرأة أشد ضَفْرَ رأسي، أفاحلهُ لِغُسْلِ الجنابة؟ فقال صلى الله عليه وسلم:" إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضي عليك الماء وإذا أنت قد طهرت". أخرجه: أحمد 6/ 289 و 314 و 315، ومسلم (330)، وأبو داود (251) و (252)، والترمذي (105) والنسائي 1/ 131، وابن ماجه (653)، وابن حبان (1198) والبيهقي 1/ 181، والدارمي 1/ 263. أمَّا إفاضةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسهِ من الماءِ في الغُسل فقد ثبت بأحاديث أخرى في كيفية غسله عليه الصلاة والسلام منها حديث عائشة رضي الله عنها، وقد جاء فيه " ... ثم يفيض على رأسه ثلاثاً، ثم يُصب عليه الماء". أخرجه أحمد 6/ 143 و 173 ومسلم (321) (43) والنسائي 1/ 132، وابن حبان (1191). (¬1) ورد قريباً من هذا من حديث عُمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيقبل الصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سل هذه- أم سلمة-" فأخبرته أن رسول الله يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفرَ الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله: "والله إني أتقاكم لله وأخشاكم له". أخرجه مسلم (1108)، وابن حبان (3538) والبيهقي 4/ 234. (¬2) ورد ذلك من حديث عائشة أنها سئلت عن الرجل يجامع فلا ينزل الماء، قالت:" فعلتُ ذلكَ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا منه جميعاً" أخرجه الشافعي 1/ 36، وابن الجارود (93)، والبيهقي في "السنن" 1/ =

وقولها: قَبَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فصلَّى ولم يتوضأ (¬1). وإذا ثبت أنَّه مطلع الأحكام، صار خطابة خطاباً لهم، ولهذا كان يَتَراءى لهم في العبادات، فقالَ للأعرابيّ السائل عن الصلاة: "صلِّ ¬

_ = 164، وابن حبان (1175). كما ورد عن عائشة أنها قالت: إذا جاوز الختانُ الختانَ، فقد وجبَ الغُسلُ، فعلتُ أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلنا. أخرجه أحمد 6/ 47 و 112 و 135 و 161، وابن أبي شيبة 1/ 86، والترمذي (108)، وابن ماجه (608)، وابن حبان (1176). (¬1) ورد من حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم -: "أنه قبل بعض نسائه ثم خرجَ إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت" أخرجه أبو داود (179)، والترمذي (86)، والنسائي 1/ 104، وابن ماجه (502)، وأحمد 6/ 210، والبيهقي 1/ 126، والدارقطني 1/ 139، وقد أعله أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبخاري، والدارقطني، والبيهقي، بعلة هي: أن حبيبَ بن ثابت لم يسمع من عروة شيئاً. واستدرك ابن عبد البر عليهم ذلك مبيناً صحة الحديث وقال:" لا ينكر لقاؤه عروة لروايته عمن هو أكبر منه وأجل وأقدم موتاً" وقال في موضع آخر:" لاشك أنه أدرك عروة". انظر "الاستذكار" 1/ 323 كما بيَّن الحافظ الزيلعي ورود هذا الحديث من طرق أخرى غير طريق حبيب بن ثابت عن عروة، وهذه الطرق يعضدُ بعضها بعضاً فيصح الحديث بها. انظر "نصب الراية"1/ 73.

معنا" (¬1)، وطافَ راكباً ليقتديَ النّاس به في المناسك (¬2). ومن ذلك: ورودُ تخصيصه صلى الله عليه وسلم في أحكام، مثل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، ولو لم يكن خطابُه المطلقُ يقتضي دخولَ أمتهِ ومشاركتهم، لم يكن لبيان تخصيصهِ ببعضِ الأحكام معنى إذا كان كُلّ خطابٍ يتوجّه نحوه حالصاً له، فلما خصَّه ببعضِ الأحكام، عُلم أنَ بقيةَ الأحكامِ المتّجهةِ نحوه عامّةٌ لأمته. ومن ذلك: أنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم عقَلت ذلك، فقالوا: نهيتَنا عن الوصالِ وواصلت، وأمرتَنا بفسخ الحج وما فسخت. حتى بيّن الفرق فقال: "لست كأحدكم، إني أظلُّ عند ربي فيطعمني ويسقيني" (¬3)، "إني قلدت هديي"، وروي: "سقتُ الهدي، فلا أحلُّ ¬

_ (¬1) جاء ذلك من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فسأله عن وقت الصلاة فقال: "صلّ معنا هذين الوقتين". وتقدم تخريجه 1/ 194. (¬2) عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيتِ على راحلتهِ يستلم الركنَ بمحجن. أخرجه البخاري (1607)، ومسلم (1272)، وأبو داود (1877)، والنسائي 5/ 233، وابن ماجه (2948)، والبيهقي 5/ 66. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 26.

* فصل في الدلالة على أن خطأ به للواحد من أمته وحكمه فيه خطاب لجميعهم

حتى أنحرَ" (¬1)، فلو لم يُعلم أنَّ خطابَ الشرعِ لهم خطاب يدخلُ تحته، لما عابوا عليه ذلك، ولَما أجابهم. فصل في الدلالةِ على أن خطابه للواحِد من أمته وصحابته وحكمُه فيه خطابٌ لجميعهم، وحكم للجميع غير مختصٍّ بمن خاطبه وحكمَ فيه قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله: "بُعِثْتُ إلى الأسود والأحمر" (¬2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خطابي للواحد خطابي للجماعة، قولي لامرأة قولي لمئة امرأة" (¬3). وقال:"حكمي على الواحد حُكمي على الجماعة" (¬4). ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث حفصةَ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شأنُ الناس حلّوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إنّي لبدتُ رأسي وقلدت هديي، فلا أحِلُّ حتى أنحرَ". تقدم تخريجه في 2/ 26. (¬2) ورد في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أُعطيتُ خمساً لم يعطهن نبيٌّ قبلي: بُعثت إلى الأحمر والأسود .... ". أخرجه أحمد 5/ 145 و 148، ومسلم (521)، وأبو داود (489)، والحاكم 2/ 424، وقال ابن حجر هذا حديثٌ صحيح. انظر "موافقة الخُبرِ الخبرَ" 1/ 525. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 121. (¬4) سلف تخريجه 2/ 121.

ومن ذلك تخصيصه لآحاد من أصحابه بالحكم وقصره عليه، كقوله لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة: "تجزئك ولا تجزىء أحداً، أو تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحدٍ بعدك" (¬1)، وقوله لأبي بكرة لما دخل الصف راكعاً: "زادَك اللهُ حرصاً ولا تَعدُ" (¬2)، وقوله للذي زوّجه بما معه من القراَن: "هذا لك وليس لأحدٍ بَعْدك" (¬3)، وكتخصيصه للزبير بلبس الحرير (¬4). ولو كان الحكمُ بإطلاقه خاصّاً لمن يخاطبه به، أو يحكم به عليه وفيه، لما كان لتخصيص أشخاصٍ عدّة معنى، مع كونِ كل مخاطب مخصوصاً بما خوطب به. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 98. (¬2) سلف تخريجه 98/ 2. (¬3) حديث: "قد زوجتكها بما معكَ من القرآن" وردَ من حديث سهل بن سعد الساعدي، أخرجه مالك 2/ 526، وأحمد 5/ 236، والبخاري (2310) و (5135) و (7417)، ومسلم (1425)، وأبو داود (2111)، والترمذي (1114)، والنسائي 6/ 113، والبيهقي 7/ 144 و 236 و 242 وابن حبان (4093). (¬4) ورد ذلك من حديث أنس بن مالك قال: "رخَّصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام في لبس الخرير، من حكِّةٍ كانت بهما". أخرجه: أحمد 3/ 255 و 272، والبخاري (2921) و (2922) و (5839)، ومسلم (2076) (25)، وأبو داود (4056)، والنسائي 8/ 202، وابن ماجه (3592)، والبيهقي 268/ 3 و 269، وابن حبان (5430) و (5431).

ومن ذلك: إجماعُ الصحابة على رجوعهم فيما سئلوا عنه وحدَث من الحوادث، إلى قضاياه صلى الله عليه وسلم في أشخاص، وخطابه لأشخاص مخصوصين: مثل رجوعهم في حد الزنا إلى حكمه صلى الله عليه وسلم في ماعز (¬1). ورجوعهم في الجنين إلى حكمه في قصة حَمل بن مالك (¬2)، ورجوعهم في ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1694)، وأبو داود (4431) من حديث أبي سعيد الخدري. ورواه مسلم (1695)، وأبو داود (4433) من حديث بريدة، ورواه البخاري (5271) ومسلم (6191) وأبو داود (4428)، والترمذي (1428) من حديث أبي هريرة، ورواه البخاري (6824) ومسلم (1693)، وأبو داود (4421) و (4425) و (4426) و (4427) من حديث ابن عباس، ورواه أبو داود (4419) من حديث نعيم بن هزال. ورواه مسلم (1692) وأبو داود (4422) و (4423) من حديث جابر بن سمرة، ورواه البخاري (5270) ومسلم (1751)، والتر مذي (1429) وأبو داود (4430) من حديث جابر بن عبد الله. (¬2) قصةُ حَمَل بن مالك وردت من حديث أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هُذيلٍ اقتتلتا، فرمت إحداهما الأُخرى بحجر، فأصاب بطنَها وهي حاملٌ، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى أنَ ديّة ما فى بطنها غُرَّةٌ عبدٌ أو أمةٌ، فقال وليُّ المرأة التي غرمت: كيف أغرَمُ يا رسولَ الله من لا شربَ ولا أكل، ولا نَطَق ولا استَهَل، فمثلُ ذلك بَطل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَما هذا من إخوان الكُهان". ووليُ المرأةِ هو حَمَلُ بن مالك بن النابغةِ الهُذَليّ وهو صحابي نزل البصرة. أخرجه من حديث أبي هريرة. البخاري (5758)، ومسلم (1681)، وأبو داود (4576)، والنسائي =

- فصل في اعتراضاتهم وأسئلتهم على هذه الأدلة

المفوضة إلى قصة بَروع بنت واشق (¬1)، ورجوعهم في المجوس في باب الجزية إلى وضعه صلى الله عليه وسلم الجزية على مجوس هجر (¬2)، وهذا منهم يدُلُّ على أنّهم علموا وعقلوا أنَّ حكمَه صلى الله عليه وسلم في الواحد حكمٌ في كلّ من تَجدَّدَ له مثلُ ذلكَ الأمرِ الذي حكم فيه، ما لم تقمْ دلالةُ التخصيص. فصل في اعتراضاتِهم وأسئلتهم على هذه الأدلّة فمن ذلك قولهم: إن هذه كُلَّها أخبارُ آحاد مظنونةٌ، لا تصلحُ لِإثباتِ هذا الأَصلِ الذي طريقهُ العلْمُ. ¬

_ = 8/ 48، والترمذي (1410)، وابن ماجه (2639). (¬1) المفوَّضة: هي المرأةُ التي لم يُفرض لها الصَداقَ في العقد، وقد سئلَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حكم المتوفى عنها زوجها ولم يفرض لها الصداق في العقد، ولم يدخل بها، فقال: لها الصداق كاملاً، وعليها العدةُ، ولها الميراث، قال معقل بن سنان: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنتِ واشق بمثلِ ذلك أخرجه: أبو داود (2114) و (2115) و (2116)، والنسائي 6/ 121 - 123 والترمذي (1145) وابن ماجه (1891)، وابن حبان (4098) و (4099) و (4100) و (4101)، والحاكم 2/ 180 - 181. ووافقه الذهبي. (¬2) حديث وضع الجزية على مجوس هَجَر: أخرجه البخاري (3156) و (3157)، وأبو داود (3043)، والترمذي (1586) و (1587).

- فصل في الأجوبة عما ذكروه

ومن ذلك قولُهم: إنما صاروا إلى العملِ بذلك بدلائلَ قامت وقرائنَ ظهرت أوجبت العمومَ وتعديةَ الأحكام ممن خوطبَ وحُكمَ عليه إلى غيرهِ، لا بنفس الخطاب والحكم. فصل في الأجوبةِ عما ذكروه أما أخبارُ الأحادِ المتلقاةُ بالقبول، فصالحة عندنا لإثباتِ أصول الدياناتِ، ولأنَّ أصولُ الفقهِ لا يطلبُ لها القطعياتُ، ولو كانت كذلك لما سوَّغنا خلافَ المخالفِ، ولفسقنا أو كفرنا من خالفنا، كما قلنا في الأصولِ المتعلقةِ بالله سبحانه وبصفاته وما يجوزُ عليه وما يستحيل عليه، ومايجب له. ولما كانت أدلةُ ذلك قطعية لم نسوَّغ الخلافَ فيها، وفسقنا المخالفَ لنا أو كفرناه على حسب موضعِ الخلافِ منها. وأمَّا دعوى الدلائل، فالأصلُ عدمُها، ولو كانت موجودةً لكانت منقولةً، لا سيّما مع كثرةِ العملِ بذلك والبلوى به، والأصلُ عدمُها إلى أن يوضِّحوا الأدلة فيها. فصل يجمع شبهَهم في ذلك فمن ذلك قولُهم: إن خطابَ الواحدِ موضوع في الأصل لذلك المخاطب، كما أن الخبرَ عنه موضوع له، ولما أخبرَ به عنه خاصةً، بدليلِ أنَّ أمرَ السيدِ لعبدٍ من عبيده لا يكونُ أمراً لغير من واجهه

بالأمر، وكذلكَ إذا أخبر عن الواحدِ من عبيدهِ لم يكن خبراً عن غيره، وإذا كان هذا هو أصلً الوضعِ، فتعديتهً إلى غيرهِ تحتاح إلى دليلٍ، ومتى قام دليل على التعدية اتفقنا على القولِ به، لأنه يخرجُ عن خصوصهِ بالدليلِ إلى العموم، كما يخرجُ العمومُ عن عمومهِ بالدليل إلى الخصوص. والدليل الذي يتعدّى إلى غيرِ المخاطَبِ، هو الدليلُ الذي جعل خطابهَ صلى الله عليه وسلم لأهل عصرِه الموجودين من الأحياءَ العقلاءِ البالغين، خطاباً لمن لم يأتِ من أهلِ الأعصار المستقبلةِ المعدومين، وليس ذلك إلا دليلًا يدلّ على التعديةِ إلى أولئك. كذلك هاهنا. وانَّما لم ينصرف الخطابُ إلى المعدومين بمطلقِ اللفظِ، لأنه لا يصلحُ للمعدوم بيا أيها الناس، ويا أيها الذين آمنوا، ولا باستدعاءِ الأعمال منهم والتَروكِ، كالصلاةِ والصيام، إذ لا وجودَ لهم، ولا حقيقةَ فضلاً عن أوصاف يصفهم بها من إيمَانٍ وغيره، ولا أعمال لهم يستدعيها، كذلكَ ليس في خطاب الواحدِ صلاح لخطاب الجماعة، فإذا جاءت دلالةٌ فصرفته إلى المعدَوم بان يقول: هذا خَطابي للقرنِ الدين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، وَللذين رأوني، ولمن بَلَغ، ممّن بعد عني وعنهم. حينئذٍ صرفنا ذلكَ إلى من قامت الدلالةُ على صرفِ الأمر إليه وتعديتهِ إلى خطابه. فهذا من طريق اللغة واللسان، فأمَّا من طريق المعقول: فمن ذلك: أنَّ من المعلومِ أنَّ الأمرَ بالشيء قد يكون مصلحةً

لشخصٍ بعينه، مفسدةً لغيره، لاختلافِ الأشخاصِ في ذلك، فاذا صرفَ الشارعُ الأمرَ إلى شخص بعينه، لم يجز الإقدامُ على تعديته إلى غيره إلا بعد العلمِ بأنه مصلحة للآخر، ولا سبيلَ لنا إلى العلم بمساواةِ المخاطَب لغيره إلا بدلالةٍ تقومُ من جهةِ من صدر الخطابُ عنه سبحانه. وما صارَ ذلك إلا بمثابةِ حكيم من حكماءِ الطب، أمرَ مريضاً بشرب دواءٍ، أو وَصَف له حِميةً عن نوعٍ من الغذاء فإنه لا يجوزُ أن يعدي ذلك الأمرَ، ويعم بذلكَ الدواءِ أو الحميةِ غيرَه إلا بدلالةٍ أو قرينة من جهةِ الحكيم الواصفِ، لتفاوتِ الأمزجةِ في الأشخاص، كذلكَ يجبُ هاهنا أن يمنعَ من التعديةِ إلى غيرِ المخاطب لتفاوتِ ما بين المكلفين من المصالحِ، وقد انكشفَ ذلك بما ظهرَ من مغايرةِ الشرعِ بين النساءِ والرجالِ والأحرارِ والعبيد، والمسافرِ والحاضرِ، والمريض والصحيح في صفاتِ التكاليفِ ومقاديرها، وان اجتمعوا كلُّهم في إرسالِ النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلا يلزمُ من تساويهم في إرسالهِ إليهم تساويهم في خطابهِ لهم، كما أنهم اجتمعوا في التكليفِ واختلفوا في أحكامِ التكليف. قالوا: ولاسيَّما ماظهرمن تخصيصِ النبيّ صلى الله عليه وسلم من أُمته وتمييزه عنهم بإيجاب واجبات واباحةِ مباحات، وحظرِ محظورات لم يشاركه فيها أحد مَن أمّته، فكيفَ يجوزُ أن يعدى حكمُ خطابهِ إلى غيرِه من أمته، مع الحالِ المعلومةِ من تخصُّصه، بل لا يجوزُ ذلكَ إلا بدلالةٍ تعم أمته وتوجبُ تعدي حكمه إليهم.

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

فصل يجمع الأجوبةَ عن شبههم أمّا خطابُ الواحدِ ومواجهتُه بالأمرِ من طريقِ اللغةِ، فإنه يختصّ المخاطَب، ولا يقتضي بموجَب اللغةِ تعديتَه الأمرَ إلى غيره، إذ ليسَ في لفظِ الواحِد وخطابهِ ما يصَلحُ لغيرِه، لكنّ خطابَ الشرع تمهد تمهُداً صارَ وِزانُهُ من اللغة ما تمهد فيه العرفُ؛ وهو أنَه جعل مَن أوّل الوحي إليه مناراً ومتبعاً وقدوةً للأمة، فإذا قيل له: افعل كذا، دخلوا تبعاً، وصار في باب اللغةِ كالأمرِ بالركوب والمسيرِ ولقاءِ العدوّ لمن عُقِدَت له الأمارةُ، وجُعل له منصبُ الاقتداءَ به، فإنه اذا قيل له: اركب الى بني فلان، وحارب العدوَّ، وشن الغارةَ على بلاد كذا، كان ذلكَ منصرفاً إليه وإلى جيشه وأتباعه، وكذلكَ في الخبر عنه اذا قيل: ركبَ الأمير، ودخلَ بلدَ كذا، أو فتحَ ثغر كذا أو حصن كَذا. فإن ذلكَ كُله ينصرفُ إلى الأميرِ وجيشهِ وأتباعهِ دون اتحاده وتخصصه بما أُمِرَ به، أو أخبَر عنه. فأمَّا قولُهم: إن المصالحَ والمفاسدَ قد تكونُ بحسب اختلاف الأشخاص. فذلك ليس بمعتبر، فإنَّ التكليفَ لا يقفُ على الأصلح، ولأنَّ استواءَ الكل فَي التكليف كافٍ في ذلك. وإن جاز أن يختلفوا في الأصلحِ، كاستواءِ الأصلِ والفرع في باب القياسِ لاجتماعهما في أمارةِ الحكم، وليس ما نصبه من الَدلائِل والآياتِ على كونهِ متبوعاً ومناراً للأحكام بأدونَ من أمارةِ شَبهٍ، أو لأدلةٍ تجمعُ بين المسكوتِ عنه، وهو الفرعُ، والمنطوق به، وهو الأصلُ في باب القياس، وإن جاز

* فصل: إذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بأمر شرعي دخل هو في ذلك الأمر

أن يكونَ الأصلحُ في الأصلِ المنصوصِ عليه بالحكمِ، والمفسدةُ في تعديةِ الحكم إلى الفرع، فمن تجاسر على الإلحاقِ والتعديةِ بأمارةِ القياسِ لا يَجبُن عن إدخالِ الشخصِ المكلفِ الذي لم يخاطب مع من خاطبَه الشرع في الحكمِ الذي علقه عليه. وفارقَ خطابَ السيدِ منا لعبيده، فإنَّه لو قال: أكرِم زيداً لأنه أسود، ولا تأكل السُّكرَ لأنه حلو. لم يوجب ذلكَ التعديةَ إلى كل أسود وكُل حلوٍ. ولو قال صاحب الشريعة ذلك لوجبت التعديةُ إلى كل محلٍ وجدت فيه تلك الصفة. وأما تخصيصُ النبي صلى الله عليه وسلم بأحكامٍ لا يمنع من دخولنا معه في مطلق الأحكام، كما أن بعضَ الأحكام قد تقع تحكماً على غيرِ المعقولِ، وتخرج عن القياس، ولا يمنعُ جوازُ ذلك من عملِنا بالمعقول والقياس ما لم ترد دلالة التخصيص والتحكم. فصل إذا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته بأمرٍ شرعي، دخل هو في ذلك الأمر (¬1)، وبه قال أصحاب الشافعى في أحدِ الوجهين (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر ذلك في "العدة" 1/ 339، و"المسودة" ص (32 - 34)، و"التمهيد" 1/ 269، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 222. (¬2) وهو ما اختاره الجويني في "البرهان" 1/ 364، والغزالي في "المستصفى" 2/ 88 - 89، والرازي في"المحصول" 2/ 150، بشرط عدم وجودِ قرينة تفيدُ خروجَ المخاطِبِ من عموم خطابه.

- فصل يجمع أدلتنا في ذلك

خلافاً للوجه الأخر (¬1)، ولأكثر الفقهاء والمتكلمين (¬2)، وقد حكى شيخنا الإمام أبو يعلى بن الفراء كلامَ أحمد في عدة مواضعَ بما يعطي دخوله في أمره الشرع. فصلٌ يجمع أدلتنا في ذلك فمنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأمرُ أصحابَه بالأمرِ فإذا تخلَّفَ عنه سألوه: ما بالُكَ لم تفعله؛ ولو لم يعقلوا دخولَه في الأمر لما سألوه. فمن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، ولم يفسخ، فقالوا له: أمرتنا بالفسخ ولم تفسخ، فلم يقل: وأين أنا منكم، وكيف يلزمني أنا ما أمرتكم به، بل عدل إلى الاعتذار بالأمر الذي يخصه، وهو سوقه للهَدي، فقال: "إني قلدت هدي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أنحر" (¬3) وروي: " لو ¬

_ (¬1) وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وعليه أكثر الشافعية، وفق ما قرره الشيرازي في التبصرة ص (73)، والزركشي في "البحر المحبط" 3/ 192 فلا يدخل المخاطِبُ في عموم خطابه إلا بدليل. (¬2) ذهب بعضُ الأُصوليين إلى مذهب توفيقي، يجمع بين القولين ومفاده: أنه إذا نظر إلى اللفظ بحسب وضعه اللغوي وعمومى المستغرق فمنه يشمل المخاطِب، واذا نظرَ إلى العرف والاستعمال اللغوي اقتضى خلاف ذلك. انظر "البحر المحيط" 3/ 193. (¬3) تقدم تخريحه 2/ 26.

استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرةً" (¬1)، وهذا يدُل على أن حكمه وحكمَهم في المشروعِ سواء. ومن ذلك: أن حقيقةَ الأمرِ الصادرِ من جهتِه في أحكامِ الشرع أنه مخبر لا آمرٌ، ألا تراه كيف تلا: {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق: 1]، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف: 110]، كما قيل له، والحاكي منا لكلامِ الأمرِ له بحذف: قل؛ لأنَّها أمرٌ بالبلاع، فيتشاغل بالبلاعِ لما أمِرَ به، ويدع كلمةَ الأمرِ وصيغتَه. والنبي صلى الله عليه وسلم أدَى كلمةَ الأمرِ له كما جاءت, ومن كانَ كذلكَ صارَ بالأمرِ الذي جُعل جهةً له آمراً له ولِمن بلغه من أمته، فكانَ تقدير كلِ صيغةٍ تردُ على لسانِه الكريم تشريعاً، والشرعُ شاملٌ له والكل متبع، فصارَ تحقيقُ ذلك أنَّه جهةٌ للأمر، لا آمرٌ حقيقةً، إذ المستدعي غيرَه بلسانِه وقوله. فمن هاهنا كان داخلاً، ومتى تحقق هذا كذا كان الخلافُ زائلًا مرتفعاً لأنه ليس أحد يقول: إنً الأمر يأمرُ نفسَه، وكيف يقول عاقلٌ ذلك، وشريطةُ الأمر أن تصدَر الصيغةُ من أعلى خِطاباً لأدنى، والواحدُ لا يكونُ أعلى من نفسه وأدنى منها، فلم يبقَ إلا ما ذكرنا أنَّه جهة لأمرِ الله ومبلغ عنه، لا آمر حقيقةً. وأيضاً: فإنَّ الإلقاءَ من الله سبحانه إليه، وفي روعه آكدُ من اجتهادِه واستثارته، ثمً إنه إذا كان مجتهداً أفتى الغيرَ وكانت فتواه لنفسه وعلى نفسِه، قال صلى الله عليه وسلم: "استفت نفسكَ وإن أفتاك ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث جابر أحمد 3/ 325، والبخاري (1651)، ومسلم (1216) وأبو داو (1784)، والبيهقي 5/ 7، 8، 9.

- فصل في جمع شبههم

المفتون" (¬1)، فما بلّغه الله إليه، ويعلم به غيره أولى في أن يدخل فيه ويكونَ إخباراً لنفسه وإعلاماً لها. فصلٌ في جمع شبههِم فمنها أن الأمرَ استدعاءٌ وطلبٌ من الأعلى للأدنى، وهذا لا يتحققُ في الواحدِ أن يكونَ مستدعياً ومستدعىً فيه باستدعائه، ولا أعلى من نفسه. وأدنى. ومن ذلك: أنَّ صيغةَ الأمرِ لنفسهِ على طريق الوحدةِ لا تصحُّ، ولا علّة في نفي صحّتها، إلا أنَ حقيقة الأمر لا تتسلط على الأنسانِ إلا من جهةِ غيره، كالمخبر لا يكونُ مخبراً لنفسه، ولا ناهٍ يها، ولا منادٍ بها، كذلكَ لا يكون آمراً لها. وإذا ثبتَ فسادُ ذلك في حق أمرِه لنفسِه على الوحدة، ثبتَ فسادُ القولِ بأنه أمرٌ لها في جملةِ غيرها من المأمورين. فصلٌ في الأجوبةِ عنها أما الأول: فإنَّنا قائلونَ بموجبهِ، وأنَّه ليس بآمرٍ لنفسهِ، إنَّما هو مخبِرٌ بأمرِ الله سبحانَه، وأنَّ ما أخبر به فهو شرعهُ، وهو أوَّلُ داخلٍ في التزام ما شرعه اللة له ولأمته، وقد أوضحنا كونه مخبراً من حيث أنه يؤدي صيغةَ القول له أو الملقى في رُوعه بالوحي إلى قلبه، فيقول: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 161.

قيل لي: قل كذا، هذا هو الحقيقة، لا أنه مبتدىءٌ باستدعاءٍ أوطلبٍ من جهة نفسه، ولهذا أعاد صيغ الأوامر بقوله: قل، واتل ما أوحي، ولو لم يكن مخبراً لوسعه أن يتلو ولا يحكي قول الملك له: اتلُ، ولا يقول: قل، بل يبتدىء فيقول: (أعوذ بربِّ الناس)، (أعوذ بربّ الفلق)، (إنما أنا بشر) ولا يقل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف: 110]، وإلى أمثالِ ذلك في كتابِ الله. وأمَّا إفرادُه لنفسه بالأمرِ، فبالصيغة التي تَرِدُ من قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64]، كذاك نقولُ وأنه يحسُنُ وقد كان ذلك، فأمَّا أوامرُه من غير الكتاب، فما هي إلا بطريقِ الكتاب، وهو الوحي إليه، فينطقُ تارةً بقرآن، وتارةً بكلامٍ يُضاف إليه إضافةً لا إضافةَ إنشاء، وكيف يُظن بأن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحكمٍ شرعيٍ من قِبَلِ نفسِه، فإذا بَطَلَ هذا، لم يبقَ إلا أنَّه مخبرٌ وحاكٍ، سواء كان ما ينطقُ به قرآناً أو غيره. فإن قيلَ: فعندكم أنه قد يأمرُ بالحكم من طريقِ الاجتهاد، فإذا قالَ ذلكَ كَان أَمَراً من جهة نفسه، فيجبُ أن لا يدخلَ عندكم فيما يصدرُ عنه منَ اِلأمرِ الذي يقولُه عن اجتهاده. قيل: اجتهادُه لا يُقَر فيه على خطأ، فمتى اجتهدَ ولم يُرد بالوحي كان إقرارهُ عَلى ما اجتهدَ فيه حُكمُ الله الذي جرى على قلبه ولسانِه صلى الله عليه وسلم، ولأنَّ اختياره مستند إلى المنطوق به، فيأخذُ المسكوت عنه من المنطوق به، ومن تعلّق بمثالِ السيد مع عبيده، وأنَه لا يدخل في أمره لهم معهم، فقد أبعد النجعة، لأنَّ السيد أمرَ بنفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم على ما سبق من أدلتنا، يخبر

* فصل: الأمر المطلق يشتمل على العبيد فلا يحتاج دخولهم فيه إلى قرينة ولا دليل

عن غيره عن أمرٍ بنفس لنفسِه، فلا يلزم المثال ولا يشابه ما نحن فيه بحالٍ، لكنَّ المثال المسند للنبي أن يكون قد أمر بعضَ عبيده على بعضٍ، فإذا قال الآمر: (قيل اركبوا)، دخلَ الآمر في الجملةِ. فصل الأمر المطلق يشتملُ على العبيدِ، فلا يحتاج دخولهم فيه إلى قرينةٍ، ولا دليلٍ. وقد أشار إلى ذلك في عدة مواضع (¬1)، فأدخلهم في باب الشهادة، والإيلاء، واللعان، وأسند ذلك إلى عموم الآي الوارد في ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) أي: وقد أشار أحمد رحمه الله إلى ذلك في عدة مواضع، وانظر إلى هذه المواضع في "العدة" 2/ 348، وراجع المسألة في "التمهيد"1/ 281، و"المسودة" ص (34)، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 242. (¬2) يقصد عموم الآية الواردة في الشهادة مثل قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. حيث نقل عن الإمام أحمد القولُ بجواز شهادة المملوك إذا كان عدلًا، أخذاً بعموم الآيات الواردة في الشهادة. وعموم الآيات الواردة بالإيلاء، بحيث نقل عن الإمام أحمد القول بأنَّ على العبد إيلاءً، وإيلاؤه أربعةُ أشهر، وقال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. فلم يفرِّق بين الحرِّ أو العبد. وعموم الآيات الواردةِ في اللعانِ في قوله سبحانه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} حيثُ يدخل العبيدُ في الخطابِ، وفق ما نقل عن الإمام أحمد.

- فصل يجمع أدلتنا على ذلك

وإلى هذا ذهبَ أكثر الناس، وهو قول أبي بكر الباقلاني، وأبي عبد الله الجرجاني الحنفي، وكُل من أنكر العموم من المحققين، وبه قال أصحابُ الشافعيِّ في أحد الوجهين (¬1). وقال بعضهم: لا يدخلون في العموم، بل بدلالة تخصْهم. وحكى أَبو سفيان (¬2) عن الرازي أنهم لا يدخلون فيما كان من حقوق الآدميين. فصل يجمع أدلتَنا على ذلك فمنها: أنه قد دخلَ في الخطاب، وهو التكليفُ، ومن قال بالعموم وأثبتَه ولم يُدخل العبدَ في عموم الخَطاب، فقد أبعدَ وخلّط، وذلكَ أنَّ العبدَ يدخُل في جملةِ الناس والمؤمنينَ والمكلفين، فإن قال صاحب الشرع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، يا أيها المكلَّفون، دَخَلَ في هذه الجُملِ لوقوعِ الاسمِ عليه على الوحدة، وكلُّ من ¬

_ (¬1) وهو الصحيح من مذهب الشافعي، حيث قال أكثر الشافعية إن العبيدَ يدخلون اتباعاً لموجب الصيغة. وهناك وجهان آخران: أحدهما: أنَّ العبيدَ لا يدخلون الا بدليل لأنهم أتباع الأحرار. والثاني: إن تضمن الخطابُ تعبداً توجه إليهم، وان تضمن ملكاً أو عقداً أو ولاية لم يدخلوا فيه. انظر "البرهان" 1/ 356، و"المستصفى" 2/ 77، و "الإحكام" للآمدي 2/ 393، و "البحر المحيط" 3/ 181. (¬2) هو محمد بن أحمد السرخسي سترد ترجمته في الصفحة 361.

- فصل جامع لشبههم

دخل في اسمِ الواحدِ من الجملةِ، دخلَ في عمومِ الأسماءِ. وقد ثبت أنه يحْسُن أن يقال له: يا إنسان، يا مؤمن، يا مكلف افعل كذا، أو لا تفعل كذا، وإذا قيلَ لثلاثة أعْبد: يا أيُّها الناس، يا أيها الدين آمنوا، يا هؤلاء المكلّفون. صح أيضاً، فلا وَجْهَ لنفي دخولهم في إطلاقِ قولِ الشرع: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الناس، لأنَ ما استحقوا به الخطاب، وصلحوا له في حالِ الانفرادِ موجود فيهم في حال اجتماعهم مع الأحرار. ومن ذلك: أنَّ الرِّقَ ليس بمنافٍ للتكليفِ وخطاب الشرع، بل هو بلوى بحقّ ألزمه رقبته، إما امتحاناً أو عقوبةً لأجل الكَفر، وكلاهما لا يمنعُ اتجاهَ خطاب اللهِ سبحانَه إليه، كالمستحق قتلُه بقودٍ، ويدُه بقَطْعٍ في سرقة، وحبسه بدينٍ لآدمي، ومنافعه لعقدِ إجارةٍ عليه، وعقدِ نكاحٍ في حق المرأة، هذا كُلَّه لا يمنع اتجاه الخطاب إليه، كذلك الرّق. ولذلك صح أن يملكه اثنان، ويتجه نحوه أمرهما ونهيهما، واذا لم يتنافَ ملكُ اثنين وما يوجبه ملكُهما، فأحرى أن لا يتنافى إطلاقُ خطاب اللهِ سبحانَه له وأمر آدميّ مالكٍ له بحكمِ الرّق، لا بحكمِ ملكِ جَواهره وعينِ ذاتِه، مع كونِ الآدمي في تملّكه دخيلًا، ومُلكِ اللهِ هو الأصل سبحانه في ملكِ الأعيانِ والجواهر. فصل جامعٌ لشبههم فمنها: أن منافعَهم التي تحصلُ بها الأعمال، وتمتثل بها الأوامرُ مملوكةٌ عليهم لسادتِهم، فلا يلزمُهم حكم خطابِ خالقِه وخطابِ سيده

الذي ملكه الخالقُ رقِّه وألزمه طاعتَه. ومن ذلك: أن أكثرَ أوامرِ الشرعِ لا تتجه نحوَه، ولا تلزمه، كالجمعةِ والجهادِ والحجِّ، ولا يصح تبرُّعه ولا إقرارُه بالحقوقِ البدنيةِ ولا الماليةِ ولا له ولا به، ولا يملكُ التصرّفَ في نفسِه، فلا وجهَ لاتجاه الخطاب نحوه. ومن ذلك: أنه يملك منعَه من التعبُّدِ على وجهِ التطوّع والتنفّل، فلا يتّجه نحوه مطلق الخطاب لأجلِ حقِّ من مَلَك منعَه من التطوع بأمثالِ ما يحصل به خطابُ الشرع للأحرار. فصل في جمع الأجوبةِ عن شبههم إنَ تملُّكَ السادةِ لمنافعِهم لا يمنعُ اتجاهَ مطلقِ أمرِ الله سبحانَه إليهم، كما لم يمنع خاصَّ خطابِه لهم، ولو كانت حقوقُ الموالي وسادة العبيد مانعةً من دخولهم في عموم خطاب الله، لمنعتْ من اتجاهِ أوامرِه الخاصَّةِ إليهم، كآحادِ الأدميين نحو المالكين، لما لم يلزمهم عام أمرهم لأجلِ حقوقِ أموالهم وتملكِ منافِعهم عليهم لم يلزمهم خاصُّ أمرهم لهم، وخطابُهم إيّاهم. ولأنَّ تمليكَ منافِعهم بلوى من الله، وتكليفٌ منه إياهم طاعةَ سادتِهم في خدمتِهم وصرفِ منافعِهم في امتثالِ أوامرهم، والله سبحانه لا يمنع بعضَ أوامره بعضاً، عقوباتٍ كانت أو عباداتٍ، فإن الرِّق لا

يخلو من أن يكونَ بلوى أو عقوبةً، لأنَّه في الأصلِ أثرُ الكفرِ، وايجابُ الحدودِ والقصاصِ لا يمنعُ من دخولِ من لزمَه ذلك في مطلقِ أوامرِ الله سبحانَه، وان كانت بلوى كانت بمثابةِ الأمراضِ والفقرِ وغيرِ ذلك، وهي غيرُ مانعةٍ من دخولِ الممتَحنِ في عمومِ الخطابِ، وكما لم يمنع كلًّ ذلك اتجاهَ خاصِّ الخطابِ نحوهم. وأمَّا خروجُهم من بعضِ الأوامرِ كالجمعةِ والجهابِ فما دخلوا فيه من أوامرِ الشرع أكثر، كالصلواتِ والصيام والكفاراتِ والحدودِ، فإنْ تعلقتم بما خرجوا منه، تعلقَ عليكم بمادَخلوا فيه. على أن الذي خرجوا منه خرجوا بأدلةٍ أوجبت إخراجَهم، وما دخلوا فيه فمطلقُ الأمرِ والخطاب. ولأنَّ الفقراءَ والزمنى والمرضى والمسافرين أخرجهم العجزُ عن كثيرٍ من العبادات أصلًا تارةً ومقداراً أخرى، ثم دخلوا في مطلق الأمر حيث كان خروجُهم عما خرجوا عنه بعجْزٍ وعذرٍ قامت بإخراجهم لأجله أدلَّة، فكذلك هؤلاء، وأما تملّكُ سيدِه منَعَه من النوافلِ، لا يمنعُ دخولَه في مطلقِ أمرِ الله له بالفرائضِ، كما أنه يمنعُه من سائر النوافل، ولا يمنعُه ذلكَ دخولَه في الأمرِ الخاصّ له بالفرائض، فهو في باب الأوامر الخاصة والفرائض الناجزة كالحر، ولهذا صححنا فرائضه عن حال إباقه ولم تخرجوها في حقَه عن كونِها قربةً، ولم نصحَّح نحن منه النوافلَ رأساً، وأنتم أخرجتموها عن كونها قربة، ما ذلكَ إلا لأنَّه فى الفرائضِ كالحرِّ، وفارقَ بهذا ما أشاروا إليه من أوامرِ الأجانب لأنهم لا مُلكَ لهم ولا حق، والله سبحانه مالكٌ لكلِّ المالكين، فلاَ يمنعُ من ألجاه أمرُه حق أضعفِ المالكين، ومن ملكه أضعف

* فصل: ويدخل النساء في مطلق الأمر

الملكين، كما لم يمنع اتجاهَ خصوص أمرِه ونهيه، بخلافِ الأجنبي من المخلوقين. فصل ويدخل النساء في مطلق الأمر (¬1). وبه قال ابن داود. خلافاً لأكثر أصحاب أبي حنيفة (¬2) وللأشعرية، ووافقهم القاضي أبو بكر بن الباقلاني. وأصحابُ الشَّافعيِّ لا يُدخلون إلا بقرينةٍ أو دلالةٍ (¬3). ¬

_ (¬1) هو رأيُ أكثرِ الحنابلة، وخالفَ في ذلك أبو الخطاب فرأى أن الأقوى عنده هو أن المؤنث لا يدخلُ في الجمع الذي ظهرت فيه علامة التذكير، إلا أنَّه نصرَ قولَ الحنابلة في الأدلة. انظر "العدة" 2/ 351، و"التمهيد" 1/ 290، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 334. (¬2) مذهبُ الحنفية كما- قرره السرخسي في "الأُصول" 1/ 334 أن جمع المذكر السالم يتناولُ الذكورَ والِإناثَ جميعاً، ولا يتناولُ الِإناثَ المفردات انظر "أصول السرخسي" 1/ 334، وهذا ما يؤكده ابن الهمام في "التحرير" حيث يقول بعد عرضه لأدلة أكثر الأصوليين القائلين بعدم دخول الِإناث في جمع المذكر السالم، ولأدلة الحنابلة القائلين بدخولهن: "وحينئذ ترجح الحنابلة- أي قولهم- وهو قول الحنفية" انظر "تيسير التحرير" 1/ 334. (¬3) هو رأيُ أكثرِ الشافعية وهو الراجح المعتمد عندهم، انظر "المستصفى" =

- فصل في جمع أدلتنا

فصل في جمع أدلتنا فمنها: أن عادةَ أهلِ اللغةِ تغليبُ جمعِ التذكير إذا اجتمعَ المذكرُ والمؤنثُ في الخبرِ والأمر، فيقول قائلهُم للنسوة على الانفراد: ادخُلن، وإذا كان معهم ذكور قال: ادخلوا، قال الله سبحانه لآدم وحواء: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، وهذا خطاب الذكور. وتقول العربُ للمرأةِ: قومي، وللثلاث: قُمْن، وللرجلِ والمرأتين: قوموا، وكذلك عادتُهم تغليبُ جمعِ ما يعقلُ إذا كان معه من لا يعقِل، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45] حتى إنه إذا وصفَ ما لا يعقلُ بصفةٍ تختصُ من يعقل غُلِّب فيه جمعُ من يعقل، قال الله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهذا جمعُ ما يعقل لما وصفها بالسجود، وهو فِعلُ من يعقل، جمعها جمع من يعقل. فإذا ثبتَ هذا من عادةِ العرب، وورد في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] دخلَ فيه المؤنثُ تَغليباً للتذكير، وكذلك في التثنية تقولُ العرب في الرجل والمرأة: قاما، وهذه ¬

_ = 2/ 79، و"التبصرة" ص (77)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 386، و"البحر المحيط" 3/ 178.

صورةٌ تثنيةِ الذكرين، والله أعلم. ومن ذلك: أنَّ أكثرَ أوامرِ الشرع خطابُ المذكَّر، والإجماعُ منعقدٌ على دخولهنَّ في الخطابِ، وما ذَاكَ إلا اعتماداً على دخولهنّ في خطابِ المذكر تبعاً. ومن ذلك: أنَّ العربَ دأبها تُغلبُ الأكثرَ على الأقل، ومعلومٌ أننا غلبنا التذكيرَ على التأنيث، وإن كان عددُ الإناث أكثرَ دلَّ على أنَّه الوضع الأصلي. ومن ذلك: أنَّ الغالبَ أنَّ النساءَ تابعاتٌ للرجال، وقلَّ أن يختص في الخطاب نساء حلةٍ أو قريةٍ أو بلدةٍ في مكاتبةٍ أو مخاطبة، إنما يُسْتَتْبَعْنَ استتباعاً، ويستهجنُ من العربي أن يقول لأهل بلدٍ: أنتم الآمنون، ونساؤكم آمنات، بل إذا قال: أنتم آمنون، تبعَ النساءُ في ذلك، وكذلكَ إذا كان بحضرته رجال ونساء فقال: قوموا، سَمُجَ في اللغة أن يقول: وقمن. فعادة أهل اللغة في الاستتباع لهن مغنية عن تخصيصهن بالخطاب، فكان مطلقُ خطابِ الشرع كذلك، حتى إنَ في البهيم من الحيوان يسمجُ أن يقولَ الرجلُ: عندي مئةٌ من الخيل، ومئةٌ من الجمال، كما يقول: مئة من الرقيق معَدّات ومُعَدّون، لتبعهم ولتبعهنّ، بل يُطلِقُ الجمعَ الصالح للذكورِ فقط قنوعاً به وتعويلاً عليه.

- فصل في جمع الأسئلة على ذلك

فصل في جمع الأسئلة على ذلك فمنها: أنْ قالوا: تغليبُ العربِ للتذكيرِ في بابِ الجمع لا يمنعُ انصرافَ جمعِ التذكيرِ إلى ما وُضِعَ له، كما أنهم قد غلبوا أسماءَ المجازِ على الحقائقِ في قولهم: راوية، وغائط، فوضعوه لغيرِ ما وُضع له في الأصل، وكذلك الوطءُ، ولم يعطِ ذلكَ أن نصرف إطلاقَ اللفظِ إلا إلى الوضعِ الأول دونَ ما غلّبوه من الوضع الثاني وهو المجاز والاستعارة. ومن ذلك: قولهم: إفاضةُ التذكيرِ على التانيثِ حالَ الجمع لا ئعطي أنْ يدخلن في الِإطلاقِ، بدليلِ إفاضةِ السوادِ والقمَرية والعدل لأحد المسميَيْن إلى صاحبه في قولهم: بتنا على الأسودين (¬1)، وعدل العمرين (¬2)، ولنا قمراها (¬3)، وإن كان الأسود وعمر والقمر أحدهما والِإطلاق له حكمه. ومن ذلك: قولهم: إنَّ لهن خطاباً يَخُصهن، وجمعاً ينفردن به في الواحدةِ والاثنتين، وقد تقاصر عليهنَّ التذكيرُ عند اجتماعهن بالذكورِ، فيقابل الاستعمال في اللغة، وبقي أمرُ التكليفِ واشتغالُ الذمةِ به على مقتضى أصلِ أدلةِ العقولِ من البراءة، إلا أن تقومَ دلالةُ الاشتغالِ للذممِ وإيجابِ الحقوقِ والعبادات. ¬

_ (¬1) الأسودان هما التمر والماء. (¬2) والعمران: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. (¬3) والقمران: هما الشمس والقمر.

- فصل في جمع الأجوبة عن الأسئلة

فصل في جمع الأجوبة عن الأسئلة أمَّا إلزامُنا المجازَ المغلَّبَ استعمالُه، فإننا لو سألنا الواحدَ من أهلِ اللغة: ما أردتَ بقولك: وطئت أمتي؟ لقال: جامعتُ وفعلتُ الفعلَ المخصوص. فإذا قيل له: فيحسُنُ النفيُ بأن تقول: ما وطئتُها، لكن فعلتُ كيْتَ وكيْت؟ لقال: نعم يحسنُ النفيُ بحكمِ الوضعِ الأصلي. فأمَّا في مسألتنا، إذا قال في امرأةٍ ورجل قاما، وقيل له: ما أردت؟ قال: الرجل والمرأة. فهل يحسُن أن يقول: ما أردت المرأة، وتبقى التثنية، فيقول: لا، ولا يحسُن أن يقال: قامتا. فيفاض التأنيثُ على التذكيرِ، فقد صار وضعاً لا استعارةً ولا تجوزاً. وأمَّا كوُنهن تخصِّصن بوضع حالَ الوحدةِ والتثنيةِ، فقد سقطَ ذلكَ حالَ التثنيةِ إذا كان مع الواحدةِ رجُل، أو كان مع الكثرةِ فيهن قليلٌ من الذكور، فإنه يُغلب التذكيرُ على التأنيث، وإن كان دأبُ العرب تغليبَ الأكثرِ على الأقلِ في كُلِّ شيء. وأمَّا إفاضةُ اسمِ القمر على الشمس، والسوادِ في التمر على الماءِ الذي ليس بأسود، ولا سوادَ في الماءِ، وفي الأنثى ما يصلح للتذكيرِ

- فصل في جمع شبههم في ذلك

من حيث إنها شخص وحى وإنسان يحسُنُ لذلك أن تفردَ بالتأنيث لمكان ما فيها من الأنوثةِ، وتجمع بالتذكيرِ لما فيها مما هو مذكر من الشخصيةِ والإنسانيةِ والآدمية، فهي بحدتها إنسانٌ وآدمي وشخص عاقلٌ ناطقٌ. فصل في جمع شبههم في ذلك فمنها: ما رُويَ عن أمِّ سلمةَ أنها قالت: يا رسولَ الله إنَّ النساء قلن: ما نرى الله يَذْكُرُ إلا الرجالَ، فأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ...} الآية (¬1) [الأحزاب: 35]. ومن ذلك: ما رويَ أنَّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويل للذين يمسّون فروجهم ثم يصلّون ولا يتوضؤون"، فقالت عائشة: يا رسول الله، هذا للرجال، فرأيت النساء (¬2)؟ وهذا يَدُل على أنهنّ لم يدخُلن في عمومِ الصيغة الموضوعة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 6/ 301، والطبراني 23/ 241، والحاكم في" المستدرك" 2/ 416، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأورده ابن جرير في "تفسيره" 22/ 8، والنسائي في "تفسيره" 2/ 169، والسيوطي في "الدر المنثور" 5/ 200، وأخرج الترمذي شاهداً له من حديث أم عمارة (3211)، وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬2) هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه الدارقطني من حديث عائشة في "السنن" 1/ 147، وفي سنده عبد الرحمن العمري، وهو ضعيف، وقد وردت أحاديث كثيرة بطرق صحيحة في الوضوء من مسِّ الذكر بغير هذا اللفظ.

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

للتذكير من حيث سؤال أم سلمة وعائشة، ونساءُ العرب أعرفُ بالوضع، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سيد اللغةِ لم يُنكِر عليها السؤالَ ويقول: إنَّ الصيغةَ موضوعةٌ للجميع، واقرارُه كقوله. ومن ذلك: قولهم: إنَّ للإناث وحدةً وتثنيةً وجمعاً، ولكل ذلكَ لفظ يخصُّهن، فيقالُ: مؤمنةٌ، ومؤمنتان، ومؤمنات، وللذكورِ اسم يخصُّهم أيضاً في الواحدِ والاثنينِ والثلاثةِ، فيقال: مؤمن في الواحد، وفي الاثنين: مؤمنان، وفي الجمع مؤمنون، فكما لا يدخلُ النساء في تأحيدِ التذكيرِ ولا التثنية، كذلكَ في الجمع، وكما لا يدخلُ المذكرُ في جمع المؤنث، كذلك لا يدخل المؤنث في جمع المذكر. ولهذا فصَّلَ الباري بينهنّ فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى جميع ما عدَّد من الأوصاف، ولو كنَ قد دخلن في الجمعِ الأولِ لم يكن للإعادةِ معنى، وصار بمثابةِ جمعِ المؤمنين لا يدخل الكفارُ، وجمعِ الأبرارِ لا يدخل فيه الفجارُ، وكذلك جمعُ الذكورِ لا يدخل فيه الِإناثُ إلا بدلالةٍ. وحرَّره بعضهم قياساً، فقال: مالا يدخلُ في اسمِ الواحدِ والتثنيةِ لا يدخل في الجمعِ: كاسمِ الذكورِ لا يدخلُ في جمعِ الِإناثِ. فصل يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم أمَّا سؤالُ أمِّ سلمة وعائشة، فإنَّما وقَع عن عدمِ تخصيصهن بالذكر من طريق الصريح، ولم تقنع بالعمومِ من غيرِ تخصيصهن بالذكر.

ولأنَنا وإن قلنا: إنهن يدخلن، فإنما يدخلن من جهةِ الظاهرِ، فأمَّا من جهةِ الصريحِ والنصِّ فلا، وقد ورَدَ في بعضِ الخطاب خصوصُهنَّ، مثل قوله تعالى: {لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] وعادة العَرب التخصيصُ تارةً، والتعميمُ أخرى. وأمَّا قولهم: إن للإناثِ اسماً يَخُصّهن في الوحدةِ والتثنيةِ والجمعِ، وكذلك الذكورُ، فلعمري إنه كذاك، لكن العربُ إذا أحَّدت خصت كُل جهةٍ بما يليق بها من التأنيث والتذكيرِ، فأمَّا إذا جمعت فإنها تُغلبُ لفظ التذكيرِ، حتى إنَ عادةَ العربِ تغليبُ اسمِ الأكثرين وإسقاطُ حكمِ النساءِ والنادر والقليلِ، فينسبون من كان أكثرهم بُخلاً إلى البُخل، ومن كان أكثرهم كَرَماً إلى الكرم، ويسقطون حكم الواحد والاثنين والثلاثة في الحلة أو القبيلة. ومع هذه العادةِ رأيناهم يجمعون الجمع الذي يشتمل على مئة امرأة وثلاثة من الرجال جمعَ الذكور، ويخاطبونهم خطابَ الذكور، فعُلمَ بذلك أنه يُحددُ لهنّ بالاجتماعِ بالذكورِ حالٌ لم يكن لهن حالَ الانفرادِ واسم لم يكن، وغير ممتنع مثل ذلك في تغيرِ الحال بالاجتماعَ. كما يقال: قامت، في الواحدة، وفي الاثنتين: قامتا، وفي رجُل وامرأةٍ قاما، وفي رجُلٍ وامرأتين: قاموا، ولم يوجد لاجتماعهن بالذكورِ حكمُ الانفرادِ في التثنيةِ والجمعِ، كذلكَ في الخطابِ، وكذلكَ كان

* فصل: هل الكفار داخلون في الخطاب العام المطلق بالعبادات؟

حكمُ الكثرة التغليبَ، فسقط ذلك التغليبُ في حالِ كثرةِ الإِناثِ مع قلةِ الذكور. وفارق جمعَ المؤمنين والكفار، لأنه ليس في وضعِ اللغةِ تغليبُ أحدهما على الأخرِ إلا مع الكثرةِ الغالبةِ أو السلطنةِ، ونفاذِ الأحكامِ، فيقال: داركفرٍ، ودار إسلامٍ على حسب التسلط في التصرف ونفوذ الأحكام. وها هنا يغلبُ التذكيرُ مع قلةِ الذكورِ وكثرةِ الإناث، فدلَّ على أنّ الحكمَ للاجتماعِ تغليبُ الذكورِ، فكذلك في باب الخطاب. فصلٌ اختلفت الرواية عن أحمد في الكفارِ هل يدخلون في الخطاب العام المطلق بالعبادات، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]، {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [ألحشر:2]. فعنه أنَهم يدخلون (¬1)، نص عليه في اليهودية والنصرانية تلاعنُ المسلمَ تعلقاً منه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، وبه قالَ أكثر المتكلمين من المعتزلة والأشعرية (¬2). ¬

_ (¬1) وهذا ما اعتمده الحنابلة في هذه المسألة حيث رجّحوا في كتب الأصول دخول الكفار في الخطاب العام المطلق. انظر "العدة" 2/ 358، و"التمهيد" 1/ 289، و"المسودة" ص (46). و"شرح الكوكب المنير" 3/ 243. (¬2) انظر "التبصرة" (80)، و"المستصفى" 2/ 78، و"البحر المحيط" 3/ 182، =

والثانية: لا يدخلونَ في مطلقِ الأمرِ بالعباداتِ، وإنَّما يخاطبون بالإِيمانِ والنواهي، قال في يهودي أسْلَمَ في نصفِ الشهر: يصومُ ما بقي، لأنه لم يجب عليه قبل إسلامِه، إنما وجبَ عليه لما أسلمَ، ولم يكن واجباً حالَ كُفرِه. واختلف أصحابُ أبي حنيفة، فذهب الكرخي والرازي وجماعةُ أصحابه إلى أنهم مخاطبون بالعبادات (¬1). وذهب الجرجاني إلى أنهم غير مخاطبين بها، لكنهم مخاطبون بالنواهي والإيمان (¬2). واختلف أصحابُ الشافعيّ أيضاً على مذهبين: أحدهما أنهم مخاطبون، وهو الأشبه وقول الأكثرين (¬3). ¬

_ = و"المحصول" 2/ 237. (¬1) صرَّحَ بذلك أبو بكر الرازي في "الفصول" 2/ 156، حيث قال:" والكفار مكلَّفون بشرائعِ الإسلام وأحكامه، كما هم مكلفون بالإسلام، وكذلك كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله". وهو قول أهل العراق من الحنفية. (¬2) وهناك قول ثالث لبعض مشايخ سمرقند: بأن الكفار غيرُ مخاطبين أصلًا لا بالعبادات ولا بالمحرمات، إلا ما قام دليلٌ شرعي عليه تنصيصاً. انظر تفصيل المسألة عند الحنفية في "أصول السرخسي" 1/ 173 - 78، و"ميزان الأصول"1/ 308. (¬3) وهو الراجحُ والمعتمدُ عند الشافعية، اختاره أبو اسحاق الشيرازي كما في التبصرة ص (80)، والغزالي في "المستصفى" 2/ 78، والرازي في "المحصول"2/ 237 ونقل الزركشي في "البحر المحيط" أنه قول الأكثرين 3/ 182.

- فصل في جمع الأدلة على أنهم مخاطبون من طريق الآي من القرآن

والثاني غير مخاطبين إلا بالإيمان، وهو اختيار الشيخ أبي حامد رحمةُ الله عليه. فصلٌ في جمعِ الأدلةِ على أنّهم مخاطبونَ من طريقِ الآي من القرآن فمن ذلك: قولُه تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} [فصلت: 6، 7]، فتواعدهم على الكفرِ وترْكِ الزكاة وجحدِ البعث، ولا يتواعدُ إلا على فعلِ محظورٍ أو تْركِ واجب، فكانَ الظاهرُ مقابلةَ الوعيدِ لجميعِ ما عدَّد من الجرائم. ومن ذلك: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69] فظاهرُ هذه الآيةِ مقابلةُ ما ذكره من العقابِ في مقابلةِ ما عدَّده من الذنوب والجرائم. لا سيما مع قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ} فذِكرُ المضاعفةِ إنما وقَعَ لمكانِ مضاعفةِ جرائمهم جريمةً بعد جريمةٍ، لأنَّ قولهَ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} يعودُ إلى الجُمل المتقدّمةِ كُلّها، وما ذِكرُ المضاعفةِ إلا مقابلة. ومن ذلك: قولُه تعالىِ في أهل الجنة يتساءلون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} [المدثر: 42،43، 44،45، 46]، وهذا يدُلّ على أنّهم يؤاخذونَ بتركِ الإيمانِ وتركِ العباداتِ المذكورةِ.

- فصل في جمع الأسئلة على الآيات

فصل في جمعِ الأسئلةِ على الآياتِ فمن ذلك: المرادُ بقوله: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] قول لا إله إلا الله، وردَ التفسيرُ بذلك (¬1). ويحتمل أن يكونَ الذين لا يعتقدونَ إيتاءَ الزكاةِ ولا يدينون به ولا يلتزمونها، كما قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]، يعني يلزمونها. ويحتملُ أن يكونَ الويلُ عادَ إلى كفرِهم، ووصفهم بأنّهم لا يؤتونَ الزكاةَ، ولم يحصُل الويلُ لعدمِ إيتائهم الزكاةَ. وأمَّا قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]، إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] إنما عادَ إلى جميعِ المذكورِ، وهو بمجموعه يوجب ذلك، بدليل أنه قال: {يخلد}، ولا خلودَ إلا على الكفر، فلا يُمكنُ حملُ الوعيدِ على آحادِ هذهِ الأشياء المذكورةِ، إذ ليس فيها ما يوجبُ الخلودَ. وأمَّا قوله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43]، فليس هو من قولِ من يُعتدُ بقولهِ، بل هو قولُ الكفارِ ولا اعتبارَ بقولهم، بدليلِ أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، قال ¬

_ (¬1) ورد ذلك التفسير عن ابن عباس، كما في "تفسير الطبري"12/ 92 و"تفسير ابن كثير" 7/ 153.

- فصل في جمع أجوبة الأسئلة على الآيات

الله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا} [الأنعام: 24] ومن يكذب يجوز أن يجهل. ولأنه يحتمل أن يريدوا: لم نَكُ من أهلِ الصلاةِ، كما قال: نُهيتُ عن قتل المصلين، وليس المرادُ به مَن هم في تحريمةِ الصلاة فقط، لكن من يلتزمها وهو أهلٌ لها. ويحتملُ أن يكونَ هذا قولَ فرقٍ مختلفين، فقومٌ تركوا الصلاةَ، وقومٌ تركَوا إطعامَ المسكين في الزكواتِ والكفاراتِ، وقومٌ كذَّبوا بالبعثِ بعد المماتِ. يشهد لهذا التأويل: أن الخِلال كلها لا تكادُ تجتمعُ في الكلَ، فإن منهم مَنْ كان يُطعمُ الطعامَ، ويصلُ الأرحامَ تكرماً، ومنهم من يفعل ذلك بعد نسخِ الدين الذي كان عليه تديّناً وتمسكاً؛ كالنصارى واليهود بعد بعثهِ نبياً صلى الله عليه وسلم، وفيهم الرهبانُ الذين لا يخوضونَ مع الخائضين، وفيهم من لا يكذبُ بيوم الدين ممن يثبتُ البعثَ ولكن يكفر بجحد شيءٍ آخر، كجحدِ إيجاب واجب في الشرع، أو حجدِ تحريم محرّم حرمه النصّ، فهذه جملة أسَئلتهم. فصلٌ في جمعِ أجوبةِ الأسئلةِ على الآيات الثلاث أمًا حملُ الزكاةِ على الشهادةِ، فليس بحقيقةٍ، بل الحقيقةُ إخراجُ المالِ المخصوصِ عن المالِ المقدرِ المخصوصِ، على أنَه إذا حُملَ على الشهادةِ، كان إعادةً، فإنَّ الكفرَ بالآخرة كفرٌ، فكانَ يحملُه على تركِ الشهادة، كأنَّه قال:

الذين لا يؤمنون وهم بالأخرة كافرون، وحملُه على عدم اعتقادِ الزكاةِ حمل على الكفرِ أيضاً، ومهما أمْكن حملُ الكلام علىَ حقائقهِ وحَمْل كُلَ جمله منه على معنى غيرِ الأولِ، فلا وجه لحمله على التكرار، ورد الويل إلى الكفرِ خاصةٌ، وإخراج بقيةِ الجرائمِ عن مقابلةٍ خلافُ الظاهرِ، لأنه لو كان غير الكفر من منع إيتاء الزكاةِ ليس بمقابل، لم يكن لذكره معنى. وأمَّا قولهم: إنَّ الوعيدَ عادَ إلى جمعِ المذكور، ومن جملته الكفرُ، ولهذا أوجبَ الخلودَ، فهذا عينُ ما نريدهُ، لأنَه إذا عادَ إلى الجميعِ، كانت المؤاخذةُ بكُلِّ واحدٍ من الجملةِ المذكورةِ، ولا سيما ذكرهُ للمضاعفةِ في مقابلهِ تَعدُدِ أفعال مضاعفه، فهو أشبهُ من عودهِ إلى الكفرِ، وهو شيءٌ واحد، فيكونُ ذكرُ الخلودِ لأجل الكفر، والمضاعفةُ في مقدارِ العذاب لأجلِ ما ذكره من الذنوب. وأما قولهم: إنَ قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إنما هو قولُ الكفارِ، فكلُّ قولٍ حكاهُ الله عنهم ولم ينكره، فهو قولٌ صحيح، ألا تراهم لما قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كيف قال: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} وقولُهم: يُحتمل لم نكُ من أهل الصلاة، فذاكَ هو الكفرُ، وقد ذكره، فلا وجهَ لتكراره، ولا يُحملُ الكلامُ على ما يقتضي التكرارَ، على أنَّ الحقيقةَ خلافهُ، فإن الكلامَ يقتضي تَرْكَ فعل الصلاةِ لا اعتقاد وجوبها. وأما قولُهم: يحتمل أن يكون قولَ فِرَقٍ. فلا يمنعُ استدلالَنا،

- فصل في أدلتنا من طريق النظر

لأنَهم إن كانوا فرقاً من الكفارِ، فقد أخبرَ أنَّ الكفارَ متواعدونَ على ترك هذه الأمورِ التي هي من الفروع، وإن كانوا فِرقاً بعضُهم من أهلِ الإيمان، فلا يمكن، لأن الله سَبحانه قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 48 - 49] وهذا راجعٌ إلى جميع المذكورين. فصلٌ في أدلتنا من طريق النظر فمنها أنهم مخاطبونَ بمعرفةِ الله وتصديق رُسُله صلوات الله عليهم، وأتهم مَأْثومون على تكذيب الرُسُلِ وجحدِ نبوتهم وقتلهم وقتالهم، وأنهم معذبون على الكفر بالله، وهذا مما أجمعت عليه الأمةُ، فلا خلافَ فيه، وإن كانَ التصديقُ بالرُسلِ لا يصحُّ إلا بعد تقدم معرفةِ الله، ومعرفةِ انفرادِه بالقدرةِ على ما أيدهم به من المعجَزاتِ، وأنَه على صفةٍ هو عليها لا يجوزُ عليه تأييدُ كذاب عليه بالمعجزِ، ومتى لم يتقدم هذا لم يصح تصديقُهم بالرسُلِ عليهم السلام، فقد صارَ خطابُهم بتصديقِ الرسُلِ مشروطاً بتقدم معرفةِ الله، ومعرفةُ الله سبحانه بنا ذكرناه من العرفانِ لا تصح إلا بشريطَةٍ هي تقدُمُ النظر الصحيحِ والاستدلالِ المؤديين إلى معرفته، ولم تمنع عدمَ صحة التصديق بالرسُل إلا بتقدُّمِ الشروطِ المذكورةِ من القولِ بخطابِهم بالتصديقِ لهم، كذلك عدمُ صحةِ العباداتِ منهم إلا بشريطةٍ تتقدم، وهرب الإيمانُ لا يمنعُ صحةُ الخطاب بها، وهذا دليل لمذهبنا، وفي قوته، صلاحهُ لإفسادِ كل شبهةٍ يتعلقوَن بها في هذه المسألة.

- فصل يجمع أسئلتهم على أدلتنا في المسألة

ونحررُ قياساً فنقول: مَن تناولَه الخطابُ بالإيمانِ تناولَه الامرُ بالعبادات، كالمسلمِ لو ارتدَّ أُمر بالإيمان، والمسلمُ الذي لم يرتدي الامرُ باستدامةِ الإيمان. ومن ذلك: أنَهم مع تكليفِ الإيمانِ بالرُّسُلِ عليهم السلام، مخاطبون بالمنهياتِ، وأهلُ الذمةِ منهم يُحدّونَ بالزنا والسرقةِ، ويعزّرون بما يوجب التعزير من الجرائم غير الموجباتِ للحدود. وتحقيقُ هذا أن يقال: لما نُهوا عن أكبرِ معصيةٍ لله، وهو التكذيبُ بآياتِ الله ورُسلهِ، دَخلوا في النهي عما دونة من المعاصي، كذلك لمّا أمروا بأكبرِ طاعةٍ وهي الإِيمانُ، أُمروا بأركانهِ وتوابعهِ من العباداتِ والطاعاتِ. ومن ذلك: بأنّه لما كان مُزاحَ العلةِ فما أمرِ به من الإيمان، دخلَ في الخطاب به، وهو مزاحُ العلة في باب العبادات، من حيث؛ كان قادراً على تحصيل مقدماتِها وشروطها، وهذا علّةُ دخوله في الخطاب باصلِ الِإيمان، وقد ساوته العباداتُ في ذلك، فدخلَ في مُطلقِ الخطابِ بها. فصل يجمعُ أسئلتَهم على أدلتِنا في المسألةِ فمنها: أن الخطابَ بالإيمانِ إنّما حصل لأنه من أهلِه، ولهذا لو أتى به لصحَّ منه، فأمَّا الصلاةُ والصيامُ، فإنه لا يصح منه أداء، ولا يجبُ عليه بعد فواتِ وقتهِ قضاءٌ، ومحالٌ تأثيم مكلفٍ على تركِ فعلٍ لو فعلهُ لما صحَّ منه.

- فصل في جمع الأجوبة عن الأسئلة

ولأنَ المنهيِّ عنه يلائم الكفرَ في كونه معصيةً، فحسُنَ أن ينصرفَ الخطابُ إِليه بتركه كما انصرفَ إِليهِ الخطابُ بتركِ الكفرِ، والطاعاتُ بخلافه. ولأنَّ النهيَ لما تعلق عليه وتناوله الخطابُ به تعلقت عليه أحكامُه وهي الحدود والعقوباتُ والتعازير، والطاعات لا تتعلقُ عليها أحكامها إذا وجدت منه. وأما النهيُ فإنه يصحُّ منه ترك مع الكفرِ، والطاعةُ لا تصحُّ منه. وأما قولكم: إنه مزاحُ العلةِ غيرُ صحيح، لأنَّه لو أزيحت علّته، لصحَّت منه، فأمَّا إذا أُتي بها، فلم تقبل ولم يعتد له بها، فلا تصحُّ دعواكم إزاحةُ العلة في حقه. فصل في جمعِ الأجوبةِ عن الأسئلةِ أمَّا إطلاق القولِ بأنها لا تصحّ منه، لا يسلَّم فإنَ العباداتِ تصحُّ منه مع تقديمِ شروطِها، ولو جاز أن يقال: لا تصحُّ منه مع الكفر، فلا يخاطَبُ بها. لجاز أن يقال: لا يصحُ من غيرِ العلم بحدث إثبات صانع، ولا يصحُ من غيرِ العالمِ بالصانعِ إثباتُ أنَه واحد، فلما خوطبَ باعتقادٍ لا يَصُّح إلا بتقدم اعتقاد مثله، كذلكَ جازَ أن يُخاطب بفعل ما لا يصحُّ فيه إلا بتقدّم اعتقادٍ قبله، أوَلا يرى أيضاً أنه لا تصح من المحدِث صلاة، فلا يخَاطبُ بها، بل يقالُ: تصحُّ منه بأداءِ شروطها، وتقديم مقدَماتِها من الوضوء والاغتسالِ، ولا يقال: لا يصح من النجار عملُ بابٍ ولا دولابٍ، إذ ليس معه آلة ذلك، بل

يقالُ: تصح منه النَّجارةُ بشريطةِ تحصيلِ الآلات. فهذا قولٌ باطلٌ موهِمٌ عندَ من لا يفهم أنَّه سَيىء، واذا كشُفَ بالتحقيق تزيَّف. على أنه لو جازَ أن يقالَ هذا في العباداتِ، لقيلَ في تصديقِ الرُّسل: إنه لا يخاطبُ به، لأنه لا يصح منه إلا بعدَ تقديمِ النظرِ والاستدلالِ المحصّلين لإثباتِ الصانعِ وأنه واحدٌ منفردٌ بخرقِ العادات، والقدرةِ على ما يظهرُ على أيدي الرسلِ صلوات الله عليهم من المعجزاتِ، وإنَّما لم يقل ذلك، لأنَّهم قادرون على تقديم النظرِ المؤدي إلى صحةِ تصديق الرُسُل، كذلكَ الكافرُ قادرٌ على إزالةَ كفرهِ بصائب فكرِه وصدق الاجتهاد من نفسهِ، فإذا زالَ الكفر صَلح للصلاةِ والصيامِ، كما أنَّ الجُنُب إذا اغتسلَ صَلح لأداءِ الصلاةِ والطوافِ وغير ذلك مما يشترطُ له الاغتسالُ، فقد وجبَ التأثيمُ عليه بتركِ ما هو قادرٌ على التوصُّل إليه. فإن قيل: هذا كلامٌ باطلٌ يوهِمُ أنه ينطبقُ على ما نحن فيه، وليس الأمرُ كذلك، لأن النظر شَرطُ المعرفةِ، والطهارةَ شرطُ الصلاةِ، وليس الإيمانُ شرطاً للعباداتِ، وانما هو أصل بنفسه، إذا صحَّ أوجبَ إلزامَ توابعه، وعُلَقِه، وما هذا سبيلهُ لا يجبُ على المكلفِ تحصيلُه لأجلِ ما يترتبُ عليه. فيحسُن أن يقال: يجبُ أن يحصّل الغُسلَ ليصلي، لأنَّ الغسلَ لا يجبُ في نفسِه إلا لغيرِه وهو الصلاةُ والطوافُ والاعتكافُ، والنظرُ لا يُرادُ لنفسِه، بل يُرادُ لتحصيل المعرفةِ، فأمّا الإيمانُ فإنه لا يقال: إنه موضوع ليصَلّيَ ويصومَ، بل هو أصل، وانما يصلّي ويصومُ ليقعَ منه بذلكَ موافقةُ التصديق، فأمَّا أن يُصدقَ ليصليَ ويصومَ، فبعيدٌ ذلكَ

عند المحققين، بل محال (¬1). على أنَه ليسَ كلما لم يصح الشىءُ إلا بحصولِه يجب تحصيله، لا سيّما إذا كانَ شرطاً للصحةِ، بدليلِ أنَّه لا يَصح إخراجُ الزكاةِ إلا بتقديمِ ملكِ النّصاب المخصوص، ولا تصح التوبةُ إلا بتقدُّم الذنب، ولا يجبُ تحصيلُ النصابِ ليزكي، ولا مقارفة الذنب ليتوبَ، ولا كلَّما لم يجب الشيءُ إلا بحصولهِ يكون واجباً؛ بدليلَ أن تحصيلَ الزاد والراحلةِ، لا يجبُ الحجُّ إلا بحصولهِ، ولا يجبُ تحَصيلهُ، فلا شرطَ الإيجاب يجبُ، ولا شرطَ الصحةِ يجبُ، فبطلَ قولُكم: إن العباداتِ يجبُ تحَصيلُها بتحصيلِ شرطِها، وهو الإيمانُ الواجب. فيقال: هذا مشاحّةٌ في عبادةٍ، وإن الإيمانَ واجبٌ، لكنه ليس بشرطٍ ولسنا نضايقكم فنقول: إن الإيمان شرط. بل نقولُ: الإيمانُ واجب مقدور على تحصيلهِ، واذا وجبَ تحصيلُه وجبت العباداتُ، فكانَ وجوبُه مع استطاعةِ تحصيلِه صالحاً لإيجاب ما ترتّب عليه، كالنظرِ والاستدلالِ لما وجبا وكان وجوبُهما طريقاً لمَعرفةِ الله، وجبت معرفةُ الله على من لم يعرفِ الله بطريقِ النظر. فأمَّا قولكم: إنَ النظرَ لا يُراد لنفسِه، والطهارةَ لا تُرادُ لنفسها، فهما شرطان، والواجبُ إنما هو الصلاةُ والمعرفةُ، وهنا الواجبُ: الِإيمانُ والمعرفةُ، لا النظر، فليس الأمرُ كذلك، بل النظرُ المؤدي إلى المعرفةِ طريقُ وشرط، والعبادةُ لله سبحانَه والطاعةُ هي المقصودةُ. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] فالأمرُ بالطاعاتِ المقصودةِ، شاملٌ كلَّ مكلفٍ، لأن الله سبحانَه أخبرَ أنه لم يخلق الجنَّ والإنسَ إلا لعبادتهِ، ولما لم تصحَّ عبادةُ من ¬

_ (¬1) لأن الإيمان اعتقاد جازم وقول وعمل.

لا يُعرفُ، وجبت المعرفةُ ليُطاع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بنيَ الإسلامُ على خمس" (¬1)، وساقَ العبادات وقال:" أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" (¬2)، وساقَ العباداتِ الخمسَ. وقد أجمعنا على أنَ معرفةَ الله سبحانه التي لا يتعقبها طاعة في سائرِ ما أَمرَ به، منحبطة الثواب، وعباداتُه التي لا تتقدمها المعرفة منحبطةٌ، كما أنَّ الطهارةَ لغير صلاةٍ غيرُ نافعة، والمعرفة لغيرِ طاعةٍ وعبادةٍ غيرُ نافعة، بل من لا يعرف ولم تحصل له المعرفة غير مؤاخذ بتركِ المعرفةِ إلا لإهمالِه شرطَها، وهو النظرُ والاستدلالُ القادرُ عليهما، فكذلكَ التاركُ للعباداتِ مؤاخذٌ بتركِ تقديمِ مالا تتحصّلُ العبادةُ إلا به، وهو الإيمانُ. وأمّا قولهم في النهي: إنّه يصحُ منه تركهُ. فإن أرادوا به صورة، فالطاعاتُ كلها تصحُ منه صورة، وإن أرادوا به، يصحُ التركُ على وجهِ مكابدةِ النفسِ لأجلِ الاحترامِ للناهي عنه، فذلك أمرٌ حُكمي يقفُ حصولُه على تقدم الِإيمان والتصديقِ، وإلا فالتركُ للمعاصي مع الكفرِ كتركِ المتطبب لشربِ الخمرِ لمضرةٍ عَلِمها فيه تعودُ إلى مزاجه وكتركِ المتصاون عادة لفعلِ الزنا خوفاً من المعرةِ في قبيلته وحزبِه، والتارك للظلم لرِقّةِ طبعه ورِقةِ قلبِه وما يلحقه من الألم بالاستطالةِ على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 430. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 190.

المظلوم، إلى ما شاكل ذلك، فهذا فصل محقَّقٌ أغفله جماعة من مصنفي هَذا النوع من العلم. وأمَّا قولهم: إن المنهيَ لما صحَّ في حقِه وتعلقت عليه أحكامُه، صحَّ أن يتجه إليه الخطابُ بتركِه، بخلافِ العباداتِ. فليس بصحيح؛ لأنَّ إقامةَ الحدودِ على أهلِ الذمةِ لإقامةِ سياسةِ الملةِ حيثُ التزموا أحكامنا، فأمَّا أن يكون لأن أحكام النهي ثبتت شرعاً فلا، لأن الحدودَ لأهلِ الإسلام كفارات لأهلها، أو بلاء، وهي في حق الكفار محضُ عقوبات، وليس الحدودُ المحضةُ عقوبةً من أحكامِ أهل الإسلام، فما تعلقت الحدودُ بالمنهيات في حقهم على الحث الذي تعلقت في حقنا. وأمّا كون المحظوراتِ تلائم الكفر، فكان يجبُ لما عفونا عن الكفرِ إقراراً لهم عليه أن نقرَّهم على المنهياتِ تبعاً، فلما زجرناهم عنها بطل أن يكونَ النهيُ عنها والزجرُ لأجل الملاءمةِ. فبانَ أنَّ ما ذكرتم من الملاءمةِ ضدَ المقتضى. وتفصيحُ هذا وكشفهُ، أنَّه كما لا يقالُ لمن لا يؤمنُ بالله: صل الله. ويُستهجن هذا من قائلهِ، لا يُقالُ لمن يستجيزُ الكفرَ بالله والشركَ: لا تبع بزيادةٍ فتكونَ مرابياً، ولا تطأ أجنبية فتكونَ زانياً، كما لا يُقالُ لمن انغمسَ في حش وبال: امسحْ رأسَ قضيبك بحجر لتكون مُسْتَنجياء. ولا لمن تشككت فيه النصال، ووطىء على شوكةٍ: انقش الشوكةَ من رِجلك، وإنما يتشاغلُ في الأمورِ بالأكبرِ والأهمّ، فإذا كان كفرُ هذا الكافرِ لم يمنع من صرفِ النهي إليه عن جرائمَ دون الكفرِ مع النهي عن الكفرِ، كذلكَ لا يمتنعُ صرفُ الأمرِ إليه بالعباداتِ التي هي دونَ الإيمانِ مع الأمرِ له بالإيمان.

- فصل في جمع شبههم في هذه المسألة

فصلُ في جمع شبههم في هذه المسألة فمنها: أن العباداتِ لا تصحُّ منهم حالَ كفرِهم، وعبروا عن هذا بعبارتين: إحداهما: أنهم لو كانوا مأمورين بها لصحت منهم، كما صح الِإيمانُ منهم. والعبارُة الثانية: أنَّ الخطابَ لهم بما لا يصحُّ منهم لا فائدةَ لهم فيه، بل فيه الضررُ عليهم بالعقويةِ على الترك. واذا لم تصحَّ منهم هذه العباداتُ على وجهِ القربةِ، لم يصح الأمرُ لهم بها. ومن ذلك: أنها لو كانت واجبةً على الكافرِ في حالِ كفرِه، وكان مخاطباً بها مع ما هو عليه من جحده، لوجبَ عليه قضاؤها بعد إسلامهِ، كما إذا تركَ المسلمُ الصلاةَ حالَ حدثهِ أو مرضِه أو سهوة أو فسقهِ وتكاسلهِ، وجب قضاؤها، فلمّا لم يجب القضاءُ بعد زوالِ الكفرِ، علم أنّه لم يكُ مخاطباً بها ولا وجبت عليه حالَ الكفرِ، فصار كالحائض. ومن ذلك: أن الصلاةَ يقابلُ تاركها بعقوبةٍ في الدنيا وهي الضربُ عند قومِ، وبالقتلِ عند آخرين، وعقوبةٍ في الآخرةِ وهي إدخالُ النارِ، ثم إنَ الَكافرَ لا يتعلّق عليه بتركهِا عقوبةُ الدنيا الواجبة الله سبحانه شرعاً، كذلكَ لا تجبُ عليه عقوبةُ الأخرةِ، والعقوبة على التركِ من خصائص الوجوب، فإذا عُدِمت خصيصةُ الوجوبِ دل على نفي الوجوبِ.

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

ومن ذلك: أنَ الكافرَ جاحد بالأصلِ الذي يُبتنى عليه فعلُ العباداتِ، فيكف يخاطَبُ بالفرع من يجحدُ الأصلَ؟ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا، حيث كتب إلى كسرى وقيصر (¬1): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]، ولم يذكر فروعَ الإيمان، اعتماداً على حصولِ الاستجابة، فإذا حصلت خاطبَ، وتأخيراً للخطاب المبني على غيره فيما يتقدم وهو التصديق. وكذلكَ لما أنفذ معاذاً إلىَ اليمن، قال له: "ادعهم إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله، فإنْ أجابوك فأعلمهم أنّ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" (¬2)، وإذا كان ترتيبُ الخطابِ هكذا لم يجز تقديمُ الخطابِ على شرطه. فصلٌ يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم فأما قولُهم: إنها لا تصحُ منهم. فلا يُسَلَّمُ على الإطلاقِ، بل ¬

_ (¬1) كتابةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر، رردت في عدةِ أحاديث، منها: حديث أنس بن مالك: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى قيصر وكسرى وأكيدر دُومة يدعوهم إلى الله تعالى". أخرجه: مسلم (2092) (58) و (1774) والترمذي (2716)، والبيهقي 9/ 107، وابن حبان (6553). كَما وردَ من حديث ابن عباس، كتابُه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: أخرجه: أحمد 1/ 263، والمخاري (7) و (51) و (2681) و (2941) و (2978) و (3174) و (4551) و (5980)، ومسلم (1773) والترمذي (2717)، وابن حبان (6555). (¬2) لم نجده بهذا اللفظ، وانظر "نصب الراية" 2/ 398 و 3/ 380.

يقالُ: هم من أهلِ الصحةِ لتحصيلها بشروطِها، ومن قدرَ على تحصيلِ الشرطِ لا يقال: لا يصحُ منه فعلُ المشروطِ. على أنَّنا لو سامحنا وأنها لا تصح، بمعنى مالم يقدموا شرطها، فباطلٌ بالمرتدين، فإنهم كفارٌ ولا تصح منهم العبادات على وجهِ القربةِ وهم مخاطبون. فإن قالوا: أولئكَ التزموا حكمَ الإِسلامِ قبل، وهؤلاء الزموا حكمَ الإِسلامِ، وإلزامُ الشرعِ كإلزامهم. فإن قيل: فالمرتدُ لما وجبت عليه حال كفرِه، وجبَ عليه قضاؤها بعد إسلامهِ، قيل: إن صحَّ لك هذا الاعتذارُ مع من يسلم وجوبَ القضاء على المرتد، لم يصح لك مع من لا يوجُبه، فتقف صحةُ اعتراضكَ على تسليم خصمك. على أنَّ القضاءَ إنما سقطَ عن الكافرِ الأصلي لئلا يؤديَ إلي تنفيره، وسنوضِّحُ العذرَ عن إسقاطِ القضاءِ في الكلامِ على الشبهةِ التي أوردتموها في جملةِ الشبه التي جمعناها في الفصل المختص بها إن شاء الله. وجواب آخر عن أصل هذه الشبهة: وهو أنَّ عدمَ الصحّةِ لا يمنعُ الإيجابِ، كما أنَّ التصديقَ بالرسلِ لا يصحُّ من جاحدٍ بالصانع، ثم إنّهم قد صرفوا الخطابَ بالإيمانِ بالرسلِ إلى الجاحدِ لكونهِ قادراً على تحصيلِ الشرطِ بطريقهِ وهو النظرُ والاستدلالُ، فإذا حصلت المعرفةُ ترتب حجةُ التصديقِ بالرسل، ولم يقف الخطابُ بتصديقهم على حصول المعرفةِ، بل قنع في إيجابها بالقدرةِ على التسبب إلى المعرفةِ

بالمرسلِ، كذلكَ لا يقفُ الخطابُ هاهنا على حصولِ الإيمان، بل يُقنع بالقدرةِ على تحصيلِ الإيمان. وأما قولُهم: لا فائدةَ في الأمرِ بها مع عدم صحتها. فليس كما ذكروا، لأن التكليفَ في الجملةِ فائدة صح أو لَم يصح، كان أو لم يكن، لأن علمَ المكلفِ أنه إِذا لم يتبع هذا الشرعَ كان معاقباً على تركِ فروعهِ وأصوله كان أدعى له إلى الاستجابةِ، وينتفعُ به إذاً كسببٍ لحصولِ الشرط، وهو الإيمانُ (¬1). وأما جوابُنا عن قولهم: لو كانت واجبةً حالَ كفرهِ لوجبَ قضاؤها حالَ إِسلامهِ، فإنَه لا يصح لوجوهٍ: أحدُها: أنَ القضاءَ لا يجبُ لأجلِ وجوبِ المقضي، ولا يسقطُ لعدم وجوب المقضي، والله سبحانه أن يوجبَ الأداءَ ثم يسقطَ القضاءَ، ويوجبُ القضاءَ لما لم يجب فيه الأداءُ، بل لم يصح فيه الأداءُ، ولهذا يجبُ قضاءُ الصوم على الحائض ولا يجبُ عليها في حالِ الحيضِ صومٌ، والجمعةُ تجب، ثم إِذا تركَها من تجبُ عليه لم يجب قضاؤها، وإنما يجبُ القضاء بأمرٍ مبتدأ، ولم يردْ دليلٌ بوجوب القضاءِ على الكافرِ، وإن علّل ذلكَ فلأجلِ [عدم] التنفير عن الإسلام عفيَ للكافرِ عما سلَفَ من العبادات لأجل أنَ الشيخ الهِمَّ (¬2) إذا رأى أنه يحتاج أن يقضي صلواتِ عشرات سنين، ويزكّي عن ماله لمِا مضى حتى يفتقر شحَّ وتكاسلَ فغير عن الإسلامِ. ¬

_ (¬1) بعدها في الأصل أربع كلمات غير واضحة. (¬2) الشيخ الهِمّ: الكبير الفاني. "القاموس المحيط": (هَمَّ).

وأما تعلقهم بأن الكافرَ لا يجبُ عليه بتركِ صلواتٍ عقوبةُ الدنيا وهي القتلُ أو الضربُ، فكذلك الإثمُ، فليسَ بلازم، لأن الله تعالى قد أسقطَ القتل والاسترقاقَ عن كفارِ أهلِ الذمةِ، دارْ لم يُسقط عقوبةَ الآخرةِ عنهم. على أنَّ الكافرَ جُعلَ كالمجتهدِ في تحصيلِ الإسلام ليؤدي ما يجبُ عليه بالإسلام. والمجتهدُ لا يُعاقبُ في حالِ اجتهادهَ، والدليلُ على أنه جعل كالمجَتهدِ، أنه جائز إقرارُ أهل الكتاب، ومن له شبهة كتاب مع كفرهم وما يعتقدونه من دينهم، ولهذا من لم يُقَرّ على كفرهِ بودر بالعقوبةِ وهم المرتدون، ومن لا يجوزُ إقرارُهم على كفرِهم، ومن أمهِلَ وتُركَ مقراً على الكفرِ من غير إزعاج ولا إزهاقٍ أحرى أن لا يزهقَ ويضربَ لأداءِ الصلاة. وأمّا قولهم: إنَّ الجاحدَ للأصلِ لا يجوزُ أن يُخاطبَ بالفرع. ليس بكلامٍ صحيحٍ، لأنَّه إذا ثبتَ أنَّ معرفةَ الله تعالى أصل لتصديق رُسُله وقد خوطبَ بتصديقِ الرُّسُل عليهم السلام ونُهيَ عن تكذيبهم، ثبتَ أنَّ تصديق الرسُلِ وإن كان أصلًا للطاعةِ لهم في الأمرِ بالعباداتِ لا يمنعُ من خطابِهم بالعباداتِ بشريطة تحصيلِ التصديق لهم. على أن قولك: المعرفة أصلٌ، فإنَ المقصودَ من المعرفةِ طاعةُ المعروفِ وعبادته، فيجوزُ أن لا نمنعَ الخطابَ لهم بالمعرفةِ من خطابهم بالمقصودِ بها، وهو تعظيمُ الله تعالى وامتثالُ أمره، وهو تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. على أنَّ المرتدَّ لا يمتنعُ خطابُنا له بالإيمانِ والعودِ إليه ومعالجةِ

* فصل: إذا أمر الله تعالى بعبادة كان أمره بها نطقا نهيا عن ضدها من طريق المعنى وسواء كان لها ضد واحد أو أضداد

شبهِ الكفرِ من خطابهِ بالعباداتِ على قول أصحاب الشافعي ومن وافقهم، والمرتدُّ حالَ ردتهِ غيرُ معتقدٍ ولا ملتزم لِإيمانٍ ولا عبادةٍ أوجبها الشرعُ، ومع ذلكَ ألزمه الشرعُ ذلك. وأمَّا تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - خطابَ الكفارِ بالإيمان، فإنما كان كذلك ليكونَ تقديمُ معارفِهم بالله مستعملًا وموطئاً لهم على العباداتِ، لأنَّ طاعةَ من لا يعرف لا تتأتى، فما أخرَ الخطاب لأن العباداتِ لم تجب، لكن لم يُكثر عليهم، حتى إِذا عرفوا سَهُلَ عليهم وخف بعرفانِه، تعالت عظمتُه، ومعرفة صحةِ الرسالةِ أثقالُ العبادات، ولأنه عليه السلام لم يذكر المنهيات على قولِ من وافق في خطابهم بها لما ذكرنا، وإن كانت قد دخلت في خطابِهم بالإيمان، والله أعلم. فصلٌ إذا أمرَ الله تعالى بعبادةٍ، كان أمرُه بها نطقاً، نهياً عن ضدها من طريق المعنى، وسواءٌ كان لها ضدٌّ واحد أو أضداد (¬1). وتفصيل هذا الكلام: أن كل مأمورٍ به من جهةِ آمر، يقتضي النهيَ عن تركِ ذلك المأمورِ به، وكل فعل يضاد المأمور به لا يصح أن يجمع معه كما لا يجمعُ التركُ، فكانَ حكمُ المضادِ للعبادةِ المأمورِ بها حكمَ الترك، فلا بد أن نقول: إِذا لم يكن الآمرُ قد خير بين فعلها وفعلِ ضدِّها، فأمَّا إِن وُجدَ التخيير بين المأمورِ وبين ضدِه صارَ بمثابةِ ¬

_ (¬1) انظر هذا الفصل في "العدة"2/ 368، و"التمهيد"1/ 329، و" المسوّدة" ص (49) و"شرح مختصر الروضة" 2/ 380 و "شرح الكوكب المنير" 3/ 51.

التخيير بين فعلهِ وتركه، فيخرجُ بالتخيير عن أن يكون منهياً عنه من طريق المعنى ونهياً. قاله أكثر أصحاب أبي حنيفةَ، وأصحابِ الشافعيِّ، وأصحاب الأشعري (¬1)، وزاد بعض الأشعرية، فقال: هو نهي عن ضده من طريق اللفظ (¬2). وقال المعتزلة وبعض أصحاب الشافعى (¬3): ليس بنهي عن ضدِه لا لفظاً ولا معنىً. وفائدة قولنا: إنه إذا فعلَ الضدّ كان آثماً بفعل الضدّ من جهة الأمرِ، ولا فرقَ بين كونِ الأمر ندباً أو واجباً. وقد فصَّل بعض المتكلمين، فقال في الأمرِ الواجبِ: يكون نهياً عق ضده، وأما المندوبُ فلا. ¬

_ (¬1) أي أن كثر الحنفية والشافعية قالوا: بأن الأمرَ بالشيء نهى عن ضده من طريق المعنى. انظر ذلك في "الفصول في الأُصول" 3/ 158، و"أصول السرخسي" 1/ 94، و"التبصرة" ص (89)، و "الإحكام" للآمدى 2/ 251، و"المحصول" 2/ 199. (¬2) أي أن بعض الأشاعرة قالوا: بأن الأمرَ بالشيء نهى عن ضده من طريق المعنى واللفظ معاً، وهو قول أبي الحسن الأشعري كما في "البحر المحيط" 2/ 417، وهو مبني على قوله: إن الأمرَ لا صيغة له. (¬3) من أصحاب الشافعي الدين قالوا بأنَّ الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده لا لفظاً ولا معنى، الجويني كما في "البرهان" 1/ 252، والغزالي في "المستصفى" 1/ 82 وانظر تفصيل المسألة في "البحر المحيط" 2/ 416.

- فصل في جمع الأدلة على مذهبنا

وذهب المحققونَ والأكثرونَ من أهلِ هذه المقالةِ إلى أنَّ النهي يكونُ بحسبِ الأمرِ، فإن كان أمراً موجباً، كان نهياً عن ضدِه جازماً، وإن كان أمرَ ندبٍ، كان النهي عن ضده تنزيهاً وكراهية. فصل في جمعِ الأدلةِ على مذهبنا فمنها من جهة البناءِ على أصلنا، وهو أنَّ الأمرَ على الوجوبِ على الفورِ، فإذا ثبت هذان الأصلان، وقد حرمَ التركُ بإشغال الوقت الذي يلي الأمرَ بما يضادُّ الأمرَ، التفاتٌ عن المأمور إلى غيره، وذلك محظورٌ من حيث كان إخلالاً بالمأمور. ومن ذلك: أن فعل المأمورِ به لا يمكنُ إلا بتركِ ضده إن كان له ضدٌّ واحدٌ، وبتركِ جميعِ أضداده إن كان له أضدادٌ، وما لا يمكنُ فعلُ الواجبِ إلا به يكونُ واجباً فعلُه، فما لا يمكن فعلُ الواجب إلا بتركِه يجبُ أن يكونَ واجباً تركُه، ولا يجبُ تركُه إلا وهو منهيٌّ عنه. مثالُ ذلك: أنَّ الطهارةَ والستارةَ والاستقبال شروطٌ شرعيةٌ لا يمكنُ فعلُ الصلاةِ الشرعيةِ إلا بها، فكانت مشاركةً للصلاةَ في الوجوبِ، فكذلك تركُ هذه الأضدادِ لا يمكن فعل العبادة إلا بها، فكان شرطاً واجباً، ووجوبُ التركِ لا يكونُ إلا بنهي، وما وجدَ سوى الأمرِ بالعبادةِ،

- فصل في أسئلتهم على ما ذكرنا من أدلتنا

فثبت أنَ في طيهِ النهي عن الضد المعوِّق عن فعلها. ومثاله من مسألتنا، إذا قال لعبدِه: اخرج من الدارِ. فإنَه يعقل منه الأمرُ بفعلِ الخروج، والنهيُ عن المقام، حتى إن السيدَ إذا رأى العبدَ مقيماً فيها حسُن أن يقول: ألم أنهك عن المقام؟! كما يحسُن به أن يقول: ألم آمُرْكَ بالخروج؟ وكذلك إذا قال له: قمْ، فقعدَ، حَسُن أن يوبِّخه ويعاقبه إن شاءَ على تركِ القيامِ فيقول له: ألم اَمُركَ بالقيامِ؟ وإن شاء على ما ارتكبه من النهي عن القعودِ، فيقولُ له: ألم أنهَكَ عن القعود حيث أمرُتك بالقيامِ؟ ولا يحسُن أن يقول: لم أنهه عن القعودِ، إنما أمرتُه بالقيامِ. ومن ذلك: أنَّ من مذهبِ المعتزلةِ أن الأمرَ يقتضي إرادةَ المأمورِ به وحسنه، فكانَ تركهُ يقتضي ضدَّ الإِرادةِ والحُسنِ، وهو كراهيتُه وقُبحه، وفعلُ الضدِّ تركٌ في الحقيقة، والقبحُ والكراهيةُ تقتضي حظره، وكل محظور فمنهيٌّ عنه. فصل في أسئلتهم على ما ذكرنا من أدلتنا قالوا: هذا باطل بالنوافل، فإنَها حسنةٌ مرادةٌ، ولا يقال: إن ضدَّها قبيحٌ مكروه. قيل: إنَما أتينا بالطريقةِ لإِفسادِ مذهبكم، ولا يصحُّ أن يكونَ جوابُه المناقضةَ، والله أعلم.

- فصل في جمع شبه من قال: إنه ليس بنهي من طريق المعنى

فصلٌ في جمع شبهِ من قال: إنّه ليسَ بنهيٍ من طريق المعنى، دونَ من قال: إنه نهيٌ من جهةِ اللفظ والقولِ. فمنها: أنَّ الأمرَ استدعاءُ الفعلِ بقوله: افعل، والنهي استدعاءُ الكف والترك بقوله: لا تفعل، فلا يجوزُ أن يجتمعا، وهما ضدان لصيغةٍ واحدةٍ، كما لا يجتمعُ الضدان في محلٍ واحدٍ، ولا يجتمعُ لجوهر الواحدِ حركةٌ وسكون في حالةٍ، كذلك لا يجتمعُ للصيغةِ الواحدة، استدعاءُ الفعلِ، واستدعاءُ التركِ. ومن ذلك: أنه لو كانَ الأمرُ بالشيءِ نهياً عن ضدّه، لكانَ الأمرُ بالنوافل نهياً عن تركها. وللنهي حالتان: نهيُ حظرٍ. ونهيُ تنزيهٍ وكراهة. ولو كانت النافلةُ منهياً عن تركهِا حيث كانت مأموراً بها ندباً، لكانَ النهيُ عنها إن كان حظراً عادَ بوجوبها، لأنَّ المحظورَ تركُه ليس إلا الواجبَ فعله، وفي إجماعنا على نفي وجوب النوافل إبطال لدعوى النهي عن تركها على وجه الحظر. وإن كانَ الأمرُ بها نهياً عن تركهِا تنزيهاً وكراهةً، فقد أجمعَ الناس على أن فعلها مستحب وتركَها غيرُ مكروهٍ، كما كانَ غيرَ محظورٍ، فبطَل قَولكم: إنَ الأمرَ بالشيء نهى عن ضده. ومن ذلكَ قولهم: لو كانَ الأمرُ والنهيُ يتضادان، لتضادَّ العلم،

بالجهل، ولو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضدّه، لكانَ العلمُ بالشيءِ جهلاً لضدَه، فلما لم يكن العلم بالشيءِ جهلًا لضده، كذلكَ لا يكونُ الأمرُ بالشيءِ نهياً عن ضده. ومن ذلك قولُهم: لو كان الأمرُ بالشيء نهياً عن ضده، لكان النهي عنه أمراً بضده، ولما لم يكن النهيُ عن الشيء أمراً بضده، كذلك لا يكون الأمرُ به نهياً عن ضده. ومن ذلك: ما اعتمدَ عليه المتكلمون منهم، فقالوا: إنَ النهيَ إنما يتناولُ الممكنَ، فأمَّا ما يُضطر الِإنسانُ إليه، فلا يؤمرُ به ولا يُنهى عنه، والأعلى إذا قال للأدنى: قُم، أو قال له: تكلمْ. كان مستدعياً منه القيامَ والكلامَ الذي لا يمكن معه القعودُ والصمتُ، فصار عدمُ وقوعِ القعودِ منه والسكوتِ منفيين ضرورةً بوجودِ ضدّهما، فالضدُّ ينفي ضده، فلا يبقى للنهي عن الضدِّ مساغ، مع كونه ينتفي بحصولِ الضدّ. وتفصيح هذا وإخراجُه إلى النطقِ به يكشفُ عن صحته أن هذا المستدعي لقيامه لو قال له: قم، ولا تكن حالَ قيامِك جالساً، وانطق، ولا تكن حال نطقك ساكتاً، لعُدَ لاغياً عابثاً، وما كانَ ذلك لغواً إلا لما ذكرنا من أن قيامه ينفي قعوده، وكلامَه ينفي صماتَه، فلا يبقى ما يقع عليه النهي، ولا يدخلُ تحتَ إمكانِ المأمورِ بالضدَّ فعلُ الضدِّ فنهيَ عنه. ومن ذلكَ: ما تعلّق به أهلُ الكلامِ منهم: لو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضدّه، لكانَ له متعلّقان، أحدُهما مأمورٌ به، والآخر منهيٌ

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

عنه، ولوجبَ أن يتعلق بشيئين على جهةِ العكس، وهذا باطلٌ لأن كلَّ ماله تعلق من الصفاتِ لا يصحُ أن يتعلق إلا بمتعلقٍ واحدٍ على وجهٍ واحدٍ. فصل يجمع الأجوبةَ عن شبههم فأمَّا قولهم: إنَّ صيغةَ الأمرِ والنهي ضدّان فلا يجتمعان. فلا تضاد بينهما إذا تغاير ما ينصرفان إليه، فإنَه يحسُنُ أن يقول: لا تقعدْ. مكانَ قوله: قم، وبدلًا منه، فإذا قال: قم، فهو آمرٌ بالقيام، ويندرج فيه النهيُ عن القعودِ معنىً، والذي يتضادُ مضادةً يستحيلُ اجتماعُهما في حق الواحد أن يقول: قمْ اقعدْ، أو قمُ اضطجعْ في حال. فذاكَ الذي لا يجوزُ اجتماعُه في الخطاب، كما لا يصحُ اجتماعُ المأمورِ به في المحل الواحد، وكل عاقلٍ من أهل اللغةِ يفهم من قوله: قمْ أنَه قد نهاه عن أن يقعدَ ويضطجع، وعن كل ضد يخرج باعتمادِه عن القيام المأمور به، كما يعقل للنهي عن ترك ما أمر به، ولا فرقَ بين تركِ ماَ أمره به، وبينَ فعل ضده، إذ لا يُتصور تركُ القيام إلا بفعلِ ضدٍّ من أضدادهِ، مثل قعودَ أو اضطجاعٍ، وقد أوضحَ اللهَ تعالى ذلكَ بقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] هذا أمر بالسعي، ثمَ قال: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} فيفصح بالنهي عما الاشتغال به، يقطعُ عن السعي، ولو سكتَ عنه لكان في قوةِ اللفظِ ما يُعلمُ به أنه نهيٌ عن كل قاطعٍ عن السعي، وإنما اقتصرَ على النهي عن السعي لأنَه أهمُ أشغالِ الناس وهو الذي ذَكَرَ الله تعالى عن

أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم انفضوا إليه وتركوه قائماً (¬1)، فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] يعني التجارةَ، لكن اللهو الذي كان يُفعل بين يدي القوافلِ تابعٌ لها ومنبه عليها، وهي المقصودةُ بالتجارةِ، فصرفَ النهي إلى البيع لهذه العلةِ، والمعقولُ من ذلكَ: النهيُ عن كل مشغلٍ عن السعي إلى الجمعةِ. ومما يشهد لاندراج النهي في لفظِ الأمرِ وإن لم يكق مصرَّحاً به وأنه لو صرّح به لما كان من المضادِّ له، قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] نهى عن التأفيف، ونبه على ما زاد عليه، فكأنه قال: لا تؤذِهما بأقلِّ الأذى. منبهاً على أكثره، وإن لم يوجد في اللفظ ذلكَ فقد وُجِدَ معناه، كذلك النهيُ هاهنا مندرج، وليس بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدهِ تضادٌ، بل أكثرُ موافقة، وإنما التضادُ بين الأمرِ المطلقِ والنهيِ المطلقِ، والأمرِ بعينِ شيء، والنهي عن عينِ ذلك الشيء، فبطلَ ما تعلقوا به من الِإحالةِ لاجتماعٍ من جهةِ التضاد بين الصيغتين. ولأنّه إذا كان تركُ الضدين شرطاً لفعلِ المأمور به، حسُن أن يجعلَ الأمر بالمشروطِ أمراً بالشرطِ من طريقِ المعنى، وإن لم يكن من طريقِ اللفظِ، كمن أمرناه بالصلاةِ التي قد ثبت أنَّ من شرطها تقدمَ ¬

_ (¬1) وردَ ذلكَ من حديث جابر بن عبد الله: "بينما نَحنُ نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت من الشام عيرٌ تحملُ طعاماً، فالتفتوا إليها حتى ما بقيَ مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجَلاً، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ...} [الجمعة: 11]. أخرجه البخاري (936) و (2058) و (4899)، ومسلم (863)، والترمذي (3311).

الطهارةِ، حسُن أن نقول بأنَ الأمرَ بها أمر بالطهارةِ معنى، كذلكَ حسُن أن نقول: إنّ استدعاءَ الفعلِ ها هنا استدعاء لتركِ ضدّه معنىً، إذ كان ذلكَ شرطاً له. وأمَّا قولهم: لو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضدّه، لكانَ منهياً عن ضدّ النوافل وهو التركُ لها، أو كل فعل يضادها من الخياطةِ والتجارةِ وغيرِ ذلك، ولو كانَ منهياً عنه لكانَ مكروهاً أو منزَهاً عنه. فلا يلزمُ، لأن النهيَ عن الضدّ بحسب الأمر، وإذا قلنا: المندوبُ مأمور، فإن كلَّ ضدٍ لها يستحبُ تركُه إذا لم يكن واجباً لأجلِ قضاءِ دين أو إنفاقٍ على عيال، كما يجبُ تركُ ما يسقطُ بفعلِه الواجب من أضداده، إلا أن يكون الضدّ واجباً فعلُه مقدَّماً وجوبُه على وجوب المأمورِ به، فعلى هذا إذا أمر بصلاةِ التراويح، كان أمرَ استحباب، اَستحببنا له تركَ كلِّ شُغل عنها، ونهيناه على حدِّ الأمر بها عن كل ضدٍّ لها. وأمَّا قولُهم: لو كانَ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضده، لكانَ العلمُ بالشيء جهلًا بضدّه. لا يصحّ، لأنَّنا نقول: وما الجامعُ بين الأمرِ والعلم؟! على أنَّ الحق أن يقال: يصحُّ أن يعلمَ الشيءَ وضدَّه في حالةٍ واحدةٍ، ولا يأمرُ بالشيء وضدّه، وذلك لأنَّ العلمَ بالشيء لا ينافي العلمَ بضدّه، والأمرُ بالشيء ينافي الأمرَ بضدّه، فلا يكونُ فاعلًا لشيءٍ إلا بتركِ ضدِّه، ويكونُ عالماً بالشيء، وإن لم يكن جاهلاً بضدّه، ولأنهم وافقوا أنَّ كلّ آمرٍ بشيء ناهٍ عن ضدّه، وليسَ يجبُ أن يكونَ كل عالمٍ بشيءٍ جاهلًا بضده.

وأما قولهم: لما لم يكن النهيُ بالشيء أمراً بضدّه، لا يكونُ الأمرُ بالشيء نهياً عن ضده. فكذلكَ نقول: وإنّه إذا نهاه عن شيءٍ له ضدَّ واحد كالحركةِ، فقد أمرَه بالسكون معنىً، وإن نهاه عما له أضداد، فقد أمره بواحد من تلكَ الأضدادِ، مثل أن ينهاه عن الاضطجاعِ، فيكون آمراً له بالجلوسِ أو القيامِ، وفي الجملة، ما يكون به خارجاً عن الاضطجاعِ أيّ الأضداد كان. وأمَّا قولهم: يفضي إلى أن يكون للأمر متعلقان، لأن كل ماله تعلُّق من الصفاتِ لا يصحُ أن يتعلّق إلا بمتعلَّقٍ واحد على وجهٍ واحدٍ. فليسَ بصحيح، لأنَّ صفاتِ القديمِ سبحانه خاصة يصحُّ أن تتعلّق بكل ما يصحُ أن تتعلق به صفاتنا من العلمِ بالعلومِ، تعلق العلم بالمعلوماتِ، وقد بينا ذلكَ في أُصولِ الديانات. على أنَهم قد ناقضوا هذا بقولهم: إنَ القدرةَ الواحدةَ تكون قدرةً على الشيء ومثله وضده وخلافه. وأوضحنا أنَّ نفسَ الِإرادةِ للشيء كراهيةٌ لضدّه، وأنها تتعلق بشيئين، وتكونُ متعلّقة بأحدِهما على العكس من تعلّقها بالآخر، فبطلَ ما قالوه (¬1). ¬

_ (¬1) ورد هنا في نسخة الأصل ما نصه: "آخر الأول، يتلوه: الأمرُ بالشيء ليس بنهي عن ضدّه من طريقِ اللفظ. تممه محمد بن محمود المراتبي، في الثالث من ربيع الثاني سنة ثمانٍ وعشرين وست مئة. وصلى الله على محمدٍ وآله. يا رب، يا رب، يا رب، يا حي يا قيوم، ياذا الجلال والإكرام، اغفر لي".

* فصل: الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده من طريق اللفظ

فصل (¬1) الأمرُ بالشيء ليسَ بِنَهى عن ضدِّه من طريقِ اللفظِ (¬2) خلافاً للأشعرية (¬3). وذكرَ أبو بكر الباقِلاني (¬4): أنَ ذلكَ في الأمرِ من كلام اللهِ تعالى خاصةً بما قرروه من أصلهم، وأنَ كلام اللهِ شيءٌ واحد، ليسَ بأشياءَ متغايرة، وليس ذلكَ في كلامِ الآدميين؛ لأنه متغايرٌ في النفسِ، كما يتغايرُ عندَ من أثبته صيغاً في النطق. فصل في الدلالةِ على ذلك إن الأمر استدعاءُ الفعل، والنهيَ استدعاءُ الترك، وكما لا يجتمعان في الصيغةِ التي هي حكايةٌ عند المخالف، لا يكونُ المحكيُّ أمراً ناهياً، ولا في محل إلي محل، كالكراهةِ والإرادة، ولأنَ العرب -وهي الأصل في هذا- وضعت الأمرَ استدعاءً للفعل وحثاً عليه، والنهيَ للكف عنه والإبعادِ منه، وإذا فَصَلَتْ بين الأمرينِ لم يُلتفت إلى مخالفِها بما يضعه من مذهب، وصار كالخبرِ بالإثبات مع الإخبارِ بالنفي لمّاَ وضعت له صيغتان تدلُّ على معنيين مختلفين، لم يكن قولها: زيدٌ في الدار, ليس هو قولها: ليس زيدٌ في السوق، لكن نعلمُ ذلك من طريق الاستدلالِ، وأنَ الجسم لا يكونُ في مكانين، فأما من طريق اللفظ، فلا. ¬

_ (¬1) من هنا بداية الجزءالثاني من الأصل الخطي. (¬2) مقصودُه أن الأمرَ بالشيءِ نهيٌ عن ضده من طريق المعنى لا اللفظ، وهذا مذهبُ الحنابلة كما ذكر ابن تيمية الجذُ في" المسؤَدة" ص 49، وانظر تفصيل المسألة في "شرح مختصر الروضة" 2/ 380، و"التمهيد" 1/ 329، و"العدة"2/ 368. (¬3) انظر "البرهان" 1/ 250، و"العدة" 2/ 370. (¬4) ذكر قول الباقلاني هذا إمام الحرمين في "البرهان" 1/ 250.

- فصل في شبههم

فصل في شُبههم فمنها: أنه لا فرقَ بين قولِ القائل: دَنَت الشمسُ من المغربِ، وبين قوله: [21/ 2] بَعُدت من المشرقِ. فكذلك قوله لمن كان من عبيدهِ مقارِباً لزيدٍ: اقترب من عمرو. (1 ................................................................................ 1) له دراهم -لفظان: ثمانية وعشرة إلا درهمين- أن هذا غير هذا، كذلك لا يكونُ النطقُ بالأمر بالشيء ليس هو النهيَ عن ضدّه، ولا يقالُ: هو غيره. فصل في أجوبة شُبههم أمَّا دعواه أنهُ لا فرقَ في اللفظِ الأوّل بين البعدِ والقربِ، فلعمري أنه لا فرقَ في المعنى، فأمَّا من طريقِ اللفظ، فبلى، ونحنُ لا نمنعُ أنهما في المعنى سواء، ألا ترى أنَّ زيداً (¬2) الفقيه الشيخَ العربي، إذا نوديَ بيا زيدُ، أو يا رجُل، أو بيا فَقيهُ، أو بيا شَيخُ، أو بيا عَربي، كان النداءُ في المعنى واحداً وفي الألفاظِ مختلفاً؟ وكلامُنا في النهي من طريقِ اللفظ. وأمَّا الثمانية، فداخلة في العشرة دخولَ البعضِ في الجملةِ، وليس دخولُ النهي في الأمرِ دخولَ البعض، لأنه ليس في الأمرِ نهي وتحتَ العشرة ثمانية، فإذا أخرجَتْ بالاستثناءِ الدرهمان، بقي ثمانيةٌ لا محالة. ¬

_ (1 - 1) هنا طمسٌ في الأصل بمقدار سطرين. (¬2) في الأصل "زيد"، والصواب ما أثبتناه.

* فصل الفرض والواجب سواء في أصح الروايات عن أحمد

فصل الفرضُ والواجبُ سواءٌ في أصحِّ الرواياتِ عن أحمد رضي الله عنه (¬1)، وبها قال أصحابُ الشافعي (¬2)، وعنه روايةٌ أخرى: أنَّ الفرضَ ما ثبت بدليل مقطوعٍ عليه، والواجبَ غيرُه، وهو ما ثبتَ بخبر واحد، أو قياسٍ. فالفرضُ على هذه الرواية آكدُ من الواجبِ، وبها قال أبو حنيفة (¬3). وعنه (¬4): أن الفرضَ ما ثبت بقرآنٍ، ولايسمَّى فرضاً ماثبت بسنةِ النبي- صلى الله عليه وسلم -. فصل في جمع الأدلة على الرواية الأوَّلة. فمنها: أنَّ التزايدَ (5 .............................................. 5) عُلِمَ لنا بمقاديرِ العقوباتِ في واجبٍ دون واجبٍ، وإن وُجِدَ ذلك في شيء منها، كالصلإةِ يقتلُ بتركها، ويُكَفرُ بتركها عند قوم، والصَومِ والزكاةِ والحجّ، فلا يقال: إنَ ¬

_ (¬1) انظر تفصيل المسألة في "المسوَّدة" (50 - 51)، و"العدة" 2/ 376، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 351، و"تيسير التحرير" 2/ 135. (¬2) انظو "المستصفى"1/ 66 (¬3) "تيسير التحرير" 2/ 135، و"أصول السرخسي" (1/ 110 - 113). (¬4) أي رواية أُخرى عن أحمدَ، فحصَلَ بذلكَ أنَه قد رُويَ عن الإمام أحمد ثلاثُ روايات: الأولى: أنه لا فرقَ بينَ الواجبِ والفرضِ وهو رأيُ جمهورِ الأُصوليين. الثانية: أن الفرضَ ما ثبتَ بدليلِ قطعي، والواجبَ ما ثبتَ بدليلٍ ظني. وهو في هذا يتفق مع الحنفية. الثالثةُ: أنَ الفرضَ ما ثبتَ بقرآن. وما لم يثبت بالقرآن لا يُسمى فرضاَ حتى لو كان الدليل عليه قطعياً. وأصحُّ الرواياتِ عن أحمدَ الروايةُ الأولى، كما سيأتي. (5 - 5) طمسٌ في الأصل.

الصلاةَ من بينِ الفرائضِ تفضل برتبةٍ تَخْرُجُ بها عن الفرض إلى ما هو أعلى، ولا يخرجُ ما دونها عن الفرضِ، بل تساويها سائرُ العبادات في الفريضة. ومن ذلك: أنا أجمعنا على أنَ كل فرضٍ واجبٌ، فمن ادعى أن ليس كلُّ واجب فرضاً (¬1)، يحتاج إلي دليل. ومن ذلك: أنَ الله سبحانه أطلق اسمَ الفرض على الواجب، فقال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] وعنى به: أوجَبَ فيهن. ومن ذلك: ان قوَّة الطريق، وكَوْنَ الدليلِ مقطوعاً لا يؤثر إلا علماً بالمنقول، فأمَّا أن يؤثّر في الوجوبِ فلا، ألا ترى أنَ النوافلَ التي تواتَر الخبرُ بها لا تَصير واجبةً بقوة الطريقِ، بل يكونُ العلم بها قَطعياً، وهي سنة أو نافلة -وغايةُ ما يُستدلّ به على الوجوبِ؛ القرائنُ والدلائلُ على أنه مَحتوم على المكلّف مَأثومٌ معاقب على تركه، ولا يبقى بعْد ذلك إلا مراتبُ الواجباتِ في استحقاقِ الذّم والعقوبةِ على الترك، كما في المنهياتِ، تكون متساويةً في الحظرِ والتحريمِ، ولا يبقى بعد ذلك إلا التفاوتُ في عقوبات (2 ............................................................ 2) منها، مع عدمِ المداومةِ عليها ولم بُعتبر في كونِها كبيرةً أن يكون طريقُ تحريمها قطعياً، بل تَضاعُفُ عقابِها في الدنيا بالجزاء، والآخرةِ بالوعيد، أوهما. فكان يجبُ أن تَخُصَّ الفَريضةَ -إن جعلتهاَ أكبَر من الواجبِ- بزيادةِ ثوابٍ على فعلها، وكثرةِ عقابٍ على تركها دون تأكُّد طريقها. ومن ذلكَ: أنَ مُدّعي اسم الفرض لمِا ثبتَ بدليلٍ مقطوعٍ، كمدعي اسم النفل لما ثبتَ بدليلٍ مظنونٍ، فيخلع على كل أمرٍ وَرَدَ من جهةِ الشارعِ بخبرِ واحد اسمَ نفلٍ، وهذا صحيحٌ؛ لأنَّ الطريقَ المقطوعَ إذا أورث قوةً في الإيجاب ومَزِيَّةً هي الفريضة، ¬

_ (¬1) في الأصل "فرض" والصواب ما أثبتناه. (2 - 2) طمس في الأصل.

وصَلُح للرفعِ والتعظيمِ، وجَبَ أن يُعطى نقيضُه التدوينَ والتقليلَ في الرتبةِ، فيكونُ كُلُّ أمرٍ ثبتَ بطريقٍ مظنونٍ ودليلٍ غيرِ مقطوعٍ نفلاً محطوطاً عن رتبةِ الإيجابِ، فلما لم يُدوّن الدليلُ المظنونُ رتبةَ المأمورِ فيجعله نَفلاً، لم يَرفع قوة الطريقِ للمأمورِ فيجعله فرضاً، وما جُعِل الدليلُ المقطوع للأمر فرضاً إلا تَشَهِّياً ووضعاً بغير دلالة، و (1 لا إحالة فيه رأساً 1) ودعوى بلا برهان لا ثباتَ لها. ومن ذلك: أنَ لفظةَ الوجوبِ آكدُ من لفظةِ الفرض؛ لأنها تعطي السقوطَ والوقوعَ، يقال: وَجبت الشمسُ، ووجبت جنوبُ الضحايا والهدايا، ووجبَ الحائطُ. إذا سَقَط، فإذا قيل: وجبت العبادةُ. فالمرادُ به: وقَع الخطابُ بها على المخاطَب، وسَقط كسقوطِ الجدارِ وثباته. (2 ............................................................................... 2) و {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 38]، يعني: أحل له. والفرضُ بمعنى الحَزِّ والأثر، من فُرضةِ النهر (¬3)، وفُرضةُ القَوسِ: مَحَزُ الوَتر، وأثرُ المشي الذي هو المَحَاج من المشَارعِ (¬4) المطروقةِ. والفرضُ بمعنى التقديرِ، فَرَضَ القاضي [النفقة: أي قدرها] (¬5). وإذا كانت مشتركة، والواجبُّ يُتَّخذُ للإلزامِ والانحتامِ، كان الإيجابُ أحقَ بالتأكيد، فإذا لم يتأكد على الفرضِ بالإجماعِ منا، بقي التساوي، وانعدمت بذلكَ ¬

_ (1 - 1) هكذا وردت العبارة في الأصل. (2 - 2) طمس في الأصل، والذي يُفهم من سياقِ الكلامِ أنَ العبارة المطموسة هي تكملةٌ للمقارنةِ بين معنى الفرضِ والواجبِ. (¬3) هي ثُلْمته التي منها يُستقى."اللسان": (فرض). (¬4) جمع مَشْرَعة، وهي المواضع التي يُنحَدرُ إلى الماء منها. "اللسان": (شرع). (¬5) ما بين معقوفتين زيادة يستقيم بها المعنى، وقد ذكر المصنف تعريف الفرض والواجب في الصفحة 29 من الجز الأول.

- فصل يجمع أسئلتهم على حججنا

مزية الفرضِ وتأكدُه على الواجب. ومن ذلكَ: أن قالوا: إن اختلافَ طُرقِ العبادةِ لا يُعطي تَميزاً واختلافاً، ألا ترى أنَ النوافلَ التي تفعلُ ابتداءً مع المسنوناتِ الراتبةِ التي وردت في السننِ والمسانيد يجمعهما اسمُ النَفل، ولا يمتاز بعضها (¬1) على بعضٍ بقوَّةِ الطرق واشتهارها، كذلك الواجباتُ، إذا امتازَ منها شيء بقوّة الطريقِ لا يمتاز بالفوة واسمِ الفرض. فصل يجمعُ أسئلتَهم على حججِنا فمنها: أنَ الدعوى لتساويهما لا تُسَلَّم، فإن الواضعَ للغةِ جعلَ الوجوبَ اسماً للسقوطِ، والفرضَ اسما للتأثير، ومن ذلكَ سُمَّيت فرضةُ النهر والقوس: فرضةً لمكانِ الأثر، والتأثيرُ آكد من الوجوب، فيجبُ أن يُعطى الاسم حقَه من التأكيد. ومن ذلك: قولُهم: إنَّ تَساوي الفرضِ والوجوبِ في العقابِ على التركِ لا يمنع تمييز [الطريق التي ثبت بها الفرض عن الطريق التي ثبت بها الواجب، فثبوت الفَرضِ بطريقٍ مقطوعٍ به، والمكذبُ للطريق] (¬2) القطعيِ يَكفُر، والمكذبُ [للطريق الظني] (2) يفسق. فهذه ميزة حكمية، تشبه الميزةَ التي تعلقتم بها من مضاعفةِ العقوبةِ في الدنيا، والوعيدِ في الأُخرى. ومن ذلكَ: أن إلزامكم لنا المنهيّات، وأنها ما تأكَّدت بحكمِ تَأكُد طَريقها، لا نُسلِّمه، فإنَّ أحمد قال في المتُعة: لا أقولُ إنها حرام (¬3). وقال في الجمعِ بين المملوكتين: ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "بعض". (¬2) هنا طمسٌ في الأصل، وما بين المعقوفتين من اجتهادنا وفهمنا للسياق. (¬3) هذه روايةُ أى بكرِ المروذى عن أحمد، لأنَ ابن منصور سالَ أحمدَ عنها فقال: يجتنبها أحب إليَّ. قال- أي أبوبكر المروذي-: فَظاهرُ هذا الكراهةُ، دون التحريم. وهذا فهم له غير صحيح، وغيرُ أبي بكرٍ من الحنابلةِ يمنعُ هذا، ويحكمُ ببطلانِ نكاحِ المتعةِ، وهو القول الصحيح المقرَّرُ عند عامةِ الصحابةِ والفقهاءِ، انظر "المغني" 10/ 46.

- فصل يجمع الأجوبة عن هذه الأسئلة

لا أقولُ حرام، لكن منهيٌّ عنه. أو قال: يُنهى عنه (¬1). وقال أبو بكر (¬2) -من أصحابنا-: إنَّما وقف لوجودِ الخلافِ (¬3)، وهذا يُعطي انقسامَ المحظورِ عنده إلى حرامٍ، ومَنْهيٍّ ليس بحرامٍ، كانقسامِ الوإجبِ إلى فرضٍ وغيرِ فرض (¬4). فصل يجمعُ الأجوبةَ عن هذه الأسئلةِ أمَّا التأثيرُ في الفرضِ، فما ثبت أنه يرجعُ إلى المضافِ إلى إيجابِ الشرعِ، وإنما ثبت (5 في فُرضةِ5) القوس وفُرضةِ النهر، وعساه ترجعُ العباداتُ من حيث كونُه منزلاً، أو من حيث كونُه مقدراً، ومن الذي خَصَّ من بين المعاني المشتركة التي ذكرناها التأثيرَ منها بفرضِ العياداتِ دون التنزيل والتقديرِ ليكون الوجوبُ آكدَ منها (¬6)؟ ¬

_ (¬1) هذه روايةُ ابن منصور عن أحمدَ، أنَّه سأله عن الجمع بين الأختين المملوكتينِ. أحرام هو؟ قال: لا أقولُ حرامٌ، ولكن نَنهى عنه، والمعتمد عند الحنابلة وفق ما نصَّ عليه أحمد أنَّه لا يجوز الجمعُ بين الأختين المملوكتين في الَوطء، وهو مذهبُ أبي حنيفة ومالك والشافعي. انظر "المغني" 9/ 538. (¬2) تقدمت ترجمته في الجزء الثاني. (¬3) ولقد تعقَب ابن قدامة أبابكر المروذي في هذه الرواية، فقال: "غير أبي بكرٍ يمنعُ هذا ويقولُ في المسألة روايةً واحدةً في تحريمها، وهذا قولُ عامَّةِ الصحابةِ والفقهاء" "المغني" 10/ 46. (¬4) فسر الإمام ابنُ القيم هذهِ الروايات وأمثالها، تما لم يصرح فيه بالتحريم، على أنَ المتقدمين كانوا يتورعون عن إطلاق لفظِ التحريمِ وأطلقوا لفظَ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة المتقدمون الكراهة. وهذا غلط من المتأخرين؛ لأنَّ المتقدمين لم يقصدوا المكروه بمعناه الاصطلاحي الحادث، وإنما قصدوا ما استُعملَ فيه في كلامِ اللهِ ورسوله. انظر "إعلام الموقعين"1/ 39 - 43. (5 - 5) في الأصل مكرّر (¬6) تقصِدُ أنَّ لفظَ الفرض من الألفاظِ المشتركة، التي تتنازعها عدةُ معانٍ، ومن معانيها؛ التنزيلُ والتقديرُ إضافة إلى التأثير وحملُ لفظِ الفرضِ على معنى التأثير دون غيرِه من المعاني الأُخرى المحتَملةِ تحكمٌ من غيرِ دليل.

- فصل في ذكر ما تعلق به من نصر الرواية الأخرى

وأما قولُهم: إنَ تساوي الوجوبِ والفرضِ في حصولِ العقابِ لا يوجبُ تساويهما في الاسمِ، كالندبِ والمستحبِ مع النفلِ، فإنهما استويا في نفي العقابِ بالتركِ. والندبُ والسُنة والمباحُ لا يتساوون، بل للسنة ميزة. (1 ............................................................................. 1) وأما قولهم: إن ثبوت الفرض كونه قطعياً يوجب الميّزة والتأكيدَ؛ لأنه يكفر (¬2) مُكذبُهُ، فذاكَ ليس بعائد بتأكيد، فإنَ المباحاتِ طُرقها مقطوع بها، ولو كذبَ بطريقها كَفر ولا تَدُلّ على مساواةِ المباحِ للإيجابِ والفرض، حيث تساوت طرقه في حكمِ التكذيبِ بها. وأما دعواهم القول بموجب تأكيدِ المحظوراتِ بطرقها، وكلام أحمد في المتعة، وقوله بالنهي عنها دونَ التحريم لها، فليس مما نحنُ فيه بشيء؛ لأنه لم يتعلق في ذلكَ بالطريق ولا ميزها بحظرٍ دونَ حظر بل نَفى الحظرَ والتحريمَ، وسوَّى في النهي وليس بَعدَ نفيه للتحريم إلا الكراهةُ والتنزيهُ، فوِزانُه من مسألتنا أن نقول هنا: ليس بواجب، وإنما هو مأمورٌ به، فنشرِّكُ بينَ الفرضِ وغيرِه في الأمر وننفي الوجوبَ الذي هو وِزانُ التحريمِ في المنهيَّات، فبطل القولُ بموجَب ما ذكرنا. فصل في ذِكرِ ما تعلَّق به مَنْ نَصَر الروايةَ الأخرى فمنها: أن كل متدبِّرٍ للمأموراتِ من العباداتِ البدنية والماليّة يجدُ أنَ بعضها آكدُ وجوباً، وبعضَها فَريضة، وبعضَها يدنو عن رُتبةِ الفرضِ. من ذلك أن الإيمانَ ¬

_ (1 - 1) طمسٌ في الأصل، ويُفهم من سياقِ الكلامِ أنَ السنَة والندبَ وإن كانا قد ساويا المباح في نَفْي العقاب، إلأ أنَ للسنة ميزة على المباحِ، في كونه يثابُ فاعلُ السنَةِ. بخلاف المباح الذي تساوى فيه طرفا الترك والفعل. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "يكون".

بالله وصفاتهِ وكُتبهِ ورُسُلِه أعلى وآكدُ وأوجبُ [(1 من جميع الفرائض والعبادات؛ لأن انتفاء الإيمان يفسد تلك العبادات 1)]، ويُحبطها عن أن تُقابل بالثواب، [(1 ولم يقل أحد 1)]، بخلاف ذلك بالإجماعِ، إلا ما شذّ من المذاهبِ، وكذلكَ ما وجبَ بالنذرِ مع ما وجبَ بأصلِ الشرعِ (2 لا تكون 2) رتبةُ الصدقةِ المنذورةِ رتبةَ الزكاةِ المفروضةِ، ولا رتبةُ الوترِ عند من رأى وجوبَها (¬3) رتبةَ صلاة من الصلواتِ الخمسِ، ولا رتبةُ الأضحية عند من رأى وجوبَها (¬4) رتبةَ الشاةِ الواجبةِ في أربعينَ سائمة، أو خمس من الإبل السائمةِ، بل يستويانِ في الاسمِ الأعم وهو الوجوبُ، وينفردُ الواجبُ بأصلِ الشرعِ وإجماعِ الأمةِ، أو بتواترِ النقلِ باسم يخصُّه وهو الفرضُ، ومن ذلك ما يقدَرُ في اللغةِ من أنَّ الواجبَ ما سقط ولم يؤثر والفرضَ ما له وقع وتأثيرٌ من فُرضةِ النهر وفُرضةِ القوسِ، وهي المَحَاج المطروقةُ ومحَزُّ الوَتَر وللأثرِ زيادةٌ على الوقوعِ والسقوطِ بغيرِ أثر، فوجبَ أن تُعطى اللفظةُ حقَها إذا اضيفت إلى العباداتِ والمأموراتِ، وأثرُها تأكُّدُ وجوبِها على المكلف، وتأثير في نفسِه واعتقادِه، فهي أمسُّ وأوقع من لفظةِ الوجوبِ، ولهذا يقال: هذا دَينٌ واجب، ولا يقال: فرضٌ. وعلي صلاةٌ واجبةٌ، إذا نَذَر, ولا تقولُ: فريضة. وتقولُ الناذر: أوجبتُ على نفسي، ولا يقولُ: فرضتُّ على ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، وما بين معقوفتين قدرناه بحسب المعنى والسياق. (2 - 2) مكرر في الأصلِ. (¬3) يعني أباحنيفهَ -رحمه الله- وحُكيَ هذا عن ابن مسعود وحذيفة والنخعي، وهو ما ذَهب إليه أبو بكرِ المروذي من الحنابلة. وقول أكثر العلماء: إنها سنة مؤكدة. انظر "المغنى" 2/ 591، "البناية شرح الهداية"2/ 488 "المبدع في شرح المقنع" 2/ 3. "المجموع" 4/ 12. (¬4) ممن رأى وجوبَ الأضحية أبوحنيفة ومالك والثوري والأوزاعي والليثُ، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان له سَعة ولم يُضحِّ، فلا يقربنَّ مُصلانا" "سنن ابن ماجه" 2/ 1044. وأكثر أهل العلم يرونَ الأضحيةَ سنَةَ مؤكدةَ، وبهذا قال الشافعي وأحمد وأبو ثورِ وعطاء وإسحاق، انظر "المغني" 13/ 360، "البناية شرح الهداية" 9/ 107، "المجموع" 8/ 383.

نفسي، ما ذلكَ إلا لتخصيصِ الفرضِ با لميزةِ، والتأكيدِ على كل واجبِ .......... (¬1) والجوابُ عنه من وجهين: أحدُهما (¬2): أنَ الواجبَ غاية لا تقبلُ الزيادةَ، وهو المأمورُ به على الحتمِ والحزمِ الذي لا يُعفى عن تاركِه، ولا يُتقَضَى (¬3) عن عهدةِ الأمرِ به إلا بفعلِه، ومتى تركَه المأمورُ به استحقَ العقاب، وهذا يعمُ الفرضَ والواجبَ، فدل على أنهما اسمان لمسمَّى واحد، كصيغة الأمرِ بالإيمانِ وبفروعِه من العباداتِ يَشملهما الأمر ولا يقالُ: إنَ الاستدعاءَ والطلبَ لأحدِهما فوقَ الاستدعاءِ للآخر ثم لو سُلم تأكُد أحدِهما على الآخر، لم يكن تأكيدُ الفرض على الواجبِ بأولى من تأكيدِ الواجبِ على الفَرضِ، وقد بينا أنَ اسمَ الواجب لا يُشاركه غيرُه فيه، والفرضَ مشترك. فإن قيل: الواجبُ يقع على المندوبِ، بدليلِ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "غُسلُ الجمعةِ واجبٌ على كُل مُحتلمِ" (¬4). قيل: لانُسلم، بل غسلُ الجمعةِ واجبٌ حقيقةَ، ولو سلَمنا فقد يُصرفُ اسمُ الحقائقِ إلى الاستعاراتِ بدلالةِ، ولا يدل على ضعفِ الحقيقةِ فيما وُضعت له لأجْلِ الاستعارةِ، ولان الفرضَ قد يقعُ على ما هو واجب على الكفاية، إذا قامَ به قوم سَقطَ عن الكُل، ويقعُ على التقديرِ وعلى النزولِ، وعلى الوجوبِ، ولفظُ الوجوبِ خاص للأمرِ والمأمورِ المحتومِ، فلا ترجيحَ، فلا يصحُ لك تعيينُ الفرضِ ......... (¬5). فلا يصح لك الاحتجاج به إلا بعدَ أن تبين أن الفرض ¬

_ (¬1) طمسٌ في الأصل. (¬2) لم يذكر المؤلف غير هذا الوجه. (¬3) أي: يُخرج منها. "اللسان": (فصى). (¬4) تقدم تخريجه 2/ 508. (¬5) طمس في الأصل، والذي يفهم من سياقِ الكلامِ أنه لا يصح جعل الفرض على معنى التأثير دون غيرِه من المعاني الأخرى المحتملة.

- فصل يتعلق على الأول

المقصود في العبادات هو المأخوذُ من فُرضةِ القوسِ والنهرِ فأمَّا والفَرضُ قد يقعُ على النزولِ والتقديرِ كوقوعهِ على التأثير فلا وجهَ للتأكيدِ به على اسمِ الواجبِ المتخصص باللزوم، وإيجابِ العقابِ على تركهِ، وهو متخصص بهذا المعنى، غيرُ متردد بينه وبينَ غيره، على أنَ التعويَل على التأثير, لو اتّخد به الفرضُ ولم يشركه فيه تنزيل ولا تقدير لا يصحُّ، ويخرجُ عنه الواجبُ، فإن كُل واجبٍ مؤثر وهو أنه يُجبَرُ على فعلِه، ويعاقبُ على تركهِ، ويشغلُ ذمته في ابتداءِ الخطابِ به، ويلزمُ ذمته القضاءُ له عند فواتِه، ويجبُ اعتقادُه، ويفسُق بتركِه، ويشترطُ في عدالته التزامُه عندَ الخطابِ به، وفعلُه عند دخولِ وقته، فهل في التأثير ما يوفي على هذا؟ فتأثيرُ فُرضةِ القوسِ والنهرِ حَزَة في الجسمِ، وتأثيرُه في التكليفِ حَسْب ما يليقُ به من الآثارِ التي هي الأحكام. وأمَّا دعواهم الفرقَ بين النذرِ وإلزامِ الشرعِ، فدعوى فارغة، وإلاَّ فالقادرُ يحسنُ أن يقولَ: فرضَ اللهُ فيَ صوم شهرِ رمضان، وفرضتُ النذرَ على نفسي صومَ ذي الحجةِ أو رجبٍ. فلا أحَد يُنكرُ ذلك عليه شرعاً ولا لغةً، والله أعلم. فصل يتعلَّقُ على الأول ويجوزُ أن يقالَ: إنَ بعضَ الواجباتِ أوجبُ من بعض، وإنَ لنا فعلاً أحسن من فعلٍ، وطاعةً أحسن من طاعةٍ .......... (¬1). إحدى العبادتين أن تركها أشد، وهذا مما لا يمتنعِ منه أحد ممن لم ينسب الحُسْنَ والقبحَ إلا إلى الشرعِ، وسمع آيةً من كتابِ الله، أو سنة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تدُلّ على أنَ الصلاةَ أوفى ثواباً من فعلِ الزكاةِ، وأنها أوفى عقاباً في التركِ من تاركِ ¬

_ (¬1) طمس فى الأصل.

الصيام، على أنَ الصلاةَ أوجبُ، بمعنى آكد إيجاباً، وكذلك من سمعَ فضلَ صلاةِ الجماعةِ من الشرائطِ والأركانِ، والتأني في ركوعِها وسجودِها، والترتيل لقراءتها، وسمعَ ذمَ المسيءِ لصلاتِه، والناقرِ لسجودِه، والمفرقعِ لأصابعهِ، والمسدلِ لثوبهِ، حَسُن منه أن يقول: إنَ صلاة المتأني أحسنُ. ومن علم فضائلَ الوترِ والحث عليه، وحث الشرعِ على ركعتي الفجر، وقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلوهما ولو دَهَمتكم الخَيلُ" (¬1)، علم أنهما أشد ندباً من صلاةِ الضحى وأحسنُ، فهذا مما يشهد له قولُه صلى الله عليه وسلم لعائشةَ -رضي الله عنها-: "ثَوابُكِ على قَدرِ نَصَبكِ" (¬2)، وقال لماَ سُئِل عن أفضلِ الصلاةِ، قال: "طول القُنوتِ" (¬3)، وقوله: "تَفْضلُ صلاةُ الجميعِ على صَلاةِ الفَذِّ بخَمسٍ وعشرينَ درجةً" (¬4). والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أحمد 2/ 405، وأبوداود (1258) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل". (¬2) تقدَّم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: 254. (¬3) أخرجه أحمد 3/ 302، 314، ومسلم (756)، والترمذي (387)، والنسائي 5/ 58، وابن ماجه (1421). (¬4) رواه مالك 1/ 129، وأحمد 2/ 252 و328 و 454 و464 و 475 و 86 و 525، والبخاري (477) و (647) و (648) و (2119)، ومسلم (649)، وأبوداود (559)، وابن ماجه (786) و (787)، (788) والترمذي (216)، والنسائي 2/ 103، وابن حبان (2051) و (2553) من حديث أبي هريرة، وهو عند بعضهم مطولا وروى مالك 1/ 129، وأحمد 2/ 65 و112، والبخاري (645)، و (649)، ومسلم (655)، والترمذي (215)، والنسائي 2/ 103 وابن ماجه (789)، والدارمي 1/ 292 - 293، من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الرجل في جماعةِ تفضلُ على صلاةِ الرجلِ وحده بسعٍ وعشرين درجةَ".

* فصل: الأمر بالعبادة لا يتناول فعلها على الوجه المكروه شرعا

فصل الأمرُ بالعبادةِ لا يتناولُ فعلَها على الوجهِ المكروهِ شرعاً وكذلك غيرُ العبادة من الشروطِ التي لا يستباحُ العقدُ إلا بعدَ وجودِها، وذلكَ مثلُ الطوافِ بالبيتِ، لا يدخُل تحت قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]. (1 ................................................................ 1) هذا مذهبُ صاحبنا أحمد، وهو قول أصحاب الشافعي، وإليه ذهب أبو بكر الأشعري (¬2) واختلفَ أصحابُ أبي حنيفة (¬3)، فذهب أبو بكرِ الرازي (¬4) إلى أنه يتناولُ المكروهَ كما يتناولُ غيرَه، واختارَ أبو عبدِ اللهِ الجُرجانيُّ (¬5) ما ذهب إليه صاحبُنا. فصل يجمعُ ما استدلَّ به أصحابُنا ومن وافقهم فمنها: أنَ الأمرَ استدعاءٌ وطلبٌ، وهو ضربان: واجبٌ، ومندوب مستحبٌ، والكراهةُ: إباءٌ للمكروه، والندبُ: استحبابٌ له، واجتماعُ الاستحبابِ والإباءِ ¬

_ (1 - 1) طمسٌ في الأصل، ويفهمُ من سياق النص انه لا يدخل في أمرِه تعالى بالطوافِ بالبيت طوافُ المحدِثِ والعُريانِ وغيرِها من الصور المنهيِّ عنها. (¬2) هو الباقلاني، تقدمت ترجمته في الصفحة (122) من الجزء الأول. (¬3) انظر "أصول السرخسي" 1/ 64. (¬4) هو أبوبكر أحمد بن علي الرازي الحنفي، تقدمت ترجمته في الصفحة: 69. (¬5) هو محمد بن يحى بن مهدي، أبوعبد الله الفقيه الجُرجاني، من أعلام الحنفية، سكن بغداد وتفقه عليه أبوالحسين القدوري، عدَّه صاحب "الهداية" من أصحاب التخريج، توفي ببغداد سنة (397 هـ)، وقيل غير ذلك. "تاريخ بغداد" 3/ 433، و"الفوائد البهية": 202.

كاجتماع المحبّةِ للشيء والكراهةِ له، ولا يدخلُ المكروهُ تحت الإيجاب، ولا الاستحبابِ، نُحرّره قياساً: أنَّ المكروهَ مَنهي عنه، فلا يدخل تحت الأمرِ كالمحظور، وفي تضادّ الأمرِ والنهيِ ما في تَضاد الإيجابِ والحظرِ والإباحةِ، فكما لا يَجتمعُ الحظرُ والإباحةُ ولا الإيجابُ والحظرُ، كذلكَ لا يجتمع الأمرُ والنهيُ. ومن ذلكَ: أن المكروهَ غيرُ المأمور به، فإذا فعلَ لم يكن داخلاً تحت الأمرِ كما لو أمرَه بصلاة، فأتى بصومٍ، أو بصوم فأتى بصدقةٍ، فإنه لما كان قد أتى بغير المأمور به لم يُجْزِه، كذلكَ المكروهُ، ولا فرق بينهما. ومن ذلك: أنه لمّا أمر بالطوافِ، وقال: "ألا لا يَطوفنَّ بالبيتِ عُريان" (¬1)، وقال: "الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ" (¬2) (3 ................................................... 3) فلا يدخل تحت الأمر إذا خلا من شرطيه، بل يكون إطلاقُ الأمرِ منصرِفاً إليه بشرطيه الطهارةِ والستارةِ. ومن ذلكَ: أن الأمرَ بالطوافِ مع النهي عن التعّري، ومع الأمرِ برفع الحدثِ لا ¬

_ (¬1) رواه أحمد 2/ 299، والبخاري (369) و (1622) و (3177) و (س 436) و (4655) و (4656) و (4657)، ومسلم (1347)، وأبوداود (1946)، والنسائي 5/ 234. من حديث أبي هريرة قال: بعثني أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ حِجَّةِ الوداع فى رهط يؤذِّن في الناس، ألا لا يحجَّنَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. (¬2) دواه أحمد 3/ 414، و 4/ 64، و5/ 377، والنسائي 5/ 222 عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الطوافُ صلاة فإذا طفتم فاقلوا الكلام". وأخرجه الدارمي 2/ 44، والحاكم في" المستدرك" 1/ 459، و 2/ 260 و267 من حديث ابن عباس بلفظ: "الطواف بالبيت صلاة، إلأ أنَ الله أحل فيه المنطِق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير". (3 - 3) طمسٌ في الأصل، والذي يفهم من سياق العبارة، أن الأمر بالطوافِ بالبيتِ مقيد بتحققِ شروطِه؛ والتي منها الطهارةُ والسِّتارة.

- فصل في جمع اعتراضاتهم على أدلتنا وهي شبههم

يخلو أن يكونَ؛ لأن فعلَه على وجْه الكراهة مفسدةٌ، وفعلَه بالطهارةِ والستارةِ مصلحةٌ، أو لأنَ المشيئةَ أن لا يفعَله إلا كذلك، وأيُّهما كان لم يعْلم دخولُه تحتَ الأمرِ مع الإخلالِ بهما أو بأحدِهما. فصل في جمعِ اعتراضاتِهم على أدلّتِنا وهي شبهُهُم فمنها: ان الحدثَ مكروه، والطوافَ مأمورٌ به، فلا وجهَ لخروجِ الطوافِ عن الأمرِ لخروجِ المكروهِ عنه. والمكروه (1 معنى غير 1) الطواف، فصارَ كامتثالِ الأمر مع ارتكابِ نهي لا يخرجُ فعلُ المكلَّفِ المأمورِ به عن دخوله تحتَ الأمر؛ لأجلِ ارتكابه للنهي. ومن ذلك: أنَ الأمرَ بالطوافِ لا يتناولُ إلا الكونَ حولَ البيتِ دوراتٍ معلومةً وأشواطاً معدودةً، وذلكَ قد وُجد في لفظ الأمرِ، فأمَّا الطهارةُ، فلم ينتظمها اللفظُ، فلا يخرجُ من الأمرِ ما تناوله لأجلِ عدمِ ما لم يتناوله. فصل في الأجوبةِ عما ذكروه من اعتراضاتِهم وتعلقوا به فمنها أنَا لا نُسلِّم هذا التوزيعَ، وأنَّ الطوافَ مأمورٌ به، والتعرّي منهي عنه (2 ................................................................ 2) على صفة، مشروط بطهارةٍ وستارة (2 ................. 2) والمثابة لا تُوزَع فإن السيِّدَ إذا قال لعبده: ادخل على الأميرِ برسالتي مُتجمِّلاً مُكتسياً، والْقَ فلاناً راكباً. فدخل على الأمير عُرياناً أو متشعّثاً، ولقيص فلاناً راجلاً، لا يقالُ: إنه أطاعه، ولا امتثلَ أمرَه ¬

_ (1 - 1) في الأصل: "معنى عن"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (2 - 2) طمسٌ في الأصل.

وأتى بما أمَره، لا سيَّما وأوامرُ الله منوطةٌ بالمصالحِ، ولعل في الطواف محُدِثاً من الفسادِ ما يُربي (¬1) على تركِ الطوافِ رأساً. ولأنه إذا أمره بالطّواف، وأجمعَ المسلمون على اشتراطِ الطهارةِ، والكراهة (¬2) ما تناولت الطواف إذ لو كان راجعاً إلى غيرِ شرطٍ في الطَّوافِ ولا صفة له (¬3)، مثل قوله: لا تغصِب مالَ مسلم، وطُفْ بالبيت، ولا تشرب الخمرَ وطُف، فإذا شربَ الخمر وطافَ، كان بِشُربِ الخمرِ عاصياً وبالطوافِ طائعاً، وهذا قد استوفيناهُ في الصلاة في الثوبِ الغصْبِ والبقعةِ الغصبِ لمَّا ألزمونا: من صلَّى ومعه شيء مغصوبٌ لا يمنعُ صحةَ صلاته، وفرَّقنا بأن السُّترة شرطٌ مأمورٌ بها، فإذا اسْتَتَر (¬4) بالغَصب الذي نُهيَ عن الاستتار به، صار كالعُريان من حيثُ إنه قيلَ له: لا تَستتر بالغَصبِ، وصلِّ مستتراً. فلما استتر بما نهُيَ عن السُترة به، كان بذلك غير مُمتثلٍ، فأخلَّ بالشرطِ، وهذه جملة كافيةٌ في إبطالِ ما تعلّقوا به. فإن قالوا: كيف تصحُ منكم هذه المسألةُ (5 ....................................... .............................................................................. 5) ونهى آدمَ عن أكلِ الشجرةِ وأراده منه، فما الذي يمنعُ من أمرِه بما يكرهه؟ وما الفرقُ بين ما يكرهُه وبينَ ما لا يُريدُه (¬6)؟ بل هو يكره الإيمانَ من فرعونَ عندكم. قيل (¬7): ¬

_ (¬1) أي يزيد. (¬2) غير واضحة في الأصل، ولعل ما قدرناه هو الصواب. (¬3) هكذا وردت العبارة في الأصل. (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "استقر". (5 - 5) طمس في الأصل. (¬6) انظر ماتقدم في 2/ 481، و"شرح اللمع" 1/ 152 - 153، وما سيأتي في الصفحة 187. (¬7) هكذا في الأصل دون ذكر الجواب.

* فصل: الأمر يتناول المعدوم ويتعلق به

فصل والأمرُ يتناول المعدومَ ويتعلَّقُ به فأوامرُ الشرعِ التي نَطقَ بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والتي نزلت في كتابِ اللهِ تعالى، تناولت جميعَ أمَّتِه من لدن بعثتِه - صلى الله عليه وسلم - إلى قيامِ الساعة. قال أحمدُ: لم يزل اللهُ سبحانه يأمرُ بما شاءَ ويحكم. وبذلكَ قال الأشعريُّ (¬1) ومن تابعه من أصحابِ الشافعيِّ (¬2)، وذهبت المعتزلةُ ومَن تابعهم من أصحاب أبي حنيفة فيما ذكره الجُرجاني في "أصوله" إلى أنَ الأمرَ لا يتعلقُ بالمعدومِ (¬3)، وأنَ أوامرَ الشرعِ الواردةَ في عصرِ النبيَّ تَخْتصّ بهم، وأن من بعدهم تناولَه بدليل، ثمَّ إنَّ القائلين بتعلُّقِ الأمرِ با لمعدومِ اختلفوا؛ فقال بعضهم: فمذهبنا أنه أمرُ إلزامٍ وإيجابٍ حقيقة، كأمرِ الموجودين، لكن بشرطِ وجودِ المأمورِ على صفات التكليفِ، وإزاحةِ العلل، وتكاملِ الشروطِ من البلوغِ والعقلِ والسلامةِ التي يصحُّ معها استئنافُ الخطاب أن لو لم يتقدَم الخطابُ، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني. وقال قوم: إنه ماموو بشرطِ وجودِه، وزوال (4 ....................... .......................................... 4) فلايجوز. ¬

_ (¬1) يعني أبا الحسن الأشعري. (¬2) انظر رأي أبي الحسن الأشعري ومن تبعه من الشافعية في: "البرهان" 1/ 270، و"المستصفى" 2/ 81، و"المحصول"2/ 255. (¬3) انظر هذا في "أصول السرخسي"1/ 66. (4 - 4) طمسٌ في الأصل، والذي ظهر لنا أن المحذوف هو تتمة عرض الاختلاف في مسألة "تناول الأمر للمعدوم"، وقد تبين أنَّ المذهب في هذه المسألة أنه أمر إلزام وإيجاب على الحقيقة، بشرط وجوده على صفة يصحُّ تكليفه بها. سواء كان في الحال موجوداً يتوجه الخطاب إليه أو لم يكن. والأقوال الأخرى في المسألة: =

- فصل في جمع الأدلة على جواز ذلك

فصل في جمع الأدلة على جواز ذلك فمنها: أنَ الصحابةَ رحمة اللهُ عليهم، وجماعةَ التابعين بعدَهم كانوا يحتجون في المسائلِ بألفاظِ النبيَّ في أوامرِه ونواهيه في عصرِه صلى الله عليه وسلم، ويَرجعون في الحوادثِ إلى قضاياه وأحكامِه وبالآي التي نَزلت عليه، وقد ثبتَ بالإجماعِ تقدمُ كلامِ الله بها، ولو كان الأمرُ لأهلِ عصره خاصَّاً لما كان في ذلك حجةٌ على من حَدث بعده؛ لأنه كان معدوماً حين وجودِ الأمرِ ونزوله وتلفظهِ به. ومن ذلكَ: أنَ الأمرَ إذا عُلق على العاجزِ بشرط إِقْداره، والعادمِ للآلة بشرطِ حصولها، وفي الوقتِ الذي يضيقُ عن الفعل لما يتسعُ من الوقت في ثاني الحال؛ كان أمراً صحيحاً مشروطاً، ولو صرح به الآمر لَحَسُنَ ذلك عند كُلِّ عاقلٍ من أهلِ اللغةِ بأن يقول للنَجار اعمل لهذه الدارِ باباً، ولهذا القَراح (¬1) دولاباً. والنَجارُ مع الأمرِ له في مكانٍ لا آلةَ معه فيه، فيكون المعقولُ من ذلك: اعمله إذا أحضرتَ الآلة واتّسع الوقت، وكانَت أعضاؤك سليمةً، حتى لو كان مَريضاً أو معطَّل الأعضاءِ التي يقعُ بها العملُ، كان المعقولُ من أمره: إذا صحَت أدواتُك وتمكَنْتَ من الفعلِ، فافعل. وتعذّرُ الفعلِ بالعدم كتعذّرِه بالعجز (2 ......................................... 2 ..............................) يوجب تقدمها على الفعل، بل يصح تقدم الفعل. ¬

_ = 1 - أن الأمر للمعدوم يكون أمرَ إعلام، إذا كان كيف يكون، وليسَ بأمرِ إيجاب وإلزام. 2 - أنه يتعلق الأمر با لمعدوم، إذا كان هناك مخاطبٌ ببلاغه، فأمَّا إن لم يكن من يتوجه الخطاب إليه، فلا. انظر "العدة" 2/ 386، و"التمهيد" 1/ 352، و"المسوَّدة": 44. (¬1) القَراح: الماء الخالص الذي لا يخالطه ثُفل من سويق ولا غيره. (اللسان) (قرح). (2 - 2) طمس في الأصل.

- فصل في جمع أسئلتهم على أدلتنا

ومما يوضِّحُ أنَ الأمرَ إنما هو المتقدِّمُ دون ما عساهم يدَّعونه من تجددِ أمرٍ ثانٍ: أنه يحسنُ بإجماعِ العقلاءِ أن يقولَ لعبدِه والمأمورِ في الجملة عند حضور الآلة وزوالِ العائقِ في الأعضاءِ: إني كنتُ قدَّمتُ إليكَ الأمرَ بكذا، فإن كان قد أخَره مع زوالِ الأعذار وحصولِ الآلات، حَسُن أن يَعتبه ويؤنِّبه على تأخّرِه عن الفعل مع تقديم أمره، ولو كان الأوّلُ ليس بأمرٍ، لم يتجه نحوه عَتْبٌ ولا لومٌ ولا توبيخٌ إلا بعد تجديد أمرٍ ثانٍ. ومن ذلك: إجماعُ الأمة على جواز وصية الموصي، وهي أمرٌ حقيقةً لمعدومٍ، حتى إنه لو نطقَ بها أو كتَبها وأشهدَ على ذلك الشهودَ، كان ذلك أمراً لازماً لمن يحدثُ من ولده بعدَ الوصية، ومن يولدُ بعد موته، ومن تتجدد له ولاية من الولاة، ومن يكونُ صغيراً فيكبر أو مجنوناً فيعقل، ولا أحدَ يقول: إنها مجاز بل تتعلقُ بالوصي تعلّقَ حقيقة. ومن ذلكَ: ما يفسدُ به قولُ من اشترط مخاطباً بالأمرِ يكون مبلغاً (¬1) أنه قد ثبتَ أنَ أمْرَ اللهِ سبحانه من كلامِه، وأن كلامَه قديم، فما دل على قِدَم كلامِه دل على قِدَم أمره؛ لأنه أحدُ أقسام الكلامِ، وقد استوفينا ذلكَ في أصولِ الدين، وكذلك الوصية (2 .................................. 2) فصل في جمع أسئلتهم على أدلتنا منها: أن كل الصحابة أمِروا، الذين لم يكونوا موجودين حالَ أمره ولا في عصرهِ بقرائنَ دلَت على أن أولئك مأمورون، ودلائل تضمنت مشاركةَ المعدومين ¬

_ (¬1) تقديرُ الكلام: أنه يفسدُ قولُ من اشترط وجودَ مخاطَبٍ، يتوجه الخطابُ إليه حتى يصحَّ تعلقُ الأمرِ بالمعدومِ. (2 - 2) طمس في الأصل.

للمخاطَبين المعاصِرين له - صلى الله عليه وسلم -، ولم تُنقلْ تلكَ الدلائلُ والقرائنُ. وأما أمرُ العاجز فإنه ممن يصحُّ خِطابُه ويصرفُ الأمرُ إليه؛ لكونه عاقلاً يَفهمُ الخطاب، نعمْ ولا يخلو بفهمِه وعقلِه من فائدةٍ يَحسُن معها الخطابُ، وهي تلقي الأمرِ باعتقادِ وجوبه، والعزمِ على امتثاله، فهذان سببان للثواب، ويحصلُ ما يَحْسُن لأجله من الآمِرِ (¬1) الخطابُ، فأمَّا المعدومُ، فلا فائدةَ في خطابهِ، والأمرُ إذا خلا من فائدةٍ عُدَّ هَذياناً ووَسوسةً، فإنه من باب المتضايفات، يقال: آمر ومأمور، وضاربٌ ومَضروبٌ، ونداءٌ ومُنادى، ومحَبوبٌ ومُحبٌّ، فأمَّا آمر ولا مأمورَ له، فلا يعقل. ومنها: أن قالوا: الوصيَّةُ إعدادُ قولٍ وأمنٍ لخائفٍ من الفَوْتِ بالموت، ولولا ذاك لما حَسُنت الوصيَّة لما ذكرنا، وأنها خطابُ غيرِ مخاطَب، ولهذا حُسنَ تعليقها على الوقتِ الذي يُخرجُ الآمرَ عن صفة الآمرين، وهو الموتُ والعَدَم، واللهُ سبحانه لا يخشى الفوْتَ، ولا يحتاجُ إلى الإعدادِ، فيصير تقديمُ أمرٍ على وجود المأمورين لغواً، واللهُ سبحانه لا يجوزُ عليه ذلك. ومنها: قولُهم: إنه أمر بشرطِ الوجودِ، فينبغي أن توقفوا تسمية الأمر أمراً على شرطه وهو المأمور من باب المتضايفات (2 ................................ ......................................................................) إليها الاسم إلا بعد وجودِ شرطيها، لاسيِّما المتضايفات، والأمرُ كما لا بُدَّ له من آمرٍ لا بُدّ له من مَأمور. ¬

_ (¬1) في الأصل "الأحم"، والذي يظهر أنها محرفة عن "الآمر". (2 - 2) طمسٌ في الأصل، والذي يفهم من شُبْهتهم، أنه لا يصح تعلُّقُ الأمرِ بمعدومِ، لأن من شرطِ الأمرِ وجودَ المأمورِ ووجودَ الآمر وكما يستحيل وجودُ أمرِ بغير آمرِ كذلكَ يستحيلُ وجود أمرِ بغيرِ مأمور.

- فصل في جمع الأجوبة عن أسئلتهم

فصل في جمع الأجوبة عن أسئلتهم أمَّا دعوى القرائنِ والأدلةِ، فلو كان هناك دلالةٌ أو قرينة لنُقلت كما نُقل الأمر ودعوى القرينةِ للأمرِ للمعدوم، كدعوى القرينةِ للأمر للمخاطَب الموجود. وأما كونُ العاجزِ يصحّ خطابُه، لكن لا يصحّ امتثاله بما يخاطب به، فصحَ خطابُه معلَّقاً على وجود قدرتهِ على ما أُمرَ به، كذلك المعدومُ يتعلق الخطابُ عليه بشرط وجودهِ. وأمَّا قولُهم: وفي خطابِ العاجز فائدةُ تَلَقيه للخطابِ بعزمٍ واعتقادٍ، والمعدومُ لا فائدةَ في خطابِه. لا يصحُّ؛ لأنه لو كانت فائدةُ الكلامِ تثبت بسماعِ سامع، لكان كلامُ الطفلِ والمبُرْسَم (¬1) إذا سمعه العقلاءُ أن يكونَ خارجاً عن الهذيان؛ لأجلِ سماعِ من سمعه، ولأنَّ أهلَ الإثبات مجمعونَ على أنه لا متكلّمَ منا بكلامِ إلا واللهُ سبحانه سامعٌ لكلامِه، فقولُهم: أيُّ كلامِ لم يكن له سامعا لا تقعُ إلا هذياناَ. لا يجدون له أصلاً يستشهدون به، وإذا لم يكن لذلك أصل يُردُّ إليه، فصار ذلك مجرّدَ دعوى بغير دليل. ولأنَ كلامَ القديمِ سبحانه لا يُطلب له الفوائدُ، إذ ثبت بدليلِ السمعِ والعقلِ أنه صِفةُ القديم (2 [غيرُ مُحدث، وأنه سبحانه لم يزل آمراً، ولا حاضرَ مأمور] 2). وأما قولهم: إن (3 [وجود الفائدة ينقل الكلام] 3) من الهَذيان إلى حَيَّزِ الأحكام؛ ¬

_ (¬1) هو من أصابته عِلةُ البِرْسام، وهو مرض يصيب الصدر قال الجواليقي: ولعل الأقرب للصواب أن برسام مركبة من "بر" بمعنى الصدر و"ساما" ورم أو مرض. انظر "المعرب": 93، "قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل" 1/ 270. (2 - 2) طمسٌ في الأصل، وما بين معقوفين مثبت من "العدة" لأبي يعلى 2/ 388. (3 - 3) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدر حسب السياق.

- فصل جامع لشبههم

لأن الموصي خاف الموت، والإعدادُ حسن من الله في أفعاله، وإن لم يخَف الفوت، كالإعداد منا، وإن خفنا الفوت، ألا تراه سبحانه أعدَّ في سفينةِ نوحٍ عند الطوفان جَماهيرَ (¬1) الخلقِ من كُلٍّ زوجين اثنين، وما كان ذلكَ لحاجَةٍ، ولا لعدمِ القدرةِ على إنشاءٍ من غير ذكرٍ وأُنثى، وأمَر عزيزَ يوسفَ بإعدادِ الأطعمةِ للسبع الشدادِ من السِّنين، مع قُدرته على الخلق للرزق المبتدأ من غير إعداد، وكان ذلك حَسَناً منه، كما حَسُن منّا مع خوف الفوتِ، كذلك لا يمتنعُ مساواةُ الأمرِ منه للمعدوم للوصية منا للمعدومِ. وأما قولُهم: كان يجب أن نَقِفَ تسمية الأمرِ أمراً على وجودِ شرطِه، وهو المأمورُ؛ لأنه من باب المتضايفات، فلا يلزمُ، لأنَ الشرطَ ليس هو وجود المأمور لكن الشرطُ للأمرِ أن ينتهيَ إلى مأمورٍ كالنداءِ من البُعد، يكون نداءً للبعيد المنادى بنفسِ وجودِ صيغة النداء، والقصد بها المنادى، وكذلك الإيصاءُ أمرٌ مشروط بالموصَى إليه، وليس يعتبر في الشرطِ وجودُ الموصَى إليه حالَ الإيصاء، ولأنه سُبحانه إله حقيقةً، ولا مَأْلوه، وربٌ ولا مربوبَ، ثم وُجِد المألوهُ والمربوبُ، ولم يمنع ذلك سَبْق الإلهية لوجود المألوه، وسَبْق الربوبية لوجودِ المربوب. فصل جامع شُبَههم (2 [منها: أن قالوا: إنه من باب التعَلق والمضاف، والمعدوم] 2) كيف يصح التعلق به أو عليه؟! ومنها: أنهم بحثوا أن يكونَ الأمرُ إلزاماً أو طلباً واستدعاءً، وكُل ذلك لا يكون صحيحاً في حقِّ المعدومِ، ولا لحنةَ عند أهلِ اللغة أقبحُ من قولِ القائل: ناديتُ ¬

_ (¬1) أي جماعات. "اللسان": (جمهر). (2 - 2) طمسٌ في الأصل، والمثبت مقدر حسب المعنى.

المعدومَ، أو أمرتُه، أو طلبتُ منه، أو استدعيته، أو استدعيتُ منه، كل ذلك؛ لأن الصلةَ لا تقع، والإضافةَ لا تحصلُ إلا بين موجودين. ومنها: أن قالوا: إننا أجمعنا شرعاً وعقلاً على أن المجنونَ والصغيرَ يصلحان لبعض التعلُّقاتِ، فهما أحسنُ حالاً من المعدومِ، لأنَ الصبيَّ يُضرب ويُؤدَّبُ على المخالفةِ لاتجاهِ الأدبِ نحوه، وتقبلُ الهديةَ، فهذا مَن تَحرّك فيه الفَهمُ ولصقَ به الأدبُ، ويقبلُ قولُه في دخولِ الدار وتَعلُّمِ الصنائع، والمجنونُ يُكَف ويُضرب كما تُضربُ البهيمةُ عن الأفعالِ الذميمة وعن الإيذاء، ثم إنَ أمرَ الشرعِ لا يتجهُ نحوه إلا بشرطِ الإفاقةِ والبلوغِ، بل القلمُ مرفوعٌ عنهما، وجُعلَ الأولياءُ ناظرين في أمرهما، فأولى أن لا يتجهَ الأمرُ بحقِ المعدومِ المنفيِّ الذي لا حقيقة له بشرط أن يوجدَ في الثاني، وهذا تنبيهٌ من الشرعِ على أنَ المعدومَ غيرُ مأمور حيث قطعَ الخطاب وحسمَ مادةَ الأمر بين الشرعِ وبينَ المجنونِ والصغير وهما أحسنُ حالاً من الوجوه التي بيّنا. ومنها: أنه لو كان المعدومُ مأموراً؛ لصحَّ أدق يكون مذموماً وممدوحاً ومتواعداً (1 ...................................................................... 1) من جهة المعدوم لا يصح، فكما لا يصح أن يكون الآمرُ معدوماً ولا المعدومُ آمراً، كذلك لا يصحُّ أن يكونَ المعدومَ مأموراً، ولا المأمورُ معدوماً. ومنها: ما سنح به الخاطر وهو أن يقولوا: إنَ هذه الصيغةَ موقوفةٌ على مخاطَب، فهي من الأسماءِ المستعملة مجازاً، مثل قولهم: يَهْنِيْكَ الفارسُ، وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، والعرب تسمي الشيءَ بما يؤول إليه وما كان عليه استتباعاً وتفاؤلا وإذا كان كذلك صار قولُه: افعلوا، مجازاَ، يوضح هذا أنَّ من شرط الأمرِ أن يكونَ المستدعى منه أدنى، والدُّنُو صفةٌ، والمعدومُ لا تقبلُ الصفاتِ. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، والذي يفهم من العبارة أنه لو جاز أمر المعدوم بالإيجاب والإلزام، لجاز ذمُّه ولعنُه وتسميته بأسماء المدحِ والذم. انظر "العدة" 2/ 390.

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

فصل يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم أما قولُهم: إنه من بابِ التعلقِ والمضافِ، والمعدومُ لا يُضافُ إليه. فلا يَلزمُ؛ لأنه إنما يتعذّر ذلكَ في الخطابِ له في الحالِ التي هو معدوم فيها، فأمَّا إذا كان للمعدوم حال وجودٍ، ولا سيما في علم القَديمِ سُبحانه أنه سَيوجِدُه ويُكلِّفه، فخطابُه له مشروط بوجودِه، ككاتب الكتاب منا على البُعد من المُكاتَب خطابٌ له بشرطِ وصوله، وكذلكَ النداءُ للبعيد بشرطِ سماعه، والأمرُ من الموصي بشرط موته ووجودِ الوصي، ولا أحدَ من أهل اللغةِ والتحقيق ينكرُ الاشتراطَ للتعليق، وهو بابٌ كبيرٌ يُسمَّى باب الإعداد لما إذا وُجد شرط تعلَّقَ عليه وألصقَ به، ولا أقرب إلى ذلك من الأسماءِ المشتقةِ لله سُبحانه ولخلقه، كقولنا: اله ورَب، وخالق، ورازق، ورحيم. وإن كانت الأشياء (¬1) (2 ....................................... 2) بما دَلَّ من قديم (3 [صفاته عندنا وعند] 3) من وافقنا في هذا الأصل، وخالفنا في هذه المسألة وبما دللنا من الأدلة اللازمة لمن خالفنا في ذلك الأصل وفي هذه المسألة من المعتزلة، وإذ وجد أن الاستدعاءَ والطلبَ مصروفٌ إلى غايةٍ يَصحُّ أن ينطبق عليها، فقد صحَ التعلُّقُ ولم يُعدم شرطُ الإضافةِ. فإن قيل: فهذا القولُ يُعطي المجازَ ونحنُ لا نمنعُ من التسمية أمراً مجازاً، ووجهُ المجازِ ونفيِ الحقيقةِ أنه اسم عَجَّلته قبل وجود شَرطه، وصار ما استشهدتَ به من الأسماءِ قبل المتعلقات المشتقةِ منه هو الحُجةَ في معنى الحقيقة؛ لأنه يقال: خالقٌ ورازقٌ، قبلَ وجودِ الخلقِ، بمعنى أنه سيخلقُ ويرزقُ، ونحن لا نمنعُ إن سمَّاها هنا: ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: "الأسماء" (2 - 2) طمس في الأصل. (3 - 3) طمس في الأصل.

أمراً، بمعنى أنه سيأمرُ، وكل اسمٍ صحَّ نفيُه فهو من أسماء الاستعاره والمجازِ، ولا يحسُن أن يقالَ: ليس بخالقٍ في القدم، ولا يصحُّ بل يستحيلُ؛ لأنَّ معنى الخلق: الفعلُ، والفعلُ لا يكون إلا في الزمان المستقبَل، والقِدمُ هو عدمُ الأولية وثبوتُ الأزلية، فلا تجتمعُ الحقيقتان؛ لأنهما ضدّان، فكذلكَ الأمرُ إذا كان من بابِ المتضايفات، وكان إنما ينطبقُ على ما سيوجدُ، كان مجازاً لا يتحققُ إلا عند وجودِ ما ينطبقُ عليه، وهو المأمورُ المستدعى منه. فيقال: إنَّ أمرَ مَنْ لا آلةَ له يَعملُ بها، أو العاجزِ الذي توجده القدرة في الثاني وليس بظافرٍ بها أمر حقيقةً، وإن كان متراخياً إلى حينِ تكاملِ شرطِ المأمورِ من تحصيل آلتِه وحُصولِ قدرته؛ لأن العالم (1 ................................ ........................................................................ 1) ليس بعالم إلا بَعْد وجودِ الأحوالِ التي عَلمَ أنها ستكونُ، بل ويقال: عالم بما يكون في الثاني من أحواله. وكذلكَ الموصي المعلَّقُ لوصيّته على موته، وإعطاءِ أولاده على وجودِ أولاده، والموقِفُ مملِّك لمن وَقَفَ عليه وَقْفاً، وإن كان المُمَلّكُ غيرَ موجود، لكنّه لما كان تمليكاً لمن يوجد في الثاني، لم يكن تمليكه مجازاً. وأما قولُهم: الأمرُ إلزام أو مطالبة أو استدعاء، والمعدومُ لا يُلزمَ، ولا يُستدعى منه، ولا يمتضى. فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الإلزامَ والاقتضاءَ في الحالِ هذا حُكمهُ، فأمَّا إلزامُ من يحدثُ في الثاني واقتِضاؤُهُ واستدعاؤه، أو الاستدعاءُ منه، فإعادة منهم وَتكرار، وَمَدارُ ما صدرَ عنهم بإحالةِ الاتصالِ والتعلُّق بما هو معدومٌ والإضافةِ إليه، وجميعُه إنما يصحُّ لهم فيما هو معدومٌ في الحالِ، ولا وجودَ له في الثاني والاستقبال، فأما ما قد عُلم وجودُه، فلا يستحيلُ ذهابُ الخطابِ إليه، وانصرافُه نحوه عند وجودِه، فلا إحالةَ ولا استبعادَ، ولهذا يقول العاقلُ مِن أهلِ اللغة: هذا وَقْفي على من يَحدثُ ¬

_ (1 - 1) طمسٌ في الأصل.

من ولدي، وهذهِ وَصيتي إلى من يكونُ من عَقبي، وهذا كتابي إلى أهلي. وهو على المسافةِ البعيدةِ منهم، وهذا الاستبعادُ منكم هو شرحُ مذهبكم. وإلا فالتعليق والإضافَةُ والخطابُ كُل ذلكَ صَحيحٌ عندنا إذا أُحيلَ (1 ................... ............................................ 1) الخطاب بأن يقول: هذا خطابُ الله لي وأمرُه إيَّايَ. ويقولُ المُوصَى له: هذا أمرُ أبي ووصية أبي، ولا يحسنُ نَفيُه، فيقولُ: ليس هذا أمرَه ووصيتَه، ولا أمَرَني ولا وَصَّاني؛ لأنه حين قالَ، لم أكن بحيثُ أفهمُ عنه، ولا يَصح أن يخاطبَني. وأمَّا دعواهم أنَّ الصغيرَ والمجنونَ لا يتعلّق عليهما أمرٌ ولا نهيٌ، ولا يُكَّلفان حينَ الصغرِ والجنونِ، اعتماداً على زوالِ الجنونِ والصغَرِ، وأنَّ ذلكَ إجماعٌ، فدعوى باطلةٌ؛ لأن كُلَّ من أجازَ أمرَ المعدومِ بشرطِ وجودِه لم يمتنع من أمرِ المجنونِ بشرطِ إفاقته، والصبيِّ بشرطِ بلوغِه، وإنما حملوا رفعَ القلمِ على أحدِ أمرين (¬2)، إما نفيُ الخطابِ له مواجهةً ومخاطبةً على ما هو عليه، أو على رفع المأثَمِ والمؤاخذةِ (¬3)، فأمَّا ما ذهبنا إليه فكلا، وما (¬4) الذي يُنكَرُ من صرفِ الخطاب إلى مَنِ المعلومُ أنه يَعقِلُ ويَبْلُغُ ويَتكاملُ بشروطِ التكليفِ فيه؟ فأمَّا دعواهم أنه لا ينطلق نحوَ المعدوم ذَمٌ ولا مدحٌ، فما أبعدَها من دعوى على أهلِ السُنّة، مع قولهم بقِدَمِ الكلامِ، وإنَ الله سبحانه قد ملأ كتابَه الكريمَ بذمِّ العُصاةِ التاركين لأوامره، المرتكبينَ لنواهيه، وذلك الذمُّ فإنما انصرفَ إلى من عَلمَ أنه إذا وُجدَ وخوطبَ لم يَمْتَثلْ أمرَه، وكذلك مَلأ كتابه بمدحِ (5 [الطائعين، وذلك ينصرف إلى من علم أنه إذا وُجدَ وخُوطب امتثلَ لما جاءه] 5) من أمر الله، وانتهى عما ¬

_ (1 - 1) طمسٌ في الأصل. (¬2) أي على تقدير أحدِ أمرين. (¬3) انظر المسألة في "المستصفى"2/ 62، و"المسودة": 45، و"أصول السرخسي" 1/ 248. (¬4) في الأصل "أما"، ولعل المثبت هو الصواب. (5 - 5) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى.

* فصل: يجوز أن يأمر الله بما يعلم أن المأمور لا يفعله

نهى اللهُ عنه، وإنما لم يَلحقه المدحُ والذمُ قَبل وجوده؛ لأنه عُدمَ الشرطُ في تلك الحال، فلا طاعةَ وجدت، فيمدحُ عليها، ولا معصيةَ تحققت، فيُذمّ عليها، لكن جعل ذمه ومدحَه كأمره، معلَّقَين على وجود الطاعةِ والعصيانِ، كما كان أمرُه معلَقاً على الوجودِ مَشروطاً به. وما ذلكَ إلا بمثابة سائرِ العباداتِ المشروطةِ في حقِّ المكلف، لا يلحقُه الذمُ والمدحُ بتركِها وفِعلِها قبل وجودِ شرطِها إلا على وجهِ التعليقِ إن تركها بعد تكامل شروطِ وجوبِها عليه، وتضايقِ الأمر في حقه. فأمَّا قولُهم: لما لم يصح أن يكونَ الأمرُ معدوماً، لم يصح أن يكونَ المأمورُ مَعدوماً. غيرُ صحيح؛ لأنَ الآمر إذا سَبق أمره بإيصاءِ وصيّةٍ، وتقدمِ مكاتبةٍ ثمَ ماتَ قبلَ وصولِ كتابهِ وسَماع الموصَى إليه وصيّتَه أو شرطَه في الوقفِ تمليكَ من يأتي من ولدِ ولدهِ وعَقبِه ونَسلِه، كل ذلك يكون بعد وفاته مَعمولاً به بحُكم أمره، ولا يخرج بموته عن كون أمرِه أمراً حقيقة، فيستند الأمرُ إلى حالِ وجودِ الآمر كما يستند الأمرُ من الآمر إلى وجودِ المأمور، وإن أردت أنَ ابتداءَ الأمرِ لا بُد له من آمرٍ فكذلكَ اتصالُ الأمرِ بالمستدعى منه لا بُد له من مأمورٍ فالانتهاءُ في هذا كالابتداءِ في ذلك، ولا ينتهي الأمرُ إلاّ إلى مأمورٍ موجودٍ، لذلكَ لا يفيدُ الأمر إلا من آمرٍ موجود. فصل ويجوزُ أن يأمرَ اللهُ سبحانهُ بما يَعلمُ أن المأمورَ لا يفعله. نصَّ عليه أحمد بقوله: نَهى اللهُ سبحانه آدمَ عن أكلِ الشجرةِ، مع علمِه بأنه سَيأكلُ، وفي أمرِه لإبليسَ بالسجودِ، مع علمِه أنه لا يَسجدُ، وهذا أمر نطقَ به الكتابُ، وحُكي عن المعتزلة أنه لا يجوزُ ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "المعتمد" 1/ 166 - 167، و"العدة" 2/ 395 - 396.

- فصل في الدلالة على صحة قولنا

فصل والدلالةُ على صحةِ قولنا: أنَ اللهَ سبحانه قد أمَرَ الكُفارَ بالإيمان، ولم يختلف في تكليفهم الإيمانَ اثنان، ولا فَضَلَ أحد من الأئمة، فقال: إنَ المعلومَ إيمانُه هو المأمورُ دون من عُلِمَ أنه لا يُؤمن. والقول المخالفُ للإجماع لا يُلتفت إليه، وقد أخبرَ اللهُ سُبحانه أنه أمرَ إبليسَ بالسجود لآدم، فقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، فأثبت أمرَه له بالسجود، ولم يقع منه السجودُ، وقد أجمع المسلمون على أنه عالمٌ بامتناعه قبل وقوعِ الامتناع منه (¬1). فصل فيما حُكي من الشبهة عنهم وهو أنَ الأمرَ لمن يُعلم أنه لا يُطيع عَبَث، واللهُ سبحانه مُنزهٌ عن العَبثِ في قوله وفعلِه؛ ولأنَ التكليف، والأمرَ، والنهيَ إنما يكون للمصالحِ والمنافعِ، وهو التعريض للثوابِ، واجتنابِ ما يوجبُ العقاب، فأما إذا صرف بحقّ من لا يتحقق في حقِّه ذلك، خرج عن حَيِّز الأمرِ المشروعِ والقانونِ الموضوع على مقتضى الحكمة. فصل في الجواب عما ذكروه وهو أنَّ هذا كلام يردُّه النصُ، ولا عبرة بما استدلوا به مع كونِ الإجماعِ انعقد على خلافِه، ونَصُّ الكتاب قضى بإبطاله، على أنه فاسدٌ في نفسه لو وردَ مع عدم الإجماع والنص، وهو أن الله سُبحانه قد خلق مَن في معلومه أنه لا يَنتفع بخلقه ولا يُطيعه في أمرِه، فلا يَستحق الثواب، بل لا يَسعى إلا فيما يوجبُ عليه العقاب، ولم يكُ في خَلقه عابثاً، كذلك أمرُه له لا يكون به عابثاً. ¬

_ (¬1) انظر "المسودة": 54.

* فصل: يجوز أن يرد الأمر من الله تعالى معلقا على اختيار المكلف

فإن قيل: إلا أنه يجوز أن يكونَ في خلقه مصلحة لغيره من المكلفين، ليكونوا أقرب إلى الطاعةِ وأبعدَ عن المعصية. قيل: فلعل في أمره الذي يعلمُ أنه لا يَمتثله مصالحَ لكثيرٍ من المكلفين، ولا انفصالَ لهم عن ذلك. فصل يجوزُ أن يردَ الأمرُ من اللهِ تعالى مُعَلّقاً على اختيار المكلّف، أو يتركَ مُفوَّضاً إلى اختيارِه. وهذا يُبنى على أصْلٍ، وهو أنَّ المندوب مأمورٌ به مع كونِ المكلف مخيَّراً بين فعلِه وتركِه، خلافاً للمعتزلة في قولهم: لا يجوزُذلك (¬1). فصل في الدلائلِ على مذهبنا فمنها: أنَّ اللهَ تعالى لا يخلو أن يكونَ أمرُه مقصوراً على الأصلح، أو يكونَ بحسْبِ المشيئةِ المطلقة، فإن كان على الأصلح، فلا يمتنعُ أن يكون عالماً في بعضِ الأوامرِ أن مشيئةَ المكلف تُوافق الأصلح، واختيارَه يوافقُ ما يختاره اللهُ لهُ، أو تكونَ مشيئة مطلقةً بلا تخصيص. ومنها: أنه إذا جاز أن يُخيِّره بين الإتمامِ والقصرِ، والإفطارِ والصومِ، وبين الكِسوة والإطعامِ والعِتقِ، فلِمَ لا جاز أن يُخيِّر بين الفعلِ والترك؟ ومنها: أنه إذا جاز أن يجعلَ بعضَ الأحكام موكولةً إلى اجتهادنا، وهي الأحكامُ التي لم ينص عليها في كتابه ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، جاز أن يَكِلَ بعض الأوامر إلى اختيارنا، إذ لا فَرق بين الاختيار والاجتهاد. ¬

_ (¬1) "المعتمد" 1/ 166، و"العدة"2/ 396.

- فصل فيما تعلقوا به من الشبهة

ألا تَرى أنه سُبحانه وَكَلَ المِثْليةَ في الصيدِ إلى اجتهادِ حكمين مِنّا، وخيّرنا في بدل ذلك بين المثل من النَّعم أو كفارةٌ طعامُ مساكين، أو عَدْلُ ذلك صياماً (¬1). فصل فيما تعلقوا به من الشُّبهة قالوا: إن أمرَ الشرع لنا يتعلق بمصالحِنا، وليس في قوَّةِ رأي المكلَفِ أن يقع اختيارُه على تجنُبِ المفسدة، وتوخّي المصلحة، فلهذا لم يكِل اللهُ سبحانَه سياساتِ الخلق إليهم، ولم تقنعْ بآرائهم وعقولهِم في أمرِ دنياهم وأُخراهم، بل أرسلَ الرُسُل، وأنزل الكتبَ، وشرعَ الشرائع، فلا يُؤمَنُ إذا رَدَّ (¬2) الاختيارَ إلينا أن نختارَ الأفسدَ ونتركَ الأصلحَ، ولذلك لم نُجوِّز على الله سُبحانه أن يردَ أمرَه إلينا في اختيارِنا، فنحنُ في باب التكليف كالسفهاءِ الدين قال الله فيهم: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5]، {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، يعني بحجّة، ونحنُ في بابِ النظرِ للمصالحِ كالسفهاءِ بالإضافةِ إليه، وكما أنه منعَ تفويضَ أمرِ السفهاءِ إليهم، فأحرى أن يمتنع سبحانه من تفويضه للمصالح، ولا طريق لنا إلى معرفتها. قالوا: وفارقَ ما تعلقتم به من الاجتهادِ؛ لأنه مأخوذٌ من معاني كلامِه سبحانه وكلامِ رسولهِ واستنباطِ معانيه التي أوجبت الأحكامَ، فكان ذلك راجعاً إليه دونَ اختيارنا، ألا ترى أنا نقدم في الأحكام الأدلة بعضَها على بعص؟ فنضع أدلّة الاجتهاد بحسب ما تُعطينا ظواهرُ الألفاظ. قالوا: وفارقَ التخيير في أعيان المكفر بها؛ لأنَّ اللهَ سبحانه سوّى بين المخيّرات ¬

_ (¬1) يشير بذلك إلى العقوبة المترتبة على من قَتل الصيد مُحرماً، وهي العقوبة الواردة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ......} [المائدة: 95]. (¬2) في الأصل: "أراد"، والصواب ما أثبتناه.

- فصل في أجوبة ما تعلقوا به

في الأصلح، ووازن كلَّ واحدةٍ بصاحبتها، ثم خيَّر كما يُسوّي الطبيب في الدَّواء بينَ ثلاثةِ أدويةٍ، ويُخيِّر العليلَ بينها بعد فراغِه من مُوازنتِها في الأصلح. فصل في أجوبة ما تعلقوا به أما اشتراطُ الأصلحِ، فليس ذلك مَذهبنا، ونحن نُخالفكم فيه، لكنِ الأصلحُ جائزٌ, فأما مَشروطٌ وواجبٌ، فكلا، وذلك مُستوفىَ في فَصل الأصلحِ فيما بقي من فصول الأوامر إن شاء الله. على أنه يجوزُ أن يعلمَ اللهُ سبحانه أنَّ الأصلحَ ما تقع اختيارُ المكلَّف عليه، كالتخيير في الكفاراتِ، ولو كان الاختيارُ لا يجوزُ أن يصادفَ الأصلَح رأساً، لَما جاز أن يَكِلَ التخيير إليه في شيءٍ من التعبّدات، من كفارةٍ، ولا غيرِها من تخييره بين القصرِ والإتمامِ، والفِطرِ والصيامِ في حقِّ المسافر. وأما قولُهم: وفارقَ الاجتهاد. فلا فرقَ؛ لأن الاجتهادَ وإن رجع إلى القرآنِ والسنَّةِ ومعاني الألفاظ، إلا أنه استنباطُ المجتهد، وهو عُرضةُ الخطأ؛ ولأنه سبحانه إذا رد الاختيارَ إلى المكلَّف مَهَّدَ المحلَّ على هيئةٍ لا يُصادفُ اختيارُه إلا الأصلحَ، والله أعلم. فصل يجوز أن يرِدَ الأمرُ من الله تعالى بالتكليف أمراً ونَهياً على التّأبيد إلى غَير غايةٍ مثل أن يقول: صوموا أبداً، وصَلُّوا أبداً. ويكون هذا القول تأكيداً عند من يعتقد أن الأمرَ على التكرار؛ لأنه بمطلقِ الأمرِ يقتضي التكرارَ والدوامَ عنده، وهو الذي نصروه (¬1) أصحابنا. ¬

_ (¬1) كذا الأصل بإثبات الواو، وهي لغة بَنى الحارث بن كعب، يُلحقون بالفعل الواوَ للدلالة على الجمع، والأفصح: نصره، بحذف الواو. انظر "شرح الألفية لابن عقيل مع حاشية الخضري": 1/ 161 - 162.

- فصل جامع لأدلتنا

وقالت المعتزلةُ: لا يجوز أن يَرِدَ الأمرُ من الله إلا بأمرٍ مُؤقتٍ مُنقطع، وإنما يحتملُ ذلك إن وردَ على الحثِّ والتمسك بالفعل (¬1). فصل جامعٌ لأدلتنا فمنها: أنه ليس بأمرٍ بمُحالٍ، ولا يُستبعدُ من الآمرِ ولا المأمور؛ لأنَ الله سبحانه مالكٌ للمأمورِ مُلكَ عينٍ وإنشاءٍ، قادرٌ على الإمدادِ بالبقاء، والإعانةِ على الفعلِ، وإزاحةِ العلةِ فيه بتكميل شروطه، فلا وجهَ للمنعِ منه. ومنها: أنَّ الناسَ قائلان: قائلٌ بوقف الأمرِ على الأصلح، وقد يكون الأصلحُ ذكرَ التأبيد والدوام. وقائل يقول: إنَ الله يتصرف بحكمِ المشيئة المطلقةِ والملكَة، فعلى هذا لا معنى للمنع، إذ لا آمر ولا ناهٍ دته سبحانه عمّا يريد فعلَه وإيجادَه، أو تركَه والإخلالَ به. ومنها: أنَ العمومَ على ضربين؛ عمومُ أفعالِ في أعيانٍ، وعمومُ أفعالِ في أزمانٍ، ثم إنه يجوزأن يَرِدَ من جهته سُبحانه الأمرُ بإخراجِ جميعِ ما يملكُه من المال، وذبحِ جميع ما لَه من بهيمةِ الأنعام، كذلك لا يمتنعُ أن يجوزَ تكليفُه أن يَستنفدَ أيامَ عُمُرهِ فيما أُمر به من العبادةِ على الدوام. ومنها: أنَّ التكليفَ على ضربين: أمرٌ، ونهي، ثم إنه يجوزُ أن يُؤيدَ النهيَ فيقول: لا تَشرب الخمرَ أبداً، ولا تَزْنِ ولا تَلُطْ أبداً. كذلك الأمرُ بالطاعةِ يجوزُ أن يأمرَ بها أبداً، ولا فرقَ بينهما؛ لأنهما أحدُ خطابي التكليف. ¬

_ (¬1) انظر "المعتمد" 1/ 104، و"العدة"2/ 398.

- فصل في أسئلتهم على حجتنا

فصل في أسئلتهم على حُجتنا فمنها: أنهم قالوا: لا نُسلِّم أنه ليس بمحال، بل هو محُال من المخلوقِ، لحاجته إلى الراحةِ والنومِ وما يَعتريه من العوارضِ المانعة، كالمرضِ، والفتورِ للإعياءِ والسهر والإغماء، والجنونِ، والنومِ فيستحيلُ الدوامُ مع هذه العوارض. وفارق عمومَ الأعيان؛ لأنه لا يتعذّر ولا يتعوّق عن إخراج ما يملكه من المال، فإن تَعوَّق اتَّسعَ (¬1) له فيما يستقبلُ من الزمان إتمامُ الإخراج والذبح. وكذلك ما تعلقتم به من النهي؛ لأنه تركٌ، فلا كلفةَ في الترك؛ لأنه الأصل، ولا يتعذرُ الترك؛ لأنه حالَ الإعذارِ والاشتغالِ بالأعمالِ التي تخصّه، تاركٌ للمنهيات. فصل يجمعُ الأجوبةَ عن الأسئلة أما منعهم الإحالةَ، ودعواهم أن الأبدَ يستغرِقُ العوائقَ والأعذار فلعمري، لكن الأمر لا يستغرق إلا أوقاتَ السلامةِ والمُكْنَةِ والصحةِ والسلامةِ، وإزاحة العللِ المانعة وعدمِ الأعذارِ القاطعة، كما في الأعيان، فإنه إذا أمِرَ بذبح جميع أنْعامه (¬2) لم يلزمه ذبح ما ندَّ وشَرَدَ وتوحَّش وامتنع، بل يقع الأمرُ على ما يتمكَن من إيقاعِ الفعلِ فيه، كذلك يرجع الأمرُ إلى التأبيدِ والاستغراقِ لكلِّ زمانٍ يَصحُّ أن يَقَعَ الفعلُ فيه، فلا فرق. كما أن النَّهي قد يَتخلَّل (¬3) زمانَه أعذارٌ تبيحه، كالنَّهي عن الميتة في الاضطرار والنهي عن استقبال بيتِ المقدسِ بالصلاةِ، وشربِ الماءِ النَّجس، والعملِ في الصلاة، وما شَاكَلَ ذلك يُستباحُ بالأعذار ¬

_ (¬1) في الأصل:"واتسع "، ولعل الأولى حذف الواو ليستقيم المعنى. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "العامة". (¬3) طمست في الأصل، وقدِّرت حسب المعنى.

- فصل يجمع شبههم

فصل يجمع شُبَههم (¬1) فمنها: أن بَنَوْا ذلك على أصلهم، وأنَ الثوابَ على الطاعاتِ واجبٌ، وهو دائمٌ, ولا يجوزُ أن يكونَ ثوابُهم في خلالِ أعمالم؛ لأنه يصيرُ منقطعاً، وإن أدام عليهم التكليفَ، لم يبْق زمانٌ تقَعُ فيه الثوابُ والمجازاةُ على أعمالهم، فلذلك لم يصح الأمرُ بدوامِ الطاعاتِ، وتأبيدِ العباداتِ. ومنها: أنَّ الأعمالَ لا بُدَّ من انقِطاعها بالموتِ، ولا بُدَّ من الإثابةِ عليها في غير زمنِ التكليفِ، وإذا كان كذلك؛ صارَ قولُه: افعلوا أبداً، مجازاً، فلا يبقى في قوله: "أبداً" سوى المبالغة دون الحقيقةِ. ومنها: أنَ التأبيدَ مع تخللِ العوارضِ القاطعةِ لا يتحقَقُ ولا يُمْكِنُ، فلا وجهَ لاتّجاه الأمرِ مع عدمِ الإمكان، كما لا يصحُّ أمرُه بما لا يُتصوَّرُ فعله لاستحالته، أو لعدمِ القدرةِ عليه. فصل يجمع الأجوبة عن شُبَههم أما دعوى استحقاق الثوابِ، فلا نُسلّمها، بل أقلُّ نعمةٍ لله تعالى بفضلٍ منه، ولو قوبل بها سائرُ الأعمال لأوْفَت وأربتْ نعمتُه عليها، وهو المالكُ للأعيان، ولا وجة لاستحقاق الأُجرةِ على المولى بعملٍ عنده، فكيف بمالكِ الأعيان، المنعمِ بالإيجادِ والإخراجِ من العَدم إلى الوجود؟ والذي يوضّحُ أن (2 [الثوابَ ليس بمُسْتَحق؛ أنه لو كان مستحقاً لما استحقَ اللهُ الشكرَ] 2) على نعمِهِ، كما لا يستحقُ القاضي لِدَينه، والمُوفي للحقوق اللازمة له الشكرَ ¬

_ (¬1) أورد أبو يعلى تلك الشبَه، والردود عليها في "العدة" 2/ 398 - 400. (2 - 2) طمس في الأصل، وما بين معقوفين تَبيناه من المعنى ومن "العدة" 2/ 399.

* فصل: لا يصح الأمر بالموجود

والحمدَ على ذلك، فلما أجمعتِ الأمَةُ على وجوبِ شكره -جَلّت عظمتُه- على قليلِ النعمِ وكثيرهِا، بطلَ دعوى وجوبِ الجزاءِ على الله على أعمالِ خلقه؛ ولأنه سبحانه قد استعبدَ الملائكةَ بالتَّسبيحِ والتَمجيدِ والتَّهليلِ والرسالةِ، من غير أن يتخلَّل أوقاتَهم أعذار قاطعة، وأشغالٌ مانعة، وأغناهم عن الأكلِ والشربِ وسائر ما يلتذُّ به الآدميون، وكانَ ذلك مُجَردَ شكرِه سبحانه على إيجاده وإبقائِهِ لهم. يوضِّح هذا أنه لو قال سبحانه: افعلوا كذا أبداً، فهو الأصلحُ لكم. كان ذلك أمراً صحيحاً عندَ المخالف، وإن كان يقطعُ عن الإثابةِ ويستوعِبُ الزمانَ بالعبادة؛ ولأنه إذا أبقاهم وعافاهم، ومَتَّعهم بنَسيمِ الهواءِ ورَوَّحهم، وأنالهم في خلال أعمالهِم لذاتٍ دائمةً، حَسُن أن يكون ذلك جزاءً وثواباً على أعمالهم، وليس من شرطه إفرادُ زمانٍ للثواب المحض. وأما الأعذارُ المعترضةُ، فإنَّ زمانَها خارج عن الأمر، بدلالةٍ وقرينه، وهي الدلائلُ التي أسقطت أكثَر الأعمالِ، وأخَرت بعضها لأجلِ الأعذارِ، كالسَّفَر والمرضِ والخوفِ وما شاكل ذلك. فصل لا يصحُّ الأمرُ بالموجود وحُكي عن بعضِ المتكلمين التجويزُ لذلك (¬1)، مثالُه أن يقولَ للقائم: قمْ، وللقاعِد: اقعدْ، وللصائمِ: صُمْ. فصل جامع (2 [لأدلتنا في نفي صحة الأمر بالموجود] 2) منها: أن الأمرَ استدعاء واقتضاء، والحاصلُ لا يُستَدعى ولا يمتضى به؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر "البرهان" 11/ 276. (2 - 2) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مُقدرحسب المعنى.

- فصل يجمع ما تعلقوا به من الشبه

الموجودَ يُستَغنى بوجوده (¬1) عن إيجاد، [و] (¬2) يَستحيل إيجادُ الموجود، كما يستحيل إعدامُ المعدومِ، وهذا يَنبني على أصلٍ قد بانَ بهذا الفصلِ أنَّ أصحابنا ذهبوا إليه، ودانوا به، وهو أنَ الأمرَ بالمستحيلِ لا يَجوزُ، خِلافاً (¬3) لأبي الحسنِ الأشعري (¬4). ومنها: أن المكلَّف إذا أوجد الفعلَ المأمورَ به، سقط فرضُه عنه، فلو كان الأمرُ به جائزاً، لكان ذلك دلالةً على أن الفرضَ لم يَسقط، والمكلفَ لم يمتثل، إذ لا معنى لأمره بما سَبقت به طاعتُه وامتثاله. ومنها: أن الأفعالَ من المحدِثين مضمنة بالزمان، والآنُ الموجودُ فيه الفعلُ قد استوعبه، فلا بُد للمستدعَى مِن الأفعالِ من زمانٍ تقَعُ فيه، وليس إلا الاستقبال. فصل يجمع ماتعلّقوا به من الشُّبَه فمنها: توهمُهم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136]، فشهد لهم بالإيمان وأمرهم به. ومنها: أن قالوا: أجمعنا على ذمَ الكافرِ على كُفرِه، وما جازَ ذَمُّه إلا لمعنى، وما ذلك المعنى إلا كُفْرُه، ولو لم يكن منهياً عنه، لما جازَ ذمُّه، والمستقبل مِن كُفره لم يكن، فلم يكن إلا للكفرِ الذي (¬5) هو عليه، وذلكَ موجودٌ، وقد صحَ النهيُ عنه، وكذلكَ المؤمنُ يجبُ أن يكون مأموراً بالإيمانِ، ولو لم يكن مأموراً بالإيمان لما اتجه الذَّمُ إليه على ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "بوجوه". (¬2) الواو ليست في الأصل، ولا بد منها لاستقامة المعنى. (¬3) في الأصل: "خِلاف"، والصواب ما أثبتناه. (¬4) ينظر تفصيل قول الأشعري في "البرهان"1/ 102 - 105، و"البحر المحيط" للزركشي 1/ 386. (¬5) في الأصل: "والذي"، وبحذف الواو يستقيم المعنى.

- فصل يجمع الأجوبة عما تعلقوا به من الشبه

تَركِه والخروجِ عنه؛ لأنَ ما ليس بمأمورٍ به لا يُذمُّ على تركِه. فصل يجمعُ الأجوبةَ عمّا تعلَّقوا به من الشُّبَهِ فمنها: أن الآية لا تَعَلّقَ لهم فيها، وإنما الواردُ في [الآية] (¬1) أنها خطابٌ لكفَّار أهلِ الكتاب، وكأنه يقولُ: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمِنوا بمحمدٍ. وقد قيل: إنَّه خطابٌ لمؤمني أُمته، لكن المرادُ به الأمرُ بالاستدامةِ، وتقديرُه: استَديموا إيمانكم، مثل قوله: {اِهْدِنَا السَّراطَ (¬2) المُسْتقِيم} [الفاتحة: 6]، والمرادُ به: أدِم لنا ما مَنحتنا مِن هدايتك. وإذا تقررَ أنه امر باستدامةِ (¬3) الإيمان، فنحنُ لا نَمنع من ذلك؛ لأنه أمرٌ بإيجاد الفعل في المستقبل، وذلك غيرُ موجودٍ في الحال، فتقديره: يا أيها الذين اَمنوا الآن، لا تكفروا في مستقبلِ الحالِ، بل آمنوا في الحال الثانيةِ كما آمنتُم الآن. وأما تعلقهم بذم الكافر فلأجلِ إصرارِه على الكفر، مع قدورته على الخروجِ منه بفعل ضده، وهو الإيمانُ، فهو كالقاعدِ يُؤمر بالقيام، والقائمِ يؤمرُ بالقعودِ، بخلافِ الإيمان، فإنَّ المؤمنَ لا يصحّ أن يَفعَله إلا في مستقبلِ الحالِ التي هو فيها مؤمن، فهو كالقيامِ لا يصحّ أن يفعلَه القائمُ لاستغنائه بوجودِه عن موجِد، وأما استحقاقُ الذمِّ للكافر؛ فلأجلِ تركه الإيمانَ، ومُقامه على الكفرِ زماناً بعدَ زمانٍ، وهو الإصرارُ، لا لِسوى ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) طمست في الأصل، وقدرناها حسب المعنى. (¬2) هذه قراءة ابن كثير المكي في رواية القواس: "السراط" بالسين، وقرأها الباقون بالصاد. انظر "حجة القراءات" لأبي زُرعة محمد بن زنجلة: 80. (¬3) في الأصل: "بالاستدامة". (¬4) انظر "العدة"2/ 400 - 401.

* فصل يجوز تقديم الأمر على وقت الفعل

فصل يجوز تقديمُ الأمرِ على وَقتِ الفعلِ خلافاً لبعضِ المتكلَمين [القائلين] (¬1): لا تكونُ صيغةُ الأمر قبلَ وقتِ الفعل أمراً، بل تكونُ إعلاماً (¬2). فصل يجمع أدلّتنا فمنها: أنه لا يُنكِر أحدٌ من أهلِ اللغة قولَ القائلِ لِعبده: سافِر في غَدٍ، وائتني بالطعام عشيةً. ولا يُنكرُ أن يقولَ: أمرتُ عبْدي بكذا في غدٍ. وقول العبد: أمرني سَيدي أن أفعل ذلك غداً. فهدْا في الأمرِ في الشاهدِ، وأمرُ الله سبحانه بالمشيء قبلَ وقته ظاهرٌ في كتابه، قال سبحانه: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فهذه كلُّها أوامرُ بأفعال مُستقبلة. فصل [جامع] (¬3) لشُبَههم قالوا: إذا تقدمت صيغةُ الأمرِ على وقتِ الفعل، كانت إشعاراً وإعلاما، ولا يكونُ أمراً، ويكون تقديرُ قولِ القائل: افعل في غدٍ كذا: سآمرمك غداً أن تَفعل كذا. فيقالُ: الإعلامُ إنما هو صيغةُ إخبارٍ، مثل قوله سبحانه إخباراً عن إبراهيم: ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وأثبتت لاستقامة العبارة. (¬2) انظر "العدة"2/ 401 - 402. (¬3) ليست في الأصل، وأثبتت لاستقامة العبارة.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، هذا إشِعارٌ، فأما: افعلْ كذا غداً، فهو صيغةُ الأمرِ، وإذا وُجِدَتْ صيغةُ الأمرِ من الأعلى للأدنى، فلا وجه لِقولنا: إنها إشعار على أنَ الإشعارَ مُنْدرجٌ فيها، وكُلُّ استدعاءٍ بالفعلِ، فهو إشعارٌ لِصاحبه بأنه مُستدعى منه ذلك (¬1) الفعل. ومنها: أنَّ تقديمَ الأمرِ قبل وقت الفعل يُعطي الإعلامَ بأنه سَيبقى إلى ذلكَ الوقتِ، فلو قال له في رجب: صُمْ شهرَ رمضان، اندرجَ في أمره علمُه بأنَّ تلكَ المدة مِن عُمره، وإذا عَلِمَ حياتَه من جهةِ الله سُبحانه هذه المدَّة، ففي (¬2) إعلامِه بالإبقاء هذه المدَّة مفسدتان كبيرتان (3 [أولاهما: الإغراء بارتكاب المعصية، والثانية: تسويف التوبة] 3). فصل في الأجوبة عن شُبَههم فمنها: أنه غيرُ ممتنع أن يقعَ الإعلامُ في طيِّ الأمر كما إذا أمره في وقتِ الفعل بصلاةِ الركعاتِ المتضمنة لأوقات تَتَراخى عن الأمرِ وقتَ الأمر. ومنها: أنَ دعوى المفسدتين؛ الإغراء والتسويف باطلةٌ (¬4)، بل فيه مصلحتان بطاعتين يُتَلقى بهما الأمر العزم والاعتقاد، وَيَمْتدانِ إلى حين الفعل، والإغراءُ إن كان حاصلاً بالأمرِ المتقدم، فيجبُ أن لا يخاطَب بعبادةٍ تمتد، كصيامِ شهرين متتابعين في الكفارة؛ ولأنَ صومَ شهرِ رمضان في أصلِ الفريضة، فلما جازَ الأمرُ بعملٍ يطولُ ويقصر بَطَلَ ما عوَّلوا عليه من ذَريعةِ الإغراء بالمعصية، والتسويفِ بالتوبة؛ ولأنَّ ¬

_ (¬1) عرفت في الأصل إلى:"دليل". (¬2) في الأصل: "وفي"، والفاء أنسب لاستقامة العبارة. (3 - 3) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى. (¬4) في الأصل: (باطلٌ) والجادة ما أثبتناه.

* فصل: يجوز أن يأمر الله بعبادة في وقت مستقبل ويعلم المكلف المأمور بها بذلك قبل مجيء الوقت

فيما وضعه الله، وشَرَعه مِن الزجرِ عن المعاصي بالحدودِ في الدنيا، والوعيدِ بعذاب الآخرةِ، والترغيبِ في تركها بالثوابِ الدائم، كفايةً (¬1) عن كتمِ الأجلِ وإبهامِ مُدَّة العمر. ومنها: أنه لو كان علمُ (¬2) ما يدفع التَسويف واجباً فِعلُه بالمكلَّف، لوجبَ أن لا يعلَمَ ولا يشعرَ بقبول التَّوبة؛ لان الثِّقةَ بقبولها إغراء بالمعاصي، فإنَ من كان دأبُه قبولَ العُذر وغُفرانَ الجُرْمِ لمكانِ الاعتذار، أغْرى الناسَ بالإساءة إليه. فصل ويجوزُ أن يامر اللهُ بعبادةٍ في وَقتٍ مُستقبل، ويُعلِمَ المكلفَ المأمورَ بها بذلك قبلَ مجيءِ الوقتِ. خلافاً للمعتزلة في قَولهم: لا يجوزُ أن يُعلِمَه بذلكَ قبل مجيء الوقت (¬3). فصل في دَلائلنا فمنها: أنَ المصلحةَ تكون في إعلامهم ذلك (4 [لكي يتوب المسيء إليه، وإن صحة المشيئة المطلقة] 4) لا يمتنعُ معها ذلك، كما لم يمتنع تعليقها على شروطٍ وإعلامُه بتلك الشروط. ومنها: ان المطلقَ من الأمر أضعفُ، والمعين (¬5) بوقتٍ آكَدُ، ولهذا لو أمرَ عبدَه أمراً مُطلقاً، لم يَحسُن لومُه وعِتَابُه على تَركِه في وقتٍ، ولو عَيّنَهُ بوقتٍ حَسُنَ تأديبه ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكفاية"، والصواب ما أثبتناه. (¬2) في الأصل: "على"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬3) انظر "المعتمد" 1/ 166، و"العدة" 2/ 403. (4 - 4) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدربحسب المعنى. (¬5) تحرفت في الأصل إلى:" المعنى".

- فصل في شبهة المخالف

على تركِه في ذلك الوقتِ. فإذا جازَ الأمرُ المطلقُ، فا لمعلق أولى أن يجوز. فصل في شُبهةِ المخالف وهي المتقدمةُ في الفصل الذي قبله (¬1)، وقد سبق الجوابُ عنها بما فيه كِفاية. فصل ذَكَرَ أصحابُنا أنه يجوز أن يقال: إن بعضَ الواجبات أوجبُ من بعضٍ، ونَصَر ذلك شيخُنا الإمامُ أبو يَعلى ابن الفَرّاء (¬2) رضي الله عنه، وبَناه على ما نَصره من الروايةِ عن أحمدَ كرَّمَ اللهُ وجهه، أنَ الفرضَ أعلى مِن الواجب (¬3). وقد نصرتُ أنا: أنَ الفرضَ والواجبَ سَواء. ومذهبُ شَيخنا رضي الله عنه قال [به] (¬4) أصحابُ أبي حنيفة حيث وافقونا في رواية. إن الفرضَ آكدُ من الواجب. وظاهرُ مذهب أصحابِ الشافعي أن الوجوبَ لا يَتفاضل، حيث قالوا: إنَ الفرضَ والواجبَ سواء (¬5). ¬

_ (¬1) يقصد بالفصل المتقدم أنه يجوزتقديم الأمر على وقتِ الفعل، وقد سبق فيه بيانُ شُبهةِ المخالف ودفعها. انظر الصفحة 198 - 199. (¬2) تقدمت ترجمته في الصفحة (277) من الجزء الأول. (¬3) انظر "العدة" 2/ 404 - 405. (¬4) ليست في الأصل ولا بد منها لاستقامة العبارة. (¬5) تقدمَ تفصيل المسألة وبيانُ الآراء فيها في الصفحة (163) من هذا الجز.

فصل والذي لحظتُه من هذه المسألةِ: أن القائلَ بتفاضلِ الوجوب، إنما سلكَ خلافاً في عبارة، وإلا فنفسُ ما أرادَ بقوله: أوجب. يقتضى موافقتنا في المعنى (¬1)، فإنهم وافقوا في أنَ الواجبَ استدعاءُ الأعلى مِن الأدنى على وجهِ الحتمِ والتضييقِ، ورسموه بأنه ما عوقب على تركِه، وهذا أمر لا يقبل التزايدَ والتفاضلَ، وإلا فما هو إلا بمثابةِ قولنا: سائغ وجائز ولازم، وفي الخبر صادق وكاذبٌ، وفي الصفات: عالم، فإن ذلك كُله لما انتظمه حد واحدٌ، فكان حقيقة واحدةً، لا يقال: أعلمُ، وأصدقُ، وأكذبُ، فكما لا يمكنُ أن تكون معرفةُ المعلوم على ما هو به، والخبرُ بالأمرِ على ما هو به أمراً يتزايدُ، كذلك الاستدعاءُ المضيقُ المحتومُ لا يقبل التزايدَ، وقد صرَّحوا بأنهم لا يريدون بقولهم: أوجبُ. إلا أنَ العِقابَ على تركه أشد، وهذا أمر يرجعُ إلى المقابلةِ، وذلك لا يُعطي تزايدَ الشيءِ في نفسه، بدليلِ أنَ بعضَ المخبرين إذا أخبرَ بقدومِ ولدٍ كان غائباً، واَخر أخبر بمولدِ ولدٍ كان حَمْلاً، وكان العطاءُ والمنحةُ على أحدهما أوفى بحسب بِشْرِ المُخبَرِ بذلك، لم يَجُز أن يقال: إن أحدَهما أخبرُ من الآخر ولا أصدقُ، ¬

_ (¬1) بذلك ينتهي المصنف إلى أن من فرَّقَ بين الفَرضِ والواجبِ، ومن ساوى بينهما، متفقون انتهاء على أنَ الأوامرَ الملزمة ليست على درجةٍ واحدة من حيث الثواب، فالاختلاف بين الفريقين مجردُ اختلاف في التسمية، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح. إلأ أنَه يؤخذ على ابن عقيل في ذلك: أنَ أثر الاختلاف بين الفرضِ والواجبِ ليس مقصوراً على زيادةِ ثوابِ الفرضِ على ثوابِ الواجبِ، بل هناك آثار أُخرى ذكرها الحنفية، منها: أنَ المكلف إذا ترك فرضاً كالركوع والسجود في الصلاة بطلت صلاته، ولا يسقط في عمد ولا سهو, ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة. أما إذا تركَ واجبٌ فإنَ عمله صحيح، ولكنه ناقص يحتاج إلى تَتْميم، كاشتراط الطهار في الطوافِ، فإئه واجبٌ لا فرض، فإذا لم تتحقق الطهارةُ أثناءَ الطوافِ، فلا يكون الطوافُ فاسداً، وإنما هو ناقصٌ، وتكملته إما بإعادتِه طاهراً، إذا كان بمكة، أو يَجبر النقصان بالدَّمِ، إذا رَجع إلى أهله. انظر"أُصول السرخسي" 1/ 111 - 113.

وكذلك العلمُ بالله سبحانه أكثرُ ثواباَ من العلم بأن أبا بكرِ كان الخليفة بعدَ رسولِ الله بطريق استحق به الخلافة، والعقابُ على جحد الصانع أكبرُ مِن العقابِ على جحدِ خلافةِ أبي بكر ولا يقال: إنَ العالِمَ بالصانع أعلمُ من [العالمِ] أن أبا بكر كان الخليفةَ،. وإذا كان القائلون بذلك لم يُفسروا قولهم: أوجب، إلا أن الثوابَ عليه أكثر، حصل الوفاقُ منهم فيما أردنا، وأن الواجبَ حقيقة لا تتزايدُ، والوجوبُ أمر لا يقبل الزيادةَ في نفسه من حيث كونُهُ استدعاء مخصوصاً من شخص مخصوص (1 [بل تتزايد المقابلة] 1)، فلا نُنكرُ أنَ المقابلةَ على الإيمانِ بالله بالثوابِ تتضاعفُ على المقابلةِ على فعلِ الصلاة، وأن المقابلةَ بالعقابِ على تركِ الصلاة لا تَبلغُ مبلغ العقابِ على تركِ الاعتقادِ، فلا طائلَ في الاختلافِ في العباراتِ مع الاتفاقِ في المعنى، وما صار ذلك إلا بمثابةِ من قال: إن زيداً أعلمُ من عمروٍ بالنَّسبِ أو النحوِ ... لا يكونُ (¬2) إلا مرفوعاَ، والمفْعولَ مَنْصوباً أوفى من علمِ عمروٍ به؟ وأنَ علمَ زيدٍ بالماءِ النجس لا يزيلُ نجساَ ولا حَدثاَ أوفى مِن علمِ عمرو به؟ فقال: لا بَل أُريدُ أن زيداً يَعلمُ من أنساب العربِ ودقيقِ النحوِ وغرائبِ مسائله، ومِن مسائل الفِقه أوفى مما (¬3) يعلم عمرو, وأنَ الملَك يقابله على علمِه بأوفى جائزةِ من عمرو. قلنا: قد وافقتَ فيما أردنا، وفيما عليه أجمعنا، فلا نَمنعُ من تفسير قولك: أعلمُ، مِن المجازِ والاستعارةِ بما أردت. ¬

_ (1 - 1) طمسٌ في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى. (¬2) العبارة هنا غيرسليمة، ولعل الناسخ أسقط بعضها، ويظهر أن تقديرها كالآتي:"وما صار ذلك إلّا بمثابة من قال: إن زيداً أعلم من عمرو بالنسب أو النحو أو الفقه، فيقال له: أتريد أن علم زيد بأن الفاعل لا يكون إلّا مرفوعاً .. " والله أعلم. (¬3) في الأصل: "ما"، والمثبت هو الصواب.

- فصل في إيراد ما يجوز أن يتعلق به في ذلك

فصل في إيرادِ ما يجوزُ أن يتعلَّقَ به في ذلك وهو أن كثرةَ الثوابِ من الله، والمجازاةِ من الآدمي على امتثالِ بعض الأوامر، وشدَّة (¬1) العقاب على تركه، مما يُستدلّ به على قوة عناية الآمرِ به، وشدة حثّه عليه، وفي حقّ الآدمي يدلُ على توفير دَواعيه إلى إيقاعه، فإذا كان دليلاً على ذلك، وكان الاستدعاءُ بحسب حال المستدعي وشدّةِ إيثاره، دَل ذلك على أن الاستدعاءَآكدُ وأحثُّ من الأشَد ألماً (2 [أوعقوبة على فعله والإتيان به، وخفَّت عقوبت] 2) على تركه له، وهذا معلومٌ فيما بيننا، فيصيرُ من باب قولنا: أحبُّ وأحسنُ وأبغضُ وأقبحُ، ولا خلافَ أنه يَحسُنُ أنْ يقال: ألظلمُ أقبحُ من الرَّبا، حيث كان القَهرُ، والغصْبُ أخذُ مالِ الغيرِ على سخطٍ منه، وإيلام وإيجاع لقلبه، وأخذُ الربا أخذُ ماله باختيارٍ منه، والشركُ بالله تعالى أقبحُ من عقوقِ الوالدين وأفحشُ. ويجوز أن يستدلَّ على ذلك؛ بأنَّ العقابَ على هذا (¬3) التخليد، والعقابَ على ذلك (¬4) مُنقطع، والزنى في حقِّ المحصَنِ أعظمُ جريمةً من السرقة، حيثُ كان حدُّ هذا قطعَ جارحةٍ، وعقوبةُ ذاكَ إزهاقَ النفس بأوجعِ فعلٍ وآلةٍ. هذا جميعهُ لا يُعطي التزايدَ في نفسِ الاستدعاء؛ لأنه إذاً لم يقبَّحْ في الإخلال بواحدٍ منهما، ولا يُعاقَب على الإخلال بكلّ واحدِ منهما، وكان سُبحانه لو رفع العقابَ رأساً والثوابَ لما ارتفع صحة قوله: أوجبتُ وحَتَّمْتُ، وصحَ أن نَقولَ: الاستدعاءُ بنفسه حقيقةٌ معقولةٌ، وكذلك تزايدُ المقابلةِ لا يَدُلّ على قوة الاستدعاءِ. ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "شد". (2 - 2) طمسٌ في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى. (¬3) يقصد الشركَ بالله. (¬4) يعني عقوق الوالدين.

- فصل مفيد في بيان أمثال هذا الفصل

وقد تعلّق بَعضهم بأنَ معنى أوجب، أن يكونَ: لا يتم (¬1) فعلُ أحدِ الواجبين، إلا بأن يتقدمه فرائضُ قبلَه، مثل تقدمِ وجوبِ النظرِ والاستدلالِ على المعرفةِ بالله سبحانه، بخلافِ فروعِ الإيمانِ وفرائضه، وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنَ كونَ أحدِ المأمورين أكبرَ عناءً، وأشقَ تحصيلاً يُعظِمُ وجوبَ غيرِه مع وجوبِه، وذلك لا يرجعُ إلى تعلقه، كما أنَ بعض المعلوماتِ تحتاجُ في حصولِ العلم بها إلى مقدمات يشق تحصيلها، وإذا انتهينا إلى العلمِ من حيث تعلقُه بالمعلومِ على ما هو به، تساوت فيه العلومُ وانطبقَ عليه حد واحد حتى شمل الشاهدَ والغائبَ، وجميعُ ما تعلقوا به في ذلك يرجعُ إلى ما وراءَ الحقيقةِ، وذلك لا يُعطي صحةَ دخولِ لفظة: أفعل، ألا ترى أن من كَذبَ على اللهِ وعلى رسوله كان آكدَ عقاباً، وأكبرَ مأثماً ممن كذبَ على أبيه أو صديقهِ أو عَدُوَّه، ثم لا يقال: إنه أكذب فيما أخبر به من الخبرِ الذي وقع منه على خلافِ مخبَره، وكذلكَ من صدق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرَ به عنِ الله كان أكثرَ ثواباً ممّن صدق أبا هريرة في حديث غسل اليدين عند القيامِ من نوم الليل قبل غَمسِهما (¬2). ولا يقالُ: أحدُهما آكد تصديقاً. فصل مُفيد في بيانِ أمثالِ هذا الفصل، يَستريح بمعرفته المناظِرُ من كدّ المخالفةِ والمقاولةِ، استفدناه من مشايخِ عصرِنا الذين لازمنا مجالسَهم. وهو: أنَ المسألةَ الجاريةَ يجبُ أن يُحقَقَ مرادُ المفتي فيها، فإن وقَع للمجتهد الآخرِ ما وقع للمفتي الأولِ من المعنى؛ استراحا من الجدالِ، وإن خالفَه في اللفظِ ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل. (¬2) في الأصل: "غسلهما" ولعل الصواب ما أثبتناه، والمصنف يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استيقظ أحدكم في منامه، فلا يغمسَنَ يدَه في إنائه حتى يغسلها، فإنَه لا يدري أينَ باتت يدُه". تقدم تخريجه في 2/ 37.

* فصل في الزائد على ما يتناوله المأمور به

دون المعنى؛ اجتهدَ في حصولِ الموافقةِ في اللفظ الذي لا يكونُ فيه إبْهام ولا ترددٌ، فأكثرُ ما يجيء الخلافُ بين المتفقين في المعنى من جهة تعلّقِ أحدِهما بلفظٍ متردد وتعلّقِ الآخر بلفظ خاص (1 [غير مشترك يقع به الوهم] 1). مثال ذلك: أن القائل: أبو ذَر أصدق أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والماءُ أطهرُ من الخل، والوترُ أسنُّ من ركعتي الفجر، والجبالُ أسكنُ من الأرض، والثلجُ أروى من الماء، ومُسيلمةُ أكذبُ من جميع العرب، وإلى ما شاكلَ ذلك، فلا يزال الجدالُ بينهما حتى ينتهيَ النظرُ منهما إلى غايةٍ وهو أن تقول: ماذا تريدُ بقولك: أفعل؟ وهل هو مثل قولك: الخل أحمض من غيره؟ فإن قال: نعم، ذاك أريد. قال له: فأصْدَقُ وأطْهَرُ لا يتحقق فيه التزايد؛ لأن الصدقَ، الخبر المطابقُ لمخبَره، فحين زادَ أو نقصَ خرجَ عن أن يكون صدقاً، وكذلك قولُنا: طاهرٌ، والذي ليس فيه منع من الصلاةِ معه، ولا يجب تجنبه، والخل والماءُ لا يتفاضلان، والكذبُ: الخبرُ عن الشيء على خلافِ ما هو عليه، ومسيلمةُ وغيره في ذلك سواء، فتضطره إلى أن يقول: إنما أردنا بأصدَق: أنه أكثر صدقاً، وأكذبَ بمعنى: أكثر كذباً، فيزولَ الخلافُ، فالعاقلُ من أراح نفسَه عن هذا من أول وهلاتِ السؤال والجوابِ، فتقول: ما معنى قولك: أصدقُ، وأطهرُ، وأوجبُ، وأعلمُ؛ فإذا قال (¬2): ما يعطي التزايد في غير التعلّق، زال الخلافُ، فاهتمَ بذلك تَسْترح (¬3) من كثيرٍ من الجدالِ مع غير أربابِ التحقيق. فصل في الزائد على ما يتناوله المأموربه كتطويلِ الركوعِ والقراءةِ، هل يكونُ حكمُه حكمَ الأصل؛ أو يكونُ له حكمُ النَفل؟ الذي إختاره شَيخنا رضي الله عنه -وهو الصحيحُ عندي- أن الزيادةَ نافلة، ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى. (¬2) مكررة في الأصل. (¬3) في الأصل: "تستريح" والجادة ما أثبتناه.

سواء كان المأمورُ به واجباً أو سنة، وبهذا المذهب قال أصحابُ الشافعي (¬1)، وأبو عبد الله الجُرجاني (¬2) من أصحاب أبي حنيفة، وأبو بكر الباقلاني، وذهب أبو الحسنِ الكرخي (¬3) إلى أنَ جميعه على حكم الأصلِ من الوجوبِ والسنةِ (¬4). وقد خرجَ شيخُنا الإمامُ -رضي الله عنه- من كلامِ أحمدَ ما ذكر أنه يعطي مذهبَ أبي الحسن، وأنَ (¬5) الزيادة كالمزيد، فقال: لأنه استحب للإمام أن ينتظر على المأمومِ في الركوعِ بما لا يَشُقّ على المأمومين. قال شيخنا (¬6): فلو لم يحكم بأن إطالةَ الركوعِ واجبة، لم يصح إدراكُ المأموم للركعة؛ لأنه يُفضي إلى أن يكونَ المفترضُ تابعاً للمتنفل، وهذا عندي لا يدلّ على هذا المذهب، بل يجوزُ أن يكونَ يُعطي أحدَ أمرين: إما جوازُ ائتمامِ المفترضِ بالمتنفِّلِ، وليس بمستبعد مع حديث معاذ (¬7)، وهي رواية عنه. ويحتملُ أن يجريَ مجرى الواجبِ في باب الاتباع خاصة، ولهذا يُسقطُ الاتباع ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 73. (¬2) تقدمت ترجمته في الصفحة (173) من هذا الجزء. (¬3) تقدمت ترجمته في الجزء الثاني الصفحة (87). (¬4) انظر "العدة" 2/ 411. (¬5) في الأصل: "إلى" ولعل المثبت أنسب لاستقامة العبارة. (¬6) في "العدة" 2/ 411. (¬7) عن جابر بن عبد الله، قال: كان معاذ بن جبل يُصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه، فيؤمهم، أخرجه أحمد: 3/ 299، و358 و369، والبخاري (700) و (701) و (705)، ومسلم (465)، والنسائي: 2/ 97، 102، 172، وأبوداود (600). ووجه الدلالة في هذا الحديث: جوازُ صلاةِ المفترضِ خلفَ المتنفلِ؛ لأنَ معاذاَ كان يؤدي فرضَه مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعُ إلى قومِه فيؤمهم، فتكون صلاتُه بهم نفلاً له، وفريضةً لهم.

- فصل يجمع أدلتنا على ما نصره شيخنا واخترناه

بعضَ الواجب، ويُوجبُ ما ليسَ بواجب، وهو المأمومُ المسافرُ إذا اتَّبع الحاضرَ وجبَ عليه الإتمام، وإن كان فرضُه القصر، والمرأةُ والعبدُ والمسافرُ يصفُون الجمعة بحكمِ المتابعةِ، وليس فرضاً لهم، والمسبوقُ تسقطُ عنه القراءةُ وقيامُ الركعة بحكمِ المتابعة. فصل يجمعُ أدلّتنا على ما نصره شيخُنا واخترناه فمنها: أنَّ الركوعَ الذي يقعُ عليه الاسمُ مُجزىء تبرأ به الذّمة عن عهدةِ الأمرِ، فإذا انحنى معتدلاً، وقال على وجه التأني: سبحانَ ربيَ العظيم، حَسُن أن يقولَ له الفقيهُ الذي يُعلِّمه الصلاة: حَسْبُك، وحَسُن أن يقولَ له: أجزأكَ هذا القدرُ من الركوعِ، فارفع، وحسُنَ منه أن يقول: قد أتيتُ بما وجبَ في، والزائدُ يَحْسُن نفيُ الوجوب عنه. فنقول: وما يجبُ عليك الزيادةُ على هذا، فقد دلَّ عليه السلبُ والإثباتُ، وإذا كان ذاك القدرُ هو الواجبَ، فماذا بعد الواجبِ إلا النفلُ، إذ لو كان ما زادَ واجباً؛ لكانت الذمّةُ لاتبرأ قبل فعله. ومنها: أن نُجوَّزَه دليلاً قياساً، فنقول: ما سَقطَ به الفرضُ كان جميعَ الواجب، كما لو انفرد عن زيادةٍ، وبفرضِ الكلامِ في الزيادةِ، فنقولُ: غيرُ معاقَبٍ على تركه، أو غيرُمأثومٍ بتركه، فلا يكون واجباً كسائرِ النوافل. ومنها: أن خصيصةَ النفلِ موجودة بلا في هذهِ الزيادة، وهي أنَ المكلف مخير بين فعلها وتركِها لا إلى بدل ينوبُ عنها، وكُل ما خُيِّر المكلفُ بين فعلِه وتركِه على الإطلاق، فهو النَفل، والحكمُ بمشاركته للفرض مع تخصصِه وتَميّزهِ بخصيصةِ النفل لاوجهَ له. ومنها: أنَ الزيادةَ على ضَربين:

- فصل في اعتراضهم على أدلتنا

زيادةٌ هي تطويل الفعلِ والقولِ وامتدادُه على وجهٍ يجزىء منه البعضُ. وزيادةٌ هي فعل مثلهِ منفصلة عنه على وجْه التكرار، ثم إن المنفصلة عنه على الخلافِ المعروفِ، (1 فا لمصلي لصلاة الظهر والفجر دفعتين، يكون بالثانية متطوعاً أم بإحداهما 1)؟ فلا يختلف الناس أنهما غير واجبتين جميعاً، فيجب أن يكون الامتداد والزيادة المتصلة في الركوع والقراءة كذلك، ولا فرق بينهما. فصل في اعتراضهم على أدلتنا قالوا: ليس إذا سقطَ الفرضُ ببعضِه دل على أنَ الواجبَ ذلك البعضُ، الدليلُ عليه: أنَ فروضَ الكفايات إذا قامَ بها رجُلٌ من أهلِ المحلةِ أو القريَة، سقطَ الفرضُ عن الباقين، ثم إذا فعلَ الكُل ذلكَ الفرضَ كان كُفُه فرضاً، هذا في الأشخاصِ، وأمَّا في الأفعالِ؛ فالمسافرُ يسقط فرضُه بركعتين، ولو صلاها، فإنه كان الكلّ واجباً. فيقال: إنَ الفرض يتناولُ أهلَ القرية، ولهذا لو تطابقوا على التَّركِ عمَّهم الإثمُ، وفي مسألتنا لو كان عادته تطويلَ الركوع، فتركَ أصلَ الركوع، أو تطويلَ القراءة، فتركَ أصلها أثمَ مأثمَ التاركِ لما يقع عليه الاسم، ولا يأثم مأثمَ من ترك ركوعاً وجب عليه مطوَّلاً ممتداً. ولأنه ليس في فرضِ الكفايةِ واحدٌ يُشارُ إليه بالفريضةِ بل الوجوبُ تناول الكُلَّ، وجُعل البعض قائماً مقامَ البعض، وفي مسألتنا: الفرضُ من ذلك معين مقدَّرٌ بما يقعُ عليه اسمُ الركوعِ المطمئنِّ فيه، فذاكَ تخصَّص بالفرضِ، وما زاد تخصَّص بالنفلِ كتخصُّصِّه بخصائصِ النَّفل. وأما المسافرُ؛ فإنه رُخِّص له في تركِ البعض، فإذا رد الرخصةَ رجع الفرضُ إلى ¬

_ (1 - 1) ورد في هامش الأصل، دون الإشارة إلى مكانه في المتن، ولعله كما أثبتناه.

- فصل يجمع شبههم

أصله، وهو الوجوبُ في أصل الوضع، فلهم أن يقولوا، أعني أصحابَ ابي الحسن الكرخي: إنَّ من أصلنا أنَّ الشروع في العباداتِ يجعلُها واجباً؛ لأنَّ الشروعَ كالنذر، فالزيادةُ عبادةٌ قد شرعَ فيها، تَنقل الكلام إلى ذلكَ الأصلِ. فصل يجمع شُبَههم فمنها: أنَّ الاسم يقع على آخرِ (¬1) الفعل، كوقوعه على أوَّله أو على الفاتحةِ، وما زاد نُوقِع عليه اسمَ الواجبِ المأمورِ به، وهو الركوعُ والقراءةُ حيث وقعَ على جميعه اسمُ القراءةِ والركوعِ. ومنها: أنَّ الزيادةَ على المنهى جُعِلَ محظوراً مثلَه، وما زيدَ على الشرطِ جُعِلَ كالشرطِ، والزائدَ على عددِ الجُمَع مِمَّن (¬2) لا تَجبُ عليه الجمعة اقتصر عليه حكمُ الجمعةِ في حصولِ الإجزاء عن الظّهر وبيانُ الشرط، أنه لو سرقَ النَّباشُ اللَّفائِف غير المعتَبرة وتمَّ بها النصابُ، قُطعَ وجُعل في حُكم المعتبرة، وكذلك الستْرةُ الثانيةُ إذا كانت غَصباً حصلَ الإجزاءُ والاكتفاءُ بواحدة، وأثَّرَت الثانية في الإبطالِ، كما لو كانتا مَغصوبتين (¬3). فيقال: ذاك تساوى المأثم، فالإثمُ على جميعه، وها هنا لا مأثمَ على تركهِ جَميعه بل على تركه بعضه، وذاكَ لا يُجبرُ على فعلِ الزائدِ وعلى تركهِ، وهنا يُجبَرُ مَن فعلَه وتركَه. ولأنهم قالوا: يقطعُ بالنصابِ فيما زادَ عليه، ولا يتعلقُ الوجوبُ بالأوقاصِ (¬4) ¬

_ (¬1) في الأصلِ "أجزاء". (¬2) في الأصل: "من". (¬3) المقصودُ بذلك: أنه إذا كانت إحدى سُترتي المصلي مغصوبة، أثرت في إبطال الصلاة، كما لو كانتا مغصوبتين. (¬4) الأوقاص: جمع وَقص، وهو ما بين فريضتي الزكاة، كالزيادة على الخمسِ من الإبل إلى التسع، وعلى العشرِ إلى أربعَ عشرة. انظر "النها ية في غريب الحديث": 5/ 214.

- فصل في الأجوبة عن ذلك

الزائدةِ على نصابِ الزكاةِ. ومنها: أنَّ الإنسانَ لو قال لوكيله: تصدّق من مالي. فتصدّقَ بالقليلِ، كان بحكمِ الأمرِ، وإن تصدّقَ بالكثير فكذلك، وما ذاكَ إلا لأنَ الكثيرَ والقليلَ يتساويانِ في وقوعِ اسم الصدقةِ عليهما. فصل في الأجوبةِ عن ذلك أمَّا دعواهم أن آخره كأوَّله، غيرُ صحيح؛ لأن آخرَه امتازَ عن أوله بالحكمِ المخصوصِ، وهو التخييرُ بين فعلهِ وتركهِ، وبسُقوطِ المأثم على تركه، والأولَ اختص بخصيصةِ الواجب من حيثُ العقابُ على تركهِ وانحتامُ فِعلِه، فتميزه بالمعنى يربي (¬1) على شمولِ الاسمِ ووقوعه عليه. وأمَّا الوكيلُ، فلا نُسلِّم، بل إذا أطلقَ له الصدقةَ وقعَ على أيسرِ يسير، ولأنه هو المتحققُ من ذلك، وما زادَ يحتاجُ إلى دلالةٍ وتصريحٍ، ولو سُلِّم؛ فإنَ العادةَ فيما بيننا أنه لو أرادَ المقدارَ ذكره، ولو أرادَ البعضَ لَخَصَّصَهُ، فلمَّا لمْ يُقدَّر دلَّ على أنه وَكَلَهُ إلى اختيارِ الوكيلِ، فكانت العادةُ هي الموجبةَ لتعميمِ الصدقةِ، وليس بيننا وبين الله سبحانه عُرف، فكان الواجبُ هو ما يقع عليه الاسمُ دونَ ما لا تَتحقق فيه الشركةُ للواجب. فصل إذا ورد الأمرُ بهيئةٍ في فعل، ودل الدليلُ على كون الهيئةِ مسنونةً أو مستحبةً مندوبةً، لا يَخرج المأمور بايقاعِ الهيئةِ فيه عن كونه واجباً. مثالُه: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صَبِرَة: "وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكونَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يولي"، ولعل الصواب ما أثبتناه.

- فعل في ذكر حجتنا على ما ذهبنا إليه

صائماً" (¬1)، وقوله صلى الله عليه وسلم في المشي بينَ الصفا والمروة: "اسعَوا، فإن الله كتبَ عليكم السَّعي" (¬2)، وقوله للخاتِنة: "أشَمِّي ولا تُنهِكي" (¬3)، فإنَ هاتين الهيئتين مندوبتان، والاستنشاقُ وأصلُ المشي بين الصفا والمروةِ جميعاً واجبان (¬4)، خلافاً لأصحابِ أبي حنيفة (¬5)، حكاه الجُرجاني وأنه يكونُ الاستنشاقُ وأصلُ المشي بين الصفا والمروة غيرَ واجبين. فصل في ذكر حجتنا على ما ذهبنا إليه أنَ الأمرَ بالسعيِ والمبالغةِ قد دلا على الأمرِ بأصلِ المشي، وأصلِ الاستنشاق، فلما قامت دلالة الندبِ على نفيِ الوجوبِ للهيئتين، بقيَ الأصل مأموراً به أمراً مطلقاً، ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "مسنده" 1/ 30، 31، وأحمد 4/ 211، وأبوداود (142)، (143)، (2366)، والترمذي (38)، (788)، والنسائي 1/ 66، 79، وابن حبان (1054) من حديث لقيط بن صبرة. (¬2) أخرجه أحمد 6/ 421 - 422 والشافعي 1/ 352، والطبرأني في الكبير 24/ (529) و (576) و (813)، والدارقطني 2/ 255 - 256، والحاكم 4/ 70. من حديث حبيبهَ بنت أبي تجراة. (¬3) رواه أبوداود (5271). ومعنى أشفي ولا تُنهكي: أي اقطعي بعضَ النواة ولا تَسْتأصليها. والنهك هو المبالغة في الضرب والقطع. وقد شبه القطع اليسيرَ بإشمام الرائحة، أي: لا تبالغي في استقصاء الختان."النهاية" 5/ 137. (¬4) اختلفت الرواية عن أحمد في السعي، فرويَ عنه أنه ركن لا يتمُّ الحجُّ إلأ به، ورويَ أنه ستة لا يجب بتركه دمٌ. وقال القاضي أبويعلى: هو واجبٌ وليس بركن، إذأ تركه وجب عليه دم، وهذا ما رجَّحه صاحب "المغني" وهو رأيُ الحنفية. انظر "المغني" 5/ 239، و"البناية" 3/ 509. (¬5) رأيُ الحنفية ان الطوافَ من واجبات الحج، لا من أركانه. وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير والحسن البصري، وعطاء، ومحمد بن سيرين ومجاهد. انظر "البناية على الهداية" 3/ 509.

- فصل في شبههم

والأمرُ المطلقُ يقتضى الوجوبَ، فصار بمثابةِ لفظِ العموم إذا تَعقَبه لفظ يقتضي إخراجَ بعضِه، بقي الباقي على ظاهرِه في الاستغراقِ لما عدا ما أخرجه الخصوص. فصل في شُبَههم قالوا: المنطوقُ به نفسُ المبالغةِ والسعي، وقد قام الدليلُ على نفيِ وجوبهِ، فغيرُ المنطوقِ به في الأمرِ لا وجهَ لكونه واجباً، وزيادته على رتبةِ المنطوق به. فيقال: إنَ قولَه في الاستنشاقِ يعطي الأمرَ به، ولم يقمْ على الأمرِ به دلالةٌ تحطُّه عن رتبةِ الإطلاق، كما إذا قال: حُتيه في غسلكِ له (¬1)، وأوتر في الاستجمارِ (¬2)، يكون مضمناً للأمرِ بالأصلِ، وليس في الأصلِ ما يحطه عن مرتبتهِ من الإطلاق. فصل إذا كنّى اللهُ سبحانه عن العبادةِ ببعض ما فيها من أركانِها وتوابعِها، دل على وجوبِه فيها، وكونِ ذلك الشيء من لوازمها وفروضِها، مثل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] لما كنى عن الصلاة به، دل على وجوبه فيها، وكذلك قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} إلى قوله: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27]، فكنَى عن الحج بحلقِ الرأس، فدل على وجوبه فيه، والأصل في ذلك أنَ العرب لا تكني عن الشيء إلا بأخص الأشياء به، تقول: عندي كذا وكذا رقبةٌ، وتحتي كذا وكذا فرجٌ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا سَبقَ إلا في خُف أو حافرِ أو نَصْل" (¬3)، ويقول القائل: لي كذا وكذا ¬

_ (¬1) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "حتية، ثم اقرصيه" وقد تقدم تخريجه في الصفحة (38) من الجزء الأول. (¬2) أخرج أحمد 4/ 313، 339، 340، والترمذي (27)، والنَسائي 1/ 41، وابن ماجه (406)، والحاكم 1/ 158، وابن حبان (1436) من حديث سلمة بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إذا توضأت فاستَنْثر وإذا استَجْمرت فأوتر". (¬3) أخرجه أحمد 2/ 256، 358، 425، 474، وأبوداود (2574)، والترمذي (1700)،=

* فصل: الأمر من جهة الله سبحانه لا يقف على مصلحة المأمور

وَقفة، ويريدون به حجّةً، لما كان الوقوفُ بفواتهِ فواتَ (¬1) الحج، ويدركُ بإدراكهِ، هذا دأبهم. فصل الأمرُ من جهةِ الله سُبحانه لا يقفُ على مصلحةِ المأمورِ، ويجوزُ أن يأمرَه بما يعلمُ أنه لايعودُ بصلاح حاله. هذا يَنبني على أصولٍ لنا في أصولِ الدياناتِ، وبهذا قال الفقهاءُ أجمع، خلافاً للمعتزلة ومن وافقهم في تلك الأصولِ في قولهم: لا يأمرُ إلا بما فيه المصلحةُ. والأمرُ عندهم يقتضي الإرادةَ، ولا يريدُ اللهُ عندهم بعباده إلا ما فيه الأصلحُ لهم ديناً ودُنيا. والكلامُ في هذا الفَصل يشيرُ إلى تلك الأصولِ، فنذكر فيه بحسب ما يحتمل هذا الكتابُ إن شاء الله. فصل يجمع أدلتنا فمنها: أنه لو تخصص أمرُه بالأصلحِ لما أمر إبليسَ وفرعونَ (¬2) ومن كانت حالُه حالَهما في التخلفِ عن الطاعةِ واعتمادِ المخالفة، إذ قد كشفت عاقبةُ أمرِه سبحانه لهم عن الوبَالِ واللعنِ والإيعادِ عند (¬3) التَخلف، والتخليدِ في العذاب عند المؤاخذةِ والمجازاةِ، وقد أبانَ لنا عن الأصلح في بعضِ ما قصد فيه الأصلحَ، فأبانَ عن قَتلِ ¬

_ = والنسائي 6/ 226، 227، وابن ماجه (2878)، وابن حبان (4690). والسَبق: هو المال المشروط للسابق على سبقه والمراد من النصل: السهم، ومن الخف: الإبل، ومن الحافر: الفرس (¬1) في الأصلإ "وفوات" والمثبت هو الجادة. (¬2) انظر 2/ 481 التعليق رقم (1). (¬3) تحرفت في الأصل إلى: "عن".

الغلامِ في حقِ الخَضِرِ لما أنكره وأكبره موسى عليه السلام، بأنه كان في المعلومِ أنه لو بَلَغَ لكفَر وكَفر أبويه (¬1)، فقد أعطى ذلك أنه لما أرادَ حِفظَ عاقيته وعاقبةِ أبويه، أمَرَ بالأصلحِ لهم، وهو قتلُه صغيراً، فما كان من هذا فقد كشف النظر عن مرادِه سبحانه منه، وهو الأصلحُ، فأما إبليس حيث طلبَ الإنْظار وخَطَب طولَ الإعمار، أجابه سبحانه فقال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف: 15]، فلو كان أمرُه لإصلاحه وصلاحِ عاقبته لما أجابه إلى الإبقاء، وقد كشفت العاقبة أنَ إنظارَه الذي أجابه الحق إليه وَبالٌ عليه وعلى من اتبعه، فلو كان اللهُ سبحانه أرادَ حفظَه عن الفسادِ، وأرادَ به الصلاح، وبغيرِه ممَن علم أنه يغويَه؛ لفَعلَ في حَقَه ما فعلَه في حق طفلِ الخَضِر، فعُلمَ أنه مُطلقُ الأمرِ والمشيئةِ بفعل الأصلح لمن شاءَ، وفي حقَ من شاء، ويأمرُ من لا يُريد صلاحَه بما شاء، فهذا طريق مَهْيَعٌ قد ملأ كتابه الكريم بأمثاله: قال في حقّ قومٍ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وأبان عن عِلّة الكراهة، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، فأبان عن علةِ عاقبتهِم [وتثبيطهم] (¬2) عن الخروج لمصلحةِ جيشِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أرادَ بجيشه الأصلحَ. وقال في حق قومٍ: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وأطال أعمارَ المنافقين على ما كانوا عليه من التخذيلِ للمسلمين، وتَتع عوراتهم، ومكاتبةِ المشركين، وإيقاعِ الأراجيفِ على السَّرايا، وجميع ما أخبر اللهُ عنهم في كتابه في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101]، وقولهم: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} ¬

_ (¬1) وذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، سورة الكهف، الآية: 80. (¬2) زيادة يستقيم بها المعنى.

- فصل فيما تعلقوا به لمذهبهم

[التوبة: 81] وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب: 60] ... الى أمثال ذلك، فَعُلم أنَ الله سُبحانه يَفعلُ الأصلحَ ويَعتمدُه في حقِّ من شاء، فأما أن يُشترط الأصلحُ في أمره، ويقف أمرُه عليه، فمتى ذهبَ إليه ذاهب مَنَعته هذه الآيُ وما شَهدت به أحوال بَعضِ المكلفينَ المأمورينَ من كونِ الأوامِر والنواهيِ والتكاليفِ عادت بوَبالهِم في فسادِ عاقبتهم وفسادِ الأمةِ بهم. وهذه شَذْرَةٌ كافيةٌ في مثلِ هذا الكتاب، إذ ليس بموضوع في أصول الديانات، لكنّه في أصولِ الفقه. فصل فيما تعلقوا به لِمذهبهِم قالوا: القولُ والفعلُ إذا خَلا من فائدة كان عبثاً، وقد نزَه اللهُ سبحانه نفسَه عن العبثِ وعن الباطل، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ....} إلى قوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38 - 39]، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فمن تنزه عن فِعلٍ يخلو من نفع به، [قادر] (¬1) على التنزيه لنفسه عن فعل هو محضُ مَضَرة لا فائدةَ فيه. والأمرُ أحدُ أقسامِ كلامِه سبحانه، لا يخلو أن يكونَ إما لنفعٍ، أو دفعِ ضررٍ, والله سبحانه مُنزهٌ عن ذلك، لم يبقَ إلا أنه أمرَ العبادَ لنْفعهم ودفعِ الضررِ عنهم، وذلك هو الأصلحُ الذي نشيرُ إليه، وإذا خلا من اجتلابِ النفعِ لهم الموفي على مَشقَّة التكليف، أو دفعِ المضار عنهم تعطلَ عن فائدة، وكلُّ قولٍ تعطّلَ من فائدةٍ كان لغواً، كما أن كُل فعلٍ تعطَّل من فائدةٍ كان عَبثاً، والله سُبحانه منزّه عن العبثِ عقلاً وشرعاً، حيثُ قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها المعنى.

- فصل في جوابهم عما تعلقوا به من الشبهة

[الحجر 85]، وفي لفظٍ آخرَ {لاعبين} [الدخان: 38]، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ} [الدخان: 39]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، وإذا بطلَ أن يكون لمعنىً يعودُ إليه، وبطل أن لا يكون لمعنى رأساً؛ لأنه [سبحانه منزه] (¬1) عن العَبث، لم يبق إلا أنه لنفعِهم ودفعِ الضررِ عنهم، وذاك هو الأصلحُ الذي نشيرُ إليه. فصل في جوابهم عما تعلقوا به من الشبهة فيقال: نحنُ نخالفكم في هذا الأصل، ولا نطلبُ لأفعالِه وأقوالِه الفوائدَ، بل نقول: إنَ القولَ والفعلَ الصادرين (¬2) عن الله سبحانه يصدرانِ عن إرداةٍ مطلقةٍ وتصرّفٍ في أعيانِ مُلكه، وقد يصدرُ عنه ما لو صدَر من خلقِه لكان مَذموماً مُسْتَهجناً، ويصدرُ عنه حسناً، كأمرِه لمن يعلمُ أنه لا يُطيع، وخلقِه لمن يعلم [أنه لا يعمل] (¬3) إلا بالبغي، وإمدادِه بالقوى والأموالِ وطولِ الأعمار وكلِّ شيءٍ يكون به [من] (¬4) الشَّرِّ أقربَ وعن الخير أبعدَ، ولو صدرَ هذا من الواحدِ منّا بأن أخرجَ عبداً من حَبسٍ كان مانعاً له، أو حل قيداً كان مُعوّقاً له عن الفسادِ مع علمه بأنه لا يَتصرّفُ بعد إطلاقه إلا فيما يعود بفسادِ حاله وأحوال العباد، فإنه يكون جميعُ ما يَتطرّقُ من ذلك العبدِ منسوباً إليه، ويكونُ مذموماً عليه، وهذا موجود في تكليفِ الله مَنْ كَشفَ الغيبُ عن فَسادِه وإفسادِه، وهو بريءٌ من كل لائمةٍ، حاكم غير مَحكوم عليه، على أنه القادرُ على النَفعِ المحض الذي وَعَدَ به أهلَ الجنة، وما فعله مع كونه قادراً عليه من غَير تقديمِ بُغْضِ الدنيا ومِحَنِ التَّكاليف ومَشاقِّها، وكل من قدرَ على ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين ليس في الأصل، ولابدمنه لاستقامة العبارة. (¬2) في الأصل "الصادران" والصواب ما أثبتناه. (¬3) ما بين معقوفين ليس في الأصل، ولابدمنه لاستقامة العبارة. (¬4) ساقطة من الأصل.

* فصل: إذا قال الصحابي: أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا كان حكم هذا القول منه حكم أمر النبي وقوله

نَفعِ غيرِه منّا بغيرِ تقديمِ مضرةٍ لا تَعودُ إليه بنَفعٍ، ولا دفع ضررٍ، فلم يفعل به ذلك النفعَ إلا بتقديم ضررٍ وتكليفِ مَشاق، فَقد بَخَسَ ذلك الحَيَّ حقَّه، كمن قدرَ على إسقاءِ العطشانِ جُرعةً أو شربةً من الماء، أو المُضْحي (¬1) بإظلاله بظلِّ جداره، أو المتخبِّط في ظلمةِ الليل بضَوءِ نارِه، فلم يفعل من ذلك كله شيئاً، بل منعه منه مع الغَناءِ والقدرةِ والعلم بصدق الحاجة، فإنه يكون على الغايةِ من استحقاق الذمّ. والجنَّة عنده سبحانه كتلك الشربة، وذلك الظِلّ، وذلك الضياء، وقد مَنعناها (¬2)، مع القُدرةِ وأحال بيننا وبَينها بمحنِ الدُّنيا وبَلاوي التَّكليف، وأخطارٍ حجبت أكثرنا عنها. وفيما قدّمنا من أنَّ اللهَ سُبحانه قد أمرَ أوامرَ كثيرةً على غير وجهِ الأصلح للمأمور كفايةٌ، والله أعلم. فصل إذا قال الصحابي: أمَرَ رسولُ الله بكذا، أو نهى رسولُ الله عن كذا. كان حُكمُ هذا القول منه حُكمَ أمرِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وقولي: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا. وحكى القاضي أبو الحسنِ الخَرَزي (¬3) أن مذهب داودَ أنه لا يَثبت بذلك حكم أمرِه ونهيه الواجبين، حتى تُنقل إلينا ألفاظُه. ¬

_ (¬1) هو من يصيبه حرُّ الشمس، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} أي لا يُؤذيك حرُّ الشمس. "اللسان": (ضحا). (¬2) في الأصل: "منعناه"، والمثبت أنسب للسياق. (¬3) هو أبوالحسن عبد العزيز بن أحمد الخَرزي -نسبة إلى بيع الخرز- إمام أهل الظاهر في عصره، قدم من شيراز في صحبة الملك عضد الدولة. قال أبو عبد الله الصيمري فيه: ما رأيتُ فقيهاً أَنْظَر منه ومن أبي حامد الإسفراييني. "الأنساب للسمعاني" 5/ 87 - 88، و "شذرات الذهب" 3/ 137.

- فصل يجمع أدلتنا على ما ذهبنا إليه

وحُكي عن ابنِ بيان القصار الداودي أنه قال: ليس هذا مذهبَ داود، بل يَجوز الاحتجاجُ به (¬1). فصل يجمع أدلتنا على ما ذهبنا إليه (¬2) فمنها: أنَ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضوانه عليهم، أعرفُ بألفاظِه ومعاني أقواله، فإذا قالوا: أمرَنا. وهم عارفون بالأمرِ، ونَهانا. وهم عارفون بالنَهي، صارَ ذلك كقولهم: قالَ رسولُ الله: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا. فاشتراطُنا في حقهم نقلَ ألفاظِه إلينا تَعاطٍ (¬3) عليهم؛ لأنَ خبر هذا القول منا: اذكروا لنا لفْظَه، عساه لا يكون أمراً ولا نهياً، وقد وقع لكم أنه أمر ونهيٌ. ولا أسمجَ من ذلك ولا أقبحَ. والذي يوضّحُ هذا الدليلَ: أنهم لما رَووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رجمَ ماعزاً لما زنَى (¬4)، وقَطَع [يَدَ] سارق رِداءِ صَفوان (¬5)، وسَها فَسجد (¬6)، كان ذلك منهم كقوله: رجمتُ ¬

_ (¬1) ما قرره ابن حزم في كتابه "الإحكام": أنه إذا قال الصحاب: امرنا بكذا، فليسَ هذا إسناداَ، ولا يقطع على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينسبُ إلى أحد قول لم يروَ أنه قاله، ولم يقم برهان على أنه قاله. انظر "الإحكام في أصول الأحكام" 2/ 72. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "إليها". (¬3) التعاطي: الجراءة على الشيء، وتناول ما لا يحق ولا يجوز تناوله. "اللسان": (عطا). (¬4) حديث رجم ماعز تقدم تخريجه في الصفحة (108) (¬5) حديث قطع يد سارق رداء صفوان بن أمية، أخرجه الدارمي 2/ 172، والنسائي 8/ 69، والطبراني (7366) و (15978) و (11703)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء صفوان بن أمية إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجلِ سرق رداءه من تحت رأسه وهو نائم، فلم ينكر ذلك الرجل، فامر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقطع، فقال صفوان: في هذا يقطع؟! قال: "فهلاّ قلتَ هذا قبل أن تاتيني؟! " وأخرجه ابن ماجه (2595)، والطبراني (7338) (7341) من حديث صفوان بن أمية مع اختلاف في اللفظ. (¬6) حديث سَهْو رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة وسجوده فيها، أخرجه أحمد 4/ 427، مسلم =

ماعزاً لما زَنى، وقطعتُ يدَ سارقِ رداءِ صفوان، وسجدتُ حين سَهَوت. ومما يوضِّحُ الدليلَ أيضاً: أنَ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قَبِلَ بعضُهم من بعضٍ مثلَ هذا قبولهم لألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسموعةِ منه. ومن ذلك: أنَ رافعَ بن خَديج روى لابنِ عُمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن المُخابَرةِ (¬1)، فَعمِل بخبره وترك المخابرةَ هو وجميع من كان يعملُ بها بعد أربعين عاماً تعاملوا بها فيها. ومن ذلكَ أيضاً: ما رواه أبو الدَرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن بَيع كان باعه معاويةُ (¬2)، فتركَه. ولم يطلب ابن عُمَر ولا معاويةُ من رافعٍ ولا ابى الدرداءِ لفظَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثقةً بمعرفتهما بأمرِ رسولِ الله ونهيه، فنحنُ أحقُ بقبولِ ذلكَ وتركِ تعاطينا على أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = (574)، وأبوداود (1018)، والنسائي 3/ 26، وابن ماجه (1215)، وابن خزيمة (1054)، والبيهقي 2/ 359، وابن حبان (6654) عن عمران بن حُصين: أنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلم في ثلاثِ ركعات من العَصرِ فقال له الخِرباقُ: يا رسولَ الله، أنسيتَ أم قَصُرت الصلاةُ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "أصدق الخِرباقُ؟ " فقالوا: نعم، فقامَ فَصلى ركعة، ثم سجدَ سجدتين، ثم سلم. وأخرجه أحمد 1/ 379، وابن أبي شَيبة 2/ 25،- والبخاريُّ (401)، ومسلم (572)، وأبوداود (1020)، والبيهقي 2/ 335، والدارقطني 1/ 375، وابن حبان (2662)، عن عبد الله بن مسعود قالْ صلى رسول الله صلاةً، فلما سلم، قيل له: يا رسول الله، أحدَث في الصلاة شيء؟ قال: "لا وما ذاك؟ " قالوا: صليتَ كذا وكذا، قال: فثنى رجله واستقبل القبلةَ، وسجد سجدتين ثم سلم. (¬1) أخرج أحمد 3/ 465، ومسلم (1547)، والنسائي 7/ 48، وابن ماجه (2450)، والطبراني (4248) و (4249) و (4250) و (4251) و (4252) و (4253)، أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نُخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركناه لقوله. والمخابرة: المزارعة. (¬2) أخرج النسائي 7/ 279 في البيوع عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقايةً من ذهب أو وَرِقٍ بأكثر من وزنها، فقال أبوالدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مِثلاً بمثلٍ.

- فصل في توجيه أسئلتهم على أدلتنا

ومنها: أنَّ الراوي يجبُ تصديقُه فيما يرويه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم نعمل بقوله: أمَرنا بكذا، ونهانا عن كذا. كُنّا تاركين لتصديقه فيما رواه، وذلك غيرُ سائغ بالإجماعِ. ومنها: أنَّ المعنى الذي اشترطَ له المخالفُ نقل ألفاظِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو ليتحققَ أنه أمر حقيقة ونهي حقيقة. وكما أنَّ معاني الألفاظ قد تختلف باختلاف الصيغ، كذلك تختلف باختلاف دلائلِ الاحوالِ والأسبابِ التي وردت عليها، وكان يجب أن نعتبر نقلَ الأحوالِ والأسباب، لا سيما وبعضُ الناسِ يعتقدُ قَصر الجواب على السببِ والحالِ الذي خرجَ الكلامُ عليه ولأجله، فلمَّا لم نعتبر ذلك لم نعتبر نقلها، واكتفينا بقوله: أمَرَنا ونهانا. فصل في توجيه أسئلتهم على أدلّتنا فمنها: أنَ ألفاظَه صلى الله عليه وسلم قد تخرجُ مَخْرج النَدْب، وبعضُهم يعتقدُه أمراً، وبعضُهم لا يعتقده أمراً، وتخرجُ مخرجَ التنزيه، فينقُله الناقلُ نَهياً على الإطلاقِ. ومن الناسِ من يعتقدُ أنَّ الإباحةَ والإطلاقَ أمرٌ، ومن الناسِ من يعتقدُ أنَّ الأمرَ بعد الحَظْر أمرٌ، وبعضهم يعتقده إطلاقاً وإباحة، فلا يكون طلبُ الألفاظِ منا تعاطياً عليهم، لكنْ استعلاماً منهم لنبين الأمرَ على ما نعتقده نحن بالدليل، دونَ تقليدهم. ومنها: أنه قد يأمرُ الشخصَ بالأمرِ لمعنى يخصّه، وينهاه لمعنيّ يخصه، فلا يكونُ نهياً عاماً ولا أمراً عاماً. فيقالُ: إنَّ هذه المذاهبَ حادثة، ولم يكن هذا الاختلافُ في زمن الصحابةِ، فيُحتاج أن ينقلَ أنها كانت في وقتهم ليصحَّ السؤال. على أنَّ إطلاقَ الأمر لا يُحملُ إلا على الإيجابِ، ولو كان الاختلافُ موجوداً في

* فصل: إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو من السنة كذا، أو نهينا عن كذا، فهو راجع إلى النبي وأمره ونهيه وسنته

وقتهم وعصرهم لوجَب (¬1) أن يُنْبىء على أي وجهٍ أمرهم؛ لما نعلمه من اختلافِ مذاهبِ الناسِ في الصيغة. فصل إذا قال الصحابي: أُمرنا بكذا، أو: من السنَةِ كذا، أو: نُهينا عن كذا. فهو راجع إلى النَبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرِه ونَهَيه وسُنّتِه (¬2). وإن قال التابعي ذلك، فهو كا لمرسل، فهو حجّة في إحدى الروايتين عن أحمدَ رضي اللهُ عنه. واختلفَ أصحابُ أبي حنيفة في ذلك: فحكى أبو سُفيان عن أبي بكر الرازي أنه لا يرجعُ ذلك إلى أمْرِ النَبي ونَهيه، ولا سُنته؛ فلا يحتجُ به، وحكى غيره من أصحابهِ أنه يرجعُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قولنا. واختلف أصحابُ الشافعي، وذهبَ أكثرُهم إلى مثل ما حكيناه عن صاحبنا، وأنه يُضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب أبو بكر الصيرفي (¬3) إلى أنه لا يُضاف إلى سُنّة النبي وأمره ونَهيه (¬4). فصل يجمع أدلّتنا على أنَّه حجّة فمنها: أنَ الأمرَ والنهيَ والسنةَ، الأصل الذي صدرت عنه إنما هو السفيرُ عن الله تعالى، ومن دونه إنما هو مُبَلغٌ ومُخبرٌ، فإذا أطلقتْ هذه الألفاظُ وجبَ أن ¬

_ (¬1) في الأصل "الوجوب"، والمثبت أنسب لسياق العبارة. (¬2) انظر "العدة" 3/ 991، و"المسودة": 294. (¬3) تقدمت ترجمته في الجزء الأول، الصفحة: 186. (¬4) انظر "المسودة": 294.

- فصل يجمع أدلتنا على أنه حجة

ترجعَ إليه، وإنما سُنةُ غيره وأمرُ غيره يُعلم بالتقييد والدلالةِ والقَرينةِ، يوضّحُ هذا: ما رُويَ عن أنسٍ أنه قال: إنَ بلالاً أُمر أن يَشْفَعَ الأذان ويُوتر الإقامَة (¬1). ولم يقُل أحد (¬2) ولا سأل: مَن الآمر له؟ لحملهم ذلك (¬3) على الأمر المعهود المعقول، وهو أمر الشارع دون غيره. وصار ذلك بمثابةِ ما لو قال بعضُ خَدمِ السلطانِ: أمرَ وتَقدَمَ، أو أمَرنا وتقدَم إلينا، أو نَهانا. فإنه لا ينصرفُ ذلك إلا إلى أمر السلطانِ ونَهيهِ وتقدُمه، دون أتباعِه وحواشِيه وخدمِه، كذلك النَبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابِه يجبُ أن ينصرف الأمرُ إليه دونَهم. ومنها: أنه لا خلافَ أنه لو قال قائلٌ: أُرخص، أو رُخّص في كذا، لرجعَ ذلك إلى ترخيصِ النَبي صلى الله عليه وسلم، كذلكَ إذا قيل: أُمِرنا، وُنهينا؛ لأن الترخيص والأمرَ والنَهي جميعَ ذلك تشريعٌ. فصل في إفراد شُبههم فمنها: أنَ الأصلَ براءةُ الذمة، فلا تُشغَل بلفظٍ يترددُ بين أمرٍ يوجِب شَغلَها، وبين أمرٍ لا يوجب شَغلَها. ومنها: أنَ السنةَ، والأمرَ، والنَهيَ قد ينصرفُ إلى غير سنَةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "عَليكمْ بسنَتي وسُنّةِ الخلفاءِ الراشدينَ من بعدي" (¬4)، وقال: "مَن سَنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 3/ 103، والبخاري (605)، ومسلم (378)، والنَسائي 2/ 3، وأبوداود (508)، وابن حبان (1675)، والبيهقي في "السنن" 1/ 413، والدارمي 1/ 271، وابن خزيمة (375). (¬2) في الأصل: "لأحد"، والمثبت من "العدة" 3/ 995. (¬3) في الأصل: "على ذلك"، ولا داعي لها. (¬4) تقدم تخريجه في الجز الأول، صفحة: 280.

- فصل في إفراد شبههم

سُنّةً حَسَنة كان له أجرُها وأجرُ من يَعملُ بها إلى يومِ القِيامة" (¬1). وقد رُوي عن عليًّ كَرَّم اللهُ وجهه أنه قال: جَلَدَ رَسولُ الله في الخمرِ أربعينَ، وجَلَدَ أبو بكرِ أربعين، وجلدَ عُمرُ ثمانين، وكُلٌّ سُنَّة (¬2). فسوّى بين فعلِ النبي وفعْلِهم في تسميته سُنّةَ، فإذا ثبت هذا لم نَعلم إلى ماذا أشارَ الصحابيُّ إلى سنةِ رسول الله أو سُنّةِ الخلفاءِ بَعده؟ فلا وَجه لجعْل ذلك حجّةً مع هذا الترددِ والاشتراكِ. ومنها: أنَ الصحابي قد يَجتهدُ يستنبطُ الحادثةَ، فيؤديه اجتهادهُ إلى حكم، ويُضيفُ ذلكَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تقيسُ (¬3) على ما سمعَ منه، ويستنبطه مما (¬4) أخذ عنه، وإذا احتُمل هذا؛ لم يَجُز أن يُجعل سنة مُسْنَدةً، كما لو قال: هذا حُكمُ الله تعالى. لم يَجُز أن يُضافَ إلى القرآن. فصل في أجوبتنا عن شُبههم إنَ الأصلَ براءةُ الذمةِ يتغير بالشَغلِ بالظاهر ولا نَحتاج فيه إلى أكثر من الظاهر الموجبِ لِغلبةِ الظنّ، كخبرِ الواحدِ؛ غايةُ ما يقتضي الظن وينتقلُ به عن الأصلِ، وهو البراءة إلى الشَغْلِ، والظاهرُ ها هُنا أنَ السنّة إذا اطلقت انصرفت إلى سُنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمرُ والنهيُ ينصرف إلى أمرِه ونَهْيه من الوجه الذي ذكرنا. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 4/ 357، 358 - 359، ومسلم (1017)، والترمذي (2675)، وابن ماجه (253)، والنسائي 5/ 75 - 77، والطبراني (2375)، والبيهقي 4/ 176. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (13545)، وأحمد (624) ومسلم (1707)، وأبود اود (4481)، وابن ماجه (2571)، والنسائي في "الكبرى" (5269) (5270). (¬3) في الأصل: "لا يقيس"، والمثبت هو الصواب. (¬4) حرفها الناسخ في الأصل إلى: "ما".

- فصل في أجوبتنا عن شبههم

وأمّا قولهم: إنَ السنةَ لفظٌ يشترك. غير صحيح؛ لأنها في الأصل اسم لما وُضع ليُحتَذى ويُتبع، والاتباعُ في الأصل إنما هو للشارعِ دون أصحابه وأتباعه. وأما ما ورد به الحديث: "عليكم بسُنَتي وسُنةِ الخلفاء"، فتلك سُنة مقيّدة، وكلامُنا في السُنّةِ المطلقةِ، وحكمُ المطلقِ الذي نحنُ فيه يخالفُ حُكم المقيّد، بدليلِ سائرِ الألفاظِ من الأوامر والنواهي. وأمّا قول علي عليه السلام: وكُل سُنّة. أرادَ به سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيادةَ على الأربعين تعزير (¬1)، لأمرِ لمحه عمر أوجبَ التعزير وعلي قال: إنه إذا سَكِرَ هَذى، وإذا هَذَى افترى، فحُدوه حَدَ المفتري (¬2). وحد المفتري سُنّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا قولهم: إنما أضافه إلى رسولِ اللهِ لأنه مستنبطٌ من لفظِه، فالظاهرُ أنَ السنة ما تُلقِّفَ من لفظِ رسول الله دونَ ما استُنبط، ولهذا قال لمعاذ: "بِمَ تَحكُم"؟ قال: بكتابِ الله، قال: "فإنْ لَم تَجِد"؟ قال: بسُنةِ رسولِ الله، قال: "فإنْ لَم تجِدْ"؟ قال: أجتهدُ رأيي (¬3). والنَّبي أقرَّه على أنّه إذا لم يَجدْ في سُنتِه اجتهدَ، ولو كان استنباطُه (¬4) سنةً، لما كانَ قولُه: "فإن لم تجد" يكون جوابه ما هو سُنّة، لم يبقَ إلا أنَ السنّة ما كان ملفوظاً به من الأحكامِ، والمستنبطُ له اسم يخصُّه. فصل ويصح أن يقارِنَ الأمرُ الفعلَ حالَ وجودِه ووقوعه من المكلَّف، وليس من شرطِ صحة الأمر تقدُّمه على الفعل، وإذا تقدّم على الفعل، كان أمراً عندنا على الحقيقة ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعزيراً"، والمثبت هو الصواب. (¬2) رواه الدارقطني 3/ 166، والحاكم 4/ 375، والبيهقي 8/ 320. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة: (5) من الجزء الثاني. (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "إسقاطه".

* يصح أن يقارن الأمر الفعل حال وجوده، وليس من شرط صحته تقدمه على الفعل

أيضاً، وإن كان في طَيِّه إيذانٌ وإعلامٌ على ما بَينّا في أمر المعدوم (¬1). وبهذا قال كافّةُ سَلفِ هذه الأمّة وعامةُ الفقهاءِ. وذهبت المعتزلةُ بأسرها إلى إحالة مُقارنةِ الأمرِ وجودَ الفعلِ، وأنّه لا بُدّ من تقدُّمِه، ثم اختلفوا فيما يتقدم به هل بوقتٍ أو بأوقاتٍ كثيرة، على مذهبين: فبعضهم جوز تقدُمَه بأوقاتٍ كثيرةٍ، وهم الأكثرون، وبعضهم جَوزَ تقدُمَه بوقتٍ واحدٍ فقط، وبعضهم علق تقديمَه بأوقاتٍ على المصلحةِ، وعلق بعضهم جواز تقديمه بأوقاتٍ أن يكونَ في تلك الأوقاتِ كلها تتكامل شُروط التكليفِ، من العملِ والصحّةِ والسلامةِ (¬2). فصل في جمع أدلتنا على ذلك فمنها: أنه مقدورٌ عندنا في تلك الحالِ؛ لأنَ الاستطاعة مع الفعل، وكما يصحُّ تناولُ القدرةِ له، فكذلكَ يصحُّ تناولُ الأمرِ له، حتى إنَ بعضَ من قال بقولنا زعمَ أنَ الأمرَ لا يكون حقيقةً إلا إذا قارنَ وجودَ الفعلِ، ومتى تقدم على وجودِه كانَ إيذاناً وإعلاماً، وعندنا يكون بالتقدمِ، إيذاناً وأمراً حقيقةً، فصار المقارنُ أمراً لا شائبةَ فيه، وإذا أردنا كشفَ ذلكَ أخرجناه إلى النطقِ، ومعلوم أنَ الشارعَ في الفعلِ مع شروع الآمرِ في الأمرِ إذا تقدمه الإعلامُ بأنه سيأمره، صحَ ذلك، فليس في وقوعِ الفعلِ المأمورِ به مع الأمر إحالةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة (177) من هذا الجزء. (¬2) انظر "المسودة": 55. (¬3) انظر "المسودة": 56.

- فصل في شبه المعتزلة

فصل في شُبَه المعتزلة فمنها: أن الفعل غير مقدور في حال وجوده، ومُحال أمر العبد بما ليس في مقدوره. وهذا أصل نخالفُهم فيه، وقد استوفاه أصحابُنا ومن وافَقهم في أصلِ الدياناتِ، وأنَ الاستطاعةَ مع الفعلِ، وصحة تكليف ما لا يُطاقُ لعدمِ الاستطاعةِ، ونفي صحته مع الإحالة. ومنها: انه لو كان مَقدوراً حالَ حدوثه، لكانَ مقدوراً حالَ بقائه، لكونه موجوداً في الحالين؛ أعني حالَ وجودِه وبقائِه. ومنها: أن مقارنَة الأمرِ للفعلِ في حالِ وقوعهِ تُحيلُ معناه وتُبطلُه؛ لأن فائدته (¬1) كونُه دلالةً على المأمورِ به، وتمييزه له ليقصِدَ بفعلِه التقربَ، وأن يكون حثاً وترغيباً في الفعل، ومحالٌ ترغيبُ المأمورِ وحثُّه على واقعٍ موجود، وإنما يُرغَبُ فيه قبل إيقاعه ليوقِعَهُ على وجه ما أُمِرَ به، وكذلك مُحالٌ أن يُستدلّ بالأمر على واقعٍ موجودٍ، وإنما يكون دلالةً على أمرٍ يُميزه من غيره من مقدوراتِه ليقصدَ به دون غيرِه، وذلكَ غير مُتأتٍ في الواقعِ الموجودِ. ومنها أن قالوا: أيُّ فائدةٍ في تعلُّقِ الأمرِ به حالَ وقوعِه؟ وزعموا أنه لا فائدةَ فيه، والأمرُ إذا خلا من فائدةٍ كان لَغواً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فائدة"، والمثبت أنسب للسياق.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

فصل في الأجوبة عن شُبَههم أما الأولُ؛ فلا نُسلمُه؛ لأنَ حالَ وجوده عندنا حالى مقدورة وأما إلزامنا حال بقائه على حالِ حدوثه؛ فباطلٌ؛ لأنَّه حال حدوثه مفعول ومتعلق بفاعلٍ، وحالَ بقائه غيرُ مفعولٍ ولا متعلِّق بفاعلٍ، وكما يصحُ عندنا وعندَهم تعلقُ الإرادةِ بالفاعل في حالِ حدوثه وإن كانَ موجوداً فيها، ولم يصح تعلقُها به حالَ بقائِه، فبطلَ أن يكونَ حالُ الحدوثِ كحالِ البقاء. وأمَّا دعواهم أن مقارنَته تُحيلُ معناه من حيثُ إنه دلالةٌ، وبكونه موجوداً استغنى عن دلالةٍ. فيقالُ لهم: إنَ الأمر أمران، وللأمرِ الواحدِ حالتان، يكونُ في إحداهما دلالةً على الفعلِ، وترغيباً فيه، وحثاً عليه، وهي حالةُ تَقدُّمِه على المأمورِ به، وحالةٌ يخرجُ عن ذلك، وهي حالةُ مُقارَنتهِ (¬1) للمأمور به. وأما إذا كان أمرين، فالمتقدِّمُ منهما دلالةٌ وترغيب، والمقارِنُ للفعلِ خارجٌ عن ذلك، وقد يخرجُ الشيءُ عن كونه دليلاً لتغير حالِ المدلولِ، كما أنَّ الخبرَ بما سيكون خَبرٌ (¬2) بمستقبل حالِه، وإذا كان؛ خرجَ عن كونه دليلاً على أنه سيكون. وأما طلبُهم الفائدةَ في مقارنَته حالَ (¬3) وقوعِه. فيقالُ: فائدتُه أنها حال يكون فيها مفعولاً ومقدوراً، ويصح فعله، ويصح تركُه على البدلِ من وقوعهِ، وليصيرَ لمصادفته له حَسَناً طاعة حال وقوعِه وقُربةً؛ لأنه لو ¬

_ (¬1) حرفها الناسخ في الأصل إلى: "مقارنة". (¬2) في الأصل: "خبراً"، والمثبت هو الصواب. (¬3) في الأصل: "وحال"، والصواب حذف الواو.

وقع في حالة غير مصادفٍ للأمر لصارَ بمثابةِ وقوعِه مع النسخِ للأمرِ به في خروجهِ عن كونه حَسَناً طاعةً؛ ولأنه إذا كان الأمرُ هو المُؤثِّر في كونه قُربةً حَسَناً، وجبت مفارقته له، كما يجبُ ذلك في الإرادة المؤثِّرة في كونه كذلك؛ لأنَّ ما وُجِدَ قبل الشيء لا يؤثرُ في حكمٍ له في حالِ وجوده، فصحّ ما ذكرناه، واللهُ أعلم.

* فصول المناهي

فصول المناهي فصل النهيُ: صيغة، ولا تَقل: للنهي صيغةٌ، كما ذكَر شيخنا (1) وغيرُه ممّن قالَ: للأمرِ صيغةٌ، وقد استوفيتُ ذلكَ في بابِ الأوامرِ، لأنَّ المعتزلةَ والأشاعرةَ قالوا ذلك. لأنَّ المعتزلةَ تقول: الأمرُ والنهيُّ: الإرادةُ والكراهةُ، فالصيغةُ لهما لا هما. والأشاعرةُ تقول: الأمرُ والنهيُ معنى واحدٌ قائم في النفس، والصيغةُ لذلك المعنى، وحكايةٌ له ودلالةٌ عليه. فأمَّا أصحابُنا، فإنني تأملتُ المذهبَ، فإذا به يحكمُ بأنَّ الصيغتين أمرٌ ونَهي، فهذا تحقيقٌ يجبُ أن نعلَمه قبل الشروعِ في المسألة. والصيغةُ: قولُ الأعلى لمن دونه: لا تَفعلْ. وقالَ شيخُنا (¬1) رضي اللهُ عنه: والصيغةُ دالّةٌ بنفسها عليه. يَعني على النهي، وهذا أيضاً اتّباعٌ لقولِ المتكلمين، وإلا فليس لنا نهيٌ عن الصيغة تدل الصيغةُ عليه، بل المنهي قول وصيغةٌ، والشيءُ لايدلُّ على نَفسه. وقالت المعتزلة: ليست الصيغةُ نَهياً، ولا لأجل الصيغة، وإنما يكونُ نهياً بكراهةِ الناهي، كما قالوا: يكون أمراً بإرادةِ الآمر. وقالت الأشاعرةُ: لا صيغة للنهي بل هو معنىً في النفس (¬2). ¬

_ (¬1) في "العدة" 2/ 425. (¬2) هذا ما نُقِلَ عن أي الحسنِ الأشعري، وليس هو مذهب الأشاعرة، بدليل ما صرح به الجويني صاحب "البرهان" بقوله: "والمختار الحقُّ أنَ الصيغَة المطلقة تتضمن جزم الاقتضاء فى الانكفاف عن المنهيِّ عنه" انظر: "البرهان" 1/ 238.

- فصل: في جمع دلائلنا على ذلك

فصل في جمعِ دلائلِنا على ذلك فمنها: أنَ البناءَ على أصلِنا، وأنَ الكلامَ هو الحروفُ والأصواتُ الموضوعةُ للتفاهم لما يَسْنَحُ من الأعراضِ والدَواعي الحاصلةِ في النفس، ولهذا قسَّمه أربابُ اللسانِ أقساماً؛ فقالوا: هو أمر ونهيٌ، فالأمرُ: افعلْ، والنهيُ: لا تفعلْ، وهو من الأسماءِ المتعدية، قالوا: كلّمتُ فلاناً، وكلّمني زيدٌ، وناديتُ عمْراً، وأمرتُ خالداً، ووعدتُ بَكراً، وتواعدتُ خالداً. وما في النفس لا يتعدّى، وكذلك الكراهةُ في النفسِ، وهي متعلقةٌ بالفعلِ المكروهِ تعلقَ البعض للمبعوضِ، والنهيُ يتعلق على المنهي تعلُّقَ استدعاءِ التركِ منه للمعنى المكروه أو المنهيِ عنه. ورأيُنا: أنَ الآفةَ المانعةَ من الكلامِ المفسدةَ له هي الخَرَسُ، وما تعلقت إلا بفسادِ آلات النطقِ، كما لا يُسمّى العمى إلا لفسادِ أداةِ (1) النظر، والطرَش لفسادِ أداةِ (¬1) السمعِ، فلما قيل في الذي فَسدت أدواتُ نطقه: أخْرَس. دلنا ذلك على أنَّ المتكلمَ هو من صحَت منه الصيغةَ المخصوصةُ، فالكلامُ إذاً هو: الحروفُ والأصواتُ، والنهيُ شيءٌ منه، فكان هو الصيغةَ المخصوصةَ دون المعنى في النَفس والإرادة. ومنها: أنّا رأينا أهلَ اللغةِ يُسمون الناطقَ بهذه الصيغِ: متكلماً، والكاف لأدواتِ النطق ساكتاً، فالسكوتُ والخرسُ المضادان للكلام، قاما بمُخْتَل (¬2) الحروف والأصواتِ، فدل ذلك على أنه هو الكلام. ومنها: أنهم استحسنوا تأديبَ العبدِ المخالفِ قولَ سيّده له: لا تفعل. وسمّوه بذلك: عاصياً ومخالفاً، فمدعي أنَ ذلك كان لمعنىً وراءَ الصيغةِ، يحتاج إلى دليلِ، والموضوعُ للكف والزجرِ عن الفعلِ هو هذه الصيغة من الأعلى للأدنى: لا تَفعل. ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "ذات". (¬2) في الأصل "بمجمل"، ولعل المثبت هو الصواب.

- فصل فيما تعلقوا به من الشبه

فإحالةُ النهي على غيرها تَوهُّم، وصرفُ استحسانِ تأديبِ العبْد إلى ما وراءها دعوى لا برهانَ عليها. فصل فيما تعلقوا به من الشُبَه فمنها: قولُ المعتزلة: لا فرقَ بين قولِ القائل: لا تَفعلْ كذا. وبين قوله: أكره منكَ أو لكَ أن تفعل كذا. ومنها: قولُ الأشاعرةِ والمعتزلةِ: إن هذه الصيغةَ مشتركةٌ؛ لأنها قد تردُ للنزاهةِ، والحظرِ، والكف، وللتهديد، وللتخفيف، وإسقاطِ التكليفِ، فلا تُحمل على بعض موضوعاتها إلا بدلالةٍ، وصار كسائِر الألفاظِ المشتركة من اللون، والجَون (¬1)، والعَين (¬2)، والقُرْء (¬3). فصل في الأجوبةِ عمَّا تعلقوا به منها: أنَا لا نُسلّم أنها مشتركةٌ، بل هي موضوعةٌ في أصلِ وضعِها لاستدعاء التركِ والكفّ عن الفعلِ المنهيِّ عنه، وقولُ القائلِ: أكرهُ منكَ ذلكَ. خبر، جوابه: صدقتَ، أو كذبتَ، وجوابُ الأمر عصيتَ، أو أطعتَ، وليس بمشتركٍ بين ما ذكرت، وإنما يُصرفُ إلى غيره بدلالةِ حالٍ أو قرينةٍ كالبحر والشجاعِ، والأسدِ، والحمارِ أسماءٌ موضوعةٌ لحقائقَ مخصوصةٍ، ولا تُصرفُ إلى غيرها من الأشياءِ المستعارَةِ إلا بدلالةٍ، كالعَالِم والسَخِيَّ يُسمَّى بحراً بدلالةٍ، والرجلُ البليدُ لا يُسمى حماراً إلا ¬

_ (¬1) لفظ الجَون إذا أُطلِقَ تنازعته عدةُ معانِ، فهو يُطلقُ على الأسودِ المشرَب حُمرةَ، وعلى الأحمرِ الخالص، وعلى الأبيض. "اللسان": (جون). (¬2) يُطلقُ لفظ العَين على عدة معان على سبيل الحقيقة؛ منها: حاسة البَصر والرؤية، وينبوع الماء الذي يَنبع من الأرض ويجري، والجاسوس، والشريف في قومه. "اللسان": (عين). (¬3) لفظ القرء إذا أطلق تردد بين الطهرِ والحَيض. "اللسان": (قرأ).

* فصل: مطلق صيغة النهي يقتضي التحريم

بدلالةٍ، والرجلُ المقدِمُ على الحرب بثباتِ قلبٍ يُسمَّى أسداً، كذلكَ صرفُ هذه عن الكف إلى غيره بدلالةٍ. وفارقَ الأسماءَ المشتركةَ، فإنها لم توضع لواحدٍ منها، ولهذا لا يحسُن لومُ العبْدِ وتوبيخُه عند التوقف عن قولِ السيد: أصبغ ثوباً لوناً. إلى أن يُبيّنَ له أيِّ الألوان يصبُغه، ويحسُن لومُ العبد إذا لم يبادر إلى الكف عما نهاه عنه. ولأنَّ قولَه: أكره، يصلحُ أن يكونَ علةً للنهي، فيقول: لا تَفعل؛ لأني أكره ذلك. وعلّةُ النهي غَير النهي، ألا ترى أنه يحسُنُ أن يقول: فإني أسْتَضِرُّ بفعلك فلا تفعله، أو يتأذى به فُلان؛ فلأنَ هذه كُلها عللُ النهي لا عينُ النهي. فصل مطلق صيغة النهي يقتضي التحريم، وبه قال أصحابُ الشافعي (¬1). قالت الأشعريةُ: لا يقتضي التحريمَ، بل نقف حتى ترد دلالة تدل على ذلك. فصل في دلالة مذهبنا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استَطَعتُم، وإذا نَهيتكم فانتهوا" (¬2)، وروى ابن عمر قال: كُنّا نُخابِر أربعينَ عاماً لا نرى به بأساً -ورُوي: لا نرى بذلك بأساً- حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلكَ، فتركناها (¬3). والظاهرُ ¬

_ (¬1) وهو المقرَّر عند الأئمةِ الأربعة، فاذا أطلقت صيغةُ النهيِ فهي للتحريم، انظر "الرسالة" ص (217)، (343)، "البرهان": 1/ 283 "المسوَّدة" ص (80)، "التمهيد"1/ 362، "كشف الأسرار"1/ 256 "شرح تنقيح الفصول" ص 168. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 549 (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة (220) من هذا الجزء.

- فصل في ذكر شبهتهم

أنْ لا قرينةَ ولا دلالةَ؛ لأن الأصلَ النفيُ إلى أن يقومَ دليلُ الإثبات على قرينةٍ كانت أو دلالة. ومنها: أنَّ الوقوفَ توقّع، والصيغةَ اقتضاءٌ وطلبٌ بالكفّ، والأعلى إذا اقتضى الأدنى بالكفّ، اقتضى استدعاؤه طاعتَه لا محالة، واشتراط الرتبة عندهم لإيجابِ الطاعةِ، إذ لا معنى لاشتراطها (¬1) إلا ليكون استدعاءً مطاعاً. ومنها: ما أجمعَ عليه أهلُ اللغةِ: أن السيّد إذا نَهى عبدَه عن فعلٍ فارتكبه، حَسُن تأديبُه وعقوبتُه، ولولا وجوبُ التركِ وتحريمُ المخالفةِ للنهي ما حسنُت عقوبتُه، ألا ترى أن السَّؤالَ والرغبةَ لماّ لم يوجبا على المسؤولِ الإجابةَ، لم يحسُن ذمُّه على منعِ الإجابة. فصل في ذكر شُبهتهم قالوا: هذه الصيغةُ مُترددة محتملة الكراهةَ والتنزيهَ، وتحتملُ الحَظرَ والتحريمَ، فلا تُرجحُ إلى أحدِ محتمليها إلا بدلالةٍ، فوجب التوقفُ إلى حينِ قيامِ دلالةِ الترجيحِ، كالألوان المشتركة، مثل: لون، وجَون، وشَفَق (¬2)، فيقال: بل هي موضوعة للتركِ الجزمِ الواجبِ، ولهذا اعتبر لها في كونها نهياً أن تصدر عن المطاعِ، وليس ذلك بإجماعنا قرينة، لكنّه شريطةٌ، وإنما يحطّ عن رتبةِ التحريمِ إلى التنزيه بدلالة، فهي كألفاظِ الحقائق، كبَحر وشُجاع، وحمار لا يخرج عن الماءِ الكثيرِ الواقف، والحيَّة، والنَهاق إلى العالِمِ، والسَّخيَّ، والبليدِ، والمِقْدامِ إلا بدلالة، وفارق الأسماءَ المشتركة؛ لأنها ليست في أحد المعاني أظهر ولهذا لا يحسُن ضربُ العبد ولومُه على توقفِه ¬

_ (¬1) في الاصل: "لاشتراكها"، ولعل المثبت هو الصواب. (¬2) يطلق الشفق على الحُمرة التي ترى بعد مغيب الشمس، وعلى البياض الباقي في الأفق الغري "اللسان": (شفق).

* النهي يقتضي النهي والمبادرة إلى الترك لما نهي عنه عقيب وجود الصيغة

لاستعلامِه أيُ لونٍ وجَوِن وشَفق؟ ويحسُن تأديبه على التخلفِ عن التركِ، مع استدعائه من الأعلى للأدنى. فصل والنهيُ يقتضى النَهي والمبادرةَ إلى التركِ لِما نُهي عنه، والكف عنه عقيب، وجودِ الصيغة وعلمِ المنهي بها، كما ذكرنا في الأمر ويقتضي الاستدامةَ ما لم تقمْ دلالةٌ. قال أبو بكر الأشعري (¬1): لا يقتضي بمطلقهِ فوراً ولا تكراراً، كما قال في الأمر (¬2). فصل يجمع أدلّتنا وفيما قدّمنا من الدلائلِ في الأمرِ كفايةٌ، لكن نَخُصُّ النَّهيَ بما يليقُ به: فمنها: أن الكف المستدعى إذا تراخى عن صيغة النهي تراخياً يخرُج عن المبادرةِ بالتركِ، كان المتعقبُ للنهي استدامةَ الفعل المستدعى تركه، ومن قيل له: لا تفعلْ، فاستدام ما نُهي عنه مع إمكانِ الخروجِ منه، والكف عنه سُمَّي: عاصياً، كما أنه إذا بادر بالتركِ سُمّي: طائعاً. ومنها: أنَ الوقتَ الذي يلي النَّهي قد اتفق فيه اجتماعُ الطاعةِ والمصلحةِ، ومتابعةُ أمرِ الآمر، ولو أراد التأخيرَ للترك، لأخّر الاستدعاء، فلا وَجْه للتراخي مع تكاملِ شروط التكليف. ومنها: أنَ استدعاءَ التركِ يجب أن لا يُهْمَل، بل يجبُ أن يقابلَ باعتقاد وجوبِ ¬

_ (¬1) يعني الباقلاني، وتقدمت ترجمته في الصفحة (124) من الجز الأول. (¬2) وهذا الرأي هو ما رجَّحه الفخر الرازي في "المحصول" 2/ 282، وما ساقه ابن عقيل من الأدلة كافٍ في بيان مرجوحية هذا الرأي، وانظر تفصيل المسألة في "العدة" 2/ 428، و"التمهيد"1/ 363، و"البحر المحيط" 2/ 240.

- فصل في شبههم

التركِ والعزم عليه، فلا يقتضى تأخيرَ المقصودِ بالعزمِ والاعتقادِ، والذي يوضحُ هذا أنه يحسُن من المستدعي للتركِ أن يقتضي بالتعجيلِ، ويلومَ على التأخيرِ مع إزاحةِ العللِ، واجتماعِ شروطِ التكليف فيما كلفه من الكف، ويُعاقِبَ على التخلفِ عنه ما لم تَقم دلالةُ التخييرِ بين التقديمِ والتأخير. ومنها: أنَ الصيغة استدعاء للترك، وليس معها قرينة تدُلّ على التوسعةِ والفُسْحَة في التراخي، فهي بكونها استدعاء جازمة على المكلف بتركِ ما نهى عنه، ودوامه. ومنها: أنَ النهي، كمنعِ الحالف نفسَه باليمين، ولو حلفَ أن لا يفعلَ، لم يختلف العلماءُ أنّه متى لم يتعقب الكَف والامتناعُ يمينَه حَنِثَ وكان مخالفاً بفعله قولَه، واليمينُ على الترك منع لنفسه بالقَسم، فإذا كان منعُه لنفسه يُوجبُ الفورَ والتكرارَ، ومن خالف حَنِثَ، فأمرُ الله سبحانه له بالكفِّ أولى أن يقتضى البِدارَ والفور. ومنها: أنَّ النَهيَ مما لا يثبتُ في الذمّة ويكون نَسيئةً (¬1)، فلا وجه للتأخير؛ إذ لا يكون تاركاً مع عدم التزامِ التركِ وقطع استدامته، وإلا فلا يُسمى تاركاً ولا مُطيعاً، ولا يمتنعُ أن لا يكونَ المنعُ من الجميع، لكن يكونُ الأصلُ تركَ أحدهما، ومتى تركَ أحدَهما لم يكن فعلُ الآخر مفسدة، كالجمعِ بين الأختين، يقالُ له: إما أن تتزوج هذه أو هذه. والفسادُ بالجمع، وتَزوجُ إحداهما (¬2) وتركُ الأخرى ليس بمفسدةٍ. فصل في شُبههم قالوا: ليس لزمانِ الترك في الصيغة ذكر ولا للتكرارِ والدوامِ ذكر وإنما نتلقى الأحكامَ الشرعية من الصِّيغ، وإذا لم يكن في الصيغِ ذلك أوقفنا القولَ بوجوبِ الفورِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "نسبة"، والمقصود هو التأخير فلعل المثبت هو الصواب. (¬2) في الأصل: "أحدهما"، وهو خطأ.

* فصل: إذا نهى عن شيئين بلفظ التخيير فالظاهر أنه على التخيير

والدوامِ على دلالةٍ زائدةٍ على الصيغةِ. فيقالُ: قد بينا أنَ الاستدعاءَ للتركِ يقتضى الاستجابةَ دونَ الإهمال، كما استدعت الاعتقادَ والعزمَ، وكما أنه إذا ترك تَلَقيها بعزمٍ واعتقاد، كان مهمِلاً، كذلك إذا تلقّاها بدوامِ الفعلِ الذي أُمِرَ بالكف عنه، حَسُنَ (¬1) أن يُخْلَعَ عليه اسم عاصٍ، حَسَبَ ما يُسمّى بالبدارِ طائعاً، ويكون تاركاً للاستجابة مع إزاحةِ العلة من غير إذنٍ في التركِ، ولا توسعةٍ في اللفظ، وإطلاقُ الاستدعاءِ للعبدِ المُزاحِ العلّةِ تقتضي الجزمَ في الأمرِ، والمهلةُ لا تَجيءُ إلا بنوعِ توسعةٍ تقترنُ باللفظ، أو دلالةٍ تَتبعُ أو تشفعُ اللفظَ، ولهذا لم يُخيَّر الحالفُ على تركِ الشيء بين تَعجيلِ تركهِ أو تأخيرِه، ولا بين استدامتِه أو قطعِه وتركِه. فصل إذا نهى عن شيئينِ أو أشياءَ بلفظِ التخييرِ، مثل قوله: لا يكلِّمْ زيداً أو عمْراَ، ولا تأكلْ رُطباَ أو تَمراً، لا تعاشرْ فاسِقاً أو خليعاً. فَظاهرُ كلام صاحبنا رضي الله عنه أنه على التَخيير، وهو قولُ أصحابِ الشافعي. وفائدتُه عندنا: أنه يجب ترك أحدِهما لا بعينه، ويجوزُ فعلُ أحدِهما، ولا يجوزُ الجمعُ بين فعلهما. وقالت المعتزلةُ: يقتضى المنعَ منهما ومن كُل واحدٍ منهما إذا أمكن الجمعُ، (2 مثل اعتباره ذكرنا 2)، فأمَّا إن كانا ضدَّين، كحركةٍ وسكونٍ، وصومٍ وإفطارٍ، فلا، إذ لا اجتماعَ لهما، وفي إحالتهما ما يمنع دخولَ النهي عنهما على المكلف حسب قولهم في المخيرات في باب الأمر أن جميعَها مأمورٌ بها وواجبة، وهو اختيارُ أبي عبد الله الجُرجاني من أصحابِ أبي حنيفة، غير أنّهم أوجبوا هناكَ تركَ الجميع، ولم ¬

_ (¬1) في الأصل: "وحسن" وحذفت الواو لتستقيم العبارة. (2 - 2) كذا العبارة في الأصل.

- فصل في أدلتنا

يوجبوا هناك فعلَ الجميع (¬1). ولا يمتنع أن لا يكون المنعُ من الجميع، لكن يكون الأصلح ترك أحدهما، ومتى تُرِكَ أحدُهما لم يكن فعلُ الآخر مَفسدةً، كالجمع بين الأُختين، يقال له: إما أن تتزوجَ هذه أو هذه. والفسادُ بالجمعِ والتزويج لإحداهما وترك الأخرى ليس بمفسدة. فصل في أدلّتنا فمنها: أنَ حرفَ (أو) يدخلُ في الخبر فَيعطي الشك، مثل قول القائل: رأيتُ زيداً أو عَمْراً. ويدخل في الأمرِ فيعطي التخيير، مثل قوله: أكرِم خالداً أو بَكراً. والنهيُ والأمرُ في المعنى سواءٌ، من حيث إنَ كُل واحدٍ منهما طلبٌ واستدعاء، إلا أن الأمرَ طلبُ الفعلِ، والنهيَ طلبُ الترك، فالمستدعَى يختلف، فإذا لم يقتضِ الأمرُ بحرفِ التَخيير الجمعَ بين فعلِ الأمرين، كذلكَ النهيُ بلفظِ التخييرِ لا يقتضي الجمعَ بين ترك المخيرين جميعاً. ومنها: أنَّ قوله: لا تَصَّدَّق من مالي بدرهمٍ أو دينارٍ، ولا تركبْ من ظهري فَرساً أو حماراً. يحسُن تفسيرُه بالنهي عن التَّصدّق بهما وبكلِّ واحدٍ منهما، ويحسُن أن نفسرَه بالنهي عن التصدُّق بواحدٍ منهما لا بعينه، ويصحُّ بأن نقول: تصدق بأيهما شئتَ، واترك الصدقةَ بأيهما شئت، واركب أيَّهما شئت، واترك ركوبَ أيهما شئت. وإذا كانا محتَملين، فالأخذُ بالأقل والأدنى بيقين لا يرتقى إلى الأكثرِ والأعلى إلا بدلالةٍ. ¬

_ (¬1) انظر "المعتمد" 1/ 169.

- فصل في شبههم

فصل في شُبَههم فمنها: أن حَرْف (أو) إذا وردَ في النَّهي لم يقْتضِ التخيير بل الجمعَ، بدليل قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، وجبَ [عَدمُ] (¬1) طاعةِ الآثمِ والكفورِ معاً، ولم يكن معناه: لا تُطع آثماَ وَحده إن شئت، أو كفوراً وحده إن شئت. ومنها: أن قالوا: ما كان مَنهياً عنه مع غيره، كان منهياً عنه مع إفراده، كسائرِ المحظورات. ومنها: أنه لا ينهى عن شَيئين على سبيلِ التخيير إلا وهما في معلومهِ متساويان في القُبح، ولا يجوز بالحكيم أن يُخير بين قَبيحين، كما لا يجوزُ أن يُخير بين حَسَنٍ وقبيح، ويَتَخرَّج من هذه الطريقة أنهما إذا تساويا في القُبح، وكان واجب الترك لقبحه، ساواه الآخرُ في وجوبِ التركِ لقُبحه، وكذلك إذا كانَ تركُ أحدهما مصلحةً، وفعلُه مفسدة، وجب أن يكونَ الآخرُ مثله في كونِ تركه مصلحةَ وفعلهِ مفسدةَ، وفارقَ المخيرين في الأمر لأنَ غايةَ ما يوجبُ التخيير تَساويهما في الحُسْنِ، وليس يجب فعلُ كلَّ حَسَن، وكذلك وجبَ فعلُ أحدهما دونَ أن يجب فعلهُما. ومنها: أنَ الله سبحانه وضعَ الأوامر على ضربين؛ أحدُهما: إذا فعله البعض نابَ عن الكل، وهي فريضةُ الكفايات، ولم يَضع نهياَ عن شيءٍ يجعل بتركِ واحدٍ مع إصرارِ الباقين مُسْقِطاً (¬2) لمأثمِ الارتكابِ لذلك النهي في حق الباقين، وما ذاكَ إلا لأنَ التساوي لا القبحِ يوجب هجرانَ الكُل، والتساوي في الحُسْن لا يوجب فعلَ الكُلّ. ¬

_ (¬1) زيادة لا بد منها لاستقامة العبارة. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "مسلطاً".

- فصل يجمع الأجوبة لنا عن شبههم

ومنها أن قالوا: في المنعِ منهما احتياطٌ حتى لا يُواقَع المحظور والاشتباهُ أبداً يوجبُ الاحتياطَ بالفعل الزائد، والتركِ الزائد، لئلا يواقَع الحظر وذلك بمثابة اشتباهِ أُخته أو بنته بالأجانب، أو المسلوخةِ الميتة بالذكِيّة (¬1)، أو اشتبهت الصلاةُ المنسيَّةُ بغيرها، فإنَ ذلك يوجبُ تركَ الجميع، وفعلَ الجميع للاحتياطِ، كذلك ها هنا. ومنها قولهم: وجدنا أهلَ اللغة يريدون بذلك النَهيَ عنهما، فإذا قالوا: لا تُطع زيداً أو عمراً. فا لمراد به: لا تُطعهما. فصل يجمع الأجوبةَ لنا عن شُبههم فأما الآيةُ، فلا حجّةَ فيها؛ لأنَ الدلالةَ قامت على أنَ طاعةَ الآثمِ والكفورِ جميعاً محظوران محرَّمان، فإن طاعةَ الآثمِ إذا اطلقت إنما ظاهرُها في إثمه، والكفورِ في كفرِه، كقولِ القائل: لا تطع الظالم. والمرادُ به: في ظلمِه، إذ قد انعقد الإجماعُ على وجوبِ طاعةِ الآثم والكفورِ إذا أمر بالبرّ والإيمانِ لا الإثمِ والكُفْر فإن الفاسقَ يجوزُ أن يأمرَ بالمعروفِ وينهى عن المنكر وتجب طاعتُه. وكلامُنا في التخيير بين منهيين، لم تقم الدلالةُ على النهيِ عنهما جميعاً لعلةٍ توجب الجمعَ بينهما، فخرجت الآيةُ عما نحنُ فيه مختلفون. وأمَّا قولُهم: ما كان منهيّاً عنه مع غيرِه، ووجَب تركُه مع ذلك الغيرِ وجب تَركُه بانفراده. فباطل؛ لأنه يجوزُ أن يخُصَّ اللهُ سبحانه الحظر بالجمعِ دون التفرقةِ، ولهذا حرمَ الجمعَ بين الأختين، وبين المرأةِ وخالتها، ولا يحرمُ الإفرادُ لأحداهُما بالعقد، وكذلك الجمعُ بين الدفعة الرابعةِ وما قبلها في الوضوءِ إساءة وظُلم على ما جاء في الحديث (¬2)، ¬

_ (¬1) أي: الذبيحة المذكاة. (¬2) رواه أحمد 2/ 180، والنسائي 1/ 88، وابن ماجه (422)، والبيهقي 1/ 79، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عبد الله بن عمرو بن العاص) قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم =

ولو فرق ذلك بتجديد مستأنَف أتى به بعدَ الوضوءِ الأول كان رابعةَ في المعنى، لكن لما لم يَجمع جاز؛ ولأنه إذا جمع بينهما أبطل حُكمَ التخيير وإذا أفردَ أحدَهما بالفعلِ، والآخرَ بالترك، كان عاملاً بالتخيير. وأمَّا تعلُّقهم (1) بتساويهما في القُبح، وكُلُّ قبيحٍ يجبُ تركُه، وتعلقُهم (¬1) بالمصلحةِ والمفسدةِ فغيرُ صحيح؛ لأنه قد قدَّمنا أنه لا قبيحَ إلا ما قبحه الشرعُ، ولا حَسَنَ إلا ما حسنه الشرعُ، وإذا خَيَّر الباري بين تركِ أحدِهما أو الآخرِ على البدلِ علمنا أنه إنما خَيّره لعلمِه بأنه لا تتركُ إلا ما قبحَ عنده وفي معلومِه، ولا يفعلُ إلا الحسنَ عنده وفي معلومِه، كما قلنا في الأمر وأنّه لا يختارُ إلا فعلَ الأصلحِ عند الله والواجبِ، فبِتخييره علمنا أنه إنما خيّره لعلمه بأنه لا يختار إلا الواجبَ عنده والأصلحَ الذي لا فساد فيه، وهذا مساهلة في النظر وإلا فالأصل الذي نعتمده أن الأمرَ والنهيَ لا يختصّ الأصلحَ، وقد دلَّلنا على ذلك بما فيه كفايةٌ. وأما تعلقُهم في تركِ الجميع بالاحتياطِ، فباطلٌ بالتخيير بين شيئين في الأوامر فإنه لا يجبُ فعلُ المخيرين جميعاً احتياطِ، كذلك لا يجبُ تركُ المخيرين في النهي احتياطاً، ولأنَ الاحتياطَ إنما يقعُ في الأفعال، ولسنا نمنعُ التاركَ للمخيرين جميعاً، إنما نمنعُ من التمذهبِ بذلكَ والاعتقادِ له، والاعتقادُ في الاحتياطِ لا يصحُ؛ لأنَ اعتقادَنا ليس بمحظورِ بمنزلةِ اعتقادِ ما ليس بواجبٍ واجباً، وكاعتقاد ما هو محظورٌ مباحاً. وأمَّا قولُهم: قد يكون في الأمرِ ذلك بدليلِ فرضِ الكفاية، فلا مثله في النهي؟ ففرضُ الكفاية هو الحجّةُ؛ لأنه نهى أهلَ القريةِ كلهم عن إهمالِ أمر الميِّت في تجهيزه والصلاة عليه، فاذا خرجَ أحدُهم عن حكمِ النهي سقطَ المأثمُ عن الكُل، ثم ¬

_ = يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: "هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم". (¬1) في الأصل: "تعلقها"، والمثبت أنسب للمعنى.

* فصل: إطلاق النهي يقتضي فساد السنن في عنه

إنه لا يُمنعُ الإفصاحُ بمثل هذا، وهو أن يقولَ الطبيبُ: لا تأكلْ سَمكاً أو لبناً، معناه: اترك لي في حميتك أكلَ أحدِهما، ولا أكلّفكَ تركَهما معاً، بل يكفيك هجرانُ أحدهما، بَلى لا أُسوغ لك جمعَهما. وكذلكَ في بابِ الصغائر مع الكبائر؛ الكُل قبيحٌ ومكروه، وبهجرانِ الكبائرِ تُمحقُ الصغائرُ بالتكفيرِ، ولو فَعَلَ الجميعَ لم يَنْحَبِطْ واحدٌ منهما، وكان مأثمُهما حاصلاً. وفي باب الطبائعِ والطبِّ؛ يقولُ الطبيبُ: لا تأكل سَمَكاً ولبناً، فلا يُعطي ذلك تحريمَ كُلِّ واحدٍ على الانفراد، ويحرمه الطبيبُ مع الاجتماعِ لما يجدُ من المفسدة باجتماعهما. وأمَّا دعواهم أنَ أهل اللغة يُريدون الجميع من الأمرين، فدعوى لا برهانَ عليها، وإن اعتمدوا ذلكَ في موضعٍ، فبدلالةٍ تدلُّ من حالٍ أو قرينةٍ. فصل إطلاق النهي يقتضي فساد المنهي عنه وبهذا قال الجمهورُ من أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ وأبي حَنيفة، منهم الكَرخيُّ (¬1)، وعيسى بن أبان (¬2)، وجميعُ أهلِ الظاهر، وقوم من المتكلمين، كما أن الأمر به يدل على صحته وإجزائه، وذهب أبو بكر القفال (¬3) -من أصحاب الشافعي- إلى أنه لا يقتضي الفساد، وهو مذهبُ المعتزلةِ وأكثرِ المتكلمين من الأشاعرةِ (¬4) وغيرِهم، ثم ¬

_ (¬1) يعني أبا الحسن الكرخي، تقدمت ترجمته في الصفحة (87) من الجزء الثاني. (¬2) عيسى بن أبان بن صَدَقة، تقدمت ترجمته 2/ 295. (¬3) تقدمت ترجمته في الصفحة (44) من الجزء الثاني. (¬4) انظر "البرهان" 1/ 238، و"المستصفى" 2/ 24.

- فصل يجمع أدلتنا من جهة السنة على أنه يقتضي الفساد

اختلفوا في فساده من أي جهة، فقال بعضهم: من جهة اللغةِ واللسانِ. وقال بعضهم: من جهة الشرعِ دون موجَبِ اللغة. فصل يجمعُ أدلّتنا من جهةِ السنّة على أنه يقتضي الفساد فمنها: ما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ عَمِلَ عَملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَد"، وفي لفظٍ: "من أحدثَ في أمرِنا ما ليسَ منه فهو رد"، وروي: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردّ" (¬1)، والردُّ غير المقبول ولا الصحيح. ومنها: أنَ الصحابةَ رضي الله عنهم استدلوا على فسادِ العقود بالنهي عنها، فمن ذلك: ما روي أن ابن عمر احتجَ في فسادِ نكاح المشركات بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] واحتجاجُهم في فسادِ عقود الرَّبا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَبيعوا الذهبَ بالذهبِ، ولا الوَرِقَ بالوَرِق، ولا البُرَّ بالبُرَّ، ولا الشعيرَ بالشعيرِ، ولا التَمرَ بالتمرِ، ولا الملحَ بالملحِ، إلا سواءً بسواء، عيناً بعينٍ، يَداً بيدٍ" (¬2)، فتعلقوا في فساد العقودِ بظواهرِ الألفاظِ في النهي. فصل في أسئلتهم على هذه السنن فمنها: قولُهم: هذه أخبارُآحادٍ مظنونةٌ، لا يجوزُ أن تُثبَتَ بها الأصولُ المقطوعةُ، كما لا تُثْبَتُ بها أصولُ الدياناتِ. ومنها: أنَ ألفاظَها لا تعطي ما تريده، ولو لم تكن آحاداً، بل لو كانت تواتراً ما أفادت الإفسادَ؛ لأنه يُحتمل أن يكون أراد بقوله: "فهو "رَدٌّ": ليس بمقبولٍ؛ لأنَ الرّدَّ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة (162) من الجز الأول. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة (58) من الجز الثاني.

- فصل في الأجوبة عن أسئلتهم

ضدُّ القبول، ونحن نقول: إنَ العملَ على الوجْه المنهيَّ لا ثوابَ فيه، لكنه صحيح بمعنى أنه ليس بعاطلٍ ولا باطلٍ، بلى إن كانت عبادةً سقطَ بها الفرضُ، ولا ثوابَ، وإن كان عقداً صحَ من حيث المِلكُ ونقلُ العوضِ والمُعوّضِ إلى المتعاوضين، لكن عليه مأثم ارتكاب النهي، فهذا معنى الرد، فأما الإفساد، فلا وجه له، ولا يعطيه لفظُ الردّ. ومنها: أنه يُحتملُ: من عمل العملَ الذي ليس عليه أمرُ الشرع، فالفاعلُ لذلك رد، وهو أقربُ إلى حرف هو، وكأنه قال: فالعامل رد بمعنى مردود، والعربُ تُسمّي الفاعلَ بالفعل، وأنشدونا: تَرعى إذا غَفَلت حتى إذا ادَّكَرت ... فإنما هي إقْبالٌ وإدبارُ (¬1) يعني: فهي مُقبلةٌ مدبرة، ويريد به الغزالة التي اصطيدَ خِشْفُها، ترعى عند نيسانها إياه، فإذا ادّكرته صارت مُقبلةً لطلبه ومُدبرة تذكراً له. ومنها: أنَ قولَه: "من أدخل في ديينا ما ليس فيه -أو منه- فهو ردٌّ" لا يعود إلى أصلِ العمل، ولا أصلِ الدين، لكن إن أدخل في الصلاةِ التفاتاً، أو في الوضوء كدفعةٍ رابعة، أو في الحصى زيادةً على السبعين، فذلك الزائد رد، وكذا نقول، فأمَّا أصلُ الصلاة، وأصلُ الطهارة، ورمي الجمار فلا يعطي اللفظُ أن يكون رداً. ومنها: أنَ ذهابَ الصحابة إلى الإبطال بقرائنَ اقترنت بالفاظِ النهي لا بمجرّد النهىّ, وذلك محتمل، فنحمله عليه بدلائلنا التي نذكرها. فصل في الأجوبةِ عن أسئلتهم فأمَّا قولُهم: إنه من أخبارِ الآحاد المتلقّاةِ بالقبول، ومثلُ ذلك يصلح لإثبات أصول الديانات عندنا، فكيف بأصول يُسوَّغ فيها الاجتهاد؟ ¬

_ (¬1) البيت للخنساء، وقد تقدم في الصفحة (205) من الجزء الأول.

على أنَّ هذه الأصول-أعني أصول الفقه- ليست في رتبةٍ يطلب لها القَطْعياتُ من الأخبارِ والدلائلِ؛ لأنها مسائلُ اجتهادٍ، والذي يكشفُ عن انحطاطِ رتبةِ أصلِ الفقه عن رتبةِ أصولِ الديانات، أنَ المخالِفَ لنا فيها لا نكفِّره ولا يُكَفرنا، ولا نُفَسِّقُهُ ولا يُفَسِّقُنا، ولا نبَدِّعُه ولا يُبَدَّعنا، لكن نُخَطِّئه، وانحطاط رتبتهِ على هذا الوجه يحطُّه عن رتبةِ الدلالةِ [في] (¬1) الثبوت، كالبيِّناتِ؛ يُعتبرُ للعقوباتِ والدماء ما لا يُعتبر للأموالِ، فتَنْحَط بيّنةُ المال إلى شاهدٍ وامرأتين، وشاهدٍ ويمين، من ظاهر العدالة، ولا يُكتفى في الزِّنى إلا بأربعةٍ من الشهودِ الذكورِ المبحوثِ عن عدالةِ باطنهم. وأما قولُهم: الرَّدُ ضدُ القبول. فقد رضينا بهِ؛ لأنَّ الصحيح من العباداتِ لا يكونُ إلا مقبولاً، ولا يكونُ مردوداً إلا ويكونُ باطلاً، وإنما يلزمُ ذلك من يقول: إنَ الصلاة في الدار المغصوبةِ والسُّترةِ المغصوبةِ صحيحةٌ غيرُ مقبولة. وعندنا لا يُعتد بعبادةٍ يعتريها أو يعتري شرائِطها نَهيُ الشرع. على أنَّ الردَّ قد يقعُ على الإبطالِ، يقالُ في النظر رددتُ عليه كلامَه، وهذه بينة مَردودةٌ، وكتابُ الرد على أهل البدع، يَعني به (¬2) إبطالَ مذاهبهم. وأما قولُهم: الذي ليس من ديننا هو ما أُدخِلَ على العبادةِ من الأفعالِ المنهيّ عنها، كالالتفاتِ في الصلاةِ، والسُترةِ بالغصْبِ، وهما جميعاَ ليسا من ديننا- ليس بصحيح؛ لأنَّ الصلاة في الثوبِ المغصوبِ، والدارِ الغصبِ، ومع الالتفات ليس من ديننا، وبيعٌ بشرطٍ فاسدٍ ليس من ديننا، كما أن الشرطَ والاستتار بالغصب، والالتفاتَ في الصلاةِ ليس من ديننا. وأمَّا قولُهم في الحكم بإفساد العقودِ إنْ قرائنُ اقترنت. لا يَصح؛ لأنه لو كانت هناك قرائنُ عن الألفاظِ لما قَنعَ المحتج بإيرادِ الألفاظ مجردةً عنها؛ لأنَّ عادةَ المحتجِّ ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "يعتريه".

- فصل في جمع أدلتنا من طريق النظر بعد الأثر

أن يَستقصي في إقامة الدلالةِ، ويذكرَ كُل معنىً تقوم له به الحجةُ، ولكانوا ينقلونه للحفظِ على العصرِ الثاني والثالثِ؛ لئلا يُفضيَ إلى تضييعِ الشرعِ. فصل في جمعِ أدلّتنا من طريقِ النظرِ بعد الأثر فمنها: أنَ الأمرَ بالعبادةِ على طريقِ الإيجابِ شَغْلُ الذمّةِ بعبادةٍ لا على وجهٍ منهيًّ عنه، فإذا أتى بها على الوجهِ المنهيَّ عنه لم يَحصُل فراغُ ذمته منها؛ لأنه أتى بغيرها، فصار بمثابةِ من أُمر بالصلاةِ فأتى بالصوم، وكما أنَ الصلاةَ غيرُ الصوم فالعبادة (¬1) على الوجه المنهيَّ غيرُ العبادة على غير الوجهِ المنهيّ. ومنها: أنَ الحكمَ بصحةِ العبادة وإجزائها طريقهُ أمرُ الشرع، والإتيان بها على وجهِ النهي لم يَتناوله الأمر فلا يحكم له بالصحَةِ والإجزاء؛ لأنَّ الصحّة والإجزاءَ حكمان شرعيان، فلا يحصلان بفعلٍ واحدٍ إلا على وجهِ الأمرِ الشرعيّ. وربما عبرنا عنه بعبارةٍ أُخرى، وهو أنَّ المنهيَّ عنه لا يكون مفروضاً ولا مندوباً ولا مباحاً، فلا وجَه لوقوعه صحيحاً؛ لأنَّ الصحة لا تخلو من أحد هذه الأحكام الثلاثة. ومنها: أنَ الأمرَ يفيْدُ صحّةَ المأمورِ وجوازَه، فيجبُ أن يكونَ النهيُ يفيدُ حظرَ المنهيَّ وفسادَه؛ لأنَّ الحظرَ والفسادَ ضدُّ الصحةِ والجواز فإذا أوجبَ الأمرُ معنى، أوجب ضدُ الأمر -وهو النهيُ- ضد ذلك المعنى. فصل في أسئلتهم على أدلتنا فمنها: أن قالوا: إنَ دعواكم أن ما منع من دخولِ الإيجابِ والإجزاء والإباحةِ تحتَ الفعلِ المنهيَّ عنه مع الصحةِ دعوى لا برهانَ عليها، وما أنكرتم على من قال: ¬

_ (¬1) في الأصل: "العبادة"، والصواب ما أثبتناه.

- فصل في أصعوبة أسئلتهم

إن الصحّة حُكم مفرد عن هذه الأحكامِ، وقد شهدَ لانفراده صحةُ الصلاةِ في الدارِ المغصوبةِ، والسترةِ المغصوبةِ، والتوضىء بماءِ مغصوب، والاستنجاءِ بحجرِ مغصوب، والذَّبحِ بسكّينِ مغصوبة، وصحّةُ الطلاق ونفوذُه مع النهي عنه حالَ الحيض، والطُّهرِ المُجامَعِ فيه (¬1). هذا كُله تحصلُ الصحةُ فيه مع وجودِ النهي وعدمِ الإيجابِ والإباحةِ وقد ساوى المنهيَّ عنه المأمورَ به في الأصول، ولم يتحصّل نقيضُه في باب النهي. ومنها: أن قالوا: إنَ الصحةَ حكم شرعي، والإيجابَ والندبَ والإباحةَ أحكام شرعيةٌ، وليس من حيث تساوت في كونِ جميعها أحكاماَ للشرع يجب تساويها في انتفاءِ بعضِها بانتفاء بعضٍ، بدليلِ أنَ الصلاةَ مع السترة الغصْبِ وفي البقعةِ الغصبِ ليست المأمور بها من طريق الإيجابِ ولا الإباحةِ، ولم تَنتف الصحةُ لانتفاءِ الإيجاب لها على وجه النهي، وانتفاءِ الإباحة لها على تلك الصفة المنهيَّ عنها. فصل في أجوبة أسئلتهم فمنها: أنَّ دَعوانا صحيحةٌ؛ لأنَّ الله سُبحانه قال للمكلَف: صَلِّ الظهرَ مُستَتراً، متمكِّناَ على الأرض، ولا تجعل سُترتكَ مغصوبةَ، ولاتَستتر بالغَصبِ، ولا تُصلِّ في ¬

_ (¬1) لحديث نافع أن ابن عمر حدثه أنَه طلق امرأته تطليقةَ وهي حائض، فاستفتى عمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال: "مُرْ عبدَالله، فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر من حيضتها هذه، فإذا حاضت أخرى، فطهرت، فمن شاء فليطلقها قبل أن يجامعها، وإن شاء فليُمسكها". أخرجه أحمد 2/ 43، 51، 54، 79، 124، 130، والبخاري (4908)، (5251)، (5258)، (5332)، (5333)، ومسلم (1471)، وأ بوداود (2180)، (2184)، وابن ماجه (2019)،والزمذي (1175)، (1176)، والنسائي 6/ 137 - 138، 141،142، 212 - 213 وابن حبان 10/ 77، مع زيادة في اللفظ عند بعضهم.

- فصل يجمع شبههم في النهي وأنه لا يقتضي فساد المنهي عنه

مكانٍ مَغْصوبٍ، صار كأنه قال له: صَلِّ في سُترةٍ مخصوصة بالحِل والإباحةِ، وْبقعةٍ مباحة، فإذا تركَ هذين الشرطين في أمره سبحانه، وارتكب الأمرين المنهيَّ عنهما، غيرَ فاعل للصلاةِ مستتراً، ولا معتمداً على بقعةٍ مُعَلقاً، ومَن صلى بهذه الصفة لم تصح صلاته. وإنما استشهدنا بنفسِ الغصبِ لتحقق المذهب به منا (¬1)، ويُوضح منعنا لما ادَّعَوه من الصحة وانفصالِ النَهي عن الاعتداد، وإنما ينفصل النهي عن الفعل في النَهي عن المعلق بالفعل المأمور به، كقوله: صل ولا تغصب أموالَ الناسِ. فلا جَرمَ لو صلَّى صلاةً تمت في شروطها لم تمتنع صحتُها بارتكابِ الغَصْب، فأما إذا كان النهيُ راجعاً إلى شرطِ العبادةِ، والشرطُ داخلاً تحت الأمرِ بها حيثُ كانت مأموراً بها بشرائِطها، فإذا تحقق النهيُ في شرطٍ أوجَبَ اختلالُ ذلكَ الشرطِ أن (¬2) لا يَحصلَ امتثالُ المأمورِ بالسترِ بما نُهيَ عنه من السَتر فيصير عادماً للستر ومن أعدمَ شرطاً من الشروط الداخلةِ تحت الأمرِ بالعبادةِ، فما أتى بالعبادةِ بشروطِها، فامتنعت الصحةُ لهذا المعنى، فقد عاد استشهادُهم إلزاماً، فكان آكدَ من إيرادِه على وجه المنع، والله أعلم. فصل يجمعُ شبَههم في النهي، وأنه لايقتضي فسادَ المنهيِّ عنه فمنها: أن قالوا: لو كان النهيُ علّةً للفساد لما جاز أن ينفردَ عنه معلوله؛ لأن العللَ أبداً تستتبع أحكامَها، فلما ثبت في الشرعِ نواهي لا تُوجبُ الفساد، وتجتمعُ معها الصحّةُ، بطلَ أن يكونَ النهيُ موجباً للفساد. ومما يشهدُ لهذه الدعوى وأنَ لنا ¬

_ (¬1) انظر حكم الصلاة في الموضع المغصوب في مذهب الإمام أحمد في "المغني"، 2/ 477، و"المبدع" 1/ 394. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "إذ".

- فصل في الأجوبة عن شبههم

نهياَ لا يتبعهُ الفسادُ؛ الطلاقُ حالَ الحيضِ -مَنهيٌ عنه، وهو صحيحٌ، واقعٌ، نافذٌ، مزيلٌ للملك عن الأبْضاع، تترتب عليه الأحكامُ من انقضاء العِدَدِ، وإباحةِ المطَّلقةِ للأزواجِ-، والبيعُ عند النداءِ إلى الجمعةِ، والذَّبحُ بالسَّكين المغصوبةِ، والوضوءُ بالماءِ المغصوبِ. ومنها: أنه لو كان النهيُ يقتضى الفسادَ لكان إذا تناول ما ليس بفاسدِ أن يكون مجازاً، فلما كان حقيقةَ، وإن لم يوجب الفسادَ، عُلمَ أنه لم يسلب مقتضاه، وهو الفسادُ، بل انعدم الزائدُ على مقتضاه الذي يَثبُتُ بالدليلِ، وينتفي بانتفاء الدليل. ومنها: أنَ القولَ بالفسادِ يوجب إعادةَ الفعل، وليس في اللفظ ما يقتضي الإعادةَ، وإنما يعطي وجوبَ الفعلِ فقط، فمدّعي وجوبِ الإعادةِ يحتاجُ إلى دلالة من غيرِ اللفظ. ومنها: أنَ الفسادَ صفةٌ زائدة على الحظرِ والتحريمِ، والذي اقتضاه اللفظُ استدعاءَ التركِ والكف، فمدّعي زيادةِ هذا الوصفِ يحتاج إلى أمرِ يزيد على اللفظِ، وهي دلالة تُوجبُ الفسادَ. فصل في الأجوبةِ عن شُبههم أما قولُهم: لو كان مُقتضاه الفسادَ لما انفصلَ عنه، كالمعلولِ مع علتِه. لا يلزمُ؛ لأنه إنما يَنفصل عنه بدلالةٍ، وانفصالُه عنه بدلالةِ لا يمنعُ كونَه من مقتضاه، كالتحريمِ، فإنه قد ينفصلُ عن النهيِ بدلالةِ، ولا يدُلّ على أنه ليس من مقتضاه، (1 كما نَجدُ نَهياَ، ولا يوجب تَحريماً 1)، كما نجد نَهياً ولا يوجبُ فساداً، فما يلزمُنَا في انفصالِ الفسادِ عنه يَلزمكم في انفصالِ التحريمِ عنه، ويبقى بعد خروجِ الفسادِ بالدليلِ كالعمومِ المخصوص بالدليل. ¬

_ (1 - 1) مُكرَّر في الأصل.

* فصل: النهي إذا كان في غير العبادة ولا لمعنى في عن المنهي عنه منع الصحة كما لو كان النهي لمعنى فيه

وأما استشهادُهم بالبَيْعِ وقتَ النداءِ، وغيرِ ذلك من المسائلِ، فلا نُسلمه، بل جميعُ ذلك يقتضي الفَساد. وأمَّا قولُهم: وَجَبَ إذا انفصلَ عنه الفسادُ أن يبقى مجازاً. ليس بلازم، فإنه لم ينتقل عن جميع موجَبه، وإنما انتقل عن بعض موجَبه، فصار كالعموم الذي إذا خرج بعضه بقي حقيقةً فيما بقي. فإن قيل: فما تقولُ إذا قامت الدلالةُ على نقلِه عن التحريم؛ قيل: يبقى نهياً حقيقةً على التنزيه، كما نقول: إذا قامت دلالةُ الأمرِ على أنَّ الأمر ليس على الوجوب بقي أمراً. وأما قولُهم: ليس في الصيغةِ ما يوجب القضاءَ، فالإتيانُ به على وجه النهي أعدمه شرطاً، فلم تبرأ الذمةُ عن الفعلِ، فكان على وجوبه. فالإعادة من ها هنا استفيدت لا من نفسِ الصيغةِ؛ لأنه لمّاَ أتى به على وجهِ النَهي، جعلناه كأنه لم يأتِ به ولا خرجَ عن عهدتِه. وأما قولُهم: إنَ الفسادَ صفة زائدة على النهي. فالصحّةُ من مقتضى متابعةِ الشرع ولا متابعةَ مع النهي، فلم يبقَ إلا عدمُ الصحة، وليس بين الصحةِ والفسادِ واسطةٌ، فاذا أوجبَ الدليلُ عدمَ الصحّة، وجب الفسادُ لا محالةَ، وليست أمراً زائداً على النَهي؛ لأن النهيَ منعٌ، وما أمرَ اللهُ به فلم يأمرُ به على وجهِ النهي، فالمفعولُ غيرُ مأمور، فلم يعتد به كفعل آخر غير المأمورِ به. فصل والنهيُ إذا كان في غيرِ العبادة، ولا لمعنى في عَينِ المنهي عنه، بل في غيره، كالصلاةِ في الثوبِ المغصوبِ والدارِ الغصْب، والبيعِ وقتَ النداءِ، منعَ الصحة، كما لو كان النهيُ لمعنى فيه. وبهذا قال جماعة من المعتزلةِ، خلافاً لأكثر الفقهاءِ والأشعرية في قولهم: الصلاةُ

- فصل في دلائلنا

صَحيحة (¬1)، والبيع صحيح (¬2)، فصل في دلائلنا فمنها: ما تقدّم من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:" مَن عَمِلَ عَمَلاَ ليس عليه أمْرُنا فهو ردّ" (¬3)، فكيف بعملٍ عليه نهيه (¬4)؟ ولا خلاف بيننا أنه منهي عن الصلاةِ في البقعةِ والثوبِ الغصبِ، وظاهرُ الخبرِ يقتضى أن يكون ردّاً، والردُّ ضدّ القبول، وما اعتد به لا يكون ردّاً ولا مردوداً، فَعُلم أنه لا يُعتدُ بها، فإن أعادوا تلك الأسئلةَ، فعليها تلك الأجوبة. ومنها: أنَ الله سبحانه لما أمَر بالصلاةِ، أمرَ بها مشروطةَ بالسترة والتمكينِ والاستقرارِ على بُقعةٍ، ونهى عن الاستتارِ بالغَصبِ والاستقرارَ على الغصبِ، فإذا لابسَ النهيَ في الشرطين كان عديمَ الستارة والبقعةِ حكما وكأنه صلّى عرياناَ مُعلَّقاً، ونحرِّره فنقول: إن السُّترةَ من شروطها الشرعيةُ، والاستتارُ بالمغصوب يخلُّ بالشرط المعتبر وقد أجمعت الأمةُ على أن الإخلالِ بالشرطِ المعتبرِ شرعاً يُخل بصحةِ العبادة، فصار ككشفِ العورةِ مع القدرةِ على السُّترةِ. ومنها: أن الصلاةَ عبادةٌ وقربة، فإذا صلّى واستتَر على وجهٍ منهي عنه، فلا قربةَ؛ لأجلِ أنه عاصٍ بالاستتارِ بالغصبِ، وإذا خرجت الصلاةُ عن القُربةِ خرجت عن الواجبِ عليه المخاطبِ به [و] (¬5) إنما خوطب بصلاةٍ يَستتر فيها بالحلالِ، وإذا لم ¬

_ (¬1) فهم يقولون بصحتها ولكن مع الإثم، فيسقط الفرض بالصلاة في الأرض المغصوبة أو الثوب المغصوب، ولكنه يكون عاصياً بمقامه فيها، أو لبسه له، انظر "المجموع" 3/ 164، و"العدة" 2/ 441، و"البرهان" 1/ 283 - 295 و"المحصول" 2/ 291. (¬2) ولكن مع الحرمة والإثم، انظر "المجموع" 4/ 500. (¬3) تقدم تخريجه في الصفحة (162) من الجز الأول. (¬4) هكذا العبارة في الأصل. (¬5) ليست في الأصل.

يكن قد أتى بما وجبَ عليه، كانت الصلاةُ في ذمته بقاءٌ على حكم الأصل. ومنها: أن الأصلَ المستقرَّ فيما بين العلماءِ أجمع، أنَ النهي لا يقفُ على معنى يخصُّ العين، سواء كان في المعاملاتِ أو العباداتِ، بل وجدناهم حكموا بإبطالِ بيع الخنزيرِ والميتةِ والدمِ لمعنى في الذات (¬1)، وحكموا بإبطال بَيعْ الصّيْدِ في حق المحرِم وفي الحرمِ (¬2)، والمنعُ يرجع إلى ذات المحرِمِ والبقعةِ لا إلى عين الصّيْد، وحكموا بإبطالِ الصّومِ والحجِّ بالردّةِ، وإن كان النهيُ عن الردّةِ لا يختصّ الصومَ والحجَّ، بل الردّةُ منهيٌ عنها قبل الإحرامِ، وقبل التلبّسِ بالصيامِ، وبعْدَ الخروجِ منهما، وصارت الردّةُ في إبطالهما بمثابةِ ما يخصّهما من المبطلاتِ، كالوطءِ في الحجِ، والأكلِ في الصومِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ السُّترةَ النَّجسةَ التي لا يُنهى عنها إلا لأجلِ الصّلاةِ، والسترةَ المغصوبةَ التي ينهى عنها في الصلاةِ وخارجَ الصلاة، سواءفي المنع مِن الاعتدادِ بالصلاة. ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ أجمعوا على أن القائلَ لعبْده: امضِ برسالتي إلى فلان، وقف في خدمتي وقتَ كذا، ولا تلبسْ من الثيابِ إلا ما كسوتُك به، ولا تركب إلا الدابّة التي خَصصتكَ بها حين مُضِيِّكَ في رسالتي إلى فلان. أنه أمره أمرأ على صفةٍ مشروطٍ بشرطٍ، وأنه لو مضى في الرسالةِ على غير الدابّة، وخدمَة في غير ما كساه به لم يكن ممتثلاً أمرَه، بل مخالفاً، وأنه بمثابةِ من وقف في خدمتِه عُرياناً، ومضى في رسالتِه ما شياً، فكذلكَ ها هنا -حيث قالَ له الشرعُ: صلِّ مستتراً، ولا تَستتر ¬

_ (¬1) لحديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة:"إنَ الله ورسوله حرما بيع الخنازير وبيعَ الميتة وبيع الأصنام". أخرجه أحمد 3/ 326، والبخاري (2236) و (4633)، ومسلم (1581)، وأبوداود (3486)، وابن ماجه (2167)، والترمذي (1297)، والنسائي 7/ 309 - 310، وابن حبان (4937). (¬2) ذلك أنهم اعتبروا صيد المحرِم في حكم الميتة لا يجوز أكله. انظر "المغني" 5/ 139، و"كشاف القناع" 2/ 502 - 514 و" البناية شرح الهداية" 7/ 723، و"القوانين الفقهية" ص (137).

- فصل في أسئلتهم

بالغصبِ، ومتمكِّناً من الأرض، ولا تَعتَمدْ على بقعةٍ مغصوبةٍ -لايكون لأمر الله ممتثلاً، فبقيت الصلاةُ المأمورُ بها على ما كانت مُشغِلةً لذمته، غيرَ خارج من عُهدتها. فصل في أسئلتهم فمنها: أن الصلاةَ تكبير وقراءة وركوع وسجود بنية القربةِ إلى الله سبحانه، والاستقرارُ والسترُ بالغصبِ وعلى الغصب ليس بقربةٍ، والأصلُ الأذكارُ والأفعالُ، فلِمَ أبطلتم ما وقَع قربةً وهو الأقصدُ والآكدُ بما لم يقع على وجهِ القربةِ، وما مثلكم إلا مثلُ قائلٍ بإحباطِ أعمالِ القُرَبِ والطاعاتِ بإعمالِ المعاصي والمخالفاتِ، وذلك مذهبُ المعتزلةِ، وليس بمذهبٍ لكم. ومنها أن قالوا: النهيُ عن الاستتارِ بالغصبِ والكونِ في الدارِ الغصبِ نَهي لا يختصُّ الصلاة، ولهذا ينهى عنها قبلَ الدخولِ في الصلاةِ، وبعد التحللِ من الصلاة، فصار غصبُ السترةِ والبقعةِ كغصبِ ثوبٍ يجعلُه في كُمِّه ويصلي معه، ودارٍ يغصبها فيودِعُها أهلَه ورحلَه ويصلي في غيرها، لا يمنعُ صحةَ الصلاةِ والاعتدادَ بها، كذلكَ في مسألتنا. فصل في الأجوبة عما قالوه أما إقرارهم بأنَّ الاستقرارَ والاستتارَ غير (¬1) قُربة بل (¬2) مَعصية، فكافٍ في إبطالِ العبادة. إذ الله سبحانه أوجبَ أن تكونَ الصلاةُ كلُّها بشروطِها وأركانِها قربةً إليه، فإذا كان بعضُها قربةً، وبعضُها معصيةً، فهم المطالبون بالدلالةِ على صحةِ الصلاةِ، ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "عن". (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "بين".

- فصل في جمع شبههم

وإجزائها، والاعتدادِ بها؛ لأن المخاطبَ بجُملةٍ كلُّها يجب أن تقَع قُربةً (¬1)، وإذا أتى ببعضها لم يكُ مطيعاً ولا ممتثلاً ولا محصِّلاً لِما كُلِّفَه. فكذلكَ إذا تقرب ببعضها لم يكُ متقرِّباً بما كُلِّفه، لا سيما وليس ينفصلُ بعضُ الصلاةِ عن بعضٍ في الصحةِ والفسادِ، بخلافِ الطاعةِ المفردة عن الطاعة الأخرى، كالصومِ مع الصلاةِ، لا تبطل إحداهما ببطلانِ الأخرى، وبخلافِ المعصية المنفردةِ لا تَبطل بها العبادةُ؛ لأنَّ العبادةَ كملَت بشروطها، فأمَّا إذا كانت المعصيةُ في أبعاضِها، لم تكمل، وصار كالتركِ لعبادةٍ لا تُبطل ما فعله المكلَّف من عبادة أخرى، ولو تركَ بعض أركان العبادةِ لم تفسد بما بقي منها، لارتباطِ بعض أفعالها وأركانِها بعضه ببعض. وأما تعويلهم على أنَّ النَهي لا يختص الصلاةَ، فباطلٌ بكشف العورةِ لا يختص النهيُ عنه الصلاةَ، بل كشفُها بمحضرٍ من الناسِ يُبطلها، وإن كان لو كشفها خارجَ الصلاةِ كان عاصياً، وكذلكَ الوطءُ في حق المعتدّةِ والصائمةِ، لا يختصّ الإحرام (¬2)، ولو أحرمت كان الوطءُ مبطلاً لإحرامِها على معنى قولكم: لا يختصّ الصلاةَ. أنه يعُمّ خارجَ الصلاة وداخلها، ولا يمتنع أن يكون عاصياً به خارجَ الصلاة، مُبطلاً للصلاةِ بفعله داخل الصلاة، كما أن السجودَ للشيطانِ أو الصنمِ محظورٌ خارجَ الصلاةِ، مبطلٌ لها إذا فعلَه أو نواه في الصلاة. فصل في جمع شُبَههم فمنها: أنَهم زعموا أنَ الصلاةَ جنس ومعنى غيرُ الغَصْب؛ لأنَّ الصلاةَ حركاتُ المصلّي وسكناتُه وأذكارُه، والغصب متناولٌ لأجزاءِ الدار وذاتِها وأبعاضِها، فأين الصلاةُ من الغصب؟ ¬

_ (¬1) بعدها في الأصل: "ومقرباً"، ولا تستقيم العبارة بها. (¬2) هكذا في الأصل. ولعل الصواب: "المحرمة"

ومنها: أن الإنسانَ لا بُد له من مُستقَرٍ يستقرُّعليه، سواء مَلكه أو ملكَ غيرَه، فصاربمثابةِ الفضاءِ حالَ قيامه، لما لم يكن بُدٌ من فضاء يقوم فيه وتنتشرُ قامتُه فيه، لا جَرَم لا فرقَ بين انتشار قامتِه في هواءِ ملكِه، أو هواءِ ملك غيره. ومنها ما تعاطاه بعضُهم، وقال: إنَّ الكونَ في الدارِ على وجْهِ التعدّي والغصبِ، والصلاةَ طاعة في نفس وقُربة، وهي منفصلة من الغصبِ، والدليلُ على انفصالِه عنها أنه قد يفعل الكونَ في الدار من لم يكن مُصلّياً. ومنها ما احتج به فيَ الشيخُ الإمامُ أبو سَعد المتولِّي (¬1) -رحمه الله- بمجلس قاضي القضاة الدامغاني (¬2) -رضي الله عنه- بمجلس النظر بدارٍ بنَهرِ القَلاَّئين (¬3)، فقال: أجمعنا على أنَّ العبدَ الآبقَ عن سيده غاصبٌ لنفسه، وهو يُصلّي بجملته وأجزائه، وأجمعنا على صحةِ صلاتِه مع كونه مصلياً بذاتِه وأركانِه المغصوبةِ، فصلاةُ غير العبدِ الآبقِ، الحر المالكِ لنفسه وأجزائه وأعمالِه إذا صلى في بقعةٍ مغصوبةٍ، أوْلى أن تصحّ صلاتُه. ¬

_ (¬1) هو أبوسعد عبد الرحمن بن مأمون بن علي النيسابوري المتولّي، أحد الأئمة الشافعية الرفعاء، له عدة مصنفات منها "مختصر في الفرائض"، و"كتاب في الخلاف"، و"مصنف في أُصول الدين" توفي سنة (478 هـ)، "طبقات السبكي" 5/ 106، "طبقات الإسنوي" 1/ 305 - 306، "سير أعلام النبلاء" 18/ 585. (¬2) هو أبوعبد الله، محمدُ بن علي بن محمد بن حسن بن عبد الوهاب بن حسويه الدامغاني الحنفي، ولدَ بدامغان سنة (398 هـ) سكنَ بغداد ودرسَ بها فقه أبي حنيفة، وتولى قضاءَ القضاة وانتهت إليه الرئاسة في مذهب العراقيين، توفي سنة (478 هـ). "تاريخ بغداد" 3/ 109، "الفوائد البهية" 182 - 183، "سير أعلام النبلاء"18/ 485. (¬3) جمع قَلاء، للذي يقلي السمك، وهي محلةٌ كبيرةٌ ببغداد في شرقي الكرخ، نُسب إليها عدد من العلماء من بينهم أبوالبركات عبد الله بن المبارك الأنماطي النَّهري توفي سنة (538 هـ)، انظر "مُعْجَم البلدان" 5/ 322 - 323.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

فصل في الأجوبة عن شُبَههم أمَّا الأولى: ودعواهم أنَ الغصبَ يتناولُ الدارَ عَينها وأجزاءها. فإنها دعوى بعيدةٌ؛ لأن المالكَ من الآدميين لا يملكُ عينَ شيء عند الفقهاءِ أجمعَ، وإنما يملكُ التصرّف بالتقلبِ فيها، والإكوانِ، وإيقاعِ الآثارِ في سطحها وأعماقها، فأما الأجزاءُ والأعيانُ، فاللهُ سبحانَه المنفردُ بها، حتى إنَ المعتزلةَ منهم قالوا: بأنَّ الأعيانَ لا يملكها مالكٌ، لا القديمُ ولا غيرُه، حيث جعلوا الملكَ: القدرةَ، والقدرةُ لا تتسلّط على الموجوداتِ، حتى إنَ الحيوان يختصّ ملكُ الآدميِ فيه بأفعالٍ مخصوصةٍ وآثار مخصوصة، وهي ما لا يضر بالحيوان إضراراً بَيناً، ولا يملكون تحميلَه ما لا يطيق، ولا ضربَه لغيرِ حاجة، ولا إخصاءه، ولا تَبْتيكَ آذانه، ولا كيَّه، والله مالك ذلك فيه، فالقدْر الذي يملكه المالك يتسلط عليه الغاصب، وهل يَنتهي ملكُ المالكِ للدارِ في صلاته فيها إلى أدنى من الكونِ بحركاتِه وسكناتِه، وركوعهِ في هوائها، وسجوده على أرضِها، فالقدْر الذي ينتهي تسلّط المالكِ وتصرّفُه ينتهي إليه تصرفُ الغاصبِ، والصلاة بأكوانٍ مخصوصةٍ وبحركاتٍ مخصوصة في قرارِ الدارِ وهوائها، فأينَ انفصالُ الغصبِ عن الصلاة؟ ولأنَّ الغاصبَ بحركاتِه وسَكناتِه ومضيه في الجهاتِ حالَ صلاتِه مستمتع بالدارِ كاستمتاعِ مالكها، ثم إنه بذلك مانع صاحبَها من الانتفاعِ بمثلِ انتفاعِ الغاصبِ، فلا يمكنه الصلاةُ في المكانِ الذي يُصلي فيه الغاصبُ، ولا إشغالُه بوضع عدل ولا شيءٍ يملأ تلك البقعةَ من الدار فقد بان بأنه غاصب بالصلاةِ مكانَ الصلاة وهواءها بكلِ كونِ يفعله وجهةٍ يملؤها بذاتِه وأعضائِه وحركاتِه وسكناته. والذي يوضحُ ذلكَ ما قال الفقهاء: إن من كان له شجرة، فخرجت أغصانها، وبَسَقت إلى هواء دار جاره، أو غَرقت عروقُها إلى بئرِ جارِه، كان باستدامة ذلك

عاصياً ومتعدّياً، ووجبَ رفعُ ذلك عن هواء جاره وأعماقِ داره، كما يجب رفعُ الأمتعة التي يضعها في الهواءِ والقرار. وأمَّا قولُهم: إن المصلي لا بُدّ له من بقعةٍ في صلاته؛ وغير صلاته؛ لأنه جسم لا بُدّ له من مكان يكون فيه ويعتمد عليه، فلا يختصُّ ذلكَ بصَلاتِه. فإنه كلامٌ ركيكٌ، لأنه كما لا يختضُ الكونُ بالصلاةِ فيها، بل يكونُ فيها ولا صلاة، فإنه لا يصلي فيها ولا بحصولِ الكونِ فيها، وكونُه فيها في صلاة ليس يغيرُ لكونه في غير صلاة، كما أنَ كونَه فيها قاعداً لا يكونُ غيرَ كونه فيها قائماً، وكونُه فيها على كلا الحالين من حيث كونه شاغلاً للمكان لا يختلفُ ولا يتغايرُ، وإنما انضمّ إلى كونه نيّةُ الصلاةِ، فلا يخرجُ عن كونه غاصباً بالكونِ في صلاةٍ كان أو في غيرِها، ولو كان الكونُ في الدارِ غير مصلٍ، مع كونه مصلياً خلا من ضدّين لما صحَ أن يجتَمع كونُه في الدار مصلياً؛ لأنَّ ذلك يوجبُ اجتماعَ الأضدادِ. وأما شبهةُ المتولّي -رحمه الله- فكان جوابي عنها بالمجلسِ الذي أوردها فيه: أنَ الآبقَ عبْدٌ في غير أوقاتِ الصلوات، فأمَّا أوقاتُ الصلوات، فإنه لا حقَ للسيد فيها على العبد؛ لأنه لا يملكُ فيها استخدامَه بشيء من الخدمة، ولا تعويقَه، ولا يكونُ في ذلكَ الوقتِ غاصِباً لنفسِه، ولا آبقاً عن سيّده، فصارت صلاةُ الآبق في أوقاتِ الفرائضِ المقتطعةِ من ملكِ السيّد وحقه بمثابة بيتٍ يخضُ الغاصبَ ملكُه في الدارِ المغصوبة، إذا صلّى فيه كانت صلاتُه صحيحةً بخروجِه عن الغصب. والذي تَحقق غَصبُه لنفسه فيها من الصلواتِ تكون عندنا باطلةً، وهي النافلةُ، والعبدُ بين شريكين إذا تَهايَأهُ سَيّداه، لم يكن في شُغلِه بخدمةِ أحدِهما عاصياً، فيكف بمالك العينِ معه مالكُ الرِّق إذا كان في طاعته لم يكن عاصياً.

* فصول القول في فحوى الخطاب ودليله

فصول القول في فحوى الخطاب ودليله فصل في فحوى الخطاب وهو التنبيه والأولى، وذلك مثل قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ ......} [آل عمران: 75]. فهذا مما لا خلاف فيه بين جمهورِ أهلِ العلم إلا ما شذَّ عن بعضِ أهلِ الظاهر. حكاه أبو القاسم الخَزري (¬1) عن داود، وحُكِيَ عن قوم أنه مستفادٌ من اللفظِ. والصحيحُ عندنا: أنه مستفادٌ من فحوى اللفظ. وقال أصحاب الشافعي: إنه قياس واضحٌ، وقيل: قياسٌ جلي (¬2). فالدلالةُ على العملِ به وأنه دليلٌ معمولٌ به؛ أن النهيَ عن الأعلى حاصلٌ بذكرِ النهي عن الأدنى، وأن الأمانةَ على الأعلى دلالة على الأمانةِ على الأدنى، وأن نفيَ الأمانةِ على الأدنى دلالة على نفيِ الأمانة [على] (¬3) الأعلى، وقد قالَ به واحتجَّ من لا ¬

_ (¬1) هو عيَّاش بن الحسنِ بن عياش أبوالقاسمم القاضي، المعروف بابن الخَزَري- نسبة إلى الخَزَر وهم صنفٌ من الترك -سمع القاضي المحاملي، وابنَ مخلد، وابنَ الأنبار كان من الذين وقَّعوا محضر الطعن في نَسبِ العُبيديين سنة (402 هـ). انظر "تاريخ بغداد" 12/ 279، "الإكمال" 2/ 201، "المنتظم" 7/ 256 "توضيح المشتبه" 2/ 322. (¬2) انظر "المحصول" 5/ 121، و"البحر المحيط" 4/ 7. (¬3) ليست في الأصل.

- فصل في الدلالة على الاحتجاج به

يقول بالمعنى، وهم أهلُ الظاهر. ومثاله من السنة: نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن التَّضحية بالعوراء (¬1)، تنبيهاً على النهي عن التضحية بالعَمياء، فهذا مثاله في الأمرِ والنهي، ومن التنبيه في باب الإخبار، قوله تعالى: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}} [الأنبياء: 47]، {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، فذكر القليلَ تَنبيهاً على الكثيرِ، نافياً للظلم عن نفسِه سبحانه. فصل في الدلالةِ على الاحتجاجِ به فمن ذلكَ: أن هذا ظاهر من لغةِ العربِ، وأنَّ العبد المنهي عن إعطاءِ زيد حبة، لا يحسنُ أن يَستفهِم سيّدَه الناهي له؛ فهل أُعطيه قيراطاً لما في القيراط من الحبَّات؟ وكذلكَ إذا قال: لا تَقل لأبيكَ أُفٍّ، لا يحسُنُ أن يقول: فهل تَفسح لي في ضربِه أو انتهارِه؟ لِما في الضربِ والانتهارِ من الأذية المتضاعفةِ على أذيّة التبرّمِ والضجَرِ؟ ومن جَحدَ ذلك سفَّهَ أهل اللغة، وأسقط حُكمَ الخطابِ. ومنها: أنَ المنعَ من التأفيفِ لأجلِ الأذى بالتضجُّر بهما، لا لأجل مجرَّد اللفظةِ، والمفهومُ من التضجّر الأذى، وفي شتمِ الأبوينِ وسبهما ما يزيدُ على التضجُّر والتبرُّم، فكان منهياً عنه. ومنها: أن هذا مما يتساوى في فهمِه النساءُ والسوقةُ، ولا يقف على المتميزين من ¬

_ (¬1) ثبتَ ذلك بحديث البراءِ بن عازب، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعٌ لا يُضحَّى بهنَ: العوراءُ البيّن عَوَرها، والمريضةُ البين مرضُها، والعرجاءُ البين ظَلَعُها، والعَجْفاءُ التي لا تُنْقي". والظلَع: العرجُ، والعجفاءُ: الهزيلةُ، والتي لا تُنقى: هي التي لا نِقْي لعظامها -وهو المخ- من الضعف والهزال. أخرجه الترمذي (1497)، والنسائي 7/ 215 - 216، والبيهقي 9/ 274، والحاكم 4/ 223، وابن حبان (5919) و (5921)، (5922).

أهلِ اللغة، ولا أربابِ الاستنباطِ، فإذا قال قائل: لا تَقْذِ (¬1) عينَ بعير زيدٍ، ولا تمكن القَرْنَاءَ من غَنمك من نَطح الجماء (¬2) من غنمه. عُلم مبادرةَ [من] (¬3) هذا اللفظِ أنه قصدَ حسم مواد الأذايا بذكره أدناها، ألا ترى أنه لا يحسنُ بعد ذلك أن يقول: واقلع عَينيه، أو اضرب عنقَه، أو اذبح مواشيه، بل يكون في ذلك على غايةِ المناقضةِ في وصيّته. ومنها: أنَّ هذا موضوعٌ عند أهلِ اللغةِ، كوضع الأسماءِ للمسمَّيات (¬4) حتى إن الواحدَ منهم إذا أرادَ النهيَ أو رَفْعَ المنةِ رَفَعَ قَذاةَ (¬5) من الأرضِ أو مَدرةً (¬6)، فقال: لا تَظلم زيداً بمثلِ هذه، ولا تتلبس من مال فلانٍ بهذه. فيسبق إلى فهمِ كُل سامعٍ أنه أراد نهيَه عَمّا (¬7) زاد عليها ورفع المنّة بما زاد عليها، فهذا وضعُ القومِ ولُغتهم. فإن قيل: إنما نفهم ذلك فيما بيننا بالمعهودات من الأحوالِ والقرائِن، فأما في حقِّ الله سُبحانه، فلا عهدَ بيننا وبينه، بل قد يكون ناهياً عن الأقل قُبحاً إلى الأشدَ الأكثر مثل قوله: ولا تُعطِش ناقَتك ولا بقرتَك، ولا تَنْتِف ريشةَ دجاجتِك، ولاتخرم أذنَ بعيرك، واختِنْ وَلدَك، واذبَح ناقَتك تَقرُّباً إليّ، أغفِر لك بأوَّل قطرةِ تَقطر من دَمِها. فما يُؤمِنَّا نحن أن نأخذَ النهي عن الأعلى بالنهي عن الأدنى بعد هذا؟ بل الجمودُ على حكمِ الأصلِ إلى أن تردَ دلالةٌ أولى وأحرى. ¬

_ (¬1) القذى: ما يقع في العين فيؤذيها. "اللسان": (قذى). (¬2) الجماء: هي التي لا قرن لها. (¬3) ليست في الأصل. (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "المسمات". (¬5) القَذاة: هي ما يقع في العين والماء والشراب، من تراب أو تبنٍ أو غير ذلك. "اللسان": (قذى). (¬6) المدَرَة: هي قطعة الطين. "اللسان": (مَدر). (¬7) في الأصل: "فما".

فيقال: الأصلُ في اللغةِ ذلك، وفي المعقولِ فإذا ورد إباحة بما هو أشدّ الأذايا. كان تَحكُّماً معقولاً، فَنحنُ نعملُ بظاهرِ اللفظ إلى أن تَرِدَ دلالة تُخرجُ عنه بتحكمٍ شرعي. ومنها: أنَّ القصدَ من الكلامِ التفاهمُ وإيصالُ ما في نفسِ المتكلم إلى مخاطِبه ومكالمِه، فاذا عوَّل على مجرد اللفظ دون دلائلِ الأحوالِ والمقاصدِ المطويّة في الأقوال (¬1)، وهل يخفى [على] (¬2) عاقل من أهل اللغة إذا قيل له: لا تعبس في وجْهِ فلان. أنه قصد بذلكَ صيانتَه عن أذيَّته بما فوق التعبيسِ من هُجْرِ الكلامِ وخشنِ الفعالِ، وما يزيدُ على أذيَّة التعبيس. ومنها: أنَّ قائلاً لو قال لأمير سريَّة: إذا ملكتَ البلدَ، فلا تُطْفىء فيه سراجَ، بقّالٍ، ولا تَسلبهم حَبْلاً ولا عقالاً، وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم بمثلِ ذلك، فقال في اللُّقَطةِ: "احفَظ عِفاصَها ووِكاءَها" (¬3)، وقال في الغنائم: "أدّوا الخَيْطَ والمِخْيَطَ، من سرق عصا فعليه ردّها" (¬4)، عَقَلَ منه ما يزيدُ على إطفاءِ السراجِ وغَصب العقالِ، وبما في ¬

_ (¬1) لم يرد جواب إذا، والمعنى مفهوم من السياق. (¬2) ليست في الأصل. (¬3) أخرجه أحمد 116/ 4 وه / 193، ومسلم (1722)، وابن ماجه (2507)، وأبوداود (706)، والترمذي (1373)، والطبراني (5237)، والبيهقي 6/ 192 و 193، وابن حبان (4895) من حديث زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال:"عرِّفها سنَة، فإن لم تعرف، فاعرف عِفاصها، ووِكاءها، ثمَّ كلها، فإن جاء صاحبها، فأدَّها إليه". والعِفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة، من جلد أو خرقة أو غير ذلك. والوِكاء: هو الخيط الذي يشدُ به الكيس أو الصرة. "النهاية في غريب الحديث" 3/ 263، و5/ 222. (¬4) أخرجه أحمد 2/ 184، ومالك في"الموطأ" 2/ 458، وأبوداود (2694)، وابن ماجه (2850)، وابن حبان (4855) من حديث عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أدو الخِياط والمِخيَط، فمنَ الغُلولَ عاو ونار وشنار على أهله يوم القيامة". =

- فصل في الدلالة على من زعم أن الحكم فيه مستفاد من طريق اللفظ

الصرّة الملتقطةِ من الدنانيرِ والدراهمِ وراءَ الوكاءِ والعِفاصِ، وأداءِ الثيابِ والرحالِ من الغنائم، ورد الأجذاعِ والأخشابِ المغصوبةِ، حتى لو قالَ الآمرُ بذلك بعد هذا: ولا تَحفَظ ما وراء الوِكاءِ والعفاصِ، ولاتُطفىء سراج بقالٍ وانْهَبْ ما في دُكّانه من الأمتعةِ والمالِ. عُدَ مُناقضاً في كلامه، واستُهجنَ ذلك منه، وما ذاك إلا لأنَّ المفهومَ من كلامه الفَحوى الذي أوضحناه، وإنما قصدَ بهذا أهلُ اللُّغة الاستقصاءَ، ألا ترى أنه إذا قال: ما أنفقتُ من مالِ فلانٍ ألفَ دينار لم يمنع ذلك أن يكونَ قد أنفقَ ما دونها، وإذا قال: ما أنفقتُ من ماله حبّةً. أعطانا ذلك وأفادنا أنه لم يُنفق ما فَوقها. فصل في الدلالةِ على من زعَم أنَ الحكمَ فيه مستفاد من طريق اللفظ: أنه ملفوظ بالنهي عن الأذِية الزائدةِ على التبرّمِ بالتأفيفِ. فنقولُ: إنَ الملفوظَ به إنما هو النهي عن التأفيفِ، فهذا منصوصٌ، والمفهومُ من اللفظِ نفيُ الأذى الزائدِ على أذيةِ التأفيفِ، وهذا نوعُ استدلالٍ، والمنصوصُ الملفوظُ لا يحتاجُ إلى استدلالِ، ولولا ما سبقَ من علمِ القصْدِ من طريقِ العُرفِ نفيَ الأذايا لما عُقِلَ منه إلا النهيُ عن نَفسِ الحَرْفَين (¬1)، وهي الملفوظُ بها، وإنما دلالةُ العرف أرشدت إلى النهي عما زادَ عليها، ولربما قاربَ القياسَ، ولهذا ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه قياسى جلي، وقيل: قياسى واضحى، فإنه يلمحُ ما في التأفيفِ من التضجر، وينظر إلى ما في السبّ والانتهارِ من زيادةِ الأذى بهما، فيجعلُ التأفيفَ أصلاً تُردُّ إليه كل أذيةٍ مساويةٍ له، فيكون قياساً، وكُل أذيّة تَزيد عليه تكون تنبيهاً، وذلك أوضحُ الأقيسة. ¬

_ = أما الزيادة التي ذكرها المصنف: "ومَن سرق عصا فليردها" فلم نقف عليها في كتب السنة التي بين أيدينا. (¬1) يعني كلمة: أُف.

- فصل في الدلالة على أنه ليس بقياس

فصل والدلالةُ على أنه ليس بقياسٍ: أنَّ القياسَ والمعنى: أخذُ الحكمِ للفرعِ من أصلٍ وجدت فيه علّةُ الحكم، كتحريمِ النبيذِ لاجتماعِه والخمر (¬1) في الشدّةِ المطرِبةِ، فأما الأولى فإنه إثباتُ حكمٍ لبعضٍ، والبعضُ من جملة الكُل، كإفاضة الحكمِ على الأكثرِ لوجودِه في الأقلِ ليس بمعنى، بل مفهومُ الخطابِ ذاكَ في الكُل والبعضِ، وما شملَه حكمٌ من طريق النطقِ لم يكن قياساً كالعموم. فصل في شُبهةِ من لم يجعل الدلالةَ إلا نفسَ اللفظِ دون ما زادَ عليه قالوا: المسموعُ الذي قرعَ سمعَ المكلَّف هو النهيُ عن التأفيفِ، وما عداه ليس بمسموعٍ من الشرعِ، فبقينا فيه على حكمِ الأصلِ، وهو الإباحةُ، وبقي المنعُ كسائر الألفاظِ. وأما شبهةُ من جعلَ ذلك دلالةً من طريقِ اللفظِ دون فحواه، أن قال: إذا قال: لا تظلم أحداً بحبةٍ من مالهِ ولا تؤذه (¬2) بالتَّقْطيبِ في وجهه. فإنه قد نهاه عن الظلمِ بالدينار لأنَّ في الدينارِ ستين حبّةً، وفي الأذيَّة بالسبِّ أضعافَ الأذيَّةِ بالتقطيبِ، فصارَ بمثابةِ قولِ القائلِ في قَسَمه: واللهِ لا أكلتُ لفلان لُقمة، ولا رويتُ من مائه بشربةٍ أو بجُرعةٍ. فإنه يكونُ حالفاً على الامتناعِ من أكلِ الرغيفِ وشربِ الماءِ الكثيرِ؛ لأنَّ في ذلك الماءِ الكثيرِ أضعافَ الجرعة، فهي جُرعٌ كثيرةٌ، فتدخل الجرعةُ في الماءِ الكثيرِ واللقمةُ في الرغيفِ. وأما شبهةُ من قال: إنه قياس. أنَّ النهيَ عن التأفيفِ احتاجَ المجتهدَ إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "للخمر". (¬2) في الأصل "تؤذيه".

- فصل في الجواب عن شبههم

استخراجِ ما كان النهيُ عنه لأجله، فوجدَه الأذى بالتضجّر ولَحَظَ ما في الشتمِ والسب من الأذى والضربِ، فوجده أكثَر فعلم أنَ تعليقَ الحكمِ عليه بعلةِ الأذى من طريق الأولى، وهذا هو القياسُ. فصل في الجوابِ عن شُبههم أمَّا قولُهم: إنَ الشتمَ ليس بملفوظٍ به، وليس الملفوظُ به سوى التأفيفِ، فبقي ما عداه من السبِّ والشتمِ على مقتضى الأصلِ، فإنه ليس سوى التأفيفِ، لكن لأجل ما يلحقُ به من التأذي والتألّمِ بالتبرمِ والتضجّر وذلك يعمُ بالمعقولِ كُلَّ أذى يلحقهما من جهته، وهذا عادةُ القومِ ولسانُهم، يقولُ الرجلُ منهم إذا أراد رفعَ السنَة عنه: والله لا شربتُ لك الماءَ من عَطشٍ. فيُعقل من ذلك أنه منَع نفسه من الانتفاعِ بما له، وجعلَ شربَ الماء حَسماً لمادةِ السنِنِ, حيث منعَ نفسَه بما لايُلحِقُ فيه كبيرَ منَةٍ. وأما قولُ من جعلَه تبعاً من طريقِ اللفظِ، وأنه إذا منعَ من الظلمِ بحبةٍ كان مَنعاً من القيراط لِما فيه من الحبات، فهذا قد يردُ فيما لا يتحققُ فيه المنهيُ عنه، مثل النهي عن التأفيف، وهو قولٌ، فلا يدخلُ فيه الفعلُ؛ وهو الضربُ، وإنما يدخلُ فيه أذيّة الضربِ، وليس للأذية ذكر، لكن للمعنى من اللفظ، فالدينارُ والقيراطُ، وإن كان فيهما عدةُ حبات، إلا أن له اسماً يخصه يخرجُ به عن اسمِ الحبّةِ، دخلت من طريقِ غير اللفظِ، فيقول القائل: لم آخذ حبةً لكن ديناراً، وما سلّمتُ على زيدٍ، لكن سلمتُ على أهل القرية، وإنْ كان فيهم زيد، فللتخصيص حُكم غير التعميم والشمول. فأما الجوابُ عن شُبهةِ من قال بأنه قياس، وقولهم: إن المعنى الملحوظَ المفهومَ من التأفيفِ هو الأذى، بما في طَيِّه من التبرُمِ والتضخرِ-فلما (¬1) رأى أنَ في الانتهارِ ¬

_ (¬1) في الأصل إلى: "فكما".

والسبِّ والضربِ من الأذى والإضرارِ ما يُوفي على التَّضجرِ، أثبتَ الحكمَ في المسكوتِ عنه بما عقَله من علّةِ المنطوقِ به، وهذا هو القياسُ بعينهِ -فليس بلازمٍ؛ لأنَّ هذا لغة وليس بقياسٍ؛ لأنَّ العرب إذا أرادت تركَ التطويلِ والمبالغةَ في الاختصارِ نبَّهت، فأتت بالتنبيهِ على ما زاد عليه، فإذا أرادت إزالةَ المنَّة قالت له: لا تَشرب له الماءَ من عطشٍ. فاكتفت بذلك عن ذكرِ أسباب المننِ، وإذا أرادت وصفَ إنسانٍ بالخَوَرِ والجُبنِ قالت: فُلان تُبكيه اللَّحظةُ (¬1) وتفزِعه اللفْظَة، ولهذا يوصل بقولها فضلاً عما زاد عليه. والذي يكشفُ ذلك أنَّ المعنى والقياس يحسنُ فيه الاستفهامُ ولا يحسنُ في الأولى الاستفهامُ، فإذا قال السيدُ لعبدِه: لا تَشرب لزيدٍ ماءً من عطشٍ. فقال العبدُ: فآكُل من طعامِه؟ وأقبلُ عطاياه وهِباتِه؟ وإذا قال له: لا تَقُلْ لأبيكَ الكبيرِ الذي خَلفه الكِبرُ عندك: "أُفٍّ"، فقالَ الولدُ: هل أشتمه أو أضربه؟ لم يحسن ذلك، كما لو قالَ: لا تؤذِه بنوعٍ من أنواعِ الأذايا. وبمثله لو قال: لا تَبعِ الحِنطَةَ بالحنطةِ متفاضلاً، حَسُن أن يقولَ: فهل أبيعُ الشعيرَ بالشعيرِ متفاضلاً؟ فإن قيل: هذا القَدرُ لا يُعطي إلا أن التَنْبيهَ أوضَحُ وأكشفُ معنى، وهو عندنا قياسٌ جَليّ، فله رتبةٌ على القياسِ الخَفي. قيل: هذا إقراو بأنه يسبقُ إلى الأفهامِ، ودعوى أنه قياس تسمية، وإلا فالقياسُ لا يُفهمُ إلا بأدنى فكرةٍ، وهذا يُعلمُ منه ما ذكرناه بأوَّلِ وهلةٍ وأسرعِ بادرة. فمن قيل: لو كانَ مُستفاداً من اللفظِ؛ لكفاني يمينُ المنكرِ إذا ادعي عليه دينارٌ أن يقول: لا يَستحق علي حبةً. ولما احتاجَ أن يقولَ: لا يَستحق عينَ ما ادَعاه ولا شيئاً منه. عُلم أنَ ذكرَ الحبةِ ليس يستفادُ به الإنكارُ والنفيُ لفظاً، إذ لو كانَ كذلك؛ لكانَ قولُه: لا يَستحق عَليَّ حبَّةً. قائماً مقام قوله: لا يَستحق علي ما ادّعاه ولا شيئاً منه. قيل: لم يكن هذا، لأنه ليس بمستفادٍ من طريقِ فحوى اللفظِ لا المعنى؛ لكن ¬

_ (¬1) لحظ إليه: نظر بمؤخرة عينيه من أيِّ جانب كان، يميناً أو شمالا "اللسان": (الحظ).

* فصل: للخطاب دليل هو حجة شرعية ودلالة صالحة لإثبات الحكم

لأنه ليس بنص ولا يُكتَفى في دَفعِ الدعوى إلا بالنصِّ دون الظاهرِ، ولهذا لا يقبل في يمينِ المدَّعي: فواللهِ إني لصادق فيما ادَّعيته عليه. ولا يكفي في يمينِ المنُكِر ووالله إنه لكاذبٌ فيما ادّعاه عليَّ. كُل ذلك طلباً للنص الصريحِ دون الظاهر. فصل للخطاب دليلٌ هو حجّةٌ شرعيةٌ ودلالةٌ صالحةٌ لإثباتِ الحكمِ (¬1) وهو ضَربٌ من ضروبه، غير أنَ الأصلَ تعليقٌ على شرطٍ، وتعليقٌ على غايةٍ، وتعليقٌ على اسم، والكُل عندنا حجّةٌ معمولٌ به. وعلته من البابِ: أنَّ الشيءَ إذا كان له وصفان فُعلِّق الحكمُ على أحدِ وصفيه مثل النَّعَم؛ منها سائمةٌ وعاملةٌ، فنقول: في سائمة البقرِ زكاة، فيجمع هذا القولُ نصاً ودليلاً، فالنصُّ: وجوبُ الزكاةِ في السائمةِ، والدليلُ: سقوطُ الزكاةِ في المعلوفةِ والعاملةِ، فهذا صورةُ المسألةِ في هذا الضربِ الذي هو تعليقُ الحكمِ على الوصفِ، وبهذا قال صاحبنا رضي الله عنه في عدةِ مواضع، فهذا أشدُّ الناسِ قولا به، وكذلك الشافعيُّ رحمة الله عليه، والأكثرون من أصحابِه، إلا ابنَ سُرَيج (2) والقَفّال (¬2)، فإنهما قالا: ليس بحجةٍ. وكذلك القاضي أبو حامد (¬3) منهم، وهو مذهب أبي الحسن ¬

_ (¬1) ويسمَّى مفهومَ المخالفة، وهو أن يثبت الحكمُ في المسكوتِ، على خلاف ما ثبتَ في المنطوقِ. انظر "العدة" 2/ 448. و"البرهان"1/ 449، و"المستصفى" 2/ 191، و"التمهيد": 2/ 189، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 723، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 489. (¬2) تقدمت ترجمته في الصفحة (44) من الجزء الثاني. (¬3) هو أبوحامد أحمد بن بشر بن عامر المَرْوَرُّذِي، شيخُ الشافعية أخذَ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، تولى قضاء البصرة، وعنه أخذ فقهاؤها توفي سنة (362 هـ). انظر "طبقات السبكي" 3/ 12، "طبقات الفقهاء" للشيرازي: 114، "سير أعلام النبلاء" 16/ 166.

- فصل في جمع دلائلنا

الأشعري، وأبي بكر الباقلاني وأكثرِ المعتزلة، وإلى ذلك ذهب أبو الحسن التميمي (¬1) من أصحابنا، وهو مذهب مالك وكثير من أصحابه، وقول داود أيضاً، وأما أصحابُ أبي حنيفة فقالوا: ليس بحجةٍ (¬2)، ثم اختلفوا إذا عُلق الحكمُ بشروطٍ، فقال الجُرجاني: لا يدلُّ على أنَ ما عداه بخلافِه. وقال غيرُه: يدل على أنَ ما عداه بخلافِه. وقال قومٌ منهم: إن عُلِّق على غايةٍ دل على أن ما بعدَ الغاية بخلافِ ما قبلَها، نحو قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، وقداختلف أصحابُ الشافعي في تعليقه على الاسم، هل يدُلّ على أنَ ما عداه بخلافه؟ على مذهبين (¬3). فصل في جمع دلائلنا فمنها: أنَّ هذا هو الموضوعُ المستفيضُ المعروفُ من لغة العربِ، وقد رواه أبو عُبَيد (¬4) والشافعي. فأما أبو عبيد؛ فانه ذكر ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليُّ الواجدِ يُحل ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته في الصفحة (26) من الجز الأول. (¬2) انظر "تيسير التحرير" 1/ 99، "أصول السرخسي"1/ 255. (¬3) والراجح المعتمد عند الشافعية أنَه لا مفهوم لفَقب، وممَّن قال بمفهوم الفَقب من الشافعية أبوبكر الدقاق، وتبعه في ذلك بعض الشافعية، انظر"البرهان" 1/ 453، "البحر المحيط" 4/ 24، "حاشية العطار على جمع الجوامع" 1/ 333. (¬4) أبوعُبيد القاسم بن سَلآَم بن عبد الله، أخذ العلمَ عن شريك بن عبد الله وسفيان بن عيينه، وله تصانيف في اللغةِ والحديثِ والقراءات والفقه؛ منها "الغريب المصنف" في علم اللسان، "والناسخ والمنسوخ" و "الأموال" وكتاب "فضائل القرآن" توفي بمكة سنة (224 هـ) انظر "تاريخ بغداد" 12/ 453 - 416، "وفيات الأعيان" 4/ 60 - 63 "شذرات الذهب" 2/ 54، 55 "سير أعلام النبلاء" 10/ 490.

عِرضَه وعُقوبَتَه" (¬1)، والواجِد هو الغني، وليه: مَطْلُهُ، وهو بعينه في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "مَطْلُ الغَني ظُلم" (¬2)، قال أبو عبيد: أراد أن مَنْ ليس بواجدٍ لا يَحلُّ ذلك منه. وقال غيره: وعرضُه يَحِل بالمطالبة، وعقوبتُه بالحَبْس، ومَطل غير الغنيَّ ليس بظلم. وقال أيضاً في قوله عليه الصلاة والسلام: "لأنْ يمتلىء جوفُ أحدِكم قَيحاً خيرٌ له من أن يَمتلىءَ شِعراً" (¬3)؛ وقد قيلَ له: إنما أرادَ بهِ الهجاءَ من الشعرِ وسب الناس أو ما هُجيَ بهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم. فقال: لو كانَ ذلك هو المرادَ، لكان لا معنى لتعليقِ ذلك بالكثرةِ، وتعليق التحذيرِ منه والنهيِ عنه بامتلاءِ الجوف منه؛ لأنَّ قليلَ الهجاءِ ككثيره، يعني بذلكَ أن ما دون ملءِ الجوفِ لا يتعلّق الذّمُ به (¬4)، فقد فهم أبو عبيد من تعليقِ الذَم عليه بامتلاءِ الجوف أن ما دون ذلك بخلافِه، وأنَّ قليلَ الهجاءِ وكثيرَه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 4/ 222، 388، 389، وأبوداود (3628)، وابن ماجه (2427)، والنسائي 7/ 316 - 317، وابن حبان (5089)، والطبراني (7249)، والحاكم 4/ 102، والبيهقي 6/ 51، من حديث عمرو بن الشريد بن سويد الثقفي، عن أبيه. واللَّي: هو المطل. والواجد: هو الغني. (¬2) أخرجه أحمد 2/ 260، 463، والبخاري (2287) و (2288) و (2400)، ومسلم (1564)، وأبوداود (3345)، وابن ماجه (2403)، والترمذي (1308)، وابن حبان (5053) و (5090)، والبيهقي 6/ 70. من حديث أبي هريرة، أنَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قال:" مطل الغني ظلم، وإذا أُتْبعَ أحدُكُم على مليءٍ، فليتبع". (¬3) أخرجه أحمد 2/ 288، 355، 391، 480، والبخاري (6155)، ومسلم (2257)، وأبوداود (5009)، وابن ماجه (3759)، والترمذي (2851)، وابن حبان (5777) و (5779) من حديث اْبي هريرة، بلفظ: "لأن يمتلىء جوفُ أحدكم قيحاً حتى يَريَه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً". وقوله: يريَه هو من الوَرْي، وهو داء يفسد الجوف. (¬4) انظر (غريب الحديث) لأبي عبيد 1/ 36 - 37.

غيرُ مراد بهِ، وقول أبي عبيد حجّةٌ في باب اللغة. ومنها: أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم عَقلَ من القرآن ذلك، حيثُ نزلَ قولُ الله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والله لأزيدنَ على السبعين" (¬1)، فعقَل أنَ ما زاد على السبعينَ بخلافها. ومنها: قولُ ابنِ عباس في امتناعِه من حجبِ الام إلى السدسِ، وأنَ ما دون الثلاثِ وأقل الجمعِ لا يحجبُ الأم (¬2)، فعقَلَ أن ما دونَ أقل الجمعِ بخلافِ حكمهِ في الحجبِ به، وخالفَ الصحابةَ في توريثِ الأخت مع البنتِ (¬3)، واحتجَّ بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وهذا استدلالٌ بدليلِ الخطابِ؛ لأنه أخذ من قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أنه إذا كان له، فليسَ للأختِ النصفُ الذي فُرضَ لها، والبنتُ ولد فلم تكن الأخت معها وارثةً، وهذا دليلُ النطق، وقد أخذ به (¬4)، وقال أيضاً: لا ربا إلا في النسيئةِ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 16، والبخاري (1366) و (4671)، والترمذي (3097)، والنسائي 4/ 67 - 68، وابن حبان (3176) بلفظ: "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها". وورد بلفظ: "لأزيدن على السبعين" رواه الطبري 14/ 395 وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 284. وورد بلفظ: "سازيده على السبعين"، أخرجه البخاري (4670) و (4672). (¬2) أخرج هذا الأثر عن ابن عباس: الطبري في التفسير 8/ 40، والبيهقي 6/ 227، والحاكم في المستدرك 4/ 335. (¬3) أخرجه عبد الرزاق 10/ 255، والبيهقي 6/ 233. (¬4) وهذا بخلاف ما قرره جمهور الفقهاء من أن الأختَ مع البنتِ تكون عصبة، لحديث عبد الله ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قضى في ابنة، وابنة ابن، وأخت قال: "لابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت". أخرجه أحمد 1/ 389، 428، 440، 463 - 464، والبخاري (6736) و (6742)، أبوداود (2890)، وابن ماجه (2721)، والترمذي (2093).

"إنما الربا في النسيئة" (¬1)، فأجازَ البيع نقداً ولم يجعل في النقدِ رباً لكونه دليلَ النص على النسيئة، وهو من فصحاء الصحابةِ وترجمانُ القرآن. ومنها: قولُ الأنصار لا غُسلَ بالتقاء الختانين من غير إنزال، واعتمدوا في ذلك قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: "الماءُ من الماء" (¬2) ومعلومٌ أن هذا نص فى غيرِ موضع الخلاف؛ لأن إيجابَ الغسل لأجلِ إنزالِ الماء لم يخالفهم فيه أحد، لكن دليلُ هذا النص: ولا ماءَ من غير ماء، معناه: ولاغُسلَ بالماءِ على من لم ينزل الماءَ، فبه عملِوا، وعليه عوَّلوا. ومنهم من قالَ بوجوبِ الغسلِ مع الإكسالِ من غيرِ إنزالٍ، وأجابَ بأنَّ خبر: "الماءُ من الماءِ" منسوخٌ (¬3)، ومعلومٌ أنهم لم يريدوا نسخَ المنصوصِ؛ لأنَّ "الماء من الماء" متفقٌ على بقاءِ حكمِه، لكن أرادوا بالمنسوخِ دليلَه، فقد بأن أنَّ هذا اتفاقٌ منهم على القولِ بدليلِ الخطابِ، إذ لو لم يقولوا به أغناهم عن ذلكَ كلهِ قولُهم: نحن قائلون بأنَّ الماءَ من الماءِ، ويبقى من التقاءِ الختانين من غيرِ إنزالٍ على مُقتضى ¬

_ (¬1) ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة، فأخرجه بلفظ: "لا ربا إلاّ في النسيئة"، البخاري (2178) و (2179)، والنسائي 7/ 281. وأخرجه بلفظ: "الربا في النسيئة" مسلم (1596)، والبيهقي 5/ 280. ورواه بلفظ: "إنما الربا في النسيئة" ابن ماجه (2257)، والنسائي 7/ 281. والذي ثبت عن ابن عباس رجوعه عن الإفتاء بجواز ربا الفضل، حيث قال: (كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبوسعيد الخدري، وابن عمر أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، فأنا أنهاكم عنه". رواه البيهقي 5/ 281. (¬2) تقدم في الصفحة 36 من الجزء الثاني. (¬3) جاء ذلك في حديث أبى بن كعب أنه قال: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها" أخرجه أحمد 5/ 115 و116، وعبد الرزاق (951) وابن أبي شيبة 1/ 89، وأبوداود (215)، والترمذي (110)، وابن حبان (1173)، والبيهقي 1/ 165.

الأصل، وهو براءةُ الذمّة من إيجابِ الغسلِ. ومنها: قولُ يَعلى بن مُنْيَةَ لعُمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف نَقْصُر وقد أمِنَا؛ وقول عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسالتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صَدقةٌ تصدق اللهُ بها عليكم، فاقبلوا صَدَقته" (¬1) فعقلا من قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، جوازَ قصر الصلاة عند الخوف، وعقلا من دليله وجوبَ إتمامها عند الأمنِ، بخلافِ حكمِ ما تَناوله الشرط. ومنها: ان النبي صلى الله عليه وسلم امتُدح بقوله: "أُوتيتُ جَوامع الكَلِم، واختُصِرت لي الحِكمة اخْتِصاراً" (¬2)، فإذا قال: (في سَائمة الغَنَم الزَّكَاة)، وكانت السائمةُ والمعلوفةُ والعواملُ عنده سواء، كان هذا تطويلاً للكلام لغير فائدة. ومنها: أن نقولَ: معلومٌ أنه لو قال: (في الغنمِ الزكاةُ)، كان الحكمُ هو إيجابَ الزكاةِ عاماً في جميعِ الغنمِ، فإذا قال: (في سائمةِ الغنم)، صارَ مخرجاً بهذا القولِ ما لولاه لكان داخلاً في الحكم، فصار كالتخصيصِ والاستثناءِ. فنقول: نيطَ باللفظِ ما لو اختزل عمَّ، فاقتضى نَفياً وإثباتاً كالمستثنى مع المستثنى منه، والعمومِ مع التخصيصِ، والغاية على من يسلمها ويقولُ: إنَ تعليقَ الحكم بالغاية (¬3) يدُل على مخالفةِ ما بعدها لما قبلها في نفي الحكمِ عنه، وتعليقِ الحكمِ على الشَرطِ على من يسلِّمه منهم على ما حكيناه عن بعضِهم، ويكشفُ هذا بأنّ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الجزء الثاني الصفحة (26). (¬2) أخرجه الدارقطني 4/ 144 - 145 من حديث ابن عباس بلفظ: "أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصاراً" والصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بجوامع الكلم" أخرجه البخاري (2977) و (6998) و (7013) و (7273)، ومسلم (523) وأحمد 2/ 250 و 264، والترمذي (1553)، والنسائي 6/ 3 - 4. (¬3) في الأصل: "الغاية" بدون الباء.

قائلاً لو قال: أعطِ بني تَميم، أو وصَّيت لبني تميم كذا وكذا من مالي. ثم نسق الكلامَ بأن قال: المشايخ. ثم نسق الكلام بأن قال: الشُجعانِ القُراءِ. فإنه لو سكت على الأول لعم العطاءُ والإمضاءُ بما وصَّى به جَميعهم، فلما نسق الكلامَ الأول بصفةٍ بعد صفةٍ خرجَ منهم من ليس بشيخٍ شُجاعٍ قارىءٍ، وبقيَ منهم من اجتمعَ فيه الخصالُ الثلاثُ، كالخصوصِ والاستئناءِ. ومنها: أنه لو قال: يُحرمُ من الرضاعِ خمسُ رضعاتٍ، وطهورُ إناءِ أحدِكم إذا ولغَ الكلبُ فيه أن يَغسلَه سَبعاً. وكانَ ما دون الخمسِ يُحرمُ، وما دون السبعِ يُطَهر خرج أن تكون الخمسُ محرمةً، والسبعُ مُطهرة لإناء إذا صورنا أن الستة تُطهر والأربع تُحرم، جاءت السابعةُ إلى محل طاهرٍ فلم تعمل في تطهيره، وجاءت الرضعةُ الخامسةُ إلى مَحل محرَمٍ، فلم تؤثر فيه تحريما ولا يجوزُ أن يسقط حكمُ دليلِ النطقِ إذا كان مُسقِطاً للمنطوقِ به. ومنها: أنَ العربَ إذا قالت للعبدِ: اشتر لي عبداً أسودَ، وإذا قامَ زيدٌ فاضربه. كان ذلكَ نَهياً للعبدِ عن شراءِ الأبيضِ، وضربِ زيدٍ حالَ قعودِه قبل قيامِه، ولا يعرفُ في لُغتِها أن تُقَيدَ الشراء بالأسود، والأبيضُ والأسودُ عندها سواء ولا تُقَيِّد الضَّرب بالقيامِ، والقُعودُ والقِيامُ عندها سواء؟! فعلى هذا؛ إذا قال اللهُ سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]، كان تقييدُه بالعمدِ مقيداً للحكم بالتقييدِ ونافياً له عما عُدِمَ فيه التقييدُ، وهو صفةُ العَمْدِ، وقوله في المطلقات: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فاقتضى ذلك أن البوائنَ الحواملَ لا نفقةَ عليهن، وعلى هذا لغةُ العربِ لا نَعرفُ سوى ذلك. ومنها: لنفي الحكم عما عدا المشروط قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ

- فصل فيما وجهوه من الأسئلة على جميع أدلتنا

بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فلا يكون لذكرِ الفِسق فائدةٌ إذا لم نعمل بدليلِ اللفظِ، وأنه إذا جاء عدل بنبأ عَملنا به، ولم نتوقف على العملِ بخبر وشَهادتِه، والعربُ على ذلك؛ فإن القائلَ منهم إذا قال لعبدِه: إذا جاءني زيدٌ مُعتذِراً؛ فأكرمه، وإذا جاء عمرو زائراً، فاخْدُمه. كانَ ذلكَ مُوجِباً بصريحِ الشرطِ إكرامَ زيدٍ إذا جاء معتذراً، وخدمة عمروٍ إذا جاء زائراً، ومُسقِطاً عنه الإكرام والخدمةَ مع عدمِ الشرطين اللذين ذكرهما. ومنها: في الدلالةِ على أنَ ما بعدَ الغايةِ مخالف لما قبلها؛ لأنها نهايةُ الحكمِ والسببُ الذي يُنتهى إليه، فلو كان [ما] (¬1) بعدَ الغاية كما قبلها؛ لخرجت عن أن تكون غاية، ولهذا لا يحسُن أن يقولَ لعبدهِ: اضرب المذنبَ من عبيدي حتى يتوب. وهو يريدُ: واضربه بعدَ أن يتوب. ولهذا لا يحسُنُ أن يصَرِّحَ فيقول: واضربه بعد التوبةِ؛ لأنه يخرجُ ذكرُ الغاية في البيان (¬2) أن يكون مفيداً، ويصح أيضاً أن يقولَ القائلُ لغيره: لا أعطيك شيئاً من مالي حتى تتوبَ، وإذا تبتَ فلا اعطيك شيئاً حتى تَخرجَ عن حيز ما يَتخاطب به الناسُ إلى الَّلغوِ والعَبث. فصل فيماوجَّهوه من الأسئلةِ على جميع أدلّتنا فمنها: أنَّ دعواكم أن ذلك لغةُ العرب، فليس يثبت بما ذكرتموه عن أبي عُبيدٍ والشافعي؛ لأنهما لم يرويا ذلك عن العَرب، بل، قالاه برأيهما وظنهما، وقد يظنان ذلكَ وتكون اللغةُ بخلافِ ما ظنَاه من العربِ ومن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليسا معصومَين، ولو رَوياه فليس في وُسعهما روايته عن جميع العرب، بل عمَّن وقع لهما، ولو كان لغةً موضوعةً لاتنقل إلينا تواتراً لا يحصُلُ معه خلاف، فكلامهما يَدُل على أنهما قالاه ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها المعنى. (¬2) في الأصل: "البين"،.

اجتهاداً؛ لأنهما قالا: لو كان العادمُ كالواجدِ، لم يكن لتقييده بالواجدِ معنىً. قالوا: على أنَّ ما ذكرناه يقابلُه ما رُويَ عن الأخفش (¬1) أنه قالَ: قولُ القائلِ: ما جاءني غير زَيد. لا يدُل على مجيء زيد، بل يَدُلّ على نفي مجيء غيره، دونَ إثبات مجيئه. فيقال: أبو عبيد ذكرَ ذلك في كتب اللغةِ، ولم يذكره في كتب الأحكامِ، وليسَ في اللغةِ اجتهادٌ، إنما هي نقل، وقولُ الأخفشِ لا يقابِلُ قولَ أبي عُبيد؛ لأنَّ الأخفشَ نحويٌ، ولم يكن من المبرزين في اللغة، وأبو عُبيد إمامٌ في اللغة، وله "غريبُ المصنف" وغيرُه من كتب اللغة. ومنها: أن قالوا: الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأزيدنّ على السبعين (¬2) "، فإنه من أخبارِ الآحادِ التي لا يثبتُ بمثلها هذا الأصلُ؛ ولأنه يبعد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودِقةِ فهمِه أن يسمعَ اللهَ سبحانه يبعدُه ويُؤيسه من المغفرة للمنافقين بقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، ثم يقول: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، ويقصد أنَّ التكثير من الاستغفار لا يَنفع ولا يُسمع، فيلج ويُلحُ حتى يقول: لأزيدنّ، هذا يخرج مجرى العنادِ الذي لا يليق به ديناً ولاخُلقاً. على أنه لو زاد لكانت زيادتُه استصلاحاً للمنافقين الأحياءِ بالاجتهاد في الشفاعةِ من أقاربهم، ويجوزُ أن يقصدَ الاستصلاح بنوعٍ من الإلحاحِ في السؤال لا لأجل أنه عَقَل من ذلك النطقَ، إذ الزيادةُ على السبعين قد تنفعُ وتستجابُ. قالوا: وقد قال عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو علمتُ إذا زدتُ على ¬

_ (¬1) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي، أبوالحسن الأخفش الأوسط، النحوي اللغوي، أخذ العربية عن سيبويه، وصنف كتاب "الاشتقاق" و"معاني الشعر" وغيرهما، توفي سنة (215 هـ). "سير أعلام النبلاء" 10/ 256، "إنباه الرواة" 2/ 36. (¬2) تقدم في الصفحة 269.

السبعينَ أن يَغفِرَ اللهُ لهم لزدتُ" (1) فبطل أن يكون تعلق بالدليلِ، وإنما علق ذلك بوجودِ طريق يعلم به أن الزيادةَ على السبعينَ تنفعهم، فيقال: إن هذا ذكره يحيى بن سلام في تفسيرِه المعروف عن قتادة قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد خَيرَني ربي" فوالله لأزيدهم على السبعين، وفي لفظٍ آخر: "ولأستغفرن لهم" (¬1)، فأنزل الله عز وجل في سورة المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، وكونُه من أخبارِ الاَحادِ لا يمنعُ ثبوتَ الأصلِ به؛ لأنه ينحطُّ عن الأصولِ القطعيةِ إلى كونه من مسائلِ الاجتهاد. وأما قولُهم: إنه لا يُظن بالنبي ذلك. فهذا رد للأخبار بالاستدلال، ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ السُنَنَ تأتي بالعجائب، وهي من أكبر الدلائل لإثبات الأحكامِ. والمحققونَ من العلماءِ يمنعون رد الأخبارِ بالاستدلال كما روى أصحابُ أبي حنيفة خبرَ القَهقهةِ، وأنَ ضريراً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في زُبيةٍ (¬2)، فضحكَ قومٌ في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم: "مَنْ ضَحكَ قَرقَرةً فليُعد الوضوءَ والصلاةَ" (¬3). فقيل لهم: هذا الخبرُ بعيدٌ عن الصحة؛ لأنَّ أصحابَ رسول الله موصوفون بالرأفةِ والرحمةِ والعدالةِ، فيكف يضحكون في مسجدِ الرسولِ في الصلاةِ معه من أعمى يوجبُ سقوطُه الرحمةَ والرقةَ دون الضحك؟! فقال المحققون: الخبر مرويٌ، فلا يُردُّ بالاستدلالِ، واستدلوا في ذلك بأنَّ بيِّنةً لو شهدت على رجلٍ صالحٍ معروفٍ بالخيرِ بعيدٍ من الشَّر بأنه أتلفَ مالَ إنسان أو غصَبه، لم يَجُزْ أن تُرَّد شهادتُهم بالاستبعاد لها، لمكان صلاحِ المشهودِ عليه وديانته، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة 269. (¬2) الزبية: هي الحفرة. "النهاية" لابن الأثير 2/ 295. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثاني، الصفحة: 103.

وكذلك لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم:13] النبيُ صلى الله عليه وسلم رأى ربّه بعين رأسه مرّتين (¬1)، فقالت عائشةُ: لقد قَف (¬2) شعري مما قال ابن عباس، والله تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (¬3) [الأنعام: 103]، فردّت خبرَ ابن عباس بالاستدلال، فلم يعوِّل أهلُ التحقيقِ على ردها ذلك، لأنه سمع ما لم تَسمع، وروى ما لم تعلم، فوجب قبولُ روايته دون الاستدلالِ عليه، على أنَ الغُفران لهم ليس بمحالٍ في العقلِ، بل يجوزُ ذلك، ولو أراد الله أن يَغفِرَ لهم بشفاعتِه وبغيرِ شفاعتِه لفَعَل، كما قبل شفاعَته في تأخير العذابِ عنهم مع كفرهم، وأزال عنهم ما كان من عذاب الأممِ قبلهم، وكما قَبل شفاعتَه بالإذن في زيارةِ أمّه، ومنعه من الاستغفار لها (¬4)، وقوله: "لأزيدنّ"، ليس على طريق العِناد والإلحاح، لكن لما جوز أن تكون الزيادةُ مقبولةً، أقدم عليها طمَعاً في إجابته. والذي يوضِّح أن اللفظ لم يقصد به الإياس: أنه أنزل بعد ذلك في سورة ¬

_ (¬1) الذي صحَ عن ابن عباس أنه قال: "قد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه". أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص (200)، والترمذي (3280)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (442)، (443)، والطبراني في "الكبير" (10727)، وابن حبان (57). وصحَّ عنه أنه قال: "رآه بفؤاده" أخرجه مسلم (176)، والترمذي (3275)، و (3276)، و (3277). (¬2) في الأصل: "وقف". ويقال: قَف شعره، إذا قام فزعاً."اللسان": (قف). (¬3) أخرجه أحمد 6/ 49،50، والبخاري (4612) و (4855) و (7380)، ومسلم (177)، والترمذي (3278) وابن حبان (60). (¬4) ولقد جمع الإمام ابن حجر بين قول ابن عباس وبين قول عائشة رضي الله عنهما بأن يُحملَ إثباتُ ابن عباس على رؤية القلب، ويحُمل نفي عائشة على رؤية البصر انظر "الفتح" 8/ 608. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استأذنت ربي أن أستغفر لأمَّي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي". أخرجه مسلم (976)، وأبوداود (3234)، وابن ماجه (1572)، والترمذي (1054)، والنسائي 4/ 90.

المنافقين قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، فدلّ على أن الإياس لم يتقدّم، وأن السبعين أبقت مكاناً للرجاء، فلما سلك الشفاعة بمقتضى الرجاءِ أنزلَ ما أوجب الإياس، رافعاَ لحكم الأوّل. ومنها: أن قالوا: أما الصحابةُ رضوان الله عليهم لم يرجعوا إلى دليلِ الخطابِ، لكن أخذوا في إيجاب الغسل، وإرثِ الأختِ مع عدم البنت، والمنعِ من بيعِ النسيئة، وقصرِ الصلاة، وكان عملهم في ذلك بالخطاب، ثم إنهم عوَّلوا فيما ليس فيه نطقٌ بدليلٍ غير دليل الخطاب، وهو استصحابُ حالِ الأصلِ وأن لا غُسلَ ولا وارثَ ولا ربا ولا قصرَ إلا بدليلٍ يوجبُ ذلك، وهذا أحدُ الأدلة، لكنه دليلٌ يفزع إليه المجتهد عند عدم الأدلّة. فيقالُ: إنَ القومَ ما تعلقوا في ذلكَ إلا بالنطق فيما نُصَّ فيه على الحكمِ، وبدليلِ خطابِه، ولا أحدٌ منهم عوَّل على استصحابِ حكم البراءة، ألا ترى أن يَعلى بن مُنْيةَ قال لعمر فما بالُنا نَقصرُ وقد أمنّا، والله تعالى يقول: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، فذكرَ الأمنَ والخوفَ، فالخوفُ تعلُّقٌ بالشرط، والأمنُ تعلق بدليلِ النطقِ لعدمِ القصدِ. وقالوا في قوله: "الماءُ مِنَ الماء" (¬1) رخصةٌ ونسخ، وإنَما أرادوا دليلَ خطابِه؛ لأنَّ النطقَ [ليس] (¬2) بمنسوخ باجماعِ، ولو أرادوا البقاءَ على الأصلِ لما ذكروه بالنسخ؛ لأنَّ النسخَ ضدُّ البقاء؛ لأنَّ البقاءَ على حكمِ الأصلِ تمسُّك بثابت، والنسخُ رفعٌ، فدل على أن التعلق كان منهم بدليل الخطابِ دون استصحابِ الحالِ؛ لأنه لم يُذكر منهم الأصلُ ولاعُوَّل عليه. ومنها: أن قالوا: هذا قولُ آحادِ منهم، ويجوزُ أن يكونَ قالوه باجتهادِهم، فلا يكون حجةَ على من خالفهم، ولأنَ تعلُّق ابن عباس بنفيِ الربا في النقدِ كان بأمرٍ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في 2/ 36. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

يخرجُ (¬1) عن دليل الخطاب (¬2)؛ لأنَّ اللفظَ المرويَ على وجهين يقتضيان النفيَ والإثباتَ، لأنه قال: إنما. وإنما للحصر، والحصرُ إثبات ونفي، كقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النساء: 171]، "إنما الولاءُ لمن أعتق" (¬3)، {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36]،وفي لفظ آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الا ربا إلا في النَّسيئة" (¬4) فيكون تعلقُ ابنِ عباس بهذا دون دليل الخطاب. فيقال: إن المحَتجَّ والمحَتجَّ عليهم جَمٌّ غفير وخلق كبير، وجرى بينهم في ذلك ما لو كان أمراً خارجاً عن اللغةِ لردّه السامعُ، ولما تعلَّق به المستدلُّ، وهم في اللغة مشتركون، وهي نقل لا مدخلَ للاجتهاد فيها. وإنما الاجتهاد في الأحكامِ، ولم نتعلّق نحنُ بمذاهبهم لكن باحتجاجهم. وأمَّا (إنما) فهي للإثباتِ، والنفيُ مأخوذٌ من قبل الدليلِ لا الصيغةِ، والروايةُ التي تتضمّنُ الاستثناءَ. وقوله: "لا ربا إلا في النسيئة" غيرُ معروفٍ في أصل، ولعل الراوي ظنَّ، أو حمل (إنما) على ذلك، فرواه بالمعنى (¬5). ومنها: أن قالوا: إنَّ قوله: اشترِ لي عبداً أسود، واضرب زيداً إذا أذنب. أن المعقولَ من ذلك إيقافُ الفعل على الشرط، وهو السوادُ في العبد، والذنبُ للضرب، فأمَّا نفيه، فإنه لم يكن للمخالفةِ بين السوادِ والبياضِ، والذنبِ والتوبةِ من جهة اللفظ، غير أنَّ شراءَ العبدِ الأبيضِ، وضربَ المذنبِ بعد التوبةِ بقيَ على حكمِ ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل. (¬2) انظر ماتقدم في الصفحة: 115. (¬3) أخرجه أحمد 6/ 42، 175، والبخاري (1493) و (5284)، و (6717) و (6751)، والنسائي 5/ 107 - 108. (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة: 270. (¬5) انظر ما تقدم في الصفحة 270 من بيان اختلاف روايات حديث ابن عباس.

الأصلِ، وأنه لا يجوزُ الشراءُ مع عدمِ الإذنِ، ولا الضربُ مع عدمِ الأمرِ بهِ، وإن حَسُنَ العتبُ؛ فإنما حَسُنَ على الضربِ بغيرِ أمرٍ، وشراء الأبيضِ بغيرِ إذنٍ، لا لأنه خالفَ مقتضى اللفظِ ودليلَه. فيقال: إنَ كونَ الأصل صالحاً للتمسّك به والتعويلِ عليه لا يمنع كونَ دليلِ النطقِ عاملاً غير معطَل، كما أنَ فحوى الخطاب عاملٌ في منعِ الضربِ والشتمِ للوالدين في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23]، وإن كان الأصلُ في إيجابِ شكر الوالدِ وكلِّ منعمٍ كافياً وصالحاً، ولم يُعطِّل فحوى خطابه في منع التأفيف. وكذلكَ نصُّ الشرع على الأعيانِ في تحريمِ التفاضلِ، يصلُح قصرُ الحكمِ عليها دون التعليل، كما قال أهل الظاهر (¬1)، لكنَّا لم نعطلها على استنباطِ التعليل حتى عَدَّينا الحكمَ إلى أمثالهِا، وكُل مشاركٍ لها فيما يلوحُ لنا أنه علّية حُكم، كما يحسنُ أن يعاتبَ العبدَ إذا اشترى الأبيضَ، وإذا ضربَ بعد التوبة، ويَجعل علّية عَتبه عَدم إذنه له. يحسنُ أيضاً أن يقول له: لو كانَ الأبيضُ عندي والأسودُ سواءً، لما خصصتُ الأمرَ بالأسودِ، ولولا أني أكره شراءَ الأبيضِ، لما قيدتُ أمري بشراء الأسودِ، ولو كان التائبُ عندي كالمذنبِ، لما قيدتُ الضربَ بالذنب، والتعلُّقُ باستصحابِ الأصلِ تعطيل لدليلِ النطق مع إمكانِ إعماله. كما أنَّ حرف (إلا) في بابِ الاستثناءِ قد يجيء بمعنى الواو العاطفةِ، وإذا أطلق لا يخرجُ عن إعمالِه في إخراجِ بعضِ الجملةِ المستثنى منها، وكذلكَ العمومُ قد يجيءُ بمعنى الخصوص، ويُحملُ على عمومِه باطلاقِه. كذلك دليلُ الخطابِ، وهو ظاهر من لغتهم، فلا يُعدل عنه إلى البقاءِ على حكمِ الأصل. ومنها: أن قالوا: المستثنى والمستثنى منه يشتملُ على لفظين، إثبات، وهو قوله: عشرة، ونفي، وهو قوله: إلا درهمان. وكذلك التخصيصُ، قوله: اقتلوا المشركين، ¬

_ (¬1) انظر" الإحكام" لابن حزم 7/ 185.

وهذا لفظُ إثباتِ الحكمِ، وهو القتلُ، وقوله: لا تقتلوا أهل الكتابِ، لفظُ تخصيص، وكلاهما قد جمعَ النفيَ والإثباتَ. فأمَّا في مسألتنا؛ فأنه لم يوجد منه إلا قوله: "في سائمةِ الغنمِ الزكاةُ" (¬1)، ولم يتعرض لنفي الزكاةِ عن المعلوفةِ ولا العاملةِ، فأين هذا من التخصيص والاستثناءِ؟ فيقال: لا فرقَ بين التخصيص بهذا الإثبات، وبين التخصيصِ بالفاظِ النفيِ، وذلك أنه إذا قال: اقتل المشركين. عمَّ كل مشرك، فاذا قال: وتجنب قتلَ أهلِ الكتابِ، وكُف عمن له شبهةُ الكتابِ. فمنه يخرج من العمومِ من يقيد بوصفِ الكتابِ وشبهةِ الكتابِ، بصريحِ النهيِ عن قتلهم القاضي على عمومِ أهلِ الشرك. وفي مسألتنا إذا قال: الزكاةُ في الغنم والبقر. عم الكُل، فاذا قال: السائمة، خرجت المعلوفة، وإذا قال: وصيتُ بثلثي لبني تميم، عمَّ جميعَهم بالوصية بثلثِه، فإذا قال عقيب ذلك: المشايخِ القُرّاء الشجعانِ تَمحقَ (¬2) بكل وصف ذكره ذلك العمومٍ، حتى بقي أوصياؤه (¬3) هم الجامعون للشيخوخةِ والشجاعةِ والقراءةِ، فكلما زادَ وصفا، أخرجَ قوماَ منهم، حتى صار كأنه قال: إلا الأميينَ الجبناءَ الشبابَ. فهما في المعنى سواء، وإن اختلفا في الصيغةِ، فحرفُ إلا للإخراج، وتقييدُه بالوصفِ أو الشَّرط أو الغاية للإخراجِ المندرجِ في الإثباتِ. وليس من حيثُ لم يأتِ بحرفِ الإخراج، لا يعمل التقييدُ بالصفاتِ والشروطِ والغايات عملَ لفظِ الإخراج، كما أنَ فحوى الخطاب إنما هي عن التأفيفِ، ولم يتعرض للضربِ والشتم نطقاً، لكنه عُقِلَ من نهيه عن الأدنى نهيُهُ عن الأعلى، كذلك يُعقل من تقييدهِ بالشَوم في باب الزكاة، وتقييد السيدِ من العربِ إذا أمر عبده ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: 37. (¬2) اى: بطل وذهب (¬3) تحرفت في الأصل إلى: "صبيانه".

- فصل جامع لشبههم

بشراء الخبزِ بالسميذِ، والتمر بالجيدِ، واللحم بالطري، نفيُ الزكاة عن العواملِ والمعلوفة، ونهيُ العبدِ عن شراء الخبزِ الخُشار (¬1)، والتمرِ الرديء، واللحمِ البائت. وكذلك نهيُه عن قَضاء القاضي وهو غضبان ليس فيه ذكرُ الجوعِ والعطشِ والحزنِ والهم، ولا في الأعيان المنهيَّ عن التفاضل فيها ذكرُ الأرز والذُّرَةِ والعَدَسِ، لكن لما عُقِلَ منه الحكمُ مع شغلِ القلبِ المانعِ من إعطاءِ الحكمِ حقه من الاجتهادِ، والطُعمُ في الأعيانِ أو القوت أو المكيل عُدَّيَ الحكمُ إلى ما شاركَ المنطوقَ في المعنى المعقولِ، وكذلكَ العاقلُ المكلفُ لا يقيد التَمر بالجودةِ، والخبزَ بالنقاءِ، واللحمَ بالطراوة إلا وله رغبةٌ في تلكَ الأوصافِ، ورغبةٌ عن أضدادها، وكراهةٌ لما خالفها. ومنها: أن قالوا: المستثنى والمستثنى منه جملةٌ واحدةٌ، كالابتداءِ والخبرِ بقولهم: عشرةٌ إلا درهمان. أحدُ اسمي الثمانية، فهو كقولهِ: زيْدٌ قائمٌ، وعمروٌ منطلقٌ. فأما في مسألتِنا، فمن قوله: "في سائمة الغنمِ زكاةٌ" (¬2)، ليس هو مع تقدير وليس في العواملِ زكاةٌ جملةً، ولا ثَبتَ ذلك في اللغةِ، فيقالُ: بل دليلُ النطقِ مع النطقِ كالجملة، فلما قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، كان من فحوى اللفظ: فضربه، فانفلق، وكذلك قولُه: اشترِ تمراً جيداً، وخبزاً سميذاً، (3 كان ذلك مع تقدير نهيه 3) عن الرديء كالجملة الواحدة، فالنطقُ مع دليلهِ كالابتداءِ مع خبره، والتنبيهِ مع المنبَّه عليه، ولا فرق بينهما عندنا. فصل جامعٌ لِشُبَههم فمنها: أنه لو كان للخطابِ والنطقِ دليلٌ في الشرعِ لما جاز أن ينخرم، فيوجدُ دليل الله سبحانه عارياَ من مدلوله، فلما تعطَل خطابُ كثيرٍ من خطابِ الشرع عن ¬

_ (¬1) في الأصل الخشكار ولعل المثبت هو الصواب، والخشار الرديء من كل شيء. "اللسان" (خشر). (¬2) تقدم تخريجه في الجز الأول، الصفحة: 37. (3 - 3) في الأصل: "كان مع ذلك كان مع تقدير نهيه"، ولعل المثبت هو الصواب.

مدلول ما ادعيتموه دليلاً، بطلَ كونُه دليلاً على (¬1) الحكم، ومعلوم أنَ من تتبعَ آيات الكتابِ العزيزِ وجَدَ كثيراً من ذلك معطلاً عن الحكم، مثل قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، وقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، فهذه النواهي كلُها منعت ما يتناوله النطقُ، ولم ينتفِ الحكمُ بانتفائها، فلا يجوز قتلُ الأولادِ لا لخشية الإملاقِ، ولا أكلُ الربا اليسير ولا أكلُ مال اليتيم لا على وجه الإسرافِ، فبطل الاعتمادُ على دليلِ النطق، إذ لوكان دليلاً على أحكامِ الشرعِ لما وُجِدَ متعطلاً عن مدلوله. فيقالُ: إنه إنما خرجَ الدليلُ ها هنا عن إيجابِ حكمهِ لما قامَ من الأدلةِ (¬2) على تعطيلهِ، فصارَ النهيُ عن إكراهِ الإماءِ على الزنى، والإذنُ لهُن في الزنى، وإهمالُ أمرهنَّ، وتركُ نَهيهنَّ عن الزنى سواء في التحريمِ، لمكان الإجماعِ كالمنطوق. وليسَ إذا خرج دليلُ الخطابِ عن العملِ به، وتعطَّل عن مدلوله بدلائلَ أخرجته عن ذلكَ يُمنعُ من كونه دليلاً مع عدمِ قيام الأدلّةِ على إخراجهِ عن كونه دليلاً، كما أنَّ العمومَ والظاهرَ معمول بهما ما لم تقم دلالة تصرفُ العمومَ إلى الخصوصِ، والظاهرَ إلى غير الظاهرِ، فإذا قامت الدلالةُ خرجَ عمَّا وُضِعَ له، ودلَّ عليه، فكان حكمُه مع الإطلاقِ العملَ به والمصيرَ إليه. ومنها: قولُهم: لو كان تقييدُه بالصفةِ والشرطِ يقتضى المغايرةَ، وأنَ قوله: "في سائمة الغنمِ زكاةٌ"، بمعنى: وليس في معلوفها زكاة، لما حَسُنَ أن يجمع بينهما أعني: بين ما أوجَبه الدليلُ وبين ما أوجبه النطقُ، كما لم يحسُن الجمعُ بين ما أوجَبهُ النطقُ في ¬

_ (¬1) في الأصل: "دليلاً أنه على" ولا تستقيم العبارة بها. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "لا دلالة"

الفحوى وبين ما نبه عليه، وهو أن يقولَ: لا تقل لهما أف، واشتمهما، واضربهما، ولما حسُن ها هنا أن يقول: في سائمة الغنم ومعلوفتها زكاة، وفي سائمةِ البقرِ وعواملِها زكاة، دل على أنَ إثباتَ الزكاةِ في السائمةِ ما اقتضت نفيَها عن العوامِل والمعلوفةِ، ولا المخالفةَ بين حكمِها. فيقالُ: إنَ دليلَ الخطابِ يدُل على المخالفةِ من طريقِ الظاهرِ لا الصريحِ، كالعمومِ يدلّ على الاستغراق، والأمرُ المطلق يَدُلّ على الندبِ عندهم أو الوجوبِ، على اختلافٍ بينهم من طريق الظاهر ولو قام الدليلُ على تخصيص العموم وكونِ الأمر على خلافِ ما وُضِعَ له واقتضاهُ في الظاهر لَصَح وجاز كذلك ها هنا. على أنه يبطل بتعليقِ الحكمِ على الغايةِ عند من سلَّمَها، فإنَّه يحسُن أن يقولَ: ثم أتمّوا الصيامَ إلى الليل إلى الفجر ثم لم يدل ذلكَ على أنَ الغايةَ إذا أُطلقت لا تقتضي أنَ ما قبلها مخالفٌ لما بعدها. ومنها: قولهم: إنَ إثباتكم الحكمَ بدليلِ الخطابِ لا يخلو أن يكونَ بالعقل، ولا مجالَ له في هذا؛ لأنه وضع واصطلاح من جهةِ العربِ، والأوضاعُ والاصطلاحيةُ لا مجالَ للعقلِ فيها، كالنقودِ المصطلَحِ على التعاملِ بها، فكذلك الخطابُ بالأقوالِ المصطلحِ على التخاطبِ بها، أو يكونَ إثباتكم له بالنقل، فالنقلُ تواتر وآحاد، ولو كان تواتراً (¬1) لعلمناه كما علمتم؛ لأنه يوجبُ العلمِ الضروري الذي لا يقعُ فيه الخلافُ ولا يسوغُ، كاصطلاحِ القومِ المنقولِ إلينا من طريقِ التواترِ من سائرِ الصيغِ الموضوعةِ للتخاطبِ استدعاءً للأفعالِ ونهياً عنها، وألفاظِ الذم والمدحِ والخبرِ والنداءِ والتراخي وسائِر موضوعاتهم، ولما (¬2) وقَع الخلافُ في هذا؛ عُلمَ أنه ليس بمتواترِ ولا معلومِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تواتر". (¬2) في الأصل: "كما"، والمثبت أنسب لاستقامة المعنى.

ولئن كان من طريقٍ الآحادِ؛ فليس ذلك صالحاً لإثباتِ الأصولِ، لكونِ الآحاد توجبُ الظنَّ، فلا تثبتُ بها إلا الأحكامُ في مسائلِ الفروعِ خاصةً. فيقالُ: بل أثبتناه بما رويناه عن ساداتِ الصحابةِ وأهل اللغة، وليس بتواترِ قطعي، ولا هذه الأصولُ قطعيةٌ، بل هي مسائلُ اجتهادية يسوغُ فيها الخلافُ، ولذلك لم يُفَسق المخالفُ فيها، ولا يُكَفر، وإنما يُخَطَّأ كما يُخَطأ في الفروعِ. على أنه يقلَبُ عليكم، فيقالُ في جميع هذهِ المسائل: كيف ذهبتم إليها وليس طريقُها العقل ولا نقْلُها تواتر؟ إذ لو كان تواتراً لما وقعَ الخلافُ، فكل جوابٍ لكم، وكُلُّ مخالف لنا فيها هو جوابُنا، وليس إلا ظواهرُ الاستعمالِ بالنقلِ الذي ظاهرُه الصحةُ والسلامةُ، وجماعةُ العُلماء يقبلونَ في أصولِ اللغةِ روايةَ الواحدِ، كالأصمعي (¬1)، والخليل (¬2)، وأبي زيد (¬3)، وأبي عبيدة (¬4) وأمثالِهم، ولا يُستقصى في النقلِ إلى الحدّ الموجبِ للقطع. ومنها: أن قالوا: لو كان تعليقُ الحكمِ على الصفةِ موجباً لنفيه عما عداها، لوجَب أن لا يحسُنَ الاستفهامُ، فلما حَسُنَ استفهامُ من قيل له: إذا قتلت الصيدَ عمداً فعليكَ الجزاءُ، وإذا كانت لك غنمٌ سائمة فعليك الزكاةُ في الأربعينَ منها، ولا تَقْتل ¬

_ (¬1) هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، أبوسعيد البصري الأصمعي، اللغوي الإخباري، صنف "غريب القراَن"، و"الأمثال" و"المقصور والممدود" وغيرها، توفي سنة 216 هـ. "سيرأعلام النبلاء" 10/ 175، "بغية الوعاة"2/ 112. (¬2) تقدمت ترجمته في الجزء الأول، الصفحة: 270. (¬3) هو أبوزيد سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير كان حجة في اللغة، حتى قال فيه بعض العلماء: إنه يحفظ ثلثي اللغة. مات سنة (215 هـ). "تاريخ بغداد" 9/ 77. "سير أعلام النبلاء" 9/ 494. (¬4) هو أبوعبيدة مَعْمَر بن المثُئى البصري النحوي، كان من بحور العلم في العربية، صنَف ما يقارب مائتى مصنف، منها:" مجاز القراَن" و" غريب الحديث" و" مقتل عثمان" ولد سنة (110 هـ) وتوفي سنة (209 هـ). "إنباه الرواة" 3/ 276، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 445.

ولدَكَ خشيةَ إملاقٍ. بأن يقول: بأن قتلته خطأً؟ وإنْ كانت أغنامي معلوفةً؟ وإن قتلتُ ولدي مَلَلاً للأولادِ لا خوفَ الإملاق؟ علمَ أنه ليس التعليقُ للحكمِ على الصفةِ غيرَ موجبٍ نفيَه عما ليس فيه تلك الصفة، فإنَّ الموضوعاتِ لا يحسُن فيها الاستفهامُ، ألا ترى أن الفحوى لا يحسنُ فيه ذلك لما كان موضوعاً، فلو قيل له: لا تَقُلْ لأبيكَ أف. فقال: أفأضربه وأشْتمه؟ أو قِيلَ له: لا تاخذ من مالِ فلان ذَرَّةً. فقال: فهل آخذُ مالَه كُلَّه؟ لم يُعدَّ (¬1) هذا مُستفهِماً بلغة العرب ولا عارفاً بها، فيقال له: حسن الاستفهام إنما لكونه طلباً للأوضحِ والأجلى، حتى إنهم ما استقبحوا استفهامَ من قال: دخلَ السلطانُ البلد، هل دخل بنفسِه أم عسكره؟ واستفهامَ من قال: رأيتُ السَبُعَ في هذا الطريقِ، أرأيتَ الأسدَ نفسَه أم أثَره؟ كلُّ ذلك لدخولِ المجاز والاستعارةِ، وإن كانَ الأصلُ الحقيقةَ، وها هنا قد يدخلُ التقييدُ بأحدِ وصفيِ الشيءِ ليدلَّ على المخالفةِ، ويجوزُ أن يكونَ قد خصَّ أحدَ وصفيهِ بالحكمِ للشرفِ والفضيلةِ لحُسنِ الاستفهامِ ليزولَ هذا الاحتمالُ ويخالفَ نفسَ النطق الذي هو قوله: "في سائمةِ الغنمِ زكاةٌ" (¬2)، إذ لا تردَّد ولا احتمالَ فيه. ولسنا نقولُ: إنَ دليلَ الخطاب في رتبةِ النصوصِ والأوضاعِ الجليّة. وليس رتبةُ دليلِ الخطابِ بأدنى من معنى الخطابِ؛ لأنَّ جمهور العلماء يسقطونه بمعنى الخطاب إلا ما شذَّ من المذاهب. ثم معنى الخطابِ يحسُنُ معه الاستفهامُ، فماذا قال: لا تشرب الخمر؛ لأنه يوقع العداوةَ والبغضاءَ، ولا تَبع الحنطةَ بالحنطة متفاضلاً؛ فإنه طعامٌ. حَسُنَ أن يقولَ: فهل أشربُ النبيذَ؟ وأبيعُ الأرزَّ بالأرز متفاضلاً؟ اولا ينكر أحد استفهامه ذلك، ولا يدلّ ذلكَ على أنَّ المعنى ليس بمعَوَّل عليه ولا يحتجُ به. ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل. (¬2) تقدم في الجزء الأول، الصفحة: 37.

ومنها: أنه لو كان تعليقُ الحكمِ على ذي صفةٍ يَدُلُّ على نَفي الحكمِ عن غير الموصوفِ بها؛ لوجبَ أن يكونَ الخبرُ عنه يدُلُّ على نفي الخبرِ عن غير الموصوفِ بها، حتى لو قال القائل: قامَ السودُ، أو: رَعَت السائمةُ في العُشبِ، ودخل زيدٌ العالمُ، يُوجب نفي القيام عن البيضِ ونفي الرعيِ عن العواملِ، وعدمَ دخولِ غيرِ العالمِ من الأزيادِ، وكذلك الإشارةُ إلى شخص بحكم من الأحكامِ كان يجبُ أن تقتضيىَ الإشارةُ إليه نفيَ الحكمِ عن كل شخصٍ لم تقع الإشارةُ إليه بذلك الحكمِ. ألا ترى أنَّ الاستثناءَ والتخصيصَ لما تعلَّق عليه الحكمُ في الأمرِ والنهيِ تعلق عليه في الخبرِ، فلا فرق بين قولِ القائلِ: اقتل (¬1) المشركين، ولا تقتل أهلَ الكتاب. وبين قوله: قتَلَ المشركين ولم يقتل أهلَ الكتاب. ولابين قوله: ادفع إلى زيدٍ عَشرة إلا درهمين. وبين قولي: دفعت إلى زيد عشرة إلا درهمين. فيقال: كذلكَ نقول في الخبرِ، وفي الاسمِ العلمِ كالاستثناءِ والتخصيصِ سواء، فهذا هو المذهبُ، وكذلكَ إذا أشار إلى الحكمِ إما تزكيةً وإما تضحيةً إلى ماشيةٍ بعينها أو حيوانٍ بعينه دلَّ على نفي التزكية والتضحية عن غيره. على أنَّا لو وسعنا الكلامَ بالتسليم، لكان التمييز (¬2) واضحاً بين الخبرِ عنه وتعليق الحكمِ عليه، وذلكَ أن المخبِرَ ليس من شرطِ إخبارِه أن يكونَ محيطاً بعلمِ من قام ومن لم يقم، ومن زكَّا، ومَن لم يُزك، ومن دخلَ الدارَ، ومن لم يدخل، بل يجوزُ أن يكونَ عالماً بما أخبرَ به فقط، فكذلكَ إذا قال: زَيدٌ قام. لم يُحكم عليه بأنه يتضمّن كلامُه أن عَمْراً لم يقم. و: دخلَ العالمُ. أن الجاهلَ لم يدخل، فأمَّا إذا قالَ: اشترِ لي خبزاً سَميذاً، أو لحما طرياً، ورُطَباُ جنياً وهو يعلمُ أن الخُشْكارَ من الخبزِ، والبائتَ من اللحم والرطب يُباعُ ويُبتاعُ، علمنا أنه تنكَّبَ ذكرَ ذلكَ على بصيرة لكراهتِه له، فصارَ النفيُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اقتلوا". (¬2) في الأصل: "الخبر" ولعل المثبت أولى.

مدرجاً في الإثبات. وعلى أنَ اللغة عندكم لا تثبتُ قياساً، وهذا قياس منكم لدليل النطقِ في الأمرِ والنهي على دليلِ النطق في بابِ الإخبار. ورأيتُ من استبعدَ ممانعةَ الخبرِ في بعضِ مجالسِ النَظر، فقلت له: كثير من الأمورِ في النفوسِ يَتَغطى بفورةِ النَظرِ والعَصبية (¬1) لا يُظهِرُه إلا جِنْسُه، وأنا أعلمُ الآن أنَّ قائلاً لو قال: أصحابُ الشافعي فقهاءُ، أو: فلان إمامٌ فى الفقهِ. وفي الحاضرين أصحابُ أبي حنيفة وغيرُهم، وغير المشارِ إليه بالإمامة في الفقه، عَظمُ ذلك عليهم وعندهم، كأنه قال: وليس غيرهمُ كَهُم في الفقه. ما ذاكَ إلا لأنَّ النفوس قد شعرت بأنَ الأسماءَ والإشاراتِ والصفاتِ في الأخبارِ والأحكامِ إذا نيط بها مَدحٌ أو تعظيمٌ أوخبرٌ يتضمن فَضيلةً كان مقتضياً للمخالفة. ومنها: أن قالوا: إنَ الأسماءَ والصفاتِ إنما وضعت لتمييز المسمَّيات، والخبرُ بأنَّ زيداً قامَ أو أن زيداً عالمٌ، وضعَ للإعلامِ بقيامهِ وقضلِه، فأمَّا أن يكونَ وُضع لنفي الفَضلِ والقيام عن غيرِه فلا، ومُنكِرُ هذا مكابرٌ للغة وأهلِها. فيقالُ: المنعُ لهذا أمر ظاهرٌ لا يمكنُ جحدُه، وذلكَ أنَ الصحابة- رضي الله عنهم- والفقهاءَ بعدَهم عَقَلوا ذلك فيمن خاصمَ رجلاً فقال: ما أنا بزانٍ، ولا أمي -بحمْدِ الله- زانيةٌ. فقومٌ قالوا: رجلٌ مدحَ نفسَه وأمَّه، ومنهم من قال: هو قاذفٌ لمخاصمهِ (¬2). وهو ¬

_ (¬1) مكررة في الأصل. (¬2) وممَا وردَ في ذلك، أنَ رجلين استثا في عهدِ عمرَ -رضي الله عنه- فقال أحدُهما: ما أُمي بزانية، وما أبى بزانٍ، فشاورَ عمرُ القومَ، فقالوا: مدحَ أباه وأُمه، فقال: لقد كان لهما من المدحِ غيرُ هذا، فضربَه، أخرجه ابن ابى شيبة 9/ 538، وعبد الرزاق 7/ 425، والبيهقي 8/ 252، و"الموطأ"2/ 829، 830، والدارقطني 3/ 209.

مذهبُنا ومذهبُ مالكٍ (¬1)، وما ذاكَ إلا لأنهم عقَلوا من إضافتِه نفيَ الزنى وإثباتَ العفةِ لنفسِه وأمَّه إثباتَ الزنى في حقِّ مخاصِمه وحق أمه، فكيف يُدعى أنه علِى خلافِ اللغةِ، وأن قائلَه مكابرٌ؟ وهَب أنها وُضِعت للتمييز فلِمَ منعتُم أن يختضَ بذلكَ دونَ غيرِه؟ فليس ذلك مانعاً من أن يندرجَ فيها غيرُ التمييز من المخالفةِ بينها وبين غيرِها في الحكمِ الذي عُزيَ إليها وعُلِّقَ عليها. ومنها: أن قالوا: لو كان للخطابِ دليلٌ لكانَ مستنبَطاً من اللفظِ، إذ ليس في نفسِ اللفظِ ولا عينِ النطقِ، وما كان مستنبطاً من النُطقِ لم يجز تخصيصه كالعللِ، وقد أجمعنا على تخصيصه، فكم من حكم عُلقَ على أحدِ وصفي الشيءِ، ولم يقتضِ نفيَ ذلكَ الحكمِ عما انتفى عنه ذلك الوصفُ، وبينوا ذلكَ في مواضعَ، كقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]. فيقالُ: ليسَ بمستنبطٍ، وإنما هو معلومٌ من اللفظِ والتقييدِ، وليس كل ما لم يكن مَنطوقاً بهِ يكون مستنبطاً، ألا ترى أنَ الفحوى عندنا وعندَ أصحابِ ابى حنيفة ليس بمستنبط، ولا هو منطوق به، وكذلك المقدرات مثل قوله: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، تقديره: فضربَه، فانفلق، وكُل مقدر ليس بمنطوقٍ به، ¬

_ (¬1) ورد عن الإمام أحمد روايتان في الحد في التعريض بالقذف: الرواية الأولى عن حنبل: لا حد عليه، وبه قال عطاء، وعمرو بن دينار وقتادة، والثوري، والشافعي، وأبوثور وأصحاب الرأي. الرواية الثانية: أنَ عليه الحد، وبه قال مالك. والذي رجحه ابن قدامة في "المغني": أنه إذا لم يكن ذلك في حال الخصومة، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف؛ فلا شكَّ أنه لا يكون قذفاً. وقد ذكر أن الإمام أحمدَ رجع عن وجوبِ الحدِّ في التعريض، انظر"المغني" 12/ 393.

وأجري مجرى المنطوق، ولم يكن مستنبطاً. ومنها: أن قالوا: لو كان تعليقُه على صفةٍ تدلُّ على نفيه عما لم تثبت فيه تلك الصفةُ، لما وضعت له عبارةٌ تخصه، فلما حَسُنَ أن يقول: في السائمة زكاة، وليس في المعلوفة زكاة. دل على أن العبارةَ التي تَخصه هي المقيّدةُ دونَ المنطوقِ. فيقال (¬1): ولِمَ إذا كان له وضع من جهةِ الصريحِ لا يكونُ له وضع دون الصراحةِ والنص، ونحن نعلمُ أنه قد وضعَ للنهي عن الضربِ والشتمِ عبارةٌ تخصه، ولم يُمْنَع ذلك بثبوتِ فحوى الخطاب، بل في الآية نفسها. {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الاسراء: 23] وقد دخل في النهي عن التأفيفِ، ثم صُرحَ به مقيداً ما أفاده النهي، قال سبحانه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، والانتهارُ مستفاد من طريق الأوْلَى بالنهي عن التأفيفِ لو لم ينه عنه بلفظ يَخُصّه، ثم إنه نَهى عنه بلفظٍ يخصّه، فقال: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، كذلكَ ها هنا لا يمتنع أن يكونَ مثلَه. ومنها: أن قالوا: الصفاتُ وُضِعت للتمييز بين الأنواعِ، كما وُضعَت الأسماءُ للتمييزِ بين الأجناسِ والأشخاصِ، ثم تعليقُ الحكم على الاسمِ لا يقتضى نفيَه عمَّا عداه، وكذلك تعليقُه على الصفةِ. فيقال: إنَا لا نُسلم الأسماءَ، بل حُكمُها وحكمُ الصفاتِ سواء، وهو مذهبُنا ومذهب أبي بكر الدقاق (¬2) -من أصحابِ الشافعي-. وإن سلَّمنا توسعةَ النظر فالفرق بينهما من وجوه: أحدُها: هو أنَ الجمعَ بين الأجناسِ المختلفةِ في الحكمِ الواحدِ دأبُ العربِ، فيقولُ القائلُ منهم: اشترِ لي لحماً وتمراً وخبزاً، ولا يراها تقيِّد الاسمَ بصفةٍ، والموصوفُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال". (¬2) تقدمت ترجمته في الجزء الأول الصفحة: 188.

بتلك الصفةِ وضدُّها عندها واحد، فإنها لا تقول: اشتر لي تمراَ بَرْنياً. والبَرنى والمعقليُّ عندها سواء، ولاتقول: اشترلي لحماً مشوياً. والمشوي والنيء عندها سواء. على أنَ تعلق الحكمِ على بعضِ الأسماء لا يمنعُ تعليقَه بغيرها من الأسماءِ، ألا ترى أنه إذا أوجب الزكاة في الغنمِ، ثم أوجبها في البقرِ، لم يمنع تعلقها بالبقرِ تعلُّقَها بالغنمَ، وتعليقُ الحكمِ على أحدِ وصفي الشيءِ يمنعُ تعليقَه بضد ذلكَ الوصفِ، ألا ترى أنه إذا علَّق الزكاةَ على سائمةِ الغنمِ ثم أوجبها في المعلوفةِ، يخرج أن يكونَ الوجوبُ متعلَّقاً بالسائمةِ، وبقيت الزكاةُ معلَّقةً على الاسمِ وحده؛ ولأنَ تعليقَ الحكمِ بالاسم لا يقتضى تخصيص اسمٍ عامٍ، والتخصيصُ لا يكونُ إلا بما يقتضي المخالفَةَ، كالاستثناءِ والغايةِ، ولأنَ الاسمَ لا يجوزُ أن يكونَ علّةَ في الحكمِ، فتعلق الحكمِ عليه لا يقتضي المخالفةَ، والصفةُ يجوز أن تكونَ علةَ الحكمِ، فتعليق الحكمِ عليها (¬1) يَقتضي المخالفةَ. ومنها: أن قالوا: لو كانَ تعليقُ الحكمِ على أحدِ وصفيِ الشيءِ ينفيه عما عُدِمَ فيه ذلكَ الوصفُ، لكانَ إذا قال: في سائمةِ الغنمِ زكاةٌ، كما يوجِبُ نفيَها عن المعلوفةِ يوجبُ نفيَها عن سائمةِ البقرِ والإبلِ؛ لأنَّ المعنى الذي يوجبُ نفيَ الزكاةِ عن العواملِ والمعلوفةِ هو تقييدُه بالسومِ، وكان يجبُ لما (¬2) قيِّدَ بالغنم أن يوجِبَ نفيَ الزكاةِ عن غيرها من البقرِ والإبلِ. فيقال: إنّا على ما نصرنا من أن الاسمَ كالصفةِ كذلكَ نقولُ لو لم يَرد نُطقٌ يخصُّ الإبلَ والبقرَ لإيجابِ الزكاة، وإنما ورودُ النطقِ لإيجابِ الزكاةِ في سائرِ الأنعامِ منَع من العملِ بدليلِ خطابِه في أصولها، ونفي دليل الخطاب في وصفها، وقد أشارَ إليه صاحبُنا أحمد رضي الله عنه لما سُئل عن حديث بَهزِ بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليه". (¬2) في الأصل: "كما".

النبي صلى الله عليه وسلم: "في كُل إبلٍ سائمةٍ" (¬1)، هل يدخل فيه أنه لا تكون إلا في السائمةِ، ولا تدخلُ فيه العواملُ؟ فقال: أجل، لا تكونُ في العوامل، لا تكون إلا في السائمةِ. فعمَّ بسقوطِ الزكاةِ في غيرِ السائمةِ من كُلِّ نوع (¬2). ومنها: أن قالوا: لو كان للخطابِ دليل لجازَ أن يبطلَ حكمُ الخطابِ، ويبقى حكمُ الدليلِ، كما بطلَ حكمُ الدليلِ وبقي حكم الخطاب، وذلكَ مثل قولهِ صلى الله عليه وسلم:"أيّما امرأةٍ نكَحت نَفْسَها بغيرِ إذْنِ وَليها، فَنِكاحُها باطلٌ" (¬3)، دليلُه: أنها إذا نكحت نفسَها بإذنه، فنكاحُها صحيح، وكذلكَ قولُه: "لا تُحرَّمُ الرضعةُ والرضعتانِ، ولا الإملاجَةُ ولا الإمْلاجتان" (¬4)، دليلُه: أنَ الثالثَة تُحرم، وعندكم لا يصحُ نكاحُها بنفسِها عن إذن وليّها (¬5)، ولا يحرم من الرضاعِ ¬

_ (¬1) حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -معاوية بن حيدة القشيري- قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في كل سائمة إبل في كل أربعين بنتُ لبَونٍ" أخرجه أحمد 5/ 2و4، وأبوداود (1575)، والنسائي 5/ 25، والحاكم 1/ 397 - 398. (¬2) انظر قول أحمد -رضي الله عنه- في "المغني"4/ 12، و"المبدع في شرح المقنع "2/ 311، و"حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع" 3/ 189 - 190. (¬3) تقدم تخريجه في الجزء الثاني، الصفحة: 147. (¬4) عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرِّم المصة والمصتان"، أخرجه أحمد 6/ 95 - 96، ومسلم (1450)، وأبوداود (2063)، والنسائي 6/ 101، وابن ماجه (1941)، والدارقطني 4/ 172، وابن حبان (4228). وعن أُمِّ الفضل أنَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتانِ، أو المصةُ أو المصتان" أخرجه مسلم (1451)، والنسائي 6/ 100 - 101، وابن ماجه (1940)، وابن حبان (4229). ولفظه عند النسائي وابن حبان: "لا تحرَّم الإملاجة ولا الإملاجتان". (¬5) انظر "المغني"9/ 345 - 346 و"المبدع شرح المقنع" 28/ 7 - 29 ووجه المنع من الأخذِ بدليلِ الخطابِ في قوله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأةٍ نكحت بغيرِ إذنِ وليها فنكاحُها باطلٌ"؛ لعبارة الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلأ بولي"، وعبارة الخطاب مقدَمة على دليل الخطاب عند التعارض.

الثلاثُ (¬1)، فبطلَ دليلُ الخطابِ، وعملتم بالنطقِ فيهما، حيث بطلتم النكاحَ بغيرِ إذنِ الولي، ولم تُحرَّموا بالرضعةِ والرضعتين. فيقالُ: إنما نأخذ بدليلِ الخطابِ مع عدمِ النصّ، وإسقاط حكمِ الدليل الأضعف بوجودِ الأقوى لا لخروجِ الأضعفِ عن الاستدلالِ به مع عدم الأقوى، وهذا حكمُ تراتيبِ الأدلةِ، وذلك كالعمل بالقياس مع عدمِ السنةِ، واطّراحه مع وجودها، بخلاف ما يوجبُه القياسُ. وفي مسألتنا لولا حديثُ عائشةَ رضي الله عنها في الخمسِ رضعات (¬2)، لحرمنا بالثلاثِ، ولنا في الثلاثِ رواية أنها تحرَّم، فلا يبطلُ الدليلُ رأساً، كما لم يبطل النطق، لكننا تكلمنا على الأسَد، ولنا رواية في تزويجِ المرأةِ نفسها (¬3)، على أنَ أكثر ما في هذا انقطاع النطقِ عن الدليل، والدليلِ عن النطقِ. ومنها: أن قالوا: ليس في كلامِ العربِ كلمة تدلّ على شيئين متضادين، وعندكم أن هذا اللفظَ يَدُلُّ على إثبات الحكمِ ونفيه، وهذا خلاف اللغة. ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 11/ 309 - 312 و" المبدع " 8/ 166 وقد ورد عن الإمام أحمد ثلاثُ روايات في عدد الرضعات المحرمات: الرواية الأولى: أنَ الذي يتعلق به التحريم خمسُ رضعات فصاعداً، وهذا الرأي هو المعتمد في المذهب. الرواية الثانية: أنَ قليلَ الرَضاعةِ وكثيره يُحرم. الرواية الثالثة: لا يثبتُ التحريمُ إلا بثلاثِ رضعات. (¬2) حديث عائشة: قالت:"نزل القرآن بعشرِ رضَعات معلوماتِ يحرِمن، ثمَ نُسِخن بخمسِ رَضعات معلوماتِ، فتوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهنَ فيما يقرأ من القرآن". أخرجه الدارمي 2/ 157، ومسلم (1452)، وأبوداود (2562)، والترمذي 3/ 446، والنسائي 6/ 100، وابن حبان (4221) و (4222)، والبيهقي 7/ 454. وقول عائشة:"فتوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"، أردت به قرب عهد النسخِ من وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر ما تقدم في الجز الأول، الصفحة: 247. (¬3) وهي روايةٌ مرجوحة غير معتمدة في المذهب. انظر "المغني" 9/ 345 - 346، و"المبدع شرح المقنع" 7/ 28 - 29.

* فصل في الدلالة على أن تعليق الحكم على الاسم يدل على أن ما عداه بخلافه

فيقال: يبطلُ بالأمرِ بالشيء، فإنه يُعقل منه النهيُ عن ضِده، ويبطل بلفظ الغاية يثبتُ الحكم إليها ينفيه (¬1) عما عداها. وفيما ذكرناه كفاية، والدلائلُ تأتي بالعجائب، فلا وجه لإنكارِ الشيء المتحد إذا قامت عليه دلالة، ولو لم يكن فى لغة العرب سواه. فصل في الدلالة على أن تعليق الحكمِ على الاسم يدلُّ على أنَّ ما عداه بخلافه (¬2) أنَ الاسمَ وضِعَ للتمييز بين المسمَّيات، كما وضعتا الصفةُ لتمييز الموصوفِ بصفتهِ عن الموصوفات، فاذا قال: ادفع ديناراً إلى زيد، واشترِ لي شاةً بدينار كان في حصولِ التمييز بمثابةِ قوله: اشترِ لي خبزاً سَميذاً، ورطَباً جنياً، وادفع إلى زيد ديناراً جيداً. ثم إن تعليقَ الحكمِ على الصفةِ يدل على نفيه عما تنتفي عنه تلكَ الصفة، كذلكَ إلاسمُ، ولا فرقَ بينهما. فان قيل: الصفةُ يجوز أن تكونَ علةً للحكم، والاسمُ لا يجوزُ أن يكونَ علةً للحكمِ. قيل: لا نُسلّم؛ لأنَّ أحمدَ نصَّ على التعليلِ بالأسماء في أحكامٍ عدةٍ، مثل الماء والتراب في الطهارة (¬3)، لأنَّ عللَ الشرعِ أماراتٌ على الأحكام غيرُ موجباتٍ، ولا بدْعَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "نفيه". (¬2) تسمَّى هذه المسألة بمفهوم الاسم، أو مفهوم اللقب، وهو حجة عندَ الإمام أحمد وأصحابه، وخالفَ في ذلك جمهور الأصوليين. انظر "المعتمد" 1/ 148، و"البرهان" 1/ 453 - 454 و"الإحكام" 3/ 137، و" شرح تنقيح الفصول" ص. 27، و"العدة" 2/ 475 - 477، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 509 - 511، و"التمهيد" 2/ 202 - 210. (¬3) انظر "العدة" 2/ 465 و 475

- فصل: ذكر عن الإمام أحمد أنه جعل للفعل دليلا

أن يكون الاسم أمارة. فإن قيلَ: يجوزُ أن يكونَ الاسمُ وغيرُه منوطاً بهما حكمٌ واحدٌ كقوله: اشتر خبزاً وتمراً، وأكرم زيداً وعَمْراً. فإذا قال: أكرِم زيْداً، وسكت، لم يدُل ذلك على نفي كرامةِ عمروٍ، فأمَّا إذا قال: اشترِ خبزاً سميذاً، عُقِلَ من ذلك أنه ليس الخُشار عنده كالسميذ مع تقييده بالصفةِ المذكورةِ. قيل: يحسُنُ أن يقولَ: اشترِ سَميذاً أو خُشاراً، كما يقول: أكرم زيداَ أو عَمراً، وإذا قال: أكرم زيدأ وسكتَ عن عمروٍ، دل على أنه ليسَ عمرو عنده كزيدٍ، كما أنه إذا قالَ: اشترِ خبزاً سميذاً وسَكت عن الخُشارِ، لم يكن ويقيدُم (¬1) بالسميذِ، والخُشارُ عنده والسميذُ سواءٌ. فصل ذكر أصحابُنا عن أحمدَ رضي الله عنه أنه جعلَ الفِعْلَ دليلاً (¬2)، وأخذوه من قوله في رواية حنبل: لا يُصلَّى على القبر بعد شهر على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على قَبرِ أم سَعد (¬3)، فجعل صلاته على قَبر أم سعدٍ بعدَ شهرٍ دليلاً على المنعِ من الصلاةِ على القبرِ بعد شهر، وليسَ في الخبرِ ما يدلُّ على ذلك (¬4)؛ لأننا لا علمَ لنا، ماذا كان يَفْعلُ لو علمَ بموتها أوصادفَ قبرَها بعد الشهر، بخلافِ ما لو قال: صلوا على القبرِ شهراً، فإنه يُعقلُ منه المغايرةُ بين ما بينَ ذلكَ، وبين ما يزيدُ عليه من المدّةِ، فأمَّا فعلُه لذلكَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تَقييده"،. (¬2) انظر "العدة" 2/ 478. (¬3) أخرجه الترمذي (1038)، والبيهقي 4/ 48 من حديث سعيد بن المسيّب مرسلاً: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على أُمَّ سعد بعدَ موتِها بشهر". قال البيهقي: هو مرسلٌ صحيح. وأخرجه البَيهقي من حديث ابن عباس موصولاً أنه قيلَ للرسول صلى الله عليه وسلم: لو صَليْتَ على أُم سعد، فصلى عليها وقد أتى لها شهر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً. "السنن الكبرى" 4/ 48 - 49. (¬4) انظر "المسودة": 353.

فلا يدلُّ، وعساه لوصادفَ القبرَ بعدَ شهرين أيضاً لصلَّى، ومن الذي أعلَمنا أنه كان لا يصلِّي؟ وأيُّ دلالةٍ في الفعلِ على نفي الفعل لو زادَ على الشهرِ؟ وإنما كان يعطي هذا نفيَ الصلاةِ بعد الشهرِ أن تقومَ دلالَة على النهي عن الصلاةِ على القبر, ثم يصلي بعد شهرٍ ويتركُ الصلاةَ على كلِّ قبر عُثرَ عليه بعد مضيِّ زيادةٍ على الشهر, فتجوزُ الصلاةُ على القبرِ بعدَ الشهرِ, ويبقى ما زادَ على الشهرِ على مقتضى الأصلِ من النهي والتركِ، والأفعالُ إذا تكررت على نمطٍ واحدٍ صارَ لها بالدوامِ والعادةِ حكمُ الصيغةِ، مثلُ نقدِ البلد، وتركِ الأكل من الصيدِ، إذ لا يصيرُ الفعل وصفاً إلا بالدوامِ، فأما الصيغةُ، فإنها وضِعت على ما وردت بهِ وضعاً مستقراً، فما تُلُقِّيَت إلا من وَضعٍ استقرَّ وثبتَ. فوِزانُه: دوامُ فعله صلى الله عليه وسلم على النمطِ الذي ذكرنا، ومن الذي تقدِر أن يقولَ على النبي صلى الله عليه وسلم أنه [لو] (¬1) اشعِرَ بموتِ مقبورٍ بعد شهرين ما كان يصلي عليه، حيثُ صلى على ميِّتٍ أُشعرَ به بعد شهرٍ. والدلالةُ على ذلكَ وأنَّ الأفعالَ لا دليلَ لها: أن إنساناً لو رأيناه يأخذ خُبزاً سميذاً، ورُطَباً جنياً، ويبتاعُ عَبداً أسودَ، لم يُستدل بذلكَ على أنه لا يأكلُ الخُشارَ ولا الرطبَ البائتَ، ولا يبتاعُ العبدَ الأبيضَ؛ لأنا نُجوَّز أن يكونَ أكَلَ ذلكَ حين ذاكَ؛ لأنه لم يجد سواه، واشترى الأسودَ للمصادفةِ أو الحاجةِ، فأما إذا قال لوكيله: اشترِ لي خبزاً سميذاً، ورُطَباً جنياً، وعَبداً أسود؛ دل ذلك على أن غيرَ الموصوفاتِ بتلك الصفاتِ ليست عنده مساويةً لما قيَّده بالصفات. ويحتملُ أن تكون دلالةً لأصحابنا ما وقعَ لي؛ وهو أنَّ الصلاةَ في أصل الوضح قبلَ الدفنِ، فإذا دُفن يحتاجُ إلى دليلٍ، فلما صلّى النبي صلى الله عليه وسلم قيل: بقي ما بعدَ ذلكَ على مقتضى الأصلِ، لكن لا يكونُ هذا عَملاً بدليلِ الخطابِ، بل باستصحابِ الحالِ. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضها السياق.

- فصل: يمكن أن يكون الفعل تنبيها

فصل وإنَّما كان يوجدُ من الفعلِ دليل إذا استَمَر من النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاةُ على كُل قبرٍ كان دَفْنه منذ شهر, فاذا أُشْعِرَ بميت دُفِنَ منذ مدةِ تزيد على الشهرِ لم يصل، فيقالُ ذلك لِما استمر من تركِ الصلاةِ على كل قبر دُفِنَ صاحبه من مدةِ تزيدُ على الشهر ومن صلاتِه على كُل من دُفِنَ منذ شهر فيكونُ ذلكَ استدلالاً صحيحاً. فصل ويمكنُ أن يكونَ الفعل تنبيهاً (¬1)، وقد أشارَ اللهُ سبحانَه في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فنبّه بأداء قنطارِ على أداء دينار (¬2)، وبعدمِ أداءِ الدينارِ على الخيانةِ أو الجحدِ للقنطارِ وهذا فعل، وهو أمثل، (¬3) أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجنبُ البصقةَ في المسجدِ، فيخرجُ البصاق إلى خارجِ المسجدِ ويعودُ، أو يبصقُ في طرفِ ثوبِه، فيكونُ تنبيهاً على المنعِ من البولِ في المسجدِ، أو يَراه يَتوقى البصقَ نحوَ القبلةِ، فيكونُ في ذلك تنبية على التوقّي لاستقبالِ القبلةِ بالبولِ والغائطِ، كقوله: "لا تبصقوا في المسجدِ ولا إلى القبلةِ" (¬4)، فإنه يكونُ تنبيهاً على النهي عن البولِ في المسجدِ وإلى القبلةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تنبيه". (¬2) في الأصل: "فنبه بأداء دينار على أداء قنطار" والمثبت من "المسودة": 348، وهو المناسب لسياق الآية. (¬3) زيادة يتم بها المعنى. (¬4) لم يرد بهذا اللفظ، وإنما أخرج عبد الرزاق (1692)، وأحمد 3/ 176 و273 و278 و291، والبخاري (412) و (413) و (1214)، ومسلم (551)، وابن حبان (2267): من حديث أنس بن مالك أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أحدكم في صلاتِه، فلا يتفل عن يمينه، ولا بين يديه، فإنّه يناجي ربه، ولكن عن يساره أو تحت قدَمِه". وأخرج عبدُ الرزاق (1681)، وأحمد 3/ 58، 88، 93، والبخاري (458) و (409) و (410) و (411)، ومسلم (548)، وابن ماجه (761)، والنَسائي 2/ 51 - 52، وابن حبان (2268)، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالْ "لا يتنخَمَنَّ أحدكم في القبلةِ، ولا عن يمينِه، وليبصق عن يسارِه أو تحت رجله اليسرى".

* فصل في حرف (إنما) هل يقتضي نفيا وإثباتا

فصل في حرف (إنما) هل يقتضي نفياً وإثباتاً؟ مثل قوله: "إنَما الولاءُ لمن أعتق" (¬1)، قال شيخُنا رضي الله عنه في كتابِ "العُدة": يقتضيى إثباتَ (¬2) الولاءِ للمعتق، ودليلُه يعطي أن لا ولاءَ لمن لم يُعتق، وقال كثير من المتكلمين: لا يقتضي يسوى إثبات الحكمِ دون نفيه عما عداه. وقال الجُرجاني: يعطي ذلكَ من طريقِ اللفظِ، فيكون حرف (إنما) أفاد الأمرين جميعاً: إثباتَ الولاءِ للمعتقِ ونفيه عن غيره، ووافقه على ذلك القاضي أبو حامد (¬3) -من أصحاب الشافعي- مع نفيه لدليلِ الخطابِ (¬4). وجْه قول أصحابنا: أنه أضافه إلى جهةٍ، فلا يقتضي النفيَ عن غيرها لفظاً، كما قال: الولاءُ لمن أعتَقَ، أو قال: إنَ الولاءَ لمن أعتَق. فإنه يقتضي إثباتَ الولاءِ للمعتقِ، فلا وجهَ لنفيه عن غيرِه من جهةِ النُطقِ، لكن بدليلِ النطقِ عندَ من أثبته، أو دليلٍ آخر عند من لم يرَ للنطق دليلاً. فمن قيل: (إنما) للحصر بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فأفادت إثباتَ الإلهية له سبحانه، نفيها عن غيره. قيل: من طريقِ النُطقِ لم تُفِد، لكن بدلالةِ التوحيدِ، كقوله: اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فلا نُسلم أنَ اللفظَ أفادَ نفيَ الإلهيةِ عن غيره، بل دليلهُ هو دليلُ العقلِ، هو العامل. يُعارِض هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] ومعلوم أنه اقتضى إثبات الإنذار له صلى الله عليه وسلم، ولم يُفد نفي الإنذار عن غيره، فتقابلا، وكان ما ذكرنا من الدليل مُعَوّلاً عليه، إذ ليسَ في حرف (إنما) ما يعطي النفي، بل ما أفادت إلا الإثبات. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة (278) من هذا الجزء. (¬2) في الأصل: "نفي"، والمثبت من "العدة" 2/ 478 - 479. (¬3) تقدمت ترجمته في الصفحة (18) من هذا الجزء. (¬4) انظر "البحر المحيط" 2/ 325.

* فصل: الواو لا تقتضي الزتيب على قول أصحابنا

فصل الواو لا تقتضي الترتيب على قول أصحابنا (¬1). يشهدُ لذلكَ من قولهم فيمن قال لامرأتِه التي لم يَدخل بها: أنتِ طالقٌ وطالقٌ، يقعُ بها طلقتان. ولو قال: أنتِ طالقٌ فطالقٌ، أو: ثمَ طالقٌ، وقعت واحدةً، حيثُ كانت الفاءُ مرتَبةً معقِّبةً، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ ومالكٍ، واختلفَ أصحابُ الشافعيِّ على مذهبين (¬2)؛ فقال بعضُهم مثلَ قولنا وقولِ أصحاب أبي حنيفة ومالك، وقال بعضُهم: تَقتضي الترتيب. [وهو قول] (¬3) ثعلب (¬4)، وأبي عمر الزاهد (¬5) غلام ثعلب. ¬

_ (¬1) وهو قول جمهور اللغوبين والنحوبين والأصوليين، انظر "العدة" 1/ 194، و"التمهيد" 1/ 100، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 229، و"القواعد والفوائد الأصولية" ص 130 - 137 و"مغني اللبيب" 2/ 354، وانظر ما تقدم في الصفحة (114) من الجزء الأول. (¬2) المشهور عندَ الشافعية أنها تقتضي الترتيبَ، وهو قولُ بعض الكوفيين، منهم ثعلبُ، والفراء، وأبو عمر الزاهد، ومن البصريين؛ قطرب وعيسى بن عيسى الربعي، انظر "مغني اللبيب" 2/ 354، و"التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإسنوي ص 208، و"البرهان" 1/ 181، و"البحر المحيط" للزركشي: 2/ 253. (¬3) زيادة يستقيم بها المعنى. (¬4) تقدمت ترجمته في الجزء الأول، الصفحة: 164. (¬5) هو أبوعمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي، المعروف بالبارودي الزاهد غلام ثعلب، صحب أبا العباس ثعلب فعرِفَ به، ونسِبَ إليه، كان أحد أئمة اللغة المشاهير المكثرين، صنف كتاب "فائت الفصيح"، و"شرح الفصيح"، و"تفسير أسماء الشعراء". توفي سنة (345 هـ). انظر "تاريخ بغداد" 2/ 356 - 359، و"وفيات الأعيان" 4/ 329 - 333، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 508 - 513.

- فصل في دلائلنا

فصل في دلائلنا فمنها: ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، فقال: "أسِيَّانِ أنتما؟! قل: ما شاءَ اللهُ ثم شئتَ" (¬1)، فلو كانت الواو مرتَّبة، كما أن (ثم) مرتَّبةً؛ لكان قد نقله من حرفٍ إلى مثلِه، فلم يبقَ للنقلِ وجْه، إلا أنَه نقلَه من جمعٍ إلى ترتيبٍ وتقديمٍ لاسمِ الله تعالى رتبةَ المقدم وتأخير المؤخَر بحرفٍ يحصُرُ الترتيب. ومنها: أنها لو كانت تقتضي الترتيب، لجاز أن تجعل في جواب الشرط كما جعلت الفاء، فإذا قال: إن دخل زيا الدار فأعطِه درهماً، أبدله بقوله: وأعطِه درهماً، فلما لم تدخُل مَدْخَلها، بطلَ أن تكونَ للترتيب. ومنها: أنَ اللهَ سبحانه أدخلَ الواوَ فيما لا يحتمل الترتيب، فقال: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ} [الأعراف: 161] وقال: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} {البقرة: 58}، ولو اقتضت الترتيب لما أخّر ما قدَّمَه في أحدِ حرفيه، كما لا يجوزُ أن يقالَ: قلنا ادخلوا البابَ ثم قولوا حطة، ثم ادخلوا، وكقول الشاعِر: ¬

_ (¬1) أخرج أحمد 5/ 384، وأبوداود (4980) من حديث حذيفةَ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقولوا: ماشاءَ الله وشاءَ فلان، ولكن قولوا: ماشاء الله، ثم شاء فلان". وأخرجَ النسائي من حديث قُتيلة الجُهَنية أنَ يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تُنَدِّدون وإنكم تشركون وتقولون: ما شاء الله وشئتَ، وتقولون: والكعبةِ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلِفُوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئتَ. "سنن النسائي" 7/ 16. وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئتَ، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئتَ". "سنن ابن ماجه": (2117).

ومَنهلٍ فيه الغُرابُ مَيْتُ ... كأنه من الأجونِ زَيْتُ سَقَيتُ منه القومَ واستقيتُ (¬1) ومعلومٌ أنه استقى ثم سقا. ومنها: أن الواوَ لو اقتضت الترتيبَ لما حَسُن أستعمالُها فيما لا يحتملُ الترتيبَ، وأجمعنا على جوازِ قولِ القائلِ من أهلِ اللغةِ: اشترك زيد وعَمرو ولا يحسنُ أن يقول: اشترك زيدٌ ثم عمرو ورأيت زيداً وعمراً معاً، ولا يحسن أن يقول: رأيتُ زيداً ثم عمراً معاً، ولو كانت تقتضي الترتيبَ، لكان أيضاً كاذباً في خبره، حيث أخَّر في خبرِه المقدمَ في رؤيته. ومنها: أنَ الواوَ تدخلُ في الاسمينِ المختلفين مثل زيدٍ وعمروٍ، بدلاً من التثنية في الاسمينِ المتفقين، مثل الزَيدينِ، حيث لم تمكن التثنيةُ مع الاختلافِ، وأمكنت مع الاتفاقِ، ثم إنَّ التثنية في المتفقينِ لا تقتضي ترتيباً، كذلكَ الواوُ في المختلفين، ويشهدُ لتساويهما أنه لم يمكن التثنية في زيدٍ وعمروٍ فابدلهما بقوله: رأيتُ زيداً وعمراً رأيتهما، وبقوله: معاً، فعلمت أن التثنيةَ والعطفَ في الاسمينِ المتفقينِ والمختلفينِ ما ¬

_ (¬1) قال أبوعبيد البكري في "سمط اللآلي في شرح أمالي القالي": هذه الأشطار قد نسبها قوم إلى العجَّاج، ونسبها آخرون إلى أبي محمد الفَقْعسي، وكذلك قال يعقوب إنها للحذلمي، والأشطار بتمامها: ومنهلٍ فيه الغرابُ ميْتُ ... كأنَه مِنَ الأجونِ زيتُ سقيتُ منه القومَ واستقيتُ ... وليلة ذات ندى سريتُ ولم يلتني عن سراها ليتُ ... ولم تصرني كِنَةٌ وبيتُ وجمةٍ تسألني أعطيتُ ... وسائلٍ عن خَبَري لويتُ فقلت لا أدري ولا دريتُ والمنهل: هو الماء، والأجون: جمع آجن: وهو الماء المتغير الطعم واللون. انظر "سمط اللآلي" 1/ 201، "الأمالي" 2/ 244، "لسان العرب" 9/ 271.

- فصل في أسئلتهم

اختلفا إلا في عدم الإمكانِ، فلم يمكن التثنيةُ في المختلفين، فأبدلوا التثنيةَ بالواوِ الجامعةِ، وأكدوها بقولهما: معاً, إو بقولهما: رأيتُهما. فصل في أسئلتهم فمنها: أنَ النبي صلى الله عليه وسلم إنما نقلَه من الواوِ إلى (ثمَّ) (¬1)، وليسَ حرفُ (ثمَّ) كالواو؛ لأنَّ (ثم) تعطي المُهلةَ والتراخي، وليس ذلكَ للواو فما نقله من جمعٍ إلى ترتيب، ولا من ترتيب إلى مثله، [بل نقله] (¬2) من ترتيبٍ مطلقٍ إلى ترتيبٍ بنوعِ تراخٍ ومُهلةٍ. ومنها: أنَّ قولَه: معاً، أخرجت الواوَ عن ترتيبها بعدَ أن كانت قبل القرينةِ تقتضي الترتيبَ بظاهرِها. فصل في الجواب عن السؤالين أمَّا الخبرُ؛ فإنه قال فيه: "أسيّانِ أنتما"؟، ومعَ الرُّتبةِ لا يكونُ قولُه يعطي أنهما سيانِ؛ لأنَّ من رتَّب رتبة ما، فما سوَّى، حتى لو قال: ماشاءَ الله فشئت، لم يكن جاعلاً لاسمِ اللهِ واسمهِ سيين لما قرن به من حرفِ الرتبةِ والتقديمِ، فلما قال: "أسيانِ أنتما"؟ عُلِمَ أنه لم يأتِ بحرفٍ يعطي نوعَ ترتيبٍ وتقديمٍ. وأمَّا قولُه: إنَّ (معاً) قرينةٌ، فلِمَ لم تُخرج هذه القرينةُ حرفَ (ثمَّ) عن ظاهرِه؟ ويحسُنُ ضمها إليه، فيقولُ: رأيتُ زيداً ثم عمراً معاً. فيعطي الجمعَ، ويحسُنُ القولُ، فلما لم يحسُنْ في حرفِ (ثمَ) ولا عَمِلَ فيه إلا إفسادَ الكلامِ، وحَسُنَ في الواو عُلِمَ أنه كشفَ بقوله: (معاً) عما تضمنته اللفظةُ من الجمعِ. ¬

_ (¬1) يعني في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قل ماشاء الله ثم شئت". (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يستقيم بها المعنى.

- فصل في الجواب عنهما

وممَّا سألوه على بقيَّة طُرُقِنا في المسألةِ أن قالوا: يجوزُ أن لا يُجعلَ جواباً للشرطِ، ويقتضي الترتيبَ (1كحرفِ (ثمَّ) لا يحسنُ جواباً للشرط ويقتضي الترتيب 1)، إنما لم يجعل الجواب جواباً للشرط. ومنها: أنَ استعمالها في عدةِ مواضعَ للجمع لا للترتيب (¬2) لا يمنع من كونِها موضوعةً للترتيب كحرفِ (ثمَّ)، قد ورد لا بمعنى الترتيب، قال الله سبحانه: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، والمرادُ به: واللهُ شهيد، إذ شهادةُ الله لا يتقدمُها شيء، فتَترتب عليه. وقالَ الشاعرُ: كَهزِّ الرُدَينيَّ تَحتَ العجاجِ ... جَرى في الأنابيبِ ثم اضطَرب (¬3) ومعلومٌ أنَّ الاضطرابَ لا يتأخر عن الاهتزازِ، ولا يترتبُ عليه، وإنَّما أراد به: واضطرب. فصل في الجواب عنهما فالجواب عن الأوَّلِ منهما: أنَّ (ثمَّ) إنما لم يحسُن أن تقَع جواباً للشرطِ؛ لأنها تقتضي المهلةَ والتراخي، ومن حكمِ الجزاءِ أن لا يتأخرَ عن الشرطِ، كما لا يتأخرُ عن ¬

_ (1 - 1) مكرر في الأصل. (¬2) في الأصل: "لا للجمع للترتيب"، ولعل المثبت هو الصواب. (¬3) البيتُ من قصيدةِ طويلةٍ لأبي دُؤاد الإيادي، وصفَ فيها فرسَه، ومطلعها: وقد أَغتدي في بياضِ الصَّباح ... وأعجاز ليلٍ مولي الذَنَبْ بطِرْف يُنازعني رأسُهُ ... سَلوف المقادة محض النسبْ طواه القنيص وتَعْدَاؤه ... وإرشاش عِطفَيْه حتى شسبْ كهَز الرُّدَيني بينَ الأكف ... جرى في الأنابيب ثم اضطربْ وقوله: كهز الرُّديني، أي: اهتز في القياد، وقوله: جرى في الأنابيب أي: جري اهتزازه في أنابيبه. "شرح أبيات مغني اللبيب"، عبد القادر البغدادي: 3/ 54.

- فصل في شبههم في مسألة الواو

النداءِ، فإذا تأخرَ وتراخى صارَ كامِلاً مبتدأً لا جواباً، كذلكَ يخرجُ أن يكونَ مع التراخي والمهلةِ جزاءٌ. فأما الواو فلا تقتضي المهلةَ، فإذا قال: ضربني وضربتُه. يحسُنُ أن يقولَ: عقيب ضربه، كما يحسنُ أن يقولَ في الفاءِ، ولا يحسُنُ أن يقولَ في (ثمَ) ذلكَ، فإذا كانت (¬1) مفارقةً لـ (ثمَّ) في المهلةِ والتراخي المُخرِجِ للجزاءِ عن مقتضاه، ثم لم تقم مقام الفاءِ، ولا كانت بدلاً عنها، عُلِمَ أنها لا تقتضي الترتيبَ. وأمَّا الجوابُ عن الثاني منهما، فغيرُ لازم؛ لأنَّنا لا نمنعُ أن تستعملَ استعارة ومجازاً، لكن الأصل الحقيقةُ، فلا يجوز أن يرد الاستعمال للحقائقِ لأجلِ ورودِ ذلك مجازاً واستعارةً، ما هذا إلا بمثابةِ من استدل بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28]، وذلك دليل على أنه لا يؤكلُ جميعُ الهدي والأضحيةِ، فيقول له قائلٌ: أليسَ قد قال اللهُ تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، و {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وليس المرادُ به البعض، فإنا لا نترك حقيقةَ حرفِ التبعيض فيما استدللنا بهِ لأجلِ المجازِ الواردِ في ذلك، بل نَحتاجُ إلى دليلٍ يدلُّ على أنَ ما ذكرناه مجازٌ واستعارةٌ. فصل في شُبههم في مسألةِ "الواو" فمنها: ما روى عديُّ بنُ حاتمٍ أنَ رجلاً خطبَ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: من يُطعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشد، ومن يَعصهما فقد غَوى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بئسَ الخَطيبُ أنتَ، قل: ومَن يعصِ اللهَ ورسولَه فَقد غوى" (¬2). فلو كانت الواوُ التي نقلَه إليها للجمعِ؛ لكان قد نقلَهُ من جمعٍ إلى مثلِه، وذلكَ لا يليقُ بمنصبه. ومنها: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم انه بدأ بسَعيه بين الصَّفا والمروة، وقال: "نبدأ بما بَدأ اللهُ ¬

_ (¬1) يعني الواو. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 25.

به " (¬1)، وأراد بذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158]، وهذا نص منه على أنها للترتيب، فإن الذي يناسبه من الفعلِ ترتيب، فبدأ فعلاً بما بدأ الله به قولا ومنها: ما رُويَ أن عبدَ بني الحَسْحَاس (¬2) أنشد عُمرَ رضي الله عنه: عُميرةَ وَدِّع إن تَجهزتَ غادياً ... كَفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهياً (¬3) فقال له عمر لو قدمتَ الإسلام على الشيب لأجزتك. فدل على أن الواوَ رتَّبت الشيبَ على الإسلامِ. ومنها: ما رُويَ أنَ رجلاً قال لابن عباس: كيف تقدِّمُ العمرةَ على الحج وقد قدم اللهُ الحج على العمرة؟ فقال ابنُ عباس: كما قُدمَ الدينُ على الوصية، وقد قدم اللهُ الوصيه على الدين (¬4)، يعني بذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ¬

_ (¬1) أخرجه مالك 1/ 372، ومسلم (1218)، وأبوداود (1905)، وابن ماجه (3074)، والترمذي (862)، والنسائي 5/ 239. من حديث جابر. (¬2) هو سُحَيم عبدُ بني الحَسْحاس، من الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، كان أسودَ أعجميا أنشد عمر رضي الله عنه من شعره، وقُتل في خلافة عثمان رضي الله عنه، انظر "الأغاني" 22/ 326، "الاصابة" 3/ 250 - 252، "خزانة الأدب" 2/ 102 - 106. (¬3) ورد هذا البيت في مطلع قصيدة لسُحيم. انظر "ديوانه" صفحة: 16، وأورده ابن حجر في "الاصابة" 3/ 251: وَدع سُليمى إن تجهزت غادياً ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهياً. (¬4) ورد هذا الاثر من غير احتجاج عبد الله بن عباس بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، في مسند أحمد (2360) ط مؤسسة الرسالة عن كريب مولى ابن عباس قال: قلت لابن عباس: يا أبا العباس، أرأيت قولك: ما حج رجل لم يَسق الهديَ معه ثم طاف بالبيت، إلا حَل بعمرة، وما طاف بها حافي قد ساق معه الهديَ، إلا اجتمعت له عمرة وحجة، والناسُ لا يقولون هذا. فقال: ويحك، إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ ومن معه من أصحابه لا يذكرون إلا الحج، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه الهدي، أن يطوف بالبيتِ ويحل بعمره، فخعلَ الرجلُ منهم يقول: يا رسول الله، إنما هو الحجُ، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليس بالحج، ولكنْها عُمرةٌ".

- فصل في الأجوبة عنها

[النساء: 12]، وهذا كلُهُ يدل على أنهم فهموا من التقديمِ في اللفظِ التقديمَ في الحكمِ. ومنها: أنَ المهاجرين احتجوا على الأنصارِ في بابِ الخلافةِ من جملة ما احتجوا به أن الله بدأ بنا فقال: {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (¬1) [التوبة: 117]، والعرب تبدأ بالأهمِّ فالأهمِّ، ولهذا قَدَّم الفقراء في أصنافِ الزكاةِ (¬2)، لكونِهم أمسَّ حاجةً من غيرِهم من الأصنافِ. ومنها: أنَ كل فطنٍ من أهلِ اللغةِ يعلمُ أنَ رجلاً لو كاتب غيرَه بكتابٍ، وذكر فيه أنه قد أنفذه على يدي رسولين، وبدأ بذكرِ أحدِهما في الكتابِ، عَلمَ المكتوبُ إليه وسبقَ إلى فهم كل عالمٍ باللغةِ أنَ أكرمَهما عليه وعندَه من بدأ بذكره، وإن كان اسمُ الثاني معطوفاً على الأول بالواو. ومنها: أنَ المعنى نَتيجةُ اللفظِ، واللفظُ في أحدِهما سابق، فكان المعنى سابقاً. فصل في الأجوبة عنها أما الأولى: فإنَّ إنكارَ النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيبِ الجمعَ بينَ اللهِ ورسوله على وجه التثنية، فهي أبلغُ من الجمعِ بالواو وإن كانت الواوُ شريكتَها في الجمعِ، ولهذا قالَ سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، ولم يقل: يرضوهما، وطلبَ ¬

_ (¬1) لم نقف فيما بين أيدينا من كتبِ السنة والسيرة التي روت خبر سقيفة بني ساعدة، على استدلال المهاجرين على الأنصار بهذه الآية. وانظر خبر السقيفة عند أحمد (390) ط مؤسسة الرسالة، والبخاري (3668)، وابن حبان (414)، وسيرة ابن هشام 4/ 306 - 312. (¬2) في قوله تعالى في سورة التوبة، الآية (60): {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ....} الآيه.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الله في كتابه، وهاء الكناية في التثنية والجمع أبلغُ من الجمعِ با لواوِ. وأمَّا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نبدأ بما بدأ اللهُ به". فلا خلافَ ان اللهَ بدأ بالصفا قولاً، ولكن عطفَ عليه بالواوِ الجامعةِ لا بحرفٍ مرتِّب، ومن عادةِ العربِ أن تبدأ نطقاً بالأهم، فلا يتحقق الترتيبُ إلا بحرفِ التراخي أو التعقيبِ الذي لا يصحُ أن ينطبقَ عليه الجمعُ، وها هنا يحسنُ أن ينطبقَ عليهما قولُ القائلِ: معاً، فدلَّ على أنها عاطفة جامعة لا مرتِّبةٌ. وأما قول عُمر لشاعرِه: لو قدَّمت الإسلامَ؛ لأجزتك. إنما طلب منه تقديمه لفظاً؛ لأنَّ الأهمَّ يجبُ أن يُبدأ به لفظاً، وإن كان مجموعاً بما بعده. قال شيخُنا الإمام أبو القاسم الأسدي (¬1): على هذا؛ ليس في قولِ عمرَ ما يعطي أنه قدم الشيبَ، بل يعطي أنه لم يقدِّم الإسلام، وبينهما واسطة، وهو أنَه جَمَع، ومن جمع بين الإسلامِ والشيبِ، فما قدّم الإسلامَ، فأوقف جائزتَه على تقديمهِ الإسلامَ. وأما قولُ ابنِ عباس: كما قدّم الدَّينَ على الوصية. فالمراد به: لدلالةٍ دلتني على تقديمِ العمرةِ فعلاً على الحجِّ، كما دلَّت [على] (¬2) تقديم الدَّين فعلاً على الوصية، ولعل الدليلَ قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وكان يتمتع، فيقدمُها بهذه الدلالةِ كما قدم الدين على ¬

_ (¬1) هو عبد الواحد بن علي بن عمر العكبري، أبوالقاسم الأسدي، من الشيوخ الذين أخذ عنهم ابن عقيل النحو والأدب، وكانت له معرفة باللغة والنسب وأيام العرب، توفي سنة (450 هـ).، "تاريخ بغداد" 11/ 17،"المنتظم" 8/ 236. (¬2) ليست في الأصل.

الوصيَّةِ بالإجماعِ، ودليلُ الإجماعِ أنَّ الدَّين حق هو مرتَهنٌ به، والوصيَّة تبرُّعٌ. وأما احتجاجُ المهاجرين على الأنصار بتقديمِ ذكرِهم في كتابِ الله حيثُ قال: {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117]. فلعمري إنها مَزيّة وحجّة في البداية بذكرهم، لكن ما أراد به الترتيبَ، بدليل أنه قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم بُنيان المسجد وهو يحمل اللّبن: "لاعيشَ إلاعيشُ الآخرة ... فاغفر للأنصارِ والمهاجرة" (¬1) ولو عُقِلَ منها الترتيب، لما خالفَ ترتيب القرآن. وأما قولُهم: إنه يسبقُ إلى فهم كل سامعٍ تبجيلُ من يسبق بذكر اسمه أولاً. فلعمري إنه أرادَ وقصدَ تعظيمَ شأن البادىء بذكره، فهو كما قالوا، غيرَ أنه لا يعطي الترتيبَ، بدليلِ أنه لو قال: قد أنفذتُ بصاحبيِّ زيد وعمرو. وعمرو مقدّم عليه أو قبلَه، جازَ ولم يعد مناقضاً، ولو قال: بعثتُ إليكَ بزيدِ فعمرو ثمَ عمراً قبلَه. عُدّ مناقضاً. وأما قولهم: إن [المعنى] (¬2) نتيجة الَّلفظ، فالمعنى الذي هو نتيجةُ الَّلفظِ: فعلُ واحدٍ بعدَ واحدٍ، وهذا هوَ الترتيبُ. فيقالُ: المعنى مفارقٌ اللفظَ؛ فإنه إذا قَدَم ذِكرَ أحدِهما، وعَطفَ عليه الآخَر ثم قال: مَعاً. صحَّ القولُ وجاز وإن لم يكن ذلكَ مُتحقِّقاً في المعنى، بحيث تقعُ الفعلانِ معاً. ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في "الطبقات" 1/ 239 - 240، وأخرجه البخاري (9306)، وعبد الرزاق (9743) بلفظ: "اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصاروالمهاجرة" (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

* فصل في "الباء"

فصل في الباء وهي عند أصحابنا للإلصاق (¬1)، فإذا قلتَ: مررتُ بزيدٍ، وكتبتُ بالقلم، ومسحتُ برأسي [فإن الباء تُلصق المرور بزيدٍ، والكتابةَ بالقلم، والمسحَ بالرأس] (¬2). ولا تدخل للتبعيضِ، ولذلكَ يقولُ القائلُ: استعنتُ بالله، وتزوَّجت بامرأةٍ. ولا يُراد به البعضُ. وكذلكَ قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاحَ إلا بوليٍّ وشهودٍ" (¬3). وقال أصحابُ الشافعي في أحدِ الوجهين: إذا دخَلَت على فعلٍ متعدٍّ يتعدّى بغيرِ الباءِ إقتضت التبعيضَ (¬4)، وذلك مثلُ قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. ¬

_ (¬1) الباءُ في أصل وضعها تفيدُ الإلصاق، إلا أنها قد ترد لمعنى آخر بقرينة؛ فمن معانيها: التعدية: كقوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]. الاستعانة: كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. السببية: نحو قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]. المصاحبة: نحو قوله تعالى: {قد جاءكم الرسولُ بالحق} [النساء: 170]، أي مع الحق. انظر "القواعد والفوائد الأصولية": 140 - 143، "التمهيد" لأبي الخطاب 1/ 112، "العدة" 1/ 200، "الكتاب" لسيبويه 4/ 217. (¬2) ما بين الحاصرتين ليس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 1/ 200 - 201. (¬3) أخرجه الدارقطني 3/ 220، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، البيهقي في "السنن" 7/ 124، وابن حبان (4075)، وابن حزم في "المحلى" 9/ 465 من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه الدارقطني 3/ 221 - 222 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي الباب من حديث جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬4) هذا الوجهُ هو ما نصره واختاره الرازي في "المحصول"، والبيضاوي في "المنهاج" جاء في المحصول: "الباءُ إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} تقتضي التبعيض، وأجمعنا على أنها إذا دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه كقولك: كتبتُ بالقلم، ومررت بزيد، فمنها لا تقتضي إلا مجردَ الإلصاق، "المحصول" 1/ 379. وانظر "البرهان" للجويني 1/ 180، و"البحر المحيط" 2/ 267.

- فصل في دلائلنا

فصل في دلائلنا فمنها: أن الباءَ موضوعة لإلصاقِ الفعلِ بالمفعولِ به، يدل على ذلكَ قولُهم: مررتُ بزيدٍ، وكتبتُ بالقلمِ، وطفتُ بالبيتِ، فتفيدُ الباءُ إلصاقَ الفعلِ بالمفعولِ به. ومنها: أنَ الباءَ لو كانت فيما لا يتعدى بها من الأفعالِ تقتضي التبعيضَ لما حسُنَ عطفُ العمومِ عليها، ومعلومٌ أنَكَ تقولُ: مسحتُ برأسه كُلِّه. ويحسنُ أنك تقول: امسحوا برؤوسكم كُلّها وجميعِها. ولا يحسنُ أن تقولَ: امسح ببعض رأسك كُلِّه وجميعِه. ومنها: أنه لا يحسنُ دخولُ الاستثناءِ على ما دخلت عليه الباءُ الموجبةُ المتعدِّيةُ، مثل قوله: امسحوا برؤوسكم إلا ثُلثها. ولو كانَ يقتضى البعضَ المهملَ، لما جاز أن يدخلَ عليه الاستثناءُ المقدر؛ لأن الاستثناءَ إنما يخرجُ ما لولاه لكانَ داخلاً، وإذا قال: امسحوا برؤوسكم. وكان كقوله: امسحوا ببعضِ رؤوسكم. فلا نعلمُ دخولَ بعضٍ يُستثنى منه الثلثُ، إذ لا نعلم مقدارَ البعضِ المستثنى منه، فصل في شُبههم فمنها: أن قالوا: إن أهلَ اللسانِ فرقوا بين قولِ القائل: أخذتُ ثوبَ فلانٍ وركابَه، وبين قوله (¬1): أخذتُ بثوبِه وركابِه. فيحملون الأولَ الخالي من الباءِ على أخذِ الجميعِ، والثاني المقيدَ بالباءِ على الأخذِ بالبعضِ، ويقولونَ: مسحتُ برأسِ اليتيمِ، ومسحتُ يدي بالمنديلِ. فلا يُعقلُ إلا البعضُ. ¬

_ (¬1) في الإصل: "قولهم".

- فصل في الجواب عنها

فصل في الجواب عنها إنَ المرادَ بقوله: أخذتُ بثوبِه وركابِه. أي: علِقتُ بهما، والتعلُّقُ بدلالةِ الحالِ في أنَّ الإنسانَ لا يتعلَقُ بجميعِ القميصِ ولا بجميعِ الركابِ، ولا يمسحُ برأسِ اليتيم إلا للرحمةِ والحنوِّ والإشفاقِ، دون التعميم بِدلائلَ وقرائنَ منعت التعميمَ، فأمَّا أن تكونَ الباءُ أفادت باطلاقِها التبعيضَ، فلا؛ ألا ترى أنه يقولُ: وقفتُ بعرفة، وبالدارِ، وبالربعِ. ولا يحسُنُ أن يقولَ: وقفتُ عرفةَ، ووقفتُ الدار كما لا يحسُنُ أن يقولَ: وقفتُ زيداً. بل: وقفتُ بزيدٍ. ويكونُ المراد بإطلاقِ اللفظِ إلصاقَ الوقوفِ بالدارِ, وعرفةَ، كذلكَ قولُه: مسحتُ برأسي. يعطي الإلصاقَ. ومن أحوالِ الواوِ (¬1): أن تقع بدلاَ من الباءِ، والباقي القسمُ، فتقولُ: والله. بدلاً من قولك: بالله. ومن أحوالها (¬2): وقوعها موقعَ رُب، قال الشاعر: ومَهْمَهٍ مُغْبرَّة أرجاؤهُ (¬3) مكان قوله: رُبَّ مهمهٍ. ومن أحوالها: أن تقعَ موقعَ أو، قال الله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، والمراد به: أو ثلاث أو رُباع، فهذه أحوالُ الواوِ. ¬

_ (¬1) تقدم الكلام على "الواو" في الصفحة: 298، وما أورده المصنف هنا تتمة لما سبق. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "حوالها". (¬3) البيتُ لرؤبة بن العجاج، وتمامه: "كانَ لونَ أرضهِ سماؤه". وهو في "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة: 197، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 971، بهذا اللفظ، وورد في ديوان رؤية: 3، وفي "اللسان": (عمى) بلفظ: وبلدٍ عاميةٍ أعماؤه ... كان لون أرضه سماؤه

* فصل في حروف شتى (الفاء، ثم، أو)

فصل في حروف شتى فمنها: (الفاءُ)، وهي للترتيبِ على وجه التعقيبِ؛ لأنها تقعُ للجزاء والجزاءُ لا يقعُ إلا متأخراً عن الشرط. قال سيبويه (¬1): إذا قال: رأيتُ زيداً فعمراً، يجب أن تكون رؤيته لعمروٍ عقيبَ رؤيته لزيدٍ (¬2). ومنها: (ثم)، وهو حرف للفصلِ والترتيبِ على وجْهِ التراخي والمهلةِ (¬3)، فكأنها تزيدُ على الفاءِ بنوعِ مهلةِ وتَراخٍ، وقد جعل أصحابُنا الدلالةَ على أنَ إمساكَ المُظاهرِ لزوجتِه لا يكون عَوْداً فيما نطق به لمَن (¬4) ظاهرَها: قولَه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، فاقتضى ذلك المهلةَ والتراخي، وذلكَ في العزمِ على الوطء، أشبه بإمساكها زوجَة؛ لأن الإمساك يتعقبُ، والعزمَ يتراخى. ومنها: حرفُ (أو)، وهو إذا دخلَ على الخبرِ اقتضى الشك، مثل قولِ القائِل: رأيت زيداَ مقبلاً، أو عمراً. فيكونُ ذلكَ دليلاَ على شكه في الرؤية لأحدِهما على التعيين والتحقيقِ. وإذا دخلت على الأمرِ والاستدعاء [اقتضت] (¬5) الإباحةَ والإطلاقَ والتخييرَ, فإذا قالَ: كُلْ لحماً أو تمراً، أو اشترِ لي خُبزاً أو لحماً إو ادخُل الدارَ أو المسجد. كان ¬

_ (¬1) "الكتاب" 3/ 43. (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة (78) من الجزء الأول. (¬3) خلافاً لأبي عاصم العبادي من الشافعية، ولبعض النحاة، انظر "مغني اللبيب": 158، و"جمع الجوامع مع شرحه" 1/ 345. (¬4) في الأصل: "من". (¬5) ساقطة من الأصل.

ذلكَ تخييراً للمفعولِ (¬1) بين المذكورين. وإذا دخلت على النهي، فقد ذكرنا أنَّ المذهبَ أنَها للنهي عنهما، وذكرنا الدلالةَ بعد ذكرِ الخلاف، وتكلمنا على شبهةِ المخالفِ بما أغنى عن الإعادة ها هنا (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "للعقول". (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة (237) من هذا الجزء.

* العموم

[العموم] (¬1) فصل العمومُ: صيغةٌ تدل بمجردها على أنَ مرادَ النطقِ بها: شمولُ الجنسِ والطبقةِ مما ادخلَ عليه صيغة من تلكَ الصيَغ (¬2). وإنما تنكبتُ ما سلكه الفقهاء من قولهم: للعمومِ. لما قدمتُ في الأمر والنهي (¬3)، وأنَ من قالَ بأنَ الكلامَ هو عينُ الحروفِ المؤلفةِ، لا يحسنُ به أن يقولَ: للعمومِ صيغةٌ؛ لأنَّ الصيغةَ هي للعمومِ، فكأنه تقول: العمومُ عموم. وإنما يحسُنُ ذلكَ ممن قالَ: الكلامُ قائم في النفسَ (¬4)، فالصيغةُ له لا هُو. وقد شرحت في بدءِ كتابي هذا تقاسيمَ ألفاظِه وصِيغِهِ (¬5)، وإنما الكلامُ ها هنا في أصلِه دونَ تفاصيله، هذا مذهبُنا، نص عليه صاحبُنا، وبهِ قالَ الفقهاءُ؛ أبو حنيفةَ، ومالك، والشافعيُّ، وداودُ. وقالت الأشاعرةُ: ليس للعمومِ صيغة، وما يرد من ألفاظِ الجموعِ لا يحملُ على ¬

_ (¬1) زيادة ليست في الأصل. (¬2) وهو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين، حيث قالوا بأنَ للعموم صيغةٌ تخصُّه، ويعرف هذا المذهب بمذهب أرباب العموم. انظر تفصيل المسألة في"العدة" 2/ 485، و"التمهيد" 2/ 6، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 108، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 465، و"البرهان" 1/ 321، و" تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم" ص (105)، و"البحر المحيط" للزركشي 3/ 17، و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 99، و"الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم: 1/ 338. (¬3) انظر ما تقدم في باب الأمر في الصفحة (450) من الجز الثاني، وفي باب النهي في الصفحة (230) من هذا الجزء. (¬4) وهو قول الأشاعرة. (¬5) انظر الصفحة (91) من الجز الأول.

- فصل في دلائلنا من الكتاب على إثبات أن الصيغة دالة بمجردها على الاستغراق

عمومٍ ولا خصوصٍ إلا بدلالةٍ تدلُّ على ذلكَ (¬1). وقال بعضُ الأصوليين: إن ورد ذلكَ في الخبرِ؛ فلا صيغةَ له، وإن كانَ في الأمرِ والنهي؛ فله صيغة تحملُ على الجنسِ (¬2). وقال بعضُ المتكلمين: تحملُ ألفاظُ الجمعِ على أقل الجمعِ، ويُتَوقفُ في الزيادةِ على ذلكَ إلى أن يقومَ الدليلُ عليه. وهو قول أبي هاشم (¬3)، وابنِ (¬4) شُجاعٍ الثلجي (¬5). فصل في دلائلنا من الكتاب على إثبات أنَّ (¬6) الصيغة دالّةٌ بمجردها على الاستغراق فمنها: قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، تمسّكاً بقوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون: 27]، وقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40]، فأجابه الباري سبحانَه عن ذلكَ جوابَ تخصيصٍ لا جوابَ نكيرٍ عليه ما تعلّق بهِ من العمومِ، فقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، فدلَّ على [أن] (¬7) اللفظةَ عموم، ولولا دليلٌ أخرجَ ابنه من أهلِه؛ لكانَ داخلاً تحتَ اللفظِ. ومنها: أنه لما نزلَ قولُه تعالي: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، ¬

_ (¬1) "الإحكام" للآمدي 2/ 200، و"البحر المحيط" 3/ 22. (¬2) "الإحكام" للآمدي 2/ 201، و"إرشاد الفحول": 116. (¬3) هو عبد السلام بن محمد الجبائي، من رؤوس المعتزلة، توفي ببغداد سنة (321) هـ. "تاريخ بغداد" 11/ 55. (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "أبي". (¬5) هو أبوعبد الله محمد بن شجاع الثلجي، تقدمت ترجمته في الجزء الثاني، الصفحة: 109. (¬6) وردت (أن) في الأصل بعد (من)، ولا يستقيم المعنى بذلك، والصواب ما أثبتناه. (¬7) زيادة يستقيم بها المعنى.

قال ابن الزِّبعرى (¬1): لأخصمَنَّ محمداً. فجاء إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: قد عُبِدت الملائكةُ، وعُبدَ المسيحُ، أفيدخلون النارَ (¬2)؟! فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101]، فاحتجَّ بعمومِ اللفظِ، ولم يُنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلُّقَه بذلك، وأنزلَ اللهُ سبحانه جوابَ ذلكَ مما دل على تخصيم، لا منكراً لتعلُّقِه، فعُلِمَ أنَ العمومَ مقتضى هذه الصيغةِ. ثم إنَّ عبد الله بن الزِّبَعرى هَداه اللهُ إلى الإسلامِ، واعتذرَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بقصيدةٍ، قالَ فيها: أيامَ تأمُرني بأغْوى خُطَةِ ... سَهْم وتَأمُرني بها مَخْزومُ فاليومَ آمنَ بالنبيِّ محمدِ ... قَلبي ومُخطىء هذه مَحرومُ فَاغفِرْ-فِدى لكَ والديَّ كلاهُما- ... ذَنبي فإنَّك راحِمٌ مَرحومُ (¬3) ومنها: قولُه تعالى في قصةِ إبراهيمَ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن الزّبعرى بن قيس بن عدي، أبوسعد القرشي الشاعر كانَ من أشدِّ الناسِ عداوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية. أسلمَ بعد الفتحِ، وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله وقبل عُذْرَهُ. انظر ترجمته في: "الاستيعاب" 3/ 901، و"الإصابة" 2/ 355 - 303. و"أسد الغابة" 3/ 239 - 240، و"طبقات فحول الشعراء"1/ 233 ومابعدها. (¬2) أخرج الطبراني في "الكبير" (12739) من حديث ابن عباس: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال عبد الله بن الزِّبعرى: أنا أخصم لكم محمداً، فقال: يا محمد، أليسَ فيما أنزلَ اللهُ عليك: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}؟ قال: "نعم"، قال: فهذه النَصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة فهؤلا في النار؟! فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وذكره القرطبي في التفسير 11/ 343، والسيوطي في "الدر المنثور" 5/ 679. (¬3) الأبيات في "سيرة ابن هشام" 4/ 62، و"الاستيعاب" 3/ 953 - 904، و"الإصابة" 2/ 300، والأول والثالث في "طبقات فحول الشعراء"1/ 243.

- فصل فيما وجهوه من الاعتراض على هذه الآيات

بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 31 - 32] ففهِم إبراهيمُ من قولهم: أهل هذه القرية. إهلاكَهم على العمومِ، حيث ذكر لوطاً، وأجابت الملائكةُ بالتخصيص، واستثنوا أقرانه من جملةِ المهلكين، واستَثنوا امرأتَه من جملةِ الناجين، فهذه الآياتُ كلُها قد بانَ بها أنَّ. العمومَ ثابت بهذهِ الصيغِ، وأنها صيغٌ موضوعةٌ بمجرّدها. فصل فيما وجَّهوه من الاعترأض على هذه الآيات فمنها: قولُهم: إنَ هذه الصيغَ صالحة للعمومِ متهيئةٌ له، فإذا قام الدليلُ على مرادِه منها ثبتَ العمومُ، وبالصلاح يحسُن ما وُجه عليها من الاعتراض، ومنها: أن قالوا: بَعد دلائلَ قامت بان المراد بها العموم، لا بمجردها؛ لأن الألفاظَ المسموعةَ يقارنها حالَ السماعِ لها والتلقِّي لصيَغِها دلائلُ أحوالٍ، وشواهدُ تدلُّ على مراد اللافظ بها، وقصدِ منها، وترِدُ إلينا ساذجةً خاليةً من تلك الدلائلِ والشواهدِ، وهذا أمرٌ يعلمه كلُّ أحدٍ من ألفاظِ اللافظِين. فيقالُ: لو كانَ ذلك لأجلِ صلاحِها للعمومِ؛ لكان ما وجّهوه سؤالاً واستفهاماً. فأمَّا قول عبد الله بن الزبعرى: لأخْصمنَّ مُحمداً. فليس هذا حداً لصلاحيةٍ، بل كان غاية ما يقول: لأسألنَّ محمداً، فمن كانَ مرادُه كذا، قلتُ: كذا. فلما أقدمَ على ذلك إقدامَ الخصومةِ، وتقريرَ المناقَضةِ، عُلم أنه ما تعلق عليه إلا بمقتضى اللفظِ، دون الصلاحية فقط. وأما نوحٌ؛ فإنه اقتضى وجعلَ ذلك وعداً (¬1)، ولا ويقدِمُ نبيٌ كريمٌ على الاقتضاءِ ¬

_ (¬1) أي فهم من قوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40]، الوعد بنجاة جميع أهله، لعموم الصيغة.

- فصل في دلائلنا من إجماع الصحابة على ذلك قولا وعملا

بصلاحيةِ مجردة، بل بمقتضى ووضع. وإبراهيمُ قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]، ولم يقل: أيَهلِكُ لوطٌ في جملةِ أهلِها؟! والباري سمَّاه بذلك مجادلاً لا سائلاً، فقال سبحانه: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)} [هود: 74]، والمجادِلُ هو المحتج دونَ المستعلِمِ. وأمَّا دَعواهم مقارنةَ دلائلِ أحوالٍ وشواهدَ؛ فذلكَ توهم لا يتحققُ إلا بدلالةٍ، وما هذا القولُ إلا كدعوى (¬1) خصوصِ وَردَ ولم (¬2) يُنْقَل، ودعوى صارت لظاهرِ لفطٍ مَنقولٍ من غَيرِ نَقَلةٍ، ونسخِ نص من غير نَقلِ ناسخِه، فنحنُ متمسّكون بمطلق اللفظِ إلى أن تقومَ دلالةٌ بما ادّعاه الخصم. فصل في دلائلنا من إجماعِ الصحابةِ على ذلك قولاً (¬3) وعملاً فمنها: احتجاجُ عمرَ على أبى بكرٍ في قتاله ما نعي الزكاةِ: كيف تُقاتِلهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ أنْ أُقاتِلَ الناسَ حتى تقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دِماءَهم وأموالهم" (¬4)؟، فلم ينكِرْ عليه احتجاجَه بذلك، بل عَدَل إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "الدعوى". (¬2) في الأصل: "لم" بدون الواو (¬3) مكررة في الأصل. (¬4) أخرج أحمد 2/ 423، 528، والبخاري (1399)، و (6924) و (7284)، ومسلم (20)، وأبوداود (1556) والترمذي (2610)، والنسائي 5/ 14 و6/ 5 و7/ 77، 78، وابن حبان (216)؛ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر رضي الله عنه بعده، وكَفَر من كَفر من العرب، قال عمر يا أبابكر كيف تُقاتل الناسَ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصَمَ مني ماله ونفسه إلأ بحقِه، وحسابُه على الله"؟ قال أبوبكر رضي الله عنه: والله لأقاتلنَّ =

التعلُّق بالاستثناء" وهو قوله: "إلا بحقّها"، والصحابةُ متوفّرونَ، وبتلك القصة مهتمونَ، ولا أحدَ أنكرَ ذلك التعلُّقَ بالعمومِ، ولا أنكرَ جوابَ أبي بكر عنه بالتخصيص. ومنها: احتجاجُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وسلامُه عليها بعمومِ آية المواريثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] على أبي بكر الصدّيق لما مَنعها ميراثَها من أبيها، فلم يُنكر احتجاجَها بالآية، بل عَدلَ إلى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من دليلِ التخصيص، وقوله: "نحنُ مَعاشِرَ الأنبياء لا نُورَث، ما تَركنا صَدَقة" (¬1). ومنها: لما اختلفَ علي وعثمانُ في الجمعِ بينَ الأختين (¬2)، فقال عثمانُ: يجوزُ، واحتجَّ بعمومِ قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، وقال ¬

_ = من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة من حَقِّ المالِ، ووالله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلاّ أن رأيتُ أنَ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفتُ أنَّه الحق. وحديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى .. " تقدم تخريجه في 1/ 190. (¬1) رواه من حديث أبي بكر رضي الله عنه: أحمد 1/ 4 و6 و9 و10، والبخاري (3093) و (3712) و (4036) و (4241) و (6726)، ومسلم (1759)، وأبود اود (2963)، النسائي 7/ 132. ورواه من حديث عائشة رضي الله عنها أحمد 6/ 145 و 262، والبخاري (6727)، ومسلم (1758)، ومالك في "الموطأ" 2/ 993. ورواه من حديث أبي هريرة مالك في "الموطأ" 2/ 993، والبخاري (6729)، ومسلم (1760)، بلفظ: "لا يَقتسم ورثتي دنانير, ما تركتُ بعد نفقةِ نسائي ومُؤنةِ عُمَّالي، فهو صدقة". (¬2) المقصود بالأختين هنا، الأختان المملوكتان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أحلّتهما آية، وحرَّمتْهما آية. ومقصوده: أحلتهما اَية: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، وحرَّمتهما =

علي: لا يجوز واحتجّ بعموم قوله: {أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬1) [النساء: 23]، ومنها: ما احتجَّ به من كان يُبيح شُربَ الخمر ممن لم يعرف النسخَ، بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬2) [المائدة: 93] ولم ينكر سائرُ الصحابةِ ذلكَ، وإنما بينوا لقائل هذا أنه منسوخ (¬3). وروي عن عثمان (¬4) أنه لما سمع قولَ الشاعر ألا كُلُّ شَيءٍ ماخَلا اللهَ باطِلُ ... وكُلُّ نَعيمٍ لامَحالةَ زائلُ (¬5) ¬

_ = آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. "سنن البيهقي" 7/ 164، و"سنن سعيد بن منصور" 1/ 396، 397. وانظر تفصيل المسألة وأقوال الصحابة والفقهاء فيها في "المغني" 9/ 537 - 538. (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 587، والدارقطني 3/ 281، والبيهقي 7/ 163، وابن أبي شيبة 4/ 169، 170. (¬2) تأوَّل هذه الآية، وحملها على عمومها، وفهمَ منها إباحة جميعِ المطعومات، قدامةُ بن مظعون، عاملُ عمرَ بن الخطابِ، على البحرين، حيث استدل بهذه الآية على منع إقامة حدِّ شرب الخمر عليه، ورد عمر -رضي الله عنه- اجتهاده هذا، وقال له: أخطأتَ التأويل، إنّك إذا اتقيت، اجتنبتَ ما حرَّم الله عليك. انظر"مصنف عبد الرزاق" (17576) و"سنن البيهقي" 8/ 316. وذكر الدارقطني 3/ 166، القصة عن رجل من المهاجرين لم يُسمه. (¬3) تابع ابن عقيل شيخه أبا يعلى في القول بأن الآية منسوخة، كما في "العدة" 2/ 495. وفي ذلك نظر فالآية نزلت بعد آية تحريم الخمر ومعرفة سبب نزولها يوضح عدم النسخ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}. أخرجه أحمد 1/ 234، والترمذي (3052)، والطبراني (11730)، والحاكم 4/ 143، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5617). (¬4) هو عثمان بن مظعون الصحابي رضي الله عنه. (¬5) البيت للبيد بن ربيعة العامري، وهو في "ديوانه": 256، وفي "الشعر والشعراء"1/ 297.

- فصل فيما وجهوه من السؤال على هذه الدلائل

فقال: كذبتَ، نعيمُ أهلِ الجنَةِ لا يزولُ (¬1). وهذا كُلُه أخذٌ بالعموم وتجويز للقول به. فصل فيما وجّهوه من السؤال على هذه الدلائل فمنها: أن قالوا: هذه أخبارُ آحادٍ، لا يثبتُ بمثلِها هذا الأصلُ. ومنها: أنه يَحتملُ أنَّ كلَّ صيغةٍ من هذهِ الصِّيغِ دلَّت عليها دلالةٌ، أو قارنتها قرينةٌ دلَّت على إرادةِ العمومِ بها والاستغراقِ. فيقال: هي وإن كانت آحاداً في آحاد القضايا، إلا أنها تواترٌ في أصلِ استعمالهم العموماتِ، واحتجاجهِم بها، فصارَ ذلك كشجاعةِ عليٍّ، وسخاءِ حاتِم، وفصاحةِ قُسٍّ، وما ورد في جُزئياتِ سِيَرهم وآحادِ أخبارِهم آحاد، وأصلُ ذلك فيهم تواترٌ. على أنَّ هذه الأحاديثَ متلقاةٌ بالقبولِ، فهي في حكمِ التواتر ولأنَ ما نحنُ فيه ليس بأصلٍ قطعيٍّ حتى تُطلبَ له أدلةٌ قطعيةٌ، بخلافِ أصولِ الدياناتِ، ولهذا يسوغُ فيه الخلافُ، ولم نُفَسق مخالفنا فيها. وأمَّا دعوى القرائنِ، فلو كانت لنُقلت، كما نُقِلَ أصلُ الصيغِ والألفاظِ، ولا يجوزُ الإخلالُ بالقرائِن مع كونِ الألفاظِ تتغيرُ بها أحكامُها (¬2). فصل في دلائلِنا من غير الآي والأخبارِ فمن ذلكَ: ان أهلَ اللغةِ قد ثبت كونُهم حُكماءَ علماءَ، ودل على ذلكَ ما نُقلَ عنهم وَظهرَ منهم من الأوضاعِ الحكيمةِ (¬3)، ومعلومٌ أنَّ العمومَ المستغرِقَ لجميعِ ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 9، "الإصابة" 2/ 457. (¬2) انظر"العدة" 2/ 496 - 497. (¬3) في الأصل: "الحكية".

- فصل في الأسئلة على هذه الطريقة

الجنسِ قد عُلِمَ وعُرِفَ، وبهم حاجةٌ إلى أن يضعوا له صيغةً، كما وضعوا لجميعِ المسمَيات من الأسماءِ، وكما وضعوا للخبرِ، والاستخباير، والتمني، والترخي، والنداءِ، وجميعِ ما احتاجوا إليه، وضعوا له لفظاً يُنبىءُ عنه ويدل عليه، ومعلومٌ شدةُ حاجتِهم إلى التعبيرِ عن الجموعِ والأعدادِ في أمرِ دينهم ودنياهم، فكيفَ يُنسبونَ إلى الغفلةِ عن الوضعِ للعمومِ صيغة تخصُّه؛ ولا لفظ أحق بذلكَ من الألفاظِ التي حصرناها، والضيغ التي سطَرناها في صدرِ كتابِنا هذا (¬1). فثبتَ أنها هي الموضوعةُ للعمومِ، المقتضيةُ للاستغراقِ والشمولِ. فصل في الأسئلة محلى هذه الطريقةِ فمنها: أنَ هذا إثباتُ لغةٍ باستدلالٍ، وليس للغةِ طريقٌ سوى النقلِ، ولا نقلَ يعطي ما ذكرتم. وفي طريقتكم هذه سَوْرَة (¬2) على العرب، وإيجابٌ عليهم أن يضعوا، وما وضعوا، وليسَ ذلكَ بواجبٍ عليهم، ولاهم معصومون (¬3) في الوضعِ، بحيثُ لا يخلون بما ينبغي منه. ومنها: أنهم قد وضعوا ألفاظاً كثيرةً صالحةً له، وتأكيداتٍ تنبىءُ عنه، ودلائلَ أحوالٍ تدُلُّ علي الألفاظِ الصالحة بأنَّ المرادَ بها العمومُ. وفي ذلكَ غنىً عن الوضعِ المقتضي للعمومِ. ومنها: أنَّهم قد أغفلوا أشياء، فلا نَأمنُ أن يكونَ هذا من جملةِ ما أعْفلوه. فمن ذلكَ؛ أنهم وضعوا للفعل الماضي: ضربَ، وللمستقبلِ: يضربُ وسيضربُ، ولم يضعوا ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في 1/ 35. (¬2) في الأصل: "مسورة"، ولم يتضح معناها، ولعل المثبت هو الصواب، والسورة: السطوة، يقال: سورة السلطان: سطوته واعتداؤه."اللسان": (سور). (¬3) في الأصل: "معصومين".

- فصل في الأجوبة على الأسئلة

للحالِ اسماً يعبَّر به عنها. وكذلكَ الطعومُ والأرايح (¬1)، لم يضعوا لكُلِّ طعمٍ ولا لكلِّ ريح اسماً. فصل في الأجوبةِ على الأسئلةِ فمنها: أن يقالَ: ليس إثبات لغةٍ إلا بالنقلِ، لكنا دللنا على ان المنقولَ من ألفاظِ (¬2) العموم هو الموضوعُ؛ ولأنَّ القرائنَ ودلائلَ الأحوالِ (¬3) إنما تكونُ فيما بيننا، فأمَّا اللهُ سبحانَه؛ فلا دلائلَ أحوالٍ ولا قرائنَ بينَنَا وبينَه تدل على العمومِ من اللفظ الصالحِ له. ومنها: أنَ دعواهم: ما وُضِعَ من التأكيداتِ الدالةِ على العمومِ، فالتأكيداتُ من أدلّ الدلائل (¬4) لنا على أنَ المؤكد موضوع يقتضى [العموم] (¬5)، لأنَّ التأكيدَ إنما يحكي (¬6) المؤَكد، فأما أن يجددَ التأكيدُ اقتضاءً لم يكن في اللفظ، فلا. فقوله تعالى: {فَسجدَ الملائِكَةُ}، لو لم يُعطِ العمومَ، لما كان في قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر 30] ما يعطي (¬7)، وإن كان الأوّل غير مُقتضٍ، فالثاني مثلُه، لم يبقَ ¬

_ (¬1) في "اللسان": (روح): وجمع الريح أرواح، وأراويح جمع الجمع، وقد حكيت: أرياح وأرايح، وكلاهما شاذ. (¬2) في الأصل: "الألفاظ". (¬3) في الأصل: "الأقوال". (¬4) في الأصل: "الدليل". (¬5) زيادة يستقيم بها السياق. (¬6) هكذا في الأصل، وفي "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 14: "لأن التأكيد لا يدل إلاّ على ما دل عليه المؤكَد". (¬7) انظر "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 194، و7/ 158.

إلا أنَّ الوضع حاصلٌ في الجميعِ، وإنما أُكدَ الأولُ بالثاني، والثاني بالثالثِ، وليس شيءٌ من قرينةِ تقترن بالصيغ التي نقول: إنها موضوعة، إلا وفي الصيغة ما يغني عنها. ومنها: أنَ دعواهم أنَهم أغفلوا أشياءَ، فليس كذاكَ، بل دقَقوا في النوع الذي ظنَ المخالفُ أنَهم أغفلوه، حتى قالوا: حامض وحُلو ولما تركَبَ بينهما: مُزٌ. فوضعوا لما تركَبَ بين حلاوةِ وحموضةِ اسماَ، لكن قنعوا في بعض الأرايحِ والطُّعومِ بالإضافةِ، والإضافةُ كافية، فإنَ الله سبحانَه سمَّى نفسَه بأسماءَ مشتقةِ من أفعالِه؛ كخالقٍ ورازقٍ، ومن صفاتِه؛ كعالمٍ وقادرٍ، ومن أسمائِه ما هي إضافة كقولهِ: {ذُو الْعَرْشِ} (¬1) و {الطَوْلِ} (¬2)، وفي بعض الكتبِ: أنا اللهُ ذو بَكَة (¬3)، فالإضافاتُ مسميات، فقالوا للجنسِ: حلوَّ، فشملوا به طعم العسلِ والرطبِ، وقالوا: رائحة ذكيَّةٌ. فعموا بها ريحَ العودِ والكافورِ، ثم خَصصوا الرائحةَ بمحلها، والطعمَ بمحله، ¬

_ (¬1) وذلك في قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ}، سورة غافز الآية 15، وفي قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}، سورة البروج، الآية 15. (¬2) وذلك في قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} ,سورة غافر, الآية3. (¬3) أخرج عبد الرزاق في "المصنف" (9219)، عن الزهري: (بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح، في كل صفح منها كتاب، في الصفح الأول: أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لأهلها في اللحم واللبن، ومكتوب في الصفح الثاني: أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم، وشققتُ لها من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بَتَتُّهُ. وفي الصفح الثالث: أنا الله، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يده، وويل لمن كان الشر على يده". وأخرج نحوه عن مجاهد (9220) و (9221). وهو في "المطالب العالية" 1/ 335، و" جامع الأحاديث القدسية"1/ 373، و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 78، و "البداية والنهاية" 2/ 327.

فقالوا: حلاوةُ العسلِ، وحلاوةُ الرطبِ، وريحُ الكافورِ، وريحُ المسكِ. فما أغفلوا ولا أهملوا. وعندكم أنَّهم لم يضعوا صيغةً للعمومِ، بل صارَ للعموم ما قرنوا به قرينةً، أو دلَّت عليه دلالةُ حالٍ، والعمومُ أصلٌ من الأصولِ، والأسماءُ المفردةُ دونَه، فلا يُظَن بهم أنهم وضعوا للجزئيِّ وأغفلوا الكُلي، وفي اسمِ الجنسِ من المطعومِ ما أغفلوه، بل وضعوا له اسم إضافةٍ إلى محله، وهو أحدُ أقسام الأوضاعِ والأسماءِ الدالة على المسمّياتِ، ولأنَ الأرايحَ كثُرت واختلفت، فجازَ أن يعتمدوا فيها على الإضافةِ إلى محلها، والعموم أصل، فلا حاجة بهم إلى إغفالِه، ثم إنَّ ها هنا صيغٌ تشهدُ بأنها موضوعةٌ للعمومِ، فلا نعطلُها ونحوجُها إلى قرائنَ ودلائلِ أحوال. فصل ومن الدلائل المشاهَدة لمذهبِنا: أنّا وجدنا أهل اللغة قد وضعوا للواحدِ لفظاً يخصُّه، وللاثنينِ لفظاً يخصُّهما؛ وهي التثنيةُ، وللجمع لفظاً يخصُّه، فقالوا: رجلٌ، ورجلانِ، ورجالٌ. كما وضعوا للأعيان المختلفةِ في الصّورِ ألفاظاً تخصّها، فقالوا: أتانٌ، وفرسٌ، وحمارٌ، وما وضعوا هذه الأسماءَ الخاصةَ إلا للفرقِ والتمييز بين المسمَّيات، فلو كانَ لفظُ الجْمعِ محتملاً للاثنين، لما كان للوضع معنىً. ومن وجهٍ آخر وهو أنَّهم لما لم يُغفلوا اسمَ التوحيدِ والتثنية والجمعِ، فلا يجوزُ أن يُغفلوا اسماَ يضعونه للشمولِ والعمومِ الجامعِ للجنسِ الذي تحتَه العدد (¬1) المخصوص. قالوا: ليسَ في لفظِ الواحدِ والاثنينِ، والفرس والحمارِ ما يخلطُ التأحيدَ بالتثنية، ولا النَّهاقَ بالصَهَّال، وفي الجمعِ نوعُ شركةٍ ظاهرةٍ، وهو (¬2) أنه يقعُ على الأقل والأكثرِ ¬

_ (¬1) فى الأصل: "للعدد". (¬2) مكررة في الأصل.

- فصل من دلائلنا

إلى غيرِ غايةٍ، فإنَّ قولَنا: رجالٌ. يقعُ على ألفٍ، لو فُسِّرَ بها، كما يقعُ على ثلاثةٍ، فجاءت الشركةُ في الجمعِ، فصاركسائر الأسماءِ المشتَركةِ. فيقال: لنا مُتَيقَّنٌ أقل؛ وهو الثلاثة، فلا توقُعَ للشَّركةِ إلا في محلِّ الاشتباهِ، وهو ما زادَ على الثلاثةِ، كما يعطي الحمارُ والشجاعُ حقيقتَه عند الإطلاقِ، فيتركُ المجازُ والاتساعُ لما تقومُ عليه الدلالةُ لنقلِه عما وُضِعَ له. فصل ومن دلائلنا: أنَّا أجمعنا وإياهم على أنَ الاستئناءَ حُبسَ دخولُه عل هذهِ الصيغِ الموضوعةِ عندنا للعموم، فقالت العربُ: جاء بنو تميمٍ إلا زيداً (¬1)، ومن دخل داري فأكرِمْهُ إلا المجرمَ، وأعطِ فقراءَ بني تميم إلا الجبناءَ، واذبَحْ إبلي إلا العجافَ. وهذا يدُلّ على أنَّ الصيغَة موضوعةٌ للعمومِ؛ لأن الاستثناء إنما يُخرجُ ما لولاه لدخلَ تحتَ اللفظِ. يوضِّحُ ذلكَ في الأعدادِ قولُهم: لهم عليَّ عشرةُ دراهمَ إلا درهماً (¬2). فيكونُ بالالستثناءِ إقرارٌ بتسعةٍ، ولولاه لدخلَ العاشر فإذا بانَ بدخولِ الاستئناءِ أنَّه لولاهُ لكانَ داخلاً شاملاً؛ عُلمَ بذلكَ أنه مع عدمِ الاستثناءِ موضوعٌ للشمولِ والعمومِ. والذي يكشفُ عن هذا: أنَّ الاستثناءَ لم يحسُن من غيرِ الجنسِ لما لم يكن داخلاً تحتَ عمومِ اللفظِ، فاستقبحَ أن تقولَ: رأيتُ الناسَ إلا حماراً. فلمّا حسُنَ أن يخرجَ بالاستثناءِ كل اسمٍ من الجنسِ المذكورِ في الصِّيغة؛ عُلِمَ أنَّ الصيغةَ شملت، وأنَّ الجنسَ بآحادِه دخلَ، فَحَسُنَ الاستثناءُ لمكانِ اقتضاءِ دخوله (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "زيد". (¬2) في الأصل: "درهم". (¬3) انظر "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 20 - 22.

- فصل فيما وجهوه على هذه الدلالة

فصل فيما وجَّهوهُ على هذهِ الدلالةِ فقالوا: ولِمَ قَصرتم الاستثناءَ على ذلكَ؟ وما أنكرتم أن يكونَ تسلط للاستثناءِ على هذهِ الجملةِ، لصلاحيتها للعمومِ دون اقتضائها، ونحنُ لا نمنعُ أنها بالإطلاقِ صالحةٌ، وإنما نمنعُ أن تكونَ تقتضي العمومَ وليس فيما ذكرتم من الاستثناءِ ما يَدُلُّ على أكثرَ من الصلاحية. فيقالُ: هذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الاستثناءَ لا يُخرجُ إلا ما اقتضاه اللفظُ؛ لأنه مأخوذٌ من قولهم: ثنيتُ عِنانَ فَرسي. إذا صَرفه. وقيل: إنه مأخوذ من تثنية خبرٍ بعد خَبر، فإنَّ قولَه سبحانه: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]، خبرٌ بنجاةِ لوطٍ، [وقوله:] (¬1) {إلا امرأتَه} خبر بإهلاكها، وأيُّهما كان اقتضى دخولَ المستثنى في (¬2) اللَّفظ حتى يصرفه عنه في قولِ بعضِهم، فيثني الخبرَ بعد الخبرِ في قولِ البعضِ. ولأنَّه لو كان حَسُنَ الاستثناءُ، لجواز أن يكونَ داخلاً في اللفظ، لوجَب أن يصحَّ من النكراتِ، كما يصحُّ من المعارِف المقتضيَة للجنسِ، فلما لم يحسُن ذلكَ في النكراتِ، بَطلَ ما ذكروه (¬3). فصل في دلالةٍ لنا أيضاً هي (¬4): أنَه لو قال لرجل: من عندَك؛ حسُنَ أن يجيبَ بكل واحد من جنسِ العقلاءِ، حتى لو استوعبَ الجميعَ لكان ذلكَ جواباً، ولو لم يكن اللفظُ عامَّاًشاملاً لجميعِ الجنسِ، ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق. (¬2) في الأصل: "من"، والمثبت أنسب لسياق العبارة. (¬3) انظر "العدة" 2/ 500. (¬4) في الأصل: "هو".

* فصل: من أدلتنا أن للعموم تأكيدا وللخصوص تأكيدا

لما صار مُجيباً بكلِّ واحدٍ من الجنسِ؛ لجوازِ أن يكونَ المسؤولُ عنه غيرَ الذي أجابَ به. ألا ترى أنَه لو أجابَه بواحدٍ من جنسِ البهائمِ لما كان مجيباً له، لمّا لم يك داخلاً تحت السؤال بحرف (مَن). قالوا: إنما حَسُن ذلك؛ لأنَّ اللفظَ يَصلُحُ لكلِّ واحدٍ منهم (¬1) لا لأنَّ اللفظَ شاملٌ لهم من طريقِ الاقتضاءِ. قيلَ: اللفظُ يصلحُ لما أجابَ به ولغيرِه، فيجبُ أن لا يصح الجوابُ حتى نعلَم مرادَ السائلِ. يدلُّ عليه: أنه لو قالَ: من دخلَ الدارَ فله درهمٌ، أو من ردَّ عبدي الآبقَ فله درهمٌ. يستحقّ كل من وجدَ ذلكَ منه العطاءَ، فدلَّ على أنَ اللفظَ يقتضي الكل. ومن أدلتِنا: أنَ للعمومِ تأكيداً، وللخصوص تأكيداً، وقد اتفقنا على أنَّ تأكيدَهما يختلفُ في أصل الوضعِ، لا بقصدِ ولا إرادةٍ، لاختلافهِما، فكذلكَ يجبُ أن يكونَ أصلُ المؤكَدهين اللذين أحدُهما عام، والآخرُ خاصّ مختلفَينِ في أصل الوضعِ، لا بالقصدِ إلى ذلكَ، ولا بالإرادة له، وقد ثبتَ أنَّ في حق التأكيدِ أن يكونَ كقول المؤكَّد ومطابقاً لمعناه، ومتى لم يكن كذلكَ خرج عن كونه تأكيداً. والذي يوضحُ ذلكَ من المثالِ: أنَّ القائلَ لو قالَ: ضربتُ زيداً كلهم أجمعينَ أكْتَعين (¬2)، أو أكرمتُ عَمْراً أجمعَين كلَّهم سائرهم. لم يكن قولاً صحيحاً في اللغةِ، و [كان] (¬3) خارجاً عن قانونِها، ولا يجوزُ أن يقولَ: ضربتُ القومَ أو الرجالَ نفسَه أو عَينه. وإنما القولُ الجائرُ في ذلكَ، المسموعِ من أهلِ اللغةِ: ضربتُ زَيداً نفسَه، ¬

_ (¬1) في الأصل: "منكم". (¬2) أكتعين: ردف لأجمعين، ولا تأتي إلا على إثرها، تقول: رأيت القوم أجمعين أكتعين، ورأيت المال جمعاً كتعاً، واشتريت هذه الدار جمعاء كتعاء."اللسان": (كتع). (¬3) في الأصل:"ولا"، والمثبت هو المناسب لاستقامة العبارة.

- فصل فيما وجهوه من الأسئلة على هذه الأدلة

وضربتُ القومَ كلهم أجمعينَ، أو سائرَهم أكتَعينَ. وإذا كان كذلك: ثبتَ أنَّ للعمومِ لفظاً يخصُّه، وللخصوصِ لفظاً يخصُّه، كما أنَّ للواحدِ لفظاً يخصُّه، وللاثنينِ لفظاً يخصهما، وللثلاثة لفظاً يخصّها، فصارَ العمومُ والخصوصُ في الوضعِ كالأعدادِ من الآحادِ والتثنياتِ والجموعِ، لكل قدرِ منها لفظٌ يخصُّه (¬1). فصل فيما وجّهوه من الأسئلةِ على هذهِ الأدلة فمنها: المنعُ من القاعدةِ (¬2)، وأنه قد يؤكَد لا بما اقتضاه المؤكَّد. من ذلك: قول القائل من العرب: كلُّ رجلِ ضَربني ضربتُه، وسائرُ من أكرمني أكرمتُه. ولفظة سائرُ وكلُّ للجميعِ، وقوله: أكرمتُه، وضربتُه. إنما رجع إلى الواحد، ولا جَمع فيه أصلاً، فقد قوبلَ الجمعُ والعمومُ بالواحدِ، وأكِّدَ بما لا جَمْع فيه. قال اللهُ سبحانَه تصديقاً لهذا في اللغةِ، ودليلاً على أنّه أصل فيها: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38] , {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وكُلّ صالح للعمومِ عندنا، وموضوعٌ عندكم، وقد أُكِّد برجل، ونفس وإنسانٍ، وليس فيه جمعٌ رأساً، بل هو لفظٌ للواحدِ. ومنها: أن قالوا: نُقِلت الدلالةُ على عكسِ ما أردتم، وأنها لما حَسُنَ أن يُعطفَ عليها أجمعين وأكتعين، عُلم أن كُل وسائرَ لا يعطي ولا يقتضي الشمولَ والعمومَ، إذ ¬

_ (¬1) انظر "العدة"2/ 497، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 17 - 20. (¬2) يعني أن التأكيد لا يكون إلاّ بما يكون به المؤكَّد وما يقتضيه.

- فصل في الأجوبة عن أسئلتهم

لو كانت تقتضي ذلكَ لما احتيجَ إلى ثانٍ (¬1) منها، وثالثٍ؛ لأنَّ كل صيغةٍ من هذهِ لا تُفيد إلا ما أفادت الأولى, فهو كقولِ القائلِ: رأيتُ ثلاثةَ أنفسٍ وواحداً، أو واحداً وواحداً وواحداً. لمّا كانت الثلاثةُ موضوعةً لا جَرمَ لم يحسُن أن تؤكَّد بما ذكرنا من عطفِ الآحادِ عليها، وكذلكَ لو قال القائلُ: أعطه عشرةَ دراهم؛ تسعةً [ودرهماً، أو] (¬2) ثمانيةً ودرهمين. لم يكن ذلك مفيداً؛ لاستغنائنا بكونِ الأوَّلِ موضوعاً لهذا العددِ المخصوصِ. ومنها: أن قالوا: استشهادكم بالتأكيدِ وألفاظِه غفلةٌ منكم؛ لأنَّ الخلافَ في كُلِّ لفظٍ أوردتموه مؤكَّداً كان او مؤكِّداً، فلا يقتضى شيء من ذلكَ الشمولَ والعمومَ، بل هوصالحٌ، فَلمكانِ (¬3) الصلاحية التي فيه عُطف عليه مايَصلحُ له، فأمَّا الاقتضاءُ فإنما هو مجرَّد دعوى وزيادة على الصلاحية، ولا دلالةَ (¬4) لكم عليها، وإنما أرادَ عطفَ شيءٍ على شيءٍ ليبلغَ بذلك إلى غايةٍ، هي العلمُ بأن قصدَه الاستغراقُ، فيقولُ: أكرِم كُلَّ العلماءِ، فقيرَهم وِغنيَّهم شيخَهم وشأبَّهم، قاصيَهم ودانيَهم، حتى ينتهيَ إلى الغاية، فيعلمَ المقولُ له أنَّ قصدَ المتكلَّم: عمومَهم وشمولَهم بالإكرامِ. فصل في الأجوبةِ لنا عن أسئلتهم فأمَّا الأوّلُ: ومنعهُم أنَّ التأكيدَ لا يكونُ إلا بما يكون كالمؤكِّد، وما يقتضيه. فغيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الأمرَ في ذلك أظهرُ وأشهر فإنَّ القائلَ من أهلِ اللغةِ يقولُ: دخلَ السلطانُ نفسه. وإن كان اسمُ السلطانِ لا يقعُ على غيرِه، ولا وُضعَ إلا للمسلطِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ثالث". (¬2) زيادة يستقيم بها السياق. (¬3) في الأصل: "فلما كان". (¬4) في الأصل: "دالة".

بالحقِّ، لكن أكَّد الحقيقةَ بالحقيقةِ، لما قد يُستعانُ في ذلكَ من المجازِ، وأنَّه قد يقالُ: دخلَ السلطانُ البلدَ. وإن كانَ الداخلُ إليه عسكرُه أو رَحلُه وثَقَلُه (¬1)، وكذلكَ قولُهم: قد سكنَ زيدٌ الدارَ الفلانيةَ. ويُراد به نفسه، ويحسُنُ أن يقالَ: سكنها بنفسِه. دفعاَ لتوهُّمِ الاستعارةِ في ذلكَ، وأن يكونَ سكنها بمعنى أنه نَقل إليها رحله وأهلَه، وإن لم ينتقل بنفسِه، فهذا الأمرُ لا يجحدُه إلا مُكابرٌ أو جاهلٌ باللغةِ. وأمَّا قولُهم: كُل مَن أكرمني أكرَمْتُه. ولم يقل: أكرمتهم؛ لأنَّ كُلّ ها هنا دخلت بمعنى: أيّ النَاسِ أكرمني أكرمتُه. والوحدةُ ها هنا أبلغُ من الجمعِ؛ لأنَّ قوله: كُل مَن لفظةُ كُلّ معطوفٌ عليها (مَن)، ومعطوفٌ عليها: كل نفسٍ، وكل إنسانٍ، فعاد التأحيدُ إلى التأحيدِ، ولا يحسُنُ: كل نفسٍ بما كسبوا، وكُلّ نفسٍ ذائقون الموت، وإن جاز فالتأحيدُ أحسنُ مساغاً، كقوله: {رَهِينَةٌ} و {ذَائِقَةُ}، وأكرمتُه إلى لفظِ الواحدِ؛ لأنَه أبلغُ؛ لأنَّ إكرامَ الواحدِ من الكُل مع دخولِ الكُل على الآحاد يعطي إكرامَ (¬2) الكُل والآحادِ، وأن تكونَ كلُّ النفوسِ وآحادها رهينةً وذائقةً للموت، فصار المعنى: أيُ النفوسِ كَسَبت؛ فهي رهينة بكسبها، وأيُ الرجال أكرمني أكرمته. وأمَّا قولهم: إنَ التأكيدَ يعطي ضدَّ ما أردتم، وإنه لو اقتضى اللفظُ الأولُ العمومَ لما احتيج إلى الثاني، ولما حَسُن عطفُه. فغلطٌ؛ لأنَّ التأكيدَ إنما دخلَ لنفي التوسع، والمجازِ، ولَّما كان أهلُ اللغةِ قد يتوسّعونَ بالمجارِ فيقولون في حق المعظَيم: جاءني كلُّ بني تميم. والمرادُ: أكثرُهم، والمجازُ لا يؤكَّد، أدخُلوا التأكيدَ لدفعِ التجوز والتوسع، فقالوا: أجمعينَ، أكتعينَ، أبْصعين، حتى لا يبقى توهُّمٌ للمجازِ والتوسُعِ، مثلُ قولهم: حمارٌ نهَاق ذو أربع. يُزيلونَ بالتأكيدِ توهُّمَ الرجلِ البليدِ. والذي يدُلُّ على أنَ التأكيدَ يعطي ما ذكرنا: أنه لا يحسنُ أن نقولَ: رأيتُ زيداً ¬

_ (¬1) الثقل: متاع المسافر وحشمه."اللسان": (ثقل). (¬2) في الاصل:"أكرم"، والمثبت أنسب للسياق.

غيره. ولا يقالُ: إلا نفسَه وعينَه؛ لأنَّ النفسَ والعينَ هى حقيقةُ زيدٍ. ولانُسَلِّمُ قولهَم: لا يحسن تأكيدُ الاعدادِ. بل اذا قالَ ما يؤكدُ الأعدادَ حَسُنَ قال الله تعالى. {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، فقد بان تجويز التأكيد فى الاعداد؛ التفصيل بالجملة، فكذلكَ يحسُنُ أن تُؤكد الجملة بالتفصيل، فإذا حسن أن يقال: عشرةٌ وثلاثون: أربعون، وثلاثةٌ وسبعةٌ: عشرةٌ. عطفاً وتأكيداً، كذلك يحسُنُ ان يقال: عشرةٌ، ثمَّ يقال: ثمانيةٌ واثنان. قياساً كانَ -فنحن نقول به، وأنَّ اللغة تثبتُ قياساً، وسنذكره في موضعه إن شاءَ الله (¬1) - أو استقراءً. وأمَّا قولهم: إنَ العطف للجمل المتساوية، وإنَّ المتساويةَ كلها مختلفٌ فيها، غيرُ مقتضيةٍ (¬2)، وإنما قصدوا بذلك بيان قصدهم وأنَّه الشمولُ، فصار بذلك الاستقصاءِ (¬3) مفيداً لاْ بنفس الصيغة. فغيرصحيح؛ لأنَّه اذا كان كل لفظ وصيغة من هذهِ الألفاظِ والصيغ لاتفيدُ الشمولَ، لم يكن اجتماعها مفيداً، فصيغةُ كُل، وجميع، وسائر وأجمعين، وأكتعين، كلُّ واحدةٍ منها لا تفيد عندكم، ولا تقتضي العموم، فكيف يجلبُ اجتماعها علماً المعلوم؟ وهل هذا إلا بمثابة من قال: رأيتُ معظمَ بني تميم، أكثرَ بنى تميم، أظهر بنى تميم؟ لم يعط ذلك تكرارُ الجميع، بل البعضَ، لكن الأكثرَ فقط فما أظهر التكرارُ تعميماً، حيث لم يكن فى الصيغة الأولى والثانيةِ والثالثةِ تعميم، فكيف يدعى العلم بالعموم بتكرار: كل؛ وسائر, وجميع؟ وكلُّ صيغةٍ منه على حدِّها لا تعطى ذلك ولا تقتضيه. ¬

_ (¬1) سبق وذكر المصنف ذلك فى الجزء الاولى:364و397 (¬2) يعني أنها غيى مقتضية للعموم. (¬3) في الأصل: "بالاستقصاء".

- فصل فيما استدل به بعض من وافقنا

فصل فيما استدل به بعضُ من وافَقنا، وأخرجه مخرجَ الاستبعادِ لمذهبِ الخصمِ، وليسَ بالمعتمد، لكن في ذكرِه فائدةٌ ليتحرَّز من الاعتمادِ عليه. فمن ذلك: قولُهم: إذا كان الباري قد كلَّفنا أمراً وحُكماً يشملُ الجنسَ ويستغرقُ الطبقةَ، ولم يكن قد وَضعَ للعمومِ صيغةً ترد في كتابه ولا على لسانِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والباري ليس بعاجزٍ عن أن يضعَ لذلك صيغةً نعقلُ بها ذلك، فلا وجهَ لذلك، فلم يبق إلا أنه قد وَضعَ لذلكَ صيغةً تقتضيه، كما كلَّف أحكاماً تعمُّ الجنسَ وتستغرق الطبقةَ (¬1). ومن ذلكَ: ما قالوا: أليسَ جبريلُ سمِعَ ألفاظاً صالحةً للعموم، ونزلَ بها على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فبماذا علِمَ؟ وجوابُ القومِ عن هذا سهلُ المتناوَل؛ لأنهم يقولون: إنَ مثلَ هذا لا يمنعُ كونَ الصيغِ صالحةً غيرَ مقتضية، وإنَّ الاعتماد في حصول العموم بها ما يتبعها من قرائنِ الألفاظِ، ورمزِ اللِّحاظِ، ودَلائلِ الأحوالِ، وشواهدِ الأقوالِ التي تجعلُ الألفاظَ كالنصوصِ بارتفاعِ الاحتمالِ، ولو جازَ أن يكونَ هذا رافعاً للاحتمال، جالباً للاقتضاء في هذه الألفاظِ؛ لكانت الصيغُ المشتركةُ، كالقرءِ والشَّفقِ، لا يجوزُ أن تردَ ويجعلَ نفي تجويزِ ورودِها هذه الدلالة. فيقالُ: إذا كانت الصيغةُ مُترددة (¬2) بينَ الأحكامِ، أو الأعيانِ، أو الأوقاتِ المختلِفةِ بل المتضادَّةِ، فكيفَ يكون ترجيحُ بعض (¬3) محتملاتِها؟ فلمَّا جازَ ورودُها، وكانَ الاعتمادُ في ترجيحها إلى بعضِ محتملاتها على القرائنِ لها ودلائلِ الأحوال ¬

_ (¬1) انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 206. (¬2) في الأصل: "المتردد". (¬3) في الأصل: "بعضها".

المرجِّحة لأحدِ محتملاتها، كذلكَ هذه الصيَّغُ. وأكثرُ من هذا المتشابهُ الذي أوهمَ التشبيهَ، وبعضُه الاختلافَ والمناقضَة، وأحالَ سبحانه في ذلكَ على عِلمِ المتأوَّلين أو تسليمِ المُحكِمين (¬1). وأمَّا ما يَسمعه جبريلُ من الوحي، فإنَّ اللهَ سبحانَه يضعُ في نفسِه (¬2) ما يعملُ عملَ القرائنِ في حقنا ودلائلِ الأحوالِ. فالمعتمِدُ على مثلِ هذهِ الطرقِ سريعُ الانقطاعِ؛ لأنَه كالمعوِّلِ في دليلِه على استعظامِ خَصْمِه طريقاً يوضِّحه ليحصلَ فهمُ العمومِ والشمولِ، فإذا أوضَح طريقاً صالحاً لتفهيمهِ ذلكَ، انقطعَ الكلامُ وصارَ كقائلٍ يقولُ لغيرِه: من أينَ علمتَ كذا؟ فإذا قالَ له: من طريقِ كذا. وذكرَ جهةً صالحةً لحصولِ العلمِ، سقَطَ الكلامُ. فينبغي للعاقلِ أن يتوقّى مثلَ هذه الطرقِ، فإنَ مصرعها وَخيم، وانقطاعَ المعتمدِ عليها سريعٌ. وكما ينبغي للمصنف أن يُرشدَ إلى الأدلةِ النافعةِ، ينبغي أن يُحذرَ من هذه الطرقِ المضرَّة، ليقعَ بتصنيفه تمامُ النَفع إن شاءَ الله. ¬

_ (¬1) يعني قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] (¬2) أي: في نفس النبي فى - صلى الله عليه وسلم -.

- فصل يجمع أدلة المخالف في هذا الفصل

فصل يجمع أدلّة المخالف في هذا الفصل (¬1) فمنها قولُهم: لو كانَ للعمومِ صيغةٌ موضوعةٌ تَقتضيه، لم يخلُ أن تكون ثابتةً بدليلِ العقلِ أو النقلِ، والعقلُ؛ فلا مجالَ له في إثباتِ اللغاتِ، والنقل؛ فلا يخلو من آحادٍ، ولا تَصلحُ لإثباتِ هذا الأصلِ؛ لأنها توجبُ الظنَّ، وهذه الأصولُ طريقُها القطعُ، أو يكون النقلُ تواتَر؛ فيجبُ أن يشيعَ خبرُه ويستبينَ أمرُه، حتى يكونَ العلمُ القطعيُّ به حاصلاً، والاتفاق عليه واقعاً، فلمَّا بطلت (¬2) دعوى وضعِ صيغةٍ للعمومِ، إذ لم يبقَ لها طريقٌ تثبتُ به، فيقالُ: هذا ينقلبُ عليكم في إثباتِكم الاشتراكَ في هذهِ الصيغِ والألفاظِ بين الخصوصِ والعموم. قلنا: لا تجدون (¬3) عنه انفكاكاً؛ لأنه لا يخلو ثبوتُ الاشتراكِ فيها عنْدكم أن يكون عقلاً، ولا مدخلَ لأدلةِ العقلِ فيما هذا سبيلُه من الوضعِ، أو نقلاً، فلا يخلو أن يكونَ تواتراً قطعياً فكانَ يجبُ أن نشتركَ وإياكم في علمِه، ويشيعَ خبرهُ شياعَ جميع ما نُقِلَ تواتراً، وإن كان آحاداً، فالآحادُ لا يثبت بها ما طريقهُ العلمُ. على أننا أثبتناه بنقلٍ يجري مجرى التواتر، وهو ما ذكرناه من النقلِ الذي رضيتم إثباتَه للصلاحية، وتَنكَّبتم منه الوضعَ والاقتضاءَ، وعَقَلنا نحنُ منه الوضعَ والاقتضاءَ بما أغْنانا ذِكره عن (¬4) الإعادة (¬5). ¬

_ (¬1) تنظر هذه الأدلة في "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 26 - 44، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 109 - 112، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 483 - 484، و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 99، و"المستصفى" 2/ 34، 36، 45 - 48. (¬2) في الأصل: "بطل". (¬3) محرفت في الأصل إلى: "تحذرون". (¬4) في الأصل: "من". (¬5) انظر ما تقدم في الصفحة 320 وما بعدها.

- فصل في شبههم: منها أن الألفاظ والصيغ إذا جاءت مطلقة وجب الوقف

وقد تكرَرَ طلبُكم في هذا التواترِ الذي يزيلُ الشك ويقطعُ الخلافَ، وليس هذا من أصول الدينِ بشيءٍ، إذ لو كان (¬1) مما لا يثبتُ إلا بالأدلةِ القطعية، لما سوَّغ الفقهاءُ لإجماعهم الخلافَ فيه، كما لم يسوغوه في أصول الديانات، ولكفّروا مخالفَهم أو فسَّقوه، كما اعتمدوا في أصولِ الديانات. فصل في شبههم فمنها: أن قالوا: إنَ هذه الألفاظَ والصيغَ تردُ والمرادُ بها الكُلّ، وتردُ والمرادُ بها البعضُ، فإذا جاءت مطلَقة بغيرِ دلالةٍ ترجحها، ولا قرينةٍ تقرنها إلى أحدِ الأمرين، بقيت على التردُّدِ؛ فلا تقتضي أمراً معيَّناً؛ فوجبَ الوقفُ، فإنَّ حَمْلَها على أحدِ محمليها بغير دلالةٍ حَزْرٌ وتَخْمين. وبمثلِ هذا لا تثبت الأحكامُ، ولا تُشغلُ الذِّمَم، وما صارت إلا بمثابة الأسماءِ المشتركَة، مثل: جَون، ولَون، وقرء، وعَين، وشَفق، لا يحملُ على أحدِ محتملاته: البياضِ أو الحمرةِ، أو الطهر أو الدَّمِ، إلا بدلالةٍ، ولا مذهبَ في ذلكَ قبل ورودِ الدلالةِ أو مُصاحَبةِ القرينةِ إلا الوقفُ، كذلك ها هنا. فيقال: ليسَ إذا حصلَ الاستعمالُ فيهما يمنعُ من كونِ الإطلاق ينصرف إلى أحدِهما، لكونه حقيقةً فيه دونَ الآخرِ، كالبحرِ، والحمارِ، والجوادِ والشُّجاعِ، فيستعملُ في غيرِ الماءِ الكثيرِ والرجلِ العالمِ أو الكريمِ، والحمارِ في النَّهَّاق والرجلِ البليدِ، والشجاع في الحيَّة والرجل المقُدِم على الحرب، وصيغُ (¬2) العمومِ تُستعملُ في البعضِ مجازاً، بدليلٍ، وتنصرفُ إلى الأصولِ الموضوعةِ لها والاستغراقِ والشمولِ. والجوابُ عن المشتركِ: أنه لم يوضع لأحدِ تلكَ الأشياءِ بعينه، والكل، والجميعُ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "كانت". (¬2) في الأصل: "صيغ".

وسائرُ، وأنَّى (¬1) موضوع للاشتمال والاستغراق، ولهذا لو قال له: اذبَح كلَّ غَنمي. حسُنَ شروعُه في الذَّبح ماراً في استئصالها بالذبحِ، إلا أن تقومَ دلالةُ النَّهي، ولا يَحْسُن لمن قيل له: اصبغ ثوبي لوناً. أن يشرعَ في صبغهِ أسودَ إلى أن يُنْهى، فهل يقفُ حتى يُبَيِّن له أيَّ الألوانِ أراد؟! قال بعضُ الأئمةِ في النظر هذا الجوابُ غيرُ صحيح؛ لأنَّ المجازَ إنما يُستعملُ فيما يقربُ من الحقيقةِ بنعوعٍ من صفاتِ الحقيقةِ يقرب إليها، كالبلادةِ في الحمار والفيضِ في الكريمِ، والعالمِ يقرِّبه من البحرِ, وعلى ذلك في جميع الاستعارات. فأمَّا استعارةُ الضدِّ والتجوُّزِ به، فلا؛ ألا ترى أنهم لا يستعيرون للبخيلِ بحراً؛ لأنه إلى جانبِ الجمودِ، واليُبسِ، وهي ضد الرطوبة والفَيضِ والذَّوبِ، ولا يستعملُ الحمارُ للفَطِن الذكيَّ؛ لأنه على ضدَّ البليدِ. قال: ومن وجْهٍ آخر: وهو أنه لا يصحُّ على مذهبِ من يقولُ: إنَ المخصوصَ من العمومِ يَبقى ما بقي منه حقيقةً، ولا يكونُ مجازاً، فلا ينطبقُ الجوابُ على ما أشارَ إليه من أسماءِ الحقائقِ إذا انتقلت إلى المجاز بدلالةٍ. فيقال: إنَّ دعواكَ أنَّ العرب لا تستعملُ الاستعارةَ في الضدِّ لا تصحُ، فإنها قد سمت الضريرَ: بَصيراً (¬2)، واللسيعَ: سليماً (¬3)، والمَخوفَ من الطرقِ: مفازةً، وهذا ¬

_ (¬1) في الأصل:"أن"، ولعل المثبت هو الصواب، فأنى: صيغة من صيغ العموم، وهي تفيد عموم الأحوال. انظر "العقد المنظوم في الخصوص والعموم" للقرافي، تحقيق أحمد الختم عبد الله. صفحة:311. (¬2) وورد هذا الاستعمال في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اذهبوا بنا إلى بني واقف نعود ذلك البصير" وكان محجوب البصر أخرجه البزار (1920)، والطبراني في "الكبير" (1534)، والبيهقي في "السنن" 10/ 200، والطحاوي "شرح مشكل الآثار" (4356). ولقد بيَّن الطحاوي سبب تسمية الأعمى بالبصير فقال: إن الأعمى قد يقال له: بصير، لبصره بقلبِه ما يبصر به، وإن كان محجوب البصر. "شرح مشكل الأثار" 11/ 146. (¬3) وشاهد ذلك ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري قال: "كنّا في مسير لنا، فنزلنا فجاءت جاريةٌ=

- فصل: ومن شبهاتهم: أن استعمال هذه الصيغ في البعض أكثر من استعمالها في الكل

استعمالُ الاسمِ في ضدِّ ما وضعَ له. وإن قال قائلٌ: إنَّ الباقي من العمومِ حقيقةٌ، فلا نلزمه؛ لأنَّ الصيغةَ موضوعةٌ للاستغراقِ في أصلِ الوضعِ، وما تحتَ الاستغراق في كُلِّ لفظٍ شاملٍ لاثنين فصاعداً من الجنسِ، فهي عمومٌ في ذلكَ القدر؛ لأنها لم تُصرف إلى غيرِ ما وُضعت له؛ لأنَّ الشمولَ للكلِّ، والشمول للجملة التي تحت الكُلّ ليست غيراً ولا خلافاً، بخلافِ صيغةِ الحمار, إذا أريد بها: الرجلُ البليدُ، فإنها موضوعةٌ للنَّهَّاقِ في الأصلِ، والبليدُ غيرُ النَّهَّاقِ. فصل ومن شبهاتِهم: أنَّ استعمالَ هذه الصيغِ في البعضِ أكثرُ من استعمالِها في الكُّلِّ. يقول القائلُ: جمعَ الأميرُ التجارَ, وحشر الصنَّاعَ، وغسلتُ ثيابي، وأسرجتُ دوابِّى، وتصدقتُ بمالي أو بدراهمي، وصرمتُ نَخلي، وجاءني بنو تميم. وكلُّ ذلكَ مستعملٌ في البعضِ، وقلَّ أن يستعملَ في الكُلِّ، ومُحالٌ أن يكونَ اللفظُ للكُلِّ وموضوعاً للاستغراق، ثم يكون استعماله في المجازِ أكثر كالحمارِ والبحرِ والأسَدِ والشجاعِ، لما كانت حقائقَ أصليةً كان استعمالُها فيما وضعت له أكثرَ من استعمالها فيما استعيرت له. فيقال في (¬1) جوابهم: إنَّ كثرةَ الاستعمالِ لا تدلُّ على الحقيقة، وقِلَتَه لا تدل على المجاز بدليلِ أنَّ (¬2) الاستعمال لاسمِ الغائطِ، والعَذِرَةِ، والراويةِ، والشُّجاعِ، ثم ¬

_ = فقالت: إنَّ سيد الحيِّ سليمٌ, وإنّ نفرنا غُيَّب، فهل منكم من راق .. " الحديث، أخرجه البخاري (5007)، ومسلم (2251). وسليم هنا بمعنى: لسيع، وسمي سليماً؛ لأنه مُسْلَمٌ لما به، أو أُسْلِمَ لما به. "لسان العرب": (سلم). (¬1) في الأصل: "من". (¬2) هكذا في الأصل، ولعل حذفها أولى لاستقامة العبارة.

- فصل: ومن شبههم: أن هذه الصيغ والألفاظ يستفهم بها، فهي ليست للاستغراق

الغائط والعذرة تُستعملان في الخارج من الإنسان، والراوية تستعمل في المزادة، أو الحيوانِ الحامل لها، والشُّجاع في الرجل المقدامِ، وإن كان ذلك موضوعاً لغيره؛ فالغائطُ للمطمئنِ من الأرضِ، والعَذرةُ لفِناءِ البيت، والشجاع للحيّة المخصوص (¬1). وكثرة الاستعمال أمر تَجددَ، فلا يُخرجُ الوضعَ عن أصله، كما يكثرُ استعمالُ الفلوسِ في بعضِ البلادِ، والأخْبار والإبرِ يسم والأقْطان، ولا تَخرجُ الدراهمُ والدنانيرُ عن كونِها أثمانَ الأشياءِ. ويُكثر أهل البوادي أكلَ الهَبيدِ (¬2) والعِلْهِزِ (¬3)، وإن كان الطعامُ إذا اطلقَ ينصرفُ إلى غيرِ ذلكَ من الأطعمةِ الموضوعةِ في الأصلِ للطّعمِ. فصل ومن شُبَههم: قولهم: أجمعَ (¬4) القائلونَ بالعموم، والذاكرونَ له على حُسنِ الاستفهام عن مُراد اللافظِ بهذهِ الصيغِ والألفاظِ: ما الذي أردتَ بقولك: اصرِمِ النخلَ، واذبح الغنَم، وأكرِم من زارنا، واضرِبْ من عَصانا، وتصدَّق (¬5) بدراهِمنا؟ وهل أردتَ العمومَ واستغراقَ كُلِّ النخيلِ، وذبحَ جميعِ الشياهِ حتى لا يبقى منها واحدة؟ أم أردتَ البعضَ أو الأكثرَ؟ ولو كان ذلك موضوعاً للاستغراقِ لما حسُنَ الاستفهامُ. ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل. (¬2) الهبيد: هو الحنظل أو حَبّه، كانت العرب تتخذ منه طعاماً عند الضرورة، تأخذ حب الحنظل وهو يابس، وتجعله في موضع وتصب عليه الماء وتدلكه، ثم تصب عنه الماء، وتفعل ذلك أياماً حتى تذهب مرارته ثم يدقُّ ويُطبخ. "اللسان": (هبد). (¬3) العِلْهِز: وبّرٌ يُخلط بدماء الحَلَم، كانت العرب في الجاهلية تأكله في الجدب."اللسان": (علهز). (¬4) في الأصل: "الجميع" والمثبت أنسب للسياق. (¬5) تحرفت في الأصل إلى:"صدق".

- فصل: ومن شبههم: لو كان اللفظ موضوعا للاستغراق حقيقة لكان استعماله في البعض مجازا

ألا ترى أن صيغ الأسماء للأجناس لما كانت موضوعة لأعيانٍ مخصوصة لم يحسُن فيها الاستفهامُ، فلو قالَ: اذبح غَنَمي، واصرِم نَخلي، وتصدَّق بدارهمي. فقال: فهل تريدُ بالغنم الإبلَ، وبالنخيل الكرومَ، وبالدراهمِ الزعفرانَ؟ لماّ كانَ موضوعاً لتلكَ الأعيانه لم يحسُن الاستفهامُ فيه. فيقالُ في جوابِهم عن ذلكَ: إن جوازَ الاستفهامِ لايقف على غيرِ الموضوعِ، بل يحسُنُ أيضاً في الموضوعِ حقيقةً (¬1)، لينفيَ باستفهامِه ما يعتري اللفظَ من التجوّز والاتساعِ والاستعارةِ، ألا تراه لو قال: دخلَ السلطانُ البلدَ. حسُنَ أن يقولَ: نفسُه أم عسكَرُه؟ وإذا قال: رأيتهُ (¬2) مُقبلاً. حَسُن أن يقول: عَيْنه أو موكبَه؟ وإذا قالَ: ناطحتُ جبلاً، ولقيتُ بحراً، ورأيتُ حماراً. حَسُن أن يُستعلمَ: أمتَجوِّزٌ هو أم مُحِّق؟ فيقالُ: خاصمتَ رجلاً عظيماً, ولقيتَ رجلاَ كريماً, ورأيتَ رجلاً بليداً، أم نطحَك جَبَلٌ من حَجر, ولقيتَ ماءً غزيراً، ورأيتَ حيواناً نَهّاقاً؟ وإذا كان الاستفهامُ موضوعاً لزوال الالتباسِ، والإلباسُ حاصلٌ من حيثُ دَخَلَ الكلامَ التوسُّعُ والمجاز؛ لم يبقَ في الاستفهام دِلالةٌ على أنَ العمومَ لا صيغةَ له من حيثُ حَسُن فيه ودخلَ عليه؛ ولأنَ العمومَ صيغةٌ موضوعةٌ، لكنها ظاهرٌ, والاستفهام لطلبِ النصّ الذي هو الغاية التي لا تحتمل. فصل ومن شبههم أيضاً: أن قالوا: لو كان اللفظُ موضوعاً للاستغراقِ حقيقةً، لكان استعمالُه في البعض مجازاً، كما أنه لما كان استعمال لفظِة (حمار) حقيقةً في الحيوانِ النَّهَّاق، كان استعمالُها في الرجلِ البليدِ مجازاً، فلما كانت في الاستغراقِ حقيقةً، وفي البعض حقيقةً، عُلِمَ أنها إلى الاشتراكِ أقربُ منها إلى الوضعِ للعمومِ والشمولِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الحقيقة"، والمثبت من "العدة"2/ 507. (¬2) في الأصل "رأيت".

- فصل: ومن شبههم: لو كان اللفظ للعموم لما جاز أن يرد والمراد به البعض

فيقالُ لهم: إنما لم يصِر مجازاً؛ لأنَهُ غيرُ مستعمَلٍ في غير، بل ما بقي منه صالحٌ للشمولِ لما بقي من العددِ، وذلكَ لا يُسمى مجازاً، كما إذا قال: له علي عشرةٌ كان حقيقةً في هذا العددِ المخصوصِ، فإذا قال: إلا درهمين. كان حقيقةً في الثمانية، ولا يقال: إنه مجازٌ في العشرةِ، وإنما المجاز ما استُعملَ في غيرِه، استعمالِ الحمارِ في الرجلِ البليدِ، إذ لم يكن هو ولا بعضه (¬1). فصل ومن شُبههم فيها: أن قالوا: لو كانَ اللفظُ للعمومِ لما جازَ أن يردَ، والمراد به [البعض لا] (¬2) العموم، كما في أسماءِ الأجناسِ والأنواعِ والأعيانِ، فلما وردَ هذا اللفظُ والمرادُ به البعضُ، بطَلَ أن يكونَ موضوعاً للكُلّ. ألا ترى أن العلَّةَ لما كانت مقتضية للحكم لم يجُز أن تردَ في غيرِه (¬3) مُقتضية له بحالٍ. فيقالُ: نقولُ بموجب دليلكَ، وأنه لا يردُ للبعضِ بمطلقه، وإنما يردُ للبعضِ بقرينةٍ أو دلالةٍ، وليس ذلكَ مانعاً من الوضع كأسماءِ الأجناسِ التي عوَّلتَ عليها في الاستشهادِ، فإنَ الدلالةَ تصرفُها إلى غيرِما وُضِعت له. فصل ومن شمبههم فيها: أن قالوا: لو كان اللفظُ موضوعاً للكل، ثمَ وردَ ما يدُل على أنّه اريدَ به البعضُ، لكان كذباً، كما إذا قال: عشرة. ثم بان أنه رأى خمسة عَشر فإنه يكون كذباً كذلك ها هنا، فلما لم يكن تبيانُ التخصيص كذباً، دل على أنه ليس ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 208، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 35 - 36. (¬2) في الأصل: "إلا"، والمثبت هو المناسب لصحة المعنى. (¬3) في الأصل: "غير" ولا يستقيم بها المعنى.

- فصل في الأجوبة عن هذا

بموضوع للاستغراق. فصل في الأجوبة عن هذا فمنها: أنه يبطل به إذا قال: اقتل عشرةَ أنفسٍ. ثم خصَّ بعضَهم، فإنَّ اللفظَ يتناول العشرةَ، ثم تَخصيصه لم يوجب الكذبَ. على أنَّ كلامَ صاحبِ المتبرعِ يُجمَعُ بعضُه إلى بعضٍ، كالجملةِ الواحدةِ، فيصيرُ كالاستثناءِ مع المستثنى منه، فإنه لو قال: له علي عشرة إلا درهمين (¬1)، لم يكن كذباً، كذلك ها هنا. والذي يوضح هذا: أن كلامَ صاحبِ الشرعِ يُبنى بعضُه على بعض كالمجموع (¬2)، فإنه يُطلق الأمرُ في الشرعِ إطلاقاً، ثم يردُ بعد ذلك النسخُ، فلا يُعدُّ بداءً (¬3)، وإن كان في غيرِ ألفاظِ صاحبِ الشرع يُعد بَداءً، فكذلكَ لا يُعَدّ التخصيص فيه كذباً. فصل ومن شُبههم: أن قالوا: لو كانَ اللفظ موضوعاً للاستغراقِ، لما جازَ تخصيصُ الكتاب بأخبارِ الآحادِ والقياس، فإنه لا يجوز إسقاطُ حكم القُراَنِ المقطوع بخبر واحد وقياسٍ مظنونٍ، كالنسخِ. فيقال: ليس التخصيصُ إسقاطَ اللفظِ كُلّه، وإنما تخرجُ به بعضُ الأحكامِ ويبقى بعضها، ويتبين به أنَّ هذا الذي كان المرادَ به، فلا يكونُ إسقاطاً لحكمِ الكتابِ، بل بياناً للمراد بالكتابِ، فهو كصرفِ ظاهرِ اللفظِ، كالأمرِ والإيجابِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "درهمان"، وهوخطأ. (¬2) في الأصل: "كالجموع". (¬3) البداء لغةً: الظهور، واصطلاحاً: ظهور الرأي بعد أن لم يكن. "التعريفات": 43.

- فصل: ومن شبههم: حمل هذه الصيغ على العموم يوجب التضاد

يُصرفُ إلى الندبِ بخبرِ الواحدِ والقياسِ، بخلافِ النسخِ الذي هو رفعٌ وإسقاطٌ (¬1). فصل ومن شُبههم فيها: أن قالوا: حملُ هذهِ الصيغِ على العمومِ يوجبُ التضادَّ؛ لأنه يعطي الخصوصَ كما يعطي العُمومَ، والكُل والبعضُ، والعمومُ والخصوصُ، متضادان، وليس في اللغةِ ذلك. فيقال: الصيغةُ التي تفيدُ العمومَ ليست هي الصيغةَ المفيدة للخصوص، لأنَّ التي تعطي العمومَ هي الصيغةُ المجرَّدة المطلقةُ، والصيغةُ التي تفيدُ الخصوصَ هي المقيَّدةُ بقرينةٍ، أو الموجبة للبعضِ بدلالةً (¬2). فصل والدلالةُ على فسادِ مذهبِ من حمل صيغة العموم على أدنى الجمعِ (¬3)، ما تَقدَّم من الآي، والأخبار واحتجاجِ الصحابةِ بعضهِم على بعضٍ بالآيِ والأخبار (¬4)، ولا أحدَ منهم تعلَّق بأقلِّ الجمعِ ولا ذكرَه. ومنها: أنه يحسُن أن يُستثنى من هذه الصَّيَغِ والألفاظِ الثلاثةُ والأكثر, ومحالٌ أن تكونَ الصيغةُ موضوعةً لثلاثةٍ، ويُستثنى جميعُها وأكثر منها. وفي علمِنا أنَه يحسن أن يقولَ: أحضر بني تميم، واقتل المشركين إلا ثلاثةً، فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ. وكذلكَ لو قال: إلا عشرةً. ولو كانت الصيغةُ بإطلاقِها تقتضي الثلاثةَ، لما جازَ استثناءُ الثلاثةِ، كما لو قال: اقتل ثلاثةً من المشركينَ إلا ثلاثةً. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 509، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 39. (¬2) انظر "العدة" 2/ 508. (¬3) ينسب هذا الرأي إلى أبي هاشم الجبّائي، ومحمد بن شجاع الثلجي كما ذكر المصنف في الصفحة:314. (¬4) انظر ما تقدم في الصفحة 314 وما بعدها.

ومنها: أن للجمع لفظاً هو أخصُّ من صيغِ العمومِ، فلو أريدَ به أو وُضِعَ له، لأتى بذلك اللفظِ. فالخاصُّ: اقتل جماعةً من المشركينَ، واقتل مشركين، واقتل ثلاثةً. فأمَّا: اقتلوا المشركين. فهذا هو صيغةُ الكل والاستغراقِ. ومنها: أنَه لو كان الواجبُ حملَ العمومِ على الأقل لحُمِلَ على الواحِد، فإنه كما يرد والمراد به الثلاثة، قد يردُ والمرادُ به الواحدُ، قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] والمرادُ به واحد (¬1)، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10] فأفضى الكلامُ إلى أنَّ الطائفة تقع على الواحدِ، إذ جعل الطائفتين اثنين. ونون الجميعِ تقعُ على العظيمِ، قال اللهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وهو الواحدُ حقيقةً، فكانَ يجب على كُل من اعتمدَ على أقلِّ ما يُستعملُ في لفظِ الجمعِ أن يعتمدَ على الواحدِ، فإنه أقل من الثلاثةِ، وقد كتب عُمرُ إلى سعدٍ: إني قد أنفذتُ إليكَ بألفي رجل (¬2)، وإنما أنفذَ إليه القعقاعَ وألفَ فارسٍ، فسمَّي القعقاعَ ألفاً، وهو واحد. ومنها: أنَ لفظَ الجمعِ يُفارقُ لفظَ العموم من وجهين: أحدهما: أن صيغةَ العمومِ آيتها الألفُ واللاّم، وإذا كان له مع وكيله دراهمُ، فقال له: تصدَّق بدراهم. اقتضى ذلك الثلاثةَ فما زاد، وإذا قال: بالدراهمِ، رجع إلى ¬

_ (¬1) مقصوده بذلك: أن لفظ "الناس" الأول الوارد في الآية أريد به نُعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه وهو واحد. وهذا تفسير مجاهد وعكرمة. انظر: "زاد المسير في علم التفسير"1/ 504 (¬2) لم أقف عليه في الكتب التي ترجمت للقعقاع، والوارد أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص:" إني أمددتك بألفي رجل: عمرو بن معد يكرب وطُليحة بن خويلد" انظر "الإصابة"، 3/ 20.

- فصل في جمع شبههم: فمنها: الثلاثة متحقق فيها الجمع والشمول

المعهود كُلِّه، أو الجنس، وقوله: دراهم. لفظُ تنكيرٍ. والوجهُ الثاني: أنَه لا يحسُنُ دخولُ الاستثناءِ على قولنا: دراهم. ولا على [ما] (¬1) جمعه تنكير ويدخلُ على لفظِ العموم، وهذا يَدُلّ على الفرق بين اللَّفظتين. فصل في جمع شُبَههم فمنها: أن قالوا: الثلاثةُ متحقِّقٌ فيها الجمعُ والشمولُ، فحملنا إطلاقَ اللفظ على المتحقق من الجمعِ، ولم نَرتقِ إلى ما زادَ على المتحقِّق؛ لأنه مشكوكٌ فيه، فلا بُدَّ من دلالةٍ توجبُ لنا الارتقاءَ إليه، والحملَ عليه. فيقالُ: هذا يوجبُ حملَه على الواحدِ؛ لأنه أقلُّ ما وردَ فيه لفظُ الجمعِ (¬2) من الوجْه الذي قدَّمنا، على أن الثلاثةَ لا تُستعملُ في الكُل والجميعِ إلا بدلالةِ وقرينة، ولهذا لا يُعقلُ من قولِ القائلِ: اقتُلْ المشركين، وأكرِم المسلمين. ثلاثة من هؤلاء، ولا من هؤلاء إلا بدلالة تَحملُه بأقلّ بادرة على الثلاثة، [وإلا كان ذلك] (¬3) حطّاً على اللغةِ. ودعوى الشك في الزيادةِ بعيدٌ، لأنها أصلُ الوضع، فكيف نسلِّم لكم أن اليقينَ الثلاثة، وأن الزيادة مشكوكٌ فيها؟ بل عليكم الدلالةُ على دعواكم الشكَّ، ولن تجدوا لذلك دليلاً، فإنَّ الانحطاطَ إلى الثلاثةِ عن الاستغراقِ عندنا، هو الذي يحتاجُ إلى دليلِ. ولأنه لو جازَ أن يقتَصر على الثلاثةِ في العموماتِ والصيغِ للكلِّ والجميعِ؛ لجازَ أن يقتصر على الثلاثةِ في الأعدادِ وأسماءِ الجموعِ، كالعشراتِ والمئين. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الأصل: "الجميع". (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

- فصل في الكلام على من فرق بين الأوامر والأخبار فأثبته في الأمر دون الخبر

ولأنَ الاستثناءَ قد يدخلُ عليها فيردَّها إلى الثلاثةِ والواحدِ، لمّا لم يلزم ذلك في ألفاظ العموم. ومنها: أنَه لو كان لفظُ الجمعِ يقتضي العمومَ، لكان من قال: له عليَّ دراهم. غير مقبول منه تفسيرُ إقراره بالثلاثةِ؛ لأنه فسَّره بغيرِ الموضوعِ، كما لو أقرَّ بعبدٍ أو أمةٍ، وفسَّره بشاةٍ أو بَعيرٍ. فيقالُ: إنَّ قولَه: عليَّ دراهم. نكرة، ومثل هذا عندنا لا تقتضي الجنس، لكن يقتضي إذا تَعرف بالألفِ واللام، غيرَ أنَا لا نَحملُ ذلكَ على الجنسِ في الإقرار، لدليلٍ دلَّ عليه، وهو أنّا نعرِفُ من طريقِ العُرفِ والعادةِ أنَه لا يلزمُ ذِمَّةَ الإنسان لمُعامِلهِ جنسُ الدراهم، لا في قَرضٍ، ولا بيع، ولا بَدلِ مُتلَفٍ، ودلالةُ العُرف تَخُصُّ أبداً، وتمنع من حمله على أصلِ الوضع، كما تقصر الدراهمَ على [البعض] (¬1)، ولا يقبل تفسيرُ إطلاقِه بدراهمَ غيرِ نقدِ البلدِ. فوِزانُه من مَسألتِنا: أن يردَ لفظُ العمومِ ويردَ معه أو بعدَه دلالةٌ تقتضي الخصوصَ، فيُقضى بالخصوصِ عليه. فصل في الكلامِ على من فرَّق بين الأوامرِ والأخبارِ، فأثبتَه (¬2) في الأمرِ دون الخبرِ (¬3). فمن الدلالةِ عليهم: أنَّ فيما ذكرنا أخباراً تعلَّق السلفُ بعمومِها وأوامر؛ من ذلك: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، ¬

_ (¬1) زيادة يتم بها المعنى. (¬2) يعني العموم (¬3) يُنسبُ هذا الرأي إلى أبي الحسن الكرخي من الحنفية. انظر "الفصول في الأصول"1/ 101، و"البحر المحيط" 3/ 22، و"إرشاد الفحول" ص 116. ولقد ضعَّف الإمام الجصِّاص هذه النسبة إلى أبي الحسن الكرخي، فقال: ومذهب أصحابنا: القول بالعموم في الأخبار والأوامر جميعاً، وكذلك كان شيخنا أبو الحسن (الكرخي) يحكيه من مذهب أصحابنا جميعاً.

واحتجاج عبد الله بن الزِّبَعرى على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بها، وجوابُ اللهِ تعالى بالتخصيصِ من غيرِ إنكارٍ للاحتجاجِ من طريقِ اللغةِ (¬1). ومنها: أنَّ ما تحتَ اللفظِ العامِّ لا عبرةَ به، وإنَما العملُ للصيغِ؛ فقولُ القائِل: قامَ الناسُ. وقولُه: ليقم الناسُ. وقولُه: أقامَ الناسُ؛ وقوله: لم يقم الناسُ. كلُّه عمومٌ من طريقِ الصيغةِ. قال اللهُ سبحانَه: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر 30]، وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]، فالصيغةُ واحدةٌ, فإذا اقتضت العموم في أحدِهما اقتضت الشمولَ والاستغراقَ في الآخرِ، ألا ترى أنه يحسُنُ الاستثناءُ في كُلِّ واحدٍ منهما بألفاظِ (¬2) الشمول. والاستثناءُ لا يُخرجُ إلا ما كانَ لولاهُ داخلاً، والمؤكِّد لا يؤكِّد إلا بما يضاهي المؤكَّد به، نقول: سَجَدَ الملائكةُ كلُهم، ودخلَ الناسُ جميعهم، وجاءني زيدٌ نفسه. وإذا حسُنَ إخراجُ كلِّ واحدٍ من الجمعِ بالاستثناءِ، دلَّ على أنه دخلَ في لفظِ الجمعِ، وإذا حسُنَ تأكيدٌ بألفاظِ الشمولِ، دلَّ على أنه يقتضي الشمولَ. ومنها: أن كُل صيغةٍ اقتضت معنى أفادت ذلك المعنى في الخبرِ والأمرِ والنهي وغيرِها من المعاني. فالحروفُ المثبِتة والنافِية كحرفِ (ما) و (ليسَ) و (لا)، إذا دخلت على الأمرِ والنهي والخبرِ، أفادت معناها الذي وُضِعت له، نقول: ما زيد في الدارِ، وليس زيدٌ في الدارِ، ولا دخلَ زيدٌ الدار وفي النهي: ما ينبغي لك يا زيدُ أن تدخلَ الدارَ، ولا تدخل يا زيدٌ الدار. فكذلكَ صيغةُ العموم: دخل القومُ الدار، وأدخِلِ القومَ الدارَ، وقامَ الناسُ، وأقمِ الناسَ. وعلى هذا في كُلّ شيء دخلَ ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة: 314 وما بعدها. (¬2) في الأصل: "بالألفاظ".

- فصل في شبههم: منها: إنما قلنا به في الأمر لأن الأمر تكليف

عليه حرفٌ من حروفِ العمومِ (¬1). فصل في شُبَههم فمنها: أن قالوا: إنَّما قلنا به في الأمر لأنَّ الأمرَ تكليف، فلو لم يُعرف به الأمر أدّى إلى تكليفٍ بلفظٍ غيرِ معقول، وذلك تكليفُ ما لا يُطاق، وليس كذلكَ الخبرُ، فإنه وعد أو وَعيد أو قَصَصٌ، وذلكَ لا يلزم به تكليف، ولا يقتضى إيجابَ شيء. فيقالُ: وكيفَ لا يدخلُ تحته تكليفٌ، وهو قِوامُ التكليفِ، فإنَّ الخبرَ عليه تَنبني الاعتقاداتُ، والوعدُ والوعيدُ من أكبرِ مَصالحِ التكليفِ، فإنَّهما الحاديانِ للمكلَّفين إلى الطاعةِ والانْقيادِ، ولو عُدِما لم تَنْقَدِ النفوسُ إلى ما كُلفت، ومحالى أن يخلوَ الخبرُ من فائدةٍ من فوائِد التكليفِ، وإن اختلفت الفوائدُ لم يوجب ذلكَ تركَ العملِ بالعمومِ؛ كاختلافِ الأوامرِ أنفسها بين نَدبٍ هو أدنى، وإيجابٍ هو أعلى، وأقصى مراتبنا في اقتضاءِ العمومِ لها ودخوله عليها، ولسنا نطلبُ للوضع عائدةَ الفائدةِ، فإنَّ العربَ تضعُ الألفاظَ والصّيَغ لما قلَّ وجلَّ من أغراضها، كذلكَ الشريعةُ؛ لأنها جاءت بعادة القومِ. ومنها: أنَّ الخبرَ لا يدخله نسخ ولا تخصيصٌ، والأمرَ يدخله النسخُ والتخصيصُ جميعاً، فجازَ أن يدخلَه العمومُ الذي عليه يرِدُ التخصيصُ. فيقالُ: هذا يُدلُّ على تأكُّدِ الخبرِ، فإنه متأكدُ الثبوتِ، لا يتسلَّط عليه رفعٌ ولا تخصيص، ولأنَّه إنما لم يدخله نسخٌ؛ لأنَّ نسخَ الخبرِ عما (¬2) كان، هو محض الكذبِ غيرُ الجائزِ على حكيمٍ فضلاً عن الخالقِ سبحانه. ونسخُ الخبرِ عما يكون في المستقبل أيضاً كذب، فإنَّ حقيقةَ نسخِ الخبرِ أنَّه إذا ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 512. (¬2) في الأصل: "بما".

- ومنها: أن الأخبار يجوز أن ترد بالمجهول والمجمل

قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، أن يقول: لم يك لي نَبي يُعرف بنوح، أوكان نوحٌ، لكن لم يُكذِّبه قومُه. والمستقبل مثل قوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]، {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، فنسخُ ذلكَ أن يقولَ: لن يَغلبوا، ولن تدخلوا. وهذا عينُ الكذبِ الذي لا يجوزُ على اللهِ سبحانَه، ولا على رسُلهِ، ولا يحسُنُ بعقلاءِ خلقِه. فأمَّا التخصيصُ فيجوز من ذلك (¬1) قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]، وقوله بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، وأما قوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ} [الحجر 30]، فأغرقنا جميعَ أهلِ الأرضِ، فأهلكنا جميعَ أهل قريةِ لوطٍ. فلا فرقَ بينَ ذلكَ وبين قولِه: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] انفِروا في سبيل الله كافة. في دخولِ التخصيص. ومنها: أنَ الأخبارَ يجوزُ أنْ تردَ با لمجهولِ والمجملِ، مثل قوله: {وكَمْ أهْلكنا قَبلهم مِن قَرنٍ} [مريم: 74]، {وقروناً بينَ ذلك كثيراً} [الفرقان: 38]، ولا يُبينُه أبداً، ولا يجوزُ أن يقولَ في الأمر {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، ولا دلالةَ قبيلَ الأمرِ أو معه أو بعدَه تُبيِّنُ مرادَه بذلكَ، بل لا بُدَّ من بيانٍ، فأينَ الخبرُ من الأمرِ؟ فيقالُ: أكثرُ ما يتلوّحُ من هذا الفرقِ أنَّ في الأخبارِ ما لا حاجةَ بنا إلى معرفة كيفيةِ المخبَرِ به ولا مقدارِه ودوام الإجمالِ فيه، وهذا لا يمنعُ من وضعِ صيغةٍ لعمومِه، كما لم يمنع من جوازِ ورودِ دلالةٍ على بيانِه وتفسيرِ مُجمَلهِ، والكشفِ عن مقدارِ المُخَبرِ به. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بذلك"،

- فصل: يجوز الأخذ بالعموم في المضمرات

فصل ويجوزُ الأخذُ بالعمومِ في المضمرَاتِ (¬1). مثاله: قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء23]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فالمضمرُ فيها أفعالُنا، إذ الأعيانُ أنفسُها لا توصَفُ بحظرٍ ولا إباحةٍ؛ لأن الحظرَ والإباحةَ منع وإطلاق، والأعيانُ الموجودةُ لا يصحُ المنعُ والإطلاقُ فيها عَيْنها، بل يتسلَّطُ على أفعالنا فيها؛ فأفعالُنا إذاً هي المضمَرة، وأما العمومُ المعمولُ به فيها، فهو المنعُ منها: أكلاً، وبيعاً، وشُرباً، وادِّخاراً، واقتناءً، وكذلكَ الأمهاتُ: نكاحاً، وبَيعاً، وشراءً، واستمتاعاً، واستخداماً، والصيدُ: اصطياداً، وبيعاً، وشراءً، وحَبساً، وإمساكاً، وأذيَّة له من نتفِ ريشٍ أو شَعرٍ، أو كَسر بيضٍ، أو إزعاجٍ من وَكْرٍ إلى أمثالِ ذلكَ. ومثاله من السُّنَن: "هذانِ حرامٌ على ذكورِ أُمّتي، حِل لإناثها (¬2) ". مشيراً إلى الذهبةِ والحريرةِ، فالمضمَر أفعالنا فيهما، والعمومُ: سائرُ أفعالِنا إلا ما خصَّه الدليلُ في جميعِ ما ذكرنا من الكتابِ والسنَةِ. وقال أكثرُ أصحابِ أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي: لا يُعتبر العمومُ في ذلكَ (¬3). ¬

_ (¬1) هذا لا حال عدم ورود الدليل على تعيين أحد المضمرات، أما في حال ورود الدليل فالمتفق عليه عند الأصوليين أن المضمَرَ يُحملُ على ما عيّنه الدليل. وسيأتي خلاف الأُصوليين في حال عدم ورود الدليل المعين. وانظر "العدة" 2/ 513 - 516، و"الإحكام" للآمدي 2/ 249. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 401. (¬3) للأُصوليين في مسألةِ عمومِ المضمَراتِ رأيان: الرأي الأول: أنَه يؤخذ بالعمومِ في المضمرات، وهذا رأي الحنابلةِ وبعص الشافعية. الرأي الثاني: أنه لا يجوز الحملُ على الجميعِ؛ لأن الضرورة هي المقتضية للإضمار, وهي =

- فصل في أدلتنا

0فصل في أدلتنا فمنها: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أُمتي الخطأُ والنسيانُ" (¬1)، لا يمكنُ رَفعُه بعدَ وقوعِه، وإنما أرادَ به: ما يتعلّق على الفعلِ من الجُناح، إذا كان عمداً، يُرفع عن، المكلَّف إذا وقَع منه ذلكَ الفعلُ خطأً. فصارَ بهذا التقدير الذي أوجَبَتْه أدلةُ العقلُ منصرفأ إلى مأثم الفعلِ وتَبعاتِه عن كُلّ فعل وقَع خطاً من فاعلِه. ومنها: أنَّ المُضْمَرَ الواجبَ إثباتُه بحكمِ دليلِ العقلِ، كالمنطوقِ به، وإذا كان ثبوتُه بدليلِ العقلِ، وجبَ حملُ تحريمِ الأفعالِ المضمَرةِ المتُصورِ وقوعُها في الأعيانِ على الإطلاقِ. ¬

_ = مندفعةٌ بإضمارِ واحدِ منها. وهذا رأيُ أكثرِ الحنفية، وهو ما اختاره الغزالي والفخر الرازي، وأبو إسحاق الشيرازي وابن الحاجب. انظر هذه المسألة وما تلاها من اختلافات، وأدلة، وبيان، وتفنيد لآراء المخالفين: "أصول السرخسي"1/ 248، و"التبصرة في أصول الفقه" لأبي إسحاق الشيرازي": 201 - 202، و"المستصفى" 2/ 62 - 64، و"المحصول" 2/ 382 - 383، و"العُدة" 2/ 513 - 518، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 230، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 197 - 202. (¬1) أخرج الطحاوي في"شرح معاني الآثار"، والطبراني في "الصغير" 1/ 270 والدارقطني 4/ 170 - 171، والبيهقي 7/ 356، وابن ماجه (2045)، والحاكم في" المستدرك" 2/ 198 وابن حبان (7219) من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تجاوَز عن أُمتي الخطأ، والنِّسيان، وما استكرهوا عليه". أما لفظة: "رفع عن أمتي" فأخرج قريباً منها ابنُ عدي في "الكامل"2/ 573 عن أبي بكرة مرفوعاً بلفظ: "كع اللهُ عن هذه الأمة ثلاثاً، الخطا والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه". =

فصل شُبَهُهُم: قالوا (¬1): معنى قولنا: عمومٌ؛ أنه بخطابٍ موضوعٍ لشمولِ الجنسِ واستغراقِه، وهذا لا يدخلُ في المعاني والمضمَرات إذا كان المضمَرُ والمعنى ليس بلفظ. فيقالُ: إنَّ المضمَر الواجبَ إثباتُه، كاللفظِ، وهل يُرادُ من العمومِ إلا استغراقُ ما يتناولُه؟ فلا فرق بين أن يكونَ ما تحته معاني تُنْبىء عنها الألفاظُ والصيَغ، أو نفسُ الصيَغِ والألفاظِ، فهو كقائلٍ ومخاطِبٍ في النفسِ يقول: لا حُكمَ من أحكامِ العمدِ يتعلَّق على الخطأ المعفوِّ عنكم المرفوع. ومنها: أنَّ دليلَ الإضمارِ ألجأنا وأحوَجنا إلى أن نُضمِر الفعلَ، إذ لا يجوزُ أن يقَع الحظر على نفسِ العينِ، فالواجبُ أن يُستعملَ الإضمارُ فيما بنا حاجةٌ إليه، والفعلُ الواحدُ يقضي حقَّ الدليلِ، ويَسُد مَسَدّ الفعلِ المصرَّح به، فلو قال: حُرِّمت عليكم أمهاتكم نكاحاً، والميتةُ أكلاً، والصيْدُ حَبْساً، كفى، ولم يحتج إلى إضمار فَما يَسُدُّ مسدَّ الإظهارِ يكفي، فالعمومُ لا يُحتَاجُ إليه. فيقال: لعمري إنَ الحاجةَ داعية إلى الفعلِ في الجملة، لكن مَن الذي أوجَب اتفاقَ لفظِ التحريمِ على فعلٍ واحدٍ مع كونِ التحريمِ صالحاً لشمولِ كُل فعلٍ يصلُحُ أن يُضمرَ؛ والإضمارُ كما أوجبَ فعلاً، صلُح لكل فعل، فاللفظُ بالتحريمِ يعمُ كلَّ صالحٍ من الأفعالِ أن تقَع في تلك الأعيانِ، والصلاحية كافية، كما لو اشتبهت الأعيانُ المحظورةُ والمباحةُ، فإنَّا نقطعُ على أنَّ المحظورَ البعضُ، ولمّاَ صَلُحَ أن يكونَ كلُّ واحدٍ منها للتحريمِ؛ عمَّ الحظرُ جميعَها، فأعطينا الإضمارَ حقَه من اعتبارِ الفعلِ، ¬

_ = ولقد أشار ابن الوزير في كتاب "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" 1/ 196، إلى أن طريق لفظ: "لرفع"، طريق ضعيف. (¬1) في الأصل: "قال".

والحظرَ حقَه من شموله لكلِّ فعلٍ. ومنها: أن قالوا: لو صحَ دعوى العمومِ في المضمراتِ؛ لصح أن يدخلَ التخصيصُ على المضمرات، كا لمُظْهَراتِ (¬1) لمَا دخلها العمومُ دخلها التخصيصُ. فيقالُ: كذلكَ نقولُ، وإنه على عمومِه في كُلِّ مضمَر يصحُّ إضمارُه إلا أن تردَ دلالةٌ تخصُ بعضَ الأفعالِ بالإباحةِ. فصل ولا يكون قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] مجازاً غيرَ دالى على تحريمِ أفعالي في الأعيانِ (¬2)، خلافاً لما حُكيَ عن أبي عبد الله البصري (¬3)، المفَقب بالجُعَل، وقوله: هذا مجازٌ لا يدل على تحريمِ الأفعالِ. ¬

_ (¬1) يقصد بالمظْهَرات: اللفظ الظاهرُ، وهي في مقابل المُضْمَراتِ، وهي الألفاظ غيرُ الظاهرة. (¬2) مرادُ ابن عقيل في هذه المسألة: أن لفظ التحريم إذا تعلَق بما لا يصحُّ تحريمه، فإنَه يكون عموماً في الأفعالِ في العين المحرَّمة، نحوَ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. انظر "العدة" 2/ 518 - 519، و"المسودة": 94. (¬3) هو أبوعبد الله الحسين بن عليَّ البَصري، المعتزلي معتقداً، الحنفيّ مذهباً، كان مقدماً في الفقه والكلام، وانتهت إليه رئاسةُ أصحابه في عصره. توفي سنة (369 هـ). انظر "تاريخ بغداد" 8/ 73 - 74، و"شذرات الذهب" 3/ 68، و"سير أعلام النبلاء"

* فصل في الدلالة لنا على أن المعقول في لغة العرب من التحريم المنع

فصل في الدلالةِ لنا على أنَّ المعقولَ في لغةِ العربِ من التحريمِ المنعُ والمنعُ إنما يَتَجه (¬1) إلى ما عليه تسلُّط، ولا نوعَ تسلُّطٍ على الأعيانِ إلا بالأفعالِ، فلما قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26]، عُقِلَ أنهم ممنوعون منها، ولا منعَ يعود [إلا] (¬2) إلى دخولهِم إليها وسكناهم فيها، وكذلكَ قوله في حق موسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] عاد إلى المنعِ من الارتضاعِ من ثدي غيرِ أمِّه من النساءِ الأجنبياتِ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشرابِ: "هو حرام عليَّ" (¬3) فأنزلَ الله عر وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وإنما عنى به: شُربَه حرامٌ عليَّ، والعربُ تقول في البِكر: بنتُ محرمة، بمعنى لم تُفْرَع (¬4). قالوا: لا يجوزُ أن تكونَ الأفعالُ حُرمَتْ لأعيانِها، وكونِها أفعالاً، لكن بمعاني في الذواتِ التي أُضيفَ التحريمُ إليها، فالأم لمكانِ حرمتهِا، ولتربيتها، وكونِها السببَ في الإنجابِ، والكُلّ الذي الولُد جزءٌ منها، صينَت عن البذلةِ بالمتعةِ، ولهذا أعتقت ساعةَ تملُّكِها عند قومٍ (¬5)، ووقتَ إزالةِ الملكِ عنها عندَ أهلِ الظاهرِ (¬6)، صيانةً عن ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "نتيجة". (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) أخرج ابن جرير 14/ 158، والبخاري (4912) (5267)، ومسلم (1474)، وابن كثير 8/ 187 - 188 طبعة الشعب، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنتِ جحش ويمكثُ عندها فواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخلَ عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟!، إني اْجدُ منك ريح مغافير قال:" لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب فلن أعود له، وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحداً"، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ..} [التحريم: 1]. (¬4) أي لم تفتض بكارتها، تقول العرب: افترع البِكر بمعنى افتضها، والفُرعةُ: دمها. (¬5) وهو قول عامة الفقهاء، انظر "المغني" 9/ 223. (¬6) قال ابن قدامة في" المغني" 9/ 224: ولم يُعتق داود وأهل الظاهر أحداً حتى يعتقه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يجزي ولدٌ والده شيئاً، إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه، فيعتقه".

* فصل في الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام

دوامِ الملكِ الموجِبِ للبذلةِ والاستخدامِ. قالوا: وكذلكَ الميتةُ لاستحالةٍ وفسادٍ، بكونِ الدَّمِ لم يخرج عنها (¬1). فصل في الاسمِ المفردِ إذا دخلَ عليه الألفُ واللامُ مثل: الإنسان، والدِرهمِ، والدينارِ، والكافرِ، والزاني، والسارقِ، فهو واقعٌ على جنسِ ما دخل عليه واستغراقه، هذا مذهبنا (¬2)، وبه قال أبو عبد الله الجُرجاني (¬3)، وحكاه عن أصحابِه، واختلفَ أصحابُ الشافعي (¬4)، فمنهم من قال بمذهبنا، ومنهم من قال: المرادُ به المعهودُ (¬5)، وهو مذهب الجبائي من المعتزلة. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 518 - 519، "المسودة": 94. (¬2) انظر: "العدة" 2/ 519 - 520، و"التمهيد" 2/ 53 - 58، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 133 - 136. (¬3) تقدمت ترجمته في الصفحة (173) من هذا الجزء. (¬4) مذهبُ الإمامِ الشافعي أن الاسمَ المفردَ إذا دخل عليه الألفُ واللامُ أفادَ العمومَ، والذي أرشدَ إلى ذلك بيانُه في كتابه "الرسالة" ص (223): أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، هو من الآيات التي نزلت عامة، ثم ورَد من السنةِ ما يخصَّصُها، فسن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن "لا قطْع في ثمرٍ ولا كَثرَ" والكثَر هو جمار النخل، وهو شحمه الذي في وسط النخلة. فدل هذا البيانُ من الإمام الشافعي على أنَه يرى أن صيغة "السارق" تُفيد العموم ما لم يرد دليلٌ يخصَّصها ويقصرها على بعض أفرادها. (¬5) لأصحاب الإمام الشافعي عدةُ آراء، نذكرها بإيجاز: الرأي الأول: أن اللفظَ المفرد المعرف بالألفِ واللام لا يفيدُ العمومَ ولا الاستغراقَ. هذا رأي الرازي كما قرره في "المحصول". الرأي الثاني: أنَّه إن تجرد اللفظُ المفردُ عن عهدٍ، فهو للاستغراقِ، وإن خرج اللفظ ولم يُدرَ أنَّه خرج تعريفاً لمنكرٍ سابق، أو إشعاراً بجنس -أي الاستغراق- فيحملُ على الإجمال، ولا يتحدد المقصودُ إلا بقرينةٍ. وهذا رأي إمام الحرمين. =

- فصل في أدلتنا على أنهما يدخلان للجنس

فصل في أدلتنا على أنهما يدخلان للجنس فمنها: أن الله سبحانه ما أدخلَ الألفَ واللامَ على الاسمِ المفردِ إلا وأراد به الجنسَ؛ من ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر 2]، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، {حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور 2]، ثم عطف عليه ما دلّ على أن المرادَ به الجنسُ، وهو قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر 3]، والذين اسم جماعة، والجماعةُ لا تُستثنى من واحدٍ، فدل ذلكَ على أنَه أراد بالإنسانِ: الجنسَ، فكذلك صحَ أن يستثني منه جماعةً. ومنها: أنَ الجمعَ مثل: رجال، وناس، وكل، أسماء مُنكَرة، إذا دخلَ عليها الألفُ واللامُ اقتضت الجنسَ، كذلكَ الاسمُ الواحد، وهذا صحيحٌ؛ لأنَّ الأعدادَ المخصوصةَ إذا جاءت بلفظِ النكرةِ لم تقتضِ الجنسَ من ذلكَ المعدود، ودخولُ الألفِ واللامِ يجعلها من قبيلِ الشمولِ والعمومِ لاستغراقِ الجنسِ، كذلكَ الواحدُ المفردُ، والجامعُ بينَهما: أنَ كُل واحدِ منهما صيغة لا تقتضي الجنسَ إذا لم يدخل عليها ¬

_ = الرأي الثالث: التفصيل: فإن اللفظَ المفردَ ينقسِمُ إلى ما يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء؛ كالتمرة والتمر فإنْ عَري عن الهاء؛ فهو للاستغراق. فقوله: "لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ ولا التمر بالتمر" يعمُّ كل بُرٍّ وتمرٍ. وما لا يتميز بالهاءِ ينقسمُ إلى ما يَتَشخص ويتعدد؛ كالدينارِ والرجل، حتى يقال: دينارٌ واحدٌ، ورجلٌ واحدٌ، وإلى ما لا يتشخصُ واحدٌ منه كالذهب، إذ لا يقالُ: ذهبْ واحدٌ. فهذا لاستغراقِ الجنسِ، أمَّا الدينارُ والرجلُ فيشبِهُ أن يكونَ للواحدِ، والألف واللام للتعريف لا للاستغراق، ويحتملُ أن يكون دليلاً على الاستغراق. وهذا رأي الإمام الغزالي كما في "المستصفى". انظر في بيان تلك الآراء: "البرهان"1/ 339 - 343 و"المستصفى" 2/ 53 - 54 و"المحصول" 2/ 367 - 370، و"البحر المحيط" 3/ 97 - 99.

- فصل في شبههم: فمنها: توهم أن الألف واللام لا تدخلان إلا للعهد

الألفُ واللامُ، أعني صيغةَ الواحدِ المفردِ، والجمعِ المنكَّر ثم إنَّ الألفَ والَّلامَ إذا دخلت على الجماعةِ المنكَّرةِ جعلتها المرادَ بها الجنسُ، كذلك الواحدُ. ومنها: أنَّ الواحد المنكَّر مثل قولنا: إنسان، ورجل، وسارق، وَزانٍ، وبَر, وفاجر, لا يجوزُ دخولُ الاستثناءِ عليه، فإذا دخَل عليه الألفُ واللأَم؛ حسُنَ دخولُ الاستثناءِ، مثل قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22]، والمصلّون جماعةٌ استثناهم من قوله: {الْإِنْسَانَ} فَعُلمَ أنه أراد به جنسَ الناسِ، إذ لو كان واحداً؛ لما صحَّ أن يستثني منه جماعةً، إذ ليس الواحدُ جماعةً، وليسَ إلا نفسه. ومنها: أنَّها لو اقتضت العهدَ لما حسُنَ الابتداءُ بها، ومعلومٌ أنَه يحسُنُ أن يبتدىءَ الإنسانُ بقوله: رأيتُ الناسَ، ولقيتُ العربَ. وكما يحسنُ ذلك يحسُنُ أن يقولَ: رأيتُ الإنسانَ غدّاراً، وغادرتُ الكافرَ كذاباً. ولو كانت للعهدِ لما حسُنت ابتداءً، ألا ترى أنك تقول: دخلتُ السوق فرأيتُ رجلاً، ثم عدتُ فرأيتُ الرجل. فيعودُ إلى الرجلِ المعهودِ بالذكر أولاً؟ وأردت أن تبتدىء فتقولَ: دخلتُ للسوقِ، ورأيتُ الرجل. وتُريد العهدَ، لم يصح ذلك، ولم يكن ذلك لغة. فصل أي، (¬1) شُبههم فمنها: توهُّمُ أنَ الألفَ والَّلام لا تدخلانِ إلا للعهدِ، قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15 - 16] والمرادُ به: المذكورُ أولاً، وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]، قال ابن عباس: لن يغلب عسرٌ يُسْرَين (¬2). فلو لم يكن العُسرُ بالألفِ واللام، جعل الثاني ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) أخرجه الطبري في "التفسير" 30/ 151، والحاكم 2/ 582، وأورده السيوطي في "الدر المنثور"=

- ومنها: أن الألف واللام لا تقتضى إلا تعريف النكرة

الأول، لما كان عسراً واحداً فيقالُ: إنَ صلاحيتها للعهدِ لا نُنكره، لكن إذا تقدمها نكرةٌ، وكلامُنا إذا جاء الاسمُ المفردُ بالألفِ واللام مبتدأ، فأمَّا إذا جاء بعد نكرة، كان بحسَبِ النكرةِ المتقدِّمةِ عليه عائداً إليها للعهدِ والتعريف لمن تقدّم، وهو الواحدُ المنكَّر، فأما في مسألتِنا، فليس ها هنا معرفةٌ يَرجعُ إليها سوى الجنسِ، فأطبقناه عليه (¬1). ومنها: أن قالوا: إنَّ الألفَ والَّلامَ لا تقتضي -أو لا تفيدُ- إلا تعريفَ النكرةِ، فإذا كان الاسمُ المنكَّرُ واحداً ولا يقتضي أكثرَ من واحدٍ، وجبَ أن يكونَ تعريفُه بالألفِ والَّلام لا يقتضي إلا واحداً من الجنسِ، فلا وجْه لاستغراقِه واستيعابِه. فيقالُ: هذا باطلٌ به، إذا دخلت على اسمِ الجمعِ اقتضت الجنسَ، لا تعريفَ ذلكَ الجمعِ فقط، على أنَه يقتضي تعريفَ النكرةِ إذا تقدمته نكرةٌ، فأمَّا إذا لم تتقدمه اقتضت تعريفَ الجنسِ، وها هنا لم تتقدمه نكرةٌ، فوجبَ أن يكون تعريفاً للجنس. فصل في أسماءِ الجموعِ إذا لم يدخلها ألف ولام مثلُ قولِنا: مسلمينَ، ومشركينَ، وقائلينَ، ومُجَربينَ، فإنها لا تكون محمولةً على العمومِ، وتحمل على أقلِّ الجمعِ. واختلفَ أصحابُ الشافعيِّ على وجهينِ: ¬

_ = 6/ 364 عن الحسن مرفوعاً: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً مسروراً فرحاً وهو يضحك، ويقول: "لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا". ورواه مالك في "الموطأ"1/ 379، وابن ابى شيبة 13/ 37، موقوفاً على عمر رضي الله عنه. (¬1) انظر "العدة" 2/ 521 - 522.

أحدُهما: مثلُ قولنا، وأنَها لا تُحملُ على العمومِ (¬1). والثاني من الوجهينِ: أنها (¬2) تُحملُ على العمومِ واستغراقِ الجنسِ، وإليه ذهب الجُبَّائي من المعتزلةِ. وعن أحمدَ مثلُ الأوَّلِ من المذهبينِ، وعنه: مثل الثاني أيضاً (¬3). ¬

_ (¬1) وهو الراجح الذي عليه عامَّة أصحاب الشافعي، قال الزركشي: وأصحهما، وعليه عامة أصحابنا، أنه ليس بعام؛ لأنَّ أهل اللغة سموه نكرة، ولو تناول جميع الجنس لم يكن نكرةً. انظر "البحر المحيط" 3/ 133، و" التبصرة في أصول الفقه" لأبي إسحاق الشيرازي: 118. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "أحدهما". (¬3) بين القاضي أبويعلى الفراء، كيفية استفادة المذهبين عن أحمد رضي الله عنه: أما المذهب الأول: فقد استفيد من رواية أبي طالب عن أحمد أنَه سُئلَ إذا قال الرجلُ: ما أحل الله فيَ حرام. يعني به الطلاق؟ أجاب: أنه يكون ثلاثاً، وإذا قال: أعني به طلاقاً، فهذه واحدة؛ لأنَّ (طلاقاً) غير (الطلاق). قال أبويعلى: فقد فرق بين دخولِ الألف واللام على الطلاق في أنه يقتصي الجنس. وبين حذفها في أنه لا يقتصي الجنس. وأمَّا المذهب الثاني: فقد استُفيد من رواية صالح، وقد سأله عن لبس الحرير فقال: لا إنّما هو للإناث، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هذان حرامان على ذكور أُمتي". قال أبو يعلى: فقد حملَ قوله: "ذكور أمتي" على العموم في الصغيرة والكبيرة، وإن كان جمعاً ليس فيه الألف واللام. انظر "العدة" 2/ 524. ويؤخذ على إلاستدلال للمذهب الثاني لأحمد: أنَّ العموم ليس مستفاداً. من لفظ: ذكور وحده وإنما هو مستفاد من إضافته إلى لفظ: أمتي، والجمعُ إذا أضيف إلى معرفة أفاد العموم. ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} حيث إن لفظ: أولاد جمع مضافٌ إلى ضمير الجمع، فاقتضى استغراق جميع الأولاد.

* فصل في أدلتنا

فصل في أدلتنا (¬1) فمنها: أنَ أهلَ اللغةِ سموا هذا نكرةً، ولو كان للجنسِ، لما سمَّوه نكرةً؛ لأنَّ الجنسَ معرفةٌ؛ لأنَه معروف كُلّه غيرُ منكَرٍ عندَهم، ولا يختلطُ بغيرِه، بل هو مستوعَب مُنقطع عن غير الجنس. ومنها: أنه نكرةٌ في الإثبات، فلم يقتضِ العمومَ، كالاسمِ المفردِ. ومنها: أنَه يصحُ تأكيدُه بـ (ما)، فتقول: رأيتُ رجالاً ما، ولو كان يقتضي الجنس لما حسن تأكيده بما؛ لأنَّ قولَ القائلِ: عندي دراهمُ، وجاءني رجالٌ ما، يريدُ به التقليل، والتقليلُ ينافي الاستغرافَ، ولهذا قال سبحانه: {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، فصرح بالقلّةِ في حرف (ما)، ألا ترى أنه إذا دخلَ الألفُ والَّلامُ عليه لم يحسُن دخول (ما)، فلا يقال: الرجالُ ما. شبهةُ أهلِ العمومِ أن قالوا: لو لم يَقْتضِ الجنسَ لما حسُنَ الاستثناءُ لكلِّ واحدٍ من الجنسِ، فلما حسُنَ استثناءُ كلِّ واحدٍ منه عُلمَ دخولُه فيه وبحَسبِه، إذ لا يخرجُ بالاستثناءِ إلا ما دخلَ في اللفظِ. فيقال: لا نسلِّم، بل لا يجوزُ الاستثناءُ من ألفاظِ الجموعِ إذا تجردت عن الألفِ واللامِ، فلا نقولُ: رجالاً إلا زيداً وعَمْراً. على أنَا لو سلمنا توسعةَ الكلامِ؛ فإنَ الاستثناءَ يُخرجُ البعضَ من الكُلِّ، ويخرجُ البعضَ من البعضِ، ومهما كانَ الجمعُ محتمِلاً لإخراجِ بعضِه، صحَ الاستثناءُ منه بحسَبِه، ولا يعطي هذا استِغْراقَ الجنسِ. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك "العُدة" 2/ 524 - 525، و"التمهيد"2/ 50 - 52، و"المسودة" ص 106، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 142 - 144.

* فصل: إذا وردت صيغة العموم الدالة بمجردها على استغراق الجنس واستيعاب الطبقة فهل يقف العمل بها على البحث عن دليل التخصيص

فصل إذا وردت صيغةُ العمومِ الدالةُ بمجرّدها على استغراقِ الجنسِ واستيعابِ الطبقةِ، فهل يجبُ أن يقفَ الاعتقادُ لها والعملُ بها على البحثِ عن دليل التخصيصِ، أم يجب بأولِ بادرةٍ؟ على روايتين عن أحمدَ رضي الله عنه: إحداهما: يجبُ اعتقادُها والعملُ بها في الحالِ. والثانيةُ: لا يجبُ ذلكَ إلا بعد البحثِ والطلبِ وعدمِ الدلالةِ المخصِّصة (¬1). ولأصحابِ الشافعي وجهان كالروايتينِ (¬2). واختلفَ أصحابُ أبي حنيفةَ، فقال أبو عبد الله الجُرجاني: إن سمعَ الصيغةَ من رسولِ الله وجبَ الاعتقادُ والعملُ من غير توقف، وإن كان سماعُها من غيره لزمَه ¬

_ (¬1) اختار الرواية الأولى عن أحمد، والقاضية بوجوبِ العمل بها في الحال: أبوبكر الخلال، وأبو يعلى، والحلواني، وابن قدامة، والطوفي. واختار الروايةَ الثانية عنه والقاضية بوقف العمل به إلى حين ثبوت عدم ورود المخصص: أبوالخطاب الكلوذاني. انظر "العدة " 2/ 525 - 532، و"التمهيد"2/ 65 - 70 و"المسودة" ص (109)، و"روضة الناظر" ص (126) و"شرح مختصر الروضة"2/ 542 - 547. (¬2) رأيُ عامة أصحاب الشافعي التوقف في العمل بالدليل العام حتى ينظر في الأدلة؛ فمن دل الدليل على تخصيصه خُص به، وإن لم يجد دليلاً يدل على التخصيص اعتقد عمومه، وعمل بموجبه. وهذا قول ابن سريج، وأبو إسحاق المروزي، وأبوسعيد الإصطخري، وأبوعلي بن خيران، وأبوبكر القفال، والغزالي. وذهب القاضي أبو بكر الصيرفي، إلى وجوب اعتقاد العموم في الحال عند سماعه والعمل بموجبه. انظر "البرهان في أصول الفقه" 1/ 406 - 408 و"المستصفى"2/ 157 - 162 و"التبصرة في أصول الفقه" ص (119 - 121) و"البحر المحيط" 3/ 36 - 49.

- فصل يجمع أدلتنا

التثبتُ وطلبُ دلالةِ التخصيصِ، فإن فقدَها حملَ اللفظَ على مقتضاه من العمومِ، وذكر أبو سفيان (¬1) وجوب اعتقادِ عمومِه من غير توقفِ ولا طلبِ دلالةِ تخصيصِ. فصل يجمعُ أدلّتنا (¬2) فمن ذلك: أن الصيغةَ تقتضي بوصفِها العمومَ، كما أن اللفظ المقتضي للحكمِ على الدوامِ إذا وردَ فسمعَه من أهلِ الآفاقِ في عصرِ النبي عليه الصلاة والسلام، كمعاذِ باليمنِ، وعتَّاب (¬3) بمكة، وغيرهما من الصحابةِ، مع تجويزِ ورودِ ناسخٍ ينسخُ ذلكَ الحكمَ، فإنه لا يجوزُ التوقفُ ليُطلبَ ناسخٌ عساهُ يكونُ قد وردَ، فضلاً عن أن يجب، كذلك لا يجبُ طلبُ دلالةِ التخصيص. وكما أنَ الناسخَ يتأخّر فالتخصيصُ يجوزُ أن يتأخر فاذا لم يجب بطلبِ أحدِهما، كذلكَ الآخر. ومنها: أنَ الصيغةَ موضوعةٌ للعمومِ، والتخصيص متوهَم ومُجَوّز فلا يجوزُ تأخيرُ الاعتقادِ لعمومِه والعملِ به، لتوهّم ما يخصُّه، كما أنَّ أسماءَ الحقائقِ إذا وردت يجبُ اعتقادُ ما يوجبُه الوضعُ والعملُ به، ولا يجبُ التوقفُ لطلبِ دلالةٍ صارفةٍ له عن ظاهرِه وحقيقتِه إلى مجازِه واستعارته. ¬

_ (¬1) هو محمد بن أحمد أبي سهل السرخسي، من كبار أئمة الحنفية، صنف "المبسوط"و"الأصول"، وشرح كتب محمد بن الحسن، توفي سنة (483 هـ). انظر "الجواهر المضية" 2/ 28، "الفوائد البهية":158. (¬2) ظاهر من الأدلة التي يسوقها ابن عقيل أنه يرجّح الرواية الأولى عن الإمام أحمد. (¬3) هو عتاب بن أَسيد بن أبي العيص بن أُمية بن عبد شمس الأموي، أسلم يوم الفتح، واستعمله النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مكة لما سار إلى حنين، وأقرّه أبو بكر على مكة. انظر "الإصابة" 4/ 429.

- فصل في سؤالهم على الدليلين

فصل في سؤالهم على الدليلين قالوا: إنَ الصيغةَ تقتضي ما ذكرت، لكن مع التجرّد من مخصِّص، وذلكَ لم يتحقق ما لم يبحث عن الدليلِ المخصِّص، وما ذلكَ إلا بمثابةِ الشهادةِ إذا قامت على حق من الحقوقِ لا يتلقاها الحاكمُ بالعلمِ والعمل بها، حتى تقومَ الدلالةُ على سلامتِها بالبحثِ الدالِّ على السلامةِ، مما يقدحُ فيها، وهي التزكيةُ لها، فلا يَقنعُ بأصلِ العدالةِ التي هي كأصلِ الوضعِ ها هنا. وأمَّا النسخُ، فإنه أمرٌ يردُ متراخياً فيما بعدَ المنسوخِ، وذلكَ لا يجبُ انتظارُه وتوقُّعه، ولأنَّ انتظارَ الناسخِ يُعطِّلُ الأمرَ الأولَ عن العملِ به؛ لأنَّ رفعَه إنَّما يكونُ بعد العملِ به، ولو كان مثلَ العملِ به لما ثبتَ للفظِ الأوَّلِ فائدةٌ؛ لأنَّهُ يخلو جميعُ الزمانِ السابقِ للناسخِ من عملٍ بذلك (¬1) المنسوخِ، وليس كذلك انتظارُ الدليلِ المخصِّص؛ لأنَّه أيُ وقتٍ كان، قصد العمل باللفظِ الذي أريدَ به الخصوصُ، كما نقولُ في البينةِ إذا ثبتت عدالتُها في الحالِ، لا يتركُ العملُ بها، والاعتقادُ لما شهدت به، فإنا لا نَسْتأني (¬2) بها استقبالَ حالها وتوقّعها، عساه يحدثُ فيها من فعلٍ أو قولٍ خارج يقدَحُ في عدالتها أو يرفعُ العدالةَ عنها. فيقال: إنَّ القاعدةَ في سؤالِكم غيرُ صحيحةٍ؛ لأنَّ تجويزَ وجودِ دلالةٍ تصرفُ عن العمومِ إلى الخصوصِ لو أوجبَ التوقفَ لطلبِها والبحثِ عنها؛ لأوجبَ تجويزَ صرفِ لفظِ الأمر عن ظاهرِه -وهو الوجوبُ- إلى الندبِ، توقيفاً عن العملِ به، واعتقاداً لإيجابِ البحثِ عن دلالةٍ تدلُّ على صرفِه، ولماَ لم يجب ذلكَ في الأمرِ ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "فذلك". (¬2) من التَّواني، أي: لا ننتظر ونتأخر في الحكم بموجَب الشهادة، إلى حين ظهور سلامتها من القادح أو الجارح.

المطلقِ؛ لم يوجب التوقفُ في العمومِ المطلقِ. وقولُكَ: لا يكونُ مجرّداً إلا بعدَ البحثِ. يَبْطُلُ بالأمرِ والنهي، فإنه يكونُ مجرّداً قبلَ البحثِ عن دليلِ الصرفِ له عن ظاهرِه. وفارقَ التَنبيه، فإن خبرَ الواحدِ ها هُنا لا يوجبُ البحثَ ولا التوقُف في الراوي إلى أن تقومَ الدلالةُ على عدالةِ باطنه، ونقبلُ فيه الواحدَ، ولا يُعتبرُ العددُ، بخلافِ الشهادةِ. وأما قولكم: إنَ دلالةَ التخصيصِ تكونُ معه بخلافِ النسخِ، فلا يُسلَم، بل عندنا: أنَ البيانَ يجوزُ أن يتأخرَ عن وقتِ الخطابِ، فهو كالنسخِ، ولأنَ النسخَ الذي يكونُ بعدَه قد يخفى عن البعيدِ عن مدينةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فلا يعلمُ أنَزَلَ به وحيٌ أمْ لا؟ ومع ذلكَ لا يجبُ الانتظار، وإن كان ذلك لا يفوِّتُ أصلَ العملِ عن ورودِ النَّسخِ، ومع هذا التجويزِ لا يجبُ التوقفُ عليه. فإن قيلَ: ليس العمومُ من أسماءِ الحقائقِ بشي؛ لأنَّ تلكَ إذا عُدِلَ عنها إلى غيرِها كانت استعارةً ومجازاً، فأمَّا العمومُ فإنَه إذا صُرِفَ إلى الخصوصِ، ودخلَه التخصيصُ، لم يكن مجازاً. قيل: قد استويا في العدولِ عن الظاهرِ الأصليّ في الوضعِ، وإن افترقا في كونِ أحدهما بقيَ حقيقةً (¬1)؛ لأنَّ ما بقيَ ليس غيراً ولا مخالِفاً؛ لأنَه يصلحُ للعمومِ ابتداءً وما صلُحَ للابتداءِ كان أصلحَ للبقاءِ؛ لأنَّ البقاءَ والدوامَ آكَدُ (¬2). ¬

_ (¬1) أي بقي على حقيقته ولم يصبح مجازاً، وسيرد تفصيل المسألة في الصفحة: 365 وما بعدها. (¬2) انظر ذكر الاعتراضات في "العدة" 2/ 528 وما بعدها، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 68 وما عدها.

- فصل في إيضاح شبههم

فصل في إيضاحِ شُبَههم فمنها: أن قالوا: إنَ اقتضاءَ العمومِ، أو إن المقتضي للعمومِ: إنما هي هذه الصيغ إذا تجردت عن قرينةٍ تصرفُها. ولا طريقَ إلى العلمِ بتجرُدها عن القرينةِ إلا البحثُ الكاشفُ لأحدِ أمرين: إما القرينةُ الصارفة لها عن الوضعِ الأوَل، أو تجرّدها عن قرينةٍ، فصار كالبينة التي لا تُعلمُ صلاحيتُها لإثباتِ الحقوقِ إلا بالبحثِ عن باطِنها لتتضحَ براءتُها من أسبابِ الريبةِ. فيقالُ: إنَ الأصلَ عدمُ القرينةِ؛ ولأنه يلزمُ عليه الأعداد وأسماءُ الحقائق، فإنهما جميعاً يُصرفان (¬1) عن ظاهرهما بالقرائنِ، ولا يعتبرُ العملُ بهما بعَدم البحث. ومنها: أن قالوا: إنَ سامعاً إذا سمع قولَه سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، فلا يخلو أن يعتقد عمومَه بالبادرةِ حتى إنه يعتقدُ خلقَ الكلامِ والعلمِ والإرادةِ، أو يتوقفَ لينظرَ ما يجوزُ أن يدخلَ تحتَ العمومِ وما لا يجوز فيخرِجه بدلالةِ التخصيصِ، ولا يجوزُ الأوَل بإجماعِنا، فلم يبقَ إلا الثاني. فيقالُ: إنَّ لأدلةِ العقولِ فيما يتعلَقُ الله سبحانَه وصفاتِه الواجبةِ له سابقةً لسماعِ كل سمعٍ يردُ من الرسولِ صلى الله عليه وسلم، كما كانت سابقةً لإرسالِ الرسولِ في تجويزِ الإرسالِ عليه، فلما جوَّزت الإرسالَ سمعنا ذلك لا جَرمَ منه، ولو لم تسبق أدلةُ العقولِ بتجويزِ (¬2) الرسالةِ عليه سبحانَه والسفارةِ عنه لما سمعناه، وتلكَ أدلةٌ ظاهرةٌ لا تحتاجُ إلى تجديدِ نَظَرٍ وبحثٍ بعد ورودِ صيغةِ العمومِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقرنان". (¬2) في الأصل: "بتجوز".

- فصل في الكلام مع أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين سماع ذلك من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسماعه من غيره

فصل في الكلامِ مع أصحابِ أبي حنيفة في الفرقِ بين سماعِ ذلكَ من الرسولِ صلى الله عليه وسلم وسماعِه من غيره. إنَّ الصيغةَ الموضوعَة في اللغةِ لا تختلفُ باختلافِ الناطقين بها، بدليلِ أسماءِ الجموعِ والحقائقِ الموضوعةِ من أسماءِ الأجناسِ، والأنواعِ، والأشخاصِ، فنقولُ: صيغةٌ موضوعةٌ، فلا يجبُ التوقفُ عن اعتقادِ موجَبها والعملِ به، كما لو سُمِعت من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. شبهةُ القائلِ بالفرقِ: ان الرسولَ صلى الله عليه وسلم لا يؤخرُ بيانَ التخصيصِ، إذا كانت الصيغةُ مخصصةً، إما ببيانِ ذلكَ بدلالةٍ، أو قرينةٍ تُذكرُ، فإنَّه لا يجوزُ عليه تأخيرُ اليَبانِ، بخلافِ آحادِ أمَّتِه من المبلِّغينَ عنه والرواةِ، فإنَه لا يجبُ عليهم ذلكَ. فيقالُ: إنَ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الخطابِ جائز عندنا، وسيأتي الكلامُ في ذلكَ إن شاء الله على أنَ المبلِّغَ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي له أن يؤديَ الصيغةَ إلا على ما سمعها، ولا يُحدِث فيها شيئاً؛ لأنَّه يكون تلبيساً، فإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يجوزُ له أن يُعزَيَ الصيغةَ عن بيانِ تخصيصٍ إن كان فيها، فالمبلغُ أيضاً عنه لا ينبغي له أن يبلِّغَها متجرِّدةً عن القرينةِ التي سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا فرقَ بينَهما إذاً. فصل في العمومِ إذا خُصّ، هل يبقى على حقيقتِه أو يكونُ مجازاً؟ فإنه حقيقةٌ فيما بقي، ولا يصير مجازاً بتَخصيصهِ، هذا مذهبنا (¬1)؛ لأنَّ أحمدَ رضي الله عنه أخذَ بعموماتٍ قد خُصَّت في عدةِ مواضعَ، وبه قال أصحابُ الشافعيِّ (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 533، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 138و"المسودة": 116، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 160. (¬2) هو رأيُ كثير من أصحاب الشافعي، كأبي حامد الإسفراييني، وابن السمعاني، وابن السبكي=

خلافاً للمعتزلةِ في قولهم: يصير مجازاً فيما بقي على الإطلاق، سواءٌ خُصِّ بلفظٍ صاحَبَه، واقترنَ به لفظٌ، [أم] (¬1) تأخَّر عنه. واختلف أصحابُ أبي حنيفة (¬2)، فحكى أبو عبد الله الجُرجاني عن عيسى بنِ أبان أنَّه يصيرُ مجازاً يمنع من التعلقِ بظاهرِه، سواء قارنته دلالةُ التخصيصِ، أو انفصلت عنه. وحُكي عن أبي الحسن الكرخي أنَّه كان يقول: يصيرُ مجازاً إذا كان التخصيصُ منفصلاً عنه، ولا يصيرُ مجازاً إذا كان متصلاً به. وٍ حُكي عن أبي بكر الرازي أنَّه يكون مجازاً، إلا أن يكونَ الباقي جمعاً، فيبقى حقيقةً. وقالت الأشعريةُ: يكونُ مجازاً، وإنَّما يصحُّ ذلكَ عندهم إذا ثبت أنَّه عمومٌ بدلالةٍ، ثم خُصَّ بدلالةٍ، إذ لا عمومَ عندهم على الإطلاقِ. ¬

_ = ووالده، وخالف في ذلك آخرون من أصحاب الشافعي، كالغزالي والآمدي، وقالوا: إنَّ العام بعد تخصيصه يصير مجازاً. انظر "البرهان"1/ 411 - 412، و"التبصرة" ص (122)، و"المستصفى" 2/ 54 - 56 و"جمع الجوامع" 2/ 37، و"الإحكام" للآمدي 2/ 330، و"البحر المحيط" 3/ 259 - 263. (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) ورأي عامةِ أصحاب أبي حنيفة: أن العام بعد تخصيصه يبقى حقيقة، سواءٌ كان دليل التخصيص متصلاً به غير مستقل بذاته، أم كان منفصلاً عنه مستقلاً بذاته. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: إنه يكون مجازاً في الباقى سواء كان دليل الخصوص متصلاً به أم منفصلاً عنه. وهذا رأي عيسى بن أبان. وفصَّل البعض؛ فإن كان دليل التخصيص متصلاً غير مستقل بنفسه يبقى حقيقة في الباقي، وإن كان منفصلاً يصير مجازاً. وهذا رأي أبي الحسن الكرخي. انظر "أصول السرخسي" 1/ 144. و"ميزان الأُصول" 1/ 420 - 423.

- فصل في جمع الأدلة لنا

فصل في جمع الأدلة لنا فمنها: أنَّ فاطمةَ رضوانُ الله عليها احتجت على الصِّديقِ رضوانُ اللهِ عليه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ..} [النساء: 11] الآية، ومعلومٌ أنَ التخصيص قد دخلَ عليها، بإخراجِ الكافرِ من الأولادِ، والقاتلِ، ولم يُنكر عليها هوَ ولا أحد 21/ 97، من الصحابةِ الاحتجاجَ بذلكَ، بل عدَلَ إلى روايةِ حديثٍ عن أبيها صلوات الله عليهما، وهو قوله: "نحنُ معاشر الأنبياء لانُورَث، ماتركناه فهو صدقةٌ" (¬1). ومنها: أنَ هذه الصيغةَ لو وردت على نَفيٍ بعدَ التخصيصِ من الجماعةِ التي انتهى التخصيصُ إليهم؛ لكانت حقيقةَ في العمومِ، فوجَبَ أن تكونَ دلالةٌ من اللفظِ قائمةً بعد التخصيصِ، كماكانت قبل التخصيصِ. ومنها: أنَ الأصل في الاستعمالِ (¬2) الحقيقة، وقد وجدنا الاستثناءَ والشرطَ والغايةَ في الاستعمالِ أكثرَ من أن يُعَد ويُحصى، فدلَّ على أنَ ذلك حقيقةٌ. ومنها: أنَ فوائدَ اللفظِ تختلفُ بما يدخلُ عليها من الزيادةِ والنقصانِ، مثالُه: أنَكَ تقولُ: زيدٌ في الدار فيكونُ خبراً، ثم تزيدُ فيه ألفَ الاستفهامِ، فتقول: أزيدٌ في الدارِ؟ فيكون استفهاماً واستخباراً، فلو قلنا: إنَ ما اتصلَ باللفظِ من الشرطِ والاستثناءِ، يجعلُ الكلامَ مجازاً فيما بقي، لوجوبِ أن يكونَ قولُه: أزيدٌ في الدارِ؟ مجازاً في الاستفهامِ؛ لأنه لو سقطَ منه الألفُ، لصار خبراً محضاً، وفي دعوى هذا وركوبه إسقاطُ فوائدِ الألفاظِ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة 318 من هذا الجزء. (¬2) في الأصل: "استعمال".

ومنها: أنَ الكلامَ إنما يكونُ مجازاً إذا عُرف له حقيقة، كالحمارِ حقيقةً: الحيوانُ النَّهَّاقُ، وإذا استُعمل في الآدمي البليدِ، كان مجازاً؛ لأنَه استعملَ في غيرِ ما وُضعَ له، والعمومُ مع الاستثناءِ ما استعملَ في غيرِ هذا الموضعِ على سبيلِ الحقيقةِ، فلا يجوزُ أن يُجعلَ مجازاً في هذا الموضعِ (¬1). ومنها؛ أنَ دلالةَ التخصيصِ بمنزلةِ الاستثناء المتصلِ بالجملةِ من جهةِ أن كُلَّ واحدِ منهما يُخرجُ من الجملةِ ما لولاهُ لدَخَلَ فيها، فإذا كان الاستثناءُ غيرَ مانعٍ من بقاءِ اللفظِ فيما بقي، وصارت الجملةُ مع الاستثناءِ عبارةً عما عدا المخصوصَ بالاستثناءِ، كذلك ها هنا. فإن قيل: [إنما كان كذلك في] (¬2) الاسثتناء مع المستثنى منه؛ لمكان الاتصالِ كالجملةِ الواحدةِ، فيصير عبارةً عن الباقي؛ لأن للتسعة اسمين: [تسعة، و] (¬3) عشرةٌ إلا واحداً، وأيّهما عُبَّر به كان حقيقةً، كما ان في الجمع والتثنية لا فرق بين قوله: ثلاثة، أو: اثنان وواحد (¬4). في أنَّ العبارتين تفيدان معنى واحداً، وكذلكَ دلالةُ التخصيصِ المتصلةِ. فأمّا المنفصلُ من التخصيصِ عن صيغةِ العمومِ، فإنَّه لا يكونُ جملةً ولا كالجملةِ الواحدةِ، وإنَّما كانت جملة هي حقيقة في عددِ أو في استغراق جنسٍ، فبدِّلت بالدَّلالةِ عما وُضعت له. قيل: كذلكَ التخصيصُ المنفصلُ أيضاً يصيرُ مع الجملةِ الأولى، كالمتصلِ، ولا ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" للشيرازي: 123. (¬2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، وهي بنصها في "العدة" 2/ 542. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) مكررة في الأصل.

- فصل في شبههم

فرقَ بينهما؛ لأنها ملحقةٌ بها وقاضيةٌ عليها، ولو كانت كالجملةِ الأخرى لكانت نسخاً، ولمّا لم يكن نسخاً، ثبت أنَها كالاستثناءِ من حيثُ إنها أبانت عن المرادِ بالصيغة الأولى (¬1). فصل في شُبَههم فمنها: أن الصيغة موضوعةٌ للاستغراقِ والشمولِ لجميعِ الجنسِ، فإذا جاءت دلالةُ التخصيص صارت مصروفةً عمّا وُضعت [له] (¬2)، وإذا ثبَتَ بهذهِ الجملةِ أنه معدول به عما وُضِعَ له، صارَ مجازاً، وصار بمثابةِ اسم الأسدِ إذا استعملَ في الرجلِ المقدام على الحربِ، والحمارِ إذا استعملَ في الرجلِ البليدِ، فإنَه يكون مجازاً، كذلك ها هُنا، ولو كان ما صرفته الأدلةُ المنفصلةُ عن موضوعِه ومقتضى إطلاقِه بعد صرفِه حقيقةً فيما صُرفَ إليه للدلالة أو القرينة، لصار كل مجازٍ حقيقة فيما اقتضته القرينة، ولسقط المجازُ من كلامِ العرب جملة، ولصار القولُ في الإنسانِ البليدِ والرجلِ الشديدِ: إنه ثورٌ وحمار وأسد حقيقةً مع القرائنِ الدالةِ، مع أنَ القصدَ به غيرُ ما وُضع له في الأصلِ. ولما بَطلَ ذلكَ وثبتَ المجازُ من الكلامِ، بَطلَ ما ادعوه. فيقالُ: هذا باطل بما إذا قيَّده بالشرطِ أو الغاية، أو خصَّه بالاستثناءِ على قولِ من سلم ذلكَ، فمنَه موضوع للجنسِ، وقد استُعملَ مع الاستثناءِ في غيرِ ما وضع له، ثم لم يصر مجازاً. على أنَه لما صُرِفَ بقي على جملةٍ صالحةٍ، كونها عموماً، فهي كالعددِ الذي إذا ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 542 - 543. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

- فصل في الدلالة على من فرق بين المتصل والمنفصل

زالَ بعضُه بقي الباقي حقيقةً في الجمعِ، بخلافِ الأسماءِ التي قاسوا عليها. فإن قيلَ: هو مع الاستثناءِ موضوعٌ للخصوصِ لا للعمومِ، فما استعمل إلا فيما وُضعَ له. قيل: وكذا نقولُ في مسألتنا: لفظ العمومِ مع دلالةِ التخصيصِ موضوعٌ للخصوصِ، لا للعمومِ، فما استعملَ إلا فيما وضِعَ له. ويخالف هذا ما ذكروه من استعمالِ الأسدِ في الرجلِ الشجاعِ، والحمار في الرجلِ البليدِ، فإنَّ الأسدَ لم يوضع للشجاعِ، ولا الحمارَ للرجلِ البليدِ في اللغة، فإذا استعملَ في ذلك حكمنا أنَّه مجازٌ، وليس كذلك لفظُ العمومِ، فإنه متناوِلٌ لكل واحدٍ من الجنس ما أخرجه الدليلُ وما بقي تحتَه، وواقعٌ عليهما، فإذا استعملَ في الخصوصِ، فقد استُعملَ فيما يقتضيه اللفظُ. يَدُل عليه: أن القرينةَ فيما ذكروه تُبق ما أريدَ باللفظِ، والقرينة فيما اختلفنا فيه تبين ما لا يرادُ باللفظِ، فبقي الباقي على مقتضى اللفظ (¬1). فصل في الدلالةِ على من فرَّق بينَ المتصلِ والمنفصل لأنَّ المتصل (¬2) معنى يقتضي تخصيصَ العمومِ، فلم يَصِو مجازاً في الباقي، دليلُه ألشرطُ والاستثناءُ، وأيضاً فإنَ اللفظَ اقتضى استغراقَ الجنسِ أجمعَ، فإذا دلَّ الدليل على أن بعضَ (¬3) الجنسِ غيرُ مرادٍ، بقيَ الباقي على مقتضى اللفظ، فوجبَ أن يكونَ حقيقةً فيه. ¬

_ (¬1) انظر "العدة"2/ 543 - 544، و"التبصرة": 124. (¬2) في الأصل: "المنفصل"، والمثبت من "العدة"2/ 539، و"التبصرة". 124. (¬3) تكررت في الأصل.

- فصل في الدلالة على أنه يجوز تخصيص العموم إلى أن يبقى واحد

فصل في الدلالةِ على أنَّه يجوزُ تخصيصُ العمومِ إلى أن يبقى واحدٌ (¬1)، فلا يتخصصُّ جوازُه بأن يبقى أقلُّ الجمعِ وهو الثلاثةُ، وبه قال أكثر أصحاب الشافعي (¬2)، خلافاً لأبي بكر الرازي (¬3) فيما حكاه الجُرجاني عنه، وأبو بكر القَفّال. يجوزُ تخصيصُ الجمعِ إذا كان الباقي جمعاً حقيقةً، ولا يجوزُ النقصانُ منه إلا لما يجوزُ النسخُ به (¬4). فالدلالةُ على ما ذكرناه: أنَ ما جاز تخصيصهُ إلى الثلاثةِ جاز تخصيصهُ إلى الواحدِ، كمنْ، وما، فإنَّه لو قال: من دخلَ الدارَ؟ أو: من في الدار؟ أو: ما في الدار؟ حسُن جوابه بالواحد من الجنس، كما يحسُن جوابُه بالثلاثةِ، أو بقولِ لفط من ألفاظِ العمومِ، فصارَ تخصيصهُ إلى أن يبقى دونَ الثلاثِ، كمن، وما. ¬

_ (¬1) هذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وأصحابه. انظر هذه المسألة وما تبعها من أقوال وأدلة في "العدة" 2/ 544 - 547 و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 131 - 135، و"المسودة": 116. (¬2) هذا ما ذكره الشيرازي في "التبصرة": 125،حيث قال:"يجوز تخصيص أسماء الجموع إلى أن يبقى واحد، في قول أكثر أصحابنا" ونقل الزركشي عن الجويني أنه قال في "التلخيص": إن هذا القول هو قول معظم أصحاب الشافعي. انظر: "البحر المحيط" 3/ 257 - 258 و "المحصول" 3/ 12 - 14. (¬3) رأي أبي بكر الرازي -وفق ما ينقل عنه- أنه يمنع أن ينقص العام بعد التخصيص عن أقل الجمع، وهو ما رجحه مجد الدين ابن تيمية في "المسوَّدة": 117، وانظر "الإحكام" للآمدي 2/ 412، و"البحر المحيط" 3/ 255. (¬4) يرى أبوبكر القفال: أن العام إن كان ظاهراً مفرداً "كمن" و"الألف واللام" نحو اقتل من في الدار واقطع السارق، جاز التخصيص إلى أقل المراتب، وهو واحد، وإن ورد العام بلفظِ الجمعِ جاز إلى أقل الجمع. انظر "الإبهاج شرح المنهاج" 2/ 125، "البحر المحيط" 3/ 256 و"التبصرة":125.

- فصل في شبههم

وأيضاً: ما جازَ تخصيصُ العمومِ به إلى الثلاثِ جازَ التخصيصُ به إلى الواحدِ، كالاستثناءِ. وأيضاً: فإنَ القرينةَ المنفصلةَ كالقرينةِ المتصلةِ؛ لأنَّ كلامَ صاحبِ الشريعةِ وإنْ تفرّق، فإنه يجبُ ضمُ بعضِه إلى بعضٍ، وبناءُ بعضِه على بعضٍ، فإذا كانَ كذلك، وكان المتصلُ صحيحاً ما (¬1) بقي من اللفظِ شيءٌ، كذلكَ التخصيصُ. فصل في شُبههم قالوا: إن اللفظَ موضوعٌ للجمعِ، فإذا لم يبقَ ما يقعُ عليه اسمُ الجمعِ، صارَ مستعملاً في غيرِ ما وُضع له، فاحتاج إلى دليلٍ يجوزُ به النسخُ. فيقالُ: إنَا لا نُسلِّم أنه لا يجوز استعمالُ لفظِ الجمع فيما دونَ الثلاثِ، ولهذا قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، وأراد به نُعيماً (¬2)، وقال: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] وأراد به عائشةَ وحدَها (¬3)، وعلى أنَّ هذا يبطلُ به إذا خصَّه بالاستثناءِ، فإنَّه يجوزُ، وإن كان اللفظُ يستعملُ فيما دونَه. فإن قيل: أليسَ من مذهبِكم أنَّه لا يجوز استثناء الأكثر؟ فكيف أجزتم رفع الكُلّ إلا واحداً ها هُنا. قيلَ: ليس التخصيصُ من الاستثناءِ بشيءٍ، بدليلِ أنَّه (¬4) لايلحق بالمستثنى منه إلا مع اتصالِ الكلامِ، وفي التخصيصِ يلحقُ الخصوصُ بالعمومِ مع الانفصالِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مهما"، والمثبت من "العدة"2/ 546. (¬2) يعني نُعيمَ بن مسعود رضي الله عنه، وقد سبق استدلال المصنف بالآية في الصفحة: 343. (¬3) انظر "تفسير الطبري"10/ 108، و"تفسير ابن كثير" 6/ 34. (¬4) في الأصل: "أن".

* فصل: يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل

على أنَّ هذا السؤالَ لا نقولُ به، بل عندَك يجوزُ استثناء الأكثرِ, ومن جنسِه مايرفعُ الأصلَ وهو النسخُ؛ لأنَه تخصيصُ الزمانِ، كما أنَّ هذا تخصيصُ أعيانٍ. فإن قيلَ: قد حدَّ الناسُ العمومَ بماشملَ اثنينِ فصاعداً، ولأنكم (¬1) إذا أبقيتموه على واحد لم يبقَ فيه للعمومِ مَساغٌ؛ لأنَّه لا يبقى ما يمكنُ معه التخصيصُ، وكل ما لا يدخلُه التخصيصُ فليس بعمومٍ. قيلَ: باطلٌ بالاستثناءِ. فصل يجوزُ تخصيصُ العمومِ بدلالةِ العقلِ، وبه قالَ أكثرُ العلماءِ (¬2) وحكى بعض الأصوليين أنَّه زعم قوم أنه لا يجوز ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو لأنكم"، والمثبت أنسب للسياق. (¬2) "العدة" 2/ 547، و"التمهيد" 2/ 101، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 279، و"الإحكام" للآمدي "2/ 459، و"المستصفى"2/ 99، و"البحر المحيط" 3/ 355، و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 146، و"ميزان الأصول" 1/ 467. (¬3) نسب الآمدي هذا الرأيَ لطائفةِ شاذةِ من المتكلمين "الإحكام" 2/ 459. وقد ورد عن الإمام الشافعي بعض العبارات التي توهم إنكاره التخصيص بالعقل، من ذلك ما قاله في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62] أنه عام لا خصوصَ فيه. "الرسالة": 54 رغم أنَه لا تدخل تحت ذلك صفاتُ اللهِ سبحانه. والخلاف كما ينصُّ الجويني، وابن القشيري، وإلكيا الطبري، وغيرهم من الأصوليين، خلاف لفظي، ذلك أن الجميعَ متفق على جواز دلالة النقل على خروج شيء عن حكم العموم، والاختلافُ في تسميةِ ذلكَ تخصيص، فالجمهور يسمونه تخصيصاً على اعتبار أنَّ اللفظ وفق أصل وضعه يصلح لشمول غير المعقول، والمخالفون يرونَ أن اللفظَ ابتداءَ لا يتناول غير المعقول؛ لأنَّه غير موضوع له. فغدا الخلاف خلافاً لفظياً، والنتيجة واحدة. انظر "البرهان" 1/ 409، و"المستصفى" 2/ 100، و"البحر المحيط" 3/ 357.

- فصل في آدلتنا

فصل في أدلّتنا فمنها: أنَّ القائلين بالعموم، وهم الذي يُتصوّر معهم الخلاف، قد علموا أن قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62]، ظاهره في اللغة العموم، وليس في اللغة مايخصّ، وكذلك قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ} [المائدة: 120]، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} [فصلت: 54]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، إنَما دلّت العقولُ على أنَه لا تدخلُ تحتَ ذلك صفاتُ اللهِ سبحانَه، ولا يدخلُ تحتَ الرحمةِ في إرسالِه - صلى الله عليه وسلم - أبو لهبٍ وأبو جهلٍ، وإنَّما كان رحمةً لمن صدقه وآمنَ به. ومنها: أنَه إذا جازَ صرفُ الكلامِ عن ظاهرِه إلى غيرِ الظاهرِ، مثلُ صرفِه عن الحقيقةِ إلى المجازِ بدلالةِ العقلِ، جازَ تخصيصُ العمومِ بدلالةِ العقلِ، مثلُ قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، ومثل قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، والعِجلُ لا يدخلُ القلوبَ بذاتِه، لكنْ تقديرُه: حُبُّ العجلِ، والآدميُّ لا يكونُ قولاً الله سبحانَه، إنَّما يكونُ بكلمةِ اللهِ، أو يكونُ قائلاً قولَ اللهِ، وكلمةَ الحقِ، فلا فرقَ بينَ الظاهرِ والعمومِ، ولا بينَ الخصوصِ والمجازِ. ومنها: أنَّ دلالةَ العقلِ دلالةٌ تؤدي إلى العلمِ، فجازَ التخصيصُ بها، كالكتابِ والسنةِ والإجماعِ. فصل يجمع شُبهات المخالف فمنها: أنْ قالوا: إنَ دلالةَ العقلِ سابقةٌ للألفاظِ والصيغ المقتضية للعمومِ، ومحالٌ أن تتقدّمَ دلالةُ التخصيصِ على اللفظِ المخصوصِ، كما أنَه يستحيلُ أن تتقدَّمَ

- فصل في الأجوبة لنا عن شبههم

صيغةُ التأكيدِ على اللفظِ المؤكَّد، وتقديمُ الناسخِ (¬1) على المنسوخِ؛ لأنَّ رفعَ الشيءِ قبلَ وجودِه محالٌ. ومنها: أنْ قالوا: لو جازَ تخصيصُ العمومِ بدليلِ العقلِ، لجاز النسخُ بدليلِ العقلِ. ومنها: أنَّه قد ثبتَ أنَ الاستثناءَ كالتخصيصِ من حيثُ إنَ كل واحدٍ منهما يُخرجُ من اللفظِ الجامعِ الشاملِ مالولاه لدخلَ فيه، ثمَّ أجمعنا على أنَ الاستثناءَ لا يجوزُ تقدُّمُه على المستثنى منه، كذلكَ يجبُ أن لا يجوزَ تقدُمُ الخصوصِ على المخصوصِ منه (¬2). فصل في الأجوبةِ لنا عن شُبَههم أمَّا الأوَّلُ، وقولُهم: دلالةُ العقلِ سابقةٌ. لا يُسلَّم، بل في هذا تفصيلٌ؛ فإنْ كانَ العامُّ كلاماً لله سبحانَه، فإنَّه السابقُ بقِدَمِه وأزليته للعقل (¬3) ودليلِه، فلا يصحُّ ما ادَّعوه على الإطلاقِ، فبطلت دعواهم في كلامِ الله. فأمَّا كلامُ غيرِه؛ فإنَّا لا نقولُ: إنَ دليلَ العقلِ خصوص قبلَ وجودِه؛ لأنَّ قولنا خصوصٌ، من باب المتضايفاتِ (¬4)، فإذا لم يوجد عمومٌ، فلا خصوصَ، فنحنُ لا نسمَّي دلالةَ العقلِ تخصيصاً للعبارةِ قبل حُصولها ووجودِها، وإنَّما نصفه بأنَّه تخصيصٌ بعدَ وجودِ العبارةِ، وهذا حكمُ الدلائلِ، وأنَّها تارةً تتقدَمُ فتدل على ما يكونُ في الثاني، وتارةً تتأخّرُ فتدلّ على أمرٍ كان. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وتقديم النسخ والناسخ". (¬2) اتظر "العدة" 2/ 55، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 104. (¬3) في الأصل:"العقل"، وكلام المصنف هنا ليس على الإطلاق، فقد أجمع أئمة السلف على أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعني قديماً. انظر "شرح العقيدة الطحاوية": 174. (¬4) تقدم تعريف التضايف في الصفحة 352 من الجزء الأول.

ألا ترى أنَّ الدليلَ قد دل على أنَّ الله سبحانَه يثيبُ المؤمنين بالجنةِ، وأنَه يعاقبُ الكافرَ بالنارِ, وإن كان مدلولُ هذا الدليلِ وهو عينُ الإثابةِ والعقابِ، متأخّراً، كذلكَ دلالةُ التخصيصِ في العقلِ سابقةٌ لمدلولِ العمومِ. ولأنَّه ثبت بدلائل العقولِ أنَّ اللهَ سبحانَه خالقٌ، وأن صفاتِه قديمة غيرُ مخلوقةٍ، وأنَّه واحدٌ ليس بذي أعضاءَ ولا جوارحَ، فإذا وردت صيغُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، اقتضت دلالةُ العقلِ السابقةُ (¬1) صرفَ العمومِ إلى الخصوصِ، وصرفَ ظاهرِ هذه الأسماءِ عن الأعضاء (¬2)؛ ولأنَ الدلائلَ باقية إلى ما بعدَ نزولِ هذه الآياتِ، فلا معنى لتخصيصِها بالتقدُمِ على ما خصصه. وأمَّا تعلقهم بالمنعِ من التخصيصِ به لامتناعِ النَّسخ به، فليسَ التخصيصُ من النسخ في شيءٍ؛ لأنَّ النّسخَ رفعٌ لما ليسَ بأصلَح، أو ما فيه مفسدةٌ وليسَ في العقل ما يقتضى الأصلَح والأفسَد؛ لأنَّ الحظرَ والإباحةَ والإيجابَ ليسَ من قضاياه، فأمَّا الإحالةُ والتجويز, فإنَّها من قضاياه التي لا خلافَ فيها، فهو يقضيى بتجويزِ جائزات كونها، وإحالةِ الممتنعات، وإيجاب واجبات وجودها، فأما الأحكامُ فلا. والتخصيصُ تدخل عليه قضاياه (¬3)، فإنَّه مما يقضي أنَّ الصفاتِ المخصوصةَ تجبُ لله سبحانَه، فلا تدخلُ تحتَ مقدورٍ, ولا يجوزُ زوالها كما وجبَ وجودُها، فإذا قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62]، أرشدَ العقلُ إلى أنَّه لا يدخلُ تحتَ هذا العمومِ ما وجبت له من الصفاتِ، وإذا قال: فولِّ وجهَك شطرَ بيتِ المقدسِ. لم يكن في قضاياه تقديرُه مدةَ الاستقبالِ، ونقلُ الاستقبالِ إلى الكعبةِ، ولأنَ النسخَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "السابقة على"، وبحذف (على) يستقيم المعنى. (¬2) أي: لا نُشَبِّهها باعضاء المخلوقين، ولكن نُثبتها بما يليق بجلال الله وعظمته سبحانه. انظر "شرح العقيدة الطحاوية": 264 - 266 (¬3) أي تدخلُ على التخصيصِ قضايا العقلِ، من جوازِ الوجود، ووجوبِه، وامتناعه.

بالقياسِ وخبرِ الواحدِ يجوز وذلكَ لأنَه بيانُ المرادِ باللفظِ، والنسخُ بيانُ غايةِ الحكمِ، وذلكَ لا يعلمُه إلا من يحيطُ علماً بالمصالحِ ومن له المشيئةُ النافذةُ، ولأنَّ العقلَ يجوز بقاءَ الحكمِ الذي شَرعَه اللهُ، إذ قد أجمع (¬1) أربابُ العقولِ من أهلِ الشرائعِ أنَّه لا يجوزُ أن يردَ الشرعُ بغير مُجوَّزاتِ العقولِ، فإذا جوَّزَ ذلك وعُلم أن الواضعَ له الحكيمُ الأزليُّ الذي لا يَصدرُ عنه ما يقضي عليه العقلُ، بل يقضي به العقلُ، فلا سبيلَ إلى نسخِ ذلك الحكمِ بالعقلِ. فأمَّا إذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] حسُنَ أن يشعر العقلُ بتخصيص هذا الأمرِ العامِّ بإخراجِ من لا يَسوغُ في العقلِ خطابُه من الأطفالِ والمجانين. وقد أجابَ بعضُ الناسِ: بأنَ معنى النسخ ليس بأكثرَ من رفعِ الحكمِ الحكمَ، أو مثلَ الحكمِ المشروعِ في مُستقبل الزمان لمصلحةٍ تجدَّدت، وهذا ينهضُ بهِ دليلُ العقلِ في سقوطِ خطابِ اللهِ المستمرِ في كلِّ زمانٍ بما يتجددُ من عجزِ المكلَفِ عن النهوضِ بالتكليفِ بذلكَ الحكمِ المشروعِ، فقد نهضَ بالنسخِ على هذا الوجهِ، وإنَّما منعَ الاسم (¬2)؛ لأنَّهم خصّوا اسمَ النسخِ بما حَصلَ بلفظِ الشارعِ، حتى إنَ ما رفعه الإجماعُ لا يُعدُّ نسخاً، وإلا فالمعنى قد حصَلَ. وأمَّا تعلقهم بالاستثناءِ وأنَّه لما لم يَجُزْ تقدمُه على المستثنى منه، كذلك التخصيصُ. فلا يصحُّ؛ لأنه لو ابتدأ بقوله: إلا زيداً، لم يُعدَّ متكلِّماً بلغةِ العربِ، وإن قالَ بعد ذلكَ: رأيتُ الناسَ. ولو قال: إنَّما يقعُ خطابي بالتكاليفِ للعقلاءِ البالغين، ثمَّ قالَ: يا أيها الناسُ اتقوا ربكم، اعبدوا ربكم. صحَّ، وانطبقَ الأوَّلُ على الثاني بالتخصيصِ، فصارَكأنه قال: يا أيها الناس العقلاءُ اتقوا ربكم (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "اجتمع". (¬2) أي: منعَ تسمية طروءِ العجز على النهوض بالتكاليف: نسخاً. (¬3) انظر "العدة" 2/ 549 - 550، و"التمهيد" 2/ 103 - 105.

* فصل: يجوز تخصيص القرآن بأخبار الآحاد سواء كان العموم قد دخله التخصيص أو لم يدخله

فصل يجوزُ تخصيصُ القرآنِ بأخبارِ الآحادِ، سواءً كانَ العمومُ قد دخله التخصيصُ أو لم يدخله، نص عليه أحمدُ (¬1)، وبه قالَ أصحابُ الشافعيِّ (¬2). وقالَ بعضُ المتكلِّمين: لا يجوزُ (¬3). وقال عيسى بنُ أبان: ما خُصَّ بدليلٍ جازَ بخبرِ الواحدِ، وإن لم يدخله التخصيصُ فلا يجوزُتخصيصُه ابتداءً بخبرِ الواحدِ (¬4). واختلفَ القائلونَ بجوازِه، فقال فريقٌ: يجوز أن يرِد، لكن لم يرد. وقال قومٌ: قد وردَ. ونحنُ منهم. فصل في جمع الأدلة لنا فمنها: ما رُويَ عن الصحابةِ مما يَدُلُّ على مثلِ مذهبنا: أنَّهم خصّوا قوله: ¬

_ (¬1) "العدة"2/ 550، و"المسودة": 119، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 105، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 359. (¬2) "البرهان" 1/ 427، و"المستصفى" 2/ 114، و"الإحكام" للآمدي 2/ 472، و"المحصول" 3/ 85، و" البحر المحيط "3/ 364. (¬3) انظر نسبة هذا الرأي لطائفة من المتكلمين، في "العدة"2/ 550، و"التمهيد" 2/ 105 و"البحر المحيط" 3/ 365. وقد ذكر الجوينيُ هذا الرأيَ في "البرهان"1/ 426 دون أن ينسبه لأحد. (¬4) وهو ما ذهب إليه أكثر أصحاب أبي حنيفة، فهم ينصّون على أنَّه لا يجوز تخصيصُ عموم الكتاب الذي لم يثبت خصوصه، بخبر الواحد ولا بالقياس؛ لأنَهما ظنيان، فلا يجوزُ تخصيص القطعي؛ وهو عموم القرآن بهما. انظر"الفصول في الأصول"1/ 155 - 156، و"أُصول السرخسي"1/ 142، و"ميزان الأُصول" 1/ 473،"وكشف الأسرار" 1/ 164.

{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنكَح المرأةُ على عمّتها ولا على خالتها" (¬1). ومن ذلك: تخصيصهم قوله تعالى في آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بما رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرثُ القاتل" (¬2)، وقوله: "لا يرثُ الكافرُ من المسلمِ، ولا المسلمُ من الكافر" (¬3)، وخَصّوا آيةَ المواريثِ حيثُ احتجّت بها فاطمةُ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحنُ معاشرَ الأنبياءِ لا نورث" (¬4). فإن قيلَ: فقد رُوي أن عمر بن الخطاب [ردَّ] (¬5) حديثَ فاطمة بنت قيس، حيث لما روت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لم يجعل لها سُكنى ولا نفقةً، قال: "لا ندعُ كتابَ ربِّنا وسنّةَ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (10753) و (10754) و (10755)، وأحمد 2/ 432 و 474 و489 و508 و516، والبخاري (5115)، ومسلم (1408)، وأبوداود (2066)، وابن ماجه (1929)، والترمذي (1125)، والنسائي 6/ 97 و98، وابن حبان (4068)، والبيهقي 5/ 345 و 7/ 165. (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة بلفظ: "القاتلُ لا يرث"، الترمذي (2109)، وابن ماجه (2645) و (2735)، والدارقطني 4/ 96. وأخرج أبوداود (4564) الحديث الطويل في الديات ساقه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه: "وليس للقاتل شيءٌ، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئاً". وأخرج مالك 2/ 867، والبيهقي 6/ 219، من حديث عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس للقاتل شيء". (¬3) أخرجه من حديث أسامةَ بن زيد مالك في "الموطأ" 2/ 519، وعبد الرزاق (9852)، وأحمد 5/ 200 و 208 و 209، والشافعي 2/ 190، والبخاري (6764)، ومسلم (1614) وأبوداود (2909)، والترمذي (2107)، والنسائي في "السنن الكبرى" (6370)، وابن حبان (6033)، والبيهقي 6/ 217 و 218. (¬4) تقدَّم تخريجه في الصفحة 318 من هذا الجزء. (¬5) زيادة يقتضيها السياق، وهي في "العدة" 2/ 552.

نبيِّنا لقولِ امرأةٍ" (¬1). وهذا أشارَ به إلى قولي تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. قيل: إنَّ عمرَ رضي الله عنه لم يمتنع من قبولِ ذلك لأجلِ أنه خبرُ واحدٍ عارضَ القراَن، لكن اعتقد خطأ فاطمةَ لمعارضةِ غيره، لما يَدُلُّ عليه أنَّه رُويَ: "لقول امرأةٍ لعلها نَسيت"، أو شبهة عَرَضت له، ويدُلُّ عليه أنَه قال: "لا ندري أصدقتْ أم كذبت". وهذا يدلُّ على أنّه ردَّ ذلك لأمرٍ يخصُّها، ونحن إنما نقتضي بالتخصيصِ بخبر واحدٍ سكنت إليه نفسُ المجتهدِ، وغَلبَ على ظنه صدقُه، فأمَّا مثلُ هذه الحالِ فلا. وقد أجابَ صاحبُنا أحمدُ رضي الله عنه بأن قال: كان ذلك منه على سبيلِ الاحتياطِ، وإلا فقد كانَ يقبلُ من غير واحدٍ قولَه وحده (¬2). على أنَ هذا الخبرَ مُطَّرحُ الظاهر لأن آيةَ السُكنى مخصوصةٌ في حقِّ الصغيرةِ، فإنه لا سُكنى لها وخبرُ الواحدِ عند أصحابِ أبي حنيفةَ إذا دخَله التخصيصُ يُخصُ بخبرِ الواحدِ (¬3). فإن قيلَ: فإن تعلّقتم بأنَ الصحابَة عملتْ بذلك، فقد أُحدثَ النسخُ لما ثبت قِبلةً في الشرعِ بخبرِ الواحدِ، قال لهم: ألا إنّ القِبلَةَ حُولت نحو الكعبةِ، فاستداروا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (12027)، وأحمد 6/ 412، ومسلم (1480) وابن أبي شيبة 5/ 146، وأبوداود (2288)، والدارقطني 4/ 23 و 24 و27، وابن حبان (4250)، والطبراني في "الكبير" 24/ 934، والبيهقي 7/ 475. (¬2) انظر "العدة" 2/ 554. (¬3) هكذا وردت العبارة في الأصل، وهي في"العدة" 2/ 554 كما يلي: "وخبر الواحد يخص به الظاهر المخصوص عند أبي حنيفة". (¬4) أخرجه البخاري (399) و (7252)، ومسلم (525)، وابن ماجه (1010)، والترمذي (340) و (2962)، والنسائي 2/ 60، والدارقطني 1/ 273، وابن حبان (1716)، والبيهقي 2/ 2، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

- فصل في أدلتنا من طريق النظر

فكان يجب أن تَتْبعوهم في ذلكَ وتقولوا: إنَّ النسخَ بخبرِ الواحد جائزٌ. قيل: بهذا نقول، وقد نصَّ أحمدُ على هذا في روايةِ الفضل بن زياد (¬1)، وأبي الحارث (¬2) عنه في خبر الواحد: إذا كان إسناده صحيحاً وجبَ العملُ به، ثم قال: "أليس قِصَّةُ القبلةِ حين حُوِّلت، أتاهم الخبرُ وهم في الصلاة، فَتحوّلوا نحوَ الكعبةِ، وخبر الخمر، فأراقوها (¬3)، ولم ينتظروا التواتر" (¬4)، فهذا مذهبُه في النسخِ،، فرجع سؤالهم عليهم. فصل ومن أدلتنا من طريقِ النَّظر أنَّ الخبرَ الخاصَّ يتناولُ الحكمَ بصريحهِ، والعامَّ من الكتابِ يتناولُ الحكمَ بظاهرِه، والصريحُ يقضي على الظاهِر كا لآيتين والخبرين، ونحرِّرُه طريقةً قياسية، فنقولُ: دليلانِ خاصٌّ وعامٌّ، فقضيَ بالخاصِّ على العام، ¬

_ (¬1) الفضل بن زياد القطان، أبوالعباس البغدادي، من كبار أصحاب الإمام أحمد، انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 251. (¬2) أحمد بن محمد الصائغ، كان الإمام أحمد يجلة ويكرمه، روى عن الإمام مسائل كثيرة. انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 74. (¬3) ورد ذلك من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنتُ أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأُبي ابن كعب من فَضِيخِ زَهوٍ وتَمر، فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبوطلحة: قُم يا أنسُ فأهرِقْها، فأهرقتُها. أخرجه البخاري (5582) و (5583) و (5622) و (7253)، ومسلم (1980)، والنسائي 8/ 287، وابن حبان (5352)، و (5362) و (5363) و (5364)، والبيهقي 8/ 286 و290. والفَضِيخ: هو شرابٌ يتخذ من البُسر، إذا شُدِخَ ونُبِذ. والزَّهو: هو البُسْرُ الذين يَحمرُّ أو يصفَرُّ قبل أن يترطَّب. (¬4) انظر "العدة"2/ 554 - 555، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 109.

- فصل يجمع شبهاتهم

كالآيتين والخبرين. ومنها: أنَ خبرَ الواحدِ دليلٌ من أدلةِ الشرعِ يجبُ العملُ به، فوجبَ أن يقضيَ خاصّهُ على عامَّ الكتابِ كالمتواتر. فإن قيلَ: المتواترُ مقطوعٌ بطريقهِ، كما أنَّ القرآن مقطوعٌ بطريقهِ، فلما استويا في القطعِ وزادَ الخاصُّ بتناولِ الحكمِ بصريحهِ قدَّمناه على العمومِ، وقضينا به، فأمَّا خبر الواحدِ فإنَّه لا يعطي إلا الظنَّ، ولا يُقضى بالظنِّ على القطعِ. قيل: خبرُ الواحدِ ظنٌ، وبراءةُ الذممِ بدليل العقلِ قطعٌ، وحكمنا بإشغالِ الذِّممِ وتعليقِ التكاليفِ والمشاق على البدنِ بخبرِ الواحدِ المظنونِ. وكذلكَ لو شهدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ بأنَّ هذا العبدَ له، فقال: هذا العبدُ مِلكٌ لهذا، ثمَّ إنه ادَّعى تملُّكَه (¬1) آخرُ من جهةِ المشهودِ له بها (¬2) ببيع أو هِبةٍ، وقامَ بذلكَ بيِّنةٌ حُكمَ له بها، وإن كُنّا نَعلمُ أن الشهادةَ بنقلِها عن الأولِ قضاءٌ بظنٍّ على قطعِ. ومنها: أنَّ ما ذهبنا إليه جمعٌ بين الدليلينِ، وما ذهبوا إليه إسقاطٌ لأحدِهما، والجمعُ بين دليلينِ من أدلّةِ الشرعِ أولى من الأخذِ بأحدِهما وإسقاطِ الآخر وتعطيله. ومنها: أن العمومَ عُرضةُ التخصيصِ ومحتمِلٌ له، والخصوصُ من خبرِ الواحدِ غير محتمِل، فلا يعترضُه إلا النسخُ، فكان غيرُ المحتمِل قاضياً على المحتَمِل (¬3). فصل يجمع شبهاتهم فمنها: أنَّ العمومَ في كتابِ الله مقطوعٌ به، وخبرَ الواحدِ مظنونٌ غيرُ مقطوعٍ به، ¬

_ (¬1) في الأصل: "تملكها". (¬2) أي بالملكية. (¬3) انظر هذه الأدلة في "العدة" 2/ 555 - 556، و"التمهيد" 2/ 110.

- فصل في جمع الأجوبة عنها

فلا يجوزُ أن يقدَّمَ المظنونُ على المقطوعِ، كما لا يُقضى بخبرِ الواحدِ على الإجماعِ. ومنها: أنَ التخصيصَ لكتابِ الله إسقاطُ ما تضمَّنه القرآنُ، أو إسقاطُ بعضِ ما يقتضيه القرآنُ بخبرِ الواحدِ، فلم يجز، كنسخِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ. ومنها: أنَّ الترجيحَ للأدلَّةِ بابٌ مُجمَعٌ عليهِ عند أهلِ النظر، وخبر الواحدِ ضعيف، والقرآن قويّ، فلا يجوزُ تقديمُ الضعيفِ على القويِّ، كما لا يقدَّمُ القياسُ على الخبرِ (¬1). فصل في جمع الأجوبة عنها فالأوَّلُ: أنَّا لا نُسقطُ المقطوعَ بالمظنونِ؛ لأنَّ المقطوعَ به في كتابِ الله إنما هو أصلُ الكلامِ وإثباتُه، فطريقهُ القَطعُ، ولسنا نُسقطُ ذاك، وإنما نقضي على عمومِه وتناوله للأعيانِ التي أخرجها خصوصُ الخبر وتلكَ الأعيانُ ما دخلت تحت العمومِ إلا من طريقِ الظاهرِ وغلَبةِ الظن، ولذلكَ سُوِّغَ الاجتهادُ ممن أسقطَ العمومَ ونفى أن تكونَ له صيغة، ولذلكَ لم يفسق ولم يكفر، بل خُطّىءَ، فرجّحنا الصريحَ على ذلكَ الظاهرِ المظنونِ، كما تُصرف صيغُ الأوامرِ التي في كتابِ الله عن الإيجاب إلى الندبِ والاستحبابِ، والنواهي عن التحريمِ والإفسادِ إلى التنزيهِ والكراهةِ بأدلةِ مظنونةِ. على أنَّه باطلٌ بما قدّمنا من الحكمِ بخبرِ الواحدِ على براءةِ الذِّمم بأدلَّةِ العقولِ المقطوعِ بها، وكما يقضى بنقلِ الملكِ عن المالكِ الذي شَهِدَ بملكِه الصادقُ بشهادةِ شاهدين صدقُهما غيرُ مقطوعِ به. وأمَّا إلزامُ النسخِ، فقد منعناه بما نصَّ عليه أحمدُ واستدلَّ بخبرِ القبلةِ والخمرِ ولم يكلنا (¬2) على طريقِ توسعةِ النظر وسلَّمناه نظراً، فإنَّ النسخَ إسقاطٌ لموجَبِ اللفظ، ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 557، و"التبصرة" 134 - 135. (¬2) هكذا وردت في الأصل.

* فصل في الكلام على من أجازه في المخصوص ومنع من التخصيص به لما لم يدخله التخصيص

فلم يجز إلا بمثلِه أو أقوى منه، والتخصيص بيانُ ما أريدَ باللفظِ، فجازَ بما دونَه، كصرفِ الأمرِ والنهي عن ظاهرِه وحقيقةِ الكلامِ إلى مجازِه. وأمَّا قولُه: إنَّ العمومَ أقوى، والتعلق بوجوبِ تراجيحِ الأدلةِ، فإنَ ذلكَ للمقابلةِ والإسقاطِ، فأمَّا الجمعُ الذي سلكناه، فيجوزُ أن يُجمعَ بين الأقوى والأضعفِ، كما يستدلُّ بالآيةِ والخبرِ والقياسِ في المسألةِ الواحدةِ؛ ولأنَّه يَبْطلُ بما ذكرنا من خبرِ الواحدِ مع دليلِ العقلِ في براءةِ الذممِ والبينةِ مع تقدُمِ شهادةِ المعصومِ بالملكِ. فصل في الكلامِ على من أجازه في المخصوص، ومنعَ من التخصيصِ به لما لم يدخله التخصيصُ. وفيما قدَّمناه من الدلائلِ ما يكونُ دلالةً على مَنْ فَرَّقَ بينَ المخصوصِ وغيرِه، ولأنَّ العمومَ الذي لم يُخصَّ متعرّضٌ للتخصيصِ، وخصوصُ الخبرِ صريحٌ في تناولِ الحكمِ، والعمومُ الذي خُصَّ والذي لم يُخَصَّ تساويا في تناولهما الحكمَ بالظاهرِ من اللفظِ، والخصوصُ يتناولُ الحكمَ بصريحهِ. وأيضاً: فإنَ العمومَ الذي لم يُخَصَّ، كالظاهرِ من الأوامرِ والنواهي التي لم تُصرف عن ظاهرِها، ولم يدل الدليلُ على صرفِها، ثم إنَه إذا وردَ دليل يصرفها صرفناها به مع كونها لم تُصرح (¬1) بصرفٍ، كذلكَ العمومُ، والجمعُ بينهما واضحٌ، وهو أنَ كل واحد منهما ظاهرٌ. وأيضاً فإن التخصيصَ لم يخرج عمومَ القراَنِ عن رتبته في أنَه ثابتٌ بدليلِ مقطوعٍ وهو النقلُ المتواترُ، ورتبته في كونِه قراَناً، وفي كونه مقدَماً على السنَة، فإذا جازَ دخول التخصيصِ عليه بخبرِ الواحدِ مع هذه الرتبةِ، جازَ دخولُ التخصيصِ عليه بخَبرِ ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "تقترع".

- فصل في شبهة المخالف

الواحد قبل تخصيصه لتساويهما في تقدُمهما على الآحادِ برتبةِ القطعِ في طريقهما، ورتبةِ الحُرمةِ في نطقهِما وتقدمهما على السنة. فصل في شُبهة المخالف (¬1) قال عيسى بنُ أبان: إذا دخَله التخصيصُ صارَ مجازاً، فَقُبِلَ وأثر خبرُ الواحدِ في تخصيصهِ، كما قُبِلَ في بيانِ المجمَلِ، وإذا لم يدخلْهُ التخصيصُ بقيَ على حقيقته فلم يجز تخصيصُه بخبرِ الواحدِ. فيقالُ: لا نُسلّمُ أنَّه صارَ مجازاً، فلا نبني خلافاً على خلافٍ، فأمَّا المجملُ، فإنَّه لا يعقلُ معناهُ من لفظِه، ولا المرادُ به بنفسِه، والعمومُ قبلَ التخصيصِ وبعدَه مفهومُ المعنى، معقولٌ منه المرادُ، وامتثالُه ممكنٌ، واللفظُ متناوِل لما يبقى بعدَ تخصيصِه، فكانَ حكمُه حكمَ ما لم يُخصَّ. شبهةٌ ثانيةٌ: الباقي على عمومِه من غيرِ اتفاقٍ على خصوصِه مقطوعٌ على ما تضمنه من المسمّيات؛ لأنَّ صاحبَ الشريعة لو خصَّصَه لذكرَه معه، ولو ذكرهُ لنُقلَ، فلما لم يُنقلْ بقيَ على القطعِ بتناوله كلَّ مسمىً دخل تحتَه. فيقال: لا نسلِّمُ أنه تناولَ الأسماءَ قطعاً، بل ظاهراً متردّداً، لكنَّه إلى الاستغراقِ أقربُ، ومنه أظهرُ, وهو مهيأٌ لورودِ التخصيصِ عليه، بدليلِ أنَ قرآناً مثله يخصُّه، وتخصيصُه بالقرآنِ بيانٌ لا نسخٌ، ولو كان قطعاً لكان ما يرد من القرآنِ نسخاً، والخصوصُ الواردُ بخبرِ الواحدِ لفظٌ صريح في الحكمِ، والأخذُ به جمعٌ بين الدليلينِ، ¬

_ (¬1) وهي الأدلةُ التي يستند إليها الحنفية في منعهم تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، يُرجع إليها مفصَّلة في "الفصول في الأُصول" للجصَّاص 1/ 155 - 163 و"أصول السرخسي" 1/ 142 - 143، و"كشف الأصار"1/ 163 - 166.

* فصل: يجوز تخصيص العموم بالقياس

وحفظٌ لهما عن الإسقاطِ، وفي إسقاطِ خبرِ الواحد الخاصَّ إسقاطٌ لأحدِ الدليلينِ، والأخذُ بهما (¬1) أولي. فصل يجوز تخصيصُ العمومِ بالقياسِ أومأ إليه صاحبُنا أحمدُ بنُ حنبل في عدَّةِ مواضعَ، منها لعانُ البائنِ بالثلاثِ، قالوا له: اللهُ يقول: {يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور 4]، وهذه ليست زوجةَ، فقالَ: المريضُ الفارُّ من الميراثِ يورَثُ منه، وهذا فارٌ من الولدِ (¬2). واختلف أصحابُنا على وجهين: بعضُهم أجازَه، وبعضُهم منعَ منه (¬3)، ومن منعَ منهم ذكرَ أنَّ كلامَ أحمدَ يعطي في روايةِ المنعِ، وهو قولُه: كلامُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو قال: السنة- لا تُرَدُ بالقياسِ. وعندي: أنه ليسَ في هذا من كلامِ أحمدَ ما يمنعُ التخصيصَ، لأنَّ التخصيصَ ليس بِرَدٍ، لكنَّه بيانٌ، وإنَّما أراد: لا تُرَدُّ الرواياتُ بالآراءِ. ولأصحابِ الشافعي أيضاَ في جوازِ التخصيصِ بالقياسِ الخفيِّ وجهان (¬4). ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "بها". (¬2) انظر هذه الرواية عن الإمام أحمد في" العدة" 2/ 559 - 565، و"المسودة": 120. (¬3) من الذين أجازوا التخصيصَ بالقياس من أصحاب أحمد، أبوبكر عبد العزيز غلام الخلال، وأبو يعلى الفراء، وأبوالخطاب الكلوذاني، والحلواني. وهو ما رجحه ابن عقيل. ومن الذين منعوا التخصيصَ بالقياسِ من أصحاب أحمد، أبو إسحاقَ بن شاقلا، وأبوالحسن الخرزي. انظر "العدة" 2/ 562، و"المسوَّدة": 119 - 120، و"التمهيد" 2/ 121. (¬4) الشافعية متفقون على جواز التخصيص بالقياس القطعي، ومحلٌ النزاعِ جوازه بالقياسِ الخفيِّ، وهم في هذا على رأيين: الرأي الأول: جواز التخصيص بالقياسِ الخفيِّ، وممن قال بذلك: أبو إسحاق الشيرازي، كما في "التبصرة": 137، وهو مذهب الإمام الشافعيِّ. =

- فصل في جزم أدلتنا

وقال أصحابُ أبي حنيفة: إن كان قد دخله التخصيصُ بإجماعٍ؛ جازَ تخصيصُه بالقياسِ، وإن لم يكن دخله التخصيص؛ لم يجز تخصيصه به (¬1). فصل في جَزمِ أدلّتنا (¬2) فمنها: أنَّه دليلٌ شرعيٌّ نافٍ بعضَ ما دخلَ تحتَ العمومِ بصريحِه، فوجبَ أن يُخصَّ به، كالنطقِ الخاصِّ. ومنها: أنَّ العللَ الشرعيةَ معاني الألفاظِ الشرعيةِ، والمعاني المودَعةُ في النطق تكشفُ عن مرادِ الشارعِ، فإذا كانَ النطقُ الخاصُ يُخصُ به النطقُ العامُ، فكذلكَ المعنى الذي تضمَّنه النطقُ إذا كان مصرِّحاً بالحكمِ. ومنها: أنَّ العملَ بمخصوصِ القياسِ جمعٌ بينَ الدليلينِ، وهو أنَا نعملُ بعمومِ اللفظِ فيما لم يتناوله القياسُ، وبمعناه الخاصِّ في الحكمِ الذي تناوله، فهو أولى من إسقاطِ ما لاحَ من معنى النطقِ رأساً، والتمسُّك بظاهرِ لفظِ العمومِ. ومنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو قالَ: إذا زالت الشمسُ فصلوا أربَع ركعات، وإذا أهَلّ شهرُ رمضانَ فصوموا، وما أخبركم به عنّي أبو هريرةَ فهو قَولي وشَرعي. ثم إنَّ أبا هريرَة أخبرنا أن المسافر يصلي الظهرَ ركعتينِ، ويفطرُ شهرَ رمضانَ، فإنَّ ما سمعناه ¬

_ = الرأي الثاني: منع التخصيص بالقياس الخفي، وهو المنقول عن ابن سريج، وأبي حامد الإسفراييني، والآمدي، انظر "المستصفى" 2/ 123، و"الإحكام" للآمدي 2/ 491، و"البحر المحيط" 3/ 372. (¬1) انظر "الفصول في الأُصول" 1/ 211، و"أُصول السرخسي" 1/ 142، "وميزان الأصول" 1/ 470. (¬2) انظر هذه الأدلة وما تبعها من استدراكات وتعقيبات في "العدة"2/ 564 - 569 و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 122 - 130، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 572 - 575.

- فصل يجمع شبههم فيها

منه قطعٌ، وما أخبرنا به أبو هريرة ظنٌ، ويجوز التعويلُ عليهِ في إخراجِ ركعتين من صلاةِ الظهرِ، وتأخيرِ صومه رمضانَ عن وقتِه، فأكثرُ ما في العمومِ أنه قطعيُّ الطريقِ، وأكثرُ ما في القياسِ أنَه يوجِبُ الظنَّ، فلا نمنعُ من أن نُخرجَ به بعضَ ما شملَه العمومُ. ومنها: أنَ العمومَ عُرضةُ التخصيصِ والاحتمالِ، والقياسُ حجةٌ لأنه غيرُ محتَملٍ في المعنى المستنبطِ له، وأبداً يقضى بغيرِ المحتَملِ على المحتَملِ كالتفسيرِ مع الإجمال. وأمَّا الدلالةُ على من أجازَ ذلكَ بالقياسِ الجلي خاصةً من أصحاب الشافعيِّ: أنَ القياسَ الخفيَّ دليلٌ، فكانَ حكمُه حكمَ الجليِّ من جنسِه في تخصيصِ العمومِ، كخبرِ الواحدِ لما كانَ دليلاً، كان حُكمُه حكمَ الجليِّ من جنسِه، وهو المتواترُ الذي ينجلي الحكمُ به. وأيضاً: فإنَّ الخصوصَ إنما قُدِّمَ على العمومِ؛ لأنه تناولَ الحكمَ بصريحه، وهذا موجودٌ في القياسِ مع العمومِ المبتدأ بالتخصيصِ، وفي العمومِ الذي دخَلَه التخصيصُ. فصل يجمع شُبههم فيها فمنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَه قال لمعاذ: "بِمَ تحكم"؟ قال: بكتابِ اللهِ، قال: "فإنْ لم تَجد"؟ قال: بسنَةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تجد"؟ قال: أجتهدُ رأيي ولا آلو (¬1). فأقرَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلكَ، وحمِدَ اللهَ على توفيقِه. فوجْهُ الدلالةِ: أنَّه قدَّمَ السُنَّةَ بأسرِها على قبيلِ الرأي. فيقالُ: إنَّ ما عارضه القياسُ منَ العمومِ ليسَ بسنةٍ، كما أنَ ما عارضه خصوصُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 5.

السنَّةِ من عمومِ القرآنِ ليس بقرآنٍ، ووجبَ القضاءُ بخاصِّ السنَّة. والذي يوضِّحُ هذا: أنه رتَّبَ القياس على السنَّة، كما رتَبَ السنةَ على كتاب الله، ثم إنَّ السنَة الخاصَّةَ لا تؤخَّر عن عمومِ كتابِ الله، بل تُقدِّمُ عليه، فكذلكَ لا يلزم تقديمُ عمومِ السنَّةِ على خصوصِ القياسِ (¬1). ومنها: أنَّه إسقاطٌ لما تناولَه نطقُ القرآنِ، فلا يجوزُ بالقياسِ كالنّسخِ، وربما قالوا: أحدُ نوعي التخصيصِ، فلا يجوزُ بالقياسِ، كتخصيصِ الأزمانِ. فيقالُ: ليس إذا لم يجز النَّسخُ لم يجز التخصيصُ، بدليلِ أنَ نسخَ القرآنِ بخبرِ الواحدِ لا يجوز ويجوزُ التخصيصُ به؛ ولأنَّ النَّسخَ: إسقاطُ موجَبِ اللفظِ، والتخصيص: بيانٌ للفظِ، والتخصيص جمع بينه وبينَ غيرِه، فافترقا. ومنها: أنَ القياسَ فرعٌ للكتابِ، فلا يجوزُ أن يخُصَّ الفرعُ أصلَه، كما لا يُسقِطُ الفرعُ أصلَه. فيقالُ: إنَا لا نَخُصُّ الأصلَ بفرعِه، وإنَّما نخصُّ غيرَ (¬2) أصله؛ لأنَّ القياسَ متى استنبطَ من أصلٍ فيكونُ مماثلاً له في حكمِه، فلا يخصُّ به، وإنما يخصُّ أصلاً آخرَ يُضادُّه وينافيه. ومنها: أنَّ هذا القياسَ مما يقدَّمُ عليه القياسُ الجليُّ، وكلُّ ما قدِّم عليه القياسُ الجليُّ لم يَجُزْ تخصيصُ العمومُ به، كاستصحابِ الحال. فيقالُ: إنَّما لم يُخصَ العمومُ باستصحابِ الحالِ؛ لأنَّ ذلك تمسُّكٌ وبقاءٌ على حكمِ الأصلِ، وليسَ كذلكَ القياسُ، فإنَّه دليلٌ في نفسِه (¬3)، وتقديمُ الجليِّ عليه لا ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة": 139 - 140. (¬2) في الأصل: "عن" ولا يستقيم بها السياق، والمثبت من "العدة" 2/ 568. (¬3) أي أن الاستصحاب ليس دليلاً مستقلاً كالقياس؛ لأن الاستصحابَ هو بقاءٌ على حكمِ الأصل حتى ينقل عنه بدليل. انظر "التمهيد" 2/ 129.

يمنعُ كونَه دليلاً يخصُّ بَيانه العمومَ، كما أنَّ الخبرَ يقدَّم عليه ما هو آكدُ منه، وهو المتواتِر, ولا يمنعُ من تخصيص العمومِ به. ومنها: أنَّ القياسَ من شرطِ صحتِه أن يجريَ على الأصولِ، فلا يردُّه أصلٌ، والعمومُ من جملةِ الأصولِ، وهو ينافيه، فلا يصبح مع منافاةِ أصلٍ من أصولِ الشرعِ له. فيقال: لا نُسلِّم، أنَّ ما خصَّصه القياسُ كان مراداً بالعمومِ حتى يكونَ معارِضاً له أو مضاداً له، بل يتبين بالقياسِ أنَه لم يكن مراداً ولا داخلاً تحتَه. ومنها: أنَّ العمومَ مقطوعٌ به، والقياسَ مظنونٌ، فلا يجوزُ أن يمضى بالمظنونِ على المقطوعِ. فيقالُ: إن المقطوعَ به (¬1) كونُه من كتابِ اللهِ، وذلكَ لا نرفعُه بالقياسِ، وتناولُ ما تحتَ العمومِ من الأعيانِ مظنونٌ، فما رفعنا بالمظنونِ، إلا المظنونَ، وزادَ القياسُ بأنه تناولَ الحكم بصريحهِ. على أنَّ قولَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لو قال: اقتلوا الزناةَ، واقطعوا السُّرَّاقَ، واقبلوا خبر أبي هريرة عني. فقال أبو هريرة: لا تقتلوا البكرَ من الزُّناةِ، ولا الابنَ إذا سرق من مالِ أبيه. قبلنا قولَه المظنونَ، وأخرجنا بعضَ من دخلَ في نطق الرسولِ المقطوعِ به، ولأنَّ براءةَ الذِّممِ بأدلةِ العقولِ مقطوعٌ بها، ثمَ لو جاءَ خبرُ واحدٍ يَشْغلُ الذِّممَ لقبلناه، وكذلك القياسُ. ومنها لأصحابِ ابى حنيفة: أنَّ التخصيصَ للنطقِ قبل دخولِ التخصيصِ عليه إسقاطُ دلالةِ اللفظ، فلم يجز بالقياسِ، كالنسخِ، ولا تلزمُ الزيادةُ في التخصيصِ؛ لأنَّها ليست بإسقاطٍ؛ لأنَّ الدلالة قد سقطت بغيره. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليه".

* فصل: يجوز تخصيص عام السنة بخصوص القرآن

فيقالُ: لا يمتنعُ أن لا يجوزَ النَّسخُ ويجوزُ التخصيصُ، ألا ترى أنَّ نسخَ الكتابِ بخبرِ الواحدِ لا يجوز ويجوزُ التخصيصُ؛ لأنَّ النسْخَ إسقاطٌ، وهذا جَمْعٌ بينه وبين غيرِه، فافترقا. فصل يجوز تخصيص عام السُنّة بخصوص القرآن (¬1) أومأ إليه أحمد رضي الله عنه، فإنه نسخ قضيته بينه وبين قريش في ردِّ المسلمات إذا أتَيْنه، فمنع ردَهنَ بقولِه تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، فأثبت أحمدُ نسخَ القضيةِ بالقراَنِ (¬2)، والنَسخُ آكدُ من التخصيصِ، وبهذا قالَ جماعةٌ [من] (¬3) الفقهاءِ والمتكلِّمين. وخرَّج ابن حامد (¬4): أنَّه لا يجوز من إيماء أحمدَ رضي الله عنه، فإنَّه قال: السنَّة مفسِّرةٌ للقرآنِ ومُبيِّنَةٌ له (¬5). وذهبَ إلى ذلكَ بعضُ المتكلِّمين. ¬

_ (¬1) انظر هذه المسألة في "العدة" 2/ 569، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 113،و"المسودة": 122، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 359. (¬2) انظر"العدة" 2/ 569، و"التمهيد" 2/ 113. (¬3) ليست في الأصل. (¬4) هو أبوعبد الله، الحسنُ بن حامد بن علي بن مروان، البغدادي الوراق، شيخ الحنابلة في زمانه، له عدة مصنفات منها كتاب "الجامع" في الاختلاف و"شرح الخرقي" و"شرح أُصول الدين" توفي سنة (403 هـ). انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" 7/ 303، و"طبقات الحنابلة" 2/ 171 - 177 و "سير أعلام النبلاء" 17/ 203. (¬5) انظر "العدة" 2/ 570، و"المسودة": 122.

- فصل في الدلالة على مذهبنا

وحكى شيخنا في "العُدّة" (¬1): أنَّ بالثاني من المذهبينِ قال أصحابُ الشافعي. وذكر أصحابُ الشافعيِّ أنَّ المذهبَ عندهم جوازُ التخصيصِ دونَ المنعِ (¬2)، ولم يحكوه مذهباً لأحدٍ من أصحابهم. فصل في الدلالة على مذهبنا قولُه تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وهذا يعمُّ بيانَ قولِ الرَّسولِ، وبيانَ كل مُشكِلٍ ومُجْملٍ، إلا ما خصَّه الدليلُ من المتشابه الذي انفردَ بعلمِه، وكلَّفَ الإيمانَ به من غيرِ بيانِ معناه. ومنها: أنَّ القرآنَ مقطوعٌ به، والسنَّةَ غيرُ مقطوعٍ بها، فإذا جازَ بيانُ القرآنِ بالسنّةِ، فلأنْ يجوزَ بيانُ السنَّةِ- وهي الأضعفُ- بالأقوى أوْلى، ألا ترى أن من جوَّز نسخَ القرآن بالسنَّة كان قائلاً بنسخِ السنّةِ بالقرآنِ من طريق الأولى. وأيضاً: فإنَّ السنَّةَ وحيُ اللهِ إلى قلبِه - صلى الله عليه وسلم -، والقرآنَ كلامُ الله، ولا يمتنعُ أنْ يقضى بخصوصِ كلامِه على عمومِ كلامِ رسوله الصادرِ عن إلهامه، فهما غيرُ مختلِفَين في المعنى. ¬

_ (¬1) 2/ 570. (¬2) نص على ذلك الآمدي في"الإحكام" 2/ 470 حيث قال: "يجوز تخصيصُ عموم السنَّة بخصوص القرآن عندنا، وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين". وكذلك قال الزركشي في "البحر المحيط" 3/ 379: "يجوز تخصيص خبر الواحد بالقرآن". فظهر بذلك عدم دقة ما ذكره الإمام أبويعلى في "العدة" من أن الشافعية، لا يقولون بتخصيص عموم السنة بخصوص القرآن.

- فصل في شبههم

فصل في شُبَههم (¬1) فمنها: قولُه تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فجعلَ النبيَّ مبيِّناً لما ينزله من كتابِه، وبيانُه هو سنته. ومنها: أنَا لو جعلنا السنَة مخصوصةَ بالآية، جعلنا السنَّة أصلاً ومتبوعاً، والقرآنَ تابعاً، وهذا حَطٌّ له عن رُتييه. فصل في أجوبتنا عن ذلك أمَّا الآيةُ: فلا حجَّة فيها؛ لأنَّا قائلون بأنَّه يجوزُ بيانُ ما يحتاجُ إلى بيانٍ من السنَّةِ بالقرآنِ (¬2)، وليسَ فيها نفيٌ لما أثبتَته آيتنا من أنَّ القرآنَ تبيان لكل شيءِ، وقد يعتمدُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - فيما يقولُه من الكلامِ على بيانِ القرآنِ السابقِ لسنّتِه، كما يبينُ ما أشكلَ من القرآنِ بقوله. وأمَّا قولُهم: فيه حطٌ لمرتبةِ القرآنِ. فبعيد جداً؛ لأن الأقوى قد يقضي على الأدنى، كأخبارِ التواترِ يجوزُ أنْ تُبين بها أخبارُ الآحادِ، ولا تنحط رتبتُها عن العلمِ ولا تصيرُ تابعةً لأخبارِ الآحادِ الموجبةِ للظنِّ، ودليلُ العقل يخصُ أدلَّةَ الكتابِ والأخبارَ، ولا يدل على أنَّ أدِلةَ العقلِ منحطةٌ بذلكَ عن كونِها هي الأصلُ في إثباتِ الصانعِ والنُّبوَّات، ولأنَّ الذي ينطقُ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من العمومِ عن وحي إلى قلبِه - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ ينزل عليه القرآنُ كاشفاً لتخصيصِ الوحي الأوَّلِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الشبه التي يحتج بها المخالفون في: "التبصرة": 136، و"الإحكام" للآمدي 2/ 470 - 471، و"البحر المحيط" 3/ 379، و"العدة" 2/ 571 - 572، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 114 - 115. (¬2) في الأصل:" من القرآن "، والمثبت أنسب لاستقامة السياق. (¬3) انظر" الإحكام " للآمدي 2/ 321.

* فصل يجوز تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم

فصل يجوزُ تخصيصُ العمومِ بأفعالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أشارَ إليه أحمدُ في مواضعَ (¬1)، وبه قالَ أصحاب الشافعي (¬2)، وأصحابُ أبى حنيفةَ سوى الكرخي (¬3)، وذلكَ مثلُ نهَيه صلى الله عليه وسلم عن استقبالِ القبلةِ بالبولِ والغائطِ، واستدبارِها (¬4)، وأنَّه بعد ذلك روى جابرٌ أنَّه جلسَ مستقبلَ القبلةِ فوقَ سطحٍ ¬

_ (¬1) انظر المواضع التي أشار الإمام أحمد من خلالها إلى جواز التخصيص بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم في "العدة" 2/ 573 - 574، و"التمهيد" 2/ 116. وراجع مسألة تخصيص العموم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم في "المسوَّدة" 125، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 371. (¬2) انظر "المستصفى" 2/ 106، و"الإحكام" للآمدي 2/ 480 و "البحر المحيط" 3/ 387. (¬3) رأي الكرخي راجع إلى كونه يرى أنَّ فعلَ الرسول صلى الله عليه وسلم خاصٌّ به، لا يتناول غيره من أفراد الأُمة إلا بدليل اَخر. وهذا على خلاف رأي الحنفية الدين يرون في فعله صلى الله عليه وسلم، دليلاً قائماً بنفسه، يشمل أفراد الأمة ولا يختص به صلى الله عليه وسلم، إلا بدليلٍ مخصص. انظر"الفصول في الأصول" للجصَّاص 3/ 215، و"تيسرِ التحرير" 3/ 120، 121، و"ميزان الأصول" 1/ 472 و2/ 673. (¬4) عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا أتى أحَدُكُم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غربوا". أخرجه مالك 1/ 193، والشافعي1/ 25، وأحمد 5/ 414 و 415 و 416 و 417 و421، والبخاري (144) و (394)، ومسلم (264)، وأبوداود (9) وابن ما جه (318)، والنسائي 1/ 21 و22 و23 الترمذي (8)، والبيهقي 1/ 91، وابن حبان (1416)، والبغوي (174). مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم.

- فصل في دلائلنا

على لَبِنَتين (¬1)، فكانَ فعلُه عندنا كأنَّه قولٌ منه: ويجوزُ ذلكَ في البُنيان (¬2). فصل في دلائلنا فمنها: أنَّه قد ثبتَ بما قدَمنا أنَّه مخاطبٌ كخطابِنا، وأنَّه معنا في التكليفِ على سواءٍ، إلا ما خصَّه به الدليلُ عنَّا من إيجابٍ، أو حظرٍ أو إباحةٍ، فإذا ثبتَ ذلكَ، وقال قولاً عامّاً، ثم إنه فعل فعلاً دخلَ تحت قولي ونَهيه، وهو ممَّن لا يخالفُ أمر الله، ثبتَ أنَّه فعلَه بأمرِ اللهِ ووَحيه، فصارَ بذلكَ فعلُه كقول. ومنها: أنَّ فعلَه - صلى الله عليه وسلم - مما يجبُ الاقتداءُ بهِ في الشرعيّاتِ، فخصَّ به العمومُ، كقوله، وقد دلَّلنا على ذلكَ في بابِ الأوامرِ (¬3). [فصل (¬4)] شبهةُ المخالفِ: أنَّ الفعلَ يقعُ محتَملاً بأن يكونَ مخصوصاً به (¬5)، وأن يكون مشروعاً لنا، فلا نقضي بالمحتَمل على العمومِ المتناولِ للحكمِ بصيغته. ¬

_ (¬1) عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نستقبل القبلة، أو نستدبرها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، قال: ثم رأيته قبلَ موته بعام يبول مستقبل القبلة. أخرجه أحمد 3/ 360، وأبوداود (13)، وابن ماجه (325)، والترمذي (9)، والدارقطني 1/ 58 - 59، وابن حبان (1421)، والطحاوي" شرح معا ني الآثار" 4/ 234، والحاكم 1/ 154، والبيهقي 1/ 92. (¬2) هذا وجه الجمع بين الخبر الوارد في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وبين حديث جابر الذي يفيد جواز ذلك، فيحمل النهيُ عن الاستقبال أو الاستدبار في الصحارى والعراء دون الكُنفِ والأماكنِ المستورة. (¬3) انظر ماتقدم في 102. (¬4) ليست في الأصل. (¬5) أي مخصوصاً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومقصوراً عليه.

* فصل: يجوز التخصيص بالإجماع

فيقالُ: إنَّ فعلَه لو أرادَ ابتداء، الظاهرُ عندنا جميعاً منه أنَّه تشريعٌ لا يخصّه، بل هو تشريعٌ لنا، وإذا كان كذلك، فالعامُّ يتناولُ الفعلَ بظاهرِه، وهذا فعلُه - صلى الله عليه وسلم - موضوعٌ للتشريعِ إلا ان يخصَّه الدليلُ، ولذلكَ جعلناه كذلكَ حال الابتداءِ من غيرِ تقدُّمِ عمومٍ. فصل ويجوزُ التخصيصُ بالإجماع (¬1)؛ لأنَّ الإجماعَ حجةٌ مقطوعٌ بها، فإذا جازَ التخصيصُ با لمظنوناتِ من الأدلةِ، كخبرِ الواحدِ والقياسِ، فلأنْ يجوزَ بالدليلِ القطعيِّ أولى. فإن قيل: قد أجزتم النّسخَ بخبرِ الواحدِ ولم تُجيزوه بالإجماعِ مع الحالِ المذكورةِ من كونه قطعياً، وخبرِ الواحد ظنياً. قيلَ: الإجماعُ والنَّسخُ لا يلتقيانِ؛ لأنَّ النسخَ إنما يكونُ مع حياةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصحُّ الإجماعُ، ولا يكون حجّةً إلا بعد موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانقطاعِ الوحي، والإجماعُ والعمومُ يجتمعانِ في عصرٍ واحدٍ، وإذا جازَ أن يبيِّنَ القياسُ مرادَ الشارع باللفظِ العام، فاجتماع القائِسين أحرى أن يجوزَ بيانُهم لمرادِه بالعمومِ، وإذا كانَ الإجماعُ مبيِّناً، فقد بيّن النسخ أيضاً كما يبين التخصيص، فإذا تلونا آيةً، وروينا حديثاً، ورأينا الإجماع منعقداً على ضدّ حكمه، تَبينّا بذلكَ أنه منسوخ حسبَ ما تبينّا بالإجماع في ¬

_ (¬1) هذا رأي جمهور الأصوليين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، والمخصِّص عند التدقيق والتحقيق إنَّما هو دليل الإجماع، لا أن الإجماع نفسه مخصِّص، لأن الإجماع لا بُدَّ له من دليل يستند إليه. انظر "العدة" 2/ 578، "التمهيد" 2/ 117 - 118، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 369، و"المسودة": 126، و"المستصفى" 2/ 102، و"الإحكام" للآمدي 2/ 477 - 478، و"البحر المحيط" للزركشي 3/ 363، و"ميزان الأُصول" للسمرقندي الحنفي 1/ 473، و"العقد المنظوم في الخصوص والعموم" للقرافي: 801 - 802.

* فصل: يجوز التخصيص بدليل الخطاب

العموم الذي اتفقوا على إسقاطِ عمومِه، أنَّه مخصوص، فلا فرقَ بينهما من هذا الوجه (¬1). فصل ويجوزُ التخصيصُ بدليلِ الخطابِ؛ وهو مفهومُه، وفحوى الخطاب؛ وهو تنبيهه (¬2)؛ لأنه دليل من أدلة الشرع، ويعقل منه ما وراءه (¬3). صورة ذلك أن يقول: في الأنعام صدقةٌ، أو في الأنعام الزكاةُ. فيكونُ ذلكَ عامَّاً في جميعِ الأنعامِ، الإبلِ والبقرِ والغنمِ، سائمتِها ومعلوفتِها، فإذا قالَ بعدَ ذلكَ: في سائمةِ الغنم الصدقةُ. دلَّ ذلكَ على أنَّه لا صدقةَ في معلوفتها، واختصَّ بالسائمةِ. والدلالةُ على ذلكَ: أنَّ مفهومَ الخطابِ بيْنَ أن تكونَ دلالتُه من اللفظِ، كما قال قوم، أو قياساً جليّاً، كما قال آخرون (¬4)، والأمرانِ جميعاً مقدَّمان على العمومِ، وقاضيان عليه بما قدَّمنا من الدلالةِ على التخصيصِ بالقياسِ وخبر الواحدِ. فصل يجوزُ تخصيصُ العمومِ بقولِ الصحابي إذا لم يظهر خلافُه، وكذلكَ تفسيرُه الآية المحتملة والخبر المحتمل على الروايةِ التي يُجعل قولُه فيهما مقدَّماً على القياسِ، نصَّ ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 578. (¬2) انظر هذا الفصل في "العدة"2/ 578 - 579، و"التمهيد" 2/ 118 و"المسودة": 127، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 366، و"المستصفى" 2/ 105، و"الإحكام" للآمدي 2/ 478، و"البحر المحيط" 3/ 385. (¬3) في الأصل: "رواه". (¬4) ينبني على الاختلافِ في كونِ دلالةِ المفهومِ بمنزلة اللفظ، أو بمنزلة القياس، ثمرة تتمثل في حال تعارض دلالة المفهوم مع لفظ آية أو خبر فمن قال: بأنها بمنزلةِ دلالةِ اللفظِ؛ كان الحكم كما لو تعارض خبران أوآيتان، ومن قال: إنها بمنزلة القياس؛ كان المقدَم هو الخبر انظر" البحر المحيط" 3/ 385.

* فصل في دلائلنا

عليه أحمدُ (¬1)، وأنه يخصُّ بقولِ الصحابةِ إن لم تكن سنةٌ، فإذا (¬2) اختلفت الصحابةُ على قولينِ أخذنا بأشْبهِ القولين بكتابِ اللهِ تعالي، وبهذا قال أصحابُ أبي حنيفة (¬3)، واختلفَ أصحابُ الشافعي على القولِ القديمِ الذي يجعلونَ [فيه] (¬4) قولَ الصحابي حجّةً، فمنهم من خصَّ به ومنهم من لم يخُصَّ به (¬5). فصل دليلنا: أنَّ قولَ الصحابي أقوى من القياسِ، بدليلِ أنه يترك له القياسُ، فيجبُ أن يُخصَّ به الظاهر كخبرِ الواحدِ. وأيضاً، فإنَّ القياسَ الذيُ تركُ لأجلِه يُخصُ به العمومُ، فبأن يخصّ بخبر الواحد أولى وأحرى. ¬

_ (¬1) انظر هذه المسألة في "العدة"2/ 579، و"التمهيد" 2/ 119، و"المسودة" 127، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 375. (¬2) تحرفت في الأصل إلي: "قال". (¬3) ذلك أن جمهورَ أصحابِ أبي حنيفة يرون أن قول الصحابيِّ حجةٌ، وخالف الكرخي وأبوزيد إذا كان قول الصحابي ممّا يدرك بالاجتهاد والقياس. انظر"أُصول السرخسي" 2/ 105 - 113، و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 361/ 3 - 366، و"ميزان الأصول" 2/ 697 - 703. (¬4) زيادة يستقيم بها السياق. (¬5) للإمام الشافعي في حجية قول الصحابي قولان، جديد وقَديم: القول الجديد: إنه ليس بحجة، فلا يخصُّ به العموم. والقول القديم: إنه حجة، فيخصُّ به؛ لأنه على هذا القول يكون قول الصحابي مقدَّماً على القياس، فإذا جاز التخصيصُ بالقياس، فلأن يجوزَ بقول الصحابي من بابِ أولى. والراجح المعتمد عند الشافعية هو القولُ الجديد، فلا يجوزُ تخصيص العموم بقول الصحابي. انظر"المستصفى" 2/ 113، و"التبصرة": 149، و"الإحكام" للآمدي 2/ 485 - 486، و"البحر المحيط" 3/ 398 - 404.

فصل في شُبَههم فمنها: أنَّ الصحابيَّ يتركُ مذهبَه وقولَ نفسِه للعمومِ، ألا ترى أنَّ ابن عمر كان يخابرُ أربعينَ عامَاً لا يرى به بأساً، [قال] (¬1): حتى أتانا رافعُ بنُ خَديج، فأخبر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فتركناها بقولِ رافعٍ (¬2). فيقال: إنَه تركَ قولَه بالنصِّ، ولأنَّ مخابرتَهم لم تكن عن اجتهادٍ، لكنْ عملوا بالأصلِ، وأنَّه الإباحةُ، وأخذُ المال بالتراضىِ إلا ما نهاهم الشرعُ عنه (¬3)، فلما جاءهم خبرُ الواحدِ كان ناقلاً عن حكمِ الأصلِ. ومنها: أنَّ الخبرَ حجةٌ، فلا يُخصُ بفتوى مُفتٍ، كفتوى غيرِ الصحابةِ من الفقهاءِ. فيقالُ: إنَّ آحادَ الفقهاءِ ليس قولُهم حجةً بخلافِ الصحابةِ. فإنْ قيلَ: فما تقولون في تفسيرِ التابعيَّ، وقولِه، هل يخصُ به العمومُ؟ قيلَ: لا يُخصُ به، ولا يفسَّرُ به؛ لأنه ليسَ بحجةٍ؛ لأنَّ أحمدَ قَصَرَ التخصيصَ على قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، وعنه: جوازُ ذلكَ. وروي عنه: يَأخذُ بما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابِه، وهو مع التابعين مخَيَّرٌ. فقد (¬4) حَطَّ رُتْبةَ التابعينَ عن رتبةِ الصحابةِ؛ لأنَّهم لم يَشهدوا التنزيلَ، ولا عاينوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقد قالَ: لا يكاد يَجيءُ شيءٌ عن التابعينَ إلا يوجد عن أصحابِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق. (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة: 220 من هذا الجزء. (¬3) تحرفت في الأصل إلى: "علية". (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "فقط". (¬5) انظر "العدة"2/ 582 - 583.

* فصل: يجب الأخذ بتفسير الراوي للفظ المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فصل ويجبُ الأخذُ بتفسيرِ الراوي للَّفظِ المرويِّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعملُ به إذا كان مفتقِراً إلى التفسيرِ (¬1)، مثل قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المتُبايعانِ بالخيارِ ما لم يَتفرّقا" (¬2) يتردّدُ بينَ الافتراق بالأقوالِ أو الأبدانِ، فكان ابنُ عمر يقومُ من مجلسِ العقدِ، فكان قيامه تفسيراً للافتراقِ، وأنَّه بالأبدانِ دونَ الأقوالِ، ومثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشهرُ تِسعٌ وعشرون، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم، فاقدروا له" (¬3)، فكانَ ابنُ عمرَ إذا كان في السماءِ غيمٌ أو قَتَرٌ في ليلةِ الثلاثينَ أصبحَ صائماً (¬4). فكأنَّه فسر ذلك بالضيقِ، فَضَيَّقَ شعبانَ لشهرِ رمضانَ توسعةً للصومِ، وتفسيرُ عمرَرضي الله عنه لقولِ النبي- صلى الله عليه وسلم -: "الذهبُ بالوَرِق رِباً إلا هاءَ وهاء، والشعيرُ بالشعير رباً إلا هاء وهاء، والبُرُّ بالبُرَّ رباً إلا هاء وهاء" (¬5)، فإنَّ المرادَ بهاء وهاء: التَقابُض في مجلسِ العقدِ (¬6)، والدليلُ على تفسيرِهِ بذلكَ ما رواهُ مالكُ بن أوس بن الحَدَثان، أنَّه قال: التمستُ صَرفاً بمئةِ دينارٍ, فدعاني طَلحةُ بنُ عبيد الله، فَتراوضنا (¬7) حتى اصطَرف منّي وأخذَ الذهبَ يقلِّبها في يدِه، ثمَّ قالَ: حتى يأتيَ خازني من الغابةِ. وعمرُ بن الخطاب يسمعُ، فقال: واللهِ لا تفارقه حتى تأخذَ منه. وروي أنَّه قال لطلحةَ: لا ¬

_ (¬1) انظر هذا الفصل في "العُدة" 2/ 583، و"المسوَّدة": 128. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 44. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬4) أخرجه أحمد 2/ 5، 13، وأبود اود (2223). (¬5) أخرجه دون ذكر سبب الإيراد: أبوداود (3348)، والدارمي 2/ 258، والنسائي 7/ 273. وسيأتي تخريجه مع سبب الإيراد بعد قليل. (¬6) انظر "النهاية في غريب الحديث" 5/ 237. (¬7) من المراوضة، وهي: المجاذبة في البيع والشراء. "النهاية في غريب الحديث" 2/ 276.

- فصل في دليلنا

تفارقْه حتى تعطيَه وَرِقَه، أو تردَّ عليه ذهبَه (¬1). وبهذا قالَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ (¬2). وحكى أبو سفيان عن الكرخيَّ من أصحابِ أبي حنيفةَ أنَّه كان يقولُ: يجبُ العمل بظاهرِ الآيةِ والخبرِ, ولا يرجع إلى تفسيرِ الصحابي (¬3). فصل في دليلنا إنَّ اللفظَ المفتقر إلى البيان؛ الصحابةُ- رضي الله عنهم- أعرفُ بمعناه؛ لأنَّهم عربٌ، ثمَّ انضمَّ إلى معرفتِهم بلغةِ العربِ، مشاهدتُهم لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإدراكُهم إلى مخارجِ كلامِه، ودلائلِ أحواله (¬4)، والأسبابِ التي وردَ الكلامُ عليها وفيها، فصارت تفاسيرُهم مع معرفتِهم بأقوالِه صلى الله عليه وسلم كالبيّنَة المترجمةِ للكلامِ الذي لا يَفهمه الحاكمُ، وكالمقوِّمين المُعتَبَرين (¬5) بالأسواقِ فيما يقعُ الخلافُ في قيمتِه عند الغرامةِ الواجبةِ على المتلِفِ للمقوَّماتِ من الأموالِ. شبهةُ المخالفِ: بأنَّ الآيةَ والخبرَ يجبُ العملُ بظاهرِهما؛ لكونِهما حجتين من حُججِ الشرعِ، وقولُ الصحابيِّ؛ إنَّما هو اجتهاد وليسَ بحجةٍ، فلا يمضى بغيرِ حجةٍ على حجةٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه مع الحديث المتقدم: مالك في "الموطأ"2/ 636 - 637،وعبد الرزاق (14541)، وأحمد 1/ 24 و 35 و 45، والبخاري (2134) و (2174) ومسلم (1586)، والترمذي (1243)، وابن ماجه (2259) و (2260) والبغوي في" شرح السنة" (2057)، وابن حبان (5013)، والبيهقي 5/ 283 و 284. (¬2) انظر"الإحكام" للآمدي 2/ 115. (¬3) انظر"العدة"2/ 588، و"المسودة": 129، و"تيسير التحرير": 2/ 162. (¬4) في الأصل: "أحوال"، ولا يستقيم بها السياق. (¬5) في الأصل: "المعترفين".

* فصل: إن ترك الراوي لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل بخلافه متأولا لم يكن تركه للظاهر معمولا به ويعمل بالظاهر

والجواب: أنا لا نسلِّم، بل هو حجةٌ في إحدى الروايتين، ولو سلَّمنا أنَّه ليس بحجةٍ في الشرعِ لم يخرج عن كونِه حجةً في (¬1) اللغةِ، ونحن نقنع بقول أبي زيدٍ (¬2)، والأصمعيِّ، وثعلب، والمبرَد (¬3)، وشعرِ زهير (¬4)، وأمثالِ ذلك لمكان المعرفةِ، ونشغل الذمّةَ بالقيمةِ بقولِ المقوِّمين من أهلِ الخبرةِ بالسوقِ، ونُسقِطُ هيئاتِ الصلاةِ، ونُؤخِّرُ الصومَ بقولِ مُتطببينَ بأنَّ هذا المرضَ يزيدُ في الصومِ، وإلى أمثالِ ذلكَ، والله أعلم. فصل فإن تركَ الراوي لفظَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعملَ بخلافِه متأوِّلاً لم يكن تركُه للظاهرِ معمولاً به، ويُعملُ بالظاهر (¬5). فإنْ صرفه بدليل، وعلمنا أنه دليلٌ لا شبهة، صرفناه بذلكَ الدليلِ، لا لكونه قولَ الراوي، مثل نهيِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طَيْبة عن أكلِ أجرةِ الحجامةِ، وأمره أن يعلفَه ¬

_ (¬1) في الأصل: "من"، والمثبت أنسب للسياق. (¬2) هو أبو زيد الأنصاري، المتقدمة ترجمته في الصفحة 284 من هذا الجزء. (¬3) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري، إمامٌ من أئمة النحو والأدب، له تصانيف كثيرة منها كتاب "الكامل" توفي سنة (286 هـ). انظر "تاريخ بغداد" 3/ 380 - 387، و"إنباه الرواة" 3/ 241 - 253، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 576 - 577. (¬4) هو زُهير بن أبي سُلْمَى ربيعة بن رياح المزني، من شعراء الجاهلية وحُكمائهم، ولدَ في "مزينة" ونشأ في أُسرة أدبِ وشعر فكان أبوه شاعراً وخاله شاعراً وأخته سلمى شاعرة، وكذلك ابنه كعب صاحب "بانت سعاد". انظر "الشعر والشعراء" 1/ 137، و"الأعلام" 3/ 52. (¬5) أي بظاهر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه هي الرواية الراجحة عند الحنابلة. انظر "العدة" 2/ 589، و"المسودة": 129.

ناضِحَه، ويُطعمَه رقيقه (¬1)، وحملَ ابنُ عباسٍ ذلكَ على غيرِ التحريمِ، وقال: لو كان حراماً، لم يُعطِه (¬2)، وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ (¬3). وفيه روايةٌ أخرى: لا يجبُ العملُ به إذا خالَفه الراوي، مثل ما روي عن عائشةَ أنها زوَّجت بناتِ أخيها (¬4)، مع روايتها عن النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أيّما امرأةٍ نكحت نفسَها بغيرِ ¬

_ (¬1) في الحديث عن ابن مُحَيّصَة: أن أباه استأذنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في خراج الحجَّام، فأبى أن يأذن له، فلم يزل به حتى قال: "أطعِمْه رقيقَكَ، وأعْلِفْهُ ناضِحَكَ". أخرجه مالك 2/ 974، وأحمد 5/ 435، 436، والشافعي 2/ 166، وأبود اود (3422)، والترمذي (1277)، والبغوي (2034)، والطحاوي في "شرح معاني الاثار" 4/ 132، والبيهقي 9/ 337، وابن حبان (5154). أمَّا ما ورد في شأنِ أبي طَيبة؛ فالثابت فيه: "احتجَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حَجَمه أبوطيبة، فأمر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصاعِ من تمر وأمر أهله أن يُخففوا عنه من خراجه". أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 984، والبخاري (2102) و (2210)، وأبوداود (3424)، والطحاوي 4/ 131، والبيهقي 9/ 337، والبغوي (2035). ووجه الجمع بين خبر ابن مُحَيَّصَة وخبر أبي طيبة: أن النهيَ عن كسبِ الحجَّام إذا كان على شرطٍ معلوم، بأن يقول: أُخرج منكَ من الدَّم كذا. فلعدم قدرته على إيجاد هذا الشرط، لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في كسب الحجَّام، فإذا عُدِمَ هذا الشرط جاز كسبُه، ولذلك أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي طيبة، وجازاه على فعله. انظر "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 11/ 557. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أعلفه ناضحك": أي اجعله علفاً لناقتك. والناضح: هي الناقة التي يسقى عليها الماء. (¬2) أخرجه عن ابن عباس بهذا اللفظ أحمد 1/ 316 و 324 و333 و 365، والبخاري (2103)، و (2279)، ومسلم (1202)، وأبود اود (3423) والبيهقي 9/ 338. (¬3) انظر "العدة"2/ 590، و"الإحكام" للآمدي 2/ 115. (¬4) أخرج مالك 2/ 555. أنَّ عائشة زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، زوجت حفصة بنت عبد الرحمن، المنذرَ بن الزبير, وعبد الرحمن غائبٌ بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: ومثلي يُصنعُ هذا به؟ ومثلي يفتات عليه؟ فكلمت عائشة المنذر بن الزبير فقال الزبير فمن ذلكَ بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنتُ لأرُدَّ أمراً قضتِه.

- فصل في دلالة الرواية الأولى

إذنِ وليِّها، فنكاحها باطل" (¬1) الخبر المعروف. وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنه قال: هذا على وجهين (¬2): أحدهما: أن يكونَ الخبرُ محتمِلاً للتأويلِ، فلا يُلتفتُ إلى عملِ الصحابيِّ، كحديثِ ابن عمرَ في التفرُّقِ بين خبرِ المتبايعين وخيارهما (¬3)، وحمله ذلك على التفرّق بالأبدان (¬4)، فلا يعمل على تأويله. والثاني أن يكون الخبرُ غيرَ محتمِلٍ للتأويل، فعمله بخلافِه يكونُ دليلاً على أنَّه عَرفَ نسخه، او عقلَ من دلالةِ الحالِ مرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه للندبِ دونَ الإيجابِ، وكان يحكي ذلكَ عن الكرخي، وحكى غيرُه عن الكرخيَّ أنَّ الأخذَ بما رواه أَوْلى مما عمل به من غيررتفصيلٍ (¬5). فصل في دلالة الرواية الأولى إنَّ كلامَ صاحبِ الشرع واجبٌ اتباعُه، وقولَ الراوي وعملَه قد يقعُ لشبهة أو اجتهادٍ يخطىءُ فيه، وقد يكون لدلالةٍ، فلا يجوزُ تركُ الحجّةِ لما يَحتمل هذه الاحتمالات. وهذه الروايةُ التي تقولُ: إنَّ الصحابي كسائر المجتهدين، وليسَ قولُه حُجّةً، وأيضاً فإنَّ أبا حنيفةَ قال: ليسَ بيعُ الأمةِ المزوجةِ طلاقاً لها، واحتجّ هو وغيرُه بما رويَ عن ابنِ عباس أنَّ عائشةَ اشترت بَريرة، فأعتقتها، فخيرَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، ولو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في 2/ 147. (¬2) انظر قول أبي بكر الرازي هذا في "الفصول في الأصول" 3/ 175. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 44. (¬4) التفرق يكون بالقول ويكون بالبدن، وابن عمر رضي الله عنه حمل الحديث على التفرق بالأبدان، ولذلك قال نافع: كان ابن عمر إذا أعجبه شيءٌ , فارق صاحبه لكي يجبَ له. أخرجه البخاري (2107)، ومسلم (1531)، والترمذي (1245)، والنسائي 7/ 250، والبيهقي 5/ 269، وابن حبان (4912). (¬5) انظر "العدة" 2/ 591، و"أصول السرخسي"2/ 6، و"المسودة": 129. (¬6) عن ابن عباس قال: اشترت عائشة بريرة من الأنصار لتعتقها، واشترطوا عليها أن تجعلَ لهم=

كانَ بيعُها طلاقاً لما خيَّرها، وخالفَ ابنُ عباسٍ هذا الخبر وهو راويه، وكان يقولُ: بيعُ الأمةِ طلاقُها (¬1)، ولم يكن ذلك موجباً ترك الخبر. ووجهُ المذهبِ الآخر أنَّ الصحابيَّ لا يخالفُ الخبرَ ولا يعاندُه، فإذا عملَ بخلافِه، أو أفتى بخلافِه استدللنا على نسخِ الخبر, وأنَّه إنَّما خالفه وتركَه عن توقيفٍ عرفَه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتصاريفِ أحوالِه الدالّةِ على إسقاطِ حكمِ الخبرِ (¬2). جوابُ من نصرَ الأوَّلَ: أنَّ وجوهَ الاحتمالِ لغير ما ذكرتَ كثير، فلمَ قصرتَه على النَسخِ؟ ودلالة الحال مع احتمالِ النسيانِ أو التأويلِ بنوعِ شبهةٍ تجلَّت عنده بالدليلِ مع كونه مجتهداً يُقَرُّ على الخطأ، وليس بمعصومٍ، فلا وجهَ لتقليدِه، وتركِ ظاهرِ الخبرِ مع احتمالِ هذه الوجوه. الثاني مما تعلَّقوا به: أنَّ الصحابيَّ أعرفُ بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماعِ الوحي ومشاهدةِ الأحوالِ، وتصاريفِ النبي عليه الصلاة والسلامُ، فكان قولُه قاضياً على ظاهرِ الأخبار. فيقالُ: قد وفيناه حقَه من هذه الميزةِ فيما يحتملُ من الألفاظِ، فأمَّا ما لا يحتملُ ولا يفتقرُ إلى التفسيرِ والبيانِ فلا؛ لأنَه مجرّدُ خلافٍ منه للخبرِ، ولأنَّه لو عرفَ أمراً؛ لوجبَ عليه نقلُ ذلكَ الأمرِ لنَعرِفه كما عرفَه. على أنَا قد بيَّنا وجوهَ الاحتمالِ التي لا يستحيلُ حصولُها في حقّه، فلا وجهَ لإبطالِها والاقتصارِ على ما ذكرت. ¬

_ = ولاءها، فشرطت ذلك، فلما جاء نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، أخبرته بذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق" ثم صعدَ المنبر فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله" وكان لبريرة زوج، فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاءت أن تمكث مع زوجها، وإن شاءت فارقته، ففارقته. تقدمت الإشارة إليه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق" انظر الصفحة 278 من هذا الجزء. (¬1) أورده ابن حجر في "فتح الباري" 9/ 404. (¬2) انظر "العدة"2/ 592، و"الإحكام" للآمدي 2/ 15، و"المسودة": 129.

* فصل: لا يجوز تخصيص اللفظ العام بعادة المكلفين

فصل لا يجوزُ تخصيصُ اللفظ العام بعادةِ المكلَّفين (¬1) مثلُ ورودِ تحريمِ البيعِ مطلقاً، وعادتُهم جاريةٌ بنوعٍ منه، كقوله العامِّ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقد جرت عادتُهم بأكلِ نوعٍ منه، فإنه لا يُعدلُ عن عمومِ اللفظِ بإخراجِ ما جرت به عادتهم، وما رأيتُ في ذلكَ، خلافاَّ فأحكيه (¬2)، ولكنَ الأصوليين سطّروا ذلك في كتبهم. لنا محلى صحةِ ذلك، وإبطالِ ما عساه يذهبُ إليه بعضُ من لا يعرفُ وضعَ ¬

_ (¬1) وضَّح الإمام ابن تيمية- رحمه الله- في "المسودة" الحالة التي لا يجوز فيها تخصيص العموم بعادة المكلفين فقال:" وهذا فيه تفصيل: فإن العادات في الفعل مثل أن يكونَ عادةُ الناس شربَ بعضِ الدِّماءِ، ثم تُحرمُ الدِّماءُ بكلام يعمُّها، فهذا الذي لا يجوزُ تخصيصُ العموم به. وأمَّا إن كانت العادَةُ في استعمال العمومِ، مثل أن يُحرمَ أكلُ الدوابِّ، والدوابُّ في اللغة اسم لكلِّ مادَابَّ، ويكونُ عادةُ الناسِ تخصيصَ الدوالب بالخيل مثلاً، فإنَّا نحملُ الدوابَّ على الخيل". انظر"المسودة": 123، فيتضح من هذا: أنَّ العادة الفعلية هي التي لا تُخصص العموم، أمَّا العادة القولية فهي تخصِّصه، ولمزيد بيان لهذه المسألة، انظر "العدة" 2/ 593، و"التمهيد" 2/ 158، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 387. (¬2) صورة المسألة: أن يكونَ النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ شيئاً أو أخبر به بلفظ عام، ثمَّ رأينا العادة جاريةً بترك بعضها أو بفعل بعضها، فهل تؤثر تلك العادة في تخصيصِ العام؟ فصَّل العلماء في ذلك: فإن عُلِمَ جريان العادة في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مع عدم منعه عنها، فيخصّ، والمخصِّص في الحقيقة تقريره عليه الصلاة والسلام. وإن عُلِمَ عدمُ جريانها، بأن كانت عادةَ طارئة، فإنَّها لا تُخصِّص العموم، إلا أن يُجمَع على فعلها فيكون دليلُ التخصيصِ الإجماعَ لا العادة. انظر في ذلك "المحصول" 3/ 131 - 132، و"الإحكام" للآمدي 3/ 486، و"البحر المحيط" 3/ 391 - 397. و"العقد المنظوم" للقرافي: 876 - 885.

الخصوص: أنَّ العموم نطقُ الشارعِ، ونطقُه لا يُخَصُّ إلا بنطقِه أو ما يستخرجُ من نُطقِه، كالفحوى، ودليلِ الخطابِ، ومعنى الخطابِ، فأمَّا العادةُ؛ فليست إلا وضعَ الشهواتِ أو الاختياراتِ أو الحاجاتِ التي لا يجوزُ أن تكونَ شرعاً، فكيف تَخُصُّ شَرعاً؟! وأيضاً: فإنَّ الشريعةَ جاءت بتغيير العوائِد وحسمِ موادِّها، فلا يجوزُ أن يكونَ ما وردت الشريعة قاضيةً عليه، قاضياً عليها، ومُزيلاً لعمومها؛ ولأنَّ الشرع إمَّا لمصلحةٍ أو تحكُّمٌ بالمشيئةِ، والعاداتُ قد تقع بالمفاسدِ، ومخالفةً للمصالح؛ لأنها واقعة ممّن لا مَعرفةَ له بالمصالحِ، وتحكُّمُ الشرعِ إذا وردَ إنما يردُ على ألسنةِ الرسُل، فلا وجْه لقضاءِ العادةِ على عمومِ لفظِ الشارعِ ونطقِه، ولأنَّه لو خُصّصَ العمومُ بالعوائدِ؛ لما عُمِلَ بعمومٍ قط؛ لأنَّ العاداتِ قد تتجددُ أبداً، والخصوصُ بيانٌ، فيفضي إلى خلوِّ نطقِ الشرعِ عن بيانٍ. شبهةٌ: إذا جاز أن يُخصَّ الاسم بالعرفِ، جازَ أن يُخصَّ العمومُ الشاملُ بالعرفِ. قالوا: ونقول: ما خُصَّ به الاسمُ خُصَّ به العمومُ، كالنطقِ والقياسِ، ولأنَّ إطلاقَ الثمنِ في البيع يختصّ بنقدِ البلدِ، وهو عُرفٌ، وقد أجمعنا على حَمْلِ اسم الدابة على حيوانٍ مخصوصٍ، وإن كان واقعاً على ما يَدبُّ. فيقال: إنَّ عرفَ الاستعمالِ في الاسمِ مقارنٌ للفظ، فيصيرُ ذلك لغةً جاريةً، فإنَّ اللغةَ أصلها استعمالٌ، بخلافِ وضعِ الشرعِ، فإنَّه ليس بمبنيٍّ على الاستعمالِ، وإنَّما هو وضعٌ وتحكُم، أو تحكم الحِكمةِ والمصلحةِ للمكلَّفين. وممَّا يوضحُ الفرقَ بين اللُّغة والشرعِ: أنَّ العاداتِ التي يحتاجُ النَّاسُ إليها لم تتحكمْ على الوضعِ الشرعيِّ، وذلكَ مثلُ عادة الديالِم والركابية والباتاواة (¬1) أكثرُ ¬

_ (¬1) هكذا وردت في الأصل.

استعمالاً من الخِفافِ والقفّازينِ، والنِّقاب والبُرْقُع عادةً للنساء، ولم يحكم بها على الإلحاقِ بالحوائلِ التي أجازَ الشرعُ المسحَ عليها، إلى أمثالِ ذلك من الحاجات والعادات. فإن قيل: أليس صاحبُكم تركَ الركعتين بعد أذان المغرب، وقبل الإقامة (¬1)، مع الرواية الصحيحةِ عنده أنَّ الصحابة كانت تبتدرها عند سواري المسجد (¬2)؟ وقال أيضاً في رواية مُهنا (¬3) عنه في رواية بهْز بن حكيم عن أبيه عن يَعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله، قال: أدركتُ أبناء المهاجرين والأنصار يَعتمّون، ولا يَجعلونها تحت الحَنَك: هو معروفٌ، ولكنَّ النَّاسَ -على هذا أهل الشام خاصةً- لا يعتمِون إلا تَحت الحَنَك (¬4). فظاهر هذا أنه اطَّرحَ الحديث بعادة أهل الشام. فيقالُ: ليس فيما فعله وقاله قضاءٌ على لفظِ الشرعِ، بل قال في الركعتين: رأيتُ الناسَ ينكرونها. وذلك لجهلِ العامّة، فما تركها إلا في المسجدِ، وإخفاءُ السنن لأجلِ المضرّةِ والتُّهمِ يجوز لدفعِ مَضرّةٍ، لا قضاء بها على الشرعِ، وقضاء بعُرفٍ على عُرفٍ، وقابَلَ عُرفاً بعُرفٍ، وما قَضى بعرفٍ على نُطقٍ. ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 2/ 546 - 547. (¬2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان المؤذنُ إذا أذن قامَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبتدرون السواري حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كذلك. يعني الركعتين قبل المغرب. أخرجه أحمد 3/ 280، والبخاري (625)، والدارمي (1441)، والنسائي في "الكبرى" (1646)، وابن خزيمة (1288). (¬3) هو مهنّا بن يحيى الشامي، أبو عبد الله السلمي، من أكثر أصحاب الإمام أحمد ملازمةً له، حيث لازمه ثلاثاً وأربعين سنة، روى عنه خلالها الكثير من المسائل. انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 345. (¬4) أورد هذا الرواية أبويعلى في "العدة" 2/ 594 - 595.

* فصل: ويدخل التخصيص على الأخبار كدخوله على الأوامر والنواهي

فصل ويَدخلُ التخصيصُ على الأخبار كدخوله على الأوامرِ والنواهي (¬1)، نحو قوله: رأيتُ المشركينَ، أشارَ إليه أحمدُ في عدّةِ مواضع من كتاب الله تعالى (¬2)، خلافاً لأحد الوجهين لأصحابِ الشافعي (¬3) وبعضِ الأصوليين، وجعلوا التخصيص ممنوعاً في بابِ الأخبارِ كامتناعِ النَّسخِ. فصل في الحجّةِ لمذهبنا إنَّ العمومَ في الخبرِ محتمل يتردَّدُ، كاحتمالِه في الأمرِ والنَّهي، فيقول القائل: قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وبانَ بالتخصيصِ أنَّه أراد البعضَ، وقال: {تُدمِّر كُلَّ شيءٍ بأمْرِ ربَّها} [الأحقاف: 25]، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، و {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وأرادَ به البعضَ، وما زالت العربُ تقول: جاءني النَّاسُ كلُهم، ورأيتُ النَّاسَ أجمعينَ قد تختموا، كما تقول: ائْتِني بالنَّاسِ كلهم؛ وتُريدُ به البعضَ، وإذا اتفَقا في الاحتمالِ اتفَقا في التخصيصِ الصارفِ للَّفظِ الكُلِّي إلى ما احتمله من الجزئي، وأنَ المرادَ به بعضُ العمومِ أمراً وخبراً. ¬

_ (¬1) انظر "العدة"2/ 595، و"المسودة": 130. (¬2) انظر "التبصرة": 143. (¬3) الذي يؤخذ من مصادر الشافعية الأَّصولية: أن التخصيص يرِدُ على الأخبار كما يرِدُ على الأوامر والنواهي، يرشدُ إلى ذلك الأمثلة التي ساقوها في معرضِ بيانهم للتخصيص بالدليل العقلي، حيث ذكروا منها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، متناول بعموم لفظه لغةً كلَّ شيءٍ، مع أن ذاته وصفاته أشياءُ حقيقية وليس خالقاً لها. فخرجت ذاته وصفاته بدلالة ضرورة العقل عن عموم اللفظ. اهـ. ومعلوم أن قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من قبيل الأخبار لا من قبيل الأوامر. انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 459 - 465، و"البحر المحيط" 3/ 355 - 360.

* فصل: إذا ورد الخطاب من صاحب الشرع بناء على سؤال سائل فلا يحكم بخصوص الجواب العام لخصوص السؤال

شبهةٌ: هذا أحدُ التخصيصين، فلم يدخل على الأخبارِ، كتخصيصِ الأزمانِ، وذلكَ أنَّ تخصيصَ الأزمان و [الأعيان] (¬1) جميعاً يكشفان عن المرادِ، فهذا يخرجُ بعضَ الزمانِ بعد أن كان ظاهرُه الشمولَ والاسَتغراقَ، فإذا لم يَجُز أحدهما لم يَجُز الآخرُ. فيقال: بل يجوزُ نسخُ الخبرِ -وهو الوعيد- يجوزُنسخه بالعفوِ، وقد تبجَّحت به العربُ، فقالوا: وإنِّي إذا أوْعَدْتُه أو وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوْعدي (¬2) إنَّ النسخَ رفعٌ للحكمِ وإزالةٌ لجميعِ مقتضى اللَّفظِ، فرفعُه يكشفُ عن الخبرِ أنَّه كان كذباً، وذلكَ لا يجوزُ على الشرعِ، ولا يحسُن من أحدٍ من المتكلمينَ بالخبر, ويكشفُ ذلكَ أنَّه لما قال لإبراهيمَ: اذبح واحِدَك أو ولَدَك -على الخلافِ في النقل- حَسُنَ أن ينسخَ ذَبْحه إلى ذبح الذِّبح (¬3)، ولو قال: ذبحَ إبراهيمُ إسماعيلَ أو إسحاقَ، لم يَجُزْ أن يَنْسَخ ذلك بدليلٍ يوضِّح أنَّه لم يذبحه، حتى إنَّ النسخَ يكون بالخلافِ، فقال قومٌ: هو البداء على الإطلاقِ، ومنعوا جوازَه على الله سبحانَه، وقومٌ منعوا منه قبلَ وقت الفعلِ، وظنوه بَدَاءً، وما استقْبَحَ أحد تخصيصَ العموم، فلا تساوي بينهما (¬4). فصل إذا وردَ الخطابُ من صاحبِ الشرعِ بناءً على سؤالِ سائل، نظرتَ: فإن لم يكن مستقلاً بنفسِه بحيث لو قُطِعَ عن السؤالِ وأُفرد عنه لم يكن مفهوماً، مثل قوله لأبي بُردة بن نِيار لما سأله عن ذبحِ أضحيته قبلَ الصلاة، وأنَّه لا يجد إلا عناقاً جذعةً: ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) البيت لعامر بن الطفيل، والوعد عادةً يستعملُ في الخير، والإيعاد يستعمل في الشر، تقول: وعدتُه خيراً وأوعدته شرّاً. انظر "اللسان": (وعد). (¬3) وذلك بقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، [الصافات: 107]. (¬4) انظر "العدة"2/ 595 - 596، و"التبصرة": 143، و"المسودة": 130.

"تُجزئكَ، ولا تجزىءُ أحداً بعدَكَ" (¬1)، وقوله لأبي بكرة حيث دخل الصف راكعاً: "زادَكَ اللهُ حِرصاً ولا تَعُد" (¬2). فهذا جوابٌ خاص على السؤال الخاص، وأما إذا كان جوابُه - صلى الله عليه وسلم - عامَّاً، وسؤال السائل خاصاً، فلا يُحكم بخصوص الجواب المستقلِّ العامِّ، لأجل خصوص السؤال (¬3)، مثل سؤالهم له عن وضوئهِ من بئر بُضاعة، فقال: "الماءُ طَهور" (¬4)، وسؤالهم عن كونهم في البحر على أرماثٍ (¬5) لهم، وليس معهم من الماء العذب ما يشربونه، وقولهم: أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته" (¬6)، ومثل سؤالهم عن عَبدٍ وُجِدَ به عَيبٌ، وكان استُغِلَّ، فقال: "الخراجُ بالضمان" (¬7)، فكان ذلك عامَّا في كل من له خراجُ شيء. فعليه ضمانُه دون خصوص العبد المبيعِ المَعيبِ، فهذا يكون على عمومه في حقِّ الناس كُلّهم، ومثل قول القائل: إنّ أُمي ارتدّت، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 98. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 98. (¬3) انظر "العدة"2/ 596، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 161، و"المسودة": 130و" شرح الكوكب المنير" 3/ 176 - 177. (¬4) تقدم تخريجه 1/ 39. (¬5) الأرماث: جمع رَمَث: خشبٌ يُضم بعضه إلى بعض، ثم يُركب عليه في البحر "اللسان": (رمث) (¬6) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مالك في"الموطأ"1/ 22، والشافعي 1/ 19، وأحمد 2/ 237 و261، وأبوداود (83)، والترمذي (69)، والنسائي 1/ 150 و176، و 7/ 207، وابن ماجه (386) و (3246)، والدارمي 1/ 86، وابن حبان (1243)، والبغوي (281)، والحاكم 1/ 140. وفي الباب عن جابر أخرجه أحمد 3/ 373، وابن ماجه (388)، والدارقطني 1/ 34، وابن خزيمة (112)، والحاكم 1/ 143، وابن حبان (1244). (¬7) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها أحمد 6/ 80 و116، وأبوداود (3510)، والدارقطني 3/ 53، والحاكم 2/ 14 - 15 و15، والبغوي (2118)، وابن حبان (2927).

- فصل في أدلتنا

فيقول: اقتُلوا مَن بدَل دينه، أو: "مَنْ بَدَل دينَه فاقتُلوه" (¬1)، فنأخذ بعموم اللَّفظ دون خصوص السبب، وبه قال الفقهاء، خِلافاً لمالك، والمزني -من أصحاب الشافعي-، وأبي ثور، وأبي بكر القَفّال، والدَّقاق في قولهم: يقصر على السبب الخاص، ويخصّ به عموم الجواب (¬2). فصل يجمع أدلتنا فمنها: أنَّ الحكمَ إنَّما يُتلقى من لفظ صاحبِ الشريعةِ دونَ نطق السائِلِ، فإذا كان لفظُه عامّاً، وسؤالُ السائلِ خاصَّاً، علمنا أنه مبتدىءٌ بالتشريعِ العام، تاركٌ لتخصيصِ السائِل، فالسائلُ إذا قال له: إنَّ زوجتي ارتدَّت، فقال هو - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّلَ دينَه" فعليه القتلُ، أو: "فاقتلوه" (1)، علمنا أنَّه أرادَ تشريعَ قتلِ المرتدينَ أجمعَ، بوحيٍ عامٍّ نزلَ عليه، وكان المثيرُ له سؤالَ السائلِ. ومثلُ هذا من الكلامِ الجاري فيما بيننا: أنَّ قائلاً لو قالَ لغيرِه: هل أنجزَكَ الأميرُ ما وعدَكَ؟ فقال: إنَّ الأمير منجزٌ وعدَه، محققٌ لخبرِه بإنجازِه، لا يُخلفُ وعداً، ولا يَنكُثُ عقداً. عَلمَ كُلُّ سامعٍ كلامَه أنَّه لو أرادَ جوابَ سائلِه فقط، لقال: نعم أنجزَني. فلما أطالَ؛ عُلِمَ؛ أنَّه قصدَ وصْفَ الأميرِ بإنجازِه عِداتِه هذه وغيرَها، وأنَّ ذلكَ دأبُه وخُلُقُه وعادتُه، وهذا أعمُّ من السببِ والسؤالِ. والذي يوضِّحُ هذا: أنَّه لو كانَ كلامُه مقصوراً على سؤالِه؛ لما كانَ مجيباً له، ألا ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريجه 1/ 39. (¬2) سبقت الإشارة إلى هذه المسألة، وبيان أنَّ المعتمدَ عند كثير من أئمة الشافعية: أنَّ اللفظ العام المستقل بنفسه، الواردَ على سببٍ خاصٍّ من سؤال أو واقعة، يجبُ حمله على عمومه. انظر ما تقدم في 2/ 17.

ترى أنَّ السائلَ في المناظرةِ والمجادلةِ إذا قال: ما تقول في نبيذ التَّمر المشتَدِّ؟ فقال: عندي كُلُّ نبيذٍ من تمرٍ وزبيبٍ وحنطةٍ وذُرةٍ وشَعيرٍ حرامٌ، وعلى الذي يسكرُ منه الحدّ. لم يكن مجيباً عندَ أهلِ الجدل، وقالوا: لا يكونُ الجوابُ صحيحاً حتى يكونَ مطابقاً للسؤالِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسألُ عن ماء البحر فيجيب عنه وعن ميتَتِه. ويقول ابتداءً: "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شِغار" (¬1)، ويقول: "البِئْرُ جُبارٌ، والمعدِنُ جُبارٌ، وفي الرِّكازِ الخُمسُ" (¬2). فيقرنُ بالحكمِ ما لا يشاكله، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس ينتظمه نظماً إنما يقولُ ما يقالُ له، فإذا أُنزلَ الوحيُ بالأمرِ، قاله بحسب ما أوحيَ إليه، فإذا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 51. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 249، وأحمد 2/ 239 و 254 و 274 و 285 و319، وعبد الرزاق (18373)، والبخاري (6912) و (6913)، ومسلم (1715)، والدارمي 1/ 393، و2/ 196، وأبود اود (3085)، وابن ما جه (2673)، والترمذي (642) و (1377)، والنسائي 5/ 45، وابن خزيمة (2326)، والدارقطني 3/ 151، وابن حبان (6005) و (6006) و (6007) من حديث أبي هريرة، بلفظ: "العجماء جُرحها جُبار، والبئرُ جُبار والمعدن جُبار، وفي الركاز الخمس". والعَجْماء: هي البهيمة، والجُبار هو الهَدْرُ، وإنَّما جُعل جُرحُ العجماءِ هدراً إذا كانت مُنفلتة ليس لها قائد، ولا سائقٌ، ولا راكبٌ، فإن كان معها واحدٌ من هؤلاء الثلاثة، فهو ضامن؛ لأنَّ الجناية حينئذ ليست للعجماء، إنما هي جناية صاحبها الذي أوطأها النّاسَ. وقوله:"البئرُ جُبار": هي البئر يَستأجرُ عليها صاحبُها رَجُلاً يحفر في ملكه، فتنهارُ على الحافر، فليس على صاحبها ضمانٌ. وقيل: هي البئر العاديةُ القديمةُ التي لا يعلم لها حافرٌ ولا مالكٌ، تكون في البوادي، فيقع فيها الإنسان أو الدابة، فذلك هدر. وأما قوله: "والمعدن جُبار": فإنها المعادنُ التي يستخرج منها الذهب والفضة، فيجيء قوم يحفرونها بشيءٍ مسمىً لهم، فربما انهار المعدنُ عليهم فقتلهم، فيقول: دماؤهم هدر؛ لأنهم عملوا بأجرة. وقوله:" في الرِّكاز الخمس" فهو دفين الجاهلية إذا وجدَ؛ فيكون فيه الخمس لبيت المال، والباقي لواجده.

قصرنا قولَه العامَّ على سؤالِ السائلِ الخاصِّ، عطَّلنا وحيَ اللهِ؛ لأجلِ تخصيصِ السائلِ لغرضِه الخاصِّ، وذلك لا يجوزُ. فإن قيل: فلو قالَ لهم لمَّا سألوه: توضؤوا به، بَدلاً من قوله: "هو الطهورُ ماؤه"، كان مقصوراً عليهم، أو قالَ لهم: نعم، ولم يزد على هذا، وقفَ على وضوئهم به. قيل: كذا يقتضي المذهبُ، إذ لا عمومَ في اللفظ إلا أنْ تقومَ دلالةٌ، فيدلَّ (¬1)، بل يكونُ مقصوراً عليهم، وعلى من حاله كحالهم التي ذكروها. ومنها: أنَّا أجمعنا على أنَّ السؤالَ إذا كان عامَّاً، وجوابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيرُه خاصاً، قُضيَ بخصوص الجواب. مثالُه: أن يقول السائل: يا رسولَ الله، أنقتل من لقينا من المشركين؟ فيقول: اقتلوا غير المجاهدين، أو اقتلوا من لا ذِمَّة له، أو يقولَ: أنعتق كل رقبةٍ في الكفارةِ؟ فيقول: أعتِقوا السليمةَ المسلِمةَ من الرقابِ. فإنَّا نقضي بخصوصِ الجوابِ على عمومِ السؤالِ، تلقياً للحكمِ من لفظِ الشارع دونَ السائلِ، فكما يُطرحُ عموم سؤالِه لخصوصِ جوابِ الشارعِ، كذلكَ يجب أن يُطرحَ خصوصُ جوابِ السائلِ لعمومِ خطابِ الشارعِ، ولا نجدُ (¬2) لذلك فرقاً. ومنها: ما أجمعَ عليه الفقهاءُ: أنَّ الزوجَ إذا شكت إليه زوجتُه ضَرَّةً لها، فأجابها بأنْ قال: كلُّ زوجاتي طوالق. قُضيَ بوقوعِ الطلاقِ على الشاكية والمشكوِّ منها وغيرهِما، ممن لم يَجْرِ لها ذكرٌ في لفظِ الشاكيةِ، تعويلاً على عمومِ إيقاعِه وشمولِ لفظه دونَ خصوصِ سؤالها (¬3). يوضِّحُ هذا: أنَّ الزوجَة الشاكيةَ كالمرأةِ السائلةِ، والزوجُ في تملّكِه إيقاعَ الطلاقِ ¬

_ (¬1) أي: فيدل اللفظُ على العموم حينئذٍ. (¬2) في الأصل: "ولا يجدوا". (¬3) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 10/ 403 - 404.

وإزالةَ السببِ المشكوِّ منه بتصرفِه في الزوجاتِ، كصاحبِ الشرعِ في تصرُّفِه في الأحكامِ، ثم عوَّلنا على عمومِ جوابِ الزوجِ، ولم نقضِ عليه بخصوصِ سؤالِ المرأةِ الزوجةِ، كذلكَ يجبُ أن نعوِّل على عمومِ قولِ الشارعِ دونَ خصوصِ سؤالِ السائلِ. ومنها: أنَّ الجوابَ إذا كانَ صالحاً لخطابِ سائرِ المكلفين لم يقصر على السائلِ اعتباراً بعمومِ لفظِ الشارعِ الشاملِ لجميعِ المكلفين المخاطبين، كذلكَ في بابِ عمومِ الحكمِ وشموله يجبُ أن لا يقتصرَ على سؤالِ السائل، وما الفرق بين الشخصِ السائل الخاصِّ [وغيره] (¬1) إلا أنَّ المصالح تختلف باختلاف الزمان، وكذلكَ خُصَّت الأمكنةُ بالمناسكِ، والأسفارُ بالرخصِ، فلا فرقَ بينهما، فلما لم نقصر الجوابَ العامَّ على السؤال الخاص، كذلكَ لا نقصر الجوابَ العامَّ على السبب (¬2) الخاصِّ، وذلكَ مثلُ آيةِ اللِّعانِ، نزلت في هلالِ بن أُمية (¬3)، وآيةُ حد القَذفِ نزلت في عائشةَ (¬4)، واعتبر بعموم (¬5) صيغتها دونَ خصوصِ القصةِ والشخصِ الذي نزل فيه. ومنها: أنَّ السؤالَ قد يقعُ في زمانٍ مخصوص ومكانٍ مخصوصٍ، ولا يُعتبر بهما، وإن كانت المصالحُ تختلف بهما، لكنَّا عوَّلنا على عمومِ الصيغةِ وشمولها دونَ خصوصِ الوقتِ والمكان، كذلكَ يجبُ أن نُراعيَ عمومَها دون خصوصِ السؤالِ. فإن قيل: المكانُ والزمانُ لا يصلحان وصفين لِعِلَّة (¬6) الحكم، بخلاف ما انتظم سؤال السائلِ من الألفاظِ. قيل: السفر في البحر وصفُ الماءِ، وكما (¬7) يجوز أن يكون وصفاً بعضُ الأزمانِ، ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الأصل: "السؤال"، ولا تستقيم بها العبارة. (¬3) تقدم تخريج حديث اللعان في 2/ 32. (¬4) تقدم تخريج حديث الافك فى 2/ 31. (¬5) في الأصل: "بالعموم". (¬6) تحرفت في الأصل إلى: "فعلة". (¬7) في الأصل: "كما".

- فصل يجمع شبههم

يصلح أن يكون [وصفاً بعض الأعيان] (¬1)، وكيف لا يكون كذلك؟، والنسخ يا حُسْنُهُ عند من علَّله (¬2). ومنها: أن العامّ إنما يُقضى عليه بما يخالفه وينافيه، فأمَّا ما يطابقه ويماثله ويُضاهيه؛ فلا، ومعلومٌ أنه لا تَنافي بين السببِ الذي وقع السؤال عنه، وبين عموم الجواب، فإنَّه سُئِلَ عن الوضوءِ بماءِ مخصوصٍ، فأجاب بجنسِ جعلَ الماءَ طهوراً، الذي ماءُ البحرِ منه وبعضٌ له، ولهذا لا يقتضى بالنَسخِ (¬3) مع إمكانِ الجمعِ، فكيف يقضى بالتخصيصِ للعموم بلفظِ يُطابقه ويُلائمه؟ ومنها: أنَّا أجمعنا على أنَّ عمومَ لفظِ صاحبِ الشريعةِ حجّةٌ، وأنَ قولَ السائلِ ليس بحجةِ، فلا يجوزُ أن يقضى على قولِ هو حجة بقول مسترشِدٍ وليس بحجة. ومنها: أنَّ لفظَ الشارعِ مستقلٌ بنفسه، وغيرُ محتاجِ، ولا يفتقر إلى السؤال، ولهذا لو ابتدأ فقال: الماءُ طَهورٌ، الخراجُ بالضِّمانِ، ماء البحرِ طهورٌ وميْتته حلالٌ. كان ذلكَ شرعاً مستقِلاً، والسؤالُ لو انفردَ لما تعلَّقَ به حكمٌ، فكان الاعتبارُ باللفظِ الذي به يتعلَّقُ الحكمُ دون مَا لا يتعلَقُ الحكمُ به إذا انفرد. فصل يجمع شُبَههم فمنها: أنْ قالوا: السؤالُ مع الجوابِ كالجملةِ الواحدةِ، بدليلِ أمرين: أحدُهما: أنَّه هو المقتضي للجواب. والثاني: أنَّه متى كان الجوابُ مُبْهماً أُحيلَ ببَيانه على السؤالِ، ألا ترى أنَّ ابتداءَ قول القائلِ بنَعمْ لا يُفيد، فإذا قالَ: أزيدٌ في الدارِ؟ فقالَ المجيبُ: نَعمْ، صارَ المقتضي ¬

_ (¬1) ما بين حاصرتين زيادة من أجل استقامة العبارة. (¬2) هكذا وردت العبارة في الأصل. (¬3) في الأصل: "با لمسح"، ولعل المثبت هو الصواب.

لنعمْ قولُه: أزيدٌ في الدار؟ قال الله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 144]، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وإذا ثبت أنَّها جملةٌ واحدةٌ؛ وجبَ أن يجعل الجوابُ مقدَّراً بالسؤالِ، وصارَ كالمبتدأ والخبر: قامَ زيدٌ، أو: زيدٌ قامَ. والاستثناءِ مع المستثنى: قامَ النإسُ إلا زيداً. فيقالُ: لا نُسلِّمُ أنهما كالجملةِ الواحدةِ، بل هما جملتانِ مفترقتانِ، وأمَّا كونُ الجوابِ بمقتضى السؤال، فلا يُسلَّمُ أيضاً، وكيفَ يكون مقتضاه، وذلكَ خاصٌ، وهذا عامٌّ، فأين الخاصُّ من العامِّ؟ ولربما كانَ الجوابُ يتضمنُ حكمين وثلاثةً، ويكونُ السؤالُ عن حكمٍ واحدٍ على ما بينّا من ذكرِ مَيْتةِ البحرِ، وما سألوه إلا عن مائِهِ، وكما نطقَ به القرآنُ عن موسى- عليه السلام-، لما قيل له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، كان جوابه: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] وكان الجوابُ الذي يخصُّ السؤال: عَصا، بلا إضافة، فهذا شائعٌ في لغة القومِ. وكونُه قد يُحَالُ منهم الجواب على بيان السؤال (¬1)، فباطلٌ بالكتابِ مع السُّنةِ، فإنَّه يجوزُ أن يحالَ أحدُهما على الآخرِ في البيانِ وهما مختلفانِ. على أنَّ خلافَنا في الجوابِ المستقلِّ بنفسِه غير مفتقِرٍ في البيان إلى السؤالِ، وذلك ليس مع السؤال جملةً واحدة. ثمَّ هذا يبطل بما ذكرنا من سؤالِ الزوجةِ زوجَها وشكواها الخاصِّ إذا أجابها عنه بطلاقٍ عامٍّ. فإن قيل: لنا في الزوجةِ من الحجّة عليكَ مثل مالَكَ، فإنَّها لو سألَتْه الطلاق، فقال لها: أنت خَليَّة. فإنَّ قوله: أنت خليَّة. إذا كان مُبتدأ؛ لا يقعُ به طلاقٌ، ولو أجابها به عن سؤالها، كان طلاقاً، وما حصل كونُه طلاقاً إلا بناءً على سؤالها. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الجواب"، والمثبت هو الصواب.

قيل: "خَليةٌ" لفظٌ صالحٌ متردد بين خليِّةٍ من زوجٍ، ومن الخيرِ، فإذا سألَتْه، كان الظاهرُ أنَّه قصدَ جوابها، فصارَ ما دلَّ على نيته وقَصدِه [قائماً] (¬1) مقامَ قصده، ودلائلُ الأحوالِ أبداً تترجَّحُ إلى أحد محتملي اللفظِ (¬2). ومثلُه من ألفاظِ صاحبِ الشريعةِ إذا قال له الرجلُ: أريدُ طلاقَ زوجتي لكونِها متبرِّجةً. فقال: خَلِّها. صُرِفَ إلى التخليةِ بالطلاقِ، دونَ التخلية من حَبسِه وحَجرِه. ومنها: أنَّه جوابٌ خَرَجَ على سؤالٍ خاصٍّ، فكانَ مقصوراً عليه، كما لو لم يستقلَّ إلا بالسببِ. فيقال: المعنى هناك: أنَّ اللفظ لم يتناول غير ما سئلَ عنه، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تُجزئكَ ولا تُجزىءُ أحداً بعدَكَ" (¬3) لمَّا لم يصلح الخطابُ لغيرِه وُقِفَ عليه، وليسَ كذلكَ ها هنا، فإنَّ اللفظَ العامَّ موضوعٌ للشمولِ، فهو كلفظِ المجيبِ إذا تناولَ عدداً مخصوصاً كالعشرةِ، والسائلُ واحدٌ، فلو قالَ له واحدٌ من عشرة حاضرين: يا رسولَ اللهِ، أتوضأ بماءِ البحر؟ فقال: توضؤوا بمائِهِ، فإنَّه يُعملُ بجوابِه الشاملِ للعشرةِ، دون خصوصِ السائلِ. ومنها: أنْ قالوا: لمّاَ وردَ الخطابُ على السببِ، دلَّ على أنَّه بيانٌ لِحكمةٍ خاصَّةٍ، إذ لو كانَ بياناً لغيرِه لبينه قبلَ السؤالِ؛ لما وجبَ عليه من بيانِ الأحكامِ. فيقالُ: يجوزُ أن يكونَ عند سؤال السائل نزلَ الوحيُ له وللأمّة، بل الظاهرُ ذلكَ، وإنَّما لم يَبتدىء، لأنَّ اللهَ سبحانه أثَارَ السببَ، وهو الحاجةُ إلى السؤالِ حتى يبين الحكم العام للأمة، كما قيضَ العباس لقوله: يا رسولَ الله إلا الإذخرَ، فقال: "إلا ¬

_ (¬1) زيادة يستقيم بها السياق. (¬2) هكذا فى الأصل، ولعل صوابها: "ودلائل الأحوال أبداً ترجح أحد محتملي اللفظ". (¬3) تقدم تخريجه 2/ 98.

الإذْخر" (¬1) بأسرعِ جوابٍ، وما كانَ ذلك منه، بل قيلَ له، فقالَ، وإنما سبقَ العباسُ إلى الاستثناءِ، والله قد أعد الرخصةَ جواباً، كما رويَ عن عمرَ في الثلاثِ التي وافق اللهَ فيها، ولهذا قال: وافقتُ ربي في ثلاث (¬2)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَنَّ لكم مُعاذُ" (¬3)، والمرادُ به: أنَّ الله قيَّضه لفعل ذلك، وقد سبق بتشريع ذلكَ، لا أنَّ معاذاً شرعه أعني تأخير قضاء ما سَبَق به من الركعات بعد أن كانوا يَبتدؤون بأداءِ ما فات -ألا ¬

_ (¬1) ورد ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا البلدَ حرامٌ، حرَّمه اللهُ إلى يوم القيامة، لا يُنفر صَيده، ولا يُعضَدُ شَوكُه، ولا تُلْتمَطُ لُقطته إلا من عرَّفها، ولا يُختلى خلاؤه"، فقال العباس: إلأ الإذخر, فإنه لبيوتهم. فقال: "إلا الإذخر". أخرجه مطوَّلاً ومختصراً: أحمد 1/ 315 - 316 و348، وعبد الرزاق (9713)، والبخاري (1349) و (1833) و (1834) و (2433) و (3189)، وأبود اود (2017)، ومسلم (1353)، والنسائي 5/ 203 - 204، وابن حبان (3720)، والبيهقي 6/ 199. (¬2) بين هذه الثلاث الحديث الذي رواه أنس، قال: قال عمرُ بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزلَ الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، [البقرة: 125]، وقلت: يَدخل عليك البَر والفاجر فلو حجبتَ أمهات المؤمنين. فأُنزلت آيهْ الحجاب، وبلغني شيء من مُعاملة أُمهات المؤمنين، فقلت: لتكفُّنَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليبدِ لنَّه الله أزواجاً خيراً منكنَّ، حتى انتهيت إلى إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: يا عمرُ, أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يَعظ نساءه حتى تعِظَهنَّ أنت!، فكففتُ، فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]. أخرجه أحمد 1/ 23 - 24 و 24 و36 - 37، والبخاري (402) و (4483) و (4790) و (4916)، والترمذي (2959) و (2960)، وابن ماجه (1009)، وابن حبان (6896). (¬3) أخرج أحمد 5/ 233 و 246، وأبوداود (506) و (507)، وابن خزيمة (381)، (382) و (383)، وعبد الرزاق 2/ 229 عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء الرجل وقد فاته من الصلاة شيء أشار إليه الناس، فصلى ما فاته، ثم دخل في الصلاة، حتى جاء يوماً معاذ بن جبل، فأشاروا إليه فدخل، ولم ينظر ما قالوا، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سنَّ لكم معاذ".

تراه كيف بين حكماً لم يُسأل عنه؟ وكجوابه بميتةِ البحرِ وما سُئل عنها، ولأنَه لو كان بياناً للجواب خاصَّةً لخصَّه به كما خصَ أبا بُردَة وأبا بَكْرة (¬1)، ولأنه باطل بنزوله على حادثةٍ، كالَلِّعان في العَجْلاني (¬2)، وآياتِ القذف لقصة عائشة (¬3)، وغير ذلك من أمثالِها نزلت لأجلِ حوادث ولا تختصّ بل تعمُّ، كذلكَ السؤالُ. ومنها: أن قالوا: إن السبب هو الذي أثار الحكم فتعلَّقَ به، كالعلَّةِ، والعلّةُ لا تؤثر إلا بمعلولها خاصَةً، كذلكَ الجوابُ الذي أثارَ السبَب. قيل: العلةُ مقتضية للحكمِ، ولهذا لا يدخلُ عليها ما لا يؤثرُ ولا يقتضي، ولو زيدتْ وصفاً كان حشواً، ولا يجوزُ أن تكونَ العلةُ أعمَ من حكمِها، فلو قالَ فيما يَستقلُّ: بطاهرٍ مائعٍ. لم يَجُز ولو قال فيما يستقل: بطاهرٍ جامدٍ. كان حشواً. وفي مسألتنا يُسألُ عن الماءِ، فيجيبُ عن الميتةِ مع الماءِ وعن أحكام كثيرةٍ (¬4). ومنها: أن تعديهُ من السببِ الذي وردَ عليه لا يؤمَنُ أنْ يكونَ مفسدةً، والظاهرُ بأنَّه لمّا خرجَ على السببِ الخاَصِّ أنَّه كان مصلحةً على ما وردَ عليه من السببِ الخاصِّ. (¬5) فيقالُ: إنَّ المصالحَ قد تكونُ منوطةً بالأشخاصِ والأزمانِ والأمكنةِ، والواحدِ دونَ العددِ الزائِد، ومع ذلكَ لم يقصره المخالفُ على الشحْصِ السائِل، ولا الوقت ¬

_ (¬1) انظر ماتقدم في الصفحة 411 من هذا الجزء. (¬2) هو عويمر بن أبيض الأنصاري العجلاني، أحد من نزلت فيهم آية اللعان كما في البخاري (5259)، ومسلم (1492) (1)، و"الموطأ"2/ 566، و"مسند أحمد"5/ 336. والمصنف رحمه الله ينسب قصة اللعان هنا للعجلاني، مع أنه نسبها في الصفحة (415) لهلال بن أمية، وقد نسبت القصة لكليهما، انظر "تفسير القرطبي" 12/ 183، و"تفسير ابن كثير" 3/ 265. (¬3) تقدم تخريج حديث الإفك في 2/ 31. (¬4) انظر "العدة" 2/ 613، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 166. (¬5) انظر "العدة" 2/ 613، و"التمهيد" 2/ 167.

الذي حصَلَ السؤالُ فيه، ولا قصرَه على المكانِ، ولا خصَّهُ بالواحدِ إذا كان جوابُ الشارعِ تضمَّنَ الخطاب لعشرةٍ، على أنَّه لو كانَ المصلحةُ ذلكَ لما جاز للشارعِ أن يتنكَبَ الخاصَّ من القول، ويعدِلَ إلى العامِّ. ومنها: أنْ قالوا: لو كانَ الجوابُ عن سؤال (هل) ب (نعم) أو (لا)، أو عن (ليس) ب (بلى) كان مقصوراً على السؤال، فلما قال الباري سبحانه: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] كان تقديره: نعم، وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، بلى أنتَ ربنا. فيقال: إنَّما يكونُ ذلكَ في الجوابِ الناقصِ، وكلامُنا في الجوابِ التَّام العام الصالحِ للابتداءِ وإلاستقبالِ، ولسنا نُنكرُ تعلُّقَ الجوابِ بالسؤالِ إذا لم يكن مستقلاً، وقوله: نعمْ. لا يستقلُّ، وبلى أيضاً لا يستقِل، ولهذا لو ابتدأ به لم يُعقل منه معنى حتى يُسألَ عمَّا كان من السؤالِ. وها هنا الكلامُ مُستقِلٌ، ولهذا لم يقصَر عليه. ومنها: أن قالوا: قد اتفقَ أصحابُكم وأصحابُ مالك على أنَّ الأيْمانَ محمولةٌ على مخارجِها، مقصورةٌ على ما هيَّجها وأثارها، فاذا قال: واللهِ لا فَعلتُ كذا، ولا قَبلتُ منك كذا. وكان (¬1) المهيِّجُ ليمينه والسببُ فيها: المنَّةَ، لم يُحملْ إلا على ما يزيل المنَّةَ، وامتنع من القبول لأجلها، واليمينُ حكمٌ شرعيٌ بُنيَ على لفظٍ وترتَبَ عليه، كذلكَ يجبُ أن يقصر جوابُ صاحبِ الشريعةِ على السببِ الذي أثارَه، ومتى لم يكن كذا كان مناقضةً في المذهبِ، إذ لا فرق بينهما. فيقالُ: إنَّ الأيمانَ حجةٌ لنا من وجهٍ؛ وهو أنَّه إذا حلف: لا لبسَ من غزلِ زوجتهِ، وكانَ السببُ في يمينِه منَتها عليه، واستزادتَها له على ما يجبُ لها؛ لأجل ما ذكرَته من غزلها، فإنَّنا لا نَقصر ذلك على الغزل، حتى إنه لا يقف حِنثُه على لُبسِه من غزلها، بل يحنثُ بقبولِ كل شيءٍ من جهتها؛ من مالٍ وعملٍ تحصل بمثله المنَّةُ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "كان".

فلو ركِبَ دابَّتها، أو استخدم عبدَها وأمتَها، فإنَّه يحنثُ، فقد تعدت اليمينُ السببَ المحلوفَ عليه. على أنَّ الأيمانَ تُحْالف وضعَ الشرعِ؛ لأنَّها تتخصص بالعرف، ولهذا لو حلفَ: لا أكلتُ الرؤوسَ. حُمِلَ على رؤوسِ الأنعامِ، و: لا دخلتُ سوقَ الطعامِ. تخصَّص حِنثُه بدخولِ سوقِ الحِنطةِ دونَ دار البِطِّيخ وسوقِ الخبازين، وإن كان الخبزُ أقربَ إلى الطُّعمِ والأكلِ، فإنَّ الطعامَ طُعمةُ الإنسانِ، والحنطةُ أبعدُ من الطُّعمِ (¬1). ومنها: قولُهم: لو لم يكن الجواب مقصوراً على السبب؛ لجاز إخراجُ السَببِ عن تناول حكمِ الخطابِ له، كما لو نَطقَ باللفظِ العامِّ ابتداءً، فإنه لو ابتدأ العمومُ جاز تخصيصُه فيما عدا السببَ الذي وردَ عليه سؤالُ السائلِ في مسألتِنا، فلمَّا كانَ السببُ لا بُدَّ داخلاً، عُلِمَ أنَّه قد تخصَّص به تخصُّصاً خرجَ به عن حكمِ العمومِ المبتدأ. بيانُه: أن يقول ابتداءً: "الماءُ طَهوو لا ينجسُه شيءٌ" (¬2)، ويخصُّ به ماءَ بئرِ بُضاعة بأنَّه ليسَ بطَهورٍ، فلَّما جاءَ سؤالُ القوم عن بئر بُضاعة، فقالَ: "الماءُ طهور"، لم يَجز بعدَ خروجِ سؤالِهم عنها أنْ يخرجَ ماؤها عن الطُّهوريةِ المذكورةِ. فيقال: إنَّما لم يجز إخراجُه عن الجوابِ بعدَ السؤالِ؛ لأنَّ الجوابَ وإن كانَ لفظُه عامَّاً، إلا أنَّه لا بُد أن يكون جواباً عن السؤالِ، فأوَّلُ ما يُراعى في اللَّفظِ الواردِ عقيبَ السؤال أن يكون جواباً، ثم يُعطى العمومُ حقَه، كما أعطيَ السؤالُ حقَّه، ألا ترى أنَّه لا يحسُنُ أن يقولوا له حالهَم التي ذكروها في البَحرِ، ثم يُتبعوه: أفنتوضأ بماء البحر؛ فيكونُ جوابه: هو الحلُّ ميتته. لأنه ابتدأ إفادةً بالشرعِ إباحة ميتةِ البحر، ¬

_ (¬1) انظر هذه الشبهة والرد عليها في "العدة" 2/ 613. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 39.

ويكون مُعطلاً للبيان عما سألوه عنه مع حاجتهم إليه، وذلكَ لا يجوزُ، فكما لا يجوز تركُ ما سألوا عنه ابتداءً، والإتيانُ بحكمٍ آخرَ غيرِ ما سألوا عنه، كذلكَ لا يحسُن أن يأتَي بلفظِ عمومٍ ثم يخصُه على غيرِ ما سألوه عنه، فلذلكَ افترقَ الحالُ بينَ العمومِ المبتدأ، والعمومِ الخارجِ على سبيلِ الجوابِ عن حكمٍ خاص (¬1)، وأنَّ العمومَ المبتدأ لا يجبُ فيه قضاءُ حق آخرَ، وهذا يجبُ فيه أن يُراعى مراعاةَ حكمِ الجوابِ وإعطاء العمومِ الزائدِ عليه حقَّه. ألا ترى أنَّ الناس يعدُّون (¬2) ذلك عبثاً شائعاً، فيقول قائلهم: سألته عن أبيه، فقال: خالي شُعيبٌ، إذ كان توريةً عن الجوابِ، ولو قال: أبي زيدٌ، وخالي شعيب، لم يستنكرْ أن يجيبَه عمَّا سأل، ويفيده تعريفَ خالِه بعد تعريفِ أبيه المسؤولِ عنه. على أنَّ الإجماعَ يغني عن الاعتذارِ، ففيه الكفايةُ، ولا خلافَ بين الأمَّةِ أنَّ ما خرجَ السؤالُ عليه لا يجوز تخصيصُه، ودليل الإجماعِ: ما (¬3) ذكرناه، والله أعلم. ومما يصلح أن يكَونَ دلالةَ الإجماعِ: أنَّ الخطابَ الخارجَ ابتداء لكلِّ مكلَّفٍ، فالسائلُ من جملةِ المكلَّفين، وله خصيصةُ استحقاقِ الجوابِ عما سألَ عنه؛ لكونه محتاجاً إلى العلم بذلك، فإنَّ (¬4) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوزُ له تركُ ما يجبُ من البيانِ، والعدولُ إلى بيانِ حكمٍ لم تقع الحاجةُ إليه، ولو تسلَّطَ عليه الإخراجُ عن عمومِ اللفظِ وتناوله له كانَ نسخاً، فأمَّا تخصيصاً فلا. ومن أعظمِ الفوائِدِ: أنَّه لو لم يردِ السببُ والسؤالُ اللذان خَرجَ اللفظُ عليهما، بل نقل مجرَّدُ اللفظِ؛ لكانَ لأهلِ الاجتهادِ إخراجُ ذلكَ بدليلٍ، فلماَّ خرجَ مخرجَ السؤال؛ امتنعَ ذلك؛ لأنَّه صارَ جوابه نصَّاً ومن أخرجَ السببَ عن حكمِ اللفظِ كان ¬

_ (¬1) في الأصل: "الخاص". (¬2) في الأصل: "يعيبون". (¬3) في الأصل: "بما"، والمثبت أنسب للسياق. (¬4) تحرفت في الأصل إلى: "قال".

نسخاً، فقد تخصَّصَ السببُ بهذه الخصيصةِ، وتخصُصُه يمنعُ من كونِ اللفظِ الذي حصل جواباً عاماً، إذ لو كان له حكمُ العموم لما اختص بعضُه بحكمٍ يخرج به عن جميعِ ما شمِلَه، وما هذا مما يوجبُ قصورَ الجوابِ عليه، كالسائلِ نفسه، والوقت، والمكان، فإنَّ الحكمَ لا بُدَّ أن يتناولَ الشخص السائلَ، ثم إنَّه لا يجوزُ إخراجُه عنه، ولم يدلَّ ذلكَ على قصورِه عليه، فبطلَ أن يكونَ كلُّ ما وجبَ دخولُه وجبَ الاقتصارُ عليه. ومنها: أن قالوا: لو لم يكن قصرُ العام على السببِ والسؤالِ الخاصَّين واجباً، لما وجبَ تأخيرُ الحكمِ إلى حينِ حدوثِ السببِ، ولَماَ كان لتأخيرِ الحكمِ معنى، فلما وجَبَ تأخيرُ الحكمِ إلى حينِ حدوثِ السبب؛ عُلِمَ أنَّه مقصورٌ عليه. فيقال: ولم قلتم: إنَّه لم يؤخره إلا لأجلِ قصورِه عليه؟ فلا سبيلَ إلى جوابهم عن ذلك. على أنَّ من مذهبنا: أنَّ اللهَ سبحانَه لا يؤخِّرُ تعبداً، ولا يقدمه لعلةٍ من العللِ على ما قرَّره أئمتنا في أصولِ الدياناتِ (¬1)، مما لا يليقُ هذا الكتاب بذكرِه. على أنكم ما تنكرونَ أن تكونَ الفائدةُ في ذلكَ سبقَ العلمِ بأن التعبُّدَ عند تجددِ السؤالِ، وحدوثِ السّببِ الخاصِّ هو الأصلحُ في التكليفِ، وأنَّه لو قدم التعبّد عليهما، [أو] (¬2) أورده بعد ورودهِما، أو أورده ابتداءً، لم تقع الطاعةُ من أحدٍ من المكلفين، ولكانَ ذلكَ تنفيراً (¬3) وفساداً، وقد أشار اللهُ سبحانَه إلى ذلك فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] قال الله سبحانه: ¬

_ (¬1) فعند الجمهور لا يجب على الله سبحانه وتعالى رعاية المصالح وإنما يدرك العقل ذلك منه على سبيل الجواز. انظر تفحيل المسألة في "المسودة": 63، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي 1/ 409، و"الإحكام" لابن حزم 2/ 1126. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) في الأصل: "تفسيراً"، ولعل المثبت أنسب لاستقامة معنى العبارة.

{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان: 32 - 33] ومثل هذا لا ينكرُ أحد اتفاقَ مثلِه في المعلومِ، وإذا كانَ كذلكَ سقطَ ما قالوه من قصرِ الفائدةِ التي طلبوها على العلّةِ التي ذكروها. فإن قيلَ: الباري قد عَلمَ أنَّهم سيَسألون، فلمَ لم يقدِّم الحكم فيغنيهم عن السؤال، فيكون أبلغَ؟! لأنَّ الإغناءَ بالعطاءِ قبل السؤال افضلُ من العطاءِ بعدَ السؤالِ في بابِ المالِ، كذلكَ في بابِ العلم. قيلَ: إنَّ أفعال الحكيمِ تارةً ابتداءً ومناداةً ليغنيَ عن السؤالِ، وتارةً جواباَ ليبين محلَّ الجوابِ، والعطاءُ بتقدُّمِ الحاجةِ، وفي ذوقِ العَدَمِ والحاجةِ ما ليسَ للإغناءِ قبلَ الحاجةِ، ولا يعرفُ محلُّ الإرشادِ إلا بعدَ الضلالِ، ولا محلُّ شيء يوجدُ إلا بعد قَصدِهِ، فهو كإجابةِ دعوةٍ لشخصٍ، ثم تَعمُّ (¬1) إجابتُها مثل: أن سألَ سلامةَ زرعِه مِن الجفافِ، فأغاثَ اللهُ بمطرٍ عام، أو سألَ عافيةَ ولدِه من طاعونٍ، فأزال الله الطاعونَ عن ولده رأساً، فإنه لمَّا (¬2) عمَّ السمعَ (¬3) ودفعَ الضررَ لم يكن خاصَّاً له، وما خرجَ من ميزةِ التخصصِ بأن كان سبباً للإجابةِ. ويقالُ لهم أيضاً: ما أنتم في هذه الدعوى إلا بمثابةِ من قال: إنَه ما (¬4) اخرَ الحكمَ في جلدِ الزاني ورَجْمِه، وقطعِ السارقِ، وحكمِ اللعانِ، والظهارِ إلى حين وقوع تلكَ الأفعالِ والأقوالِ من أقوامٍ وأشخاصٍ معيَّنين في تلكَ الأوقات المخصوصةِ إلا لتعلقِه بتلكَ الأفعال من أولئكَ الأشخاصِ في تلك الأوقاتِ، وإلا فقد كانَ يمكنُ الابتداءُ بإنزالها من قبلِ حدوثِ تلكَ الأسبابِ، ولمّاَ لم يدل ذلكَ على تخصُّصِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تقع" والمثبت أنسب لسياق العبارة. (¬2) في الأصل: "لم" ولا يستقيم بها السياق. (¬3) هكذا في الأصل، ولعل كلمة "السلامة" أنسب لاستقامة المعنى. (¬4) في الأصل: "لما" ولا تستقيم بها العبارة.

* فصل: أقل الجمع المطلق ثلاثة

الأشخاصِ والأوقاتِ، كذلكَ لا يدُلُّ على تخصُّصِ الحكمِ بالأسبابِ والأسئلةِ الحادثةِ المخصوصةِ مع كونِ الألفاظِ عامةً شاملةً وصالحةً للابتداءِ، وقيامِها بنفسها. فإن قالوا: كذلكَ نقولُ. فارقوا الأمَّةَ وخرجوا من الإجماعِ، وإنْ سلموه؛ أبطلَ جميعَ ما ذكروه. ومنها: قولهم: قد اتفقنا على التخصيصِ لكلِّ لفظٍ عام يَصدرُ عن اللافظِ به بما يقصدُه من التخصيصِ، وإذا جازَ قصرُ اللفظِ العامِّ وتخصيصُه بقصدهِ، فكذلكَ وجب قصرُه على سؤالِ السائلِ، والسببِ الذي خرجَ الجوابُ عليه، والجامعُ بين قصدِ الناطقِ بالعمومِ، وبين السببِ والسؤالِ: أنَّ كل وأحدٍ منهما هو المثيرُ للنطقِ والموجِبُ له. فيقالُ: ما أبعدَ ما بينهما؛ وذلكَ أنَّ الألفاظَ إنما تصدُر عن المتكلمِ ليدل بها على مقاصدِه من عمومٍ، أو خصوصٍ، أو أمرٍ أو نَهي، أو نداءٍ إلى أنواعِ الكلام، فالكلامُ ترجمانُ مقاصدِ المتكلَم، وكما عَلِمنا به عمومَه، علِمنا به خصوصَه، وقضينا بقصدِه على لفظِه، فأمَّا لفظُ السائلِ، فإنَّما خرجَ على قصدِ نفسِه، وليس يجبُ على المجيبِ أن يبني كلامَه على ذلكَ اللفظِ الصادرِ عن غيرِه، ولو قصدَ بناءَ كلامِه على سؤالِه، لجاءَ بنطقٍ مخصوصٍ، فلما عدَل إلى ضدِّ السؤالِ فأجابَ بعموم، وهو ضدُّ الخصوصِ؛ عُلم أنَّه أرادَ الحكمَ المبتدأ الشاملَ، غيرَ المخصوصِ المقصورِ (¬1). فصل أقلُّ الجمعِ المطلقِ ثلاثةٌ، وعلى ذلكَ الإقرارُ، والنَّذرُ, والوصيةُ بالدراهمِ والدنانير, والكفارات (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 611 - 613، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 164 - 167، و"المسودة": 102 - 103. (¬2) انظر "العدة" 2/ 649، و"التمهيد" 2/ 58، و"المسودة" 149، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 490، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 144.

- فصل يجمع أدلتنا

وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة (¬1)، وأكثرُ أصحاب الشافعي (¬2). وحكي عن أصحاب مالك (¬3)، وقوم من النحاة مثل نِفْطَويه (¬4)، ومن أهل الظاهر: ابن داود الفقيه (¬5)، وبعض أصحاب الشافعي (¬6)، وأبو بكر الأشعري (¬7)، أنَّ أقلّ الجمع اثنان (¬8). فصل يجمع أدلّتنا فمنها: ما روي في ذلك عن الصحابة: فرويَ عن ابن عباس أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنهما: إنَّ الأخوين لا يحجبان الأمَّ من الثلثِ إلى السدسِ، إنَّما قال ¬

_ (¬1) انظر قول الحنفية هذا في "أُصول السرخي" 1/ 151، و"ميزان الأُصول" 1/ 427، و"كشف الأسرار"1/ 196. (¬2) وهو القول المختار عند الشافعية، انظر "التبصرة": 127، و"الإحكام" للآمدي 2/ 324، و"المحصول" 2/ 370، و"البحر المحيط" 3/ 136. (¬3) نص الأمامُ أبوالوليد الباجي في "إحكام الفصول" على أن أقل الجمعِ عند أكثر الأصحاب هو ثلاثة، وهو المشهور عن مالك رحمه الله، وقال عبد الملك بن الماجشون، والقاضي أبوبكر، والقاضي أبوجعفر السمناني: إنَّ أقل الجمع اثنان. انظر "إحكام الفصول" 1/ 153 - 154، و"تنقيح الفصول":233. (¬4) هو إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان العتكي، أبوعبد الله الأزدي، لُقب بنفطويه لشبهه بالنفط لأدمته ودمامته، كان من علماء العربية الأفذاذ، صنف "غريب القراَن" و"المقنع"، توفي سنة (323 هـ) انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 15/ 75، "طبقات النحويين واللغويين": 172. (¬5) محمد بن داود الظاهري، تقدمت ترجمته 1/ 185. (¬6) من أصحاب الشافعي الذين قالوا بان أقل الجمع اثنان: الإمام الغزالي حيث نصَّ عليه في "المستصفى" 2/ 92. (¬7) هو الباقلاني، تقدمت ترجمته 1/ 124. (¬8) انظر "الإحكام" لابن حزم 1/ 391، و"المعتمد" 1/ 231.

الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وليس الأخوانِ إخوةً في لسانِ قومِكَ. فقالَ عثمانُ: لا أستطيعُ أن أنقضَ أمراً كان قبلي، وتوارثه النَّاسُ، ومَضَى في الأمصارِ (¬1). ولولا أنَّه مقتضى اللغةِ لما احتجَّ به ابنُ عباس، ولما سمعه عثمانُ منه، وما قابله عثمانُ إلا بمجرّدِ سيرةِ غيرِه، وما نازعَه في مقتضى اللفظِ، وهما من فصحاءِ العربِ وأربابِ اللسانِ. فإن قيل: فقد رُويَ خلافُ ذلكَ عن زيدِ بن ثابت، فقال: الأخوانِ إخوة (¬2). ورويَ عنه أنَّه قال: أقلّ الجمعِ اثنانِ (¬3). فتقابلَ القولان. قيل: إن صحَ ذلك عنه؛ فمعناهُ: أنَّهما يجريانِ مجرى الجمعِ في حَجبِ الأمِّ. وقولُه: أقلُّ الجمعِ اثنان، يعني أوّل وأقلُّ ما يجتمعُ شيءٌ إلى شيءٍ، فهذا من الاجتماعِ، فأمَّا الجمعُ؛ فإنَّه ليسَ من التثنيةِ في شيءٍ من حيثُ اللغةُ والوضعُ. ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ فرَّقوا بين الواحدِ والاثنينِ والجمعِ، فقالوا: رجلٌ، ورجلانِ، ورجالٌ. وأوقعوا اسم رجال على ما زادَ أيضاً على الثلاثةِ وإن كثرَ، فلو كانَ اسمُ الاثنينِ جمعاً كالثلاثة، لقالوا في الاثنين: رجالٌ. كما قالوا: رجالٌ، في الثلاثةِ وما زادَ عليها من الأعدادِ. فإن قيل: ليس انفرادُ الاثنين باسم خاص مانعاً من أن يجتمعَ مع الثلاثةِ في الاسمِ الأعمِّ، وهو الجمعُ، كقولنا: أسدٌ, اسمٌ يخصُّ البهيمةَ المخصوصةَ (¬4)، ثم إنَه لا يمنعُ ذلك من اجتماعِه وغيرِه في الاسمِ الأعمِّ، وهو سَبُعٌ، فالاثنانِ تحتَ ما زاد عليها، كالأسدِ تحت الاسمِ الأعمِّ، وهو السبُع الموضوعُ للجملةِ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة 269 من هذا الجزء. (¬2) أخرجه البيهقي 6/ 227، والحاكم 4/ 335. (¬3) انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 226، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 59. (¬4) في الأصل: "المخصوص".

- فصل في جمع الشبه التي لهم

قيلَ: الأسدُ والسَّبُعُ لم يوضع للتمييزِ بينَ شيئينِ، وإنَّما وُضِعَ أحدهما للجنسِ، والآخرُ للنوعِ الذي تحتَ الجنسِ، وليس كذلكَ لفظ التثنيةِ والجمعِ؛ لأنَّهما وُضعا للتمييزِ بين نوعينِ مختلفينِ من العددِ، فصارا من أسماءِ الحيوانِ، كالأسدِ، والحمارِ, والفرسِ، والنَّمرِ. يوضِّحُ هذا: أنَّه لو كان هذا قد وُضِعَ كذاك، لقالوا في الكُّلِّ: جمعٌ، وقالوا: تثليثٌ، وتربيعٌ، وتخميسٌ، وتسديسٌ، وتسبيعٌ، ولَما قالوا في الكُليِّ سَبُعٌ، ووضعوا لما تَحته أسدٌ، ونمرٌ, وفهدٌ، وذئبٌ (¬1). ومنها: أنَّ من خصائصِ الحقائقِ: أنَّه لا يجوزُنَفي (¬2) الموضوع عنها، ومن خصيصةِ المجازِ حُسنُ النفي، فلا يقالُ في النَّهَّاق: ليس بحمارٍ. ويقالُ في الرجلِ البليد: ليس بحمارٍ، لكنَّه إنسانٌ بليدٌ. وفي مسألتنا يحسُنُ أن يقولَ القائلُ من العربِ: ما رأيتُ رجالاً, لكن رأيتُ رجلينِ، كما يحسُنُ أن يقولَ: [ما] (¬3) رأيتُ رجلينِ، لكن رأيتُ رجلاً. ولا خلافَ بيننا وبينَ من خالفنا من أصحابِ الشافعيِّ أنَّه إذا قالَ: له عليَّ دراهمُ. أنَّه يلزمه ثلاثة فصاعداً، حسبَ (¬4) ما يُفسِّر، ولو فسَّره بدرهمين؛ لم يقبل، ولو كانَ أقلُّ الجمعِ اثنينِ؛ لقبل منه التفسيرُ بهما (¬5). فصل في جمع الشُّبهِ التي لهم فمنها: قوله تعالى لموسى وهارون: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} [الشعراء: 15] وأرادَ به: موسى وهارون. وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَينَ ¬

_ (¬1) انظر "العدة"2/ 652، و"التبصرة": 129. (¬2) في "الأصل": "النفي"، والمثبت أنسب للسياق. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) في الأصل: "حسن". (¬5) انظر "العدة" 2/ 652، و"التمهيد" 2/ 60.

أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، بعد قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 21 - 22]، وكانا مَلكين، وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وأراد به: الأخوين، وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83]، والمراد به: اثنان، وقوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، فجمعهما، وهما اثنان. فيقالُ: أمَّا الآيةُ الأُولى؛ فالمرادُ بها: موسى وهارون وفرعونُ، مستمعونَ ما تقولا ويقالُ لكما. وقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فالمرادُ به: بينَ كلِّ اثنينِ من المؤمنينَ. وقوله: {الْخَصْمِ} [ص: 21]، فيقالُ: واحدٌ خصمٌ, واثنانِ خصمٌ, وثلاثةٌ خصمٌ. وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]، فالظاهرُ أنَّه أرادَ الثلاثةَ، لكن صُرف عن ظاهرِها بدلالةٍ. والمرادُ بقوله: {عسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] يوسف، وبنيامين، وشمعون الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] وأمَّا قولُه: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء: 78]، فإنَّما أرادَ به: حكمَ الأنبياءِ كلهم، ويحتملُ أنَّه أرادَ داودَ وسليمانَ والمحكومَ له. ومنها: ما رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "اثْنانِ فما فَوقهما جماعةٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (972)، والدارقطني 1/ 280، والحاكم 3/ 334، والبيهقي 3/ 69، من حديث أبي موسى الأشعري، وانظر "نصب الراية" 2/ 198، و"التلخيص الحبير" 3/ 81.

والجوابُ: أنَّه حجةٌ لنا من وجهٍ، وهو أنَّه لو كانَ ذلكَ جمعاً في اللغةِ، لما احتاجوا إلى بيانِه فإنَهم في اللغةِ مثلُه، فلم يبقَ إلا أنَّه بينَ ما يخصُه ولا يشاركونه فيه، وهو الحكمُ، فكأنه بين أنَّ ذلك جمعٌ في الصلاة (¬1). ومنها: أنَّ الجمعَ عبارة عن اجتماعِ شيءٍ إلى شيءٍ، وانضمامِه إليه، وهذا أوَّلُ ما يوجدُ ويتحققُ فى الاثنينِ، ثم يترقَى إلى ما زادَ، فلا يجوزُ أن يُسلَب الاثنانِ الجمعَ مع تحقُق معناه فيهما. فيقالُ: إنَّ وجودَ الاشتقاقِ لا يدُّلُ على أنَّه حقيقةٌ فيه، لكنْ كما أنَّ الحُبَّ (¬2) والجرّةَ يوجدُ فيهما استقرارُ المائعاتِ التي تختص بهما (¬3)، كالخلِّ والدِّبسِ والماءِ، حسب ما يستقرُّ الدُهنُ في القارورةِ، ولا يُطلقُ على الحُبِّ والجرةِ اسمُ قارورة، وكذلكَ الدابَّة سُميت به؛ لأنَّها تَدِبُّ، ولا يُسمَّى بذلك الإنسانُ، ولأنَه قد حسُنَ نفيُ الجمعِ، فيقالُ: ليسا برجالٍ، لكنَّهما رجلان، كما قالوا: ليس بقارورةٍ لكنّه حُبٌّ أو خابِيةٌ، ولم تَقل العرب ذلك فى الحقيقةٍ قط. ومنها: قولهم: إنَّ العربَ تتصرفُ في اسمِ الاثنينِ بالاجتماعِ والتفرّقِ والجمعِ، فتقولُ: جمعتُ بين زيدٍ وعمروٍ, فاجتمعا. وهما مجتمعانٍ، فافترقَا. والفرقُ ضدّ الجمعِ، ويقال: اجتمعَ الرجلُ بزوجتِه. كما يقالُ: اجتمعَ النَاسُ، واجتَمع العسكرُ وتفرقوا. وهذا من آكدِ علاماتِ الحقيقةِ، وهذا لأنَّ الاجتماعَ والجمعَ من بابِ المتضايفاتِ (¬4)، وذلك يصِحُّ في الاثنينِ حقيقةً، ولا يصحُ في الواحدِ، وما زادَ على الاثنينِ مضاعفةً ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 658، و"التبصرة": 130. (¬2) الحُبَّ؛ الجرَّة الضخمة، أو الخابية التي يجعل فيها الماء. "اللسان": (حب). (¬3) في الأصل: "تخص بها". (¬4) وهي ما كان تصوركل واحد من الأمرين موقوفاً على تصور الآخر انظر (التعريفات) للجرجاني: 53 وما تقدم في 1/ 352.

وزيادةً على ما تحتاجُ إليه الحقيقةُ. فيقالُ: ليسَ في هذهِ الطريقةِ إلا ما في الأولى منَ الاشتقاقِ، والتصرُّف يحصُلُ في الحقائقِ والمجازِ جميعاً، فيقالُ: خَبأتُ في الخابية، وخبأتُ في الصُّندوقِ، واستقرَّ الدُهنُ في القارورةِ، واستقرَ الماءُ في الخابية والدَّنِّ (¬1) والقِربةِ، ويقولُ العظيمُ: فعلنا، نفعلُ، وسَنفعلُ، ولم يدُل على كونِ الصندوقِ خابيةً، ولا الحب قارورةً، ولا العظيم من الناس جماعةً، لكن (¬2) لماّ كانَ في حصولِ الشيء في الصندوق نوعُ خَبْءٍ لما (¬3) يُجعلُ فيه، كما أن، (4) فيما يُجعلُ في الخابيةِ نوعُ خَبْءٍ؛ قيل: خَبَأت، ولم يقل: الصندوقُ خابية، و [لمّا] (¬4) كان في حصول الماء في الحُب استقرار والحب له قرارٌ، قيلَ: استقر فيه الماءُ يستقر ولم يُسمَ قارورةً، وحيثُ كانَ العظيمُ إذا فَعل، فَعَلَ بِفِعْلِه أتباعُه، وهم جَمعٌ؛ دخلَ عليه نونُ الجمعِ، ولم يدُل ذلكَ على أنَّ العظيمَ جماعةٌ، ولا الصندوقَ خابيةٌ، ولا الحُب قارورةٌ لغةً، كذلكَ تصرفُهم في الجمع في بابِ الاثنينِ لا يدُل على أنَهما جماعة، ولا جمع حقيقةً، على أن التفرُقَ لم يوضعْ لأقلِّهِ وأكثرِه وَضعٌ في اللغةِ، وها هنا قالوا: تأحيدٌ وتثنيةٌ وجمعٌ (¬5). ومنها: قولُهم: إنَّ الاثنينِ يُخبرانِ عن أنفسِهما بلفظِ الجمعِ، فيقولانِ: قمنا، وقَعدْنا، وضَربْنا، وأكلْنا. كما تقولُ الجماعةُ عن أنفسِهم، ولا يحسنُ أن يصدرَ ذلكَ من الواحد لماّ عُدِمَ فيه الجمع، وإن قالَه العظيمُ قاله لِماْ يقدرمِن فعلِه ومِن فِعلِ أتباعِه معهُ وبأمرِه. ¬

_ (¬1) الدن: هو ما عظم من الرواقيد كهيئة الحُب إلا أنه أطول، وهو ما تحفظ فيه المائعات "اللسان": (دنّ). (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "لكان". (¬3) في الأصل: "لم"، والمثبت هو الصواب. (¬4) زيادة يقتضيها السياق. (¬5) انظر "العدة" 2/ 658، و"التمهيد" 2/ 65، و"التبصرة": 130.

* فصل إذا كان أول الآية عاما وآخرها خاصا فالعموم على عمومه والخصوص على خصوصه ولا يقضى بتخصيص أولها لأجل تخصيص آخرها

فيقالُ: إنَّ هذا لا يدلُّ على أنَّ التثنيةَ جمعٌ، وأنَّهما سواءٌ في حقيقةِ الجمِعِ، كالمؤنَّثينَ؛ نقولُ في إخبارهما كما نقولُ في الذكور: فعلنا، ولا يدلُّ على أن جمعَ المؤنَّثِ والمذكرِ سواءٌ، ولا تثنيتُهما سواءٌ. على أنَّهما إنْ كانا في الإخبارِ عن أنفسِهما سواءٌ، فالإخبارُ عنهما يخالفُ الإخبارَ عن الجماعةِ، فيقالُ: قاما، وقَعدا، وضَربا. ويقالُ في الثلاثةِ: قاموا، وقعدوا، وضربوا. ويقالُ في الإناثِ: قُمْنَ، وقعدْنَ، وفي الاثنتينِ: قامَتا، وقعدتَا، وأكلَتا، وضربتَا، ويقالُ في الإناثِ: هي، وهما، وهنَّ، وفي الذكور هو وهُما، وهم، فقد تقابلا. فصل قال أصحابنا: إذا كان أوّلُ الآية عامَّاً، وآخرُها خاصَّاً، فالعمومُ على عمومِه، والخصوصُ على خصوصِه، ولا يقضى بتخصيصِ أولها لأجلِ تخصيصِ آخرها (¬1). قالوا: وذلكَ مثلُ قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، والمرادُ به كل الحرائرِ من المطلَّقاتِ؛ بوائنَ أو رجعياتٍ، وقال في آخرها: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [لبقرة: 228]، يرجعُ إلى الرجعياتِ، فالأوَّلُ على عمومِه، والآخرُ خاصٌ في الرجعياتِ، وكذلكَ قولُه تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ} (¬2) الى قوله {زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 48]، فالكل يأتونَ فُرادى كما خلقَهم، وليسَ كلُهم زعموا أنْ لا موعدَ، فأوَّلُها عامٌ، وآخرُها خاصٌ، وقد أخطأ من أطلَق ذلكَ إطلاقاً مع كونِ المذهبِ حملَ العام على الخاص في الآيتين، فكيفَ لا يمضى بخصوصِ آخرِ الآيةِ على عمومِ أوَّلها، وآخرُها إلى أوَّلها أقرب من آيةٍ أخرى؟ ¬

_ (¬1) انظر بسط هذا الفصل في "العدة" 2/ 614، و"التمهيد" 2/ 167، و" المسودة": 138. (¬2) استشهد المصنف رحمه الله هنا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] وهي ليست محط الشاهد، وإنما المقصود بداية الآية 48 من سورة الكهف.

* فصل: إذا تعارض آيتان أو خبران وكان أحدهما عاما والآخر خاصا فإنه يقضي بالخاص على العام

[فيقال] (¬1): فأمَّا الآيتانِ المذكورتانِ ها هنا، فإنَّ الدلالةَ فى دلَّت على منعِ البناء، وقطع قضاءِ الخُصوصِ على العموم -لأنه ليس كُل الناس جحدوا البعث، ولا كلُّ متربصةٍ تردُّ إلى النّكاحِ -بدلائل، فلا يجوزُ أن نَجعلَ ذلكَ مذهباً، والفصلُ الذي يليه يُبطل إطلاقَ هذا الفصل، وإنما ذكرتُه ليجتنبَ الخطأُ منه، وهو الإطلاقُ. وإنَّما لم يقضَ بالخاصِّ على العام في الأوَل، لدليلِ امتناعِ الرد في حقَ البوائنِ، وحكمنا بايجابِ العدّةِ في حقَ المطلّقاتِ كلَهن؛ لأنَّ العدةَ لا تقفُ على الرجعياتِ، بل البوائنِ كذلكَ، والرجعةُ والردُ تقف على الرجعياتِ. وهذا أصلٌ واضحٌ بيناه في أنَّ الكلامَ يُبنى بعضُه على بعض مهما أمكن، فإذا لم يُمكن قُطعَ. فصل إذا تعارضَ آيتانِ أو خبران، وكان أحدُهما عامَّاً، والآخرُ خاصَّاً، فانَه يقضى بالخاصَ على العامِ إذا كان بينهما تَنافٍ، سواءٌ تقدم العامُ على الخاص، أو تأخرَ عنه، أو جُهِلَ التاريخُ رأساً، فلم يُعلَمْ أيهما تقدم، أشارَ إليه أحمدُ في عدّةِ مواضعَ (¬2)، وذلكَ مثلُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) انظرها في "العدة" 2/ 615 - 620، و"المسودة" 135. وقد وردت رواية عن الإمام أحمد، توهم بادىء النظر أن العام يقضي على الخاص إذا كان ورود العام متأخراً، حيث جاء في رواية عبد الله عن الإمام أحمد: "نستعمل الأخبار، حتى تأتي دلالةٌ بأنَّ الخبرَ قبلَ الخبر فيكون الأخير أولى اْن يؤخذَ به". وتأوَّل القاضي أبويعلى هذه الرواية؛ في حال كون الخبرين خاصّين، وقد تعارضا، فيكون الأخذ بالأخير أولى، أما إذا كان أحدهما عامَّاً، والآخر خاصاً، والخاصُّ ينافي العام، فإنَّ الخصوص يقضي على العموم. انظر "العدة" 2/ 620، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 150.

[المائدة:5]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا قَطعَ إلا في رُبع دينار" (¬1)، و"لا قطعَ في ثَمرٍ ولا كَثر حتى يأويَه الجرين" (¬2). وقال [به] (¬3) أكثرُ أصحابِ الشافعي (¬4)، سوى أبو بكر الدقاق، فإنَّه قالَ: لا يقضى بالخاصِّ على العام، بل يتعارضُ الخاصُّ وما قابله من العامِّ. وهو اختيارُ أبي بكرٍ الأشعري (¬5). وقالَ أصحابُ أبي حنيفةَ -فيما حكاه الجُرجانيُّ عنهم-: إنْ كانَ العامُّ هوَ المتقدم، كانَ الخاصُ المتأخرُ ناسخاً لبعضه، وإن كانَ العامِّ هو المتأخر كان ناسخاً لجميعِ الخاص (¬6). وإن لم يُعلمْ التاريخُ: فقد ذكر عيسَى بن أبان أنَّه على أربعةِ أقسامٍ (¬7): ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها، أحمد 6/ 36، والبخاري (6791)؛ ومسلم (1684)، وأبوداود (4383) و (4384)، وابن حبان (4455)، و (4459) و (4464)، والدارقطني 3/ 189، 190، والبغوي (2595)، والبيهقي 8/ 254، 255، 256. (¬2) تقدَّم تخريجه 2/ 96. والجَرِين: هو موضع تجفيف التمر, وهو له كالبيدر للحنطة، ويُجمع على جُرُن. "النهاية" لابن الأثير 1/ 263. (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) انظر"التبصرة": 151، و"المستصفى" 2/ 102، و"المحصول" 3/ 106، و"الإبهاج" 2/ 169، و"الإحكام" للآمدي 2/ 318، و"البحر المحيط" 3/ 409. (¬5) انظر "التبصرة": 151، و"شرح اللمع" 1/ 363. (¬6) المقصودُ بالتقدم والتأخر هنا: أن تردَ الآيةُ الخاصة بعد استقرار حكم الآية العامة والتمكن من فعله، أو يستقرَّ حكم الآية الخاصة ثم تنزل الآية العامَّة بعد ذلك. فحينئذ تكون الآية المتراخية تراخياً زمنياً ناسخة للآية المتقدِمة، نسخاً جُزئياً؛ إن كانت المتأخرة خاصة، أو كليًّا؛ إن كانت الآية عامَّة. وهذا مذهب الحنفية في حال العلمِ بتاريخ ورود الآية العامة والخاصَّة. انظر "الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 381 - 407 و"أُصول السرخسي" 1/ 33، و"ميزان الأصول" للسمرقندي 1/ 474 - 478. (¬7) "الفصول في الأصول" 1/ 407 - 420.

إن كان النَّاسُ قد عملوا بهما جميعاً؛ وجبَ استعمالُهما، وترتَّبَ العامُّ على الخاصِّ، مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعِ ما ليسَ عندَه (¬1)، ورخَصَ في السلَم (¬2). وإن كان اتفاقُهم على استعمالِ أحدِهما؛ عُمِلَ بما اتفقوا عليه، والآخرُ منسوخٌ، وذلكَ مثلُ قوله: "فيما سقت السماء العُشر" (¬3)، وقوله: "ليسَ في الخَضْراواتِ صدقةٌ" (¬4). العامُ؛ تَلَقته الأمةُ بالقبولِ، والخاصُّ؛ مختَلَف في حكمِه والعملِ به، فلم يقضَ به على المتفقِ عليه. وإن كانوا اختلفوا في ذلكَ، فعمِلَ بعضٌ بأحدِ الخبرينِ، وعامَّةُ الفقهاءِ خالفَه ويُنكرُ عليه؛ فالعملُ على ما عليه العامةُ، وسقطَ العملُ بالآخر. وإن كان الخبرانِ مما يتعلَق الحكمُ بهما ويسوغُ الاجتهادُ في الحكمِ الذي تضمَّنه كلُّ واحد من الخبرينِ، ولم يظهرْ من الصحابةِ العملُ بأحدِ الخبرينِ، فالواجبُ المصيرُ إلى الاجتهادِ في تقديمِ أحدِهما على الآخرِ، واستعمالُ كل منهما فيما يَقتضيه، ¬

_ (¬1) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، فأبيعه منه، ثم ابتاعه من السوق؟ فقال: "لا تبع ما ليس عندك". أخرجه أحمد 3/ 402، والترمذي (1232)، وأبوداود (3503)، والنسائي 7/ 289، وابن ما جة (2187). (¬2) السَّلَم: هو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوضِ موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى: سلفاً، انظر "المغني" لابن قدامة 6/ 384. وأحاديث الرخصة في السلم كثيرة، انظرها في "التلخيص الحبير" 3/ 32، و"نصب الراية"4/ 45. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 189. (¬4) عن معاذ رضي الله عنه، أنَّه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله عن الخَضْراوات، وهي البقول، فقال: "ليس فيها شيءٌ" أخرجه الترمذي (638)، والبيهقي 4/ 99، والدارقطني 2/ 99. وأخرجه الدارقطني من حديث عليّ رضي الله عنه أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " ليس في الخضراوات صدقة، ولا في العرايا صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، ولا في الجبهة صدقة". والجبهة هي الخيل والبغال والعبيد."سنن الدارقطني" 2/ 95.

- فصل في جمع أدلتنا

ومعنى هذا عندَهم: أنَّهما يسقطانِ، ويرجعُ إلى دليلِ غيرِهما. وقالَ أبو بكرٍ الأشعري: إذا جُهلَ التاريخُ؛ وجبَ التوقفُ فيهما (¬1). فصل في جمعِ أدلّتنا فمنها: قولُه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فهذهِ الآيةُ عامَّة في كل زانِ وزانيةِ، قضينا عليها بالآية الخاصةِ في الإماءِ، وهي قولُه تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وإجماعُ الأمَّةِ على تخصيصِ الأولى بالثانية، إجماع على حملِ العام على الخاصِّ، فهو حجّةٌ لنا، ولا عذر لهم. ومنها: أنَّ الخاصَّ يتناولُ الحكمَ المتناوِلَ له بصريحهِ، والعامُّ يتناولُ الحكمَ بظاهره المحتَملِ، والصريحُ مقدم على الظاهر وصار الصريحُ في الخصوصِ كالإشارةِ، فإنه لو قالَ: لا تضرب هذا العبدَ. وقال بعد ذلكَ: اضرب عبيدي. فإنَّ المشارَ إليه بالمنعِ من الضربِ لا يدخلُ في عمومِ قوله: اضرب عبيدي. لمكانَ تخصيصِه، كذلك التخصيصُ بالقولِ المنبىء عن إخراجِ المخصوصِ عن جملةِ العمومِ (¬2). ومنها: أنَّ في حملِ العامِّ على الخاصِّ جمعٌ بين الدليلينِ وعملٌ بهما، وهذه الأدلةُ إنما وُضِعت للاستعمالِ، فلا يجوزُ تعطيلُها مهما أمكن، ومن أخذَ بالعمومِ؛ أسقطَ الخصوصَ، ومن وقفَ؛ تركَ العملَ بدليلِ الشرعِ. ومنها: أنَّ كلامَ صاحبِ الشريعةِ يُبنى بعضُه على بعضٍ، ويُجعلُ مفرَّقه ¬

_ (¬1) وبهذا القول قال بعض الحنفية، نص عليه في "ميزان الأصول" 1/ 477، وانظر قول ابى بكر الباقلاني في"المستصفى" 2/ 104، و"البحر المحيط" 3/ 410. (¬2) انظر "العدة" 2/ 623، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 384.

- فصل في شبههم

كالمتَّصلِ، فإذا قال: اقتلوا المشركينَ، ولا تقتلوا أهلَ الكتابِ إذا دفعوا الجزية. وجبَ أن لا يعطل الخصوصُ، كذلك إذا فرَّق بينهما. ومنها: أنَّ مخالفنا قد جوَّز تخصيصَ العام بالقياسِ، وما ذلكَ إلا لأنَّ القياسَ يقتضي الحكمَ بخصوصِه، والقياسُ فرعٌ من الخبرِ يستنبطُ منه، فَلأنْ يجوزَ التخصيصُ بالخبرِ الخاصِّ أولى. ومنها: أنَّه دليلٌ عامٌّ قابلَه دليلٌ خاصٌّ، وليسَ في تخصيصِه إبطالٌ له، كخبرِ الواحدِ إذا وردَ مخالفاً لدليلِ العقلِ، فإنَّه يخصُّ بدليلِ العقلِ؛ لأنَّ الخاصَّ أقوى من العامِّ، كذلكَ ها هنا. فصل في شُبَههم فمنها: أنْ قالوا: ليسَ الخاصُّ فيما تناولَه بأولي ممَّا عارضَه من العامِّ، فوجَبَ التوقفُ فيه. فيقالُ: كلا، بل الخاصُ فيما تناوَله أولى من العامِّ؛ لأنَّ الخاص يقتضى الحكمَ بصريحِه على وجهٍ لا احتمالَ فيه، والعامّ يتناولُه بظاهرِه وعمومِه على وجهٍ يحتمل أن يكونَ المرادُ به غيرَ ظاهرِه، فوجبَ تقديمُ الأرجحِ منهما، وهذا دأبُ المستدلِّين في الأدلة، يقدِّمونَ الأظهرَ فالأظهر ولهذا قُدمَ دليلُ العقلِ على عمومِ خبرِ الواحدِ، ولأنَّ فيما قلناه استعمالَ الدليلين والعملَ بهما، وفيما قَاله الخصمُ إسقاطُ أحدِهما، فكانَ العملُ أولى من التعطيلِ (¬1). ومنها: أنْ قالوا: إذا كانَ العمومُ متقدماً والخصوصُ متأخِراً، فإنَّما قلنا: يكونُ ناسِخاً لبعضِه؛ لأن بيانَ العمومِ لا يجوزُ تأخيرُه عن حالِ وروده، فاذا وردَ متأخِراً ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 149.

عنه، لم يجُز أن يقعَ موقعَ البيانِ، فلم يبقَ إلا أن يكونَ ناسخاً له. فيقالُ: إنَّ العمومَ، وإن كانَ يفيدُ الحكمَ في جميعِ المسمَّيات، فقد بينا انَه إنَّما يفيدُ ذلكَ من طريقِ الظاهر ويحتملُ أن يكونَ المرادُ به غيرَ ما تناوَله الخاصُّ، والخاصُّ يتناولُ ما تناولَه بصريحِه من غير احتمال، فوجبَ القضاءُ به عليه، وتأخيرُ بيانِه يجوزُ, وفيه فائدةٌ كبيرةٌ بأنْ يعتقدَ المكلفُ ذلكَ ويعزمَ عليه فيقعُ له ثوابُ العزمِ إلى أن يأتيَ دليلُ الخصوصِ، ويعتقد الخصوص ويعمل به إذا وقعَ ابتداءً قبل العمومِ (¬1). ومنها: أنَّه لو أرادَ استثناءَ الأولِ من العمومِ الثاني لذكرَه ونبه عليه؛ لعلمِه باعتقادِ أهلِ اللّغة عمومَه بكونِ الصيغةِ موضوعة للشمولِ، فلما لم يُبَين ذلكَ كانَ الظاهرُ أنَّه رافعٌ للأوَّلِ، فيكون العمومُ الثاني ناسخاً للخصوصِ المتقدِّمِ عليه، هذا هوَ الظاهرُ. فيقالُ: إنما أخَّره؛ لأنَه يجوزُ تأخيرُ بيانِه، وإذا جازَ تأخيرُ البيانِ، فلا فرقَ بين ذكرهِ معَهُ أو قبلَه أو بعدَه، ولا نسلِّم أنَّ أهلَ اللغةِ يعتقدونَ عمومَ الصيغةِ مع تقدم الخصوصِ، بل الخصوصُ المتقدّمُ ممهِّدٌ عندَهم أنَّ العموم الثاني لايدخلُ على الخصوصِ المتقدِّم. ومنها: أنَّ العمومَ المتفق على استعمالِه في الشمول وأستغراقِ الجنسِ قد صار معلوماً كالنَّص، وصارَ يتناولُ كل واحدٍ من الجنسِ، فصَاركما يتناولُ كل واحد على الانفرادِ، ومعلوم أنَّه لو قال: اقتلوا المشركينَ، ولا تقتلوا أهلَ الكتابين. ثم قالَ: اقتلوا زيداً، وعَمراً، وبَكراً، وخالداً، وسالماً، وما زالَ يذكرُ أعيانَ المشركينَ واحداً بعدَ واحدٍ بأسمائهم الخاصَّةِ، وفيهم أهلُ الكتابينِ، قضى اللفظُ الشاملُ لأعدادِهم، فعمَّهم بالقتلِ قاضياً على الخصوصِ الأوَّلِ، كذلكَ ها هنا. فيقالُ: ليس ذكرُ الأعدادِ والآحادِ على الإفرادِ منْ قبيل العموم الشامل لهم ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 21/ 624.

* فصل: إذا تعارض خبران كل واحد منهما عام من وجه وخاص من وجه آخر فهما سواء على الإطلاق

بشيءٍ، ألا ترى أنَّه إذا ذكَرَ الأفرادَ والأعدادَ والأشخاصَ واحداً واحداً، وأفاضَ عليهم حكماً واحداً لم يَجُز أن يخصَّ بعضَ تلكَ الأشخاصِ بقياسٍ، ويكونُ إخراجُ بعضِهم نسخاً للحكمِ لا تخصيصاً، ولما جَازَ أن يردَ العمومُ في الخبر المتسلِّط على تخصيصِه دليلُ العقلِ، فلمّا وردَ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] أمكنَ تخصيصُه بدليلِ العقلِ؛ لأنَه لا يدخلُ فيه الكلامُ والإرادةُ، فلو قال بدلاً من العمومِ: خالقُ كلامِه وإرادتِه، لم يمكنا دفعُ ذلكَ بدليلِ العقلِ، لكنَا نعْدِلُ إلى تأويلِ إضافتِه، ولا يمكننُا أن ننفي الخلقَ كما أثبتَه، بل نقولُ: خالقُ كلامٍ وإرادةٍ، أضافها إليه إضافَة مُلْك، لا إضافةَ صفةٍ من صفاتِه، وكنا بالنصِّ قائلينَ ما قال المعتزلةُ بشبهِهِم العقلية، ولو قالَ: تدمِّرُ كل شيءٍ من سماءٍ وأرضٍ وجبالٍ، لما أمكننا أن نُخرج شيئاً من ذلكَ بدليلٍ، لأنَّه يكونُ عينَ التكذيبِ للخبر، ولماّ قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، ولم يذكر أعيانَ السماءِ والأرضِ [أمكننا إخراج شيءٍ بدليل] (¬1)، لأن لفظَ العموم يتناولُ آحادَ الجنسِ وأنواعَه تناولاً بظاهرِه لا بصريحهِ، والمفردُ من الأشخاص يتناولُ الحكمَ بصريحِه، فافترقا. فصل إذا تعارضَ خبرانِ، كل واحدٍ منهما عام من وجهٍ، وخاصٌّ من وجه آخر؛ فهما سواء على الإطلاقِ، إلا أن تقومَ دلالةٌ فتوجب تقديمَ أحدِهما على الآخر (¬2). مثالُه: قوله صلى الله عليه وسلم: "من نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها فليصلها إذا ذكرها" (¬3)، وقوله: "لا ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) راجع هذه المسألة في "العدة" 2/ 627، و"المسودة": 139، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 384. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 168.

* فصل: إذا تعارض آيتان أو خبران أحدهما عام والآخر خاص، أو أحدهما مطلق والآخر مقيد، قهل يقضى بالعام على الخاص والمطلق على المقيد

صلاة بعد العصرِ حتى تغربَ الشمس" (¬1). فالأول: خاصٌ في الفائتةِ، عامٌّ في الأوقاتِ، والثاني: عامٌّ في الصلوات، خاصٌّ في الوقتِ، نصّ عليه أحمد في القَضايا (¬2) بما ذكرنا في هذين الخبرين بعينهما على الوجه الذي ذكرناهما في المثال، وبه قال أصحاب الشافعي (¬3). وقال أصحاب أبي حنيفة: يقدم الخبرُ الذي فيه ذكرُ الوقتِ وجوازُ فعلِ الصلاةِ، ذكره الجرجاني عنهم (¬4)؛ لأن الخلافَ واقعٌ في الوقتِ، وجواز فعلِ الصلاةِ فيه، فقُدَّمَ ما فيه ذكرُ الوقتِ لتناوله المقصودَ. لنا: أنَّ كل واحدٍ منهما قد تناولَ ما وقعَ الاختلاف فيه، فإنَّ الخلافَ واقعٌ في الوقتِ، وجوازِ فعلِ الصلاةِ فيه، وكلُّ واحدٍ منهما خاصٌّ فيما فيه اختلافٌ من وجه وعامّ فيما فيه اختلافٌ فتساويا (¬5). فصل إذا تعارضَ آيتانِ أو خبرانِ، أحدُهما عامٌّ، والآخرُ خاصٌ، والخاصُّ موافقٌ للعامِّ، أو أحدُهما مطلقٌ والآخرُ مقيَّدٌ، فهل يقضى بالعامِّ على الخاصِّ، والمطلقِ على المقيَّد (¬6)؟ ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مالك في "الموطأ" 1/ 221، وأحمد 1/ 462 و529، والبخاري (388)، ومسلم (825)، والنسائي 1/ 276، وابن حبان (1543)، والبيهقي 2/ 452. بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمسُ، وعن الصلاة بعد الصبعِ، حتى تطلع الشمس". (¬2) أي: في الفوائت التي تُقضى. انظر"مسائل الإمام أحمد" برواية عبد الله: 104 - 105. (¬3) نص على ذلك أبوإسحاق الشيرازي في "التبصرة": 160 (¬4) انظر "العدة": 2/ 627، و"فواتح الرحموت"1/ 345 - 346. (¬5) انظر "العدة" 2/ 627 - 628. (¬6) انظر هذا الفصل في "العدة" 2/ 628 و"التمهيد" 2/ 177، و"المسودة": 142، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 395.

اعلم أنَّ ذلكَ على أربعةِ أضرُبٍ: أحدُها: أن يكونَ الحكمُ والسببُ واحداً، مثل أن يكونَ في كفارةِ القتلِ رقبةٌ مؤمنةٌ، ثم يذكرُ القتلَ في آيةٍ أخرى، فيقولُ: رقبةٌ ولا يذكرُ مؤمنةً، فإنَّه يجب بناءُ المطلق علي المقيَّد، ويقضى بالزيادةِ، ويكونُ مثلُ أن يذكرَ أحدُ الرواةِ أنَّه صلى الله عليه وسلم دخلَ البيتَ وصلَّى (¬1)، ويروي الآخرُ: دخل البيتَ وما صلَّى (¬2). وأن يكون الحكم والسبب واحداً، إلا أن أحدهما خاص، والآخر عام، ولم يكن للخاص دليلٌ، فإنَّ الخاصَّ داخلٌ في العام، وهو بعض ما شملَه العمومُ، ويكون ما تناولَه الخاصُّ ثابتاً بالخاص والعامَ وما زاد على ذلك ثابتاً بالعام وحدَه دونَ الخاص، مثالُه: ما رويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَنْ أفطر في رمضانَ، فعليه ما على المُظاهِر" (¬3) ¬

_ (¬1) المقصود بذلك دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة والصلاة فيها، وقد روى إثبات صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة، ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه من حديثه: مالك في "الموطأ" 1/ 398، وأحمد 2/ 45 و46 و82، والبخاري (505) و (1598)، ومسلم (1329) (393) و (394)، وأبوداود (2023)، وابن ما جه (3063)، والنسائي 2/ 33 - 34 و2/ 63، والبيهقي 2/ 327 - 328، وابن حبان (3200) و (3202) و (3203) و (3204)، و (3205). (¬2) الذي روى عدم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الكعبة هو ابن عباس رضي الله عنهما، وقد أخرجه من حديثه: أحمد 1/ 237، والبخاري (398)، ومسلم (1330) و (395) و (1331) (396)، والنسائي 5/ 220 - 221، اوبن حبان (3207) و (3208)، والبيهقي 2/ 328. ووجه الجمع بين حديث ابن عمر وحديث ابن عباس: أن يُجعل الخبران في فعلين متباينين، فيقال: إنَّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لما فَتح مكة، دخل الكعبة فصلى فيها على ما رواه ابن عمر ويجعلُ نفيُ ابن عباس صلاة المصطفى في الكعبة في حجته التي حج فيها، حتى يكونا فعلان في حالتين متباينتين. فإذا حمل الفعلان على هذا المحمل، بطل التضاد بينهما، وصح استعمال كل واحد منهما. انظر " الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان": 7/ 483 - 484. (¬3) الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، وقال الزيلعي في تخريجه: "حديث غريب بهذا اللفظ .. والحديث لم أجده" انظر "نصب الراية"2/ 449 - 450. =

وقضى على الذي وقع على امرأتِه في نهارِ رمضانَ بعِتقِ رقبةٍ أو صيامِ شهرين (¬1). فثبتَ وجوب الكفارة فيما عدا ذلك الواطىء بالخبر العامّ. وكذلكَ إن كانَ دليلُ خطابٍ، فإنه يقضى بدليلِ خطابِه على العامِّ، فخرجَ منه ما تناولَه دليلُه، وذلك مثل قوله: "في أربعين شاةً شاةٌ" (¬2)، مع قوله: "في سائمةِ الغنم زكاة" (¬3)، فتخرجُ المعلوفةُ من قوله: "في أربعينَ شاةً شاةٌ"؛ لأنَّ دليلَ الخطابِ بمنزلةِ النطقِ في وجوبِ العملِ به، والنطقُ الخاصُ يقضى به على النطقِ العامَ، وكذلكَ قوله: "إذاكان الماء قُلّتين لم يُنَجسه شيء" (¬4)، مع قوله: "الماء طهور لا ينجسه إلا ما غيرَ طَعمه أو ريحه" (¬5)، فإنه يحمل على القُلتين، فيُقضى بدليل خطابه عليه، فيخرج ما دون القلتين منه. فإن ناقضونا بمواضع، فيجب أن ننظرَ إلى دلائل تلك؛ فإن كانت تنبيهاً أو ¬

_ = وأخرج الدارقطني قريباً من لفظه، من حديث ابى هريرة: "أن النبي- صلى الله عليه وسلم -، أمرَ الذي أفطرَ يوماً من رمضان بكفارة الظهار" "سنن الدارقطني" 2/ 190 - 191. (¬1) تقدم تخريجه 1/ 40. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 38. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 37. (¬4) أخرجه ابن ابى شيبة 1/ 144، وأحمد 2/ 3 و27 وأبوداود (63) و (64)، وابن ماجه (517) و (518)، والترمذي (67)، والنسائىِ 1/ 46 و 175، وابن خزيمة (92)، والحاكم 1/ 132؛ والدارمي 1/ 187، وابن حبان (1249)، والبيهقي 1/ 260 و 261 و262. من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬5) أخرجه من حديث ابى أُمامة الباهلي، ابن ماجه (521)، والدارقطني 1/ 28، والطبراني في "الكبير" (7503)، والبيهقي 1/ 259. ونقل البيهقي 1/ 260 عن الإمام الشافعي قولَه في هذا الحديث: "وما قلته من أن الماءَ إذا تغير طعمُه وريحه ولونه كان نجساً، هو في خبرِ لا يُثبته أهل العلم بالحديث، ولكنه قول العامة، ولا أعلم بينهم خلافاً".

قياساً فاعلم أنَنا نتركُ دليلَ الخطابِ لما هو أقوى منه، ومعنى الخطابِ أقوى من الخطابِ، وكذلكَ التنبيهُ، مثالُه: قولهم: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن بيعِ ما لم يقبَض (¬1)، ثم قال: "من ابتاعَ طعاماً، فلا يَبِعه حتى يستوفيه" (¬2)، ولم يقضوا بدليل خطابِه ويخرجوا منه ما عدا الطعام، فإن نهيَه عن بيعِ الطعامِ حتى يُستوفى، مع كونِ حاجةِ الناس داعية إليه تنبيه على غيره، فقضينا بالتنبيهِ على دليلِ النطق؛ لأنّه أقوى منه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اختلفَ المتبايعان والسلعة قائمة، فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار" (¬3) لم يقض بدليل خطابه، فيخصُ ذلكَ بقيامِ السلعةِ؛ لأنه لما أمر بالتحالفِ، والسلعةُ قائمةٌ يمكنُ الرجوعُ إلى قيمتها الشاهدةِ باليمين لمثلها التي يمكنُ الاستدلالُ بها على صدق أحدهما، فأولى أن يحكمَ بالتحالُفِ حالَ الاشتباهِ وعدمِ الشاهدِ، وهو حالُ تلفِها، ولأنَّ كلَّ واحدِ منهما مُدعِ ومُدّعى عليه، وهذا المعنى موجود حالَ تلفِ السِّلعةِ، فكانَ المعنى أيضاً مقدّماً على دليل الخطاب. ¬

_ (¬1) كما في حديث حكيم بن حزام المتقدم في الصفحة 436. (¬2) أخرجه من حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما: مالك 2/ 640، وأحمد 2/ 63 - 64، والبخاري (2124) و (2126) و (2136) ومسلم (1526) (32) (34) (36)، وأبوداود (3492) و (3495)، وابن ماجه (2226)، والنسائي 7/ 286، والبيهقي 5/ 314،وابن حبان (4979) و (4981) و (4986). وأخرجه من حديث ابن عباس: أحمد 1/ 270 و356 و368 و369، والبخاري (2132) و (2135)، ومسلم (1525)، وأبوداود (3497)، والترمذي (1291)، وابن ما جه (2227)، والنسائي 7/ 285 وه 28 - 286، وابن حبان (4980). وأخرجه من حديث جابر أحمد 3/ 392، ومسلم (1529)، والبيهقي 5/ 312. وابن حبان (4978). (¬3) أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: أحمد 1/ 466، والشافعي (244)، وابن ماجه (2186)، والترمذي (1270)، والبيهقي 5/ 332، والبغوي (2124)، بلفظ: "إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع". قال الترمذي: هذا حديث مرسل عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود.

الضربُ الثاني: إذا كانَ الجنسُ مختلفاً، مثلُ صيامٍ وإطعام، صيام وصلاة، فإنَّه لا يُبنى المطلقُ على المقيَّد، سواءٌ كان السببُ واحداً، كالكفارةِ فيها صيامُ شهرينِ متتابعين، وإطعامٌ لم يقيد بالتوالي والتتابعِ، بل اطلقَ، أو كان مختلفاً، مثلُ الصيامِ قيِّدَ بالتتابعِ، والزكاة ذكرها مطلقةً، فإنه لا يُبنى المطلقُ على المقيَّد، قال أحمدُ: إذا وطىءَ في ليالي الكفارةِ يَستقبلُ الصومَ -أو قال: الصيام- وإذا وطىءَ في خلالِ الإطعامِ يبني (¬1). والوجه في هذا [أنه] (¬2) إنَّما يُحملُ المطلقُ على المقيَّد إذا كان الحكمُ المختلَفُ فيه مختلِفاً في الموضعين، إلا أنَّه مطلقٌ في أحدِهما، مقيَّد في الآخرِ، وهذا معدومٌ في الجنسينِ، ولأنَّ المقيدَ مع المطلقِ، كالخاص مع العامّ، والمفسَّر مع المجملِ؛ لأنَّ التقييدَ فيه نوعُ إخراجٍ وتخصيصٍ، وهناكَ لا يقضي أحدُهما على الآخرِ إلا أن يكونَ أحدُهما من جنسِ الآخر كذلكَ ها هنا. الضرب الثالث: أن يكونَ الحكمُ متَفقاً، والسببُ مختلفاً، لكن في موضعين مقيدين مختلفين، ويُطلق في الثالثِ، كالصيامِ قيد بالتتابعِ في الكفارةِ، فقال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، وقيد بالتفريق في التمتع، فقال: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وأطلق في كفارة اليمين بقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، وقالَ في قضاءِ رمضانَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، فلهذا الصومِ المطلق مثلانِ مقيَّدان مختلفانِ، فإنَّا نحملُ المطلقَ على إطلاقِه، ولا نَبني على واحدٍ منهما، لأنَّه ليس حملُه على أحدِهما بأولى من حملِه على الآخر, فإنَّما أوجبَ أصحابُنا التَتَابعَ في كفارةِ اليمين لأجلِ قراءة عبد الله بن مسعود (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "العدة " 2/ 636. (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) قراءة عبد الله بن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وهي قراءة ثبتت بخبر الآحاد فلا تثبت قرآنيتها التي يُشترط فيها التواتر. انظر "الإحكام" للآمدي 1/ 229، و"تفسير الطبري" 10/ 559، و"تفسير القرطبي" 6/ 283.

الضربُ الرابع: إذا كانَ الجنسُ واحداً، والسببُ مختلفاً، كالرقبةِ قُيَّدت في كفارةِ القتلِ بالإيمانِ، وأطلقت في كفارةِ الظِّهارِ، وهما سببانِ مختلفان وكما قيِّدت الأيدي إلى المرافقِ في طهارةِ الماءِ، وأُطلقت في التيمم بالترابِ، ففي هذا روايتان (¬1): إحداهما: يُبنى المطلقُ على المقيدِ من طريقِ اللغةِ (¬2)، وبهذه الرواية قال أصحاب مالك (¬3)، وتَعلَّق من نصر هذا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، فقضينا بالتقييدِ بالعدالةِ على المطلق من الشهادة، وفيه رواية أخرى: لا يُبتَنى المطلقُ في هذا على المقيَّد، ويحمل المطلَقُ على إطلاقِه، وهي اختيارُ أبي إسحاقَ بن شاقْلا (¬4)، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفة (¬5)، واختلف أصحاب الشافعي (¬6)؛ فمنهم من قال كقولنا وأنه يُبنى المطلق على ¬

_ (¬1) أي روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه، ولقد أشار إليهما القاضي أبويعلى في،"العدة" 2/ 638، مبيَّناً كيفية استفادتهما من قول الإمام أحمد. (¬2) انظر "العدة" 2/ 638، و"المسودة": 145. (¬3) لم يقل بحمل المطلق على المقيد في هذا الضرب، إلاّ قليل من المالكية، وفق ما نقل القرافي عن القاضي عبد الوهاب. انظر "شرح تنقيح الفصول": 267. (¬4) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقْلا، أبوإسحاق البغدادي البزاز، شيخ الحنابلة في وقته، كان رأساً في الأصول والفروع، توفي سنة (369 هـ). انظر"سير أعلام النبلاء" 16/ 292، و"تاريخ بغداد" 6/ 17، و"طبقات الحنابلة" 2/ 128. (¬5) انظر "أصول السرخسي" 1/ 267، و "شرح التلويح على التوضيح" 1/ 63، و"فواتح الرحموت"1/ 362. (¬6) محل الاختلاف بين الشافعية، هو في موجِب حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم وأخْلاف السبب: فالبعض قال: إن المطلق يحمل على المقيد بموجِب اللفظ، ومقتضى اللغة، من غير حاجة إلى دليل. والأكثرون قالوا: إنَه لا يحمل المطلق على المقيد بنفس اللفظ، بل لابد من دليل؛ من قياس أو غيره، وإلى هذا القولِ ذهب أكثر الشافعية منهم: القفال الشاشي، وأبو إسحاق الشيرازي،=

المقيّد من طريق اللغة، ومنهم من حمل المطلق على المقيّد بالقياس عليه لا من جهة اللغة، وهم الأكثر وهو اختيار أبي بكر الأشعري. وهكذا الاختلاف في الخاص والعام نحو قوله: "فيما سقت السماء العشر" (¬1) عام في القليل والكثير وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوْسُقٍ صدقة" (¬2) خاصٌّ في المقدار, فهل يحملُ العامُ على الخاصِّ؟ على ما قدمناه من الاختلاف [في] (¬3) حملِ المطلقِ على المقيّد. وقد قال أحمد: نَهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاةِ بعد العصرِ وبعدَ الصبح (¬4)، نهيَ جملةٍ، و [قال] (¬5): "مَن نامَ عن صلاةٍ أو نَسيها" (¬6)، فكان هذا مخصوصاً به نَهيه عن الصلاةِ بعدَ العصرِ والصبح. ¬

_ =وإمام الحرمين، واختاره القاضي الباقلاني. ونصَّ الآمدي على أنه الأظهر من مذهب الشافعي. انظر "البرهان" 1/ 431، و"الإحكام" 3/ 5، و"المستصفى"2/ 185، و "التبصرة": 212 و"المحصول" 3/ 144 - 145، و"البحر المحيط" 3/ 420 - 424. (¬1) تقدم تخريجه 1/ 189. (¬2) أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979)، وأحمد 3/ 44 و79، ومالك في "الموطأ" 1/ 244، وأبوداود (1558)، والنسائي 5/ 17، والبيهقي 4/ 133، وابن خزيمة (2263) و (2298) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والوَسْق: ستون صاعاً بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ثلاثمئة وعشرون رطلاً. عند أهل الحجاز، وأربعمئة وثمانون رطلاً عند أهل العراق. انظر: "النهاية في غريب الحديث"5/ 185. (¬3) في الأصل: "وحمل "، والمثبت من "العدة" 2/ 640. (¬4) انظر ما تقدم في الصفحة 441. (¬5) زيادة يقتضيها السياق وهي في "العدة" 2/ 640. (¬6) تقدم تخريجه في 2/ 168.

- فصل في أدلتنا

فصل في أدلّتنا فمنها: أنَّ العرب إذا أطلقت الحكمَ في موضعٍ، وقيّدته في موضع، جعلت ذلك المطلَق مقيداً، يدلُّ عليه قوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]، وتقديره: والحافظاتِ فروجَهن، والذاكراتِ اللهَ كثيراً، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، وتقديره: ونَقصٍ من الأنفس، ونقصٍ من الثمرات، وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]، وتقديره: عن اليمين قعيد، فأبداً دأبُ العرب ذلك، قال شاعرهم: نَحنُ بما عندنا وأنتَ بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف (¬1) وتقديره: نحن بما عندنا راضون. وقال الآخر فما أدري إذا يمّمتُ أرضاً ... اريدُ الخيرَ أيهما يليني (¬2) يريد: أريدُ الخير وأتوقى الشر. فإن قيل: إنَّما حمل المطلقَ على المقيَّد ها هنا؛ لأنه لا يستقلُّ أحدُ الكلامين بنفسِه؛ لأنَّ قوله تعالى: {وَالذَّاكِرَاتِ} لايفهم، وكذلكَ قوله: {عَنِ الْيَمِينِ} وقوله {وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}، فأمَّا في مسألتِنا؛ فإنَّ قولَه في الظهار {فتحريرُ رَقَبة} [المجادلة: 3]، كلام مستقلّ بنفسه، وقوله في القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ¬

_ (¬1) البيت لعمرو بن امرىء القيس الخزرجي، انظر"جمهرة أشعار العرب" 13، و"خزانة الأدب" 4/ 275 و283. ونسبه سيبويه في "الكتاب" 1/ 37 لقيس بن الخطيم. (¬2) هذا البيت من قصيدة طويلة للمثقب العبدي، ووجه الشاهد فيه، أُريد الخير وأتجنب الشَّر, فاكتفي بذكر أحدهما، لأنه يبينهما انظر "ديوان المثقب": 212، و"خزانة الأدب"6/ 37، و11/ 80، "والشعر والشعراء" لابن قتيبة: 1/ 396.

[النساء: 92] كلامٌ مستقلٌ. قيل: الذاكرات. عمومٌ، والحافظات عمومٌ، لا يَفتقرُ إلى بيانٍ محفوظ معيَّن، ألا ترى أنه يحسُنُ أن يقولَ: والذاكراتِ رسلِ اللهِ وملائكةِ الله، والحافظات ألسنتِهنَّ وأيديهنَّ، يعني عن اللغط والسرقةِ، ولو قالَ ذلكَ؛ لكانَ لكلِّ واحدٍ حكم يُقيِّده، فلمَّا لم يقيدْ؛ حُمِل [على] (¬1) تقييد المقيَّد. وعن اليمينِ قائماً وقاعداً ومضطجعاً، لا يختضُ بحالٍ، فهو عموم، لكن خُصَّ بذكرِ حالِ صاحبِ الشمالِ، وكونه قعيداً. فإن قيل: فحملُنا للمطلقِ على المقيَّد هناك لأجلِ العطف، فإنَّه يجعلُ المعطوفَ مع المعطوفِ عليه الجملةِ الواحدِة، فأمَّا في مسألتِنا؛ فهما جملتانِ لكلِّ واحدةٍ منهما حكم بنفسها (¬2). قيل: لا يجوزُ أن يكونَ حملُه عليه لأجل العطفِ، بل لأنَّ أحدَهما مطلق، والآخرَ مقيَّدٌ. يوضِّح هذا: أنَّه لو كانَ العطفُ هو المؤثر لكانَ إذا قيدَ (¬3) كل واحدٍ منهما بمعنى، أعني المعطوف والمعطوف عليه، أن يُحملَ أحدُهما على الآخرِ في تقييده، وهو إذا قال: والحافظين فروجهم، والحافظات ألسنتهنَ وأيديهنَ من اللغطِ، فإنَّه لا يحملُ أحدُ المقيَّدين على الآخرِ، مع وجودِ العطفِ، لكنْ لمَّا عُدِمَ الإطلاقُ لم يُحملْ أحدُهما على الآخر، فبطلَ أن يكونَ العطفُ هو الموجِبَ لحملِ أحدهما على الآخرِ (¬4). على أنَّ العطفَ لا يوجبُ موافقةً؛ بدليل أنَّه قده يُعطفُ الشيءُ على ما يخالفُه، ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الأصل: "نفسها" والمثبت أنسب للسياق. (¬3) تحرفت في الأصل إلى: (قيل). (¬4) انظر "العدة" 21/ 642 - 643.

- فصل في شبه المخالف

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وإن كانت صلاتُه الرحمةَ، وصلاةُ ملائكتِه الشفاعةُ والدعاءُ. ومنها: أنَّه قد أمكنَ الجمعُ بين الدليلينِ، فإسقاطُ أحدِهما لا وجهَ له، ألا ترى أننا لا نحكمُ إلا بعد امتناعِ جمعٍ بين الدليلين (¬1). فصل في شُبَه المخالف (¬2) فمنها: لمن قال: لا يُحملُ عليه، أنَّ المطلقَ معلومٌ المرادُ بظاهرِه، فوجَب أن يُحمل عليه، فلا يُعدلُ عنه إلا بدليل، والخاص ليسَ بدليلٍ، لأنَّ التخصيصَ إنما يقعُ بما يخالِفُ الظاهرَ ويعارضُه، فأمَّا بما يوافقُه فلا، والمقيدُ يوافِقُ المطلقَ، فوجبَ أن لا يُخصَّ به. فيقالُ: إن التقييدَ يخالفُ الإطلاقَ ويعارضُه من لفظِه ومعناه، وينكشفُ ذلك بالمثال؛ يَقول: أعتق عبداً من عبيدي. فيكونُ الأمرُ شائعاً في سائرِ عبيده، فإذا قال: أعتق عبداً مؤمناً. فيخرجُ من عبيده الكفارُ، ويصيرُ الأمرُ واقعاً على بعضِ عبيدهِ، فما خصصناه إلا بما عارضَه دونَ ما واطأه ووافقه، ولا فرقَ بينه وبينَ الخاصِّ مع العامِّ، وذلكَ أنَّ كل واحدٍ منهما يُخرج من الجملة بعضَها، فالخصوصُ يُخرجُ من العمومِ ما لولاه لدخلَ فيه، والتقييدُ يُخرجُ من المطلقِ ما لولاه لدخلَ فيه، وأمَّا كونُ العامِّ معلوماً لكنَه من حيثُ الظاهرُ، والخاص معلومٌ من حيثُ القطعُ، فلما قضيَ بالخاصَ على العامِّ، كذلك يجبُ أن يقضَى بالمقيدِ على المطلَقِ، والذي يوضِّحُ ذلك قولُه تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، ثم قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 2/ 643، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 183 - 184. (¬2) انطر هذه الشبه في "الفصول في الأُصول" 1/ 222 - 234، و"أصول السرخسي" 1/ 267 - 269.

عَدْلٍ مِنْكُم} [الطلاق: 2]، وكل عارفٍ باللغةِ يعلَمُ أنَّه إنما أرادَ بالرجلينِ، العدلين، حيثُ قيد في النطقِ الآخرِ بالعدالةِ. ومنها: قولهُم: إن اللهَ سبحانَه أطلقَ الرقبةَ في الظهارِ، فاعتبارُ الإيمانِ فيها زيادةٌ لا حكمِ النص، وذلكَ نسخ، فلا يجوزُ بالقياسِ، ولا بخبرِ الواحدِ. قالوا: والدلالةُ على كونه نسخاً لها: أنَّ الآيةَ كانت تقتضي بإطلاقِها جوازَ عتق الرقبةِ الكافرةِ، فإذا اعتبر إيمانُ الرقبةِ خرجت الكافرةُ أن تكونَ مُجزيةً، ويرتفعُ ذلكَ الحكمُ الذي كان أولاً. فيقال (¬1): هذا ليس بزيادةٍ، وإنَّما هو تخصيص؛ لأنَه كان يجزىءُ بإطلاقِ الرقبةِ المؤمنةِ والكافرةِ والسليمةِ والمعيبةِ، وقولُنا: لا تجزىءُ إلا مؤمنةٌ. نقصانٌ ظاهرٌ كما إذا قال: أعطِ درهماً من شئتَ من هؤلاءِ العشرةِ. كان الأمرُ شائعاً في العشرةِ كلهم، فإذا قالَ: إذا كان قارئاً أو فقيهاً. كانَ ذلك نقصاناً لا زيادةً، وتخصيصاً لا رفعاً ونسخاً. ثمَّ لو كان زيادةً، فالزيادةُ ليست نسخاً، وهذا يأتي مستوفىً إن شاءَ الله تعالى في بابِ النَّسخِ. ومنها: أنَّ الخصوصَ إنَّما يردُ على الأعيانِ المنطوقِ بها دونَ المعاني التي لا يُنطق بها، والمنطوقُ هو ذكرُ الرقبةِ فقط، فأمَّا صفاتُها مِن كُفرها وإيمانِها، فلا ذِكرَ له. فيقالُ: هذا تعد من قائله؛ لأنَّ الأعيانَ تخصُ وتعمُ بأوصافِها لا بذواتِها، وإنَّما الإشاراتُ بتناولهِا بغيرِ صفات، مثل: هذهِ، وتلك، وهذا، وذاك في الأعيانِ الحاضرةِ، وإلا فالغائبة لا تخصُ إلا بذكرِ الأسماءِ والصفاتِ، حتى إن الصفاتِ تقضي على الأعيانِ الحاضرةِ، فلو قال: أعطِ مَنْ شئتَ مِن هؤلاء العبيدِ إلا الأسود منهم، أو الفاسقَ. قضى هذا الوصفُ على الإشارةِ، فأخرجَ الوصفُ ما تُخرجُ الإشارةُ. ومنها: أن قالوا: إنَّ الرقبةَ في الظهارِ منصوصٌ عليها، والرقبة في القتل منصوص ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيقل".

عليها، فإذا قاسَ قائسٌ إحداهما على الأخرى لم يجُزْ لوجهين: أحدهما: أنَّه لا التفاتَ إلى القياسِ مع وجودِ النص. والثاني: أنَّه يُفضي إلى إسقاطِ المقيسِ على المقيسِ عليه، فيصيرُ الحكمُ لأحدِهما، ويسقطُ أحدُ النصين، ولهذا المعنى منعنا قياسَ التيممِ على الوضوءِ في دخولِ الرأس والرجلينِ، ولا قياسَ القطعِ في السرقةِ على قطعِ المحاربةِ، في إدخالِ الرِّجلِ مع اليدِ، ولا قياسَ كفارةِ الظِّهارِ على كفارةِ التمتع في اعتبار التفريقِ، ولا كفارةَ التمتعِ على كفارةِ الظِّهارِ، في اشتراطِ التتابعِ. فيقالُ: بل هو قياسُ المسكوتِ عنه على المنطوقِ به؛ لأنَّ الإيمانَ لم يُنطَقْ به في كفارةِ الظهارِ، وإنما سُكِت عنه، ونُطقَ بالرقبةِ فقط، وفي كفارةِ القتلِ نُطقَ بالرقبةِ والإيمانِ فيها، فقسنا ما سُكَتَ على الإيمانِ فيه، على ما نُطقَ بالإيمانِ فيه، وفارقَ التيمم مع الوضوِء؛ لأنَّ الطهارتين ما اجتمعتا في الجنسِ ولا الصفةِ ولا التأثيرِ فيقاسُ، فالترابُ جنسٌ غيرُ جنسِ الماءِ، والمسحُ الكليُّ غيرُ المسحِ والغسل، ورفعُ الخَبثِ حكمٌ، ونَفْي رفعه حكم آخر، فقياسُ أحدهما على الآخرِ رومَ التقريبِ الذي قصدَ الشرع، خلافَه بالتبعيد [لا يصح] (¬1). وليس كذلكَ الظهارُ، فإنه يُساوي القتلَ في اعتبارِ الرقبةِ الصحيحةِ السليمةِ، واعتبارِ البدل: صومُ شهرين، وصفةِ البدلِ وهو التتابعُ، ولم يُخلّ إلا بذكرِ الإيمانِ، فكانَ الظاهرُ: اعتبارَ الإيمانِ فيما ثبتَ له هذه الأحكامُ كلُها المساويةُ لكفارةِ القتلِ فيما استوى الحكم المذكور في الموضعينِ هناك، واستوى ها هنا، وكذلكَ صومُ التمتعِ شرُطَ فيه التفريقُ منصوصاً، والتتابعُ في الظهار منصوصاً، فلا يمكنُ سلوكُ القياسِ المسقطِ لأحدِ الحكمينِ المنصوصِ عليهما، ولسنا حُرُصاً على تلفيقِ ما فُرِّق، ولا تَفريق ما لُفِّق، بل لو أطلقَ صومُ التمتع، وقيَّدَ صومُ الكفارةِ؛ لجاز أن نأخذَ لأحدِهما ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

صفةَ من الآخر من حيثُ نطقَ بها في إحداهما وسكتَ عنها في الأخرى (¬1). ومنها: أن قالوا: المطلقُ نطقُ الشارعِ، والمقيَّدُ نطقُه، فليسَ حَملُ أحد النطقينِ على الآخرِ بأولى من حملِ الآخرِ عليه. فيقالُ: إنَّ كونَ النطقينِ من جهةٍ واحدةٍ لا يوجبُ نفيَ افتراقِهما لمعنى يعودُ إلى النطقِ، فالناطقُ واحدٌ، والنطقانِ مختلفان، فأحدُهما: يتناول الحكمَ بإطلاقِه وعمومِه، وهو الظاهرُ، والآخرُ يتناولُه بخصوصه وتقييده، وهو صريحٌ، وما هما إلا بمثابةِ العام مع الخاصِّ، والاستثناءِ مع الجملةِ المستثنى منها. ولأنَّ حملَ الخاصِّ على العامِّ يفضي إلى إسقاطِ الخاصِّ كُلِّه بالعامِّ، وفي البناءِ للعام على الخاصِّ، والمطلقِ على المقيَّد عملٌ بالدليلينِ والنطقينِ جميعاً، فيعملُ بالعامِّ فيما يتناولُه الخاصُّ، وبالخاصِّ فيما وردَ فيه، فقد بانَ الأولى، وسقطَ ما ذكرتَ من دعوى عدمِه. ومنها: أن قالوا: حملُ العامِّ على الخاصِّ إهمالٌ للعام؛ لأنَّه يقتضي الاستغراقَ، فإسقاطُ استغراقِه إهمالٌ له، وذلكَ لا يجوزُ. فيقالُ: إنَّ التخصيص استعمالٌ ولغةٌ، فلا يجوزُ تلقيبه بالإهمالِ، ولا يسقطُ استعمالُ أهلِ اللغةِ، ولا استعمالُ أهلِ الرأي والقياسِ لأجل تلقيبِك له بالإهمالِ. على أنَّا نقولُ له: إعمالٌ؛ لأنَّه جمع بين اللفظين، وفي تركه البناءِ إسقاطٌ لعملِ الخصوصِ والتقييدِ، وذلك غيرُ جائزٍ، كما لم يجُز إسقاطُ التخصيصِ لبعضِ الأعدادِ المنصوصِ عليها بحكم يشملها، كالإشارةِ، والاستثناءِ، والتقييد بالصفةِ، مثل قوله بعد الإطلاقِ للتخييرِ بين العشرةِ: القارىء، أو الفقيه، أو ما شاكلَ ذلكَ، فإنه يقضى بذلكَ التقييد على التخييرِ الذي سبق فيما بيَّناه من قبل في قوله: أعط أيّهم شئت. ¬

_ (¬1) انظر "العدة"2/ 646 - 647.

* فصل: العام المتفق على استعماله يجب حمله على الخاص المختلف فيه

فصل العامّ المتفقُ على استعمالِه يجب حملُه على الخاصِّ المختلَفِ فيه وبه قال أصحابُ الشافعي (¬1)، خلافاً لأصحابِ أبي حنيفةَ في قولهم: بلْ يُقدمُ العامُّ المتفق على استعمالِه على الخاصِّ المختلفِ في استعماله (¬2). فصل في أدلّتنا فمنها: أنَّهما دليلانِ عامٌّ وخاص، فَيُبنى العامُّ على الخاصِّ، كما لو اتُفِقَ على استعمالِهما. يوضِّحُ هذا: أنه بِتقديم الخاصِّ على العامِّ، والقضاءِ به عليه مع تساويهما في الاتفاقِ عليهما، أو الاختلاف فيهما، بانت مزية الخاص على العام. ومنها: أنَّ فيما ذكرناه جمعاً بين الدليلينِ، فكانَ أولى من إسقاطِ أحدِهما، كالأصلِ الأوَّلَ. ¬

_ (¬1) "المحصول" 3/ 104، و"التبصرة": 151، و"البحر المحيط" 3/ 407. (¬2) فصَّل الجصَّاص في هذه المسألة، وبيِّن أن الاتفاق والاختلاف في العامِ والخاص يتردد بين احتمالات ثلاثة: الاحتمال الأول: أن يعملَ الناس بهما جميعاً -أي بالعامِ والخاص- فيستعملان ويرتب العام على الخاصِّ. الاحتمال الثاني: أن يتفقوا على استعمال أحدهما دون الآخر فالعملُ على ما اتفقوا عليه والآخرُ منسوخ. الاحتمال الثالث: أن يختلفوا في ذلك، فيعمل بعض الناس بأحد الخبرين، والعامة تخالفه وتعيب عليه ما ذَهب إليه، فلا يلتفت إلى قوله، فالعمل على ما عليه العامَّة. ويعني بالعامَّة عامة فقهاء السلف. "الفصول في الأصول" 1/ 408. والمسالة التي عرضها ابن عقيل تندرج تحت الاحتمال الثاني، حيث اتفقوا على استعمال أحدهما -وهو العامُّ هنا- واختلفوا في الآخر وهو الخاص، فالعمل عند الحنفية على ما اتفقوا عليه.

- فصل في شبهة المخالف

ومنها: أنَّ الخصوصَ يتناولُ الحكمَ بصريحِه، والعامَ يتناولُه بظاهِره، لأنَه يحتملُ أن يرادُ به غيرُ ما تناوله الخاصُ، فيقضى بالذي لا احتمال فيه على ما فيه احتمال. فصل في شُبهةِ المخالف أنَّ العامَّ قويَ بالاتفاقِ عليه، وضعفَ الخاص بالاختلافِ فيه، فوجَبَ أن يقضى بالأقوى على الأضعف. يوضِّح هذا: أنَّ اتفاقَ العلماءِ معصوم مقطوعٌ به. فيقال: لا نسلِّم أنَّه متفق على استعمالِه فيما لا يتناولُه الخاصُ بخصوصِه، وهذا لا يَمنعُ من جوازِ تخصيصِه، ألا ترى أنَّ استصحابَ الحالِ في براءةِ الذِّممِ بدليلِ العقلِ، متفق عليه في الجملةِ فيما لم يتناوله دليل شرعي ثم إذا وردَ دليل شرعي نُقِلَ عنه، وإن كان الدليلُ مختلَفاً فيه، على أنَهم قد ناقضوا في هذا، فإنهم قضوا بالنهي عن أكلِ السمك الطافي، وإن كان مختلفاً فيه، على قوله: - صلى الله عليه وسلم -: "أحلّت لكم مَيْتتان ودَمان" (¬1) وإن كان مُجمعاً عليه. فصل إذا تعارض خبرانِ، وأمكن استعمالُهما ببناءِ أحدهما على الآخرِ, وجبَ أن يُبنى أحدُهما على الآخرِ. وقال أهلُ الظاهرِ: يسقطانِ، ويُبقى على حكم الأصل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 2/ 97، وابن ماجه (3314)، والبيهقي 1/ 254، والبغوي (2803). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُحلّّت لكم ميتتان ودمان. فأمَّا الميتتان فالحوت والجراد، وأمَّا الدمان، فالكبد والطِّحال".

- فصل في أدلتنا

فصل في أدلّتنا أنَّهما لفظانِ، عامٌّ وخاصٌّ، يمكن استعمالُهما، فلا يسقطان. أو نقول: فوجَب استعمالهُما وبناءُ أحدِهما على الآخر كالآيتين، وذلكَ مثل قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93] قال ابن عباس: يُسألونَ في موضعٍ، ولا يُسألونَ في موضع (¬1)، يعني بذلكَ اختلافَ المقاماتِ، فإنَّ القيامةَ ذاتُ مقاماتٍ مختلفةٍ. ومنها: أنَّهما دليلانِ يمكنُ بناءُ أحدِهما على الآخرِ, فوجبَ استعمالُهما، أو نقول: فلا يجوزُ إسقاطهما. دليلُه: عمومُ خبرِ الواحِد، إذا وردَ مخالفاً لدليل العقل (¬2). فإن قيل: أدلةُ العقل لا تحتملُ التأويلَ، ولا يدخلُها الاستعارةُ، بل كُلُّها حقائقُ مبنيّةٌ على التحقيق، والظاهرُ يحتملُ التأويلَ فَرُتب، وفي مسألتِنا، تأويلُ كل واحدٍ من اللفظينِ كتأويل الآخرِ, فلم يكن أحدُهما أولى من الآخر. قيل: هذا يبطلُ بالآيتين، فإنَّهما تستعملانِ، وإن كان تأويلُ إحداهما كتأويلِ الأخرى. فإن قيل: الآيتانِ كأدلَّةِ العقلِ في القطعِ، فلذلكَ لم يمكن إسقاطُهما. ¬

_ (¬1) الذي روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، قوله: لا يَسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقولُ لهم: لِمَ عملتم كذا وكذا؟ "تفسير الطبري" 8/ 67، و"تفسير ابن كثير"4/ 469. (¬2) "شرح اللمع" 1/ 376، و"التبصرة": 159.

- فصل في شبههم

قيل: فأخبارُ الآحادِ وإن لم توجب القطعَ، فقد وجبَ العملُ بها، وإزالةُ استصحابِ حالِ العقلِ في براءةِ الذِّممِ، بالشُغلِ والإلزام وإتعابِ الأبدانِ، ومنعِ اللَّذاتِ، فهّلا وجبَ الجمعُ والبناءُ مع الإمكانِ، كما وجبَ الاستعمالُ لها وإن لم يوجب القطع .. و [ما] (¬1) يدلُّ عليه: هو أنَّ ما زادَ على الخصوص من العمومِ لا يعارضُه مثلُه ولا ما هو أقوى منه، فوجبَ أن لا يتوقفَ فيه، كما لو رويَ في أحدِ الخبرينِ ما في الآخرِ, وزيادةُ حكمٍ. فصل في شبههم فمنها: تعلّقُهم بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وهذا التعارضُ اختلافٌ، فدل على أنَّه ليسَ من عندِ الله. فيقالُ: لا اختلافَ بينهما، بل هما متفقانِ عندَ البناءِ والترتيبِ، على أنَّه لو كان هذا اختلافاً يمنعُ البناءَ في الأخبار لمنُعَ ذلك في الآي إذا تعارضت، ولمَّا أجمعنا على أنَّ ذلكَ لا يُعد اختلافاً نفاه اللهُ عن شرعهِ، كذلكَ ها هنا. وما مَنعَ من ذلكَ في الآي إلا إمكان البناء، كذلك في الأخبارِ قد أمكن البناء ولا اختلاف. ومنها: أنَّه إذا تعارَض لفظان، وأمكنَ فيه وجهان من الاستعمالِ، كنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلوات في أوقات النهي (¬2)، وأمرِه بالقضاءِ لمن نامَ عن صلاةٍ أو ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) ورد ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغربَ الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس" تقدم في الصفحة 441. كما ورد حديث عقبة بن عامز قال: ثلاث ساعات كان ينهانا عنهنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهنَّ، وأن نقبر فيهنَّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تصوَّب الشمس لغروبها". أخرجه: أحمد 4/ 152، ومسلم (831)، وأبوداود (3192)، والنسائي 1/ 275 - 276=

نسيها (¬1)، فلم يكن أحدُ الوجهينِ في الاستعمال بأولى من الآخر وجبَ إسقاطُ الجميع، والبقاءُ على براءةِ الذمةِ بدليلِ العقل القاطعِ. يقال: نحنُ إنَّما استعملنا لمّا أمكنَ وجهٌ واحدٌ من الاستعمال، فأمَّا إذا أمكنَ وجهان، لم يقدَّم أحدُ الوجهين على الآخر إلا بضربٍ من الترجيح، والترجيحُ إيجابُ القضاءِ في عمومِ الأوقاتِ، حتى أوقاتِ النهي، ولا تعطَّلُ أوقاتُ النهي عن النهي في صلاة النوافل غير المقضيّة المفروضة، ودليلُ العقل القاطع أوجبَ الاحتياطَ والاحترازَ من تركِ فعلٍ يوجبُ العقابَ في الآجل (¬2). ومنها. أن قالوا: إنَّ الجمعَ والبناءَ إنَّما يكونُ بنفسِ اللفظِ، واللفظُ لا يدلُّ عليه، أو بدليلٍ آخرَ, وليسَ معكم في الجمعِ دليل، فوجبَ التوقُّف فيه. فيقالُ: هذا يَبطلُ ببناءِ إحدى الآيتين على الأخرى، فإنَّه يجوز, وإنْ لم يدلَّ عليهِ اللفظُ، ولا دليلَ آخر يقتضي الجمعَ بينهما. على أنَّ الدليلَ الذي اقتضى الجمعَ بينهما، هو: أنَّ الدليلَ قد دلَّ على وجوب العمل بكلِّ واحدٍ من الدليلين، وكلامُ صاحبِ الشرع لا يتناقضُ، فلم يبقَ إلا الجمعُ والترتيبُ. ومنها: أنْ قالوا: يحتملُ أن يكونَ أحدُهما منسوخاً بالآخر، ويحتملُ أن يكونَ مبنيَّاً عليه، ومرتَباً، فلا يجوزُ تقديمُ أحدِهما على الآخر، كما لو احتملَ وجهين من الترتيب، لا مزيَّةَ لأحدِهما على الآخر. ¬

_ = و 4/ 82، وابن ماجه (1519)، والترمذى (1030)، وابن حبان (1551). (¬1) تقدم تخريجه في 2/ 168. (¬2) انظر "شرح اللمع"1/ 377.

فيقالُ: هذا يبطلُ بالآيتين، فإنه يحتملُ أن تكونَ إحداهما منسوخةً بالأُخرى، ويحُتملُ أن تكونَ مرتبةً عليها، ثم قدَّمنا الاستعمالَ والبناءَ على النَسخ، ولم نجعل ذلك بمثابةِ آيتين تعارضَ فيهما ترتيبانِ مختلفان، ولأنَّه وإن احتُمِلَ النَسخُ، إلا أنَّ الترتيبَ والبناءَ أظهرُ، لأنَّ فيه استعمالَ دليل، والنسخ إسقاطُ دليلٍ، والاستعمالُ كانَ أولى، لأنَّ الخبرَ إنَّما وردَ للاستعمالِ، والظاهرُ بقاءُ حكمِه. ومنها: أن قالوا: إنَّ أدلةَ الشرعِ فروعٌ لأدلةِ العقل، ثم التعارضُ في أدلةِ العقلِ لا يقتضى الترتيبَ، كذلكَ التَعارضُ في أدلَةِ الشرع. فيقالُ: الترتيبُ في أدلَّةِ العقلِ لا يمكنُ؛ لأنَّها لا تحتملُ التأويلَ، فهي بمنزلةِ النصّين إذا تعارضا لا يكونُ ذلك فيهما إلا أن يكونَ أحدُهما ناسخاً، والآخرُ منسوخاً، إذْ لا مجالَ للتأويلِ في النصِ لعدمِ الاحتمالِ. فأمَّا في مسألتِنا: فإنَّ الاحتمال حاصل، فيمكنُ أن يكونَ المرادُ بالعمومِ بعض ما تناوله، فجاز فيه البناءُ والترتيبُ، ولذلك جوَّزنا البناءَ والترتيبَ في الآيتين، وإن لم يجز ذلك في أدلَّةِ العقول. ومنها: قولهم: إنَّ الشهادتين إذا تعارضتا سقطتا، فكذلك الخبران، لأنَّ كل واحدٍ منهما قول يثبتُ به الحقُ وتشتغلُ به الذمة بعد فراغِها بحكم الأصل. فيقالُ: إذا أمكنَ العملُ بالشهادتينِ عملنا بهما، وهذا إذا شهدَ شاهدان بمئةٍ، وشهدَ آخران بقضاءِ خمسين من المئةِ، جمعنا بينهما كالجمعِ بين الخاصَّ والعامَّ، وإن لم يمكن الجمعُ سقطا، كالخبرين إذا لم يمكنِ الجمعُ بينهما (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة": 161.

* فصول الاستثناء

فصول الاستثناء فصل في حقيقة الاستثناءِ وأحكامِه وأقسامِه (¬1) وهو كلام ذو صِيَغِ مخصوصةٍ محصورةٍ، دالٌّ على أنَّ المذكورَ فيه لم يُردْ بالقول. وكُلُّ استثناء فهذه حاله، وكل ما هذه حالُه فهو استثناء، وكذا يُدَوَّر الحدُّ على المحدود. ولا يلزم على هذا الحد التخصيص (¬2)؛ لأنّه لا يقف على الصيغ، لأنه يكون تارةً بالفعل (¬3)، وتارة بالقول، فلا يختصُّ بكونه صيغةً. ولا يلزم التخصيصُ المتصلُ، مثلُ قوله: رأيتُ الناس، ولم أرَ عمْراً، لقولنا: كلامٌ ذو صيغ مخصوصة. وحروفُ الاستثناء محصورةٌ، وليس الواو منها. وقد استوفيت الحدودَ كلَّها في ابتداءِ كتابي هذا بما يغني عن الإطالة (¬4). ¬

_ (¬1) "العدة" 2/ 659، و"التمهيد" لأبى الخطاب 2/ 73، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 580، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 281 - 282. (¬2) أي لا يلزمُ دخولُ التخصيص في تعريفِ الاستثناء. (¬3) هذا ما وردَ في الأصل، ولعل الكلمة: (بالعقل)؛ لأن التخصيص كما يكون دليلُه القول، فكذلك يكون دليله العقل، ودليلُ العقل هو الذي لا صيغةَ له. قال القاضي أبو يعلى في "العدة" 2/ 660: لأن تلك الأشياء -أي أدلة التخصيص- ليست تختصُّ بالقول، ألا ترى أن التخصيص يكون تارة بقول صاحب الشريعة، وتارة يكون بدليل العقول، وليس ذلك بقول. اهـ. (¬4) انظر ما تقدم في الجزء الأول، الصفحة 90 وما بعدها.

* فصل: لا يصح الاستثناء المنفصل

فصل لا يصحُّ الاستثناءُ المنفصلُ، بل من شرْطِه الاتصالُ، فإذا انقطعَ لم يَعمَل (¬1). به قال الفقهاءُ والمتكلمون وأهلُ اللُّغة (¬2). وقد حكى شيخُنا عن أحمدَ اختلافَ الرواية (¬3)، وليس يظهرُ من ذلك ما يوجبُ اختلافاً؛ لأنه سهَّلَ ذلك في اليمين إذا سكتَ قليلاً، ثم قال: إن شاءَ اللهُ. وهذا يجبُ أن يكونَ محمولاً على يسير لايُعدُّ في الكلامِ فصلاً ولا قطعاً. وكلامُه الظاهرُ، وقولُ الخرقي يدلُّ على أنه لا يصحُّ إلا متصلاً (¬4)، وهو الصحيحُ عند مشايخنا (¬5). وحُكي عن ابن عباس أنه يصحُّ الاستثناءُ وإن كان منقطعاً، وعنه: أنه قدَّره بسنةٍ (¬6). وحُكيَ عن الحسن (¬7): أنَّه يصحُّ ما دامَ في المجلس (¬8). ¬

_ (¬1) أي لم يعمل الاستثناء عمله. "العدة"2/ 660. (¬2) "العدة" 2/ 660، و"المسوَّدة": 152 - 153، و"التمهيد" 2/ 73، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 297، و"البرهان" 1/ 385، و"المستصفى" 2/ 165، و"التبصرة": 162، و"شرح تنقيح الفصول":242. (¬3) اختلفت الروايةُ عن أحمد في صحةِ الاستثناء في اليمين: ففي رواية: أنَّه إذا حلفَ، وسكتَ قليلاً، ثم قال: إن شاء الله، فله استثناؤه، لأنه يكفِّر. وفي رواية: أنَّه لا يصحُّ الاستثناء إذا كان بينه وبين اليمين فصلٌ. وحُمِلت الرواية بجواز الاستثناء، إذا كان الفصل بزمان يسير, وما دام في المجلس. "العدة"2/ 660 - 661. (¬4) انظر قول الخرقي في "المختصر": 217. (¬5) "العدة" 2/ 661. (¬6) "العدة" 2/ 661، و"المسودة": 152. (¬7) هو الحسن بن يسار, أبوسعيد البصري، من كبار التابعين وأشهرهم علماً وزهداً وورعاً وعبادةً، توفي سنة (هـ110). "حلية الأولياء" 2/ 131، و"شذرات الذهب" 1/ 136. (¬8) "المسودة": 152 - 153، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 300.

- فصل يجمع أدلتنا

فصل يجمع أدلّتنا فمنها: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حلفَ على يمينٍ فرأى غيرَها خيراً منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّر عن يمينه" (¬1)، وروي: "فليكفّر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير" (¬2) ولو كانَ الاستثناءُ طريقاً للتخلص بعد حصول الندم، وتأمُّل الخير في البُرء منها، لأرشدَ إليه، ولم يخصَّ ذلك بالكفارةِ، ولم يوجب الحِنثَ مع إمكانِ البِرِّ، فلما نصّ على التكفير، دلَّ على أنه لا طريقَ إلى ذلك بالاستثناءِ، إذ لو كان كذلك؛ لكان يُرشدُ إلى الأسهلِ (¬3). ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ لا يعُدّون ما انفصلَ استثناءً، فلو قال القائل: رأيتُ بني تميم كلَّهم. وقال بعد شهر إلا زيداً، لم يعد في قوله: إلا زيداً. متكلماً بلُغةِ العرب، ولا يُلَفَّق هذا إلى الكلام الأول كما لا يُلَفقُ الحال بأن يقول: رأيتُ زيداً. ثم يقولُ بعد شهرٍ: قائماً, وكذلك قولُه: دخل زيدٌ الدارَ. ثم يقولُ بعد سَنةٍ راكباً. فهذا ليس بكلامٍ في عُرفِهم وعادتهم. حتى إنه لو كان ساكتاً منذ قال القولَ الأول، وقال بعد ذلك لفظَ الاستثناءِ، لم يكن مُستثنياً، فكيف إذا مضى بين الكلامين من أنواعِ الكلامِ، وجرى من الأحاديثِ الفاصلةِ بين الكلامين ما يخرجُ عن إلصاق بعضه ببعض، وتلفيقِ بعضه إلى بعض؟! ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 2/ 185، و211 و212 و 204، والطيالسي (2259)، والنسائي 7/ 10، وابن ماجه (2111)، وابن حبان (4347)، والبيهقي 10/ 33 - 34 من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه بهذا اللفظ من حديث اْبي هريرة رضي الله عنه. مالك في "الموطأ" 2/ 478، وأحمد 2/ 361، ومسلم (1650)، والترمذي (1530)، والبغوي (2438)، وابن حبان (4349)، والبيهقي 10/ 53. (¬3) "العدة"2/ 661 - 662.

ومنها: أنَّ الاستئناءَ مع المستثنى منه جملةٌ واحدةٌ، كالشرطِ مع الخبر أو الخبرِ مع الابتداء، ومعلومٌ أنَّه لو قال: زيد. ثم قال بعد شهر أو يوم: قام، لم يُعد متكلّماً بالمبتدأ والخبر بل ينقطعُ الخبرُ عن الابتداءِ، فلا يُفيدُ الأولُ ولا الثاني، وكذلكَ إذا قال: اضرب. وقال بعدَ شهر زيداً، أو قال: أكرم خالداً، ثم قالَ بعد شهر إنْ تفقَّهَ في دينِ الله، أو حفظَ كتابَ الله. فإنه لا يُلْحقُ الشرطُ بالمشروطِ، ولا الخبرُ بالشرط، ولا الفعلُ بالمفعولِ به، كذلكَ الاستثناءُ مع المستثنى منه؛ لأجْلِ أنَّ الكلَّ جملةٌ واحدةٌ، فلا يُفصلُ بعضُها عن بعض. ومنها: أنَّ الكلامَ إنما وُضع لفوائِده المخصوصة [ولو] (¬1) لحق الاستثناءُ بالمستثنى منه، مع وجودِ الفصلِ، لفاتت فائدةُ الكلامِ، فإن الأيمانَ وُضعت للثقةِ بها، وتأكُدِ الخبرِ لأجلِها، وكذلكَ الوعدُ والوعيدُ، فإنَّما تحصلُ الثقةُ إذا وقعت جازمةً، ولهذا متى وقعتِ الأيمانُ معلَّقة بشرطٍ، لم تحصل الثقةُ بها، فإذا قال: واللهِ لا غدرتُ بك ولا نكثتُ عقدك إنْ شاءَ اللهُ. لم يعدَّ يميناً، فإذا كان له أن يقولَ بعد سنةٍ: إنْ شاءَ الله أو يقولَ: واللهِ لأقْضينَّك دَيْنكَ كله غداً، ثم كان له أن يقول: إلا كذا وكذا منه، ولا أعطيتُك من دَينك مئة في غدٍ، ويقول بعد ساعة: إلا أربعين. فأيُ ثقةٍ تحصلُ مع إمكانِ إلحاقِ الاستثناءِ با لمستثنى منه، وإخراجِ الكلامِ الأولِ بالاستثناءِ الواقعِ بعد زمانٍ إلى ما تقدَّمَ من الكلامِ (¬2).؟!. ومنها: أنَّ تقديرَ ذلك بالسَنةِ لا ينفصلُ عن الأقل منها والأكثر فلا وجهَ لهذا التقدير. ومنها: أن اللهَ سبحانَه [لو] (¬3) قال لمكلف: أعتقْ رقبةً، أو صُم شهرينِ، ثم قال ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 75. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

- فصل في شبههم

بعدَ سنةٍ: مؤمنةً، ومُتتابعين. لما عَرفَ المكلَّفُ أنَّ ذلك يرجعُ إلى الأوَّل، وإذا كان الاتصالُ من أحد شروط البيان لمعاني الكلام، ومن آكد شروطه: نظمُه وتحقيقُه على عادةِ العرب، فلو فرق بين الحروفِ ثم يعدَّ كلاماً؛ لأنَّ النظم شرطُه، فكذلكَ الكلمةُ إلى الكلمةِ التي بالتفريق فيما بينهما تُعدمُ الفائدةُ التي وُضع الكلامُ لأجلها. ومنها: أنَّ الاستثناءَ والمستثنى منه جملةٌ واحدةٌ في الكلام، فلا يُفصل بينهما فصلاً يقطعُ الكلامَ بعضه عن بعض، كالمبتدأ والخبر فإنَّه لو قال: قام. وقال بعد مدة: زيدٌ، ثم يكن متكلَّماً بلغةِ العرب، كذلك ها هنا (¬1). فصل في شُبَههم فمنها: مارُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه، قال: "والله لأَغْزونَّ قُريشاً"، ثم سكت، وقال: "إنْ شاءَ الله (¬2) "، ولولا صحةُ الاستثناء بعد السكوت لما استثنى، لا سيَّما وقولُه مُتَّبع مُقتدىً به. وروي أنَّه لما سألته اليهودُ عن عِدَة أهلِ الكهف، وعن مُدَّةِ لُبثهم فيه. فقال: "غداً أُخبركم" ولم تقُلْ: إن شاء الله، فتأخَّر عنه الوحيُ مدةَ بضعةَ عشرَ يوماً, ثم نزل عليه: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} [الكهف: 22]، إلى قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] ¬

_ (¬1) "العدة" 2/ 663، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 74 - 75. (¬2) أخرجه من حديث ابن عباس: الطحاوي في "مشكل الآثار" 5/ 186، والطبراني في "الكبير" (11742)، وابن حبان (4343)، والبيهقي 10/ 47. وأخرجه مرسلاً من حديث عكرمة: أبوداود (3286)، والطحاوي في "مشكل الآثار" 5/ 187 والبيهقي 10/ 48. وإسناد الحديث بروايتيه المتصلة والمرسلة ضعيف، لاضطرابِ رواية سماك عن عكرمة.

فقال: إن شاء الله (¬1). والجوابُ: إنَّ هذا لا يدل على الإلحاقِ به لغةً، وإنَّما يدلُّ على أنه استدركَ ذلك تعليقاً بمشيئة الله؛ لأجل قولِ الله له: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] وتأخَرَ الوَحي عنه أياماً حيث وُعِدَ بجوابِ المسألةِ التي سُئِل عنها عن عدَّةِ أهلِ الكهف، فلما نزلَ جوابُ ما سُئِلَ عنه نزلَ في ضِمْنِه (¬2) قولُه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، فجعل قوله: إن شاءَ اللهُ بعد زمانٍ؛ لأجل النسيانِ مُزيلاً لكراهيةِ تركِ الاستثناءِ، وما يتعلق عليها من المعاتبة، ولهذا أكبر اللهُ سبحانه تركَ الاستثناء في قصةِ أهلِ الجنة التي قال أهلها: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]، فقال سبحانه: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 18 - 19] وهذا كقضاءِ الصلاةِ، فيمن نامَ عنها، أو نسيَها، فذلك وقتُ الاستدراك، لإبراءِ الذمةِ شرعاً، لا أنَهُ الوقتُ الموضوع. لذلك ها هنا سقطت المعاتبةُ به عند الإتيان بعد النّسيان، ولا يدل على أنه الوضع الذي يقضي به في سُنَةِ الكلامِ اللغوي والأحكام المبنيةِ عليه، بدليلِ ما ذكرنا (¬3). ومنها: أنَّه مذهبُ ابن عباسٍ (¬4)، وهو من اللغةِ بمكان. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" 9/ 230، و"تفسير ابن كثير" 5/ 133 و"زاد المسير" 5/ 133 و 145، و"الدر المتثور"5/ 376 - 377. (¬2) في الأصل: "ضمن"، والمثبت أنسب للسياق. (¬3) "العدة" 2/ 633 - 634. (¬4) للعلماء في توجيه الرواية الواردة عن ابن عباس رضي الله عنهما طريقان: فمنهم من قال: إنَّ هذه الرواية لا تصحى عنه رضي الله عنه، وهذا ما صرح به الجويني حيث قال: "والوجه اتهام الناقل، وحمل النقل على أنه خطأ، أو مختلقٌ أو مُخترع، والكذب أكثر ما يسمع" "البرهان" 1/ 387. =

فيقال: إنَّ ذلك إنْ صَحَ عنه، فلعله أراد به إخباراً عن شيءٍ كان قد أضمره في نفسِه، أو نطقَ به، فأخبره بإضمارِه بعدَ سنَةٍ أو إسرارِه، فظن ظانٌّ أنه ابتدأ الاستثناء في ذلك الوقتِ، والإضمارُ يستعملهُ الناسُ في الأَيمان، إذا كانت لدفعِ الظلم، وقد يَعتدُ به قوم في تقييدِ الإطلاق، فأمَّا على الوجه المذكور عنه فلا وجه له لغةً ولا شرعاً، ولو كان على غير ما تأوَّلنا لحججناه بالأدلةِ التي ذكرنا. ومنها: أنه تخصيصُ عموم، فجازَ أن يتأخَر، كالتخصيص للعموم بغيرِ لفظِ الاستثناء (¬1). فيقال: إنّا لا نُسلِّم على قول أبي الحسن التميمي، وأبي بكرٍ عبد العزير لأنَّهما لم يُجِيزا تأخيرَ البيانِ عن وقتِ النطقِ. وإن سلمنا؛ قلنا: فذاك تستوي فيه السَّنةُ وما قلَّ وكثر وزاد ونقصَ، فيقلب فيقول: فلا يتخصصُ بالسَنةِ كالأصل. ولأنَّ التخصيصَ يجوزُ بغير النطقِ من دلائلِ العقولِ، والسنّةُ: وهي لفظُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يخصُ بها كتابُ اللهِ، والقياسُ المستنبط (¬2)، وليس لنا استثناءٌ إلا هو لفظٌ من جهةِ من نطقَ بالجملةِ المستثنى منها، فهذا كلُّه يبعدُ التخصيصَ عن الاستثناءِ، ¬

_ = ومنهم من قال: "إن هذه الروايةَ إن صحت؛ فتحملُ على أن المستثنى نَوى الاستثناء متصلاً بالكلام، ثم أظهر نيته بعده". "التبصرة"162، و"المستصفى"2/ 165، و"المحصول" 3/ 28، و"العدة"2/ 661، "شرح مختصر الروضة"2/ 590، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 298، و"إرشاد الفحول": 252. (¬1) أي أن من أدلةَ المخالفين: أنه كما يجوز تأخيرُ أدلة التخصيص عن لفظ العموم، يجوزُ تأخير الاستثناء؛ لأنه في معنى التخصيص. (¬2) أي القياس المستنبط يخصُّ به كتاب الله الكريم.

ويبيّنُ أن التخصيص جملة أخرى غيرُ الجملة الأولى (¬1). ومنها: أن الرافعَ لليمينِ التكفيرُ والاستثناءُ. فنقول: معنى يرفعُ اليمينَ، فجاز أن يقعَ منفصلاً ومتصلاً كالكفارةِ. فيقالُ: إنّ الكفارة لا تمنعُ الحِنثَ، ولا ترفعُ أصلَ اليمين، بل تكفِّر الحِنث، والحِنثُ يتأخَّرُ عن اليمينِ غالباً، وإنَ الحانث يعرضُ له بتراخي الندم على ما حلفَ على تركه؛ فيفعلُه، أو على فعلِه؛ فيتركُه. والاستثناءُ من جملة الكلام، فهو بالشرط وجوابِه، والمبتدأ وخبره، أشبهُ منه بالكفارةِ. ¬

_ (¬1) أجاد الطوفي رحمه الله في بيان الفرق بين الاستثناء وبين التخصيص بنوعيه؛ المنفصل والمتصل، ويحسن أن نسوق بيانه هذا بإيجاز "أما الفرق بين الاستثناء وبين التخصيص بالمنفصل من الأدلة: فهو عدم استقلال صيغة الاستثناء بنفسها؛ لأنها تابعة للمستثنى منه، بخلاف المخصِّصات المنفصلة، فإنها مستقلة بنفسها. وأمَّا الفرق بين الاستثناء والتخصيص بالمتصل من الأدلة: فهو أنَّ الاستثناءَ يتطرق إلى النص كقوله: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدةً، وله فيَ عشرةٌ إلا ثلاثةً، بخلاف التخصيص بغير الاستثناء؛ فإنَّه لا يصحُّ في النصِّ، وإنما يصحُّ في العامِّ، ودلالته ظنية، فإذا قال: أكرم الرجال، ثم قال: لا تكرم زيداً؛ كان ذلك تخصيصاً؛ لأن دخول زيد في الرجال بالنظر إلى إرادة المتكلِّم، مظنون لا مقطوع، ولو نص على أسماء الرجال فقال: أكرم عَمراً وبكراً وبشراً وجعفراً وزيداً، حتى أتى على أسمائهم، لم يكن ذلك تخصيصاً بل نسخاً، وذلك؛ لأنَّ التخصيص يبين أن مدلول اللفظ الخاص ليس مراداً من اللفظ العام الذي هو محتمل لإرادته وعدمها، وذلك صحيح مفيد، أما إذا نصَّ على إرادة مدلولِ لفظٍ كزيدٍ أو غيره من الرجال؛ لم يصح بعد ذلك أن يُبَين أنه غير مراد له؛ لإفضائه إلى التناقض، بل يكون نسخاً؛ لأنَّ التناقض من لوازمه. انظر "شرح مختصر الروضة" 2/ 585.

ومنها: أنَّ النسخَ يجوزُ تأخيرُه عن المنسوخِ، فكذلك الاستثناءُ، والجامعُ بينهما: المعنى، وأنَّ كل واحدٍ موضوعٌ للإخراج والرفعِ والإزالةِ. فيقالُ: إنَّ النسخَ إنما يقعُ في غالبِ الحالِ لأجل اختلاف الأزمان في المصالِح والمفاسدِ، وإنَ بعض التَعبداتِ تكون مصلحةً في وقت ومفسدةً في غيره، فصارَ الناسخُ جملةً، والمنسوخُ جملةً أخرى، فلا يجبُ الاتصال، بل لو كان الناسخُ متصلاً لكانَ بيانَ غايةٍ، ولم يكنْ نسخاً، ولهذا لم يجعل العلماءُ قولَه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] منسوخاً وناسخاً، بل سموا ذلك غايةً، وفي الغالبِ أنَّه يكونُ بينهما زمانٌ يختلفُ الأصلحُ فيه بين الإثبات والرفعِ، وعقبه يكونُ إما بيانَ غايةٍ، أو عين البَداء (¬1). فصل والدلالةُ على فسادِ قولِ مَن علَّقَه على المجلس: أنَّهما جملةٌ واحدةٌ -أعني المستثنى منه مع المستثنى- فلا يقفُ على المجلسِ، كالشرطِ والجزاء (¬2)، أو الخبرِ والمبتدأ. شبهةُ الحسن (¬3): أنَّ المجلسَ في الأُصولِ جُعل كحال الكلام، ولهذا عُلقَ عليه قبضُ رأسِ مالِ السَّلَم، وثمنِ الصرَف. فيقال: ذاك تعبُّد، لا يُعقلُ معناه، فأينَ هو من صلةِ الكلامِ بعضه ببعضٍ من طريق اللغةِ، والوضعِ، بل تشبيهه بما ذكرنا من الشرطِ والجزاءِ، أو الخبرِ والمبتدأ أولى. ¬

_ (¬1) والبداء لا يجوز على الله سبحانه وتعالى، وهو ما سيورده المصنف في الصفحة 214 من الجزء الرابع. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "الخبر". (¬3) أي: البصري، رحمه الله.

* فصل: يجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه إذا كان متصلا به

فصل يجوزُ تقديمُ الاستثناء على المستثنى منه، إذا كان متصلاً به (¬1). مثل قول القائل: ما جاءني إلا أخاك أحدٌ، وما مررتُ إلا أباك بأحدٍ، وقد تكلمت العربُ بذلك نظماً ونثراً، فقال حسَّانُ بنُ ثابتٍ رضي الله عنه: الناسُ ألْبٌ علينا فيكَ ليسَ لنا ... إلا السيوفَ وأطراف القَنا وَزَرُ (¬2) وقال الكُمَيتُ (¬3): فماليَ إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ ... وماليَ إلامَشْعَب الحقِ مَشْعبُ (¬4) فكان الاستثناءُ في الموضعينِ مقدَماً على المستثنى منه. فَنُصِبا جميعاً بالاستثناء مما هو في موضع النَصبِ والخفضِ؛ لأنَّه مما تكلمت به العربُ على هذا الوجهِ. وقد قال أهل اللغة: إنَّ الاستثناء إذا تقدمَ، نُصِبَ أبداً المستثنى منه، تقول: ما جاءني إلا أباك أحدٌ، وما مررت إلا أباك بأحدٍ، واستشهدوا بهذين البيتين، فيجب ¬

_ (¬1) هذا الفصل في "العدة" 2/ 664. (¬2) " ديوان حسان ": 206، و"السيرة النبوية"، لابن هشام 4/ 141، و"شرح أبيات سيبويه" للسيرافي 175/ 2. وقد نسبَ المبرِّد في "الكامل" 2/ 614، وسيبويه في "الكتاب" 1/ 371 هذا البيت لكعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، والصحيح نسته إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه. وقوله: ألْبٌ، وإلبٌ: مجتمعون عليه بالظلم والعداوة."القاموس المحيط": (ألب). (¬3) الكميت بن زيد الأسدي الكوفي، مقدمُ شعراء وقته، حتى قيلَ في شعره: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان. روى عن الفرزدق. ولد سنة (60 هـ)، وتوفي سنة (126هـ). "الشعر والشعراء": 368، و"الأغاني" 17/ 1، 40، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 388. (¬4) نُسِبَ هذا البيت للكميت في "خزانة الأدب" 2/ 408، و"شرح أبيات مغني اللبيب" للبغدادي 6/ 333، و"الأغاني" 17/ 27، و"الكامل" 2/ 614. وورد من غير نسبة في "المقتضب" 4/ 398.

* فصل: يجوز الاستثناء من الاستثناء

ترتيبُ الأمر في تقديمه على ما ذكرنا (¬1). فصل ويجوزُالاستثناءُ من الاستثناء (¬2). لقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 59 - 60] فاستثنى آلَ لوط من أهل المدينة، واستثنى امرأة لوطٍ من آلِ لوط، فالأهلَ استثناهم من المُهلكين، والمرأةَ استثناها من المنَجَّين من الهلاكِ. فصل لايصحُ استثناءُ الأكثر (¬3). ذكَرَه الخرقيُّ من أصحابنا في كتاب الإقرار (¬4)، وهو قول ابن درستويه (¬5) النحوي، وأبي بكر الباقلّاني، خلافاً لأكثر الفقهاء والمتكلّمين في قولهم بجوازِ ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) "العدة" 2/ 665 - 666. (¬2) "العدة" 2/ 666، و"المسودة": 154، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 305. (¬3) "العدة" 2/ 666، و"التمهيد"2/ 77، و"المسودة": 154 - 155، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 307 - 308. (¬4) راجع "مختصر الخرقي" 19 - 100 حيث قال: "ومَن أقرَّ بشيءٍ واستثنى منه الكثير -وهو اْكثر من النِّصف- أُخِذَ بالكلّ، وكان استثناؤه باطلاً ". (¬5) هو أبومحمد، عبد الله بن جعفَر بن دَرَسْتَويه بن المرزُبان، الفارسيّ، من أعلام اْئمةِ النحو وشيوخهم، له مصنَّفات كثيرةٌ منها "الإرشاد" في النحو و"شرح الفصيح" و"أدب الكاتب"، قدِمَ من مدينةِ فسا بفارس، واستوطن بغداد. وتوفي سنة (347 هـ). "طبقات النحويين واللغويين": 127، "تاريخ بغداد" 9/ 428 - 429، و"فيات الأعيان" 3/ 44 - 45، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 531. (¬6) "المستصفى" 2/ 170، و"الإحكام" للآمدي 2/ 297، و"المحصول" 3/ 37، و"جمع الجوامع" 2/ 14، 15، و"البحر المحيط" 3/ 288.

- فصل في أدلتنا

فصل في أدلتنا فمنها: أن الاستثناءَ من لغةِ العرب، وقد استهجنوا واستقبحوا ما طال من الكلامِ لغيرِ حاجةٍ، واسْتَحسنوا الاختصار وهو تَقليل الكلامِ الجامعِ لكثيرِ المعاني، وهو من أحدِ طرقِ إعجازِ القراَن، فهذا في الجملةِ، وإذا جاء التفصيل كان أشدَّ تقبيحاً واستهجاناً، كقولِ القائل وهو يريدُ الإخبارَ بأنَه رأى رجلاً أن يقول: رأيتُ ألفَ رجل إلا تسع مئةٍ وتسعة وتسعين رجلاً. وقوله: وهو يريد الإقرارَ لرجلٍ بدرهم: له على ألف درهم إلا تسع مئة وتسعةً وتسعين درهماً. وما دخل في خبرِ الاستقباحِ منهم لم يكنْ مستعملاً؛ لأنَّ القومَ عقلاءُ حكماءُ، امتازوا من الخلقِ باللسانِ وحسنِ البيان، فلا يخصَّون استعمالَهم إلا بالأحسن، فإذا رأيناهم استقبحوا كلاماً واستهجنوه، علِمنا أنَّه ليس من وضعهم. والدلالة على دعوانا استقباحهم ذلك: ما ذكره أبوإسحاق الزّجّاج في كتابِ "المعاني"، لما تكلَّمَ على قوبهِ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ولم يأت في كلام العرب إلا القليلُ من الكثير (¬1). وقال أبوالفتح ابن جِنّي (¬2): لو قال قائلْ. هذه مئة إلا تسعين. ما كان متكلماً بالعربية، وكان كلامُه عِيَّا ولُكْنةً. ¬

_ (¬1) "معاني القرآن"4/ 163. (¬2) هو أبوالفتح عثمان بن جني الموصلي، من أعلام العربية وأئمتها، لزمَ أبا علي الفارسي دهراً، وسافرَ معه، حتى برعَ وصنَّف، وسكنَ بغداد، وتخرجَ به الكبار, وقرأ على المتنبى "ديوانه" وشرحه، من مصنفاته "سر الصناعة" و"التصريف" و"الخصائص"، توفي سنة (392 هـ). "تاريخ بغداد" 11/ 311، 312، و"إنباه الرواة "2/ 335 - 340 و"سير أعلام النبلاء" 17/ 17 - 19.

وقال القتيبي (¬1) في "جوابات المسائل"، وفي كتابِ " الجامع " في النحو يجوزُ أن يقولَ: صمتُ الشهرَ كله إلا يوماً، ولا يجوز أن يقولَ: صمتُ الشهرَ كله إلا تسعةً وعشرين يوماً، ويقول: لقيتُ القومَ كلهم إلا واحداً. ولا يجوزُ أن يقول: رأيت القومَ كلَّم إلا أكثرَهم. وأنشدوا في ذلك: عَداني أنْ أزوركَ أنَّ بَهْمي ... عجافٌ كلُها إلاقَليلا (¬2) ومنها: أنه لو جاز استثناء الأكثز لجاز استثناء الكل، ألا ترى أنه لما جازَ التخصيصُ في الأكثر جازَ رفعُ ذلك بالنسخِ رأساً. والأصول أكثرُها على إقامةِ الأكثرِ مقامَ الكل. ومنها: أنَّ عادةَ العرب إذا ضَموا مجهولاً إلى معلومٍ أن يبنوا الأمرَ فيه على التقريب، فإذا كان المجهولُ قريباً من العَقد (¬3)؛ ذكروا العقدَ واستثنوا المجهول، وإذا كان بعيداً من العَقد؛ قذَموه إلى ما قبلَه من العدد (¬4)، ولم يستثنوه، يقولون فيما قرُبَ من العقدِ: كُرَّينِ (¬5) إلا شَيئاً. وفيما بَعُدَ: كُرُّ حنطةٍ وشيءٌ. ولهذا حَمل الشافعيُ رحمه الله ¬

_ (¬1) هو أبومحمد عبد الله بن مسلم بن قُتيبة الدّيْنَوَري، كان إماماً في علم اللسان العربي، والأخبار وأيام الناسِ، له تصانيف في علوم القراَن والحديث واللغة والأخبار منها: "غريب القرآن"، و"مشكل القرآن"، و"غريب الحديث" توفي سنة (276 هـ)."تاريخ بغداد" 10/ 170 - 171، و"إنباه الرواة" 2/ 143 و"سير أعلام النبلاء" 13/ 296. (¬2) البيت دون نسبة في "معجم مقايس اللغة" 4/ 243، و"اللسان": (عجا)، ولفظ الشطر الثاني فيهما: "عجايا كلها إلا قليلا". والعجايا: صغار الحيوان، تموت أمها فيرضعها صاحبها بلبن غيرها. (¬3) ألفاظ العقود هي: عشر عشرون، ثلاثون ... إلى التسعين. (¬4) هكذا وردت في الأصل، والذي يقتضيه السياق أن تكون: العقد. (¬5) الكرُّ: سِتون قفيزاً، ويقدر كُرُّ القمح بالكيلوغرام بنحو (2925) كيلوغرام، أي ما يعادل (9 ر2) طن تقريباً. انظر "المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها في النظام المتري"، فالتر هنتس 69 - 70، و"المعجم الاقتصادي" للشرباصي: 384.

- فصل في الأسئلة لهم على أدلتنا

عليه خبرَ ابن جريج (¬1) في تقديرِ القُلةِ بقربتين وشيء، حمل الشيء على ما دونَ النصف، ثمَّ بلغَ به النصفَ احتياطاً للماءِ (¬2)، وهذا يدل على أنه لا يُسْتَثْنى [إلا] (¬3) الأقل. فصل في الأسئلة لهم على أدلتنا فمنها: قولهم: أما استقباحُ ذلك؛ فلا وجه له، بل الأحسنُ عندهم غيره. وليس إذا كان الأحسنُ غيرَه لم يكنْ مستعملاً ولا سائغاً، ألا ترى أن الأحسنَ في حقِّ من أراد أن يُقر بتسعةٍ أو يخبر بها، أن لا يقول: عشرةٌ إلا واحداً، بل يقولُ: تسعةٌ. ومن أراد أن يثبت ستة إقراراً بها، فالأحسنُ أن يقولَ: ستة. ولا يقول: عشرة إلا أربعة، ثم لا يقالُ: إنَّ الاستثناء كذا؛ ليس بلغةٍ ولا مستعملاً. ¬

_ (¬1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، من كبارِ الأئمة الحفاظ، قيل: هو أول من صنف الكتب بمكة، حدث عنه الأوزاعي وسفيان الثوري، وابن عيينة توفي سنة (150 هـ). "تاريخ بغداد" 10/ 400، و"فيات الأعيان" 3/ 163 - 164، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 325 - 336. (¬2) خبر ابن جريج بتقدير القلة بقربتين وشيء، ذكره الشافعي في "الأم"1/ 4، حيث قال: أخبرنا مسلمٌ عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكرُه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً"، وقال في الحديث: "بقلال هجر"، قال ابن جريج: ورأيت قِلال هجر, فالقلةُ تسعُ قِربتين، أو قربتين وشيئاً. قال الشافعي: كان مسلم يذهبُ إلى أن ذلك أقل من نصف قربة، أو نصف القربة، فيقول: خمسُ قِرَبِ هو أكثرُ ما يسع القُلتين. قال الشافعي: فالاحتياطُ أن تكون القفَةُ قربتين ونصفاً. اهـ. وتقدر القلتان: بخمس مئة رطل بغدادي، وتساوي مئةَ واثنين وتسعين كيلوغراماً، وثمان مئة وسَبعة وخمسين غراماً. وحديث: "إذا بلغ الماءُ قلتين لم ينجسه شيء" تقدم تخريجه في الصفحة 443. (¬3) زيادة يقتضيها السياق.

ومنها: أنَّ دعواكم أنَّه لم يوجدْ في لغة العرب، فكيف يصحُ ذلك منكم؟ والشاعرُ يقول: أذُوا التي نَقَصت تسعين من مئةٍ ... ثم ابعثوا حكماً بالحق قَوّالا (¬1) وهذا في معنى الاستثناء؛ لأن تقديره: مئةٌ إلا تسعين، قالوا: ولأنّا لم نسمع منهم إلا الاستثناء في كل جنسٍ وكلِّ عددٍ، ثمَّ إننا حكمنا بالاستثناءِ فيما لم نَسمع استثناءَهم فيه، على ماسَمعنا. ومنها: أن دعواكم أن كلامهم على الاختصارِ [فيها نظر] (¬2)؛ فإنه ينقسمُ تارةً إطالةً، وتارة تقصيراً، وتارةً اختصاراً، وتارةً تكريراً، وهذا يوجدُ في تكرارِ القصص في كتابِ الله تعالى، والتأكيدات في لغتهم، ونفسُ الاستثناءِ تطويلٌ وتكثيرٌ يمكن تركه إلى ذكرِ العدد الأدنى، دون ذكرِ الأعلى والأكثرِ، ثم الاستثناء منه. ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ورواية البيت في المصادر"سبعين "، والبيت من قصيدةِ لأبي مُكْعِث منقذ ابن خُنيس أخي بني مالك، وكان من خبرها أن غلاماً من بني سعد قتل غلاماً من بني مالك، فخرجت بنو مالك وأخذوا السعدي، فقتلوه، فاحتربت بنو سعد بن ثعلبة وبنو مالك، فمشت الشعراء بينهم، فقال سعد بن ثعلبة: لا نرضى حتى نُعطى مئة في صاحبنا، ويُعطى بنو مالك سبعين -فغضب لهم بنو أسد بن مالك، فقال، أبومكعث: إنَّ الذين قتلتم أمسِ سيدَهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما من يولهم صالحاً نُمسك بجانبه ... ومن يضِمهُم فإيانا إذن ضاما أدّوا الذي نقصت سبعين من مئة ... أو ابعثوا حكماً بالحق علاما وقوله: أدو الذي ... أي: أدونا مئة كاملة."شرح شواهد المغني" 7/ 229 - 230، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 322. (¬2) زيادة يقتضيها السياق.

- فصل في الأجوبة على الأسئلة

ومنها: أن ضمَّ (¬1) المجهول إلى المعلوم هو الحجة، فإنَّهم لو فسروهُ بالأكثر المقارب للعقد في النفي والإثبات، صح، بأن يقولَ: أردتُ بالشيء: خمسين قفيزاً (¬2). فصل في الأجوبةِ على الأسئلةِ أمَّا الاستهجان والاستقباح، فلا شُبهةَ فيه؛ لما نقلنا عن العلماءِ بهذا الشأنِ. وقولهم: ليس بمتكلمٍ بلغةِ العربِ من نطقَ بذلك، وما قولُ من قالَ: أعطيتُه مئة ألف إلا تسعة وتسعين ألفاً وتسع مئة وتسعة وتسعين درهماً، وما هو في الفعل إلا بمثابةِ من أرادَ المضيَّ إلى دارٍ في جوارِه طريقُها خطوات، فمضى خارجاً عنها دائراً في عَطَفاتٍ وزَنَقاتٍ (¬3)، فمدّ (¬4) المسافة فرسخاً، فاستهجانُ ذلك القولِ، كاستهجانِ هذا الفعل؛ لأنَّه تطويلٌ لا يُحتاجُ إليه، وهو العبثُ في الفعل، واللغو من القولِ، حتى إنَّ بعضَ العلماءِ يقولُ: إنه لا يحسنُ الاستثناءُ إلا بالكسر (¬5)، فأمَّا بالعَقْدِ، فلا. وهذا يرجعُ إلى معنى، و [هو] (¬6): أنّ الاستثناءَ نوعُ استدراكٍ، يقولُ الرجلُ: ثَنيتُ عِنانَ فرسي، وثنيتُ فلاناً عن رأيه، وذلك لا يقع أبداً إلا فيما يُستدركُ مثلُه لقلةِ الاهتمام به، والمذكورُ هو المهتمُ بهِ، فيذكر المئة والعشرةَ، لأنَّها المالُ الأكثرُ، والعقدُ الأكبرُ، ثم يَنْثني إلى إخراج ما قلَّ واستدراكه، فيكونُ ذكرُه الأكثرَ هو المهمُّ المذكورُ. فأمَّا أن يريدَ إثباتَ درهم، فيذكرَ مئة ألفٍ، وينفي منها ما يَبقى منه درهمٌ، فما ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "صح". (¬2) يعني: في قوله المتقدم: له علي كُرٌّ وشيء. ويُريد بالشيء: خمسين قفيزاً، وهي تقارب العقد؛ لأن الكرَّ: ستون قفيزاً. وقد تحرفت الكلمة في الأصل إلى:" نفراً". (¬3) جمع زنْقة، وهي: السكة الضيقة. "اللسان": (زنق). (¬4) في الأصل: "قد"ولعل المثبت هو الصواب. (¬5) المراد بالكسر هنا: الأعداد التي بين العقود. (¬6) زيادة يقتضيها السياق.

هذا موضوعُ العرفِ والعادةِ. وأمَّا تعويلُهم على الشعرِ وقولهم: نقصت تسعينَ من مئةِ، فإنه ليس باستئناء وإنما حكى وأخبرَ بالحالِ، وعادةُ من أرادَ حكايةَ النقصان أنه يذكرُ ما نقصَ؛ لأنَّه تقريرٌ لما فوقَ وتأكيد (¬1) له، أو شرحُ حسابِ ذكرَ أصلَه، ثم ذكر خَرْجَه (¬2). على أنَّنا لا ننكرُ أن يُستعمَل مثل ذلك القليل النادر وإنما المعوَّلُ على الاستعمالِ الشائع، ولا سبيلَ إلى الظفرِ بذلك. والذي يوضِّح أن التَنْقيصَ غيرُ الاستثناء: أنه يحسنُ أن يقولَ القائلُ: طلَّق الرجلُ من زوجاته ثلاثاً، وطلَّق امرأته من الثلاثِ طلقتين، ولا يحسنُ أن يقول: طلَّقَ زوجاتِه كلهنَّ إلا ثلاثاً، وطلقَ زوجته ثلاثاً إلاطلقتين. ولو سُئِل، فقيل له: كم طلقتَ من زوجاتِك الأربع؟ فقال: كلهنَّ إلا ثلاثاً. لاستُهجِنَ ذلك، ولو قال: طلقت منهم ثلاثاً. حَسُن ذلك، فيخبر عن الإيقاع بالأكثر ولا يستثنى الأكثر. فأمَّا الإكثارُ والإطالةُ، فهي من جملةِ اللغةِ، لكنْ للإفادة، فالتثنّي في القصصِ لبيانِ الفصاحةِ وتعجيزِ العربِ بأنَّ القصة الواحدة، كقصة نوحِ وموسى، مذكور بهذه الألفاظ الكثيرة المتكررة، وقد تُحدُّوا بواحدةِ من القَصَصِ، فما قدروا على مثلها، مع كونِ الله سبحانه قد أتى بأمثالها، وهذا أكبر قصدِ في التعجيز. ونفسُ الاستثناء مستعملٌ غيرُ مستهجنٍ، فأمَّا استثناءُ الأكثرِ فإنَّه غيرُ مستعمل على ما بيّنا، وما دخل في كلامِ المُحْدَثين -من غير استعمالِ كثُرَ من العربِ- واستمرَّ, فلا عبرة به. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تكثير" ولا يستقيم بها المعنى. (¬2) أي: ما خرج منه.

- فصل في جمع شبههم

فصل في جمع شُبههم فمنها: أنَّ القرآنَ وردَ بذلك؛ وهو الأصلُ المعمولُ به، وعليه [المعوَّل] (¬1) في اللّغة والشرع، فقال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وقال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39 - 40] فقد استثنى الغاوينَ من جملة العباد والمخلصين من جملتهم، وأّيّهما كان أكثر فقد استئناهُ. على أنَّ النصوصَ تُعطي أنَّ الغاوين أكثر بدليل قوله تعالى: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] صدقه اللهُ على ذلك بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] , {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63]، {لَا يُؤْمِنُونَ} (¬2) ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ...} [المزمل: 1 - 4]،، فقد استثنى النصفَ، وليس بأقلَّ (¬3). ومنها: أنَّه معنى يُخرَجُ به من العموم ما لولاه لدخلَ فيه، أو لفظ، يُخرجُ من الجملة ما لولاهُ لدخلَ فيها، فجازَ أن يُخرجَ الأكثر كالتخصيص. ومنها: أنَّه استثناء بعضِ ما يتناولُه العمومُ، فصح كما لو استثنى الأقل. ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) يعني قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، [البقرة: 100]. (¬3) "العدة" 2/ 670.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

فصل في الأجوبة عن شُبَههم أما استثناؤه سبحانه الغاوين من العبادِ، فهو استثناء بعض الجملة التي لم ينصَّ فيها على عددٍ لا في المستثنى منه، ولا الاستثناءِ، وإنما تُعلَمُ الكثرةُ بالاستدلالِ، وذلك لا خلافَ فيه، إنّما الخلافُ في استثناء الأكثرِ من جملةٍ ذاتِ عددٍ (¬1) محصورٍ منطوقٍ به، ويُستثنى منها عَددٌ منصوص عليه، ويكون المستثنى أكثرَ من المستثنى منه. ألا ترى أنَّه يحسُن أن يقول: خُذْ ما في هذا الكيس من الدراهم كلها إلا البيضَ، أو الزُّيوفَ. وتكونُ البيضُ أكثر ولا يحسُن أن يقولَ خذْ كل هذه الألف درهم التي في الكيس إلا تسع مئة وتسعة وتسعينَ فلا تأخذْها، فلمَّا صرَّحَ بالعددين. لم يحسنْ، ولمّا ذكرَ الاستثناءَ بالصفة من غير ذكرِ عددٍ حسُنَ. على أنه يجوزُأن يكون [إلا] ها هنا، بمعنى لكن، وهو الاستثناء المنقطعُ، ويحتملُ أن يكونَ أنزلهم منزلةَ القليلِ لقلةِ منزلتِهم، وإن كانوا أكثرَ عدداً، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الأقلون هم الأكثرون" (¬2). يريدُ: المنزلةَ، وهذا مستحسنٌ في لغةِ القومِ أن يقول القائلُ: جاءني بنو تميم إلا أوباشهم وسَفسافهم. وإن كانوا هم الأكثرين عدداً، لكن لما كانوا الأقلين منزلةً استثناهم، وهذا وقع في الخاطر. وأمّا قولُه سبحانه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ} [المزمل: 2 - 3]، فعلى قول ¬

_ (¬1) في الأصل العدد. (¬2) أخرجه من حديث طويل لأبي ذر أحمد 5/ 152، و 158 - 159، والبخاري (2388) و (6268) و (6443) و (6444) ومسلم في كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة حديث رقم (32)، وابن حبان (170) و (195). بلفظ: "إنَّ الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة"، وفي بعض الروايات: "المكثرون هم المقلون يومَ القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله".

الخرقي: يصحُ استثناءُ النصفِ (¬1). فنحن قائلون بالآية. وعلى دولِ غيرِه من أصحابنا: لا يصحُ (¬2)، فعلى هذا: يجوزُ أن يكونَ أرادَ به الابتداءَ، فيكون ظرفاً، معناه: قُم نصفَ الليل، أو قمْ بعدَ نصفِه قليلاً. فيكون ما صرَحَ به من القليلِ هو المُعوَّلُ (¬3) عليه، والنصفُ لابتداء القيامِ القليل. يوضِّح هذا: أنَّ النصفَ بالإضافةِ إلى النصفِ، مثلُه لا قليل منهُ، فعلمَ أنهُ ليس بالاستثناءِ، لكن أرادَ بالقيام (¬4): قم نصفَه. ولهذا لما أرادَ سبحانه المغايرةَ قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} [الواقعة: 13، 14]. فقيلَ في التفسير الثلّة (¬5) الأكثر (¬6)، وإنما ذكر الثلّة في الأولين والقليل في الآخرين، ثم عادَ فقال: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 39، 40] قالوا: انّما أرادَ في الأولِ بالثلةِ: الأخيارَ والأشرارَ، وقليلٌ من الآخرينَ المرادُ بهم: الأخيارُ، وقولُه في الآية الأخرى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} يعني: خيار الأوَّلين كلُّهم ثلة، وثلة من الآخرين، خيار الآخرين خاصة، فيكونُ خيارُ أُمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ثُلة وكثرةً، مثلُ كثرةِ خيار سائر الأمم، وخيارُ أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - بالإضافة إلى خيارِ سائرِ الأمم وشرارِهم لا ثلة. فلما صرح في هذه الآيةِ بقولِه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} كان المعول (3) على استثناء الأقلِّ، فلما قال: {إلا قليلاً}، والقليلُ على ما بَينّا صريح في الأقل من النَصف إذا كان النصفُ مثلاً للنصفِ، لم يبقَ [إلا] (¬7) أن يكون قوله: {نِصْفَهُ} ذكراً لابتداءِ قيامِه، أو يكونَ قولُه: {نِصْفَهُ} كلاماً مبتدأ، لا استثناء، كأنه ¬

_ (¬1) "مختصر الخرقي ": 61 - 62. (¬2) "العدة" 2/ 670. (¬3) في الأصل: "المعمول". (¬4) في الأصل: "به القيام". (¬5) تحرفت في الأصل إلى: "الثلثة". (¬6) "تفسير ابن كثير"4/ 284. (¬7) زيادة يقتضيها السياق.

* فصل: لا يصح الاستثناء من غير الجنس

قال: بل نصفُه، إذ ليس الليلُ جملةً، ونصفُه أقلُها، لا قليلاً منها، فلا يتحققُ القليلُ على النصف إلا على أحد الوجهين اللذين (¬1) ذكرناهما. وأمَّا قياسُهم على التخصيصِ، فلا وجهَ له مع قولهم: إنَّ اللغة لا تثبتُ بالقياسِ. على أنَّ التخصيصَ غيرُ الاستثناء؛ لأنه يجوزُ بدليلٍ منفصلٍ، والاستثناءُ لا يكون إلا متصلاً، وما جازَ بذلك منفصلاً، جازَ أن يرفعَ الجملةَ، كالنسخِ لما رفع ما رفعهُ بدليلٍ منفصلٍ؛ رفعَ الجملةَ (¬2). والتخصيصُ يجوزُ بأدلةٍ ليست ألفاظاً، كدلائلِ العقولِ، ولا يقفُ على ألفاظٍ مخصوصةٍ تصلحُ للإخراج، لكن يُستدلُّ بها على الإخراجِ لبعضِ ما دخلَ تحتَ العمومِ. فصل لايصحُّ الاستثناءُ من غير الجنس (¬3) وقال أصحابُ أبي حنيفة ومالك بجواز ذلك (¬4) وهو مذهبُ أيي بكر الباقِلّاني، وجماعةٍ من المتكلمين. واختلف أصحابُ الشافعي على وجهين: ¬

_ (¬1) في الأصل: "التي"، والمثبت هو الصواب. (¬2) "العدة"2/ 671. (¬3) هذا الفصل في "العدة" 2/ 673، و"التمهيد" 2/ 85، و"المسودة": 156، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 286 - 287، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 591 - 592. (¬4) قول المالكية والحنفية في "شرح تنقيح الفصول": 241، و"ميزان الأصول" 1/ 457 - 458.

- فصل في أدلتنا

أحدُ هما: الجواز والثاني: المنعُ (¬1) فصل في أدلتنا فمنها: أنَّ الاستثناءَ مأخوذٌ وموضوعٌ. فأخذُه من: ثَنَيتُ عِنانَ فَرسي، وثنيتُ فلاناً عن رأيه. وموضوعُه: أنه لإخراج ما لولاهُ لكانَ داخلاً في الجملةِ المستثنى منها، ولا يتحقَّق الأمران جميعاً في استثناءِ غير جنس المستثنى منهُ، فإن قال قائل: رأيتُ الناسَ كلهم. كان في الإخبار عن رؤية الناس، فإذا قال: إلا حماراً. لم يثنِ كلامه عن سَنَنهِ؛ لأنه لو أطلق، لم يدخل الحمار ولمّا أتى بحرفِ الاستثناءِ لم تتغير الجملةُ الأولى، إذ لم يدخل الحمار فيها، فيخرج بحرف الاستثناء، ولا إخراج، فلا يتحقَق الاستثناء (¬2). وقد قيل: إنَه مأخوذٌ من: يَثني الخَبر بعدَ الخبر فإذا قال: رأيت الناسَ. فهذا خبرٌ, فإذا قال: إلا أباك، فهذا خبرٌ آخرُ. فالأولُ يعطي الكافَّةَ، والثاني يعطي إخراج ما كان داخلاً بظاهرِ الخبرِ الأول، وقولُه: إلا حماراً. جملةٌ لا تنعطف على الخبر الأول، ¬

_ (¬1) الراجحُ عند الشافعية جواز التخصيص من غير الجنس، غيرَ أن المجوِّزين اختلفوا هل هو استثناءٌ على سبيل الحقيقة أو المجاز؟. فالأكثرون من الشافعية ذهبوا أنه استثناءٌ على سبيل المجاز منهم القاضي أبوالطيب، وأبو إسحاق الشيرازي، والجويني، والغزالي. وذهب البعض إلى أنَّه يسمَّى استثناءً حقيقةً."البرهان" 1/ 384 و397 و398، و"التبصرة": 165، و"المستصفى" 2/ 167 و 169، و"البحر المحيط" 3/ 281 - 282. (¬2) "العدة" 2/ 673.

لحُسن الابتداء بها، فلا يكون استثناءً حقيقةً، لكن يجوزُ تجوزاً وتوسعاً (¬1) كأنه يقولُ: رأيتُ الناسَ كلهم، وما رأيت حماراً. ويتضحُ في أبعاض الحيوان، فإذا قال: رأيتُ زيداً إلا يديه. حَسُن ذلك؛ لأنَّ زيداً اسمُ علم على جملةِ تشتملُ على يديه وبقيةِ أعضائِه، فلو أطلقَ لعمتِ الرؤيةُ جميع أعضائِه، فهذا استثناءٌ صحيحٌ حقيقةً، فإذا قال: رأيت زيداً إلا خاتَمه، لم يكنْ ذلك حقيقةً استئناءً؛ لأنَّ إطلاقَ رؤيته لا تقتضي رؤيةَ خاتمه، إذ ليسَ الخاتمُ داخلاً في جملة ما وقع عليه اسمُ زيدٍ. ومنها: أنَّ ألفاظَ الاستثناءِ: إلا، وغير، وسوى، وأخوات ذلك، لا يصحُ الابتداءُ بها، ولا يُفهم من الابتداءِ بها معنى، فلا بُد أن تقعَ منعطفةً على جملةٍ تتقدمُها، مثل قولِ القائل: دخل الناسُ دارَ الأميرِ إلا التجارَ، فخرج بهذا الحرف من لولاهُ لدخل في الجملةِ المخبَرِ عنهم بالدخولِ، فإذا قال: دخلَ الناسُ كلُّهم دارَ الأميرِ إلا الكلابَ. أو: إلا الحمير. لم يكن لهذا تعلق بالجملة الأولى، وإذا لم يتعلق بالجملة صار كالمبتدىء بقوله: إلا الحمير. ولو ابتدأ بذلك مُبتدىءٌ لما كان متكلماً بمفيد، فلا يكونُ استثناءَ لانتفاءِ الحقيقة عنه (¬2). ومنها: أنَّ إلاستثناء: أخذُ ما يُخصّ به اللفظُ العامُ، فلا يصحُ فيما لم يدخل في العمومِ، كالتخصيص بغيرِ حروفِ الاستثناءِ، فإنَّه لو قال: اقتلوا المشركين، ثم جاء النهيُ عن قتل الضفادع، وقطعِ السِّدْرِ لم يُعَد ذلك تخصيصاً، كذلكَ إذا قال: قتلتُ المشركين. أو: دخل المشركون إلا الضفادع. ومنها: أَنَّ وضعَ العرب للكلامِ وضع إحكام وإتقان، تميزوا به عن سائر الأُمم، ¬

_ (¬1) قوله: يجوز تجوُّيزاً وتوسُّعاً، يدلُّ على أنه يجوزُ الاستثناءُ من غير الجنس، ولكن على سبيل المجازِ لا الحقيقة، وهذا ما قاله الأكثرون من الشافعية. (¬2) "العدة"2/ 674، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 86.

- فصل في شبههم

كما تميزت كلُّ أمةٍ من الأممِ بصناعةٍ، فالرومُ بالنِّساجة، والفرسُ بالأبنية وعمارة الأَرض، والهندُ بالتطبيب والتركُ بالهراش (¬1)، والزنوجُ بالكَدِّ وأعمالِ الأبدانِ، وحملِ الأثقال، فلا ينبغي أن يُدخلَ على وضعِهم، ولا يُنسبَ إليهم فيما خُصّوا به [من] (¬2) الكلام ما يُستهجنُ ويُستقبح، ولا أهجنَ وأقبحَ من قولِ القائل: دخلَ الناسُ إلا الحميرَ، وخرج الناسُ إلا الكلابَ، فلا وجهَ لإضافتِه إلى لغةِ القوم، لا سيّما وَضعاً وحقيقةً، لاتوسعاً ولا تجوّزاً. يوضِّح هذا: أن ما أفادَه السكوتُ لا ينبغي أن يصرَّحَ به، فإنَّه لو قالَ: جاءني الناسُ، وجاءني بنو تميم، لعُلمَ بذلكَ تَوحدُهم عن بني تميمٍ من العرب، فضلاً عن الحمير، فإذا قال: إلا الحمير فما تلفَّظ إلا بما كان (¬3) يحملُه السكوتُ. فصل في شبههم فمنها: أن قالوا: إنَّ الاستثناءَ من غيرِ جنسِ المستثنى منه لغةُ العرب، يشهدُ لذلك القرآن، وأشعارُ العرب، وما سُمِعَ في منثورِ كلامِها، قالَ اللَّهُ تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11] وقد نطقَ القراَنُ بأنَّهُ مِنْ جنس آخرَ ليس مِنْ جنسِ الملائكةِ، فقال في آية اَخرى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف: 12]، والملائكة ليستْ من نارٍ، بل هي حرّةُ الأصلِ، مخلوقةٌ من الأنوارِ (¬4) أو ¬

_ (¬1) الهِراش: هو المقاتلةُ والمواثَبة. انظر "اللسان": (هرش). (¬2) زيادة يقتضيها السياق. (¬3) العبارة في الأصل: "ما تلفظ لا يعمل إلاّ ما كان"، ولعل المثبت هو الصواب. (¬4) الثابت في الحديث أن الملائكة خلقت من نور، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من ناؤ وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم". أخرجه مسلم (2996)، وأحمد 6/ 153، والبيهقي 9/ 3.

الهواءِ، على ما اختلف الأصوليون فيهِ، ولإبليسَ ذريةٌ كما أخبرَ سبحانه (¬1)، ولا ذريَّة للملائكة، ولا تتوالدُ، فقد استثنى الشيطانَ من الملائكةِ. وقال تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، فاستثنى الباري من جملةٍ، والباري مُنزهٌ عن الدخولِ في الأجناسِ. وقولُه تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] فاستثنى الظَّنَّ من العلمِ، وليس من جنسِه. وقال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25 - 26] فاستثنى السلام من اللغوِ وليس من جنسِه. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والتجارة ليست من جنس الباطلِ، وقد استثناها من جملةِ الباطِل المنهي (¬2) عنه. وقال تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} [يس: 43 - 44] {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] ومن رحمَ ليس بعاصمٍ، وإنما هو معصومٌ، وليس بمعصومٍ من جنسِ العاصِم. وقال الشاعر وبَلدةٍ ليسَ بها أنيسُ ... إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ (¬3) ¬

_ (¬1) كما في قوله تعالى في الآية 50 من سورة الكهف: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50]. (¬2) في الأصل: "للنهي" والمثبت هو الصواب. (¬3) البيت لعامر بن الحارث بن كلدة، المعروف بجران العود، وهو في "ديوانه": 50، وفي "الكتاب" لسيبويه 2/ 322، و"هَمع الهوامع" للسيوطي: 1/ 225، و"المقتضب"2/ 347،=

- فصل في الأجوبة عن هذه الجملة

فاستثنى اليعافيرَ والعيسَ، وليست من جملةِ الإنسِ الذين تأنس بهم البلادُ. وقال الآخر: فلاعَيْبَ فيهم غيرَ أن سُيوفَهم ... بهنَ فُلول من قِراعِ الكتائبِ (¬1) وليس الفلولُ بقراعِ الكتائبِ عيباً، بل فخراً لأربابِ السيوفِ، وقد استثناه من العيوبِ، والعربُ تقول: وما زاد إلا ما نقص، وما بالدارِ أحد إلا الحمار, وما جاءني زيدٌ إلا عَمراً. فصل في الأجوبة عن هذه الجملة أمَّا استثناءُ إبليسَ من الملائكةِ؛ فإنهُ من الملائكةِ جنساً لا يمتازُ عنهم، روي ذلك عن ابن عباس، وأنه كان من الملائكةِ من خُزَّانِ الجَنَّةِ، وكان رئيسَهم (¬2)، وإنما سُمّي بذلك؛ لأنَّهُ مضافٌ إلى الجِنَة (¬3)، كما يقال: رجل مَكيّ. مُضاف إلى مكةَ، وجِنّي مضافٌ إلى الجِنَّةِ. قال أبو إسحاق: سمعت الشيخ أبابكر وقد سُئِل عن إبليسَ أمِنَ الملائكة؟ ¬

_ = و"المفصل" لابن يعيش 2/ 80. واليعافير جمع يعفور وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضاً. والعيس: إبل بيض يخالط بياضها شقرة، جمع: أعيس، والأنثى: عَيساء. (¬1) البيتُ للنابغة الذبياني، انظره في "ديوانه": 16، و"الكتاب" 2/ 326، و"المغني" لابن هشام: 155، و"خزانة الأدب" للبغدادي 2/ 9. والفلول: جمع فَل، وهو: الكسر في حد السيف. (¬2) ذكر هذا القول عن ابن عباس "الطبري" في "التفسير" 1/ 503 تحقيق أحمد شاكر وابن كثير في التفسير 1/ 110 و" السيوطي" في "الدرالمنثور": 1/ 111. (¬3) أو إلى " الاجتنان والاختفاء"، كما ذكر الاَمدي في "الإحكام"2/ 295.

قأل: من الملائكةِ (¬1). والذي يوضّح هذا وأنَّه من الملائكة: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وإنما أمرَ الملائكةَ، فلو لم يكن منهم لما دخلَ تحتَ الأمر ولا لحِقَهُ اللَّومُ أو العقوبةُ بامتناعِه، كما لو نادى السلطانُ بإحضارِ الفقهاءِ، فلم يحضرْ شاعرٌ ولا نحوي، فإنه لا يلحقُه على عدم حضوره لَومٌ (¬2) من جهةِ السلطان. وأمَّا قولهم: إنَّه كانَ مخالف الملائكةِ في كونه من نار وكونه مولوداً لهُ بقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: 55]، فيجوز أن يكونَ لمّاَ أبلسَه (¬3) اللهُ غيَّر خَلْقه، كما غيَّر خَلق آدم، بأن يُجعل بحيثُ يبولُ ويَتغوَّطُ بعد أن لم يكنْ، وأولدَ في الأرضِ، ولم يولدْ في الجنةِ، والنارُ والنورُ متقاربانِ. على أنَّ قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] يجوز أن يكونَ أرادَ به فعله فعلَ الجِنّ، كقولنا: فلانٌ من الملائكةِ، إذا كانَ فعلُه الخيرَ والعفةَ، قال الله تعالى في نسوةِ امرأة العزير {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وإنَّما أردنَ بذلك: أنَّه لما اعتصمَ -مع هذه الشبيبةِ والحُسْنِ- عن زَليخا، مع الحُسنِ والخلوةِ والمراودةِ، كان ذلك من فعلِ الملائكةِ وأخلاقِها، دون أخلاقِ. البشرِ وطباعِهم، كذلك لما ظهرَ مِن إبليسَ وعصيانِه ما ظهرَ [أُضيفَ] (¬4) إلى الجنِّ. وقد تتغيرُ أحوالُ الملائكةِ بتغيرِ الأفعال، كما غيرَّاللهُ خلقَ هاروت وماروتَ إلى ما ورد به النقلُ وعلَّموا الناسَ السحر (¬5). ¬

_ (¬1) "العدة"2/ 676. (¬2) في الأصل "لأنه" والمثبت هو الصواب. (¬3) أي: أبعده من مغفرته، وأيأسه من رحمته. "الصحاح": (بلس). (¬4) زيادة يقتضيها السياق. (¬5) يشيرُ بذلك إلى قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ مَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]

ويجوزُ أن يكونَ استثناهُ من جملةِ المأمورين، وقد يُجمعُ الأمرُ كما يُجمع الجنسُ، فلما اجتمع هو والملائكةُ في الأمرِ بالسجودِ وإن كانَ من غير الجنس حسُنَ استثناؤهُ من المشاركين له. وأمَّا قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] لمَّا قال {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: 75 - 76] وممَن عبدوا اللهَ سبحانه؛ لأنَهم كانوا مشركينَ بالله، لا جاحدين، فاستثنى الباري من جملة معبوداتهم (¬1)، فلا يُنظر إلى أنَّ الباري ليس من جنسها، لكن لما ذكر المعبودين استثناه من جملةٍ جَمَعتها عبادةُ القوم، كما قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، دخلَ في العموم الملائكةُ وعيسى وعُزَيرُ, فأخرجهم التخصيصُ بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، فهذا هو الجواب الصحيحُ عندي. وقد أجاب قوم: بأن (إلا) ها هنا ليس بحقيقةِ استثناء، لكنه بمعنى لكن، تقول العرب: ما لي نخلٌ إلا شجرٌ, ولا إبلٌ إلا بقرٌ، ولابنتٌ إلا ذكرٌ. يريدون: لكن كذا (¬2). وأمّا قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] فهو بمعنى: لكن اتباعَ الظنِّ، مثلُ قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] والخطأ لا يقال: إنَّه له (¬3)؛ لأنه لا يوصَفُ بحظرٍ ولا إباحةٍ، لكن إن قَتلَه خطأً؛ فتحريرُ رقبةٍ. على أنَّ الظنِّ: إدراكُ المظنونِ على طريقِ تغليبِ أحدِ مِحْوَرَيْه (¬4)، ويقعُ عليه اسمُ ¬

_ (¬1) في الأصل:"معبودهم"، والمثبت أنسب للسياق. (¬2) "الإحكام" للآمدي 2/ 296، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 87 - 88. (¬3) يعني لا يقال: إن للمؤمن أن يقتل خطأ. "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 87 - 88. (¬4) "العدة"1/ 83.

العلمِ في غالبِ الاستعمالِ، قالَ اللهُ تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، ولا طريقَ لنا إلى علمِ ذلك، وإنما المرادُ به: فإن ظننتموهنَّ مؤمناتٍ. وسَمَّى العلمَ ظنّاً (¬1)، فقال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] والمرادُ به: يعلمون (¬2). فلما كثُرَ استعمالُ أحدهما في الآخر حسُنَ الاستئناءُ، وذلك كثيرٌ لا يُعَدّ (¬3). وأما قولُه: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25 - 26]، وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29]، كلّ ذلك استثناءٌ منقطع. بمعنى: لكن يسمعونَ التسليمَ، لكن كُلوها بتجارةٍ، لكن رحمةً منا (¬4)، لكن من رَحِم (¬5). وهذا قولُ سيبويه (¬6). وقال ابنُ قُتيبة في كتاب "الجامع في النحو": ومما تكون فيه (إلا) بمعنى (لكن) قولُه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]، يعني: لكنْ من رحمَ. وكذلك قولُه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98]، لكن قومُ يونس، وهذا قولُ سيبويه (¬7). وأما قول الشاعرِ, فإنه استثنى اليعافرة والعيسَ، من جملةِ الأنيسِ لا الإنسِ، وقد ¬

_ (¬1) في الأصل: "ظنياً". (¬2) "تفسير ابن كثير"1/ 88. (¬3) في الأصل: "يتعدد". (¬4) يعني في قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} [يس: 43 - 44] (¬5) في الأصل: "عصم"، والمثبت هو الصواب، كما في قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] (¬6) "الكتاب" 2/ 325. (¬7) المصدر السابق، و"العدة" 2/ 676 - 677.

يحَصلُ الأُنْسُ بالوحوش، بل بالآثارِ والأبنية فَضلاً عن الحيوانِ، فهي وإن فارَقتْ في نوع الحيوانية، فقد اجتمعت مع الإنسانِ في جنس الحيوانية، ولهذا يحصلُ أُنسُ الإنسانِ بالأشجار لأجل المناسبة في النَّماء، فهو استثناء من الجنسِ، وهو الانسُ. وأما الفُلولُ فهي عيب في السيوفِ، وإن كانت فضلاً ومدحةً لأربابِ السيوفِ، من حيثُ سببُ الفُلولِ. ومنها: أن قالوا: [إنه] (¬1) استثناءُ لا يرفعُ الجملةَ، فصح، كما لو كان من الجنسِ، ما لو استثنى وَرِقاً من عينٍ، وعَيناً من وَرِقٍ. فيقالُ: لا يجوزُ أن يُعتبر غيرُ الجنس بالجنسِ، لأنَّ الجنسَ يدخلُ في الجملةِ فلذلك حسُنَ إخراجُه بحرفِ الاستثناء منها، وجازَ بيانُ أنه غيرُ مرادٍ بها، ولهذا جاز تخصيص [الجنس] (1)، ولم يجزْ تخصيصُ غير الجنسِ (¬2). وأما استثناء العَين من الورِق، والوَرق من العين؛ ففيه وجهانِ عن أصحابنا: أبو بكر يمنعُه (¬3). والخِرقي يُجيزُه (¬4). ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الجملة غموضٌ وخفاءٌ ولعل مِمّا يُظهر مرادَ ابن عقيل في دفع هذه الشبهة، ما أجاب به القاضي أبويعلى في رده للشبهة ذاتِها، حيث قال:" إنه لا يجوزُ اعتبارُ الجنسِ بغيرِه، كما لم يجز اعتبارُ التخصيص بغيره، ولأنَّ الاستثناء من الجنسِ يوجدُ فيه معنى الاستثنا" وها هنا لا يوجدُ معناه؛ لأن معناه: إخراجُ ما لولاه لدخلَ تحت اللفظ": "العدة" 2/ 677. (¬3) يعني: غلامَ الخلال، وقد نقل ابن قُدامة عنه القولَ بعدم صحةِ استثناء الورِق من العينِ، ولا العينِ من الورِق في "المغني" 7/ 269. (¬4) انظر رأي الخرقي في "مختصره": 99، في كتاب الإقرار حيث قال: "ومَن أقر بشيءِ واستثنى من غير جنسه، كان استثناؤه باطلاً، إلا أن يستثني عيناً من وَرِق، أو ورِقاً من عين".

* فصل في الاستثناء إذا تعقب جملا وصلح أن يعود إلى كل واحدة منها لو انفردت، فإنه يعود إلى جميعها

فإن منعناه؛ فلا كلامَ وإن سلمناهُ؛ فكأن المعنى فيه: أنَّهما أُجريا مجرى الجنس، ولذلك ضُمَّ أحدُهما إلى الآخر في الزكواتِ، واعتُبر بيعُ أحدهما بالآخر أن يقعَ التقابضُ في المجلس، وهما قِيمُ الأشياءِ وأثمانُ البِياعات. والصحيح: المنعُ (¬1)؛ لأنَّ شاهدَ تغايرهِما: جوازُ التفاضل بينهما في البيع مع كونهِما موزونين، واختلافِ ألوانهِما وطبعِهما؛ لأنَّ المعوَّل في المسألةِ على أنهُ لا يدخلُ، ومع كونِهما كالجنسِ، لم يدخلْ أحدُهما في عموم الآخر فالتسليمُ ينقضُ جميعَ ما ذكرناه. فصل في الاستثناء إذا تعقَب جُملاً وصلح أن يعود إلى كل واحدٍ منها لو انفردت، فإنَّه يعود إلى جميعها (¬2). وذلك مثلُ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5] فإنَّه يعودُ إلى جميعها، فكأنَه يقولُ بمقتضى الظاهر فلا تجلدوهم، واقبلوا شهادتهم، ولا تُفسِّقوهم إلا أنَّ الحدَّ استُوفيَ بدليلٍ انفردَ به. وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ ¬

_ (¬1) وفَقَ ابن قُدامة بين الروايتين: بأن تُحمَلَ روايةُ الخرقي التي تقول بجواز الاستثناء وصحتِه؛ على ما إذا كان أحدُهما -أي: المستثنى أو المستثنى منه- يعبر به عن الآخر، أو يعلمُ قدرُه منه، وروايةُ البطلان المنقولةُ عن أبي بكر على ما إذا انتفى علمُ قدر أحدهِما من الآخر أو كان لا يُعبَّر به عنه. انظر "المغني" 7/ 270. (¬2) انظر هذا الفصل في"العدة" 2/ 678، و"المسوّدة": 156، و" التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 91، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 612، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 312.

فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 - 69] يرجع إلى سائر الجمل، فترفعُ حُكمَها التوبةُ. قال أحمدُ في قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -:" لا يُؤمُ الرجلُ في أهلِه، ولا يُجلَسُ على تكرِمَتِه" (¬1)، قال: أرجو أن يكونَ الاستثناءُ على كله (¬2). يعني: إلا أن يأذنَ في الإمامةِ والجلوس. وبهذا قال أصحابُ الشافعي (¬3). وقال أصحابُ أبي حنيفة (¬4)، وجماعة من المعتزلة (¬5): يعود إلى أقرب الجُمل المذكورة. ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "مكرمته"، والمثبت من مصادر التخريج، والتكرمة: هي الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش وغيره، مما يُعدُّ لإكرامه. "النهاية في غريب الحديث": (كرم). والحديث أخرجه أحمد 5/ 272، ومسلم (673)، وأبوداود (582) و (583)، والترمذي (235) و (2773)، والنسائي 2/ 77، وابن ماجه (980) والطيالسىِ (618)، وابن خزيمة (1507) و (1516)، وابن حبان (2127)، و (2133) و (2144)، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. (¬2) "العدة" 2/ 679. (¬3) "المستصفى" 2/ 174، و"التبصرة": 172، و"المحصول" 3/ 43، و"جمع الجوامع"2/ 17، و"البحر المحيط" 3/ 307. (¬4) "أُصول السرخسي"2/ 44 - 45 و"ميزان الأصول"1/ 460، و"تيسير التحرير" 1/ 302. (¬5) "المعتمد" لأبي الحسين البصري 1/ 264.

- فصل في جمع أدلتنا

وقال أصحاب الأشعري: هو على الوقف على ما يدل عليه الدليل (¬1). وإنما يقف الأشعري في أكثرِ المسائل؛ لأنه لا يجدُ ترجيحاً ولا ظاهراً، وأقدمَ غيرُه؛ لِما قام عنده من أمارَةِ الترجيحِ. فصل في جمع أدلتنا فمنها: أنَّ الاستثناءَ معنى يقتضى التخصيصَ، لا يستقلّ بنفسِه، فإذا تعقَّب جملاً رجَع إلى جميعها، كالشرطِ. وقد أجمعنا على أنَّه لو قال: امرأتي طالقٌ، عبدي حرٌّ، ومالي صدقة إنْ شاءَ الله، أو: إنْ دخلتُ الدارَ،. فإنَّ كلِّ واحدٍ من ذلك يكونُ موقوفاً على المشيئة، ودخولِ الدار. يوضحُ صحةَ إلحاق الاستثناء بالشرط: أنَّ الاستثناءَ يعمل عملَه، فيوقفُ تَنَجُّز الجملِ ووقوعها، فإنّه إذا تابَ؛ خرج عن حكم رَدِّ الشهادة والفسقِ، وإذا دخل الدار؛ خرج عن الرَّقِّ إلى العتقِ، والنكاحِ إلى الطلاق. وتقديرُ قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}: إلا أن يتوبوا، فهما سواء؛ لأنَّ هذا لوقوع (¬2) المشروط، وهذا لإخراج (¬3) المستثنى، وجميعهما يقتضيان التخصيص. أو نقول: ما عاد إلى جملةٍ من الجملِ لو انفردتْ، عادَ إلى جميعها إذا تقدَّمت، كالشرط؛ فإنه لوقال: زوجتي طالق إنْ شاءَ اللهُ، أو عبدي حرٌّ إن شاءَ اللهُ. عادَ الاستثناءُ إلى كلِّ جملةٍ منفردةٍ، وعادَ إلى جميعها إذا تقدَّمت، كذلك الاستثناءُ لما عاد ¬

_ (¬1) وهذا ما رجحه القاضي الباقلاني، ووافقه عليه الإمام الغزالي، "المستصفى" 2/ 174، و"الإبهاج"2/ 95. (¬2) في الأصل:"الوقوع". (¬3) في الأصل: "الإخراج".

إليها إذا انفردتْ، يجب أن يعودَ إلى جميعها إذا اجتمعتْ وتقدمتْ. قالوا: إن أهلَ الوقفِ لا يردونَ المشيئةَ إلى الجميع بمقتضى اللغةِ، بل مقتضاها رجوعُ المشيئةِ إلى الجملةِ التي تلي المشيئة، وإنَّما حكمنا برجوعِها إلى الجميعِ بمقتضى الشرعِ والحكمِ، لا بمقتضى اللغةِ. قالوا: ولأنَّ الشرطَ يؤثِّر في جميعِ الجملةِ ورفعِ جميعها، فجاز أن يَرفَع. جميعَ الجملِ التي، تقدمته، والاستثناءُ يؤثِّر في بعضها، فلَيسَ أحدُهما كالآخر فيقال: الشرعُ إنَّما حكمَ في الألفاظِ بمقتضى اللغةِ، وما جاءَ الشرعُ بما يخالف اللغةَ، فلو لم يجب عَودُ الاستثناءِ إلى الجمل كلّها لغةً، لما أعادَ المشيئة إلى الكل، وكما لا يجوز أن تُحمل الألفاظُ إلأ على مقتضى لغةِ العرب وتُبنى الأحكام عليها، لا يجوزُ أن يَرِد الشرعُ بحكمِ يخالفُ مقتضى اللفظِ في اللغةِ، وكونُ الشرط يرجع إلى جميع الجملةِ، والاستثناء إلى بعضها، لا يمنعُ التسوية بينهما في رجوعِه إلى جميع الجملِ، كماْ لم يوجب الفرقُ بينهما في عوده إلى الجملةِ الواحدة إذا انفردتْ، كونُة مما يرتفع جميعُها بعدمِه؛ لأنّ وجودَها لأ يصحُ إلا بوجودِه، فالشرطُ لإيجادها ولكلّ جزءِ منها، والاستثناءُ للإخراج لا للإزالةِ، فافتراقهما في رقع الكلّ بعدمِ الشرط، ووجودها بوجودِه لا يمنعُ تساويهما في انعطافِ كل واحدِ منهما على، ما تقدمه، وإذا كان الاستثناءُ للإخراج، فالجميع لا يخرجُ عن نفسه (¬1). ومنها: أنَّ الجمل المعطوف بعضها على بعضٍ، بمثابةِ الجمله الواحدة. الدليل على ذلك: أنَّه إذا قاْل: رأيت - رجلاً ورجلاً، بمثابةِ قوله: رأيت رجلين. لا سيّما على مذهب من يقول: إنَّ قوله لغير المدخولّ بها: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ. يقع، بها الثلاثَ، كما لو قال: أنتِ طالقُ ثلاثاً. وهو مذهبُنا، وهذا يدفع سؤال ¬

_ (¬1) "العدة" 2/ 680.

[من] (¬1) يفرق بين قياسِنا للجملِ على الجملةِ الواحدةِ، فيقول: إنَّ الجملة الواحدة ليس هناك ما هو أولى منها، وليس بينها (¬2) وبينَ الاستثناءِ حائل، والجملُ تصيرُ الأخيرة التي تلي الاستثناءَ حائلاً، يمنع رجوع الاستثناءِ إليها، لما بيّنا، أنَّ الجمل المعطوفة بمثابةِ الجملةِ الواحدة. ويدفع أيضاً عنّا قولهَم: إن الجملةَ الواحدة تخالفُ الجملَ، فإنه لو قال: أنتِ طالق ثلاثاً إلا واحدة. صحَ الاستثناء، ولو قال: أنتِ طالق وطالق وطالق إلا واحدة. وقع الثلاث، ولم يُخرجْ الاستثناء شيئاً، وكان الفرقُ بينهما: أنَّ الاستثناء يعودُ إلى الطلقة الأخيرة، فيصيرُ رافعاً للطلقةِ من طلقةٍ، والاستثناءُ متى كان رافعاً للكلّ بطُلَ ولم يُخرجْ شيئاً. ونحن نقولُ: لا يرجعُ إلى الجميع وهي الثلاث؛ لأنَّ الواوَ العاطفةَ تجري مجرى قوله: أنت طالق ثلاثاً (¬3). ومنها: أن الاستثناءَ يصلحُ أن يعودَ إلى كل واحدةٍ (¬4) منهما، وليسَ إحداهما بأولى من الأخرى، فوجبَ أن يعود إلى الجميع، كالعموم؛ شمل آحادَ الجملةِ إذ لم يتخصصْ أحدُهما بمعنىً يوجبُ وقوفه عليه وتناوله له خاصَّةً، فيعم آحادَ الجنس كلَّها، كذلكَ ها هنا. فمن قيل: فرقٌ بين الذكرِ لجملة واحدةٍ تشتمل على آحاد، وبين أفرادِ آحادِ الجملة في باب الاستثناء، بدليل أنَّه لو قال: أنتِ طالق وطالق وطالق إلا طلقةً. فإنَّه لا يرفعُ الاستثناء شيئاً، لكونه يعود إلى الجملةِ الأخيرةِ، فيصيرُ استثناءً للطلقةِ نفسِها، ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الأصل: "ولا ما بينه"، والمثبت من"العدة" 2/ 681. (¬3) "العدة"2/ 681، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 94 - 95. (¬4) في الأصل: "واحد".

- فصل في شبههم

ولو قال: أنتِ طالق ثلاثاً إلا طلقةً. صحَّ الاستثناء، وارتفعتْ به طلقةٌ. قيل: لا نُسلِّم، بل الجميعُ سواءٌ، كما تقولُ أنتَ في عودِ الشرط إلى الجميع، المفردِ وغيرِه، ففيما ذكرنا دلالةٌ على أهلِ الوقفِ لأنَّنا لما دلَّلنا على عودِ الاستثناءِ إلى الجميع، امتنع صحةُ القولِ بالوقفِ؛ لأنَّ الوقفَ إنما يوجبُه عدمُ الترجيحِ، فإذا ترجَّح أحدُ المتردِّدين، بطلَ الوقفُ. فصل في شُبَههم أما شُبهة أهلِ الوقف (¬1)، قالوا: إنَا لا نَعرفُ بالنقلِ الذي يُثبتُ العلمَ ويقطعُ العذرَ عن أهلِ اللغة، أن الاستثناءَ يعودُ إلى جميع الجمل المتقدمةِ، ولا أنَّه يعودُ إلى الجملةِ التي [تسبق] (¬2) الاستثناء، وغاية ما جاء عنهم إعادته إلى الجملةِ التي يليها (¬3) تارةً وإعادته إلى الجمل جميعها أخرى، وذلكَ بحسبِ ما تَدل عليه دلالةٌ من جهتِهم، أو قرينةٌ، فإذا كانَ استعمالُهم لذلك منقسماً, ولا نقلَ يدلُّ على رجوع الاستثناءِ إلى الجميع، ولا [إلى] (¬4) الجملةِ الأخيرةِ؛ وجب الوقفُ إلى أن تردَ دلالةٌ توجبُ ترجيحَ أحدِ الأمرينِ على الآخرِ. ¬

_ (¬1) للذين قالوا بالتوقف في عودالاستثناء وجهتان: الوجهة الأولى: وقد ذهب إليها القاضي أبوبكر الباقلاني والغزالي، حيث قالا بالتوقف العارض؛ أي لتعارض الدليل في كونِ الاستثناءِ خاصَّاً بالجملةِ الأخيرة، أو يرجع إلى الجميع. الوُجهةُ الثانية: وقد ذهبَ إليها المرتضى من الشيعة، حيث قال بالتوقف الاشتراكي: أي أنّ الاستثناء في الأصل يصلحُ رجوعُه إلى جميعِ الجمل، وإلى الجملةِ الأخيرة، على جهة الاشتراك والتساوي، كلفظِ القرء للحيض والطهر ولفظِ العين لمسمياته المختلفةِ المشتركة. "شرح مختصر الروضة" 2/ 612، و"الإحكام" للآمدي 2/ 440، و"المحصول في علم أصول الفقه" 3/ 43. (¬2) سقطت من الأصل. (¬3) في الأصل: "تليه". (¬4) زيادة يقتضيها السياق.

فيقالُ: إنما يجبُ الوقفُ إذا تساوى الأمرانِ، وما تساويا عندنا، لما بيّنا من أدلةِ الترجيح، وأن ألظاهرَ في لغتِهم عودُهُ إلى الجميعِ، ولا يعودُ إلى الجملةِ الأخيرة إلا بدلالةٍ. ولأنَّ هذه المسألةَ اختلفَ فيها السلفُ على مذهبينِ ليس فيهما وقف، فالقولُ بالوقفِ إحداثُ مذهبٍ ثالثِ بعد انعقادِ الإجماع (¬1). ومنها: أنَّ الاستثناءَ من الجملة، إذا تَعَقَب استثناء، كانَ الاستثناء الثاني عائداً إلى الاستثناءِ الذي يليهِ دونَ الجملةِ. مثاله: قولُ القائل: له فيَ عشرةُ دراهَم إلا أربعةً إلا درهمين، فإنَّ الاستثناء الثاني يعودُ إلى الأربعةِ، فيكونُ الإقرارُ بثمانية، وما ذاك إلا لأنَّ الاستنثاءَ الثاني جملةٌ تلي الاستثناء، وهذا موجودٌ في الجملةِ القريبة ها هنا. فيقال: إنما رجع الاستثناء [إلى الجملةِ الأخيرة] (¬2) دونَ الجملةِ الأولى، لأنَّه لا يصحُّ رجوعُه إليهما؛ لأنَّ إحداهما نفي والأخرى إثبات، وعندَ القوم: أنَّ الاستثناء من الإثبات نفيٌ, ومن النفي إثبات (¬3)، فلما كان قولُه: علي عشرةٌ إثباتاً، كان قولُه: إلا أربعةً. نفياً، فبقي ستة، فلما قالَ: إلا درهمين عادَ إلى الأربعةِ المنفيةِ، فاقتضى إثباتَ درهمين مع الستة فصارت ثمانية. فأمَّا في مسألتِنا فكلُّها إثباتٌ، أو كلُها نفي فصارت جملةً واحدةً، كما قلنا في تقدُّمِها للشرطِ، فإنَّه يعودُ الشرطُ إلى جميعِها عوداً واحداً (¬4). ومنها: أن قالوا: إنَّ الجملةَ الأولى بينها وبينَ الجملةِ الأخيرةِ التي تلي الاستثناءَ، ما يقطعُ الاستثناءَ عنها من إلجُملِ، فصارت الجملةُ المتخلّلةُ بمثابةِ السكتِ بين ¬

_ (¬1) "العدة" 2/ 683، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 99 - 100. (¬2) ما بين معقوفين ساقط من الأصل. (¬3) في الأصل: "ومن ألإثبات نفي" وهو تكرار لما قبله. (¬4) "التمهيد" 2/ 97 - 98.

الاستثناءِ والمستثنى منه، فإنّه تقطعُ، كذلك الجملة المتخللةُ بينَ الاستثناءِ وبينَ الجملةِ الأولى. فيقالُ: الفصلُ بين الجملةِ والاستثناءِ لا يُسلَّمُ؛ لأنَّ الجملَ كالجملةِ الواحدةِ، على ما بَينّا، والشيءُ الواحدُ لا يحولُ بينهُ وبينَ نفسِه، وكذلك ما أجري مجراه. ألا ترى أنَّ الجُملَ في بابِ الشرطِ، وهو إذا قال: امرأتي طالقٌ، وعبدي حرٌ ومالي صدقةٌ إن شاءَ الله. أو قال في الخبر أعطِ بني تميم، وبني طَيِّىء كلَّ واحدِ ديناراً إلا الكفارَ، لم يمنعْ ذلك من رجوعِ الاستثناءِ إلى الجميعِ، ولم يحصلْ ذلكَ بمنزلةِ ما لو فصلَ بينهما بالسكوت. ومنها: أنهُ استثناءٌ تَعقَّبَ جُملتين، فلم يرجعْ بظاهرِه إليهما، كما لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا أربعاً. فيقالُ: إنَّما لم يرجعْ في هذا إلى الجميع؛ لأنَّ ذلك يُفضي إلى رفعِ الاستثناء للمستثنى منه، وذلك يخرجُهُ عن حقيقةِ الاستثناءِ، وفي ردِّنا للاستثناءِ إلى جميع الجمل لا يرفعُ المستثنى منه؛ لأنَّ التائبين بعضُ المجرمينَ، والتوبةُ حالٌ غَيرُ حال الإصرار. والذي يوضِّحُ هذا: أنَّ الذي ذكروهُ؛ لو انفردت كل واحدةٍ من الجملِ، وتعقبها الاستثناءُ، لم يرجعْ إليها، وفي مسألتِنا، لو انفردت كل [واحدة] (¬1) من الجملِ، وتعقَّبها الاستثناءُ رجَع إليها، فدلَّ على الفرقِ بينهما. وإنَّما اختصَّ الطلاقُ بذلك، لأنَه لا يملكُ منه إلا ثلاثاً فقط، فلو عاد إلى الثلاث لرفعها (¬2) كلَها، فإنه لو كانَ بدلاً من الطلاقِ أنه قال: له علي ثلاثةُ دراهم، وثلائةُ دراهمَ، وثلاثةٌ إلا أربعةً. صحَّ الاستثناءُ وصارَ كأنَه قال: له علي تسعةُ دراهم ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الأصل: "فرفعها".

إلا أربعة (¬1). ومنها: قولهم: لو قال: امرأتي طالقٌ، وأعط زيداً درهماً إن دخلَ الدار لم يرجع الشرطُ إلى الطلاقِ، بل يقع الطلاقُ، ويقف دفعُ الدرهم على دخولِ الدار, فكذلكَ ها هنا، وهذا مثلُ مسألتنا، وهو في باب الشرطِ الذي عوَّلتم عايه. فيقالُ: إنَّ الجملتين مختلفتان؛ إحداهما: إيقاعُ طلاقٍ، والثانيةُ: أمر، فلما عدلَ عن إيقاع الطلاقِ إلى الأمر علمنا أنهُ لم يصل الثاني بالأوِل، وإنما بدأ بأمر علَّقهُ على شرطٍ، فعادَ الشرطُ إليه، وليس كذلك في مسألتِنا؛ لأنَّهُ لم يقطعْ ما تقدمَ بغيرِه. فوِزانُ ما ذكرتُم من مسألتِنا أنْ يقولَ: امرأتي طالقٌ، ومالي صدقةٌ على فلانٍ المسكينِ إن دخلَ الدارَ، فيرجعُ الشرطُ إلى الجميعِ. ومنها: قولهُم: إنَّ العمومَ قد ثبت في كلِّ واحدةٍ (¬2) من هذه الجُمل، وتخصيصُ بعضِها بالاستثناء مشكوكٌ فيه، فلا يجوزُتخصيصُ العمومِ بالشكِّ. فيقالُ: لا نُسلِّمُ ثبوتَ العموم مع اتصالِ الاستثناء بالكلامِ، ثمَّ هذا يبطلُ بالجملة الواحدةِ إذا تناولتْ أشياءَ ثم تعقَّبها استثناءٌ، فإنَّ العموم قد ثبتَ لِكُلِّ واحدة من الجملِ على زعمِهم، ثمَّ الاستثناءُ يعودُ إلى الجميع. ولأنّا نعارضُهم بمثلِه في العموم، فنقولُ: إنه كما يُخصُ بالقطعِ؛ وهو خبرُ التواترِ ودليل العقل، يُخَصُ بالقياسِ وخبرِ الواحدِ، وليس بقطعٍ بل هو ظنٌّ، وفي مسألتِنا ما خصصناه إلا بظنٍّ، فأمَّا بشكٍّ فلا؛ لأنَّ الترجيح لا يَبقى معهُ شكٌّ (¬3). ومنها: أنَّ الاستثناءَ إنما رُد إلىَ ما تقدمَ؛ لأنَّه لا يستقل بنفسِه، فإذا أعدناه (¬4) إلى ¬

_ (¬1) "التبصرة": 175. (¬2) في الأصل: "واحد". (¬3) "العدة" 2/ 681. (¬4) في الأصل: "عدنا".

ما يليه، استقل واكتفى باستقلالِه به، فلا وجهَ لطلبِ الزيادة إلا أن تقوم عليها دلالةٌ. فَيقالُ: هذا باطل بالشرطِ، لا يستقل بنفسه، وإذا رُدَّ إلى ما يليهِ خاصةً دون جميعِ ما تقدَّمهُ، استقل، وما اكتفيَ به حتى يُردَّ إلى الجميع (¬1). ¬

_ (¬1) "العدة" 2/ 681 - 682، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 97.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الوَاضِح في أصُولِ الفِقه 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان تلفاكس: 319039 - 815112 فاكس 603243 ص. ب: 117460 AL- Resalah PUBLISHERS BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039 fax: 603243 - P.O.Box: 117460 Email: [email protected]

* فصول في المجمل والمحكم والمتشابه

فصول المُجمَل والمُفسَّر والمُحكَم والمُتشابه فصل في المُحكم والمُتَشابه فالمحكمُ على ظاهر كلامِ صاحِبنا: ما استقلَّ بنفسِه، وكانَ أصلاً [لا] (¬1) يحتاجُ إلى بيانٍ بغيره، ولِذاَ (¬2) اتفقت الأمةُ على معناه وحكمِه؛ لاتفاقِهم في علمِه لمَّا كان ظهورُ حكمِه من لفظِه. والمتشابِهُ: مالم يستقلَّ بنفسِه واحتاجَ إلى البيانِ بغيرِه، ووقعَ الخلافُ فيه، لاشتباهِ المعنى فيه، وغموضِ المقصودِ به. وذلك في الأُصولِ والفروعِ: ففي الأصول: المحكم: قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] يعطي بنصِّه وصريحِه نفيَ التشبيهِ عنه سبحانه، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، يُعطي نفيَ التثنيةِ والشركة بنصِّه وصريحِه. والمتشابهُ من (¬3) هذا القبيل قولُه: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، وانظر تعريف المحكم في "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 276 و"المسودة": (161). (¬2) في الأصل: "وإذا". (¬3) في الأصل: "في".

[الحجر:29]، {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، {رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171]، فهذا يوهمُ الأعضاءَ والتشبيهَ بظاهِره. واختلفَ فيه الناسُ الخلافَ المعلوم، فقوم (¬1) سكتوا عن تفسيرِه، وقومٌ أقدموا على تأويلِه، وقومٌ قالوا بحملِه على ظاهِرِه، ولا ظاهرَ منه إلا ما وُضِعَ له في اللغةِ، وما وضعَ لهُ في اللغةِ معلومٌ، وقومٌ صرَّحوا بالتشبيهِ. وقيلَ: إنّ أحقَّ ما وقعَ عليه اسمُ المتشابه: الحروفُ المقطعةُ في أوائِل السورِ، وقد اختلفَ الناسُ فيها، فقالَ قومٌ: إن كلَّ حرفٍ هو مأخوذٌ من اسمٍ، كهاءٍ من هادي، وكافٍ من كافي، وصادٍ من صادق، وإلى أمثال ذلك، وقومٌ وقفوا عن تفسيرٍ وتأويلٍ (¬2). فأمّا المحكمُ من هذا القبيلِ، فقولُه (¬3) [تعالى]: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: - 59]. فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، أزالَ الاشتباهَ من قولِه: "عيني"، ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "قد". (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة (169) من الجزء الأول. (¬3) في الأصل: "قوله".

و"يَديَّ"، وأنَّها (¬1) ليست جوارحَ ولا أبعاضاً (¬2). وقوله: {أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، أزالَ الاشتباهَ من قوله: {وجاءَ ربُك} [الفجر: 22]، {يَوْمَ يَأْتِي} [الأنعام: 158]، {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210]، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، وأنَّه ليس بالانتقال المشاكلِ لأُفولِ النجومِ. والذي أزالَ إشكالَ قولِه: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:34]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]: قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] (¬3). وأمَّا المحكمُ من الآي في الفروعِ: فما عُلمَ حكمُه من نطقِه، ولم يُرْفع بنسخِه، مثلُ قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. والمتشابهُ: ما احتاجَ إلى البيانِ من غيرِه، مثلُ قولِه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فلا يُعْلَمُ الحقُّ الواجبُ إيتاؤُه إلا من غيرِه. فالمحكمُ (¬4) في الأولِ (¬5): يجبُ اعتقادُه، وهو نفيُ التثنيةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأنهما". (¬2) في الأصل: "أبعاض". (¬3) ذكر آيات الصفات ضمن المتشابه مخالف لمنهج أئمة السلف، انظر التعليق رقم (1) في الصفحة (169) من الجزء الأول. (¬4) في الأصل: "فالحكم". (¬5) أي في الأصول.

والتشبيهِ، والمحكمُ في الثاني، وهو الفروعُ: يجبُ اعتقادُه والعملُ به؛ لمكانِ وضوحِه، والاتفاقِ على حكمِه، فلا وجهَ لتأخيرِ اعتقادِه والعملِ به، إذ لا عائقَ ولا مانعَ. وحكمُ المتشابه في الأولِ، وهو المتردِّدُ: أن يُرَدَّ إلى المحكَمِ المتَّفقِ عليهِ، فنحَملُ اليدَ والروحَ والاستواءَ والوجهَ والسمعَ والبصرَ، على ما يَنْحَفِظُ به المحكمُ المتفقُ عليه، ولا يَنْحَفِظُ قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إلا بقدرِ أن يُنفى عن هذه الأسماءِ ما تحتَها من الأعضاءِ والجوارحِ، وما يُشْكِلُ في النفس عند إطلاقِ اللفظِ من صفاتِ الآدميين، لذا (¬1) لم يُتخلَّصْ منَ اطِّراحم المحكمِ إلا بهذا النَّفْيِ، بقي الإثباتُ، فانقَسم الناسُ فيه: فمن قائل (¬2): أُثبتُ تحتَ هذه الأسماءِ شيئاً، لكنِّي لا أُعَيِّنُه، وأقولُ: اللهُ أعلمُ به، وهو مذهبُ أكثرِ السلفِ من الصحابةِ والتابعين رحمةُ اللهِ عليهم، ولا يصح هذا القولُ إلا ممَّن يقولُ: ليس اللفظُ ظاهراً؛ لأنَّ المشتبهَ والظاهرَ اسمانِ ضدانِ؛ لأنَّ الظاهرَ ما ترتجَّح إِلى أحدِ محتمليهِ، وما يقدرُ أحد يقولُ عن السلفِ الصالح: إنَّهم فسرُوا (¬3) ذلك بما يظهرُ في اللغةِ من معاني هذه الأسماءِ، والَمتشابِهَ: ما اشتبهَ أَمرُهُ، ولهذا قال سبحانه في المتشابه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، فمن قال: له ظاهر عندنا، فقد كذَّبَ نَصَ القرآنِ، ونقضَ أصلَه بأصلِه؛ فإنَّ أصلَ هذه الطائفةِ: أنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإذا". (¬2) في الأصل: "قال". (¬3) في الأصل: "إنه فسر".

[الوَقْفَ] (¬1) في هذهِ الآيةِ على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وأنَّ العلماءَ لا يعلمونَ، لكنْ يقولون، فإذا عادَ بعد هذا الأصلِ المحفوظِ عنه وعليه يقولُ: أَحْمِلُ هذه الآياتِ والأسماءَ والإضافاتِ على ظاهرها، قلنا لهُ: وأيُّ ظهور؟ وماذا ظهرَ لكَ مع تسميةِ اللهِ [لها] (1) متشابهاتٍ، ومع إفراد نفسِه بعلمِها، وما أفردَ نفسَه بعلمِه كيف تقولُ: له ظاهرٌ عندي أحملُه عليه!؟ فهذا أصلٌ يجبُ أن يعتمدَ على اعتقادِه، فليس غيرُه ما يُعتمدُ عليه، ولا يُلتفتُ إليه، سيما في هذا المذهبِ المنزَّهِ عن الابتداعِ، فإذا ثبتَ بطلانُ قولِ مَن يدَّعي في المتشابِه ظاهراً (¬2) بنفس قولِه: إنه لا يعلمُ تأويلَه (¬3) أحدٌ من العلماء، لم يبقَ إلا أن يكونَ أحَدَ رجلين: إما أن يقولَ: لا أدري، ولا أعلمُ، واللهُ هو المستأثِرُ بعلمِ هذهِ الأسماءِ المضافةِ إليهِ. فهذا رجل أخبرَ بالتقصيرِ عن علمِ ما استأثَرَ اللهُ عنده بعلمِه. أو يُقدِمَ على التأويلِ بحسبِ ما تقتضيهِ اللغةُ مما ينحرسُ به محكمُ الكتاب، وهي آياتُ نفي التشبيه، وإجماعُ الأُمَّةِ عليهِ، وشهادةُ دلائلِ العقولَ التي أُثبتَ بها الصانعُ إثباتاً دلَّ على أنَّه متى أشبهَ خلقَه، دخل عليه ما يدخلُ عليهم، فأحوجَنا ذلكَ إلى صانعٍ يصنعُه، كما أحوَجنا ذلك في مخلوقاته إليه، لأن المِثلَ ما سدَّ مسدّ (¬4) مثلِه، وجازَ عليه ما يجوزُ عليه. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) في الأصل:"ظاهر". (¬3) في الأصل: "تأويل". (¬4) في الأصل: "سد".

ولا قسم ثالث سوى التصريح بالتشبيهِ، ومن صرَّح به، زعقتْ به أدلةُ الشرع والعقلِ، فأخْرَسَتْهُ عن مقالتِه، فافهمْ ذلك، فهو أهمُّ ما صُرِفت العنايةُ إليه، فإنَّه الأصلُ الذي يُبْتَنى عليه ما نحن فيه من أُصولِ الفقهِ (¬1). وقال قومٌ: المحكمُ: غيرُ المنسوخ، وهو ما ثبتَ حكمُه، ولم يُغيَّرْ بنسخٍ بعدَه. والمتشابهُ: المنسوخُ، لأنهُ استفيدَ حكمُه من الناسخ لهُ (¬2). ¬

_ (¬1) اضطرب رأي المصنف رحمه الله في مسألة الصفات، فمرة ينحو منحى السلف في إثبات الصفات، وإجرائها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وتارة يخالفهم ويجنح الى التأويل، وقد انتقده في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في "درء تعارض العقل والنقل" 8/ 60 - 61: ولابن عقيل أنواع من الكلام، فإنه كان من أذكياء العالم، كثير الفكر والنظر في كلام الناس، فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية، وينكر على من يسميها صفات، ويقول: إنما هي إضافات، موافقة للمعتزلة، كما فعله في كتابه "ذم التشبيه وإثبات التنزيه" وغيره من كتبه، واتبعه على ذلك أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "كف التشبيه بكف التنزيه"، وفي كتابه "منهاج الوصول"، وتارة يثبت الصفات الخبرية، ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات، وتارة يوجب التأويل كما فعله في "الواضح" وغيره، وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهى عنه، كما فعله في كتاب "الانتصار لأصحاب الحديث"، فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور، ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور. (¬2) هذا القول منقولٌ عن ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة، والضحاك. انظر "تفسير الطبري" 6/ 174 - 177، و"النكت والعيون" للماوردي. 1/ 304 - 305، و"المحرر الوجيز" لابن عطية 3/ 18، و "زاد المسير" لابن الجوزي 1/ 350 - 351.

وقالْ الجمهورُ من الفقهاءِ: هو المعلومُ حكمُه من صيغتِه ولفظِه. والمتشابِهُ: هو المُجمَلُ الذي يفتقرُ إلى تفسيرٍ وَتأْويل. وذكر أبو الحسينِ البصري (¬1) عن أصحابه: أنَّ المحكمَ مشتركٌ (¬2): يحتملُ إحكامَ صيغتِه وإتقانَ لفظِه، وذلك بالفصاحةِ. والثاني: أنهُ ما لا يحتملُ تأويلين مختلفينِ مشتبهينِ احتمالاً شديداً. وكأنَّه يرجعُ إلى ما بيَّنا أولاً، وأشارَ إليه صاحبنا رضي الله عنه (¬3). ¬

_ (¬1) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، شيخُ المعتزلةِ، كان فصيحاً بليغاً، يتوقَّدُ ذكاء، وله اطِّلاعٌ واسعٌ وكبير على أقوال العلماء ومذاهبهم، من مصنفاته: "المعتمد في أصول الفقه" وهو شرح لكتاب "العُمَد" للقاضي عبد الجبار، توفي ببغداد سنة (436) هـ. انظر ترجمته: "طبقات المعتزلة" (118)، و"تاريخ بغداد" 3/ 100، و"وفيات الأعيان" 4/ 271، و"ميزان الاعتدال" 3/ 654 - 655، و"شذرات الذهب" 3/ 259، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 587 - 588. (¬2) يعني: أن المحكم يستعمل على الوجهين المذكورين. وهما في "العدة" 2/ 687. (¬3) وهو ما تقدم في الصفحة (5).

* فصل في الدلالة على ما ذكرناه

فصلٌ في الدلالةِ على ما ذكرناه أنَّ اللهَ سبحانَه قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، وأمُّ الشيء: أصلُه، وإنَّما سُمِّيَ المحكمُ أصلاً، لأنهُ -على ما قدمتُ- يُرَدُّ إليه المتشابِهُ، كما يردُّ الفرعُ إلى أصلِه، إن شئتَ فرعَ العلةِ، وإن شئتَ كلَّ شيءٍ تَفَرَّعٍ عن شيءٍ، كالولدِ إلى أبيهِ، والثَمرِ إلى الشجرةِ، وكلَّ شيءٍ صَدر عن أصل حتى المخلوق إلى خالِقه، فكذلك الآياتُ المحكمةُ أصولٌ متفقٌ عَّلَى حُكمها، يُردُّ المُتردِّدُ المختلَفُ فيه لأجل تردُّده إليها، وهذا صورةُ ما قدَّمنا مثالَه: فإذا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ثم قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فاشتبه، على السامعِ شأنُ السمعِ والبصرِ، هل هوَ بجارحةٍ، أو هو بمعنى العلم بما يسمعُه السامعُ منا، والعلمِ بما يبصرُه الواحدُ منا، أو هو إدرا، بغير جارحةٍ ليس بالعلمِ، لكنَّه زائد على العلمِ، أو هو كونُ الذاتِ سميعةً (¬1) بنفسِها، لا بمعنى هو علم ولا سمع ولا بصر، فإذا حصلَ الاشتباهُ في ذلك، ثم صدرَ عنهُ ما حصلَ من الاختلاف بين أهلِ العلم، وجبَ على العالِم الراسخِ في العلم، أن يردَّ هذا إلى أوَّلِ الآَيةِ وهو (¬2) نفي التشبيهِ بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فينفيَ من هذه الأمورِ المشتبهةِ ما يَخرجُ عن أوَّلِ الآيةِ -وهو الإحكامُ-، ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "سمعية". (¬2) في الأصل: "وهي".

فإذا نفى التشبيهَ، قال: إنه سميعٌ لا بمثلِ ما نَسْمَعُ من جارجةٍ وجهَةٍ من ذواتِنا وحاسَّة، إذ لو حُمِلَ على ذلك لانتفى قولهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وذلك نفيٌ صريحٌ لا يترددُ، فكيف نزيلهُ بما يتردَّدُ؟، فحملنا المتشابِهَ على المحكمِ، فانتفى التشبيهُ، وبقيَ الأمرُ متردِّداً بعد نفي التشبيهِ بين مذهبين لا بأسَ بهما عند المحققينَ من العلماءِ: أحدهُما: القولُ بأنَّه سميع بصيرٌ، والإمساكُ عما به يسمعُ، لا تشبيهَ ولا تأويلَ. والثاني: التأويلُ على أنَّه يدركُ المسموعاتِ، والمبصَراتِ، ولا نزيدُ على ذلك. وأمَّا التأويلُ الذي لُقِّبَ صاحبُه بالزيغ، فإنَّه الحملُ له على ما يوجبُ الاختلافَ والتناقضَ، أو تأويلُ ما يعودُ على المحكمِ بالنفي؛ من نوعِ تشبيه يعودُ بنقض أوَّلِ الآية، فهذا صاحبُه زائغٌ، وقولُه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] يعني- واللهُ أعلمُ-: لا يعلم كُنْهَ ما تحتَ هذهِ الإضافاتِ، إلا مَن وصفَ نفسَه بها تارةً، وأضافها إليه أخرى، كما قال سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 153] ينتظرون معنى ما سمعوا من البعثِ والحسابِ والمجازاةِ، {يوم يأتي تأويلُه} [الأعراف: 153] ينكشف وعدُ اللهِ ووعيدُهُ، بالمعنى الذي أَخْبَرَتْ به الأنبياءُ صلواتُ الله عليهم، {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} [الأعراف: 153] يعني: تركوهُ مِن قبلُ: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، فالتأويلُ المضافُ إلى اللهِ سبحانه: المعاني التي تحتَ هذه الألفاظ، ولا يَعلمُ ذلك إلا اللهُ. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] الثابتون على صحةِ

المعتقدِ {يَقُولُونَ آمَنَّا} صدَّقنا {بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، يعنونَ: المحكمَ الذي نَفى التشبيهَ، وهذا المتشابهَ الذي يوهمُ التشبيهَ، هما جميعاً من عندِ الله، فنحن نؤمِنُ بأنَّه ليسَ بحيث يتناقضُ كلامُه، ولا يكون المتردِّدُ قاضياً على النصِّ غيرِ المتردد، بل هذا من مثل (¬1) ذاك، واللهُ سبحانه لا تناقضَ في كلامِه، ولا تفاوتَ في خلقِه، فلم يبقَ إلا أنَّ لهذا المتشابه معنى هو العالمُ به، المستأثِرُ بعلمِه، فَحَدُّنا إذا لم نصِلْ إليه، أن نستطرحَ التسليمَ والتصديقَ، وكذلك يجبُ في كلِّ مشتبهٍ من أفعالِه يعطي ما لا يليقُ به، أَنْ يُحملَ على ما يليقُ من إِحْكامِ فعلِهِ الذي لا تفاوتَ فيه. وكذلكَ في الفروع: إذا جاءتْ آيةٌ (¬2) مجمعٌ على حكمِها، وآيةٌ مختلف فيها، سُقنا المختلفَ فيه إلى المتفقِ عليه، مثلُ قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فهذا (¬3) يعطي المساواةَ، فإذا قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل 126]، ورأينا أنَّ طلبَ المماثلةِ في الصورةِ يخرجُ عن المساواةِ، بأن تقطعَ يَدُهُ فلا يموتُ، كما ماتَ مَن قَتَلَه بقطعِ يدِه، احتجنا أن نعودَ، فنضربَ عنقَه، فيفضي بنا طلبُ المماثلةِ في صورةِ الفعل إلى الزيادةِ على المثل، والخروجِ على المقاصَّةِ، فحملناهُ على إزهاقِ النفس دون مماثلةِ الصورةِ، ليحرسَ المعنى الذي هو الأصلُ -وهو المساواةُ-، وإذا ثبتَ ذلك، كان هذا أشبهَ ممن حملَ المحكمَ على النَّاسِخ، والمتشابِهَ على المنسوخ، وعلى الحروفِ المقطَّعةِ، ولأنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "عند". (¬2) في الأصل: "أنه". (¬3) في الأصل: "هذا".

الناسخَ من الكتابِ، والمنسوخَ، والحروفَ لا يُفضي الخلافُ فيها، والتأويلُ لها -وإن أخطأ المتأوِّلُ- إلى تسميةِ خطئِه زيغاً في قلبِه، ولا فساداً في عَقْلِه، وما يدخلُ تحتَه ما يجوزُ على اللهِ وما لا يجوزُ، وما يجبُ له من الوصفِ، يدخلُه الزيغُ والانحرافُ بالخطأ، ويحسنُ فيه التسليمُ والإيمانُ عند الإحجامِ عن التأويلِ خوفَ مساكنةِ التعطيلِ أو التشبيهِ، وكذلك المجمعُ على معناه مع المختلفِ فيه، فإنه متى زال الاجتهادُ عن موافقةِ الإجماعِ، كان زيغاً وضلالاً. ومنها: أنَّ المتشابِهَ لو كان المرادُ به المنسوخَ، لما وقع على القصصِ، وقد سمَّى اللهُ تَثَنِّي (¬2) القصص: متشابهاً، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، ومعلومٌ أنَّ القصصَ تشابهتْ وتماثلتْ وتَثَنَّتْ (¬3). فإن كانَ إيقاعُ الاسم عليها حقيقةً، عُلِمَ أنَّ المتشابِهَ موضوعٌ لما ذكرناه من التردُّدِ والتماثلِ الموجبِ للاشتباهِ. وإن كان مستعاراً في القصصِ المُتَثَنِّيةِ، فلا يستعارُ الشيءُ إلا من أصلٍ يقاربُه نوعَ مقاربةٍ، كما يستعارُ للرجلِ السخيِّ والعالِم: بَحْرٌ، وللبليدِ: حمارٌ، فلا مدخلَ للمنسوخِ في هذا النوع، ولا هو من بابه، لأن المنسوخَ هو المرفوعُ المزايل، من قولهم: نسختِ الشمسُ الظَلَّ، والرياح الآثارَ. فإن قيلَ: بل في المنسوخِ نوعُ اشتباهٍ وقعَ لجماعةٍ من العقلاءِ ¬

_ (¬2) أي: تكرارها وإعادتها. (¬3) في الأصل: "وثبتت".

* فصل في شبه المخالف لنفي المتشابه

وهو البداء (¬1)، حتى إنَهم نفَوا عن اللهِ سبحانه جوازَ النسخِ، وقالَ الباقون بمصلحةٍ بحسب الزمان، وقال قوم: بحكم من الله، لا بمصلحةٍ، ولا بَدَاءٍ. وكلُّ خلافٍ واشتباهٍ حصلَ في الإضافاتِ الموهمةِ للتشبيهِ من (¬2) ذكرِ يدٍ وعينٍ ومجيءٍ وإتْيانٍ، حصلَ في آياتِ النسخ مثله. قيلَ: لا اشتباهَ في نطقِ الناسخِ ولا المنسوخِ؛ لأنهما نصَّان، وإنما حصلَ الاشتباهُ في علةِ ذلك وتَقابُلِ (¬3) الآراءِ فيهِ دون (¬4) النطقِ، فإنه لا يحصلُ إلاّ بنصَّين (¬5) لا يمكن الجمعُ بينهما. ومنها: أنَّ النسخَ لا يقعُ إلا بنصٍّ لا يمكن معهُ الجمعُ بينه وبين المنسوخ، ولا (¬6) اشتباهَ فيه، ومتى لم يَرْتقِ إلى رتبةِ النصِّ الذي لا احتمالَ فيه، فلا نَسخَ، والاشْتِباه (¬7)، إنما يليق بما ذكرنا من المتردِّدِ المحتَمل. فصلٌ في شبهةِ المخالفِ لنفي المتشابِه الذي لا يُعلَمُ تأويلُه، ولا يُعلمُ ¬

_ (¬1) البداء: هو أن يظهر ويبدو للمرء أمرٌ لم يكن عالماً به. وتقدم تعريفه في 1/ 212. (¬2) في الأصل: "في" (¬3) في الأصل: "ومقابل". (¬4) في الأصل: "دو". (¬5) في الأصل: "بنص". (¬6) في الأصل: "فلا". (¬7) في الأصل: "ولا اشتباه".

المرادُ به. قولُه تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وهذا يُعطي: أنَّه يُبَيِّنُ سائرَ ما يدخلُ تحتَ التكليفِ من الأفعالِ، والتُّروكِ (¬1)، والاعتقاداتِ، فلا يجوزُ أن يكونَ منه ما لا يُعْلَمُ معناهُ وحكمُهُ، لأنه يكونُ فيِ نفسِه غير مبيَّن، فكيف يكون مبيناً (¬2) لغيرِه؟ وكيفَ يجوزُ أن يكون كلامُ اللهِ غيرَ مفيدٍ!؟ ومنها: أنَّه لو كان في الكتابِ ما لا يعلمُه إلاَّ الله، لكانَ كونُه عند الله لم ينزلْه إلينا [أولى] (¬3)، فإنَّ ما لا يُعْلَمُ وأما، (3) لم يُنْزَلْ سواء، وكلامُ البارىء يدلُّ على إبطالِ هذا المذهب، وهو أنه قالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، وهل الأعجميُّ الذي نفاه عن كتابِه إلا ما لا يُعْلَمُ؛ وإذا ثبتَ هذا، بطلَ دعوى متشابِهٍ (¬4) في كتابِ الله لا يعلمُه سوى الله، ومقالةُ من ذهبَ إلى أنَّ العلماءَ يعلمونَ معناهُ وتأويلَه، أقربُ من هذه المقالة، لأنَّه إذا كان لنا علماءُ يعلمونَ معناهُ، وأُخذ عليهم أن لا يكتموه (¬5)، استفيدَ بيانُه منهم، فتحصلُ الفائدةُ ببيانِهم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المتروك". (¬2) في الأصل: "مبين". (¬3) ليست في الأصل. (¬4) هنا محذوف تقديره: "وجود" متشابه. (¬5) في الأصل: "يكتمونه".

* فصل في الأجوبة

ومنها: أن ما ذَهَبْتُم إليه يُفضي إلى الإضْرارِ والتضليلِ في تنزيل (¬1) الآيات، إذ لا حُكْمَ فيها يوجبُ عملاً ولا تركاً، وظاهرُها يوهمُ التشبيهَ، والقرآنُ إنما نزل لبيانِ الأحكامِ، وإيضاحِ ما يهدي إلى الحقِّ من معالمِ الإيمانِ، وإذا لم يَجُزْ ذلك لما ذكرنا، لم يبقَ إلا أنَّ المحكمَ ما ثبتَ حكمُه، والمتشابهَ ما نُسِخَ حكمُه. فصل في الأجوبة أمَّا قولُهم: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فهو عمومٌ نَخُصه على ما بيَّنَهُ بالتفسير، وليس هذا أوَّلَ عمومٍ خُصَّ، قال سبحانَه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، وأبانَ بأدلة التخصيص من الكتابِ تارةً، ومن دليل العقل أخرى، أنه أرادَ بعضَ الأشياء، وهو الآيُ المتضمِّن للأحكامِ فعلاً وتركاً، فأمَّا مالا يوجبُ عملاً ولا تركاً، فلا. وأمَّا قولُكم: مع كونِه داخلاً تَحْتَ التكليف، فلعمري لكن تكليفَنا في المتشابه لا يحتاجُ إلى البيانِ، لأنَّهُ لم يُكَلًّفْنا علمَه ولا العملَ به، لكن كلَّفناَ الإيمانَ به، والتسليمَ لما تحتَه من المعنى، ورد الأمرِ إلى عالمِه، كما كلَّفنا الإيمانَ بالبعثِ ولم يُطْلعنا على وقتِه، والروح خلقَها (¬2) وكَتَمَناها، حتى قالَ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85]، وكذلك الحروفُ التي في ¬

_ (¬1) في الأصل: "تنزال". (¬2) في الأصل "خلقه".

أوائلِ السورِ، لا (¬1) نعلمُ معناها بل تسمعُ سماعاً، ونؤمنُ بأنها منزَّلةٌ من اللهِ سبحانه، وذلك قدرُ تكليفِنا فيها، فنؤمنُ بالتلاوةِ، ونكلُ المعنى إلى المتكلِّم بها. وأمَّا قولُكم: إنَّ ما لا يُعْلَمُ كما لم يُنْزَلْ، فليس (¬2) بصحيح، لأن ما لم يُنْزَلْ إلينا لا تكليفَ فيه يَحصُلُ به الثوابُ، وفي هذا تكليفٌ هو الإيمانُ به والتسليمُ للهِ في إنزالِه، وردُّ المتشابِه المتردِّدِ إلى المُحكَمِ المنصوصِ الذي لا احتمالَ فيه ولا تَرَدُّدَ، وهذا نوعُ تكليفٍ بخلافِ ما لم يُنْزَلْ، لكن وِزانُه ممَّا لم ينزلْ، ما أخبرنا بكونه عنده في كتاب مسطورٍ بجميع ما قدَّره في خلقِه وقضاهُ عليهم، فإنَّ لنا فيه نوعَ تكليفٍ، وهو التصديقُ بسبقِ المقاديرِ، وتسطيرِ الاَجال والأرزاقِ، فذاك أمرٌ لم يُنْزَلْ، وقد كَلَّفنا الإيمانَ بهِ حيث أعْلمنا به. وجميعُ ما أَحْبرنا به من البيان بلسانِ الرُّسلِ، فإنَّما أرادَ به ما كلَّفناه من الأحكام، وكما أنَّه بين الأحكامَ باللسانِ لتُتَّبَعَ ويُعملَ بها، بيَّن ما يجبُ الإيمانُ به جملة من غيرِ تفسيرٍ ولا تفصيلٍ، لنؤمِنَ بها ونسلمَها. وقولُكم: إنَّ القائلينَ بمشاركةِ العلماءِ في العلمِ به (¬3) وبتأويله أقربُ، لأنَّ العلماءَ يبيِّنون لغير العلماء، فلا يبقى في الكلامِ خفاءٌ، ولا جهلٌ بمعنى، فالمقالتان جميعاً مُفيدَتان، لأنَّ المُتأوِّلَ يثابُ على استخراجِ التأويلِ على وجهٍ يوافقُ الحكمَ، والمسَلِّمَ بإيمانِه للمعنى لله سبحانه المستأثرِ بعلمِه مثابٌ على ردِّ المتشابِه إلى من صدرَ عنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا". (¬2) في الأصل: "ليس". (¬3) في الأصل: "أنه".

المحكمُ، ونفي التشبيهِ الذي أوجَبه نصُّ الكتابِ ودليلُ العقلِ. وأمَّا كونُه (¬1) سبحانه لم يجعلْه أعجمياً، عادَ إلى ما فيه [من] (¬2) أحكام يجبُ العملُ بها، والمتشابِهُ وإن لم يُعْلَمْ معناه، فغيرُ (¬3) المجملِ الذي ما أخلاهُ من تفسيرٍ، والذي لم يفسره، ولا أقدَرَهم على تأويلِه، لم يكلِّفْ فيه [إلا] (2) الإيمان به جملةً، والتسليمَ للهِ سبحانَه في انفرادِه بعلمِ التأويلِ. وأما قولُهم: إنَّه إذا لم يُبَيِّنْ معناهُ، أدَّى إلى إيهامِ التشبيهِ، وتعريضِ المكلفينَ للتضليلِ، فليس بصحيحٍ، لأنَّ تقديمه للمحكمِ، كالبيان للمتشابه، وما ذُكِرَ في أدلةِ العقول أيضاً من نفي التشبيه بيانٌ آخَرُ، فلا (¬4) وجهَ لدخولِ التضليلِ إلاَّ على من أَهملَ النظرَ ولم يُحَقِّقْه، فالمنصوصُ قولُه سبحانَه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فلا يبقى بعد هذه اللفظة مساغٌ للتشبيه فيما (¬5) جاءَنا في متشابِه الآيات من قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، ولِمَا ثبت في العقلِ من أن المِثلَ يجوزُ عليه ما يجوزُ على مثلِه، فلا يجوزُ أن يُشْبِهه شيءٌ من خلقِه، لاستحالةِ الحوادثِ عليه سبحانَه، واستحالةِ ما يتطرقُ عليه، فوَكَلَ المشتبهَ من الآياتِ إلى الدلائِل المنصوصةِ والمعقولةِ. وإذا وردَ في القرآن: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22] ¬

_ (¬1) في الأصل: "وآمنا به". (¬2) ليست في الأصل. (¬3) تحرفت في الأصل إلى: "مفيد". (¬4) في الأصل: "لا". (¬5) في الأصل: "فما".

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105]، فأوهم أنَّه يزولُ وينتقلُ، أزالَ هذا التوهُّمَ عن المجيء المضافِ إليه، والإتيانِ الواقعِ عليه: قولُه سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: 75]، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} الى قوله {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، فأبان عن الأفولِ، وهو الغروبُ بعد الطلوع: أنه يخرجُ عن صفةِ القِدَمِ والإلهية (¬1)، وقامَ دليلُ العقلِ: أنَّ [من] (¬2) يتحركُ وينتقلُ، وخارجٌ من حالٍ إلى حال، محدَثٌ. وأزال الإشكالَ في ذكرِ خلقِ آدم باليدين بقولِه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59]، فجمعَ بين آدمَ وعيسى في كونهما "بِكُنْ"، فقد بانَ مرادُه بذكرِ اليدين، فلا يبقى للتضليلِ بهذا اللفظِ وجهٌ، ولا يضِلُّ على اللهِ مع دلائِل كتابِه، والعقولِ التي مَنَحَها (¬3) لخلقِه، إلا ضالٌّ عانَدَ أدلَّةَ اللهِ في أمرِه ونهيِه، وتجاهَلَ مع إمكانِ علمِه. ولئن جازَ أو وَجَبَ (¬4) أن يُنفَى عن اللهِ سبحانَه ما هذا سبيلُه، من حيثُ أورثَ شبهةً، جاز أن يُنفى عن اللهِ، بل يجبُ أن يُنْفَى عنه من الأفعالِ: إيلامُ الأطفالِ، ومنعُ القَطْرِ مع قدرتِه عليه، وحاجةِ الخلقِ إليه، وإباحةُ ذبحِ الحيوانِ البَهِيم، والاصطيادِ له من أَوْكارِه، ومشارعِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاهية". (¬2) ساقطة من الأصل. (¬3) في الأصل: "نتجها". (¬4) في الأصل: "أوجب".

مياهه (¬1)، وتفريقِ ما بينه وبينَ المَزْقوقِ (¬2) من فراخِه، والمُرْضَع من سخالِه، إلى أشباهِ ذلك وأمثالِه من تسليطِ الآلامِ والأمراضِ والأَسقامِ على سائرِ الحيوان، فإنَّ ذلك قد أدَّى إلى التضليلِ طلباً لتبرئةِ اللهِ عن الظلم: فهذا يقولُ بالتناسخ، لتقعَ الآلامُ جَزاءً لا ابتداءً. وطائفةٌ جعلت الآلامَ، وجميعَ المضارِّ، والمُضرَّاتِ من الحيوانِ، كالسِّباع والحيَّاتِ، من فاعلٍ شريرٍ، وهي الظلمةُ. وقومٌ جعلوها (¬3) من إبليس، فنَفوا التوحيدَ؛ لاختلافِ الأفعال وتضادِّها. وقومٌ أثبتوا تكليفَ البهيمِ، وجعلوا لكل نوعٍ رسولاً من نوعِه. وتفرقت الأقاويلُ بأنواعِ الضلالِ والتضليلِ. ولكن حسُنَ ذلكَ ولم يكن تضليلاً، لمَّا نَصَبَ اللهُ سبحانه من الدلائِل على حكمتِه، بما ظهر للعامي، وبطَنَ لخواصِّ العلماءِ من حكمتِه، بإحكامِ صنعته، وإتقانِ خلقِه، كما قال سبحانه: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20 - 21]، وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مياهيه". (¬2) هو الطائر الصغير الذي يعتمد على إطعام أُمِّه له، من الفعل زقَّ، والزقُّ: إطعام الطائرِ فرخَهُ. "القاموس": (زق)، وقد وقع في الأصل: "الزواق". (¬3) في الأصل: "جعلها".

السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164]، وعدَّدَ أمثالَ ذلك من اَياتِه، ثم قالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12]، و {يَعْلَمُونَ} (¬1)، و {يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]، فكانَ ما أحكمَ وأتقنَ من أفعالِه، موجِباً لردِّ ما اشتبهَ منها إلى ما ثبتَ من حكمتِه سبحانَه بإتقانِ صنائِعه، فإنهُ يَبتلي، ويمتحنُ بمثلِ خُوارِ العجلِ، وكلامِ الشيطانِ في بطنِ الصنمِ، وإظهارِ الأمورِ الجاريةِ على يدي الدجالِ، وإلقاءِ السحرِ والكهانةِ؛ بتمكينِ هؤلاءِ بما يلقيهِ إليهم الشيطانُ، ويمكِّنُ السحرةَ من الإيهامِ بالسحرِ الذي ألقاهُ إليهم هاروتُ وماروتُ، فهذا المشتبهُ من الأمورِ، أوجبَ تنكُّبَه، وإسقاط حكمِه: ما ظهرَ من الإعجازِ الذي كان حقيقةً لا تَخييلاً، فكانَ ما ظهرَ من السحرِ والكهانةِ كالشبهاتِ المُخيِّلةِ، وما ظهرَ من المعجزاتِ حُجَجاً محقَّقةً، قال سبحانه: {أَلمْ يَرَوْا أنَّه لا يُكَلِّمُهم} [الأعراف: 148]، وقال في عيسى حيثُ ادّعوه ودعوهُ إلها: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] وهذا إشارة إلى حصولِ قِوامِه بغيرِه، وحاجتِه في البقاءِ إلى قوامٍ، والإله من قامتْ الأشياءُ بقدرتِه. وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الأسودِ العَنْسي (¬2) لما قيلَ له: إنه يتكلمُ بالأمرِ ¬

_ (¬1) ليس في كتاب الله آية بهذا السياق، وإنما فيه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52]. (¬2) هو عَبْهلة بن كعب بن عوف العَنْسي المَذْحجِي، ذو الخمار، أسلم لما أسلمت اليمن، ثم ارتد، فكان أول مرتد في الإسلام، قتله فيروز الديْلَمي في السنة الحادية عشرة للهجرة قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوم. "المنتظم" 4/ 18، و"البداية والنهاية" 9/ 429.

من قَبْلِ كونه، فقال: "إنَّ له شيطاناً، وإنه إذا شُكِّكَ شَك"، فمضى إليه فيروزُ الدَّيلمي (¬1)، فشَكَّكَه فشَك، وقصفَ عنقَه (¬2). فالتكليفُ في ذلكَ ردُّ ما أشكلَ إلى ما لا يشكلُ، فما أخلى اللهُ سبحانَه شبهةً من حلٍّ، وقد أزاحَ العللَ في حلِّها، بما آتانا من القدرةِ على التأملِ والنظرِ، فَمَن (¬3) صَدَقَ الله سبحانه في بذلِ ما آتاهُ من النظرِ في دلائلِ العبرِ، قَمَعَ الشُبَهَ بالحُجَجِ، وكَشَفَ عن عوارِ البدع بواضح السنَن، ورَدَّ المشتبهِ من الألفاظِ إلى المحكَمِ منها، والمَشْتَبهَ منَ الأفعالِ إلى المُتقَنِ منها. فصارت الأدلةُ التي توجِب حملَ المشتبهِ على المُحكَمِ، كالتفسيرِ للمُجْمَل. ¬

_ (¬1) فيروز الدَّيْلَمي أبو الضحاك، اليماني الحِمْيَري، الفارسي الأصل، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى اليمن، وهو الذي قتل الأسود العَنْسِي الكذاب، توفي سنة (53) هـ. "الإصابة" 3/ 210، و"الأعلام" 5/ 371. (¬2) الحديث بهذا النصِّ لم نجده فيما بين أيدينا من كتب الحديث والسير، وقصة قتل فيروز الديلمي للأسود العنسي، أوردها البيهقي في كتاب "دلائل النبوة" 5/ 335. وأخرج البخاري (4379) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذُكِر لي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا أنا نائم أريتُ أنه وُضعَ في يدي سواران من ذهب، فَفُظِعْتُهما وكرهتُهما، فأُذنَ لي، فنفختهما فطارا، فأوَّلْتُهما كذابينِ يخرجان" فقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، راويه عن ابن عباس: أحدهما: العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة الكذَّاب. (¬3) في الأصل: "في".

فإن قيل: فما الفائدةُ في ذلك؟ قيل: الفائدةُ التي تحصَّلتْ، بالتكاليفِ كلِّها؛ في الأبدان بما يشقُّ من الأعمالِ، وفي الأموالِ بما تبخلُ به النفوسُ، وتَضِنُّ (¬1) به الطِّباعُ، كما قالَ سبحانه: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48]، هو ما (¬2) يَعْقُبُ ذلك من الثوابِ، وهذا أعظمُ التكليفين، لأنَّ أعمالَ القلوبِ أشدُّ من أعمال الأبدانِ، لأنَّها أشرفُ، وعليها مدارُ الأعمالِ. ومن فوائدِه (¬3): ظهورُمقاديرِ الرِّجالِ في التأويل [لأَمر] (¬4) اللهِ، أو التسليمِ لأمرِ الله، ليجازيَ كلاًّ بحسبِ عملِه واجتهادِه. وما (¬5) قولُ القائل: ما الفائدةُ في شَوْب (¬6) كتابِه بالمتشابِه، وقد كان يمكنُ أن يكونَ كلُه محكماً؟ مع تجويزِه واعتقادِه حُسْنَ التكليف، إلا بمثابة من قال: لماذا خَلقَ القُلْفَة، وكَلفَ الخِتانَ، وقد كان في الإمكانِ خلقُ الحشَفةِ مكشوفةً بلا جلدةٍ، أو خلقُ الجلدةِ مقلَّصةً غير مسبلةٍ؟ ولماذا خلقَ الخلقَ وكلَّفهم ما يشُقُّ، وفي الإمكان أن يبدأهم بالتفضلِ بالجنَّةِ، كما [فعل] (4) بآدم ابتداء؟ ولمَّا خلقَ آدَمَ، لماذا كلَّفَه تركَ شجرةٍ حتى أكلَها، فقطعَ نعيمَه بالإهباطِ؟ وهذا أمرٌ يتَسَلْسَلُ، فكلُّ عذرٍ لهذا القائِل بِحُسْنِ التكليفِ، وتأويل ¬

_ (¬1) في الأصل: "ونظن". (¬2) في الأصل: "وما". (¬3) يعني: فوائد وجود المتشابه في آي القرآن. (¬4) ليست في الأصل. (¬5) في الأصل: "وأما". (¬6) الشَّوب: هو الخلط "القاموس": (شوب).

يقيمُه لأمرِ اللهِ، أو تسليمٍ لأمرِ الله إن عجزَ عن التأويلِ، يجبُ أن يستعملَه في إبقاءِ (¬1) بابِ المتشابِه من الكلام خلال المحكَم، فالنَّاسُ قائلان: قائلٌ قال بالمصالح، ولا شكَّ أنهُ يجوزُ أن يكونَ في طَيِّ هذا مصلحة. وقائل يقول بالمشيئةِ المطلقةِ، فيكون ذلكَ بمشيئته المطلقة. فلا وجهَ لإنكارِه على كلا المذهبين، لا سيَّما وهو الذي مكَّنَ الشيطانَ من الإلقاءِ في تلاوةِ الأنبياءِ، فجعلَ ما يلقي الشيطانُ فتنة ضلَّ بها الكفارُ، وتأوَّلها الأبرار، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] , وأراه دخول مكةَ، والتسلُط على أهلِها (¬2) فصُدَّ عن البيتِ، وصالحَ على ذلك الأمر الذي ظهرتْ فيه استطالةُ المشركين، من محو اسمِه من الرسالةِ في المقاضاةِ (¬3)، وَرَدِّ من جاءَهُ مؤمناً، ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلقاء". (¬2) يريد بذلك الإشارةَ إلى الرؤيا التي أخبرَ الله تعالى عنها بقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ..} [الفتح: 27]. (¬3) ورد هذا في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كتبَ عليّ بن أبي طالب الصلح بينَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتبَ عليه محما رسول الله، فقالوا: لا تكتبْ رسولَ الله، فلو نعلَمُ أنَّكَ رسولُ اللهِ لم نقاتلك، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "امحُهُ" فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيده. =

فرَدَّ (¬1) أبا جندل (¬2)، ورجعَ ذلك العام، حتى قال من قال، وشَكَّ من شكَّ، واحتجَّ من احتجَّ عليه: أليس قد قال: "لتدخلُنَّ"؟ حتى قالَ: "أقُلتُ العامَ؟ والله لتدخلنَّ (¬3) ". فهذهِ المقاضاةُ من الامتحانِ والافتتانِ، صَدَرتْ (¬4) عن اللهِ فعلاً، فكيف يُنْفَى عن كتابِه المتشابهُ الموهمُ للتشبيهِ وغيرِه، ولا يجوزُ عليه؟ وقد بيَّنا جوازَ أمثالِه، لَيُظهرَ اللهُ مَحَلَّ المتأولين، كقولِ أبي ¬

_ = أخرجه البخاري (2698)، ومسلم (1783)، وأبو داود (1832). (¬1) في الأصل: "ورد". (¬2) خبرُ ردِّ أبي جندل بن سُهيل بن عمرو إلى المشركين في صلحِ الحديبية، أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 2/ 318، والبخاري (2731) و (2732)، وأحمد 4/ 330، وذكره ابن كثير: 3/ 321، ومما جاء فيه: أنه بينما هم يكتبون إذ دخلَ أبو جندل يَرْسُفَ في قيودِه، وقد خرجَ من أسفلِ الكعبة حتى رمى بنفسه بينَ أظهر المسلمين، فقال سهيلٌ: هذا يا محمد أوّلُ ما أُقاضيك عليه أن تردَّه، وكان قد جاء في بنودِ الصلح: أنَّه من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلماً بغير إذنِ وليه من قريش، فعلى الرسول أن يردَه، ومن أتى قريشاً ممَّن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يردوه عليه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لم نقضِ الكتابَ بعد"، قال: فوالله إذاً لم أُصالحك على شيء أبداً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فأجِزْه لي"، قال: ما أنا بمُجِيزِهِ لك، قال: "بلى فافعل" قال: ما أنا بفاعل، ورُدَّ أبو جندل إلى المشركين. وعند ابن هشام وابن كثير: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهدَ الله، وانَا لا نغدرُ بهم". (¬3) انظر المصادر السابقة ففيها خبر الحديبية مفصّلاً. (¬4) في الأصل: "صدت".

بكر: أفقال لكم العام؟ لَمَّا شَكُّوا في عمرةِ القضاءِ، وعَصوا عليهِ، لَمَّا أمرَهم بنَحرِ هديِهم (¬1) وتسليمَ من يُسَلِّمُ لأمرِه إن عجزَ عن التأويلِ لقولِه وفعلِه، فهذا أَمرٌ لا يُنكرُه من دخلَ معنا في حسنِ التكليفِ، ووافَقنا في صُدور (¬2) هذه الأمورِ المشتبهةِ عن اللهِ سبحانه، فانْسَبَكَ من هذا الكلامِ: أنه إذا جازَ أن تصدرَ عنه الأفعالُ المشتبهةُ التي افتتنَ بها كثيرٌ من الناس، إما اعتماداً على إيجاب التسليم لأمرِه، لأنهُ أهلٌ أن يُسلَّمَ لهُ لِما وَضَحَ من حكمتِه، أوَ اعتماداً على استخراج التأويلِ له بغايةِ الجهدِ ومبلغِ الوسعِ، فلا يبقى [بعد] (¬3) ذلك ضلالٌ من جهةِ التشابهِ في الأفعالِ والأقوالِ، وإنَّما يُدْهَى المكلفُ من قبل الإغفالِ والإهمالِ لِما يجبُ عليه من الاجتهادِ الذي بَيَّنَّاهُ، ولهذا حسُن العتبُ، ووقعَ التوبيخُ موقعَه، إذ لو لم يكنْ في القوى ما يدفعُ الشبهَ، لما قال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148]، ولما قال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ¬

_ (¬1) حدثَ ذلك بعد إبرام الكتاب مع قريش، حيث قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأصحابه: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا" فما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاثَ مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أمِّ سلمة، فذكر لها ما لقيَ من النَّاس، فقالت أُمُّ سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثمَّ لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتى تنحرَ بُدنك، وتدعو حالقَك فيحلقك، فخرج فلم يكلِّم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحرَ بدنه، ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعلَ بعضُهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمَّاً. أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 8/ 312 والبخاري (2731) و (2732)، وأحمد 4/ 331، وذكره ابن كثير 3/ 322. (¬2) في الأصل: "صدر". (¬3) ليست في الأصل.

* فصول في القرآن مجازات واستعارات

[الصافات: 95]، فهذا غايةُ التوبيخِ للعاقلِ، أتعبدُ ما صنعتَ؟ وإنَّما مقتضى العقل أن تستعبدَ ما صنعتَ. ولولا هذه الأمورُ الشاقَّةُ في استخراجِ التأويلِ، وتكلُّفِ التسليمِ، لما حصلَ الثوابُ، فتعريضُهم للثواب، وإظهارُ جواهِرهم في إمعانِ النظرِ، واستخراجِ الحقِّ من الباطلِ، وردِّ المتشابِه إلى المحكمِ، من الأعمالِ الشاقَّةِ، على القلوبِ كأعمالِ الأركانِ (¬1) الشاقّةِ على الأبدانِ (¬2). وما كان ذلك قبيحاً ولا منكراً، بل أجمعنا على تجويزِه، كذلك كونُ الاشتباهِ الحاصلِ في الكتابِ صادراً عمَّن صدرَ عنه المحكمُ، ولا فرق. فصل في القرآن مجازاتٌ واستعاراتٌ (¬3) وبه قالَ أكثرُ الفقهاءِ والأصوليين (¬4)، خلافاً لبعضِ أهلِ الظاهرِ، وبعضِ الشيعةِ، وبعضِ أصحابنا: ليس في القرآن إلا الحقيقة (¬5)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأبدان". (¬2) في الأصل: "الأركان". (¬3) انظر هذا في "العدة" 2/ 695، و"التمهيد" 2/ 265، و"المسوَّدة" (164)، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 532، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 191، و"البحر المحيط" 2/ 182، و"المستصفى" 1/ 105، و"الفصول في الأصول" 1/ 359، و"الإبهاج" 1/ 176. (¬4) في الأصل: "والأصوليون". (¬5) وهي رواية عن الإمام أحمد، كما في "العدة" 2/ 697، وانظر ما تقدم =

* فصل في دلائلنا على ذلك

والحاكي ذلك عن أصحابِنا أبو الحسن التميمي. فصلٌ في دلائِلنا على ذلك في كتابِ اللهِ [ما] (¬1) يغني عن الدلالةِ عليه، وقد جَمع القرآنُ أقسامَ المجازِ: فمنها: الزيادةُ التي إذا حُذفت، استقلَّ الكلامُ، كقولهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فإذا (¬2) حذفت الكاف، استقل المعنى، وهو أنه يبقى: ليس مثلَه شيءٌ، وإذا كانت بحالِها، اقتضى أن يكونَ له مثل، وليس لمثلِه شبهٌ ولا مثل، ولا بدَّ من حذفِه لحصول المعنى المقصود بالنفي. ومنها: النقصان، مثل قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، وانَّما هو حُبُّ العجل، فحذف الحُبَّ، وذكرَ العجلَ، وذاتُ العجلِ لم تُشربْ في قلوبِهم، ولا يتصور ذلك. وكذلك قولُه في عيسى: {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، {وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171]، والمرادُ به: الكائنُ بكلمةِ اللهِ، يشهد لذلك قولُه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59]. ¬

_ = في الجزء الثاني، الصفحة 386. (¬1) ليست في الأصل. (¬2) في الأصل: "وإذا".

* فصل في أسئلتهم

وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ومعلومٌ [أنَّ] (¬1) الحجَّ أفعالٌ مخصوصةٌ، والأشهرُ ظرفُ زمانِه، كما أنَّ الأمكنةَ ظروفُ مكانِه فعبَّرَ عن الظرف بالمظروفِ، وهذا استعار واتساعٌ. وقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ} [يوسف: 82]، وإنما المرادُ بهِ: سؤالُ أهلِها، إذ لا يحسنُ إحالةُ السؤالِ على الجمادِ والبهائمِ، ولو سُئِلتْ، فليستْ (¬2) مِمَّا يجيبُ عن السؤال. فصلٌ في أسئِلتهم وقد تكلَّفوا غايةَ التكلفِ (¬3)، وتعسَّفوا غايةَ التَّعسُّفِ (¬4) في بيان أنهُ حقيقةٌ: فمن ذلك: قولُهم: إنَّ القريةَ هي مجمعُ الناس، مأخوذٌ من قرأتُ الماءَ في الحوضِ، وما قرأَتِ الناقةُ في رَحِمِهاَ سلىً (¬5) قطّ، وقرأتُ الطعام في فيَّ، وقالوا في المعروفِ بالضيافةِ: مُقري، ويقري؛ ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) في الأصل: "بليست". (¬3) في الأصل: "التكليف". (¬4) في الأصل: "التعسيف". (¬5) السَّلى: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد، وتسمَّى للاَدميات المشيمة، "اللسان": (سلا).

لاجتماع الأضيافِ عندَه، وسُمِّيَ القُرآنُ والقِراءةُ بذلك، لكونه مجمعَ كلام، فكذلك حقيقةُ الاجتماع (¬1)، إنما هو الناسُ دون الجدار، فما أراد إلا مجمعَ الناس وهو في نفسه حقيقةُ القرية، يوضِّح ذلك: قولُه تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59]، وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} [الطلاق: 8]، وهذا يرجعُ إلى المجمع (¬2) من الناس دونَ الجدرانِ، والعِيرُ اسم للقافلةِ. قالوا: ولأنَّ الأبنيةَ والحميرَ إذا أرادَ اللهُ نطقَها، أنطقَها، وزمن النبواتِ وقتٌ لخرقِ العاداتِ، ولو سأَلها، لأجابتْه عن حالهم معجزةً له أو كرامةً. وقوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، إنَّما أراد (¬3) بقولِه: {قَوْلَ الْحَقِّ}: اسمَه ونسبتَه إلى أمِّه، وذلك حقيقةُ قول الله، وقد قال صاحبكم أحمد: الله هو الله، يعني الاسم هو المسمى (¬4). وقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93]، فإنَّه لما نُسف بعد أن بُرِدَ في البحرِ، وشربوا من الماءِ، كان ذلك حقيقةَ ذاتِ العجلِ. فلا شيءَ ممَّا ذكرتم إلا وهو حقيقةٌ. فيقال: القريةُ ما جمعتْ واجتمعَ فيها، لا نفسُ المجتَمعِ، ولهذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإجماع". (¬2) في الأصل: "المخرج". (¬3) في الأصل: "أشار". (¬4) انظر"مجموع فتاوى ابن تيمية" 12/ 169 وما بعدها.

سُمِّيَ القُرْءُ والأقراء لزمانِ الحيضِ، أو زمانِ الطُّهرِ، والتصرية والمصرَّاة والصراة اسمٌ لمجمع اللبنِ والماءِ، لا لنفس الماءِ المجتمعِ، ولا اللَّبَنِ المجتمعِ، والقارىء: الجامع للقراَن، وَالمُقري الجامع للأضْياف، فأمّا نفسُ الأَضْيافِ فلا، والقافلةُ لا تسمى عيراً، إن لم تكنْ ذات بهائِمَ مخصوصة، فإنَّ المشاةَ والرجالةَ، لا يُسمَّون عيراً (¬1)، فلو كان اسماً لمجردِ القافلةِ، لكان يقعُ على الرجالةِ، كما يقعُ على أرْبابِ الدوابِّ، فبطَل ما قالوه. وقولُهم: لو سأل، لأجابَ الجدارُ، فمثلُ ذلك لا يقعُ بحسبِ الأحْيانِ (¬2)، ولا يكونُ معتمداً على وقوعِه إلا عند التحدي به، فأمَّا أن يقعَ بالهاجِسِ، وفي عمومِ الأوقاتِ، فلا. وقولُه: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [مريم: 34]، يرجع إلى الاسم؛ فإنهم إذا حملوه على هذا أيضاً كان مجازاً، لأنَّ القولَ الذي هو الاسمُ ليس بمضافٍ إليه ولدٌ (¬3)، فنقول: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم: 35]، والاسمُ الذي هو القولُ ليس بابنِ مريمَ، وإنما ابنُ مريمَ نفسُ الجسمِ والروحِ التي تقَعُ عليها الاسمُ الذي ظهرتْ على يديه الآياتُ الجاريةُ التي جعلوهُ لأجلِ ظهورِها إلهاً. وقولُه: المرادُ به نفسُ ذاتِ العجل لمَّا نَسَفَه موسى، فإذا نُسِفَ، خرج [عن] أن يكون عجلاً أيضاً، بل العجلُ حقيقةً: الصورةُ المخصوصةُ التي خارت، ولأنَّ بُرادةَ الذهبِ لا تصلُ إلى القلوبِ، وغايةُ ما تَصِلُ: إلى الأجوافِ، فَأمّا أن يَسْتَقيها الطبعُ، فيُحِيلُها إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "عير". (¬2) في الأصل: "الإحسان". (¬3) في الأصل: "ولدا".

أن تصلَ إلى القلبِ، فليس كذلك، بل سُحالةُ (¬1) الذهب إذا حصلت في المعدةِ، رسبت ولم تتحلل؛ بحيث ترتقي إلى غير محلِّها، فضلاً عن أن تصلَ إلى القلبِ. ولأنَّ قولَ العرب: أُشرِبوا، لا يرجعُ إلى الشرب، إنما يرجعُ إلى الإشراب، وهو الإشباعُ، وذلك يرجعُ إلى الحبِّ لاَ إلى الذواتِ التي هي الأَجسامُ، ولهذا لا يقال: أُشربوا في قلوبِهم الماء، وهو مشروبٌ، فكيف يقالُ في العجلِ؟ على أنَّ إضافَته إلىِ القلبِ، إضافة إلى محلِّ المحبةِ، وقد وردَ الخبرُ بأنهم كانوا يقولون في سُحالتِه إذا تناولوها: هذا أحب إلينا من موسى، ومن إلهِ موسى، لما تأكدتْ فتنةُ العجل في قلوبْهم. ومن أَدلتِنا: قولُه تعالى: {بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ} [الشعراء: 195]، وإذا ثبت أنَّه عربي، فإن لغةَ العرب مَشتملةٌ على الاستعارةِ والمجازِ، وهي بعضُ طرقِ البيانِ والفصاحةِ، ولو أَخلَّ بذلك، لما تَمَّتْ أقسامُ الكلامِ، ولا تَصرَّحَتْ فصاحتُه على الكمال والتمامِ، ولا بانَ تَميُّزُهُ (¬2)، وإنما يَبين تعجيزُ القومِ إذا طالَ، وجمعَ بين استعاراتِهم وأمثالهم وحقائِقهم، ولا يَبينُ عوارُ الألفاظِ إلا إذا طالتْ، ولهذا لا يحصلُ التحدي بمثلِ {تَبَّتْ} ولا بالآية والآيتين، ولهذا جعلَ حكمَ إلقليلِ منه غير محترمٍ احترامَ الكثيرِ الطويلِ، فسوَّغ الشَّرْع للجُنبِ والحائِضِ تلاوتَه (¬3)، كلُّ ذلك لأنَّهُ لا إعجازَ فيه، فإدْا أتى بالمجازِ ¬

_ (¬1) السُّحالةُ، بالضم: ما سقط من الذَّهب والفِضَّة إذا بُرِدَ. "القاموس": (سحل). (¬2) في الأصل: "تمييزه". (¬3) في قراءة الحائض والجنب شيئاً من القرآن روايتان عن الإمام أحمد: =

والحقيقةِ وسائرِ ضروبِ الكلامِ وأقسامِه، ففاقَ كلامَهم الجامعَ المشتملَ على تلك الأقسامِ، بانَ الإعجازُ، وظهرَ التعجيزُ لهم، فهذا يوجبُ أن يكونَ في القرآنِ مجازٌ. ومنها: ما زعموا أنَّهُ من أجودِ الاستدلالِ عليهم، وهو قولُه: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]، وقوله: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]، والصلواتُ في لغةِ العرب: إمَّا الأدعيةُ، أو (¬1) الأفعال المخصوصةُ، وكلاهما لا يوصفُ بالتهدُّمِ، والجماد لا يتَّصِفُ بالإرادةِ. فإدْ قيل. كان في لغةِ قوم تسميةُ المصلَّى صلاة، وقد وردَ في التفسير: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]: [أنها] أعضاءُ السجود (¬2). والجدار وإنْ (¬3) لم يكنْ له إرادة، لكنَّه لا يستحيلُ من اللهِ فعل الإرادة فيه من غيرِ إحداثِ بنيةٍ مخصوصةٍ. فيقال: هذه (¬4) دعوى على الوضعِ إذ لا يُعلم أنَّ الصلاةَ فى الأصلِ إلا الدعاءُ، وزِيدَ في الشرع، أو نُقِلَ إلى الأفعال المخصوصةِ، فأمَّا الأبنيةُ فلا يُعلمُ ذلكَ من نقلٍ عن العربِ. وإن سُمِّيتْ صلوات، فإنما هو استعارةٌ؛ لأنَّها مواضعُ الصلواتِ. ¬

_ = إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي، والثانية: لا يمنع منه، وهو قول أبي حنيفة، لأنه لا يحصل به الإعجاز، ولا يجزىء في الخطبة. "المغني" 1/ 199 - 200. (¬1) مي الأصل: "و". (¬2) انظر تفسير ابن كثير 4/ 431. (¬3) في الأصل: "إن". (¬4) في ألاصل: "هذا".

* فصل في شبهات المخالف

ولو خلقَ اللهُ في الجدارِ إرادةً، لم يكن بها مريداً، كما لو خلق فيه كلاماً، لم يكن به متكلِّماً. فصلٌ وأما الدلائل على (¬1) جوازه شرعاً، فما قدمنا من الآيات. وأما الدلالة على جوازه عقلاً، [فهي]: أنَّه ليسَ في ذلكَ ما يحيلُ معنى، ولا يوجبُ مناقضةً، ولا اختلافاً، ولا يُخلُّ بمقصودٍ، فلا وجهَ للمنع منه عقلاً. فصلٌ في شبهاتِ المخالِفِ (¬2) فمنها: قولهم: إنَّ المجاز كذبٌ، لأنَّه قد يقعُ خبراً بخلافِ مخبَره، ويتناولُ الشيءَ على خلافِ ما هو به؛ فيقولُ القائلُ في الرجلِ البليدِ: هذا حمارٌ، والعلم حاصل بسلب الحمارية عنه، وهو النهيق، ويقولُ في السخيِّ: بحرٌ، ويحسنُ سلبُ ذلكَ عنه؛ بأن يقال: ليس ببحرٍ، لكنَّه رجلٌ كريمٌ ذو عطاءٍ جزيلٍ، أو عالم علماً واسعاً (¬3)، والخبرُ المردودُ (¬4) على قائله بالسلبِ لِما تضمنه خبره من ¬

_ (¬1) في الأصل: "في". (¬2) انظر "العدة" 2/ 700، و"التمهيد" 2/ 264، و"المسوَّدة" (165)، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 29 - 31. (¬3) في الأصل: "وسعياً". (¬4) في الأصل: "المورود".

الإثبات، أو إثبات ما سلبه، هو الكذبُ، وما ليسَ بحقيقةٍ، فليسَ بحقٍّ، وما ليسَ بحقٍّ فهو الباطلُ، إذ ليسَ بينهما واسطةٌ. ومنها: أنْ قالوا: إنَّ المجازَ لم تستعملْه العربُ إلا لأجلِ الحاجةِ والضرورةِ، مثل حاجةِ الشعراءِ إلى المدحِ المبالغِ، لاستخراجِهم جوائزَ الأمراءِ والملوكِ، وتسهيلِ العطاءِ على الممدوحِ، فافتقروا إلى تشبيهِ الكريمِ بالبحرِ، وتلقيبِه بالسحابِ الهاطلِ، والماءِ الفائِضِ، والفرس الجاري، واستعاروا له بوصفِه بالإقدامِ على الحربِ، وثباتِ القلب اسمَ: أسدٍ وشجاعٍ، وفي منع الجار، وثباتِ العزمِ اسمَ: جبلٍ، ولمَّا احتاجوا الذمَّ لانجزاعِ (¬1) قلبِ مَن لا يمكنهم النكاية فيه بالفعلِ، وكانوا أربابَ ألسنةٍ، استبدلوا الألسنةَ بالأسلحةِ، فأنكَوا بالهجوِ قدحاً في الأعرِاضِ، وفَتّاً في الأعضادِ؛ بتلقيبِ الرجلِ حماراً، وربما يقصدون بذلكَ وصفَه بالبلادةِ والقذارةِ والشَّرَهِ، وبالحُساس (¬2) صفة له بالخَوَرِ، واحتاجوا إلى استرحامِ القساةِ، واستعطافِ المعرضينَ من الولاةِ، فاستعاروا لأنفسِهم ما يوجبُ رقَّةَ القلوبِ عليهم، بتشبيهِ أولادِهم بالأفرُخ (¬3) الزُّغْبِ (¬4)، وأنفسِهم ¬

_ (¬1) في الأصل: "لانخداع" والانْجزاعُ: الانقطاع. (¬2) كذا في الأصل، والحُساس بالضم: كُسارة الحجارة الصِّغارُ، وسمكٌ صِغار يجَفَّفُ، "اللسان": (حسس). (¬3) هو جمع قلة لـ (فرخ)، وهو ولد الطائر، وجمع الكثرة: (فراخ). "القاموس": (فرخ). (¬4) الزُّغْبُ: جمع أَزْغب، وهو من الطير: ما نبت زَغَبُهُ، والزَّغَب: هو أول ما ينبت من الرِّيش، وصِغارُه أيضا. انظر "القاموس" و"المصباح المنير": (زغب).

بالزقّاقِ (¬1)، كقول الشاعر لعمر: ماذا (¬2) تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخ ... زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ ولاشجرُ ألقيتَ كاسبَهم في قعرِ مظلِمةٍ ... فاغفِر هداكَ مَليكُ الناسِ يا عمرُ (¬3) فهذه حاجاتٌ وضروراتٌ ألجأَت أربابَها إلى الاستعاراتِ، واستعمال المجازاتِ، فصارت بمثابةِ من لم يجد سيفاً لقتالِ عدوِّه، فاشتملَ له بقَدومٍ (¬4)، ولم يجد سكيناً يبري به القلم، فبراه بمِقْراض، والآلاتُ الموضوعة للأعمالِ (¬5) كالألفاظِ، واللهُ سبحانَه غنيٌّ عن كل شيءٍ بذاتِه، فلا وجهَ لإضافةِ المجازِ والاتساعِ إلى كلامِه، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالزواق". والزقّاق: هي الطيور التي تطعم فراخها بفيها، جمع زاقٍّ، من الفعل: زقَّه، بمعنى: أطعمه بفيه. انظر "اللسان": (زق). (¬2) في الأصل: "فإذا". (¬3) البيت للحطيئة -جَرْوَل بن أوْسٍ- قاله مخاطباً عمرَ رضي الله عنه، وكان قد حبسه لاستعداءِ الزِّبرقان عليه. انظر "ديوان الحطيئة" (191)، و"الكامل" للمبرد 1/ 84 و 2/ 725، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة 1/ 328، و"معجم البلدان" 5/ 103. وذو مَرَخ: هو واد بين فدك والوابشية، خضر نضر كثير الشجر. "معجم البلدان": 5/ 103. وقد ورد عجز البيت الثاني: فاغفر عليك سلام الله يا عُمَرُ (¬4) في الأصل: "بقدم"، والقَدُوم: آلة ينحتُ بها. "اللسان": (قدم). (¬5) في الأصل: "للأعمال الموضوعة".

* فصل في جمع أجوبة شبههم

ومنها: أنَّه لو كانَ في كلامِه مجازٌ، لاشتُقَّ له منه اسمُ: متجوِّز، ولمَّا لم يجز ذلك على اللهِ سبحانَه، وجازَ على آحادِ العربِ، عُلِمَ أنَّ اللهَ سبحانَه لم يتكلَّم بالمجازِ، بل بمحضِ الحقيقةِ. ومنها: أنَّ ما ليسَ بحقيقةٍ، فليسَ بحقٍّ، وكما لا يجوزُ أن يُنفى عن كلامِ اللهِ الحقُّ، فنقولُ: في كلامه ما ليسَ بحقٍّ، لا يحسنُ أن يُنفى عن كلامِه الحقيقةُ، فيقالُ: في كلامِ اللهِ سبحانَه ما ليسَ بحقيقةٍ. فصلٌ في جمع أجوبةِ شُبَههم فأمَّا قولُهم: بأنه يفضي إلى الكذبِ، لأنَه بخلافِ مُخْبَره، فما أبعدَ هذا القولَ! وذلكَ أنَّ الكذبَ مستقبحٌ عند كلِّ ناطقٍ عاقلٍ، والاستعاراتُ عندَهم مستحسنةٌ مستعملةٌ، فأينَ الموضوعُ المستحسَنُ من المُجْتَنبِ المستقبَحِ؟! وقد أبانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن نفْي الكذبِ عنه (¬1)، حيثُ نطق به، وأقرَّ عليه أصحابَه، فالذي نطقَ به أكثرُ من أن يُحصى، غيرَ أنَّنا نذكرُ قولَه للحادي: "رفقاً بهؤلاءِ القواريرِ يا أنجَشَةُ" (¬2)، يشيرُ إلى النساء حيث ¬

_ (¬1) يعني: أن المجاز ليس كذباً. (¬2) أخرجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أحمد 107/ 3 و 117 و 186 و 227 و 254 و 285، والبخاري (6149) و (6161) و (6209) و (6210) و (6211)، ومسلم (2323) (70) (71) (72) (73)، والبيهقي 10/ 200 و 227، وابن حبان (5801) و (5802) و (5803)، والبغوي (3578) و (3579).

بكينَ لحدوه الشجيِّ، وقالَ في استعاراتِ الحرب: "الآنَ حميَ الوطيسُ" (¬1)، فسمَّى النساءَ قواريرَ لسرعةِ تصدُّعهنَّ وبُعْدِ انجبارِهِنَّ، وسمَّى اسْتعِارَ الحربِ وطيساً، وهو تَنُّور من حديد (¬2) وقال: "إنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب" (¬3)، وعرَّض - صلى الله عليه وسلم - فقال: "نحن من ماء" (¬4)، يُوهم أنه من عربٍ مخصوصين بالماءِ، وقال: "ألسنا من ماءٍ مَهِين (¬5) "، وقال للذي طلبَ منه بعيراً يخرج معه عليه إلى بعض الغزوات، وكان منافقاً (¬6): "لا أجد إلا ¬

_ (¬1) ورد ذلك في حديث طويل في غزوة حنين، رواه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وفيه: فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته، كالمتطاول عليها، إلى قتالهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا حينَ حميَ الوطيس". أخرجه أحمد (1775)، ومسلم (1775)، وابن حبان (7549). (¬2) هذا أحدُ معاني كلمة: (الوطيس)، ومن معانيها أيضاً: المعركة؛ لأنَّ الخيلَ تطسها بحوافرها، كذلك تطلق على حُفيرة تحتفر، ويختبز فيها، ويشوى. "اللسان": "وطس". (¬3) الصحيح في هذا الخبر أنه موقوف على عمر بن الخطاب، رواه عنه عمران بن الحصين رضي الله عنهما، وقد تقدم تخريجه في 1/ 130. (¬4) ورد هذا الخبر في قصة معركة بدر الكبرى، حيث وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبرفقته أبو بكر رضي الله عنه على شيخ من العرب، وسألهما، ممن أنتما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن من ماء" ثم انصرف عنه. انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 268، و"المغازي" للواقدي 1/ 50، و"تاريخ الطبري" 2/ 436. (¬5) رسمت في الأصل: "ضاتهن"، ونظن أن الصواب ما أثبتناه، فيكون ذلك بياناً منه - صلى الله عليه وسلم - للمقصود من قوله: "نحن من ماء"، ولم يرد هذا البيان في مصادر تخريج الخبر، وإن كان ملموحاً من السياق. (¬6) لم يرد في المصادر أنه كان منافقاً.

ولد ناقة" يُوهِمُ الفصيلَ، فقال: وما أصنعُ بولدِ ناقةٍ؟ فقالوا له في ذلك، وكانَ عنده من نَعَمِ الجزيةِ والصدقةِ عددٌ، فقال: "أليس الجمال أولادَ النُّوق" (¬1)، وقال: "لا يدخلُ الجنَّةَ العُجَّز" (¬2)، وإلى أمثالِ ذلك من المعارِضِ، وقال ذلك توسُّعاً، وقال: "إنِّي لأَمْزَحُ، ولا أقولُ إلا حقاً" (¬3). وليسَ من حيثُ نفيُه كان كذباً، ألا ترى أنه يحسُنُ نفيُه، وهو ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود (4998)، والترمذي (1991) من حديث أنس بن مالك: أن رجلاً استحمل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إني حاملُكَ على وَلَدِ النَّاقة" فقال: يا رسولَ الله، ما أصنعُ بولَدِ الناقةِ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل تلِدُ الإبلُ إلا النوق؟ ". قال الترمذي: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ غريب. (¬2) جاء ذلك في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يدخلني الجنَّة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الجنَة لا تدخلُها عجوز" فذهب النبي- صلى الله عليه وسلم - فصلَّى، ثم رجع إلى عائشة، فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ ذلك كذلك، إنَّ الله إذا أدخلهنَّ الجنَة، حولَهنَّ أبكاراً". ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 419، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه مسعدة بن اليسع وهو ضعيف. (¬3) ورد من حديث ابن عمر، وأنس رضي الله عنهما: أخرجه من حديث ابن عمر الطبراني في "الكبير" (13443)، وأما حديث أنس، فأخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 3/ 378. ورويَ هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: قالوا: يا رسولَ الله إنك تداعبنا؟ قال: "إني لا أقولُ إلا حقاً". أخرجه أحمد 2/ 340 و 360، والبخاري في "الأدب المفرد" (265)، والترمذي (1990)، والبغوي (3602). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

حسنٌ ومُستحسَنٌ (¬1)؟ والكذبُ لا يقعُ مستحسناً، ولأنَه يقابلُ قولهم: حسنَ نفيُه، فكان كذباً، بإنَّه حسنَ إثباتُه، فلا يكونُ كذباً، والكذبُ لا يحسنُ إثباتُه. وممَّا يُفسِدُ دعواهم الكذبَ: أنَّهم لا يُسمُّونَ مَنْ أكثرَ الاتساعَ في المجازِ والاستعاراتِ كذَّاباً، ومحالٌ أن لا يشتقَّ للمكرِّرِ لنوع من الأفعالِ (فعالاً)، ولهذا قالوا فيمن يكرِّرُ في كلامه التاء ضرورةً: تمتاماً، أو يكرر الفاءَ: فأفاءَ، ومن كرَّرَ التَّهزِّي، سُمِّيَ: هُزَأَةً، فلمَّا مُدِحَ المكرِّرُ للمجازِ بالفصاحةِ والقدرةِ على المنطقِ لغةً، ولم يُذَمَّ شرعاً، ولا قُدح في عدالتِه، عُلمَ أنَّه ليس بكذبٍ، ومن تكرَر منه الكذبُ، كان فاسقاً، ولا أحدَ استجرأَ على تفسيقِ المستعيرِ المتجوِّزِ في كلامِه، فبطلَ ما ادَّعوه. وأما قولُهم: هو ضدُّ الحقيقة، فيكونُ ضد الحقِّ، وهو الباطلُ، فليس كذاك، لأنَّ الحق غيرُ الحقيقة: ولهذا لفظُ التثنيةِ والتثليثِ حقيقةٌ في الوضعِ للشَرْكِ، وليس بحقٍّ، ورمي الشيء إصابةٌ، وليس بصوابٍ. وأما دعواهم: أنَّ المجاز لم تستعملْه العربُ إلا للحاجةِ، فبعيدٌ، لأنَّ القوم حسَّنوا به الكلامَ، وإلا ففي (¬2) الحقائقِ غنى عن الاستعاراتِ، وذلك أنَّ من وجدَ للرجلِ الذي لا يفهمُ اسمَ: بليدٍ وذاهلٍ، لماذا يقولُ فيه: حمارٌ؟ ومن يمكنه أن يقولَ في الرجل الثابتِ في الحربِ: مِحْراب (¬3) وقَتَّال، لماذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "يستحسن". (¬2) في الأصل: "في". (¬3) المحراب: هو الرجل شديد الحرب. "اللسان": (حرب).

يَستعيرُ (¬1) له اسمَ بهيمةٍ، فيقول: أسدٌ وشجاعٌ؟ فلما استعملوه مع وجودِ الحقائقِ، دلَّ على تحسينِ الكلام، ولهذا لم يذمُّوا مستعملَه، بل كان أحذقُهم في ذلك أشعرَهم وأَخطَبَهم، ولو كان للحاجةِ، لكان أكثرُهم استعمالاً له أعجزَهم، لأنَّ ما يُستَعملُ للحاجةِ، دلَّ على شدةِ احتياجِه، ألا ترى أنَّ الإشارةَ لما كانت بدلاً عن الكلامِ لأجلِ لُكْنَةٍ، أو فساد في آلات المنطقِ وأدواتِه، لم تُعَدَ فَضْلاً؟ بل من ساعد منطقَه بيده، لم يعدَّ فاضلاً، لأنَّه لما استعان على تفهيم مكلَّمه ومحْاطَبه بيدِه وليست أداةً لنطقِه، كان ذلك لقصورٍ يجدُه في لفظِه، أو لُكْنَةٍ، أو لسوءِ فهمِ السامعِ، فإذا رأيناهم يعتمدونَ ذلك مع انتفاءِ هذه الموانع والعوارِضِ، عُلِمَ أنَّه في وضعِ كلامهم، وعاداتِ خطابِهم، وصار ذلك أشبهَ شبهاً بما [في] الكتاب في خطوطهم، من تَطويلِ الحروفِ، وسلسلةِ المنظومِ منها بعضه ببعض، فيكونُ ذلكَ طريقةً في الخطِّ، وقدرةً في السطرِ، وهل يكونُ أحسن من قول القائل: امتلأ الحوضُ وقال: قَطْني ... مَهْلاً رُويداً قد مَلأْتَ بَطني (¬2) ويريدُ أنَّه بلغ من الامتلاءِ مبلغاً لو بلغه الحيُّ الناطقُ، لكان قائلاً: حسبي وقطني. وفي قولِ المجاز والاتساع فضيلة أيضاً، لأنه يدلُّ على اطِّلاع المستعير للبليد: حماراً، وللمحراب: أسداً وشجاعاً، وللسخيِّ: بحراً، وللمرأة: قارورةً، على ضربٍ من المقايسةِ، فإنه يُلحقُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "استعير". (¬2) "اللسان": (قطن)، ومعنى قطني، أي: حسبي.

الشخصَ بما يشاكلُه، والشيءَ بما يقاربُه، والاطِّلاعُ على القياسِ فضيلةٌ للمتكلِّم، فكيفَ يُدَّعى [أنه] ضرورةٌ؟! ولهذا قالوا: إنَّما يبينُ فضلُ الشاعرِ في التشبيهِ، دونَ المديحِ والغَزل والمراثي، فإنَّ ذلك قد يحرِّكُه إلى التجويد فيه عطاءٌ يوجبُ المدحَ، وحزن يوجبُ التجويدَ في المرثيةِ، وبُغْضٌ يوجبُ الهجاءَ، وعشقٌ يوجبُ الوصفَ، فأمَّا التشبيهُ فَمَحضُ مُوازنة، أصلُها صحةُ اللَّمْحِ، وجَوْدَةُ النظر، لإلحاقِ (¬1) المِثلِ بالمِثلِ. وأحسنُ من هذا القول في سهولة الانفعال على الصانع جلَّتْ عظمته: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} [فصلت: 11] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. على أنَّ أصلَ الكلامِ إنَّما وُضِعَ -أعني: حقيقته- لأجلِ حاجةِ المتكلِّمينَ إلى التفاهمِ والتخاطُبِ، فهو بين نداءِ البعيدِ، ومناجاةِ القريبِ، وترخيمٍ لاستعجال الاستدعاءِ، ونُدبة هي في أصلِ الوضعِ تَفَجُّعٌ، وتَوجُّعٌ (¬2)، واستراحةٌ لإخراجِ الكمَدِ من الصدور؛ بالهاءِ في قولهم: يا سيِّداه، يا أبتاه، يا ابناه، قال الله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وقال: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ} [الشعراء: 10]، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم: 52]، وجميعُ الحقائقِ التي تكلَّم ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا لإلحاق". (¬2) في الأصل: "تفجعاً وتوجعاً".

بها العربُ لأجلِ أغراضِهم (¬1) وحوائِجهم، تكَلَّمَ البارىء بها، حتى إنَّ أشباهَ ما ذكرتُ من الأمثالِ، والمبالغةِ في المدحِ، والوعدِ والوعيدِ، والذم قد اجتمعَ في القرآنِ، فإن شئتَ المدحَ فقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17] {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44]، {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75]. وأمَّا الذمُّ, فأبلغُه قولُه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10 - 13]، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2]، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] أوهذه، استعارةٌ أحسنُ ما تكونُ من تسميةِ التي تُلهبُ الغضبَ، وتثيرُ الفتنَ بين النَاس، لكون ذلك مادةَ النَّارِ، وهذه مادةُ الثوائرِ بين النَّاس، فإذا كان كذلكَ، فقد وُجدَ حقيقةُ ما أتى بمثلِه الشعراءُ في المعنَى، وانْ عَجزوا عن المنطقِ والنَّظمِ، وكانَ ذلكَ لا لحاجةِ المتكلِّمِ إليه، لكنْ إظهارُه وإنزالُه لِحاجةِ المخلوقينَ إليه، لينتهوا عن القبائح بذمِّه ووعيدِه ونهيه، ويَهشُّوا إلى الفضائلِ بمدحِه ووعدِه، ويزدادوا من الخيرِ بشكرِه لهم، وثنائِه عليهم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "اعتراضهم".

من ذلكَ: أنَّه سمى المعرضينَ (¬1) عن الحقِّ وداعيتِه: أنعاماً، وشبَّههم بالكلابِ، قال فيهم: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 176] وقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة: 74]. وأمَّا قولُهم: كان يجبُ أن يُشتَقَّ له اسمُ: متجوِّز، فلا (¬2) يصحُّ، لأنَّه لا يسمَّى من الأسماءِ إلا بما سمَّى به نفسَه، ألا ترى [أنه] (¬3) يتكلَّمُ بالحقيقةِ، ولا يُشتَّقُ له اسمُ: محقِّق، وفاعلٌ للحَبلِ في النِّساءِ، ولا يقال: محبِّل، وفيه معنى العقلِ من الحكمةِ، ولا يقال: عاقلٌ، ويسمَّى: حكيماً، لأنه سمَّى نفسَه حكيماً، وكريماً (¬4)، والكرمُ هو السخاء، ويقال: كريمٌ، ولا يقال: سخيٌّ. على أنَّ القولَ بالتجوَّز يُوهِمُ الحذفَ، هذا هو الغالبُ من لغتِهم، ولا (¬5) يقالُ: متجوِّز إلا لمن جوَّز في لفظه، والبارىء لا يُسمَّى باسمٍ موهمٍ للذَمِّ، تعالى عن ذلك (¬6). وأمَّا قولُهم: لو كانَ في كلامِه ما ليس بحقيقةٍ، لكانَ في كلامِه ما ليس بحقً، فليسَ بصحيح، لأنَّ الحقَّ ضدُّ الباطلِ، فإذا قيل: ليسَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المعترضين". (¬2) في الأصل: "لا". (¬3) ليست في الأصل. (¬4) في الأصل: "وكريم". (¬5) في أنصل: "لا". (¬6) انظر "شرح اللمع" 1/ 172

* فصل في الدلالة على من منع المجاز من أصحابنا

بحقٍّ، أُثبتَ الباطل، وليس الحقيقة من الحق بشيء، ولهذا تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير الحقيقةِ، وما (¬1) تكلم إلا بالحق، فقال: "أمزح، ولا أقول إلا حقاً" (¬2)، فلما قال للمرأةِ: "في عين زوجك بياض" (¬3)، أوهمها بياضاً (¬4) في السَّوادِ، وهو يريدُ بياضاً حولَ السوادِ، وقال للحادي المعروفِ بأنجَشَة لما حدا، فأبكى زوجاتِه: "يا أنجشةُ، رفقاً بهؤلاءِ القواريرِ" (¬5)، فاستعارَ للنِّساءِ اسم: قوارير، وما أحسنَ هذه الاستعارةَ!. فإنهنَّ رقيقاتُ القلوبِ، سريعاتُ الانفعال بالوهنِ، قليلاتُ الصبرِ والتماسكِ، كما أنَّ القواريرَ سريعاتُ الانكسارِ، أيسرُ شيءٍ يؤثِّرُ فيهنَّ، كالقواريرِ. فصلٌ والدلالةُ على مَنْ منعَ المجازَ من أصحابنا ¬

_ (¬1) في الأصل: "أما". (¬2) تقدم تخريجه في الصفحة: (41). (¬3) عن زيد بن أسلم: أن امرأة يقال لها: أم أيمن، جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي يدعوك. قال: "من هو؟ أهو الذي بعينيه بياض؟ " فقالت: أي يا رسول الله!؟ والله ما بعينيه بياض. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل إن بعينيه بياضاً" فقالت: لا واللهِ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وهل من أحد إلا وبعينيه بياض؟ " أورده العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" 3/ 125، والزبيدي في "الإتحاف" 7/ 500، والقاضي عياض في "الشفا" 2/ 424. (¬4) في الأصل: "بياض". (¬5) تقدم تخريجه في الصفحة: (39).

* فصل يصح الاحتجاج بالمجاز

أنَّ مذهَبهم قِدَمُ الكلامِ (¬1)، والبارىء قد أخبرَ بإرسال الأنبياءِ، وأنَّهم قالوا، وفعلوا، ونودوا، وأُوذوا، وقيلَ لهم، وهذا كله لم يكُ بعد، ولا وُجدَ، فلا تَفَصِّي (¬2) لهم عن المجازِ، وأضافَ (¬3) إلى ذاتِه بظاهرِ اللفظَ: الحبَّ والغضبَ، والإتيانَ والمجيءَ، وهم بين مذهبين: إما تأويل يَصْرفُ عن الحقيقةِ، بمعنى: سيقول، كما قال: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50]، بمعنى: سينادي، وجاءت ملائكةُ الله، وأمرُ الله، وعقابُ الله، وهذا صورةُ المجاز. أو يكونُ غيرَ معلومٍ لا يعلمُه إلا اللهُ، فلا يمكنُ أنْ تكونَ حقيقةٌ موضوعةٌ لا تكونُ معلومةً، فلم يبقَ إلا المجازُ، ومتى كان حقيقةً، كان الخطابُ والمخاطبون (¬4) قديمينَ، وذلكَ مُحالٌ (¬5). فصل يَصِحُّ الاحتجاجُ بالمجازِ (¬6) لأنَّه موضوع يُعقلُ منه المرادُ به من المقدَّر (¬7) فيه، والمعبَّرُ به ¬

_ (¬1) انظر مجموع "الفتاوى" 12/ 158، 372. (¬2) أي: لا خروج ولا خلاص لهم. (¬3) في الأصل: "وأضافه". (¬4) في الأصل: "المخاطبين". (¬5) "العدة" 2/ 695، و"المعتمد" 1/ 11 و"التمهيد" 2/ 265. (¬6) انظر هذا الفصل في "العدة" 2/ 701، و"المسودة" (70). (¬7) في الأصل: "القدر".

* فصل لا يقاس على المجاز

عنه؛ مثالُه: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، والغائطُ: المطمئنُّ من الأرضِ حقيقةً، لكن لمَّا كانَ المعقولُ منه قضاءَ الحاجةِ، وذَكَرَ الموضِعَ توريةً وكنايةً عن الموضَع، صارَ كأنَّه قال: أو جاءَ أحدٌ منكم من الغائطِ بعدَ حدثِه في الغائِط، أو من حاجةِ الإنسانِ. وكذلكَ قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وقد عُرِف أنَّ عيونَ الوجوهِ هيَ الناظرةُ، صارَ كأنَّه قالَ: عيونٌ يومئذٍ إلى ربِّها ناظرةٌ. وإذا كان المعقولُ منه ذلكَ، صارَ كأنَّه بالتقديرِ، كالكلامِ الأعجميِّ الموضوعِ للمقصودِ، يكونُ دليلاً للعَجمِ، والإشارةِ لمن يعقِلُها، وليسَ إبدالُ الخارجِ بذكر المكانِ، وإبدالُ العيونِ بالوجوهِ، بأكثرَ من إبدالِ اللغةِ بالإشارةِ المفهومةِ، ويجوزُ الاستدلالُ بالإشارةِ، مثلُ إِشارتِه - صلى الله عليه وسلم - عندَ (¬1) قولِه: "الشهرُ هكذا وهكذا" (¬2) بأصابعه: إلى تسعٍ وعشرين. فصلٌ قالوا: ولا يقاسُ على المجازِ (¬3)، فلما قالَ سبحانَه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، لا يقالُ: سلِ الدَّكَّة (¬4) ¬

_ (¬1) في الأصل: "فما أشار به - صلى الله عليه وسلم - مثل". (¬2) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬3) انظر "العدة" 2/ 702، "المسودة" (173). (¬4) الدَّكة: بناءٌ يُسَطَّح أعلاه للمقعد. "القاموس": (دك).

* فصل يجوز أن يرد اللفظ الواحد فيتناول موضع الحقيقة والمجاز

والسرير، ويريد به: الجالس على السرير والدَّكَّةِ، كما أرادَ هناكَ ساكنَ القريةِ، وأهلَ العيرِ، و [لا] (¬1) تقول: بما كسبت أَرجلكم، بدلاً أو قياساً على قوله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. وعندي: أَنّهُم إنَّما منعوا ذلكَ، لأَنَّه مستعارٌ من حقيقةٍ، فلو قيسَ عليه، لكانَ استعارةً منه أيضاً، فيتسلسلُ، ولهذه العلَّةِ منعوا من تصغير التصغيرِ، والذي يظهرُ من المجازِ: أنَّه نوعُ قياسٍ منهم، لأنَّه إذا تُتُبَّعَ كل مستعار في لغةِ العرب، علم أنهم إنما قصدوا خلعَ اسم الحقيقةِ على مايشاكلُها نوعَ مشاكلَةٍ، من ذلكَ: لَحْظُهم (¬2) البلادةَ التي في الحمارِ، والفيضَ الذي في البحارِ، والإقدامَ الذي في السَّبعِ والشّجاع، واستعارةُ اسمِ الحمارِ للبليدِ، والبحرِ للكريمِ أو العالمِ، واسمِ السَّبعِ للرجلِ المحرابِ، وهذا هو عينُ القياسِ، فلم يقيسوا على المقيسِ. فصلٌ (¬3) ويجوز أن يرد اللفظُ الواحدُ، فيتناول موضعَ الحقيقةِ والمجازِ، فيكون حقيقةً من وجهٍ، مجازاً من وجهٍ آخر، نحو قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، هو حقيقة في الوطءِ، بدليلِ أنَّه يُستعملُ في موضعٍ لايجوزُ فيه العَقْدُ، مثل قوله ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) في الأصل: "الحظهم". (¬3) را جع "العدة" 2/ 703، و"المسودة" (168).

- صلى الله عليه وسلم -: "ملعونٌ ناكحُ البهيمةِ"، "ناكحُ يدِه ملعونٌ" (¬1) ولا عقدَ، وقولُهم: أَنْكَحْنا الفَرَا، فَسَنَرى (¬2). ثم استعمل في العَقدِ، فيحرمُ عليه أن يتزوَّجَ مَن تزوَّجها أبوه، وإن لم يوجد منه الوطء. ونحو قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ (¬3) النِّسَاءَ} [النساء:43]، حقيقةٌ في ¬

_ (¬1) ورد الحديث بلفظ: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويقول لهم: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول -يعني اللواط-، والناكح يده، وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، وجامع المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، والمؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس، إلا أن يتوب". انظر "تنبيه الغافلين" لأبي الليث السمرقندي، و"الكبائر" للذهبي (59). وفي إسناد الحديث: علي بن محمد الوراق، وهو مجهول. انظر "الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء" لأبي الفضل الغماري (44). (¬2) مثلٌ يضربُ في التحذير من سوءِ العاقبة، قاله رجلٌ لامرأته حين خطبَ إليه ابنتَه رجلٌ، وأبى أن يزوِّجها له، فرضيت أُمُّها بتزويجه، وغلبت الأب حتى زوجها مُكرهاً، وقال: أنكحنا الفَرا فسنرى، ثم أساء الزوج العشرةَ، فطلقها. انظر "مجمع الأمثال" للميداني 2/ 335. (¬3) "لَامَسْتُم": بغير ألف، هذه قراءة حمزة والكسائي، أضافا الفعل والخطاب للرجال دون النساء. وقرأ الباقون: "لامَسْتم" بألف، جعلوا الفعل من اثنين، وجعلوه من الجماع، أي: جامعتم، وعلى هذا فالملامسة من اثنين: الرجل يلامس المرأة، والمرأة تلامس الرجل. "حجة القراءات" (205 - 206)، "الكشف عن وجوه =

اللَّمس، إلا أنه يُطلَقُ على الجماعِ مجازاً، فيُحمَلُ عليهما جميعاً، ويُوجبُ الوضوءُ منهما جميعاً، فنقولُ: كلُّ معنيين جاز إرادتهما بلفظٍ يصلح لهما، [فهُما] (¬1) كالمعنيين المتفقين. بيانُ ذلكَ: أنَّه لو قال: إذا أحدثتَ فتوضأ، وأرادَ به [الحدث] (1) والبول، صحّ، فهذا الحقيقةُ والمجازُ فيهما، فجازَ اجتماعُهما، ليكونَ اللفظُ متناولاً لهما جميعاً. يوضِّح هذا: أنَّ قولَه تعالى في الكفارة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] يتناولُ الرقبةَ الحقيقيةَ، وغيرَها من أعضاءِ الجملةِ على طريقِ المجازِ. وكذلكَ قولُهم: اشتريتُ رأساً من الغَنمِ، يتناولُ العضوَ الذي فيه الحواسُّ حقيقةً، وجميعَ الشاةِ مجازاً. وكذلك قولُهم: "لنا قَمَراها والنجومُ الطوالع" (¬2)، و"بتنا على الأسودين"، و"عَدلُ العُمَرين" حقيقةٌ في أحدِهما، وهو طالعُ الليلِ دونَ الشمس، مجازٌ في الشَّمسِ، والأسودُ حقيقةٌ في التَّمرِ، مجازٌ في الماء، وَالعُمَرانِ حقيقةٌ في عمرَ بن الخطاب، مجازٌ في أبي بكرٍ رضي الله عنهما. وقد سُئل أحمدُ عن العُمرين فقالَ: عمرُ بنُ الخطَّاب، وعُمرُ بن ¬

_ = القراءات السبع" 1/ 391 - 392، و"النشر في القراءات العشر" 2/ 250. (¬1) ليست في الأصل (¬2) هو عجز بيت للفرزدق، وصدره: "أخذنا بآفاق السماء عليكم". ديوان الفرزدق 1/ 419.

* فصل ليس في القرآن غير العربية

عبد العزيزِ، فجعلَهما حقيقتينِ (¬1). فصلٌ ليس في القرآنِ غيرُ العربيةِ ذكره أبو بكرٍ من أصحابنا في كتاب "التفسيرِ"، وبه قالَ جمهورُ الفقهاءِ [و] العلماءِ والمَتكلِّمين (¬2)، خلافاً لابن عباسٍ وعكرمَةَ (¬3): أنَّ فيهِ غيرَ (¬4) العربيةِ، كقولِه سبحانَه: مشكاةٌ (¬5)، ¬

_ (¬1) "العدة" 2/ 705 (¬2) انظر ما تقدم في الصفحة 412 وما بعدها من الجزء الثاني، و"الرسالة" للشافعي (40)، و"الإحكام" للآمدي 1/ 69، و"البحر المحيط" للزركشي 2/ 175، و"العدة" 3/ 707، و"المسودة" (174)، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 192، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 32، و"إرشاد الفحول" (32). (¬3) عكرمة: هو أبو عبد الله القرشي مولاهم، البربري الأصل. كان مولى لابن عباس، وحدث عنه وعن عائشة، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، كان من أهل العلم، ورحلَ في طلبه إلى اليمن ومصر وخراسان، وروى عنه الشعبي، وعطاء، ومجاهد. توفي سنة (105) هـ، وقيل غير ذلك. انظر "طبقات ابن سعد" 5/ 287، و"وفيات الأعيان" 3/ 265، و"ميزان الاعتدال" 3/ 93، و"تهذيب التهذيب" 7/ 263، و"شذرات الذهب" 1/ 130 و "سير أعلام النبلاء" 5/ 12. (¬4) في الأصل: "بغير". (¬5) روي عن ابن عباس ومجاهد: أن "المشكاة": هي الكوة بلسان =

* فصل في أدلتنا

وقِسطاسٌ (¬1)، وسِجِّيل (¬2)، واستبرق (¬3). فصل في أدلتنا فمنها: قولى تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] ¬

_ = الحبشة. "الدر المنثور" 5/ 49. وقال الزجاج، كما في "لسان العرب" 14/ 441: المشكاة من كلام العرب. وبيَّن الشيخ أحمد شاكر أن الكلمة ليست معرَّبة، وأن أصلها عربي، حيث إنها مشتقة من الشكو، وأصلُ الشكو: فتح الشكوة، وإظهار ما فيها، وهي سقاءٌ صغير يجعلُ فيه الماء، وكأنه في الأصلِ استعارة، كقولهم: بثثت له ما في وعائي، ونفضت ما في جرابي، إذا أظهرت ما في قلبك. انظر "المعرَّب" للجواليقي تحقيق الشيخ أحمد شاكر (303). (¬1) القسطاس: هو الميزان، قال الشيخ أحمد شاكر: والكلمة عربية بحتة ليس لها علاقة بلغة أخرى، فإنَّ القسط في كلام العرب: النصيب والعدل، واشتق من القسط، القسطاس، وسمي به الميزان، والأصل واحدٌ، والمعنى متصل بعضه ببعض، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].انظر "المعرَّب" (25). (¬2) زعم ابن قتيبة: أن السِّجِّيل لفظٌ معرَّب عن الفارسية، والذي يعني: الحجارة والطين، واستدرك الشيخ أحمد شاكر عليه في ذلك، ورجَّح أن تكون اللفظة عربية. انظر "المعرَّب" (181). (¬3) هو غليظُ الديباج، ذُكِرَ أنه فارسىٌّ معرب. انظر "المعرَّب" (15) وتعليق الشيخ أحمد شاكر.

{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} [الشعراء: 195]، وقولُه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، وهذه صفة لجميعِ الكتاب العزيزِ، ونفي للقول بأن فيه أعجمياً وعربياً (¬1)، وهذا القولُ يتطرقُ عليه إذا كان بعضُه غيرَ عربي. ولأنَّه تحداهم به سبحانه، والقومُ لا تقدِرونَ على الأعجمي، فلا يتحداهم بما لا قدرةَ لهم عليه، ولا هوَ من صناعتِهم، وإنَّما يتحداهم باللسانِ الذي يقدرون عليه، ثم يعجزونَ عن نظمِه وأسلوبه، ألا ترى أنَّه سِبحانه لمِ يَتَحدَّهُم (¬2) بالطِّب، كما تحدى قوم عيسى، ولا بما يتوهمونه سحراً، كما تحدَّى قومَ موسى، فكلّ قوم تحداهم بما كان من صناعاتِهم، وأبان عن عَجزِهم عنه، استدلالاً على تأييد نبيِّهم بما يخرقُ عاداتِهم، ولهذا لم تُتَحَدَّ (¬3) العبرانيةُ والسريانيةُ بالكلامِ العربيِّ (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "لله أعجمي وعربي". (¬2) في الأصل: "يتحداهم". (¬3) في الأصل: "تتحدا". (¬4) وفَّق أبو عبيد القاسم بن سلَّام بين ما ذهب إليه جمهور الأصوليين: من أنه ليس في القرآن لفظ غير عربي، وما رويَ عن ابن عباس، وعكرمة: من أن فيه من غير لسان العرب، بأن قال: كلاهما مصيبٌ إن شاء الله تعالى، وذلك: أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بألسنتها، فعرَّبته، فصار عربيّاً بتعريبها إياه، فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل. انظر "المعرَّب" (5)، و"البحر المحيط" للزركشي 2/ 172.

* فصل فيما وجهوه من الأسئلة على ما استدللنا به

فصلٌ فيما وجهُوه من الأسئلةِ على ما استدلَلنا به قالوا: ليسَ الأعجمئ بأكثرَ من أنَّه لا يُعقلُ معناه، وعلى قولكم: قد خاطَبهم بالآي المتشابهِ الذي قد تكرَّر منكم القولُ فيه، وثبتَ من أصلِكم: أنَّه هوَ المنفردُ (¬1) بعلمِه الذي لا يَعلمُ تأويلَه إلا اللهُ، ولا يُعقلُ المرادُ به، بل هو أشد غموضاً من الأعجميِّ الذي يوجَدُ مَن يفسِّرهُ، ويكشفُ عن معناه. فيقالُ: الآيُ المتشابِهُ من جملةِ المجازِ والاتَساع، وما تكلمت العربُ به، وهو أنَّه مصروفٌ عن مقتضاهُ في الَلغةِ إلى مايعبَّرُ به عنه استعارةً، على طريقِ التأويلِ، مثل (¬2) قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39] [أي]: على مرأى منِّي ومنظَرٍ. ومثلُ قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] , يريدُ: إلا هو، لقولهم: كرَم اللهُ وَجْهَك، والمراد به: كرَّمَكَ اللهُ. ومثلُ قولِه: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، [أي]: لما خلقتُ أنا، لا بإيلادي من أبٍ وأمٍّ، وأنا توليتُ إيلاجَ الروحِ فيه، التي هي مِلكي، والتكرُّمَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المنفرد به". (¬2) في الأصل: "ومثل".

بالإضافةِ، فهذا المصروفُ بالتأويلِ دأبُ العربِ ولسانُهم (¬1). ونحنُ نقول: إنَّ له عندَ الله معنى، لكن لا يوصَلُ إليه بالتأويلِ، وهذا صرف له عن ظاهرِه في اللغةِ، وكلُّ مصروف (¬2) له عن ظاهرهِ، إمَّا بتأويلٍ، أو (¬3) حملٍ له على غيرِه من حقيقةِ اللفظِ فمجاز، وكلُّ مصروف عن ظاهرِه بدلالةٍ، فمجاز أيضاً، والدلالةُ التي صَرَفت عن ظاهرِ هذه الإضافات: هي نفيُ (¬4) التشبيهِ عنه سبحانَه؛ بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وبدلائلِ العقوِلِ التي دلَّت علىِ أنَّه لو أشبَهَ الصُّورَ، وكان ذا أعضاءٍ وأجزاءٍ، لكان جسماً، ولو كان جسماً لم يكن واحداً، لأنَّ الجسمَ ما يتركَّبُ من جواهر، ولو لم يكن واحداً، بل كان مؤلَّفاً، لجازَ عليه ما يجوزُ على الأجسامِ، من التَّجَزُّؤ والانقسامِ، وحَمْلِ جِنس الأعراضِ، فاحتاجَ إلى ما احتاجت إليه الأجسام، فاتفقنا جميَعاً على الصرفِ عن ظاهرِه، وليسَ لنا كلامٌ مصروفٌ (¬5) عن ظاهرِه، إلا وهو المجازُ، وهو من جملةِ ما تكلَّمت به العربُ، بخلافِ الأعجمي. وكذلك الحروفُ المقطَّعةُ قد تكلَمت بها العربُ، مثلُ قولِ ¬

_ (¬1) هذا التفسير مخالف لما عليه السلف الصالح من إثبات ما أثبته الله لنفسه ورسولُه بغير تكييف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا تأويل. انظر "العقيدة الواسطية" لشيخ الإسلام بشرح الشيخ زيد الفياض رحمه الله. (¬2) في الأصل: "مصرف". (¬3) في الأصل: "و". (¬4) في الأصل: "نفس". (¬5) في الأصل: "مؤلفاً".

* فصل في جمع شبههم

شاعرهم: قلت لها: قفي، فقالت (¬1): قافْ (¬2). فأمَّا العجميةُ فلم يُحفظْ عنها، وإنْ سَلَّمنا على الأشدِّ، وأنَّ فيه ما لا يُعقلُ معناه، لكن للتكليفِ (¬3) والإيمان، فالمعنى والنطقُ مفهومٌ، لأنَّ المجيءَ معقولٌ، والنزولَ معقولٌ، واليدَ معقولةٌ، فكَلَّفَنا نفيَ الشبهةِ (¬4) بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، نفيَ تسميةٍ فارغةٍ من تسميةٍ مملوءة، بتكلُّف التسليم للعالِم بها. فصلٌ في جمعِ شبههم فمنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعثَ إلى الكافَّة، ولم يقف إرسالُه على العربِ خاصَّةً، فجُمعَ في كتابِه سائرُ اللُّغاتِ، ليقعَ الخطابُ لكلِّ من بُعثَ إليه بلسانِه الذي وضع له. ومنها: أنَّه قد وَجدْنا في القرآنِ ما ليسَ بالعربيةِ، فلا وجهَ لنفيِه، فمن ذلك: (المشكاةُ)، وهي كلمةٌ هنديةٌ (¬5)، و (الإستبرق)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال". (¬2) تقدم في 2/ 416. (¬3) في الأصل: "التكليف". (¬4) الشُّبْهة هنا المِثْل، لا الالتباس. "القاموس": (شبه). (¬5) قوله: إن لفظ: "المشكاة" هندي، هو ما ذهب إليه بعضُ الأصوليين، وقد تعقبهم العلامة الهندي عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري في "شرح مسلم الثبوت" 212/ 1، فقال: ثم كون "المشكاة" هندية غير ظاهر، فإن البراهمة العارفين بأنحاء الهند لا يعرفونه، نعم "المُسكاة" بضمِّ الميم =

* فصل في الأجوبة عما ذكروه

و (السجِّيل)، وهما كلمتان بالفارسية، و (طه) وقيل: إنَّها بالنبطية. وفيه ما لم يفهم أصلاً، وهو (الأبُّ)، حتى إنَّ عمرَ لم يعلَم ما الأبُّ، فقال لمَّا تلاه: هذه الفاكهةُ فأين الأبُّ (¬1)؛ ثمَّ عاتب (¬2) نفسَه على (¬3) البحثِ عنه، إذ ليسَ فيه أمرٌ ولا نهيٌ، ولا حكمٌ من أحكامِ الشرع. فصل في الأجوبةِ عمَّا ذكروه فأمَّا أنَّه بُعِثَ إلى الكافَّة، فليسَ يُعطي هذا أنَّه قد أعطى الكافَّة حقَهم من الخطابِ؛ لأنَّ البلاع إذا قُصِدَ به تعميمُ الكلِّ، وجَبَ أنْ يستوعِبَ كلَّ أُمَّةٍ (¬4) بجميع ما شُرِعَ لهم، كما أنَّ العربَ استوعبت بخطابِهم بالأَوامرِ (¬5) كلَها والنّواهي، والوعدِ والوعيدِ، والأمثالِ والمواعظِ، فأمَّا أن يُبعثَ بالرسولِ إلى الهندِ، فيقول لهم: (مشكاةٌ)، فَمُحالٌ (¬6) في الأوامرِ والنواهي، وأقسامِ ألفاظِ التكليفِ كلِّها، التي هي المقصورةُ على العربِ، ويُبعثَ إلى الفرس، فلا يُخاطبهم بما يخصُّهم به، إلا أنْ يقولَ لهم: (سجِّيل)، و (إسَتبرق)، ويُبعثَ إلى النبط، فيقولَ لهم: (طه)، هذا من أَهْجنِ المقالاتِ. ¬

_ = والسين المهملة، بمعنى التبسم، هندي، وليس في القرآن بهذا المعنى. (¬1) تقدم في 2/ 381. (¬2) في الأصل: "عتب". (¬3) في الأصل: "عن". (¬4) في الأصل: "لغة". (¬5) في الأصل: "الأوامر". (¬6) في الأصل: "محال".

جواب آخر عما ذكروه

على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ إلى العربِ، وهم أهلُ صناعةِ الكلامِ، وجُعلَ عجزُهُم عن مثلِه حجةً على غيرهم، كما جُعلَ عجزُ السَّحرةِ عمَّا جاءَ به موسى عليه السلام حجةً على غيرِهم من بني إسرائيل. جوابٌ آخر عن قولهم. إنَّا قد وجدنا ذلك. وهو أنَّ المحقِّقين من أهلِ اللغةِ قالوا: إنَّ هذه كلمات تواطأت، فسارت، فكانت في العربيةِ كهي (¬1) في غيرها من اللغات، مثل تَنُّور، بكل لغةٍ تنورٌ، وتواطأ (¬2) لسان العربِ والفرس في (سجِّيل) و (إستبرق)، والنبطِ والعربِ في (طه)، وأنَّه الرجَلُ، فلا يكون خروجاً عن العربية، بل مساواةً لغيرها، وأما (الأبُّ): فما خَفي على عُمر لأنَّه ليس من العربية، لكنْ لأنَّ من العربيةِ ما يُجهلُ عند قومٍ، ويُعرفُ عندَ غيرِهم، ولهذا رُويَ عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدري ما معنى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14]، حتى سمعت امرأةً من العرب تقول: أنا فطرته، فعلمت أنه أراد: منشىءَ (¬3). وإلاَّ، فالأبُّ في اللغةِ: الحشيشُ (¬4). على أنَّ العربيةَ قد وافقت غيرَها في أشياءَ، كقولِ الفُرس: سروال، مكانَ قولِ العرب: سراويل، وتقولُ في السماءِ: أسمان، والكلُّ قالوا: صابون، وتَنُّور، فما اختلف فيها لغتان. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فهي". (¬2) في الأصل: "فواطأ". (¬3) تقدم في 2/ 419. (¬4) قال الزجاج: الأب: جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية."اللسان": (أب).

* فصل في تفسر القرآن بالرأي والاجتهاد

فصل في تفسيرِ القرآنِ بالرأي والاجتهادِ (¬1) لا يجوزُ عند أصحابنا، بل لا يجوزُ إلا نقلاً، لقوله (¬2) تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فردَّ البيانَ إليه - صلى الله عليه وسلم -، فلأْ يجوزُ أن يُسمعَ من غيرِه. ورويَ عن ابنِ عباس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "من قالَ في القرآن، برأيِه، فلْيتبوَّأْ مَقْعدَه منً النَّار" (¬3). وروى جندبٌ أيضاً عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"من قالَ في القرآنِ برأيِه، فأصاب، فقد أخطأ" (¬4). ¬

_ (¬1) راجع "العدة" 3/ 710، و"التمهيد" 2/ 283، و"المسودة" (174 - 175)، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 157. (¬2) في الأصل: "كقوله". (¬3) أخرجه من حديث ابن عباس: أحمد (2069) و (2429) و (3025) طبعة مؤسسة الرسالة، والترمذي (2951)، والبغوي، (118). وقد ورد الحديث عند بعضهم بلفظ: "بغير علم" بدل "برأيه"، وإسنادالحديث ضعيف لضعف عبد الأعلى الثعلبي، ومع ذلك فقد حسنه، الترمذي. (¬4) أخرجه من حديث جندب: أبو داود (3652)، والترمذي (2952)، والبغوي (121). قال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي إسناد الحديث: سهل بن أبي حزم، وهو لا يحتج به، ضعفه =

يعني (¬1): أخطأ بسلوكِه طريقَ الرأي، وإصابتُه تكون موافقةً، وهذا عينُ الخطأ. وروي عن عائشة قالت: ما كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يفسِّر من القرآنِ إلا آياً بعددٍ، علمهنَّ إياهُ جبريلُ عليه (¬2) السلام (¬3). ورويَ أنَّ سعيدَ بن المسيِّب، سئل عن آيةٍ من القرآن، فقالَ: لا أقولُ في القرآنِ شيئاً (¬4). قال صاحبنا أبو بكر، وهو راوي هذه الأحاديث: ولأنَّ التأويلَ خطرٌ، لأنَّه قد يفسِّر برأيه، فيكونُ باطنُ ذلكَ عند الله خلافه، أما رأيتَ الذي تركَ تحتَ رأسِه خيطين فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّك لعريض الوساد (¬5)، إنما هما خيطا الفجر" (¬6)؟! ¬

_ = البخاري، وأحمد، وأبو حاتم. (¬1) في الأصل: "يعطي". (¬2) في الأصل: "عليها". (¬3) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (4528)، والبزار (2185)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 303. وإسناده ضعيف لجهالة فلان بن محمد بن خالد. (¬4) انظر "تفسير الطبري" 1/ 37. (¬5) في الأصل: "الوساط". (¬6) جاء ذلك في حديث عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، أخذتُ عقالاً أبيض، وعقالاً أسود، فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرتُ فلم أتبتن، فذكرتُ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فضحك، وقال: "إن وسادكَ إذاً لعريض طويلٌ، إنما هو الليل". أخرجه أبو داود (2349)، والطبراني في "الكبير" 17/ 176، وابن حبان =

* فصل نقل التفسير عن الرواية قربة وطاعة

فصلٌ فأمَّا نقلُ التفسيرِ عن الروايةِ فقربة وطاعة، وقد فسر أحمدُ وأَوَّلَ (¬1) كثيراً من الآي، على مقتضى اللغةِ، من ذلك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، الآية، فقال: بعلمِه، وقال في قولِه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه: 46]: هو جائز في اللغة، يقول الرجل: سأجري عليك رزقاً، أي: أفعلُ بكَ خيراً. والدليل على جوازِ ذلك، والتقربِ به: قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]. ورويَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس، فقال: "اللهمَ فَقهه في الدين، وعلِّمه التأويل" (¬2)، ولو لم يكن فضيلةً، لما دعا له بها، وقَرَنَهُ إلى الفقه في الدين. ورويَ أنه لما استعمله عليُّ بن أبي طالب على حجٍّ، خَطبَ (¬3) ¬

_ = (3463). وإسناده صحيح. (¬1) في الأصل: "تأويل". (¬2) أخرجه أحمد 1/ 266 و 314، وابن حبان (7055) بهذا اللفظ من حديث ابن عباس قال: كنتُ في بيت ميمونة بنت الحارث، فوضعتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهوراً، فقال: "من وضعَ هذا؟ " قالت ميمونة: عبد الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ فقهه في الدِّين، وعلمه التأويل". وأخرجه بلفظ: "اللهمَ فقهه في الدين": أحمد 1/ 327، والبخاري (143)، ومسلم (2477)، وابن حبان (7053). (¬3) في الأصل: "فخطب".

* فصل في الرجوع إلى تفسير أصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم

خطبةً لو سمِعَها التُّركُ والرُّومُ لأسلموا، قرأ سورة النُّور؟ (¬1) وفسَّرها (¬2). ورويَ عن ابن مسعود، قالْ كان الرَّجلُ منا إذا تعلَّمَ عشرَ آيات، لم يجاورهُنَّ حتى يعلمَ تأويلَهنَّ، ويعملَ بهنَّ (¬3). ولأنَّ القرآنَ نزلَ بلغتهم، فوجبَ تفسيرُ ما أُغلق منه على غيرهم بشواهدِ لغتهم، من نثرِهم، وأشعارِهم، وخطبِهم. فصلٌ في الرُّجوعِ إلى تفسيرِ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كلامُ صاحبنا يدلُّ على الرُّجوع إلى تفسيرِهم في عدةِ رواياتٍ عنه، [كما] في إيجابِ مِثْلِ الصُّيودَ على المحرِمين، تفسيراً (¬4) منهم (¬5) لقوله تعالى: {ومَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، ومثلُ كلامِهم في الكلالَةِ. (¬6) ¬

_ (¬1) في الأصل: "الروم". (¬2) مقدمة "تفسير الطبري" 1/ 36. (¬3) أحرجه الطبري في مقدَمة "تفسيره" 1/ 35. (¬4) في الأصل: "مفسراً". (¬5) أشار أبو يعلى إلى ذلك في "العدة" 3/ 721، فقال: روى صالح، عن أبيه- أي: الإمام أحمد- قال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فلما حكمَ أصحابُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الظبي بشاة، وفي النعامة ببدنة، وفي الضبع بكبش، دلَّ على أنه أراد الشِّبْهَ. (¬6) يقصد بكلامهم في الكلالة: أنَّ أكثرَ قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ الكلالةَ: من لا ولدَ له، ولا والد. فاستقر حكمُ الآية على ذلك. انظر"العدة" 3/ 723.

* فصل يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان

وذلكَ لأنَّهم جَمَعوا بين معرفة اللغةِ، والسَّماعِ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا أعرفَ بالتأويلِ والتنزيلِ، ولذلكَ جعلنا قولَهم حجةً، وهذا أيسرُ من جعلِ قولهم [غيرَ] حجةٍ؛ لأنَّه نوعُ تأويل. وقالَ في التأويل [عن التابعين: إذا جاءَ الشيءُ عن الرجلِ من التابعين، لا يوجد فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يلزم الأخذ به. وقال:] (¬1) يُنْظر ما كانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابِه، فإن لم يكن، فعن التابعين. فتحقق في تفسيرِ التابعين روايتان. قالَ شيخُنا رضيَ الله عنه: يحملُ على إجماعِهم (¬2). وهذا التأويلُ منه يسقطُ فائدةَ تخصيصِ أحمدَ بالتابعينَ، لأنَّ الإجماع من علماءِ كلِّ عصيرٍ حجةٌ مرجوعٌ إليها، مقطوعٌ بها. فصلٌ يجوزُ أن يرادَ باللفظ الواحدِ معنيانِ مختلفانِ (¬3)، كالقُرءِ، والشَّفَقِ، واللَّمس، فيراد بالقُرءِ: الحيضُ والطهرُ، ويرادُ بالشفقِ: البياضُ والحمرَةُ، وباللَّمسِ: يرادُ به: اللمسُ باليدِ والجِماعُ، وبه قال الجُبائي. ¬

_ (¬1) ما بين معقوفين ليس في الأصل، واستدركناه من "مسائل الإمام أحمد" برواية أبي داود (276 - 277)، و "العد" 3/ 724؛ لضرورة صحة السياق. (¬2) انظر "العدة" 3/ 724. (¬3) وإلى هذا ذهب الإمام الشافعي. انظر "البرهان" 1/ 243، و"المستصفى" 2/ 71، و"التبصرة" (184)، و "جمع الجوامع" 1/ 197.

* فصل في أدلتنا

وقال أصحابُ أبي حنيفةَ: لا يجوزُ ذلك (¬1)، وهو قولُ أبي هاشم. فصلٌ في أدلتنا فمنها: أنَّا أجمعنا على أن المعنيينِ المختلفين (¬2) يجوز أن يُرادا (¬3) بلفظين، فنقول: كلُّ معنيين جاز إرادتُهما بلفظين مختلفين، جاز إرادتُهما بلفظ واحد، كالمعنيين المتفقين (¬4). مثال ذلك: أن نقول: إذا أحدثتَ فتوضأ، ونريد به: البولَ والغائطَ، أو اغتسلْ، ونريدُ: [من] إنزالِ المنيِّ والتقاءِ الختانين. ومنها: أنَّ إرادَتَهما باللفظِ الواحد غيرُ مستحيل، بدليل أنَّه لو استحالَ، لما صحَ التصريحُ به، بدليلِ أنَّ العمومَ والخصوصَ لمّا استحالَ إرادتُهما معاً باللفظِ الواحِد، لم يجز أنْ يَرِدَ لفظٌ واحدٌ يرادان به جميعاً، وأجمعنا ها هنا على أنَّه لا يستحيلُ في اللغةِ أن يقول: أُريدُ بقولي: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]: الحيضَ والأطهارَ. وأريدُ بقولي: وقتُ المغرب باقٍ ما لم يغب الشفقُ: الحمرةَ والبياضَ. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ¬

_ (¬1) ينظر قول الحنفية هذا في "الفصول في الأصول" 1/ 77، و"أُصول السرخسىِ" 1/ 126، 162، و"تيسير التحرير" 1/ 235. (¬2) في الأصل: "مختلفين". (¬3) في الأصل "يجوزان فيرادا". (¬4) "التبصرة" (185).

* فصل في شبههم

[النساء: 43] أريدُ به اللمسَ باليدِ والجماعَ، واللفظُ صالحٌ لهما، إمَّا حقيقةً فيهما أوإما مجازاً، (¬1). ولا ينكرُ في اللغةِ الاشتراكُ في الصيغةِ الواحدةِ بين المعاني المختلفة. ومع هذه الجملة، فلا وجهَ للمنعِ منه. فصلٌ في شبهِهِم فمنها: أنَّ الألفاظَ والصيغَ، وضعتْ للبيانِ (¬2) والإفهامِ، فإذا جُوِّزَ أن يراد بالصيغةِ الواحدة معنيانِ مختلفانِ، كان تضليلاً وتلبيساً يخرجُ (¬3) عن قصدِ الوضعِ الأول من الإفهامِ والبيانِ إلى ضده (¬4)، ومثلُ ذلكَ ما جازَ في لغتِهم، بدليلِ أنَّ صيغةَ (افعل) لم يجزْ أن تَرِدَ والمرادُ بها الاستدعاءُ والتهديدُ، فَلمّا (¬5) وضعت للاستدعاءِ في الأصلِ، لم يجزْ أن يرادَ بها غيرُ ما وُضعتْ له، أو (¬6) ضده، وهو التهديدُ الموجِبُ للكفِّ والتركِ. ومنها: أنَّه لو جازَ أن يُراد (¬7) باللفظ الواحد معنيانِ مختلفان، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق. (¬2) في الأصل: "للسان". (¬3) في الأصل: "فخرج". (¬4) في الأصل: "إلى ضده من الإفهام والبيان". (¬5) في الأصل: "لما" (¬6) في الأصل: "بل". (¬7) في الأصل: "يرد".

* فصل في جمع الأجوبة

لجازَ أن يردَ لفظٌ واحدٌ يرادُ به التعظيمُ والتهوينُ، والكرامةُ للشخصِ والإهوانُ به، ولمَّا لم يجزْ ذلكَ، عُلِمَ بطلانُ هذا المذهب. ومنها: أنَّ طريقَ هذا: استعمالُ القومِ، وما سمعنا منهم إيرادَ لفظٍ واحدٍ المرادُ به معنيان مختلفان (¬1): أحدُهما حقيقةٌ، والآخرُ مجازٌ (¬2)، أو أحدُهما صريحٌ، والآخر كنايةٌ، وإذا ثبتَ ذلكَ، لم يجز لنا أنْ نبنيَ مذهباً على خلافِ وَضعِهم، فيكونُ دعوى عليهم، بما (¬3) لم يثبتْ عنهم (¬4). فصلٌ في جمعِ الأجوبةِ فمنها: أنَّ كونَ المعنيينِ مرادين بالصيغةِ الواحدةِ لا يكونُ تضليلاً وتلبيساً، بل يكونُ جمعاً بين معنيينِ بصيغةٍ، كما يجمعُ بالدلالةِ الواحدةِ، والأمارةِ الواحدةِ بين مرادينِ مختلفينِ، مثلُ أنْ يُجعلَ طلوعُ الفجرِ دليلاً يُنْبِىءُ عن مدلولينِ مختلفينِ: تحريمِ الأكل، وإيجابِ صلاةِ الفجرِ، أو تَجويز (¬5) فعلها مع تحريمِ الأكلِ. وليست الألفاظُ والصِّيغُ إلا وضعَ الحكماءِ، ولو كانَ تضليلاً في اللفظِ الدالِّ على مرادِهم، لكان تضليلاً [في]، (¬6) الأمارات الدالَّة على ¬

_ (¬1) في الأصل: "معنيين مختلفين". (¬2) في الأصل: "مجازاً". (¬3) في الأصل: "ما". (¬4) "التمهيد" 2/ 242. (¬5) في الأصل: "نحو من". (¬6) زيادة يقتضيها السياق.

مرادِهم. وأمَّا صيغةُ الأمرِ: فإنَّه إنَّما لم يُرِدْ بها الطَّلبَ والمنعَ والاستدعاءَ والتهديدَ، لأنّه مستحيلٌ اجتماعُ إرادتي الفعلِ والتركِ لأمرٍ واحدٍ في حالٍ واحد، ولهذا لو صرَّحَ بذلكَ لم يحسُنْ، فيقول: أريدُ بقولي اسجُدْ: السجودَ والانتصابَ، وها هنا يحسُن أن يقول: أريد بالقرءِ: الحيضَ والطهرَ، على ما قدَّمنا (¬1). على أنَّه يبطلُ على أصلِ المخالِفِ بالماءِ المذكورِ في آيةِ التيممِ (¬2)، فإنه أريدَ به عندَه (¬3): الماءُ والنبيذُ، وهو حقيقةٌ في أَحدِهما دونَ الآخرِ، وأمَّا التعظيمُ والتهوينُ، فإنَّما لم يجز أن يُرادا (¬4) بالصيغة الواحدة؛ لأنَّهما ضدَّان، ولا يصحُّ اجتماعُ إرادتِهما باللَّفظِ الواحد، ولا بلفظين في حقِّ شخصَ واحد في حالةٍ واحدة، ولهذا لو صَرَّح، فقالَ: أبعدوا هذا الشخصَ عن ذلكَ المقامِ، إهانةً له إكراماً، لم يجزْ، ولو قال ها هنا: تطهَّر من اللَّمسِ باليدِ، ومن الجماع، واعْتَدِّي بالأقراء والحيض، وكمِّلي ثلاثاً من كلِّ واحد منهما، جازَ، فبانَ الفرقُ بينهما. وأما منعُهم ورودَ ذلك في الاستعمالِ، فلا نسلِّمُه، بل قد ورد: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، والمرادُ به: اللمسُ باليدِ حقيقةً، والجماعُ استعارةً في إيجابِ التيمُّم عندَ عدمِ الماءِ، وإذا صحَّ ذلكَ ¬

_ (¬1) في الصفحة: (66). (¬2) يعني قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا ...} [النساء: 43]. (¬3) أي: عند المخالف، وهم الحنفية. انظر "التبصرة" (185). (¬4) في الأصل: "يراد".

* فصل العموم إذا دخله التخصيص لم يصر مجملا ويصح الاحتجاج به

في النَّفي (¬1)، صحَ في الإثباتِ، ولا فرقَ، ألا ترى أنَّه يحسنُ أن يقولَ: نهيتكم عن مسيسِ النساءِ، ويريدُ به: الجماعَ واللمسَ باليدِ، وإن كانا معنيين مختلفين؟ فصل العمومُ إذا دخلَه التخصيصُ لم يصر مجملاً، ويصح الاحتجاجُ به فيما بقيَ من لفظه (¬2). وبه قالَ أصحابُ أبي حنيفةَ، والمعتزلةُ. وقال عيسى بن أبان: إذا دخله التخصيصُ، صارَ مجملاً، فلا يجوزُ التعلّقُ بظاهرهِ، وحكيَ ذلك عن أبي ثورٍ (¬3). وقال أبو الحسن الكرخي. إذا خُصَّ باستثناءٍ أو بكلام متصلٍ، صحَّ التعلُّق بهِ، وإن خُصَّ بدليلٍ منفصل (¬4)، لم يصحَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المعنى". (¬2) تقدَّم بحث هذا الفصل، غيرَ أن ابن عقيل يبحثه هنا بشكل أوسع، من حيث بيانُ الأقوال، وذكر الأدلة. (¬3) هو إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، المعروف بأبي ثور، ويكنى أيضاً بأبي عبد الله، كان إماماً حافظاً مجتهداً، صنف الكتب وفرَع على السنن، وذبَّ عنها. توفي سنة (240) هـ. انظر "وفيات الأعيان" 1/ 26، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 512، 513، و"طبقات الشافعية" 2/ 74، 80، و "تهذيب التهذيب" 1/ 118 , 119، و"سير أعلام النبلاء" 12/ 72 - 76. (¬4) في الأصل: "ينفصل".

* فصل في جمع أدلتنا

التعلّقُ به (¬1). وقال أبو عبدِ الله البصري: إن كان الحكم الذي تناولَه العمومُ (¬2) يحتاجُ إلى شرائط وأوصافٍ (¬3) لا ينبىءُ اللفظُ عنها، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] كانَ مجملاً، وجرى في الحاجةِ إلى البيانِ مجرى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، فلا يحتج به (¬4) إلا بدليل. فصل في جمعِ أدلتِنا فمنها: أنَّ فاطمةَ بنتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها السلام احتجت على أبي بكرٍ الصَديقِ بقوله [تعالى]: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] (¬5) وإن كانت الآيةُ مخصوصةً في القاتلِ والكافرِ والرقيقِ، ولم ينكر احتجاجَها هو، ولا أحدٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ومنها: أنَّه لو كانَ دخولُ التخصيص على اللفظ يمنعُ الاحتجاجَ ¬

_ (¬1) "التبصرة" (187 - 188)، و"المعتمد" 1/ 286، وقوله بنصه في "شرح اللمع" 2/ 148. (¬2) في الأصل: "الحكم". (¬3) في الأصل: "أوصاف". (¬4) في الأصل: "نجزئه". (¬5) تقدم في 3/ 318. (¬6) "شرح اللمع" 2/ 149.

* فصل في شبههم

به، لوجبَ التوقُّفُ في كلِّ لفظٍ يرد من ألفاظِ العموم، لأنه (¬1) ما من خطاب إلا وقد اعتبرَ في إثباتِ حكمِه صفات في المخاطَبِ، من تكليفٍ، وإيمانٍ وغيرِهما، فيؤدي ذلكَ إلى قولِ أهلِ الوقفِ، وقد اتفقنا وإياكم على بطلانِ قولِهم. فإن قيل: أليسَ قد توقفتم في العملِ بألفاظِ العمومِ إلى أن تعلموا أن ليس مخصِّص يخصُّها؟ قيل: لا نسلَّم ذلكَ. ومنها: ما نَخُصُّ به البصريَّ (¬2)، فنقول: إنَّ المجملَ: ما لا يُعقلُ معناه من لفظِه، والعمومُ معقولٌ ما أريدَ به، لكن قامَ الدليلُ على إخراجِ بعضِ من كان داخلاً تحتَ ما أُريدَ به من الحكمِ، فلا وجهَ لإجمالِ اللفظِ بخروجِ بعض المخاطبينَ أو الداخلين تحتَه، لأنَّ باقي (¬3) المعقول معقولٌ. فصل في شبههِم فمنها: أنَّ العمومَ إذا دخلَه التخصيصُ، خرجَ عن كونه موجباً حُكمَه، فلم يجز الاحتجاجُ به، كالعلَلِ إذا خُصَّت. فيقالُ: العلةُ لا تبطلُ بالتخصيصِ عندَهم، فهيَ حُجَّة (¬4)، وعندنا ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا". (¬2) هذا ردٌ من ابن عقيل على قولى البصري المتقدم في الصفحة السابقة. (¬3) في الأصل: "ما في". (¬4) في الأصل: "الحجة".

على أحدِ الوجهينِ، وإنْ سلَّمنا على الوجهِ الآخَرِ، فإنما لم يجز في العلَلِ، لأنها إنَّما تظهرُ من جهةِ المستدلِّ، ولا يُعلمُ صحتُها إلا بدليلٍ، ولا شيءَ يدلّ عليه إلا السلامةُ والجريانُ، وليس كذلك العمومُ، فإنَّه يظهرُ من جهةِ صاحبِ الشرعِ، فلا يحتاجُ في صحتِه إلى دليلٍ، فافترقا (¬1). ومنها: أن قالوا: إذا دَخَلَه التخصيصُ، صارَ كأنَّه أوردَ لفظَ العموم، ثمَّ قال: أردتُ به بعضَ ما تناوَله، وما هذا سبيلُه لا يحتجُّ به فيما أريدَ به، كما نقولُ في قولِه سبحانه: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، فإنه لا يعلمُ من لفظهِ ما فيه إثم إلا بدليلٍ. فيقالُ: ليسَ تخصيصُه بمثابةِ قوله: أردتُ به البعضَ، لأنَّ التخصيصَ يُخرجُ من الجملةِ بعضَها، لكنه بعض معلومٌ، بلفظ صريح يَبْقَى (¬2) به ما بقي منها، مثلُ قولي في المرأة التي قُتِلَت: "ما بالُها قُتِلَت وهي لا تقاتل؟! " (¬3) بعد أمرِه بقتل المشركين (¬4)، فأخرجَ المرأةَ، فالجملةُ الباقيةُ بعد إخراجِ النِّساء معلومة، وهي من يقع عليه ¬

_ (¬1) "التبصرة": 190. (¬2) في الأصل: "بقا". (¬3) عن عبد الله بن عمرَ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيانِ. أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 447، وأحمد 2/ 34 و 75 - 76 و115، والبخاري (3014) و (3015)، ومسلم (1744)، وأبو داود (2668)، وابن ماجه (2841)، والترمذي 15691)، وابن حبان (135)، والبغوي (2694). (¬4) بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ...} [التوبة: 5].

اسمُ مشرِكٍ. فأمَّا قوله: لا تقتلوا لعضَ المشركين، وقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، لا يُدرى به أيُ المشركين، ومَن البعض، ولا يُدرى أيُّ الظنون يتعلق به المأثمُ، فوِزانُه من العمومِ المخصوص، أنْ نقولَ: الظنُّ كلُّه إثمٌ، ثم نُخرِجُ بدلالةٍ ظناً مخصوصاً، فتبقى جميعُ الظنونِ ما عدا المُخْرَجَ يتعلقُ (¬1) بها الإثم. فأمَّا شبهةُ البصريَ: فهي أنَّ آيةَ السرقةِ، لا يمكنُ العملُ بها حتى يَنضمَّ إليها شرائط [لا] (¬2) ينبىء اللفظُ عنها، والحاجةُ إلى بيانِ الشرائطِ التي يتمُّ بها الحكمُ، كالحاجةِ إلى بيانِ الحكم، وقد ثبتَ أنَّ ما يفتقرُ إلى بيانِ حكمِه مجملٌ، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فكذلكَ ما يفتقرُ إلى بيانِ شرائطِ الحكمِ. فيقال: إنَّ هذا باطلٌ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فإنَّه لا يمكنُ العملُ به، حتى تُبينَ شروطُ استحقاقِ القتلِ للمُشْركِ، من العقلِ، والبلوغِ، والذكورةِ، وبلوغِ الدعوةِ، ثمَّ لا تُجعلُ الحاجةُ إلى بيانِ ذلكَ، كالحاجةِ إلى بيانِ المراد بالمجملِ من اللفظِ، ولا يكونُ قوله: {فَاقْتُلُوا}، مثل قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141]. فإن قيل: تلكَ الآيةُ إنما افْتَقَرَتْ إلى بيانِ من لم يُرَدْ بالَآيةِ مِن الصبيانِ والمجانينِ، فحمِلَت في الباقي على ظاهرِها، وها هنا يُفْتقَرُ إلى بيانِ ما أُريد بالَآيةِ من شروط القطع، ولهذا اشتغلَ الفقهاءُ بذكرِ شرائط القطعِ دون ما يُسقط القطعَ، فافترقا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا يتعلق". (¬2) ليست في الأصل، وأثبتناها لضرورة صحة السياق.

قيل: لا فرقَ في الموضِعَينِ، فإنَّ آيةَ السرقةِ، إنما تفتقرُ إلى بيان مَنْ لا يراد، وهو مَنْ سرقَ دونَ النِّصابِ، أو سرقَ مِن غيرِ حرزٍ، أوكانَ والداً أو ولداً، وأما ذكرُ الفقهاءِ شرائط القطع، فلا عبرةَ به، لأنَّهم سلكوا بذلكَ طريقَ الاختصارِ، وإنَّما فعلوا ذلكَ؛ ليعرفَ بذلكَ مَنْ لا يَجبُ عليه القطعُ، وإنَّما الاعتبارُ بما يقتضيه اللفظُ، وما أُخرِجَ منه، ومعلوم أنَّ الظاهرَ يقتضي وجوبَ القطعِ على من سَرَق، والدليلُ دلَّ على إخراج مَنْ ليس بمراد؛ مِن صبيٍّ، ومجنونٍ، وولدٍ ووالدٍ، وغير ذلك، فصارَ ذلكَ بمنزلةِ ما ذكرناه من آية القتلِ، التي تقتضي بظاهرها إيجابَ القتلِ على كلِّ مشرِكٍ، ثم دلَّ الدليل على إخراج مَنْ ليسَ بمرادٍ بها. وأمَّا قولُه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فيحتمل أن نقول: إنَّها تتناولُ كلَّ دعاءٍ، إلا ما يُخرِجُه الدليلُ، ويحتمل أن نقولَ: إنها مجملة، فتفتقرُ إلى البيانِ. فعلى هذا: الفرقُ بينهما: أنَّ المرادَ بالصلاةِ لا يصلحُ له اللفظُ في اللغةِ، ولا يدلُّ عليه، وما يرادُ بالسارق، يصلح له اللفظ ويعقل [منه] (¬1)، ألا ترى أنَّه إذا أخرجَ من آية السرقة مَن لا يرادُ قطعُه، أمكنَ قطعُ مَنْ أريدَ قطعُهُ بظاهرِ الآيةِ، هاذا أخرجَ من آيةِ الصلاةِ ما ليسَ بمرادٍ، لم يمكنْ أن يحملَ على المرادِ بالآيةِ، فافترقا. ومما تعلَّقَ به البصريُّ أيضاً: أنَّ القطعَ يحتاجُ إلى أوصافٍ سوى السرقةِ من النِّصاب والحرزِ، وغير ذلكَ، فصارَ بمثابةِ ما لو احتاجَ ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

* فصل عموم اللفظ إذا قرن به المدح أو الذم لم يصر مجملا ويصح الاحتجاج به

إلى فعلٍ غيرِ السَّرقةِ، ولو [افتقر] (¬1) إلى فعلٍ غيرِ السَّرقةِ في إيجاب القطعِ، لم يمكن التعلقُ بظاهِره، فكذلكَ إذا افتقرَ الى أوصافٍ سوى السرقةِ. فيقال: هذا باطلٌ بآية القتلِ، فإنَّها تتعلَّقُ بأوصافٍ غيرِ الشَركِ، كالبلوغِ والعقلِ، ثم لا يصيرُ ذلك بمثابةِ ما لو احتاج إلى فعلٍ آخرَ في إيجابِ القتلِ، في إجمالِ الَايةِ، والمنعِ من التعلُّق بها. ويخالفُ هذا: إذا افتقرَ الحكمُ إلى فعلٍ آخرَ، فإنَّ هناكَ (¬2) لو خُلِّينا وظاهرَ الآية (¬3)، لم يمكن تَقْييدُ (¬4) شيءٍ من الأحكامِ به، فافتقرَ أصلُها إلِى البيانِ، وها هنا (¬5) لو خُلِّينا والظاهرَ لم نُخْطِىء (¬6) فيها إلا في ضمِّ (¬7) ما لم يُردْ إلى ما أُريدَ باللفظ، فعملنا بالظاهرِ في الباقي (¬8). فصلٌ عمومُ اللفظ إذا قُرِنَ به المدح أو الذمُّ، لم يصِرْ مجملاً، ويصحُّ الاحتجاج (¬9) به وذلك مثل قولِه سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 5]، وكقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ¬

_ (¬1) زيادة في "شرح اللمع" 2/ 153. (¬2) يعني: في آية السرقة. (¬3) في الأصل: "الأمر" والمثبت من "التبصرة": 192. (¬4) في الأصل: "يتقيد". (¬5) يعني في آية القتل. (¬6) في الأصل "نحط". (¬7) في الأصل: "ضمن". (¬8) "شرح اللمع" 2/ 154. (¬9) في الأصل: "الاجتهاد".

* فصل في أدلتنا

وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34]، خلافاً لبعضِ أصحاب الشافعيِّ (¬1)، وبعضِ الأصوليين: يصَيرُ مجملاً باقترانِ ذكرِ الذمِّ أو الَمدح (¬2). فصل في أدلتنا منها: أن صيغةَ العمومِ، قد وُجِدَت، وشملَت الجنسَ الموصوفَ بحفظِ الفروجِ، وكنزِ الذَّهبِ، والامتناع من إخراجِ الزكاةِ منه، وليسَ في ذكرِ الوصفين ما يمنعُ كونَها (¬3) عامَّةً غيرَ مجملةٍ، لأنَّها تضمنت ذكرَ جماعةٍ وُصِفوا بالبخلِ، وجماعةٍ وُصِفوا بالعِفَّةِ، وجميعاً يفهم مَعناهما (¬4) من الصيغة واللفظِ، كما لو قال: اقتلوا المشركين. ولا فرقَ بين الأمرِ بقتلِ جماعةٍ موصوفةٍ بالشِّركِ، وبين البشارةِ بالعذابِ لجماعةٍ موصوفةٍ بالبخلِ بالزكاةِ والمنعِ. ¬

_ (¬1) وهو قول مرجوح عند الشافعية، والثابتُ المقرر عندهم أنه يصحُ الاحتجاج بعموم اللفظ وإن اقترن بذكر المدح أو الذم. انظر "التبصرة" (193)، والمحلي والبناني على "جمع الجوامع" 1/ 422، و"المحصول" 3/ 135، و"الإحكام" 2/ 406. (¬2) انظر "التمهيد" 2/ 160، و"المسوَّدة" (133)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 254. (¬3) أي كون الآية عامَّةَ. (¬4) في الأصل:"بمعناهما".

* فصل في شبههم

ومنها: أنَّ [اقترانِ] الوعيدِ والذَّمِّ به، لا يجعلُه مجملاً، و (¬1) لا يمنعُ من الاحتجاجِ به، كاقترانِ إيجابِ القطعِ بعمومِ (¬2) السُّراقِ، واقترانِ ذكرِ الجَلْدِ والرَجْمِ بعمومِ الزناة (¬3)، بل إنْ لم يكن ذكرُ العقابِ والثواب والمدحِ والذمِّ مؤكِّداً، لم يكن مُخرِجاً له عن الاستدلالِ، لأنًّ ربْطه بالمدحِ والذمِّ مؤكِّدٌ للحكمِ الموجِب للذمِّ والمدحِ، ولأنَّ العقابَ (¬4) أبلغ من الذمِّ، ثم إنَّه لو قَرَنَه بإيجاب العقوبةِ، لم يمنع الاحتجاجَ به، فإذا قَرنَه بالذمِّ، كان أولى أَن لَا يمنع. فصلٌ في شبهِهم قالوا: القصدُ بهذهِ الآياتِ المدحُ والذمُّ على الفعل، دونَ ما يتعلقُ به الحكمُ من الشرائِط والأوصافِ، فلا يجوزُ التعلُّقُ بعمومها فيما يستباحُ، وفيما تجبُ فيه الزكاةُ، كما قلنا في قوله عزَّ وجلَّ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، لمَّا كانَ المقصودُ بها: بيانَ إيجابِ حقٍّ في الزرع، لم يجز الاحتجاجُ بعمومه في المقدارِ والجنسِ. فيقال: لا نُسلِّم أنَّ القصدَ فيها الذمُّ والمدحُ دونَ الحكمِ، بل القصدُ بيانُ تأكيدِ الحكمِ في الإثابةِ على فعلهِ، والذَّمِّ على تركِه، ولو ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو". (¬2) في الأصل: "لعموم ". (¬3) في الأصل "الزنا". (¬4) في الأصل: "العتاب".

* فصل إذا ورد الأمر بالصلاة الحج والزكاة

كانَ القصدُ المدحَ والذمَّ خاصةً، لما كان لذكرِ حفظِ الفروِجِ، وكنزِ الذهبِ من غير إيفاءِ الحقوق معنى، ألا ترى أنَّه [لو] قرن بالعموم ذِكر عقوية، أو قرنَ به ذكرَ جزاء أو مثوبةٍ، لم نَقُل: إنَّه قصدَ نفسَ العقوبةِ، بل قصدَ بذكرِ العقوبةِ عمومَ الصرفِ عن القبائح، والإبعاد عن الجرائم، بذكرِ العقوبات الصوارفِ، كذلكَ في الذمِّ وَالمدحِ. على أنَّه لو كان هذا صحيحاً، وأنَّ ذكرَ [المَدْحِ أو] الذمِّ يمنعُ كونَ الحكم مقصوداً، لجازَ أن يُقلَبَ، ويقال: إنَّ ذكرَ الحكمِ يمنعُ كونَ المدحِ [أو الذَّمِّ] مقصوداً، وهذا باطلٌ، بإجماعنا، فكذلكَ ما قالوه. فصلٌ إذا وردَ الأمرُ بالصلاةِ والحجِّ والزكاةِ، بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، فإنَّه قبلَ البيانِ لذلكَ من الشَّرعِ: مجملٌ، وبعدَ البيانِ: مفسَّرٌ، فلا يُرْجَع إلى الدعاءِ والقصدِ والصدقةِ قبل بيانِ المرادِ به. وقالَ بعضُ الشافعيّهِ: هو عام يتناولُ اللغويَّ والشرعيَّ (¬1)، فيشملُ كلَّ قصدٍ ودعاءٍ وصدقةٍ، وقال بعضهم: هو مجملٌ (¬2). ¬

_ (¬1) وهو قولُ القاضي أبي بكر الباقلاني، وتابعه في ذلك أبو نصر القشيري "الإحكام" 3/ 23. (¬2) وهو ما ذهب إليه أكثر الشافعية، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله. انظر "التبصرة" (198)، و"المستصفى" 1/ 357 - 358، و"البحر المحيط" 3/ 461، "والعدة" 1/ 143.

* فصل فيما تعلق به من نصر العموم

فصل في دلائلنا فنقول: إنَّ هذه الصيغَ لا تُعرفُ، ولا يُعقلُ معناها من لفظِها؛ لأن المقصودَ يختلفُ، وكذلكَ الأدعيةُ والزكاةُ، والأفعالُ المخصوصةُ التي هي المقصودُ بها، لا تعقلُ من هذهِ الصيغ. فصل فيما تعلق به مَن نصرَ العمومَ [قالوا]: إنَّ الصلاةَ: الدعاءُ، والحجَّ: القصدُ، والزكاةَ: الزيادةُ، فوجبَ أن يحملَ على كلِّ دعاء، وكلِّ قصدٍ، وكل زيادة، إلا ما يخُصه الدَّليلُ، فيكونُ على عمومِه كسائرِ العموماتِ. فيقالُ: لا نسلِّم، بل الصلاةُ: أفعالٌ مخصوصةٌ، والحجُّ كذلك، والزكاةُ: صدقةٌ مخصوصة من مالٍ مخصوصٍ بشروطٍ مخصوصةٍ، فلا يصحُّ حملُه على العمومِ فيما ليس بمرادٍ به. على أنَّا وإن علمنا أنَّ الصلاةَ: [الدعاء]، فلا ندري بما ندعو، وإن علمنا أن الحجَّ: القصدُ، فلا ندري كيفَ نقصِد، فهو كالحقِّ، ندري أنَّه شيءٌ يُخرَجُ (¬1)، لكن لمّا لم نعرفْ جنسَه وقدرَه، كان قولُه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، مجملاً، وإن كانَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يخرج الحق" بزيادة لفظة: "الحق"، والظاهر حذفها.

* فصل في النفي إذا علق في الشيء على صفة

الحقُّ هو اللازمَ الواجبَ في اللغةِ، لكنْ لمَا جُهِل قدرُه ومصرفُه، كانَ مجملاً (¬1). فصلٌ في النفي إذا علِّقَ في (¬2) الشيء على صفة، كقولِه عليه [الصلاةُ و] السلامُ: "لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتابِ" (¬2)، "لا نكاحَ إلا بولي" (¬3)، "إنما الأعمالُ بالنياتِ، ولكلِّ امرىء ما نوى" (¬4)، وأمثالِ ذلكَ من الألفاظِ المستعملَةِ في نفي أوإِثْباتٍ، أو رفع و (¬5) إسقاط، حُمِلَ ذلكَ على نفي الاعتدادِ بالشيءِ بالكليةِ، وعدمِ الإجزاءِ به شرعاً. ¬

_ (¬1) "العدة"1/ 143 - 144. (¬2) في الأصل: "على". (¬2) تقدم تخريجه 2/ 444. (¬3) أخرجه من حديث أبي موسى رضي الله عنه: أحمد 4/ 394، والدارمي 2/ 137، وأبو داود (2085)، والترمذي (1101)، والحاكم 2/ 170، وابن حبان (4076) و (4077) و (4078) و (4083) و (4090)، والبيهقي 7/ 108. وسبق تخريج حديث عائشة بلفظ: "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل" 3/ 308. (¬4) أخرجه من حديث عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه: أحمد 1/ 25 و 43، والبخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689) و (6953)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، والنسائي 1/ 58 - 60 و 6/ 158، والبغوي (1) و (206)، وابن حبان (388) و (389)، والبيهقي 1/ 41. (¬5) في الأصل: "أو".

* فصل في أدلتنا

وقال بعضُ أصحابِ الشافعيّ: لا طريقَ إلى شيءٍ من ذلكَ إلا بدليل (¬1)، وهو قول البصريِّ من أصحابِ أبي حنيفة (¬2). فصلٌ في أدلتِنا إنَّ هذا اللفظَ موضوعٌ للتأكيدِ في نفي الصفاتِ، ورفعِ الأحكام، ألا ترى أنَّه يقال: ليسَ في البلدِ سلطانٌ، وليسَ للنَّاس ناظرٌ، وليس لهم مدبرٌ ينظرُ في أمورِهم، والمرادُ بذلكَ: نفى الصَفاتِ التي تقعُ بها الكفايةُ، [ومنعُ] الاعتدادِ بالنَظرِ لهم في الأمورِ السياسيةِ؟ وإذا كان ذلكَ مقتضاه، وجَبَ إذا استعملَ في عبادةٍ أو غيرِها أنْ يُحْمَلَ على نفيِ الكفايةِ ومنعِ الاعتدادِ بها. ومنها: أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلَّم لا يجوزُ أنْ يقصِدَ بالنفي أصل الفعلِ الموجودِ مشاهدةً وحسَّاً؛ لمشاركتنا له في دركِ ¬

_ (¬1) نُسِب هذا القول إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وأنه يقول: بأن النفي المعلَّق على صفة، هو من قبيل المجمل، فلا يحمل على شيءٍ إلا بدليل. والراجح عند الشافعية: أن هذه الصيغة تحملُ على منع الاعتداد بالشيء في الشرع. انظر "التبصرة" (203)، و"المستصفى" 1/ 351، و"الإحكام" للآمدي 3/ 21. (¬2) أما الحنفية، فإنهم يقولون: بأنَ هذه الصيغة تدكُ على عدم الاعتداد بالمنفيِّ شرعاً. انظر "أصول السرخسي" 1/ 251.

* فصل في شبههم في ذلك

المحسوساتِ، ولا من طريقِ اللغة، لأنَّ اللغةَ تتبعُ حقائقَ الموجوداتِ من المسمَّياتِ، فلم يبقَ إلا أنَّه قصدَ الأحكامَ والصفاتِ الشرعيةَ التي يترتبُ عليها الإجزاءُ والاعتدادُ. ومنها: أنَّ قوله: "لا صلاةَ إلا بأمِّ الكتابِ"، متى أثبتنا "مجزئةً"، فقد ثبتت حسَّاً وقطعاً من طريقِ الصورةِ، فإذا أثبتناها صحيحةً مجزئةً أيضاً، لم يبق لنفيه صلى اللهُ عليه وسلَّم حقيقةٌ، وكلُّ قولٍ أبطَلَ ما نفاهُ صاحبُ الشرع، كان باطلاً، كما أنَّ كلَّ قولٍ أبطلَ ما أثبته، كان باطلاً (¬1). فصلٌ في شبهِهم في ذلك قالوا: النفي في هذه الألفاظِ لا يجوزُ أن يكونَ راجعاً إلى نفي المذكورِ من الصلاةِ والنَكاحِ والأعمالِ، فإنَّ ذلكَ كلَّه موجود حسَّاً وحقيقةً، فلم يبقَ إلا أن يكونَ راجعاً إلى غيرِه، وذلكَ الغيرُ ليس بمتَّحِدٍ، بل له أعيان عدَّة: الصحةُ والإجزاءُ، والفضلُ والكمالُ، وليس حملُه على أحدِهما بأولى من الآخرِ، ولا يجوزُ الحملُ عليهما -يعني الإجزاءَ والفضيلةَ- لأنَّ حملَه على نفي الفضيلةِ والكمالِ، يقتضي صحةَ الفعلِ، لأنَّ الفضلَ فرعٌ على الصحةِ، وحملُهَ على نفي الجوازِ يمنعُ صحةَ الفعلِ. ولأنَّ الفضيلَة والجوازَ معنيانِ مختلفان، فلا يجوزُ حملُ اللفظِ ¬

_ (¬1) "التبصرة" (204).

* فصل في الجواب

الواحدِ على معنيينِ مختلفينِ، فوجَبَ التوقفُ مع هذهِ الحالِ حتى يردَ البيانُ، ولا يحملُ عليهما جميعاً، لأنَّه قولٌ بالعمومِ في المضمَراتِ. فصل في الجوابِ وهو أنَّا نقولُ: إنَّ النفيَ راجعٌ إلى نفس العَقدِ والصَّلاةِ الشرعيينِ، فلا صلاةَ شرعيةٌ، ولا نكاحَ شرعيٌ، ولاَ عملَ شرعيٌ إلا بالقراءةِ، والوليِّ، والنيةِ. فإذا قلنا ذلكَ، فقد قلنا بالنفي حقيقةً، واستغنينا عن القولِ بالعمومِ، بدعوى (¬1) العمومِ في المضمَرات التي لم يجرِ لها ذكرٌ إذ (¬2) لم تذكر صحةٌ ولا فضيلةٌ، و [في]، دعوى العمومِ في المضمَراتِ تجاذبٌ وتطويلٌ نحن أَغنياء عنه مع هذا القولِ، فلا نكاحَ شرعيٌّ، ولا صلاةَ شرعيَّهٌ، ولا عملَ شرعيٌّ. [و] كما صرفنا النفيَ المطلَقَ إلى الأصلِ في قولهم: لا سلطانَ في البلدِ، ولم نصْرِفه إلى صفةٍ في السلطانِ إلا بدلالةٍ، كذلك نَصرِفُ هذا بأصلِ الوضع إلى صلاةٍ معتدٍّ بها شرعاً، ولا نصرِفُه إلى صفَةٍ في الصحةِ، وهي الَفضيلةُ إلا بدلالةٍ. ¬

_ (¬1) وقع في الأصل بين قوله: "بالعموم" وقوله: "بدعوى"، زيادة: "وعاد القول بالعموم"، ويغلب على ظننا أنها مقحمة لا تعلق لها بالنص؛ بدليل استقامته دونها. (¬2) في الأصل: "إذا".

وإن دخلنا على التزامِ الأشدِّ، وهو ردُّ النفي [إلى] أحكام الصلاةِ والعقدِ والأعمالِ المذكورةِ في الأخبارِ، وإلى صفاتِها دونَ أصولِها، فَهيَ وإنْ لم تكنْ مذكورةً، إلا أنَّها معلومة بظاهرِ اللفظِ، ألا ترى أنَّ قولَ القائلِ: أقَلتُكَ عثرتَكَ، ورفعتُ عنكَ جنايتَكَ، يعقلُ منه: أحكامُ العثرةِ والجنايةِ، وهي المؤاخذةُ بها، والمقابلةُ عليها، دون ذاتِها؟ لأنَّ تلكَ انعدمت عَقيبَ وجودِها، ووجَب عدمُها لانعدامٍ أَعدَمَها (¬1)، وكذلكَ الأعمالُ كلُّها. وإذا كانَ هذا معلوماً من جهةِ ظاهرِ اللفظِ، كان بمنزلةِ المنطوفِ به، وليس كل ما عُدِمَ من صيغةِ اللَّفظِ، لم يكن له حكمُ اللَّفظِ إذا كانَ معقولاً، بدليلِ الأَوْلى والتنبيه، فإنَّه ليس بمنطوقٍ به، فإن الضربَ والشتمَ ليس بمنطوقٍ به في النهي عن التأفيف، وجُعِلَ له حكمُ النطقِ، لمَّا كان معقولاً من طريق النطق. وأمَّا قولُهم: إنَّ حملَه على الجميعِ دعوى عمومٍ في المضمَراتِ، وذلكَ يؤدي إلى التناقضِ، فلا (¬2) يصحُّ، لأنَّ ذلكَ لو أدَّى إلى التناقضِ، لوجَب إذا أُخرِجَ من الإضمارِ إلى الإظهارِ والنطقِ بهِ، أن لايصحَّ، ومعلومٌ أنَّه لو صَرَّحَ، فقالَ: لا صلاةَ جائزةٌ لا ولا فاضلةٌ إلا بأمِّ الكتاب، ولا نكاحَ صحيح ولا فاضلٌ إلا بوليٍّ، [لم يكن متناقضاً]، ولو كانَ متناقضاً، لانْكشَفَ تناقضه لَمّا تطق به، ألا ترى أنَّ سائرَ المتناقضاتِ، إذا صُرِّحَ بها، انكشفَ تناقضُها؟ مثلُ قولِ القائلِ: قامَ زيدٌ جالساً، وتكلَّم صامتاً، وعاش ميتاً. ¬

_ (¬1) رسمت في الأصل: "لا نعدم اعدمها". (¬2) في الأصل: "لا".

وأمَّا قولُهم: إنَّهما معنيانِ مختلفانِ، واللَّفظُ الواحدُ لا يرِدُ بهما، لايسلَّمُ، لما بَيّنَا من قبل (¬1)، بل يجوزُ أن يتناولَ اللفظُ الواحدُ (¬2) معنيين مختلفين. وقد تَعلَّق بعضُهم علينا فيها: بأنَّ العربَ لا تعرفُ أحكامَ الأفعالِ، بل صُوَرها، وإنَّما الأحكامُ شرعيةٌ حادثةٌ (¬3). فيقالُ: لا يصحُ تجهيلُ القومِ، والدعوى عليهم بذلكَ (¬4)، وهُمْ يعرفون للأفعالِ (¬5) أحكاماً؛ من حيثُ المؤاخذةُ في الأفعالِ المذمومةِ، والجناياتِ المسخوطةِ، والاعتدادُ بالأفعالِ المحمودةِ، وإنَّما جاءَ الشرعُ بمؤاخذةٍ من جهةِ الله [سبحانه]، فالجهةُ التي جاءت بها الشريعةُ هي الزيادةُ، لا أصلُ الأحكامِ. ألا ترى أنَّهم قالوا: أقلناك عثْرتَك، واعتددنا لك بخدمتِك، فإذا قالوا: لا عملَ لزيدٍ، ولا جنايةَ لعمروٍ، أرادوا: لا عملَ معتدٌّ به، ولا جنايةَ يؤاخذُ بها، لمكان عفونا عنها، فما (¬6) تَجدَّد في الشرع سوى إضافةِ الحكمِ إلى الشرعِ، فالإضافةُ تجدَّدت، لا أصل الحكمِ، فبطل ما ذكروا. ¬

_ (¬1) في الصفحة: (65) وما بعدها. (¬2) في الأصل: "أحد". (¬3) "التبصرة" (206). (¬4) في الأصل:"ذلك". (¬5) في الأصل:"الأفعال". (¬6) في الأصل:"فيما".

* فصل في القول في تأخر البيان

فصلٌ في القول في تأخير البيان لا يختلفُ العلماءُ: أنَّه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، ولا يختلفونَ أيضاً: أنَّه يجوزُ تقديمُه على الفعلِ، فإنَّه لو أخَّرَ المكلَّفُ الفعلَ إهمالاً وإغفالاً، لم يمنع ذلكَ من تقديمِ البيانِ على الفعلِ (¬1) المؤخَّر عن وقتِه. واختلفوا في جوازِ تأخيرهِ عن وقتِ الخطابِ إلى وقتِ الحاجَةِ، فاختلفَ أصحابُنا على وجهينِ (¬2) حسب اختلافِ كلامِ أحمدَ رضي الله عنه: فذهبَ ابنُ حامدٍ إلى جوازِ تأخيرِه، وهو ظاهرُ كلامِ أحمد. وذهبَ أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسنِ التميمي إلى المنعِ من تأخيرِ البيانِ، وقالَ أبو الحسن: لا يختلفُ المسطورُ (¬3) من كلامِ أحمدَ، أنَّه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ، ولم يفصِّل أصحابنا. وبالأوَّلِ من المذهبين -وهو جوازُ تأخيرِه عن وقتِ النُّطقِ إلى وقتِ الحاجةِ- قال جمهورُ الفقهاءِ: جماعةٌ من أصحاب ¬

_ (¬1) في الأصل: "فعل". (¬2) انظر الوجهين في مذهب أحمد في: "العدة" 3/ 725، و"التمهيد" 2/ 295 - 291، و"المسوَّدة" (178 - 179)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 453، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 688. (¬3) في الأصل: "السطور".

الشافعيِّ، [منهم:] ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري (¬1)، وابن أبي هريرة، والطبري، والقفَّال (¬2). وقالَ بالمنعِ من التأخيرِ -وهو المذهب الثاني لأصحابه-: المعتزلةُ، وكثيرٌ من أصحاب أبي حنيفة (¬3)، وكثيرٌ من أهلِ الظاهر؛ منهم ابن داودَ، وصارَ إلىَ هذا من أصحاب الشافعيِّ: أبو إسحاق المروزي، وأبو بكر الصيرفي، ومن قال بقوَلهما. فهؤلاء المختلفون في الجوازِ والمنعِ على الإطلاق. واختلف بعضُ أصحاب الشافعيِّ في الجوازِ والمنعِ على التفصيل: فقال قومٌ منهم: يجوز تأخيرُ بيانِ العمومِ بالتخصيصِ، ولا يجوزُ تأخيرُ بيانِ المجملِ بالتفسيرِ (¬4). ¬

_ (¬1) هو أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد الإصْطَخْريُّ الشافعي، كان إماماً ورعاً زاهداً، ولِّيَ قضاء قُمَّر وهي مدينة قرب أصبهان وولِّيَ حسبة بغداد، له تصانيف كثيرة منها "أدب القضاء" توفيَ (328) هـ وله نيف وثمانون سنة. انظر "تاريخ بغداد" 7/ 268 - 270، و"طبقات الشافعية" 3/ 21 - 39، و "شذرات الذهب" 2/ 312، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 250 - 252. (¬2) وهو قول عامة أصحاب الشافعي، وهو المعتمدُ في المذهب، وهناك أقوال أخرى سيأتي ذكرها. انظر "البرهان" 1/ 166، و"المستصفى" 1/ 368، و "التبصرة" (257)، و"الإحكام" للآمدي 3/ 41. (¬3) ومذهب الحنفية، كما يبيِّنه الجصَاص: أنه يجوز تأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة، ويمتنع تأخيره فيما يمكن استعمال حكمه. انظر "الفصول في الأصول" 2/ 46. (¬4) انظر "التبصرة" (208)، و"الإحكام" 3/ 32،

* فصل في جمع أدلة السمع على جواز ذلك على الإطلاق

وقالَ قومٌ منهم بالعكس: يجوزُ تأخيرُ بيان المجمل، ولا يجوزُ تأخيرُ بيانِ العمومِ (¬1). وقالَ قومٌ من المتكلِّمينَ: يجوزُ تأخيرُ بيان الأخبارِ دونَ الأمرِ والنهي. ومنهم من عكس: فأجازَ تأخيرَ ذلك في الأمرِ والنهي، ولم يِجوِّز تأخيرَ بيانِ الأخبارِ (¬2). فصلٌ في جمعِ أدلةِ السمعِ (¬3) على جوازِ ذلكَ على الإطلاق أمَّا من كتابِ الله تعالى: فقوله (¬4): {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 - 19]، فوجه الدلالةِ: أنَّه أتى بحرفِ التراخي والمهلةِ، بعد ذِكرِ الإنزالِ والإحكام، فدلَّ على جوازِ تأخيرِ بيانهِ، وتراخيه عن إنزاله. فإن قيل: إنَّما أرادَ بالبيانِ ها هنا: إظهارَه وإعلانَه، يوضِّح هذا، وأنَّه لم يردِ البيانَ الذي نتكلمُ فيه: أنَّه قالَ في أوَّلِ الآيةِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ¬

_ (¬1) "الاحكام" 3/ 32. (¬2) "التبصرة" (208)، و "التمهيد" 2/ 290. (¬3) في الأصل: "للسمع". (¬4) في ألاصل: "قوله".

[القيامة: 16 - 17] ولهذا شرطَ ذلكَ في جميع القرآنِ، وذاك إنَّما هو الإعلانُ والإظهارُ، فأمَّا بيانُ المجملِ والمغلق (¬1)، فذاكَ في بعضِه. قيل: البيانُ: إخراجُ الشيءِ من حيِّز الخفاءِ إلى حيزِ التجلي والظهورِ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من البيانِ لسحراً" (¬2)، ووكل البيان إليه، فقال. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44]، فثبتَ أنَّ البيان ما ذكرنا. فإنْ قيل: ما الذي (¬3) يُصحِّحُ أنَّ البيانَ الذي ضَمِنَه، وقالَ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]: [ليس] هو الحفظَ له، والإعلان بالنُّصرةِ الموجبةِ لإظهارهِ، بعد أنْ [كان] يُتْلى في البيوتِ، ووراءَ الجدرانِ خوفاً من قريش؟ قيل: ليسَ بين قولِه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44] وبينَ قولِه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] تنافٍ حتى يُحملَ البيانُ على معنيين، فإنَّ قوله: {لتبيِّنَ} إضافةُ البيانِ إليه تبليغاً وإعلاماً، وقولَه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} هو إضافةُ الإمدادِ بإلهامِ اللهِ لهُ التأويلاتِ، والإلقاءِ في رُوعهِ معاني التلاواتِ، ألا ترى إلى قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؟ والحفظُ المضافُ إلى اللهِ سبحانَه إنَّما هو أحدُ أمرين: إمَّا إثباتُ القرآن في قلبهِ، بحيثُ لا يتطرقُ إليه ذهابُه عن قلبهِ بنسيانٍ، ولا ذهولٍ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المعلن". (¬2) تقدم تخريجه 1/ 185. (¬3) في الأصل: "فالذي".

أو حفظُه من التبديلِ والتغييرِ، الذي تطرَّقَ على غيرِه من الكتبِ، كالتوراةِ والإنجيلِ. ومن ذلكَ: قولُه تعالى: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31]، فقال إبراهيمُ قولَ من اعتقدَ أنَّ لوطاً وأهلَه مُهلَكين أيضاً: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] فقال الملكُ: {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [العنكبوت: 132] وهذا بيان تأخَّرَ عن خطابٍ، فقد بانَ [بُطلانُ] (¬1) دعواهم إحالتَه. ومنها أيضاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، فلما سألوا عن حقيقةِ ما أمرَهم بذبحِه من البقرِ، بيَّنَ ذلكَ بعد الخطاب بياناً كشفَ عن أنَّه أرادَ به البقرةَ الجامعةَ للصفاتِ المذكورةِ، وهذاَ بيان بعد خطابٍ متأخِّرٌ عنه. ومن ذلك: قوله تعالى في قصة نوح: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27]، وقولُ نوحٍ لمَّا رأى ولده يغرقُ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، فبيَّن له بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، الذينَ أمرناكَ باستصحابهِم في السفينةِ، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] فأخَّر بيانَ اشتراطِ العملِ الصالح مع الأهليةِ، عن أمرِه له بأن يَسلُكَ فيها من كلٍّ زوجينِ اثنينِ وأهلَهَ. فإن قيل: إنَّ اللهَ سبحانَه لا يخلُّ بالبيانِ عن نفس الخطابِ، ولا أخلَّ به، إنَّما يُدْهَى المكلفون في ذلكَ من قِبَلِ إهمالِهم التأملَ ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها السياق.

والنظرَ في معاني كلام الله، وما أودَعه من البيانِ، فإن اللهَ سبحانَه لَما قالَ له: {وأهلكَ}، عقَبه بالاستثناءِ فقال: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] ثم عقَّب ذلك بأظهرَ منه بياناً، فقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]، وابنُه كان ممَّن كفرَ، وكان ظالماً، فقد أخرَجه من جملةِ الأهلِ بالاستثثاءِ، والنَّهْي عن الخطاب فيه، ولولا ذاكَ، لما قال له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46،]، وإنما نفى الأهليةَ عنه التي أَمَرَه بأن يسلكَها السفينةَ. وكذلكَ قال للوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} الى قوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81] إلى قوله: فما زالَ سبحانَه يستثني ويبيِّنُ لهم، وينسيهم ويُذهلُهم عن الفهمِ محبةُ الأهل، وفرطُ الإشفاقِ، فيؤتَونَ من قِبَلِ نفوسِهم في ذلكَ، لا لأنَّ الكلامَ يفتقرُ إلى بيان يتأخرُ عنه، وبمثلِ هذا ذَهَلَ أهلُ الإلحاد المبطلينَ لمناقضةِ القرآنِ، عن معنى قوله عزَّ وجلَّ لآدمَ عليه السلام: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118]، وقوله: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] , {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22]، فعَرِيَ مع وعدِه بأنْ لا يَعْرَى فيها، وجهلوا ما طُويَ في الوعدِ من الشرطِ، وهو قوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] فكانَ المفهومُ من الشرطِ: أن لا يقربَ الشجرةَ، فلا (¬1) يجوع ولا يعرى، فلمَّا تركَ ما شُرِطَ عليه، سقطَ ما شُرِطَ له. وكلُّ ما أخرجَه البيانُ، وجَبَ عليهم ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا".

إخراجُه بالتأويلِ فيه، فمن أهمل التأويلَ فيه (¬1) دُهِيَ (¬2) من قِبَلِ نفسِه، لا مِن قبل النطق. قيل: إنَّ اللهَ سبحانَه لم يُعلِّق الحكمَ -وهو تغريقُ ابنِه- إلاَّ على بيانِ أنَّه عملٌ غير صالح، وأنَّه ليسَ من أهلِه الذينَ أرادهم بقوله: {وَأَهْلَكَ} ولو سبقَ البيانُ، لكانَ التوبيخُ على التقدِمةِ، ألا ترى أنَّه سبحانَه وبَّخ آدمَ وحواءَ على مخالفةِ التقدِمة؟ فقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] ولم يقل هنا: يا نوحُ، ألمِ أقل: وأهلكَ، إلا من ظلمَ وكفرَ؟ فعُلِمَ أنَّه قد كانَ الاستثناءُ متردِّداَ بين (¬3) عودِه إلى الكلام الآخرِ والجملةِ الآخِرةِ، وبينَ عودِه إلى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} [هود: 40]، فبيَّن له بياناً (¬4) مبتدأ، ولو عوَّل على الأوَّلِ في البيان، لوبَّخه على المراجعة والمعاودةِ، بعد تقدِمَةِ البيانِ، كما وبَّخ آَدمَ وحواء؛ حيثُ قدَّمَ لهما البيانَ، فعمِلا بخلافِه. ومن ذلكَ: قولُه تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]، فإنَّها لمَّا نزلتْ نَاقَضَتْهُ اليهودُ بها، وقالَ ابنُ الزِّبَعْرَى: لأخصِمنَّ محمداً، ثمَّ قال: إنَّ الملائكةَ وعيسى قد عُبِدوا، فوقفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ¬

_ (¬1) في الأصل: "لله سبحانه". (¬2) تحرفت في الأصل إلى:"وهي"، وكتبت بعد قوله: "نفسه"، وآثرنا إثباتها هنا؛ لأنه أوفق للسياق. (¬3) في الأصل: "عن". (¬4) في الأصل: "با ببا".

الجوابِ، إلى أن نزلَ البيانُ بقولهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (¬1) [الأنبياء: 101] فهذا بيانٌ تأخَّر عن خطابٍ. فإن قيل: هذا ليسَ مِمَّا نحنُ فيه بشيءٍ، ولا حجةَ فيه؛ لأنَّ اللهَ سبحانَه قد أدرجَ (¬2) فيه دفعَ ما تعلَّقوا به، فإنَّه قال: (ما)، و (ما) لما لا يعقلُ، وعيسى والملائكةُ وعُزيرٌ يَعقِلون، ولم يقل: إنكم ومن. الثاني: أنَّه قد بانَ أنَّهم اعتقدوا المناقضةَ، فقد كانت الحاجةُ داعيةً إلى بيانٍ يُزيل عنهم شبهةَ المناقضةِ، وليسَ حاجةُ المكلَّفين إلى العملِ (¬3) بالأمر المُجْمَلِ والعامِّ، بأوفى من حاجتهم إلى اعتقادِ اتفاقِ الآي وملاءَمَتِه، وتصديقِ بعضِه لبعضٍ، ونفي المناقضةِ عنه، وقد اتفقنا جميعاً على أنَّ تأَخُّرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ لا يجوزُ، فلم يبقَ إلا أنَّ اللهَ سبحانَه قد بَيَّنَ في الآيةِ ما مَنعَ إيرادَ هذه الشبهةِ، وليس إلا قوِلهُ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء: 98]، ولم يقل: ومَنْ تَعْبُدون. قيل: لَوْ كان الأمْرُ كذلك، لاحتجَّ البارىء به، ووبَّخهم على اعتقادِ (¬4) المناقضةِ فيما لا يُوجبُها، فلمّا عَدَل إلى قول يُوجِبُ التَّخصِيصَ، علم أنَّه لم يعتمدَ على مقتضى (ما)؛ ولأنَّهُ قد قال سبحانه: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، وأراد به: ومَنْ بَناها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 3/ 315. (¬2) في الأصل: "درج". (¬3) في الأصل: "الأعمال". (¬4) في الأصل: "اعتماد".

ومن ذلك: أنَّ الله سبحانه أوجب الصَّلواتِ الخمس، ولم يُبَيِّن أوقاتها، ولا أفعالها، حتّى نزلَ جبريلُ عليه السلام، فبيَّن للنَّبي صلى الله عليه وسلم وقتَ كل صلاةٍ، أوَّلَهُ وآخِرَه (¬1)، وبيّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم للناس، وقال للسّائل عن الصلوات: "صَلِّ مَعَنَا" (¬2)، وقال لأصحابه: "صلّوا كما رَأيْتُموني أُصلِّي" (¬3)، وعلى ذلك أَمَرَ النّاسَ بالحجِّ، وأخذَ النّاسُ عنه (¬4) المناسك التي بيّنها ووقَّتها، وقال: "خُذوا عَنِّي مناسكَكُم " (¬5)، ولو لم يَجُزِ التأخيرُ عن وقت الخطاب، لما أَخَّرهُ (¬6). ومنها: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]، كان ذلك يُعطي: جميعَ القرابة من بني نوفل وبني عَبْدِ شمس، فلمَّا جاء عثمانُ وجُبَيْرُ بن مُطعِم، وقالا ما قالا مِنْ أنَّه حَرَمَهُم [و] قَرابتُهم سواء، قال النبي ¬

_ (¬1) حديث تعليم جبريل عليه السلام الصَّلاة للنبي صلى الله عليه وسلم ورد بصيغ عديدة عن جمع من الصحابة، وأصح رواية له رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجها أحمد 3/ 330، والترمذي (150)، والنسائي 1/ 263. قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة، وبريدة، وأبي موسى، وأبي مسعدة الأنصاري، وأبي سعيد، وعمرو بن حزم، والبراء، وأنس. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. ثم قال: وقال محمد -هو البخاري-: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلَّم. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 440. (¬4) في الأصل: "به على". (¬5) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬6) في الأصل: "أخبره".

* فصل في الأدلة المستنبطة

صلى الله عليه وسلم: "إنَّ بني هاشم وبني المطَّلب لم يفارِقُونا في جاهليةٍ، ولا إسلام" (¬1)، وأراد به: كونَهم معه في الشِّعْبِ حيثُ هَجَرَتْهُمْ قريشٌ، وهذا بيان منه لعثمانَ وجبيرِ بن مطعم بعد خطابٍ كان يَقتضي عمومَ القرابةِ المتساوية. فصل في الأدلة المُستنبطة فمنها: أن البَيَانَ إنَّما يُرادُ لِصحَّةِ إيقاعِ الفِعْلِ مِن المكلَّفِ، وما كان بهذه المثابةِ لا يجب تَقديمُهُ على وقتِ الحاجةِ، بَلْ يَجوزُ تأخيرُه إلى وَقْتِ الحاجةِ إلى إيقاعِ الفعلِ، وذلك مثل (¬2) القدرةِ المُصَحِّحَةِ للفعلِ، والآلةِ (¬3) المستعملةِ فيه، لأنه لا حاجةَ به إليهما قبل وقتِ الحاجةِ، كذلِكَ البيانُ لا يُحْتَاجُ إليه سَلَفاً قبلَ الحاجةِ (¬4). فإن قيل: تأخِيرُ القُدْرة والآلةِ لا يُوجِب جَهْلاً، وهذا يوجِبُ جَهْلاً، لأنَّه إذا قيل له: {فاقْتُلُوا المُشرِكينَ} [التوبة: 5] اعتقدَ وجوبَ قتل كُلِّ مُشْرِك، فإذا جاءَ التَّخْصِيصُ بَعْدَ ذلِكَ؛ بإخْرَاجِ أهْل الكِتَابِ إذا أدَّوا الجِزْية، والصِّبْيَانِ، والمَجَانِينِ، بَانَ اعْتِقَادُهُ لإيجَابِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 4/ 81 و 83 و 85، والبخاري (3140) و (3502)، و (4229)، وأبو داود (2978) و (2980)، والنسائي 7/ 130، وابن ماجه (2881) من حديث جبير بن المطعم بن عدي رضي الله عنه. (¬2) في الأصل: "هو". (¬3) في الأصل:"الاولة" (¬4) "العدة" 3/ 728.

قَتْلِ الجَميعِ جَهْلاً. وكذلك إذا قالَ: {وآتوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، لَعَمَّ (¬1) الجهلُ بالحق كل امرىء، فَلاَ نَدْرِي مَا الحق؛ فَكَانَت الحَاجَةُ إلى البَيَانِ دَاعيةً لنفْي هذا الجَهْلِ، إذِ الجهلُ قبيحٌ، والتَّعْريضُ بالقَبيحِ قبيحٌ. فذلِكَ الذي أغْنى عَنْ تَقْدِيم القُدْرَةِ والآلَةِ، وَأحْوَجَ إلى تقديمِ البَيَانِ عَن وَقْتِ الفِعْلِ. قيل: مَنْ آداهُ اللهُ عَقْلاً صَالحاً للتكليف، وعَرفَ ما قَدِ استقرَّ في لُغَةِ العَرَب مِنَ التَّخْصِيص الدَّاخِلِ على العُمُومِ، والتَّفْسِيرِ الوارِدِ بعْدَ الإجْمَال، لاَ يُبَادِرُ باعْتِقَادِ الجَهْلِ؛ لمُبَادَرَةِ (¬2) الأمْرِ بالعُمُوم والمُجْمَل، بَلْ يَعْتَقِدُ أنَّهُ عَلَى العُمُومِ مَا لَم يَرِدْ دَليلُ تخصيصٍ، فإن مَنَعْتُمْ من تأخيرِ البيانِ عن الخطابِ إلى وَقْتِ الحَاجَةِ، أو، جَوَّزْتُم مَعَ هذه الحَالِ الجَهْلَ على مَنْ أُزيحَتْ عِلَتُهُ؛ بمعرفةِ اللغة، وصحةِ الخلق، وصحة العقل، فامْنَعُوا مِن تأخيرِ القدرةِ والآلةِ، لتجويزِ جهلِ المكلّفِ؛ بظنِّهِ أنَّه قد كُلِّف ما لا يُطاق، حيث قُدِّمُ الأمرُ له مع إفلاسه حِينَ أُمِرَ من القدرةِ والآلةِ، ولَمَّا لم يُوجبْ ذلكَ اعتقادَ الجهل فيما قَرَّرْنا مِن أنَّه يَعْتَقِدُ العمومَ ما (¬3) لم تردْ دَلالةُ التخصيصِ، لم (¬4) يحتج أن يُقال له: افْعَل ما لم تَعجَز، وأوجب عَليكُم ما دُمتم ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعين". (¬2) في الأصل: "مبادرة". (¬3) في الأصل: "مما". (¬4) في الأصل: "ولم".

أحياءً، لَمَّا كانَ ذلك معلوماً، بدليل أنَّهُ أرادَ (¬1) ذلِكَ، كذلك لا يحتاج أنْ يقالَ للمكلَّفِ: ما لَمْ أَنْسَخ (¬2)، لعلمِهِ بالدليل أنّه كذلك. ولأنَّه قد يردُ الخطابُ باسم حقيقةٍ في شيءٍ، يعتقِدُ المكلَّفُ الحقيقةَ بأصْلِ الوضعِ، فتقومُ دلالةٌ على أنَّه أرادَ المجاز، ولا يقال: إنه عَرَّضَ المكلفَ للتكذيبِ (¬3)، وكلامَهُ للكذب، لمَّا كانت عادة العرب ذلك. والمعراجُ -مناماً أو يقظةً (¬4) - أوحى اللهُ إليه، أو كافَحَهُ (¬5) مكالمةً بفرضِ خمسينَ صلاةً، ولم يُطلعه على ما ينتهي إليه الأمر، أَتراهُ عَرَضَهُ للجهل حيثُ كان مُرادُهُ خمساً، لِمَا انتهى إليه من النسخ؟ على أنَّا نقابل ما ذكرتَ من حصولِ الجهل بما يُوفي على ذلك من النفع، وهو أنَّ اللهَ سبحانه إذا خاطبَ المكلفَ بإيتاء الحق، تلقَّى أمرَهُ باعتقادِ إيجابِ الحق، ويوطَنُ نفسَه على أداءِ أيَ حقٍّ بيَّنه وفسَّرهُ به، قَلَّ أو كَثُرَ، فحصلَ له في ذلك جزيلُ الثواب بما اعتقدَه ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا أراد"، ولا وجه لإثبات "إذا"، فلعلها مقحمة في النص، لذا حذفتها. (¬2) هذه الجملة موضعها في الأصل قبل قوله: "لا يحتاج"، وأثبتها هنا دفعاً للبس والغموض في عبارة الأصل. (¬3) في الأصل: "التكذيب". (¬4) الثابت أن المعراج كان يقظة، وأنه عُرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بشخصِه في اليقظة إلى السماء. "شرح العقيدة الطحاوية" (270) وما بعدها (¬5) أي: واجَههُ وكلَّمه دون واسطة.

وأضمرَه، فإذا جاء تفسيرُ ذلك بأنَّه العُشْرُ أو رُبع العُشْرِ، أو مقدارٌ (¬1) ما، سارع إلى الإيتاءِ بسهولةٍ وطِيبِ نفس، لِمَا كانَ جَوَّزَه من تفسير ذلك بالنصفِ أو الثُّلثين، فحازَ بذلك ثوابَ الإضمارِ الأول، واعتقاد الطَّاعةِ فيما كَثُرَ، وسَهُلَ عليه من التكليفِ في تفسيره بالقَدْر الناقصِ عمَّا كان التزَمَه، وهاتان المصلحتان تغطِّيان على الجهل الذي لا يضرُّ مثلُه في التكليف. وهل التكليف إلا بين أمرين: تجهيلٍ، وتعريفٍ؟ وكم جهَّل ثم كَشفَ، وجهَّلَ وأدام التجهيلَ، فلم يَكْشِفْ، فمن الآيات ما كشفها، وهي النصوص، ومن الآياتِ ما كتمَ مرادَه منها، وهي المتشابهاتُ التي لا يعلم تأويلها إلا اللهُ، وأكثَرُ أهْلِ العلم باللغة والأصول على ذلك، وجهَّلنا بحقائق (¬2) أشياء عَلَّمَناها جُملةً، وجهَّلنا بحقائقها تفصيلاً، وكَلَّفَنا (¬3) اعتقاد تأبيد العملِ، وكَشَفَ عن مراده بالمدةِ حين جاءنا بنسخِ ما كان شرعَ، وكتمنا الآجالَ والأرواحَ، ومتى الساعةُ، وردَّ السؤالَ عن ذلك، فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] , لَمَّا لم يكن بنا حاجةٌ إلى معرفةِ ذلك، كذلك الجهلُ ها هنا قبل الحاجةِ، جهلٌ بما لا حاجةَ بنا إليه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مقداراً". (¬2) في الأصل: "لحقائق". (¬3) في الأصل: "فكلفنا".

ومنها: أن تُبنى المسألةُ على أصلٍ، وهو (¬1) أنَّ الأمر يتناول المعدومَ ليُوجَدَ في الثاني، وعَدَمُ المخاطَبِ رأساً أَوْكَدُ من عدَمِ فهمِه للخطاب، وقد دلَّلْنَا على ذلك الأصل، واستوفينا بيان الحججِ فيه (¬2)، فكان دليلاً على هذا المذهب من طريق الأَوْلى، لأنه إذا ثبت جواز خطابِ المعدوم ليُوجدَه، فأحرى أن يَجُوزَ خطابُ الموجود بما لا يفهمُه في الحال، ليُبَيِّنهَ له في الثاني ويُفْهِمَه، وقد وافَقَنَا في هذا الأصلِ جماعةٌ ممن خالَفنَا في هذه المسألةِ، فهو حجة عليهم. ونسوق الدلالةَ على الأصلِ في حقِّ مَن خالفنا. ومنها: أن النسخَ تخصيصُ الأزمانِ، وهو أنَّه بيَّنَ أنَّ المرادَ بالأَمْر وقوعُ المأمورِ به في وقتٍ تقْصُرُ عن الدوامِ، كما أنَّ العمومَ يكشفُ عن أنَّ المرادَ به بعضُ الأعيانِ، دونَ استيعابِ جنس الأعيانِ، ثمَّ إنَّه جاز تأخيرُ بيانِ النسخِ عن وقتِ الخطابِ إلى وَقتَ الحاجةِ في العملِ بالنَّسخ، وهِجْرانُ المنسوخِ بعد اعتقادِ التأبيدِ، وأنَّه مصلحةٌ على الإطلاق، وحَسَنٌ على الدوام، ثم بَانَ بالنسخِ أنَّه ليس بحسنٍ، ولا مصلحةٍ في جميعِ الزمان، كذلك التخصيصُ، ولا فرقَ بَينَهما. فإن قيل: لا يُسَلَّمُ، بل لا بُدَّ من نوع إشعارٍ، يَشْهَدُ لذلك قولُه تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]. قيل: هذا لا يصح لوجوهٍ: أَحَدُها: أنَّه بمثل هذا لا يكون إعلاماً بالوقتِ الذي ينقل عنه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "و". (¬2) انظر ما تقدم في 3/ 177 وما بعدها.

والثاني: أنَّ هذا يَحتاجُ إلى نقلٍ، ولا يمكنُكُم الظَّفرُ بآيةٍ تُتلى، ولاسُنَّةٍ تُروى في ذلك، وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّك} [البقرة: 144] ورَد مع قولِه: {فولِّ وَجْهَك} [البقرة: 144]، ولا يمكنكُم نقلُ تاريخٍ بين الإشعار والأمرِ المقتضي للنسخ. على أن الإشعارَ بالَّنسخ بيانُ غايةِ الحكم، ودْلكَ لا يُعَدُّ نسخاً، بدليلِ قولِه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فهذا لما أبان فيه عن الغايةِ والعاقبةِ، لم يُعَد نسخاً، فكان اشتراطُ الإشعارِ إحالةً للنسخِ، وخروجاً عن الإجماع. ولأنَّ تقديمَ الإشعارِ يُسْقِطُ جمهورَ التعبُّدِ، وذلك أنه لَما كلَّفَهم أن يلقى الواحد من المسلمين عشرةً من المشركين، فقال (¬1): {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65]، كان ذلك مع كتم التخفيف بالنسخ إلى لقاء الواحد للاثنين، أثقلَ وأعظَم على النفوس، ثم لما جاءَ التخفيفُ بعد ذلك، كان أشد وقعاً في القلوب مسرةً وابتهاجاً بالرخصةِ، والكتمُ في الأول أَجلب للثوابِ؛ لأنَّه إنَّما يقعُ على قَدْرٍ العَناءِ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: "ثوابُكِ على قدْرِ مشقتك (¬2) " (¬3). فإن قيل: تأخيرُ بيانِ النسخ لا يُفْضِي إلى الإخلالِ بصحةِ الأداءِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال". (¬2) كتب فوقها في الأصل: "نصبك". (¬3) تقدم تخريجه 1/ 254.

فيما مضى، بخلاف العمومِ والمجملِ، فإنه يُخِلُّ بصحةِ الأداءِ؛ لأنه ليس يُؤَخَّر عن وقت الحاجةِ إلى الأداء. [قيل:] لا (¬1) اختلال ولا إخلالَ بالصحةِ، بل يتأدى الفِعلُ بالبيانِ عند الحاجةِ إليه بحسب المراد. فإن قيل: قد منعَ بعضُ المتأخرينَ النسخَ إلا على وجهٍ، وهو أن يقول: صلوا إلى بيتِ المقدس ما لم أنسخِ القبلةَ، فأمَّا على الإطلاق، فلا يجوزُ عندي، لأنه يؤدي إلى البَداء (¬2). قيل: هذا اعتبارُ ما لا يحتاجُ إليه، لأن الدليلَ قد دَلَّ على أنَّ المرادَ بالإطلاق هذا التقييدُ عند كل مَن قال بجواز النسخ، ومثلُهُ العمومُ، التقديرُ فيه: اقتلوا المشركينَ ما لم أَخُصَّ بعضَهم بالمنعِ مِن القتلِ. على أنه لو صَرَّحَ بقوله: ما لم أنسخ، لم يكن مزيداً على تجويزِ النسخ، لأنه لا يعطي قوله: ما لم أنسخ: أني سأنسخ، ألا ترى إلى قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، لا يعطي: وجوبَ جَعْلِ السبيلِ، بل كان يجوزُ أن يَجْعَلَ لهن السبيلَ، وكان يجوز أن لا يجعلَ؛ فالتقييد (¬3) ¬

_ (¬1) في الأصل: "فلا". (¬2) نسب ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" 3/ 540 هذا القول إلى جمع من المتكلمين والحنفية، ونسبه أبو يعلى لابن الدقاق. "العدة" 3/ 729. وانظر تعريف البداء في 3/ 134. (¬3) في الأصل: "بالتقييد".

بقوله ذلك وعدمُه سواء، إِذ (¬1) كان التجويزُ حاصلاً في الحالين جميعاً، وإبهامُ العاقبةِ أصلحُ في التعبُّدِ، وأصلحُ في الابتلاءِ، فإنه لو قيل لإبراهيم الخليل: خذ واحِدَكَ والمُدْيَةَ والحبلَ واذبحْهُ، إلا أن يُنْسَخَ ذبحه إلى ذبح كبشٍ يكون فداءً له، لانحطَّت رتبةُ البلوى عن قَدْرِها، إذا كانت العاقبةُ مبهمةً، وهو إلى الخوف أقرَبُ [منه] إلى الرجاءِ، ولهذا لما هَوَّنَ على يُوسُفَ في الجُبِّ بالوحي إليه: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، كانتْ محنتُهُ في تقلبِ أحوالِهِ، أهونَ من محنةِ أبيه يعقوبَ، حيث أُبهمتْ عنه العاقبةُ، ولم يُوحَ إليه في شأنِ يوسفَ بشيءٍ في عاقبة أمرِه ومآلِهِ، يُريحه (¬2) في الحال، بل تركه على عِظَمِ البَلْوى مع إبهامِ العاقبةِ. على أنَّ هذا اشتراطُ تقييدٍ في التكليفِ لا يُحْظَى فيه بِنَقْلٍ، ووَضْعُ الشروط بالرأي لا يلتفت إليه. وما (¬3) الفرق بين قوله هذا، وبين قوله: أنا أشترِطُ أنْ يَعْلَمَ المكلفُ متى يُنْسَخُ، فلا بُدَّ من تحقيقِ زمانِ التكليفِ، وبيانِ مقدارِه (¬4)؛ بالإطْلاع له على مقدارِ مدةِ الحكمِ؟ فإن قيل: فالنسخُ يخالفُ تخصيصَ العمومِ، لأنه لو قال: اقتلوا المشركين كلهم قاطبةً أجمعينَ أكتعينَ، حَسُنَ أن يبهم العاقبة فيه إلى أن تردَ دلالةُ التخصيصِ، ولو قال: تمسكوا بالسبت أبداً، صَلوا إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا". (¬2) في الأصل: "وبماله يروحه". (¬3) في الأصل: "وأما". (¬4) في الأصل: "مقدارها".

بيت المقدس أبداً سرمداً، لم يجز النسخ، وعاد النسخ بداءً ولهذا تسكع (¬1) ابن الراوندي (¬2) لليهود في لفظةِ التأبيدِ، وأخذ منهم قدراً من المال علي ما حكاهُ لنا المشايخُ الأصوليون (¬3). قال: وإذا كان كذلك، وجب الإشعارُ بالنسخ. قيل: لا نسلِّم أن التأكيد بذكر التأبيد يؤَثِّرُ منعاً (¬4) للنَّسخ بل يُبَيَّنُ بالنسخِ بعد ذلك أنه أراد أبداً من الآباد، كما قال للكفار: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 94 - 95] وأخبرَ سبحانه عن تمنيهِمُ الموتَ في النار، وأنهم يقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي: لِيُمِتْنا (¬5)، فبانَ بذلك أنَّه أرادَ بالأبدِ: مُدَّتَهم في الدنيا، ومبلغَ أعمارِهم. ومنها: أنَّ القولَ بتأخيرِ البيانِ عن الخطابِ إلى حين الحاجةِ، لا يوجبُ مُحَالاً في العقلِ، من إفساد دلالةٍ، أو قلبِ حَقيقيةٍ، أو إخراجِ بعض الأمورِ عما هو به، أو إلحاقِ وصفٍ بالقديم (¬6) المتعبَّد ¬

_ (¬1) التسكع: التمادي في الباطل. (¬2) هو أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي أو ابن الراوندي. فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكان بغداد. قال الحافظ ابن حجر: الزنديق الشهير، كان أولاً من متكلمي المعتزلة، ثم تزندق واشتهر بالإلحاد. صنف كتاب "الزمردة" و"الدامغ" وحشاهما بالإلحاد والزندقة والطعن في النبوات والتشكيك في القران، هلك سنة 298 هـ: "وفيات الأعيان" 1/ 27، و"البداية والنهاية" 11/ 112، و"سير أعلام النبلاء" 14/ 59، و"لسان الميزان" 1/ 323، و"الأعلام" 1/ 268. (¬3) انظر "العدة" 3/ 777 - 779. (¬4) غير واضحة في الأصل. (¬5) في الأصل: "ليميتنا". (¬6) القديم ليس من أسماء الله الحسنى، إنما هو من التسميات التي جرت =

جَلَّ ذكرُه مما لا يجوزُ عليه، أو إفسادِ الخطابِ والتكليفِ، وإذا كان ذلك كذلك، ولم يرِد سمعٌ من جهة الله سبحانه بالمنع من ذلك، لم يكن لإحالته والمنع منه معنى، مع عدم إحالةِ العقل له (¬1). فإن أعادوا ما قدموا؛ من أن فيه تجهيلَ المكلفِ، فقد سبق الكلامُ عليه. ومنها: الدلالة على مَنْ منعَ ذلك في الخبر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [يونس: 13] وشُرِحَ: قَرناً (¬2) بعد قرن، فلو أنَّه سبحانه قال: فاحذروا عقابي إن خالفتم أمري، فإنني عاقبتُ بني إسرائيل، وأطلق. ثم إنَّه بيَّن أنه إنما عاقب من خالف منهم، وعصى أمره سبحانه، وكذلك لو عمَّ بلفظِ الوعيد كل عاصٍ مخالفٍ لأمره، ثم إنه بين أن الوعيد إنما يلحقُ من أصرَّ، ولم يَتُبْ مِن ذنبه، أو توعَّدَ (¬3) المصرّين، وبين أنَّ قوماً يدخلون الجنَّة بشفاعةِ الشافعين، لم يكن في هذا إحالةٌ في العقلِ، ولا مفسدةٌ، ولا تغييرٌ لقانون الشرع. فإن قيل: بل فيه أمران من الفساد: أحدهما: أنَّه تجويزُ الكذبِ، وذلك قبيح، فتجويزُ القبيح على ¬

_ = على ألسنة المتكلمين والفلاسفة. انظر ما تقدم في 1/ 16 في الحاشية. (¬1) في الأصل: "العقل له والسمع"، ولفظة: "السمع" حشو لا داعي له؛ لتقدمها في السياق، لذا حذفتها. (¬2) في الأصل: "قرن". (¬3) في الأصل: "تواعد".

الحكيمِ (¬1) قبيح. والثاني: أنَّه إنَّما وُضِعَ الوعيدُ للصرفِ عن الفساد، وإقامةِ مصالح الدين، وفي انخرام ذلك تفويتٌ للقصدِ، فلم يبق إلا الوعيدُ الجزمُ الحتمُ. فيقال: أما تجويز الكذبِ، فلا وجهَ له؛ لأنَّ المنعَ لو كان لذَلك، لَمُنعَ من تخصيِصِ العموم في الخبر مقارناً ومتأخراً، لأن الكذبَ لا يختصُّ بما تأخَّر دون ما قارن، ولأنَّ إخلاف (¬2) الوعيد لا يسمَّى كذباً عند العربِ، ولهذا تَبَجَّحَت بإخلاف (¬3) الوعيد وإنجاز الوعدِ، فقال شاعرهم: وإني إذا أَوْعَدْتُهُ أو وَعَدْتُهُ ... لمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوعدي (¬4) وأما الصرف عن القبيح، فإنه يحصلُ مع تجويزِ العفوِ، والدليل عليه: أن تجويز وقوع العقوبة كافٍ، ولهذا شَرْعُ العقوباتِ والحدود في الدُّنيا صوارفَ عنَ القبيح والفسادِ، لم يخرجْهَا عن وضعِها، وكونها صارفةً، ما جَوَّزَه من الإسقاط بالشبهات، وما ندبَ إليه من السَّتر، وقبول الرجوعِ بعد الإقرارِ، وغير ذلك، فليس وعيدُ الآخرة في الزجر بأوفى من وعيدِ الدُّنيا، بل عقوباتُ الدنيا نقدٌ وتعجيلٌ، ولم يضعه وضعاً جزماً، ولا (¬5) بحيث يقعُ لا محالةَ، فكذلكَ وعيدُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الحكم". (¬2) في الأصل: "اختلاف". (¬3) في الاْصل: "باختلاف". (¬4) هو لعامر بن الطفيل، وتقدم في 3/ 410. (¬5) في الأصل: "بل".

الآخرة. ومنها: أنَّ ذلك قد وقعَ، بدليل ما بيَّناَ من الآي، [مثلُ] قوله: {إنكم وما تعبدون} [الأنبياء:98]، وأنَّه أمر بني إسرائيلَ بذبح بقرةٍ، وبيَّن بعد ذلك (¬1)، وأخبرَ بعذاب قوم لوط، وبَيَّنَ نجاةَ لوطٍ وأهلِه، وإلى أمثال ذلك من الآي الواردة في الأخبار، وأخَّرَ بيانَ ما أريدَ بها بعد الخطابِ، تأخيراً للبيانِ عن وقتِ الخطابِ. ومنها: أن الخبرَ يتضمنُ وجوبَ الاعتقادِ، وهو عملُ القلب، والتصديق لمُخْبَرِه (¬2)، وهو عملُ القلبِ، فنقول: إذا ثبتَ جوازُ تأخيرِ البيانِ في أعمالِ الأركانِ، وهي التي وجبتْ بالأوامرِ والنَّواهي، كذلك جازَ تأخيرُ البيانِ، فيما أوجبَ أعمالَ القلوبِ من التصديق والاعتقادِ، ولا يجدونَ لذلك فرقاً يعطي تخصيصَ جوازِ ذلك في الأوامرِ والنواهي دون الأخبار. ومنها: البناءُ على أصلِنا، وهو تجويزُ النسخِ قبلَ وقتِ الفعل المأمورِ به، وأنَّه أرادَ بقولِه: صلوا إذا زالتِ الشمس: إنْ مَكَّنتكم من هذا الأمر، ولم أنسخْهُ، كذلك قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}: إن تركتكم وهذا العموم، ولم أخصه، وليس في هذا إحالةٌ من جهةِ العقلِ، ولا استبعادٌ (¬3) من جهةِ الشرع، مِنْ حيثُ كان لهُ إطلاقُ الأمر المقتضي للدوام قبل (¬4) ورودِ النسخِ الكاشفِ، غير أنه أرادَ التأقيتَ لا التأبيدَ. ¬

_ (¬1) تقدم في الصفحة 91. (¬2) في الأصل: "لخبره". (¬3) في الأصل: "استعباد". (¬4) في الأصل: "بين".

* فصل في جميع شبههم

ومما يدلُّ على صحةِ هذا: أننا نجوِّزُ أن يحيلَ بيننا وبين الفعل بعائقِ الموت، والإغماءِ، والجنونِ، فيصير التقديرُ مع هذا التجويز: صلوا عند الزوال إن لم يُعِقْكُمْ عائقٌ، أو يقطعكُم قاطعٌ، فكذلكَ جازَ أن يكونَ فيه تقدير: صلوا ما لم أنسخ. يوضِّحُ هذا: أنَّ العوائقَ الواقعةَ المُحيلةَ بيْن المكلَّف، وبين إيقاعِ ما أُمِرَ به في الوقتِ الذي أُمِرَ به فيه، إنما تقعُ من جهتهِ سبحانه، فالمرضُ والجنونُ والإغماءُ والموتُ من جهتهِ، كما أن النسخَ من جهتهِ، فإذا كان القولُ المطلق مقدراً بالإيقاعِ ما لم توجدْ إعاقة من جهةِ الآمرِ، كذلك يكونُ معلقاً بأن لا يوجد نسخٌ من جهة الآمر، واذا ثبتَ هذا الأصلُ، كان التقديرُ في العموم الذي تأخر بيانُه وتخصيصه: إن لم أخصَّه، كما يقدَّر هناك: إن لم أنسخه، أو أَعْفُ (¬1) عنه. فصل في جمع شُبههم فمنها: أن قالوا: إنَّ الخطاب بلفظِ العمومِ، ومرادُ المخاطِب الخصوصُ، وخطابَ الكلِّ بلفظ الكُلِّ، ومرادُه من المخاطبين البعض، والمجمل الذي لا يفيدُ لفظهُ مرادَ المخاطِب، هو خطابٌ (¬2) بما لا يُعْقَلُ، لأنَّ العربَ لا تعقلُ الخصوصَ من العموم، ولا التفسيرَ من المجملِ، وخطابُ الإنسانِ بما لا يفهمهُ قبيحٌ، فوجَب أن ¬

_ (¬1) في الأصل: "العفو". (¬2) في الأصل: "فقد خاطبه".

يُنَزَّهَ عنه صاحب الشرع، كما لم يَجبْ عليه أن يخاطبَ العربَ بلغةِ الزَّنْج والنَّبَط. فيقال: ومن الذي أَعْلَمَكَ أننا نمنعُ ذلك حتى جعلتَهُ أصلاً يُسْتَمَدُّ منه الحكمُ؟ وما المانعُ مِن ذلك؟ أَوَما تَعْلَمُ أنَّ الخطابَ الذي ورد إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ورد عربياً؟ وكلّفه البلاغ إلى سائرِ الأمم، فكان ذلك حسناً، وشرطَ تعبيرَه بلغتِهِم ليحصلَ البيانُ لهم في الثاني، وما الذي يمنعُ الخطابَ الصادرَ مِن الحَكيمِ، بأيَّ لغةٍ شاء، بعد أن يشيرَ إلى المخاطَبِ أنَّ الخطابَ له والإشارةَ إليه، حتى بالصوتِ السَّاذَج الممتدِ الذي لا يتَضمَّنُ حروفاً، [و] حتى بالمعجم، ليُفَسرَ ويُتَرجَمَ عنه في ثاني الحال؟ على أنَّ تقبيحكم لذلك لا وجهَ له، لأنَّه توهُّمٌ أنه خاطب بما لا يُفْهَم ليعلم خصوصُه من عمومه، ولعمري إنَّ ذلك بعيدٌ عن عادةِ حكماء المخاطِبين الآمرين الناهين، وليس الأمرُ عندنا كذلك، بل الخطابُ يوجبُ اعتقادَ ما يُبَيِّنُهُ في الثاني، إما جموداً (¬1) على عمومِه، أو بياناً (¬2) لخصوصِه، فيعتقدُ المكلفُ تجويزَ خصوصِ العامِّ بالبيانِ الذي يأتي، وتفسيرِ المجملِ، فالعاقلُ على ثقةٍ من خطاب الله سبحانه بما لا يفهمُه أنه سيفهمه في الثاني، بتخصيص العامِّ، وَتفسيرِ المجملِ، أو بأن يَكِلَهُ إلى اجتهاده، فيقول: أَدِّ من الزرع ما شئتَ، أو سَهُلَ عليك، فذاكَ هو الحقُّ الذي يريدُه، فلا قُبْحَ في ذلك إذاً، ومَن الذي يَسْتَقْبِحُ في عرفِ العقلاءِ خطابَ مُلوكِ العجَمِ للعربِ، والعربِ للعجم بشؤونهم الخطاب المديد؟ ومكاتبة العبراني ¬

_ (¬1) في الأصل: "جمود". (¬2) في الأصل: "عموم".

والسرياني للعربي ثقة بما يشفعُ ذلك من التراجم والتفسير والتعبير؟ وقد عَلِمَ المخالفُ أننا وجمهورَ أهلِ السنة، جوَّزنا خطابَ المعدومِ حَالَ عدمه ليوجدَ، ودلَّلنا عليه، فأولى أن نجوِّزَ خطاباً بما لا يُفْهَمُ معنَاهُ لِيُفْهَمَ، ويُبَيَّنَ في الثاني، ومعلومٌ تفاوتُ ما بين المعدومِ رأساً، وبين الموجودِ العديمِ الفهمِ لإعجامِ الخطاب. فإن قيلَ: لو كانَ هذا الأَوْلَى صحيحاً، لكانَ خطاب المجنون ليعقلَ ويفيقَ، والصبي ليبلغَ في مستقبل الحالِ جائزاً، لأنَّ عدمَ العقلِ دونَ عدمِ الأصل، فإذا لم يتحصَّلْ بتجويزِ خطابِ المعدوم عندكم خطابُ المجنون والطفل من طريق الأَوْلى، لم يتحصل تجويز خطاب بمجملٍ، وبما لا يُفْهَمُ، لِيُفْهَمَ في الثاني، من تجويز خطاب المعدومِ لِيُوجَدَ، ومعلوِمٌ أن الشرع قد قال: "رفعَ القلمُ عن ثلاث" (¬1)، وذكرَ المجنون، فعاد تنبيهُ الشرعِ بإبطالِ خطابِ المعدومِ، فكان تنبيهُ الشرعِ مُقَدَّماً على تنبيهِكُم. قيل: ومَن أعلمَكُم أننا لا نجوَّز توجُّهَ الخطاب إلى مجنونٍ في المعلومِ أنه يفيقُ، وصبيٍّ في المعلومِ أنه سَيَبْلُغُ؟ وإن أردْتُمْ تجويزَ خطابه مع عدم هذا الشرطِ، فذلك باطلٌ. عدنا إلى إتمام الجواب عن أصلِ الشبهة: وذلك أنَّ أصلَ ما تعلقتم به من تقبيحِ خطابِ المكلَّفِ بما لا يُفْهَمُ منه مُرَادُ المُتكَلِّمِ، إنما هو لتَعَذُرِ طاعته فيما أُمِرَ به، وذلكَ موجود في خطاب العاجز الذي لا يصحُّ منه الفعلُ المأمورُ به مع عدمِ قدرتهِ، وكذلكَ القادرُ العادمُ للآلةِ التي لا غنَاءَ به عنها في فعلِ صناعتِه، ثمَّ لم يقْبُحْ ذلك ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 118.

بما يُؤْتَى في الثاني، ويمدُّ به من القدرةِ والآلةِ وقتَ حاجتِهِ إلى الفعل. على أنَّ ما نحن فيه من الخطابِ يبعدُ عن خطابِ العربي بالزنجية، وذلكَ أنَّ صيغةَ العمومِ قد عقل منها الاستيعابُ والشمول للأعيانِ المأمور بإيقاع الفعلِ فيها، كقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقد عقِلَ من قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فالإيتاءُ (¬1) معقولٌ، والحقُّ معقولٌ، وأنَّه أمرٌ واجبٌ يوم الحصادِ معقول، لم يبق في الآية شيءٌ مجهولٌ سوى قدر الحقِّ وكميته، ومتى قَبُحَ في العقول والعادات (¬2) إيقافُ لفظة منها على بيان معناها في مستقبلِ التَّلفظِ بها؟! وأين هذا من لفظٍ زنجي يخاطبُ به عربيٌ لا يَفْهَمُ كلمةً من الزنجية؟! ولأنَّ خطاب العربي بالزنجية لا يفيدُ فائدةً في الحال رأساً، والخطان بالعمومِ والمجملِ قد أفادَ في الحال تَلَقِّيَ الخطاب باعتقادِ إيجابِ فْعل والتزامِ حقٍّ، إلى أنْ يبيَّن مقدارُ الحقِّ، ومبلغُ الأفعال في تلكَ الأعيانِ. وجوابٌ آخر: وهو (¬3) أنَّ جميعَ ما عوّلوا عليه باطلٌ بإطلاقِ الأمرِ المقتضي عمومَ الأزمانِ، ثم أبانَ النسخ عن إرادةِ الأمر به في بعضِ الأزمان، ولا محيصَ لهم عن هذا بفرقٍ، على أنَّ ما قدموه في ذلكَ قد تكلمنا ¬

_ (¬1) في الأصل: "الإيتاء". (¬2) في الأصل: "العبادات". (¬3) في الأصل: "فهو".

عليه (¬1). ومنها: قولهم: إن ما ذهبتم إليه هاهنا يعودُ بقولكم ويفضي به إلى التمذهب مذهبَ أهل الوقف؛ لأنكم قلتم: إذا تأخرَّ بيانُه؛ يجوز أن يكون عاماً، ويجوزُ أن يكون خاصاً، وكيف [لَمَّا] كَرَّرْنَا عليكم أنَّ اعتقادَ كونهِ عاماً من غير بيانِ تخصيصِه اعتقادٌ للجهل، وتعريضٌ من الشارع للمخاطبين باعتقادِ الجهلِ، كَرَّرْتُم القولَ بأنَّه لا يُعْتَقَدُ العمومُ، بل يُعتقدُ تجويزُ ورودِ التخصيصِ، وهذا تصريحٌ منكم (¬2) بمذهب أهلِ الوقف، وهذا من آكَدِ ما توهمون به خَطَأنا في هذا المذهب. فيقال: ليس التوقف في هذا توقفاً (¬3) فيما وُضِعَتِ الصيغةُ له في أصلِ الوضع، وإنما هو توقفُ ترقُبِ مستقبلٍ، وتجويزِ مستأنفٍ من بيان يَكشف عن تخصيصِهِ، كما نَترقبُ (¬4) ونُجَوِّزُ نسخَ الأمرِ المطلقِ، ولا نقول: إننا نتوقفُ في صيغة الآية المحكمة. والذي يكشف عن الفرق بيننا وبين أهل الوقف: أننا نحن إذا عدمنا دليلاً يُخَصِّصُ مع مجيء وقتِ التنفيذِ للحكمِ والعملِ باللفظِ، بقينا على القولِ بعمومِ اللفظِ، وأهلُ الوقفِ لا يكتفون في القولِ بعمومِهِ بعدمِ دليلِ التخصيصِ في الثاني، بل لا يحكمونَ بكونه [على] عمومه إلا بدليلٍ مستأنفٍ يدلُّ على أن المرادَ به العمومُ. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة 100. (¬2) في الأصل: "منكر". (¬3) في الأصل: "توقف". (¬4) في الأصل: "يترتب".

فقد بان أن قولنا في هذا لا يؤدي إلى مقالةِ أهلِ الوقفِ. ومنها أن قالوا: إن البيان مع المبينِ بمنزلةِ الجملة الواحدة، ألا ترى أنهما بمجموعهما يدلانِ على المقصودِ بهما؛ ولا خلاف أنه لا يَحْسُنُ تأخيرُ الخبرِ عن المبتدأ؛ بأن نقول: زيدٌ، ونقول بعد زمان: قامَ، كذلكَ لا يحسُن أن يؤخَّرَ البيانُ عن الجملةِ المبيَّنة. فيقال: إن تأخيرَ الخبرِ عن المبتدأ ليسَ من أقسامِ الكلام، ولا هو مفهومٌ بحال، والمجملُ يفهمُ به ومنه إيجابُ حقٍّ، ويبقى علينا بيان كميته ومقداره، وينكشفُ ذلك بتعليق الأحكام عليه، وهو الإيمانُ والاعتقادُ بأن حقاً قد وجبَ عليه، والعزمُ على إِيتائِه مهما كان من كثيرٍ وقليلٍ، ولا يفيد قول القائل: زيدٌ [ذلك]. ولأنه بالناسخ والمنسوخ أشبهُ منه بالمبتدأ والخبر. ومنها: قولُهُم: لما لم يجز أن يردَ في كلامهم بعض حروف كلمةٍ لِتُتَمَّمَ (¬1) تلكَ الكلمةُ في مستقبلِ الحال، كذَلك لا يجوزُ أن تردَ الكلمةُ غير (¬2) مُبَيَّنَةٍ في الحال لتُبيَّن. فيقالُ: وما الذي قَرَبَ بينهما؟ فإنَّه لا يحتملُ أَنْ يقال: لَمَّا قَبُحَ هذا قَبُحَ هذا، إلا بَعْدَ دلالةٍ تجمعُ بينهما. على أنا نحن نعلمُ أنَّ العربَ لم تنطقْ ببعض كلمةٍ لِتُتَمِّمَها في الثاني، وتكلمت بالكلمةِ المفهومةِ بظاهرِها لِتَصْرِفَها عن ظاهرِهَا بما يأتي مِن الدلالة الصارفةِ لها، حتى إنهم لم يُقَبِّحُوا تأخيرَ النسخِ، ولا ¬

_ (¬1) في الأصل: "لتمم". (¬2) في الأصل: "عن".

يُعْلَمُ منهم ولا عنهم إيرادُ حرفٍ أو حرفين من كلمةٍ لا يُفْهَمُ المقصودُ بها إلا بخمسةِ أحرفٍ. ومنها أن قالوا: إنَّ البيانَ المتأخِّر عند مَن أجازه، يُخْرجُ بعضَ ما اشتملَ عليه اللفظُ، فجرى (¬1) مجرى الاستثناء المُخْرِج لبعضِ ما عَمَّهُ الاسمُ وتناولَه، قالوا: فلما أجمع أهل اللغةِ على قبح تأخير الاستثناءِ عن المستثنى منه بأوقاتٍ كبيرةٍ، كذلكَ التخصيصُ، وبيان المبيَّن، وذلكَ أنَّهم استهجنوا قول القائلِ: اضربْ عبيدي، وقولَه بعد حولٍ: إلا نافعاً، أو سوى خالدٍ (¬2)، أو غير عمرو. فيقالُ. أما دعواك الإجماع، فلا وجهَ له مع خلافِ ابن عباس -وهو من ساداتهم، وترجمانُ الكتابِ العزيز-، وقولِه بجوازِ الاستثناءِ بعدَ سنةٍ (¬3). جواب ثانٍ: أنَّ الفرق بينهما: أن عادةَ أَهلِ اللغةِ: أن لا يُبْتَدأَ بغير، وسوى، وإلاَّ، ولا يُتحرَّجَ من الابتداء بصيغة الأمر والنهي، فإذا قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لم يَحْسُنْ أنْ يقال بعد سنة: إلا أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، ويَحْسُنُ أن يقولَ: ولا تقتلوا أهلَ الكتابِ إذا أدَّوا الجزية، فإنني لم أُردْهُم بالأمرِ بالقتلِ، أو يقول: اضربْ عبيدي، ويقول بعد أوقات كبيرة: إلا سالماً، فإنه لا يَحْسُنُ، ويَحْسُنُ أن يقولَ: ولا تضربْ سالماً، وان كان اللفظان جميعاً ¬

_ (¬1) في الأصل: "جرى". (¬2) في الأصل: "خالداً". (¬3) تقدم فىِ 3/ 461.

يُخرجان من اللفظ ما لولاه لدخَلَ فيه. على أن هذا الذي ذكرتموه من (¬1) القياس والاستعمالاتِ، لا يقاس أحدهما (¬2) على الآخر، كما لا يقاس التخصيصُ على النسخ، فإن جازَ أن تقيسوا أنتم التخصيصَ على الاستثناءِ، في منعِ تأخيرِ أحدِهما، كما امتنع تأْخِيرُ (¬3) الآخرِ، جازَ أن نقيسَ نحنُ التخصيصَ على النسخ في جوازِ التأخيرِ، فوقفَ دليلُكم، وترجَّحَ قولُنا نحن؛ لأنَّ (¬4) النسخَ ودليلَ التخصيصِ جميعاً يبتدأ بهما في اللغةِ، ولا يُبْتَدَأُ عند أهلِ اللغةِ بحروفِ الاستثناءِ. بيانُ ذلك. أنه يحسُنُ القولُ ابتداءً: وَلِّ وجهكَ شطرَ المسجدِ الحرام، بعدما شرعَ أولاً استقبالَ بيتِ المقدس، وإنْ طالَ [الزمانُ] بينهما، ويَحْسُنُ أن يقولَ: لا تقتلوا أهلَ الَكتابين إذا بذلوا لكم العهدَ، ودفعوا الجزيةَ، بعد قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ويَحْسُنُ أنْ يقولَ: أخرجوا من كل عشرة أقفزة مما تنبته الأرض قفيزاً، بعد أن قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وإن طال الزمان بينهما، ولا يحسن أن يبتدىء، فيقول: إلا نافعاً (¬5)، وغير نافع، وسوى نافع، بعد أن قال: اضربْ عبيدي، بزمان مديد. ومنها أن قالوا: لو كان للنبي (¬6) - صلى الله عليه وسلم - تأخيرُ البيانِ مع وجودِ الأمرِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن" (¬2) في الأصل: "لأحدهما". (¬3) في الأصل: "تأخر". (¬4) في الأصل: "بأن". (¬5) في الأصل: "نافع". (¬6) في الأصل: "النبي".

له ولأمته بالمجمل والعموم، لجاز تأخيرُ البلاغ، ولَمَّا لم يجزْ تأخيرُ البلاغِ، لم يجزْ له تأخيرُ البيانِ؛ لأنَّ كُلَّ واحد منهما إعلامٌ له وإشعارٌ بما شَرعَ اللهُ سبحانه، فإذا لم يُؤَخَرْ أحدَ الإعلامين والإشعارين، كذلك لا يُؤَخِّرُ الآخرَ. فيقال: ومَن الذي يمنعُ تأخيرَ البلاغِ إذا كانَ بأمرٍ مِن اللهِ، وتشريعٍ منه؛ فليسِ ذلك بمحال، ولا مَنْفِي (¬1) عنه، بل جائزٌ عليه سبحانه أن يؤخِّرَ البيان عن المجملِ، كما يؤخِّرُ الإقدارَعن المكَلَّفِ على ما كَلَّفَهُ. على أن تأخيرَ أصلِ البلاغ إخلالٌ بما يفيد، ويقع به عملٌ يقابَلُ المكلفُ على مثلِه بالثواب، ويُحقِّقُ (¬2) به نوعاً من أسبابِ الإثابةِ والأجرِ، وهو توطينُ النفسَ على امتثالِ المأمورِ به إذا فسَّره، فإذا قال: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعَام: 141]، فسمعَ ذلك بعدَ تبليغِ النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقدَ وجوبَ حقٍّ، ووطَّن نفسَهُ على إخراجه من مالِه مراغمة للنفس، وإن كَثُرَ مقدارهُ، وثَقُلَ على النفسِ إخراجُه، وصار متوقِّعاً لتفسيَرِ المقدارِ، فيَحْصلُ له بالاعتقادِ، وتوطينِ النفس على الأداءِ، -وإنْ بادرَ (¬3) الانتظارَ لما يردُ من التفسيرِ- من أعمالَ القلبِ ما يوفي على أَعمالِ (¬4) الأركان كلها، وإذا لم يحصلْ أصلُ البلاغِ، تعطلَ المكلَّفُ عن هذهِ الأمورِ التي مدار التكليف عليها، وهي أعمال القلب، فأين تأخير البلاغ من تأخير البيان؟ على أنَّ الله سبحانَه لو ذكرَ حكماً، لم يجزْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - كَتْمُه إذا كان تكليفاً لأمته العملَ به، أو الاعتقادَ له، وإنْ جَازَ أن يتأخَّر ¬

_ (¬1) في الأصل: "نفي". (¬2) في الأصل: "ويعتنق". (¬3) في الأصل: "بدر". (¬4) في الأصل: "الأعمال".

الإعلامُ والبيانُ بمدةِ ذلك الحكم، متى ينسخ، ومتى يرفع أو يُغَيَّر؛ فقد جازَ تأخير بيانِ الحكمِ بالنسخِ، وإن لم يجز تأخيرُ أصلِ بلاغِ (¬1) الحكم للأمة. ومنها: أنَّه لو جازَ تأخيرُ البيان، لم يُؤْمَنْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - حصولُ الاخترامِ (¬2) قبل بيانه، وذلك مما يعطلُ ذلك الحكمَ الشرعي، وما أفضَى إلى تعطيلِ المشروعِ، لم يجز أَن يكون مَشروعاً، لِمَا فيه من تضييع الغَرَض، وخُلُوِّ الأمرِ بذلك الحكم من فائدة، وذلك من العيب الذي لا يجوزُ على الله سبحانه، ولا يحسن بالحكماء من خلقه. فيقال: هذا تعليقٌ باطلٌ من وجوه: أحدها: أن هذا ينبني على أصلٍ، وهو (¬3) أنَّه سبحانه يجوزُ أن ينسخَ العبادةَ المأمورَ بها قبل وقت فعلها، والنسخُ رفعٌ لذلك الحكم، وإعاقةٌ عنه، فلا فرقَ بين الإعاقةِ باخترامِ السفير - صلى الله عليه وسلم - قبل بيان المجمل الذي أنزِلَ، وبين نسخِ المأمورِ به قبل وقتِ فعله المعيقِ عن فعله، وسيأتي الكلام إنْ شاء الله في هذه المسألة في فصول النسخ بما فيه غنى وكفاية، لكن نقدم ها هنا بحسب ما يليق بالكلام، فنقول: إن الله سبحانه [لو] اخترمَ نبيَّهُ قبلَ البيانِ، علمنا أنه سبحانه لم يُردْ بإنزالِ الأمرِ بالمجملِ إلا ما يَحصلُ من بلاغه لذلك المجملِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "ببلاغ". (¬2) يقال: اخترمته المنية، أي: مات."القاموس": (خرم). (¬3) في الأصل: "و".

فكان تكليفُه - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَلِّغَ ما أنزِلَ، وتأخيرُ البيان عنه لا يُنْقِصُه من رتبةِ البلاغِ شيئاً، ولا يُوجِبُ عليه مَعْتبة، ولا إثما، ولا تقصيراً في البلاغ، والأمةُ عملوا بحسب ما بلَّغ، فتلقَّوا ذلك باعتقادِ وجوب حقٍّ، ووطنوا نفوسَهم على الطاعةِ بإخراجِ ما يفسِّرُه به من مقدارِ ذلك الحقِّ، فما عاد ذلك بتقصيرٍ في بلاغه - صلى الله عليه وسلم - ولا إِخلالٍ [في]، طاعةٍ من جهة الأمَّة، إذ لا تفريطَ من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا مِنَ الأمَّةِ في ذلك، وتوقُّعُهم بعد ذلك ما يَرد مِن التفسيرِ أو التخصيصِ، نوعُ تعبُّدٍ آخرُ لا يخلو من فائدة ومثوبةٍ، ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "المنتظرُ للصلاة في صلاةٍ" (¬1)، لأجلِ توقعه الوقتَ الذي يصلي فيه، والتوقعُ نوعُ عملٍ بالقلب، ولهذا قيل لأبي بكر الصديق في صلاة الفجر: كادتْ أن تَطْلُعً الشمسُ، فقال: لو طَلَعَتْ، ما وجدتْنَا غَافلينَ. (¬2) يعني أنَّ تطويلَهُ بالقراءة شغلٌ ويقظةٌ، وهذا هو القصدُ. على أنه إن كان الأمرُ بلفظِ عمومٍ، واختُرِمَ - صلى الله عليه وسلم - قبل بيان تخصيصه، وكان لأمته دليل مستنبطٌ من قياسٍ أو استدلالٍ يَدلُّ على تخصيصِ ذلك العمومِ، فما يتعطَّلُ على قولنا؛ لجوازِ التخصيصِ ¬

_ (¬1) الحديث ورد بلفظ: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة". أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649)، واللفظ له، من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 82 مختصراً، والبيهقي في "السنن الكبرى" 1/ 379، وعبد الرزاق في "المصنف" (2711) و (2712)، والطحاوي في "شرح معاني الاَثار" 1/ 181 عن أنس رضي الله عنه. وله طريق أخرى عند الطحاوي 1/ 182 عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي.

بالقياس. جوابٌ آخر: وهو أنَّ الله سبحانه قد جعل تكليفَهُ على ضَرْبينِ: مضيَّقٍ، وموسَّعٍ، وجعل الموسَّعَ غيرَ مؤاخذٍ بتَأْخيرِ (¬1) المكلَّفِ له، كقضاءِ رمضان، فيما بينَ رمضانين، والصلاة ما بين الوقتين، فلو اخترمَ المكلَّف في زمن المُوَسَّعِ (¬2)، لم يلحقْهُ من جهةِ الله سبحانه لائمةٌ ولا مؤاخذةٌ، فقد نجا من المؤاخذةِ؛ لأجلِ الاخترامِ في وقتٍ كان مُخَيَّراً فيه بين الأداءِ والتأخيرِ، وما خلا من ثوابِ العزمِ على الفعلِ في الوقتِ المُوسَّعِ قبلَ خروجِه، فلا يُنْكَرُ أن يكون حالُ هذا المجملِ والعمومِ، إذا حصلَ الاخترامُ قبلَ بيانِهِما، كحالِ اخترامِ المكلَّفِ في وقتِ العبادة المُوسَّع. وكان ذلك خارجاً على المذهبين، وصحيحاً على كلا القولين: أربابِ المصالح، والقائلين بالمشيئةِ المطلقةِ من غيرِ إيجاب مصلحةٍ؛ لأنه لما اخْتُرِمَ قَبْلَ البيان، عُلِمَ أن هذا كان هو الأصلحَ، و [على قول] من قال بالمشيئة، عُلِمَ أن هذا كان هو المرادَ، دونَ البيانِ. ومنها: أنْ قالوا: تجويزُ تأخيرِ البيانِ عن وقتِ الخطاب يفضي إلى أن يأمرَ بشيءٍ، ويكونُ مرادُه عندَ ذلك: الشيء، أو غيره وخلافه (¬3)، وذلك لا يجوزُ، كما لو أمر بقتل المشركين وهو يرى استبقاءهم، وبالصوم وهو يريدُ الإفطارَ، وبالقيامِ وهو يريدُ القعودَ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بتأخر". (¬2) في الأصل: "التوسع". (¬3) وهو غير جائز، لأنه جمع بين النقيضين. انظر "العدة" 3/ 731.

وذلك غير جائزٍ على الله سبحانه، كذلك لا يجوزُ أن يأمرهم بلفظٍ ظاهرُه العمومُ، وهو يريد به الخصوصَ. فيقال: [هذا] باطل؛ إذا قالَ به (¬1) يُفْضِي إلى أن ينطقَ بالعمومِ، ويعدلَ عنه إلى الخصوصِ. على أن الذي أراد منهم بذلك: اعتقاد طاعته فيما أظهرَ من العموم، وطاعته في العمل بالتخصيص المجوز وُرُوده، كما أنه إذا أمر باستقبال بيت المقدس، وجب تلقي ذلك بالطاعةِ، والانقيادِ إلى ما أظهر، وظاهرُه يعطي التأبيدَ، وإن كان يريدُ بذلك وقتاً مخصوصاً، وكلُّ عذرٍ لهم في تجويزِ النسخ -وهو تخصيصُ زمانٍ-، هو عذرُنا في ورودِ لفظِ العموم، وإنْ تأخَرَ بيانُ تخصيصِ الأعيانِ عن الخطاب به، وفارقَ ما ذكروه من أمرِه بالقيامِ وهو يريدُ القعودَ، وقتلِ المشرَكينَ وهو يريدُ استبقاءَهم، لأنَّ ذلك ليس من أقسامِ الكلام، ولا يستعملُ في موضعٍ ما، فأمَّا العمومُ الذي يردُ عليه الخصوصُ مبيّناً أنه كان هو المراد، فسائغ في لغتهم، مستعملٌ في عادتِهم، فصارَ كأحدِ أقسامِ المجازِ والتوسُّع. ومنها: أنَّ تأخيرَ البيانِ عن الخطابِ، يوجبُ نسخَ ما يخصُّ منهما (¬2) بعد وروده على التراخي، ونحن لا ننكرُ النسخَ، وإنما ننكرُ أن يكونَ البيانُ المتأخرُ تخصيصاً. فيقال: هذا باطلٌ؛ لأن النسخَ إنَّما يصحُّ بعد ثبوتِ الأحكامِ واستقرارها، ولفظُ العموم الواجب تنفيذُه على التراخي لم يستقرَّ بعد كونهِ عموماً إن تُركنا وظاهِرَه، ويجوز ورودُ ما يخصهُ، فبطلَ ما ¬

_ (¬1) في الأصل: "قارنه". (¬2) في الأصل: "منها".

ذكروه. ومنها: أن قالوا: لو جازَ تأخيرُ البيانِ يوماً، لجاز تأخيرُه سنةً وأكثرَ، وذلك يُخْرِجُهُ عن كونه متعلِّقاً بالأولِ، فإنه ليس لنا في كلام العرب كلامٌ منعطفٌ على الأول بعد زمانٍ طويلٍ، بل يصيرُ الأول بطول المدة كالمهملِ، لأنه كلامٌ لم يتحققِ العملُ به، بل يقعُ منتظراً به ما بعدَهُ، والمنتظرُ لم تتحصَّلْ فائدتُه. فيقال: انتظارُ بيانه لا يعطِّل عن تَعبُّدٍ مقصودٍ مثله، وفيه مصلحةٌ معجَّلةٌ، و [هي] اعتقادُ ما تضمَّنهُ، وتوطينُ النفس على العمل بما يُفَسَرُ به مجملُهُ، ويخص به عمومُه، ومثلُ هذا لا يكونُ من جملةِ المهمل، وإذا جازَ أن تقَعَ التعبدُ متفرِّقاً ومتتابعاً، كالإحرامِ يقعُ في شوال، وتقع أفعالُهُ في شهورٍ، وبعضُ أفعاله بعدَ شهورٍ، وبينَ فعل وفِعْلٍ، ونُسُكٍ ونسُكٍ أيامٌ عدةٌ، وصومِ التمتع ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعة إذا رجِع، ويكونُ عزمُه في رجوعه تعبداً (¬1) إلى حين رجوعه، جاز أن يكون ما بينَ الاعتقادِ والفعلِ الواقع بالبيان المستقبل مدةً موصولة بالفعلِ؛ بما تلاها من الاعتقادِ والعزَمِ وتوطينِ النفسِ، وقد فرَّقَ بينَ المدةِ الطويلة والقصيرةِ قومٌ، وليس بشيءٍ عندنا. ومنها: أن قالوا: لا يخلو أن يكونَ أرادَ باللفظِ العامِّ اعتقادَنا العمومَ، أو الاعتقادَ والعزمَ، أو التنفيذَ، أو هما جميعاً والتنفيذَ: لا يجوز أن يكون أراد منا الاعتقادَ للعمومِ وهو يريدُ الخصوصَ، لأنَّ هذا يفضي إلى أن يريدَ ضِدَّ ما أراده منا بالخطاب، ولا يجوزُ أن يكونَ أرادَ الاعتقادَ والعزمَ دونَ التنفيذِ، لأنَّ التنفيذَ هوَ المأمورُ به، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعيد".

وإذا (¬1) أريدَ باللفظِ الاعتقادُ والعزمُ غيرُ المذكورين في اللفظِ، فأَوْلى أن يرادَ التنفيذُ المذكورُ في النطقِ، وإذا ثبتَ أنَّه أرادَه بالنطقِ، وجبَ أن يبيِّنَه ليدري [المُخاطَبُ] ماذا يفعلُ وينفِّذُ، وماذا يعتقدُ، وعلى ما يعزمُ، وإلا كانَ جاهلاً معتقداً للجهل، عازماً على غير فعلٍ محقَّقٍ. فيقال: المرادُ عندنا بلفظِ العموم والإجمال، تلقيهما بالاعتقادِ، وتوطينُ النَّفسِ على التنفيذِ، لما يقعُ به البيانُ في الثاني، فقد كشفنا المذهبَ الذي ذكرتُم في التقسيمِ طلباً له. وقولُكَ: إنه تعريضٌ للجهلِ، فباطل بالنسخ، لأنَّ الجهل بالكمية لا يؤثِّرُ إلا زيادةَ تكليف، لأنَّه بينَ تنجيزِ مُعْتَقَدٍ، وعزمٍ مُقابلٍ بِهِ اللفظ، وتوطينِ النفس على ما يحصل به البيانُ في كيفية التعبُّد؛ فقد بان أنه قد أراد الاعتقاد لا مَحالَة، وهذا هو الغرضُ من الاستدلال، وإذا سلمناه، اسْتُغْني عن التقسيمِ. ولكنْ بقيَ الخلافُ في صفةِ الاعتقادِ الذي أرادَه منهم، وأمَرَهُم به؛ هل هو اعتقادُ العمومِ، أو الخصوصِ قطعاً؛ أو الاعتقادُ أن لله سبحانه فيه مراداً (¬2) لا نعرفه بعينه؟ وأنَّهُ يجوزُ أن يكون العمومَ، إنْ (¬3) تُرِكْنَا وظاهرَ اللفظِ، ويجوز أن يكونَ الخصوصَ، إدْ أوْرَد علينا بعد الإطلاقِ شيئاً من أدلة التخصيص وقرائنه، فهذا عندنا هو الاعتقادُ الذي لزمَهُم بحقِّ الأمر، وصاحبُ هذا الاستدلال تَوهَّم أن تسليمنا (¬4) له وجوبَ الاعتقادِ عليهم، يوجبُ أن يكونَ ذلكَ هو ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإذا". (¬2) في الأصل: "مراد". (¬3) في الأصل: "وإن". (¬4) في الأصل: "إن سلمنا".

اعتقادَ أحدِ الأمرين، وهذا بعيدٌ (¬1) جداً. ثم يقال له: إن ما تعلقتَ به يلزمُكَ، ويعودُ عليك في بابِ اعتقادِ المكلَّفِ المخاطبِ في المجملِ والمنسوخِ اللذينِ (¬2) يتأخَّر عنهما التفسيرُ والنسخُ، وقد كانَ الاعتقادُ ما لم يأتِ به التفسيرُ والنسخُ، من حيثُ إن المخاطَبَ اعتقدَ التأبيدَ. ويقلَبُ عليكَ في ذلِكَ سؤالك، فيقالُ: لا يخلو أن تقول: إنَّ الذي يقتضيه الأمرُ بالمجمل: الاعتقادُ دونَ الفعل، أو الفعلُ دونَ الاعتقادِ، أو هما جميعاً، وقد استحالَ الأَوَّلانِ (¬3) عندك، فيجبُ أن يلزمَ بحق الأمرِ: الاعتقادُ والفعلُ جميعاً، فيجبُ استحالةُ تأخيرِ بيانِ المجمل، لئلا يُعْتَقَدَ منه غيرُ المرادِ به، وأن يُمْنَع تأخيرُ بيانِ اللفظِ المبيِّن لأستغراقِ الزمانِ، لئلا يُقدَمَ على اعتقادِ تأبيدِه، وأن النسخ لا يردُ عليه، فيكونَ على اعتقادِ الجهلِ للمراد باللفظ، فإن مرَّ على هذا، تَرَكَ قولَه، وإن قال: الاعتقادُ الواجب بالأمر بالمجمل والأمرِ بالعبادة بلفظِ عمومِ الأزمان، إنما هو ألاعتقادُ لمراد الله سبحانه فيه، لا نعرفُه بعينه وإنما يجبُ علينا أن نعتقدَه بعينه إذا بينَ، وإلاَّ فقبلَ البيانِ يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ به غيرَ ما اعتقدناه من المجملِ وعمومِ الأزمانِ في اللفظ الذي قُطعَ بالنسخِ عن التأبيدِ. قيل: فهذا هو جوابنا بعينه عن تقسيمكم علينا في العموم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعيداً". (¬2) في الأصل: "الذي". (¬3) في الأصل: "الأمران".

ومنها: ما تعلَّقَ به من أَجازَ (¬1) تأخيرَ بيان المجمل دون تخصيصِ العمومِ، فقال: إنَّ قوله تعالى: {واَتُوا حَقَّه} [الأنعام: 141] لم يعطنا قدراً نعتقده بعينه، بل مهما ورد به من التفسير من قليلٍ أو كثير، فذاكَ ممَّا ينطبقُ على اللفظ انطباقاً لا يغيِّرُ وصفَه، فإنَّ لفظ الحقِّ لا يعطي قدراً؛ فالمخاطَبُ لايتغيرُ اعتقادُه الأوَّل بالتفسير، لأنه ما كان في صيغة المجمل ما يدعوه ويلجئه إلى قدرٍ مخصوصٍ، فإن اعتقد ذلك، كان ما اعتقده من الجهلِ قد أتِيَ فيه مِن قِبَلِ نفسِه وسوء حسبانِه، الذي لم يوجبه لفظُ الإجمال، والذي يكشفُ هذا: أنَّ المخاطَبَ بالعمومِ يمكنه أن يشرعَ في تنفيذِ المأمورِ مارّاً بالعمل إلى استغراقِ الجنسْ، مثلُ امتثالِه للقتلِ في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فلا يَترُكُ مشركاً يصادِفُه إلا أوقعَ فيه القتلَ، بخلافِ المجمل، فإنَّه لا يَعْلَمُ من قولِه: {وَآتُوا حَقَّهُ} مِقداراً فيشرع في تنفيذ الأمرِ به، وجئنا (¬2) إلى العمومِ، فوجدناه (¬3) صيغة تُعطي بظاهرِها ومقتضاها الاستغراق عند مَن أثبتَ العمومَ، فإذا جاء البيانُ بأنَّ (¬4) المرادَ بها الخصوصُ، كان الأوَّل من الاعتقادِ محضَ الجهلِ، فهذا هو الموجِبُ لتفريقنا بين تأخير بيانِ المجمل وتفسيرِه، وبيانِ العموم وتخصيصه، وليس يمكنكم في لفظِ العمومِ أنْ تقولوا به على البعضِ والكلِّ (¬5)، لأنَّ ذلك يلزمكم به القول بالوقف، وأنتم لا تقولونَ بذلك. ¬

_ (¬1) في الاّصل: "أخبار". (¬2) في الأصل: "حينآ". (¬3) في الأصل: "وجدناه". (¬4) في الأصل: "فإن". (¬5) في الأصل: "ولكل".

فيقال: إنَّ صيغةَ العمومِ كما تُعطي الاستغراقَ لجميعِ (¬1) أعيانِ الجنس الذي تناولَه العمومُ، فصيغة الأمرِ تعطي تعميمَ جميع الأزماَنِ، والبقاءَ على التأبيدِ، ثم إنه قد جاز تأخيرُ بيانِ المدةِ بتخصيص الأزمانِ بما يتأخرُ عن اللفظِ من النسح، كذلك التخصيصُ، ولا يَتَحَصَلُ الفرق على ما قررناه من إبطالِ فروقِهم كلِّها، واختلافِ أجوبتهم في ذلك. على أنه لا فرقَ بين بيانِ المجملِ والعموم، فإنَّ ما يُرادُ به دليلُ التخصيصِ، لا يخرج عندنا ما بقي عن أنَّ يكون عموماً حقيقة صالحاً للابتداء به (¬2)، وجميعُ ما يُفسرُ به [المجمل] صالحاً لكونه حقاً حقيقة، يبقى علينا أن الظاهرَ: استغراقُ الجنس والطبقةِ في العموم، وليس لنا ظاهرٌ في مقدار الحقِّ، وهذا القدرُ من الفرقِ لا يعطي إلا الاختلافَ في مرتبة الجهل، وإلا فهما متساويانِ في أصلِ الجهل، والقبحُ يعمُّ القليلَ من الجهل والكثير. وأمَّا قولكم: لا يمكنه الشروعُ وتنفيذ الأمرِ في المجمل، فلا فرقَ، بل يمكنُه الشروعُ في التصدُّقِ بثمرةِ بستانِهِ، والحَب الذي خرجَ من أرضه، مارّاً إلى استغراقه، إلى أن يردَ الدليلُ بمقدار يبينُ له عن بقيَةٍ يخرجُها، أو يقال له: حَسْبُك، فالذي أخرجتَه هو الحقُّ الذي أردناه، وكلُّ مقدار أخرجه، يجوزُ أن يكونَ هو الحقَّ، ويقعُ عليه الاسمُ، كما أنَّ ما شملَ مِن القتل لمشركَيْنِ فصاعداً، يجوز أن يكونَ هو المرادَ بما يأتي من ذلك التخصيصِ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بجمع". (¬2) وقع في الأصل بعد قوله: "به": "عموماً حقيقة"، ويغلب على الظن أنها زيادة من الناسخ لا وجه لها، لتقدمها في السياق، لذلك حذفتها.

* فصول في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -

فصول أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فصل في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وهي على أَضْرُبٍ: فما فعله على غير وجه التعبُّد، كالأكل والشرب، والنوم، وما شاكل ذلك: فهو دالٌّ (¬2) على الإباحةِ له ولأمته، فيكْون مباحاً لأمته فعل ذلك، إلا أن يردَ دليلُ تخصيصٍ يخصُّه به. وما فعله على وجهِ التعبدِ: فإنْ فعَلَه بياناً لمجملٍ، أو امتثالاً لأمرٍ، نَظَرْتَ: فما كان من أمرِ الوجوب، وبيانِ المجملِ الواجب، كان ذلك الفعلُ واجباً عليه، وعلى أمته جميعاً. وما كان أَمْرَ ندبٍ، كان ندباً له ولأمته. وإن كان الفعلُ ابتداء، فعلى روايتين: إحداهما (¬3): أنه دالٌّ على الوجوبِ في حقِّه وحقِّ أمته، إلى أن تقوم دلالةٌ على تخصيصه به، وبهذه الرواية قال أصحاب مالك (¬4). ¬

_ (¬1) "المسودة" (187)، و "العدة" 3/ 734. (¬2) في الأصل: "ذاك". (¬3) في الأصل: "احدهما". (¬4) "شرح تنقيح الفصول" (288).

* فصل في جمع أدلتنا على أن أفعاله على الوجوب ومشاركة أمته له في ذلك

الثانية: أنه يقتضي الندبَ في حقِّه وحقِّ أمته -وجميعاً منصوصٌ عليهما، وهذه اختيارُ أبي الحسن التميمي -إلا أنْ تقومَ دلالة على الوجوب على أمته، ومشاركتهم له في ذلك، وبهذه الرواية قال أصحابُ أبي حنيفة، فيما حكاه أبو سفيان السَّرَخْسي عنهم (¬1). وذهبت المعتزلة (¬2) والأشعريةُ: إلى أن ذلك على الوقف، ولا يحمل على الوجوب، أو الندب إلا بدليل. واختلَفَ أصحابُ الشافعيِّ على مذاهبَ ثلاثةٍ: أحَدُها: أنه على الوجوب، والثاني: أنه على الندب، والثالث: على الوقف (¬3). فصلٌ في جمع أدلتنا على الروايةِ الأولى، وأن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، ومشاركة أمته له في ذلك. فمنها: سمعي: وهي الآيُ الدالة على اتباعه، والتأسِّي به - صلى الله عليه وسلم - من ذلك: قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ¬

_ (¬1) هناك رأيان للحنفية في هذه المسألة: الأول: الندب. والثاني: الإباحة، وهو الصحيح عندهم، وبه قال الجصاص وجل الحنفية. "تيسير التحرير" 3/ 123، و"مسلم الثبوت" 2/ 181. (¬2) "المعتمد" 1/ 377 لأبي الحسين البصري. (¬3) "التبصرة" (242)، و"الإحكام" للآمدي 1/ 248.

[الأحزاب: 21]، وهذا زجرٌ في طَيِّه (¬1) أمرٌ؛ لأنه يعطي: [أَنه] إنّما يتأسَّى به من كانَ يؤمنُ بالله واليومِ الآخر، ومن لم يتأسَّ به، فلا يؤمِنُ بالله ولا باليومِ الآخِر، والأمرُ المطلقُ يدل على الوجوبِ بما قدمنا. فإن قيل: الاتباعُ المأمورُ به هو مشروطٌ بأنْ يعلمَ المكلَّفُ على أيِّ وجه فَعَلَه ليصحَّ الاتباعُ له، وأعمال القُرَبِ والعباداتِ ليست صوراً، بل المعوَّل فيها على المقاصدِ والنياتِ، فإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ونحنُ لا نعلمُ هل يتنفلُ أو يفترضُ؟ أو وجدناه يتصدَّقُ، فلم نعلم يكفِّرُ عن حِنْثٍ، أو يزكِّي عن نصابٍ؟ أو وجدناه جالساً في المسجدِ، فلم نعلم أمعتكف هو، أو جالس لشأن له يخصه؟ لم يكن فعلنا كما فعل؛ لأنَّنا إنْ فعلنا ذلك صورةً مع انعدام النية والقصد المعيِّن للفعل بنفلٍ أو فرضٍ، لم نكن متعبِّدين حَسَب تعبُّده، ولا عالمين بحصول شرطِ اتباعه، فلا يكشف ذلك ويُبيِّنُه إلا قولُه - صلى الله عليه وسلم - وإعلامُه، كما نحر بُدْنَهُ يَوم عُمْرة القَضِيّهِ اتباعاً لأمرِ الله (¬2)؛ حيث أمره أن ينحرها حيثُ حصر، وحيث بلغ، لَمَّا كان الهديُ معكوفاً أن يبلغ مَحِلَّه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3)، وقولُه للسائل عن الصلاة: "صلِّ معنا" (¬4)، وقوله: "خذوا عني مناسككم" (¬5). فيقال: إنَّ الاتباعَ في الصورةِ كاف بنية المتابعةِ، فإذا اعتقدَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "طي". (¬2) تقدم في الصفحة:28. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 174. (¬4) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬5) تقدم تخريجه 1/ 194.

المكلَّفُ بالصلاةِ اتباعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، واعتقدَ وجوبَ اتباعِه فيها، كفى، إلى أنْ تقومَ دلالة على بيان اعتقادِ شيءٍ آخَرَ، فإن بانَ أنَّه كان يَتَنَفَّلُ، كنا متنفلين، وإنْ كانَ واجباً، فقد أخذنا بالنية القصوى، وهي نيّةُ الإيجابِ، وإنْ كان أمراً يخصُّه، أَشْعَرَنا، كما رويَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنَّه قال في إحرامِه: إهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1)، فأَبْهَم الإهلالَ مبادراً بالاقْتداءِ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوقفَ كيفيةَ النُّسكِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكما أنَّا نفعلُ العبادةَ ونحنُ لا نعلَمُ نسخَها على جهةِ الوجوب، فإذا بانَ نسخُها، أو نسخُ شرطٍ من شروطِها، لم يضرَّنا ذلك. والصحابةُ عَقَلَتْ ذلكَ، فخَلَعَتْ (¬2) نعالَها حيث خلَع نعلَه، إلى أن كشفَ عن علَّةِ خلعه، فأصابوا في أصلِ الاتباعِ، إذ لم ينكره عليهم، بل سألهم، ثمَّ بيَّن لهم علَّةً انفردَ هو بها (¬3). وكذلكَ لَمَّا أَمَرَهم بفسخِ الحجِّ إلى العمرة، قالوا له: ما بالُكَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1558)، ومسلم (1250) من حديث أنس رضي الله عنه، قال: قدم علي رضي الله عنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال: "بمَ أهللت؟ " فقال: أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لولا أن معي الهدي، لأحللت". (¬2) في الأصل: "فجعلت". (¬3) يريد بذلك ما رواه أحمد 3/ 20، وأبو داود (650) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن جبريل عليه السلام أتاني, فأخبرني أن فيها قذراً". وإسناده صحيح.

أمرْتَنا بالفسخ ولم تفسخ؟ فلم يُجبهم بأنَّني متميِّزٌ عنكم، ولا داخلٌ معكم، ولا (¬1) حكمي يخصُّني، ونسكي على وجه لا يلزمُني أنْ يكون على وجه نسكِكم، ولي حكمي ولكم حكمُكُم، بل قال قولاً يعطي عذراً اختصَّ به (¬2)، وهذا بيانٌ منه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ حكمَه حكمُهم لولا معيقٌ أعاقَ، فقال: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لما سُقْتُ الهَدْي، لكنِّي سقت هديي، ولبدْتُ رأسي، فلا أُحِلُّ حتى أنْحَر" (¬3). وقالوا له: نهيْتَنا عن الوِصال وواصلتَ، فقال: "لست كأحدكم، إني أَظَلُّ عندربي يطعمني ويسقيني" (¬4)، وقال لأمَّ سَلَمة لما سُئلتْ عن قبلةِ الصائم، قال لها: "لِمَ لاَ تَقُولينَ (¬5) لهُم: إئي أُقَبلُ وأنا صائم؟! " (¬6). ولو لم يكن مُتَّبَعاً في أفعالِه، لما كانَ إعلامُهم بذلك جواباً عمّا سألوه، وإنَّما هذا دلالةٌ على أنَّ الأمرَ كان مستقِرّاً على أنَّ أفعاله مُتَّبَعةٌ. وقال لها لما سألته عن حكم الشَّعْرِ في الاغتسالِ: "أما أنا فيكفيني أنْ أحثوَ على رأسي ثلاث حَثَيات من ماء" (¬7). ولما أمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بالنحرِ للهدي الذي حُصِرَ عن مَحِلِّه، فتوقفوا، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بل". (¬2) تقدمت الإشارة إليه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني سقت الهدي فلا أحل حتى أنحر" انظر 2/ 26. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 26. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 26. (¬5) في الأصل: "تقولي". (¬6) تقدم تخريجه 3/ 103. (¬7) تقدم تخريجه 2/ 23.

أشارت عليه أُمُ سلمة بأنْ يخرجَ فيذبحَ، فخرجَ فذبحَ هديه، فاتبعوه في ذلك (¬1). ولمَّا سمع تحرُّجَهم من استقبالِ القبلةِ في البنيان بالحاجة، ورويَ (¬2): أنهم تَحَرَّجُوا من استقبالِ بيت المقدس بالحاجة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَقد فعلوها؟ حَوِّلُوا مَقْعَدتي (¬3) إلى القبلة" (¬4)، فجعلَ تحويلَ مقعدته مبالغةً في البيانِ لهم، ولو لم يكن حكْمُهُم حُكْمَه، لما كان في ذلكَ بيانٌ للجوازِ، وهذا كُله يرجعُ إلى أنّه يُتَّبعُ في أفعالِه، كما يُتَّبع في أمره. وممَّا يَعضُد هذا: أنَّهم لما اختلفوا في الإكْسَال والإنزال، وقال قوم: الماءُ من الماءِ، وقال قوم: إذا التقى الخِتانان، وجب الغسل أنزلَ أو لم يُنزِلْ، وكَثُرَ خِلافُهم في ذلك، أنفذَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فسألها فلمَّا أخْبَرَت بأنها كانت تفعلُه ورسولُ الله، وأن التقاءَ الخِتانين بمُجرَّدِه كان يغتسل منه (¬5)، لم تَزِد على الإخْبارِ بفعْلِه، فأخذَ عمرُ النَّاسَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2731)، وأبو داود (2765) من حديث سلمة بن الاكوع رضي الله عنه. وانظر 3/ 258. (¬2) في الأصل: "فروي". (¬3) في الأصل: "مقعدي". (¬4) أخرجه أحمد 6/ 239، وابن ماجه (324) من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث أعلّه البخاري وأحمد، وصحح البخاري وقفه، وزعم ابن حزم أنه ساقط، لكن قال النووي رحمه الله تعالى: إسناده حسن. هذا وقد فصَّل الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المحلى" 1/ 195 - 198 الأقوال في الحديث ورجّح أخيراً: أنه صحيحٌ على شرط مسلم. (¬5) أما حديث عائشة رضي الله عنها: فأخرجه أحمد 6/ 161، والترمذي =

بذلك، ونهى زيدَ بنَ ثابت عن الفتوى في ذلك بغير ما خبَّرت به عن رسول الله، فصارَ فعلُه في ذلك كقوله بإجماع الصحابة. فهذه الرواياتُ صالحة للدلالةِ في المسألةِ، لكنَّني جعلتُها جواباً عمَّا ذكروه، وكاشفةً عمَّا أغفلوه من الآي. وليسَ لهم أنْ يقولوا: إنها آحاد، وإنّنا نتكلَّم في أصلى لا يحتملُ خبرَ الواحد، لأنَّ هذه أخبار متلقاةٌ بالقبولِ، كَثُرَتْ طُرقهَا، وصحَّ سندها، فهي كالمتواترة. على أنه لا تُطْلب لأصولِ الفقهِ الأدلةُ القطعيةُ، إذ ليست كأصولِ الدياناتِ (¬1)؛ بدليلِ أنَّه لا يُفَسَّق المخالفُ فيها ولا يكفَّرُ، ومبناها ¬

_ = (108)، وابن ماجه (608) من طريق الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحافظ في "التلخيص" 1/ 134: وصحَّحه أيضاً ابن حبان وابن القطان، وأعلَّه البخاري؛ بأن الأوزاعي أخطأ فيه. ورواه غيره عن عبد الرحمن ابن القاسم مرسلاً، واستدل على ذلك: بأن أبا الزناد قال: سألت القاسم بن محمد: سمعتَ في هذا الباب شيئاً؟ فقال: لا! وأجاب من صحَّحه: بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه، ثم تذكر، فحدث به ابنه، أو كان حدث به ابنه ثم نسي بعده. أمّا القصة وأصل الخلاف، دون ذكر نص الحديث: فقد أخرجها أحمد 5/ 115 - 116، والترمذي (115)، (111)، وابن ماجه (609) من طريق الزهري، عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب. (¬1) هذا على مذهب المتكلِّمين: من أنَّ الأصولَ الاعتقاديةَ تحتاجُ إلى نقل قطعيِّ الثبورت، ومذهبُ أهل الحديثِ: أنّه لا فرفَ بينَ الأصول والفروع، بل =

على لغاتِ العربِ المنقولةِ، والاستدلالاتِ الإقناعيةِ دونَ الدلائلِ القطعيةِ. ومنها: قولُه تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، فلو لم يكُن فعلُه (¬1) تشْريعاً وواجباً اتِّبَاعُه، لَمَا كان تزويجُه بها (¬2) مزيلاً عنَّا حرجَ التزويج بأزواجِ أدعيائنا. وهذه آكد آيةٍ في هذا المذهبِ، فكأنَه سبحانه يقولُ فيما يفعله، كيف (¬3) نفعلُه، فالمباحاتُ لك إباحةٌ لهم، فيعطي ذلكَ: أنَّكَ المتَّبعُ قولاً، وفعلاً: وجوباً، واباحةً، وندباً. ¬

_ = هذا التقسيم كله من اختراع المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. هذا وقد بَسط الأدلة على وجوبِ الأخذ بخبر الواحد مطلقاً: الإمامُ الشافعي في "رسالته" في الأصول، وابن القيم في "الصواعق المرسلة". وذكر الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (107): أنَّ له رسالة مستقلة في البابِ، أسماها: "الأجوبة الرضية عن المسائل الصعدية"، والله أعلم. (¬1) في الأصل: "قوله". (¬2) في الأصل: "لها". (¬3) في الأصل: "فكيف".

* فصل في الاستدلال بغير السمع

فَصْلٌ في الاستدلالِ بغيْرِ السَّمْعِ فمن ذلكَ: أنَّه إذا فعلَ ذلكَ، لم نأمن أنْ يكونَ واجباً، فإذا أخللنا باتباعِه، كانَ وبالاً علينا بإيجاب العقوبةِ، واتباعُه احترازٌ واحتياطٌ، والتَّحرُّزُ من المضارِّ واجبٌ (¬1)، فكيفَ الَّتحرزُ من عقابِ الله؟ ولذلك وجَبَ فعلُ خمس صلواتٍ على مَن نسيَ صلاةً من يوم، وصومُ ثلاثين (¬2) يوماً احتياطاً للصوم، وحرَّمنا جميعَ زوجاتِ من طلَّقَ واحدةً منهنَّ وأُنسيها، فالاحتياطُ أصلٌ من أصولِ الشريعة مرعيٌّ عندَ العلماءِ. فإنْ قيلَ: لسنا ننكرُ الاحتياطَ لما وجبَ لئلا، يُخَلَّ به، فأمَّا الاحتياطُ لما عساه يكونُ واجباً، أو غيرَ واجب، فكلا (¬3)، وها هنا ما وجبَ شيءٌ، لكنَّنا نجوِّزُ أنْ يكونَ واجباً، والتًجويزُ لا يكونُ موجِباً. ولأنَّه لا يجوزُ الاحتياطُ باعتقادٍ، بل غاية ما يقعُ الاحتياطُ بالأفعالِ؛ لأنَّ الاعتقاداتِ كيفَ حصلت؛ لإسقاطِ وجوبٍ، أو (¬4) إثباتِ وجوب، على حدٍّ سواء، فإن اعتقد وجوبَ ما ليسَ بواجب، كفرَ، وإن اعتقدَ نفيَ وجوبِ الواجبِ كفَرَ، فلا يتحقَّقُ التحرز والاحتياطُ في الاعتقادِ، وقد يكونُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَه نافلةً، فيعتقدُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "واجبه". (¬2) في الأصل: "وصوم أحد وثلاثين"، وهو خطأ. (¬3) في الأصل: "فضلا". (¬4) في الأصل: "و".

المكلَّفُ وجوبَه، فهذا تغريرٌ بالأديانِ. فيقال: إن الاحتياطَ واجبٌ بفعلِ ما ليسَ بواجبٍ خوفاً أنْ يكونَ واجباً، ولهذا نتحقَّقُ أنَّ أربعَ صلوات ليست (¬1) واجبة، ونصليها خوفاً أنْ يكونَ فيها واجب، ولا نَتحقَّقُ أن يومَ الثلاثينَ من رمضان مع حصولِ الغَيْم في ليلتِه، ونوجب صومَه عن رمضان. ولا يضرُّنا اعتقادُ وجوبِ اتِّباعه - صلى الله عليه وسلم - ان جازَ أنْ يكونَ في ذلكَ الفعلِ متنفلاً، كما لا يضرُّنا فعلُ العبادةِ مع الغيبةِ عن مكانِه - صلى الله عليه وسلم - وما يقاربه واعتقاد بقاءِ وجوبها، وأنَّ الصلاةَ الفائتةَ في الخمس، واليومَ يجوزُ أنْ يكونَ من رمضان، فنفعلُ ونعتقدُ الأكثرَ، ليحصُل التَحَقُّقُ. كذلكَ إذا فعلناه على أنَّه واجب دخلَ فيه الندبُ، فإذا فعلناه على وجهِ النَّدب، واعتقدناه ندباً، لم يدخل فيه الواجبُ، ولا يحصلُ اعتقادُ الوَجوبِ، فوجبَ أنْ نأتيَ بالأعلى ليتحققَ الأَدْنى، كما وجبَ فعل الأكثر واعتقادُه، ليتحقق ما في طيِّه من الأقلِّ، مع تجويزنا النسخَ المخرِجَ لها عن كونها واجبة، على أنَّه ليس باحتياطٍ مع عدمِ الدليل، وما يصلحُ للإيجابِ، لما نبيِّنه من الدليل الثاني. ومن ذلكَ: أنَّ أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كأقوالِه؛ من أنَّها تقضي على أقواله وكتابِ الله تعالى، وتُؤثِّرُ أثَرَ أقوالِه، وهو تخصيصُ العموم، وتفسيرُ المجمل، وما (¬2) جرى مجرى الأقوال في هذينِ الحكمين والقضائين، كانَ طريقاً للوجوب، ونصوغُه قياساً، فنقول: ما صلُح لتخصيصِ العمومِ وتفسيرِ المجَمل، دلَّ إطلاقُه على الوجوبِ، كالقولِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ليس". (¬2) في الأصل: "واذا".

فإنْ قيل: القولُ ذو صيغةٍ تنبىء عن الوجوبِ، والفعلُ صورة لا تعطي وجوبَ الجوابِ، فضلاً عن الاتِّباع، والقولُ خطابٌ يقتضي الجوابَ، فإذا قال: افعلوا، اقتضى ذلكَ أن يقولوا: سمعنا، وأطعنا، واستجبنا، والفعلُ لا يقتضي جواباً، فكيف يقتضي وجوباً؟ بل هو متردِّدٌ في نفسِه، فلو (¬1) ترجَّحَ إلى الوجوبِ، تردَّدَ بين الوْجوبِ في حقّه خاصةً، وبينَ وجوبهِ على غيرِه، فبانَ الفرقُ بينهما. قيلَ: ومع هذه الحالِ قد قضىِ بتفسيرِ المجمل، وقضى على الصيغة العامة بالتخصيص، فإذا كان له رتبةٌ تقضي على الصيغ، لمَ لا يكون له حكمُ الصيغ؟ ومن ذلك: أنَّ النبوَّة رتبة للإبلاغِ والاستتباعِ، وإذا لم توجب اتباعَه فيما يفعلُه من القُرَبِ والعباداتِ، كان إسقاطاً لرتبتِه وحرمتِه، وإهمالاً لاتِّباعه، لا سيَّما وقد كانَ إذا جلَسَ وهم حولَه، لم يجز أنْ يخرجَ أحدٌ عنه إلا بإذنه، حتى ذمَّ الله قوماً من المنافقين يخرجونَ لائذين بالخارجين بإذنه، فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، فسمَّى جلوسَه وجلوسَهم معه أمراً، وذمّ مفارقتهم له بغير إذن، فإذا قامَ مصلِّياً والجماعةُ جلوس، أو قامَ يطوفُ (¬2) وهم يتسامرونَ، فلا أحدَ يقومُ معه، فيتَّبِعُه في ذلك النُّسْكِ، كانَ من أكثرِ الإهمال، وأوهنِ الإغفالِ لرتبته - صلى الله عليه وسلم -، حتى إنه لما دعا رجلاً وهو في الصلاة، فلم ¬

_ (¬1) في الأصل: "ثم لو". (¬2) في الأصل: "نظرت".

يُجبْه عاتبه (¬1) على ترك جوابه، فلما اعتذر بكونه في الصلاة، قال: "أَما سمعتَ اللهَ عزَّ وجل يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] " (¬2) فالوجوبُ بفعلِه أشبهُ من النَّدب، إذ كانَ المندوبُ مخيَّراً بين اتباعِه وتركِه، والايجاب ما حَتَّم الفعل، وضُيقَ على الأمة تركُه، فلا يحتملُ [إِلا] تبجيلَ النبوة، وإعظامَ شأنِها. وأوردَ بعضُهم في النظرِ على هذهِ الطريقةِ سؤالاً صالحاً، ويصلحُ أن يكونَ من جملةِ ما يحتجونَ به، وذلكَ: أنَّه لو كانَ تركُ الاتِّباعِ له إهمالاً، أو إسقاطاً لحرمةِ النبوةِ، لوجبَ إذا كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تاركاً لتعبُّدٍ لا يُعلم سببه؛ إمَّا (¬3) لاستراحةٍ، أو لاستطراحٍ، أو قيلولة، أنْ يكونَ التركُ للتعبُّد في حقِّنا حالَ تركه واجباً، والفعلُ للعبادات في تلك الحالِ افْتِئاتاً (¬4) عليه وتعاطياً، وعساه كان ترْكُه في تلك الحال لِعِلْمِه أنَّ التعبدَ فيها مفسدةٌ، كما كانَ بعضُ الأوقاتِ يُنهى فيه عن التعبداتِ؛ كصومِ العيدينِ، وأيام التشريق، والصلاةِ في الأوقاتِ المذمومة (¬5)، وإذا لم يكن الاقتداء به في التركِ واجباً، وإن جازَ أنْ يكون تركه في ذلك الوقت واجباً، ولم يكن افتِئَاتاً عَليه، ولا مراغمةً له، ولا إهمالاً لحرمته، ولا وهناً في رتبته، فكذلكَ تركُ اتباعِه في فعلٍ لا يُدركُ على أيِّ وجهٍ فعلَه، لا يكونُ حَطّاً، ولا إهمالاً، ولا طَعْناً في رتبته - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عتبه". (¬2) تقدم تخريجه 3/ 19. (¬3) في الأصل: "فإما". (¬4) في الأصل: "امتناناً". (¬5) في الأصل: "المعلومة".

ولأنَّ التركَ بصورتهِ عدمٌ مطلَقٌ ونَفْيٌ لا يدكُ على أن وراءه مكابدةُ نفسٍ في كفٍّ، وبهذا فارقَ القولَ؛ فإنَّه لو صرحَ بالأمرِ بالتركِ، وجب اتِّباعُه، ولو ترك بغيرِ قولٍ، لم يوجِبْ ذلكَ التَرْكُ اتِّباعَه فيه (¬1). ولأنَّه قد يكونُ التركُ تعبداً، وإن كان رفاهيةً وراحةً، كقصرِ [الصلاة في] السفر، والرخص التي عاتبهمْ (¬2) على تركها، وقال: "إن الله يكره أن تتركَ رخصه" (¬3)، وقال: "من ذا الذي رد على الله رخصته؟ " (¬4)، وبلغَه أنَّ قوماً صاموا، فقال: "أُولئك ¬

_ (¬1) في الأصل: "واتباعه وفيه". (¬2) في الأصل: "عتبهم". (¬3) الحديثُ ورد بعدة ألفاظ، منها: عن ابن عمر عند أحمد في"المسند" 2/ 108 ولفظه: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته". وأخرجه ابن حبان في عدة مواضع من "صحيحه" عن أكثر من صحابي منها هذه الرواية (2742). وعن ابن مسعود عند الطبراني في "الكبير" (10030)، وأبي نعيم 2/ 101 مرفوعاً بلفظ: "إنَّ الله عز جل يحب أن تقبلَ رخصه، كما يحبُ أن تؤتى عزائمه". وروي موقوفاً، وهو أصح. وعن ابن عباس بلفظ: "إنَّ الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" عند ابن حبان (354)، والطبراني في "الكبير" (11880)، وأبىِ نعيم 8/ 286، والبزار (990). وإسناده صحيح. وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 162: ورجال البزار ثقات، وكذلك رجال الطبراني. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ. لكن ورد عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر: إقصار الناس الصلاة، وانما قال الله جل وعلا: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ =

العصاة" (¬1)، وقال: "ليسَ من البرِّ الصومُ في السفر" (¬2)، وهو تركُ تعبد. فيقال: أمَّا [إن] التركَ هو الأصلُ، وليس يُتعبَّدُ به إلا في نوادرِ أحوالٍ لا على (¬3) الإطلاق، فلا (¬4) يُسَلَّم، بل إنْ تَرَكَ في خلال فعل ما يشاكلُ ذلكَ الفعلَ، أو فعلَ فعلاً في مكان، أو مع شخصٍ، وتركَه في مكانٍ آخرَ، ومع شخص آخر، دلَّ على وجوب تجنُّبه، مثل أنْ وقفَ بعرفة، وتجنب عُرَنة، وأجابَ شخصاً دعَاه، ولم يستجب لآخر، وقصرَ الصلاةَ في سفرٍ، ولم يقصرها في سفر، كان ما تَرَكَه واجباً تركهُ، كما أنَّ ما فَعَلَه واجبٌ فعلُه، وإنْ كانَ تركهُ لا مغايرة بينَ مكانين، ولا زمانين، ولا شخصين، فإنَّما لم يدلَّ على الوجوبِ، لأنَّه إن (¬5) كان التركُ لا لتفرقةٍ بين فعلين، فإنما لم يدلَّ، لأنَّه كان يفضي إلى أنَّ تركَه للقولِ أيضاً يدلُّ على وجوب الترك، فلا يبقى لنا معه باقٍ ولا فعل، فإنْ كانَ قول يتعقَّبُه سكوتَ، فكانَ إذا أمرَ وجبَ، وإذا سكتَ سقطَ، فلا يستقرُّ لنا شرعٌ. على أنَّه قد اعتَذر عن التركِ ببيانِ علَّةِ الترك، حيث لم يأكل ¬

_ = كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد ذهب ذاك؟ فقال: عجبت منه حتى سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" رواه مسلم (686)، وأبو داود (1199)، وأحمد 1/ 36. (¬1) أخرجه مسلم (1114) (91)، والترمذي (710). (¬2) أخرجه البخاري (1949)، ومسلم (1115). (¬3) فى الأصل: "وعلى". (¬4) في الأصل: "لا". (¬5) في الأصل: "لأنه هو وإن".

الضبَّ، ثم قال: "إني أجد نفسي تَعافُه، لأنه لم يَكُن في أرضِ قومي" (¬1)، واعتذر عن تركِ فسخِ الحج إلى العمرة بسوقه للهدي (¬2)، وهذا يعطي أنَّ تركَه [لا] يجبُ الاقتداء به، فإنَّه يوهمُ التحريم في المتناوَلاتِ (¬3)، والإسقاطَ في العباداتِ، أو تحريم الفعل (¬4) لنا، مع أنَّه قد كانَ ينفر من تعاطي كثرةِ العبادات، ويكره التبتُّلَ، وشدةَ التقشفِ، والترهبنَ، ويذمُّ عليه كلَّ سالكٍ سلكه. ولأنَّ التركَ يخالفُ الفعل؛ من حيث إنَّه لا يحصلُ به تفسيرُ مجملٍ، ولا تخصيصُ عموم، وإنما هو نفيٌ وعدم، ولأنَّ القائلينَ بالندبِ، لم يجعلوا تركَه للتعبُّدِ مؤذناً بالندب لنا على الترك لما هو عبادة؛ من صلاة، أو ذكر، أو تلاوة، فنكون مندوبين إلى الاستناد والاتكاء ما دام متكئاً، ومضطجعين ما دام مضطجعاً، لا يجوز لنا الاجتهاد حال تركه، بخلاف التعبد منه. فقد بانَ الفرقُ بين الفعلِ والتركِ في حقِّه - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك: أنَّ ما فعلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حقٌّ وصوابٌ، ومصلحةٌ في الوقت الذي فعله على الوجه الذي فعله، هذا متحقِّق، فلا يؤمَن مع هذه الحال أنْ يكونَ اعتمادُنا إلى تركِه مفسدةً لنا في الدين والدنيا، وهذا هو الظاهرُ، فوجَبَ اتباعه، لنَحْظى بنيلِ الأصلحِ، ونأمَنَ مواقعةَ الأفسدِ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 4/ 88 - 89، والبخاري (5537)، ومسلم (1945)، وأبو داود (3794) عن عبد الله بن عباس، عن خالد بن الوليد رضي الله عنهما. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 26. (¬3) في الأصل: "المتاولات". (¬4) في الأصل: "بفعل".

فإنْ قيل: وكم من مصلحةٍ له تخصُّه - صلى الله عليه وسلم -، [هي] مفسدةٌ لنا، وكم من شيء يكونُ صلاحاً لنا دونه، وقد عُلِمَ ذلك بمخالفةٍ بيننا وبينه في تحريم أَشْيَاءَ عليه، هي مباحة لنا، كالصدقةِ، ونكاح الإماء، و [تحريمِ] أَشياءَ [علينا، هي] مصلحة له، وهي مفسدةٌ لنا، كالتزويجِ بغير حصر بعدد، ومثل أخذِ الماءِ من العطشان (¬1)، ومنها أشياء وجبت عليه، كالوتر، وقيامِ الليل، ولم تجب علينا، والسواك، إلى ما شاكل ذلك، فلا نَأْمَنُ أن نواقعَ باتباعه مفسدةً لنا، وإنْ كانَ الفعلُ مصلحةً له، فبان من هذا: أنَّه لا يلزم أنَّ ما كانَ في حقِّه مصلحةً، يكونُ مصلحةً فى حق كلِّ مكلَّف. فيقال: إنَّ من كان قدوةً ومناراً للاتِّباع، لا يقعُ منه فعلٌ تخصُّه مصلحته، فيجوز له الإمساكُ عن بيانِ التخصيص له بذلك، وتخصيصِه لمصلحةٍ فيه، لا سيَّما إذا كانَ في حقِّ غيره مفسدةً، والدليلُ عليه: أنَّ المُتَّبَعَ إذا كانَ أتباعُه معه في طريقٍ وهو محتذٍ مُنتعِل، وهم حفاةٌ، فوَطِىءَ شَوْكَاً ومَدَراً، لا يُؤْذي المُحْتذيَ المُنتعِلَ، ويؤذي الحُفاةَ، لم يجز له المشي والإمساك (¬2)، فيكون غروراً لمن يتبعه، إذ علم أنَّ المُتَّبعَ له يتأذى لعدم الحِذاءِ، ومكان الحفَاَءِ، وكذلك من شربَ من ماء ينتفعُ هو به، أَو أكل ثَمَرةً (¬3) يعلم أنَّها توافقُ مزاجَه، وله تبع يعلم أنَّهم يستضرون بذلكَ الماءِ والثمرِ، فإنَّه يقْبُحُ ذلكَ منه، إذا علمَ أنَّهم يَغْترُّونَ (¬4) بتناولِه، وأنهم قد يَتَّبِعُونَه في ذلك، فكيف إذا عَلِمَ أنهم على الاتِّباع له لا مَحَالَةَ؛ فبان بهذا: أنَّه ¬

_ (¬1) انظر "الخصائص الكبرى" للسيوطي 2/ 244 و 245. (¬2) أي: الإمساك عن بيان التخصيص له بذلك. (¬3) في الأصل: "مرة". (¬4) في الأصل: "يعثرون".

* فصل في شبهات المخالفين لنفي الوجوب

لا يجوزُ له التناولُ مع الإمساك، فلا يجوزُ له ها هنا الفعلُ مع مشاهدتِهم له، مع الإمساك عن إعلامِهم بتخصيصِه بالانتفاعِ بذلك، أو عدم الاستضرار. فصلٌ في شبهاتِ المخالفين لنفيِ الوجوبِ وهم ثلاث طوائف: قائلونَ بالوقف، وقائلون بالندبِ، وقائلون بالإباحةِ. فأمَّا أهلُ الوقفِ: فإنَّهم قالوا: إنَّ صورةَ فعلهِ - صلى الله عليه وسلم - لا تعطي حكماً، لأنَّ صورتَها في الواجبِ والندب والإباحةِ سَواء، ولا يمكنُ صرفُها إلى أحدِ هذه الأحكامِ إلا بدلالةٍ، ألا ترى إلى ما رويَ عنه - صلى الله عليه وسلم - كيفَ وصل الأفعالَ بالأقوال؟ فقال في أفعالِه ومناسكه: "خذوا عني مناسككم" (¬1)، وصلى، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2)، وصلى به جبريل، وقال: "الوقت ما بين هذين" (¬3)، وقال: "إنَّما جُعلَ الإمامُ ليُؤْتمَّ به، فإذا كبَّر فكَبِّروا، وأذا قرأ فأنْصِتُوا، وأذا صَلَّى جالساً، فصَلُّوا جُلُوساً" (¬4)، ولو كان للفعْل مقتضىً كالقولِ، لما احتاجَ إلى هذا كلِّه، وكفاه الفعلُ. قيل: وقد وصلَ القولَ بالفعل، حيث قال: "الشهرُ تسع ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه 1/ 194. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 174. (¬3) تقدم تخريجه 3/ 92. (¬4) أخرجه أحمد (8889)، وأبو داود (604)، وابن ماجه (846)، والنسائي 2/ 142 من حديث أبي هريرة.

وعشرون"، ثم قال: "هكذا وهكذا"، يشير بأصابعه فعلاً (¬1)، وقال قولاً، وشبَّك بين أصابعه (¬2)، وبيَّن آيةَ الوضوءِ بفعله (¬3)، ولم يدلَّ ذلك على أنَّ القولَ ليس بدلالةٍ بنفسه. وهذا يتحقق بشيء حَقَّقْناه لهم، وهو: أنَّ الإباحة إذن وإطلاقٌ على مذاهب الناس كلِّهِم، سوى من قال: ليس لنا فعلٌ مباحٌ، وهو الكَعْبِيُّ، وقد أجمع أهلُ الإثبات للإباحة: أنَّ ذلكَ لا يحصلُ إلا بإذنٍ سمعي، ولا سمعَ بالإذنِ لنا في فعلِ مثلِ ما فعلَه - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا الندب: فهو نوعُ استدعاءٍ وحثٍّ من غير حَتْم؛ وهو استدعاء على صفةٍ، والفاعلُ إذا لم يكن [في] فِعْلِه إشارةٌ مفهومة تعطي الاستدعاءَ، كان صورةُ فعلِه هيئةً من هيئاتِهِ، يصحُّ أنْ تكونَ مُسْتَدْعاةَ منه باستدعاءِ غيره، وهو الأعلى الطالبُ منه تلك الهيئة باكتسابه لها، فأمَّا أنْ تقعَ استدعاءً وطلباً لمثلها من غيره، فليسَ ذلكَ وضعاً، ولا عُرفاً، وإنَّما تصيرُ الأفعالُ كالاستدعاءِ، إذا عُلِّقَ الأمرُ الصَّريحُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬2) لعله يريدُ بذلك ما ورد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيف بكم وبزمان -أو قال: يوشك أن يأتي زمان- يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، فصاروا هكذا" وشبك بين أصابعه ... إسناده صحيح، رواه أحمد 2/ 221، والحاكم 4/ 435. وعن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وشبك بين أصابعه. أخرجه البخاري (2446). (¬3) تقدَّمت الإشارة إليه في حديث: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي". انظر 2/ 172 - 173.

عليها، فقيل: إذا أنا قمتُ فصلِّ، وإذا قَعَدْتُ فصدِّقْ، أو إذا قمتُ فقُمْ، وإذا قعدْتُ فاقْعُدْ، فأمَّا وجودُ صورة صامتة، فمن أيِّ وجهٍ تكونُ استدعاءً؟! وأمَّا الوجوبُ، فأبْعَدُ، فيمتنعُ من حيثُ امتنعَ النَّدبُ، لأنَّ في الإيجابِ طلباً واستدعاءً، وزيادةَ -هي الحَتْمُ-، فإذا امتنعَ حصولُ الاستدعَاءِ بمجردِ الندبِ من صورةِ الفعلِ، فأَوْلى أنْ يمتنعَ الاستدعاءُ الحتمُ الواجبُ. وإذا لم تعطِ الصورةُ حكماً من الفعلِ لغيرِ الفاعلِ - صلى الله عليه وسلم -، جِئْنا إلى حكمِ الفعلِ في حقَه، فوجدناه متردِّداً بين أنْ يكونَ وجِدَ منه امتثالاً لأمرِ ندب، أو لأمر إيجاب، أو فَعَلَهُ ابتداءً من نفسه؛ فلا طريقَ إلى القولِ بأنه أمر لنا، لأجل ما ذكرنا من عدمِ الاستدعاءِ، وترددِ الفعل لو ثبت أنه مُسْتَدْعىً منه - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن أن يكون مُوجِباً، فلم يبقَ إلا الوقفُ. فيقال: إنَكم لو لحظتم الاستدعاءَ، لوجدتموه في كتاب الله تعالى؛ [كقوله] {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] الحاصلُ منه: أنكم لا ينبغي أن تخرجوا من مجلسِه وهو جالسٌ إلا بإذنه، فهذا سَمْعٌ (¬1) يُعطي: وجوبَ اتباعه في أفعالِه وأقوالِه، فإن لم يكن في صورةِ فعلِه استدعاءٌ ولا طلبٌ (¬2)، كانَ الطلبُ من هذهِ الآي أن نأتيَ بمثلِ ما يأتي به من التعبدات، والاستدعاءُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يسمع". (¬2) في الأصل: "طلباً".

المطلقُ يقتضي الإيجابَ، فهذا يعطي مرادنَا من الإيجاب. وأمَّا قولكم: ليسَ في الفعلِ إباحة، فليس كما ذكرتم أيضاً؛ لأنَّه لما قامت الدلالةُ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُخَالِفُ عند من قال بعصمته، ولا يقَرُّ على الخطأ عند الكافَّةِ إن بدرتْ منه خطيئةٌ، كان أقل أحوال (¬1) فعله: الإباحة دون الحظر. ويجري قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] مجرى قوله: إذا قام فقوموا، وإذا قعد فاقعدوا، وإذا صلى فصلوا، وإن أحرم فأحرموا، وإن حلَّ فأحلُّوا. وأمَّا إِتْباعُ (2) فعله بقوله (¬2)، أمثل،: "خُذُوا عَني" (¬3)، و"صَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي" (¬4)، فقد يكونُ تأكيداً في البيانِ، كما أكَّدَ القولَ بالفعل، فقال: "الشهرُ تِسع وعِشرونَ"، ثم قال: "الشهرُ هكذا وهكذا" وأشارَ بأصابِعهِ (¬5)، وقال ما قال، وشَبك بين أصابِعِه (¬6). فإن قيل: هذا إنما يكونُ إن كان هو وأُمَّتُه متساويينِ في المصالح، فأمَّا إذا كان له مصالحُ (¬7) تخصه، لا يكون أحد (¬8) من أمته مشاركاً له في ذلك، وكان على المخالفة لهم لم يجز أن يكون الأمر ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاحوال" (¬2) في الأصل:"فقوله" (¬3) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 174. (¬5) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬6) تقدم تخريجه ص (143) (¬7) في الأصل:"اصلح" (¬8) في الأصل: "أحداً"

له أمراً لهم، ولا الإباحةُ له إباحةً لهم. فيقالُ: إنَّ التكليفَ عمَّ الجماعةَ، وخُصَّ قومٌ دونَ قومٍ بأشياءَ بدلائلَ خاصَّة، وإلا فالمساواة هي (¬1) الأصلُ، حيث قال الله تعالى للكل: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158]، وقال هو - صلى الله عليه وسلم -: "أمري للواحدِ أمري للجماعة، أَمْري للمَرْأَةِ أَمْري لأَلفِ امْرأَةٍ" (¬2)، والإيجابُ هو الأصلُ، إلا أن تأتيَ دلالةٌ تصرفُ اللفظَ عن ظاهرِه، والدليلُ عليه: أنه لا يَتَعَبَّدُ من قِبَل نفسه، بل باستدعاءٍ وطلبٍ، والأصلُ مع عَدم العلم بقرينةٍ: الوجوبُ. وقالَ بعضُ أهلِ العلم: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الأُمَّةِ للاتبِّاع له، كالكعبةِ للاستقبالِ لها، فهي (¬3) للكل إلا من أُخْرِجَ بدلالة اَلعُذْرِ، كذلكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - للاتباع في قوله استجابةً، وفي فعلِه (¬4) اقتداءً، إلا ما خُصَّ به دون أُمَّتَه بدلالةٍ. فإن قيل: لو كان ما يفعلُه واجباً، لم يخلُ أنْ يكونَ واجباً عليه خاصَّةً، أو واجباً علينَا وعلَيْه، فإن كان واجباً علينا وعليه، وتشاغَلَ بفعله، ولم يُبَلِّغْنا الصيغةَ التي أوْجَبَتْ، فما بَلَّغَ، وحاشاه مع قوله [سبحانه] له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، وإن كان هذا الفعلُ هو بلاغه، فقد قصر؛ حيثُ أبدلَ الصيغَ والأقوالَ التي تعطي المعاني ¬

_ (¬1) في الأصل: "في". (¬2) لا أصل له بهذا اللفظ، وقد تقدمت الإشارة إلى ما يفيد معناه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة" انظر 2/ 121. (¬3) في الأصل: "وهي". (¬4) في الأصل: "قوله".

مكشوفة بألفاظ مفهومةٍ، بصورةِ (¬1) فعلٍ، لا تُعْطِي سوى المشاهدةِ لها، ولا تُعرِبُ عن شىء مفهوم، ولا معنى معقول، والبارىء قال له: {لِتبيِّنَ للنَّاس ما نُزِّلَ إليهم} [النحل: 144] فأمره ببيانِ الألفاظِ الغامِضَةِ، وماَ فيه نوعُ خفاءٍ بالبيانِ، والمجملةِ (¬2) بالتفسيرِ، والمختلفِ ظاهرهُ بالجمع، إلى أشباه ذلك، فكيفَ يَحْسُن مع هذا أنْ تنزَّلَ إليه صيغةٌ تقتضي الإيجابَ أو الندبَ أو الإباحةَ، فيَعْدِلَ عن تلكَ الصيغةِ إلى صورةِ فعلٍ لم توضع للإفْهَامِ ولا البَيَانِ؟! فإذا لم يكن فيها إيجابٌ -وهو ما ادعيتموه-، ولا استدعاءٌ، ولا إطلاقٌ وإباحةٌ، لم يكن لنا سوى الوقفِ إلى أن يأتيَ البيانُ: مَن المُخاطَبُ به، وكيف الخطابُ، لئَلاَّ يُنْسَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ما لاَ يَليقُ به من التَّقصِير في البَيانِ والبَلاع المأمورِ بهما بنص القرآن، وهو قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فيقال: لا بيانَ أوضحُ ولا أبينُ من الأمرِ باتِّباعهِ والتأسِّي به، والبيانُ الذي أُمِرَ به، تارة كان بفعلِه، وتارةً بقولِه، ولهذا أشارَ إليه بالبيانِ بالفعلِ، حيث نزَلَ جبريلُ، فصلى به عند البيت، وبَيَّنَ له المواقيت، وتنزل إليه، فبيَّن له المناسكَ، وبيَّن هو لأمتِه كما بُيِّنَ له، فقال للسائل صلى الله عليه وسلم: "صلِّ معنا" (¬3)، ورفع إناءه، وشرب في مسيره في رمضان حيث بلغ كُرَاعَ الغميم (¬4)، وطاف على ¬

_ (¬1) في الأصل: "مصورة". (¬2) في الأصل: "والجملة". (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 194. (¬4) أخرجه مسلم (1114)، والترمذي (710)، والنسائي 4/ 177 من =

البعير مبيناً للطواف (¬1)، وتوضأ بمحضر من أصحابه (¬2)، فلما بيَّنَ له الملكُ قولاً تارةً، وفعلاً أخرى، بيَّنَ هو لأُمَّتهِ بالطريقين، تارة قولاً، وتارة فعلاً، وصارَ للأُمَّةِ في سائرِ الأفعال والأقوال، كالإمامِ في الصّلاةِ للمأمومين، إنْ ركعَ ركعوا، وإنْ سجدَ سجدوا، وإن صلَّى قائماً أو قاعداً، صلَّوا خلفَه قياماً وقعوداً، وإن سجَدَ للسهو سجدوا، وإن كانَ سببُ السهو لم يعلموا به، كل ذلكَ لكونِه قدوة، وهم أتباعُه. ومما تعلَّقَ به بعضُ أهلِ الوقف (¬3): أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يجوزُ عليه الصغائرُ والخطأ، ودلائلُ ذلك معلومة، والعُتْبَى عليه من القرآن مسموعةٌ، فلا نأمنُ أن نَتَبِعَه في شيءٍ من هذه الأفعالِ، فنكون ¬

_ = حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬1) أخرجه مسلم (1273) عن جابر رضي الله عنه، قال: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت، في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه، فإنَّ الناس غشوه. وأخرجه البخاري (1607)، والترمذي (865)، والنسائي 5/ 233 من حديث ابن عباس. وفي الباب: عن أبي الطفيل، وأم سلمة رضي الله عن الجميع. (¬2) الأحاديث في وضوئه - صلى الله عليه وسلم - بمحضر من أصحابه كثيرة رواها جمع من الصحابة، كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، وغيرهم رضي الله عنهم. ومن ذلك: ما أخرجه مسلم (226) عن حمران مولى عثمان، أن عثمان دعا بماء، الحديث ... ثم قال آخره: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا. (¬3) القائلون بالوقف، هم: الصيرفي، وأكثر المعتزلة، واختاره الرازي. راجع "المحصول" 3/ 330.

مخطئينَ أو عاصين، ونضمَّ إلى ذلك اعتقادَ الوجوبِ، فيكونَ ذلك أطمَّ وأدْهَى، فلا يُخَلِّصنَا من ذلك الخطرِ إلا الوقفُ إلى أنْ يأتيَ [في]، ذلك دلالة تكشفُ عن حقيقة الحال، ومثل ذلك: استغفاره لأمِّه وعمِّه مع الشرك (¬1)، فنستغفر نحن للمشركين. فيقالُ: لا يمتنعُ مع هذه الحالِ أنْ يُكَلِّفَنا اتِّباعَه، وإن كانَ فيه سهوٌ أو خطأ، اسْتُدرِكَ بالرجوعِ عنه، ولسْنَا بأَوْفى منه، ولا يصونُنا البارىء عما لمِ يصنه عنه، فإذا جازَ أن يُؤَخِّرَ عنه البيانَ، ويُمكِّنَ من تلاوتهِ الشيطان، ثم يَنسَخَ ما (¬2) يلقيه الشيطانُ، ويُبَيِّن (¬3) له الخطأ، ليرجعَ عمَّا وقعَ منه بالخطأِ والنِّسْيَان، جاز أنْ يكلِّفَ اتِّباعَه على ما كان، ألا ترى أنَّ أقوالَه أيضاً لم تسلم من ذلك، ولا عُصِمَ فيها من زَلَّةٍ وخَطأ؟ فقد (¬4) صلَّى، فقصر من الركعات، وعاد فأتمَّ، وسجَدَ للسهو (¬5)، وندم على الفداءِ بعد أن وجب على أصحابه الاتباع في ¬

_ (¬1) حديث استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لأمه: أخرجه مسلم (976) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي". أمَّا حديثُ استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لعمه، وفيه: "لأستغفرنَّ لك ما لم أنَّهَ عنك" فأنرْل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]: فرواه أحمد 5/ 433، والبخاري (1360) و (3884) و (4675) و (4772)، ومسلم (24) (40)، والنسائي 4/ 90. (¬2) في الأصل: "بما". (¬3) في الأصل: "وبين". (¬4) وفي الأصل: "وقد". (¬5) تقدم تخريجه في 2/ 551.

* فصل في القائلون بالاباحة

ذلك (¬1)، فلما لم يمنع هذا التجويزُ من (¬2) اتباعِه في أقواله، لم يمنع اتباعَهُ في أفعالِه، والله أعلم. فصْلٌ وأما القائلون بالإباحة فإن أرادوا بها (¬3): الإذنَ السمعي من الله لنا في اتباعِ مثلِ الأفعالِ التي يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذلك باطل؛ لأنه لم يرد سمع: بأنني قد أبحتكم، وأطلقتكم في فعلٍ مثلِ فعله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أرادوا بقولِهم (¬4): إنَها على الإباحةِ: أن مثلها ليس بمحظورِ علينا، وأنها تفعلُ على حكمِ العقل، فذلكَ صحيح، إلا أن يَنْقُلَ (¬5) عن حكمهِ سمعٌ، وقد بيَّنا ذلك. على أنَّ الإباحة لا تقع إلا موقع الحَظر، وذلكَ في غيرِ العبادات، مثل: الأكلِ والشربِ، والُلبْس، والجماع، فأمَّا التعبدات، فلا تقعُ إلا بالاستدعاءِ؛ لأنها لا تقعُ ريَاءً ولا حَاجةً ولا عادةً، فأوَّلُ مراتبها، وأقلُّ مناصبها: الندبُ والاستحبابُ، دونَ التخليةِ والإطلاقِ، ولا يُبتدأ بها التكليفُ (¬6) في الشرع، إلا بالاستدعاء والطلب، والاستعباد والامتحان، فأمَّا أنْ تقعَ على سبيل الإطلاق، فلا؛ لَأنها مُقَيّدَةٌ مِنْ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 26. (¬2) في الأصل: "عن". (¬3) في الأصل: "أراد به". (¬4) في الأصل: "أراد بقوله". (¬5) في الأصل: "ينتقل". (¬6) يمكن أن تقرأ في الأصل: "المتكلف" أو "التكلف".

* فصل في شبه الحاملين لأفعاله - صلى الله عليه وسلم - على الندب دون الإيجاب

دواعي النفوس، ومعدولٌ بالمتعبَّدِ بها عن سَمْتِ العادةِ، وما كانَ بهذهِ الصِّفةِ، لم يَجُزْ أنْ يكونَ فعلُه إباحةً وإطلاقاً، بخلافِ ما تميلُ النفوسُ إليه، وتقومُ به، فإن أوَّلَ وهلاتِ الإنعام به: الإطلاقُ في تناولِه، والمتعةُ بهِ. فصل في شُبَه الحاملين لأفعالِه - صلى الله عليه وسلم - على النَّدْبِ، دونَ الإيجابِ فمن ذلك: قولهم: إنَّ اللهَ سبحانَه جعلَ التأسي بأفعالِ رسولِه حسنةً، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ولم يقرن (¬1) ذلكَ بلفظ إيجاب، بأنْ يقولَ: عليكم، ولا بوعيدٍ على تركِ التأسي، فدلَّ (¬2) تحسينُه له، ومدحُه عليه، على الندبِ؛ لأنَّ المندوبَ (¬3) هو الذي يُثابُ على فعلِه، ولا يعاقبُ على تركِه. ومن ذلك: أنَّ الندبَ أدنى المراتب في باب الاستدعاءِ والطلبِ والتقرب، وأدنى طرقِ الاستدعاء للفِعْلِ؛ إذَ لا (¬4) صيغةَ له، ولا يُصرِّحُ بالطلبِ كما يُصرِّحُ القولُ، فوجبَ أن لا يُرْتَقَى به (¬5) إلى الإيجابِ -وهو الأعلى- إلا بدلالةٍ؛ لأنّه هو المُتيقَّن، فصارَ كلفظِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يفرق". (¬2) في الأصل: "فدل على"، والأولى حذف لفظة: "على". (¬3) في الأصل: "الندوب". (¬4) قوله. "إذ لا"، رسمت في الأصل: "أحلا". (¬5) في الأصل: "منه".

* فصل في جمع الأجوبة

الجمع، يحملُ على أدنى مراتبِ الجمع -على خلاف الناس في قدره: إما اثنان، أو ثلاثة-، لأنَّه اليقين. ومن ذلك: أنَّ المندوباتِ من أفعالِه - صلى الله عليه وسلم - كانت الأكثرَ والأظهرَ من الواجبات، فحُمِلَ فعلُه الذي لا دالَّةَ على وجوبهِ، على عمومِ أفعالهِ وأكثرِها وقوعاً منه، وهو الندبُ. فصلٌ في جمعِ الأجوبةِ أما الآية: فإنَّها دليلٌ لنا، لأنَّها استدعاءٌ منا الاتِّباعَ بلفظٍ مطلق، وقرينةُ الاستحسانِ لا تَحُطُّها عن الإيجاب، لأنَّ كلَّ واجب حسن (¬1)، ولأنَّه قَرَنها بقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]، كما قالَ سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] ونصَّ على مراده بهذه الآية بقولهِ في الآية الأخرى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158]. وأمَّا قولُهم: المُتيقَّنُ أدنى مراتبِ الأمر والقُرْبةِ -وهو النّدبُ-، فيقابله: أنَّ الاحتياط القولُ بالإيجابِ الذي يدخلُ في طيِّه الندبُ، والمخاطرةُ حملُه على الأَدْنى، فيفوتُ الإيجابُ، ومَن حمَلَه على النَّدب، جوَّز التركَ لاتِّباعِه في التعبد، وفي ذلكَ خطر وتغريرٌ، ولأنَّ الحملَ له على أعلى مراتب التعبُّد حراسةٌ للتأسي المأمورِ به، وفي التخيير إسقاطٌ للتأسي، ولهذا في باب القول، لم يُحمل على أقلِّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "حسناً".

* فصل جامع لشبه من نفي الوجوب ممن قال منهم بالوقف والندب والإباحة

مراتب التعبُّدِ والاستدعاءِ، وفارق المقاديرَ (¬1) بالجمعِ والأمر به؛ لأنَّ مرتبةَ الجمع لا غايةَ لها، فحُمِلَ على ما انْحَرَسَ فيه الجمعُ، ومرتبةُ الأمرِ الإيجابُ الذي يحرسُ التأسي، ولا يُسقطُه. وأمَّا قولهم: إنَّ الندبَ أكثرُ أفعاله، فَحَمَلْناهُ عليه؛ لأنَّه العامُّ المستدامُ، فالإباحةُ أعمُّ، وكانَ يجبُ أن نحْمِلَه على الإباحةِ، كما قالَ بعضُ الأصوليين. على أنَّ أقوالَه وأوامره بالندبِ كانت أكثرَ من أوامره بالإيجاب، ولم يُحْمَل مطلقُ أمرِه على الندب، فإن مَنَعوا في القَوْلِ أيضاً، دللنا بما دلَّلْنا به في مسألةِ الوجوب. ولأنَّ المجاز الذي كثُرَ استعمالُه، عمَّ استعمالُه، ولم يوجِب ذلكَ أن يُحملَ إطلاقُه على غيرِ الحقيقةِ، لأجلِ قِلةِ استعمالِها، وكثرةِ استعمالِ المجاز. فصل جامع لشُبَه من نفى الوجوب، ممَّن قال منهم بالوقف، والندب، والإباحة فمنها: أن قالوا: إنَّا لم نجعل صيغةَ الاستدعاء أمراً إلاَّ برُتبةٍ في المُسْتدعِي، بأن يكونَ أعلى، ولم نقنع بمجردِ الصيغةِ في حكمِنا عليها بأنَّها أمر، فوجبَ أن لا تُعطى صورةُ الفعل رتبةَ الإيجابِ إلا بدلالةٍ تدلُّ على الوجهِ الذي خرجَ عليه الفعلُ. فيقالُ: قد اعتبرنا الرتبةَ في الفاعلِ، وهي النبوةُ الموجبةُ للاقتداءِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأقادير".

والاتَباع، ثم خروجُ الفعلِ على وجهِ التعبد، فإنَّ ما خرجَ لا على وجهِ التعبُّدِ، لم نَقُلْ بوجوبهِ، بل بمُجرَّدِ إباحتِه. ومنها: أنَّ أفعالَه أكثرها كانت مخفيةً مطويةً عن الأمة، فلا يجوز أن يُجعلَ ما هذا سبيله كالنطقِ الذي لا يجوزُ له كتمُه. فيقالُ: فما خفيَ منها قد كُشِفَ للتأسي به والاتِّباع له، تارة به، مثل قوله في غسله الذي لا يشاهدُ: "أمَّا أنا فأحْثُو على رأسي ثلاث حَثَيات من ماءٍ" (¬1)، ومثل قوله لأم سلمة لَمَّا سُئِلَت عن قُبلة الصائم: "هلا أخبرتيهم أنَّني أقبِّلُ وأنا صائمٌ" (¬2)، و [تارةً بغيرهِ] مثلُ قول عائشة لما اختلفوا في الِإكْسال والإنزال: إذا التَقَى الخِتانانِ، وَجَبَ الغُسْلُ، أنْزَل أو لم يُنزِل، فَعَلْتُه أنا ورسُول الله، فاغْتَسَلْنا (¬3). على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يطوي من أفعالِه إلا ما لا يَجعله بمنزلة الأمرِ، فأمَّا ما يستدعي به الاتِّباعَ، فلا بُدَّ أن يُظهرَه، ولا يطوي إلا النوافلَ المحضة، وهذا يعطي: أنَّ ما أظهره الإيجابُ، إذ كانَ لا يخفي إلا النوافلَ، ولهذا قال في التَّرَاويح (¬4): "ولو خَرَجْتُ الرَّابعَة، خفتُ أن تُفْرَض عليكم" (¬5). ومنها: قولهم: لا يخلو قولكم بوجوبِ اتباعِه في أفعالِه أن يكونَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 23. (¬2) تقدم تخريجه 3/ 103. (¬3) تقدم تخريجه 3/ 130. (¬4) في الأصل: "التواريخ". (¬5) أخرجه من حديث عائشة: البخاري (1129)، ومسلم (761)، وأبو داود (1373)، والنسائي 3/ 202، وابن حبان (2542).

بطريقِ العقل أو السمع، والعقلُ يمنعُ من أن يقْدِمَ الإنسانُ على إيجابِ فعلٍ ما لأجل وقوعِه من غيره، مع ثبوتِ العلمِ باختلافِ (¬1) أحوال الناس في المصالح والمفاسد في بابِ الأديان، كاختلافِهم في بابِ الأمزجةِ والأبدانِ، وكما أنَّ مزاجَ بعضِهم يقتضي تناولَ الحموضاتِ والمسهِّلاتِ من المآكلِ والمشارب، ومزاجَ آخرين يقتضي تناولَ الحلوِ أو المرِّ، فلا يُجَوِّزُ العقلُ أن ينزَّلَ الإنسانُ في ذلكَ على قالبِ غيرِه، كذلكَ وجدنا أنَّ الشرع خَالَفَ وفاوتَ بين الأشخاصِ بحسبِ اختلافِ أحوالِهم، فما يُسْتَرُ من الحُرَّة يُكْشَفُ مِن الأَمَةِ، وما يكونُ قُرْبةً من المُقيمِ الصحيح، يكونُ ضدُّه هو القُرْبةَ في حقِّ المسافرِ والمريضِ، وعلى هذا الَاختلاف، فهذا يعطِّلُ دليلَ العَقْلِ عن إيجابِ الاتِّباع للغَيْرِ، إلا بدلالةٍ تدُلُّ على الموافقةِ من عندِ من يعلمُ المصالحَ، واَلسمعُ لم (¬2) يَرِدْ بوجوبِ مثلِ ما فعلَه علينا، وإذا تَعَذَّر دليلُ الإيجابِ، بطلَ القولُ بالوجوب. فيقال: إنَّ ورودَ هذا من القائلِ بالندبِ، لم يصحَّ، وإن وردَ من القائلِ بالوقفِ، فإنَّه أيضاً لا يصحُّ؛ من حيثُ إنه وإن نفى الندبَ والإيجابَ، فما (¬3) نفى جوازَ الصلاةِ والصيامِ والطوافِ وغيرِ ذلك مِمَّن رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يفعلُ ذلك، وتجويزُ المفسدة كان يجبُ أن يَمنعَ استواءَ المكلفين في حكمٍ واحدٍ -سواء كان ندباً، أو إيجاباً، أو وقفاً-، لِمَا ذكرت من اختلافِ أحوالِهم، كما يُمنعُ الإنسان من اتباعِ غيره، في شربِ دواء، أو أكل غِذاء، مع وجودِ مخالفةِ تأثيرِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالاختلاف". (¬2) في الأصل: "فلم". (¬3) في الأصل: "فيما".

* فصل إذا ثبت أفعاله - صلى الله عليه وسلم - دالة على الوجوب فإن ذلك من جهة السمع

المزاجين. ويقالُ (¬1): لا يجوزُ أن نُقْدِمِ على اتِّبَاعِه في فِعْلٍ يَفْعَلُه، ودَليلُهُ يُعْطي حَظْرَ الاتِّبَاعِ، وَما حَظرَهُ، ألا ترى أنّه اسْتَشْهَدَ بشُرْبِ (¬2) الأدْوِيَةِ؟ فإننا لا نُجوِّز أن نَشْرَبَ الدواءَ المسهِّل، لِمَا نَراهُ من شرب حكيم في الطِّب مقدَّمٍ في الصناعة (¬3)، لتجويزِنا أنْ يكونَ ما ينفعُهُ أوَ يتداوى به مَضرَّةً لنا، وداءً لا دواءً، وإذا لم يَجُز اتباعنا له، بطلَت هذه الطريقَةُ. وأمَّا نحن فإنَّا لم نَقُل بالإيجاب إلا بالسَّمع، وهو الأمرُ باتباعِه والتأسي به، وكونُه جُعِلَ علماً ومناراً يُحتذى في التعبداتِ، ويُتبعُ في الأفعالِ، كما جُعِلَت الكعْبَةُ قِبْلَةً يُتَوجَّهُ إليها في الصلوات. وما ذكرناه من الاستدلالات النظريةِ فيه كفايةٌ. فَضلٌ إذا ثبت أنَّ أفعاله - صلى الله عليه وسلم - دالَّةٌ على الوجوب، فإنَّ ذلك من جهة السمعِ، خلافاً لبعض الأصوليين ممن قال بالوجوبِ: [أنها] إنما تجب بطريق العقل (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيقال". (¬2) في الأصل: "شرب". (¬3) في الأصل: "الصناعة يشرب"، ولفظة: "يشرب" مقحمة لا داعي لها، لذا حذفتها. (¬4) "العدة": 3/ 749.

* فصل يجمع دلائلنا

فَصْلٌ يَجْمَعُ دَلائِلَنا فمنها: أنَّ أحوالَ المكلفين مختلفةٌ غايةَ الاختلاف، ولهذا خالفَ اللهُ سبحانَه بينهم في التكاليفِ بحسب اختلافِ أحوالِهم، فخصَّ العبيدَ والإماءَ بأحكام تخالفُ أحكامَ الأحرارِ، وخصَّ الإناثَ بأحكامٍ تخالفُ أحكامَ الذكورِ، وكذلكَ المسافرينَ والحاضرينَ، والمرضى والأصحَّاء، وأهلَ الباديةِ وأهلَ الأمصارِ، فإذا كانَ كذلك، لم (¬1) يثبت عندنا بالعقلِ تساوي حالِ النبيِّ وأُمَّتِه من جهةِ العقلِ، فلا وجْهَ لوجوبه بطريقِ العقْلِ من هذا الوجهِ، الذي هو عدمُ العلمِ بالمساواةِ، فكيفَ وقد بان لنا اختلافُ حالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحالِ أمّتِه في تكاليف كثيرةٍ؟ تخفيفاً عنه تارةً، وتثقيلاً عليه أخرى، وكرامةً له، وابتلاءً، فلا يَتَهدَّى العقلُ إلى أنْ يحكمَ بأنَّ تكليفه لنوع تَعبُّدٍ: أَنه (¬2) تكليف لنا، فَلَمْ يَبْقَ لنا طريقٌ إلى ذلك إلا من جهه السمعِ الواردِ من جهةِ من يَعْلَمُ المصالحَ العامَّةَ والخاصَّة. فإن قيل: هذا الاختلافُ موجودٌ بين آحادِ الأُمَّةِ، ثم أمْرُه للواحد كان أمْراً للجماعة. قيل: بطريق السمع أيضاً، حيث قال: "أَمْري للواحدِ أَمْري للجماعة" (¬3). ومنها: أن العقل لا يَتَهَدَّى إلى أصل المصالح العامة، فكيف ¬

_ (¬1) في الأصل: "فلم". (¬2) في الأصل: "بأنه". (¬3) تقدم تخريجه 2/ 121.

* فصل في شبههم

يَتَهَدَّى إلى مراتبِ المصالح، والتسويةِ بين الأشخاص؟ إذ ما لا يَتَهَدَّى إلى الأصلِ، لا طريقَ له إلى الكيفيةِ والتفصيل. ومنها: أنْ تُبنى المسألةُ على أصلٍ، وهو (¬1) أنَّ العقلَ لا يوجِبُ، ولا يَحْظُر، ولا يبيحُ، فلا وجهَ لإيجابه ها هنا. وقد مضى في أَوَّلِ الكتاب ما فيه كفايةٌ لإثباتِ مذهبِنا (¬2). فصلٌ في شُبَهِهِم فمنها: أنَّه إذا تعبَّد به، كانَ ذلك من مصالِحِه، فَيَجِبُ أن يكونَ من مصالِحِنا أيضاً. ومنها: أنْ قالوا: إنَّ ما فَعَله على وجهِ القربةِ حقّ وصواب، وإنَّ الحقَّ والصوابَ يجبُ اتباعُه. ومنها: أنَّ في نَفْي (¬3) إيجاب اتباعه ما يُفضي إلى ترك اتباعِه؛ لأنَّ ما لا يجبُ على الَإنسانِ، مخيَّر بين فعلِه وبين تركِه، وفي تركِ اتباعِه اظهارُ خلافٍ عَلَيْه، وفي ذلكَ إسقاطُ حُرْمَتِه، وإغراءٌ بالتنفيرِ عنه، وتركِ الانقياد له، لأنَّ مَلِكاً، أو متَقَدمَ مِلَّةٍ أو طائفة، ¬

_ (¬1) في الأصل: "و". (¬2) أي: في مسألة التحسين والتقبيح، وأنَّ الحسَنَ ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، وقد تقدم بيانها بالتفصيل في المباحث الأولى من الكتاب. (¬3) تحرفت في الأصل إلى: "معنى".

* فصل في أجوبتهم

[لو] قامَ لدخولِ إنسان، فلم يقوموا لقيامهِ، أو أبعدَ إنساناً وهجَرَهُ، فقاربوه ولم يهجروه، وركِبَ للحرب، فلم يركبوا لركوبهِ، كان إهْوَاناً به، وإسقاطاً لحرمتِه، والعقلُ يأبى ذلكَ، ويوجبُ ما يعظِّمُ حرمتَه، ومتابعتَه، والانقيادَ له. فهذا مُقْتضَى (¬1) العقلِ، ويكونُ ما يأتي من أدلة السمعِ مُؤَكِّداً (¬2) للإيجابِ الحاصلِ بأدلةِ العقولِ التي ذكرناها، لا أنَّه هو المفيدُ لذلك. فصلٌ في أجوبتهم أما الأول، وقولُهم: إذا ثبتَ أنَّه مصلحة له، كان مصلحةً لنا، فدعوى (¬3) عريضة، ولا يجوزُ أن يظْفَرُوا فيها ببرهان؛ إذ لا دليلَ من جهةِ العقلِ يعطي تساوي شخصين في مصلحةٍ دينية، ولا دنيويةٍ (¬4)، ولا بدنية، بل الأصلُ في المكلفين الاختلافُ في طباعهم وأمزجتهم وأحوالهم، فكما لا يستحيل امتناعُ تساوي زيد وعمرو في علاجِ مزاج، أو سبب يدعو إلى الاستجابةِ والانقيادِ، كذلكَ لا يستحيلُ ولا يبعدُ انقطاعُ ما بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - في المصالح الخاصةِ لمعنى يخصُه، وانفرادُه (¬5) عنا بأصلحَ يكونُ بِعَيْنِه مفسدةً لناَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقتضي". (¬2) في الأصل: "مؤكدة". (¬3) في الأصل: "دعوى". (¬4) في الأصل: "نبوية". (¬5) في الأصل: "منفرد".

ويقالُ أيضاً: قد يكونُ التعبُّدُ له بالفعلِ على جهةِ الوجوب هو المصلحةَ، كما يكونُ التعبدُ له ندباً هو المصلحةَ، وقد يكون من المصلحةِ جعلُ ما هو له ندبٌ علينا فرضاً، وجعلُ ما هو عليه فرضٌ علينا ندباً، وقد تكون المصلحة (¬1) [جعلَ] ما عليه ندب لنا مباحاً، لا واجباً ولا ندباً، أو علينا مَحْظوراً، كما ذكرنا في اختلافِ التعبدات في حق المكلفين بحسب أحوالهم، وقد عُلِمَ ذلك بكونِ كثيرٍ من الأمورِ عليه مفروضةً، وفي حَقِّنا مندوبةً، وعليه محظورةً، ولنا مباحةً. وأمَّا الثاني، وقولُهم: إنَّ ما فعله حق وصواب، فيجب أن يكون مُتَّبَعاً فيه، فغيرُ (¬2) صَحيح ولا لازِمٍ؛ لأنه إنَّما كان حقّاً وصواباً؛ من حيثُ أُمِرَ به سَمْعاً وشرعًاً، وإلا فلا يتهدى العقلُ إلى ذلك، فيجبُ أن لا يكونَ حقَّاً وصواباً في حقنا إلا بدليلٍ سمعي، وهو الطريقُ الذي ثبتَ به كونُه في حقِّهِ حقّاً وصواباً، والتساوي بيننا وبينه غيرُ معلومٍ عقلاً ولا سمعاً، فلا وجه لدعوى كونه في حقِّنا صواباً وحقّاً؛ من حيثُ كان في حَقِّه كذلك. على أنّا قد اتفقنا أنَّ ما كان حقاً وصواباً في [حق] أحد المُكلَّفينَ، لا يلزم أن يكون حقاً وصواباً في حقِّ المكلَّف الآخر، فصلاةُ الأَمَةِ مكشوفةَ الرَّأْس، وصلاةُ العبدِ يومَ الجُمُعةِ صلاةَ الظُّهرِ، وتركُ الحائضِ للصلَاةِ والصومِ، وصلاةُ المسافر الرُّباعِيَّاتِ من الصلوات المفروضات ركعتين، حقّ كلُّه وصواب، وليسَ ذلك في حقِّ الحُرَّةِ والحرِّ، والطاهرةِ، والمقيمِ حقّاً وصواباً، فلا أفسد من هذه الطريقة، ¬

_ (¬1) في الأصل: "مصلحة". (¬2) في الأصل: "غير".

وهي أخْذُ حُكْمِ أَحَدِ المكلَّفِينَ من حكمِ الآخر قبل العلم بالدليل بتسويةِ ما بَيْنَهما. فأمّا قولُهم: إنَّ نفيَ الوجوبِ يُنتج تركَ اتباعِه، وذلكَ يؤدي إلى التنفيرِ عنه، واطِّراحِ حرمته، والإغراءِ بالميل عنه، وتسهيلِ مخالفتهِ، فليسَ بشيء، لأن الذي يُنَفِّرُ عنه مخالفةُ أمره، وتركُ الانقيادِ لما دعا إليه، أو الانخراطُ فيما نهى عنه، فأمَّا تركنا أنْ نَفْعلَ مثل فعلِه، فليس ذلكَ مما يُنَفِّرُ عنه، ولا يَظْهَر لأحدٍ أنَّه إنما فعلَ لنفْعَل، بل العقلاءُ كلهم يعلمون أنَّ الفاعلَ إنما يفعلُ لمعنى يَخُصُّه، كما أنَّه لا يكونُ فعلُنا للتعبدِ حالَ تركهِ استراحةً (¬1)، وصومُنا حالَ فطرِه، تنفيراً عنه، ولا ميلاً عن اتَباعه، ولأنَّه لو كانَ ذلك مُنفِّراً، لكانَ تركُنا لما خُصَّ به من الفروضِ والمندوباتِ تنفيراً عنه، ولو كان ذلك واجباً من طريقِ العقل، لبقي التنفير عنه، [و] لوَجَبَ أن يُنْفى عَنْه السَّهوُ والخطأ، والنسيانُ والغَفلةُ، والاستهتارُ (¬2) بالنساءِ، وتزويجُه، وخصومتُه لهنَّ، وتغايرُهن عليه، فإنَّهم نفروا مما دونَه، دونه قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، ومالوا إلى إنزالِ ملَك [لا] يَغْمِسُه البارىء في الطبع الإنساني، بلهجه بالتزويج، وإباحة هبةِ النساءِ نفوسَهن له، وجعلِه (¬3) له أن يَصْطَفي من المَغْنمِ ما يشاءُ حتى النساءَ، ومعلومٌ أنَّ هذا من أعظمِ ما يُنَفِّر عنه، وإنَّما أفرطت أمَّةُ عيسى فيه حتى قالت: إنه إله، للامتناعِ من هذا الشأنِ، فكانَ ذلكَ تنفيراً (¬4) عن الإذعانِ بالرسالةِ، ودعوى الربوبيةِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "استراحته". (¬2) الاستهتار بالشيء: محبته والولوع به. (¬3) في الأصل: "جعل". (¬4) في الأصل: "تنفير".

وكانَ هذا منفِّراً عن نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وتُهْمةً (¬1) [له]، بأنَّه مؤثر ومغتنم، وطالب الحظوظ من الدنيا، ومغلوب شهواتِه وطباعِه، هذا كُلُّه تنفيرٌ، وما صَدَفَ البارىء عنه، فَبَطَلَ ما تعلقوا به. ومن ذلك: إبدالُ الآيةِ بالآية، ونسخُ التعبدِ بعد شرعهِ (¬2)، والصرفُ من قِبلةٍ إلى قبلةٍ، فإنَّه قد جرَّ ذلكَ قولهم: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، وقال سبحانَه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، وكانَ يجبُ أن لا يَجْعَلَ في الكتابِ آياتٍ متشابهات، يعطي ظاهرُها التَّشْبيهَ والانفعالَ، وتَغيُّرَ الحالِ عليه، والعلمَ بَعْدَ أن لم يَعلَمْ، ومعلومٌ ما في الكتابِ من هذا القبيلِ، مثل ذكر الغضبِ والرحمةِ، والرِّضا والكراهة، واليدين، والروح، والعينِ والوجهِ والمجيءِ والإتيانِ، والمحبةِ، والمكرِ، وهذه كلهاَ في الحقائقِ أعضاءٌ وإدراكاتٌ وانفعالاتٌ، فإنَّ الرحمةَ: رِقَّةٌ توجبُ ألمَ القلبِ بوقوع المرحوم في المكروه (¬3). والغضبَ: غليانُ دم القلبِ، واشتطاط حرارتهِ طلباً للانتقامِ، والكراهةَ: غَليَانُه لما يُتَحذَّر أو يُتَقَذَّر أو تأباه الأمزجة والطباع، والمكرَ: إبطان (¬4) السوء مع إظهارِ ضدِّه، والإتيانَ [و] المجيء في قولِه (¬5): {وجاءَ ربُّكَ} [الفجر: 22]، {أَو يَأْتِي رَبُّكَ} [الأنعام:158]: هو الانتقالُ والخروجُ من مكانٍ إلى مثلِه، ¬

_ (¬1) في الأصل: "وتهمته". (¬2) في الأصل: "شروعه". (¬3) في الأصل: "المكروه في المرحوم". (¬4) في الأصل: "انتطان". (¬5) في الأصل: "بقوله".

* فصل البيان بالفعل من جهته صلى الله عليه وسلم

إلى أمثالِ ذلك، وكم ضلَّ قومٌ بذلك، ونفَرَ قوم عن الاستجابه للشرعِ لأجلهِ، فالدعوى بأنَّ العقولَ تمنعُ ذلكَ باطلة، لأنَّ الشرعَ لا يأتي إلا بمُجَوَّزات (¬1) العقول. على أنَّ هذا كُلَّه يلزَمُ من قالَ بنفي الوجوبِ رأساً، ونحنُ نقولُ بوجوبِ اتِّباعهِ، وإنَّما نقولُ: إنه بالسَمع، وكونُ الطريقِ لإيجابهِ السمعَ، لا يَحْصُل به ما ذكره المخالفُ من التنفير، وإهمالِ حرمة السفير - صلى الله عليه وسلم - ولا الإغراءِ بمخالفتِه. فصلٌ البيانُ بالفعلِ من جهتهِ - صلى الله عليه وسلم - هو أنْ يفعلَ بعضَ ما دخلَ تحريمُه في عمومِ لفظِ التحريم، فإذا فعلَه دلَّنا ذلكَ على تخصيصِ العموم، وأنَّ ما فعله لم يدخل تحتَ، صيغةِ العموم، وذلكَ جائزٌ عنْدَنا، وبه قال بعضُ أصحابِ الشافعي. وذهبَ أبو الحسنِ الكرخي: إلى أنَّه لا يجوزُ تخصيصُ العمومِ، ولا البيانُ بالفعل، ووافقه في ذلكَ بعضُ أصحابِ الشافعي، فلهم في هذا وجهان (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "مجوزات". (¬2) والذي عليه الأكثرون من الشافعية، وأصحاب الأئمة: جواز تخصيص العام بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر "ميزان الأصول" 1/ 472، و"البحر المحيط" 3/ 387، و"التفتازاني على ابن الحاجب" 27/ 2.

* فصل في أدلتنا

فصْلٌ في أدلتنا فمنها: قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ولم يفْصل بين القولِ والفعلِ في تخصيصِ العمومِ، وبيانِ المجملِ، وغيرِ ذلك من البيان، فكان ذلك على عمومِه المقتضي لدخولِ قولِه في البيانِ وفعلِه. ومنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَا سمعَ أنَّ قوماً تَحرَّجُوا من استقبالِ القبلةِ بفروجهم في البنيان -قيل: قبلتنا، وقيل: قبلة بيت المقدس بعد نسخها-، أمرَ بتحويلِ مَقْعَدَتهِ إلى القبلة، وهذا قصا منه - صلى الله عليه وسلم - إلى بيان تخصيص العموم الذي قاله في التحريم: "لا تَسْتَقْبِلوا القِبْلَةَ، ولا تَسْتَدبروها ببول ولا غائط، لكن شرقوا أو غربوا" (¬1)، ورويَ: أنَّه نهى عن استقبال القبلةِ بالبول والغائط (¬2)، فصارَ تحويلُه لمَقْعَدَتِه نحوَ القبلةِ تخصيصاً لذلك العمومِ، وبياناً أنّه لم يدخل تحتَ ذلكَ البنيانُ، ولا ما بعدَ النسخ. ومنها: أنَّ ما فعله ابتداءً كان تشريعاً، كذلك ما فعله بَعْدَ العُمومِ كان تشريعاً، وإذا كان تشريعاً، صارَ تخصيصاً؛ إذ لا يمكنُ أن يكونْ الاستقبالُ شرعاً، والعمومُ الأولُ باقٍ على عمومهِ؛ من حيث إنَّ استقبالَها ليس بشرع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264) من حديث أبي أيوب. (¬2) انظر ما تقدم في 3/ 394.

* فصل في شبههم

فصل في شبهِهم فمنها: أنْ قالوا: إنَّ تخصيصَ العمومِ أحدُ نوعي البيانِ، فلا يجوزُ بفعله، كالنسخ. ومنها: أن النطقَ العام شملَ الأعيانَ لفظاً ونطقاً، وفعلُه يحتملُ أن يكونَ مخصوصاً به ومخصوصاً له، ويجوزُ أنْ يكونَ هو وغيرُه فيه سواءً، فلا يُتركُ العمومُ المتيقَّنُ بأمرٍ محتملٍ، فأكثرُ ما يعطي فعلُه خروجُه هو من حكم العموم، فأمَّا خروجُنا نحن، فلا. نَتبيَّنُ بذلك أنَهُ مَخْصوصٌ من جملة العمومِ، إذا كان العمومُ يشملُ المكلفين. فصل في الأجوبةِ أمَّا الأول، فيُحتَمَل أن نقول: إنَّ النسخَ بفعلِه جائزٌ، فقد ذهبَ إليه بعضُ العلماءِ، واختاره بعضُ أصحابِ الشافعي. ولو سلَمنا، فإنَّ النسخَ يخالف التخصيصَ؛ لأنَّه يجوزُ التخصيصُ للكتاب بالقياس والسُّنَّةِ، وإن لم يَجُز النَّسخُ بهما؛ لأن النسخ رفع للحكمَ رأساً، والتخصيص بيان للمرادِ باللفظِ العام. وأمَّا الثاني، ودعوى احتمالِه، فصحيح، لكن الأظهرُ من المُحْتمَلَينِ مساواتُه لأمَّتِه في ذلك، وأنه لا يفعلُ ذلك بعد نهيه خاصاً إلاَّ ويُبيِّنُ تخصيصَه بذلك، وإلا كانَ تلبيساً، وموقعاً للأُمَّةِ في شك؛ في بقاءِ الأول على عمومهِ، أو تخصيصِه.

* فصل القول أولى من الفعل

فصلٌ إذا ثبتَ أنَّ الفعلَ يحصلُ به البيانُ، فإذا تعارض القولُ والفعلُ في البيان، فالقولُ أَوْلى من الفعل (¬1). ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما: مثل قولنا (¬2). والثاني: الفعل أَوْلى من القول (¬3). وقال بعض الأصوليين: هما سواءٌ في البيان؛ القولُ والفعل (¬4). فصل في أدلتنا فمنها: أنَّ القولَ يدلُّ على الحكم بنفسه، والفعلَ يدل عليه بواسطةٍ: هو استدلالُنا على أنَّ الفعلَ جائزٌ؛ من جهةِ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعَلَه، وهو لا يفعلُ ما لا يجوزُ، فكانَ ما دل على الحكمِ بنفسهِ أولى ممَّا دلَّ عليه بواسطة. ¬

_ (¬1) "المسوَّدة" (126)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 449. (¬2) وهو ما عليه جمهورهم، نصَ عليه الشيرازي في "التبصرة" (249)، والر ازي في "المحصول" 3/ 182، والآمدي في "الإحكام" 1/ 276. (¬3) ذكره الشيرازي في "التبصرة" (249) دون أن يحدد مَن مِن أصحابِ الشافعي قال به. (¬4) "إرشاد الفحول" (173)، و"فواتح الرحموت"2/ 47.

* فصل في شبههم

ولأنَّ الفعلَ يُبَيَّنُ بالقول؛ فإنَّه لما حجَّ، قال: "خُذُوا عني" (¬1)، ولما صلى، قال: "صَلُّوا كما رَأيَتْموُني أُصَلَّي" (¬2)، فبَيَّنَ الفعلَ بالقولِ، والقولُ لا يحتاج إلى بيانٍ بالفعل. ومنها: أنَّ القول يتعدى، والفعلُ مختَلَفٌ في كونه يتعدى حكمُه إلى غيره، فمن الناس من قال: لا يُعَدَّى (¬3) حكمُه إلى غيرِه إلا بدليلٍ، فكانَ ما تعدَّى بالإجماعِ بنفسِه أَوْلى ممَّا في تعدَّيه إلى غيرِه خلافٌ. وفي هذه الدلائلِ دلالةٌ على من رَجَّح الفِعْلَ، وعلى من سوَّى بين الفعلِ والقول جميعاً. فصلٌ في شبههم فأمَّا من قال: إنَّ البيان بالفعل أبلغُ وآكدُ، وهو مُقدَّمٌ، فإنّه تعلَّقَ بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سألَه عن مواقيتِ الصلاةِ: "صلِّ معنا" (¬4)، ورويَ: "اجْعَل صلاتَك مَعَنا"، وصلَّى به جبريلُ عليه السلام، وقال له لَمَّا صَلَّى به في اليومِ الأوّلِ في وقتٍ، وفي الثاني في وقتٍ آخر: يا محمَّدُ، الوقتُ ما بين هذين (¬5)، وقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشهرُ تسعٌ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 174. (¬3) في الأصل: "يدعى". (¬4) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬5) تقدم تخريجه 3/ 92.

وعشرون" (¬1)، ثم أكَّدَ البيانَ بأصابعهِ، فقال: "الشهرُ هكذا وهكذا"، وقال: "أَوَقَدْ فعلوها؟ حَوِّلُوا مَقْعَدَتي إلى القِبْلَةِ" (¬2). فهذهِ الرواياتُ دلَّت على بيانِ القولِ بالفعلِ مع وجودِ القولِ، وهذا تقديمٌ وترجيح للفعلِ على القولِ. ومنها: أن قالوا: كلُّ مُعَلِّمٍ ومُبَيِّنٍ إذا أراد إيصالَ فهمِ ما يقولُ إلى مَن يُعلِّمُه ويُخبِرُه، استعان بإشارتِه بيدِه، وبالخطوطِ والأشكالِ في ذلك، وهذا لمعنى، وهو أنَّ من الهيئات ما لا تتحصل صورتهُ في القلب، بمجردِ النُّطقِ؛ حتى ينضمَّ إليه تصويرُ ذلك بالفعل، وإذا كان هذا هكذا، بانَ أنَّ الفعلَ مُقَدَّمٌ في بابِ البيان. فيُقال: أمَّا مَا ذكرتَ، فيعطي انَّهما سواء؛ لأنَّكَ اسَتَدلَلْتَ بأنَّه وُجِد البيانُ بالفعلِ، ووجدَ البيانُ بالقولِ، وهذا يوجبُ تجويزَ البيانِ بهما، ونحنُ قائلون به، فأمَّا الترجيحُ، فيحتاجُ إلى شيءٍ آخرَ. والقولُ الفصلُ عندي في ذلك: أنَّ لنا أفعالاً يَقْصُرُ القول عنها، فالتعبيرُ عنها بالصور أبلغُ منه بالصِّيَغ؛ لأنَّ الصُورَ إلى الصورِ أقرب، ودْلكَ مثلُ قولِ القائلِ: رمى رسولُ الله بمثلِ حصى الخذْفِ، هذا بيان، فإذا أخذ من الأرض حصاةً، ثم خذف بها، فقال: بمثلِ هذه رمى، وكذا رمى، فأبان بقَدِّهَا صورةً، وبرَمْيِه بها صورةً، كانَ أبلغَ. وكذلكَ بيانُ قوله: "إذا التَقَى الخِتانان، وجَبَ الغُسْل" (¬3)، فأخَذَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 194. (¬2) تقدم تخريجه ص (131). (¬3) تقدم تخريجه ص (131).

يشكل بيده صورة الالتقاء، وأنه محاذاةُ جلدةِ ختانِه لجلدة خِتانها، كتقابل الفارسين؛ إذ ليس بينهما اجتماع (¬1)، كان أبلَغَ. وكذلكَ إذا أرادَ بيان أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تيمم بضربةٍ واحدة، وجعلَ بطونَ أصابِعه لوجهِه، وبطونَ كَفَّيْهِ ليديه، [كان] التصويرُ أبلغَ من التقريرِ بالقول. فهذا وأمثالُه مما لا بدَّ للقولِ من إشارةٍ بصورةِ الفعلِ؛ ليحصلَ الفهمُ، حتى إنَّ المبطىءَ الفَهْم يتحصلُ له بالإشَارَةِ ها هنا في أمثال هذه الصُوَر ما لا يتحصلُ له بالعبارةِ. ولنا أشياءُ لا يتأتى فيها له التصويرُ بالفعلِ، ولا يخرجُ البيانُ عنها إلا صيغةَ قولٍ لا صورةً، وذلك مثلُ أعمالِ القلوبِ، والدواخلِ على النفوسِ من الآلامِ التي تتحصلُ لكلِّ واجدٍ لها، ومن عرضت له، في خاصّةِ نفسِه، دون أن تتعدَّى إلى غيرِه، فإذا أرادَ أن يُعْلِمَ بها غيرَه، صاغ (¬2) قولاً يُعبِّرُ به عنها، إذ لا يمكنُه إخراجُها بشكلٍ يدركُه العيان. فإذا ثبت هذا، وأنّ لقَبيلٍ (¬3) من الأفعالِ هذا التأكيدَ الذي يحصلُ به تأكيدُ بيانِ القول، ولقَبِيلٍ منها هذا التقصيرَ الذي لا يحصلُ به البيان، جئنا إلى ترجيح القول، فقلنا: إنَّ القولَ ينوبُ عن الأمورِ العارضةِ في النفوس، إذ لكل منها اسمٌ موضوعٌ، وعن الصورِ الظاهرةِ أيضاً، فقدَ عملَ القولُ في الأمرين جميعاً، وإن كانَ في أحدِهما أقصرَ، والصورُ من الأفعالِ لا تعمل في البيانِ عن أعمالِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اخماع". (¬2) في الأصل: "صار". (¬3) في الأصل: "القبيل".

* فصل يجوز تعبد النبي الثاني بما كان تعبد به النبي الأول

القلوب، وعوارض النفوس، وهواجس الصدور، فبان ترجيح القولِ على الفعل، فلكلِّ صورة من الأعمال الظاهرة والباطنة جميعاً صيغة، وليس لكل صورةٍ في النفوس والقلوب صورةٌ. وأمَّا شبهةُ من سوَّى بينهما، فإنَّه لحظَ بعض الأفعالِ أنَّ لها صوراً يمكنُ إخراجُها إلى الوجودِ أشكالاً، فيدركُها الحِس بإدراك أمثالها التي يُقصدُ بها البيانُ، وبعضُها تقْصُرُ الإنسانُ عن إخراجِ شَكلِ لها أو مِثلٍ، إذ لا مِثلَ لها من خَارجٍ، وهي عوارضُ النفوس، وأعمالُ القلوب، فجَعَلَهُما سواءً. وقد تضمّن ما لحظناه الجوابَ عما وقع لهذه الطائفة، وأن الغامض والظاهِرَ، وماله شكل وما لا شكلَ له، يمكن التعبيرُ عنه بالقولِ الوجيزِ، والحدودِ الخاصَّةِ الكاشفةِ عن حقيقةِ الشيء، وأمَّا الفعلُ؛ فلا يمكنُ البيانُ به (¬1) إلا فيما يظهرُ منها، فبانَ الترجيحُ للأقوالِ على الأفعالِ. فصلٌ يجوزُ تعبدُ النبي الثاني بما كان تَعبَّدَ به النبي الأول، ولا يمنع العقلُ ذلكَ على قولِ من جعلَ للعقلِ قضيةَ المَنع والإباحة، وهو أبو الحسنِ التميمي من أصحابنا، ولا في الشرع ما يمنعُ من ذلك، بل فيه ما يدلُّ على جوازِه، خلافاً لِمنْ مَنَعَ من ذلك من الأصوليين. ¬

_ (¬1) في الأصل: "له".

* فصل في دلائلنا على تجويز ذلك

فصلٌ في دلائلنا على تجويزِ ذلكَ فمنها: أنَّ الله سبحانَهُ بَعَثَ موسى وهارونَ في زمن واحدٍ وعصر واحدٍ، وجَعَلَ جمعَهُما مصلحةً؛ من حيثُ إنَّهُ ذكرَ أنَّهُ شَدَّ عضُدَ موسى واَزرَهُ بهارونَ، وخَلَفَهُ في قومِهِ لمَّا غابَ عنهم، فغيرُ ممتنع أنْ يُجْعلَ النبي الثاني بعدَ الأولِ مُحيياً من شريعتِه ما أماتهُ المبطلون، ومُنبِّهاً على ما أهملَهُ الغافلون، وقد يُؤَثِّرُ التناصرُ والتعاضدُ ما لا يُؤثِّرُه الاتحادُ، ولهذا قَرَنَ اللهُ بين معجزتين، وأيَّد الأُولى بثانيةٍ، والثانيةَ بثالثةٍ، وقال اللهُ تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]، ولهذا طالَ بقاءُ نوحٍ في قومهِ يدعوهم إليه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً، وإطالةُ عمرِ النبيِّ الواحدِ لم يَمنعْ منه عقل ولا شرع، بل شَرَعَ كذلك إِرْدافَ نبيٍّ بنبيٍّ تأييداً لما جاءَ بهِ الأوَّلُ. فإن قيل: إذا لم يَنْسخِ الثاني شرعَ الأولِ، فما أفاد. قيل: قد بيَّنَا إفادَتَه من وجهٍ، وهو تجديدُ الإذْكارِ والإنذارِ، ولو جازَ أِن يقال: ما أفادَ الثاني، لجازَ أن يقال: ما أفادَ بقاء الأولِ بعد بلاغهِ عاماً، عاماً ثانياً وثالثاً إلى أنْ تطاولَ الزمانُ، ولا أثَّرَ بِعثَةُ نَبِيَّين في زمانٍ واحدٍ وعصرٍ واحدٍ، ولَمَا أثَّرَ بعثةُ اثنين، ولا إعزاز الواحد باثنين بعدَهُ ثانياً وثالثاً، ولكان (¬1) المعجزُ الثاني والثالث عَبَثاً، حيث لم يفد الثاني إلا ما أفادَهُ الأولُ؛ من كونِه برهاناً [و] حجَّةً على صدقِ ما (¬2) ظَهَرَ على يديهِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولو كان". (¬2) في الأصل: "مَنْ".

[فصل في] شبهةِ المخالِفِ [قالو]:، إِنَّ مجيءَ الثاني بما جاءَ به الأولُ لا يفيدُ إلا ما أفادَهُ الأولُ، فكان تبَعاً، والتابع لا يكونُ نبيّا، وإنْ جاءَ بغيرِ ما جاءَ بهِ الأولُ، فذاكَ أمرٌ لا يُخالِفُ فيهِ أحدٌ ممّن يقولُ بالشرائعِ والنُّسوخِ. فيُقال: قد بَيَّنَا الفائدةَ، وهي إحياءُ الشريعةِ الأُولى، وقد تكون المصلحةُ تجديدَ. نبوةٍ مُذكِّرةٍ بالأولى، ومُسْنِدَةٍ لها، كما كانت المصلحةُ في بعثةِ نبيَّين لمحي عصير واحدٍ لاتَمْنَعُ ذلك، وأنَّهُ كانَ، والسِّيرُ تشهدُ بهِ، وكتابُ اللهِ ينطقُ به، والشرعُ لا يأتي بما لا يجوِّزُهُ العقلُ. على أنَّه باطلٌ بإبقاءِ النبيِّ الواحدِ زماناً طويلاً؛ لأنَّهُ لا يفيدُ بقاؤُهُ في العامِ الثاني إلأَ ما أفادَ في العامِ الأول، وكذلك المعجزةُ بعدَ المعجزةِ، ما تفيدُ إلاَّ التأكيدَ وتناصرَ الأدلةِ عندَ المكلفين، وكذلكَ مجيءُ الرُّسُلِ بعدَ العقلِ، وإنْ جاؤوا بما يوافقُ العقلَ، لا يقالُ: ما أفاد. ومنها: أنْ قالوا: عندكم أنَّ العقلَ لا يُبيحُ، ولا يحظرُ، ولا يُوجِبُ، فكيفَ خصَّصتُم هذه المسألةَ بتجويزِ ذلك عقلاً؟! فيُقال: إنما بيَّنا أن ذلك مما لا يُحِيْلُهُ العقلُ، وعندنا في قضايا العقول تجويزاتٌ وإحالاتٌ، فمهما اختلفَ الناسُ في أنَّ العقول هل تُبيحُ، أو تحظرُ، أو توجبُ؛ فإنهم لا يختلفون أنَّ في العقلِ تجوِيزَ جائزات، وإحالةَ محالاَتٍ، وإيجابَ واجباتٍ، فيما يرجعُ إلى الوجودِ دونَ الأحكامِ، من قولِنا: فناءُ الأعراضِ عقيبَ وجودِهَا واجبٌ في العقلِ، وإيجادُ مثلِ الصانعِ محالٌ في العقلِ، وكذلك رَدُّ

* فصل هل كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - متعبدا بشريعة من قبله؟

الأزمانِ الماضيةِ، فهذا من الأمورِ التي لا خلافَ فيها، بخلافِ قولِنا: واجبٌ، ومحظورٌ، ومباحٌ، في بابِ الأحكامِ الداخلةِ تحتَ التكليفِ. فصلٌ إذا ثَبَتَ جوازُ بعثةِ نبى بشريعةِ مَنْ قبلَهُ، فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - هل كان مُتَعَبَّداً بشريعةِ مَنْ قبلَه؟ فيه روايتان: إحداهما: أنَّه متعبَّدٌ بما صحَّ مِنْ شرائع مَنْ قبلَهُ بطريقِ الوحي إليهِ، لا مِنْ جهتِهم، ولا نَقْلِهم، ولا بكتبِهَم المُبَدَّلةِ المغيَّرةِ، نَصَّ عليهِ أحمدُ: في إيجابِ ذبح الكبشِ فداءً عن ولدِ مَنْ نَذَرَ ذبحَ ولدِهِ، واستدلَّ بشريعةِ إبراهيمَ عَليه السلام، واستدلَّ في القولِ بالقرعةِ بقصةِ زكريا، والاقتراعِ في كفالةِ مريم، وذي النونِ حيثُ ساهَمَ، وبما أوحاهُ اللهُ في التوراةِ مِنَ القِصاصِ، وذكرَهُ في كتابهِ عن شريعةِ موسى، واختارَ هذه الروايةَ أبو الحسنِ التميمي، وهي قولُ أصحابِ أبي حنيفة (¬1)، فيما حكاهُ أبو سفيانَ عن أبي بكير الرازي (¬2)، وقولُ أصحابِ الشافعيِّ في أحدِ الوجهين عنهم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "أصول السرخسي" 2/ 99، و"التوضيح" 2/ 16، و"كشف الأسرار" 3/ 398. (¬2) انظر" الفصول" 3/ 22. (¬3) لأصحاب الشافعي في هذه المسألة ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متعبداً بشريعة من قبله.=

والروايةُ الأخرى: أنَّهُ لم يكنْ متعبَّداً بشيء مِنَ الشرائع، إلا ما أُوحِي إليهِ في شريعتِهِ، وبهذهِ الروايةِ قالت المعتزلة (¬1)، والأشَعرية (¬2)، وأصحابُ الشافعى في الوجهِ الآخرِ. ثم اختلفَ القائلونَ بأنَّهُ متعبَّدٌ بشرعِ مَنْ قبلَهُ: بأيَ شريعةٍ كان متعبَّداً (¬3)؟ فقالَ بعضُهم: كان متعبداً بشريعةِ إبراهيمَ خاصةً، وإليه ذهبَ أصحابُ الشافعيِّ (¬4). وذَهَبَ قومٌ منهم: إلى أنَّهُ متعبَّدٌ بشريعةِ موسى، إلا ما نُسِخَ في شرعِنا. وقالَ قومٌ منهم: كان متعبداً بشريعةِ عيسى التي تليهِ، وهي أقربُ إليهِ. وظاهرُ كلامِ صاحِبنا رضي اللهُ عنه: أنَّهُ كان متعبداً بكلِّ ما صحَّ ¬

_ = الوجه الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متعبداً بشريعة من قبله. الوجه الثالث: التوقف، وقال بهذا الوجه إمام الحرمين، وابن القشيري، وإلكيا، والآمدي، وغيرهم، وهذا الوجه الثالث قد أغفله المصنف رحمه الله. انظر "البرهان" 1/ 504، و "الإحكام" للآمدي 4/ 376، و "المحصول" 2/ 519، و"البحر المحيط" 6/ 40. (¬1) "المعتمد" 2/ 899، و"البرهان" 1/ 553، و"العدة" 3/ 756. (¬2) "البرهان" 1/ 504، و" المستصفى"1/ 255، و"الأحكام" للآمدي 4/ 378. (¬3) في الأصل: "متعبد". (¬4) "البرهان" 1/ 523، 2/ 302, و "شرح اللمع"2/ 250، و "الإبهاج" للسبكي 2/ 302.

* فصل في أدلتنا

أنَّهُ شريعةٌ لنبيٍّ قبلَهُ، ما لم يثبُتْ نسخُهُ. فصلٌ في أدلتِنا فمنها: قولُه تعالى وذَكَرَ الأَنبياءَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وهذا أمرٌ له - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداءِ بهم صلواتُ الله عليهم، والأمرُ على الوجوبِ، والاقتداءُ بهم على العمومِ في جميعِ ما جاؤوا بهِ من الهُدى، إلاَّ ما خصَّهُ الدليلُ الناسخُ. فإنْ قيلَ: هذا يرجعُ إلى التوحيدِ، والاعتقادِ في اللهِ، وفي صفاتِهِ، وما يجبُ لهُ ويجوزُ عليه، وما يستحيلُ عليهِ ولا يجوزُ في حقِّهِ، والدليلُ على ذلك: أنَّ الفروعَ غيرُ متَّفِقَةِ، والاقتداءَ بهم فيها غيرُ ممكنِ؛ لأنًّ هذا يُحرِّمُ السبتَ، وهذا يُبيحُهُ ويُحرّمُ الأحدَ، وهذا يُحرِّمُ شحماً ويبيحُ غيرَهُ، وهذا يُبيحُ مِنَ الشحومِ ما حرَّمَهُ الآخرُ، وهذا يبيحُ حيواناً، وهذا يحرِّمُهُ، وهذا يحرِّمُ نكاحَ امرأةٍ يُبيحُها الآخرُ، والمتفقُ عليهِ ما ذكرْناهُ. والثاني: أنَّ الاعتقادَ في الأصول مقطوع بهِ بما قامَتْ بهِ دلالةُ العقلِ وبرهانُهُ، وغيرُهُ مِنْ فروع أديانِهم غيرُ مقطوعٍ بهِ، بل الحكمُ بهِ مِنْ طريقِ غلبةِ الظنِّ. فيقال: أمَّا التوحيدُ: فأدلتُهُ العقليّهُ لا يدخلُها اتباع ولا اقتداءٌ فيما دلَّتْ عليهِ العقولُ، و [ما في] شَريعَتِنا [مِمَّا] دلَّتْ عليهِ العقولُ في

شرائع مَنْ قبلَنا لا يَتبعُ بعضُنا بعضاً فيهِ، كما لا يقال فيما أُوحِيَ إلى نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - موافقاً (¬1) ما أوحِيَ إلى مَنْ قبلَهُ: إنَّهُ متبعٌ فيهِ مَنْ سبقَهُ، ولا اعتقدَ ما اعتقدَهُ مِنْ أصلِ الإثباتِ والتوحيدِ، لما وَصَلَهُ مِنْ أن غيرَهُ كان يعتقدُهُ، بل نَظَرَ واعْتبَر، فأفَادَهُ نظرُهُ واستدلالُهُ إلى ما أدَّاهُمِ نظرُهُم، بخلافِ الصلاةِ والصيامِ، فإنَهُ إذا ثبتَ عندَهُ أنَّ شهرَ رمضان اتَّفَقَ على صومِهِ مَنْ تَقدَّمَ مِنَ الأنبياءِ، صامَهُ بطريقِ الاتباعِ لِمَنْ سَبَقَ، وكان وحيُ اللهِ سبحانَهُ بإيجابِ صومِهِ إلى مَنْ سَبَقَ كافياً، وكذلكَ الصلاةُ كانَ يَتحنثُ بحِراءَ، ويعبدُ اللهَ سبحانَه (¬2) بما ثبتَ عندَهُ انَّهُ تَعبَّدَ بهِ إبراهيم عليهِ السلامُ، فهذا هو الاتباعُ حقيقةً. على أن اللفظَ عامٌّ، والأمرَ شاملٌ لكلِّ ما يُسمى هُدى، وتوحيدُهُم هُدى، وتعبداتُهم هُدى، فلا وجهَ للتخصيصِ بالإيمانِ خاصةً دونَ أعمالِهِ. فأمَّا قولُهم: إنَّ الفروعَ قد اختلَفَتْ فيها شرائعُ مَنْ قبلَهُ، فلا يمكنُ الاتباعُ مع الاختلافِ؛ فإنَّ المأخوذَ عليه أن يتبعَ ما اتفقوا عليه، إِنْ ثَبَتَ أنَّ ذلكَ الأمرَ شرعٌ لهم، وإنْ كان منسوخاً اتبعَ المِلَّةَ الآخرةَ الناسخةَ، ولمِ يتبعْ منسوخاً، ولا نتصورُ ما ذكرْتَ أنتَ مِنَ الثالثِ، وهو أنْ يكون مختلَفاً فيهِ غيرَ منسوخٍ؛ لأنَّهُ لا يجوزُ أنْ يأتيَ عيسى بتحريمِ الأحدِ، مع بقاءِ شريعةِ موسى بتحريمِ السبتِ وإباحةِ الأحدِ، بل لمَّا جاءَ عيسى بعدَ موسى (3 فما أَخَذَ به 3) مِنْ شريعةِ موسى من تحريمٍ وإيجابٍ وتحليلٍ، فقد صارا متفقين فيهِ، وما جاءَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "موافق". (¬2) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (252). (3 - 3) في الأصل: "فيما أحدثه".

بهِ مِنْ حلِّ السبتِ والأحدِ بالاحترامِ للأحدِ، صارَ الحكمُ له، وبانَ نسخُ الأولِ، وما لم يأتِهِ فيهِ وحيٌ، فإنَّ عيسى عندنا ومحمداً (¬1) صلى الله عليهما وسلم بعدَهُ متعبّدانِ (¬2) بما جاءَ بهِ موسى، إذا لم يأتِهما فيهِ وحيٌ بتحريم ولا تحليلٍ، فلا نتصورُ ما ذكرْتَ، بخلافِ ما ألزَمنا مَنْ لم يَجْعَلْ قولَ الصحابيّ حجةً، حيثُ استدلَلْنَا بقولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجومِ، بأيِّهم اقتَدَيْتُم اهتديتم" (¬3)، وقولهِ: "اقتدُوا باللذين مَنْ بعدي: أبي بكرٍ، وعمرَ" (¬4)، فقالوا: كيفَ يمكنُنَا أنْ نتبعَ الصحابةَ ومذاهبُهم مختلفةٌ؟ فإنْ أشرتُم بذلكَ إلى إجماعِهم، وعَقَلْتُم منه ذلكَ، بَطَلَتْ مَزِيَّةُ الصحابةِ، لأنَّ إجماعَ التابعين ومَنْ بعدَهم كذلك، وإنْ أردتُم به وعقلْتُم منه ما اختلفوا فيه، لم يصحَّ لكم أنْ تجمعوا بين مذهبِ أبي بكرٍ وعليٍّ في توريثِ الجَدِّ مع الإخوةِ، فإنَّ أبا بكرٍ يسقِطُهم بهِ، وعليّاً وزيداً يُوَرِّثانِهم (¬5) معهُ، ويختلفُ عليٌّ وزيدٌ في كيفيةِ إرثِهم معهُ (¬6)، فهذا السؤالُ هناكَ يردُ صحيحاً، ويكون الكلامُ بحسبِهِ، فأمَّا ها هنا، فلا نتصورُ بقاءَ السبتِ في شريعةِ عيسى ¬

_ (¬1) في الأصل: "محمد". (¬2) في الأصل: "متعبدين". (¬3) تقدم تخريجه في 1/ 280. (¬4) أخرجه أحمد 5/ 385 - 402، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 3/ 256 - 257، والترمذي (3662) و (3663)، والحميدي 1/ 214 - 249 من حديث حذيفة بن اليمان. وقال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه ابن عدي 1/ 75 من حديث أنس. (¬5) في الأصل: "يورثهم". (¬6) انظر المغني 9/ 68 وما بعدها.

والأحدِ جميعاً، ولو اتفقَا (¬1)، اتبعَهُما نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، كما يتبعُهما فيما اتفقَا فيهِ من صومِ رمضانَ فيما بقيَ في شريعةِ موسى بعدَ مجيءِ عيسى، [لأنه] ما جاءَ عيسى بخلافهِ متعبداً به في شريعتِه (¬2)، ولا مُحْترِماً. وأما قولُهم: إنَّ التوحيدَ مقطوعٌ به، فعادَ الاتباعُ إليهِ، وما دونَهُ ليس بمقطوعٍ. فإنَّا لا نجعلُهُ شرعاً لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إلا بطريق الوحي، فإذا أعْلَمَه جبريلُ أنَّ ذلكَ مِنْ شريعةِ إبراهيمَ أو موسى، اتبعَهما لكونه (¬3) شرعاً لهما، واستصحبَ حكمَ الأصلِ وبقاءَ حكمِ الوحي الأولِ، إلى أنْ يأتيَ وحيٌ ثانٍ يخصُّهُ، ينهَاهُ عنِ البقاءِ على حكمِ الأصلِ، فأمَّا بظنٍّ، أو نقل لا يقطَعُ بهِ، فلا يكونُ ذلكَ شرعاً له. ومنها: قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..} [المائدة: 45] إلى آخرِ الآيةِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا كَسَرَت الرُّبيِّعُ سِنَّ جاريةٍ: "كتابُ الله القِصاصُ" (¬4)، وإنما عنى بقولِهِ: "كتابُ اللهِ": التوراةَ، إذْ ليس في كتابِنا ذكرٌ للقصاصِ في السِّنِ إلا ما حكاهُ مِنْ كِتْبَةِ ذلك في التوراةِ، وتَوَعَّدَ (¬5) اللهُ سبحانَهُ، وذَمَّ على [عَدَمِ] الحكم [بها] فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45] ¬

_ (¬1) في الأصل: "اتفق". (¬2) في الأصل: "شريعة". (¬3) في الأصل: "بكونه". (¬4) أخرجه البخاري (4500)، ومسلم (1675). (¬5) في الأصل: "وتواعد".

و {الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، و {الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، تكررَ ذلكَ عقيبَ قولِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}، وهذا يعمُّ كلَّ تاركٍ للحكمِ بما فيها؛ من مُسْلمٍ ويهودي، وغيرِ ذلكَ، وأيَّدَ ذلكَ بقوليِ سبحانَهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، ونهاهُ بعدَ ذلكَ عن اتباعِ أهوائِهم، فقال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48]، وإذا لَمْ يَنْهَ إلا عَن اتباعِ أهوائِهم، بقيَ اتباعُ ما أنزل اللهُ إلى أنبيائهم (¬1). ومنها: قولُه تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وهذا تصريحٌ بالأمرِ بالاتباعِ لإبراهيمَ فيما نزلَ إليه. فإنْ قيل: قولُه: {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} دلالةٌ واضحةٌ في أنَهُ أرادَ التوحيدَ دونَ فروعِ دينهِ وعباداتِه (¬2). فيُقال: الملةُ عبارةٌ عنِ الشريعةِ، وصفتُهُ بكونهِ حنيفاً، ونَفْيُ الشركِ عنهُ لا يقصرُ الاتباعَ ويخصُّهُ، بل الاتباعُ على عمومِهِ، ألا تَرى أنَّ التوحيدَ لا يختصُّ بإبراهيمَ، بل هو اعتقادُ كلِّ نبىٍّ قبلَهُ وبعدَهُ؟ فلَمَّا خَصَّ ملةَ إبراهيمَ، عُلِمَ أنَّهُ أرادَ أحكامَ شريعتِهِ، دونَ التخصيصِ بتوحيدِهِ. على أنَّا قد بيَّنَّا أنَّ أدلةَ التوحيدِ عقليَّةٌ، لا تحتاجُ ولا تفْتقرُ إلى وحيٍ، بل طريقُها النظرُ والاستدلالُ بدلائلِ العقلِ، ولولا سبقُ أدلةِ العقولِ بأنَّ لنا صانعاً، ولهُ ملائكة، وأنه يجوزُ أَنْ يُرسلَ إلى الآدميين؛ بما يكون سياسةً لهم، وحافظاً مِنْ شرائعِ الأحكامِ، ¬

_ (¬1) العدة 3/ 759 - 760. (¬2) في الأصل: "وعاداته".

ومذللاً لهم بما أمَرهُم بهِ مِنْ التعبداتِ، لَما علمنا بنزولِ مَلَكٍ ولا وحيٍ حكماً مِنْ الأحكامِ، بلْ كانَ ذلكَ مشوِّشاً لعقولِنا، وورَّثَنَا التعجبَ والدَّهشةَ؛ من مجيءِ حيٍّ يخالفُ خَلْقَنا وَشَكْلَنا بأمير ليس مِنْ عاداتِنا، كما أَدْهشَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مجيءُ جبريلَ عليه السلامُ، وقراءةُ القرآنِ عليه (¬1)، لولا فزعُهُ إلى أدلةِ العقولِ، وأَنَّ اللهَ سبحانهُ يجوزُ عليهِ ذلكَ، ويجوزُ أنْ يجعلَ ذلكَ طريقاً إلى سياسةِ العالَمِ. ومنها: أَنّا نقولَ: إِنَّ اللهَ سبحانَهُ إذا أوحى إلى نبي مِنَ الأنبياءِ بأحكامٍ ثَبَتَتْ (¬2) شرعاً ومِلَّةً له، ودانَ بها من ثبتَ عندَهُ صدقُهُ، فلا سبيلَ إلى رفعِها ونسخِها وإزالةِ أحكامِها إلا بمثلِ الوحي الذي ثَبَتَتْ بهِ، ومعلومٌ أَنَّ بعثةَ رسولٍ ثانٍ ليسَ بمناقضٍ لها ولا منَافٍ، فوجبَ بقاءُ تلكَ الشريعةِ بطريقها المقطوعِ به، والتَمسكُ بهِا (¬3)، إلى أَنْ يردَ مِنَ الوحي إلى النبي الثاني ما (¬4) يضادُّ تلكَ الأحكامَ وينافيها، فيكونُ ذلكَ نسخَاً لها، وما هذا إلا بمثابةِ الآيتين (¬5) في شريعتِنا، مهما أمكنَ الجمعُ، فلا نسخَ، فإذا لم يمكن الجمعُ بينهما، كان الحكمُ للأخيرةِ، فارتفعَ حكمُ الآيةِ الأولى، حتى إننا لو تركنَا وأخْلَلْنَا بالعباداتِ التي تعبَّدنا اللهُ بها في الشريعةِ الأولى، لحسُنَ مِنَ اللهِ سبحانهُ عتابُنا (¬6) ولَوْمُنا على ذلكَ، والاحتجاجُ علينا بما جاءَ بهِ ¬

_ (¬1) وذلك عند بدء الوحي إليه - صلى الله عليه وسلم -. انظر "فتح الباري" 2/ 22 وما بعدها. (¬2) في الأصل: "ثبت". (¬3) في الأصل: "به". (¬4) في الأصل: "بما". (¬5) في الأصل: "الآية" (¬6) في الأصل: "عتبنا".

الرسولُ الأولُ، ولم يكن لنا (¬1) أَنْ نحتجَّ عن تركِ العباداتِ بنفس بعثةِ الرسولِ الثاني، لأنَّهُ مَا لَمْ تأتِ بنسخِ الأولِ ولا ردعِهِ لم تكن نفسُ بِعْثَتِه حُجَّةً في تركِ العملِ بما سَبَقَ. ومنها: أن اللهَ سبحانَهُ حكىْ لنا في كتابنا أحكاماً مِنَ الكتب الأُولى، ولا يفيد ذكرُهُ لها إلاَّ تَعبُّدَنا بها، فأمَا أَنْ يورِدَها لنُخالفَهَا فلا، أوْ يذكرَها لا لفائدةٍ، فلا يجوزُ أيضاً، لم يبقَ إلا أَنّهُ ذكرَها لنَعْملَ بها، ونَتمسَّكَ بالعملِ بها إلى أَنْ تقومَ دلالةُ النقلِ عنها بالنسخ لها، فأمَّا مع الاحتمالِ، وعدمِ نَصٍّ يُوجبُ النسخَ لها، فيَجبُ (¬2) أن نكونَ باقينَ على حكم الأصلِ، ونُحرِّرُه قَياساً، فنقولُ: إنَّهُ حَكمٌ ثبتَ بطريقٍ يثبتُ بمثلِهِ، فلا يُرفعُ إلاَّ بنصٍّ ينافيهِ، كالآيتينِ مِنْ كتابِنا، والخَبرينِ المَرْوِيَّينِ عن رسولِنا - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أَنَّ الشرعَ للنبيِّ الأولِ جاءَ بلفظٍ مطلقٍ، فاقتضى بقاءَهُ على الدوامِ، ما لم يُصَرِّحْ وينصَّ على رفعِهِ، وأنَّ التمسك بهِ مفسدةٌ، والذي يُوضِّحُ هذا: أَن نفسَ بعثةِ الرسولِ الثاني لا يجوزُ أَنْ تكونَ مُغيَّرةً حكمَ الشرع الأولِ، وإنَّما الذي يغيِّرُ الشريعةَ الأولى أو ينسخها، تصريحٌ في الشَريعةِ الثانيةِ بتركِ الأولى. ومنها: ما صحَّت به الروايةُ مِنْ أنَّهُ كان يتحنَّثُ بحراءَ، وكان يججُّ ويعتمرُ، ويذبحُ، ويكدُّ البهائمَ بالركوبِ، وهذا كله ليسَ طريقُهُ العقلَ، وإنما طريقُهُ الشرعُ، ولم يكنْ قد نزلَ عليهِ وحيٌ، فلم يبقَ إلأَ أنَّه كان ذلكَ منه بحكمِ شرائع مَنْ قبلَهُ، وقد رُوِىَ أنَّهُ كان يسألُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثاني". (¬2) في الأصل: "فيوجب".

عن شريعةِ إبراهيمَ، ثم يتعبدُ بها (¬1)، وكان يتجنبُ الأوثانَ والأزلامَ. فإنْ قيلَ: ليس هذا من القولِ الصالح لإثْباتِ الأصولِ؛ لأنَّها آحادٌ مظنونةٌ، وطرقُها غيرُ مقطوعةٍ، نعم، ولا كانَ له طريقٌ يثقُ إليهِ، فيصيرُ متعبداً به؛ لأنَّ القومَ كانوا بينَ عابدِ صنمٍ، وبينَ أهلِ كتابٍ مُغير مبدَّل، والوحي لما (¬2) يَنْزِلْ، لم يبقَ إلا أنه إن صح ذلك منه، فإنَّه كانَ يفعلُ ذلك برأيهِ، وما يغلبُ على ظنِّه صدقُ راويهِ (¬3) من حيث الأمانةُ لا الديانةُ، فلا يكونُ ذلك تَعبُّداً مُعوَّلاً عليه، ولا معمولاً به عملَ شريعةٍ وتديُّنٍ. قيل: لا (¬4) يُطلبُ لأصول الفقهِ القطعياتُ، وقد تكرَّرَ منكم هذا، وليس بصحيح؛ لأنَّ هذه تَنْحطُّ عن أصول الدين، بأنْ لا يُفسَّقَ المخالفُ، ولا يُكفرَ، ولا يُهجَرَ، ولا يُدركُ لها أدلةٌ قطعيةٌ، ولا يُظفرُ بها، ولأنَّ السِّيَرَ كلَها متطابقةٌ على ما ذكرنا، وقد تلقَّتها الأمةُ بالقبولِ، فصارت كالتواتر. فإن قيل: فلو صَحَتِ الروايةُ فيه، حملناه على أنَّه كان يفعلُه طمعاً في الانتفاع به، لا على تحقيق، و [أنَّه] تَرَكَ الأصنام تنزُّهاً، وكان عقلُه وتدبيرُه يمنعُه من ارتكابِ ذلك، أو استقباحاً له بعقله، فإنَّ العقل يستخبث ذلك ويستقبحهُ، فإن صحَّ فعلُه وتركُه، فلا طريقَ لكم إلى أنَّه فعلَ ذلك متبعاً لشرعِ من قبله، بل يحتملُ ما ذكرنا. قيل: ليس في قُوَى العقلِ أن تقوم دلالته على فِعْلِ كُلْفةٍ، وتركِ ¬

_ (¬1) انظر ما أورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 177. (¬2) في الأصل "فيما". (¬3) في الأصل: "رواية". (¬4) في الأصل: "ولا".

* فصل في شبه المخالفين

لذةٍ، إلا إذا ظهرت به المضرةُ عاجلاً، أو كشفت دلالةٌ عن فسادِ العاقبةِ، ولا دلالةَ على ذلك إلا نَقْلٌ عن الأنبياءِ، أو وحيٌ من السماءِ، والوحيُ لم يكن نزلَ عليه بعد، فلم يبقَ إلا نقلُ إنس إليه، وهذا هو الظاهر؛ لأنّ الإنسانَ في العادةِ لا يفارقُ أهلَه وعشيرتَه ويُسَفِّهُهم (¬1)، ويَمْتازُ عنهم بواقع، وإنما يفعلُ ذلك في اطِّراد العادةِ بمُنبِّهٍ يُنبِّهُه، ومُذكِّير يُذَكِّرُه. فصلٌ في شبهِ المخالفين فمنها: قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، والشِّرْعةُ: الشريعةُ، والمِنْهاجُ: الطريقُ، فدلَّ ذلك على أنه لا يتبعُ الثاني الأولَ؛ لأنَّ الشريعةَ لا تضافُ إلا إلى مَن يُخَصُّ بها، فأمَّا التابعُ، فلا يكونُ له شرعةٌ خصُّه. فيقال: ليس تخلو شريعةٌ ثانية من مخالفة لما قبلها بنوع نسخ لبعضِ فروعِها؛ من تحريمِ مباح، أو إباحةِ محظورٍ، أو إسقاطِ واجب، فلأجلِ ذلك الخلافِ خصّها باسم: شرعةٍ، [و] أضافها إلى من شرعت له، كما يقول القائل: لكل فقيهٍ مذهبٌ، وإن اتفقوا في بعض المسائل، واختلفوا في بعضٍ، ولا تمنعُ مشاركتهم في بعض الشريعة من كونِ كل منهم له شريعةٌ، كما أن مشاركتَهم في التوحيدِ لا تمنعُ عندهم انفرادَ كل منهم بشريعةٍ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ويسفهم".

ومنها: ما رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بُعِثْتُ إلى الأَحْمرِ والأَصفرِ، وكلُّ نبيٍ بُعِثَ إلى قومِه" (¬1)، فدل على أنهم لم يكونوا مبعوثين إلا إلى قوم مخصوصين، فإذا لم يستوعبوا أهلَ عصرهم، أولى أن لا يستتبعوا عصرَ غيرهم. فيقال: إنَّما لم يستوعبوا أهلَ عصرهم، لأنَّه كان يتفقُ في العصر الواحد اثنان وثلاثة، كلُّ واحد منهم بشريعة تخصه، وكلامُنا فيما (¬2) إذا جاء نبي بعد النبي لا بمعنى يخصُه، ولا بنَسْخِ شريعةِ من قبله، فذاكَ الذي نحنُ فيه، وكذلك نقولُ في نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ما جاءَ به ممَّا يخالفُ من تقدَّمه، لا يتبعُ فيه من تقدمه، وما لم يرد فيه شيءٌ يخصُه كان متَبعاً لمن قبله. جوابٌ آخرُ: وهو أنَّ اللهَ سبحانَه لَمَّا عَلِمَ أنَّ للأُمَّة الدين بعدَه في اتباعِ الشرعِ الأول مصلحةً، أمر باتباعه، ولَمَّا عَلِمَ أنه لا مصلحةَ بعمومِ بِعْثتِه في حالِ حياتِه إلى الجماعةِ، قَصَرَه على بعضِ أهلِ العَصرِ. على أنَّه يحتمل أنْ نقول: تكون شريعته باقيةً في القومِ الذين بُعثَ إليهم خاصةً، دون النبيِّ الذي بعثَ، ودون غيرِهم (¬3)، فيكون نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - تابعاً لملَةِ أبيه إبراهيم، لأنّه كان مبعوثاً إلى العرب، والنبيُّ عربيٌّ، وإنّما خصيصةُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لم يعاصره نبيٌّ مبعوث إلى قوم، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (521) من رواية جابر بن عبد الله بلفظ: "كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود". وأخرجه الدارمي 2/ 224 عن أبي ذر. (¬2) في الأصل: "فيه". (¬3) في الأصل: "غيره".

فإنه قد كان يجتمع في العصر الواحد أنبياءُ عدة، فلما بعث نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، لم يبقَ نبيٌّ في عصره، ولا بقيَ نبيٌّ بعده ينسخُ شريعته، فاستوعبت رسالته وشريعتُه سائرَ الأقطارِ، وشاعت في الأرضِ كلِّها، ولَزِمَتْ (¬1) كلَّ من بلغه دعوتُه، حتى إنَّ الأديانَ التي بقيت كتُبها، وبقايا أهلها، أُمروا باتباعِه، فهذا موضعُ الخصيصةِ، وموسى بقيت شريعتُهُ، لكن بقيت مع شريعتِه شريعةُ عيسى، فهما شريعتان مستعملتانِ إلى أن بُعِثَ نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فلما بعث نبينا - صلى الله عليه وسلم -، صار الحكمُ لِمَا جاءَ به من شريعتهِ، ولم يبقَ معه شريعةٌ تُتَّبعُ، فهو وإن اتبعَ شريعتي موسى وعيسى، إلا أنهما أُمِرا -أعني: بقيّهَ من بقيَ منهما- أن يسمعا ما يقولُ لهما، وما يقضي به على نسخ ما كان من شريعتهما، ولو كان مثلَ عيسى، لكان يَبْقى اليهود والنصارى على اتِّباع نبيهما إلا فيما نُسِخَ، وما كانَ الأَمرُ كذا، بل أُخِذَ عليهما جميعاً تركُ التوراةِ والإنجيلِ، والعملِ بحكمهما، ووجبَ عليهما اتباعُ ما جاءَ به، والتعويلُ على ما يخبرُ هو به عن الشريعتين جميعاً، دون ما في كتبهما من التوراةِ والإنجيلِ. ومنها: ما رويَ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان معه شيء من التوراة ينظر فيه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان موسى حَيّاً، لَمَا وَسِعَه إلا اتِّباعي" (¬2)، وروي أنَّه قال له: "أَلم آتِ بها بيضاءَ نَقيَّةً؛ لو أَدْركَني موسى، لَمَا وَسِعَه إلا اتِّباعي"، فوجه الدلالة: أنه أنكرَ النظرَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولزم". (¬2) أخرجه أحمد 3/ 470 - 471 من حديث عبد الله بن ثابت الأنصاري، و 3/ 338 من حديث جابر بن عبد الله، وأخرجه البغوي في "شرح السنة" 1/ 270. وانظر "مجمع الزوائد" 1/ 173 - 174.

في التوراةِ، وذكرَ أنَّ المُعَوَّلَ (¬1) والعملَ على ما جاء به دون شريعةِ موسى، وهذا ينفي ما تقولون: من أنَّه هو المتبعُ لشريعةِ من قبلَهُ، والعاملُ بها، إلا ما خُصَّ به من النسخِ، والزيادات التي زيدت (¬2) في شريعته؛ لأنه إذا أخبر بأنَّه لو كان حياً، لما وسعه إلا أن يتبعه، كيف يكون تابعاً له بعد موته؟! بل هذا القول تنبيه على أنَّه لا يجوزُ اتباعُهُ لشريعةِ موسى وهو ميتٌ. فيقال أولاً: أين ما يتكرَّرُ منكم من إنكارِ أخبارِ الآحادِ في مثل هذا الأصل؟! ثم إن القرآن يقضي عليه؛ حيث عدَّدَ مَن ذكر من الأنبياء صلواتُ الله عليهم، ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 77]، أوقوله:، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، فهذه الآيُ وأخواتُها، تعطي أنَّه مأمورٌ باتباعِ من سبقه من الأنبياءِ، وقد أخبرَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ لقيهُ [موسى] ليلةَ المعراجِ؛ حيثُ نُشِرت له روحُهُ في مثالِ جسدِهِ، وأشارَ عليه بالاستنقاصِ من الخمسين صلاة التي شرعت، حتى عادَ بها إلى خمس صلواتٍ (¬3)، وأشار عليه بالاستنقاص، فاستحيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من المعاودة، ولم يستنكف عن اتباعه، فالقرآنُ وهذا الخبرُ يقضي على خبرِ عمرَ والتوراة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المعمول". (¬2) في الأصل: "زيد". (¬3) وذلك في قصة الإسراء والمعراج وفرض الصلاة كما أخرج أحمد 4/ 208 و 210، وا لبخا ري (3207)، ومسلم (164)، والترمذي (3343).

على أنَّ الإنكارَ كان لأنَّه نظرَ في هذه التوراةِ بعد دخول التبديل والتغيير عليها، ولا يأمنُ أن يجدَ فيها ما قد وضعوه من إنكارِ ورودِ شريعةٍ بعد شريعةِ موسى، وما أنكروه من أمرِ عيسى، وخوضهم فيه وفي شريعته، وما قد وضعوه في حق نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - مما يدلُّ على أنه متسلط وملك لا أنه نبي، وأَنه (¬1) مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى من أَتبع موسى، وأمثال ذلك من التخاليط. وقوله: "لو أدركني موسى، لما وسعَه إلا أن يتبعني"، فكلام صحيح؛ لأنه لَمَّا (¬2) جاء بنسخِ السبت -وهو الذي شرعه موسى-، وتَخليلِ ما حَرَّمَه من الشحوم عليه، وتغييرِ أحكامٍ كثيرة من التوراة، وموسى ميتٌ [فإنه]، لو كانَ حياً، لما جازَ له البقاءُ على حكم التوراة مع نسخِ القرآن لها، فهذا عينُ الاتباع، فما قال إلا الحقَّ والصدقَ الذي نحن قائلون به، ولا ينفي هذا اتباعَه لما شرعَه اللهُ من حكمِ اليومِ، ونَسَخَه (¬3) في كتابنا، فقد جمعنا بين القرآن وما رويتموه، وأنتم لا يمكنكم الجمع. ونحن لا نقول: إنَّ نبيَّنا متبعٌ لشريعةِ موسى بما يجدُ في التوراةِ، لكنْ بأمرٍ من الله سبحانه يَنْزِلُ به الوحيُ عليه، وإعلامٍ منه أنَّ هذا كانَ شرعاً لي وديناً لموسى. ومنها: أن قالوا: قد ثبت بالنقل الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُسألُ عن الأحكامِ، فيتوقفُ عن الجواب، ولو كانَ متَّبعاً لشرع من قبلَه، لأجابَ بحكم تلكَ الشرائعِ، ولم يتوقف انتظاراً للوحي. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لكن". (¬2) في الأصل: "كما". (¬3) في الأصل: "وبنسخه".

فيقال: إنَّما توقَّفَ، لأنَّ حكمَ الشرائعِ التي كانت لمن قبلَهُ من الأنبياء صلوات الله عليهم ليس يعلمها ويحكيها إلا من شهد عليهم بالكذبِ والعناد، وتغيير كتُبه، وعنادِهم لرسله، فلم يُعوِّلْ في ذلك إلا على طريق الوحي إليه، فإذا أُخْبِرَ بذلك، اتبعَ، وذلك مثلُ قوله في كتابنا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...} [المائدة: 45] الآيات، فلهذا كان توقفُهُ، لأنَّهُ لا يتبع [إلا] ما صح عنده من شرائع من قبله. ومنها: أنَّ الشرائعَ ما جاءت إلا بمصالح العبادِ، وخُصَّ كُلُّ نبيٍّ بمعنىً بحسب مصلحةِ قومه، وعُلمَ أنَّهمَ يَمَلُّونَ الأمورَ الدائمة، ويميلون إلى الأحدث، وعلم أن لكل عصر حكماً (¬1) هو أصلح لأهله، وهذا يمنعُ من اتباع نبي لنبيٍّ، لأنَّه قد يكونُ الحكمُ الأَوَّلُ (¬2) أصلح لهم، والأصلحُ لنا في غير ذلك. فيقال: نحنُ لا ننكرُ هذا، وكما لا ننكر هذا، أنتم لا تنكرون أنه قد يبقى حكم كان في الشريعة الأولى، فلا ينسخُ بنبأ الشريعةِ (¬3) الثانيةِ، فيتبيىْ بذلك أنَّهما استويا في ذلك في باب الأصلح، وإنَّما الذي اختلفنا فيه هو ما يردُ به النسخُ، فنحنُ لا نجعلهُ تابعاً إلا في الحكمِ المستبقى، فأمَّا في الحكمِ المرفوعِ بالنسخِ، فلا، وهذا هو الظاهرُ، لأنَّه كان مصلحةً لهم خاصَّةً دوننا، لنسخهِ في شريعتنا؛ ولأنَّ هذا لا يمنع من اتباعنا لهم، كما لم يُمنع التابعون من متابعة الأحكام التي كانت في أيام الصحابة، وإن كانَ الزمانُ مختلفاً، ¬

_ (¬1) في الأصل: "حكيماً". (¬2) في الأصل: "للأول". (¬3) في الأصل: "لشريعة".

والمصالحُ مختلفةً. فإن قالوا: إنَّما اتبعنا؛ لأنَّ نسخاً لم يَرِدْ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل: والنسخُ أيضاً لم يرد فيما جعلناه من شرائعهم مُتَبَعاً، فلا فرقَ بينهما. ومنها: أن قالوا: لو كان شرعُهمِ شرعاً (¬1) لنا لوجبَ أن تُتَبعَ كتبُهم، ويُستعلمَ عن أحكامِ شرائِعهم، وتُتَفهَّمَ معانيها ممَّن أَسْلمَ منهم للثِّقةِ به، ولا يُنْتظَرَ الوحيُ في حكمٍ، إلا أن يَرِدَ نسخ، فنَتبِعَه، كما لَزِمَنا ذلك في شريعتنا، فلمَّا لم يَلْزَمْنا ذلك، بطلَ دعوى الاتباعِ لشرائعهم. فيقال: إنَّما يلزمُ من أحكام شرائِعهم [ما ثبتَ] بطريقِ شرعنا، وهو ما أوحيَ إلى نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - ونُقل الينا عنه، ونحن نتبعُ ذلك ونعملُ به، ونتفهمُ معانيه، فأمَّا استعلامُنا لما عندَهم، فلا وجه له؛ لأنَّهم لو ابتدؤونا بالإعلامِ، وقصُّوا علينا قصص أنبيائهم، ما سمعنا منهم، لِمَا ثبت من كذبهم، وفسقهم، وعنادهم لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا من آمن منهم، فلا ضبطَ له بما بُدِّل، مما لم يُبدَّل، لا سيَّما بعد ما جرى من بُخْتِ نَصَّرَ، وقتل حفاظ التوراة، فلم (¬2) يبق منها ما يوثق بحفظه وبسطره. ومنها: قولهم: إن شرائعهم على غايةِ الاختلافِ، فهذا يُبيحُ عَيْناً، وهذا يحظرها، وهذا يعظمُ زماناً ويحرمه، وهذا يُبيحُه ولا يُحَرِّمُه (¬3) له، والاتباع فيما هذا سبيله لا يمكن. ¬

_ (¬1) في الأصل: "شرع". (¬2) في الأصل: "ولم". (¬3) في الأصل: "يحترم له".

فيقال: نحن لا نوجبُ إلا اتباعَ ما اتفقوا عليه، دون ما اختلفوا فيه، فإنَّ (¬1) الله سبحانه حينَ حرَّمَ في شريعة عيسى ما كان مباحاً في شريعةِ موسى، وأباحَ ما كان محرماً، صارَ الأولُ منسوخاً، ولسنا نتَّبعُ منسوخاً، فأمَّا أن يكون عيسى أباحَ ما حرَّمه موسى، ثم إنَّ الحكم في شريعة [موسى] باقٍ، فكلاَّ، فلا (¬2) خلافَ إلاَّ في منسوخٍ وناسخٍ، والحكمُ عندنا للناسخِ في كل شريعةٍ دونَ المنسوخِ، وعلى هذا فلا يستحيلُ الاتِّباعُ. ومنها: أن قالوا: إنَّ كل شريعةٍ مضافة إلى نبيِّها، ولو كانت مشتركةً بينه وبين من يأتي بعده، لم يكن أحدُهما أخصَّ بها من الآخر. فيقال: إنَّما خُصَّ بها من ابتدأ بها، وللابتداءِ (¬3) حكم ليس للاتباع، كما تخصُّ المذاهبُ بالمبتدىء، فيقال في كل مذهبٍ سبَقَ إلى اَلقول به: مذهبُ فلان، وإن كان من بعده وافقه في مذهبه لدليله لا تقليداً له، كذلك ها هنا يقال: ملةُ عيسى، وملَّةُ موسى؛ لأجل السَّبق، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - الآخر متبعاً لما أوحيَ إليهما به من الأحكام، ويقالُ اليوم: شريعةُ محمد، لأنَّه جاء بنسخِ أشياء من الأحكامِ كانت شرعاً لموسى وعيسى، فإن سمِّيت: شريعةَ موسى وعيسى، فلأجلِ الابتداءِ، وإنْ سمِّيت هذه: شريعةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فلأجلِ أنها ناسخةٌ لكثيرٍ من أحكام الشريعتين قبلَه. ¬

_ (¬1) في الأصل "قال". (¬2) في الأصل: "بلا". (¬3) في الأصل: "والابتداء".

ويحتملُ أن تكون الإضافة مغلبةً في حق أحد المشتركين (¬1)؛ لأن الغالبَ من تلك الشريعة إنما جاءَ في شريعةِ ذلك النبي، وأوحى إليه بها، فغلبَت الإضافةُ لغلبةِ الأحكام. ومنها: أن قالوا: لو كان النبي الثاني يجوز أن يكون مشاركاً للأول، ومتبعاً له، لجاز أن يبعث إليهم (¬2) نبيين في عصر واحد بشريعةٍ واحدة، فلمَّا لم يجز ذلك، لم يجز اجتماعُ نبيين في عصرين على شريعةٍ واحدة. فيقال: قد كانَ ذلك، بدليلِ أنَّ إبراهيمَ عاصره أنبياءُ كلهم على شريعةٍ، كلوطٍ وغيره ممّن عاصره، وموسى وهارونَ نبيان بشريعةٍ واحدةٍ. على أنَّه ليس الأمران سواءً فدلُوا على (3 التسوية بين المتفقين في الشريعة الواحدة في عصرين مختلفين، وبين المتفقين في الشريعة الواحدة في عصر واحد 3)، ولن تجدوا جامعاً يجمعُ، ونحنُ نجد فرقاً، وهو أن الواحد كاف للعصر الواحد، وأما العصر الثاني فقد يكون فَتْرةً، فَيَبْعثُ الله نبيّاً مُنَبِّها (¬4) على ما فَتَرُوا عنه، وأهملوه في الشريعة الأولى. على أن هذا باطلٌ بما بقيَ من الشريعة الأولى بعد نسخ ما نسختهُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المشركين". (¬2) في الأصل: "إليه". (3 - 3) في الأصل: "على التسوية بين المتعارضين وبين المتفقين في الشريعة الواحدة في عصرين مختلفين". (¬4) في الأصل: "منها".

الشريعةُ الثانيةُ، فإنَّهما يتفقانِ فيه، ويشتركان -أعني: الأول والثاني- فيما لم يُنسخ من الشريعةِ الأولى، وإن لم يجز عندكَ بعثُ نبيين في عصرٍ واحدٍ يتفقان في حكمٍ واحدٍ، فقد بانَ بهذه الجملةِ فرقُ ما بينَ العصرِ الواحدِ والعصرين. ومنها: أن قالوا: فيما ذهبتُم إليه، من اتباعِ من تقدَّمَه من الأنبياء، تنفيرٌ (¬1) عنه، ورغبةٌ عن اتباعه؛ لأنه إذا كان على شريعةِ موسى أو عيسى، أنس أهلُ ذلك الدين إلى كونه متبعاً لنبيِّهم، وأنَّه واحدٌ منهم، ومن أمة ذلك النبي، فإذا صار مخالفاً له في شيء مما جاء به ذلك النبي؛ بما يزعمُ أنه قد نُسِخَ في شريعته هو، ساغَ لهم أن يقولوا: كانَ تبعاً، فمالت نفسُهُ، وسَمَتْ إلى أن يصيرَ متبوعاً، ونحنُ قد سمعناهُ مقرّاً بالنبوةِ الأولى، وراضياً باتباعها، فنُعوِّل على الأول من قوليه دونَ الثاني، فإنه متهمٌ فِي الثاني؛ من حيثُ إنَّه استدركَ الأمرَ لمحبةِ الرئاسةِ، وأخذته الأَنَفة من الاتباعِ. فلا ينبغي أن يسلكَ به هذا المسلك المفضي إلى هذه المفسدة، لا سيما والقرآنُ ينطق بمراعاة ما تجتمعُ القلوبُ عليه، دون ما تَنْفِرُ عنه، مثل قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]. فيقال: إنَّ هذا مما يزولُ، وينقمعُ قائلُهُ، والمتعلِّقُ به؛ بإقامة الحجج الباهرة؛ من المعجزاتِ الدالَّة على صدقه في نسخِ ما قبله، إذا لم يَتعبَّدْ بشريعة مَن قبلَه، وإذا كان ما ظهر على يديه، يوجبُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تنفيراً".

انقيادَ كل عاقل إلى قوله، وتصديقه، فلا فرقَ بين كونه يعد متابعاً (¬1) لنبي قبله، وبين كونه مبتدئاً بشريعة لم يسبقها اتباعه لأحد قبله. على أنَّا قد بينا فيما تقدم (¬2): أنه لم ينف (¬3) عن الشريعة كلَّ مُنَفِّرٍ، بل أبقى أشياء كثيرة مثلها يُنَفِّر، إذ لم يجب عليه سبحانه ذلك، لِمَا قد جعل في العقول من القوة الدافعةِ لكل شبهةٍ، وفي المعجزاتِ الباهرةِ ما تَحْصلُ به الثقةُ، فلا تبقى بين هذين شبهةٌ، فمن نفرَ بعد ذلك، فإنما أُتي من قبل نفسه، ودُهيَ من جهةِ إهمالِه وإغفالِه، ومن قال: بأنه يفعلُ ما يشاءُ، ولا مُعقّبَ لأمرِهِ، لم يَحْسُنْ به أن يُورِدَ مثلَ هذا الاحتجاجِ الموهِم، بأنَّه إذا فعل ذلك، فقد أخلَّ بواجبٍ. ومنها: أن قالوا: إنَّ دعوى اتباعِه لشرائعِ من قبله، دعوى بعيدةٌ؛ لأنَّ ذلك لو كان، لساغَ النقلُ فيه؛ لأنَّ العباداتِ والأحكامَ كثيرة، والأسئلةَ في ذلك متوفرة، وذلك لأنَّهُ أمرٌ تعمُّ البلوى به، فلمَّا لم يُنْقَلْ أنَّه سألَ عن دينِ اليهوديةِ مَن أَسْلمَ، فكان ثقةً عنده؛ كعبد الله ابن سَلاَمٍ، وكعب الأَحْبارِ، عُلمَ أنه لا أصل لذلك. فيقال: وما الذي أحوجه إلى ذلك، مع كون الوحي يمده عند كل عارض يعوضُ، وحكمٍ يُسألُ عنه؟ ولما أمر برجم اليهوديين اللذين زنيا بعد إحصانهماً، وزعمت اليهود أنه لا يجب عليهما إلا التَّحْمِيمُ، قاضاهم (¬4) - صلى الله عليه وسلم - إلى التوراة، ودخل معهم بيتَ الدراسة، فجعل ابن صوريا يضع يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن ¬

_ (¬1) في الأصل: "متابعته". (¬2) في الصفحة: 158 وما بعدها. (¬3) في الأصل: "ينفر". (¬4) في الأصل: "فقاضاهم".

* فصل نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثه ونزول الوحي عليه لم يكن على دين قومه

سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم، فرجمهما (¬1). وهذا رجوع إلى خبر عبد الله بن سلام في حكم التوراة، وعملٌ بها في حقهما. فصل ونبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثه، ونزول الوحي عليه، لم يكن على دين قومه، بل كان متديناً بما يصحُّ عندَهُ أنَّهُ من شريعةِ إبراهيم، لا يلوذُ بأصنامهم، ولا يتعرضُ لأزلامِهم (¬2)، ولا يَسْمُرُ مع سامرِهم، بل كان يَتَحنَّثُ بحراء، قال أحمد: من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه، فهو قولُ سوءٍ، أليس كان لا يأكل من ذبائحهم على النصب؟ وبذلك قال أصحاب الشافعي (¬3)، وقال قوم بالوقف (¬4)، فإنه يجوز أن يكون كذا، ويجوز أن يكون غير متعبد رأساً. وحكى أبو سفيان السرخسي عن أصحابِ أبي حنيفة: أنه بعد البعثةِ صار شرعُ مَنْ قبلهُ شرعاً له، لا مِن حيثُ كان شرعاً له قبلها (¬5)، وأمّا قبلَ البعثِ، فإنَّه لم يكن متعبداً بشىء من الشرائعِ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6841)، ومسلم (1699). (¬2) في الأصل: "بأزلامهم". (¬3) انظر "شرح المحلي على جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" 2/ 352. (¬4) ومن هؤلاء: إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي. انظر "البرهان" 1/ 509، و"المستصفى" 1/ 246، و"الإحكام" 4/ 376. (¬5) في الأصل: "لمن قبله". (¬6) "فواتح الرحموت على مسلم الثبوت" 2/ 183.

* فصل الدلالة على أنه كان متعبدا

فصلٌ والدلالةُ على أنَّهُ كان متعبداً: هو أنُه كان يتجنَّبُ ما عليه [قومه] (¬1) ويتحنثُ بما (¬2) كان يعلمُه ويَتعلَّمُه (¬3) من شريعةِ إبراهيمَ، فإن كان إلهاماً من الله سبحانه، فهو تشريعٌ، وإن كان لما بلغهُ، ورويَ له، فهو أيضاً اتباعٌ لشرعٍ، وإن كان موافقةً منه لِما أنزل الله، فهو عِصمةٌ (¬4) عن أديانِ الوَثنيين. وكان يتعبُ الحيوان ويكدُّه بمقتضى الشرائع، لا بمقتضى البراهمة وجُحَّاد النبوات، وأكلَ اللحْمانَ، وذبح الحيوانَ، فالظاهرُ أنه تدينَ بالشرائعِ؛ إذ يبعدُ أن يكون هذا بتَواقعٍ وقعَ له، فإذا كان بإلهام، فهو تشريع ألهمهُ الله به اتباع الشرائعِ. فإن قيل: وما تنكرُ أن تكون قد أَخْلَلْتَ بطريق لم تُعْنَ به؟ وهو الطريقُ الذي يُسْلَكُ قبلَ الشرائعِ، وهو العملُ بمقتضى العقلِ، فالعقلُ (¬5) لا يُسَوَّغُ عبادةَ الأصنام، ولا الاستقسامَ بالأزلامِ، ولا السُّكْرَ، ولا شيئاً (¬6) من مقبحاتِ العقول هذه (¬7). فيقال: فالعقلُ لا يؤلمُ الحيوانَ لغيرِ مصلحةٍ له، ولا يُسوِّغُ إتعاب ¬

_ (¬1) ليست في الأصل (¬2) في الأصل: "ما". (¬3) في الأصل: "ويتعلم". (¬4) في الأصل: "وعصمه". (¬5) في الأصل: "والعقل". (¬6) في الأصل: "شيء". (¬7) كان موضع "هذه" في الأصل قبل قوله: "مقبحات"، والجادة إثباتها

الأبدانِ بحجٍّ وعمرةٍ، وغير ذلكَ، ولا يتهدَّي إلى مصلحةٍ تَعْقُبُهُ، فيُحَسِّنَهُ، وقد كان يفعلُ ذلك صلى الله عليه وسلم؛ بما صحَّ به النقلُ، واشتهرَ في السيرِ. شبهةٌ قالوا. لو كان قبلَ بعثتهِ على دينٍ، لعُرِفَت تلك الشريعةُ بالنقلِ، كما عُرِفَت شريعتُه، ونُقلت بعد البعثةِ. فيقال: قد نقلنا ما حكيناهُ، وفي ذلك كفاية.

فصول النسخ

فصول النسخ فصل يجوز نسخ الشرائع شرعاً وعقلاً. أشار إليه أحمد وأطلقَ، وبه قالَ جماعةُ أَهلِ العلمِ. وقالَ أبو مسلمٍ عمرُ بن يحيى الأصفهاني (¬1): لا يجوز النسخ شرعاً، ويجوز عقلاً. واختلفت اليهود (¬2): فلم يجزه (¬3) قومٌ منهم من طريق السمع، وأجازوه من طريق العقل، ومنهم من قال: لا يجوز سمعاً ولا عقلاً، وقالوا: هو عينُ البَدَاء. وبالغ قومٌ ممَّن وافقنا في النسخ -وهم طائفة من المعتزلة (¬4) ¬

_ (¬1) المعروف عند الأصوليين: أن الذي يخالف في النسخ من أهل القبلة: هو أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المعتزلي، كان نحوياً كاتباً بليغاً متكلماً مفسراً، ولد سنة 254 هـ، وتوفي سنة 322 هـ، وله مصنفات عدة، منها: كتاب في التفسير على مذهب المعتزلة، سماه بـ "جامع التأويل لمحكم التنزيل" وقد وقع لاسمه تحريف وتصحيف كثير انظر: "شرح الكوكب المنير" 3/ 535، و"بغية الوعاة" 1/ 59، و"لسان الميزان" 5/ 89، و"طبقات المعتزلة" (299)، و"الفهرست" (196)، و"المسودة" (195). (¬2) ولا عبرة بخلافهم، انظر حاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 121. (¬3) في الأصل: "يجيزه". (¬4) انظر "المعتمد" 1/ 407.

والحنفية (¬1) - في المنع من النسخ للشيءِ قبلَ وقتِ فعله خوفاً مَن البَدَاء، حيث نسخ قبل فعلِ شيءٍ أصلاً، ومنعوا من جواز اخترام المكلف قبل وقت فعل المأمور به، وجعلوا ذلك بداءً. وذهب قوم من الرافضة -وحكوه عن موسى بن جعفر، وعن علي رضي الله عنه-: أن البداء جائز على الله سبحانه -وهذا غاية التباين في المذاهب-، وزعموا: أنَّ علياً ترك الإخبار بما يكون إلى يوم القيامة، لأجل وجود البداء في كتاب الله، يخاف أن يخبر بشيء، فيَبْدُو لله (¬2) تعالى فيه، ويحكون عن علي رضي الله عنه، أنه قال: لولا آية في كتاب الله -وهي قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، لأنبأتكم بما يكونُ إلى يومِ القيامة (¬3). ويزعمون: أن هذا الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله، لَمَّا بكى هو وجبريلُ، فقيل لهما: ألم نُؤَمِّنْكما النار؟ ألم نَعِدْكُما (¬4) الجَنةَ؟ قالا: "بلى، لكن مَن يَأْمَنُ مَكْرَك" (¬5) يعني: البداء. وهذا تجاسر عظيم، وتهجم على الله بما لا يليق به سبحانه، ¬

_ (¬1) انظر "تيسير التحرير" 3/ 187، و"فواتح الرحموت" 2/ 61 - 62. (¬2) في الأصل "فيبدو الله". (¬3) ذكره الطبري في "التفسير" 16/ 484، والسيوطي في "الدر المنثور" 4/ 67 عن كعب الأحبار. (¬4) في الأصل: "نعد لكما". (¬5) لم أجده يهذا اللفظ، وذكر الغزالي: قيل: لما ظهر على إبليس ما ظهر، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان، فأوحى الله إليهما: ما لكما تبكيان كل هذا البكاء؟ فقالا: يا رب، ما نأمن مكرك؟ فقال الله تعالى: هكذا كونا، لا تأمنا مكري. "الإحياء" 4/ 181، ويبدو أن الحافظ العراقي لم يجد له أصلاً فلم يخرجه

والظاهر عندي: أنهم في ذلك كاذبون (¬1) على علي، وموسى بن جعفر. وقيل: إنه كان ممن يقول بذلك: زُرارَةُ بن أَعْينَ (¬2)، وله شعر فيه مشهور (¬3): ولولا البدا سميته غيرَ هايبٍ ... وذِكرُ البدا نعتٌ لمن يتقلبُ ولولا البدا ما كان فيه تصرفٌ ... وكان كنارٍ دهرُها تتلهبُ وكان كضوء مشرق بطبيعةٍ ... وبالله عن ذكر الطبائع نرغبُ وكان المختار (¬4) يصرح به، ويقول: بدا لي لكم؛ كذا وكذا. ثم إن بعض القائلين بالبَدَاءِ قَسَّمُوا وفَصلُوا، فقالوا: إنما يجوز البداء عليه سبحانه فيما لم يطلعْ عليه عباده، ولم يُخْبِرْهم بكونه، دون ما أَطْلعَهُم عليه، وأَخْبرَهم بكونه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "كاذبين". (¬2) هو أبو الحسن، زرارة بن أعين الشيباني بالولاء، كان رأس الفرقة الزرارية من غُلاة الشيعة، توفي سنة (150) هـ. انظر "لسان الميزان" 2/ 473، و"الأعلام" 3/ 43. (¬3) نسبت هذه الأبيات لزرارة بن أعين في "شرح اللمع" للشيرازي 2/ 192، و"الفائق في أصول الفقه" 4/ 16، والإحكام" للآمدي 3/ 110. (¬4) هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، خرج علي بن عبيد الله بن زياد والي البصرة بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، فنفاه إلى الطائف، فانضمَّ إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ثم توجه إلى الكوفة ودعا لإمامة محمد بن الحنفية، وقال بالبداء وادعى نزول الوحي عليه، فقتله مصعب بن الزبير سنة (67) هـ. انظر "الكامل" لابن الأثير 3/ 356.

* فصل الدلالة على منع القول بالبداء مع جواز النسخ

وبعضُهم أجاز النسخ في (¬1) العباداتِ، ومنعه في (1) الأخبار، وبعضُهم أجازَ النسخَ فيهما، أعني: العبادات والأخبار. فينبغي أن يقع الكلام في فصلين: أحدهما: أن النسخ ليس ببداء، وأنه ليس من ضرورة قولنا بالنسخ؛ أن نكون قائلين بالبداء، و (¬2) أن القائل لذلك مُقَصِّرٌ فى النَّظَر (¬3)، جاهلٌ بالله سبحانه، وبما يَجوزُ عليه وما لا يَجوزُ. فصل فالدلالة على منع القول بالبدَاءِ مع جواز النسخ: هو أن البداء في الحقيقة: هو ما علمه الحيُّ بعد أن لم يكن علمه، من قولهم: بدا لي سور المدينة، قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)} [الزمر: 47]، {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 28]. والدلالةُ قد قامَت على كونِ البارىء سبحانه عالمَ الغيبِ والشهادةِ بنصوصِ الكتابِ وأدلة العقول، فقال جلَّ من قائل: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وقال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47] ¬

_ (¬1) في الأصل: "من". (¬2) في الأصل: "أو". (¬3) هذا هو الفصل الثاني الذي ذكره المصنف.

* فصل في شبههم

{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم: 2 - 3]، {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]، فلا يجوزُ مع هذه النصوص، أن يقول بالبداءِ مؤمنٌ بكتاب الله العزيز. فأمَّا من جهةِ العقول: فإنَّ (¬1) الذي دل على كونه عالماً، أنه سبحانه أتقنَ صنائعه، إتقانَ من قد علم حاجتها إلى ما أعدَّ فيها من الأجزاء والأعضاءِ والمشاعر، التي سدَّ كلٌّ منها مَسَداً (¬2)؛ لولاهُ لتعطل بمعدمه غرضٌ، واختل باختلاله أَرَبٌ، وهذا دال على دَركِ المستقبلات من الأمور، وأن البداءَ لا يجوزُ إلا على جاهلٍ بعواقبِ الأمورِ، والله سبحانه بريءٌ من ذلك؛ بما دل من نصوص كتابه، وأدلة العقول على أنه العالم بكل ما يصح أن يعلم، فبطل القول بالبداءِ. فصل [في] شُبَهِهم قالوا: قال الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وهذا يَدُل على البداء. قيل: غايةُ ما يدل هذا: على أنه يفعلُ ما يشاءُ من مَحْوٍ وإثباتٍ، وقد قيل في تفسير هذه الآية: يَمْحو الله السيئاتِ بالتوبة والإسلام، ويُثْبِتُ بالإصرارِ، وقيل: يمحو الله ما يشاءُ من الأحكام بالنسخِ، ويُثْبِتُ بالتشريع ما يشاءُ من الأحكام، وقيل: من الشرائع، وهو الأشبه؛ لأنه قال: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بأن". (¬2) في الأصل: "سداً".

أَجَلٍ كِتَابٌ (38)} [الرعد: 38]، ثم قال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فكان عائداً إلى نسخ شريعةٍ ماضيةٍ بإثباتِ شريعةٍ مستقبلةٍ، والكلُّ معلومٌ له قبلَ نسخِه ومحوِه وإثباته، بدليل ما ذكرنا. قالوا: ولأنا وجدنا بأن الفاعلَ للأمر إذا عَكَسَه، والبانيَ إذا نَقَضَ ما بناه وهَدَمَه، والمُعطِيَ إذا استرجع [ما] أعطاه، وسَلَبَه، والآمرَ بالشيءِ إذا نَهَى عنه لا سِيَّما قبلَ وقوعِهِ، أو حال بين المأمور وبينَه بعدَ أن اسْتَدْعاهُ منه، وكانَ الأول منه عن علمٍ بما أَمَرَ به وبما شَرَعَ فيه، فإن الثاني -وهو النَقْضُ والهَدْمُ، والسَّلْبُ والاسترجاعُ، والنهيُ- عن علمٍ منه تَجدَّدَ، وإلا فمحال أن يكونَ العلمُ الأول هو الذي أَوجبَ الثانيَ، فلم يبقَ إلا أنه لعلمٍ تَجدَّدَ بعدَ أَن لم يَكُنْ في الأول، ولو كان في الأول، لما بَنَى ولا أمَرَ، وهذا هو البَداءُ بعينِه. فيقال: وما تُنكِرُ على من قال: إنَّه علم أن الأمرَ بذلك مصلحةٌ لخلقه، والبناء مصلحةٌ، في ذلك الوقت الذي أمر وبنى (¬1)؟ وأن المُتجدِّدَ معنىً تَجدَّدَ على المخلوق، وأنَّ البقاءَ على ذلك الأمرِ الأول والحال الأولى مفسدة، فعادَ التغييرُ إلى المخلوقِ دونَ الخالقِ، ولو كانت العوارضُ الحادثةُ تدل على تَجَدُّدِ علمٍ كان سَبقَه عدمُه، لوجب أن نزيدَ على قولكم بالبداءِ غيرَ ذلك من الأوصافِ المتغايرة والمتضادة، مثل: أنَّه إذا خَلَقَ ورزقَ، وحَنَّنَ الآباءَ والأمهاتِ، ثم سلبَ وأعدمَ ذلك بأنواعِ الإعدامِ؛ من موتٍ، أو إعاقةٍ، أو قسوةٍ تجدَّدت من الوالد حتى قتل ولده، والجارح والسبُع حتى أكلَ فرخَه وسخله، أن يقال: قسا بعد أن كان رحيماً، وإذا منع الرزو، أن يقال: بخل بعد أن كان كريماً، وكذلك إذا أجدب بعد ¬

_ (¬1) في الأصل: "ربنا".

* فصل في الدلالة على جواز النسخ

أن أخصب، أو نسي بعد أن كان ذاكراً، فلَمَّا لم يُخْلَعْ عليه سبحانه بالتغييرات المختلفة والمتضادة المُتجَدِّدةِ على خَلْقِه، صفاتٌ متغايرةٌ ومتضادة، كذلك لا يجوز أن يُخْلَعَ عليه اسم بداء، وأنه تَجدَّدَ له علمٌ بعد أن لم يكن؛ من حيث إنه تَجددَ منه منع ورفعٌ وإزالةٌ، بل يقال: إنَّ التغيراتِ بحسب ما عَلِمَ من مصالح عباده، بتغايرِ الأزمنة والأحوال، وهو غير مُتغيِّرٍ في كونه عالماً ورَحيماً، إلى (¬1) جميعِ ما يَسْتحِقُّهُ من الصفاتِ. وهذا تكلفٌ مع كون النصوص مغنيةً عن أدلَّةِ العقولِ، والمخالفُ موافق في التصديق بالكتاب العزيز، وهو مملوءٌ من الآي الدالة على كونه عالماً (2 بما كان، وما يكون، وبما لم يَكُن أن لو كان، كيف يكون 2). فصل في (¬3) الدلالةِ على جواز النسخ عقلاً وشرعاً في الأوامر والنواهي، وسائر الأحكام. أما العقلُ: فإنَّ الناسَ على قولينِ: أحدُهما: أنَّه يفعلُ ما يشاء، ويكلِّفُ ما شاءَ، وكيف شاءَ، فعلى هذا: له أن يُدِيمَ ما كَلَّفَ، وله أن يَقْطَعَه، ويُزِيلَه في مستقبل الحال. والقول الثاني: أنه يُكَلِّفُ ويَفْعلُ على سبيل الأَصلح. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وإلى". (2 - 2) العبارة مضطربة في الأصل. (¬3) في الأصل: "و".

وعلى كلا الأمرين لا يمتنعُ النسخُ والرفعُ؛ إمَّا لما شاءَ، أو لِما عَلِمَ في ذلك من الأصلح للمكلفين، والمصالحُ قد تختلفُ باختلاف الأزمان، كما تختلفُ باختلافِ الأشخاص، فكم من شخصٍ مصلحتُهُ الغنى، فالفقرُ مفسدٌ، وكم من شخص بالعكس، وكم من زمانٍ يصلحُ أهلُهُ بالمداراةِ والمساهلة، وزمانٍ لا يُصْلحُ أهلَه إلا السوطُ والسيفُ، ألا تراه سبحانه كيف قال في زمنِ المداراة: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]؟ فلما جاء زمانٌ الأصلحُ فيه العنفُ، قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...} [التوبة: 5] الآيات. ومن ذلك: أنَّه إذا جاز أن تأتيَ الشرائعُ بالعباداتِ والمأموراتِ أوزاعاً؛ فتأتيَ بإيجابِ صلاةٍ، ثم يتَرَاخَى الأمرُ في ذلك، فيأتي بعدَ ذلك إِيجابُ صيامٍ، ثم يتراخى الأمرُ، فيأتي إيجابُ زكاةٍ وحجٍّ، إلى أمثال ذلك، وهذا إيجابٌ لتعبدٍ لم يكن واجباً، فهَلا جاز رفعُ ما وجبَ، وهذا صحيحٌ، لأنّ الَزياداتِ بعد المبادىءِ التي كانت كالكفايةِ والاستقلالِ بالمصلحة، صارت غيرَ كافيةٍ، ومن ها هنا جعل قومٌ الزياداتِ نسخاً، فإذا جاز أن يزادَ على الواجبِ الأول، ويُخْرَجَ الأولُ [عن] أن يكون كافياً ومقنعاً، بتجديد أمرٍ ثانٍ، وإيجاب ثانٍ، جازَ أن يُزالَ الأولُ، ويُجَدَّدَ أمرٌ غيرُه بحسبِ الأصلح، هذا بحكمِ الأصلح. وإن كان بحكمِ المشيئة: فقد يكون مريداً للشيء في حالٍ، ثم إنه يبين بالنسخ منه لم يكن مريداً له في حال أخرى، ويَبْعُدُ الفرقُ بين أنه لم يكن الشيء واجباً بُرْهةً، ثم جعلَه سبحانه واجباً، وبين أن حَكَمَ بوجوبِه بُرْهةً، ثم جعلَه غيرَ واجبٍ.

ومن ذلك: أن الله سبحانه ما زال يَنْقُلُ من حالٍ إلى حالٍ؛ من صغرٍ إلى كِبَرٍ، وصِحَّةٍ إلى سَقْمِ، وغِنىً إلى فقرٍ، وأَمنٍ إلى خوفٍ، وعِلمٍ إلى جهلٍ، كما قال سبحاَنه: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [غافر: 67] إلى قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67] وكان ذلك جائزاً عليه، ولم يك بداءً، كذلكَ يعتبرُ ما جعلهُ صلاحاً لدينه ودنياه، لا يمتنعُ أن يقعَ فيهِ الاختلافُ، والنفيُ بعد الإثباتِ، والإثباتُ بعد النفي، إمَّا للأصلح للعبدِ، أو لمطلقِ المشيئة. والذي يوضِّحُ هذا: أنَّ من يصحُّ عليه البداءُ، يحسُنُ إضافتُه إليه في هذا، كما يَحْسنُ إضافتهُ إليه في الأحكام، فيقال: كان فلانٌ يواصلني بالهدية فبدا له، وكان يكرمني فبدا له، كما يقال: أَمَرَ عَبْدَه بالخِدْمةِ -في كذا وكذا من أنواعِ الاستخدام-، ثم بدا له، إذا قطعَ عنه ذلك، أو نقَلَه إلى غيرِه، أو تركه وأهملَه، فإذا كان الله سبحانه يجوزُ عليه هذا النوعُ، فلا يكونُ بَداءً، بلَ يكونُ على ما يَلِيقُ به، إِمَّا لمصالح خَلْقِه بحسبِ أحوالهم المتجددة وأزمانهم، أو بحسب المشيئة، لأنَّ حقيقةَ البَداء لا تَتحقَّقُ في حقِّه، وهو تَبيُّنُ الشيءِ بعدَ الخفاءِ، وظهورُه وتَجَلِّيه بعد تَغَطِّيهِ عليه. ومن ذلك: أنه إذا جازَ أن تكونَ المصلحةُ في العبادةِ إلى غايةٍ، مثل: الصومِ إلى الليل، والصلاةِ إلى اخر الركعة الرابعةِ، والحجِّ والإحرام المانعِ من اللُّبْس، والتغطيةِ للرَّأْسِ، وتقليمِ الأَظافرِ، وإزالة الشَعَثِ، إلى غاية -هي رميُ الجَمْرةِ في يوم الأضحى-، ثم يزولُ

ذلك، ولا يكون بداءً، فما المانع من الحكمةِ أن تكونَ المصلحةُ في إبقاءِ الحكم وتشريعه إلى غايةٍ، ثم ينسخُ بالنهي عن استمراره واستدامته، فتكونُ غايتُهُ في الزمانِ كغايتهِ في المقدار؟ فيقال للمحرمِ يومَ النحرِ، إذا رمى جمرة العقبةِ في الحج: حَسْبُكَ، عُد إلى إزالةِ الشَّعَثِ، والتَجمُّلِ باللِّباس، وتغطيةِ الرأس، والتَّطيُّبِ، واصْطَدْ، ثم يقال للصائم إذا غَرَبَتِ الَشمسُ: حسبُكَ، كُلْ واشربْ، وطَأْ، وعلى هذا، ولا فصلَ لهم بين الأمرين -أعني: غايةَ العبادةِ نفسها، وقطعَها عن المرور فيها، وبين قطعِ زمانِ فعلها- وحقيقته تَبْيينُ العْاية، وأنه إنما أراد فعلها إلى ذلك الوقت الذي نزل فيه الوحي بالنسخِ. ومن ذلك: أنه إذا جاز أن يبتدىءَ التكليفَ بالعباداتِ بعد أن مضى زمانٌ لم يُكلِّفْ فيه فعلَ تلك العبادات، لِمَ لا يَجُوزُ (¬1) أن يُكَلِّفَ عبادةً، ثم يسقطَها عن المكلف؟ وما الفرقُ بين مَنْعِ التكليفِ قبل (¬2) الابتداءِ به، ورَفْعِ استدامتِه بعدَ أن كَلَّفَ؟ والمنعُ كالرفع، والنفيُ قبل التشريع كالإزالةِ بعدَه، ولَمْ نَقُلْ: بدا له، فكلَّفَ بعدَ أن لم يكلِّف، كذلك لا يقال: بدا له، فأَسْقطَ العِبادةَ بعد أن كَلَّفَ. ومن ذلك: أننا قد أجمعنا على أنَّه يجوزُ أن يُكلِّفَ الصحيحَ عبادةً وعباداتٍ عدة إلى أن يمرض، فإذا جاء المرضُ، أو عرض السفرُ، أو جاءَت العوائقُ، أسقطَ، أو خَفَّفَ، فبانَ أنه كَلَّفَ حال الصحةِ إلى غايةٍ هي المرضُ، فكشفَت العاقِبةُ عن الإسقاطِ في تلك الحال لِمَا كان وجبَ من العباداتِ قبلَها، وليسَ يظهرُ من ذلك إلا نوعُ مصلحةٍ، وتخفيفٌ بعد تشديد، فكذلك المُغيِّرُ لمصالحَ خَفِيَّةٍ ¬

_ (¬1) في الأصل: "جاز". (¬2) في الأصل: "مثل".

* فصل في الدلالة على جوازه شرعا وعلى وقوعه وحصوله نقلا

تَعُودُ إلى أحوالٍ يَعْلمُها الله من الأَشخاص والأَزمانِ، وإن كان هو المُغيِّرَ للأَحوال والأزمانِ، كما هو المُغيِّرُ من الصحةِ إلى المرضِ، وسائرِ الأعذار. فصلٌ في الدلالةِ على جوازِه شرعاً، وعلى وقوعه وحصوله نقلاً فمن ذلك: أن (¬1) ذلك وَقَعَ، ووُجِدَ في الشرائع: أن الله سبحانه أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه، ثم حرَّمَ ذلك في شرائع مَن بعدَه صلواتُ الله عليهم أجمعين، فإن تجاهلَ متجاهلٌ منهم بالمنعِ من ذلك، فقد دلَّ عليه وجودُ التناسلِ، وكثرةُ أولاده، ولم يكن في الأرضِ سواه وسوى أولادِهِ، فالنسلُ لا يخلو من تناكحٍ أو فجورٍ، ولا فجورَ كان، ولو كان، لما حصلَ النسبُ والانتسابُ، ولأُولِدَ الأنبياءُ صلواتُ الله عليهم من فجورٍ، فثبتَ أنَّه ما كان كثرةُ العالَمِ مع عدمِ ما سوى آدم وسوى أولاده، إلا بتزويجِ بنيه ببناته. ومما يَدُلُّ على كون ذلك واقعاً في الشرائع: أنَّهُ كان أباحَ العملَ يومَ السبتِ، ولم يُحرِّمْه إلا في شريعة موسى. وأجازَ الخِتانَ بعد الكِبَرِ، وكانَ إبراهيمُ عليه السلام يرى الخِتانَ بعد الكبرِ بما شرعَ الله له ذلكَ، فختنَ نفسَهُ كبيراً، وجاء موسى -على زعمِ اليهودِ-: بأَن يُختنَ الطفلُ يومَ يُولَدُ (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأن". (¬2) في الأصل: "ولد".

وزعموا: أنَّ يعقوبَ جمعَ بين الأختينِ في وقتٍ واحدٍ، وذلك مُحرَّمٌ في شريعةِ موسى. فهذا نسخٌ واقعٌ، ليس له دافعٌ مِمَّن عرفَ السِّيَرَ، وأَقَرَّ بصحة ما نقلَ عن الأنبياءِ صلواتُ الله عليهم، وما وقعَ لا يمكن جحدُه مذهباً، لكن تكذيباً وجحداً، وذلك يسدّ علينا بابَ المنقولِ في غيرهِ، والمنقولُ لا يردُّ بالآراءِ والمذاهبِ. ومما يدلُّ في كتابنا على النسخ، وأنه قد وقعَ، [و] يُحْتَجُّ به [على] من خالف في النسخ من أهل الإسلامِ: قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وهذا وعدٌ بالنسخ، {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، وهذا تصريحٌ بالنسخِ (¬1) ثم أكد ذلكَ بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، وهذَا إخبارٌ عن اعتراضهم على النسخِ. وقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، ثم ساق وجوهَ ظلمهم، فقال: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 160 - 161] الآية، وهذا عينُ النسخِ، لأَنه تحريم ما كان مباحاً لهم، إذ لا يجوزُ أن يريدَ به تحريمَ ما كان مُحرَّماً عليهم، إذ لا يقعُ مقابلةً لحادثِ أفعالِهم ما كان سابقاً لأفعالِهم. فإن قيل: يحتملُ أنهُ حَرَّمَ عليهم بالسمعِ ما كان مباحاً لهم ¬

_ (¬1) في الأصل: "الصريح نسخ".

في العقلِ، وذلكَ لا يكون نسخاً، لأنَّ النسخَ رفعُ حكمٍ شرعي لا إِزالةُ (¬1) ما ثبت بالعقلِ. قيل: لا إباحةَ، ولا حظرَ في العقلِ، إنَّما ذلكَ للشرعِ، وقد دلَّلْنا على ذلكَ في أصول الدينِ، ولو سلمنا على قول أبي الحسنِ التميمي، فلا يَضُرُّ (¬2)، لأن الله سبحانه خَصَّهم بذلك، ولو عادَ ذلك إلى إباحةٍ كانت في العقلِ، لما خصَّ الذين هادوا بذلكَ، لأن قضايا العقولِ تعمُّ كل أُمَّةٍ، ولا تختصُّ اليهودَ، ولا أُمَّةَ إلا وقد حُرِّمَ عليها بعضُ ما أباحته العقول. فإن قيل: ما سَمَّى فاعلَ التحريمِ إلا وأضافه إلى نفسه سبحانه، وإذا كان مما لم يسمَّ فاعله، فلعله أرادَ تحريمَ ما كان أباحهُ لهم أَحْبارُهم وعلماؤُهم. قيل: لو كانت تلك الطيباتُ مباحة [لا] بإباحةٍ عن الشارع، لما كانت مباحةً، فإنه (¬3) ليس لأحدٍ أن يضعَ إباحةً ولا تحريماً من تلقاءِ نفسهِ، وإذا كان ما أَحَلَّه علماؤُهم مُحرَّماً عليهم بحكم الشرعِ، لم يقع التحريمُ عقوبةً؛ لأنه سابقٌ قبلَ ذلك، فلا يكونُ مقابلةً لسوءِ أعمالهم التي عدَّدها سبحانه. فإن قيل: فليس فيه أنهُ أَحَلَّهُ قبلُ، وحَرَّمَهُ فيما بعدُ، بل يجوزُ أن يكون مقارناً لأمتأخراً، فكأنه كان قال: اَبحْتُ لكم شحمَ كذا إلى وقتِ كذا، فإذا جاءَ وقتُ كذا، فقد حَرَّمْتُه عليكم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لإزالة". (¬2) في الأصل: "يطر". (¬3) في الأصل: "وأنه".

قيل: ظاهرُ الكلامِ يعطي أن التحريمَ كان عقيب ظلمهم، ولو كان مقارناً للَّفظِ، كان التحريم سابقاً لظلمهم. ومن ذلك -أعني: الواقع من النسخ-: أنَّ الله سبحانه فرضَ الوصيةَ للوالدين والأقربين بقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]، ثم نسخ الوصيةَ بآيةِ المواريثِ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول آيةِ المواريث: "إن الله قد أعطى كُلَّ ذي حقٍّ حَقَّهُ، فلا وصِيَّةَ لوارثٍ" (¬1)، ونسخَ صوم عاشوراء بصومِ شهرِ رمضان (¬2)، ونسخ كلَّ حقٍّ كان في المال بالزكاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في المال حَقٌّ سوى الزكاةِ" (¬3). فإن قيل: ليس هذا بثابت بطريق يصلحُ أن يكون ناسخاً؛ لأنَّ صومَ عاشوراء لم يثبت وجوبُهُ ولا تلك الصدَقاتُ، ولا بين الوصيةِ والميراث تنافٍ، فتكونَ آيةُ المواريث ناسخةً. قيل: هذا مما تَلَقَّتْهُ الأمةُ بالقبول، وكَثُرَ ناقلهُ، ولسنا نعتبرُ التواترَ، فإن أحمد قد نصَّ على النسخِ بأخبارِ الآحادِ تعويلاً على استدارةِ أهل قباءٍ، وسندلُّ عليه إن شاء الله في موضعهِ (¬4)، وآيةُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 231، (¬2) أخرج مالك في "الموطأ" (842)، وأحمد 6/ 30، 50، 162، والبخاري (2002)، ومسلم (1125)، وأبو داود (2442)، والتر مذي (753) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه. (¬3) تقدم تخريجه في 2/ 16. (¬4) انظر الصفحة 258 وما بعدها.

المواريث لا يمكن جَمْعُها وآيةَ الوصيةِ، إذ لا وصيةَ وميراثَ يجتمعانِ عندنا، بل الوصيةُ باطلةٌ. ومن ذلك: قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ونسخ ذلك بقوله: {فأَقِيموُا الصلاة} (¬1) [المجادلة: 13]. ولم يَتحَقَّقِ المخالفُ على هذه الايات ما نَسْتَحسِنُ إيرادَه. فأمَّا الدلالةُ على إرادَتِه (¬2) شرعاً بعد ما دَلَّلْنا على وقوعهِ شرعاً أيضاً: قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ ننْسأها (¬3) نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106] وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101] وهذا تصريح بجوازِ النسخِ عليه سبحانه. ¬

_ (¬1) ونص الآية الناسخة: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)} [المجادلة: 13]. (¬2) في الأصل: "إيراده". (¬3) "نَنْسَأْها" بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وفتح السين المهملة، وإسكان الهمزة: هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ومعناها: نُؤَخر حكمَها، من التأخير، وتقدير الآية على هذا: ما ننسخ من آية، فنبدل حكمها، أو نؤخر تبديل حكمها، فلا نبطله، نأت بخير منها. وقرأ الباقون: "أو نُنْسِها" بضم النون الأولى، وسكون الثانية، وكسر السين، ومعناها: نُنْسِكَ نحن يا محمد، من النسيان. "حجة القراءات" لابن زنجلة (109 - 110).

* فصل في جمع شبههم

فصل في جمع شبههم فمن ذلك: ما حكته اليهودُ عن موسى عليه السلام، أنهُ قال: شريعتي مؤبدةٌ ما دامت السماوات والأرض، وبعضهم يروي أنه قال: الزموا السبتَ أبداً. فيقال: هذا مفتعلٌ على موسى، ويقال: أول من وضعهُ لهم لتقْطَعوا به الكلامَ معَ من يَروعُه هذا اللفظُ ابنُ الراوندي، وأنه أخذ على ذلك جِعالةً من اليهود بَتسَمُّجه في أمر الدين بما ظهرَ من خِزْيِه (¬1) في كتبهِ المعروفةِ، كالملقبَ بـ "الزمرُّدة" و"الدامغ" (¬2). والذي يوضحُ هذا الكذبَ: أن أحبارهم وكبارَهم أعرفُ منهم بما في التوراةِ، وهذا ابنُ سلامٍ، وكعبُ الأحبار، ووهبُ بن منبه، أسلموا لما رأوا علاماتِ المبعوثِ في توراتهم [فيه] صلى الله عليه وسلم، وقد عُلمَ ما في التوراةِ المنقول إلى العربي، من ذكرِ الأنبياءِ: أشيعيا، وشمعون، وحبقوق، وغيرهم، ما لا يُغادرُ صفتَهُ، وصفةَ أُمَّتهِ، وصفةَ مكةَ في أيامِ نبوته وبعثته، وذلك مذكورٌ في أعلامِ النبوَّات من كتب الأصول، فأين كانت هذه الكلمة؟ وأين كانوا عن التعلقِ بها؟ فلما لم ينقل احتجاج اليهود الأُوَل بها، عُلمَ أنها مفتعلةٌ مختلقةٌ في أواخرِ الأمر، لَمَّا تجدد للشريعةِ من الأصوليينَ مَن دَحَضَ كلمتَهم، فأعياهم النظرُ والتحقيقُ إلى هذا الكذبِ، طلباً ¬

_ (¬1) في الأصل: "خزنه". (¬2) انظر ما تقدم في ترجمته في الصفحة 104.

* فصل في شبهات من منع ذلك عقلا

لموازاةِ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبيَّ بعدي" (¬1)، وقول الله في كتابنا: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2). على أنَّ هذهِ الكلمة لو ثبتت، لكانَ لها تأويلٌ ظاهرٌ من وجهينِ: أحدهما: أنهُ أرادَ بالشريعةِ: التوحيدَ والأصولَ التي تضافُ إلى كلِّ نبيٍّ، وأضافها إليه في وقتهِ، إذ مَن مضى ومَن يأتي ليس بخاصٍّ، فهو أخصُّ بالتوحيد بحكمِ عصرهِ. ويحتملُ: مُؤَبَّدةً ما لم تُنْسَخْ بصادق مثلي، وليسَ هذا أولَ عمومٍ خُصَّ بدلالةٍ، ولا دلالةَ آكَدُ منَ المعجزاتِ الباهرةِ التي ظهرتْ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وبقِيَتْ بعدهُ، ولم يُحْكَ فيها اعتراضُ معترضٍ، ولا حدَّثَ ناطقٌ نفسهُ بمقارنةِ سورةٍ منها، وما انكشفَ من الغيوب التي أخبرَ بها، والأمورِ التي وعدَ بكونها. [فصل] في شبهات من منع ذلك عقلاً. [منها:] إن تجويز النسخ يؤدي إلى تجويز البداءِ على الله سبحانه، ¬

_ (¬1) ورد هذا في عدة أحاديث، منها: ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي .... "، أخرجه البخارىِ (3455)، ومسلم (1842) (44). (¬2) أي: في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

والبداءُ لا يجوزُ عليهِ، ولا يجوزُ إثباتُ ما يؤدي إليهِ، والذي يوضحُ أن النسخَ عينُ (¬1) البداءِ: هو أن الآمِرَ بالشيءِ، إذا نَزَعَ عنه، وأَمَرَ بضدهِ، أو نَهى عنه، إذا كان حكيماً، لم يُحْمَلْ نهيُه عن الشيءِ بعدَ أمره به (¬2) إلا لِمَا عَلِمَه في الثاني من حالهِ مِمَّا (¬3) كان متغطياً عنه حالَ الأمر به، وإن لم يَكُنْ لمعنىً بانَ له كان خافياً عنه كان عابثاً (¬4)، فهو متردد بين بداءٍ وعبث، وكلاهما لا يجوز على الله سبحانه، فلا وجه لتجويزهِ عقلاً. فيقال: إن الذي أَدَّى بكم إلى اعتقاد هذا، استشعارُكم أنهُ أرادَ بالأمرِ (¬5) بما أمرَ بهِ الدوامَ، ثم قطعهُ، فعادَ ذلكَ بالبداءِ، فأمَّا ما نقولهُ نحن فلا يفضي إلى ذلكَ، فإنا نقولُ: إنه أمرَ بما أمرَ به -من استقبال (¬6) بيتِ المقدس مثلاً- وأرادَ بهِ إلى مدةٍ عَلِمَها، ثم إنه أخفاها عن المكلفينَ اَمتحاناً لهم وابتلاءً، وأبانَ عنها النسخُ، وما ذلكَ إلا بمثابةِ خلقهِ للحيوانِ صغيراً، والابتداءِ بالطائرِ بيضةً، فلما كَبَّرَ الحيوانَ، وأَخرجَ من البيضةِ طاووساً، أو أمرضهُ بعدَ الصحة، أو أفقرهُ بعدَ الغنى، لم يكن ذلكَ بداءً، بلِ نقول وإياك: إنه كانَ من مراده، وبانَ من قصده سبحانه، أن يكون ذلكَ المخلوقُ على تلك الصفةِ بعد (¬7) زمانٍ معلومٍ، وَوَقَّت نَقْلَهُ من حالهِ الأولى إليها، ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن". (¬2) في الأصل: "ولا". (¬3) في الأصل: "ما". (¬4) في الأصل: "غايباً". (¬5) في الأصل: "الأمر". (¬6) في الأصل: "واستقبال". (¬7) في الأصل: "إلى"

وكذلك لمَّا لم يُكَلِّفْ، ولم يخاطِب بالعباداتِ، ثم خاطبَ، لم نَقُلْ: إنهُ كانَ غيرَ مخاطِبٍ، وقد خاطبَ، فقد بدا لهُ، لكن يقالُ: إنه لَم يُخاطِب، وكانَ تركُه للخطابِ [إلى] أجلٍ معلومٍ، أظهرهُ الخطابُ في ذلك الوقتِ، فعُلمَ أنَّ تأخيرَهُ بإرادةٍ وعلمٍ، وخطابهُ في الوقت الثاني -بعد أن لم يخاطبْ- بإرادةٍ، لا أنه بحيث كانَ لا يريدُ الخطابَ، فبدا لهُ أمرٌ أوجبَ إرادةَ الخطابِ. وكذلك إذا أَمرَ المكلفَ أمراً مطلقاً، ثم إنه أَعاقَ بالمرضِ، أو الموتِ، فإنا لا نقول: إن ذلك بداءٌ، بل أراد بأمرهِ له: العملَ به إلى تلكَ الغايةِ التي حصلت فيها الإعاقةُ؛ بما تجددَ وحدثَ. وكذلكَ تغييرُ أحوالِ الدنيا الكليةِ؛ من جدبٍ إلى خِصبٍ، ومن توليةٍ إلى عزلٍ، ومن غنىً إلى فقرٍ، إلى أمثالِ ذلكَ من التغييراتِ الحادثةِ في العالم جميعه، فإن لم تُجَوِّزْ على الله سبحانه ذلكَ، لئلا يؤدي إلى ما ذكرت، فلا تُضف هذهِ التغييراتِ إليهِ؛ لأنَّ أمثالها إذا صدرَ عن مخلوقٍ من آحادِ الخلقِ ممن يجوزُ عليهِ البداءُ، كان بداءً. ولأنا قد أجمعنا على أنه لو كشفَ سبحانهُ عن مقدارِ مدةِ العبادةِ، فقالَ. صلوا إلى بيتِ المقدس كذا كذا شهراً، ثم استقبلوا الكعبةَ، فإنه لا يكونُ ذلكَ بداءً، بلَ توقيتاً وتقديراً، فإذا أمرَ بالصلاةِ نحوَ بيتِ المقدسِ، ولم يقدرها بمدةٍ، لكنه أمرَ بالتحولِ إلى الكعبةِ بعدَ مدةٍ معلومةٍ، وهو (¬1) ممن ثبتَ بالدليلِ العقلي أنه لا يعلمُ شيئاً بعد أن لم يعلمه، وجبَ أن يُحملَ الأمرُ على ما يليقُ به، من أنه أرادَ ¬

_ (¬1) أي: ربُّ العالمين الذي يستحيل شرعاً وعقلاً أن يثبت في حقه الجهلُ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

ذلكَ التقديرَ وعَلِمَه، وإنما غطى عنا الغايةَ امتحاناً وابتلاءً، بحسب امتحانِهِ بأنواعِ التكاليفِ، فأمَّا أن نحمله على ما لا يليقُ به، فكلا. ومنها: أن قالوا: إنَّ الله سبحانه إذا أمرَ بشيءٍ، دلَّ على أنه حَسنٌ ومصلحةٌ، فإذا نهى عن شيءٍ، دلَّ على أنه قبيحٌ ومفسدةٌ، فلو جوَّزْنا النسخَ، لأفضى إلى كونِ الشيءِ جامعاً للنقيضينِ، فيكون حسناً قبيحاً، مصلحةً مفسدةً، ومحالٌ اجتماعُ النقيضين للشيءِ الواحدِ، فما أدى إليهِ، وجبَ أن يكونَ باطلاً. فيقال: إنَّ الذي نهى عنه بالنسخِ ليسَ هوَ الذي أمرَ بهِ عندنا، بل المأمورُ بهِ هو الذي كانَ متعبداً به إلى الوقتِ الذي ورد فيه النهي، والمنهيُّ عنه هو ما بعدَ الغايةِ التي كشفَ لنا النسخُ أنَّ الأمر كانَ مقدَّراً بها. على أنَّ الشيءَ الواحدَ لا يكونُ حسناً قبيحاً، مصلحةً مفسدةً في حالٍ واحدةٍ، فأمَّا في وقتينِ وحالينِ، فلا يمتنعُ ذلكَ، كالدواءِ يكون مصلحةً في وقتٍ وحالٍ، ومفسدةً في وقتٍ آخرَ، وما كشف الله سبحانهُ تَوْقيتَه؛ مثل قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، هذه كلها أمورٌ كانت حسنةً ومصلحةً في الوقتِ الذي قَدَّرَها به، وكانت بعدَ خروجِ الوقتِ غيرَ مصلحةٍ ولا حسنةٍ. وكذلكَ العمومُ مع تخصيصِه، كانَ الخطابُ بالعمومِ مصلحةً، ثمِ جاءَ الخصوصُ، فكان بياناً للمرادِ به من الأعيانِ المخصوصةِ، وكان البيانُ مصلحةً أيضاً في وقتِه، ولم يكن البيانُ مصلحةً في وقتِ إيرادِ

العمومِ، على قولِ من أجازَ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الخطابِ (¬1). ومنها: أن القولَ بالنسخِ يؤدي إلى اعتقادِ الجهلِ، من جهةِ أن المكلَّف يعتقدُ بإطلاقِ الأمرِ التأبيدَ، ولا يعتقدُ التأقيتَ، فإذا جاءت الغايةُ، بانَ ما اعتقده جهلاً، والجهلُ قبيح، فما يؤدي إليهِ قبيحٌ، فوجبَ تنزيهُ الله سبحانه عنه. فيقال: إِنِ اعتقدَ التأبيدَ، فإنما أُتِيَ من قِبَلِ (¬2) نفسه، وإلا فالذي ينبغي أن يعتقِدَ: أنَّ ذلكَ التعبدَ إلى حين يُنسخُ؛ لأنَّه إذا رأى تصاريفَ البارىء في العالمِ، واختلافها بحسب الأزمنةِ والأشخاصِ والمصالح، لم يَجُزْ له اعتقادُ التأبيد، بل يعتقدُ أن ذلك ثابت إلا أنْ يُنسخَ ويُرفَعَ. على أنَّ في طَيِّه منَ التعبدِ ما يُرْبي على الجهلِ الذي تُشيرُ إليهِ، فإنَّه إذا أضمرَ ملازمة التعبدِ على التأبيدِ، فجاءَ النسخُ بعدَ ذلكَ، حصل له ثواب الاعتقاد لاعتناقِ الأمرِ أبداً، ثم حصَلَ لهُ ثوابُ الانتقالِ من الفعلِ إلى التركِ تسليماً لحكمةِ الناسخِ، فإنَّ تغييرَ الأحوالِ من أشقِّ ما يكونُ على النفوسِ. ولأنَّهُ باطلٌ بالاعتقاداتِ الحاصلةِ لدوامِ الأحوالِ؛ كالصحةِ والغنى، ثم إنَّ الله سبحانه يزيل ذلكَ بالفقرِ والمرضِ. ومنها: أن قالوا: لو جازَ نْسخُ الأحكامِ، لجازَ نسخُ الاعتقاداتِ في التوحيدِ، وما يجوز على الله، وما لا يجوزُ، وجميعِ مسائلِ الأصولِ، ويكون ذلكَ مصلحةً في وقتٍ، ومفسدةً في وقتٍ، ولَمَّا ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة 87 وما بعدها. (¬2) في الأصل: "قييل".

لم يَجُزْ ذلكَ في الأصول والاعتقاداتِ، كذلكَ في الفروعِ والعباداتِ. فيقال وما الجامعُ بينهما، حتى إنَّه إذا لم يَجُزْ هذا، لم يَجُزْ هذا؟ ثم يقال: إنَّ ذلكَ عائِدٌ إلى مَنْ لا يجوزُ التغييرُ عليه، ولا خروجُهُ عن حالٍ، أو صفةٍ وُصِفَ بها، إلى ضدَّها أو غيرِها. ألا ترى أنَّه لا يجوزُ أنْ يقول اللهُ سبحانَهُ: أوجَبْتُ عليكم توحيدي نهاراً، فإذا جاءَ الليلُ أسقطتُ عنكم التوحيدَ، وأَبَحْتكم التثنيةَ والتثليثَ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وجَبَتْ له الوَحْدةُ بدلائلِ العقول، واستحال أن يكونَ له ثانٍ في الإلهيةِ، والشرعُ لا يَرِدُ بتجويزِ ما أحال العقلُ، كما لا يردُ بإحالةِ ما جوَّزَهُ العقلُ. فأمَّا الصلاةُ إلى جهةٍ، ونَقْلُنا عنها إلى جهةٍ، فجائزٌ أَن يُعَلَّقَ على زمانينِ مختلفينِ، وتكون المصلحةُ في كل وقتٍ، التوجُّهَ إلى الجهةِ التي عُلِّق التوجه عليها. ومنها: أن قالوا: إذا جوَّزنا عليهِ النسخَ، لم يبقَ لنا طريقٌ نَعرِفُ به التأبيدَ، أي: لو أرادَ التأبيدَ في عبادةٍ أو حكمٍ من الأحكامِ، فيفسدُ علينا بابُ العلم بذلك، وفي ذلك إبطال كونه سبحانَهُ قادراً على إعلامنا بالتأبيدِ لبعضِ ما يريدُ تأبيدَه من الأحكامِ والشرائعِ. فيقال: بل قَدْ بقي ما يمكنُ إعلامنا بهِ إرادةَ التأبيد، بأنْ يقول: ولسْتُ أنسخُهُ، ولِا أغيِّره، كما أنَّهُ أعلَمنا في حقِّ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - بأَنَه (¬1) لا نبيَّ بعدَه، ولا مغيِّرَ لشريعتِهِ، ولا ناسخَ لها، أو يَضْطَرَّنا إلى معرفةِ ذلكَ بوجهٍ من وجوهِ الاضطرارِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأنه".

ومنها: أنْ قالوا: قد أجمعنا على أنَّ الخبرَ لا يجوزُ نسخه، وما ذلكَ إلا لأنَّ نَسخ الأخبارِ يعودُ بكونها كذباً، كذلكَ وجبَ أن لا يقالَ بنسخِ الأوامر والنواهي، لأنَّهُ يعودُ بكونهِ بداءً. فيقالُ: أمَّا استطرادُكم بذكرِ البداءِ، فقد مَضى الكلامُ عليه، وفيه ما يغني عن إعادته (¬1). وأَمَّا (¬2) إلزامكم الخبر، فلا يلزمُ؛ لأنَّ الخبرَ إمّا بماضٍ أو مستقبل، فالخبر بالماضي إعلامٌ بما كانَ، والخبرُ عن المستقبل إعلامٌ بما سيكون، وليس يمكن إخراجُ أحدِهما ومعه لفظٌ يرفعهُ إلا ويقعُ محالاً، فنقول: قامَ زيدٌ أمس، لم يقُمْ زيدٌ أمس، وقامَ ولم يقمْ متنافيانِ، والمتنافي لا يجتمعُ للشيءِ الواحدِ، فلمَّا استحال أنْ يجتمع لزيدٍ القيامُ وعدمُ القيام في حالٍ واحدةٍ، لم يصح أن يجتمِعَ ذلكَ في قولٍ صحيح محكم، أو نقول في المستقبلِ: يقومُ زيد غداً، لا يقومُ زيدٌ غداً، فهًذا أيضاً محالٌ. جئنا إلى مسألتنا، لو قالَ: استقبلوا بيتَ المقدس كذا كذا شهراً (¬3)، ثمَّ تَحَوَّلُوا عنه إلى الكعبةِ، لم يتنافَ الاستَقبالُ الأولُ والثاني، ولا الأمرُ بهما، ومستحيلٌ للحكمِ الواحدِ، وهو الاستقبالُ نفياً وإثباتاً في زمانٍ واحدٍ لمكلفين مخصوصين، فهما سواءٌ في حالٍ واحدةٍ وفي حالينِ نفياً وإثباتاً. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في الصفحة 199 وما بعدها. (¬2) في الأصل: "فأمَّا". (¬3) في الأصل: "شهر".

* فصل النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب

فصل والنسخُ في القرآن على ثلاثةِ أضرب (¬1): نسخُ الرسمِ فقط. والثاني: نسخُ الحكمِ فقط. والثالث: نسخُ الرسم والحكم. فأمَّا نسخُ الرسم دونَ الحكمِ: فاَية الرجمِ، وهي قوله: "ولا ترغبوا عن ابائكم، فإن ذلك كفر بكم (¬2)، الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا، فارجموهما البتة ... والله عزيز حكم " (¬3)، وكذلك قولُه: "متتابعات" (¬4) ¬

_ (¬1) ارجع في هذا الفصل إلى "العدة" 3/ 780، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 273، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 553، و"أصول السرخسي" 2/ 78، و"المستصفى" 1/ 123، و"شرح تنقيح الفصول" (308). (¬2) صنيع المصنف يوهم أن قوله: "ولا ترغبو عن آبائكم، فإن ذلك كفر بكم" هو بعض آية الرجم، وليس كذلك؛ فإنه لا تعلق له بآية الرجم، وإن كان أيضاً مما كان يقرأ به قبل نسخ تلاوته، كما ورد ذلك ضمن حديث مطول أخرجه البخاري (6830)، وأحمد 1/ 55 - 56 عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. (¬3) تقَدم تخريجه 1/ 246. (¬4) يشيرُ بذلك إلى قوله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]. إذ وردت قراءة شاذة بزيادة: "متتابعات"، وتنسب هذه القراءة الشاذة إلى =

في صومِ كفارةِ اليمينِ، فهذان نطقان نسخا، وبقي حكمهما؛ الرجمُ في حقِّ المُحصَنَيْنِ إذا زنيا، والتتابعُ في صومِ الأيام الثلاثةِ في كفارةِ اليمين (¬1). وأما ما نسخ حكمه، وبقي رَسمُه: فمثل (¬2) قولِه تعالى. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]، نُسِخَتِ الأُولى -ألاعتداد بالحوِلِ، ورمي البَعْرةِ في رأسِ الحولِ- إلى أربعة أشهرٍ وعشر (¬3)، ونُسِخت ¬

_ = أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ذكر ذلك الطبري في "التفسير" 10/ 559، وعبد الرزاق فىِ "المصنف" (16102)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 276، والبيهقي في "السنن" 10/ 60. على أن هذه القراءة رغم التسليم بعدم قرآنيتها، وكونها لم تثبت متواترة، فإنه لم يرد قول بنسخها، فلا وجه إذاً لإيراد ابن عقيل لها ضمن الآيات التي نسخت تلاوة وبقيت حكماً. قال الإمام الطبري في "تفسيره": أما ما رويَ عن أبي، وابن مسعود من قراءتهما: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فذلك خلاف ما في مصاحفنا، وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا أنه من كتاب الله. "تفسير الطبري" 10/ 562. (¬1) القول بوجوب التتابع في صيام الأيام الثلاثة هو قول الحنفية، والراجح عند الحنابلة؛ لكونهم أخذوا بقراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، وخالفهم في ذلك المالكية والشافعية. "المغني" 11/ 273. (¬2) في الأصل: "مثل". (¬3) في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

* فصل في الدلالة على جواز نسخ الرسم مع بقاء حكمه

الوصية للوالدين والأقربين بآيةِ المواريثِ. وأمَّا الرسمُ والحكمُ جميعاً: فهو ما رَوَت عائشةُ رضي الله عنها: عشرُ رَضَعاتٍ معدوداتٍ، نسخنَ بخمسٍ معلوماتٍ، وماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ ممَّا يُتلى في القرآن (¬1) وليسَ لنا في المصحفِ "عشرُ رضعاتٍ" مسطورةً، ولا الحكمُ الذي هو التحريمُ متعلقاً عليها. والسورة التي ذكر أنها كانت كسورةِ الأحزاب، وكانَ فيها: "لو أنَّ لابن آدم واديينِ من ذهب، لابتغى إليهما ثالَثاً، ولا يملأ عينَ -ورويَ: جوفَ- ابنِ آدمَ إلا الترابُ، ويتوبُ اللهُ على من تابَ " (¬2). ولا نعلمُ أكان فيها حكمٌ، أم كانت قصصاً ومواعظَ وآداباً (¬3)؛ فهذه جملةٌ لا يُستغنى عن ذكرِها. وذهبَ قومٌ إلى أنَّه لايجوزُ قِسْمٌ منها، معَ موافقتِهم في جواز النسخ في الجملة، والذي منعوا منه: نسخُ الرسم مع بقاءِ الحكم. فصلٌ في الدلالةِ على جوازِ نسخِ الرسمِ مع بقاءِ حكمه وهي أنَّ الحكمَ قدْ يَثْبتُ (¬4) لا بقرآن، والقرآنُ قدْ يَثْبتُ خالياً من الأحكامِ (¬5)، فالأحكامُ الشرعية قد تَثْبُتُ بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 247. (¬2) تتمدم تخريجه 1/ 248. (¬3) في الأصل: "وآداب". (¬4) في الأصل: "ثبت". (¬5) يوضح كلام ابن عقيل واستدلاله على جواز نسخ الرسم مع بقاء الحكم: ما ذكره القاضي أبو يعلى في "العدة" 3/ 782، إذ قال: إن التلاوة لا =

إعجازَ فيه، وذلكَ ما تَضمَّنَتْه هذه السننُ المرويةُ عنه - صلى الله عليه وسلم - في الأحكامِ، والتلاوةُ المجردة عن الأحكام: القصص، وذكرُ السِّيَرِ، وذكرُ الجنةِ والنارِ، وصفة القيامةِ، وإذا كانَ كلُّ واحدٍ من الرسم والحكمِ منفصلاً، وليسَ من ضرورةِ أحدِهما وجودُ الآخر، صارا كالعبادتين والحكمينِ المختلفينِ، يجوزُ نسخُ أحدِهِما منفكَّاً عن نسخِ الآخرِ، فيُنسخُ (¬1) أحدُهما، ولا يُنسخُ الآخرُ. فإن قيل: الحكمُ مع التلاوةِ، كالتنبيهِ مع الخطاب، والدليل مع النطق، والعلَّةِ مع المعلولِ، ولا يجوزُ أنْ يُنسخ الَخطابُ، ويبقى دليلُه، ولا التنبيه، ويبقى حكمُهُ وأَوْلاه، ولا العلَّةُ، ويبقى حكمُها، كذلكَ الرسمُ مع حكمِهِ. فيقال: معنى الدليلِ: هو ما استفدناه من معنى تعليق الحكمِ على أحدِ وصفي الشيء، والتنبيه: ما استفدناه من فحواهُ، ومن المحال أن يثبتَ ذلك عن [غير] نطقٍ، وأمَّا الحكمُ فبخلافِ (¬2) ذلك، لأنَّه إذا رفعت الآية من المصحف، لم تخرج عن أن تكون مما خوطب [به]، والحكم قد ثبت بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكن قرآناً، وقد يردُ في الأخبارِ: "يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي عبدي ¬

_ = تفتقر إلى الحكمِ الشرعي، ولا الحكم الشرعي يفتقرُ إلى التلاوةِ، بل يجوزُ أن ينفصلَ كلُّ واحد منهما عن الآخر، لأنَّ الحكمَ قد يثبتُ من غير تلاوةٍ، مثل أفعال النبي، فصارت التلاوة مع حكمها بمنزلةِ عبادتينِ، فلما جازَ نسخُ إحدى العبادتين دونَ الأخرى، كذلك نسخُ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة. (¬1) في الأصل: "فنسخ". (¬2) فىِ الأصل: "بخلاف".

خيراً" (¬1) "يقول الله: الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته" (¬2)، وفي خبرٍ آخر: "يقولُ الله: أنا أغنى الأغنياء عن الشركِ" (¬3)، والسنن في ذلك كثيرة، لكنَّها ليست قرآناً، ولا يجعلُ لها حكم القرآن، وتتعلقُ عليها أحكامُ الأحاديثِ، كذلك آيةُ الرجمِ إذا نسخ رسمُها، فإنما ترفعُ عن المصحفِ، قال عمر: لولا أن يقول النَّاسُ زاد عمر فيَ كتاب الله، لكتبتُها في حاشيةِ المصحف (¬4). فدلَّ ذلك على أنَّ معنى نسخ الرسم: رفعه عن أن يكونَ قرآناً، وليس بخروجها عن كونها قرآنا تخرجُ عن كونها صالحةً للحكم، كالسنن كلِّها. ولأنَّه - صلى الله عليه وسلم - رجم، فاستدمنا الحكمَ بفعله، وفعلهُ صالحٌ للإيجاب، ¬

_ (¬1) ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله جل وعلا يقول: أنا عند ظنِّ عبدىِ بي، إن ظنَّ بي خيراً فله، وإن ظنَّ شراً فله"، أخرجه البخاري (755)، ومسلم (2765) (19)، والترمذي (2388)، وأحمد 2/ 315، وابن حبان (639). وورد من حديث واثلة بن الأسقع، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء"، أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (909)، والطبراني في "الكبير" 22/ 210، وأحمد 3/ 490، وابن حبان (633) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: مسلم (2620)، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، والبغوي في "شرح السنة" (3592)، وابن حبان (328) مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم. (¬3) ورد من حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم (2985)، والطيالسي (2559)، وأحمد 2/ 301، وابن ماجه (4202)، وابن حبان (395). (¬4) تقدم تخريجه 1/ 246.

* فصل هل يجوز أن يمسها المحدث أو يتلوها الجنب

فقد بانَ بذلكَ أنَّ الحكمَ ما بقيَ بعدَ زوالِ مُوجِبِه، لكن بقيَ بدلالةٍ صالحةٍ لابتداءِ الحكمِ بها، ونحنُ لم نضمن في هذه المسألة أنَّ الحكم الذي ما ثبت إلا بالآيةِ بقيَ بعدَها قائماً بنفسه، وإنَّما ضمِنا بقاءَ الحكمِ بعدَ نسخِ الآيةِ، وأنَّه ليسَ من ضرورةِ نسخها نسخُه، لما بيَّنا من أنَّ الله سبحانه يجوز أن يجدِّد علة الحكم. فصلٌ وهل يجوزُ أن يَمسَّها المُحدِثُ، ويتلوها الجُنُبُ؟ يحتمل: أن لا يجوزَ وتبقى حرمتُها، كبيتِ المقدس؛ نسخَ كَونُه قبلةً، وحرمتُه باقيةٌ، ويحتملُ: أن لا تبقى حرمتُهاَ المذكورةُ، كما لم تبقَ حرمةُ كَتْبِها في المصحف. وهي أشبهُ شبهاً بالحِجْر، فإنَّه كان من البيتِ، وهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَرُدَّ قواعدَ البيتِ عليه (¬1)، كما همَّ أعمر، بكَتْبِ (¬2) الآيةِ في المصحفِ. ولن يضرَّ الاحتمال الأول؛ أمّا بكون ما حرَّمه يقتضي الطهارة، فهي باقيةٌ في الحِجْرِ، وأمَّا [نَفي] الحرمة عن الطهارِة، فقد استويا فيه، فبناءُ (¬3) ¬

_ (¬1) ورد هذا من حديث عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدٍ بجاهليةٍ، لهدمتُ البيتَ حتى أدخل فيه ما أخرجوا منه في الحجر، فإنهم عجزوا عن نفقته، وألصقته بالأرضِ، ووضعتُه على أساس إبراهيم"، أخرجه البخاري (1586)، ومسلم (1333)، والنسائي 5/ 216، وأحمد 6/ 239، وابن حبان (3816). (¬2) في الأصل: "كتب". (¬3) في الأصل: "بناء".

* فصل في شبهة المخالف

الحِجرِ لا يُستقبَلُ (¬1) هواؤُه، ولا يعتدُّ بالصلاةِ إليه، بخلافِ هواءِ (¬2) الكعبةِ في العلو، إذا صعد على أبي قبيس (¬3)، وكذلك لو هُدِمَت العمارةُ (¬4)، جازَ استقبالُ هوائِها بخلافِ الحِجْرِ، وخروجُ الحِجر عن خصيصةِ القبلةِ في الصلاةِ، كخصيصةِ القراءةِ في آيةِ (¬5) الرجم، لا تنعقدُ بها الصلاةُ على قولِ مَنْ جوَّزَ قراءة اَيةٍ غيرِ الفاتحةِ (¬6). فصلٌ في شبهةِ المخالِفِ: بأنَّ الحكمَ إنَّما يثبتُ بالآيةِ، فإدْا نسِختْ، لم يبقَ حُكمُها بعدَها، كما لم يَتخلفِ (¬7) المعلولُ بعدَ زوالِ العلةِ، والعلمُ بعدَ زوالِ عالمهِ، والعالمُ عالماً بعدَ زوالِ علمهِ. فيقالُ: نحنُ قائلونَ بموجبِ هذهِ الدلالةِ، وأنَّ العلَّةَ المُوجبةَ لا يبقى الحكمُ بعدَها، ككونِ الَمتحرِّكِ متحركاً، وكونِ الحيِّ عالمَاً، لا يبقى بعدَ زوالِ الحركةِ والعلمِ. فأمَّا العلة الشرعية التي هي دلالةٌ على الحكمِ، فقد (¬8) يبقى الحكمُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مستقبل". (¬2) في الأصل: "هو". (¬3) جبل مشهور شرقي البيت، ومشرف عليه. "معجم البلدان" 1/ 80. (¬4) في الأصل: "للعمارة". (¬5) ليست فى الأصل. (¬6) وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد انظر "المغني"2/ 146. (¬7) في الأصل: "يختلف". (¬8) في الأصل: "قد".

* فصل فيما ينسخ الحكم إليه

بعدَ زوالِها؛ لأنَّ المدلولَ ليسَ من شرطهِ بقاءُ دليلِه (¬1)، وقدْ يخْلُفُ العلةَ الأولى غيرُها، كما يخلفُ الدلالةَ غيرُها. ويتحقَّقُ من هذهِ الدلالةِ: أنَّهم لا يخالفونَ في المعنى؛ لأنَّهم إنْ قالوا: لا يبقى الحكمُ الذي لا طريقَ لثبوتِهِ بعدَ (¬2) نسخِها، فصحيحٌ، وإنْ قالوا: إنَّ الرسمَ إذا رُفعَ عن المصحفِ، وقيلَ لنا: لا تضعُوها في المصحفِ، وكونوا على حكمِها، أو قامتْ دلالةٌ تصلحُ لإثباتِ الحكمِ بعدَ رفع رسمِها، لم يثبت الحكمُ، فهذا بعيدٌ من القولِ؛ لأنَّ لله سبحانَهُ إثباتَ الحكمِ بغيرِها من الأدلَّةِ، إذ ليسَ يختصُّ إثباتُ أحكامِ الشرعِ بالقرآنِ. ولأنَّ الله تعالى قالَ في النبي - صلى الله عليه وسلم -: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} [آل عمران: 144]، فإماتة النبي محوٌ لرسمه، ولا تتعطل الأحكام بموته، كدْلك [مَحْوُ] رسمِ الآيةِ من المصحفِ. ويصلحُ أنْ يجعلَ من الجوابِ دلالةً في المسألةِ (¬3). فصل فيما ينسخُ الحكمُ إليه (¬4) فاعلم أن الحكم قد ينسخ إلى بدل، كنسخ الحول في حقِّ المعتدة عن وفاة زوجها إلى أربعة أشهر وعشرٍ، وهذا نسخ إلى بدلٍ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مدلوله". (¬2) في الأصل: "إلا بعد". (¬3) يعني: أن الأجوبة المتقدمة في الرد على القائلين بعدم الجواز، هي نفسها أدلةٌ للقائلين بالجواز. انظر "شرح الكوكب المنير" 3/ 558. (¬4) انظر "العدة" 3/ 783، و"المسودة" (198)، و"شرح مختصر الروضة" =

هو أيسر منه وأخف، لكونه نسخَ واجبٍ إلى واجب. ومثله: نسخُ القبلةِ إلى الكعبة، نسخ واجب إلى واجب أيضاً، لكن الثاني كالأوَّل؛ ليس فيه تخفيفٌ، ولا تخييرٌ، ولا تقليلٌ. ومن ذلك أيضاً: نَسخُ الصوم المخيَّرِ بين إيقاعِهِ أو الفديةِ في حقِّ الصحيح القادر على الصوم، نسِخَ إلى صوم منحتم لا تخييرَ فيهِ، فهذا نسَخ واجب إلى واجب، لكن الأولُ موسَّع والثاني مضيَّقٌ، وبقيَ عندَنا في حقِّ الحاملِ والمُرضع إيجابُ الفديةِ لا على وجهِ التخييرِ، بَلْ إنْ خافتْ على جنينِها أو ولدِها حالَ الرضاعِ، فلا يحلُّ لَها الصوم، وعليها الفديةُ، وإن لم تخفْ، فلا يحلُّ لها الإفطار. ولنا نسخُ واجب إلى مباحٍ، فالصدقة المقدَّمة على مناجاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، نُسِخَتْ إلى جوازِ فعلها وجوازِ تركِها (¬2). ولنا نسخ واجب إلى ندب وواجب، كالمصابرة في الحرب، الواحد منا للعشرة من المشركين، ونسخ إلى وجوب مصابرة اثنين، وندب إلى ما زادَ على الاثنين (¬3). ¬

_ = 2/ 296، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 545، و"البرهان" 2/ 1313، و"المستصفى" 1/ 119. (¬1) يريد بذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ...} [المجادلة: 12]. (¬2) يشير إلى قوله سبحانه: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:12 - 13]. (¬3) جاء ذلك في قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].

* فصل يجوز نسخ الحكم إلى مثله وأخف منه وأثقل

ولنا نَسْخٌ مِنْ حَظْرٍ إلى إباحة، وهو نسخه تحريم الجماعِ والأكلِ بعد النومِ، نسخه (¬1) بقوله: {أُ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187]، إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى آخر الآية. ومثلُ: حظرِه زيارةَ القبور، ثم قال: "فالآن زورُوها، ولا تقولوا هُجْراً" (¬2). فصل ويجوزُ نسخُ الحكمِ إلى مثلِه، وأخفَّ منهُ، وأثقل، وبهِ قالت الجماعةُ (¬3)، خلافاً لبعض أهلِ الظاهر، حكاه الخَرَزي في مسائله، وأنهم منعُوا نسخَ الأخفِّ إلى الأثقلِ، وذهبَ إليه ابن داود (¬4). ولأصحابِ الشافعي وجهان كالمذهبينِ (¬5)، ووافقنا الأكثرون منهم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ونسخه". (¬2) تقدم تخريجه 1/ 252 - 253. (¬3) صرَّح بذلك القاضي في "العدة" 3/ 785، والسرخسي في "الأصول" 2/ 62، والغزالي في "المستصفى" 1/ 120، والقرافي في "شرح تنقيح الفصول" (308). وانظر: "شرح مختصر الروضة" 2/ 302، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 550، و"إرشاد الفحول" (188). (¬4) موضع قوله: "وذهب إليه ابن داود" في الأصل، بعد قوله: "كالمذهبين"، ورأينا إثباته هنا، لأنه أوفق لمقتضى السياق، وأبعد عن الخلط والإبهام، وقد رد قولَ ابن داود هذا، وفنَّدَه ابنُ حزم في "الإحكام" 4/ 466. (¬5) والراجح المعتمد عند أكثر الشافعية، كما سيشير المصنف: جواز نسخِ الأخف بالأثقل، وهم بذلك يوافقون ما ذهب إليه جمهور الأصوليين. نصَّ عليه الشيرازي في "التبصرة" (258)، والغزالي في "المستصفى" 1/ 120،=

* فصل في أدلتنا

وذهبَ قومٌ: إلى المنع من ذلكَ عقلاً، وأجازُوه سمعاً، غيرَ أنَّهم زعمُوا أنَّه لم يرِد. وقال قومٌ: يجوزُ عقلاً، لكن السمع وَرَدَ بالمنعِ منه. فصلٌ في أدلتِنا فمن ذلكَ: أنَّ الله سبحانه أوجبَ الصومَ في ابتداءِ الإسلامِ على الوجهِ الأسهلِ، وهو التخييرُ بينَ التعبدِ بهِ، وبينَ الفديةِ في المالِ، وَحَتَّمَه بصومِ رمضان، فقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فهذا نسخُ الأسهل بالأثقلِ. وكذلك كان الحدُّ على الزنى، الحبسَ في البيوتِ، والتعنيفَ، والأذى بالتَّهْجين (¬1)، ونسخ ذلك بالضربِ بالسياطِ، والتغريب عن الوطنِ في حقَ الأبكار، والرجم بالحجارة في حق الثيبِ، وهذْا نسخٌ للأسهلِ إلى الأكبرِ والأثقل. وكذلكَ كان الصفحُ والِإغْضاءُ والعفوُ، ثمَّ نُسِخَ ذلك بقتلِ المشركينَ كافةً وقتالِهم، وهو أصعبُ وأشدُّ. وأمَّا من جهةِ الاستنباط: فإنَّ النسخَ قد يكونُ لأجلِ الأصلح، وكم من أصلح قد يكونُ بتكليف الأثقلِ والأشقِّ، وقد يكونُ بالمشيئة المطلقةِ، وكم يقعُ بها الأثقل، كما يقعُ عنها الأسهلُ. ¬

_ = والسبكي في "الإبهاج" 2/ 154، وفنَّدوا قول المخالفين. (¬1) أي: التعيير والتقبيح في الكلام. "الصحاح": (هجن).

ومن ذلك: أنَّهُ إذا جازَ أنْ يزيدَ في التكليفِ، فيَضُمَّ صوماً إلى صلاة، وحجاً إلى صومٍ، ويبتدىءَ بتكليفِ عبادةٍ بعدَ أنْ لم تكنْ، ومعلومٌ أنَّ الإسقاطَ رأساً، وعدمَ الإيجاب، كانَ بالإضافةِ إلى التكليفِ المبتدأ أسهلَ، والواحدةُ من العباَداتِ أسهلُ من الثنتين والثلاثةِ (¬1)، وقد جازَ ذلك، فالرفعُ للأسهلِ، وإيجابُ الأصعبِ، لا يزيدُ على إيجابٍ، بعد عدمِ إيجابٍ، وتزايدِ عباداتٍ على ما كان قبل الزيادةِ من العبادَةِ الواحدةِ. وهذهَ طريقةٌ لا انفصالَ عنها. ومن ذلك: أنَّ الأثقلَ أكثر ثواباً، وكما يجوزُ النَّسخ إلى الأسهل لطفاً بهم في دار الدنيا، وتسهيلاً عليهم، يجوزُ أن ينسخَ إلى الأثقل، ليضاعفَ لهم ثوابَ الآخرةِ، والأغلبُ في التكليفِ (¬2) مصالحُهم العائدةُ لدار (¬3) الآخرة وثوابِها، ولهذا يبدأ بتكليفِ الأسهلِ، ويبدأ بالصعبِ. ومن ذلك: أن الله سبحانه يغيِّر من حالِ المكلَّفِ؛ صحةً إلى مرض، وغنىً إلى فقر، وسعةً إلى ضيق، كما أنه يفْعلُ بعكسِ ذلك، فيوسِّعُ (¬4) بعد الضيق، ويعافي بعدَ المرض، وإذا جازَ ذلك في بلاويه وامتحاناته، كذلك في باب تعبداته، والكلُّ امتحانٌ يتضمن التكليفَ بالطاعةِ له والتسليمِ، فلا فرقَ بينهما، ولهذا ألزمنا المنكرينَ للنسخِ الجاعلينَ له بداءً تغييرَ أحوال الشخص، من صحةٍ إلى سقم، وشبيبة إلى هرم، ووجودٍ إلى عدم. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الثانية والثالثة". (¬2) في الأصل: "التكلف". (¬3) في الأصل: "بدار". (¬4) في الأصل: "فوسع".

* فصول في شبهات المخالف

فصول (¬1) في شبهاتِ المخالفِ فصل فيما تعلَّقوا به من السمع قولُه تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، فكأنه يقول: إنَّما أردتُ بكم التخفيفَ، لعلمي بأنَّي خلقتكم ضعفاء، وهذا خبر لا يجوزُ أن يقعَ بخلاف مخبَرهِ، وفي نسخِ الأخفِّ إلى الأثقل ما يفضي إلى ذلك، وما يفضي إلى غيرِ الجائز على الله، باطلٌ في نفسهِ. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ورفعُ الأسهلِ، وتكليفُ الأثقلِ، غايةُ العسرِ الذي نفاه الله عن نفسهِ، فكلُّ مذهبِ أدَّى إلى مخالفةِ خبرِ البارئِ باطلٌ مردودٌ. وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، والإصر: الثقل، فأخبر أنه يضعُ الإِصرَ الذي حمله الأمُم قبلهم، فكيفَ (¬2) يزيدُ ما خفف (¬3) به عنهم في شريعتِهم بما يثقل بِه عليهم؟ وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، ومعلوم أنَّه لم يرِد {بخيرِ منها} فضيلةَ؛ لأنَّ القرآنَ لا ¬

_ (¬1) في الأصل: "فصل". (¬2) في الأصل: "وكيف". (¬3) في الأصل: "خففت".

* فصل في جمع الأجوبة عن هذه الآيات الكريمة

يتفاضلُ في نفسهِ، لم يبقَ إلا أنَّهُ أرادَ بالخيرِ: الأخفَّ والأسهلَ. وقوله في المصابرةِ بعدَ إيجابِها على الواحدِ بعشرةٍ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]، وهذا تصريخ بالنسخِ للأَصعب بالأَخف الأَسْهلِ. فصلٌ في جمعِ الأجوبةِ عن هذهِ الآيات الكريمة (¬1) أمَّا قولُه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، فهوَ خبرٌ من اللهِ سبحانَه لا نُحيلُ (¬2) فيه تَثقِيلَه بابتدائِه بالتكليفِ الشاقُّ، فلا يؤثرُ فيه نسخُه الأسهلَ بالشَّاقِّ الأثقلِ، ولا يعطي أيضاً إخبارُه بإرادتهِ التخفيفَ عنا الفورَ، بل يجوزُ أن يكونَ المرادُ به تخفيفاً عنا أثقالَ الآخرةِ؛ بثوابِ أعمالِنا الثقيلةِ على طباعِنا في الدُّنيا، أو تخفيفاً بالإضافةِ إلى المشاق التي كلَّفها مَن قَبلَنا، وما قبلَ هذا من الآيةِ يشهدُ لما ذكرنا؛ من قوله سبحانه: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، والميلُ العظيمُ إلى مخالفة الشرعِ تخفيف في الحالِ لأثقالِ التكليفِ، لكنَّه لما آلَ إلى العذابِ الدائم، وفوات (¬3) النَّعيم، قابله بقولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، باثقالِ التكليفِ المفضيةِ بكم إلى المنافعِ الدائمةِ، والعَربُ تُسمَّي الشيءَ بعاقبتِهِ، قال الله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، مع إخبارِهِ عنهم، بقولِه (¬4): {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [القصص: 9]، وتقول: ¬

_ (¬1) انظر هذه الأجوبة في "الإحكام" للآمدي 3/ 139. وما بعدها. (¬2) في الأصل: "يحيك". (¬3) في الأصل: "وثواب". (¬4) في الأصل: "قوله"

لدوا للموتِ وابنو للخرابِ (¬1) [وقال تعالى]: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، فسَمَّتِ (¬2) الشيءَ بعاقبتِهِ، مضرةً كانت، أو منفعةً. والذي يوضح [ذلك]: أن هذهِ الآية لا تمنعُ أثقالَ تكاليفهِ المبتدأةِ، وبلاويه في الأموال والأبدانِ، والدواهي الثقيلةَ على الطباعِ، وغيرَ ذلك؛ مما [لا] يسوغُ لمسلم أن يقول: إنه يُخرِجُ قولَه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، عن الصدق، بل الواجبُ تأويلُ ذلك على ما يوجبُ تخفيفاً لا بد أن يقع، إما الآنَ أو في الثاني، فليس تختص مُناقضَةُ الخبر بنفي التخفيفِ في النسخِ خاصةَ، بل بكلً تثقيلِ، فكل ما تَدفعُ به عن الآيةِ المناقضة، مع تجويزكَ التثقيلَ بتكليفِ مبتدأِ، هو الذي يَدفَعُ المناقضةَ عنها بالنسخِ للأسهلِ بالأثقلِ. والذي يُجْمعُ به بين ثِقَلِ التكليفِ المبتدأ، وبين خَبرِه بإرادةِ التخفيفِ عنا: هو أن كل مكروهِ عادَ إلى غايةٍ محبوبةِ، حسُنَ أن يُسمى المريدُ لذلكَ المكروهِ مريداَ للمحبوبِ، ولهذا يَحسُنُ أن يقولَ الأبُ الحَدِبُ (¬3) والطبيبُ الناصحُ، وقد جعلَ إيلامَ الولدِ بالأدبِ، والمنعِ من كلِّ شهوةٍ تُفضي إلى مضرةٍ، وعجَّلَ العلاجَ بالأدويةِ المُرَّةِ، وقيح العروقِ بالحديدِ، وإراقة الدماء، والمنع من الشهواتِ من الأشربةِ والأغذيةِ: إنما أريدُ، أو أَرَدْتُ بكَ التخفيفَ عنكَ والنفعَ لكَ، وتكميلَ اللذةِ، ويُشِيرُ بذلك القول: إلى صلاحِ العاقبةِ، مع كونِه مريداً لعاجلِ المضرة والبغضةِ والألم، فبانَ أنَّه ¬

_ (¬1) صدر بيت من الشعر، وعجزه "فكلُّكم يصير إلى تَبابِ" وفي رواية: "إلى ذهاب". وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. "همع الهوامع" 2/ 32، "أوضح المسالك": 356. (¬2) في الأصل: "فسمى". (¬3) هو من قولهم: حَدِبَ فلانٌ على فلانِ، يَحْدَبُ حَدَباً، فهو حَدِثٌ.

ليسَ بينَ الخبر في الآية، وبينَ نسخِ الأسهلِ بالأثقلِ، اختلافٌ، ولا تناقضْ. على أنه قد يصح نسخُ الخبرِ على هذا الوجه، وذلكَ أنه لو قالَ في حالِ: إنَّ الصلاةَ واجبةٌ عليكم، ثم قالَ: بعدَ وقتِ: الصلاةُ ليست واجبةَ، أمكنَ النسخُ بالثاني للأَولِ، ولا يكونُ الخبرُ كذباَ، لأنه أخبرَ في الأولِ؛ بأنها واجبةْ؛ لإيجابه لها، وأخبرَ في الوقتِ الثاني؛ بانها ليست واجبةَ؛ لانه أسقطَها، ويصيرُ الوقتانِ في اختلافِهما بالصلاةِ (¬1)، كالعبادتينِ المتغايرتينِ، كذلكَ قولُه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] , يجوزُ أن يكونَ المرادُ به إخباراً عن حالِ كانَ مريداً للتخفيفِ فيها، إذ كان الأصلحُ التخفيفَ، ويكونُ في حالةِ أخرى يريد الأثقلَ من التكليفِ؛ لكونه الأصلحَ، واللهُ أعلم. وأما قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]، فإنه الخبرُ الراجعُ إلى تجويزِ تاخيرِ الصومِ لأجلِ السفرِ والمرضِ، وهو اليسرُ المشارُ إليه، والعُسرُ المنهى عنه تكليفُ الصومِ فيهما، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ به اليسرَ العاجلَ من طريقِ العمومِ، ولا نفيَ العسرِ العاجلِ على العمومِ، لأن التكاليفَ مختلفةٌ؛ بينَ شاق ثقيلِ، وسهل خفيف، وأحوالُ المُكلفِ في الدنيا مُتردِّدةٌ بين يسرٍ وعسرٍ، فيما يعودُ إلى الرزقِ وأحوالِ الحىَّ؛ بينَ صحةِ ومرضِ، وغنىَ وفقرِ، والتكليفُ المبتدأ الذي يجيزون نسخَه إلى الأسهل، قد كان قبل نسخه مراداً لله بالإجماعِ، فعُلِمَ أنه ليس إرادتُه لليسرِ عامةَ جميعَ أحوالِ المكلفِ، ولا نفيُ إرادتِه للعسرِ عامةَ جميعَ أحوالِ المكلف، فكل دليلِ خُص به ذلك في التكليف المبتدأ، والمنسوخِ بالأخفِّ، هو الذي تخص به إرادتُه لنسخِ الأسهلِ، الأخفِّ إلى الأصعب الأثقل. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الصلاة".

على أنّا إن حملناهُ على عمومِه، على الوجه الذي ذكرناه في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وهو أنه اْرادَ تخفيفاً في العاقبة، وتسهيلاً يَعقُبُ أثقالَ التكاليفِ، كانَ حملاً صحيحاً؛ بدلائلنا التي ذكرناها. وأمّا قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]، فإنَّه سبحانه قد خَفَّفَ من وجهِ كان قد صعبه على الأممِ قبلنا، وسهلَ ما كانَ شديداً، ولأنَّه خبرٌ، قد كان ما خَبَّرَ، وهو وضعُ الإصر عنهم، والثقلِ الذي كان على من قبلهم من الأمم. وأما قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106]، فليس (¬1) فيهِ تصريحٌ بأثقلَ (¬2) وأَخَف، لكن الخبرُ قد يكونُ بمعنى: أكثرَ ثواباً، ويحتملُ: أصلحَ، ولهذا يَحسنُ أن يقالَ: الفرضُ خيرٌ لكَ من النفلِ، وإن كان النفلُ أسهلَ، والفرضُ أشق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: "ثوابُكِ على قدرِ نَصَبِكِ" (¬3)، وقال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، فالخيرُ والفضلُ في أمرِ الدينِ يرجعُ إلى الأكثرِ ثواباً، وفي أمرِ الدنيا يرجعُ إلى الأصلحِ والأنفعِ، وليس يختص الأسهلَ، ولهذا يَحسُنُ بالطبيبِ أن يقولَ للمريضِ: الجوعُ والعطشُ أصلحُ لك، وخير لكَ من الشِّبَعِ والرَّي. وأمّا قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]، فنحنُ قائلونَ بها، وأنه ينسخُ إلى الأسهلِ والأخفِّ، وليسَ فيها منع من النسخِ إلى الأصعبِ والأشقِّ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ليس". (¬2) في الأصل:"ما ثقل". (¬3) تقدم تخريجه 1/ 254.

* فصل فيما تعلقوا به من الاستنباط وأدلة العقل

فصل فيما تعلقوا به من الاستنباطِ وأدلةِ العقلِ قالوا: النسخُ إنَّما يقصدُ به الأصلحُ والأنفعُ، والأقربُ إلى حصولِ الطاعةِ من خلقِه والاستجابةِ، وذلكَ إنَّما يحصلُ إذا نقلهم [من الأشَدِّ] إلى الأخفِّ، ومن الأصعبِ إلى الأسهلِ، وأما نقلُه لهم من الأسهلِ إلى الأثقلِ، فإنما يكونُ إضراراً، ثمَّ تنفيراً لهم عن الاستجابةِ، فيعودُ بضدِّ ما وُضعَ له النسخُ؛ لأنهم بالاستجابةِ يستضرونَ بالكُلْفةِ الصعبةِ، وبالمخالفةِ والنفورِ عن ذلك يستضرونَ بالمؤاخذةِ، فلم يكن للنسخِ على هذا الوصفِ وجه (¬1) في الحكمةِ، ولا مضاهاةٌ للوجه الشرعيَ، ولهذا قالَ تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فإذا أَلانَ أخلاقَ النبيِّ؛ لئلا ينفروا عنه، وجبَ أن لا يُثْقِلَ التكليفَ بالنسخِ الأَسْهَلِ إلى الأصعبِ الأشقِّ، وأصلُ النسخِ إنما كانَ؛ لأنَّ المللَ يعتريهم، وأنَّ الأزمانَ تختلفُ في الأصلحِ، فلكلِّ وقتٍ حكمٌ وحالٌ غير الوقتِ الآخر. فيقالُ: إنَّ المُراعى في النسخِ هو المُراعى في أصلِ التكليفِ، والتكليفُ في وضعهِ على الكُلْفةِ، ومراغمةِ النفس والهوى والشهوةِ، والتركُ هو الأسهلُ، والتخليةُ هي التي النفوسُ إَليها أميلُ، ثمَّ ابتداءُ التكليفِ كان بالإضافةِ إلى الإطلاقِ والتخليةِ أشقَّ وأصعبَ، فإذا جازَ أن ينقلَ من تخليةٍ وإطلاق إلى تقييدٍ، ومن بطالةٍ وراحة إلى عملٍ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وجهاً".

* فصل يجوز نسخ العبادة إلي غير بدل

وتعبٍ، مراعاةً لما يَؤُولُ إليه من نفعِ المجازاةِ، والمقابلةِ بالثوابِ، وهوَ النفعُ الدائمُ، والعيشُ السالمُ، فما المانعُ من نقلهِمِ من تخفيفٍ إلى تثقيلٍ؛ لتحصيلِ زيادةِ ثوابٍ، ونفعٍ آجلٍ، وإن كان تضمَّنَ ثقلاً عاجلاً؟! على أن هذا باطلٌ بأفعالهِ سبحانه، بالنقلِ من الصحةِ إلى السُّقْمِ، والشبيبةِ إلى الهرمِ، والجدَةِ إلى العدمِ، والغنى إلى الفقرِ، وفقد الحواسِّ المستعانِ بها عَلى مصالح الدينِ والدنيا، ومَدِّ الأَعضاءِ والقوى التي هي أدواتُ مصالح الدِّينِ والدنيا، هذه كلُّها بلاوي، العافيةُ أحبُّ إلى المكلف منها، ومعَ ذلكَ فإنَّ الله ابتلاه بها، وما كان ذلك إلا لمصالحَ جَمَّةٍ، وتحصيلِ الأعواضِ الموفيةِ على الضررِ بها، وحبس النفس عن التَّشَرُدِ (¬1)، وتذكيراً بالنعمة، وردعا عن ارتكاب المعصيةِ، والمبتلى بها بعدَ الراحة والسلامةِ منها، هو كالمُبْتلَى (¬2) بالأثقلِ من التكاليفِ بعدَ الأسهلِ منها، ولا عذرَ للمخالفِ في ذلكَ، إلا ما يعلمُ في مطاوي تلك البلاوي من المصالح، كذلك الأثقلُ في بابِ التكاليفِ بعدَ الأَخفِّ، والأسْهَلِ (¬3). فصلٌ ويجوز نسخُ العبادةِ إلى غيرِ بدلٍ (¬4)، خلافاً لبعض الأصولين: لا ¬

_ (¬1) أي الشرود والبُعد عن الله عز وجل. (¬2) في الأصل: "المبتلى". (¬3) في الأصل: "الأفضل". (¬4) هذا رأي جمهور الأصوليين، انظر "العدة" 3/ 783، و"المسودة" =

* فصل في الفرق بين النسخ والبداء

لايجوزُ إلا إلى بدلٍ. لنا: أنَّه إنْ كانَ التكليفُ بحسبِ الأصلحِ: فقد يكون الأصلحُ في الإسقاطِ، كما يكونُ في التخفيفِ، وكما يكود [في] إسقاطِ البعضِ، وكما يكونُ في النقلِ إلى بدلٍ هو دونَ الأصلِ، وإن كانَ بحسبِ المشيئةِ: فقد يكونُ الله سبحانه مريداً لرفعِ العبادةِ رأساً، كما يكونُ مريداً لرفعِ البعضِ. وأيضاً: فإنه حقٌّ للهِ، وكلُّ مستحقٍّ لحقٍّ كان له إسقاطهُ؛ كحقوقِ الآدميين، يملكُ إسقاطَ حقه عن غريمِه، وخدمةِ عبده إلى غيرِ شيءٍ، بل يبطلُه، ويعطله عن الاستخدامِ، وله أن يُسقطَ حقَّه من خدمةٍ إلى غيرها أو بعضها، وإسقاطُ دَينهِ إلى بعضِه، وإسقاطُ كله، والعفوُ عن الحَدِّ إلى ما دونه. فصل في الفرقِ بينَ النسخِ والبداءِ فالبداءُ الذي لا يجوزُ على الله سبحانه، هو العلمُ بالشيء بعد أنْ لم يكن به عالماً، ومنه قول القائل: بدت لي القافلةُ، وبدا لي سورُ المدينةِ: إذا لاح بعد خفائهِ لبُعدٍ عنه، أو حائلٍ حال بينه وبينه من ظلمةٍ، أو جبلٍ، فهذا في حاسةِ النظر. وفي العلم تقول: بدا لي ألاّ أكرمَ فلاناً؛ لِما بانَ من خَلَّةٍ فيه، أو خُلق أوجبَ لكَ إسقاطَ كرامته، وإنّما لم يجز هذا على الله سبحانه، ¬

_ = (198)، و"المستصفى" 1/ 119، و"البرهان" 2/ 1313، و"إرشاد الفحول" (187)، و"شرح تنيقيح الفصول" (187) و"الإحكام" للآمدي 3/ 195.

* فصل الفرق بين التخصيص والنسخ

لِما ثبتَ من وجوبِ كونهِ عالماً بكلّ معلوم، واستحال عليه تجددُ كونهِ عالماً بشيء لم يكن به عالماً. وأمّا النسخُ: فإبدال الحكمِ بغيرهِ، أو رفعُه إلى غيرِ بدلٍ، أو رفعُه إلى ما هو أحبُّ منه أو مثلُه، أو أثقلُ، لا أنَّه تجددَ له علمٌ به، أو إرادةٌ له لم تكنْ، لكنْ علمَ وأرادَ بشريعةٍ لمدةٍ أخفاها عن المكلفين، بنطق لا تلوحُ منه المدةُ، ثم كشفَ عن علمه وإرادتِه رفعَ ذلكَ الحكمِ بعد مُضي المدةِ، التي كانت المصلحةُ أو المشيئةُ المطلقةُ موجبةً لها فيها، ثم إنه صارت حالُ المكلفِ تقتضي الرفعَ لذلكَ الحكمِ فيما بعدها، فحالُ المكلفِ تغيرت، وعِلمُ الله وإرادتُه لم تتغير. على أن الأمرَ على مذهبنِا، قد ينفكُّ عن الإرادةِ، لأنَّه لا يقتضي الإرادةَ، وإذا ثبتَ ذلكَ، بطلَ تخليطُ اليهودِ وغيرهم النسخَ بالبداءِ. فصل فأمَّا الفرقُ بينَ التخصيص والنسخِ فيما يفترقانِ فيه، والجمعُ بينهما فيما يجتمعانِ فيه: فالتخصيصُ هو الدليلُ الكاشفُ عن أنَّ المرادَ بالصيغةِ المستغرقةِ للجنس لفظاً وظاهراً: بعضَ ذلكَ الجنسِ دونَ جميعِه معنىً وباطناً، وأنهَ لم يُرِد اللافظُ بها الاستغراقَ (¬1). ¬

_ (¬1) مقصود ابن عقيلٍ بهذه العبارة إظهارُ الفرقِ الأساسي بين التخصيصِ والنسخ، والمتمثل: في أن التخصيص بيانُ أن بعض أفراد العام التي شملها العام بلفظه وظاهره، غيرُ مشمولة بالحقيقة والحكم، ويكشفُ الدليل المخصِّص أن الشارع لا يريد من اللفظ العام عمومه الاستغراقي الكلي المستغرق لجميعِ =

ولا فرقَ بينَ أن تكونَ الدلالةُ قريبةً مضافةً أو دلالةً متأخرةً عن الصيغةِ، مثل قولهِ تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فيقتضي ظاهرُها استغراقَهُم بالقتلِ، فإذا جاءتْ دلالةٌ، تقتضي عصمةَ أهلِ الكتابِ منهم، بإعطاءِ الجزيةِ، والتزامِ العهدِ، تبيّنا أنهُ لم يرد الاستغراقَ. ولا يصحُّ هذا القبيلُ -أعني تخصيصَ العمومِ- في أمرٍ واحدٍ، بمأمورٍ واحدٍ، والنسخُ يكونُ نسخاً لحكم الأمرِ الوحدِ، بمأمورٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ، ينسخُ بعد فرضهِ، ولا يصحُ دخولُ التخصيصِ فيه. ومن الفرقِ بينهما: أن التخصيصَ يُخرِجُ من الخطابِ ما لم يُرَدْ به، والنسخُ يرفعُ ما أُريدَ إثباتُ حكمه. ولا يقعُ النسخُ أبداً إلا متراخياً عن المنسوخ، كما بيناه من قبل، والتخصيصُ قد يصحُّ اتصالُه بالمخصوص، ويصحُّ تراخيه عنه. ¬

_ = أفراده، وإنما مرادُه عمومَه الأغلبي. فإذا ورد الدليلُ المخصِّص، أخرجَ بعضَ الأفراد من التناول اللفظي العام، وبيّنَ أن الحكمَ العام لم يتناول ابتداءً تلك الأفراد المخصوصة. أما الدليل الناسخ فإنّه إذا ورد، بيّنَ أنَّ الأفراد التي نُسِخَ حكمها كان قد ثبت لها حكمٌ قديم، وقد تغير بحكمٍ آخر، فإخراجُ الأفرادِ بالنّسخ ليس من عمومِ اللفظِ فحسب، بل من عموم الحكم أيضاً. وعلى ذلك فإنَّ الدليل المخصِّص إذا ورد كشفَ لنا أن الشارع لم يقصد أن يثبتَ حكم العام لجميع أفراده، أما الدّليل الناسخ فإنه يكشف أن الشارع أراد ثبوت الحكم لجميعِ الأَفراد حقيقةً ومعنى، ثم أراد أن ينسخَ ذلك الحكمَ الأوَّلَ بحكمٍ ثانٍ متأخر.

فإن قيل: إذا اتصلَ بالمخصوص استحال الاستثناءُ، وخرج عن كونه تخصيصاً (¬1). ومن الفرق بينهما: أنَّ النسخَ لا يكونُ أبداً إلا بخطابٍ وقولٍ من جهة الشارع، والتخصيص قد يكون بالخطابِ وبدلالة العقل. ومن الفرقِ بينهما: أن التخصيصَ لا ينفي دلالةَ اللفظِ المخصوصِ على ما بقيَ تحته، إن كان حقيقةً أو مجازاً -على اختلافِ القائلين بالعمومِ في ذلك-، وأما النسخُ فإنه يبطلُ دلالةَ المنسوخِ، حتى لا يمكن مع ورودِ الناسخِ أن يكون دليلاً على ما يدلُّ عليه من ثبوتِ الحكمِ في تلكَ الأزمانِ المستقبَلةِ. وهذا الفرق موجبٌ أنْ يكونَ الناسخُ رافعاً لما ثبتَ من حكمِ اللفظِ المتقدمِ، والتخصيصُ مبيِّنٌ أنّ الحكمَ ما ثبت في المخصوصِ. ومما يفترقانِ أيضاً فيه: أنَّ تخصيص العامّ يكونُ بخبرِ الواحدِ والقياسِ، والاستدلالُ غيرُ القياس من طرقِ الاجتهادِ، وإن كانَ تخصيصاً لأصلٍ يوجبُ العلمَ ويقطعُ العُذرَ، والنسخُ لأصلٍ هذا سبيله، لا يكونُ بقياسٍ وخبرِ واحدٍ، بل لا يصحُّ إلا بنَصٍّ. ¬

_ (¬1) أورد ابن عقيل هذه الشبهة، ولم يفندها، ويمكن أن يجاب عليها بالقول: إنَّ حقيقة التخصيص أنه قصر اللفظ على بعض مسمياته، وبيان أن بعض مدلول اللفظ العام غير مراد ولا مقصود بالحكم، ومثل هذا البيان الذي يعبر عنه الدليل المخصِّص يمكن أن يقوم به الدليلُ الخاصُّ المتصلُ والدليل الخاص المنفصل على حدٍّ سواء. ذلك أن العبرة بإمكانية قيام الدليل بالبيان، وإظهاره حقيقة الأفراد الذين توجهت إرادة الشارع إلى تناولهم بالحكم العام، بقطع النظر عن كون الدليل خاصاً متصلاً باللفظ العام، أو خاصاً منفصلاً عن اللفظ العام.

* فصل فيما يجوز نسخه من الأخبار وما لا يجوز

والذي يتفقانِ فيه: أن النسخَ تَبَيَّنَ بهِ مقدارُ زمانِ الحكمِ، وإخراجُه عمّا غلبَ على الظنِّ من تأبيدهِ، والتخصيصُ يبيّنُ مقدارَ الأعيانِ والأحوالِ والصفاتِ وما ينتظمهُ، بلفظِ الشمولِ، فإنَّ المرادَ به بعضُ تلك الأعيان والأحوال. فصلٌ فيما يجوز نسخُه من الأخبارِ وما لا يجوزُ اختلفَ الناسُ في ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) كان لِزاماً على ابن عقيل أن يحدِّد موطن الخلاف في هذه المسألة، وأن يميِّزَ بين الأخبارِ التي قد يردُ عليها النسخُ، والأخبارِ التي لا يردُ عليها نسخ، ذلك أن كثيراً من الأصوليين ميّزوا بين نوعينِ من الأخبار: الأول: ما كان مدلولُه لا يتغيرُ، كصفاتِ الله سبحانه وتعالى وإخبارِه بما كان وما سيكون، وإخباره عن الأنبياء من قبل عليهم السلام، والإخبار عن الساعة وأماراتها، فهذه الأخبار لا يجوز نسخها بإجماع العلماء، وفقَ ما قرّر أبو إسحاق المروزي وابن برهان، وابن مفلح، ولا خلافَ في استحالةِ نسخِ هذه الأخبار؛ لأنَّ نسخَها يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوزُ بل يستحيلُ على الله تعالى، وما أدّى إلى الباطل فهو باطل. الثاني: أن يكونَ مدلولُ الخبرِ ممّا يصحُ أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبَرِ عنه، كالإخبار عن زيد بأنه مؤمن أوكافر، أو عبدٌ أو فاسق، فهذا الذي حصل الخلافُ في جوازِ نسخِه، أو امتناعه، فأكثر الأصوليين على منع نسخ هذه الأخبارِ كونها تفضي إلى الكذب. وذهب البعضُ إلى جواز نسخِها، ودليلهم في ذلك: أنّه إذا أخبرَ عن زيدٍ أنّه مؤمنٌ جازَ أن يقول بعد ذلك: هو كافرٌ. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاةُ على المكلّفِ في المستقبلِ، ثم يقولُ =

فقال أكثرُ الأصوليينَ والفقهاءُ: محال دخولُ النسخِ على الخبرِ، ولا فَرْقَ بين خبرِ الله تعالى، وخبرِ الآدميِّ. وقال قومٌ: يجوزُ دخولُ النّسخِ على الخبرِ، كما يجوزُ على الأمرِ والنهي والإباحةِ. واختارَ أبو بكرٍ بن الباقلاّني المنعَ من دخولِ النّسخِ على خبرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وما يُخبرُ به الرسولُ عنه أيضاً، قال: فأمَّا ما أمَرَنا بالإخبارِ عنه في حال، فيجوزُ أن ينسخَه بأن ينهانا عن الخبرِ عنه. وهذا عندي من قولِ أبي بكر يعطي أنَّ ألنّسخَ إجازة على الحكمِ، لأنَّه إذا أمرَنا بالخبرِ عن شيءٍ، فذاك أمرٌ، والأمرُ بالإخبارِ حكمٌ من الله، فكأنَّه عادَ يقولُ: الخبرُ لا يجوزُ نسخُهُ، والحكمُ يجوزُ نسخه، فلا يكونُ هذا تقسيماً للخبر، لأنَّ الأمرَ بالخبرِ ليسَ بخبير، وللآمرِ أن يَأمرَ بالخبرِ، وله أن ينهى عن الإخبارِ بذلكَ الخبرِ، ولا يكون ذلكَ نسخاً للخبرِ، لكن للأمرِ (¬1) به، فيصيرُ النهيُ عنه ضرباً (¬2) من ¬

_ = بعد مدةٍ، ليسَ على المكلفِ فعلُ الصلاةِ، لأن نسخَ ذلكَ لا يفضي إلى الكذب في الخبرِ، لأنّه يجوزُ أن تتغيرَ صفتهُ من حالٍ إلى حال، كما يجوزُ أن يتغيرَ حكمُ المكلفِ عن العبادةِ من زمانٍ إلى زمان. وممّن ذهبَ إلى جواز نسخ هذا النوع من الأخبار، القاضي أبو يعلى كما في "العدة" 3/ 827 - 829، والشيخ تقي الدين ابن تيمية كما في "المسودة" (222). وارجع في هذا الفصل إلى: "أُصول السرخسي" 59/ 2، و"الإحكام" للآمدي 3/ 205، و"شرح تنقيح الفصول" (309)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 543. (¬1) فىِ الأصل: "الأمر". (¬2) في الأصل: "صرفاً"

الكتمِ لذلكَ المخبَرِ به والطيِّ له، بعدَ الأمرِ بنشرِه، فإخبارُنا عن الأشياءِ بمثابةِ سائرِ أفعالِنا، والخبرُ من الله سبحانه يجبُ حصولُه ووجودُه، فلا يجوزُ رفعُه، لأنَّ خبرَه كلامُه، وكلامُهُ صفةٌ، فعلى هذا الأصلِ لا يجوزُ رفعُ ما أخبرَ به، وما عادَ إلينا بالنّطقِ بالخبرِ، يدخلُ عليه الأمرُ والنهيُ لأنّه فعلٌ لنا، ويحسُنُ تكليفُنا تارةً بأن يومِىءَ له، وتارةً بأن ينهى عنه. وعندي: أنَّه يجوزُ أن يقعَ الخبرُ من اللهِ سبحانه مطلقاً، ويكشفُ بالبيانِ عن (¬1) أنَّهُ أرادَ به خبراً على صفةٍ وشرطٍ. وعلى أصلِنا أنَّه في بابِ الوعيدِ يجوزُ عليه سبحانه العفوُ عمَّا توعَّد (¬2) عليه، فهذا نوعٌ من الإخبارِ، يجوزُ أنْ يقعَ على ظاهرٍ ويكونُ مشروطاً، مثل قولِه تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118 - 118] فلمَّا عريَ وبدت له سَوْأتُهُ، علمنا أنَّهُ أرادَ بقوله: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118 - 118]، [أنه] مشروط بقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] فلكَ ذلكَ معَ تركِ قُربانِها، ومثلُ قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، ثم أُدميَ وجهُه من قِبلِ الناس، فتبيَّنّا (¬3) أنه أرادَ بالعصمةِ: منعَ القتلِ أو الغلبةِ منهم الداحضةِ لماَ جئتَ به، القاطعةِ لما شَرعتَ فيه من التوحيد ودحضِ كلمةِ الشركِ، دونَ العصمةِ من الأذيَّهِ رأساً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "البيان غير". (¬2) في الأصل: "تواعد". (¬3) في الأصل: "تبينا".

ولمَّا جاء الوعيدُ، بقوله في آية المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ... وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬1) [النساء: 13 - 14]، أراد به خالدينَ (¬2) مدةَ عذابهم، خالدينَ ما لم يعفُ عن الدوامِ بشفاعةِ الشافعِ لهم. فهذه الأخبارُ من الله، يجوزُ أن تقعَ على هذا الوجهِ. فأمَّا قولُه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]، {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] فهذا في الإثباتِ لا بُدَّ من كونِه. وفي النفي: مثل قولِهِ: {لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174]، فهذا خبر لا يجوزُ رفعُهُ ولا نسخُهُ؛ لأنَّهُ يُفضي إلى وقوعِ الخبرِ بخلافِ مخبَرهِ، وذلكَ غيرُ جائزٍ على الله سبحانه. وممّا يجوزُ عليه سبحانَهُ، ولا يمتنعُ: أن يأمرَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأنْ يقولَ: "صلوا، والصلاةُ واجبةٌ عليكم"، ويقول بعدَ وقتٍ: "الصلاةُ محرمة عليكم" فهذا يجوزُ أن يكونَ بحكمِ الوقتِ الذي أمرَ بها فيهِ، فكأنَّه يقول: "صلوا، فالصلاةُ في هذا الوقت واجبةٌ عليكم"، ويقول في وقتٍ آخر: " [لا] تصلوا (¬3)، فالصلاةُ محظورةٌ عليكم"، ويكونُ وقتاً من أوقاتِ النهيِ التي تقعُ الصلاةُ فيهِ مفسدةً. ¬

_ (¬1) وقع في الأصل خطأ في نص الآية. (¬2) في الأصل: "خالدون". (¬3) في الأصل: "صلوا" بحذف حرف "لا".

وفي الجملةِ، كلُّ خبرٍ عن مستقبَلٍ يجوزُ أن يقعَ فيه نوعُ احتمالٍ، ويقعَ بحسب الاحتمالِ الخلافُ، فأمَّا الخبرُ عن الماضي فلا احتمالَ فيه، لأنَّ المستقبَلَ ممتدٌّ، يجوزُ أن يقتطعَ للخبرِ منه ما يقع المخبَرُ به بنفيٍ وإثباتٍ، حتي إنَّ الخلافَ قد يقع في لفظِ الأبدِ، وأنَّه أبدٌ من الآبادِ. فأمَّا الماضي إذا أخبرَ بأنَّهُ كان فيه كذا، فأخبرَ بأنَّه بعثَ فيه أنبياءَ، وجرى فيه سِيَرٌ (¬1)، فهذا إثباتٌ لا يجوزُ أن يختلَّ، وكذلكَ إذا كانَ إخباراً عن نفيٍ في الماضي، مثل قولِه: ما بعثَ امرأةً نبيةً، ولا أباحَ الظلمَ في شريعةٍ من الشرائع، فهذا لا يمكنُ أن يعتريَهُ نوعُ احتمالٍ يُوجبُ اختلافاً، لأنَّ الماضي جملة تناهت فتناوَلَها الخبرُ بإثباتٍ كانَ فيها لا محالة، أو لم يكمت لا محالةَ. فأمَّا المستقبَل، فإذا قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ} [الفتح: 27] يحسن أن لا يَدخلَ زماناً طويلاً، ثم يدخل (¬2)، فيكونُ الخبرُ صدقاً، وأما الماضي لا يقال: دخلَ، إلا وقد حصل، ولا يقال: [ما] دخلَ، إلا وقد استوعبَ الماضي كلُهُ نَفْيَ الدخولِ. وهذا فصلٌ دقيق يحتاجُ إلى تأمُّلٍ كاف (¬3)، وفيه تقعُ الشكوكُ لغموضِهِ، ولهذا يحسُنُ دخولُ الشروطِ في المستقبَلاتِ، ولا تدخلُ الماضي إثباتاً كان أو نفياً، فلا يمكنُ أن تُقالَ في قولِ القائل: دخَلَ زيدٌ الدارَ، أو ما دخلَ زيدٌ الدار، [لأنه] لا يخلو من دخولِه في الإثباتِ، ولا يوجدُ منه دخولُه في النفي، بل في الخبرِ بإثباتِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "سيره". (¬2) في الأصل: "ويدخل". (¬3) في الأصل: "ينافى".

* فصل ولنا تعبد لا يصح نسخه

دخولِه، لا بدَّ أن يكونَ حصل دخولُه الدارَ في حالةٍ من أحوالِ الماضي لا محالهَ، وفي الخبرِ بنفي دخولِه يجبُ أن يكونَ الزمانُ الماضي خالياً من دخولِهِ الدارَ لا محَالةَ. وفي المستقبلِ يقول: ستدخلُ، فيخلو كثيرٌ (¬1) من الزمانِ من الدخولِ، ويتخصَّص الإثبات بزمانِ الوقوعِ خاصةً، وما يدخُلُ الدارَ ولا يدخل، ويريدُ به زماناً ما، ولو زمانَ خبرِه حالةَ قولِه. فصل ولنا: تعبّدٌ لا يصحُّ نسخُه، ويستحيلُ النهيُ عنه، وهو (¬2) معرفةُ الله سبحانَهُ، فهو (¬3) أصلُ التعبُّداتِ، وأساسُها الذي عليه تنبني؛ لأنَّ العباداتِ إنما هي شُكرُ المنعِمِ، ولا يتحققُ شُكرُ من لا يُعرَفُ، فلا يصحُّ أن يقالَ: قد أسقطتُ عنكم معرفتي، فلا تعرفوني، وإن صحَّ أن يقولَ: أسقطتُ عنكم شكري على إنعامي بسائرِ العباداتِ، وإنَّما كانَ ذلكَ محالاً، لأنَّ النهيَ لا يتحققُ نهياً إلا بِناهٍ، ولا يتحققُ لَنا نهيُهُ إلا بعد تحقُّقِ معرفته؛ لأن إثباتَ النهي فرعٌ على إثباتِ النّاهي، ولا يصحُّ أن نعرفه ناهياً، ثم إننا لا نعرفُهُ أو نُخِلُّ بعرفانِهِ، فهذا مما لا يتحصَّلُ ولا يتوهمُ حصوله، وهو في الإحالةِ والامتناعِ، مثل قول الله سبحانَهُ لشخص: اخْرُج من ملكي أو من نعمتي، فهذا لا يتحقق تحتَهُ من المعنى إلا إعدامُه، فأمَّا ما دامَ موجوداً، فلا يُتصورُ ذلكَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "كثيراً". (¬2) في الأصل: "وهي". (¬3) في الأصل: "فهي".

* فصل ولنا من الأفعال ما يوصف بالإباحة

في حقهِ، إذْ لا مكانَ إلا وهو ملكُهُ، ولا شيء من أجزاءِ الحيِّ وأحوالِهِ وصفاتِهِ إلا وهي نعمتُه. فصلٌ ولنا منَ الأفعالِ ما يوصفُ بالإباحةِ، خلافاً لما حُكِي عن الكعبيِّ في قولِه: هذا حكمٌ لا يتحققُ شرعاً، بل ليسَ لنا إلا وجوبٌ وحظرٌ، فأمّا إباحةٌ فلا (¬1). فصلٌ لنا: إجماعُ الأمةِ قبلَهُ، المستندُ إلى نصوصِ الكتاب والسنةِ، وهو إطلاقُ الله تعالى بعد تقييدِه بالحظرِ، مثلُ قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا} [النساء: 43]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] قال العلماءُ كلهم: هذا إطلاقٌ وإباحة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] إباحةٌ أجمعَ عليها أهلُ العلمِ قبلَهُ. وأيضاً، فإد الأحكامَ بحسبِ المصالحِ، والإطلاقُ من أحدِ ¬

_ (¬1) أنظر مذهب الكعبي في "البرهان" 1/ 294، "المستصفى" 1/ 82، "الإحكام" للآمدي 1/ 124، "المسودة" (65)، "نهاية السول" 1/ 113.

المصالح المسهِّلَةِ، وكما أنَّ الواجبَ يجلب التعبدَ (¬1) [و] التكليفَ ومَكابدة الطَّبع (¬2)، والحظرُ كفّ للطباعِ، فالإباحةُ إطلاق وإراحة للطباعِ، وخروج عن ضنكِ التكليفِ إلى فساحِ التخلصِ والإطلاقِ. فأمَّا شبهتُهُ، فإنَّه قالَ: قد أجمعنا على أن لنا واجباتٍ في الشرع من العباداتِ وغيرِها من الحقوقِ، ومحظوراتٍ يجبُ تجنّبُها، وكلّ ما لا يمكنُ فعلُ الواجبِ إلا به فواجب، وكل ما لا يمكنُ تركُ المنهيِّ إلا بفعله واعتمادهِ فواجب فعلُهُ، وهذه الصنائع والأعمالُ التي يُسمُّونها مباحةً، قاطعة عن المحظوراتِ ومشغلةٌ عنها، فكانتْ واجبةً، كالكفِّ لمّا كانَ منعاً من إيقاعِها كان واجباً، والأعمالُ كلُّها كفّ (¬3) عن المنهياتِ فكانت واجبةً لا مباحةً، كالمُوصلاتِ إلى فعلِ الواجباتِ كلها، كالسبب إلى طلب ماءِ الطهارةِ، والستارةِ وجهةِ القبلةِ لأجلِ الصلاةِ أفعال واجبةٌ، لكن الواجبُ -وهي الصلاةُ- لا تتحقق إلا بتحصيلها، كذلك التروك للمعاصي لما كانت لا تتحقق إلا بكفٍّ (¬4) عن الفعلِ، إما باشتغالٍ بفعلِ غيرِها، أو بتعطيل (¬5) الأعضاءِ عن عملِها، كانَ ذلكَ كلُّه واجباً حيثُ كانَ تركاً لما وجبَ تركُهُ، فلا يبقى لنا شيءٌ مباحٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "التعبد التكليف". (¬2) في الأصل: "ومكابد الطمع". (¬3) في الأصل: "كفاً". (¬4) في الأصل: "لكف". (¬5) في الأصل: "بتعطية".

فيقال: إنَّ هذه الشبهة إنما دخلت على هذا الرجلِ من حيثُ ظنَّ أنَّ كل ما أُحيلَ به فعلُ المعصيةِ، ولم يمكن إيقاعها معه، هو تركٌ. وليس الأمر على ما وقعَ له، وقد وقعَ ما يقاربُ هذا لمن قال: إنَّ الأمرَ بالشيءِ نهيٌ عن ضدهِ، ظناً منه أنَّهُ لم يمكن الفعلُ للشيءِ مع فعل ضدهِ، لأَنَّه (¬1) يكونُ تاركاً لضدهِ، وليسَ الأمرُ كذلك، بل استحالةُ اجتماع الضدينِ، أعني: عن دخولِ الضدِّ الذي إذا وقعَ، امتنعَ الفعلُ المَأمورُ به، أعني: عن أن يصفه بالنهي، بل صار القعودُ عند الأمرِ بالقيامِ ممتنعَ الحصولِ، فلا يحتاجُ أن يكون منهياً، ولا داخلاً تحتَ الخطاب، كذلك ها هنا إذا قال الله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] وَجَبَ تَجنُّبُ الزنى، فإذا دخلَ في عملٍ من الأعمالِ، استحال وقوعُ الزنى حالَ عملِهِ الذي لا يُتصوَّرُ معه حصولُ الزنى، فلم يكُ تاركاً في تلكَ الحالِ، وما هو إلا بمثابةِ شغلِه بالفعلِ المحظورِ، كالقتلِ ظلماً يمتنعُ بذلك وقوعُ الزنى، ولم يُجعل القتلُ الظُّلْمُ واجباً، من حيثُ كان به للزنى تاركاً، وفي هذا تمحيقٌ للأحكام، لأنَّهُ يفضي إلى أنْ لا يكونَ لنا معصيةٌ محضةٌ؛ حيث كان يفعل كُلَّ واحدةٍ من المعاصي تاركاً للأخرى وتركُها (¬2) واجبٌ، فكلُّ فعلِ معصيةٍ ممزوجٌ بين واجبِ -وهو تركُ الأخرى-، ومعصيةٍ -وهو فعلُها-، وذلك لاندراجِ التركِ لمعصيةٍ في فعلِ معصيةٍ أخرى. ويكون أيضاً بهذا المذهبِ لا نوافلَ لنا؛ لأنَّ النوافلَ مشغلةٌ عن ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنَّه". (¬2) في الأصل "وترك".

الرِّبا، واللواطِ، والزنى، والقتلِ، وهو حال اشتغاله (¬1) بها تاركٌ لتلكَ المعاصي، وتلك المعاصي تركُها واجبٌ، فلا نافلةَ لنا إذاً، حيث كان فعلُها تركاً للواجب (¬2) تركُهُ، وفي هذا تعطيلٌ للأحكامِ بعضِها ببعضٍ، وخرقٌ للإجماعِ. ولأنَّ في الأعمال ما يقعُ معيقاً (¬3) ومانعاً من المحظوراتِ بصورتِهِ؛ بذهول (¬4) فاعلِهِ عن قصدٍ ونيةٍ، فلا يكون تاركاً تركاً يكونُ بهِ ممتثلاً، فضلاً [عن] أن يكونَ واجباً، فبطلَ قولُكم: إنه لا فعلَ إلا واجبٌ؛ لكونه لا يتم تركُ المحظورِ إلا به، ومع الذهول وعدمِ القصدِ لا يكونُ طاعةً، فضلاً [عن] أن يكونَ واجباً. وجوابٌ آخر: أنَّ الأعمال الشاغلةَ لأدواتِ المكلفِ وأبعاضِه، يتعطلُ معها فعلٌ آخرُ من عصيانٍ أو طاعةٍ من طريقِ المنافاةِ، وما تعذَّرَ حصولُه بوجودِ منافيهِ لا يُسمى متروكاً، ولا يتحققُ لفاعلِه التركُ، ومن ها هنا ظنَّ قومٌ: أنَّ الأمرَ بالشيءِ نهيٌ (¬5) عن ضدِّه، وليس كما ظنوا؛ فإنَّ الإنسانَ إذا قال لعبده: اخْرُجْ من الدارِ، لا يَحسُنُ أنْ يقول له بعدَ هذا: ولا تكنْ فيها إذا خَرَجْتَ، ولا يحسُتُ أنْ يقول له: اجْلِسْ، ولا تكن قائماً إذا جلستَ، وما لم يَحسنِ التصريح به، بل يقبحُ، يُعلمُ به بطلانُ المدعى لكونه [ثابتاً] ضمناً، وإنما قَبُحَ ذلك، لأنَّ الأمرَ بالخروجِ أمرٌ صحيحٌ داخلٌ تحت قدرِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اشتغالها". (¬2) في الأصل: "ترك الواجب". (¬3) في الأصل: "مغنياً". (¬4) في الأصل: "ذهول". (¬5) في الأصل: "نهياً".

المأمورِ، فأمَّا [عدمُ] الكونِ في الدارِ بعدَ الخروجِ، فحاصلٌ بضرورةِ منافاةِ الحصولِ فيها (¬1) مع الخروجِ، فلا يكونُ نهياً لحصوله ضرورةً، وإنما النَّهي هو استدعاءُ ما يدخلُ تحتَ القدرةِ، وذلكَ قد حصلَ في الأمرِ بالخروجِ، وصارَ عدمُ كونِه في الدارِ مضطراً إليه، وحاصلاً بالمنافاةِ لا بفعلِهِ؛ ولذلك لا يوصف بالقدرةِ على المخالفةِ مع الطاعةِ، بل لا يوصفُ إلا بالقدرةِ على الخروجِ، فقط، فأمَّا الكون في الدارِ بعدَ الخروجِ، فيندرجُ انتفاؤُهُ في الخروجِ اندراجاً ضروريّاً (¬2)؛ لمكانِ التضادِ، والامتناعِ في نفسِهِ. كذلكِ ها هنا إذا فعلَ مباحاً أو نافلةً، امتنع وقوعُ المعصيةِ؛ لمكان أنَّ المحلَّ لا يحتمل فعلين، ولا نقولُ: إنهُ تارك، فلا يوصفُ بكونِهِ تاركاً، فضلاً عن أنْ يُقالَ: إنه ترك واجب؛ لأن الوجوبَ فرعٌ على كونه تركاً، ونحن لا نحققٌ له التركَ، بل هو فاعل لذلك الفعلِ المباحِ أو النفلِ، وانتفاء المعصيةِ فبمضادةِ (¬3) الفعل لها في المحلِّ، وذاك لا يُسمَّى تركاً، وإنما هو تمانع وتنافٍ، يعودُ إلى امتناع الشيءِ في نفسِهِ، أو عدمِ القدرةِ على فعلِه، وماَ تعوَّقَ حصولُهُ لعدمِ القدرةِ عليه، لا يُخلَعُ على مَن لم يَفعَلْهُ اسمَ تاركٍ. فمن ها هنا دُهي الكعبيُّ، وأنه لم يَفْصلْ بين التركِ، وتعذُّرِ الفعلِ من طريقِ التنافي، واللهُ أعلمُ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "منها". (¬2) في الأصل: "اندراج ضروري". (¬3) في الأصل: "فمضادة".

* فصل لا يشترط للنسخ أن يتقدمه إشعار المكلف بوقوعه

فصلٌ لا يشترطُ للنسخِ أنْ يتقدَّمَهُ إشعارُ المكلفِ بوقوعِه. وقالت المعتزلةُ: لا يجوزُ النسخُ إلاَّ أنْ يقترنَ بالمنسوخِ دلالةٌ أو قرينةٌ تُشعِرُ المكلفَ بالنسخِ في الجملة (¬1). فصلٌ في دلائِلنا على أنه لا يشترط ذلك من ذلك: أنَّ النسخَ تجديدُ حكمِ، فلا يلزمُ الإشعارُ بهِ، إذْ جازَ (¬2) إبهامُ العاقبةِ فيه، كسائرِ الأحكامِ المَبتدأةِ. ومن ذلك: أنه لو وجبَ الإشعارُ بالنسخِ، لوجبَ الإشعارُ بما يتجددُ من زياداتِ العباداتِ، وما الفرقُ بينَ الزيادةِ والنقصانِ، والإثباتِ والنفيِ؟! ومن ذلك: أنَّ في الإشعارِ تفويتَ تَعَبُّدٍ يوجبُ ثواباً جزيلاً وتكليفاً (¬3) ثقيلاً، وهو أنَّ المكلفَ يُوطِّنُ نفسَهُ على استدامةِ العبادةِ فإِضمارُه (¬4) ذلكَ، وعزمُه على استدامتِهِ من غيرِ إشعارٍ، أشدُّ في التعبدِ، وأثقلُ من أن يعلمَ أنَّ لذلك التكليفِ غايةً يُرفعُ فيها إيجابُه ¬

_ (¬1) انظر رأي المعتزلة في "المعتمد" 2/ 414، و"المحصول" 3/ 491، و "الإحكام" للآمدي 3/ 134، و "شرح العمد" 2/ 192. (¬2) في الأصل: "أو لجاز". (¬3) في الأصل: "وتكلفاً". (¬4) في الأصل: "ففي إضماره".

عَنْهُ، ويُرَفَّه، ويُخفَّفُ عنه. فإنْ قيلَ: ففي الإشعارِ عزمٌ على اعتناقِ الأمرِ المتجددِ، والنسخِ الرافعِ، ونفيُ الجهلِ، فيقابلُ تلكَ الفائدةَ فائدتانِ. قيل: العاقلُ ينوي ويعزمُ على الدوامِ ما لم يَرِدْ نسخٌ، ويُضْمِرُ الانتقالَ إلى الناسخِ إن تجدَّدَ نسخٌ، فيحظى بالفائدتين جميعاً. ومن ذلك: أنَّهُ لو وجبَ الإشعارُ بالنسخِ، لوجبَ الإشعارُ بما يتجددُ من الأمراضِ التي تُسقطُ بعضَ العباداتِ، أو تسقطُ كيفياتها، أو تُؤخِّرها عن أوقاتها، والجامعُ بي الأعذارِ والنسوخِ: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مسقطٌ ومخففٌ. [فصل] شبهةُ المخالفِ [قالوا:] إنَّهُ إذا كانَ في علِمِ الله سبحانه أنَّه ينسخُ تلك العبادةَ، ولم يشعر المكلفَ، اعتقد الدوامَ والتأبيدَ، وفي ذلك اعتقادُ الجهلِ، والتعريضُ للجهلِ قبيحٌ؛ لأن الجهلَ قبيحٌ. فيُقال: إنْ جهل فإنما أُتِيَ من قِبل نفسِه؛ لأنَّهُ يجبُ أنْ يعلَم أنَّ لله أنْ يُؤبِّدَ، وله أن ينسخَ، وأنَّ هذه العبادةَ مؤبدةٌ ما لم يَرِدْ نسخٌ، فلا يفضي إلى اعتقادِ الجهلِ، ولأنَّه قد يُعفى عن اعتقادِ الجهلِ في جنبِ ما يحصلُ من التعبُّد، كما أنَّ الله سبحانَهُ قد يقطعُ على المكلف بالأعذارِ، والانقضاءِ للأعمارِ (¬1) ما اعتقدَ أنَّهُ يدومُ ويتمُّ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأعمار".

* فصل يجوز أن يرفع الله سبحانه التكليف رأسا لا بطريق النسخ

وكم أماتَ في أثناءِ صلاةٍ لم يُسلَّم منها، وحَجَّةٍ لم يُتَحلَّلْ منها، ولم يكن ذلك مانعاً من التكليفِ من غيرِ تقدمةِ إشعارٍ به، كذلك ها هنا. فصلٌ ويجوزُ أَنْ يرفعَ اللهُ سبحانه التكليفَ رأساً لا بطريقِ النسخِ، مثل إعدامِ العقلِ في حق المجنونِ، فيَسقُطُ الخِطابُ رأساً، هذا مما لا خلافَ فيه. وأما رفعُ ذلكَ بالنسخِ، فلا يصحُّ، بل يستحيلُ عندَ الجماعةِ، لأن المعرفةَ بالله لا يمكنُ (¬1) نسخُها نهياً عنها، لأن النسخ مبنيٌّ على إثباتِ ناهٍ تجبُ طاعتُهُ، بالامتناعِ مما نَهى عنْهُ، فإذا قالَ للمكلفِ: لا تعرفني، فقد نهيتُك عن معرفَتِي، فإثباتُه ناهياً يُحيل في حق المنهيِّ عنْ أنْ يَخْرُجَ عن كونِه به عارفاً، فهذا بالنسخ لا يمكنُ (1) ولا يدخلُ تحتَ القدرةِ شاهداً وغائباً. وأمَّا نسخُ جميعِ العباداتِ ما عدا المعرفة على أصلِ أصحابنا وجماعةِ أصحاب الحديثِ، [فجائزٌ] خلافاً للقدرية في قولِهم: العباداتُ مصالحُ، ولا يجوزُ أن تُرفعَ المصالحُ مع وجوبِها عندَهم. وهذا يُبنى على أصْلين: إمَّا أنْ يكونَ البارىءُ فاعلاً ما شاءَ على الإطلاقِ، فلا ينبغي وجوبُ تكليفٍ، كما لا يجب عليه إرسال الرسل رأساً عند أصحابنا، وإن فعلَ ذلكَ فعلَه تفضلاً. وإنْ قلنا بالمصالحِ، فلا يمتنعُ أنْ يكونَ الأصلحُ: أنْ لا يكلفهم؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يكن".

* فصل في شبههم

لعلمِه أنَّ التكليفَ يفسدُهم، كما فعلَ ذلكَ في الآحادِ، ممنْ (¬1) أَعْدمَه العقلَ، وسلَبَهُ الرأيَ، أو كما نَسَخَهُ من العباداتِ والعقوباتِ بحسَبِ الأصلحِ، وكما أماتَ بعضَ الآدميين قبلَ بلوغِه، فأعدمهم التكليفَ، وهم أُممٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى. فصلٌ شبَهُهُمْ قالوا: إنَّ في الأمورِ الداخلةِ تحتَ التكاليفِ ما هو قبيحٌ لنفسهِ، فلا يحسُنُ إلا النهيُ عنه، ولا يختلفُ باختلافِ الأزمنةِ، ولا يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ، مثلُ الكذبِ، وكفرانِ نِعْمة المنعمِ، وعقوقِ الوالدينِ، والجهلِ بالله سبحانه، وإضافةِ ما لا يجوزُ عليه إليه، والظلم والبغي، وهو الإضرارُ المحضُ الذي لا يتعقَّبُهُ ولا يضامُّه نفعٌ يوفي عليه. وفي التكليف ما هو حسنٌ في نفسهِ لأمرٍ يرجعُ إليه لا إلى غيرِهِ، كالإحسانِ، والعفوِ، وبرِّ الوالدينِ، ومعرفةِ الله -وهيَ الأصل-، وشكرِه على ما أنعمَ به، فهذا حَسَن لا يَحْسُنُ النهيُ عنه، بل يحسنُ الأمرُ بهِ، والحثُّ عليهِ. فيُقالُ: أمَّا المعرفةُ من جميعِ ما ذكرتَ، فمحال نسخُها بالنهيِ عنها، لما بينا من أنَّه مستحيل، لأنه بالنهي للمكلف يقتضي إثباتَه وعرفانَه، ليُطاعَ فيما نَهى عَنْهُ، إذْ لا طاعةَ ولا قربةَ لمن لا يُعرَفُ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فمن".

* فصل في نسخ القرآن بالسنة

فأمَّا دعواهم أنَّ الكذبَ، وكفرانَ النعمةِ، وعقوقَ الوالدينِ، والظلمَ، قبيحٌ لا لنهي ناهٍ عنه، [بل] لأنَّ العقل يُحَسِّنُه ويقبِّحُه، فهذا أصلٌ كبيرٌ، أنتم مخالَفون فيه، فإنَّ (¬1) القبيحَ عندنا ما نهى اللهُ عنه، والحسنَ ما حسَّنَهُ الشرعُ؛ ولهذا أجازَ الكذبَ لنوعِ إصلاحٍ بين الناسِ، وأباحَ قتلَ الآباءِ؛ لأجلِ الكفرِ والمشاقَّةِ، وحقوقُ الأبوةِ موجودةٌ، وأباحَ الغنائمَ، وأخْذَ الأموالِ والأولادِ وقَتْلَ الرجالِ، وأنَّه لا حجرَ على فعلِ الربِّ سبحانه. وهذا أصلٌ لا تليقُ الإطالةُ فيه ها هنا، وجملتُه أنَّ أفعالَ اللهِ لا تقاسُ على أفعالنا في الشَّاهدِ، بدليلِ أنَهُ كلَّفَ مَنْ [في] المعلوم أنَّه يُخالفُ، فيستوجبُ الخلودَ في النارِ، وخلقَ مَن أي، المعلومِ أنّهُ لا يتصرفُ إلا في المضارِّ والأضرارِ، ومكَّنَ المتسلطينَ، وجَعَلَ إبليسَ من المُنْظَرين، مع ما عُلِمَ أنَّهُ الغاوي للمكلفينَ، إلى أمثالِ ذلكَ مما لا يَحسُنُ من آحادِنا، فانقطع الشاهدُ عنِ الغائبِ، والغائِبُ عن الشاهد. فصلٌ في نسخِ القرآنِ بالسنةِ عنْ أحمدَ روايتانِ (¬2): إحداهُما: لا يجوزُ نسخُهُ إلا بقرآنٍ، وبها ¬

_ (¬1) في الأصل: "وإن". (¬2) انظر "العدة" لأبي يعلى 3/ 788، و"التمهيد" 2/ 382، و"المسودة"

قالَ الشافعيُّ، وأكثرُ أصحابِه (¬1). وقال أصحابُ أبي حنيفة: يجوزُ بالسنةِ المتواترةِ (¬2). وعن مالكٍ، وابنِ سُريجٍ من أصحاب الشافعيِّ مثلُهُ (¬3). وأنَّه يجوزُ بالمتواتر منها، وهو مذهبُ المعتزلةِ والأشعريةِ (¬4). واختلفَ أهلُ الظاهرِ في ذلك (¬5)، فذهبَ بعضُهم إلى أنه يجوزُ نسخُ القرآنِ بالمتواترِ والآحادِ، وعن أحمدَ مثلُهُ لأنَّه استدلَّ في النسخِ بالآحادِ بقصةِ أهلِ قباءٍ، فصارَ قائلاً بالنسخِ بالتواترِ من طريق التَّنبيه رواها عنه الفضلُ بنُ زيادٍ، وهي تشبه مذهبه في إثبات الصفاتِ بأخبارِ الآحادِ، وإثباتُ الصفاتِ لله سبحانه أكثر من النسخ. واختلفَ القائلونَ بذلكَ والمانعونَ منه، هل وُجدَ ذلك؟ فقال قومٌ: لم يوجَدْ ذلكَ، وإليه ذهبَ شيخُنا الإمامُ أبو يَعلى (¬6) وابنُ ¬

_ (¬1) انظر "المحصول" 3/ 347، و"الإحكام" للآمدي 3/ 153، و"شرح الإسنوي" 2/ 183، و"الإبهاج" 2/ 270. (¬2) انظر "أصول السرخسي" 2/ 267، و"كشف الأسرار" 3/ 177. (¬3) بل المنقول عن مالك وابن سريج، أن نسخَ القرآن بالسنة جائز عقلاً غير واقع سمعاً، أي أنه لم يقع في الشرع ما يدل عليه، رغم إمكان وقوعه عقلاً "الإحكام" للآمدي 3/ 153. (¬4) "البرهان" 2/ 1308، "المستصفى" 1/ 134، ابن الحاجب و"شرحه" 2/ 198. (¬5) لم ينوه ابن حزم بأن ثمة خلاف بين أهل الظاهر في هذه المسألة، بل قرر أن السنة تنسخ القرآن مطلقاً. انظر "الإحكام" لابن حزم 4/ 477. (¬6) صرَّحَ به في "العدة" 3/ 788.

* فصل في أدلة من قال لا يجوز نسخه إلا بقرآن

سُريج من أصحابِ الشافعي، وقومٌ من المتكلمين (¬1). فصلٌ في أدلةِ المذهب الأول فمن ذلك: قولُه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فأخبرَ سبحانَه أنّه لا ينسخُ آية إلا ويأتي بخيرٍ منها أو مثلِها، وليستِ السنةُ مثلَ القرآنِ ولا خيراً منه، فبطل أن يجوزَ النسخُ بها، لأنَه يؤدي إلى محالٍ وهو كونُ خبرِهِ سبحانه بخلافِ مخبَرِهِ، وذلكَ محالٌ على الله سبحانه، فما أدى إليه محالٌ. فإن قيلَ: أصلُ استدلالِكُم مبنيٌّ على أنَّ المرادَ بالخيرِ: الفضلُ، وليسَ المرادُ به ذلكَ، إنّما المرادُ به: نأتِ بخيرٍ منها لكم، وذلكَ يرجعُ إلى أحدِ أمرينِ في حقِّنا: إمّا السهولةُ في التكليفِ، فهو خيرٌ عاجلٌ. أو أكثرُ ثواباً لكونه أثقلَ وأشقَّ، ويكونُ نفعاً في الآجل والعاقبة. وكلاهُما قد يتحققُ بطريقِ السُّنةِ، وكمْ من سنةٍ تأتي بالأسهلِ، وبالأوفرِ ثواباً. ويحتملُ: نأتِ بخيرٍ منها لا ناسخاً لها، بلِ يكونُ تكليفاً مبتدأ هو خيرٌ لكم، وإنْ لم يكنْ طريقُهُ القرآنَ الناسخ ولا السنةَ الناسخةَ، ¬

_ (¬1) "المعتمد" 1/ 429، "التبصرة" (264)، "الإحكام" للآمدي 3/ 154، "نهاية الوصول" 1/ 367، "شرح اللمع" 2/ 225.

* فصل في الأجوبة عن هذه الأسئلة

لكن يكونُ تكليفاً هو خيرٌ لنا لا ينافي المنسوخَ، بل كانَ يصحُّ أنْ يجتمعَ معه. قالوا: هذه التأويلاتُ أنَّ القرآنَ نفسَه ليسَ بعضُه خيراً من بعض، فلا بُدَّ أنْ تصرفوا (¬1) اللفظَ عن ظاهره إلى ما ذكرْنا منْ خيرٍ يعودُ إلى التكليفِ في نفسِهِ، لا إلى أنْ يؤتى بالحكمِ مضمَّناً له. وقالوا: النسخُ عائد إلى الحكمِ لا إلى التلاوةِ، فإذا قال: نَنسَخ نأتِ بخيرٍ، رجعَ إلى حكم الآيةِ لا إلى لفظِ الآيةِ، وقد يكونُ حكمُ السنةِ خيراً لنا من حكمِ الآيةِ. فصلٌ في الأجوبةِ عن هذهِ الأسئلةِ أمَّا قولُهم: الخيرُ يرجعُ إلى ما يخصُّنا من سهولةٍ أو ثوابٍ، لا يصحُ؛ لأنَّه لو أرادَ ذلكَ لقالَ: "لكم" فلما حذفَ ذلكَ دلَّ على ما يقتضيه الإطلاقُ، وهو كونُ النسخِ خيراً من جهةِ نفسه وذاتِهِ: ومن جهةِ الانتفاعِ به في العاجلِ والآجل. على أنَّ ظاهرهُ يقتضي: "نأتِ بآيةٍ خيرٍ منها"، فإنَّ ذلكَ يعودُ إلى الجنس، كما إذا قالَ القائلُ: ما آخذُ منك ديناراً إلا أُعطيك خيراً منه، لا يعقلُ بالإطلاق إلا دينارٌ خيرٌ (¬2) منه، فينحرسُ الجنس أولاً ثم النفع، فأمّا أنْ يرجعَ ذلكَ إلى ثوبٍ، أو عَرَضٍ غيرِ الدينارِ، فلا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تصرفون". (¬2) في الأصل: "ديناراً خيراً".

وفي آخرِ الآيةِ ما يشهدُ بأنَّهُ أرادَ به القرآن؛ لأنَّه قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]، ووصفه لنفسه بالقدرةِ يدلُّ على أن الذي يأتي به هو أمر يرجعُ إليه دونَ غيرِهِ، وكذلكَ قولُهُ: {أَوْ مِثْلِهَا} يشهدُ لما ذكرنا، لأن المماثلةَ يقتضي إطلاقُها من كلٍّ، سيَّما وقد أنَّثها تأنيث الآية، فكأنَّه قالَ: نأتِ بآية خير منها أو آيةٍ مثلها، وأمَّا حملُهم على ثوابِها فإن الثوابَ أيضاً لاَّ يَوازي ثوابَ الآيةِ؛ لأنَّ ثوابَ الآيةِ يحصلُ بتلاوتِها، وليسَ في حِفْظِ السُّنَنِ ولا تلاوتِها ما في حفظِ القرآنِ وتلاوتِه، وتظهرُ الحرمةُ من اعتبارِ الغسلِ من الجنابةِ والحيضِ والمسِّ لما فيهِ مسطورُ الآيات يعتبرُ لذلكَ الطهارةُ من سائرِ الأحداثِ، ولا يعتبرُ للسنن طهارةٌ تلاوةً لها، ولا مسّاً لمكتوبها، ولا إعجازَ في السُّنةِ، وفي القرآنِ إعجازٌ نافعٌ من حيثُ إنّه دلالةٌ على صدقِ مَنْ نَزلَ عليه، والدلالةُ توجب هدايةَ المكلفِ إلى ما يوجب له ثوابَ اللهِ سبحانه، ولا مساواةَ بينَ السنةِ والقرآنِ في ثوابٍ ولا غيرِهِ. وأما قولُهم: نأتِ بخيرٍ منه، لا ناسخاً بل مبتدأ، لا يصحُّ؛ لأنَّه خرجَ مخرجَ الجزاءِ مجزوماً، وهذا يعطي البدليّةَ والمقابلة، مثلُ قولهم: إن تكرمْني أكرمكَ، وإن أطعتني أُطعكَ، يقتضي أنْ يكون الجزاءُ مقابلةً وبدلاً لا فعلاً مبتدأ. وأمَّا قولهم: إن القرآن في نفسهِ لا يتخايرُ ويتفاضلُ فعلمَ أنّه لم يردْ به الخيرَ الذي هو فضيلتُه، فليسَ كذلك، فإنَّ توحيدَ الله في سورة الإخلاصِ وما تَضَمَّنَتْهُ (¬1) من نفيِ التجزؤ والانقسامِ، أفضلُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تضمنها".

من {تَبَّتْ} المضمَّنةِ ذمَّ أبي لهبٍ وذم زوجتِهِ، إنْ شئتَ في كونِ المدحِ أفضلَ من القدح، وإنْ شئت في الإعجازِ، فإنَّ تلاوةَ غيرِها من الآياتِ التي تظهرُ منها الفصاحةُ والبيانُ أفضلُ، وليسَ من حيثُ كانَ المتكلمُ واحداً لا يكونُ التفاضلُ لمعنىً يعودُ إلى الكلامِ ثابتاً، كما أنَّ المُرْسِلَ واحدٌ لذي النونِ وإبراهيم، وإبراهيمُ أفضلُ من ذي النونِ. وأمّا قولُهم: إن النَّسخَ عائدٌ إلى الحكمِ دونَ التلاوةِ، فلا فرقَ عندَهم؛ لأن تواترَ السُّنةِ لو جاءَ بنسخِ رسم آيةٍ وإخراجها من المصحفِ ومنْ أحكامِ القرآنِ والخصيصةِ التي له، من منعِ الجنب والحائضِ من تلاوتِهِ وكلِّ محدِثٍ من مسِّهِ، لنسخوا بها التلاوَةَ. ومن ذلك: قولُه تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] جوابُ قولِهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] وهذه الآيةُ لا تتحققُ حجةً لمن نصرَ هذا المذهبَ؛ لأنَّ السنّةَ ليستْ من تلقاءِ نفسه، بل هيَ مما يُوحى إليه - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ استدلَّ بهذهِ الآيةِ في هذا المذهبِ كمنِ احتجَّ بقولِه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، في معنى جوازِ الاجتهادِ عليه. فيقالُ هناكَ: إنَّ الاجتهادَ ليس بهوىً، إنما هو استدلالٌ صَدَرَ عن نَظَرٍ وبَحْثٍ وفكرٍ، وكذلكَ السنةُ هاهنا الناسخةُ للقرآنِ ما صدرت [إلا] عن وحي، لا من تلقاءِ نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومن ذلك: ما رَوى الدارقطنيُّ بإسناده في "سننِهِ"، عن جابرِ بن عبد اللهِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "كلامي لا ينسخُ كلامَ الله، وكلامُ

الله ينسخُ بعضُهُ بَعْضاً" (¬1)، وهذا نصٌّ. فإن قيل: لفظُهُ نصٌّ، لكن طريقه ظنٌّ لا يصلحُ لإثباتِ هذا الأصلِ. فيقالُ: إلا أنه ليسَ من الأصلِ الذي يُطلب له القَطعُ، لأنّهُ يثبتُ بضربٍ من الاستنباط والاستدلالاتِ القياسية، إذ لا مجال لأدلة العقل أكثرها، إلا ما انبنى (¬2) ... ومن ذلك: أنّه قد يأمر سبحانه بالعبادةِ (¬3)، ثم يحيل بالموتِ أو الجنونِ أو المرض بينه وبين إتمامها، وإن منعوا أبعدوا وخالفوا ما قد وجدنا أمثاله من مأمورين بصيامٍ أو حج أوصلاةٍ ثم يطرأُ على المتلبِّس بها ما قطعَ ومنعَ من إتمامِها، فكذلك المنعُ من طريقِ النسخِ، ولا فرقَ. ومن ذلك: أنَّهم قد قالوا: إنه سبحانه يجوزُ أن يأمر بالطاعةِ ويشرطَ عليها ثواباً ونعيماً دائماً، ويكونُ ذلك الوعدُ منه سبحانه مشروطاً بأن لا يقع من المكلف ما يحبطُ به ثوابَ تلكَ الطاعةِ، ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني 4/ 145، وابن عدي في "الكامل" 2/ 180 عند ترجمة جبرون بن واقد الإفريقي، ومدار الحديث على جبرون بن واقد، ومحمد بن داود القنطري وهما ضعيفان جداً، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1437) في ترجمة جبرون: "متهم، فإنه روى بقلّهّ حياءٍ عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً "كلام الله ينسخ كلامي ... " وهذا الحديث موضوع. (¬2) الجملة غير تامة، والأغلبُ أنَّ فيها سقطاً حالَ دون تمام العبارة، وبيان المقصود منها. (¬3) محلها طمس فى الأصل.

والإحباط منه سبحانه، فإنه يمكن أنْ يتركَه على الوعد بثواب الطاعة، ويعاقبه على المعصيةِ بحسبها، كما قال أهل السنة، وكلُّ من لم يوجب التخليدَ بالكبائر مع الموافاة بالإيمان، فلم لا يجوزُ أن يأمرَهُ بالطاعة وإيقاعها في وقتٍ معين، بشرط أن لا يَرِدَ منه سبحانه ما ينسخها ويمنعُ من إيقاعها؟. فإن قيل: لما أمره بالطاعة، نهاه عن فعل المعصية المحبطة، فإذا فعل المعصية صار غير فاعل للطاعة على الوجه المأمور به، بخلاف مسألتنا، فإنه أمر بها أمرأً مطلقاً غير مشروطٍ إلا بالوقتِ، فإذا نسخها قبل الوقت صار هو المعدِم للشرط سبحانه. قيل: في قوةِ الدليل ما هو جوابٌ عن هذا؛ لأنه ليس الإحباط ضربةَ لازمٍ (¬1)، فيجوزُ أن لا يحبطَ، وما فعل سبحانه ذلك بل أحبط، والإحباطُ إليه، كما أن النسخ إليه، فلم قلتم في الإحباطِ: مصلحةٌ من جهة أنه يكون رادعاً عن تعقيب الطاعة بالمعصية؟ قيل: في العقوبة عليها من غير إحباطٍ كفايةٌ، كما أن في المؤاخذة على الصغائرِ كفايةً عن الإحباطِ، ولأنَّ النسخَ هاهنا قبل وقت الفعل يكون مصلحةً من الوجه الذي قدمناه. فإذا ثبت هذا، فقد قدَّروا في قوله: افعلْ كذا فإنّي أُثيبكَ: ما لم تفعلْ ما يحبط ثواب طاعتك، فكذلك نقدر نحن: افعل كذا في وقت كذا، ما لم أنسخ الفعلَ وأرفعْه قبل الوقت. ¬

_ (¬1) تقول العرب: ليس هذا بضربةِ لازِمٍ، ولازِبٍ، أي: ما هذا بلازمٍ واجبٍ. "اللسان": (لزب) و (لزم).

* فصل يجمع شبههم

فصلٌ يجمعُ شُبَهَهُم فمن ذلك قولهم: إنَّ الأمر من الله سبحانه يدلُّ على أنَّه صلاح للمكلَّفِ، وما كانَ صلاحاً لا يجوزُ على الحكيمِ أن ينهاه عنه؛ لأن النهيَ عن الصلاحِ أمرٌ بالفساد. فيقالُ: هذا يلزمُ منه المنعُ من أجل النسخ، فإنه نسخٌ لأمرٍ بما كانَ في الأصل صلاحاً، وجازَ ذلكَ عليه سبحانه، كذلكَ النسخ له قبل وقت فعله. على أنه إنما يكون صلاحاً ما دامَ الأمرُ به، فأمّا إذا زالَ الأمرُ علمنا أنّه لا صلاحَ فيه، كما إذا جاء النسخُ بعدَ الأمر المطلق على سائر الأزمانِ، فقطعَ الأفعالَ بالنهيِ عنْ مستقبلِ الأوقاتِ، بانَ أنّه ليسَ بصلاحٍ في تلكَ الأوقات. وربما صوَّروه بعبارةٍ أخرى، فقالوا: الأمرُ بالفعلِ يدلُّ على حسنه، والنهي عن الحَسَنِ قبيح، ولا يجوز على الحكيم تشريعُ القبيح. فيقال في الجواب عنه نحوُ الأول، وأنّه يبطلُ بأصلِ النسخ، وأنّه إنما يكونُ حسناً ما دام الأمر باقياً. ومن ذلك أنْ قالوا: لو نهى عن الشيءِ قبل وقت فعله كان بداءً، لأنَّ معناهُ: افعلْ كذا في وقتِ كذا، لا تفعلْ كذا في وقت كذا. ولو قالَ ذلكَ، كانَ عين البداءِ، كذلكَ إذا أتى بما في معناه. فيقال: إن البداءَ هو ظهورُ الأمرِ بعدَ خفائه، وانكشافُه بعد تَغَطِّيه، من قولهم: بدا لي سورُ المدينةِ، ونورُ الشفق أو فلق الصبح بعد

الخفاء، والله سبحانه عالم بكل كائنٍ قبل كونه [فلا يخفى عليه شيء] فَيَبْدُوَ له، فإذا نهى بعد أن أمر علمنا أنه إنما أَمَرَ على علمٍ بحالِ المكلفِ، وأنَ الصلاحَ له في أمره، وإذا نهاه قبل وقت الفعل، علمنا أنَّ الصلاحَ له في نهيه، أو أنه أرادَ منه ما قابل به أمرَه وتلقاه به من مقدماتِ الفعل، وهو الاعتقادُ والعزمُ والالتزامُ، وتوطينُ النفس على ذلك، ويكفي ذلك تعبداً، كما أنه إذا أطلق الأمر اقتضى بظاهره التأبيد، ثم إذا نسخ بان لنا أنه أرادَ الفعل وإيقاعه في تلك الأوقاتِ خاصة دونَ الأوقاتِ المستقبلةِ التي رفع الفعلَ منها بالنسخِ، ولم يكُ ذلك بداءً. وفارق هذا إيرادَ لفظِ الأمر والنهي في حالةٍ واحدة؛ لأن ذلك لا يُعقِب فائدةً أصلاً، فإنه لا يتحصل تلقي ذلك إلا بسماعه فقط، وليس كذلك النهي عن الأمر، لأنه يفيدُ تحصيلَ ثواب تلقي الأمر بالاعتقادِ والعزم وتوطينِ النفسِ على الطاعة. ومن ذلك قولهم: إذا أمر بالفعل في وقت معين ثم نهى عنه، بان أنه لم يرد إيقاعه، فيفضي إلى أن يكون قوله: "افعلْ" ومراده "لاتفعلْ"، وهذا لا يجوزُ، لأنه يفضي إلى أن يريدَ باللفظ ضدَّ مقتضاهُ، فلا يبقى لنا ثقة بقولٍ؛ لأنَّا لا نأمنُ أن يكون المراد بذلك القول ضدَّه، خبراً كان أو أمراً أو وعيداً أو وعداً، بأنْ نقول: "اقتلوا"، والمراد به: "لا تقتلوا"، و"إن فعلتم أُثيبكم"، والمراد به: "لا أُثيبكم". فيقال: لا يفضي إلى ذلك، بل يكون معناه: افعل في وقت كذا، إلا أن أنهاك عن إيقاعه. كما إذا أطلق الأمر اقتضى إيقاعَه على الأزمانِ كلها، ولا يكون النسخُ مبيِّناً

* فصل في الزيادة في النص هل يكون نسخا

غير أنه أمرٌ بغيرِ مقتضى اللفظ، لكن (¬1) كأن تقديره: إلى أن أنهاك، وكذلك إذا أعاقه عنه بموت أو مرض، وهذا يحسن أن يصرحَ به، بخلاف قوله: "اقتل" ومُرادُه: "لا تقتل"، لكن وِزانُه: اقتل وقت كذا إلا أن أنهاك عن القتل. فصل في الزيادة في النص هل تكون نسخاً؟ لا تختلفُ المذاهبُ في الزيادة إذا كانت عبادةً منفردةً عن الأولى قائمة بنفسها، مثل صلاةٍ إلى صلاةٍ، وصوم إلى صلاة، وحج إلى زكاة، أنَّها لا تكون نسخاً، والمختلفُ فيه من ذلك زيادة ركعاتٍ إلى ركعات صلاة واحدةٍ، وزيادةُ جَلَداتٍ إلى جلداتِ حدٍّ واحدٍ، كجعلِ الظهرِ أربعاً بعد أن فرضت ركعتين، وحد القذفِ مئةً، بعد أن كان ثمانين، وزيادة صفةٍ في رقبةِ الكفارة باعتبار إيمانها بعدَ إطلاقها من غير اشتراطِ إيمان. اختلف العلماء: فقال أصحابنا (¬2) وأصحاب الشافعي (¬3): لا يكونُ الثاني أيضاً نسخاً. وقال أصحاب أبي حنيفة (¬4): يكونُ نسخاً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لكان". (¬2) انظر "العدة" 3/ 814، و"المسودة" 207، و"روضة الناظر مع نزهة الخاطر" 1/ 208 وما بعدها، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 270. (¬3) انظر "الإحكام" للآمدي 3/ 155، "المستصفى" 1/ 117، "شرح جمع الجوامع" 2/ 91، و"التبصرة" (276). (¬4) انظر "تيسير التحرير" 3/ 218، "فواتح الرحموت" 2/ 91.

* فصل في دلائلنا

ويفيدُ الخلاف أنهم لم يجوزوا إثبات النية في الطهارة، والإيمانِ في الكفارة، والتغريب فى حدِّ البكرِ بقياسٍ ولا خبرِ واحدٍ، وحيث جعلوا الزيادة فيه رافعةً لحكم النص لم يثبتوها بدلالةٍ مظنونةٍ، وذهبَ إليه قومٌ من المتكلمين. وقالَ بعضُ المتكلمين (¬1): إن كانت الزيادة شرطاً في المزيد حتى لا يجزىء ما كان مجزئاً إلا بما (¬2) ذكرنا، فهي نسخ، وإن لم تكن شرطاً في المزيد لم تكن نسخاً. وبَيَّنَ الفرقَ بينهم وبين أصحاب أبي حنيفة في التغريب مع الجلد، فإنه زيادةٌ لا شرطٌ في الجلد. فصل في دلائلنا فمنها: أن النسخ في لغة العرب هو الرفع والإزالة، ومنه قولهم: نسخت الشمسُ الظلَّ، ونسخت الرياحُ، ونسخ السيلُ الآثارَ، بمعنى رَفَعَتْها وأزَالَتْها، وإذا جئنا إلى مسألتنا وَجَدْنا أن الرقبة المقصودة (¬3): العبد والأمة، سواءٌ كانت صحيحة أو سقيمة، مَعيبةً (¬4) أو سليمة، كافرةً أو مسلمةً، فإذْا زِيدَ على الإطلاق باشتراطِ كونها مسلمة، أو زِيد على الركعتين المفروضتين ركعتين، فقد ضمَّ إلى الأول ثانياً، والأول ¬

_ (¬1) انظر "الإحكام" للآمدي 3/ 155، "المستصفى" 1/ 117. (¬2) في الأصل: "ما". (¬3) غير واضحة في الأصل. (¬4) محلها طمس في الأصل.

مفروضٌ بحاله، فهو ضد الرفع والإزالة، وما هو إلا بمثابة من طرح في كيس فيه دراهمُ معدودة زيادةً على ما فيه، فإنه لا يقال فيه: ناسخٌ ولا رافعٌ، كذلك هاهنا. فإن قيل: هناك لا يتحقق رفعُ شيءٍ كان، وهاهنا يصير ما كان كُلاًّ، بعضاً في الحكم، وما كان مُجْزِئاً بنفسه غيرَ مجزىءٍ، فارتفع الحكم الذي كانَ وهو الإجزاءُ. قيل: لا فرقَ بينهما، فإنَّ الدراهم كانت قليلةً فزالت القلة عنها بما ضمَّ إليها، وكانت العشرة التي في الكيس كلاًّ، فلما ضمَّ إليها عشر أخرى صارت نصفاً لما في الكيس، فهو كما كان فيه عشرةٌ، فَرُفعَ منها خمسة بقيَ النصفُ وقَلَّتْ بعدَ الكثرةِ، فالتغييرُ لا ينعْك عنه ولا يقعُ عليه اسمُ النسخِ، كذلكَ المزيدُ عليه لا يقعُ عليه اسمُ النسخِ مع بقائهِ وضمِّ شيءٍ آخر إليه. ومنها: أنَّا أجمعنا والمخالفَ على أن الله سبحانه إذا شرع الصلاة ثم شرعَ الصيام، لم تكن زيادةُ الصوم إلى الصلاة نسخاً، وأن كنا نعلم أن تكليفَ الله سبحانه كان كله الصلاةَ، وأنَّ الإيمان يستقلُّ بالشهادتين وبالصلاة، فلما شرع الصومَ صار ما كان كلاًّ بعضاً، وما كان مستقلاًّ به الإيمانُ والتكليفُ غيرَ مستقلٍّ، حتى يؤتى بغيرِهِ وهو الصومُ الذي زيد عليه وضمَّ إليه، فكذلك ضمُّ الركعتين إلى الركعتين، والتغريبِ إلى الجلدِ. ومنها: أنَّ النسخَ إنما يتحققُ ما لم يمكن الجمعُ بين الحكمين، فاذا لم يمكن الجمع كان الحكمُ المتأخرُ ناسخاً للمتقدم، ووجدنا بأنَّ المزيدَ والمزيد عليه يمكنُ الجمعُ بينهما في اللفظ والحكم جميعاً، فنقول: حدُ البِكْرِ مئةُ جلدةٍ وتغريبُ عامٍ، ولو قال أولاً:

جَلد البكر مئة، ثم قال بعد ذلك: تغريبُ عامٍ، فإنَّ الحكمَ الأولَ والثاني، واللفظَ الأولَ والثاني لا يتنافيان ولا يتضادّان، فلا وجهَ لدعوى النسخ. ومنها: أنَّ حقيقةَ النسخ أن يتناولَ الناسخُ ما تناوله المنسوخ، وإيجاب الزيادة لا يتناول حكمَ المنسوخ، فلا يجوز أن يكون ناسخاً له. ومنها: أنَّ الغرض بهذه المسألة إثباتُ الزيادة في حكم القرآن بخبرِ الواحد والقياس، فنقول: إنَّ خبرَ الواحد والقياس دليلان من أدلة الشرع يجوز إثباتُ الحكمِ المبتدأ في الشرع بهما، ويجوز تخصيصُ عمومِ القرآن بهما، فجازت الزيادةُ في حكم النص بهما كأخبار التواتر. ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ، وإن أوجب ظناً من حيث إنَّ طريقَه غيرُمقطوع به، فإنه قد قضى على دليل العقل المقطوع به، فإنَّ دليل العقل قضى بالبراءة من كل مُشغِلٍ للذِّمة، وسلامة البدن من كل تعبٍ وكلفةٍ، وحقنِ الدماء عن الإراقة، والأبضاع عن البذْلَةِ، ثم يجيءُ خبرُ الواحد فيقضي على الذمة بالشغَل، والأَبدانِ بالإتعاب، والدماء بالإراقة بعد العصمة، والفروجِ بالاستباحة والبِذْلة، وإذا صَلَحَ لمثل هذه القضايا، صلح لتغيير حكم النص بزيادةٍ تنضمُ إليه.

* فصل في شبههم

فصل في شبههم فمنها أن قالوا: إن تقييدَ الرقبة بالإيمان نسخٌ لحكم إطلاقها؛ من حيث كان الإيمانُ زيادةَ صفةٍ فيها. فيقال: ليس كذاكَ؛ لأنَّ إطلاقها يقتضي (1 إجزاءها في 1) المؤمنة والكافرة، والصغيرة والكبيرة، والصحيحة والسقيمة، وعلى أيِّ صفه كانت، لأنَّ الرقبة اسم للشخص دون صفاته، فإطلاقها يقتضي إجزاءَ ما يقع عليه الاسم، تَقييدها بالإيمانِ يخصُّ بعضَ الرقاب ويمنع من حكم الإطلاق، فصار ذلك نقصاناً لا محالةَ، يبيِّن ذلك: أنه لو ورد التقييدُ متصلاً بذكر الرقبة، كان باتفاقٍ تخصيصاً؛ لأنَّه لو قال: فتحرير رقبة إلا أن تكون كافرةً، أو: إلاّ أن تكونَ غير مؤمنةٍ، لكان ذلك نقصاناً وتخصيصاً، فكذلك سبيله إذا ورد منفصلاً بعد استقرار حكم الإطلاق، ويحسن أن يُنْفَى عن هذا أصلُ الزيادةِ، ويقال: إنه نقصان في المعنى، وليس مما نحن فيه بسبيلٍ؛ لأنَّ هذا صورةُ التخصيص، والتخصيصُ بيانُ تنقيصٍ وإخراجٍ، فكيف يسمى زيادةً، فضلاً عن أن يُدَّعَى أنه من باب الزيادةِ الناسخةِ. ومنها أن قالوا: معلوم أن النسخَ ليس بأكثرَ من أن لا يلزمَ في المستقبلِ ما كان لازماً في الماضي، وهذا موجود في مسألتنا: وهي الزيادةُ على تطهير الأعضاء الأربعة بإيجابِ النية، والإيمان في رقبة الكفَّارة، وكذلك إيجاب النفي مع الجَلْد، والتغييرُ في ذلك ظاهرٌ، وهو أن الغسل المجرَّد كان بالأمسِ كافياً، وكذلك عِتقُ الأَمَة والعبد ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل.

الكافرين كان مُجْزِئاً، والجلدُ المجردُ كان حدّاً مستقلاًّ، فصار بعد الزيادة غير مجزىءٍ ولا كافٍ ولا مستقلٍّ، وكان الأول كلاًّ فصار بعد الزيادة بعضاً، فقد ارتفع الحكمُ الأولُ. فيقال: إنا لا نُسَلِّمُ أن هذا الذي ادعيتموه هو النسخُ، بل حقيقةُ النسخِ [إزالة حُكمِ المشروع] أولاً وهو الرقبةُ، وتطهيرُ الأعضاءِ الأربعة، والجلدُ المقدَّرُ، وذاك جميعُهُ ثابتٌ بحاله لم يَزُلْ ولا شيءٌ منه، فأمَّا الضمُّ إليه والزيادةُ عليه فلا يكون رفعاً ولا إزالةً، وأما كونه بعضاً بعد أن كان كُلاًّ، فهذا لا يوجبُ كونَهُ نسخاً، فإنَّ كلَّ موضوعٍ كذلك، فلو أنَّ واضعاً وضع زيادةً على ما فيه من أيِّ نوعٍ كانَ، صارَ ما كان فيه كلاًّ بعضاً بالإضافة إلى الزيادة، وما علمنا من لغة العرب تسمية ذلك نسخاً، فإنَّها لما قالتْ: نسخت الريحُ الرمل، لم تضعْ ذلك لحملها رملاً على رمل، ولا نسختِ الشمس الظلَّ لزيادةِ الظل على الظل، وإن كنَّا نعلم أنها قد لحظت أن الأول من الرمل المزيد عليه، صار بعضاً للرمل الذي زادته الريح، وكذلك الظل. على أن هذا باطلٌ بزيادةِ العبادةِ على ما قبلها من العبادات كصوم بعد صلاةٍ، وزكاة بعد صوم، فإنه قد كانت واجباتُ الإسلام وفروعه تستقلُّ بما كانَ قبلَ الزيادةِ، وصارَ غيرَ مستقل ولا كاف إلا بالزيادةِ والمزيدِ عليه، حتى إنَّه كان يقبل الشهادتين فقط، وصار لا يقبلها حتى ينضمَّ إليها غيرُها، كما قال أبو بكر الصديق لمانعي الزكاة: لا أُفرِّقُ بين ما جمع الله (¬1)، والله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. ¬

_ (¬1) وذلك في حديث قتالِ أبي بكر، رضي الله عنه، لأهل الردة، أخرجه أحمد 1/ 11، والبخاري (6924)، (6925) و (7284) و (7285)، ومسلم (20)، وأبو داود (1556)، والترمذي (2607)، النسائي 5/ 14، والبيهقي 4/ 104.

فإن قيل: تلك العبادات تستقلُّ عن الزيادةِ عليها بالصحة، ولا تقفُ صحتُها على فعل العبادة التي زيدت، بخلاف الركعتين التي زِيدتْ على الركعتين الأُوليين، فإنّها كانت قبل الزيادة مجزئةً، وبعد الزيادة صار معلقاً على الانفراد [فلا تعدُّ مجزئة في انفرادها فى أداء الصلاة] المفروضة ولا مبرئة للذمة. قيل: (1 [إن الإجزاء مُتعلق] 1) بالعبادة التي زيدت، فتحبطُ تلكَ المزيدُ عليها حكماً، وتقع عبادةً صورةً لا مجزئةً ولا مبرئةً لأنه يكفرُ بالتركِ لها. ويبطلُ هذا بما لو نقص من الحدِّ عشرين جلدة، فإنه لا يكون النقصانُ نسخاً لما بقي، كذلك الزيادة لا تكون نسخاً للأولِ المزيدِ عليه. ومنها أن قالوا: إنَّ الزيادةَ إذا ثبتتْ صارتْ جزءاً من المزيد عليه أو صفةً له، وحكمُ الجزءِ حكمُ جميعِ الأجزاء وحكمُ الجملة، فيجب أن لا تثبتَ إلا بما ثبتَ به المزيدُ عليه كآياتِ القرآنِ والقراءات، ومكانِ الآي من القرآن لا تثبتُ إلا بما يثبتُ به أصلُ القرآنِ وهو التواترُ، وكذلكَ صفاتُ القديمِ سبحانه لا تثبتُ إلا بدلالةٍ قطعيةٍ يثبتُ بها الموصوفُ سبحانه. فيقال: لعمري إنه قد صار كالجزء من حيث إنه يجبُ ضمُّه إليه، ولكن لا يجبُ لذلك أنه لا يثبت إلا بالدليل الذي ثبت به المزيدُ عليه، وليس يمتنع مفارقةُ الجزء الكلَّ (¬2)، ومفارقةُ الصفةِ الموصوفَ له في كون الطريق الذي تثبتُ به الصفة غيرَ الطريق الذي يثبت به الموصوفُ، وثبوتُ الجزء بغير الطريق الذي يثبتُ به الكل، ألا ترى ¬

_ (1 - 1) في الأصل هنا طمس. (¬2) في الأصل: "بالكل".

أنه قد يثبتُ أصلُ العبادة بدليلٍ غيرِ مقطوع كخبرِ واحدٍ وقياس، ويدلُّ على وجوبِ تلك العبادةِ الإجماعُ وهو دليلٌ قطعي؟ وتثبت صفات الصلواتِ والطهاراتِ المقطوعِ بها كسننها وهيئاتها بأدلة مظنونة، وهي أخبارُ آحادٍ، والأصلُ ثَبَتَ بدليلٍ مقطوعِ؟ وقد شَهِدَ لذلك (1ثبوت الوضوء بدليل مقطوع، والدَّلك1) والموالاة في الوضوء، بأدلةٍ مظنونة وهي زياداتٌ في الحقيقة. ومنها أن قالوا: أجمعنا على أن التقدير بعدد في الأصل تمنع معه الزيادة، فلو فرضَ ركعتين، كان بفرضه الركعتين مانعاً من الإتيان بأربعِ ركعات، فإذا جاء الشرع بالزيادة زال ذلك المنعُ من الزيادة (¬2)، فكانت الزيادةُ نسخاً لذلك المنع. وليس النسخُ بأكثرَ مِن رفعِ حكمٍ كان ثابتاً، والمنعُ حكمٌ كان ثابتاً وقد ارتفع بهذه الزيادة. فيقال: إن هذا لا يصحُّ على أصلك؛ لأن الأمر بالتقدير ليس بنهي ولا منعٍ عن الزيادة، وإنما المنعُ عن الزيادة ثبت بدليل آخر، وإن سلمنا نحن هذا وقلنا به، فإذا زاد على المقدار الأول زيادةً جعلنا ذلك نسخاً للمنع من الزيادة فكانت الزيادةُ ناسخةً للمنع من الزيادة بلا شك، فما أفادَ الخطابُ حكماً في الزيادة، وإنما الذي ننكره أن تكون الزيادةُ ناسخةً للمزيد عليه، وذلك لا سبيلَ إليه. ومنها أن قالوا: أجمعنا على أن النقصان من المنصوص عليه ¬

_ (1 - 1) محلها في الأصل مطموس. (¬2) في الأصل: "فكانت الزيادة نسخاً زال ذلك المنع من الزيادة، فكانت الزيادة نسخاً لذلك المنع" ولعله تكرار للعبارة.

يوجب النسخَ، فكذلك الزيادةُ، والعلةُ في ذلك أنهما جميعاً تغييرٌ للحكمِ المشروعِ عمّا كان عليه. فيقال: إنّا قد جعلنا النقصانَ حجةً لنا؛ لأنّه لا يوجبُ نسخَ الباقي من الحدِّ بعد نسخ بعض الجَلْدِ، فيجبُ أن تكونَ الزيادةُ مثلَهُ، وإنما جعلنا النقصانَ نسخاً لَما نقص، لأنّه إسقاطُ حكم ثابتٍ باللفظِ وهاهنا ضمٌّ إلى الحكمِ الثابتِ وزيادةٌ عليه، فلم يكنَ نسخاً. [والذي] يوضِّحُ ذلك ويكشفُهُ: هو أنه لو أوجبَ الصلاة ثم رفعها لكانَ ذلكَ نسخاً، ولو زاد على الصلاة (1 ركعتين أو زاد الصومَ 1) لم يكن ذلك نسخاً للصلاة. ومنها أنه لا يَصِحُّ أن يجمع بين الزيادة والمزيد عليه في حكم النص، والخطابُ واحدٌ، ويكشف ذلك إخراجُهُ إلى النطق بأن يقول الشارعُ: إذا غسلتم هذه الأعضاءَ أجزأتكم صلاتُكُم، وإن عَزِبَتْ نيتكم، ثم يقول مع ذلك: وإن لم تنووا الطهارةَ لم تجزئكم صلاتكم، وإذا أعتقتم رقبةً عن كفارةِ الظهارِ كافرةً أجزأتكم، مع قوله (¬2): ولا يجزِئُكُم إلا مؤمنةٌ. وإذا لم يمكن الجمعُ عُلِمَ أنَّ الزيادةَ الطارئةَ التي منعتْ بقاءَ حكمِ النصِّ الأولِ معها ناسخة، فيقال: الجمعُ بين الأمرينِ ممكنٌ، بأنْ يقولَ: أَعتقوا رقبةً، ثم يقول: وتكونُ الرقبة المُعْتَقَةُ مؤمنةً، فيبقى الأولُ وهو الرقبةُ وينضمُّ إليها اعتبارُ الإيمانِ، وصلوا ركعتين، ثم يقول: وركعتين، واجلدوا البكر الزاني مئة، ثم يقول: وغرِّبوه عاماً، فقد صرَّح بالجمعِ، وحَسُنَ ¬

_ (1 - 1) محلها في الأصل مطموس. (¬2) في الأصل: "قولكم".

ذلك، وصَحَّ في النطقِ والمعقول. فأمَّا على الوجه الذي ذكرتموه فإنه باطلٌ بزيادةِ صلاةٍ على الشهادتين (¬1) وصيامٍ على صلاةٍ، وزكاةٍ على صيامٍ وحجٍّ على الجمع، فإنه لا يصحُّ أن يجمعَ بينهما في خطابٍ بأن يقول: إذا صليتم فقد برئتْ ذمتكم، وإذا صليتم ولم تصوموا فما برئت ذمتكم، فهذا في لفظٍ واحدٍ وحالٍ لا يصحُّ، ومع ذلك فليسَ بنسخٍ. [فصل] شبهةُ الطائفةِ الأخرى القائلةِ: بأنَّ الزيادة إذا غَيَّرَتْ كانتْ نسخاً. قالوا: إذا كانت الزيادةُ شرطاً كانت مغيرةً لحكمِ المزيدِ عليه، ألاترى أنه إذا زاد في الصلاة ركعتين ثم صلى بعد الزيادةِ الركعتين الأُولَيين (¬2)، لم يُجْزِئْهُ، وقد كانت قبلَ الزيادةِ مجزئةً، ولا يجوزُ أن يسلِّمَ من ركعتين، وقد كان يجوزُ ذلك، وهذا حقيقةُ النسح. فيقال: إن المزيدَ عليه باقي كما كان لم يتغيرْ، وما تعلَّقَ بالزيادة من الإجزاءِ وعدمِ الإجزاءِ، والصحةِ وعدمِ الصحةِ، لا يوجبُ النسخَ مع بقاءِ المزيدِ عليهِ، ألا ترى إذا زيد في عددِ الحدِّ فقدْ تغير بهذه ¬

_ (¬1) في الأصل: "شهادتين". (¬2) في الأصل: "الأول".

الزيادة حكمُهُ، وهو أنَّ ما كان مطهِّراً صار غير مُطَهِّر، وما كان مكفِّراً صار غير مكفّر، ثم لا يوجبُ ذلك نسخَ المزيدِ عليه، وكذلك إذا زيد في عددِ الأقراء والشهور في العدَّةِ صار ما كان مبيحاً غير مبيح، ثم لايُعدُّ ذلك نسخاً، فبطلَ ماتعلَّقُوا به. على أنَّه باطلٌ بزيادةِ شرط في الصلاةِ منفصلٍ عنها، أو نقصانِ شرطٍ كالطهارة في الصلاة، فإنه سلَّم هذا القائل (¬1) أنه ليس بنسخٍ للصلاةِ، ومعلومٌ أنه قد صار ما كان مجزئاً غيرَ مجزءٍ، وما كان صحيحاً غيرَ صحيحٍ، فبطلَ ما تعلقُوا به. الثانية (¬2): لما كانت الزيادةُ نسخاً لدليلِ الخطاب، كانت ناسخةً للمزيدِ عليه من النص، مثاله: لو قال: حدُّوا الَزاني مئةً. كان دليلُ ذلك المنعَ من جلده زيادةً على المئة، فإذا جاء نص بإيجاب زيادة على المئة كان ذلك نسخاً لذلك الدليل المانع (3 من جلدهَ ذلك البعض 3) الزائد على الجملة المنصوصِ عليها أولاً، فلا فرق بينهما. فيقال: إنَّ الزيادةَ منطوقٌ بها منصوصٌ عليها، ودليلُ الخطاب ليسَ بنطقٍ وإنما هو دليل النطق، فقضى النطقُ على دليله، ولأنَّه لَا يمكن الجمعُ بينهما؛ لأنّهِ لو صرَّح فقال: إذا زنى البكرُ الحرُّ فاجلدوه مئةً ولا تزيدوا على مئة جلدة، ثم قال بعد زمانٍ: اجلدوه مئة وخمسينَ، كانَ النطقُ الثاني قاضياً على الأولِ وناسخاً له، فإذا قضى النصُّ والنطقُ على النطقِ لمكانِ تأخُّرِهِ، وعدمِ إمكانِ اجتماعِه معه - ¬

_ (¬1) في الأصل: "القليل". (¬2) بمعنى الشبهة الثانية، وما سبق بيانه تكون الشبهة الأولى. (3 - 3) محلها طمس في الأصل.

* فصل إذا ثبت الحكم في عين من الأعيان

لأنَّ الأمرَ بالزيادةِ يُزيلُ حكمَ النهي عنها- فأولى أن يقضيَ النطقُ على دليله، بخلافِ ما نحن فيه من النص الأول مع النص الثاني، وإمكانِ الجمعِ بينهما من الوجه الذي بيَّنَّا. فصلٌ إذا ثبتَ الحكمُ في عينٍ من الأعيان بعلةٍ وقِيْسَ عليها، ثم نُسِخَ الحكمُ في تلك العينِ التي هي الأصلُ المقيسُ عليها، بطلَ الحكمُ في الفروع التي قيستْ عليها، وصار حكمُ جميعِ تلك الفروع منسوخاً به (¬1). وبه قال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين عندهم (¬2). وقال بعض أصحاب أبي حنيفة (¬3)، وبعضُ أصحابِ الشافعيِّ (¬4): لا ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 820، و"المسودة" (820)، و"التمهيد" 2/ 393، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 337. (¬2) وهو ما اختاره الشيرازي في "التبصرة" (275)، والفخر الرازي في "المحصول" 3/ 539، وذكر الزركشي في "البحر المحيط" 4/ 136 أنه رأي الجمهور. (¬3) هذا العزو لبعض أصحاب أبي حنيفة فيه نظر، إذ أبان الكمال ابن الهمام في كتاب "التحرير"، والأنصاري في "فواتح الرحموت" عن توهين مثل هذا النقل عن بعض الحنفية. انظر "التحرير"، ومعه "تيسير التحرير" 3/ 215، "فواتح الرحموت" 2/ 86. (¬4) انظر "التبصرة" (275)، "الإحكام" للآمدي 3/ 167، "جمع الجوامع =

يكونُ الحكمُ في الفروع منسوخاً، وبينوا ذلك في مسألتين: إحداهما: دعواهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بالنبيذ الذي كان مع عبد الله ابن مسعود (¬1). فقيل لهم: إنه كان نيئاً، وعندكم لا يجوز (2 أن يُتَوضأ إلا بالمطبوخ2). فقالوا: إذأ ثبت بالنص جواز الوضوء بالنِّيء بما عَمِلَه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه تمرةٌ طيبةٌ وماءٌ طهورٌ، وجبَ جوازُه بالمطبوخ؛ لأن العلة موجود فيه، فلما نُسِخَ جوازُ الوضوء بالنِّيءِ، بقي جَوازُ الوضوء بالمطبوخ. والمسألة الثانية: النية لصوم رمضان بالنهار؛ استدلوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء: "أن من لم يَأكُلْ فليَصُم" (¬3)؛ فأجاز صومَ عاشوراءَ بنيةٍ مِن النهار، وكانت العلةُ فيه أنه صومٌ واجبٌ مستحقٌ في زمانٍ بعينه، وهذا المعنى موجودٌ في صومِ رمضانَ وغيرِه، فلما نُسِخَ صومُ عاشعوراءَ بقي حكمُه في غيره. ¬

_ = وشرحه" 2/ 89، "شرح اللمع" 2/ 232. (¬1) عن عبد الله ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجن: "عندك طهور؟ " قال: لا، إلا شيء من نبيذ في إدواة. قال: "تمرة طيبة، وماء طهور". فتوضأ منه. تقدم تخريجه 2/ 144. (2 - 2) محلها مطموس في الأصل. (¬3) أخرجه البخاري (2007)، ومسلم (1135).

* فصل في دلائلنا

فصلٌ في دلائلنا فمنها: أن الحكمَ في الفرعِ إنما ثبتَ لثبوته في الأصل، فإذا بطل الحكمُ في الأصلِ وجبَ أن يبطلَ في الفرعِ، ألا ترى أن الحكمِ إذا ثبتَ بالنصِّ لمَّا كان ثبوتُه لأجله، إذا نُسِخَ الأصلُ، سقط الحكمُ. ومنها: أن ما ثبت مانعاً لغيره، وجب أن يزولَ الموجَبُ والمقتضى بزوالِ الموجبِ والمقتضي، كالحكمِ مع علتِهِ إذا زالت العلةُ تبعها في الزوال حَكمُها، وإنما يتخلف الحكمُ أبداً عن علته إذا كان ثبوتُه بعلتين، فزالت إحداهما استقل بالأخرى المتخلفة، كالصومِ والإحرامِ والحيضِ، وكلُّ حكمِ ثبتَ بعلتين كان تخلُّفُه جائزاً، فأمَّا ما اتحد موجِبُهُ فلا بقاءَ لهَ مع زواله، كالحكمِ الثابتِ بالعلةِ الواحدةِ. فصل في شُبَهِهِم فمنها: (1 قالوا: لو أثبتنا النسخ في فروع ذلك 1) الأصل، لكان نسخاً بالقياس (1 وإثباتُ الحكم بالقياس1) يجوز، فأمَّا النسخُ بالقياس فلا يجوز. ¬

_ (1 - 1) محلها مطموس في الأصل.

وبيانُ أنه يكونُ نسخاً بالقياس، أننا لما رأينا الحكمَ ثبتَ في الفرع بالعلة التي ثبتَ الحكمُ بها في الأصلِ، نسخناه في الفرع حيث نُسِخَ الحكمُ في الأصلِ، إلحاقاً للفرعِ بالأصلِ في النسخ. فيقال: لسنا قائسين للفرع على الأصل، بل ذلك أمرٌ فرغنا منه في الأول حين أثبتنا الحكمَ لمشاركة الفرعِ الأصلَ في علةِ الحكمِ، فأمَّا لما جاء النسخُ لحكمِ الأصلِ زالَ حكمُ الفرعِ، لإخراجِ العلةِ [عن] أن تكون موجبةً للحكم، فتعطل الحكمُ عن علته، فزال لزوالها، لا قياساً، ولو كان هذا نسخاً بالقياس، لكان زوالُ الحكمِ بزوال علتِهِ نسخاً بغيرِ ناسخٍ، ولما كان ذاك زوالاً لا نسخاً ورفعاً لارتفاعِ الموجِبِ، [و] لا أنه نسخٌ بغيرِ ناسخٍ، كذلك ها هنا لا يكون نسخاً بالقياس. ومنها أن قالوا: إنَّ الفرعَ لما ثبتَ الحكمُ فيه صار أصلاً، ولهذا يصح أن يقاس عليه عندنا جميعاً، فوجب أن لا يزولَ الحكمُ فيه بزواله في غيره. فيقال: لا نُسَلِّم أنه صار أصلاً بذلك، وإنما هو تابعٌ لغيره، وفرعٌ لغيره، ثبت الحكمُ فيه لأجلِ ذلك الغيرِ، فإذا سقط حكمُ المتبوع سقطَ حكمُ التابع، حتى لو قيس عليه غيرُه لسقطَ حكمُ الآخرِ الذي هو فرعٌ لفرعِ الأصلِ. فإن قيل: إذا ثبت الحكمُ في الفرع، لم يلزم زوالُه (1 بزوالِ حكمِ 1) الأصل. وهذا يعودُ بالإفسادِ لجميعِ كلامكم بدليل أن الوالد يَتبَعُه ولدُه الطفلُ في الإسلامِ والكفرِ، فلو زال إسلامُهُ بردةٍ، أو كفرُهُ ¬

_ (1 - 1) محلها مطموس في الأصل.

* فصل إذا كان الناسخ مع جبريل ولم ينزل به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت له حكم

بإسلامٍ، لم يَزُلْ ما ثبتَ في حق الولدِ من الكفرِ والإسلامِ. قيل: حكمُ الولدِ مع الأب غيرُ حكمِ العلةِ؛ بدليل أن الولد مع أبيه [ليس] بمنزلة الحكم مع علته، فيزولُ الأب، ولا يزولُ الحكمُ الحاصلُ في الولد، ويزولُ حكمُ الأب بالإسلامِ عن الكفرِ وبالكفرِ عن الإسلامِ، ولا يزولُ الحكمُ عن الولَد، وليس لنا علةٌ ترتفعُ ويبقى حكمُهامستقلاًّ لا (¬1) بعلة ولاسبب مختلف، فليس هذا مما نحن فيه بشيء. فصل إذا كان الناسخُ مع جبريلَ لم ينزلْ به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لم يَثبُتْ لَه حكم، بلْ هو باقٍ على ما كان عليه في السماء قبل إلقائه إلى جبريلَ عليه السلام، ولم أسمعْ فيه خلافاً؛ لأنه لم يثبت له حكمٌ في حق مكلَّف للحكم الذي تضمنه؛ لأن جبريلَ- عليه السلام- وإن كان رسولاً فحكمُهُ مخالف لحكم رسولِ الله، إذ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - داخلاً في الحكم الذي ينزلُ عليه، ومخاطَباً بالخطاب الذي يتوجه إلى الأمة؛ لأنه واحدٌ منهم، ولهذا قال قوم: إن حكمَ النسخِ الذي تلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله سبحانه ليلة المعراج، وتنقيصَ الصلواتِ من خمسين صلاةٍ إلى خمس صلواتٍ، حكمٌ ثابتٌ، ونسخٌ حقيقةً له حكمُ النُّسوخِ، لأنه تلقاه (2 مُكلَّفٌ بأداءِ الحكمِ هو 2) النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافِ ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (2 - 2) محلها مطموس في الأصل.

* فصل في دلائلنا

جبريلَ عليه السلام إذ (1 ليس هو الفاعل 1)؛ لأنه كُلِّفَ البلاع لما تَضَمَّنَهُ الحكمُ دون الحكمِ نفسه. فأمَّا ما ورد من النسخ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصلَ إليه ولم يبلغْ أمتَهُ: فظاهرُ كلام أصحابنا أنه ليس بنسخ إلا عند من بلغَهُ وعلمَه (¬2)، وقد عوَّلَ أحمد في هذا على قصة أهل قُباء، وأنهم لما استداروا لم يؤمروا بالقضاء، فكان اعتدادُ الشرع لهم بالركعاتِ التي صَلَّوها إلى بيت المقدس، ولو نَجَزوا من الصلاةِ، دلالةً على أن حكمَ القبلة كان ثابتاً غيرَ منسوخٍ قبل علمِهم، وبه قال أصحابُ أبي حنيفة (¬3)، واختلف أصحاب الشافعي على وجهين (¬4): أحدهما يكون سخاً، والثاني: لا يكون نسخاً. فصل في دلائلنا فمنها: قصةُ أهلِ قُباءٍ، والاعتدادُ لهم بما مَضى، وما كان ذلك إلا لعدمِ البلاع، ألا ترى أنه لما بلغهم النسخُ استداروا. فإن قيل: أمرُ القبلةِ سهل فلا تُؤخَذُ سائرُ الأحكام منه، ولهذا ¬

_ (1 - 1) محلها مطموس في الأصل. (¬2) انظر "العدة" 3/ 823، و"التمهيد" 2/ 395، و"المسودة" (223). (¬3) انظر "فواتح الرحموت" 2/ 89. (¬4) ذكر هذا الخلاف الشيرازي في "التبصرة" (282) والآمدى في "الإحكام" 3/ 153.

تسقطُ القبلةُ بالأعذارِ من الخوفِ وشدةِ الحربِ، وتسقطُ بغيرِ عذر في النافلةِ، وغيرُها أمرُه صعبٌ متأكدٌ، فلا يُؤخَذ حُكمُه من حُكْمِهَا. قيل: سقوطها بالأعذار إلى بدلٍ هو جهةٌ أخرى، حكمٌ من أحكامِ الشرعِ مع عدمِ البلاغِ، ويكفي ذلك، ولسنا قائِسينَ غيرَه عليه، بل آخذين وقائلين، فهل تقول أنت به لخفته؟ فمن قولك لا يَبْقى للفرقِ الذي ذكرتَهُ وجهٌ ينفعُك في المسألةِ. ومنها: أن أصل الشرع لا يلزم إلا من بلغه (1 الحكم لقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ 1) لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59] والعذاب نوعُ مؤاخذةٍ، وإيجابُ التكليفِ وعدمُ الاعتدادِ بالعباداتِ على الوجه المشروعِ أولاً مؤاخذاتٌ أيضاً. ومنها: أن من لم يبلغه النسخُ لم يعلمْ بالخطابِ، فلا يلزمُهُ حكمُ الخطابِ، كالصبيِّ والمجنونِ والنائمِ، يوضح هذا: أنَّ عدمَ العلمِ لا يقبَلُ (¬2) التفاضلَ والتزايدَ، فإذا اتفقَ عدمُ العلم لأجلِ عزوبِ السماعِ، وعدمُ العلم للجنونِ، والنوم، في نَفْي العلمَ، وَجَبَ أن يتفقوا في نفي الخطابِ. ومنها: أن هذا الذي لم يبلغه النسخُ لو فعل العبادةَ على الوجه الذي حصل به الناسخُ، أَثِمَ وحَرِجَ وكان عاصياً، ومحالٌ أن يكون ¬

_ (1 - 1) محلها في الأصل مطموس. (¬2) في الأصل: "يبقل".

* فصل في شبههم

مخاطباً بشيءٍ لو فعله كان عاصياً، بيانُ ذلك: أن أهلَ قُباءٍ لو صلَّوا إلى الكعبة قبل أن يأتيهم النسخ كانوا عصاةً وصلاتُهم باطلة، ومحالٌ أن يكون المخاطبُ به إذا فعله المكلفُ كان به عاصياً، وكان الفعلُ باطلاً، وغيرُ المخاطب به -وهو المنسوخُ- إذا فعله كان صحيحاً، وكان الفاعلُ لَهُ مطيعاً مثاباً. فصل في شُبَهِهِم فمنها: أنَّ حكمَ الخطابِ الأولِ ربما (¬1) تجدَّدَ وإنْ لم يُعْلَم المتجددُ، بدليلِ [أن] الوكيلَ إذا عزلَه الموكِّلُ، فإنه ينعزِلُ، وإنْ لم يعلم الوكيلُ بالعزلِ، ولا تنعقدُ منه العقود التي وُكَلَ فيها، كذلك ها هنا. والجامعُ بينهما أن كلَّ واحدٍ منهما يتعلق في التصرف بالإذن. فيقال: إن في مسألةِ الوكيل روايتين: إحداهما: يصحُ البيعُ من الوكيل بعد عزلِ الموكِّلِ وموتِهِ إذا لم يَعْلَمِ الوكيلُ بذلك، فعلى هذا هو كمسألتنا. والثانية: لا يصحُّ بيعُة، ويثبتُ حكمُ العزلِ مع عدمِ العلمِ، وعلى هذه الرواية الفرقُ بين حقوقِ الآدميين وحقِّ الله، أنَّ حقَّ اللهِ يتعلقُ عليه الثوابُ والعقابُ، وذلك يقفُ على العلم، ويؤثرُ فيه العذرُ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بما".

وحقُّ الآدمي يتعلقُ عليه الغرمُ الذي لا يختلفُ بالعلمِ والجهلِ والخطأ والعمدِ. على أن قياسَ الأصولِ على الفروعِ، وأخذَ أحكامِها منها، يخالفُ الوضعَ، وإنما يستقى حكمُ الفرعِ من الأصلِ. ومنها أن قالوا: النسخُ إسقاطُ حقٍّ لا يعتبرُ فيه رضا مَن يسقطُ عنه، فلا يعتبرُ فيه علمُهُ، كالطلاقِ والعتاقِ والإبراء. وقالوا في النسخ إذا كان إباحةً بعدَ حظرٍ: إباحَة لِمَا حَظَرَ عليه، فلم يقفْ ثبوتُ حكمِهِ على العلمِ، كما لو قال لامرأته: إن خرجتِ بغير إذني فأنت طالقٌ، وأذنَ لها من حيث لا تعلم، ثم خرجَتْ، فإنه يَثْبُتُ حكمُ الإباحةِ، ولا يقعُ الطلاقُ، كذلك ها هنا. وتصرفوا في هذه الطريقة فقالوا: الإباحةُ تارةً تحصُلُ من جهة الله سبحانه، وتارةً تحصُلُ من جهةِ الآدمي، ثم الإباحةُ من جهةِ الآدمي يَثْبُتُ حكمُها قبلَ العلمِ، وهو إذا قال: أبحتُ ثمرةَ بستاني لكلِّ جائزٍ به وداخلٍ إليه، فكذلك الإباحةُ من جهة الله عز وجل (1 ....... 1) لكم التكليف المتضمن للثواب والعقاب من أقوال الآدميين وأفعالهم التي تقتضي الغرم وعدم الغرم، وهذا أخذٌ باطلٌ، ووضعٌ فاسدٌ، والطلاقُ والعتاقُ إتلافٌ للمتعة (¬2)، والرِّقِّ ما وضع لإتلافه، وإنما كان إتلافاً لأنه إزالةُ ملكٍ لا إلى مالك، ولا يقتضي خطاباً. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "لمكلفه".

* فصل لا يجوز نسخ بالقياس

والإباحةُ والحظرُ من طريقِ الشرع خطاب، فلا يتحققُ إلا من قائل لسامع قولَه وخطابه وملتزمٍ أمره، ولهذا كان بفِعل ذلك المنسوخ طائعاً، وعلى فعله مثاباً لعدمِ العلمِ، كذلك لا يكَونُ مطالباً بالبدلِ لعدمِ العلمِ، وخطابُ من لا يعلمُ كخطابِ من لا يعقلُ، وعدمُ العقلِ لا يؤثِّر في إسقاط حقوقِ الآدميين، ويؤثِّرُ في إسقاط حق الله سبحانه. وأمَّا الإذنُ لزوجته [وأنه] لا يتحقق إلا بأنْ تعلمَ ذلك، وإنْ خرجَتْ منِ غير إعلام منه لإذنها، لم تخرج من عهدة الطلاق؛ لأن (¬1) الإذن من الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] يعني إعلاماً من الله، وأَخْذَ الحكمِ من جة الآدمي للحكم والإذنِ من جهة الله ومن جهة رسوله، فلا يصحُّ لما يتعلقُ على أحكام الشرعِ من المأثمِ، وذلك يؤثرُ فيه عدمُ العلمِ، بخلاف حقوقِ الآدمي التي (¬2) يستوي حكمُها [مع] اختلافِ الأحوال. فصل قال أصحابنا: ولا يجوز نسخٌ بالقياس (¬3)، ولسنا نريد به الأولى والتنبيهَ، فإن ذلك جارٍ مجرى النص عندنا، فلو نهى عن التأفيفِ من الأبِ والآمِّ بعد أن كان أباحَ ضربَهما، أو نهى عن التضحيةِ بالعوراء ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا" (¬2) في الأصل: "الذي". (¬3) انظر "العدة" 3/ 827، و"التمهيد" 2/ 391، و"المسودة" (225)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 571.

بعد أن كان أباحَ التضحيةَ بالعمياءِ، كان ذلك نسخاً على أصلٍ من أصولِ الدين. ومن (1 ذلك السنة التي ورد الحَضُّ على 1) اتباعها بالقرآنِ وهو قولُه تعالى: (1 {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ا) وقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] فإذا كانَ كذلك كانت السُّنَّة فرعاً للقرآن فلا يعكِّر الفرعُ على أصله بالإبطال والإسقاط، كما لم تُنْسَخ السنةُ بفرعِها المستنبطِ منها: وهو القياسُ عند المحققين من العلماء. ومن ذلك [أن القرآن] أقوى وآكدُ من السنة نطقاً وحكماً، أمَّا النطقُ فإنه معجِزٌ، وأما إحكامُ النطقِ فإنَّ (¬2) كونَه أعجزَ العربَ هو الذي أوجبَ صدقَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءنا به من الأحكامِ. ومن أحكامه: ثبوتُ حرمةِ تلاوتِهِ في اعتبارِ الطهارةِ من الجنابةِ والحيضِ، وحرمةٍ مسطورةٍ بأن لا يجوز لمحدِث مسُّه محدثاً أيَ حدثٍ كان. وفي نفس تلاوته ثوالب، وليس في نفس إيرادِ الأخبارِ خِفية ثواب (¬3)، وقَدَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل، فقالَ لمعاذ. "بِمَ تَحكُمُ؟ " فقال. بكتاب الله، قال: "فإن لم تَجدْدا قال: بسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، وساق الترتيب، وإذا كانت السنةُ دونَ الكتابِ لم يُنْسَخِ الأقوى ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "فإنه". (¬3) في الأصل: "ثواباً". (¬4) تقدم تخريجه 2/ 5.

* فصل في أدلة من قال يحواز نسخ القرآن بأخبار الآحاد

بالأضعفِ، والأوكدُ بالأخفِّ، ولا الأشرفُ با لأَدْوَن. فإن قيل: هذه القوةُ لِلَّفظ، ولسنا ننسخُ إلا الحكمَ. قيل: لا فرق عندكم بين اللفظِ والحكمِ، حتى إنَّ السنةَ لو وردت بأنَّ هذه الآية، قال رسول الله: لا تضعوها في المصحف، لم توضع بعد قوله في المصحف، فلا معنى لفرقٍ لا تقولون به؛ ولأنَّ الآية إذا زال حكمها، تعطلت عن فضلِ التلاوةِ والحُرمةِ والعملِ بها ............ ، صارت كما نسخ من السنة. (1 فصل في أدلة 1) من قال بجواز نسخ القرَان بأخبار الآحاد وهي رواية عن أحمد رضي الله عنه فمن ذلك: قولهم: قد وجدَ ذلك، بدليلِ أن آياتٍ من القرآن قد نسختها أخبارُ آحادٍ. فمنها: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]، نسخت بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصيةَ لوارثٍ" (¬2). وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، نسخ بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكرُ بالبكر: جلدُ مئةٍ، ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل (¬2) تقدم تخريجه 1/ 231.

* فصل في الأجوبة عن ذلك

وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيبِ: جلدُ مئةٍ والرجم" (¬1). وقوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191]، نسخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوا ابن خَطل، وإن كان متعلِّقاً بأستار الكعبة" (¬2). وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] نُسِخَ بما رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير (¬3). وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] لما ذكر المحرمات، نسخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْكَحُ المرأةُ على عمتها، ولا على خالتها" (¬4). فصل في الأجوبة عن ذلك أما الوصيةُ، فنسخت بآيةِ المواريثِ. وأما آيةُ الحبس، فنُسِخَتْ (¬5) في البكر؛ بقوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وفي الثيب، باَيةِ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 132. (¬2) رواه البخاري (3044)، ومسلم (1357). وعبد الله بن خطل، كان قد أسلم ثم أرتدَّ، اتخذ قينتين تغنيان بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه. (¬3) رواه مسلم (1934)، وأحمد 1/ 244 و 203 و 327، والدارمي 2/ 85، والطيالسي (2745)، وابن حبان (5285). (¬4) تقدم تخريجه 3/ 379. (¬5) في الأصل: "نسخت".

الرجم التي كانت: "الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، نكالاً من الله". وأما {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191]، (1 فنُسِخَت بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وأما قولُه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]، فالمرادُ به: ما هو مستطابٌ عندهم، وليس من الخبائث، فهو عمومٌ دخلَهُ التخصيصُ بالخبرِ، وإذا أمكن البناءُ والجمعُ، لم يصحَّ حملُهُ على النسخ. وجميعُ الأخبارِ زوائدُ على الآيات، والنسخُ إنما كان بالآيات. ومن تعلقاتهم من طريق الاستنباط: أنَّ ما جازَ نسخُ السنَّةِ به، جازَ نسخُ القرآنِ به، كالقرآن. فيقال: ليس إذا جاز أن يسقطَ به مثلُه، جاز أن يسقطَ به ما هو أقوى منه، ألا ترى أن القياسَ يجوزُ أن يعارضَ مثلَهُ، ولا يجوز أن يعارضَ السنةَ، آحاداً كانت، أو تواتراً. ومن ذلك: أن قالوا: إن النسخَ إسقاط لبعض ما يقتضيه ظاهرُ القرآنِ، فجارْ بالسنةِ، كالتخصيصِ. فيقال: لا يجوز أن يُؤخَذَ حكمُ النسخِ من التخصيصِ، ألا ترى أن تخصيصَ السنةِ بالقرآن جائزٌ، ونسخَها به لا يجوز، ولأنَّ ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل.

* فصل فيما تعلق به من أجاز النسخ بالمتواتر منها وهو الأصح

التخصيصَ (¬1): بيانُ المرادِ باللفظِ، وغايتُهُ: أنه إسقاطٌ لبعض ما شملَه اللفظُ، والنسخُ: رفع له بالكلية، فلم يَجُزْ بما دونه. ومن ذلك: أن قالوا: إذا جازَ النسخُ إلى غيرِ بدلٍ، فجوازُه إلى بدلٍ يثبتُ بلفظٍ دونه، أَوْلى. فيقال: لو كان هذا استدلالاً صحيحاً، لوجب أن يجوز بالقياس، فيقال: إنه إذا جازَ رفعُه إلى غيرِ بدلٍ، فلأَنْ يجوزَ إلى بدلٍ يثبتُ بالقياسِ، أَوْلى. على أن النسخَ إلى غيرِ بدلٍ لا يؤدي إلى إسقاطِ القرآن (2 بل إلى رفع الحكم إلى 2) غير بدل، فيرفعُ بمثلِ ما به ثبتَ، والنسخُ بخبرِ الواحدِ، وبالسنةِ في الجملةِ، رفعٌ للقرانِ بما هو دونه، وذلك لا يجوزُ. فصل فيما تعلق به من أجازَ النسخَ بالمتواترِ منها، وهو الأصحُ. فمن ذلك: قولهم: إنَّ المتواتر دليل قطعي، وهو الطريقُ الذي ثبتَ به القرآنُ، وإذا كان قطعياً، صارَ بمثابةِ القرآنِ، وصاغوه قياساً، فقالوا: دليلٌ مقطوعٌ بصحتِهِ، فجازَ نسخُ القرآنِ به، كالقرآنِ. يوضح هذا: أن أصلَ إثباتِ القرآنِ عندنا إنما هو بأخبارِ التواترِ، فما (¬3) جازَ إثباتُ القرآن له، جاز أن ينسخَ به. ¬

_ (¬1) في الأصل: "للتخصيص". (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) في الأصل: "مما".

فيقال: يجوزُ أن يستويا في القطع، ولا يَنْسَخُ أحدُهما الآخرَ، كما أن خبر الواحد والقياسَ استويا في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مظنونٌ، ويجوزُ النسخُ بأخبارِ الآحادِ دونَ الأقيسةِ. ولأنَّ الإجماعَ دليل مقطوع به، ولا يجوزُ النسخُ به. والمعنى في القرآن مع القرآنِ؛ إنَّما نسخ الآي منْهُ بالآي؛ لتساويهما في التأكيد، وهو الإعجازُ الدال على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والأحكامُ المتعلقةُ عليه من منعِ الجُنُبِ مِنْ تلاوتهِ، والمُحدِثِ من مسِّه، وعدمُ صحةِ الصلاةِ إلا بشيءٍ منه، فصارَ في الحرمة، والتأكدِ على السنة، كتأكدِ السنةِ على القياسِ، وقولِ آحادِ الصحابة. وعندي: أنَّ هذه الطريقةَ التي هي لإثباتِ النسخِ بالخبرِ المتواترِ معتمدةٌ، فلا بدَّ من إيضاحها، والكلامِ على كشفِ ما أجابَ به أصحابُنا، ومَن وافقهم فيها. فنقولُ وبالله التوفيق: إنَّ الذي ثبتَ به القران، إنَّما هو أخبارٌ متواترة (1 .... 1) وليس لنا طريق إلى إثبات (1 ... 1) وليس وراء القطعِ زيادةٌ ولا تقبلُ الزيادة، فليسَ يبقى إلا الإعجازُ، وذلك لا يرجعُ إلى معنى سوى العلم بأنَّه كلامُ اللهِ، ومن حيث إنه دلَّ إعجازهُ على (¬2) أنه كلامُ اللهِ، دلَّ على صدقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما يخبرُنا به، فإذا ثبتَ ذلك، لم يبقَ لنا طريق قطعى إلى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما يَتغيَّرُ الحكمُ، أو يُبْتَدأُ به، إلا سماعُنا في معاصرتهِ، فإذا عدمنا ذلك، لم يبقَ ما يقومُ مقامَ سماعِنا منه إلا خبرُ التواترِ، فإذا ظفرنا به، صار كأنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: هذه الآيةُ منسوخة، نزل عليَّ الوحيُ بنسخِها، فوجَب ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "على إعجازه".

قبولُنا منْهُ بدليل إعجازِ القرآن، فما نسخنا القرآنَ إلا بمثله في المعنى الذي ثبتَ به. وفارقَ الإجماع، فإنه إنما يتحققُ في الوقتِ الذي انقطعَ الوحيُ، ولم يبقَ سوى الاجتهاداتِ، وهو أمرٌ يحتاجُ إلى استنادِه (¬1) إلى دليل، فإنْ حصلَ الإجماعُ على أنَّ الآيةَ منسوخةٌ بنقلٍ، حُكِمَ بالنسح بدليلِ النقلِ، وإنْ كان العقدُ على أنَّ الآيةَ منسوخةٌ بغيرِ نقل، بل بمجردِ (¬2) الاجتهاد، فموتُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوجبَ تقريرَ (¬3) الأحكامِ النازلةِ من السماء، فلا يبقى للاجتهاد عملٌ، إلا في حوادثَ لا نقلَ فيها، بخلافِ السنة المتواترة؛ فإنَّها تستندُ إلى الوحي الذي طريقُه طريقُ القرآنِ، فهي (¬4) بمنزلةِ القرآنِ في القوةِ، فلم (¬5) يبقَ بينهما اختلافٌ إلاَّ في نفسِ الصيغ والنطق، وذلك لا يوجبُ فرقاً فيما يتعلق بقوة الإثبات (6 .... 6) بين كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (6 ..... 6) الأحكام ونسخها، وبين المتواترِ من الأخبارِ عنْهُ، وإنْ كان بينهما رتبةٌ في الفضلِ، فإن من سمع لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ ممن سمع عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذاك صحابي، وله فضلُ السماعِ منه، والصحبةِ له، لكن لَمَّا تساويا في القطعِ، ألغينا في الإثباتِ والرفع رتبةَ الفضل، كذلك هاهنا. ومن ذلك: أنه ليس في رفعِ حكمِ القرآنِ بالسنةِ إحالةٌ، ولا إفسادٌ للتكليف، ولا مناقضةٌ؛ فإنَّه إذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الملكَ تَنزلَ إليَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "استفاده". (¬2) في الأصل: "لمجرد". (¬3) في الأصل: "تقدير". (¬4) في الأصل: "فهو". (¬5) في الأصل: "ولم". (6 - 6) طمس في الأصل بمقدار أربع كلمات.

آنفاً، فقال: إنَّ الله قد أسقط عنك وعن أمتك حكمَ آيةِ كذا، وجعلَ حكمَها مرفوعاً كأنْ لم يَنْزِلْ عليك، وجبَ التعويلُ على ذلك، والتصديقُ له، بالطريق الذي صدقناه به في جعلِ اللهِ لذلك الكلامِ الذي أعجزَ الفصحاءَ، فكان (¬1) شاهدَ نفسهِ، فلا نجتاجُ إلى مُخبِرٍ يخبرُنا بأَنه كلامُ الله. ولقائل [أن] يقول: فالنسخُ قد يقعُ على ما لا إعجازَ فيه، وما لا إعجازَ فيه لا يثبتُ بمعنىً يختصُّهُ، بل يحتاجُ إلى نقلٍ يحصلُ به العلمُ، وإنَّما يصحُ ما ذكرتَه مِنَ الإعجازِ، في السورة المديدة. وقد أجبتُ في النظر عن هذا: بأنَّ القرآنَ عندي لا يحتاجُ إلى طريقٍ، فلو (¬2) نَقَله مَنْ نَقَلَه، كان القرآنُ شاهدَ نفسِهِ؛ بأسلوبِه ونمطِهِ الذي لا يختلطُ به سواه، فهو حافظٌ نفسَهُ عن اختلاطِ (¬3) غيرِهِ بهِ، وشاهدُ نفسِهِ بكونِهِ منقطعاً عن كلِّ (¬4) كلامٍ، فلا حاجةَ بنا إلى نقلِ آحادٍ أو تواترٍ، فلو وجدناه في صحيفةٍ، لحكمنا بنمطه وأسلوبه بأنَّه قرآنٌ، وأنَّه كلامُ اللهِ، كما أنَّ قلبَ العصا حيَّةً، وإحياءَ الميتِ، وإخراجَ ناقةٍ من صخرة، لايحتاج إلى (5 نقل آحادٍ أو تواتر لتصديق 5) قول من ظهرت على يديه، بل من ظهرت على يديه، صحَّتْ دعواه بالرسالة (¬6)، وخبرُه بها، وهي شاهدةٌ لنفسها بعجزِ الخلقِ بأنَّها (7 ....... 7) في إنزالِ تلك الآية، وكنا مستصلحين بالرفعِ لها، كما كُنَّا مستصلحين ¬

_ (¬1) في الأصل: "كان". (¬2) في الأصل: "ولو". (¬3) فى الأصل: "اخلاط". (¬4) في الأصل: "محل". (5 - 5) طمست في الأصل. (¬6) طمس في الأصل. (7 - 7) في الأصل بياض بمقدار أربع كلمات.

بإنزالها، فلا فرقَ بينَ أنْ يتلوَ لنا قرآناً يَرْفعُها أو يروي لنا وحياً ليسَ بقرآنٍ يرفعُ حكمَها، أوْ تلاوتها رأساً. فإن قيل: ولا إحالة في العقل أيضاً برفعِ حكمِ الآي بأخبارِ الآحادِ، ولم يدلَّ نفيُ إحالةِ العقلِ لذلك على جواز النسخ بها، كذلك متواتِرُها. فيقالُ: يحتمل أن نقولَ: لولا إجماعُ الصحابةِ، لجوَّزْنا، لكن الصحابةُ أَجْمَعَتْ على ردِّ قراءة ابنِ مسعود، وإنْ كانَ الثقةَ العدلَ، وهو يقولُ: سمعتُ من رسول الله كذا، وهم لا يلتفتونَ إلى روايتِهِ، فما رضوا بنقلِ ابن [مسعود] مع جلالته وفضله لإثباتِ كلماتٍ وحروفٍ في كتاب الله، ولم يثبتوا في المصحف إلاّ ما وقع الإجماعُ على نقله، فكان ذلك تنبيهاً على أنهم لا يقبلون روايَتُه في رفعِ القرآنِ ونسخِهِ. على أنَّ في ذلكَ معنىً يأباهُ العقلُ، وذلكَ أنَّ القرآنَ حكمه ثبتَ بدليلٍ قطعي وطريق قطعي، فكيفَ يُرفعُ القطع بخبرِ الواحدِ، وغايةُ ما يوجبُهُ غلبةُ الظنِّ؟ والعقلُ يأبى ذلك، ولا يأبى رفعَ القطعِ بالقطعِ، لاستوائهما في الغاية، وهي العلمُ الذي لا يقبلُ التزايدَ، لا سيما والتواترُ يوجبُ علماً ضرورياً، فيصيرُ السامعُ لخبرِ التواتر، كالسَّامعِ منَ المخبرِ عَنْهُ (1 أمراً طارئاً ينافي ا) مخبره، وبعد أنْ ينحرسَ الإثباتُ عن الشكِّ والريب، فلا طائلَ في المراتبِ فيما عدا ذلك، ألا ترى أنَّ أصْلَ إثباتِ الشريعةِ جاءَ تارةً بطريقِ المنامِ، وتارةً بالمَلَكِ، وتارةً بالإلقاءِ في رُوعِهِ، وتارةً باجتهادهِ، على قولِ من أثبَتَ جوازَ إثباته الأحكام باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فلما سَلِمَتِ العصمةُ، تساوى ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) وبه قال أصحاب أبي حنيفة، وبعض الشافعية. انظر"العدة" 5/ 1078 وما بعدها.

* فصل يحوز نسخ السنة بالقرآن

الإثباتُ، حتى جُعلَ منامُ عمرَ رضي الله عنْهُ وعبدِ الله بن زيدٍ في الأذانِ مُعوَّلاً (¬1) عليه (¬2)، وما سنَحَ لمعاذٍ من تأخيرِ قضاء (¬3) ما فاتَهُ مع الإمامِ، صارَ سنةً، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سَنَّ لكم معاذٌ، فاتبعوا سنته" (¬4)، فإذا كانَ التعويلُ على العصمةِ في الطرق، سقطت مراتبُ الألفاظِ واللافظين، وصارت الثقة (¬5) والطمأنينةُ إلى الطريقِ هي (¬6) المعولَ عليها في الإثباتِ والرفعِ، وطريقُ التواترِ طريقٌ مقطوعٌ، فلا وجه لانحطاطِه عن رتبة التلاوةِ في بابِ نسخِ حكمِ التلاوةِ. فصل يجوز نسخ السنة بالقرآن وبه قال المتكلمون، واختاره أبو بكر الباقلاني (¬7)، وأصحابُ أبي حنيفة (¬8)، خلافاً لأحد قولي الشافعيِّ (¬9): لا يجوزُ نسخُ السنةِ بالقرآنِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "معمولاً". (¬2) رواه أبو داود (499)، والترمذي (189)، وابن ماجه (706)، وأحمد 4/ 43، وابن حبان (1679)، وابن خزيمة (371)، وصححه، وقال الترمذي: حسن صحيح. (¬3) طمست في الأصل. (¬4) أخرجه أحمد 5/ 246، وعبد الرزاق في "المصنف" (3175)، وأبو داود (506) والبيهقي في "السنن" 2/ 296، من حديث معاذ رضىِ الله عنه. (¬5) في الأصل: "المشقة". (¬6) في الأصل: "هو". (¬7) "المستصفى" 1/ 124، و"المحلي على جمع الجوامع " 2/ 80. (¬8) "تيسير التحرير" 3/ 202، و"فواتح الرحموت" 2/ 78. (¬9) وهو المشهور من قول الإمام الشافعي. انظر "الرسالة" (57)، =

* فصل في الأدلة على جوازه

فصلٌ في الأدلةِ على جوازهِ فمنها: أنَّ ذلك قد وُجدَ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحَ أهلَ مكةَ يومَ صدُّوهُ عامَ الحديبيةِ عن البيتِ؛ على أنَّ مَنْ جاءَهُ مسلماً ردَّهُ، وردَّ أبا جندلٍ وجماعةً من الرجال، وجاءَت امرأةٌ، فأنزلَ الله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (¬1) [الممتحنة: 10] وهذا (2 [ممّا ورد في السنة ولم يعلم] 2) إلا من جهتِهِ، فنسِخَ بقرآنٍ، وهو منعُه مِنْ رَدِّ المؤمنة إلى الكفار، (2 وكذلك كانت 2) الصلوات تؤخرُ حالَ الحربِ، فنسخها الله تعالى بقولِهِ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. ومن طريقِ الاستدلالِ بالاستنباطِ: أنَّ السنةَ: ما ثبتَ من حكمِ الله سبحانه بقوله - صلى الله عليه وسلم - وإخبارِه، ومعلوم أنَّهُ لو قالَ شيئاً، فتضمَّنَ قولُه حكماً، ثم عادَ، فقال ما ينسخُهُ في وقتٍ آخر، حَكمنا بنسخِ الأول بقوله الثاني؛ لأنَّهُ وحيُ الله سبحانه، فإذا جاء وحيُ (¬3) الله سبحانه بنسخِ ذلك الحكمِ، كانَ وحياً على صفةٍ تعطي الزيادة في القوة بالإعجاز، ولا وجهَ لتجويزِ نسخِ ما أُوحيَ إليه بشرعهِ، بقوله (¬4)، مع ¬

_ = و"المعتمد" 1/ 423، و"الإحكام" للآمدي 3/ 150 و"الإبهاج" 2/ 270، و"المستصفى" 1/ 134، و"التبصرة" (264). (¬1) رواه البخاري (2732) ضمن حديث طويل في صلح الحديبية عن المِسْور بن مَخْرمَةَ ومروان بن الحكم. (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) طمس في الأصل. (¬4) زاد في الأصل هنا: "بما أوحي إليه فشرعه بقوله"، ونظنها تكراراً لما سبق.

المنع، مع نسخِ (¬1) ما قال عن وحيٍ بما قاله الله سبحانه من الوحي. وفيما قدَّمنا من الأدلةِ على تجويزِ نسخ القرآنِ بالسنةِ تنبيهٌ على تجويز نسخِ السُّنةِ بالقرآنِ؛ لأنَّ نسخَ الآكدِ بالأضعفِ يُعطي تجويزَ الأضعفِ بالآكدِ والأقوى. وتحقيقُ القولِ في ذلك: أنّا قد علمنا أنَّ الحكمَ المندرج في السنة، حكمٌ شَرَعَهُ اللهُ بوحيه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعلمنا أنَّ ما نزلَ من كلامهِ سبحانه متضمناً (¬2) حكماً، هو وحيٌ من الله، فإذا جازَ أن يرفعَ حكمَهُ وحيُهُ بقولِ رسولِه المخبرِ عن وحيِه، لم يحسنْ أن نقولَ: لا يجوزُ أنْ يُنْسخَ حُكْمُ الله الأولُ بوحيهِ الثاني بكلامِهِ، مع كونِ الوحيين متساويين، وأحدُهما زادَ فيه كونه وحياً بكلام الله، (3 فكانَ وحيُ الله بكلامه أقوى وآكدَ من 3) وحي اللهِ بغيرِ كلامِه (¬4) ومنعُ (¬5) نسخِ (¬6) وحيه بغيرِ كلامِ الله بوحيهِ، بكلامِه، يَجْعلُ (¬7) كونَه وحياً أو كلاماً له مقصراً عن الوحي (¬8) الذي ليسَ بكلامِهِ، ولا وجهَ لذلكَ. يوضّحُ هذه الطريقةَ: أنَّ كلامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، المرويَّ قد اختُلِف في ¬

_ (¬1) في الأصل: "فنسخ". (¬2) في الأصل: "متضمن". (3 - 3) طمس فى الأصل. (¬4) زاد هنا في الأصل: "بوحي ... بغير كلامه"، ونظنه إعادة لما سبق. (¬5) في الأصل: "ومع". (¬6) طمس في الأصل. (¬7) في الأصل: "فنجعل". (¬8) في الأصل: "كون الوحي".

* فصل في شبههم

جوازِ نقله بالمعنى، وقد يدخلُ الروايةَ بالمعنى نوعُ اختلالٍ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نَضَّرَ الله امرأً سمعَ مقالتي، فوعاها، فأدَّاها كما سمعها، فربَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيهٍ، وحاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منه" (¬1)، والقراَنُ محفوظُ الألفاظِ، فالحكمُ فيه أشدُّ حفظاً، فإذا جازَ نسخُ السنة بالسنةِ، مع تجويزِ نقلها بالمعنى الذي يجوز عليه الاختلالُ بتغييرِ اللفظِ، فلأن يجوزَ نسخُ السنةِ بالقرآنِ المحروسِ، المحفوظِ المعاني بحفظ ألفاظِهِ، أَوْلى، والله أعلم. فصلٌ في شُبَهِهِمْ فمنها: أنَّ السنةَ مبينةٌ للقرآن، وما وُضعَ للبيانِ لشيءٍ، لا يُنْسَخُ بذلك الشيءِ، والدلالةُ على ذلك: قولُهُ تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ومنها: أنَّ السنةَ ليست من جنس القرآنِ، والشيءُ لا يُنْسَخُ بغيرِ جنسِهِ؛ بدليلِ [أَن] القرآنَ لا تنسخُهُ السنةُ، وربَّما قالوا: لمَّا لم يَجُزْ نسخُ القرانِ بالسنةِ، لم يَجُزْ نسخُ السنةِ بالقرآنِ. ومنها: أنَّ السُّنةَ مَا عُرِفَتْ إلاَّ بالقرآنِ، فلو بَيَّنَها القرآنُ، صارت أصلاً، ولا يجوزُ أنْ يصيرَ الفرعُ أصلاً. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 7.

* فصل في الأجوبة

فصل في الأجوبة أما الأولُ: فإنَّ البيانَ هو التبليغُ، وكونُهُ مبلغاً لا يمنعُ أنْ يردَ (1 بلاغه بوحي من الله ونطقٍ ليس من 1) القرآن، وتارةً يرد بنطقِ القرآن (1 الذي أوحي إليه، فكلاهما وَحْيُ الله 1)، فوحيُ الله إذا بينه بوحيهِ، لا فرقَ بينَ كونهِ كلامَ الله، أو إلهامَ اللهِ، فكلاهما (¬2) من عندِهِ، ولهَذا جازَ تخصيصُ السنةِ بالقراَنِ، وهيَ أحدُ البيانينِ. وأمّا قولُهم: لشىَ منْ جِنْس السنةِ، فلا عبرةَ بالجنس بعدَ تساوي الجهةِ التي صدرَ عنها الأمرانِ: الناسخُ والمنسوخُ، والَمبيَّنُ والبيانُ، فكلاهُما (¬3) وحيُ الله، إذ لا ينطقُ إلاَّ عَنْ وحي، ولوْ نَطَقَ باجتهادِهِ، لم يَمْتَنعْ أنْ يردَ نطقُ القرآنِ رافعاً [و] ناسخاً لما حكمَ بِهِ باجتهادِهِ. فعلى كلا الأمرينِ: لا يمتنعُ نسخُ الجِنْسِ بغيرِ الجنسِ، وهما يجريانِ مجرى الجنسِ الواحدِ، لكونِهما من عندِ الله، وإلهامَه وحكمَه المشروعَ بأمرِهِ ووحيهِ، ولهذا جازَ بيانُ كلِّ واحدٍ منهما بالآخرِ في بابِ التخصيصِ. وأمَّا الأصلُ الذي قاسُوا عليه، وهو نسخُ القرآنِ بالسنةِ، فإنَّا لا نسلِّمُهُ؛ على ما اخترْنَاهُ من نسخِ القرآنِ بالمتواترِ من السنةِ، ومَن سلَّمَهُ لم يُعَلِّلْ بأنَّهُ ليسَ من جنسِهِ، ألاَ تَرَى أنَّ الآحادَ من السُّنَنِ مِنْ ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "كلاهما". (¬3) في الأصل: "وكلاهما".

* فصل يجوز نسخ الحكم قبل وقت فعله

جنْس المتواترِ منها، ولا (¬1) ينسخُ آحادُها متواتِرَها، لكن عَلَّلوُا بأنَّ الَقرآنَ أعلى وآكدُ، وأنَّهُ ذو إعجازٍ، ولَهُ حرمة في التلاوةِ؛ في اعتبارِ الغسلِ من الجنابةِ لها، ورفع الحَدَثَيْنِ جميعاً لمسِّ المسطورِ من كتابِ الله، بخلافِ السنة. وأمّا قولُهم: تصيرُ أصلاً. فلا تصيرُ أصْلاً، كما لا تصيرُ أصلاً بتخصيصِ القرآنِ لها، ولهذا (2 .......... 2) لا تصير أصلاً ببيانِها بالتخصيصِ للقرآنِ (¬3). فصلٌ في جوازِ نسخ [الحكم] قبلَ وقتِ فعلهِ لا يختلفُ الناسُ في جوازِ نسخِهِ قبلَ فِعْلِهِ؛ لأنَّ المكلف لو تَرَكَهُ توانياً حتى فاتَ وقتُهُ، لم يَمتَنعْ نسخُهُ. واختلفوا في جوازِ نسخِهِ قبلَ وقتِ فعلِهِ: فالمذهبُ عندَنا: جوازُ نسخِهِ، هذا ظاهرُ كلامِ صاحِبنا أحمدَ (¬4) رضيَ الله عنه، وإليه ذهبَ ابنُ حامدٍ، واختارهُ شيخُنا الإمامُ ابنُ الفَراءِ (¬5) رحمة الله عليه، وبهذا قال أكثرُ أصحابِ الشافعي (¬6)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "فلا". (2 - 2) طمس فىِ الأصل بمقدار خمس كلمات. (¬3) طمس في الأصل. (¬4) انظر "المسودة" (207)، و"روضة الناظر" مع "جنة المناظر" 1/ 203 وما بعدها. (¬5) "العدة" 3/ 809. (¬6) انظر "المنخول " للغزالي (297)، و"المستصفى" 1/ 112، و"الإحكام" =

* فصل في جمع أدلتنا

والأشاعرةُ (¬1). وذهبَ أبو الحسن التميميُّ: إلى نفي جوازر، وهو مذهبُ الصيرفيِّ من أصحابِ الشافعيِّ (¬2)، وأكثر المعتزلة (¬3). واختلف المجيزونَ لنسخِ الشيءِ قبلَ وقتِ فعلِهِ، هل يجوزُ على الوجهِ الذي أمرَ به، أم على خلافِ ذلكَ الوجهِ؟ على مذهبين. فصلٌ في جمعِ أدلتنا فمنها: إثباتُ وجودِ ذلكَ من جهةِ الله سبحانه، بدليلِ قوله تعالى لإبراهيم: اذبحْ ولدَكَ، ورُوِيَ: واحدكَ، ودلَّ عليه قولُه في القرآن: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] إلى قوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، والفِداءُ بالذبحِ نسخٌ لما كانَ شرعَهُ من الذبح قبل وقتِ الذبحٍ، فقد تضمنَتْ هذهِ الآيةُ تجويزَ ذلكَ على اللهِ سبحانه؛ إذ كان في شريعةٍ من شرائعِهِ، وفي شريعتنا، لأنَّ نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ للآمدي 3/ 115، "شرح اللمع" للشيرازي 2/ 193. (¬1) انظر "العدة" لأبي يعلى 2/ 808، و"البرهان " 2/ 1303، و"الإحكام" للآمدي 3/ 126. (¬2) انظر "المنخول" (297)، و"أصول السرخسي" 2/ 63، و"الإبهاج" 2/ 256، و"الإحكام" للآمدقي 3/ 115. (¬3) انظر "المعتمد" 1/ 407.

(1 قد أُمِرَ1) باتِّباعِ أبيه إبراهيمَ، والاقتداءِ به، وشرعُ منْ سَبَقَهُ شرعٌ له، ما لمْ يَثْبُتْ نسخُهُ على (1 ما قَدَّمنا 1). فصل في أسئلتهم على هذه الآية (1 الأول: أن ذلك كان مناماً، فلا يثبت به الأمر 1). والثاني: أنه قال بلفظ المستقبلِ، وليسَ فيه تصريحٌ بالأمرِ من الله، وقول إسحاق أو إسماعيل: افعلْ ما تؤمرُ، ولمْ تقُلْ: ما أُمِرْتَ، لكنْ علقَه على المستقبلِ، فدلَّ ذلكَ على أنَّه لم يكنْ تحققَ الأمرُ، وانما قالَ: افعلْ ما يتحققُ من الأمرِ لكَ في مستقبلِ أمرِكَ. ومنها: أنَّهُ كان أمرَ بمقدماتِ الذبح مِنْ أَخْذِ المُدْتةِ والحَبْلِ، واخراج ابنه إلى الصحراء، فاستشعر إبَراهيم أنه إنَّما يؤمرُ بذبحه، فكشفَ النسخُ أنه لم يك مأموراً إلا بالقدْرِ الذي أُمِرَ به من الأماراتِ، دون حقيقة الذبح، وليسَ هذا نسخاً، لكنه بيانٌ (¬2)، والذي أُمِرَ به قد وَقَعَ منهُ، وهو إخراجُهُ على الوجهِ الذي أخرجَهُ، وتلُّهُ للجبين. ومنها: أنَهُ قد كانَ أُمِرَ بالذبحِ، وقد أوقعَهُ، لكن رويَ أنَّهُ كانَ كُلَّما قطعَ عِرْقاً، عادَ ملتحماً، فلا يكونُ ما جرى من الفداء نسخاً؛ لأنَّ نفسَ المأمورِ بهِ قد وقعَ، ويشهدُ لهذا التأويلِ قولُه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105]، فيعطي هذا: أنَّهُ صدَّقَها بالفعلِ وايقاعِه على الوجهِ المأمورِ به، إمَّا الذبحِ، أو أمارات الذبح، ولهذا ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "بياناً".

* فصل أما قولهم منام فإن منام الأنبياء فيما يتعلق بالأوامر والنواهي وحي معمول عليه

قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] فبالنَ (¬1) موقعُ الإحسانِ. ومنها: أن قالوا: لم يُرِدْ إلاَّ اختبارَهما، وابتلاءَ سرِّهِما وصبرِهما، فأمَّا نفسُ إيقاعِ الفعلِ، فلا، وإذا أراد ذلكَ، لم يكنْ ناسخاً لما شرعَهُ قبلَ وقتِ فِعْلِهِ (2 لتحقُّقِ الفعلِ 2) المشروعِ من الابتلاءِ في وقتِهِ، وكشفِ (2 اختبارهما عن حقيقة طاعتهما 2). (2 ومنها: أنه جُعِلَ على أَوْداجِه 2) صفيحةٌ من نحاس، تَمنع من الذبح بعد ذلك، فلم يتَحَقَّقْ أَمرُه به، لا نسْخاً، لكن منعاً (¬3). فصلٌ أمّا قولُهم: منام، فإن منامَ الأنبياءِ فيما يتعلقُ بالأوامرِ والنواهي وحيٌ مُعوَّلٌ (¬4) عليْهِ، وكانَ وحيُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - شهوراً بالمنامِ، فيأتي كفلقِ الصبحِ (¬5)، وقيلَ: إنَّه كانَ ذلكَ ستةَ أَشْهُرٍ؛ ولذلكَ رويَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل: "فاين". (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) جاء في الأصل بعد ذلك ما نصه: "والجواب له مضروب عليه في أصل النسخ"، ونظن أن هذه العبارة كانت في هامش الأصل المنقول عنه، فأثبتها ناسخ هذا الأصل في المتن ظناً منه أنها بعضه، والجواب عما أوردوه في الآية يأتي في الفصل التالي. (¬4) في الأصل: "معمول". (¬5) كما في حديث عائشة الطويل: أول ما بُدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .... أخرجه أحمد 6/ 153، والبخاري (3) و (4953) و (6982)، ومسلم (160).

قال: "الرؤيا الصالحةُ جزءٌ مِنْ ستةٍ وأربعينَ جزءاً من النبوة" (¬1) فكانت النبوةُ ثلاثاً وعشرينَ سنةً، والستةُ أشهرٍ التي كانَ يرى المنامَ (2 فيها جزء من ثلاثٍ وعشرينَ سنةً، فكانت الستةُ أشهرٍ جزءاً من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة 2) على ما رُوي، وهذا تأويل استفدْناهُ من رئيسِ الرُّؤساءِ (¬3) رحمه الله تعالى. وقد عَمِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برؤيا عبد الله بن زيدٍ وعمرَ بنِ الخطابِ في الأذانِ (¬4)، فكيفَ برؤيا الأنبياءِ عليهم السلامُ؟ فلا يقالُ: فهو (¬5) ليسَ بحقيقةٍ، لأنَّهُ ليسَ بخيالٍ، وإنَّما هوَ إلقاء من الملكِ، وإيحاء منَ الله سبحانَهُ إلى قلوبهم، ولهذا رُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "ما احتلمَ نبيّ قط" (¬6)، يعني: أنّه لم يَتَشَكَّلْ له الشيطانُ في المنامِ على الوجهِ الذي يتشكلُ لأهلِ الاحتلامِ، ولأنَّهُ لو كانَ خيالاً لا وحياً، لما ساغ لإبراهيم التصميمُ على الفعلِ لأجلِهِ. وأمَّا قولُهم: ليس بلفظِ الماضي، ولا الحالِ، ولكنْ بلفظِ المستقبل، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6983)، ومسلم (2264). (2 - 2) في الأصل: "ستة أشهر، فكان بالستة"، وعبارة الأصل كما ترى غير مستقيمة، وفيها اضطراب شديد، لذا آثرت إصلاحها كما هو مثبت. (¬3) هو أبو القاسم علي بن الحسن ابن الشيخ أبي الفرج بن المسلمة، الملقب برئيس الرؤساء، وَزَر للقائم بأمر الله. حدث عنه الخطيب البغدادي. توفي سنة 450 هـ. "سير أعلام النبلاء" 18/ 216. (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة (298). (¬5) في الأصل: "فمن". (¬6) أخرجه الطبراني في "الكبير" (11564)، وابن عدي 3/ 93، ومدار الرواية على عبد العزيز بن أبي ثابت، وهو ضعيف، ووقع في "مجمع الزوائد" 1/ 267: عبد الكريم بن أبي ثابت، وهو خطأ.

فإنَّ شاهِدَ الحال دل على أنها رؤيا سابقةٌ، (1 فإنه لو 1) كانَ للمستقبلِ، لما شَرَعَ في حملِ الولدِ، وسوقِهِ، واستصحاب (1 المُدْيةِ والحبلِ، وصرعِه 1)، ويجوزُ أنْ يكونَ قالَهُ بلفظِ المستقبلِ، لتتابع ذلكَ وتكرارِه (2 ........ 2) دوامُ الرخصِ، (2 وكذلك قول إبليس للمَشركين: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، يعني: رأيتُ ما لمْ تَرَوْا منَ الملائكةِ الذينَ أرسلَهُمْ الله سبحانه يومَ بدر لنبيه والمؤمنين، ولمْ يرد بهِ المستقبل، وإنْ كانَ بلفظِ المستقبلِ. وأمَّا قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [فهو] دلالةٌ على أنَّ إبراهيمَ كانَ مأموراً، وقولهُ: {مَا تُؤْمَرُ}، يعني: ما أُمرتَ، وما تؤمرُ حالاً بعدَ حال، ووقتاً بعدَ وقتٍ، أوْ يكونُ افْعَلْ ما تؤمرُ في ثاني الحال من الذبحِ، أو غيرِهِ ممَّا يكونُ قبلَهُ من تعذيبٍ وإيلامٍ. وأمَّا قولهم: إنَّهُ أمرَهُ بمقدماتِ الذبحِ، فلا يصح لوجوهٍ: أحدُها: أنَّ ذلكَ ليسَ بالحقيقةِ، لأنَّ حقيقةَ الذَّبحِ الشقُّ، قال شاعرُهم (¬3): كأنَّ بينَ فكِّها والفكِّ ... فأرةَ مسكٍ ذُبحت في سُكِّ يعني: شُقَّتْ. الثاني: أنَّ قرائنَ القول ودلائلَ الحال، تعطي أنَّهُ نفسُ الذبحِ لا ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) هو منظور بن مرثد الأسدي، من رجز له. انظر "اللسان" (ذبح)، وانظر "التفقه في اللغة" لابن أبي اليمان (613).

مقدماتهُ؛ لأنَّهُ قالَ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فهذا لا يقالُ إلاَّ على بلاءٍ صعب مُؤْلمِ، ثمَّ إِنَّ الله سبحانه يشهدُ لحالِهِ بأنّه بلاءٌ مبينٌ، بقولِهِ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]. ثُمَّ إِنه قالَ: {وفَدَيْناهُ}، ولو كانَ المأمورُ بهِ هوَ المقدماتِ، وقد حصلت، لما كان الذِّبْحُ فداءً؛ لأن الفداءَ ما قامَ مقامَ الشيءِ، فلمَّا سمى ذبحَ الذِّبْح فداءً، عُلِمَ أنَّه كانَ المأمورُ بهِ عينَ الذبح، ثُمَّ أبدلَه الله سبحانه بإيقاَعِهِ في ذلكَ الحيوان، وسمَّاه فداءً؛ كما يَسمَّى المالُ المأخوذُ عن الأسرى فداءً، قال سبحانَهُ: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]. فإنْ قيلَ: وكيفَ لا (1 يكون أمرأَ بأمارات ومقدمات الذبح من أخذ 1) المدية والحبل (1 وتَلِّهِ للجبين، وأنه أُبهمَ 1) عليه عاقبة ذلكَ، فيعطي شاهد هذه الحال: أنَّ المتعقبَ لذلكَ لا يكونُ في ظاهرِ الحالِ إلا إيقاعاً للذَّبح في ولده، ويَحْسُنُ أَنْ يُسَمَّى مثلُ هذا بلاءً، ويظنهُ إبراهيمُ ذبْخاً، لأمرِهِ بمقدماتِ الذبحِ. قيل: فعندكم لا يجوزُ تعريضُ المكلَّفِ للجهلِ، والأمرُ بالأماراتِ والمقدماتِ، قدْ (¬2) أَوْهَمَتْه أنَّها أمْرٌ بالذبح، وهذا خلافُ ما أَصَّلْتُموه من المنعِ منْ تعريضِ المكلفِ للجهل. على أنَّ أهلَ النقلِ قد أجمعُوا على أنَّ إبراهيمَ كانَ مأموراً بذبح ولدِهِ، فلا وجهَ لخلافِهم (¬3)، ولأنَّ فيما ذكرنا من ذِكْرِ الفداءِ دلالةً علىَ ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "فقد". (¬3) في الأصل: "لخلافيهم".

على أنَّ المأمورَ بهِ حقيقةُ الذبح لا مقدماتُهُ، وتأكُّدُه بقولِهِ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} لا يكونُ إلاَّ في الحَقيقةِ؛ لأنَّ المجازَ لا يُؤَكَّدُ؛ لأنَّ الأمرَ بالمقَدمات بلاءٌ مُوهَم ومُخيَّلٌ فأَمَّا مبين، فلا يكونُ إلا قدْ أُمِرَ بحقيقةِ الذبحِ. وأمَّا قولُهم: إنَهُ ذبحَ والتحم، فهذا لو كانَ، لما أغفلَ البارىء ذكرَهُ وقد (¬1) ذكرَ المقدماتِ، وهذا من أعظمِ الآياتِ، وأبهرِ الإعجازِ، فكيفَ يتركُ ذكرهُ، ويذكر تلَّهُ للجبينِ؟ ثمَّ إِنَّهُ مع كونه من أبهرِ الآياتِ في فعلِ الله، فهو من أعظم البلاوي، وأبلغِ الطاعاتِ؛ حيثُ قطعَ أوْدَاجَ ولدِهِ وواحِدِهِ، ألا تَرَى أنًّ في إلقائه في النارِ، ذكرَ سبحانه أقصى ما فَعَلَهُ، فقالَ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، وذكر في قصة يوسف ما نالَهُ من إخوتِهِ؛ (2 من إلقاءٍ له في الجُبِّ 2)، والبيع له بالبخسِ، ومجيءٍ [على] قميصِهِ بالدمِ، وما لحقَهُ من انهمام امرأة العزيز (2 به، ومراودته عن نفسه، فذكر أن صبره على ذلك من 2) فضائل الصابرينَ من الأنبياء (2 فكيف يذكر ابتلاءَهُ بأشد 2) محنةٍ؛ لأنَّهُ لا تكليفَ أشقُّ ولا أوجعُ من أمرِ أبٍ بذبح ولدهِ وواحدة، ثُمَّ إِنه يقعُ منه ذلكَ طاعةً لله، وتسليماً لأمرِهِ، وصبراً عَلى بلائِهِ، ويتفقُ في ذلكَ الذابحُ والمذبوحُ، ثُمَّ يذكرُ مقدماتِ البلاءِ، ويسكتُ عن حقيقةِ البلاءِ، وفيهِ غايةُ التبجيلِ للمُبْتلَى، وإغلاق العروقِ وهي غايةُ الإعجازِ، وبيانِ القدرةِ في حقِّ المُبْتلِي (¬3) جَلَّتْ عظمتُهُ، هذا بعيدٌ جداً. ثُمَّ إنَّ الذي يبطل هذه الدعوى، قولُه تعالى: {وفدَيْناهُ بذِبْح} ¬

_ (¬1) في الأصل: "و". (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) في الأصل: "المبلي".

[الصافات: 107]، ومعلومٌ أنَّ الفداءَ ما كانَ قائماً مقامَ المفدى فإذا كانَ الذبحُ قد وقَعَ، والحلقُ انقطع حقِّ إسحاق والكبشِ، فهما جميعاً مذبوحانِ، فلِمَ كانَ الكبشُ فداءً؟!. وأمَّا قولُهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105]، فإن التصديقَ إنما عادَ إلى أفعالِ القلْبِ من الاعتقادِ وتصميم العزمِ، وتحصيلِ أدواتِ الفعلِ، وتلِّ ولدِه للجبينِ، وإمرارِ المُدْيةِ علىَ الحلقِ، وليسَ إليه في التصديقِ سوى هذا، فسمَّاهُ مصدقاً، لإثباتِهِ لكلِّ (¬1) فعلٍ ظاهرٍ دل على تصديقهِ، ولما اطَّلَعَ الله سبحانه عليه؛ من باطنِ قصده وعزمه وعقده، ولهذا قال سبحانه فيِ الضحايا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37]، فأسقط حكمَ الذبح، وتفريقِ اللحم، وذكرَ أنَّهُ لا يقبلُ إلا خلوصَ القصدِ، وسلامتَه من الرِّياء، وقولُه تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] المرادُ بِهِ: الاعتقاد (2 والإخلاص لله عز وجل 2) وأَمَّا قولهم: (2 أرادَ ابتلاءَ2) صبرهِم (2 واختبارَ سِرِّهم. لا يليق بجلال الله 2) سبحانه، لأنه العالم بأحوال خلقِه، ومقاصدِهم، وسرائرِهم، ومقاديرِ صبرِهم، وإنما يفعلُ فعلَ المختبرِ، فيقعُ عليه الاسمُ مجازاً، كالغضبِ والآسفِ، وكلُّ ذلكَ لصَدْرِ أفعال الغضبانِ والأَسِفِ، لا أنَّ حقيقةَ الغضبِ -وهو غليانُ دمِ القلبِ طلباً للانتقامِ- مما يصحُّ عليهِ، ولو كانَ الامتحانُ حقيقةً في حقِّه، والغضبُ حقيقةً في حقه، والرَّحْمةُ (¬3) حقيقةً في حقِّهِ، لكانت الحدودُ لهذه الحقائقِ منطبقةْ عليه سبحانَهُ، كانطاقِ حَدِّ العلمِ والقدرةِ والحياةِ والإرادةِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بكل". (2 - 2) طمس من الأصل. (¬3) في الأصل: "الرحم".

فالعلمُ في حقِّهِ وحقِّنا: معرفةُ المعلوم على ما هو به، والقدرةُ: صحةُ الفعل، والإرادةُ والمشيئة: صَدْر الأفَعالِ عن قصدهِ إليها، فلما كانَ الغضبُ هو انفعالٌ يدخلُ على النفس، وانشطاطٌ يهجمُ على الطبعِ، فيغلي لَهُ دمُ القلب، والاختبارُ واَلابتلاءُ: تسليطُ ما يُظهِرُ خوافيَ المُبْتَلَى، وكوامنَ أَسرارِهِ؛ بما يسلطُهُ عليهِ المُبْتلِي، كما يُمتحنُ الذهبُ على النارِ، عُلِمَ أنَّهُ ليسَ بصفةٍ لله، وإنَّما هو (¬1) أمرٌ يعود إلى فعله دونَ وصفِهِ؛ إذِ الحقائق لا تختلف شاهداً وغائباً، فلمَّا لم ينطبق الحدُّ عليه سبحانه، بطلَ دعوى الامتحان حقيقةً عليه، وهي أنه فعلٌ يصدرُ عنهُ يضاهي فعل الممتحنِ. وأمَّا قولُهم: إنه جعَلَ على أوداجهِ صفيحةَ (¬2) حديدٍ أو نحاس تمنعُ من الذبح بعدَ (3 اضجاعِه للذَبح 3)، فغير مستقيمٍ على أصولهم؛ لأنَّهُ لا يأمر بمَا لا يطاقُ، وهذا (3 مما لا يطاق وعندهم لا يحال بين المأمور 3) وبين المأمور به (3 بل لا بد من الإقدار 3) عليه، ولهذا منعُوا من إماته المأمورِ قبل وقت مجيء الفعلِ (3 ومن تعجيزه 3)، ومن إِمراضهِ، وكلِّ مانع يحيلُ بينهُ وبين الفعلِ، ويكونُ عندهُم ذلك إغراءً بالمعاصي إنْ أعلمهُ، وتعريضاً بالجهلِ إنْ لَم يعلمهُ. وأيضاً فماصحَّتْ بهِ الراويةُ من نسخِ ما فرضهُ الله على نبيهِ - صلى الله عليه وسلم - من خمسين صلاةً، ثم استنقصهُ، فنَقَصَهُ إلى خمس صلواتٍ قبلَ وقتِ الفعلِ لها، وكانَ ذلك منهُ لُطفاً وتسهيلاً، وحُكَمُه في السماءِ حكمُهِ في الأرضِ، وما جاَز أنْ يَشرعهُ في السماءِ، جازَ أنْ يأمرَ بهِ في الأرضِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "هي" (¬2) في الأصل "صفحة". (3 - 3) طمس في الأصل.

* فصل في أدلة الاستنباط

وقد قال قوم: لا يثبتُ الحكمُ في حقِّنا، ولا النسخُ ما لم يُنزَّل، وهذا إنما يكون، إذا كانَ مع جبريلَ عليه السلام قبل أنْ يتلقاه مأموراً بهِ، فأمَّا معَ تلقي نبينا - صلى الله عليه وسلم - للأمرِ، فإنهُ واصل إلى المكلفِ به (¬1)، فخطابهُ خطاب لَنا، وخطابنا خطاب لهُ، ودلائلُ الحال وقرينةُ الخطابِ دَلَّتْ على أنَّهُ كانَ إلزاماً لَنا أيضاً؛ لأنهُ روي أنَّ موسى عليه السلام كانَ يقول لهُ: "إنَّ أُمتكَ ضعفاءُ لا يطيقون، فاستنقص الله، ينقِصْكَ" (¬2)، وهذا يشهد بأنَّ ذلكَ تكليس وصلَ إلى المكلف، فلا يكون حكمه حكمَ النسخِ على يد جبريل؛ لأنَّ جبريلَ رسول غيرُ مكلف، ولا داخلٌ تحت الخطاب. وهذه الطريقة مبنية على الإسراء، وهو ثابت عندنا يقظةً لا مناماً، وجميعُ ما صَحَّتْ به (3 المسألة هناك تصح به المسألة هنا 3)، فالحُجَّةُ هناك أَوضحُ وأظهر من الحُجَّةِ في هذه المسألةِ. فصل في أدلة الاستنباطِ فمن ذلك: أمره بالفعل المطلق المقتضي بظاهره تكررَهُ بتكررِ (¬4) الأزمانِ، فما من زمانٍ مستقبلٍ إلا وهو مُسْتَوْعَبٌ مَشْمُولٌ بالأمرِ بالفعلِ المأمورِ به فيه، فلم يُمْنَعْ قطعُ ذلكَ الأمرِ عن أوقاتٍ مستقبلةٍ بنسخِ الأفعال المستقبلة، فكذلك نسخه للأمرِ الواحدِ عن إيقاعه ¬

_ (¬1) في الأصل: "له". (¬2) تقدم تخريج حديث الإسراء في الصفحة 186. (3 - 3) طمس في الأصل. (¬4) في الأصل: "تكرر".

قبلَ (¬1) الوقتِ الواحدِ، ولا فصلَ، لأنَّ غايةَ ما يقولون في ذلك: أنه لا يفضي إلى اعتقادِ الجهل إذا كانَ أمراً مطلقاً، وقد وقع الامتثالُ، وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ المكلفَ اعتقدَ الدوامَ، وما كانَ، أو يقالُ: اعتقدَ دوامَهُ بشرطِ أنْ لاينسخ، فمثله هاهنا يَعْتَقِدُ إيقاعَ الفعل إنْ لم يُنْسَخْ. ومن ذلك: أنَّ التكليفَ لا يخلو أن يكونَ على سبيلِ الأصلح، كما قال بعضُ الأصوليين، أو على ما قالَ بعضهم: إنَه (¬2) على وجه اَلمشيئةِ المطلقةِ من غير اشتراطِ الأصلح؛ فإنْ كانَ على المذهبِ الأول، فلا بدعَ أن يكونَ الأصلحُ للمكلفِ اعتقادَ الوجوبِ، واعتناقَهُ، والعزمَ عليهِ، وتوطينَ النفسِ على إيقاعِهِ في الوقتِ الذي نيط به. وإنْ كانَ على وجه المشيئةِ، فلا حجرَ، فلا وجهَ للمنعِ، بل له أن يشاءَ الأمرَ دونَ المأمورِ (3 به، والأمرُ 3) لتحصيلِ الاعتقادِ والعزمِ دون الفعل، ولا يشرط لأمرهِ ضمُّ (3 شيءٍ إلى أشياء3)، وتعلق شيء بشيء ويبينُ بالنسخِ أنَّ المرادَ مِنه ما أتى به التكليف (3 ولو أن ما أراده 3) كانَ ما شرعَ فيه من مقدمات الذبحِ، ولم يكنْ أرادَ عينَ الذبحِ لضرب (3 عن ذكر الأمر بالذبح 3). (3 فصل في النسخ بالقياس لا يجوز النسخ بالقياس لأن القياس ليس بخطاب 3) على ما قدمنا (¬4) ¬

_ (¬1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "وأنه". (3 - 3) طمس في الأصل. (¬4) في 1/ 433 وما بعدها، وانظر "العدة" 3/ 827، و"المسودة" (225)، و"التبصرة" (274)، و"المستصفى" 1/ 126، و"فواتح الرحموت" 2/ 84،=

* فصل في أدلتنا

وإنما القياس (1 أن ينص على1) إباحة التفاضلِ بين الأَرز بالأرزِ؛ فإنه لا يُنْسَخُ بالمُستنبَطِ (1 من نَهيِه 1) عن بيع الأجناس، أو نهيه عن بيعِ الطعامِ بالطعامِ متفاضلاً، وما شابه ذلك، خلَافاً لبعضِ أصحاب الشافعيِّ: يجوزُ النسخُ بالقياس، وقال أبو القاسم الأنماطيُّ (¬2) منهمْ: يَجُوزُ بالقياس الجليِّ. فصلٌ في أدلتنا فمنها: أنَّ القياسَ يستنبطُ من أصلٍ هو السنة، فلا يجوز أن يعودَ الفرعُ المستنبطُ على أصلهِ بالإسقاطِ. ومنها: أنَّه قياس، فلا ينسخُ به، كالخفيِّ. ومنها: أنَّ النص يُسقِطُ القياس إذا عارضَهُ، وما أسقط غيرَهُ، لم يجز نسخُهُ (3 به؛ كنصِّ 3) القرآنِ لَمَّا أسقط نصَّ السنةِ، لم يجزْ نسخُه بها. ¬

_ = و"أصول السرخسي" 2/ 66. (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) هو أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي، أخذ عن المزني والربيع، وحدث عنهم، تفقه عليه: أبو العباس بن سريج، وأبو سعيد الإصطخري، واشتهرت به كتب الشافعي ببغداد، توفي سنة (288) هـ. انظر "طبقات الشافعية" 2/ 301، و"تاريخ بغداد" 11/ 292، و"شذرات الذهب" 2/ 198. وانظر رأيه هذا في "شرح اللمع" 2/ 229، و"التبصرة" (274). (3 - 3) طمس في الأصل.

* فصل في شبهة المخالف

فصل في شبهة المخالف لما جاز التخصيصُ لعمومِ القرآنِ، وصرفُ ظاهرِ القرآن به، جازَ أن يقضي على بيان مدةِ حكمِ النَصِّ، إذ ليس النسخُ بأكثرَ من بيانِ نهايةِ مدةِ حكمِ النصِّ الثابت بالقرآن، وكما جاز أن يقضي على عموم الأعيانِ التي يستغرقها عمومُ القرآن؛ بالبيانِ عن أنَّ المرادَ (1 منها بعضها1)، جاز أن يقضي على عموم الأزمانِ في حكمِ النصِّ، فيبين أنَّ المرادَ به بعضُ ما اقتضاه الإطلاق من الزمان. فيقال: ليس النسخُ من التخصيص في شيءٍ، ولهذا نخصُّ عمومَ القرآنِ بدليلِ العقلِ، [و] بالإجماعِ، والقياس الخفي، ولا يُنْسَخُ نَصُّ القرآنِ بذلك. شبهةُ الأنماطيِّ على (1 مذهبه: أنَّ 1) التنبيه يجري مجرى النص، ولهذا ينقضُ به حكم الحاكم، (1 فإذا جازَ النسخُ 1) بالنصِّ، جاز به. ونحنُ موافقون له في هذا (1 القياس؛ لأن النصَّ لا يُسقط النص إذا عارضه، فجاز النسخ به، وليس كذلك القَياس، فإنه يُسقط القياس إذا عارضه فلم يَجُز نسخه به، بخلاف الأصل 1) المستنبط منه، ومهما (1 كان القياس، لا يُنْسَخُ به1) وإنما يَنسخُ الأصلُ الذي يستنبطُ منه، فيسقط حكمه، مثل أن ينصَّ على تحريمِ التفاضلِ في المطعوماتِ السِّتَّة، فيقاس عليها الأرز، فإذا نُسِخَ تحريم التفاضلِ في المطعوم، سقط قياس الأرز؛ لسقوطِ أصله. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل.

* فصل لا يجوز نسخ الإجماع ولا النسخ به

فصل ولا يجوز نسخُ الإجماع، ولا النسخُ به، وما عَرَفْتُ مخالفاً، فأَحكِيَ قولَه. والدلالةُ على ذلك: أنَّ النسخَ إنَّما هو إِمَّا رفعُ الحكمِ بعد ثبوتِهِ، أو بيانُ مدة الحكمِ، وانتهاء غايتها، وذلكَ لا يكونُ إلا لمن نزل عليه وحيٌ يطلعهُ على انتهاءِ مدةِ الأصلح، أو مدةِ الإرادةِ، وهو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والإجماعُ لا يثبت حكمُهُ في عصَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ إذْ لا حكمَ للاتفاق ولا الاختلافِ مع وجوده - صلى الله عليه وسلم -، ولا وجودَ لنزولِ الوحي (¬1) في عصرِ الإجماع، وإذا لم يجتمعا، لم يكن أحدهما ناسخاً للآخر ولا (1) منسوخاً به. فإنْ قيلَ: أليسَ إذا وَرَدَ عمومٌ، خَصَّصْتمُوهُ بالإجماعِ، إذا لم يكن لحملهِ على عمومِهِ وجهٌ عندَ جماعةِ المجتهدين؟ وكذلك خبرُ واحدٍ لا وجهَ له عندهم، يُتْرَكُ بإجماعهم، وليسَ النسخُ إلا التركَ، أو هو والتركُ سواءٌ. قيل: ليسَ التركُ بالإجماعِ نسخاً للنص بالإجماعِ، وحصولِ اجتهادِ الكلِّ الذي شهدَ الشرعُ له (2 بالعصمة من 2) الضلالة، والسلامةِ من الخطأ، وأنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، (2 وأنه لا بدَّ في زَمَن 2) الفَتْرة مِنْ بعثَة نبي يتجدد، وأنَّ هذه الأمة لا نبي بعدَ نبيها - صلى الله عليه وسلم - إلى الخصَوص وكذا (2 ...... 2) تركه بهذا الدليل وأن (2 ...... 2) عَلِمْنا ¬

_ (¬1) طمست في الأصل. (2 - 2) طمس في الأصل.

أنَّه منسوخ بطريقٍ يصلحُ للنسخِ، وهو الوحيُ، لا أنَّنا نسخْناهُ، لكن بيَّنَّاه بالدليل المقطوع عليه. فإنْ قيلَ: أليسَ إذاكانتِ الصحابةُ على قولين، وأُجْمعَ علي أحدِهما، صارَ إجماعاً يُسْقطُ القولَ الآخرَ، وهذا صورة النسخِ للقولِ الآخر. قيل: لا نقولُ ذلك، ولا نرضى به مذهباً، بل الخلافُ على حالِهِ؛ وذلكَ لأنَّ اختلافَ الصحابةِ على قولين اختلاف صورة (1 ...... 1) إجماع معنى؛ لأنَّهم اتفقواعلى تسويغِ الاجتهادِ في ذلك الحكمِ، (1 فإذا أَجْمعَ 1) التابعون على أحدِهما، بقي القولُ الآخر مجمعاً على تسويغِهِ من (1 جهة أخرى1)، فلا يقوى إجماعُ التابعين على رفعِ إجماعِ الصحابة. على أنَّ التحقيق عندي: أنْ يقالَ: لا يجوزُ أن يجمعَ التابعونَ على نفي تسويغٍ سبق أَخذُ الصحابة به، كما لا يجوزُ بعثةُ نبيٍّ يُكذِّبُ مَقالَةَ نبيٍّ قبله، والإجماع في العصمة كالنبوةِ، فمتى طَرَقْنا تجويزَ إجماعٍ بعدَ إجماعٍ يخالفه انسدَّ علينا بابُ العلمِ بصحة الإجماع، وذلكَ محالٌ، وكلُّ (1 قولٍ يفضي إليه 1) محال، فلا ينبغي أن يقالَ: إنه إجماعٌ، ولا يعمل به. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل.

* فصل إذا قال الصحابي هذه الآية منسوخة

فصل (1 يُنسَخُ الشيءُ 1) بغيرِهِ، وإنْ أمْكَنَ اجتماعُه معه، كنسخ عاشوراء بصومِ رمضانَ، وإنْ كانَ الجمعُ بينَ الإيجابينِ -ممكناً، بلى لا يمتنعُ الجمعُ بين حُكْمينِ وبينَهُما تاريخٌ، إلا كانَ الثاني منهما ناسخاً للأولِ. (1 قال شيخُنا 1) رضيَ الله عنه في كتابِهِ (¬2): لا ينسخُ الشيءَ إلاّ بمعارض (1 فإذا ما ورد شرعان لا يتعارضان، فلا ينسخ أحدهما الآخر 1)، (1 وقول من يقول: إن صوم رمضان نسخ صوم عاشوراء، لايَصح لأنه لا تنافي بين صوم رمضان وصوم عاشوراء 1) أصلاً، فإذا قيل: (1 نُسِخ حكمُ كذا بكذا، كان 1) معناه: نُسِخَ إليه، أو أُبدِلَ به، وإلا فالنسخُ حقيقةً هو حكمُ الله بوَحْيه لبيانِ (¬3) مدة حكمِهِ الأولِ، وأَنَّ هذا وقتُ غايتِهِ وانقطاعِهِ؛ إما لمكاَنِ مصلحةٍ اقْتَضَتْ ذلكَ، أو مجرد مشيئةٍ. فصل قال إمامُنا أبو يعلى ابنُ الفراء رحمةُ الله عليه (¬4): وأذا قالَ الصحابيُّ رضي الله عنه: هذهِ الآيةُ منسوخةٌ، لم نَقْنَعْ بذلك، ولم (¬5) نَصِرْ الى قوله؛ حتى يُبَيِّنَ ناسخَها، وبماذا نُسِخَتْ؛ وقد أومأ إليه أحمدُ، وأنْ النسخَ راجع (5) إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعنه روايةٌ أخرى أيضاً: ¬

_ (1 - 1) طمسى في الأصل وأثبتناه من "العدة". (¬2) انظر "العدة" 3/ 835. (¬3) في الأصل: "بيان". (¬4) انظر "العدة" 3/ 835. (¬5) طمست في الأصل.

* فصل العبادة إذا نسخ بعضها لا يكون نسخا للباقي

إلى قولِ الصحابي: (1 إن هذه 1) الآية منسوخة. وبالأُولى قالَ أصحابُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ (¬2). وجه الأُولى: أنَّ الصحابيَّ قد يجوزُ أنْ يعتقدَ التخصيصَ نسخاً، وما ليسَ بنَسْخٍ نسخاً، وهذا على قولِ مَنْ لا يُجوِّزُ نقلَ الأخبارِ بالمعنى، أبَلغُ في المنعِ، فهو خَبَرُ واحدٍ، وخبرُ الواحدِ لا يجوزُ به نسخُ القرانِ. ووجه الثانية (1 أن النسخَ لا يقعُ 1) بالمحتملِ، والصحابةُ أعلمُ بذلكَ، فثبتَ أنَّه لا يقولُ: إنه منسوخٌ، (1 إلآ وسَمِعَه 1) مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُمحتملٍ. فصل (1 في أن العبادة 1) نسخُ بعضِها لا يكونُ نسخاً للباقي. وبه قال الكرخيُّ، والبصريُّ، وأصحابُ الشافعيِّ، وعنْ بعضِهم: أنَّهُ نسخٌ للباقي (¬3). وقالَ بعضُ المتكلمين (¬4): (1 إن كان 1) ذلكَ نسخَ شرط (¬5) ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) انظر "العدة" 3/ 835، و"المسودة" (230)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 568، و"نهاية السول" 2/ 193، و"شرح تنقيح الفصول" (321). (¬3) انظر "المحصول" 3/ 557، "الإحكام" للآمدي 3/ 178، و"المسودة" (213). (¬4) ولعله يشير بهذا لمذهب القاضي عبد الجبار. انظر "المعتمد" 1/ 447، و"الإحكام" للآمدي 3/ 178. (¬5) في الأصل: "بشرط".

ينفصلُ عن الجملة، لم يكن ذلك نسخاً، وإنْ كانَ (1 نسخَ بعضِ الجملةِ 1)؛ متصلاً كالقبلةِ، والركوعِ، والسجود في الصلاة، كانَ (1 نسخاً للعبادةِ 1). والدلالة في هذهِ نحو الدلالةِ في الزيادةِ، وأن (1 .... 1) المزيد عليه على ما (1 ........ 1) ثم نسخ أحدهما، لم يكن نسخاً للثاني (1 ...... 1) بعض واجباتِ الشريعةِ، وقد صارَ كلٌّ واجباً بعد أن كان بعضه. وأيضاً: لو كانَ التنقيصُ نسخاً لما بقي بعد التنقيصِ، لكانَ المخصوصُ بعضهُ موجباً تخصيصَ ما بقيَ، فلمَّا كانَ الباقي على عمومِهِ فيما بقيَ متناولاً له، كذلكَ في بابِ النسخِ، ولا فرقَ بينهما. شبهة تضاهي شُبَهَهُم في الزيادةِ: وهي (¬2) أنَّ النقصانَ غَيَّرَالفريضةَ، فجعلَ ما كان بعْضاً (1 كلاًّ، فصار ما 1) لا يُجْزِىءُ، ولا يُبرِىءُ الذمةَ، يُجزِىءُ ويُبرِىءُ، وهذا حقيقةُ (1 النسخِ. والجواب 1) عليه: نحوُ ما قدَّمنا، وأنَّ الباقي ما تَغَيَّر عمَّا كانَ عليهِ. على أنَّهُ (1 يبطُلُ بنقصانِ1) عبادة مِنْ عباداتٍ، وبنَسْخِ شَرط منفصلٍ عَن العبادةِ، على قولِ من سَلَّمَه (1). ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) ليست في الأصل.

* فصل يجوز النسخ بأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فصلٌ يجوزُ النسخُ بأفعالِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذاً من قولِ أحمدَ بتخصيصِ العموماتِ بفعلهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقال (1 أبو الحسن التميمي 1): لا يجوزُ ذلكَ، وبناهُ على أنَّ أفعالَهُ لا تدلُّ على الوجوب (1 وعندي: لا يجوزُ ذلك 1) من غيرِ بناءٍ، لأنَّ أفعالَهُ وإنْ دَلَّتْ على الوجوبِ، فإنها تَدلُّ في الظاهر، والقولُ صريح، والفعلُ دليل وليسَ بصريح (¬2)، (1 والشيءُ إنما يُنسَخُ 1) بما هُوَ مثلُه، أو ما هو أعلى منه، فأمَّا [أن] ينسخَ بما دونَه، فلا، (1 والله أعلم 1) (¬3). ¬

_ (1 - 1 طمس في الأصل، وانظر "المسودة" 228 - 229. (¬2) في الأصل: "تصرح". (¬3) ورد هنا في الأصل ما نصه: اخر المجلد، والحمد لله وحده، يتلوه في الذي يليه: فصول الأخبار وما فيها من الخلاف، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم.

* فصول الأخبار وما فيها من الخلاف

فصول الأخبار وما فيها من الخلاف فصل الخبر صيغة، ولا نقول: للخبر صيغة؛ على ما قدمت في الأمر (¬1)، وأنَّ من قالَ: الكلامُ في النفس، حَسُنَ منه أن يقولَ: للخبر صيغة تعبِّر عنه، فأمَّا من قال: الكلامُ هو الصيغ، قال: الأمرُ صيغةَ مخصوصة، والخبرُ صيغةٌ مخصوصةٌ، وهو على ما قدمنا في الحدودِ والعقود في أول الكتاب. والصيغةُ بمجردها خبرٌ من غير قرينةٍ ولا دلالةٍ، وهي قولُ القائلِ: قامَ زيدٌ، وانطلقَ عمرٌ و، ويقومُ خالد، إلى أمثالِ ذلك. وقالت المعتزلةُ: لا صيغة له، وإنَّما يدلُّ اللفظُ عليه بقرينةٍ أو دلالةٍ. وقالت الأشاعرة: الخبرُ نوع من، الكلامِ، قائم في النفس، ويعبَّر ¬

_ (¬1) هذا ما اختاره المصنف مخالفاً فيه القاضي أبا يعلى، إذ قال: للخبر صيغة. "العدة" 3/ 840. ورجح ابن تيمية في "المسودة" (232) ما قاله القاضي، وأن الأجود أن يقال: للخبر صيغة، لا الخبرُ صيغة، ووجه ذلك: أن الأمرَ والخبرَ والعموم هو اللفظ والمعنى جميعاً، وليس هو اللفظ فقط، فتقديره: لهذا الخبرِ مُركَّبٌ يدلُ بنفسه على الخبرِ، بخلاف ما إذا قيل: الأمرُ هو الصيغة فقط، فإنَّ الدليلَ يبقى هو المدلول عليه

* فصل في دلالتنا فيها

عنه بعبارةٍ، هي هذه الصيغةُ، كما قالوا في الأمرِ والنهي. فصل في دلائِلنا فيها فمنها: أنَّ أهلَ اللغةِ، وأربابَ اللسانِ، قَسَّمُوا الكلامَ أقساماً، فقالوا: إنَّه أمرٌ ونهي، وخبرٌ واستخبارٌ، ونداءٌ وتمنٍّ، فالخبر من ذلك: قامَ زيد، وانطلقَ عمرو، وقالوا: إنَّه ما حسُنَ أن يكون جوابه في اللغة. صدَقْتَ، أو كَذَبْتَ. ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ مع كونِهم أهلَ هذه الصناعة، وحاجتُهم إلى التخاطب بالأخبارِ الحاجةَ الماسَّةَ، وبهم إلى ذلك الضرورة الماسَّة، لا يجوز أن نَظُنَّ بهم أنّهم لم يضعوا للخبرِ صيغةً، لا سيّما وقد سمعناهم يقولون (¬1): زيدٌ في الدارِ، خبراً، وهل زيدٌ دي الدار؟ سؤالاً واستخباراً، ويا زيدُ، نداءً، ولعلَّ زيداً (2 في الدار، ترجياً، وليت زيداً قائمٌ تمنياً 2) وقم يا زيدُ، أمراً، ولا تدخل، ولا تقعد (¬2)، نهياً، فلا حاجةَ بنا مع سماعِ هذه الأوضاع منهم إلى الدلالة ومَن يخالفُ في هذا، يجري مجرى المعاند لوضعهم، فلا بُدَّ أن نُشبعَ الكلام. وكتاب الله سبحانه مملوءٌ بالأَخبار عما كان، وعمَّا يكونُ، مثلُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقول". (¬2) طمس في الأصل

* فصل في شبههم

قولِه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]، وخبر الماضي: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم: 47]، والصيغ بالأخبار أكثرُ من أن تحصى في كتابِ الله سبحانه، وتَخاطُبِ العربِ بها. فصلٌ في شُبَهِهِم قالوا: هذه الصيغةُ قد تردُ، والمرادُ بها الأمرُ، كقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] و {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وكم أُمٍّ لا ترضع، ومطلقةٍ لا تتربصُ، وزمانٍ يكونُ في الحرمِ مخوفاً غير آمن، وخبرُ الله تعالى لا يكون (¬1) بخلاف مُخبَرِه، فإذا وردت هذه الصيغة مطلقةً، غيرَ مقيدةٍ بقرينةٍ، ولا دلالةٍ تدلُّ على صرفِها إلى الخبرِ، وجب التوقفُ فيها، وكان أكثرُ ما تعطينا الصلاحيةَ للخبرِ، فأمّا الوضع والاقتضاءُ، فلا، وصارت كسائرِ الألفاظِ المشتركةِ، كقُرْء، وشفق، وجونٍ، ولونٍ. فيقالُ: هذه الدعوى معكوسةٌ، بل الصيغة موضوعةٌ؛ بدليلِ ما ذكرنا، وتصرفُ بدلالةٍ وقرينةٍ إلى الأمر، فتكونُ لامُ الأمرِ محذوفةً، وتقديرُه: لِتُرضِعْنَ، ولِتَتربَّصنَ، ومن دخلَه، فأمِّنوه، فالوضعُ الأصل، والصرفُ لها من الخبرِ إلى الأمرِ بدلالةٍ وقريية، ويوضَحُ ¬

_ (¬1) كتب في الأصل فوقها: "يقع"

* فصل يقع العلم بالخير المواتر

ذلك: أنَّ المبادرةَ بهذهِ الصيغةِ لا يفهم منها إلا الخبرُ، ولا يعقلُ الأمرُ إلا بدلالةٍ، ووجهُ القرينةِ في الصيغةِ: أنَّها للمستقبلِ، وكونُها من الأعلى، فأمَّا إذا وردت من (¬1) مساوٍ أو دونٍ، لم يعقل منها إلا الخبرُ، فاعتبارُ القرينةِ لكونها أمراً، وعدمُ اعتبارِ القرينةِ في كونها خبراً، دلالةٌ على أنَّ وَضْعَها خبرٌ، لا أمرٌ. فصلٌ يقع العلم بأخبارِ التواتر مع اختلاف الناس في العدد المعتبر، وبه قالت الكافَّةُ. وحُكِيَ عن السُّمَنِيّهِ (¬2)، وقيل: البَراهِمَة (¬3) أيضأ: أنه (4 لا يقعُ 4) العلمُ بالأخبار، بل بالمشاهدات والحواسِّ خاصَّةً. (4 فيقالُ: إننا 4) نجد نفوسَنا ساكنةً، وقلوبَنا عالمةً بما نسمعُ من ¬

_ (¬1) في الأصل: "في". (¬2) في الأصل: "السمنينة"، والسمنية: فرقة ضالّة، من معتقداتها: القول بتناسخ الأرواح، وإنكار البعث بعد الموت، وتزعم: أنه لا معلوم إلا ما أُدرك بالحواس الخمس. انظر "الفرق بين الفرق" (270 - 271). (¬3) البراهمة: فرقة تنتسب إلى رجل يقال له: براهم، تنفي النبوات، وتنكر وجود الرسالات، تفرقوا أصنافاً، فمنهم أصحاب البددة، ومنهم أصحاب الفكرة، ومنهم أصحاب التناسخ. انظر "الملل والنحل" 2/ 250 - 252. (4 - 4) طمس في الأصل

الأخبارِ عن البلاد النائيةِ، والقرونِ الخاليةِ، والأممِ السالفةِ، كسكونها إلى العلمِ بما تدركُه بالحواسِّ من المحسوساتِ، ومن أنكرَ ذلك، سلكنا معه ما سلكناه مع أصحاب سوفسطا (¬1)؛ حيث أنكروا حقائق الأشياء، ودركَ الحواسِّ، وليسَ يسلكُ مع أولئك طريقُ المناظرة، لكن يسلكُ معهم مسلك العلاجِ والمداواةِ، وإنَّما تنقطعُ المناظرةُ معهم؛ لأنَّ غايةَ أدواتِ النظرِ: القولُ المفضي إلى جعلِ الغائبِ كالشاهدِ، وحملِ المعلومِ على المحسوس، وسياقةِ الأمرِ إلى أن تحصلَ الثقةُ بالإثباتِ أو النفي بدلالةِ العقلِ؛ بطريقِ النظرِ والتأملِ والاستدلالِ، فإذا كانوا للطرقِ منكرين، تعذَّرَ الوصولُ إلى الغايةِ المطلوبةِ، فليس إلا إخراجهم إلى الإثباتِ لما أنكروه، من تسليطِ المؤلمات عليهم، فإذا أذعنوا بدركِ الآلامِ، افتضحوا في جحدهم، وبان إهمالُهم وتجنِّيهم؛ إذ لو كانَ المحسوسُ باطلاً، والحسُّ منعدماً، لماظهرَ منهم ما يظهرُ منّا، فإذا فعلَ بمحضرٍ منهم ما يُضحكُ فضحكوا (¬2) بتحركِ عضلِهم، وما يُحزنُ، فبكوا، وما يُطربُ، فتحركوا، وما يغضبُ من القولِ، فغضبوا، وما يُدهشُ مِن الأخبارِ، فدهشوا، وما يسرُّ مِن الإحسانِ، فاستبشروا، كذبَتْ أقوالَهم بالجَحْدِ أحوالُهم؛ بقَبُولِ (¬3) كلِّ مُدرَكٍ محسوسٍ، وظهورِ الحال التي تقتضيه. وقد تحيَّل الفقهاء بمثل (¬4) ذلك في باب مَن جُنيَ عليه بلطمةٍ أو ضربةٍ، فادَّعى أنَّه ذهبَ بصرُه أو سمعُه أو عقلُه، بأن أظهرَ العمى ¬

_ (¬1) يعني: السوفسطائية، انظر ما تقدم في 1/ 202. (¬2) في الأصلَ: "لضحكوا". (¬3) في الأصل: "بقول". (¬4) في الأصل: "لمثل".

والطرشَ والخبلَ، فاغتفلوه بالكلامِ المضحكِ والمحزنِ والمغضِبِ، فإذا ظهرَ منه ما يَظهرُ من السامعِ، واغتفلوا المدعي للعمى بما يفزعُ، أو يُعجبُ من الصُّوَرِ، وتغييرِ الأشكالِ، والإيماءِ إليه بما يوجب البعدَ أو العَدْوَ بالتخويفِ، فإن ظهرَ منه ما يدلُّ على الرؤيةِ، حكموا بكذبهِ فيما ادعاه من فقدِ الحاسَّةِ، وكذلكِ في بابِ العقلِ يمتحنُ بالعقلياتِ، فيغتفلُ (¬1) بذكر الأخبار التي لا يقبلها العقلُ، والخيالاتِ التي يأباها، فإن أنكرَ، عُلِمَ كذبُه، فكذلك في مسألتنا مَن سُلِّطَ عليه الأخبارُ من طريقِ التواطؤ على ذلك؛ بأنَّ السلطان قد يقدمُ ويقتلُه، وأنَّ أباه غرقَ، أو دارَه احترقت، أو أنَّ بضاعَته تلفت، فإن ظهرَ منه من الشحوب والتغيّرِ فزعاً أو حزناً، أو أخبر بما يغضبه، فغصْب، كَذَّبَتْ حَالُه دعواه، وبانَ أنَّه يجدُ الثقة بالأخبارِ حقيقةً، ويجحدُ ذلكَ مذهباً، وكم بلغ بالناس العنادُ إلى إفسادِ الاعتقادِ، وتَجَرُّدٍ من الإحساس في حقِّ بعضِ الأَشخاصِ؛ لعصبيةٍ أو محبةٍ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حبُّك للشيء يعمي ويصم" (¬2)، فغلبةُ المحبةِ تغشي البصرَ والبصيرةَ، فكذلكَ الأهواءُ في المذاهب تفسد المداركَ، فإذا سُلِطَ عليها الامتحانُ، بانَ كذبُ ذلكَ التَّعمُّلِ، والطبعُ أغلبُ. وأيضاً: فإنَّا نجدُ نفوسَنا ينشأُ فيها العلمُ أولاً فأولاً إلى أن تستحكم ¬

_ (¬1) في الأصل: "معتفل". (¬2) آخرجه أبو داود (5130) من حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "حبك الشيء يعمي ويصم"، وسكت أبو داود عليه. وإسناد الحدي ضعيف. انظر "الأسرار المرفوعة" (187)، و"المقاصد الحسنة" (181).

الثقةُ، فإذا أخبرنا المخبر بعد المخبر، تناشأَ عندنا أمرٌ ينتهي إلى الثقةِ، وسكونِ النفسِ، كما أنَّ العلومَ الاستدلاليةَ نَنْتَهي إليها؛ بمقدمةٍ بعد مقدمةٍ، والترقي في النَّظَرِ درجةٍ بعد درجةٍ إلى أن ننتهيَ إلى سكونِ النفس والثقةِ، كما يحصلُ الحفظُ بتكرارِ المحفوظ على النفس، ولا يزال يعلقُ بالقلبِ أولاً فأوّلاً (¬1)، إلى أن يترصعَ (¬2) في القلب، ويتشكلَ، فيصيرَ بالتكرارِ بمثابةِ (3 الخَتم، وهو 3) الرَّسم والفص المنقَوش على المطبوع فيه من طين أو شمع، وبمثابةِ الحلي (¬4) المصوغِ بتكريرِ الصائغِ عليه إلى أن يتمكن (3 مِنْ صَقْلِهِ 3). وهذه أمور كلها معلومات لمن أَنصف، وكذلك حدوثُ السكرِ عندَ تكرُّرِ الشربِ، فمن كابرَ ذلك، خانَ نفسَه، واتهمها. وأيضاً: فإنَّ العددَ الكبيرَ كأهلِ بغداد وسمرقندَ، لا يجوزُ أن يتفقوا على محبة الكذب، كما لا يجوز أن يتفقوا على الميلِ إلى الحموضةِ أو الحلاوةِ، لاختلافِ أمزجتهم، كذلك ها هنا لا يتفقون على محبة الكذب؛ لاختلافِ مروءاتِهم ودياناتِهم، وإذا استحال ذلك، ثم اتفقوا على نقلِ خبرٍ على وجهٍ واحدٍ، قطعنا على صدقهم. فإن قيلَ: فلا نأخذكم إلا من دليلكم، فنقولُ: بهذا استحالَ العلمُ بخبرِ التواترِ، لأنَّ الجمَّ الغفيرَ والعددَ الكثيرَ لا يتفقون (¬5) على أمرٍ واحدٍ؛ لاختلافِ آرائهم وأمزجتهم، وإذا كان كذلك، كان محالاً ¬

_ (¬1) في الأصل: "فأول". (¬2) أي: يترسخ ويلزق. "اللسان"، و"القاموس": (رصع). (3 - 3) طمس في الأصل. (¬4) في الأصل: "المحل". (¬5) في الأصل: "يتفق".

اتفاقُهم على الصدقِ أيضاً، لأنَّ الطباعَ لا تتحدُ في فضلٍ ولا نقصٍ مع كثرةِ آرابِها، ألا ترى أنَّه كما يستحيلُ اتفاقُ أهلِ بغدادَ على محبةِ الكذبِ ومحبةِ الخلِّ، يستحيلُ اتفاقُهم على محبةِ الصدقِ ومحبةِ العسل، فالاتفاقُ مستحيلٌ في الخيرِ والشر، بل ربما كانَ الشرُّ أغلبَ، والخيرُ أندرَ وأقلَّ، فإذا لم يجز اتفاقهم على الشرِّ مع كثرةِ مُؤْثِريه وأهلِه، فلأَن لا يجتمعوا على الصدقِ، أَوْلى. قيل: لسنا نقولُ: إنَّ اتفاقَهم على الصدقِ لأنَّه خير، وعدمَ اتفاقهم على الكذبِ لأنَّه شرٌّ، لكنْ لأن الصدقَ هو نقل ما جَرَى، ولا شيءَ أحبُّ إلى نفوس الناس وميلهم؛ من إشاعة الخبر والحديث بما رأوا وسمعوا، ولهذاَ قيلَ: وسرُّ الثلاثةِ غير الخفي (¬1). وكتمُ السرِّ ثقيلٌ على نفوس النَّاس، فهم مُغْرَمون بنقلِ ما شاهدوا إطرافاً لمن لم يَسْمَعْ، وإخباَراً لمن لم يُخبَرْ، فأمَّا الكتمُ فقلَّ من تقْدِرُ عليه، فهم يحبون نقلَ الخبرِ؛ لا من حيث هو صدقٌ، لكن من حيث هو جارٍ ومسموعٌ؛ يحملُ إلى جانب لم يسمع، وهائل من النظر، وأحسن منه في (2 المُحَسَّنِ المُجَمَّل 2)، ومع النفس دواعٍ تدعو إلى الإعلام، ومنعة مانع تمنع من الإسرار والكتم. ¬

_ (¬1) عجز بيت من الشعر للصلتان العبدي، وصدره: (وسرُّكَ ما كان عند امرىءٍ)، وهو مع أبيات أخرى له في "خزانة الأدب" 2/ 182 - 183، و"الحيوان للجاحظ" 3/ 477 - 478، ونسبها الجاحظ للصلتان السعدي. (2 - 2) هكذا في الأصل.

* فصل في شبههم

فصلٌ في شُبَهِهِم فمنها: أن قالوا: كلُّ جملةٍ إنما هي مجموعُ آحادِها، وليسَ جملةُ العددِ الدين نقلوا الخبرَ المتواترَ إلا مجموعَ آحاد نقلوا الخبرَ، وقد ثبتَ أن كلَّ واحدٍ من الجماعةِ يجوزُ على خبرِه الكذبُ، كما يجوزُ عليه الصدقُ، فلا وجهَ لتغيُّرِ حالِهم باجتماعِهم، لأنَّ جملَتهم ليس بأكثرَ من آحادِهم، فتجويزُ الكذبِ على الجماعةِ على ما كانَ، إلى أن تقومَ دلالة تعطينا خروجَ الجملةِ إلى القطع بقولهم وصدقِهم، بعدما كانَ خبرُ كلِّ واحد منهم متردداً بين الصِّدقِ والكذب، وهذا دليلٌ قد رضيه المتكلمونَ لإثباتِ حدث العالم، وقالوا: كلُّ حركةٍ من حركاتِ الفلكِ محدثة متجدِّدة، بعد أن لم تكن، فإذا ثبتَ لكلِّ أجزائه الحدوثُ، فليس جملتُه بأكثرَ من آحادِه، فوجبَ أن تكون جملتُه محدثةً بعد أن لم تكن، فثبتَ بهذِه الجملةِ انتفاءُ العلمِ عن خبرِ التواترِ؛ بانتفاءِ العلمِ عن كلِّ واحدٍ من المخبرين. فيقال: إن هذه قضية كاذبةٌ، ولسنا نرضاها في هذه المسألةِ، ولا في دلالة الحدث، وإنَّما المعوَّلُ على غيرِها هناك، ووجهُ فسادِها، ونفيُ الرضا بها: أنَّ الجملَ أبداً في المحسوسات والمعلوماتِ لها من الحكم ما ليس لآحادها، ويَتَجدَّدُ للاجتماعِ ما ليس للانفرادِ، بدليلِ نعيمِ أهلِ الجنَّة؛ فإنَّ كلَّ حالةٍ من أحوالِهم ذو أولٍ وآخرٍ ونهاية، والنعيمُ لا غايةَ له ولا انقطاع، وكلُّ طابق من طوابيق الدارِ لا تملأ صحنها، وجملةُ الطوابيقِ تملأ صحنَها، والأشياءُ الثقيلة كالسَّاحَةِ والعِدْلِ الثقيلين، قد لا ينهض بهما الواحدُ والاثنانِ، فإذا تكاثرَ عليهما الرجالُ، ارتفعت من الأرضِ، وانتقلت من مكانٍ إلى

مكانٍ، وكذلكَ إذا أخبر الواحدُ حصلَ بعضُ الثقةِ إلى قولِه، وكلما تكاثرَ عددُ المخبرين، تزايدت حتى يحصلَ اليقينُ الذي لا يؤثَرُ فيه تشكيكُ مُشكِّكٍ، وهذا نجده من نفوسِنا، في أنَّ لنا بلداً يعرفُ بمكة، وأنَّ فيه بيتاً يعرف بالكعبة، حتى إنَّ المؤمنَ بأخبار الله والكافر متساويان (¬1) في العلم بذلكَ، لأجلِ تواترِ الأخبارِ بالعلم (¬2) الذي لا يدخلُ عليه ارتياب. على أنَّ الواحدَ من الجماعةِ قد يكونُ له داعٍ يدعوه إلىِ الكذبِ في خبرهِ، ولكن لا تتفق دواعي العددِ الكثيرِ والجَمِّ العْفيرِ على حصول الداعي إلى الكذبِ، بل يستحيلُ ذلكَ على الأمَّة الكثيرة، فقد بانَ مفارقة (¬3) الآحادِ للجماعةِ من هذه الوجوه كلها. ومنها أن قالوا: القولُ بالعلمِ بأخبارِ التواترِ يفضي إلى محالٍ، وما أفضى إلى محالٍ محالٌ، وذلكَ أنَّ العددَ الذي يحصلُ بخبرِهم العلمُ الضروريُّ عندكم، إذا أخبرَ عددٌ مثلُهم بما يضادُّ خبرَهم، مثل أنْ يخبرَ هؤلاء بموتِ زيدٍ أمس، ويخبرُ الآخرون بحياتِه في الوقتِ الذي أخبرَ أولئك بموته، فيفَضي ذلك إلى أنَّ يَجْتمعَ (¬4) لنا العلمانِ بالضدينِ جميعاً: موت زيدٍ، وحياته، وذلكَ محالٌ، فالمذهبُ المؤدِّي إليهِ باطلٌ. فيقالُ: هذا الفرضُ محالٌ، لا يجوزُ أن تُخبِرَ جماعةٌ لا يجوزُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "متساويين". (¬2) في الأصل: "العلم". (¬3) في الأصل: "مفارق". (¬4) في الأصل: "يجمع".

على مثلهم التواطؤ على الكذبِ على خبرٍ، ويجتمعَ مثلُهم على الإخبارِ بضِدِّه. ومنها: أن قالوا: لو كانَ العلمُ يحصلُ بنقلِ الجماعةِ الكثيرةِ، لوجبَ حصول العلمِ لنا بما نقلته اليهود عن موسى، والنصارى عن مسيحها، وأهل الرفضِ عن أئمتِهم؛ من العجائبِ التي يقصدونَ بها إفسادَ مِلَّتِنا، وتكذيبَ كتابِنا ورسولِنا - صلى الله عليه وسلم -، والطعنَ في أصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: يوضِّحُ هذا: أنَّ المعنى الذي تمسكتم به، هو أنَّ الدواعي لا تتفقُ على اختلاقِ الكذبِ، وهذا موجود في كل ملَّة. فيقال: إنَّ النقل الذي يوجبُ العلمَ عندنا، مشروطٌ باستواءِ الطرفين (¬1)، فأمَّا أن يسمعَ الواحدُ، أو يرويَ، أو يشهدَ الحال، ثم يحدِّثَ به أعداداً من الرجالِ، ويحدثَ أولئك الأعدادُ الأفرادُ لأقوامٍ، فتكثُرُ (¬2) الرواةُ والمخبرون، لكنْ هذا العددُ الكثيرُ نقلوا عن أعداد وأفراد، فلا يكون محصلاً للعلم عندنا، ألا ترى أن سخاء حاتم، وفصاحة سحبان وائل وقس بن ساعدة، وفهاهة باقل، وشجاعة علي والمقداد، لما نقلت تواتراً متساوي الطرفين، لم يختلف في ذلك اثنان، ولم يقع فيه شك لمرتاب، ومن شكَّ فيهِ فكأنَّما شكَّ في المحسوساتِ، ولأنَّ يهودَ ما اتفقوا على ذلكَ، بدليل أن رؤساءهم وعلماءهم آمنوا برسول الله، ولو كانوا نقلوا عن نبيهم شيئاً، لما ¬

_ (¬1) أني: أن يستوي العدد في طرفي الخبر ووسطه، فتكون رواية الجمع الذين لا يجوز تواطؤهم على الكذب متحققة في كل حلقات السند، ومثل هذا غير متحقق في خبر اليهود والنصارى، كونهم يروون عن كتب وأعداد يسيرة. انظر "التمهيد" 3/ 19، و"العدة" 3/ 843، و" المسودة" (292). (¬2) في الأصل: "مكثر".

رجعوا عنه، ولو رجعوا إلى نبينا غير مذعنين بل منافقين، لما حصلت الثقةُ بقولِهم الأول، كما لم تحصل الثقة بقولهم في الثاني. ومنها: أنَّه قد جازَ اجتماعُ الجماعةِ الكثيرةِ على الخطأ من طريقِ الاجتهاد والرأي، كالفلاسفة و [أهل] الطب، فهلا جوزتم اجتماع جماعةٍ على الكذبِ في النقلِ، وما الفرقُ بين الاجتهادِ والنقل (¬1)؟! ولهذا جعلتم الإجماعَ حجةً مقطوعاً بها في الرأي، كما جعلتم التواترَ حجة مقطوعاً بها في الخبرِ. فيقال: أمَّا الاجتهادُ، فأدلته خَفِيّهٌ، فالاجتهاد في الحقائقِ بالاستدلال العقلي، ففي أدلته غموضٌ، ولهذا تعترضه الشكوكُ، وكم شاكٍّ وواقف في ذلك، وكم راجع عن رأيه ومذهبِه بعد أن حَقَّقَ القولَ فيه. وأمَّا ما طريقُه الخبرُ عن المُشاهَدة ودركِ الحواسِّ، فلا شكَّ يعتري، ولا شبهة تعرض، فإذا اتفقت الجماعةُ المأمونُ عليهم الاتفافَ على الكذبِ والاختلاقِ، فلا شكَّ عند السامعِ فيما أَخْبَرُوا بِه، كما لا يتطرقُ الشك عليهم فيما رأوه. ومنها: أنْ قالوا: لو كانَ خبرُ التواتر يحصلُ به العلمُ، لما اختلفَ اثنان في نبوةِ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، لأنَّ نقلَ ذلك بأخبارٍ متواترة، فلما وقعَ الخلافُ، فجحدَ أهلُ الأدياد نُبؤَتَه، وجحدتها الفلاسفة و [أهل] الطب وأهلُ الطبعِ، عُلِمَ أنَّه ليس بطريقٍ للعلمِ، ألا ترى أنَّ ما أُدرِكَ ببَدائِه العقولِ وأدلَّتِها (¬2)، لم يختلف النَاسُ فيه لَمَّا كان علماً ضرورياً. فيقال: إنَّ النبوةَ حكمٌ، وليست معنىً يشاهَدُ، لأنَّها رتبةٌ دينيةٌ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "القول". (¬2) في الأصل: "أولها".

والنبوةُ لا تنقل، إنما تنقل السِّيَرُ، فيتصفحُ المنقولُ إليه منها ما يَدُلُه على النبوة، كما أنَّ شجاعةَ عليٍّ لا تنقلُ، ولا سخاءَ حاتم، ولا فهاهة باقل، ولا فصاحةَ سحبان وائل، لكنْ تنقلُ إلينا أفعالُهم وأقوالُهم، فنستدلُّ بذلكَ على ما وراءها من. إثباتِ شجاعةٍ وفصاحةٍ وسخاوةٍ، والنُّبوَّة تنقل إلينا أعلامُها، فنعلمُ بذلكَ نبوةَ من ظهرت تلك الأعلامُ على يدِه، وقد نقل من طريق التواتر: أنَّ المبعوثَ بتهامة ظهرَ على يده أشياءُ في الجملةِ، أدهشت العقلاءَ حتى قالوا (¬1): سحرٌ، وما يقول القائلُ: سحرٌ، إلا لما يدهشه، وجاءَ بهذا الكلامِ الذي تَحَدَّى به العربَ، فعجزوا عنه، فكانَ عنادُهم لما جاءَ به استنطقهم بالتكذيب، ودعوى السحر والاختلاف، واحتجاجهم معلوم منقول، وهو مجرد الجحد بما لا يوجبُه، مثل قولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: 12] , {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، والمنقولُ بالتواترِ قد عُلِمَ، كما عُلِمت شجاعةُ عليٍّ، فالطاعنُ على عليٍّ لم يدفع ما ثبتَ بالتواترِ؛ من أيامهِ المشهودة، ومبارزاتهِ المعلومة، لكن قالَ فيه: إنه ما طلب الحق، فكذلك قالَ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يأتِ بالحقِّ، لا أنهم أنكروا ما ظهر على يديهِ من الأمورِ الخارقةِ. على أنَّ الردَّ لِمَا جاءَ به، والخلافَ فيه، لا يوجبُ نفيَ العلمِ، بدليلِ أنَّ لنا من جحدَ دركَ المحسوساتِ، وهم أصحاب سوفسطا، ولنا من أنكرَ ما عدا الضرورات، ولنا من أنكرَ العلمَ بغيرِ الأخبارِ، وهم مفسدو النظرِ والاستدلال، وزعم أن لا ثقة بنظر، وجعل العلةَ في نفي ذلكَ وقوعَ الخلافِ فيه، وتسلُّطَ الشكِّ عليه، ورجوعَ أهلِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال".

* فصل العلم بالخبر المتواتر ضروري

النظرِ عن مذهبٍ كانوا زماناً عليه إلى مذهبِ عادوا إليه، ولم يدلَّ ذلك عندنا وعندكم على إخراجِ النظرِ من كونَه طريقاً للعلم. وجوابٌ آخر: وهو أنَّ النبوَّةَ لا تثبتُ ضرورةً؛ لأنَّها إنما تثبتُ بالاستدلالِ، فمن نقلَ نبوته إنَّما نقل ما قاله عن اجتهادٍ، وليست بأكثرَ من الإلهية، والصانعُ ما ثبتَ إلا بدليل صُنْعِه، وما صدر عنه، ولم يؤدِّ بنا ذلك إلى العلمِ به ضرورةً، فنبوة أنبيائه لا تثبتُ ضرورةً. ومنها: أنْ قالوا: إنَّ الكذبَ ممكن في حَقِّ كل واحد من الجماعةِ المخبرين، فلا وجه لاستحالتِه على جماعتِهم، كما أنَّ الصِّدقَ لَمَّا كان ممكناً في حَق كُلِّ واحدٍ، لم يستحل وقوعُه من جماعة كثيرة العدد، وإذا كانَ كذلكَ، وانتفت الاستحالةُ، ثبتَ التجويزُ، لأنَّ الاستحالة ليست إلا حكمَ العقل بنفي التجويزِ، وقد حكمَ العقلُ بتجويزِ الكذبِ، فلا وجهَ للعلم بصدقِهم من طريقِ الضرورةِ. فيقال: التجويزُ على كلِّ واحدٍ لا يعطي التجويزَ على الجماعةِ لما قدمنا، وأنَ اجتماعَ الكل على إتيان الكذبِ في الخبرِ، محالٌ مع اختلافِ الطباعِ، وذلكَ أنَّه لا تكادُ تجتمعُ إرادةُ جماعةِ أهلِ بلدٍ كبيرٍ ومصرٍ جامعٍ على إتيانِ الكذبِ، وإن كانوا مجتمعين على القدرةِ، إذ ليسَ كلُّ مقدورٍ عليه تتساعدُ دواعي الخلقِ الكثيرِعليه، فإنَّ كلَّ أحدٍ يقدرُ على القتل وأذية الحيوان، لكن لا يتفقونَ على القسوةِ، بل يختلفونَ في الرِّقَّةِ والقسوةِ. فصلٌ والعلمُ الواقعُ بالخبرِ المتواترِ ضروري (¬1)، وبه قال أكثر الفقهاء ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 847، و"التمهيد" 3/ 22، و"المسودة" (234)، =

* فصل في حجتنا

والأصوليين، خلافاً للبلخي من المعتزلةِ، والدقاق من أصحابِ الشافعي (¬1)، فصل في حجتنا إِنَّنا نعلمُ من نفوسِنا الثقةَ والسكونَ إلى أخبارِ النَّاس بالبلادِ النائيةِ، والسِّيَرِ بالقرون الخالية، حتى إنّنا لا نَشُكُّ في ذلك بَتشكيك، حتى إنَّ من لم يشهد مكةَ، ولا غيرَها من البلادِ، يتحقَّقُ وجودَها، ويخاطرُ بنفسِه سَفَراً إليها، وينفقُ أموالَه في طلبتِها؛ ثقةً بأخبار من شاهدها، وسافرَ إليها. ومنها: أنَّه لو كانَ العلمُ الحاصل بخبرِ التواترِ بطريقِ الاستدلالِ، لما وقعَ للصبيانِ الذينَ لم يَبْلغوا مبلغَ النظرِ والاستدلالِ، فلمَّا وقعَ للصبيانِ العلمُ، عُلِمَ أنَّه ضروريٌ، لأنّهم من أهلِ العلمِ الضروري. ومنها: أنَّ الخلافَ لا يقعُ في العلمِ الحاصلِ بالتواترِ، كما لا يقعُ بالمحسوساتِ، ولو كان استدلاليّاً لما خلا من مخالفٍ فيه، ومناظرٍ عليه، فلمَّا اتفقَ العقلاءُ عليه بغيرِ اختلافٍ، دل على أنَّه ضروريّ. فصل في شبه المخالف فمنها: أنَّ العلم الواقعَ بخبرِ التواترِ؛ لو كانَ ضرورياً، لما اختلفَ ¬

_ = و"شرح مختصر الروضة" 2/ 79. (¬1) انظر "التبصرة" (293)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 27، و"المحصول" 4/ 230.

العقلاءُ فيه، ألا ترى أنَّ الواقعَ من العلمِ بدركِ الحواسِّ، لَما كان ضرورياً، لم يختلف فيه أهلُ المذاهبِ، وكذلك المعلومُ بأوائل العقولِ، مثل العلمِ بأنَّ الواحدَ أقلُّ من الاثنين، وأنَّ الجسمَ لا يكون في حالةٍ في مكانين، وأنَّ الجَمَلَ لا يَلجُ في سَمِّ الخِياطِ، فلما وقعَ الخلافُ في هذا العلم بينَ العقلاءِ، عُلِم أنَّه ليس من العلومِ الضرورية التي لا تحتمل الخلاف. فيقالُ: إنَّ حصولَ الخلافِ لا يجعلُه [غير] حجةٍ، انَّما الحجةُ الأدلةُ، فإنَّ الخلافَ قد يقع عناداً وعصبيةً وتقليداً، ولهذا دخلَ الخلافُ في دركِ الحواسِّ؛ بحدوثِ شكوكِ سوفسطا أو تشكيكهِ، فخَيَّلَ عقول جماعة، وكثر أتباعُه في مقالته، وكم من خيالٍ أحدثه أهلُ الأهواءِ والبدعِ، ونوظروا، فصارَ في المسائل غيرِ المحتملةِ للخلافِ خلافاً. ومنها: أن قالوا: وجدنا الإنسانَ يسمعُ الخبرَ من الواحدِ والاثنين، فلا يحصلُ له العلمُ إلى أن يتكاثرَ عددُ المخبرين، فيعلمُ حينئذٍ بتناصر أقوالهِم صحةَ خبرِهم، وصدقَ أقوالهم، وهذا عينُ الاستدلالِ، كاستدلال المستدل على القبلةِ بأمارتين فثلاثٍ. فيقال: ليس سياقةُ الدلالة إلى أن يحصلَ العلمُ، يخرجهُ عن كونه ضرورياً، كالمقدماتِ التي تكونُ سابقةً للعلمِ في العلومِ الهندسيةِ في إِقليدس (¬1)، وإخراجها بالأشكال عن الأشكال، مثل قولنِا: إنَّ الخطوط الخارجةَ عن مركزِ الدائرةِ على استقامةٍ إلى الدائرةِ متساويةٌ، فإنَّ العلمَ بذلكَ ضروريٌّ وإن كان بسياقةٍ. ¬

_ (¬1) هو رياضي يوناني مشهور بالهندسة، كان قبل الميلاد بثلاث مئة عام، صنف في الهندسة كتابه المشهور المعروف "بأصول إقليدس" أو "كتاب إقليدس". "دائرة معارف البستاني" 4/ 91.

وكذلك الإنسانُ ينظرُ الشيءَ من بعيدٍ كالجملِ يراه صغيراً، ولا يزال يقرب منه أو يُصَمَّمُ التأمُّلَ فيه، حتى يعلمه جملاً، ولا يكونُ ذلكَ النظرُ علماً استدلالياً. ومنها: أن قالوا: العلمُ لا يقعُ بأخبارِ الجماعةِ المعتبرين في التواترِ، إلا أن يكونوا على صفاتٍ تصحبهم، يُستدلُ بها على صدقِهِم، فصارَ كالعلمِ بحدث العالَمِ، وإثباتِ الصانعِ، لما احتاج (¬1) إلى تأملِ صفاتِ العالَمِ؛ من حركاته وسكناتِه، واجتماعاتهِ وتفرقاتهِ، وخروجهِ من هيئة إلى هيئةٍ، كان استدلاليّاً، كذلك ها هنا. فيقال: إن الأخبارَ وإن اعتبر فيها صفاتُ [المخبرين]، إلا أنَّ العلم بصدقهم لا يفتقر إلى اعتبار الصفاتِ، ألا ترى أنه قد يقعُ العلمُ لمن لا ينظرُ في الصفاتِ، ويخالفُ العلمَ الواقعَ عن النظر في العالم؛ فإنهَّ لا يقع إلا بعد النظر في المعاني، وهي الأعراضُ، والاستدلالِ بها، وفي الأخبار يقع من غير نظرٍ واعتبارٍ. على أنَّ العلومَ الهندسيةَ لا بدَّ لها من مقدمات وسياقات جارية مجرى الصفاتِ ها هنا، ولا تدلُ على أن تلك علومٌ استدلاليةٌ، بل ضرورية، وكذلك دركُ الحواسِّ؛ لا بدَّ من اعتبارِ صحةٍ، وزوالِ موانعَ معترضةٍ لتحقُّقِ دَركِها، وإذا لم تكن الحواسُّ والمدارك على صفاتٍ مخصوصةٍ، لم تحصل الثقة في إدراكها، ولا يدلُّ ذلك على أنَّ الحاصلَ عن إدراكها ليس بضروري. ومنها: أن قالوا: إنَّ الخبر الواقعَ من جهةِ الله سبحانَه وجهةِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، لا يحصلُ به العلمُ إلا استدلالياً لا ضرورياً، فإحْبارُ مَن ¬

_ (¬1) في الأصل: "احتاجت".

* فصل خبر التواتر لا يولد العلم، ولا خبر الواحد يولد الظن

دون الرسولِ المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، أَوْلى أنْ لا يحصلَ به العلمُ الضروري. فيقالُ: إن أصلَ المعرفةِ باللهِ سبحانَه [ثبت] بالاستدلالِ عليه بصنائعِه ومخلوقاتِه، فخبرُه سبحانه مبنيّ على المعرفةِ به، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معروفُ النبوةِ والصدقِ بالاستدلالِ، فخبرهُ بما يخبر به معلومٌ بالاستدلالِ، فأمَّا المخبرون (¬1) من الآدميين، فمعروفون (¬2) ضرورةً، مخبرون عما أدركوه بحواسهم ضرورة، وهم عددٌ لا يجوزُ عليهم التواطؤ والكذبُ، فكانَ العلمُ بخبرِهم على هذا الوجهِ ضرورة، وإذا لم يتحقق منه دليلٌ، فالأَوْلى الذي ادَّعَوْه لا وجهَ له. فصلٌ خبرُ التواترِ لا يُولِّدُ العلمَ، ولا خبرُ الواحدِ يولِّدُ الظنَّ (¬3). هذا هو المذهبُ في كلِّ شيءٍ كانَ عقيبَ شيءٍ؛ على سبيل الندور، أو على وجهِ الاستمرارِ، فلا نظر، ولا خبر، ولا غير ذلك، وهذا أصلٌ مستقصى في أصولِ الدياناتِ، خلافاً (¬4) لأهلِ الطبعِ والمعتزلةِ. والعلومُ الواقعةُ عقيبَ النظرِ، والاستدلالِ، وسماعِ الأخبارِ من المخبرين، بفعلِ الله تعالى، ذلك عندها (¬5)؛ بمثابة إجرائِه العادةَ بإزهاقِ النفوسِ عقيبَ إيقاعِ الجراحاتِ المُوْحيةِ، وخلقِ الولدِ عقيبَ ¬

_ (¬1) في الأصل ة "المخبرين". (¬2) في الأصل: "معروفون". (¬3) انظر "العدة" 3/ 850، و"المسودة" (235)، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 328. (¬4) في الأصل: "خلاف". (¬5) في الأصل "عندنا".

* فصل في أدلتنا على إبطال مذهبهم في ذلك

الجماعِ، والعافيةِ عقيبَ تناولِ الدواءِ، خلافاً لبعضِ المتكلمين في قولهم: إنَّ الخبرَ يُوَلِّدُ العلمَ. فصلٌ في أدلتنا على إبطال مذهبهم في ذلك فمنها: لتقرير إبطالِ أصل القولِ به؛ ليعمَّ هذه المسألة وغيرَها: أن نقولَ: لا يخلو أنْ يكونَ المتولدُ غيرَ منسوبٍ إلى فاعلٍ، بل منسوبٌ إلى ما يتولدُ عنه من الفعلِ الذي سبقَه، كالاعتمادِ في السهم والحجر، ولا يجوزُ ذلكَ؛ لأنَّه لو كانَ لنا حادثٌ لا عن فاعلٍ، لاستغنت كلُّ الحوادث، وجازَ وجودها من غير فاعل ومحدث، وأمَّا أن تكون من فعل الفاعل الذي صدر عنه الاعتمادُ في السهمِ والحجرِ، فكانَ يجبُ أن يدخلَ تحت قدرتهِ إيقافُه عن مرورِه في المسافةِ، وقطعِ تلك الأبعاد، فلمَّا لم يقدر على إيقافِه، دلَّ على أنَّه خارجٌ عن مقدورِه، فلا وجه لنسبته إليه، وأَمَّا أن يكون ماراً بنفسه لا لمعنى، فكانَ يجبُ أن يوجدَ خروجُه ابتداءً من غيرِ معنى، وذلك القولُ بحادثٍ من غيرِ محدِثٍ، وأَمَّا أن يكونَ واجب المرور، فكانَ يجبُ أن لا يقفَ عند غايةٍ ما لم يمنعه مانعٌ كهبوطِ الحجرِ نحو المركزِ، مهما وجد أبعاداً خاليةً استدام الهبوط، فإذا بطلت هذه الأقسامُ، لم يبقَ إلا أنه بفعلِ الله سبحانه. فإن قيل: يجوزُ أن يكونَ صدْرُه عن معنى، وتَجدُّدُ ما يَتجددُ من ذهابهِ في الجهةِ لا لمعنى، كما أنَّ الصوتَ يحدثُ بصَكَّةِ الجسم وفعلِ فاعلِ الصَّكَّةِ، وفناء الصوت لا بمعنى ولا معنى. قيل: ذلكَ واجبٌ، ولهذا لا يصحُّ إبقاؤُه ولا إدامتُه، ومرورُ

الحجرِ والسهمِ ليسَ بواجبٍ، ولذلكَ يجوزُ في المقدورِ إيقافُه، ولا يستحيلُ، بخلافِ فناءِ الصوتِ. ومنها: ما خصَّ المسألة: أنَّ العلمَ لو كانَ متولداً عن الخبرِ، لم يخلُ أن يكونَ تَولَّدَ عن خبر المخبر الأخير، أو عن خبر الجميع؛ فإن قالوا: بخبرِ الآخِرِ وعنه، فهو واحدٌ، فإن (¬1) كان ابتداءً لم يولد ولم يتولد وإن كان أخيراً، لأنه واحد أولاً كان أو أخيراً، وإن [كان] العلم تَولَّدَ عن المخبرين كُلِّهم الدين يعتبرون لحصول التواتر، لم يصحَّ هذا على أصلهم؛ لأن (¬2) المسببَ الواحدَ لا يقعُ بسببينِ؛ فضلاً عن أسباب كثيرةٍ، والمقدورَ الواحدَ لا يقعُ عن قادرينِ اثنينِ؛ فضلاً عن قادرينَ كثيرين (¬3)، وهذا أصلٌ لهم معلومٌ. وإذا بطَلَ تولُّده عن خبرِ الواحدِ؛ لأنَّه بإجماعٍ لا يوجبُ العلمَ، وبطلَ بخبرِ الجماعةِ؛ لإبطالهم الفعلَ عن قادرين، والمُسبَّبَ عن سببينِ، لم يبق إلا أن يكون حدث بنفسِه، ولا أحدَ يقولُ ذلك، أو حدث بفعلِ الله سبحانه، وهو قولُنا. ومنها: أنَّه قد استقرَّ عند القائلين بالتولُدِ: أنّ ما لا جملةَ له لا يصحُ أنْ يولدَ إلا في محلِّه، وليسَ للخبرِ جهةٌ تماس محلَّ العلم، ولا ما هو مماسّ له، وإنَّما الاعتمادُ والحركاتُ لما كان لها جهاتٌ ولدت في غير محلِّها، ولا تولدُ فى غير محلها دون مماسَّةِ فاعلها لمحل مسِّها، أو لما هو مماسٌّ له. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وان". (¬2) في الأصل: "لا". (¬3) في الأصل: "كثيرة".

فإن قيل: هذا لا يصحُّ لوجهين: أحدهما: أنَّ الكلام في الجملةِ يولدُ إذا كان خطاباً لمخاطب، ما يولد له السحر من الإرعاب الموجب للوجل، والتهجين الموجب للخجل، فيولد للرجل (¬1) صفرة؛ لفورانِ الحرارةِ عند الخوفِ، ويورثُ حمرة اللونِ عند الخجلِ [والغضب]؛ لانتشارِ الحرارة، وثوران الدم لمقاواةِ المهاجم، ومدافعتِه عن النفس، فهذانِ أثرانِ ولدهما القولُ. فيقال: هذه غفلةٌ منكم في إلزامنا جزئيات التولد، مع إنكارنا أصلَ القولِ بالتولدِ. قالوا: فمن وجه آخر: وهو أنْ يكونَ المولِّدُ للعلمِ في قلبِ المخبَرِ، النظرَ في صحةِ الخبرِ المتواتر، وذلكَ ناشىءٌ من المحل، أعني: النظرَ، ومولدٌ في المحل، وهو العلم. قيل: هذا باطلٌ لما قدمنا، وأَنَّ العلمَ الواقعَ بهذه الأخبارِ ليسَ يقعُ عن نظير، وأَنه لو وقع عن نظرٍ قليلٍ أو كثير، لوجب وجوده في الحس؛ لَأن قليله وكثيره كقليلِ اللذة والألمِ وكثيرهما، وهذا ممَّا لا نجده في الحس، فبطل ما ادعوه. فإن قيل: [لو كانَ] العلمُ بخبرِ الأخبارِ مبتدأً من الله تعالى، لكانَ يَصحُّ أن يوقعه من غيرِ سماعِ خبرٍ أصلاً ورأساً. قيل: يجوزُ ذلكَ في المقدورِ، إلا أنَّه لم تجرِ به عادة. ويقالُ أيضاً: ولو كانَ العلمُ بما أدركته الحواسُّ مبتدأ من فعلهِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الرجل".

وكذلك العلمُ بأنَّ الاثنين أكثرُ من الواحدِ، وأنَّ الضدينِ لا يجتمعانِ في المحل، لصحَّ منه تعالى أنْ لا يفعلَ العلمَ في العاقلِ بما أدركه، وبكلِّ ما يعلمُ ببديهةِ العقلِ، فإن مروا على ذلك، مررنا لهم على ما ألزموا، وإن أَبَوْهُ، نقضوا قولهم، وأبطلوا إلزامَهم. ومنها: ما تعلق به بعضُ أصحابِنا، وجماعة من الفقهاء، وغيرُه أصلحُ منه وأنفعُ، لكنني أذكرُهُ لئلاَّ يُعوَّل عليه، قالوا: إذا كانَ كلُّ واحد من المخبرين لا يُوَلِّدُ خبرُه علماً، والآخِرُ على الوَحْدة لا يولدُ خبرُه علماً، عُلِمَ أنَّ العلمَ حادثٌ بفعلِ الله سبحانه. ولهم أن يقولوا: إنَّ كلَّ وصفٍ من أوصافِ الدلالةِ القياسيةِ لا ينتجُ ويؤثر حكمَ القياس في الأصلِ ولا في الفرع، وبمجموعِها (¬1) أَثَّرَتْ، وكذلكَ آحادُ الشهودِ في البيِّناتِ لا يقال: إنَّ الأخيرَ لم يوجب الظنَّ وحده، ولا كل واحد أوجبه، فثبت أنَّه إنما حدث ظنُّ الحاكمِ، لا صادراً عن الخبر الأخير، لكن لبناء قول الآخِرِ على الأول، كما انبنى تأثيرُ الوصفِ الأخير على تأثيراتِ الأُوَل من الأوصافِ، وكذلك قُفْزَانُ الحنطة في الغرق الحادث في السفينة عند حصول القَفيز الأخيرِ فيها، وكذلك السكرُ من الأقداحِ عند حصول القدح الأخير، وكذلك العصيُّ المتكررةُ ضرباً لمن يموت بمثلِ تلك الضربات، تساعدت الآلام بعضها ببعض، وانبنى الألمُ الحادثُ بالضربةِ الأخيرة على آلامِ الضربات المتقدِّمةِ، فلا وجهَ لقطعِ الخبرِ الأخير عمَا تقدَّمه، وهذا في جميعِ المحسوساتِ والمعلوماتِ والمؤَثِّراتِ للأححَام، حتى إنَّ التغيرَ الحادثَ في الماءِ من نبذة بعد نبذةٍ من زعفران، والقطرةَ من الماءِ على الحجر، إذا دامت، أثَّرت، ¬

_ (¬1) في الأصل: "ومجموعها".

* فصل في شبههم

ودَوَّمَت في الحجر، لا بالأخيرةِ على الانفرادِ، ولا بالأولى، لكن بتتالي ذلك، ودوامِه وبناءٍ بعضه على بعضه، والمللَ الحادثَ من الكلمةِ بعد الكلمةِ، والسَّأَمَ، إنما يحدث باتصالِ الكلامِ والمخالطةِ، يقالُ: أكثرَ كلامَه، فسئمناه، وأطالَ القعودَ عندنا، فمللناه، وعلى هذا. فصل في جمع شُبَهِهِم فمنها: أنْ قالوا: لو كانَ العلمُ واقعاً بفعلِ الله سبحانَه على مقتضى العادةِ، لكانَ تارةً يحصل بإخبارِ جماعةٍ بمثلهم يحصل التواتر، وتارةً يخبرُ مثلُ ذلكَ العدد بالخبرِ، فلا يحصلُ العلم، كما أنَّ حصولَ الولدِ عند اجتماعِ الزوجينِ، لمَّا كان بفعل الله سبحانه على اطِّرادِ العادةِ، كان تارةً يحصلُ، وتارةً يعزبُ. فيقال: إنَّ كونَ العلمِ واقعاً لا محالة، ليسَ مما يدلُّ على أنَّه متولدٌ، بل فعل الله تعالى قد يقعُ على وجهٍ لا يقعُ على غير ذلك الوجهِ لا محالة، ولأنَّ الله سبحانه قد أجرى العادةَ بأن يحصلَ العلمُ الضروريُّ عندَ هذا الخبرِ المخصوصِ، فدعوى التولُدِ لا وجهَ لها (¬1)، وإنَّما يصح هذا، إن لو استمرَّ أنَّ كلَّ شيءٍ حدثَ عقيبَ شيءٍ لا محالة، كان متولداَ بسببه، وليس الأمرُ عندنا كذلك، بل كل حادثٍ فالله يحدثه، حتى إنَّ المعلولَ يكونُ عند العلةِ وعقيبَها، وليست هي الموجبةَ، عقليةً كانت، أو شرعيةً، فالتحرك كانَ عند الحركةِ، لا أنَّ ¬

_ (¬1) في اللأصل: "له".

الحركةَ أوجبَتْه، ولا أحدثته، وعلى هذا. فإن قيل: فأصلكم يمنعُ هذا، لأنكم عللتم كونَ القديم عالماً بالعلمِ، وكونه قادراً بالقدرة، وعلى هذا، ومعلومٌ أنَّ كونَه عالمآ واجبٌ له، فعلَّلتم الواجبَ، فكيف أَخْلَيْتُم العلة من تأثير المعلول، ثم تستدلون بعد قولِكم هذا على أنَّ كونَ العالمِ عالماً معلولُ العلمِ (¬1)، وكونَ القادرِ قادراً معلولُ القدرةِ؟! ومثلُ هذا ما فعلتموه في سدِّ باب الاستدلالِ على كونِ الصنعةِ مفتقرةً إلى صانعٍ، فإنَكم مع قولكم: لَا خالقَ، ولا فاعلَ في الشاهدِ، لم يبقَ لكم دليلٌ من الشاهدِ على الغائبِ، وإذا بطلَ هذا من أصلِكم، لم يبقَ إلا أنَكم مضطرون إلى أنَّ كل كائنٍ يكونُ عقيبَ كونِ كائنٍ لا محالة، فعنه صدرَ، وهو مُوجبُه ومُسبِّبُه، وقد رأينا أنَّ العلمَ حصلَ عقيبَ خبرِ هؤلاءِ المخبرين المخَصوصين لا محالة، حتى إنّه لا يجوزُ أن يحصلَ عقيبَ خبرِ جماعةٍ، ولا يحصلُ عقيبَ خبرِ جماعةٍ مثلها، فثبتَ ما قلناه. قيل: أغنانا عن القولِ بالعلةِ والتولُدِ، ما ثبتَ من وجودِ صانع يكفي وجودُه لإحداثِ كلِّ حادثٍ، وكما أنَّه أجرى العادة في إدراك المحسوساتِ بنوع اتصالٍ وانطباعٍ، أو اتصالٍ شاعَ بالمحسوس ضرورة، ولا يجو أن يختلفَ وجودُه، أجرىِّ العادةَ بأنَّ العددَ الكثيَرَ المخبرين عن دركِ حواسِّهم لا يتطرقُ عليهم كذبٌ، فحصلَ العلمُ عقيبَ خبرِهم، كما حصلَ لنا العلمُ بدركِ حواسِّنا، وأغنانا (¬2) عن القولِ بالتولد. وأمَّا دعواكم علينا أنَّه يَسُدُّ علينا بابَ إثباتِ الصانعِ، فليسَ كذاك، ¬

_ (¬1) في الأصل: "العلة". (¬2) غير واضحة في الأصل.

* فصل لا يجوز على الجماعة الذين لا يحصل بهم التواتر التواطؤ على كتم ما يحتاج إلى نقله ومعرفته

لأَننا لا بدَّ لنا من إضافةِ الحوادثِ إلى محدِثٍ؛ لينقطعَ التسلسلُ، وإلا فمتى قلنا: إنَّ كل حادثٍ يقفُ وجودُه على حادثٍ قبلَه، لم (¬1) نَنْتَهِ إلى غاية، ومتى وقفَ وجودُ الحادثِ على تَقدُّمِ حوادثَ قبلَه لا غايةَ لها، لم يوجد. على أنَّه يلزمُكم، وينقلبُ عليكم ما ذكرتموه؛ من حيثُ إنكم مع قولِكم بالتولُّدِ، لا بدَّ للمتولدِ عنه من مؤثّرٍ لذلك المتولدِ عنه، [و] من مؤثرٍ ينبني عليه التولدُ، فلمَّا لم يكن هذا القولُ منكم سداً لبابِ إثبات الصانع، كذلك لا يكون اشتراطُنا (¬2) للفاعل الواحدِ سادّاً لبابِ إثباتِ الصانعِ، لأنَّا جمعنا مستند الحوادثِ إلى غايةٍ، هي الفاعل الأول جلَّت عظمتُه. فصلٌ لا يجوزُ على الجماعِة الذينَ يحصلُ بهم التواترُ التواطؤُ على كتمِ ما يحتاجُ إلى نقلِه ومعرفتِه (¬3). وبه قال العلماءُ، خلافاً للرافِضةِ: يجوزُ ذلكَ لغرض يتفقونَ عليه، كما اتفقت الصحابةُ على كتمِ النَّص على عليٍّ رضي الله عنه بالإمامةِ، على ما زعموا، وقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أخي، ووصيي، ¬

_ (¬1) في الأصل: "ثم". (¬2) في الأصل: "اشراطنا". (¬3) انظر "العدة" 3/ 852، و"المسودة" (235)، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 94، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 338.

* فصل في الدلالة على فساد مقالتهم

والخليفةُ من بعدي" (¬1). فصل في الدلالةِ على فسادِ مقالتهم بأنَّ (¬2) إحالةَ ذلكَ؛ لِمَا ركزَ الله سبحانه في طباعِ الآدميين؛ من توفيرِ الدواعي على نقلِ ما علموا، وكشفِ ما انفردوا بإدراكه، إلى من لم يدركه، ومَن لَحَظَ الطباعَ أولاً من نفسه، ثمَّ مِن غيرِه، عَلِمَ أن الكتمَ ثقيلٌ على النفوسِ، صعبٌ على الطباعِ؛ حتى كأنَ قائلاً يقول من داخل: أَشِعْ (¬3)، واكشف، وأعلن ما رأيت وسمعت (¬4)، قال الله تعالى: {قيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ} [يس: 26]، وهي الغاية في النعيم، التفت إلى ورائه، فقال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26]، حبّاً لإشاعةِ ما وصلَ إليه؛ إما لمفاخرةٍ، أو ترغيب غيرِه في سلوكِ ما سلكه من الصبرِ على البلاء في إيمانه، أو لأيِّ علةٍ كانت، حتى قال العقلاء: أَثقل على القلبِ من السرِّ، حتى على نفوسهم لا يكتمون، وقولهم: وسرُّ الثلاثة غيرُ الخفي، وما اجتمع قوم على شيء ألذَّ من الحديث، حتى قالَ قائلُهم: ولقد سئمتُ مآربي ... فكأنَّ أكثرَها خبيثُ إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث ¬

_ (¬1) خبر موضعوع، لا يصح عن النبي فى. انظر "الأسرار المردوعة" (443)، و"اللالىء المصنوعة في الأحاديث الموضعوعة" 1/ 359. (¬2) في الأصل: "بان". (¬3) في الأصل: "امسع". (¬4) طمس في الأصل.

واجتماعُ العرب على السَّمَرِ، وقالوا: لم يبقَ من لذاتِ الدنيا أطيبَ من المحادثةِ والمسامرةِ على التلاع الخُضرِ في الليالي القُمْرِ. وإذا كانت الطباعُ على هذا، بَعُدَ اجتماعُ القليل من العددِ على الكتم، واستحالَ اتفاق العددِ الكثيرِ على ذلك، وصاروا في الاستحالةِ كاتفاقِهم على الكذبِ، وهذا التقريرُ في الأخبارِ في الجملةِ التي لا يتعلقُ عليها الأغراض، فأمَّا ما يُحتاجُ إلى نقلِه، وفي نقلِه صلاحٌ، والدواعي إليه داعيةٌ، فاتفاقهم على كتمِه اتفاقٌ على قبيحٍ، ويستحي أنْ يجتمعَ العددُ الكثيرُ والجمُّ الغفيرُ على القبيحِ، مثلُ دخولِ عطشان أو جائعٍ إلى جامعِ المنصور، يطلبُ شربةً من ماء أو رغيفاً، فتَتَّفِقُ جماعةُ المزدحمين فيه على منعِهما من مطلوبِهما مع وجودِ ذلك، والقدرةِ عليه، أو على الإخبار بحادثٍ حدثَ بالخطيبِ على المنبرِ، ولم يكن حدثَ ذلك، أو إخبارهم بفتنةٍ وقعت، ولم يكُ ذلك على ما قالوا، بل تتفقُ تلكَ الجماعةُ على اختلاق الكذب، أو يقع ذلك -أعني: الحادثة بالخطيب، أو الفتنة- وتكتمها تلَك الجماعة، فلا ينفصل أحد من الجامعِ، فيتحدث بها، إنَّ استحالةَ الأمرين جميعاً على حدٍّ سواء، كذلك ها هنا. والأصلُ في إحالةِ ذلك: أنَّ الطباعِ في الوضع مختلفةٌ، والدواعي متفاوتة جداً، كتفاوتِ الأمزجة في الميلِ إلَى الطعومِ المختلفه، فلا يجوزُ أن يتفقَ ذلكَ الجمعُ على محبةِ الحموضةِ، ولا محبةِ الحلاوةِ، كذلك لا يتفقونَ على محبةِ كتمِ الحادثِ، ولا اختلاقِ ما لم يحدث. وأيضاً: لو جازَ اتفاقُ الصحابةِ على كتم نصِّ الخلافةِ على عليٍّ، لما أَمنَّا أن يكونوا كتموا في حكمِ الله سبحانه، فلا تبقى لنا ثقةٌ

* فصل في شبههم

بنقلِهم لشيءٍ من الأحكام، وهذا يسُدُّ علينا بابَ الثقةِ لما رووا من الأخبارِ المتضمنةِ الأحكام، وفي هذه المقالةِ أكثرُ الفسادِ. فإن قيل: أليسَ قد اتفقت الصحابةُ على تركِ نقلِ شرائعِ الأنبياءِ، وإن كانَ الكذبُ غيرَ جائزٍ على جميعِهم، فبانَ بهذا فرق ما بينَ الكتم والكذبِ. قيل: هذا عينُ الكذب، وإلا فمن الذي نقل إلينا سِيرَ الأنبياءِ إلا أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما سمعوه منه؟! فأمَّا نقلُهم عن غيره، فإنهم لم يثقوا إلى يهودٍ ونصارى، وقد علموا منهم الكذبَ والتبديلَ والتغييرَ لكتبِ الله القديمةِ، ومَنْ أسلمَ منهم، فقد نقلوا عنه ما أخبرَ به، وهل كتبُ السيرِ المدوَّنةِ عندنا إلا من نقلِهم؟ [و] لأنَّه لا داعي يدعوهم إلى ذلك، إذ لا غرضَ لهم في نقلِ مِلَّةٍ يبنون الأحكام عليها، إلا إذا ثبتَ ذلك بقول نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -. فصل في شُبَهِهم فمنها: أن قالوا: إنَّ كلامَ المسيح في المهدِ كانَ من أعجبِ حادثٍ حدثَ في الأرضِ، ثم إنَّ النصاَرى أكثرُ أُمَّةٍ على وجهِ الأرضِ، حتى إنَّ الإسلامَ مع اتساعِه وانتشاره لا يساوي رقعتهم، ومع ذلك لم ينقلوا ذلك الحادث، ونقلوا إحياءه الميت الذي أحياه، وإبراء الأكمهِ والأبرصِ، فبانَ أنَّه ليسَ النقلُ أمرأً يُنفَكُّ عنه، بل تارةً يُكتَم، وتارةً يُنقَل، وتارةً يُهمَل فلا يُنقَلُ، وتارةً يُعنَى به، فيُنقَل.

فيقال: إنَّ العلةَ في ذلك ظاهرةٌ، وهو أنَّ كلامَه في المهدِ كان وهو غير مُتَبعٍ، ولا ظهرَ أمرُه برسالةٍ، فما عُنِيَ بذلك أحدٌ، وإحياءُ الميتِ، وإبراء الأكمهِ والأبرصِ، كان وقتَ الإرسالِ، والاستدلالِ به، وتطلع النَاس إلى ذلك تطلعَ المتأملين، وأبداً ينقلُ الناسُ ما ظهرَ واشتهرَ، ومَا اشتدت الدواعي إلى نقله، والخلافةُ كالنبوة، فلو كانَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - نصٌّ يوم غدير خُم (¬1)، مع توفيرِ دواعي الناس، لا ¬

_ (¬1) خُم: واد بين مكة والمدينة عند الجحفة، به غدير، عنده خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من كنت مولاه، فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه". وهو. حديث صحيح، أخرجه من حديث زيد بن أرقم: أحمد 1/ 118 و 4/ 370 و 372 و 389 و 5/ 370، والترمذي (3713)، وصححه ابن حبان (2205)، والحاكم 3/ 109، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح. ومن حديث البراء بن عازب: أخرجه أحمد 4/ 281، وابن ماجه (116). وأخرجه من حديث سعد: أحمد 1/ 182، وابن ماجه (121)، وابن أبي عاصم (1376). وفي الباب: عن علي، وأبي أيوب الأنصاري، وابن عباس، رضي الله عنهم أجمعين. وليس في هذا الحديث نص على خلافة علي رضي الله عنه، وكلُّ ما فيه الترغيب في موالاة علي ونصرته، وهذا لا يقتضي وجوب تنصيبه خليفة على المسلمين بعد رسول الله. وإذا احتجت الرافضة بهذا الحديث، فلأهل السنة أن يحتجوا بأحاديث أخرى ترشد بمجموعها إلى أحقية أبي بكر وعمررضي الله عنهما من بعده بهذا الموقع، ومن ذلك: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر" وقد تقدم تخريجه. ومنها: عن عائشة، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر، لأكتبَ لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه" ثم قال: "معاذ الله أن يختلف =

سيما أهل البيت وشيعتهم، لما صَحَّ كتمُ ذلكَ من أعدائهِ، فكيف من أوليائه؟ وأبداً كل أمرٍ ظهرَ، وتوفرَ فيه الغرضُ، لم يصحَّ كتمهُ، وتوفرَ نقلُه، وبمثل هذا تأكدت حجةُ أبي حنيفة رحمة الله عليه في أنَّ ما تَعُمُّ البلوى به، لا يقبَلُ فيه الواحدُ (¬1). فإن قيل: فما أنكرتم أنَّه إنما صحَّ الكتمُ لأمرين مختلفين؛ أمَّا أولياءُ أهلِ البيتِ، فإنَّهم كتموا ذلكَ تَقِيّهً، وأمّاَ الأعداءُ، فكتموا ذلك معاندةً وتعصباً، فاتفقوا في الكتمِ، واختلفوا في علةِ الكتم، وإذا صحَ في حقِّ جماعةٍ طيُّ الحادثِ بمثل هذا التعليلِ، صحَّ في كلِّ جماعةٍ. قيل: ما عنيتم القولَ فيه باطلٌ، فلا تَختِلونا لِنَجوزَ عليه، فإنه أبعدُ في الإحالة، فإنَّ هؤلاء القومَ ممَّن وصفهم الله بكل فضيلة ومكرمةٍ ومدحةٍ، وأنهم أشداءُ على الكفارِ، رحماءُ بينهم (¬2)، وأَنَّهم خير ¬

_ = المؤمنون في أبي بكر"، أخرجه مسلم (2387)، وأحمد 6/ 47 و 106 و 144، والبغوي (1411)، والبيهقي في "دلائل النبوة" 6/ 343. وعند البخاري (5666) و (7217) بلفظ: "هممتُ -أو: أردتُ- أن أرسلَ إلى أبي بكر وابنه، فأعهد؛ أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنُّون، ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون -أو: يدفع الله، ويأبى المؤمنون-". وبناءً على هذه الأحاديث وغيرها من النصوص الأخرى، ذهب الحسن البصري، وجماعة من أهل الحديث: إلى أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثبتت بالنصر والأخبار، وذهبت جماعة من أهل الحديث، والمعتزلة، والأشعرية: إلى أنها ثبتت بالاختيار. انظر "شرح العقيدة الطحاوية" 2/ 698 (¬1) سيأتي هذا المبحث في الفصول القادمة، وبيان موقف الأصوليين من خبرِ الواحد إذا كان ممَّا تعمُ به البلوى انظر الصفحة 389. (¬2) يريد بذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى =

أُمةٍ (¬1)، وأَنّهم رُكَّع سُجَّد، يبتغون فضلَ الله [و] رضوانه، وأَنهّم يأمرونَ بالمعروفِ، وينهونَ عن المنكرِ، والقرآنُ مقطوع به، فكيف نَتْرُكُ شهادةَ المعصومِ لهم بالعدالةِ، ونَرجعُ إلى أفكِ المُسمَّيْنَ بالشيعة، وأَن القوم كتموا نصَّ رسول الله على ابنِ عم رسوله، مع أن الله جعلَ المودة لهم مُكافأةَ الرسالةِ، وأَجْرَ الرسول (¬2) - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز اجتماعهم على ذلك، عدمنا الثقة بالجميع فيما نقلوه، ولم نأمن أن يكونَ هناك فرض زائد كتموه، وقد كان يومَ السقيفة (¬3) نوعُ مقاولة من الأنصارِ والمهاجرين، فتَعلَّقَ هؤلاء بأنَّهم أهلُ الدارِ والإيواءِ والنصرةِ، وتَعلَّقَ هؤلاء بأنهم أهلُ الهجرة، وتعلقَ هؤلاءِ بأن أبا بكرٍ قَدَّمَه في الصلاةِ، والصلاةُ عمادُ الدين، وتعقَ المهاجرونَ بتقديمِ ذكرِهم في القرآنِ، وبوصيةِ رسولِ الله لهم بالأنصار، فكل ذكرَ حجته، فلم يَنْتصِرْ ناصر، ولا عثرَ عاثرٌ بنصِّ رسولِ الله يومِ غدير خُمٍّ، فيُقِيمَ الحجةَ، فإن جاءت الغلبةُ بالعنادِ والكثرةِ، كان ذلكَ من أكبرِ الطعنِ على المتغلبِ، فظهرَ عنادُه، وبانَ ظلمُه، فهذا طعن يعمُّ الكل على قولِ المخالفِ، فالصحابةُ (¬4) بكتمهم وعنادِهم، والقرابةُ بإهمالِهم تقريرَ (¬5) الحجة، وبيانَ ظلمهم، وأَنَّ ¬

_ = الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. (¬1) يشير إلى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. (¬2) وذلك في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. (¬3) انظر ما وقع في سقيفة بني ساعدة في "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 306 وما بعدها. (¬4) في الأصل: "والصحابة". (¬5) في الأصل: "تقرر".

رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مدحَهم المدحَ المُفرِطَ، حتى جعلهم كالنجوم (¬1)، وما أبعدَ هذا عن العقولِ السليمةِ، والمذاهبِ المنصفة. ومنها: أن قالوا: قد تمَّ في نقلِ الأمورِ الظاهرةِ؛ كالإهلالِ بالحج، مع اشتهارِه، فهذا روى أنَّه أهلَّ بالقرانِ بينَ الحجِّ والعمرة، وهذا روى أنَّه أهلَّ بالإفرادِ، وهذا روى أنَّه جمعَ بين الجلدِ والرجمِ في حقِّ الثَّيِّبِ، ورويَ أنّه لم يجلد مع الرجمِ، واختلفوا في ألفاظِ الأذانِ بينَ تشفيعٍ وترجيعٍ، وبينَ عدمِ الترجيعِ، وتشفيع الإقامةِ، بل الإيتار لها، وبقي تشفيع الأذان، وهو أمرٌ ظاهر يفعل خمس دفعات في كل يومٍ، فبطلَ إحالتكم للإجماعِ على الكتمِ، وإيجابُكم (¬2) للنقل. فيقال: إنَّ ذلكَ يمكنُ الجمعُ بين الرواياتِ فيه؛ بأن يكون لَمَّا عَلَّمَ المناسكَ، عَلَّمَ كلاًّ منهم ما أرادَ الإهلالَ به، والأذانُ اختلف؛ لأنَّ أذانَ بلال يخالفُ أذان أبي محذورة (¬3)، فما نقلَ إلا ما سمعَ منهم، وكانَ أبو محذورةَ نقلَ ذلكَ عن رسولِ الله، حيث كَرَّرَ عليه لفظ الشهادتينِ ليحببهما (¬4) إليه، ويمرنه عليهما، والجلدُ والرجمُ ماجتمع فيه إلا إثباتٌ ونفي، والنفيُ ملغى، والإثباتُ ¬

_ (¬1) وذلك بقوله: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم"، تقدم تخريجه 1/ 280. (¬2) في الأصل: "اجابكم". (¬3) هو أبو مَحْذورةَ الجُمَحِيُّ المكيُّ الصحابي المؤذن، اسمه: أوس، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان بن معير، وقيل: عمير بن لوذان، توفي بمكة سنة (59) هـ. انظر "الإصابة" 7/ 365. (¬4) في الأصل: "ليحببها".

* فصل ليس في التواتر عدد محصور

مُعوَّل (¬1) عليه، ويشهد له ما فعلَه علي رضي الله عنه؛ حيث جلدَ شُراحةَ يومَ الخميسِ، ورجمَها يوم الجمعة، وقال: جلدتُها بكتابِ الله، ورجمتها بسنة رسول الله (¬2). فصل ليسَ في التواترِ عدد محصورٌ، بل المعتبرُ العددُ الكثيرُ الذي لا يجوز اتفاق مثلهم على إتيان الكذب، ولا المواطأة عليه، أو [أن يكونوا]، أهل زهادةٍ وتدينٍ وورعٍ على ما قال أصحابنا (¬3)؛ فإنَّهم اعتبروا الكثرة، أو الصلاحَ والورعَ، ولم يحصروا ذلك بعددٍ. وقال الجبائي: يعتبر عدد يزيدُ على شهودِ الزنى. وقال بعضهم: اثنا عشر، بعدد النُّقباءِ. وقال بعض الأصوليين: يعتبر أن يكون العددُ سبعين، بعدد المختارين من قوم موسى. وقال بعضهم: ثلاث مئة ونيف، بعدد أهل بدر (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "معمول". (¬2) تقدم تخريجه 2/ 160. (¬3) انظر "العدة" 3/ 855، و،"التمهيد" 3/ 31، و"المسودة" (235)، و"شرع مختصر الروضة" 2/ 87. (¬4) انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 39، و"التبصرة" (295).

* فصل في أدلتنا

فصل في أدلتنا فمنها: أنَّ التواترَ: ما وقعَ العلمُ الضروريُّ بخبره، وهذا لا يختصُ بعدد مخصوص، إذ ليسَ من قالَ: بأنَّه يحصلُ بأربعةٍ، بأَوْلى من قولِ من قال: يحصلُ باثني عشر، ولا مَنْ قال: باثني عشر، بأَوْلى ممن قال: بسبعين، وعلى هذا، وإنَّما يحصلُ ذلكَ بما يحيلُ العقلُ عليه الكذبَ والتواطؤَ، وذلكَ لا يكونُ إلا في العددِ الكثير والجمِّ الغفير، فأمَّا في عددٍ محصورٍ، فليسَ لأحدِهما على الآخر ميزةٌ إلا بغلبةِ الظن، فأمّا أن ينتهيَ إلى العلمِ، فلا. ومنها: أنه لو كانَ الاعتبارُ بعددٍ مخصوصٍ، لوجبَ اعتبارُ صفاتٍ محْصوصةٍ، كالإسلام، والعدالةِ، على ما أجمعنا عليه في الشهادةِ، فلما لم نعتبر لذلك أوصافاً مخصوصةً، لم نعتبر له أعداداً مخصوصة، وهذا صحيح؛ لأنَّ العددَ إنما يرادُ لتناصرِ الأقوالِ التي يبعدُ معها الكذبُ، ويقربُ من غلبةِ الظن لصدقِ الخبر، وكما أنَّ ذلكَ يقوى بتزايدِ العددِ، فكذلك (¬1) يقوى بحصولِ الصفاتِ التي يبعدُ معها الكذبُ، وتُقرِّبُ إلى الصدق. ومنها: أنَّه ليسَ عددٌ من الأعدادِ التي اعتبر بها، إلا وما زادَ عليه يقوي ما في النفس؛ فالأربعةُ فصاعداً بالإضافةِ إلى الاثني (¬2) عشر، والاثنا عشر بالإضافةِ إلى السبعين، [والسبعون] بالإضافة إلى الثلاثِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكذلك". (¬2) في الأصل: "الاثنا".

* فصل في شبههم

مئةٍ ونيف، يَقْوي بالأكثر ما حصلَ في النفس بخبر العدد الأقل، وما قَبِلَ التزايدَ، فهو الظنُّ، إذ ليس وراءَ اَلقطع، ولا سيما العلمِ الضروريِّ، غايةٌ. فصلٌ في شبههم قالوا: إنَّ الله سبحانه اختارَ عددَ شهودِ الزنى أربعةَّ، واختارَ من النقباء اثني (¬1) عشر، واختارَ موسى لسماعِ كلامِ الله [سبعين من قومِه] ليُخْبِروا بسماعِ الكلام من لم يسمع، وهذا كلُّه يدلُ على حصولِ العلم به. فيقال لكل من تَعلَّقَ بعددٍ من الأعدادِ: إِنَّ اعتبار غيرِه -إمّا فوقَه، أو دونه- يُخرِجُ ما يَعقُبُه (¬2) عن أن يكون علماً ضرورياً؛ لأنَّ الضروريَّ لا يقبلُ التزايدَ. ولأنه لا دليل معكم على أَن العدد اعتبرَ لتحصيلِ العلمِ، ولا للتمبيز بين العلم وعدمه، بل تَعبَّدَ وتَحَكَّمَ بالعددِ، والأصلُ المعتبرُ فيه غلبةُ الظنِّ، لا العلمِ. ولأنَ الله سبحانه لم يعتبر العدد إلا تحكماً، إذ ليسَ أحدُ العددين بأولى من الآخرِ في تحصيلِ العلم. ولأنَّه اعتبرَ مع العددِ العدالةَ، ولو كان يحصلُ بقولهم العلمُ، ما اعتُبِرَتِ الصفاتُ، كالعددِ الذي لا يجوز عليهم التواطؤُ على الكذبِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "اثنا". (¬2) في الأصل: "تتعقبه".

* فصل لا يعتبر إسلام المخبرين في أخبار التواتر

لَمَّا (¬1) أوجبَ العلم، لم يُعتَبر مع العددِ صفةٌ. ولأنه يَدْخُلُ برجوعهم الشَّكُّ، وتزولُ غلبة الظن، وما ثبتَ من العلم الضروري لا يتطرقُ عليه الشك والشبهةُ، وهنا لو رجعَ واحد من العدد، لأورثَ شبهة، ولو قابلهم عددٌ مثلهم مخبرون بضِدِّ ما أخبروا به، لوقفَ الدَّسْتُ (¬2)، والعلوم الضرورية لا يتطرق الشَك على طرقها المحسوساتِ، وما ثبتَ بأوائلِ العقول في ذلك الخبر الذي أخبروا به، والشهادة التي شهدوا بها، ولم يجب استيفاء العقوبة. فصلٌ ولا يعتبر إسلام المخبرين في أخبار التواتر، بناءً على ما قررنا؛ من أن الإحالة للتواطؤ، إنما هي إحالةُ اتفاقِ العددِ الكثيرِ على إتيانِ الكذب، خلافاً لبعض أصحاب الشافعي: يعتبر إسلام المخبرين إن طالَ الزمانُ؛ بحيث يمضي ما حصل التواطؤُ في مثلِه، والمراسلة من بعضهم إلى بعضٍ، وإن لم يَطُلْ ذلك، صحَّ مع كفرهم، ولم يُعتَبْر إسلامُهم (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "لم". (¬2) الدست: فارسي، ويجيء في العربية لمعانٍ، هي: لباس، ووسادة، وحيلة، ودست الشطرنج، وهو المقصود هنا، إذ يقال للمغلوب: تمَّ عليه الدس، وللرابح: ثم له الدست، وإذا توقف اللعب وامتع: وقف الدست. "قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل": 26 - 27. (¬3) والراجح عند جمهورهم: عدم اعتبار الإسلام لقبول الخبر المتواتر، ويقع العلم بتواتر الكفار. وعندهم قول ثالث: أنه لا يقع العلم بتواتر الكفار، من غير تفصيل. انظر "المستصفى" 1/ 140، و"التبصرة" (297)، و"الإحكام" للآمدي 2/ 43.

* فصل في حجتنا

فصلٌ في حجتنا وهي أنَّ إحالةَ اجتماعِ الكفارِ على إتيانِ الكذبِ، مع كثرةِ الأعدادِ، واختلافِ الأمزجةِ والطباعِ، فصارَ كإحالةِ اجتماعِهم على حبِّ الحموضةِ أو الحلاوةِ في ساعةٍ واحدةٍ، أو يومٍ واحد، وهذا أمرٌ لا، يختلف باختلاف الأديانِ، كما لا يختلفُ باختلافِ السنِّ بعدَ التساوي في البلوغِ، والعقلِ الذي يصحُّ معه توخي الصدقِ. وأيضاً: فإنَّ العددَ المعتبرَ، لو جازَ أن يَقبلَ اعتبارَ زيادةِ صفةِ نفي الإسلامِ أو العدالةِ، لجازَ أن يَقبلَ الزيادةَ في العددِ؛ بحيث يقوى بزيادة (¬1) مئةٍ أخرى (¬2). فصلٌ في شبههم الكفرُ عرضةُ الكذبِ، والتحريفِ في القول، والإسلام مناطُ الصدقِ، والتحقيقِ في القولِ، ولهذه العلة اختص المسلمونَ بالقطعِ بإجماعهم، كذلكَ وجبَ أن يختص العلمُ القطعي بتواترِ أخبارِهم، ¬

_ (¬1) في الأصل: "زياد". (¬2) ورد بعدها في الأصل: "لحسنه، وتجنب الكذب لقبحه"، ولم يتبين لنا وجه ارتباط هذه الجملة بالكلام السابق، وقد فصل الناسخ بينهما، فلعل في الأصل الذي نقل عنه الناسخ سقطاً.

والآحادُ عرضةُ تجويزِ الكذبِ. فيقال: إنَّما تقوى بالصفةِ الآحادُ؛ ليغلبَ على الظنِّ صدقُ المخبرين، فأمَّا عددُ التواترِ؛ فإنَّ الإحالةَ للتواطؤ كافية عن اعتبارِ الصفاتِ الزائدةِ على المعتبرِ من العقلِ، وسلامةِ الحواسِّ التي يحال بالإدراك عليها، وقد وطن لمثل هذا جماعة من الفقهاء المالكيةِ والحنابلةِ في شهادة الصبيان في الجراح، فلم يعتبروا البلوغ، إذا جاؤوا مجتمعين قبلَ أن يمضيَ زمان يتهمون فيه بالتعليم لهم أو التواطؤ، فللاجتماع، وعدم تجويزِ التواطؤ، عمل وتأثير يغني عن اعتبارِ صفاتِ المخبرين؛ لبُعْدِ التُّهْمةِ في ذلك. على أنَّا نجدُ من نفوسِنا العلم بإخبار العددِ الكثيرِ وإن كانوا كفاراً؛ بحيث لا يورثُنا كفرُهم شكاً في خبرِهم، مع توفيرِ عددِهم، واستحالةِ تواطئهم على الكذب. وأما الإجماع، فإنما صار حجة معصومةً بالشرع، والشرعُ خصَّ ذلكَ بقوم مخصوصين بالإسلام، والاجتهادِ، والعدالةِ، مع البلوغ والعقل، وليس كذلك الأخبارُ، فإنها توجب العلمَ من طريقِ العادةِ، وما طريقهُ العادةُ، لا يختلفُ فيه المسلمونَ والكفارُ. ومنها: أن قالوا: لو كانَ العلمُ يقع بتواترهم، لوجب أن يقعَ العلمُ بكلِ ما يخبرون به، ومعلوم أنَّه لا عددَ أكثرُ من عددِ النصارى من بين سائرِ الملل، وقد أخبروا بقتلِ المسيح وصلبهِ عليه السلام، ومع ذلك لم يثبت العلمُ بخبرِهم، وما ذلك إلَا لعدمِ إسلامهم. فيقال: إنما لم يقع هناك العلمُ؛ لأنَّ شرائط التواتر فيه غيرُ متكاملة، وهو استواءُ طرفي العددِ ووسطِه، [و] الذي نقلته النصارى

* فصل يجوز ورود التعبد بخبر الواحد من طريق العقل

الآن مع كثرتِهم، يَستنِدُ إلى نقلِ آحاد يسيرةٍ لا يقعُ العلمُ بخبرٍ هم، وكلامُنا في عددٍ كثيرٍ لا يتواطؤ أمثالُهم على كذب، يخبرون عن دركِ إحساسِهم، ولا يزالُ ينقلُه أمثالُهم إلى أن يصلَ إلينا على ذلك الوجهِ، لا يختلُّ الطرفان، ولا الوسطُ. ومنها: أنَّ الإسلام والعدالة صفتان تحصلُ بهما الثقةُ إلى الخبرِ، فكانَ مشروطاً في المُخْبِرِ كصحَّةِ (¬1) العقلِ والحاسَّةِ. فيقال: المخبرُ إنما يرقى عن إدراكه لما يخبرُ به؛ إما من طريق نفس إدراكه، وهم الأعداد الأُوَل المذكورون، أو عن غيرهم، وهم الطبقةُ الثانية، بإدراكِ ما سمعوه منهم، فإذا لم تكن حاسةٌ، انعدمَ الطريقُ، فصارَ خبره عن غيرِ حاسَّةٍ، ولا عقلٍ، يعني كالمخبرِ عن ميتٍ، أو جمادٍ، بأنه قال كذا، أو فعل كذا. فأمَّا الكافرُ، فله دركٌ وحاسَّةٌ وعقل، فإذا كثُرَ العددُ المفرط الذي لا يحصرُه بلدٌ ولا عددٌ، استحالَ حبُّ جماعتِهم للكذبِ، سواء كانوا معتقدين لدينٍ، أو لم يكونوا معتقدين، فإنَّ (¬2) الأمزجةَ والطباعَ لا تتفقُ على الكذبِ، مع التديُّنِ، وعدمِه. فصل يجوز ورود التعبد بخبر الواحد من طريق العقل (¬3)، خلافاً لبعض ¬

_ (¬1) في الأصل: "صحة". (¬2) في الأصل: "وإن". (¬3) ذكر ذلك القاضي في "العدة" 3/ 857، والكلوذاني في "التمهيد" =

* فصل يحمع أدلتنا

المتكلمين -وأظنه: الجبائي؛ على ما رأيته في بعض الكتب الكلامية-، قال: لا يجوزُ ذلك عقلاً (¬1). فصل يجمع أدلتنا فمنها: أنَّ التعبداتِ تتضمنُ ترغيباً في الثواب، وترهيباً من العقاب، وعلى هذا مبنى التكليف، وقد ثبت تجويزُ الرجوعِ في التخويفِ من طريقٍ، والترهيبِ من سفرٍ، إلى خبرِ الواحد المخبر بما يخوفه من سبعٍ، أو قاطعِ طريقٍ، وكذلكَ تجويزُ العملِ بخبرهِ ترغيباً في سفير لنفعٍ آَخْبرَ به؛ من ربحٍ في تجارةٍ، ودركٍ لمطلبٍ، فكذلك خبره عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يعودُ بدفعِ مضرةٍ، أو درك منفعة، ولا ¬

_ = 3/ 35، والشيرازي فى "التبصرة" (301)، والآمدي في "الإحكام" 2/ 68، والغزالي في "المستصفى" 1/ 141. (¬1) الصحيح في مذهب الجبائي: أنه يفصِّل في خبر الواحد، فإن كان ممَّا انفرد به العدل الواحد، لم يقبله، وإن كان المخبر اثنين، أو يزيد، قبل الخبر، ومما يرشد إلى ذلك: ما سيأتي بالفصل القادم؛ من أن الجبائي لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين، ومفهوم ذلك أنه يقبل اثنين، أو يزيد، ولذا كانت عبارة الجويني في تقرير رأي الجبائي: وذهب الجبائي: إلى أن خبرَ الواحد لا يقبل، بل لا بد من العدد، وأقله اثنان. "البرهان" 1/ 607. فهذا كله يدل على أن الجبائي لا يطلق القول في منع جواز التعبد بخبر الواحد. على أن ابن السبكي نقل هذا القول عن جمهور الرافضة، ومن تابعهم من أهل الظاهر؛ كالقاساني، وغيره. انظر "الإبهاج" 2/ 300.

عاقلَ ينكر التوقف عن الشروع في السفرِ، لما يخبره الواحدُ عن مضرةٍ تلحقهُ، ولا ينكر الإقدامَ على السفرِ؛ لإخبارِ الواحدِ له بمنفعةٍ يدركها. فإن قيل: أمَّا الخبرُ من جهةِ الواحد في بيانِ الأمور الدنيوية، لا يُشبهُه الخبرُ بالتعبداتِ، ولهذا لا يقفُ وجوبُ العملِ والتحرز في الأمَورِ على العدلِ، بل الفساق إذا أخبرونا بسبعٍ أو قاطعِ طريقٍ، وجبَ في العرفِ التحرزُ والتوقفُ عن سلوكِ الطريقِ، ولا نبني حكماً شرعياً على خبرِ فاسقٍ. (1 قيل: لا نُسَلِّمُ، بل الفاسقُ إذا حَذَّرَ من سَبُعٍ، أو قاطعِ طريقٍ، قَدْ نَقصِدُ إليه 1) ... ومنها: أنَّ الاتفاقَ حاصلٌ بأنَّ الشرعَ لا يأتي إلا بمجوَّزاتِ العقولِ، فأمَّا موانعُها، وما لا تجيزهُ، فلا. وقد وردَ الشرعُ بالعملِ بقولِ الشاهدِ والشاهدينِ والأربعةِ على حسب الأحكام، والعملِ في الأحكامِ بقولِ المفتي، وإن جازَ عليهم السهو والخطأ، ولم يقبح ذلكَ في العقل، وإن كان قول المفتي يستند إلى استنباطٍ أو دليلٍ، قد يخطىءُ فيه أو يصيبُ، فالرجوعُ إلى قولٍ وخبر يسنده إلى سماعِه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أَوْلى أن يُعملَ به. ¬

_ (1 - 1) هذا الجواب أثبتناه من هامش الأصل، وإن لم يحل الناسخ إليه بتخريجة كما هو معتاد.

* فصل في شبههم

فصلٌ في شبههم فمنها: أن قالوا: إنَّ التكاليفَ مبنيةٌ على المصالح، ولا يعلمُ المصالحَ إلا الله سبحانه ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان الناقلُ للخبرِ غيرُ العالم بالمصالح واحداً، مع تطرقِ السهوِ عليه في نقلِه وخبرِه، لم تحصل لنا الثقة بحصول الأصلحِ الذي بُنيَ التكليفُ عليه. فيقال: الأصلُ في التكليفِ مشيئةُ الله سبحانه، ولا يتخصصُّ التكليفُ بمصلحةِ المكلف، هذا أصلٌ قد فرغنا منه في أصول الدياناتِ؛ بما بانَ من كونِ التكليفِ في حقِّ كثيير من المكلفين سبباً للوبال. على أنَّا إن تكلمنا على الاسترسال في النظرِ، فإنَّ تَحَرِّي ما يوجبُ غلبةَ الظنِّ في حصول الأصلح، هو المُعوَّل (¬1) عليه، وهو خبرُ الواحدِ العدل الذي رضيَ به الشرع في إشغال الذمم التي أوجبَ خلوَّها دليلُ العقلِ، وإراقةِ الدماءِ، وانتزاع الأموال من أرباب الأيدي، والتصرفات، وإباحةِ الأبضاعِ المغصوبةِ المحرمةِ، كلُّ ذلكَ بشهادةِ الاثنين، وفتوى الواحدِ مع العدالةِ، وإن كان مبنى إيجاب (¬2) الحقوق، وشغلِ الذمم، وإباحةِ الحيوانِ، على المصالح ونفي المفاسد، وقد وجبَ على الحكامِ العملُ بذلك في الأحكامِ، وكذلك العوامُّ جاز لهم العمل بفتيا الواحدِ في جميعِ هذه الأحكام، وإن جازَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المعمول". (¬2) في الأصل: "احاب".

أن يكونَ باطنُ الشهادة كذبَ الشاهدِ، وباطنُ الفتيا خطأ المفتي. جوابٌ آخر: لو كانَ هذا طريقاً في المنعِ [لكان طريقاً في المنع] من العملِ بالاجتهاد؛ لأنَّ أدلة الاجتهادِ ظواهرُ غيرُ قطعيةٍ، كالقياسِ والاستنباطِ والعمومِ، وكما أنَّ خبرَ الواحدِ يجوزُ عليه الكذب، [و] المجتهدُ المستندُ اجتهادُه إلى هذهِ الطرق يجوزُ عليه الخطأ، فإذا لم يكن طريقاً لمنعِ العمل بالاجتهادِ، لا يكونُ طريقاً لمنع العمل بأخبارِ الآحاد. ومنها: أن قالوا: لو جازَ العملُ بخبرِ الواحدِ، وإن لم يقع به العلمُ، لجازَ العملُ بخبرِ الفاسقِ والصبي؛ إذ ليسَ في خبرِهما إلا عدمُ وقوعِ العلم. فيقال: لو وردَ الشرعُ بالعملِ بالخبرِ الصادرِ عنهما، لقبلناه، ولهذا لما جَوَّزَ قبولَ خبرِ الصبي في الهدية، والإذن في دخول الدارِ، قبلناه، لكنَّه نهانا عن الرجوعِ إلى قولِهما، وجاءنا بقبولِ قولِ الواحدِ العدلِ، فقبلنا ما جَوَّزَ لنا قبولَه، ورددنا ما منَعنا قبولَه، وهو في بابِ الشهادةِ والفتوى، فلا فتوى لفاسقٍ ولا صبى، ولا شهادةَ، بخلافِ الواحد العدل. على أنَّ الثقة في العادة لا تحصلُ بخبرِ من عرفناه بارتكابِ الكذبِ في القولِ، والتحري في الفعلِ، وتحصلُ لنا فيمن عرفنا منه التحري في القولِ والعملِ، فهذا معنى يرجعُ إلى ما نجده من نفوسِنا، ولهذا لم نقبل شهادةَ الفاسقِ، وقبلنا شهادةَ العدلِ. ومنها: أن قالوا: لمَّا لم نقبل خبرَ الواحدِ في الرسالةِ والنبوةِ حتى اعتبرت المعجزةُ، كذلك لا نقبل ما جاءت به النبوةُ من التكاليفِ

* فصل يجب العمل بخبر الواحد

التي جاءت النبوة لأجلها (¬1). فيقال: إنَّ طريقَ أصلِ إثباتِ النبوةِ على القطعِ، ولا قطعَ في خبرِ الواحدِ من غيرِ برهانٍ وإعجازٍ، فأمَّا أعيانُ التكاليفِ وجزئياتُ الأحكامِ، فإنَّ طريقَها الظنُّ، بدليلِ أنَّه لما ثَبَتتِ النبوةُ قطعاً، جاءت النبوةُ بالتعبد بقبولِ خبرِ الواحدِ في باب الشهاداتِ والفتاوى عن الآحاد، مع كونِ أقوالِهم مبنيةً على الثَقةِ بحسنِ الظنِّ، من غير يقينٍ، ولا قطع. فصلٌ يجب العملُ بخبرِ الواحدِ الذي يَجُوزُ قبولُ خبرِه شرعاً وعقلاً. نصَّ عليه صاحبُنا (¬2)، وبهذا قالَ جمهورُ الفقهاءِ والأصوليين. وذهب قومٌ من أصحاب الشافعي: إلى أنه يجوز من جهة الشرع خاصة (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "لأجلنا". (¬2) انظر هذه النصوص الواردة عن الإمام أحمد، والتي تفيد وجوب العمل بخبرِ الواحد في "العدة" 3/ 859، وارجع في هذه المسألة إلى "التمهيد" 3/ 35، و "المسودة" (238). (¬3) لم يذهب أيٌّ من أصحاب الشافعي إلى أن العمل بخبر الواحد جائزٌ شرعاً -وفق ما توهم ظاهر العبارة-، بل الجميع متفق على وجوبه شرعاً، وإنما الخلاف في وجوبه عقلاً، فجمهور الشافعية على أن العمل بخبر الواحد واجب شرعاً، جائز عقلاً. وذهب القفال، وابن سريج: إلى أنه واجب شرعاً وعقلاً. انظر "التبصرة" (303)، و"الإحكام" 2/ 75، و"المستصفى" 1/ 148.

* فصل في جمع أدلتنا وقوله تعالى (وما كان المؤمنون لينفروا. . .)

وذهب بعضهم: إلى وجوب العمل به، كقولنا، عقلاً وشرعاً، على ما قدمنا. وذهب (¬1) القاساني (¬2): إلى أنَّه لا يجوزُ العمل به من طريق الشرع، ووافقه (¬3) على المنع من العمل به ابن داود، إلا أنه قال: وقد كان يجوز وجوب العمل به عقلاً، لولا منع الشرع (¬4). وذهب الجبائي: إلى أنه لا يقبَلُ في الشرعيات أَقلُّ من اثنين. فصلٌ في جمع أدلتنا فمنها: قولهُ تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]، فوجهُ الدلالةِ من الآيةِ: أنَّه ¬

_ (¬1) في الأصل: "وقال". (¬2) هو أبو بكر محمد بن إسحاق القاساني، أخذ عن داود الظاهري، وخالفه في مسائل. وقاسان: بلدة على ثلاثين فرسخاً من أصبهان، وأهلها روافض مجاورون لقم. انظر "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" للحافظ 3/ 1147. (¬3) في الأصل: "ووافقهم". (¬4) وهذا قول خاصّ بابن داود، ولا يعبر عن موقف الظاهرية من خبر الواحد، يؤكد ذلك: ما نقله ابن حزم في "الإحكام" 1/ 108 عن داود الظاهري؛ من وجوب العمل بخبر الواحد، بل كونه مفيداً للعلم أيضاً، ونصر هذا، ودافع عنه، وأنكر على المخالف.

* فصل في الأسئلة على هذه الآية

أوجبَ أن يتخلف عن النفورِ إلى الجهادِ قومٌ، كما أوجبَ أنْ ينفرَ إلى الجهادِ قومٌ، وعلّل في ذلك: أن تكونَ الطائفةُ المتخلفةُ عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، تحفظُ ما يقولُ، وتعي ما يردُ به الوحيُ من الناسخِ، وما يشرعُ، وتُنذِرُ به من تخلفَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشغله بالجهادِ، وغيبتِه عنه، ولو لم يجب على الغائبِ التعويلُ على بلاغ الحاضرِ، لما كان للأمرِ بالإنذارِ معنى، فدلَّ على وجوبِ الأخذِ بقولهم، وإن كانوا طائفةً يسيرةً، لا يبلغونَ إلى حدِّ التواترِ. فصلٌ في الأسئلة على هذه الآية قالوا: وجوب الإنذارِ لا يدلُّ على وجوبِ العملِ بقول المنذرِ، بدليل الشاهدِ الواحدِ، والشاهدين اللذين ظاهرُهما العدالةُ، لكن الحاكمُ لا يعلمُ عدالةَ باطنِهما، فإنَّ الله تعالى أَوْجبَ بلاغَها، ونهى عن كَتْمِها، فقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ومع ذلك لا يلزمُ العملُ بقولِ الواحد، ولا يقولِ من ظاهرهُ العدالةُ فيما يعتبرُ فيه البحثُ. فصلٌ إذا كان غرضُ الإبلاع العملَ والإنذارَ، فلا يجوزُ أن يَعْرى إيجابُ السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غرضه، ولهذا لو صرح، فقال: {ولِيُنْذِرُوا قومَهم} [التوبة: 122]، فلم (¬1) يَعملِ القومُ بإنذارِهم، لما حسنَ هذا، وكان كلاماً خارجاً عن الفائدةِ والإحكامِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فلا".

وأمَّا الشاهدُ الواحدُ، فيجبُ عليه الإبلاع، لأنَّه يمكنُ بناءُ اليمينِ عليه فيما يقبلُ الشاهدَ واليمينَ، وإتمامُ العددِ مكانِ النصِّ عدى عدد مخصوصٍ، وها هنا لم نَعتبِرْ عدداً، فننتظرَه، ولا توقفَ الإنذارُ عليه، فيُعلَّقَ وجوبُ العملِ به، لأنَّ الأصلَ ما ذكرنا، وأنَّ كلَّ من وجبَ عليه الإعلامُ لشخصٍ (¬1)، وجبَ على الشخص الذي أُعلِمَ العملُ بقوله، كالأذان لما وجبَ، وجبَ إجابته بالعملِ به صلاةً، وإفطاراً في المغربِ، أو إمساكاً في الفجر، وكذلك الفتوى، وكذلكَ تبليغُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته؛ حيث قيل له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، فإنه حيثُ وجبَ عليه ذلك، وجبَ على المُبلَّغينَ من الأُمَّةِ العملُ به. فإن قيل: الحذرُ لا يعطي العملَ بخبرهم إلا على وجهٍ؛ وهو أنْ ينظرَ في التبليغِ والإنذارِ، ويعمل بما يقتضيه الدليلُ، فأمَّا أن يوجبَ قبولَ خبرِه، فلا. قيل: الحذرُ المُعَلَّقُ على إنذارِهم، يقتضي أنَّه حذَّرَ من مخالفةِ إنذارهم، وتركِ العملِ به، فأمَّا أن ينضمَّ إلى إنذارهم دليل، فلا وجه له، ولا يعطي ظاهرُ الآيةِ ذلك، ومن لم يعمل بخبرِ المنذِر فما (¬2) حَذِرَ، فالآية تقتضي الحذرَ بمجردِ الإنذارِ، ولو كان ذلك واقفاً على دليلٍ، لم يكن عملاً بالإنذار، بل كانَ العمل بذلك الدليل. فإن قيل: لا حجةَ في الآيةِ؛ لأنَّ الطائفةَ قد تقعُ على ما يحصلُ به العددُ الذي يحصلُ بخبرِهم العلم: الأربعةُ، والاثنا عشر، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بشخص". (¬2) في الأصل: "فيما".

والسبعون (¬1) والثلاثُ مئةٍ وبضع، وإذا لم يتخصص بعددٍ، لم يكن في الآيةِ حجةٌ. قيل: قد تقعُ الطائفةُ على أقل قليل، وهو الواحدُ، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقال محمد بن كعب في قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} [التوبة: 66]: كان رجلاً واحداً (¬2)، وقيل في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} [النور: 2]، قيل: أقلها واحدٌ. على أنَّنا أجمعنا على أن سماع العلمِ فرضٌ على الكفاية، وأنه لو تخلفَ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من يسمع منه، ولو واحداً (¬3)، سقطَ عن كافَّةِ أصحابِه رضوان الله عليهم، ومَن سَقَطَ بحضورِه الفرضُ عن الكل، هو الذي وجب الحذرُ بإنذارِه. فإن قيل: إنَّما المرادُ بالإنذارِ الفتيا من العلماءِ، وذلك يجب قبوله على العوام، فنحن قائلون بما جاءت فيه، ويشهد لذلك: ما في نطق الآية من قولِه: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا} [التوبة: 122] , ولم يقل: لينقلوا، أو: ليسمعوا، فيخب (4 فالمقصود: علمُ 4) أحكام الشريعة. قيل: كل مسموع من (4 النبي - صلى الله عليه وسلم - 4) يسمى فقهاً، لا سيما في حق الصحابة مع فقههم لكلامه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "يحملُ هذا العلم من ¬

_ (¬1) في الأصل: "والسبعين". (¬2) انظر "تفسير الطبري" 14/ 336 تحقيق أحمد شاكر. (¬3) في الأصل: "واحد". (4 - 4) طمس في الأصل.

كل خل عدولُه" (¬1) فكانت الأخبارُ علماً، وقال: "رحم الله -وروي: نَضَّرَ الله- امرأً سمعَ مقالتي، فوعاها، فأدَّاها كما سمعها، فربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه" (¬2) فكان قوله المحمول فقهاً، ولأنَّ في الفتيا من الحجةِ مثل (3 ما في قول واحدٍ 3)، يقول قولاً غير معصوم من الخطأ، كما أن القائل غير معصوم من السهوِ والغلطِ أو الكذب، فإذا (3 أخطأ أحدهما في 3) التحذير، كان الآخر مثله، (3 وحكَمه حكمه، كما في 3) قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، وتقييده يمنعُ أن يكونَ العدلُ (3 مراداً، فيبطل 3) تقييد القرآن بالفسق، ويخرج عن الفائدة إذ لم نخص التَّبيُّن بالفاسق، ويكون العدل عندها كالفاسق في إيجاب التَّبيُّن. وهذه الآية ينبني الاستدلال بها على دليلِ الخطاب في نقلِ المستفيض الذي لا يعتريه شك، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُنفِذُ آحاداً من أصحابه في النواحي والبلاد حاملين الكتب رسلاً، مثل كتابه إلى قيصر: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآيات, وأمَّر أبا بكر الصديق أميراً على الحاج، وعمرَ ساعياً على الصدقة، وعلياً قاضياً على اليمن، وعَتَّابَ بنَ أَسيدٍ، ومعاذ بن جبل، وكَلَّفَ كلَّ أهلِ ناحيةٍ طاعةَ من أَنفْذَ به إليهم، والعملَ بما بعثهم به، وندبهم له، وطاعتَهم في ذلك، وهم آحاد. فإن قيل: يجوزُ أن يكونَ بعَثَهم إلى قومٍ في أحكامٍ علموها قبل بَعْثِه هؤلاء الآحادَ؛ بالتواترِ السابقِ لبَعْثِهم، كما أنهم علموا وجوبَ ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (14) و (52) و (55) و (56)، وذكره التبريزي في "مشكاة المصابيح" (248). (¬2) تقدم تخريجه 1/ 7. (3 - 3) طمس في الأصل.

العملِ بخبر الواحد قبل بَعْثِه الرسلَ على قولكم. قيل: لو كانَ نُقِلَ إليهم نقلاً متواتراً، لكان قد نُقِلَ إلينا، وعرفناه، كما علمنا جميعَ ما حصلَ به نقلُ التواتر. وأمَّا وجوبُ العمل بخبرِ الواحد، فإنَّهم كانوا علموه بما شاعَ من بعثهِ الرُّسلَ إلى كلِّ جهةٍ. فإن قيل: فقد كانَ يبعثُ بآحادِ الرسلِ يدعو إلى الإيمانِ، وإن لم يكن ذلك معلوماً من جهةِ الرُسلِ، فكذلكَ بعثَ برسلِه بالأحكامِ، وإن لم يكن ذلك معلوماً من جهةِ الرُّسلِ. قيل: الإيمانُ معلومٌ عقلاً، ولكن وجوبُه الذي بَعَثَ به رسلَه لأجلِه، لم يُعلَمْ إلا من جهةِ رسلِه، وعند المخالفِ يُعلَمُ ذلكَ بالعقلِ، ولكن بَعَثَ من يُنبِّهُهُم على إعمالِ الفكرِ والنظرِ في الدليل. ومنها: إجماعُ الصحابةِ رضي الله عنهم على عملِهم بخبرِ الواحد، ومن ذلك: عملُ أبي بكر الصديق بخبر المغيرةِ ومحمد بن مَسْلَمةَ في ميراثِ الجدة، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعمها السدسَ، فجعلَ لها السدس (¬1). ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث قَبِيصةَ بن ذُؤَيبٍ، قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها، قال: فقال: ما لَكِ في كتابِ الله شي، ءٌ وما لَكِ في سَنَة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ بلا، فارجعي حتى أسال الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدسَ. فقال أبو بكر رضي الله عنه: هل معك غيرك؛ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فانفذه لها أبو بكر. أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 513، وأبو داود (2894)، والترمذي (2101)، وابن ماجه (2724)، وابن حبان (1224)، وصححه، والحاكم =

ومن ذلك: عملُ عمرَ رضي الله عنه بخبرِ عبد الرحمن بن عوف في أخذِ الجزية من المجوس، وقوله: "سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتاب" (¬1). وعملَ بخبرِ حَمَلِ بن مالك في الجنين، وقال: لولا هذا لقضيتُ بغيرِه (¬2). ورويَ أنَّه قال: كِدْنا أن نقضيَ فيه برأينا (¬3). ¬

_ = 4/ 338، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في "تلخيص الحبير" 3/ 82: وإسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فإن قَبِيصةَ لا يصح له سماعٌ من الصدِّيقِ، ولا يمكن شهوده القصة. (¬1) هذا اللفظ أخرجه مالك 1/ 278، وقال ابن حجر: هذا حديث غريب، وسنده منقطع أو معضل. "موافقة الخبر" 2/ 179. قلت: وورد في الصحيح عملُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر. من غير قوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". أخرجه البخاري (3156)، وأبو داود (3043)، والترمذي (1587). (¬2) في الأصل: "بغير". (¬3) أخرجه أبو داود (4572) من طريق ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع طاووساً، عن ابن عباس، عن عمر: أنه سأل عن قضية النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمِسْطَحٍ، فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغُزَةٍ، وأن تقتل. وإسناده صحيح. وأخرجه أيضاً (4573) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، قال: قام عمر رضي الله عنه على المنبر، فذكر معناه. ولم يذكر: "وأن تقتل"، بل زاد: "بغُرَّةٍ: عبدٍ، أو أَمَيةٍ"، قال: فقال عمر: الله أكبر، لو لم أسمع بهذا، لقضينا بغير هذا. وهذا منقطع، طاووس لم يسمع من عمر.

وعمل بحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها (¬1). ومن ذلك: عملُ عليٍّ وعثمانَ بخبر فُرَيعةَ بنت مالك في سكنى المتوفى عنها زوجها (¬2). ¬

_ (¬1) روى سعيد بن المسيب، قال: كان عمر بن الخطاب يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أُوَرِّثَ امرأةَ أَشْيمَ الضِّبابِيِّ من دية زوجها. فرجع عمر. أخرجه أبو داود (2927)، والترمذي (2110)، وابن ماجه (2642)، والطبراني في "الكبير" 8/ 360. ورجاله ثقات، إلا أن في سماع سعيدٍ من عمرَ خلافاً، وله شاهد يتقوى به من حديث المغيرة بن شعبة عند الدارقطني 4/ 76. (¬2) نص الحديث: أن الفريعةَ بنت مالك بن سنان جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجعَ إلى أهلها في بني خُدْرةَ، فإن زوجها خرج في طلب أعبدٍ له أَبَقُوا، حتى إذا كان بطرف القَدُومِ لحقهم، فقتلوه، فَسَأَلتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ترجعَ إلى أهلها، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" قالت: فخرجتُ حتى إذا كنت في الحجرة أو المسجد، دعاني، أو أَمَرَ بي فدُعِيتُ له، فقال: "كيف قلتِ؟ " فَرَدَدْتُ عليه القصة التي ذكرتُ من شأن زوجي، قالت: فقال: "امكثي في بيتك حتى يَبلغَ الكتابُ أجَلَه" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان عثمان بن عفان، أرسلَ إلي، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه، وقضى به. أخرجه أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، وابن ماجه (2031)، والنسائي 6/ 199، وصححه ابن حبان (1332)، والحاكم 2/ 208، ووافقه الذهبي. مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم.

ومن ذلك: عملُ ابنِ عمرَ بحديثِ رافعِ بن خَدِيجٍ في الانتهاءِ عن المخابرةِ (¬1). ومن ذلك: عملُ ابن عباس بخبرِ أبي سعيد الخُدْريِّ في الرِّبا في النَّقْدِ، بعد أن كان لا يحكمُ بالرِّبا إِلا في النَّسِيئَةِ (¬2). ومن ذلك: عملُ زيد بن ثابت بخبر امرأةٍ من الأنصار: أن الحائض تَنْفِرُ بلا وداعٍ (¬3). ومن ذلك؛ ما رويَ عن أنس بن مالك: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيَّ بن كعب شراباً من فَضِيخٍ، إذ أتانا آت، فقال: إنَّ الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنسِ إلى هذه الجرارِ، فاكسرها، قال: فقمت إلى مِهْراسٍ لنا، فضرَبْتُها (¬4) بأَسْفلِهَ حتى ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 3/ 220. (¬2) خبر أبي سعيد الخدري تقدم تخريجه، ورجوع ابن عباس عن قوله: لا ربا إلا بالنسيئة. أخرجه البيهقي 5/ 281 - 282. (¬3) قول زيد: بلزوم الحائض طواف الوداع، وإن طافت الإفاضة: أخرجه البخاري (1758) و (1759): أن أهلَ المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت، ثم حاضت، قال لهم: تنفرُ، قالوا: نأخذ بقولك، وندع قول زيد! قال: إذا قدمتم المدينة، فسلوا. فقدموا المدينة، فسألوا، فكان فيمن سألوا أثمَ سُلَيْمٍ، فذكرت حديث صفية: "أحابستنا هي". ورجوع زيد عن قوله هذا: أخرجه مسلم (1328) (381) من حديث طاووس، قال: كنت مع ابن عباس، إذ قال زيدُ بن ثابت: تفتي أن تَصْدُرَ الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؛ فقال له ابن عباس: إما لا، فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت. (¬4) في الأصل: "فضربها".

تكسَّرَتْ (¬1). ومن ذلك: ما ظهر واشتهر من عمل أهل قباء في التحول من القبلة بخبر الواحد، فالتفتوا بخبره إلى الكعبة (¬2). ومن ذلك: ما روي عن ابن عباس، أنه بلغه عن رجل، أنه قال: إنَّ موسى صاحب الخَضِرِ ليس بموسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذبَ عدوُّ الله، أخبرني أبيُّ بن كعب، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكرَ موسى والخَضِرَ بشيءٍ يدلُّ على أنَّ موسى بني إسرائيل صاحب الخَضِرِ (¬3)،، فعمل بخبر أبى إلى حدٍّ كَذَّبَ الرجلَ، وسمَّاه عدوَّ الله، تعويلاً على خبر الواحد. وعملوا كلهم بخبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أن الأئمة من قريش (¬4)، وبحديث عائشة في التقاءِ الخِتانَيْنِ، ووجوبِ الغسل من ¬

_ (¬1) أخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 183 و 189 - 190، والبخاري (5583) و (5622)، ومسلم (1980) (5) و (6)، والنسائي 8/ 287، وابن حبان (5352)، والبيهقي 8/ 295، والفضيخ: أن يفضخ البسر، ويصب عليه الماء، ويتركه حتى يغلي، أما المهراس: فهو حجرٌ منقور. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 441. (¬3) ورد ذلك من حديث سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكاليَّ يزعم أن موسى عليه السلام صاحب بني إسرائيل، ليس هو موسى صاحب الخضر عليه السلام، فقال: كذب عدو الله .... الحديث. أخرجه البخاري (3401)، ومسلم (2380)، وابن حبان (6220)، وقوله: كذب عدو الله، هو على وجه الإغلاط، مبالغة في إنكار قوله؛ لمخالفته قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) قال الحافظ ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" 1/ 480: ليس هذا =

* فصل في الأسئلة على قضايا الصحابة بخبر الواحد

غير إِنزالٍ (¬1). فصل في الأسئلةِ على قضايا الصحابة بخبرِ الواحدِ فمنهاْ قولهمْ هذه أخبارُ آحاد، فكيف يُحتَجُّ بأخبار الاَحاد، والخلافُ في أخبار الآحاد؟! فيقال: هي تواتر من طريقِ المعنى، وليس إذا كانت آحادُ الجملةِ آحاداً، والجملة تواتراً، تعطى الجملةُ أحكامَ الآحادِ، كشجاعةِ عليٍّ، وسخاءِ حاتمٍ، وفصاحةِ قُسٍّ، وفهاهةِ باقِلٍ، هذه أمورٌ تواترت، وإن كانت آحادُها آحاداً في النقلِ. وعلى أنَّه يبعدُ أن تكون هذه الأخبار مع كثرتِها خطأً أو كذباً (¬2). ¬

_ =اللفظ موجوداً في كتب الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه، وإنما في الصحيحين وغيرهما في قصة السقيفة: قولُ أبي بكر: إن العربَ لا تَعْرِفُ هذا الأمرَ إلا لهذا الحي من قريش. وقد ذكره البخاري من قول أبي بكر (6830)، أما مسلم فقد ذكره مختصراً، وليس فيه محل الشاهد. وحديث: "الأئمة من قريش" صحيح بمعناه، إذ أخرج البخاري (7140)، ومسلم (1820) من حديث ابن عمر: "لا يزال هذا الأمرُ في قريش ما بقيَ في الناسِ اثنان". وأخرج البخاري (7139) من حديث معاوية: "لا يزالُ هذا الأمرُ في قريش، لا يعاديهم أحدٌ إلا كَبَّه الله على وجهِه، ما أَقامُوا الدِّينَ". (¬1) تقدم تخريجه ص (131). (¬2) في الأصل: "كذب".

ومنها: أن قالوا: تلكَ آحاد استندت إلى دلالةٍ قطعيةٍ، وهي إجماعُ الصحابةِ، فإنَّهم لم ينكروا خبراً منها، فصار إمساكهم عن النكير إجماعاً على قبولها، وهذه الأخبار لا حجةَ معها. فيقال: لو كانَ عندهم من ذلك ما عند الراوي، لما أشكلت عليهم الأحكامُ التي تضمنتها الأخبارُ، فلما كانوا قبل الروايةِ واقفين في الأحكامِ، عُلِمَ أنَّهم لم يعلموا ذلك، ولا علموا (¬1) إلا بها. ومنها: أن قالوا: إن تعلقتم بقبولِ من قبلها، قابلناكم بردِّ من رَدَّها، وليس أحدُهما بأَوْلى من الآخرِ، وبطل دعوى الإجماع منكم، والدلالةُ على ما ادعينا من الردِّ المرويِّ عنهم لأخبارِ الآحَادِ: ما رويَ أنَّ أبا بكرٍ لم يقبل خبرَ المغيرةِ في ميراث الجدةِ حتى انضمَّ إليه خبرُ محمد بن مسلمة. وعمر رَدَّ حديثَ أبي موسى في الاستئذانِ، وهو أنَّ أبا موسى استأذن على عمرَ ثلاثاً، فلم يؤذن له، فانصرفَ، فبعثَ إليه عمرُ: لِمَ انصرفتَ؛ فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا استأذنَ أحدُكم على صاحبهِ ثلاثاً، فلم يؤذن له، فلينصرف" فقال: من يشهدُ لك؟ فمضى أبو موسى إلى الأنصارِ، فقالوا: نبعثُ معك بأصغرنا أبي سعيد الخدري. فلم يقبل قولَه حتى روى معه أبو سعيد الخدري (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "عملوا". (¬2) أخرجه مالك 2/ 963 - 964، والبخاري (2062) و (6245) و (7353)، ومسلم (2153)، وأبو داود (5180) و (5181) و (5182)، والتر مذي (2690).

وعليُّ بن أبي طالب رَدَّ حديث ابن سنان في المفوِّضةِ (¬1)، وكان لا يقبلُ خبرَ الواحدِ حتى يستحلفه إلا أبا بكر؛ فإنَّه كانَ يقبلُ خبرَه بغيرِ يمين (¬2). فيقال: قبولُهم -على ما بيناه- دليلٌ على وجوبِ العملِ بها، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الموصوفة"، وحديث معقل بن سنان تقدم تخريجه 3/ 109 في قصة بَرْوَعَ بنت واشِقٍ؛ حيث مات زوجها، ولم يسمِّ لها صداقاً، فروى معقل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى لبَرْوعَ بمهر مثلها، وعليها العدة. وفي "مصنف عبد الرزاق" (10894 هـ): أن علياً كان يجعل لها الميراث، وعليها العدة، ولا يجعل لها صداقاً، وأخبر بقول معقل، فقال: لا تصدق الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي "سنن سعيد بن منصور" (927) من طريق هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي -وهو ضعيف جداً-، عن مزيدة بن جابر -وليس بشيء-، أن علياً رضي الله عنه، قال: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله عز وجل. وانظر تعليق ابن التركماني على هذا الأثر في "الجوهر النقي" 7/ 247. (¬2) ورد ما يشير إلى ذلك في قول علي رضي الله عنه: إني كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً، نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه، استحلفته، فإذا حلف لي، صدقته، قال: وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد يذنب ذنباً، فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له" ثم قرأ هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...} [آل عمران: 135]. أخرجه أبو داود (1521)، والترمذي (406) و (3009)، وابن ماجه (1395)، وصححه ابن حبان (245)، والطيالسي (1) و (2).

وردُّهم لا يدلُّ على عدم العملِ بها (¬1)، بل يجوزُ أن يكونَ لشبهةٍ تعرضُ في خبرِ الواحد، أَو معنىً وعِلَّةٍ ظهرت، فأوجبت الردَّ لذلك الخبرِ، ألا ترى أنَّ خبرَ التواترِ قد أجمعنا على العملِ به، وإن كنا نردُّ التواترَ لِعلَّةٍ؛ مثلِ تواترِ خبرِ النصارى أنَّ المسيحَ صُلِبَ. والذي يوضِّحُ أنَّ الردَّ إنما حصلَ لعِلَّةٍ: هو قولُ عمرَ في خبرِ الاستئذانِ لأبي موسى: فقلتُ ذلكَ لكي لا تجترىءَ على رسول الله. وقالَ علي في حديثِ ابن سنان (¬2): أعرابيٌّ بوَّال على قدميه. أي: لا يعرف الأحكام. وأيضاً من طريق الاستدلالِ بالاستنباط: أنَّ العقل يوجبُ الاحتياطَ من المضار، وخبرُ الواحدِ العدلِ الثقةِ الذي لم يُجرَّب (¬3) عليه الكذبُ، يترجحُ صدقُه على كذبه، وإن كان الكذبُ جائزاً عليه، وإذا تَرجحَ صدقُه فيما يخبرُ به عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، غلَبَ على الظنِّ اقتحامُ الإثمِ وحصولُ الضررِ بمخالفتِه، وهذا أمر يقتضيه العقلُ، وقد عضدَ ذلكَ ما اتفق العقلاءُ عليه من المتدينين وغيرِهم، أنَّ الرجوعَ إلى قولِ الواحدِ في التَّحَرُّزِ من المَضارِّ من عزائمِ العقلاءِ ومقتضى رأيهم، كإخبار الثقةِ بسَبُعٍ في طريقٍ يريدُ سلوكَه، أو الإخبارِ عن رياحٍ مهلكةٍ في بحرٍ يريدُ ركوبَه، كلُّ ذلكَ يوجبُ العقلُ التحرزَ منه عملاً بخبرِ الواحدِ. ومن ذلك: أنَّه إخبار عن حكمٍ شرعي، فجازَ قبولُ خبرِ الواحدِ فيه؛ كالاستفتاءِ في الحوادثِ لآحاد المجتهدين. ¬

_ (¬1) في الأصل: "به". (¬2) في الأصل: "أبي يسار". (¬3) في الأصل: "بحرف"

وأيضاً: لو لم يجب العملُ بخبرِ الواحدِ، لوجبَ أن يكونَ ما بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في عصرِه يختصُّ بمن سمع من لفظِه ونطقِه، ولا يلزمُ غيرَه اعتقادُه والعملُ به، لأنَّه لا يتحققُ نقلُ جميع ما بَيَّنَه وبَلَّغَه عن الله نقلاً متواتراً، وهذا يقطعُ عنا أكثرَ الشريعةِ، ومعظمَ أحكامِها، وهذا من أكبرِ المفاسدِ. فإن قيل: هذا يوجبُ قبولَ خبرِ الفاسِق؛ لئلا يفضيَ إلى فواتِ العملِ بأحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلكَ خبر الكافرِ، لئلا يفضيَ إلى انقطاعِ ذلكَ عنَّا برد خبرِه إلى المفاسدِ العظيمةِ، فلما لم يجز قبولُ خبرِ الكافرِ والفاسقِ لحرصِنا على العملِ بأحكامِ الشريعةِ التي سُمعت من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - طلباً لشرطِ العملِ، وهو حصولُ الثقةِ والعلمِ، فكذلكَ لا يلزمُ العملُ بخبرِ الواحدِ؛ لعدمِ العلمِ بخبرهِ، وتجويز الكذبِ عليه. قيل: الفاسقُ يغلبُ على الظن كذبُه، لأنَّ تُهْمتَه ظاهرةٌ في ارتكاب محظور دِينِه، ومن ارتكبَ محظورَ دينِه فعلاً وقولاً، لم يُوثَقْ منه إلى خبر، لأنَّه قولٌ من جملةِ أقوالِه، فلا يتخلص لنا صدقه من كذبهِ، وليس من حيثُ رددنا قولَ المتهمِ نردُّ قولَ المغلبِ صدقُه، الموثوقِ إلى قوله؛ لسلامةِ أفعاله، ولذلكَ قبلنا قولَ المفتي والشاهدين مع كوننا لا نعلمُ إصابةَ المفتي، ولا صدقَ الشاهدين، لكنَّنا ظننا الصدقَ والإصابةَ، ولم يوجب ذلك علينا قبولَ قولِ المفتي والشاهدِ، إذا كانا فاسقين.

* فصل في شبههم

فصل في شبههم فمنها: أن قالوا: قولُه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، وذَمَّ اتباعَ الظن، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]، وقال: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]، وخبرُ الواحد ليس بموجبٍ للعلم، فقد دخلَ العملُ به تحت النهيِ، ويوجبُ الظنَّ، فقد دخلَ تحت ذَمِّ المتبعين للظنِّ. فيقال: إنَّ الطريقَ إلى العملِ بخبرِ الواحدِ مَعْلومٌ، فَعَمَلُنا بهِ عملٌ بالعلمِ، وإن كانَ هو في نفسِه مُوجباً للظن، ولأنَّ الآيةَ مشتركةُ الدلالةِ؛ لأنَّه لو كانَ العملُ بخبرِ الواحدِ، عملاً بما لا علمَ له به، (1 ويدخل تحت النهي، كان الأخذ بالشهادة والفتيا داخل تحت النهي؛ لانه خبر واحدٍ 1) ولأنه محمولٌ على الظنِّ الذي لا يستندُ إلى دليلٍ يوجبُ العملَ. جوابٌ آخر: وهو أنَّ الدليلَ قد دلَّ على أنَّ العملَ بخبرِ الواحدِ خارجٌ مخصوصٌ عن عمومِ الآيةِ، بدليلِ وجوب قبولِ قولِ الشاهدِ والمفتي، وإن كانَ قولُ الشاهدِ مجوّزاً عليه الكَذبُ، وقولُ المفتي مُجوَّزاً عليه الخطأ. ومنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرجع إلى قولِ الواحدِ، حيث رَد خبرَ ذي اليدينِ؛ حيث قالَ له: أَقَصُرَتِ الصلاةُ، أم نَسِيتَ؟ وعدلَ إلى الاستزادةِ على خبرِه، فسألَ أبا بكر وعمرَ وغيرَهما مِمَّن كان في الصفِّ عن صدقِه، فقال: "أحقٌّ ما يقولُ ذو اليدين؟ " فلما خَبَّراه ¬

_ (1 - 1) ليست في الأصل، ولا بد منها لاستقامة المعنى.

بذلك، تَمَّمَ وسجدَ سجدتي السهو (¬1). فيقال: إنَّه لا حجةَ في الخبرِ؛ لأنَّه قد يكونُ غيرَ واثقٍ بقول ذي اليدين لمعنى يخصُّه، ويجوزُ أن يكونَ قدَّمَ ما كانَ يجدُ في نفسِه من الإتمامِ على خبرِه، وإخبارُ الأنسانِ عن فعلِ نفسِه يحتاجُ إلى زيادةٍ على إخبارِه عن غيره، وعساه ذكرَ بعد ذلكَ عند قول أبي بكر وعمر، لا أنه أوقفَ العملَ على قولِهما، وعساه احتاطَ في ذلك. على أنَّ قول أبي بكرٍ وعمرَ لا يُخرٍ جُ العملَ عن كونِه عملاً بخبرِ (¬2) الواحدِ، ولا يخرجُ به خبرهما وخبرُ ذي اليدين عن كونهِ خبرَ واحد، إذ ليسَ ذلك بتواترٍ. ومنها: أن قالوا: لو وجبَ العملُ بخبرِ الواحدِ من غيرِ دليل، لوجبَ قبول خبرِ من يَدَّعي النبوةَ من غير دليل. فيقال: نعارضكم بمثلِه، فنقول: لو جازَ رد خبرِ الواحدِ من غيرِ دليل، لجازَ ردُّ قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ دليلٍ، ولأنَّه إذا جازَ أن نقبلَ قول المفتي والشاهدِ من غيرِ حجةٍ، وإن لم نقبل دعوى النبوةِ من غير حجة، جازَ أن نقبلَ خبرَ الواحد، وإن لم نقبل دعوى النبوةِ من غير حجةٍ. وعلى أنَّ خبرَ الواحدِ لا يقبلُ إلا بدليلٍ، وهو ما دلَّلنا به على العملِ به من الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، وفارقَ دعوى النبوة؛ فإن هناك لم تعلم نبوته إلا من جهةٍ، وهو ما يوجب القطعَ والعلمَ، ولم يقم دليل على صحته، فلم تثبت، وهاهنا الشرعُ قد ثبتَ قبلَه، وعلم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 550. (¬2) في الأصل: "عن خبر".

من جهتِه قبولُه، فوجبَ المصيرُ إليه. ومنها: قولهم: لو جازَ قبولُ خبرِ الواحد في فروعِ الدينِ، لجاز قبولُه في أصولِ الدين؛ كالنبواتِ، وإثباتِ الصفاتِ. فيقال: إنَّ أصولَ الدين لها أدلة قطعية تغني عن قبولِ الأدلةِ الظنيّهِ، ولذلكَ لا يجوزُ التقليدُ فيها بالرجوع إلى قولِ المفتي، وصار الأصل لسائرِ العقلاءِ كالقِبلةِ لمن شاهدها، وهذه الفروعُ كالقبلةِ (¬1) لمن غاب عنها، يرجعُ إلى الاستدلالِ إن كانَ من أهلِ العلم بدلائلها، أو إلى تقليدِ الرجالِ العارفين بها. ومنها: أن قالوا: الأصلُ براءةُ الذِّمَمِ من الحقوقِ، والعباداتِ، وتحمُّلِ المشاقِّ، وذلكَ ثابتٌ بدليلِ العقلِ القطعي، فلا يجوزُ إزالةُ اليقينِ والقطعِ بخبرِ الواحد المتردد بينَ الصدق والكذب، فيكونُ ذلك إزالةَ اليقينِ بالشك. فيقال له: ما أزلنا اليقينَ إلا بيقينٍ (¬2) مثلِه، وهو دليلُ العملِ بخبرِ الواحد؛ لأنَّه الإجماعُ وأدلةُ العقلِ التي ذكرناها، وإن كانَ ما يتضمنه غيرَ مُتيقَّنٍ، ولأنَّ هذا باطل بالشهادةِ والفتيا؛ فإنهما ظنٌّ، ومع ذلكَ شغلت بهما الذِّمَمُ، وأُرِيقَت (¬3) بهما الدماءُ، ولأنَّ خبرَ الواحدِ ليس بشك، لأن الشك ما ترددَ بينَ أمرينِ: الصدقِ والكذبِ سواءً، وليسَ كذلكَ خبرُ العدلِ، فإنَّه يترجَّحُ إلى الصدقِ، كما يترجحُ قولُ الشاهدِ والمفتي. ¬

_ (¬1) في الأصل: "القبلة". (¬2) في الأصل: "يقين". (¬3) في الأصل: "وأريق".

على أنَّ الأصلَ لِم يبقَ على القطعِ مع ورودِ خبرِ الواحدِ، وإن كانَ باقياً على ما كان بعدَ ورودِ الخبرِ، لفسَّقْنا المخالفَ أو كَفَّرْناه، كما نُفسِّقُه ونكفِّرُه بالقولِ بإيجابِ حقٍّ لمجرد الشك والحدس. ومنها: أن قالوا: إيجابُ العملِ بخبرِ الواحدِ يفضي إلى تركِ العملِ بخبرِ الواحدِ، ويفضي إلى التوقفِ عن العملِ بظواهرِ القرآنِ وعموماتِه، لأنَّه ما من عمل يُرْوَى له، فيُعمَلُ به، إلا وهو يجوز أن يكونَ هناك خبرٌ يقضي عليه؛ بأن يكون أَوْلى منه، أو يَتعلَّقُ بظاهر آيةٍ، إلا ويجوزُ أن يكونَ هناك خبرٌ يصرفه عن ذلك الظاهرِ، ولا يتعلقُ بعمومٍ، إلا ويجوزُ أن يكونَ هناك خبرٌ يختص به ذلك العموم، فيقفُ العملُ بالآي والأخبارِ، وذلك باطلٌ، فكل ما يفضي إلى ذلك، يجب أن يكونَ بَاطلاً. فيقال: إن الحكمَ ببعضِ الأدلةِ، والعملَ به، لا يقفُ على ما عساه يكونُ قاضياً عليه، أو ما هو أَوْلى منه، وإن جَوَّزْنا ظهورَ ذلك؛ بدليلِ أنَّ لنا ناسخاً.، وأدلةً تستنبط، توجبُ تخصيصَ الظواهرِ، ومعلومٌ أنَّ الآيَ والأخبارَ المسموعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْمَلُ بها مَن كان بعيداً عن المدينةِ، مع تجويزِ النسخِ لذلك المعمولِ به، ولا يمنعُ ذلك وجوبَ العملِ به، وتركَ التوقفِ الذي أشرتَ إليه. على أنَّه لو كانَ تجويزُ ما هو أَوْلى منه من الأدلةِ يمنعُ العملَ بما يقعُ منها إلى المجتهدِ، لوجب أن لا يجوز للحاكم أن يحكمَ بشهادةٍ، ولا للعامي أن يعمل بفتوى مجتهد؛ لجوازِ أن يكون هناك ما هو أَوْلى منه، أو ما يقضي عليه من بيِّنَةٍ طاعنة في الشاهدِ، أو قاضيةٍ على ما شهدَ به، وكانَ يجبُ أن يكونَ هذا مانعاً من العملِ

* فصل يقبل خبر الواحد وإن انفرد الواحد بروايته

بأدلةِ الاجتهادِ المستنبطةِ، لجوازِ أن يكونَ هناك دليلٌ هو أَوْلى منه، فيؤدي ذلك إلى إبطالِه، فلمَّا لم يجز ما قالوه في إبطالِ أدلَّةِ الاجتهادِ، لم يجز أن يكون مبطلاً للأخبارِ. ومنها: أن قالوا: لما لم يجز للعالِمِ أن يُقَلِّدَ العالِمَ، لم يجب العملُ بخبرِ الواحدِ. فيقال: إنَّما لم يجز أن يقِّدَ العالِمُ العالِمَ؛ لأنَّه معه مثلُ الآلةِ التي معه، وليسَ كذلكَ الراوي مع المرويِّ له، فإنَّه ليسَ مع المرويِ له مثلُ ما مع الراوي، فلذا وجبَ العملُ بما رواه حتى لا تتعطلَ أحكامُ الشريعة. ومنها: أن قالوا: طريقُ هذا: السمعُ، وقد طلبنا، فلم نجد. فيقال: قد أوجدناك بما روينا في ذلك، على أنك قد يجوزُ عليك الفتورُ والتقصيرُ في الطَّلَبِ، ولو صدقتَ الطلبَ، لوَجَدْتَ. فصل يقبل خبرُ الواحدِ، وإن انفرد الواحد بروايته (¬1). وقال أبو علي الجبائي: لا يقبل حتى ينضمَّ إليه آخرُ، فَيرْوِيَه اثنان عن اثنينِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعض المتكلمين: لا يُقبَلُ حتى يَرْوِيَه أربعةٌ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" 3/ 75، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 133. (¬2) ذكر ذلك الشيرازي في "التبصرة" (312)، ولم ينسبه إلى أحد،=

* فصل في أدلتنا على ذلك

فصل في أدلتنا على ذلك فمنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فيعطي أنه إذا جاءنا عدلٌ، لا يجبُ علينا أن نتثبتَ، بل نعملُ بقوله، ونحكمُ بخبرِه. ومنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعثُ بعاملٍ واحد، وحاكمٍ واحدٍ إلى البلدِ، وذلك يعطي وجوبَ العملِ عنه بخبرهِ - صلى الله عليه وسلم - فيما بَعَثَه به، فبعثَ علياً إلى اليمن، وعَتَّابَ بن أَسِيدٍ إلى مكة، ومصعبَ بن عُمَيرٍ إلى المدينة. ومنها: أنَّ الصحابةَ رجعت في التقاءِ الختانين إلى خبرِ عائشة رضي الله عنها وحدَها، ورجعَ كلُّ خليفةٍ في قَضيَّتِه إلى خبرِ واحد، وقد سبقَ ذلك في الفصلِ الذي قبل هذا. ومنها: أنَّه إخبارٌ عن حكمٍ شرعي، فلم يُعتَبرْ فيه العددُ، كالفتوى (¬1). ومنها: أئَّه لما لم نَعتبِرْ فيه صفةَ الشخصِ -أعني: الحُرِّيّهَ، والدُّكُوريّهَ-، فأَوْلى أن لا نعتبرَ انضمامَ شخصٍ إلى شخص، لأنَّ الصفةَ في الشخصِ أيسرُ من اعتبارِ مثلِه إليه، ونصرفُ مَّنَ هذه الطريقةِ طريقةً أخرى، فنقول: العددُ معنى لا يعتبرُ في الفتوى، فلا ¬

_ = واكتفى بالقول: وقال بعض الناس: لا يقبل أقل من أربعة. (¬1) في الأصل: "كالقرى".

* فصل في شبههم

يشترطُ في الخبر، كالذكوريةِ، والحريةِ. ومنها: أنَّ اعتبارَ اثنين عن اثنين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لا يَتَّفِقُ، فيفضي اعتبارُ ذلك إلى تعطيلِ كثيرٍ من السنن. فصل في شبههم فمنها: أنَّ أبا بكر الصديقَ رضي الله عنه لم يعمل بخبرِ المغيرةِ في ميراث الجدة، حتى روى ذلك معه محمدُ بن مَسْلمَةَ، وعمر رضي الله عنه لم يعمل بخبر أبي موسى في الاستئذانِ، حتى شهدَ معه أبو سعيدٍ الخُدْريُّ، واستندَ فعلُهما إلى ما فَعَلَه النبيِ - صلى الله عليه وسلم - في توقفِه عن خبرِ ذي اليدين في الصلاة، وطلبَ مع خبرِه خبَرَ غيره، فأشارَ إلى أبي بكر وعمر، فلما صَدَّقاه، بنى على قولهم، وتَمَّمَ، وسجدَ السهو. فيقال: قد سبقَ الجوابُ عن ذلك في الفصلِ الذي قبله. ومنها: أن قالوا: ما اعتبرَ فيه العدالةُ، اعتبرَ فيه العددُ، كالشهادةِ. فيقال: هذا باطلٌ بالفتوى؛ تعتبرُ فيها العدالةُ، ولا يعتبر فيها العدد. على أن الشهاداتِ أُكُّدَت على الأخبار، بدليل أنه اعتبرَ فيها الذكوريةُ والحريةُ عندك، واخْتَلفَتْ (¬1) باختلافِ الحقوقِ، فلم يقبل في القصاصِ والحدودِ إلا الذكوريةُ المحضة، واعتبر في الأموالِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "واختلف".

* فصل في خبر الواحد فيما تعم به البلوى

النساءُ مع الرجال، واعتبر في حدِّ الزنى من بين سائرِ الحدودِ أربعةٌ من الشهودِ، والأخبارُ لم تختلف، بل قُبِلَ في الكلِّ منها ما اعتبر به، وقُبِلَ فيها العنعنةُ (¬1)، ومِن وراءِ حجابٍ. فصل خبرُ الواحدِ فيما تَعُمُّ به البلوى مقبولٌ (¬2) وذلك مثل خبر أبي هريرة في غسلِ اليدين عند القيامِ من نومِ الليل (¬3)، وخبره في رفع اليدين في الركوع (¬4)، وما شاكل ذلك، وبه ¬

_ (¬1) وهي قول الراوي في إسناده: عن فلان عن فلان، دون التصريح بقوله: حدثنا. "الموقظة": 44. (¬2) انظر "العدة" 3/ 78، و"التمهيد" 3/ 16/، و"المسودة" (239). (¬3) تقدم تخريجه 2/ 37. (¬4) يشير بذلك إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر يفتتح الصلاة، وحين يركع. أخرجه أحمد (6163)، وابن ماجه (860)، والبخاري في "رفع اليدين" (57)، وأبو داود (738)، والدارقطني في "السنن" 1/ 265 - 296، وابن خزيمة (694). ورفعُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يديه عند الركوع رواه غير واحد من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، ووائل بن حجر، ومالك بن الحويرث، وأنس بن مالك رضي الله عنه. انظر تفصيل ذلك في "جلاء العينين بتخريج روايات البخاري في جزء رفع اليدين" لبديع الدين السندي وعلى ذلك فإن رفعَ اليدين في الركوع لم ينفرد به أبو هريرة من الصحابة.

* فصل في دلائلنا

قال أصحاب الشافعي (¬1). وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقبلُ في ذلك خبر الواحد (¬2). فصلٌ في دلائلنا فمنها: عموم قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وهذا غايةٌ في الإنذارِ فيما تعمُّ البلوى به وما تخصُّ. ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فخصَّ التثبتَ والتبينَ بالفاسقِ، فدلَّ على أنَّ العدل لا يُتَثَبَّتُ من خبرِه، ولا يعتبرُ فيه ذلك، وهذا الدليلُ على أصلِنا، وهو دليلُ الخطاب، وهو يَعُمُّ كُلَّ حكمٍ نَقَلَه العدلُ. ومنها: إجماعُ الصحابةِ على العملِ بخبرِ الواحد فيما تعمِ البلوى به، فمن ذلك: ما روي عن ابن عمر: كنا نُخابِرُ أربعين عاماً لا نرى به بأساً، حتى أتانا رافعُ بن خَدِيجٍ، فأخبرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فانتهينا (¬3). ولما اختلفوا في الإكسالِ والإنزال، فقالَ زيدٌ وجماعةٌ من ¬

_ (¬1) ذكره الغزالي في "المستصفى" 1/ 171، والشيرازي في "التبصرة" (314)، والآمدي في "الإحكام" 2/ 160. (¬2) ذكره السرخسي في "أصوله" 1/ 368، وأمير بادشاه في "تيسير التحرير" 3/ 112. (¬3) تقدم تخريجه 3/ 220.

* فصل في شبههم

الأنصار: لا غسلَ على مَنْ لم يُنزِلْ، بل الماءُ من الماءِ، وقالَ غيرهم: إذا التقى الخِتانانِ، وجبَ الغسل، فأرسلَ الجماعة إلى عائشة رضي الله عنها، فسألوها، فقالت: إذا التقى الخِتانان، وجب الغسلُ، أنزلَ أو لم يُنزِلْ، فعلتهُ أنا ورسول الله، فاغتسلنا (¬1)، فصاروا إلى قولها وخبرها، وتَوَعَّدَ عمر زيد بن ثابت على الفتوى بغير ذلك، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوفرون، فلا أحدَ أسقطَ العملَ بخبرها. ولما جاءت الجدة إلى أبي بكر، فقال لها: لا أجدُ في كتاب الله لك شيئاً، فقال المغيرة: إن النبي أطعمها السدسَ، وتابعه محمد ابن مَسْلمةَ، فعملَ به أبو بكر، وصار إجماعاً (¬2). ومنها من طريقِ النظر: أنَّا رأينا أنَّ العملَ بالقياس في الأحكامِ التي تعمُّ بها البلوى جائزٌ، والقياسُ فرع لخبر الوَاحد، والخبرُ أصلٌ، فإذا جازَ إثباتُ هذه الأحكامِ بما تَفرَّعَ عن خبرِ الواحد، فأولى أن يثبتَ به، وهو الأصلُ. ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ ثَبَتَ وجوبُ العملِ به بدليلٍ مقطوع عليه، فهو كآي القرآن، فإذا ثبت ما تعمُّ به البلوى بالآي، كذلكَ أخبارُ الآحاد، إذ كانَ طريقهُما جميعاً قطعياً. فصلٌ في شبههم قالوا: ما تَعُمُّ بلوى الأُمَّةِ به يَكثُرُ سؤالُهم عنه، وأذا كثرَ السؤالُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (131). (¬2) تقدم تخريجه 2/ 117.

عنه، كثرَ جوابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كثرَ جوابُه عنه، كثرَ نقلُ الناقلين لجوابه عنه صلى الله عليه وسلم، هذا دَأْبُ الناس وعاداتُهم، فإذا نقلَ ذلك الواحدُ والاثنان، قويت التهمةُ لهم، ولم يجز التعويلُ على خبرِهم، وبهذه الطريقةِ رددنا روايةَ الرَّافَضَةِ خبرَ (¬1) النصَ على عليٍّ رضي الله عنه يوم غَدِيرِ خُمٍّ، وقلنا: لو كانَ هذا صحيحاً، لنقلَه الخاص والعامُّ، واستفاضَ بينَ أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَمَّا روى ذلك آحادٌ من شيعتِه، عُلِمَ أنه مُفتعَلٌ مُخَتلَقٌ. وكذلكَ لم نقبل روايةَ الآحادِ عن فتنةٍ جرت بالجامعِ يومَ الجمعةِ أو العيدِ، ولا سُقوطِ الخطيبِ عن منبرهِ لحادثٍ حدثَ به، كلُّ ذلكَ لِمَا اطَّرَدَتْ به العادةُ من كونِ النقلِ بحسب المنقولِ في الظهور، وهذا يرجع إلى سرٍّ في الطباعِ، ودفينٍ في أَصل الخلقِ والأوضاعِ؛ وهو أنَّ الدواعيَ متوفرةٌ على حُبِّ البلاغ لما حدثَ، والإخبارِ بما تَجدَّدَ، وقلَّ ما يتمكنُ أحدٌ من كتم شيءٍ سمعَه، وطَيِّ أمرٍ علمه، حتى كأنه يلقي عن نفسِه ثقلاً، ويسقط عبئاً، بل عساه يتزيد في الحديثِ، ويصلُ به ما ليس منه، لإيثاره الحديث، حتى قال الشاعر: ولقد سئمت مآربي ... فكأنَّ أكثرها خبيث إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث وإذا ثبتَ هذا، لم يجز أن نسمع أخبار الآحاد فيما بنيَ على الشياعِ، والتكرارِ، والانتشارِ بين المخبرين، مع اتفاقِ الكل في توفير الدواعي، ومحبة البلاع، لا سيما في النقلِ عن صاحبِ الشرعِ، وفيه الثواب والأجر في الآخرة، وكثيرُ الفخرِ في الدنيا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حين".

فيقال: إنَّ النقلَ لأخبارِ الدياناتِ كانت الصحابة تختلف فيه مذاهبُهم، فمنهم من كانَ يتورعُ عن النقلِ طلباً لحفظِ الصيغةِ، ولا يرى الروايةَ بالمعنى، وبعضهم من كان لا يتشاغلُ بذلك رأساً، فيُقصَدُ ويُطلَبُ منه الحديثُ، فلا يُحدِّثُ، ولذلك لما حجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الجمِّ الغفيرِ، والعددِ الكثيرِ، فكانت مناسكُ الحج مشهورةً بين الجميعِ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا عني" (¬1)، وما نقلَ المناسكَ عنه إلا آحادٌ. وفارقَ الخبرَ بالنصِّ على الإمامِ، فإنَّ ذلكَ أمرٌ واجبٌ على كل أحدٍ عِلْمُه، والقطعُ به، والأحكام لا يجبُ العلمُ بها والقطع، وإنما طريقها غلبةُ الظن، ولذلكَ تثبتُ بالقياس، وإلحاقِ النَّظيرِ بالنظيرِ (¬2)، والأخذِ بالشَّبَهِ، فيجوزُ أن ينفردَ البعضُ بعلمِه، ويكون فرضُ الباقين الاجتهادَ. وفارقَ نقلَ الحادثةِ بالجامعِ والخطيبِ، لأنَّ ذلك تحثُّ على نَقْلِه دواعي (¬3) الطباع، وذلك مما يعم الناس، وبذلك (¬4) يشهدُ خلقُ رواةِ الحديث، وفيها الآحاد والأفراد، وخلقُ أرباب الشعوذةِ وغرائبِ الأعمال والأسمار يملأُ الرِّحابَ والعِراصَ، وكذلكَ خلقُ القُصَّاصِ، فهذا أمر معلوم بالغرائز والجِبِلاَّتِ. ومنها: أنَّ قبول خبرِ الواحدِ في مثلِ هذا الحكمِ يفضي إلى التوقفِ في أحكام الكتاب، لجوازِ أن تكون نُسِخَت، ولم ينقل نسخها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في الأصل: "النظر بالنظر". (¬3) في الأصل: "ودواعي". (¬4) في الأصل: "ولذلك".

* فصل يقبل خبر الواحد في إثبات الحدود

فيقال: إنَّ إثباتَ الأحكام تقْصرُ عن النسخ؛ لأنَّ النسخَ رفع لحكم قد ثبتَ واستقر (¬1)، فلا يرفع بأخبار الآحاد، ولهذا ثبتَ الحكمُ المبتدأُ بالقياسِ، ولم يُرفَعْ حكمٌ ثبتَ واستقر، ولم يُنسَخْ، بالقياس. ومنها: أنْ قالوا: إن القران لَمَّاَ كان مما تَعُمُّ [به] البلوى، لم يثبت بخبر الواحد، كذلك هذه الأحكام التي تعم بها البلوى. فيقال: القرآن لا يثبت إلا بطريقٍ قطعي، لأنَّ إثباتَ القرآنِ طريقُه العلمُ لا الظن، وهذه الأحكامُ وإن عَمَّتْ (¬2) بها البلوى إلا أنَّ طريقَها الظنُّ، ولهذا تثبتُ بالقياس الذي هو فرعٌ لخبرِ الواحدِ، ولهذا ردَّت الصحابةُ قراءةَ ابن مسعود، ولم تردَّ في الأحكامِ التي تعمُّ بها البلوى خبرَه، ولا خبرَ من هو دونه، وهذا إنَّما نسلمه في الآيةِ والاثنتين، فأمَّا السورةُ، فنقبلُ فيها خبر الواحد، لأنها مما لا يمكن اختلاقُها، فكالنَ نفسُ إعجازِها دلالةً على كونِها من كتابِ الله سبحانه. فصل يقبل خبر الواحد إثبات الحدود (¬3)، وبه قال أصحاب الشافعي. واختلف أصحاب أبي حنيفة: ¬

_ (¬1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "عم". (¬3) ذكره القاضي في "العدة" 3/ 886، والكلوذاني في "التمهيد" 3/ 91، والطوفي في "شرح مختصر الروضة" 2/ 236.

* فصل في دلائلنا

فحكى أبو سفيان، عن أبي يوسف: أنه يقبل، وهو اختيار أبي بكر الرازي. وحكي عن الكرخي: أنَّه لا يثبت به حدّ، ولا ما يَسقُطُ بالشبهةِ (¬1). فصل في دلائلنا فمنها: أنَّه حكم يستوفى بغلبة الظن، ولا يعتبر في إثباتِه القطعُ، فثبت بخبرِ الواحد؛ كالأحكامِ الشرعيةِ كلِّها، والدلالةُ على ثبوتِ استيفائه بالظن: قبول قول الشاهدين. يُوضِّحُ هذه الطريقةَ: أنَّ بابَ الشهادةِ آكدُ من باب الأخبارِ، فإنَّ أخبارَ الدياناتِ يقبلُ فيها قولُ العبدِ والمرأةِ، والعنعَنةُ، ولا يقبلُ ذلك في بابِ الشهادةِ، ثم إنَّ هذا الحدَّ مستوفى بالشهادة، مع كونها آحاداً، وكونها موجبة للظن دون القطع، فأَوْلى أن يجب بخبر الواحد، مع توسع طريقه، وسهولة بابه. ولأنَّ طريقَ خبرِ الواحدِ مقطوعٌ به، لأنَّ طريقَه الإجماعُ والقرآنُ، كما أن طريق الشهادةِ كذلك، فإذا ثبتَ استيفاءُ الحد بالشهادةِ، ثبتَ ¬

_ (¬1) قرر ذلك السرخسي في "الأصول"، فقال: وأما ما يندرىء بالشبهات، فقد روي عن أبي يوسف رحمه الله في "الأمالي": أن خبر الواحد فيه حجة، وهو اختيار الجصاص رحمه الله، وكان الكرخي رحمه الله يقول: خبر الواحد فيه لا يكون حجة. انظر "أصول السرخسي" 1/ 333 - 334، وارجع أيضاً إلى "تيسير التحرير" 3/ 88، و"فواتح الرحموت" 2/ 136.

* فصل في شبه المخالف

وجوبُه بخبر الواحد. فصل في شبه المخالف قالوا: الحدودُ موضوعةٌ في الأصلِ على أنَّ الشبهةَ تُسقِطُ الحدودَ، وتمنع إثباتها، وخبرُ الواحدِ لا يوجبُ العلمَ، وما ليس بعلمٍ، فهو شبهةٌ؛ لأنَّه يتردد بينَ الصحة والبطلان. فيقال: ليس كل ما لم يوجب العلمَ يكونُ شبهةً، بل يوجب الظن، والظنُّ يترجح [فيه] أحدُ المُجوَّزَيْنِ، وإنَّما الشبهة ما اشتبه الأمرُ فيه من غير ترجيحٍ إلى الإثباتِ، والدليلُ على ذلكَ: إثباتُه بشهادةِ (¬1) الشاهدين، وهي غيرُ موجبةٍ للعلم، وإنما أوجبت الظن، فكذلكَ خبرُ الواحدِ، ولا فرقَ بينهما. فصل خبر الواحد مقدمٌ على القياس (¬2) ومعنى هذا: أنه يعمل به، وإن خالف القياس (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "شهادة". (¬2) انظر "العدة" 3/ 888، و"التمهيد" 3/ 94، و"المسودة" (239)، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 237. (¬3) أي: أنه يعمل بخبر الواحد إذا تعارض مع القياس كفاحاً، وكانت المصادمة من كل وجه، كأن يكون أحدهما مثبتاً لما نفاه الآخر، أما إذا كان =

وبهذا قال أصحاب الشافعي (¬1). وقال أصحاب مالك: يقدم القياس عليه (¬2). وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا كان مخالفاً لقياس الأصول، لم يقبل (¬3). ¬

_ = التعارض من وجه دون وجه، كأن يكون خبر الواحد عاماً والقياسُ خاصَّاً، فإنَّ القياسَ مقدَّم على خبرِ الواحد، وفق ما تقدم بيانه في تخصيصِ العام بالقياس. (¬1) انظر "التبصرة" (316)، و"الإحكام" 2/ 169. (¬2) ذكره القرافي في "تنقيح الفصول" (387). (¬3) ليس هذا على إطلاقه عند الحنفية، فهم يفرقون بين خبر الواحد الذي يرويه العدل الضابط المعروفُ بالفقه والرأي والاجتهاد، وبين الخبر الذي يرويه المعروف بالعدالةِ وحسنِ الضبط والحفظ، ولكنه قليل الفقه، فإن كان الخبرُ من النوع الأول؛ كان يكون الراوي أحدَ الخلفاء الراشدين، أو العبادلة، أو زيد ابن ثابت، أو معاذ بن جبل، وغيرهم من المشهورين بالفقه من الصحابة رضي الله عنهم، فإن خبرهم حجة، ويبتنى عليه وجوبُ العملِ، سواء أكان الخبر موافقاً للقياس، أم مخالفاً، فإن كان موافقاً للقياس، تأيد به، وإن كان مخالفاً للقياس، يترك القياس، ويعمل بالخبر. وإن كان الخبر من النوع الثاني، فما وافق القياس من رواية الثقة غير الفقيه، فهو معمول به، وما خالف القياس؛ فإن تلقته الأمة بالقبول، فهو معمول به، وإلا فالقياسُ الصحيح شرعاً مقدم على روايته. انظر ذلك في "الفصول في الأصول" للجصاص 3/ 127 - 142، و"أصول السرخسي" 1/ 338 - 341.

فصل في أدلتنا من جهة السنن

فصل في أدلتنا من جهة السنن ما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعث به إلى اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتابِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: بسنَةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تجد؟ " قال: أجتهدُ رأيي، ولا آلو، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"الحمدُ لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله" (¬1)، فَرتَّبَ العملَ بالقياس على السُّنَةِ، فدل على تقديمِها على القياسِ، والسنةُ تعمُ الآحادَ وَالتواترَ. ورويَ أنَّ عمر بن الخطاب ترك القياس في الجنين؛ لحديثِ حَمَلِ ابن مالك بن النابغة، وقال: لولا هذا لقضينا بغيره (¬2). ورويَ أنه كان تقْسِمُ ديةَ الأصابعِ على قدرِ منافعها (¬3)، (4 وترَكَ ذلك لخبرِ الواحد الذي رُوِيَ له 4) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"في كلِّ إصبعٍ مما هنالك عشرٌ من الإبلِ" (¬5)، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 5. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 351. (¬3) ومن ذلك: ما روي عنه رضي الله عنه: أنه قضى في الإبهام والتي تليها نصف الكف، وفي الوسطى بعشر فرائض، والتي تليها بتسع فرائض، وفي الخنصر بست فرائض. أخرجه ابن أبي شيبة 9/ 194، وعبد الرزاق (17698)، والبيهقي 8/ 93. (4 - 4) غير واضح في الأصل. (¬5) قصة رجوع عمر بن الخطاب عن قضائه: أخرجها عبد الرزاق في =

وأيضاً من جهةِ المعنى والاستنباطِ: أنَّ القياسَ يدلُ على قصدِ صاحبِ الشرعِ من طريقِ الظن، والخبرُ يدلُّ على قصدِه من طريقِ الصريح، فكان الرجوعُ إلى الصريح أولى؛ يوضِّحُ هذا: أنَّه حثَّ على تبليغِ الأحكامِ مع علمِه بأنَّ الآراءَ كثيرةٌ، وأتى بالتحكماتِ الخارجةِ عن الرأي، ولم يأتِ بقولٍ مخالفٍ لقولٍ سبقَ له (¬1)، إلا أن يكون ناسخاً ورافعاً. ومنها: أنَّ الاجتهادَ في الخبر يقل خطرُه؛ لأنَّه لا يحتاج إلا إلى الاجتهادِ في عدالةِ الراوي فقط، وفي القياسِ يحتاجُ إلى الاجتهادِ في ¬

_ = "مصنفه" (17698)، والبيهقي في "سننه الكبرى" 8/ 93 عن سعيد بن المسيب، قال: قضى عمر رضي الله عنه في الأصابع؛ في الإبهام بثلاثة عشر، وفي التي تليها باثني عشر، وفي الوسطى بعشرة، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست، حتى وُجِدَ كتابٌ عند آل عمرو بن حزم، يذكرون أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وفيما هنالك من الأصابع عشر عشر. قال سعيد: فصارت الأصابع إلى عشر عشر. وأما خبر التسوية بين الأصابع في الدية، فثابت من حديث ابن عباس: أخرجه أحمد (2621) و (2624) و (3150) و (3220)، والبخاري (6895)، وأبو داود (4558) و (4559) و (4560) و (4561)، وابن ماجه (2652)، والترمذي (1391) و (1392)، والنسائي 8/ 56 و 56 - 57 و 57. ومن حديث أبي موسى الأشعري أيضاً: أخرجه أحمد 4/ 397 و 403 و 413 و 498، وأبو داود (4556) و (4557)، وابن ماجه (2654)، والنسائي 8/ 56. ومن حديث عبد الله بن عمرو أيضاً: أخرجه أحمد (6681) و (6772) و (7013)، وأبو داود (4562) و (4563)، و (4564)، وابن ماجه (2653)، والنسائي 8/ 57. (¬1) في الأصل: "به".

فصل في شبهاتهم

عِلَّةِ الأصلِ، ثمَّ في إلحاقِ الفرع به، ومن الناس من يمنعُ إلحاقَ الفرع بالأصلِ إلا بدليلٍ آخر، فكان المصيرُ إلى مَا قلَّ فيه الخطرُ، وقلَّ الاجتهادُ فيه والنظرُ، أَوْلى، لأنَّه أسلم من الغرر. ومنها: أنه لو سُمعَ القياسُ والنصُّ المخالفُ (¬1) له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقدِّمَ النَصُّ فيما تناولَه على القياس، فلأنْ يُقدَّمَ على قياس لم يُسمع من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى. ومنها: أنَّ حكمَ الحاكمِ يُنقضُ إذا خالفَ النصَ، ولا ينقض إذا خالف القياسَ، وهذا دليل على أَنّه أقوى، فلا يجوزُ أن نتركَ الأقوى للأضعفِ. ومنها: أنَّ الخبرَ قد ينتهي إلى العلمِ إذا كثرَ راوتُه، والقياسُ لا ينتهي إلى العلمِ، ولا يتجاوزُ الظنَّ، وإن كثرت من الأصولِ شواهدُه، وهذا أيضاً يدلُّ على قوةِ الخبرِ، وضعفِ القياس. فصل في شبهاتهم فمنها: أن قالوا: إنَّ خبرَ الواحدِ يدخلُ عليه الفسادُ، والمنعُ من العملٍ به؛ من وجوه أربعة: أحدها: أن يكون فيِ خبرِه كاذباَّ، وأن يكون فاسقاً، لا كاذباً، وأن يكونَ خطأً، أو يكون في اعتقاده كافراً، وغايةُ ما يدخلُ على القائسِ: أن يكونَ في اجتهادهِ مخطئاً، وما قلَّت وجوهُ الفساد فيه، وكثرت وجوهُ الإصابةِ، وحصولِ السلامةِ، كان هو المرجحَ على ما كثرت وجوهُ الخطأ والفساد فيه وعليه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "للتخالف".

فيقال: جميعُ ما ذكرتَ يَتسلَّطُ على القياس المستنبط؛ لأنَّ الخبرَ أصلُ القياس، وإذا كانَ أصلُه تتسلطُ عليه هذه الوجوهُ من الفساد، ويزيدُ عليهَ الخطأُ في الاجتهاد، لم يبق للقياس ميزة على الخبر؛ إذ كان فرعاً له. ولأنَّ الترجيحَ إنَّما يحصلُ بوجوهِ الإثباتِ؛ ككثرةِ الأشباه بالأصول على ما هو أقلُّ شبهاً بها، وكذلك الخبرُ بكثرةِ الرواةِ على ما قل رواتُه، ولا يُرَجَّحُ خبرُ المغفلِ على خبرِ الفاسقِ، ولا ما وُجدَ فيه سببٌ من أسباب الفساد على ما وجدَ فيه سببانِ من أسباب الفسَاد. ولأنه كان يجبُ [أن يكونَ] خبرُ الواحدِ أَوْلى من القياس، لاجتماعِ أربعةِ الأَوْجهِ (¬1) من الفساد، والخامسِ؛ وهو الخطأ المُتطرِّقُ على الاجتهاد. ومنها: أن قالوا: إن الخبرَ طريقُه اللفظُ المتطرق عليه المجازُ والإجمالُ والاحتمالُ، ولا يتطرقُ على المعنى المستنبط شيءٌ من ذلك. فيقال: هذا موجودٌ في آي الكتابِ، والسُّنَةِ المتواترة، ولا يوجبُ ذلك تقديمَ القياسِ عليهما. ولأنَّ الخبرَ يستندُ إلى قولِ المعصومِ، والاجتهادَ يستندُ إلى رأي غير المعصوم، ولأنَّه يستندُ إلى الخبر وهذه حالُه، فإِن ضَعُفَ الخبرُ لِمَا ذكرتَ من تَطرُّقِ هذه الوجوه، كانَ المستندُ إليه -وهو القياسُ- أضعفَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأربعة أوجه".

فصل ما يختص أصحاب أبي حنيفة

ومنها: أن قالوا: إنَّ الإجماعَ قد يقع على موجبِ القياس، وخبرُ الواحد لا يتأتى أن يجمعوا على موجبه، بل يخرج ذَلك إلى المتواتر، ولا يخرجُ الإجماعُ على موجبِ القياسِ عن كونه قياساً. فيقال: إنَّ الإجماعَ إنَّما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه القياسُ، كما يحصلُ على الحكمِ الذي أوجبَه خبرُ الواحدِ، وأمَّا الإجماعُ على القياس، فلا يحصلُ، فإن حصَلَ، كان قياسَ الإجماعِ، كما يصير الخبرُ المجمعُ عليه أنَّه مرويّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصيرُ قياساً معصوماً، وهذا خبرَ تواترٍ قطعاً. ومنها: أنَّ القياسَ يحصلُ من جهةِ رأيه واجتهاده، والإنسانُ لا يُكذِّبُ نفسَه، والخبرَ من جهة غيرِه، ولا ثقةَ إلى قولِ الغيرِ توازي ثقتَه بنفسِه، ونفسُه بمثابةِ ما سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ ما يسمعُه عنه غيرُه. فيقال: باطلٌ بخبرِ التواترِ المخالفِ للرأي، وقياسِ الأصول. ولأنَّه وإن كان بفعلِه واجتهادِه، إلا أن طريقَه غامضٌ، فقد يصدرُ عن رأيهِ ما يخالفُ الأولَ، فيبطلُ الأولُ، ولا يعملُ في حادثةٍ أخرى، والروايةُ تقضي للمُتأخِّرِ على المتقدِّمِ. فصل وأمَّا ما يختصُّ أصحابَ أبي حنيفةَ، فيقال لهم: ما الذي تريدونَ بمخالفة الأصول؟ فإن قالوا: معنى الأصولِ، فهو كقولِ أصحاب مالك، وقد بيّنا

فصل خبر الواحد لا يوجب العلم لا الضروري ولا المكتسب

فسادَه. وأيضأ: فإنَّهم ناقضوا في هذا، فإنَّهم لا يزالون يتركونَ القياسَ بخبرِ الواحدِ، ويسمونَه موضع الاستحسان، فمن ذلك: قولُهم: من أكلَ ناسياً، بطلَ صومُه، إلا أنا تركناه لخبر أبي هريرة (¬1). وقالوا: القياسُ أنَّه لا يجوزُ التوضؤ بنبيذِ التمر، ولكن تركناه لخبرِ عبد الله ابن مسعود (¬2)، وأمثالُ ذلك على أصلهم كثيرٌ. وإن أرادوا بالأصول (¬3): الكتابَ والسنةَ والإجماعَ، فكذلكَ نقول، إلا أنَّهم يقولون ذلك في مواضع لا كتابَ فيها ولا سُنَّةَ ولا إجماعَ، وهي (¬4) في خبرِ المُصرَّاةِ والتفليسِ والقرعةِ، فلا وجهَ لما قالوه. وأيضاً: فإن خبرَ الواحدَ أصلٌ بنفسِه، وأصلٌ لغيره -وهي المعاني المستنبطة-، فلو جازَ أن يتركَ لأجلِ الأصلِ، لجازَ أن تتركَ الأصولُ له. فصل خبرُ الواحدِ لا يوجبُ العلمَ؛ لا الضروريَّ، ولا المكتسبَ، على الصحيح من الروايتين عن صاحبنا (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 114. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 144. (¬3) في الأصل: "بالقول". (¬4) في الأصل: "هو". (¬5) نص على ذلك القاضي في "العدة" 3/ 898، وابن تيمية في "المسودة" (240).

وعنه: ما ظاهره حصولُ العلم بخبرِ الثقةِ (¬1)، وتأوَّله شيخنا الإمام ابن الفراء رضي الله عنه (¬2). وعنه: التوقفُ في الفرقِ بين العلمِ والعمل، فقال: -وقد حُكِيَ له عمن يقول: العملُ به واجب، ولا يوجب العلم-: لا أدري ما هذا؟ وقال بعضُ أهل الظاهر: يوجب العلم. وقال بعضُ أصحاب الحديث: فيها ما يوجب العلم كحديثٍ يرويه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وما أشْبَهه. وقال النظام (¬3): خبرُ الواحد إذا قارنته أمارة يوجبُ العلمَ، وقيل ¬

_ (¬1) ومن ذلك: ما نقله أبو بكر المروزي، قال: قلت لأبي عبد الله: هاهنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً، ولا يوجب علماً، فعابه، وقال: ما أدري ما هذا؟ أي: أنَّه سوَّى بين العلمِ والعملِ، وجعلهما من لوازم خبرِ الواحد. ومنها: ما قاله -في رواية حنبل- في أحاديث الرؤية: نؤمنُ بها، ونعلم أنَّها حق. فقطع بإفادتها العلم، لا العملَ فقط. انظر "العدة" 3/ 898 - 900. (¬2) تأوَّل القاضي كلامَ الإمام أحمدَ: على أن مقصوده بالعلم: العلم الاستدلالي، لا العلم الضروري، كأَن تتلقى الأمة الخبر بالقبول، فيدل على أنه حق؛ لأن الأُمَّة لا تجتمع على الخطأ، وبيَّن القاضي أبو يعلى أن الاستدلالَ يفيدُ العلم من عدة وجوه، وكلامُ الإمامِ أحمد محمولٌ على أحدِ هذه الوجوه. انظر "العدة" 3/ 900. (¬3) هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّار بن هانىء، المعروف بالنظام، شيخ المعتزلة، له آراء شاذة، وأقوال باطلة في مسألة القدرة، اتهم بأنه على =

فصل في جمع أدلتنا

عنه: إنَّه يوجبُ العلمَ الضروري عند مقارنةِ الأمارةِ له (¬1). فصل في جمعِ أدلتنا فمنها: أنَّ الاعتقاداتِ بحسب أدلتِها، والتأثيراتِ في النفوسِ والقلوبِ بحسب المُؤثِّرِ، ولا نجدُ في خبرِ الواحدِ، وإن بلغَ الغايةَ، إلا ترجيحَ (¬2) صدقِه على كذبه، مع تجويزِ الكذب عليه، ولا يتأثر في النفس من تغليب أحدِ المجوَّزين إلا الظنُّ، فأمَّا القطعُ والعلمُ، فلا وجهَ، لأنَّ ذَلكَ لا يحصلُ في النفسِ؛ إلا أن ينتفيَ التجويزُ للكذب عن المخبر الواحد. ومنها: أن لو كان خبره يوجبُ العلم، لما روعِيَ (¬3) فيه الصفاتُ؛ من الإسلام، والعدالة، كما قلنا في أخبار التواتر؛ لَمَّا أَوْجَبَتِ العلمَ، لم تُعتبَرْ صفات المخبرين؛ سوى العقلِ. ومنها: أنَّه لو وجبَ العلمُ، لَمَا قَبِلَ الزيادةَ والترجيحَ في نفسِ المُخبَرِ، فلما كان خبرُ الواحد يُؤثَر في النفس معنى، وكلما انضمَّ خبرٌ آخرُ إليه، وزادَ عددُ المخبرين، قَوِيَ الأثرُ في النفسِ، عُلِمَ أنَّ ¬

_ = دين البراهمة المنكرين للنبوة، توفي سنة بضع وعشرين ومئتين. انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" 6/ 97 - 98، و"الملل والنحل" 1/ 53 و 59، و"الوافي بالوفيات" 6/ 14 - 19، و"الفرق بين الفرق" (113) و (136). (¬1) نقله عنه أبو الحسين البصري في "المعتمد" 2/ 566. (¬2) في الأصل: "بترجيح". (¬3) في الأصل: "روي".

الأولَ ظنٌّ، إذ لا تقبلُ القطعُ زيادةً، بدليل العلم الحادث عن المخبرين الذين لا يجوزُ عليهم التواطؤ أو الكذب، لَما بلغ طبقةَ العلمِ، لم تقبلِ التزايدَ، وكذلك العلم الثابت بأدلةِ العقولِ لا يحتملُ الزيادة. ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ لو أوجبَ العلمَ، لَمَا كان مما يَختَلُّ بخبرِ آخر بضدِّ ما أخبرَ به المخبر الأول، أو بخلافه، فلمَّا وجدنا أنَّ الواحدَ الثقةَ إذا أخبرَ بالخبرِ، فروى لنا ثقة آخرُ بخلافِ ما رواه الأَوَّلُ، زالَ ما كُنا نجدُه في نفوسِنا من خبرِ الأَوَّلِ، عُلِمَ أنَّ الأولَ لم يكن علماً. ومنها: أنَّه لو كانَ خبرُه يوجبُ العلمَ، لأوجبَ التَّبرُؤَ بينَ العلماءِ، والتفسيقَ للمخالفِ والتضليلَ، كأخبارِ التواترِ وأَدِلَّةِ العقول؛ لَمَّا أوجبتِ العلومَ، لا جَرَمَ أوجبت التبرؤَ مِمَّن خالفَ فيما أوجبه، وتضليلَه. ومنها: أنَّه لو كانَ خبر الواحدِ يوجبُ العلمَ، لكانَ المُخبِرُ بالنبوة يكفي خبرُه بمجردِه في تصديقه، ولا يحتاجُ إلى الإعجازِ، وإقامةِ الدلالةِ على صدقِه، فلمَّا لم يُصدقْ بمجرد خبره، عُلِمَ أنه لا يُوجِبُ العلمَ إلا ما قام على صِدْقِه من المُعجِزِ. وكذلك الشهادةُ عند الحاكم، لو أوجبَت العلمَ، لما افتقرت إلى العدالة والتزكية. ومنها: أنَّه لو أوجبَ العلمَ، لكانَ يعارضُ خبرَ التواتر، كما يتعارض الخبران؛ إذا كان كلُّ واحدٍ منهما خبرَ واحد، فلمَّا لم يُؤثَرْ خبرُ الواحد مع خبر التواتر، بل ألغيناه، وأسقطناه، عُلِمَ بطلانُ

دعوى المخالف في كونه موجباً للعلم. ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ يصحُّ التشكيكُ فيه بخبرٍ آخرَ؛ بخلاف ما أخبرَ به، أو برجوعه عمَّا رواه، ولو كانَ موجباً للعلمِ، لما وقعَ الشكُّ بمثله، ولما كان الشكُّ واقعاً في خبرِ الأول بخبرِ الثاني، وفي خبر الثاني بخبر الأول، علم أنَّه كان ظنّاً، فلمَّا قابله ما يوجبُ ظناً، تَجدَّدَ الشكُّ عند تقابلِ خبريهما. ومنها: أنَّه لو كان موجباً للعلم، لوجبَ إذا قابله خبرُ تواتر أن يتعارضا، فلما قُدِّمَ خبر التواتر، عُلِمَ أنَّه غيرُ موجبٍ لما يوجبُه الخبر الموجب للعلم. ومنها: أنَّ التأثير في قلب السامع مبنيّ على أمورٍ تحصل في قلبِ المخبر، وهي صفات مخصوصة، فإذا كان المخبر معصوماً من الكذب، أثّرَ في قلبِ السامعِ نفي تجويزِ الكذبِ، فصار بخبره قاطعاً، فأمَّا الواحدُ المُجوَّزُ عليه السهوُ والغلطُ والتحيلُ والكذبُ، فلا وجهَ لحصولِ علمِ السامعِ بصدقِه فيما أخبر به، وأكثرُ ما يتحصَّلُ ترجيحُ صدقِه لنوع ترجح في صفاتِه، من كونه عدلاً، مأمونَ القولِ (¬1) والفعل. ومنها أن يقال: إن تأثيرَ العلمِ في القلبِ إنما يَقَعُ (¬2) بطريقٍ يصلحُ، كما أنَّ الظنَ لا يحصل إلا بطريقه، والشكَّ بطريقه، فإن الأصلَ الجهل، فإذا لاحَ للقلبِ أمرانِ متكافئان في الإثباتِ والنفي، أَوْرَثا شَكّاً وتَردُّداً متكافئاً، وإذا تَرجَّحَ أحدُهما بما يترجحُ به ¬

_ (¬1) في الأصل: "للقول". (¬2) في الأصل: "يقطع".

فصل يجمع أسئلة المخالفين على أدلتنا المذكورة

أحدهُما، أوجبَ في النفس أمراً يقال له: الظنُّ، وهو ترجيحٌ في النفسِ لأحدِ المُجوَّزينِ، وإذا كانَ الدليلُ غيرَ متردِّدٍ، ولا محتملٍ في نفسِه، أوجب في النفس دركاً ووجداناً للشيءِ على ما هو به من غيرِ تَردُّدٍ، فسُمِّيَ عِلماً. جئنا إلى الواحدِ إذا أخبر، وهو كما يجوزُ عليه الصدقُ يجوزُ عليه الكذبُ؛ بأن لا يترجحَ أحدُ الأمرين بعدالةٍ، فيورثُ خبرُه شكاً، فإذا ترجح بنوع تماثُلٍ (¬1)، عرف به في القول والفعل، ترجحَ صدقُه في نفوسِنا، فأمَّا القطعُ، فقد بقيَ له رتبةٌ، وهي العصمةُ، فإذا عَجَّلْناها بالعدالة، ظلمنا؛ لإعطاء الدلالةِ أكثرَ ممَّا تستحقه، وكما لا يجوز أن تُحَطَّ رتبةُ العصمةِ إلى إيجاب الظنِّ في خبرِ المعصومِ، لا يجوزُ أن تُعْلَى رتبةُ العدالةِ، فتوجب خبرِ العدلِ صِفَةَ المعصومِ؛ لإيجابِ العلمِ بخبرهِ. فصل يجمع أسئلة المخالفين على أدلتنا المذكورة [منها]: أن قالوا: إنَّ خبرَ الواحدِ إذا تأيدَ بالعدالةِ فيه، تأَثرَ (¬2) في أنفسِنا العلمُ بخبرِه، وذلت يحصلُ بأحدِ طريقين: إما هجومٌ على النفس من غيرِ استدلالٍ، بل ثقةٌ تحصلُ في النفس. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بما شك". (¬2) في الأصل: "تأثير".

فصل في أجوبتنا عن أسئلتهم

أو باستدلال على ذلك؛ بما جمعَ من الصفاتِ المبعدةِ عنه الكذبَ، فلا يبقى إلاَّ تصديقُه فيما أخبر به، فيحدثُ في النفسِ علمٌ بما أخبرنا به، فما حصلَ التأثيرُ في النفسِ إلا بحسب المُؤثرِ. وأمَّا قولكم: إنَّه يعرضُ الشك بعدُ بخبرِه فيما أخبرنا به، فذلكَ لا يمنعُ حصولَ العلم، فإن العلمَ الاستدلاليَّ تتطرَّقُ عليه الشُّبَهُ، ولا تخرجه عن كونه علماً، وترجيحُ خبرِ التواترِ عليه أيضاً، لا يخرجُه عن كونه علماً استدلالياً، فإن رتبة العلمِ الاستدلالي دون الضروري، وخبرُ التواترِ يوجبُ علماً ضرورياً، وما ذلكَ إلا بمثابةِ الخبرِ القطعي العيانِ، والعلمِ الصادر (¬1) عن النظرِ والاستدلالِ بالإضافة إلى العلم الضروري الحاصل ببدائِه العقولِ، والكلُّ علمٌ، وكما يترجحُ الخبرُ بكثرةِ الرواة على الخبر الذي يرويه الثقاتُ لكن دونَ عدد المخبرين في الخبر الآخرِ؛ فإنَهما جميعاً يوجبان الظنَّ، ولا يدلُّ تقديمُ الأكثرِ رواة على الأقل على أنَّ (¬2) الأقلَّ رواةَ لا يوجبُ الظنَّ، بل استويا في الظن، وقدِّمَ الأرجحُ، كذلك ترجيحُ المتواتر على خبرِ الواحدِ، لا يمنعُ تساويهما في العلم. فصل في أجوبتنا عن أسئلتهم أمَّا دعواهم أنَّ العدالة في المُخبِرِ توجبُ هجومَ العلم للقلبِ، والثقةَ للنفس، فغيرُ صحيح، لأن العدالةَ ليست بأكثرَ من تَعمُّلٍ لطريقةٍ الطبعُ غالبٌ لها، وعادةُ النَاسِ التجملُ بإظهارِ المحاسن، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الصادق". (¬2) في الأصل: "لأن".

وسَترِ القبائح، ولهذا تكشفُ الخبرةُ والعبرةُ من الناس، ما لا تكشفُه المعرفةُ بالظَاهرِ، وإلى هذا أشارَ -صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اخْبُرْ، تَقْلِه" (¬1)، وقوله: "لو تكاشفتم، ما تدافنتم" (¬2)، وقوله سبحانه: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وقول النبي للأنصار، إذا رجعوا من السرايا: "لا تدخلوا على بيوتكم إلى أن تصبحوا (¬3) " (¬4)، أو كما قال، وتحت ستر التَّجمُّلِ الدواهي، ولولا سترُ الله الشاملُ، ¬

_ (¬1) أي: اختبر الشخص، تبغضه، لما يظهر لك من بواطن أسراره. رواه الطبراني في "الكبير"، وفي "مسند الشاميين" (1493)، وأبو يعلى، ومن طريقه ابن عدي، وعنه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"، ورواه أبو الشيخ في "الأمثال" (117)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (636)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 145، من حديث أبي الدرداء مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال السخاوي في "المقاصد" (38): وكلها -أي طرق الحديث عن أبي الدرداء- ضعيفة، فابن مريم، وبقية ضعيفان. (¬2) لم أقف على هذا الحديث، ولم أجده فيما بين أيدينا من مصادر حديثية، فالله أعلم. (¬3) في الأصل: "تصبحون". (¬4) ورد هذا المعنى من عدة أحاديث، منها: حديث طويل لجابر، وفيه: قفلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة ... فلما ذهبنا لندخل، قال: "أمهلوا حتى تدخلوا ليلأ- أي: عشاء-؛ لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة"، وفي رواية: "إذا قدم أحدكم ليلاً، فلا يأتينَ أهله طروقاً" أي: ليلاً، أخرجه البخاري (5079)، و (5244)، ومسلم (715) (181) و (182)، وأبو داود (2776)، و (2778). وورد من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل العقيق، فنهى عن طروق النساء الليلة التي يأتي فيها، فعصاه فتيان، فكلاهما رأى ما يكره. أخرجه أحمد (5814)، والبزار (1485). وفي الباب عن ابن عباس.

لما حسنت ثقةٌ بأحدٍ، وقد قال عمر رضي الله عنه: الثِّقة بكلِّ أحدٍ عجزٌ، وكلامُ الناس في ذلك أكثر من أن يُسطَّرَ، فغايةُ (¬1) ما يقعُ في النَّفس مع حُسنِ الظاهر، ويمِرُّ في القلب من خبرِ المخبرِ العدلِ: حسنُ الظنِّ به، وأنه صادق، فأمَّا القطعُ والعلم، فلا وجه له، لا سيما مع قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -:"سيكثر الكذب عليَّ" (¬2)، وقوله: "نضَّر الله امرأً سمعَ مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها، فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقهُ منه" (¬3)، وهذا يعطي التَّجوُّزَ في تغييرِ المعنى، مع تجويزِ التزيد في اللفظ. وأمَّا إلزامكم العلمَ الاستدلالي، وأنَّه قد يعترضه الشَّكُّ والشبهةُ، ولم يخرج [عن] أن يكون علماً، فلا نُسَلِّمُ أن ما صَدَقَتْ مقدماتُه، وصَحَّتْ نتائجه من أدلة العقول، ولم يَمِلْ صاحبه إلى ضربٍ من التقليدِ، ولا أخل (¬4) بشروطِ (¬5) النظر، بل صدق نفسه الاجتهاد بطرقِه، فإنَّه يهجمُ به ذلك على إصابة الحق المطلوبِ لا محالة، وإنَّما يؤتى الإنسان فيه من قِبَلِ نفسِه، ويُدْهى من إهمالِ بعضِ شروطِه، فأمَّا الخبرُ، فإنه إذا خَبرَ عدالةَ الراوي، وجاءَ مثلُه في العدالةِ بخبرٍ ينافي ذلك الخبرَ، فإنَّه لا يترجحُ أحدُهما على الآخرِ، فيورثُ ذلكَ شكاً، مع تمام شروطِ الدليلِ، فلو كان الدليلُ يورث ¬

_ (¬1) في الأصل: "بغاية". (¬2) لم يرد الحديث بهذا اللفظ، قال البيروتي في "أسنى المطالب" (120): لم يعلم أنه حديث. وذكره الصنعاني في "الموضوعات" (24)، على أنه يغني عنه ما تقدم تخريجه من قوله: "ويفشو الكذب"، وسيأتي ص (433). (¬3) تقدم تخريجه 1/ 7. (¬4) في الأصل: "أهل". (¬5) في الأصل: "شروط".

فصل يجمع شبهاتهم

علماً، لأمكنَ تحصيلُه به لا محالةَ؛ كدليلِ العقل. وأمّا قولُك: إنَّ إسقاطَ أحدِهما بالآخرِ، لا يمنعُ تساويهما في العلمِ، فغيرُ (¬1) صحيح؛ لأنّ العلمَ حقيقةً لا يقبلُ التزايدَ، ولا الترجيحَ، وإنما غايةُ اختلافِ العلمِ أن يكونَ أحدُهما أسرعَ حصولاً، وهو الحاصلُ ببدائه العقولِ من غيرِ احتياجٍ إلى وسائل ومقدِّماتٍ، كالعلمِ باستحالةِ مستحيلاتٍ، وإيجاب واجبات بأول نظر، مثل استحالةِ كونِ الجسمِ الواحدِ في مكانين في حالةٍ، واجتماع الضدين في حال واحدٍ، وإِيقاع في الماضي، وإلى أمثالِ ذلك، والعَلمُ الآخرُ أَبْطأَ حصولاً، كالعلمِ بتساوي الخطوطِ الخارجةِ من مركزِ (¬2) الدائرةِ على استقامةٍ إلى محيطِ الدائرةِ، وكون المساوي للمساوي مساوياً، وإلى أمثالِ ذلك من الجمل الحِسابيَّةِ، والأشكال الهندسية، الخارجة من العلم إلى الحسِّ. وأمَّا ترجيحُ أحد الخبرين بكثرةِ الرواةِ، فلأنَّ الظنَّ تقبلهُ الغلبةُ، فيقالُ: ظنّ، وغلبةُ ظنٍّ، فأمَّا العلمُ، فهو الغايةُ التي لا تقبلُ الزيادةَ. فصل يجمع شبهاتهم فمنها: قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ¬

_ (¬1) في الأصل: "غير". (¬2) في الأصل: "كبر".

[الإسراء: 36]، فنهانا عن اتباعِ غيرِ العلمِ، وقد أجمعنا على جوازِ اتباع خبر الواحدِ في أحكام الشرعِ، ومحالٌ أن نُجمعَ على ما نكون في اتباعه مخالفين للنص في اتباعِ ما ليس لنا به علم، فلم يبقَ إلا [أَنَّ] الإجماعَ بالعملِ بخبرِ الواحدِ، دلالةٌ على أنَّه موجبٌ للعلم. وذمَّ سبحانَه على اتباع الظن، فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، فذمَّ أربابَ الظنونِ في الأحكام والأعمالِ الشرعية، فدل على أنَّ أخبارَ الآحادِ توجبُ علوماً لا ظنونا، لأنَّ من المحالِ أن يذمَّ على اتباع شيءٍ، [ولا] يذمَّ على اتباعِه، لم يبقَ إلا أنَّه أمرَ باتباع أخبارِ الآحادِ؛ لكونها موجبةً للعلم، وذمَّ على اتباع الظنِّ، ولم يَحكم بكونها موجبةً للظن. ومنها: ما يخصُّ أصحابَ الحديثِ: أن قالوا: إنَّ عليّا كرَّم الله وجهه قال: ما حدثني أحدىٌ إلا استحلفتُه، إلا أبا بكر الصديق، وصدقَ أبو بكر (¬1). فقطع بصدقه، وهو واحدٌ. قالوا: ولأنَّ هذه الأحاديثَ، مع تلقي أصحابِ الحديثِ لها بالقبولِ، مع انتقادِهم الرجالَ، وتَحرُّجِهم في صفاتِ الرواةِ، والجرحِ لمن وجدوا فيه مطعناً، وكثرةِ الرواةِ، ولا يجوزُ أن تكونَ كذباً، فوجبَ كوتُها (¬2) حقاً تُوجِبُ علماً، لا ظناً. ومنها: أنَّه لو كانَ خبرُ الواحدِ لا يوجبُ العلمَ، لم يوجب، وإن كَثُرَ العددُ إلى حَيِّزِ التواترِ؛ لأنَّه يجوزُ على الثاني ما يجوزُ على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (378). (¬2) فى الأصل: "كونه".

الأَوَّلِ، وفي جميعِ العدد كذلك، ألا ترى أنَّ الفساقَ والصبيانَ لَمَّا لم يحصل العلمُ بالواحدِ [منهم]، لم يحصل بالكثرةِ منهم، ألاترى أنَّه لو لم يكن خبرُ الواحدِ موجباً للعلمِ، لمَّا أباح قتلَ النفس بإقرارِ الواحد على نفسه، وشهادة اثنين عليه بالقتل، وبأخبارِ الآَحادِ إيجابَ (¬1) الحدود، فلما قُبلَ الآحادُ في الأقارير والدماءِ والفروجِ، عُلمَ أنَّها موجبةٌ للعلم، حيث قضت على أدلَّةِ العقولِ الموجبةِ لبراءةِ الذِّمم. ومنها: ما تعلَّقَ به النظَّامُ: في أنَّ خبرَه مع الأمارةِ يوجب العلمَ، ولا يوجبُه بمُجرَّدِه، فقال: إنَّ الإنسانَ إذا أخبرَ عن نفسِه؛ بأنَّه قتلَ من يكافئه ظلماً عمداً محضاً بآلةٍ يقتلُ مثلها غالباً، كان خبرُه مع هذه الأمارةِ المعلومةِ موجباً للعلمِ، والأمارةُ: أنَّ كل حيٍّ يحبُّ الحياةَ، ويكرهُ القتلَ، بل الموتَ في الجملةِ، فإذا قال: قتلتُ، كان آكدَ من قولِه على غيره: قتلَ فلانٌ فلاناً؛ لأنَّ محبةَ النفس، وحبَّ الحياةِ، وكراهةَ الآلامِ، تمنع أن يكونَ قولُه على نفسه كذَباً، فأوجب ذلك العلمَ بصدقِهِ فيما أخبرَ به عن نفسِه. قال: ولأنَّ الأمارةَ باللَّوْثِ (¬2) تُؤثِّرُ في النفس أثراً بحِدَتِها (¬3)، فإذا انضمَّ إليها الخبرُ، لم يبقَ في النفسِ شك فيمَا دلَّت عليه الأمارة، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بإيجاب". (¬2) اللَّوْث: هو الحكمُ بالقرينة التي توجب غلبةَ الظن، الكافية لتوجيه تهمة إلى شخص ما؛ بأنه قاتل، كأن يكون بين المدعى عليه والقتيلِ عداوةٌ سابقة، أو أن تتفرق جماعة عن قتيل. انظر أحكام اللوث وموجباته في "المغني" 10/ 3 - 7، و"المبدع" 9/ 133، و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" 4/ 241. (¬3) في الأصل: "يحدثها".

بيانُه: أنا إذا رأينا مقتولاً في سِكَّةٍ من السكك، ورأينا رجلاً بيده سكينٌ عليها أثرُ الدم، والرجلُ هاربٌ من السِّكة، فإنَّ ذلكَ يؤثِّر عندنا، وفي نفوسِنا أَنَّ العاديَ الهاربَ على ذلكَ الوجهِ هو القاتلُ لهذا، ثمَّ إذا انبنى عليه قولٌ، صارَ القولُ مع ذلك اللَّوْثِ مُحقِّقاً في نفوسنا أنَّه القاتل، حتى إن الشريعة [جعلت] للأولياء أن يقسِمُوا على القتلِ، وأنَّ هذا قاتلُهُ، وأنهم لا يعلمون له قاتلاً غيره (¬1)، وقومٌ جعلوا عداوةَ من ظهرت عداوتُه له كالأثر عند من رأى اللَّوثَ أثراً، وقد أشار الله تعالى إلى ذلكَ؛ حيث قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26]؛ لأَنه أمار على أنَّه كان مقبلاً على المراودةِ، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] ولأنَّا لا نشكُّ في خبرِ من أخبرنا بموتِ رجلٍ قد كُنَّا عَرَفْنا مرضَه، وقد خرجَ أهلُه مخرقي الثياب، وقد جيءَ بجنازةٍ وُضِعَت على بابهِ، بعد أن سمعنا الصراخَ من دارِه، لا سيَّما إذا كانَ المخبر أباه، أو ابنَه، ومَن لا يُتَّهَمُ بالإرجاف عليه بالموتِ، حتى إنَّا لا نجدُ في أنفسِنا تردُّداً بعد هذا، وإذا كانَ كذلك، عُلِمَ بأنَّ الخبرَ على هذه الصفةِ يوجبُ العلمَ، ومن جحدَ ذلك، كابرَ أو سفسط. وكذلكَ إذا كانَ في جوارِ الإنسان امرأةٌ حامل، فسمعَ الطلقَ من وراءِ جدارهِ، وضَجَّةَ النساءِ حولَ تلك الحامل، ثمَّ سمعَ صراخَ الطفل واستهلالَه، وخرجَ نسوةٌ يقُلْنَ: ولدت فلانة ابناً، أو أخبرت القابلةُ ¬

_ (¬1) وهو المعروفُ بالقسامةِ، وصورتُها: أن يحلفَ أولياء القتيل خمسين يميناً؛ أنَّ قتيلهم ماتَ من ضربِ المتهم المدعى عليه، وقد ثبتت مشروعيتها فى السنة. انظر البخاري (6818)، ومسلم (1669)، وأبا داود (4520)، والترمذي (1422)، والنسائي 8/ 12.

فصل في الأجوبة عن شبههم

بذلك، فإنَّنا لا نجدُ في نفوسِنا شكاً ولا ارتياباً بصحةِ الخبرِ، وصدقِ المخبرِ بذلك، ومن جحدَ ذلكَ، خرجَ من حَيِّزِ المناظرةِ إلى المكابرة. فصلٌ في الأجوبة عن شبههم أما التعلقُ بالآياتِ، والمنعِ من قفوه ما ليسَ له به علمٌ، وذمِّ من اتبعَ الظنَّ، فالجوابُ عنه: أنه أرادَ: فيما طريقُه العلمُ، كالاعتقاداتِ الأصوليةِ، وما يتعلَّقُ بالله سبحانه، وما يجبُ له، وينفَى عنه، صرفاً للآية عن ظاهرها -وهو العمومُ- إلى ما يعتبرُ فيه العلمُ، بدلائلنا التي ذكرناها. على أنَّ من دلَّ على إيجابِ قبولِ خبر الواحدِ، وإن أوجبَ ظنّاً، فقد قفا ماله به علمٌ، ونحنُ نقطعُ ونعلمُ بوجوبِ قبولِ خبرِ الواحدِ، والعملِ به، فهو وإن أوجبَ ظناً، إلا أنَّ إيجابَ العملِ به أُوجبَ قطعاً. والدليلُ على صحةِ تأويلنا، وتخصيصِ الآيةِ على ما ذكرنا: هو إجماعُنا على اقتفاءِ خبرِ المفتي بما صدرَ عن اجتهادِه، وعملُ الحكامِ بالبيناتِ عمل بما لا يقطعونَ به، لكن لما استندت البَيِّنةُ إلى دليلٍ قاطع، عملنا بها، وهو قوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، كذلك هاهنا، قال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122].

وأمَّا ذمُّه العاملينَ بالظنونِ، فإنَّه عادَ إلى مَن عَوَّلوا على الظنون فيما طريقُه العلومُ والقطعُ، وهو إثباتُ الأصولِ، والآيةُ تشهدُ بذلك، لأنها وردت في معتقداتِ القومِ، من دون أعمالِهم. وأمَّا قولُ علي رضي الله عنه في استحلافِه مع الخبر، وتصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فذاك من (¬1) الأحكامِ الفروعية، وليسَ يعتبرُ فيها القطعُ، بل الظنّ، وجعلَ رتبة أبي بكر مع خبره موازية لحلفِ غيرِه مع خبرِه، فأغناه ذلك عن تقويةِ ما في نفسِه بحلفِه، وقويَ مجردُ قولِه عنده وعندنا؛ لأن الغالبَ صدقُه على الظن، فحسنَ أن يقالَ: إنَه مصدَّق في خبره، وليس كل مصدَّقٍ في خبرِه مقطوعاً على صدقِه. وأمَّا مبالغة أصحابِ الحديثِ، فلا تعطي القطعَ بأخبارِ من روَوا عنه، وتحرزوا في الروايةِ عنه، بدليلِ أنَّا نرجِّحُ بكثرةِ الرواةِ، وروايةُ صاحبِ القصةِ كحَمَل بن مالك في قصةِ الجنين، رجحناه على روايةِ غيره؛ لأنَّ القصةَ كانت متعلقة به، ونُرجِّحُ في أسرارِ أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحوالِه [غير] البَيِّنةِ حديثَ عائشةَ وأمثالِها من أَزواجه، على روايةِ أنسٍ وابن عمرَ وابنِ عباس. على أَنَّ رواياتهم نقطعُ بأن فيها صدقاً (¬2)، ولا نعلمُ عينَهُ، ولا يجوزُ أن يكونَ كل ما رووه وأخبروا (¬3) فيه كذباً، وقطعنا على أنَّ في أخبارِهم صدقاً لا يعطي العلمَ بأعيانِ الأخبارِ، هذا كما نقطعُ في بابِ الفتوى من جهة المفتين المجتهدينَ المختلفينَ في الأحكامِ، أنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل:"بان". (¬2) في الأصل: "صدق". (¬3) فى الأصل:" وتحبروا".

الحقَّ والقطعَ في أحدِ أقوالهم، وأنَّ الحقَّ لا يخرجُ عن مقالاتِهم، لكن لا يعلمُ ذلك عيناً، واجتهادُهم في الرأي كاجتهادِ أصحابِ الحديثِ في الروايةِ، ولا نقطعُ على صحةِ مقالةِ واحد من المفتين، لأجلِ قطعِنا على أنَّ الحقَّ لا يخرجُ عن رأيهم، كذلكَ لا نقطعُ على خبرِ واحدٍ من الرواةِ بعينه، لأجلِ قطعِنا على أنَّ الحقَّ والصدق لا يخرجُ عن روايتهم. وأمَّا قولُهم: إنَّه لو لم يوجب العلمَ، لما أوجبَ إذا كثر الرواةُ، وانتهوا إلى حدِّ التواترِ، فغلطٌ، لأنَّ إعطاءَ آحادِ الجُملَةِ ما (¬1) يجبُ للجملَةِ، يردُّه الحسُ والعقلُ، فإنَّ للتعاضدِ والتناصرِ ما ليس للانفرادِ في بابِ المحسوساتِ، [و] اعتمادُ الجماعةِ يعطي ما لا يعطيه آحادُهم دفعاً ورفعاً للأشياءِ الثقيلة، وتأثيراتُ الأقوالِ المتناصرةِ في النفسِ معلومة، بحيث لا نجدُ قبل تناصِرها في نفوسِنا ما نجدُه بعد تناصِرها وتعاضدِها، بل يجد الإنسانُ في نفسه من التأثير باستثباتِ الخبرِ من الواحدِ، ما لا يجدُ من قولِه مرَّةً من غيرِ استثباتٍ، ولذلكَ يَفْزَعُ العقلاءُ إلى قولِهم لمن أخبرهم بدخولِ الأميرِ البلدَ، وبقدوم القافلةِ على طريق الاستثبات: حقاً تقول؛ فإذا قال: نعم، وجدوا في نفوسهم ما لم يجدوه قبل استثباته، فكيفَ بأقوالٍ بعدَ أقوالٍ، وأخبارٍ بعد أخبارٍ؟! وما زالَ العقلاءُ يطلبون تناصرَ الأدلة؛ ليرتقوا بها إلى القطعِ، فإذا انتهوا إلى القطعِ، سكنوا، وحصلت الثقةُ منهم المغنيةُ عن الاستزادةِ، مثل قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259]، {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران: 41]. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بما".

ولأنَّ العددَ الكثيرَ يبعدُ عنهم التواطؤ على الكذبِ، وإذا صارَ عددَ التواترِ، استحالَ؛ كاستحالةِ اجتماعِ أهلِ بغدادَ على حب الحامضِ في حالةٍ واحدةٍ. ولأنَّه ما زالَ يَتجدَّدُ بقولِ الجماعةِ ما لا يوجدُ بقولِ الواحدِ؛ بدليلِ قولِ الشاهدِ الواحدِ، والمرأةِ الواحدةِ مِع الرجلِ الواحد، وقد عَلَّلَ البارىء بقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وهذا يعطي أنَّ الوَحْدةَ يقوى فيها تجويزُ الكذب، والكثرةَ يبعدُ معها الكذبُ، وكذلكَ يبعدُ السَّهْوُ والغلطُ عن الكثرَةِ؛ لتعاضدِهم على المذاكرةِ بالأمرِ المخبَرِ به، فإن نسيَ أحدُهم، ذكره الباقون، وإن نسيَ جماعة منهم، ذكرهم الواحدُ، ولذلكَ صار الإجماعُ قطعياً، وإن كانَ الواحدُ من المجتهدين مُجوَّزاً عليه الخطأ، فيتجدد للإجماعِ أمرٌ لم يكن لآحادِ المجتهدين، وهو القطعُ بصحةِ ما أَفْتَوا به في الحادثة. وأمَّا قولهم: لو لم يوجب العلمَ، لما أباح قتلَ النفس بإقرارِ الواحدِ، وشهادة الاثنين، فدعوى لا برهانَ عليها؛ إذ قد أباَح القتل باجتهادِ الواحدِ والاثنينِ، إذا لم يكن لنا سواهما من أهل الاجتهاد، نعم، وأباحَ القتلَ مع وجودِ الخلاف، ولم يجعل أحد من الفقهاء اجتماعَهم على إيجابِ القتل أو إباحتهِ شرطاً، بل أجمعوا على أنَّ القتلَ في مسائلِ الاجتهادِ المختلف فيها جائز (¬1)، فهذا يقتلُ بالقتلِ بالمُثقَّلِ مع خلافِ غيرِه له، وهذا يقتلُ المسلمَ بالكافرِ مع خلافِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "جائزاً".

غيرِه له، وهذا يقتلُ الأبَ بابنه ذبحاً مع خلافِ غيرِه له، فلم يوقفوا القتلَ على القطعِ. وأما ما تعلَّقَ به النظَّام، بخبرِ الواحدِ مع الأمارةِ، فلا نُسلِّمُ أنه يقعُ بها العلمُ، بل هذه عينُ الدعوى، وشرحُ المذهب. وكيف يُعتقَدُ ذلكَ، ونحنُ نعلمُ أنَّ مثلَ تلكَ الأمارةِ تقعُ تزويراً؟ وكم فعلَ النَّاسُ مثلَ ذلك، لأغراضٍ بلغوها، مثل وضعِ الدمِ على قميصِ يوسفَ، ووَضْعِ يوسفَ بضاعتهم في رحالِهم، ووضعِه الصُّواع في رحلِ أخيه، وكانوا أحبارَ العالم، وأولادَ الأنبياء، فكيف بأهلِ عصرِنا على ما نعرفه منهم؟ وكم من لَوْثٍ كانَ موضوعاً على غيرِ الجاني، وكم من غشيةٍ حسبَها أهلُ المريضِ موتاً، وكانت إغماءً وضعفاً، قال الله سبحانه في حق سليمان: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44]، وإذا كان حكمُ الأَماراتِ على هذا الوضعِ، فلا ثقةَ إلى أمارةٍ على حدتها، ولا خبرٍ واحدٍ على حدتِه، فإذا اجتمعا، فلا قطعَ، بل غايةُ ما يوجبُ ذلك تَرجُّحَ أحدِ المُجوَّزين، وهو الذي نشيرُ إليه من الظنِّ، وكم رأينا مَن فعلَ ذلك وسمعنا، لدفعِ ضررٍ، أو اختلاف يقعِ، وكم استعارَ النساءُ أولاداً، وأظهروا الطلقَ، وانتفاخَ البطنِ، ثمَّ بان أنَّ الولدَ كان مُزوَّراً، فمتى سلمَ لكَ حصولُ العلم، مع اتجاه هذه الأفعالِ، وسلوكِ هذه المسالك؟! وإنّي لأَسْتكثِرُ الظنَّ فيه، فضلاً عن العلمِ؛ لما نعرفُه من أَدْغالِ الناسِ.

مسألة المراسيل حجة ويجب العمل بها

مسألة المراسيل حجةٌ، ويجب العمل بها (¬1) وصورةُ الإرسال: أن يقولَ مَنْ لم يَلْقَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله، مثل أن يرويَ التابعيُّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك إذا قال: أخبرني الثقةُ، أو أخبرني رجلٌ عدل، عن فلان، في إحدى الروايتين عن أحمد، نَصَّ عليه. وقال: ربما كان المنقطعُ أَقْوى. وقال: مرسلاتُ سعيد بن المسيب أصحُّ المرسلاتِ، وليس في المرسلاتِ أضعفُ من الحسنِ، وعطاء بن أبي رباح (¬2)، ومرسلات إبراهيم (¬3) لا بأس بها. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 907، و"المسودة" (250)، و"التمهيد" 3/ 131، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 228. (¬2) هو أبو محمد عطاءُ بن أبي رباح القرشي بالولاء، نشأ بمكة، وانتهت إليه فتوى أهلها، كان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث، حدثَ عن: عائشة وأُمِّ سلمة، وأمِّ هانيء، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، قال يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مجاهد احب إلينا من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ من كل ضرب. انظر "ميزان الاعتدال" 3/ 7، و"تهذيب التهذيب" 7/ 179، و"طبقات ابن سعد" 5/ 467. (¬3) هو أبو عمران إبراهيمُ بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي اليماني ثُمَّ الكوفي، كانَ من التابعين، وأدرك أمَّ المؤمنين عائشة وهو صبيٌّ، ولم يثبت له =

وبهذا المذهب قال الكرخي من أصحابِ أبي حنيفة (¬1)، ومالك (¬2)، والمعتزلة (¬3). وفيه روايةٌ أخرى: ليس بحجةٍ إلا مراسيلَ الصحابةِ (¬4)، وبها قال الشافعي (¬5). ¬

_ = منها سماع، وروايتُه عنها، وعن غيرها من الصحابة، غيرُ متصلة عند أهلِ الصنعة، كان بصيراً بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، مات بالكوفة سنة (96 هـ). انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 6/ 270، و"تهذيب التهذيب" 1/ 177، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 52. (¬1) عبارةُ الكرخيِّ لم تفرِّق بين المراسيل، فأطلق القولَ بقبول الخبر المرسَلِ بقطع النظر عن الراوي، صحابياً كان، أو تابعياً، أو غيرَ تابعي، وهو ما أشارَ إليه الجصاص بقوله: ولم أرَ أبا الحسن يفرِّق بين المراسيلِ من سائر أهلِ الأعصار "الفصول" 3/ 146. غير أنَّ الصحيحَ والمقبول عند الحنفية: أن مرسَلَ من كان من القرونِ الثلاثةِ حجةٌ، ما لم تعرف منه الرواية مطلقاً عمَن ليسَ بعدل ثقة، ومرسَلُ من كان بعدهم، لا يكون حجةً إلا ممَّن اشتهر بأنه لا يروي إلا عمَّن هو عدل ثقة، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - شهِدَ للقرون الثلاثة بالصدق والخيرية، فكانت عدالتهم ثابتةً بتلك الشهادةِ، ما لم يتبين خلاف ذلك. انظر "الفصول " 3/ 145 - 157، و"أصول السرخسي" 1/ 363، و"فواتح الرحموت" 2/ 174، و"تيسير التحرير" 3/ 12. (¬2) انظر "تنقيح الفصول" (379). (¬3) انظر "المعتمد" 2/ 143. (¬4) أي: رواية أخرى عن الإمام أحمد، والروايةُ المقبولهُ والمعتمدة هي الرواية الأولى، والمتضمنة قبولَ الخبرِ المرسلِ، حتى لو كانَ المرسِل غيرَ صحابي. (¬5) الصحيحُ في مذهبِ الشافعي: أنَّ الراوي المُرسِلَ إن كان من كبارِ =

فصل في الأدلة على جواز الاحتجاج به

فصلٌ في الأدلة على جواز الاحتجاجِ به فمنها: أنَّ التابعينَ رحمة الله عليهم، كان من عادتهم إرسالُ الأخبارِ، من ذلك: ما رويَ عن الأعمش (¬1)، أنَّه قال: قلتُ لإبراهيمَ: إذا حدَّثْتَني، فأَسنِدْ، فقال: إذا قلتُ لك: حدثني فلانٌ عن عبد الله، فهو الذي حدثني، وإذا قلتُ لك: قال (¬2) عبد الله، فقد حدثني جماعةٌ عنه، ورويَ ذلك: عن الحسنِ، وسعيد بن المسيب، والشَّعبي (¬3). ¬

_ = التابعين، ولم يرسِل إلا عن عذر، فأسنده غيرُه أو أرسلَه، وشيوخُهما مختلفون، أو عضدَ الخبرَ المرسلَ عملُ صحابي، أو عملُ أهلِ العصرِ، قُبِلَ المرسل، وإلا فلا. انظر "الرسالة" (461)، و"التبصرة" (325 - 326). (¬1) هو أبو محمد سليمانُ بن مهران الأسدي، الكاهلي بالولاء، المعروفُ بالأعمش، من مشاهيرِ العلماء، روى عن: أنسِ بن مالك، وإبراهيم النخعي، وسعيد بن جبير، وغيرهم من كبار التابعين، وعنه روى: ابن إسحاق، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وغيرهم من العلماء، وأقوال العلماء في الثناء عليه كثيرة وعديدة. انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 342، و"تاريخ بغداد" 9/ 3، و"وفيات الأعيان" 2/ 400 - 402، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 226 - 239. (¬2) في الأصل: "حدثني " والتصحيح من "العدة" 3/ 910. (¬3) هو عامِرُ بن شَراحِيلَ بن عبد بن ذي كِبار، أبو عمرو الشَّعبي، سمع من عِدَّةٍ من كبراءِ الصحابة، وحَدَّثَ عن: سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وابنِ عمر، وغيرِهم من الصحابة رضوان الله =

وإذا كان هذا معروفاً من عادتهم، فلو كانَ عندهم أنَّها غيرُ مقبولةٍ، كانوا قد ضَيَّعُوا سُننَ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الفعلِ، وذلك لا يجوزُ، فلا يظنُ بهم اعتمادٌ، مع شهادةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بالخير والعدالة. ومنها: أنَّ إرسال الراوي مثبتٌ لعدالةِ من رَوَى عنه، من وجهين: أحدهما: أنَّه لا يجوزُ أن يكونَ فاسقاً، ويكتمَ اسمَه، ويُدرِجَه إدراجاً، فيكون غِشَّاً لمن يُحدِّثُه بذلكَ الحديث عن رسولِ الله. والثاني: أنَّه إذا روى عن غيرِ ثقةٍ، كانَ قد قطعَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغيرِ طريقِ القطعِ، فلم يبقَ إلا أنّه تعديل لمن روى عنه، وإذا كان تعديلاً له، وجبَ قبولُ خبرِه، وقد جعلَ أحمدُ روايةَ العدلِ عن غيرِه تعديلاً، فقال في كتاب "العلل" للأثرم: إذا روى عبد الرحمن (¬1) ¬

_ = عليهم، وعنه روى: حمَّاد، ومكحول الشامي، وعطاءُ بن السائب، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وغيرهم، كان من أعلام عصره، حتى قال: ما سمعت منذ عشرين سنة رجلاَ يحدَث بحديث إلا أنا أعلم به منه، فلقد نسيتُ من العلم ما لو حفظه رجل، لكان به عالماً. ثوفي سنة (104) هـ، وقد بلغ ثنتين وثمانين سنه. انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 246، و"وفيات الأعيان" 3/ 12، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 295، و"تهذيب التهذيب" 5/ 65. (¬1) يريدُ الإمامَ الناقدَ عبد الرحمن بن مهدي بن حسَّان البصري اللؤلؤي، سمعَ من: حمادِ بن سلمة، والسفيانين، ومالك، وحدَّث عنه: ابن المبارك، وأحمدُ، وإسحاق، وأقوالُ العلماءِ في الثناءِ عليه، وبيان فضله ومقامه، وعلو رتبته في العلم، عديدة وكثيرة، قال فيه ابن المديني: كان أعلم الناس، وقال محمد المقدَّمي: ما رأيت أحداً أتقنَ لما سمع، ولما لم يسمع، من =

عن رجلٍ، فروايتُه حجة. وقال أيضاً في رواية أبي زرعةَ الدمشقي (¬1): مالكُ بن أنسٍ إذا روى عن رجلٍ لا يعرفُ، فهو حجةٌ (¬2). ومنها: أنَّ الظاهرَ من المُسنِدِ بحديثه، أنه يقصد أن يخرجَ من عهدةِ الرواية يذكرِ الرجال، فإذا أرسلَ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تيقن صحةَ الطريقِ، وسلامتَه بصدقِ الرواةِ عنده؛ ولهذا قالَ الحسنُ لما أرسلَ، حديثاً، فسئل عنه، فقال: حدثني به سبعون بدريّاً، فدلَّ على أنَّ الإرسالَ إن لم يقوَ على الإسناد، فلا ينحطُّ عنه. ومنها: أنَّه ي يقبَلُ منه الخبر مسنداً، فقُبِلَ مرسلاً، كالصحابيِّ، وكسعيدِ بن المسيب. ¬

_ = عبد الرحمن بن مهدي. توفي بالبصرة سنة (198) هـ. انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 7/ 297، و"شذرات الذهب" 1/ 355، و"التاريخ الكبير" 5/ 254، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 192. (¬1) هو أبو زُرعة عبد الرحمن بن عمرو بن صفوان النَّصري الدمشقي، محدِّث الشام في زمانِه، كانَ ثقةً حافظاً، تقدَّم على أقرانه، وتميز على نظرائه، لمعرفته وعلوِّ سنده، روى عن خلقٍ كثيير بالشام والعراق والحجاز، منهم: سليمانُ بن حرب، وأبو بكر الحميدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. توفي بدمشق سنة (281) هـ. انظر "الجرح والتعديل" 5/ 267، و"تهذيب التهذيب" 6/ 236 - 237، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 311. (¬2) انظر "العدة" 3/ 912.

فصل في جمع أسئلتهم على أدلتنا

فصلٌ في جمع أسئلتهم على أدلتنا فمنها: أنَّ الحالَ في تركِ إسنادِه متردِّدةٌ محتملة، فيجوزُ أن يكونَ لنسيانٍ منه عينَ الراوي، فلا يذكرُه لأجلِ النسيانِ، ويجوزُ أن يكونَ ممن يأنفُ أن يرويَ عنه، ويحتمل أن يقنع بظاهر عدالتِه عنده، ولا يكون مرضياً، ولو كانَ عدلاً عنده لم يكف، لأنه (¬1) يجوزُ أن يكونَ ليس بعدلٍ عند مَنْ يَعْرِفُه، إذا سمَّاه وذكره. ومع هذهِ الاحتمالاتِ لا يجوزُ أن يقطَعَ على العدالةِ، ويُرَجَّحَ جانِبُها، وعدالتُه عندَه لا تكفي في وجوبِ العملِ بخبرِه حتى يُنظرَ في حالِه. قالوا: ولأنَّه لو كانَ هذا كافياً في إرسالِ الخبرِ، لكانَ كافياً في بابِ الشهادةِ على الشهادةِ، ونَقْنعُ بعدالةِ شهودِ الفرعِ، ونقول: إنه لا يشهدُ العدلُ إلا على العدلِ، ولا يُسنِدُ شهادته إلا إلى مثله، ولما بطلَ هذا في الشهادة، بطل في الأخبار. فصل في الأجوبةِ عن أسئلتهم فمنها: أمَّا النسيانُ بعدَ المعرفةِ بعدالةِ الراويِ، فلا يضرُّ، لأنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا".

فصل في شبههم

نسيانَه لا يمنعُ من اجتماعِ صفاتِ العدالةِ فيه حين روى له الحديث. على أنَّ جميعَ ما تعلقَ [به] من الاحتمالات باطلٌ برواية الصحابيِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبقولِ الحاكمِ: ثبتَ عندي بشهادةِ رجلين ساغَ لي سماعُ قولهما، فإنَّه لا يسأل عن عينهما مع الاحتمالات التي ذكرتَها، وكذلكَ لا يُشَكُّ أنَّ الشافعي نصَّ على قبولِ مراسيلِ سعيد، ويبعدُ ما يقولُه أصحابُه عنه، وأنَّه تتبعها، فوجدَها مسانيدَ؛ لأنَّه لما وجدها مسانيدَ، كان ينبغي أن يُزِيلَ عنها اسمَ المراسيلِ؛ فإنَّ في ذلك تلبيساً (¬1). وأما الشهادةُ على الشهادةِ، فإنَّما لم يكتفَ فيها بالإرسالِ، فبابُ الشهادةِ على الاحتياطِ، وبابُ الأخبارِ على السهولة؛ لقبولِ العنعنة، والمناولة، والإجازة، وعدمِ العدد، وإفراد الأنوثة من وراءِ الحجاب، وظاهرِ العدالةِ من غير بحثٍ عن باطنِ المحدِّث، وسيأتي الجواب عن ذلك في احتجاجهم، إن شاء الله. فصل في شبههم فمنها: ما احتجَّ به الشافعيُّ رضي الله عنه، وهو أنَّ الخبرَ كالشهادِة في اعتبارِ العدالةِ في كلِّ واحدٍ منهما، وقد ثبتَ أنَّ الإرسالَ في الشهادةِ يمنعُ قبولَها وصحتها، فكذلك الخبرُ. ومنها: أنَّ من شرطِ صحةِ خبرِ الراوي المعرفةَ بعدالتِه، والمُرسَلُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تلبيس".

فصل في أجوبتهم

لا تعرفُ عدالةُ الراوي له، فوجبَ أن لا يقبَلَ، لعدمِ الشرط. ومنها: أن قالوا: الجهالةُ بعينِ الراوي آكد من الجهالةِ بصفتِهِ؛ لأن من جُهِلَت عينُه، فقد جُهِلَت صفتُهُ، ثم قد ثبت أنَّه لو كانَ معروفَ العينِ مجهولَ الصفةِ، مثل أن يقول: أخبرني فلان، ولا أعرف ثقته، فإنه لا يقبَلُ، فجهالةُ الأصلِ -وهي العينُ-، أَوْلى أن تَمْنَع قبولَه. ومنها: أن قالوا: الخبرُ خبران: تواتر، وآحاد، ثم لو قال: أخبرني مَنْ لا أحصيهم عدداَّ، أو قال: أخبرني مَنْ بمثلِه يثبتُ التواترُ، بكذا، لم يقبَلْ قولُه في التواتر، ولم يثبت له حكمُ التواتر، كذلك الآحاد، ولا فرق بينهما. فصل في أجوبتهم فأمَّا دليلُ الشافعيِّ واعتبارُه الخبرَ بالشهادة، فغيرُ صحيح؛ لأنَّهما وإن استويا في اعتبارِ العدالة، إلا أنَّ للشهادة تأكيداً (¬1) في بابِ الأحكامِ والشروطِ، ألا ترى أنَّها لا تقبلُ من وراءِ الحجابِ، ولا من العبيدِ والنساءِ على الانفرادِ، ولا من شهودِ فرعٍ مع وجودِ شهودِ الأصل، والخبر يُقبل من وراءِ الحجاب، ومن العبيد والنساء على الانفراد، ومن راوٍ يروي مع حضور المرويِّ عنه، وإذا تباعدتِ الشهادةُ عن الأخبارِ هذا البعدَ، وفارقتها هذه المفارقة، فلا ينكرُ أن ¬

_ (¬1) في الأصل: "تأكيد".

يقبلَ الخبرُ مع الإرسال، وإن لم تُقْبلِ الشهادةُ مع الإرسال. على أنَّ الشهادةَ إنَّما اعتبرت تسميتهم؛ لأَن الشهادة على الشهادة يعتبر لها الاستدعاءُ، وهو أن يقولَ شاهدا (¬1) الأصلِ لشاهدي الفرع: اشهدا على شهادتنا، فافتقرت إلى تسمية الأصل، ولأنَّ مِن الفقهاءِ مَنْ يوجبُ عليه الضمانَ، فلا بدَّ من تسميته، ليُعرفَ، فيُسندَ إليه الضمانُ. فإن قيل: أَفليسَ (¬2) قد استويا في اعتبارِ العدالة؟ قيل: فقد بيَّنا أنَّ الرواية من العدلِ تعديلٌ. وأمَّا قولُهم: إنَّ المعرفة بعدالةِ الراوي شرطٌ، ومع الإرسالِ لا تعرفُ عدالته، فلا (¬3) يصحُ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ العدلَ لا يروي إلا عن عدلٍ، وتكفي العدالةُ في الظاهرِ في بابِ الأخبارِ، لأنَّ روايةَ العدلِ عن الشخصِ تعديلٌ، وإذا لم يسمِّه، كان ذلك من أكبرِ الثقةِ به، لأنَّه إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قطع الشهادةَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقدمُ العدلُ الثقةُ على هذا القولِ إلا عن ثقةٍ بعدالةِ الراوي. فإن قيل: قد تكرَّر منكم هذا التعويلُ (¬4) على أن الروايةَ عن الشخص تعديلٌ، وليس كذلك، ولهذا قال ابن سيرين: لا تأخذوا بمراسيل الحسن، وأبي العالية (¬5)، فإنهما لا يباليان عمن أخذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "شاهد". (¬2) في الأصل: "فاليس". (¬3) في الأصل: "لا". (¬4) في الأصل "التعديل". (¬5) هو رفيعُ بن مهران، أبو العالية الرياحي البصري، أسلمَ في خلافةِ أبي=

الحديث. قيل: هذا قولٌ يعطي البحث، أو الطعن، فأمَّا البحثُ، فلا يَلْزَمُهما، لأَنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قنع في قبولِ قولِ الأعرابي في رؤيةِ الهلال بمُجرَّدِ الإسلام (¬1)، والشهادةُ برؤيةِ الهلالِ بمثابةِ روايةِ الأحاديث، لأنَّ كلَّ واحد منهما خبرٌ بأمرٍ من أمورِ الديانات، ويلزمُ المُخْبِرَ والمُخبَرَ، فيشتركان فيه. وأَمَّا الطعن، فلا يقبل من ابن سيرين في الحسنِ وأبي العالية، ولا يظن فيه أنّه قصدَ بذلك روايتَهما عن الفُسَّاقِ والكذابين، إنماقصد أنَّهما لا يفتشان ويبحثان، والبحثُ لا يلزمُ، ويكفي ظاهرُ العدالةِ، ومذاهبُ أصحابِ الحديثِ في ذلك مختلفةٌ، فلا ينبني الطعنُ (¬2) بقولٍ ¬

_ = بكر الصديق، وسمعَ من: عمرَ، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وغيرِهم من الصحابةِ رضوان الله عليهم أجمعين، تصدر لإفادة العلم، وبَعُدَ صيته، واشتهر بعلمه بقراءة القرآن. توفي سنة (93) هـ، وقيل غير ذلك. انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 112، و"تاريخ البخاري" 3/ 326، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 207، و"تهذيب التهذيب" 3/ 246 - 247. (¬1) وردَ ذلك في حديثِ ابن عباس رضي الله عنه، قال: جاءَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابيٌّ، فقال: أبصرتُ الهلالَ الليلة، فقال: "تَشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدُه ورسولُه " قال: نعم، قال: "قُمْ يا فلان، فأذِّن في النَّاسِ، فليصوموا غداً". أخرجه أبو داود (2340)، والنسائي 4/ 132، والترمذي (691)، وابن خزيمة (1924)، وابن الجارود (380)، والحاكم 1/ 424، وابن حبان (3446). (¬2) في الأصل: "الظن".

فصل إذا ثبت أن المرسل حجة فلا فرق بين مرسل أهل عصرنا ومن تقدم

مُتردِّدٍ لا يَتَّضحُ (¬1)، ولا يكشف عما يوجب الردَّ، بل الطعن المطلق لا نقبلُه، فكيفَ بقولٍ لا يلوح منه الطعن؟! وأمَّا قولُهم: جهالةُ عينِه آكدُ من جهالةِ صفتِه، فلا نُسَلِّمُ أنَّ هاهنا جهالةَ صفةٍ، والإسلامُ كافٍ مع عدمِ العلمِ بالفسقِ، وهذا موجودٌ فيمن روى عنه المُحدِّثُ العدلُ. ولأنَّ الحاكمَ إذا قالَ: ثبت عندي بشهادةِ (¬2) رجلين ساغَ لي سماعُ شهادتِهما، لم يَحْتَجْ إلى ذكرِ اسمهما، ولا تعريفهما، والشهادةُ يعتبر فيها ما لا يعتبرُ في الخبر، فالخبرُ أَوْلى. وأما تعلقُهم: بأنَّه لا يصير الخبرُ بقوله متواتراً، فلا يلزم؛ لأنَّ التواترَ يُشترطُ فيه استواءُ طرفيه ووسطِه بالعددِ الذي لا يجوزُ على مثلِهم التواطؤُ والكذب، وقولُ الواحدِ لا يحصلُ به القطع، فلا يحصلُ به إثباتُ خبير يوجب القطع، فهو كخبرِ الواحدِ العدلِ عن المعصومين الجاري مجرى التواتر، وذلك يوجب النظرَ اعتباراً. فصلٌ إذا ثبتَ أنَّ المرسلَ حجةٌ، فلا فرق بين مرسل أهل عصرنا ومن تقدم، وهذا ظاهرُ كلام أحمد (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "صح". (¬2) في الأصل: "شهادة". (¬3) انظر "العدة" 3/ 917، و"المسودة" (251)، و"التمهيد" 3/ 143 - 144.

وحكيَ عن عيسى بن أبان: أنَّه قال: من أرسلَ من أهلٍ عصرنا حديثاً، فإن كانَ من الأئمةِ الذين حَمَلَ عنهم أهلُ العلمِ، كان مُرسَلُه مقبولاً، كما نقبل مسنده، ومن حملَ عنه الناسُ المسندَ دونَ المرسلِ، كان مرسَلُه موقوفاً (¬1). وقال أبو سفيان: مذهبُ أصحابنا أن مراسيلَ الصحابةِ، والتابعين، وتابعي التابعين، مقبولة (¬2). يشير إلى الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم ثلاثة القرون (¬3). وحكيَ عن الكرخي، ووافقه الجرجاني: في قبول مرسلِ أهلِ سائرِ الأعصار (¬4). وذكر الشيخُ الإمام أبو إسحاق رضي الله عنه: أن مراسيلَ غيرِ الصحابةِ ليست حجة (¬5). ودليلُ (¬6) تقييده بالصحابةِ يدلُ على أن غيرهم لا تقبلُ مراسيله. ¬

_ (¬1) انظر هذا القول لابن أبان في "الفصول" للجصَّاص 3/ 146. (¬2) على انَّه يقبل -في الصحيح عند الحنفية- مُرسَلُ من كان بعد القرون الثلاثة، إذا كان ممن اشتهروا بالرواية عن العدول الثقات. قرَّرَ ذلك الجصّاص في "الفصول" 3/ 146، والسرخسي في "أصوله" 1/ 363. (¬3) في الأصل: "الثلاثة قرون". (¬4) تقدم التعليقُ على قولِ الكرخي في الفصول المتقدمةِ آنفاً. (¬5) نصَّ عليه الأمامُ أبو إسحاق الشيرازي في "التبصرة" (326)، وقد أشرت فيما تقدم إلى تحقيق مذهب الشافعي. (¬6) في الأصل: "فدليل".

فصل في أدلتنا

فصلٌ في أدلتنا فمنها: أنَّ الراوي إذا كان ثقة عدلاً، وكان لا يروي بظاهرِ الحال، فلا يَختلِفُ حالُ عدالتِه، ولا حكمُ إرساله بعصر دونَ عصر، كما لا تختلفُ المسانيدُ والشهاداتُ بعصر دونَ عصر، ولا تختلفُ الشهادةُ على الشَّهادةِ (¬1) باختلافِ أهل الأعصار. ومنها: أنَّ العدالةَ لم يُجْعَلْ لها مراتبُ في الشرع؛ بحيث يختلفُ حكمُ الأورعِ والأزهدِ على غيره في اختلافِ الحكمَ، والدليل عليه: في باب الفتيا، والحكم، والشهادةِ، وروايةِ المسانيد، وليسَ في الإرسال إلا الثقةُ بعدالةِ المروي عنه لثقةِ الراوي، فالثقاتُ لا يختلفون باختلافِ الأزمانِ والأعصارِ، كما لم يختلفوا بالمراتبِ في الزهادةِ والورعِ في العصرِ الواحد. فصلٌ في شبهةِ المخالف إِنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عدَّلَ القرآن الذي كانَ فيه، وقرنين بعد عصره، فقال: "خيرُكم القَرْنُ الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم يَفْشُو الكذبُ" (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الشهاد". (¬2) ورد هذا من حديثِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -, =

فصل في الأجوبة عما ذكروه

ومَنْ قصَرَه على الصحابةِ، قال: إنَّ أصحاب رسول الله مقطوعٌ بعدالتهم، فإنْ كانَ إطلاقُ الواحدِ منهم: قالَ رسول الله، بسماعه منه، فبَخٍ بَخْ؛ لأنَّه عدلٌ مقطوعٌ بعدالتِه، روى عن صاحب الشرع المعصوم في خبره، وإن كان بينه وبين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صحابيٌّ آخر، فالصحابةُ كهم مقطوعٌ بعدالتهم، وليسَ كذلك في غيرهم، فإنهم لا يقطعُ على عدالتهم. فصلٌ في الأجوبةِ عمَّا ذكروه فأمَّا قولُهم: إنَّ القرونَ الثلاثة مشهودٌ لهم بالخيرِ، والصحابةُ رضوان الله عليهم شُهِدَ بعدالتِهم، فهذا ممَّا يوجبُ الثقة البالغة، وليس طريقُ الأخبار ممَّا يطلبُ فيه الأقصى، بل ظاهرُ العدالةِ كافيةٌ في الأخبارِ، بدليلِ المسندِ؛ فإنَّه لا يحتاجُ إلى أن يُسندَ إلى مقطوعٍ بعدالته، فالذي ذكرتموه في القرنِ الأوَّل والاَخرين يصلُحُ للترجيح، فأمَّا التخصيصُ، وسلبُ غيرهم أصلَ الإرسالِ، فلا، ولسنا نمنع أَن تكونَ مراسيلُ أولئك أَوْلى ومُقدَّمةً على مراسيلِ القرنِ الرابع، فأمّا أن يمْنعَ تخصيصُ أولئك بالعدالةِ المقطوعةِ مِن إرسالِ مَنْ دونهم، فلا. ¬

_ = أنه قال: "خيرُ الناس قَرْني، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذبُ حتى يشهدَ الرَجلُ ولا يستشهدُ، ويحلفَ الرجل ولا يستحلف". أخرجه الترمذي (2303)، وابن ماجه (2363). وورد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ما يؤكد هذا الحديث، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيءُ قومٌ، تسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادَته". أخرجه مسلم (2533) (210)، وأحمد 1/ 434.

فصل في كلام احمد في المراسيل

على أنَّه لم يخلُ عصرٌ من الأعصارِ ممَّن ليسَ بعدلٍ، لكن حُمِلَ الأمرُ على الظاهرِ، وهاهنا حاصلٌ، وهذا صحيح، لأنَّ ما ذكرتم لم يوجب تخصيصَ أولئك بالشهادةِ دونَ من بعدهم، ولا من الشهادةِ على الشهادة، ولا من الروايةِ على وجهِ الإسنادِ، لا الإرسال. فصل في كلام أحمدَ في المراسيل، وترجيحِ بعضِها على بعض (¬1). قال في رواية أبي الحارث: مُرسَلاتُ سعيد بن المسيِّب كلُّها صِحاحٌ، لا نرى أَصَح من مرسلاته، فأمَّا مرسلاتُ الحسنِ وعطاء، [فليست] بذاك، هي أضعفُ المرسلاتِ، فإنّهما كانا يأخذانِ من كلٍّ. وقال في روايةِ الفضل بن زياد: مرسلات عطاء، ففيها (¬2) شيء، وأمَّا مرسلاتُ ابن سيرين، فما أحسنَ مخرجه أيضاً، ومرسلاتُ سعيدِ بن المسيب أصحُّ المرسلات، ومرسلاتُ إبراهيمَ النخعي، فلا بأس بها، وليس في المرسلاتِ أضعفُ من مرسلاتِ الحسنِ وعطاءِ ابنِ أبي رباح، كأنهما كانا يأخذان من كلٍّ. وسأله مُهنا عن مرسلات سعيد بن جبير، [فقال]: هي أقرب، وهي أَحبُّ إِليَّ من مرسلات عطاء. وسئل عن مرسلات سعيد بن جبير أحبُّ إليك، أو مرسلات ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 920 - 924. (¬2) في الأصل: "ففيه".

مجاهد؟ قال: مرسلاتُ سعيد بن جبير أحبُّ إليَّ. وسئل مرسلاتُ مجاهدٍ أحبُّ إليك، أو مرسلات عطاء؟ فقال: مرسلاتُ مجاهدٍ، لأنَّ عطاء روى عمن هو دونه، ومجاهدٌ لم يروِ عمَّن هو دونه. وقال وقد سئل: مرسلاتُ طاووس أحبُّ إليك، أو مرسلاتُ أبي إسحاق (¬1)؟ قال: مرسلاتُ طاووس. وسئل عن مرسلات إسماعيلَ بن أبي خالد (¬2) أحبُّ إليكَ، أومرسلاتُ عمرو بن دينار؟ فقال: إسماعيلُ بن أبي خالد لا يبالي عمَّن حدَّثَ؛ عن أشعث بن سَوَّار (¬3)، وعن مُجالدٍ، ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن ذي يحمد السبيعي، ولدَ لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وروى عن جمع من الصحابة، منهم: معاوية، وعدي ابن حاتم، وابن عباس، وغيرهم، وحدَّث عنه: الزهري، وقتادة، والأعمش، وآخرون، وهو ثقة حجة بلا نزاع. مات سنة (107) أو (108) هـ. انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 313 و315، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 114، و"ميزان الاعتدال" 3/ 270، و"تهذيب التهذيب" 8/ 63. (¬2) هو أبو عبد الله إسماعيل بن أبي خالد البجلي، الأحمسي بالولاءِ، كان محدّث الكوفة في زمانِه مع الأعمش، حدَث عن: عبد الله بن أبي أوفى، وأبي جحيفة السُّوائي، وطارق بن شهاب، وعنه حدَثَ: الحكمُ بن عتيبةَ، ومالك بن مِغْوَل، وشعبةُ، وسفيانُ، وغيرُهم، يُعد من صغار التابعين الحفاظ، توفي سنة (146) هـ. انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 240، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 53 - 154، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 176، و"شذرات الذهب" 1/ 216. (¬3) هو أشعث بن سَوَّار الكندي الكوفي، التوابيتي، الثقفي ولاء، حدَثَ عن: الشَّعبي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وعنه حدَثَ: شعبة، ويزيد=

وعمرُو (¬1) بن دينار لا يروي إلا عن ثقة، مرسلاتُ عمرٍ وأحبُّ إليَّ. وسئلَ: أيُّما أحب إليك إبراهيمُ عن علي، أو مجاهدٌ عن علي؟ قال: إبراهيم عن عليٍّ؛ لأنَّ هذا كانَ مقيماً، وكان مجاهدٌ إنما تقْدَمُ في الأحيان إلى الكوفة. وسئل عن مرسلات النخعي، قال: ما أصلحها ليسَ به بأسٌ، أصلحُ من مرسلاتِ الحسن. وسأله مهنا: لم كرهت مرسلات الأعمش؛ قال: لأنَّ الأعمش لا يبالي عمن حدث. وسئل عن مرسلاتِ الأعمش، وسليمان التَيْمِي ويحيى بن أبي كثير (¬2)، قال: مرسلاتُ يحيى بن أبي كثير أحبُّ إليَّ. وقال في مرسلات يحيى بن أبي كثير: لا تعجبُني، لأنَّه روى عن رجال ضعاف. ¬

_ = ابن هارون، وغيرهم، وهو من الضعفاء الذين روى لهم مسلم متابعة، ضعَّفه أحمد وابن معين والدارقطني، توفي سنة (136) هـ. انظر "طبقات ابن سعد" 6/ 249، و"ميزان الاعتدال" 1/ 263 - 265، و"المغني في الضعفاء" 1/ 47، و"تهذيب التهذيب" 1/ 352 - 354. (¬1) في الأصل: "وعن عمرو". (¬2) يحيى بن أبي كثير اليمامي الطائي مولاهم، من صغارِ التابعين، حافظٌ مشهور، كثير الأرسال والتدليس، روى عن جماعة من الصحابة، منهم: جابر، وأنس، وأبو أُمامة، وقيل: لم يصح له سماع من صحابي، توفي سنة (129) وقيل (132) هـ. انظر "تهذيب التهذيب" 11/ 268، و"تعريف أهل التقديس" (77)، و"ميزان الاعتدال" 4/ 402، و"الضعفاء الكبير" للعقيلي 4/ 433.

وقال في رواية أبي الحارث: مرسلاتُ ابن سيرين صحاح، حسنةُ المخرج. وسأله مهنا عن مرسلاتِ سفيان (¬1)، قال: كان سفيانُ لا يبالي عمَّن روى. وسأله عن مرسلاتِ مالك، قال: هي أحبُّ إليَّ. ¬

_ (¬1) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، إمامُ الحفَّاظِ في زمانِه، ولدَ سنة (97) هـ، روى عن: والدهِ سعيد بن مسروق، وبهز ابن حكم، وجعفر الصادق، وغيرِهم كثير، وعنه روى خلقٌ كثير، منهم: الأعمش، وابن جريج، وأبو داودَ الطيالسي، وغيرُهم، قال فيه شعبةُ، وابن عيينة، ويحيى بن معين: سفيان الثوري أميرُ المؤمنين في الحديث. انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 1/ 376 - 374، و"تاريخ بغداد" 9/ 151 - 174، و"سير أعلام النبلاء" 7/ 229 - 279، و"تهذيب التهذيب"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الوَاضِح في أصُولِ الفِقه 5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان تلفاكس: 319039 - 815112 فاكس 603243 ص. ب: 117460 - برقيًا بيوشران AL- Resalah PUBLISHERS BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039 fax: 603243 - P.O.Box: 117460 Email: [email protected]

* فصل في المعتبر في الراوي من الصفات لقبول روايته

فصلٌ في المعتبر في الراوي من الصفات لقبول روايِته والذي يجبُ أن يَجتمعَ فيه لقَبولِ روايتِه خمسُ خِصَالٍ: البلوغُ: لأنَّ الصبيَّ لا يتحرَّجُ عن الكذبِ إذا كانَ الوعيدُ على ارتكا بِه. والعقلُ، والإسلامُ، والعدالةُ، والنزاهةُ من الكذب الذي لا يوجبُ الفسقَ، وهو الذي لا يتكرر لكنه يندر (¬1). والعقلُ: لأنّه الذي يوجبُ تحصيل مَا نحكيه ونُجَرِّبه. والاسلام: ليحرصَ على حفظِ الكتابة، ولا يتجوَّزُ. بما ينقص حكماً، ولا يزيده بالكذب حكماً، لا نلزمه ذلك. والنزاهةُ: فإنَّه يخاف المعرَّة، والخروج عن قانونِها. والعدالةُ: وهي طريقةٌ يقوى معها الظنُّ بصدقِه، ولا تحصلُ الثقةُ مع عدمِها، لأنّ الفاسقَ قد ارتكب محظوراً بدينه فعلاً، فلا (2 مانع عن 2) ¬

_ (¬1) اقتصر المؤلف هنا على هذه الصفات، وزاد غيره: أن يكون الراوي ضابطاً لما ينقله، وأن لا يكون مبتدعاً يدعو إلى بدعته، نبه على هذه الصفات القاضي أبو يعلى في "العدة" 3/ 948 - 949، وانظر "المستصفى" 1/ 156، و"فواتح الروت" 2/ 138، و"شرح تنقيح الفصول" 358، و"أصول السرخسي" 1/ 345. (2 - 2) غير واضحةٍ في الأصل.

- فصل في كلام أحمد وغيره في ذلك

ارتكابه (¬1) الكذبَ قولاً. فصل في كلام أحمد في ذلك قال أحمد فِى روايةِ أحمدَ بنِ الحسين: لا يكتبُ الحديث عمن يسكر. وقال في روايةِ ابن القاسم وسندي (¬2)، عن الرجلِ يُعرفُ بالكذبِ في الشيءِ يحدِّثُ به القومَ وليسَ يُعرفُ منه الكذبُ في الرواية: كيف يُؤمَنُ هذا على الروايةِ أن يكذبَ فيها إذا عُرف منه الكذبُ في شيء؟! وقال فى روايةِ أبي الصقر (¬3) في الصَّلاةِ خلف آكل الربا: إِنْ [كان] أكثرُ طعامِه الربا لم يُصلَّ خلفَه، فاعتبرَ الكثرة في ذلك. وقال: لو لم نَقبل إلا ممَّن يمحِّض الطاعاتِ لم يُقبَل أحد؛ لأن أحداً لا يمحِّضُ الطاعاتِ حتى لا تشوبَها معصيةٌ، يدلُّ عليه قولُه تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وأرادَ بالغيِّ وضعَ الشيءِ في غيرِ موضعِه، وقال في حقِّ داود: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحدٌ إلاَّ عصى، أو همَّ. ممعصيةٍ، ¬

_ (¬1) في الماصل: "لارتكابه". (¬2) هو: أبو بكر الخواتيمي البغدادي، من أصحاب أحمد الذين نقلوا عنه مسائل مفيدة. انظر: "طبقات الحنابلة" لأبي يعلى الفراء 1/ 170. (¬3) هو: يحيى بن يزداد، من أصحاب الإمام أحمد، نقل عنه مسائل في الحجر، والمساقاة، والمزارعة، واللقطة. انظر: "طبفات الحنابلة" 1/ 409.

إلَّا يحيى بن زكريا" (¬1). قلتُ: وهذا ليسَ بجيِّدٍ من القولِ؛ لأنَّ السَّلامةَ من المعاصي لا بدَّ منها لقبولِ القولِ والثقةِ إلا الرَّاوي، ولسنا نعتبرُ السَّلامةَ من أن تكونَ وقعت رأساً، بل نعتبرُ أن لا يكونَ مُصرّاً، وأن يكونَ تائباً متنصِّلاً لنَثِقَ إلى خبرِه، ونعوذُ بالله أن يقالَ: لا يخلو عبدٌ من عبادِ الله عن الإصرارِ حتى الأنبياء عليهم السَّلام، لكن لا يخلو أحدٌ من وقوع عصيان، لكن يجبُّه ويزيلُه الاستغفارُ، كما كان في حقِّ الأنبياء. وقوله: لو رددنا كلَّ مَنْ لم يمحِّضِ الطَّاعةَ لم نقبل أحداً، فَكلامٌ غيرُ صحيِح، لأنَّنا لو (¬2) قبلنا مِن كلِّ مَن مزجَ الطَّاعةَ بالعصيةِ لما رددنا فأسقاً، ولَمَا رددنا إلاَّ الكفارَ؛ لأنَه كما لا يخلو مسلمٌ من معصيةٍ، لا يخلو مسلمٌ من طاعةٍ، وقد أجمعنا على وجوبِ ردِّ قولِ الفاسقِ الذي حصلَ فسقه. بمعصيةٍ واحدةٍ، وهي الكبيرةُ، وتركِ طاعةٍ واحدة، وهي الفريضةُ. عُلِمَ أنَّه لا بدَّ من اعتبارِ العدالةِ، إمَّا الحاصلةُ في الابتداءِ، أو الحاصلةُ بالتلافي للمعاصي بالتوبةِ في ثاني الحال. فأمَّا مَنْ ثبت كذبُه، فإنَّه يُرَدُّ خبرُه وإنْ لم يتكرَّر ذلك منه، هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ في رواية علي بن سعيد (¬3) في الرجلِ يكذبُ كذبةً واحدةً، لا ¬

_ (¬1) أحرجه أحمد (2294)، وابن أبي شيبة 11/ 562، والحاكم 2/ 591، وأبو يعلى (2544) من حديث ابن عباس. (¬2) في الأصل: ولو. (¬3) علي بن سعيد بن حرير النَّسوي، أبو الحسن، روى عن الإمام أحمد جزأبن =

يكونُ في موضع العدالةِ؟: الكذبُ شديدٌ (¬1). وقيلَ لأبي عبدِ الله في الرجل: متى يُترَكُ حديثُه؟، قال: إذا كانَ الغالبُ عليه الخطأَ. قيل له: الكذبُ من قليلٍ أو كثير؛ قال: نعم. قلت: وهذا إنَّما خُصَّ الكذبُ به لأنّه من طريق الروايةِ والإخبار عصيان في نفس الخبر، فلا يؤمنُ معه الخبرُ، وللكذب (¬2) في حقِّ مَنْ رتبتُهُ رتبةُ المخبرِ من تأثيرٍ ما ليس لغيره، ولهذا ما بعث نبيًّا كَذَبَ، وبعث أنبياءَ عَصَوا، ولهذا ذهبَ أبو حنيفة إلى ردِّ شهادةِ القاذفِ المحدودِ في القذفِ، وإنْ تاب، لماّ ثبتَ كذبُه، وحكمَ بجميع ما تُعتَبرُ العدالةُ فيه إلاّ الشهادةَ لمَّا كان طريقُا القولَ، وقَبِلَ شهادةَ كلِّ تائبٍ من ذنبٍ، وإنْ كبُرَ، إلاّ القذفَ لما فيه من تحقّقِ الكذبِ. وقد اعتبرَ في روايةٍ أخرى لردِّ خبرِه كثرةَ الكذبِ دونَ الكذب القليلِ، فقال في رواية أحمد بن أبي عَبْدة (¬3) في الرجل يكذب، فقال: إِنْ ¬

_ = مسائل. "طبقات الحنابلة" 1/ 224. (¬1) في "الطبقات" 1/ 224: سمعت أحمد وسُئِلَ عن الرجل يعرف بكذبة واحدة، هل يكون في موضع العدالة؟ قال: لا، الكذب أشد من ذلك. فقيل له: فإذا تاب عنه بعد ذلك، وطال عليه الأمر؟ قال: إن كان قد تاب وظهرت منه التوبة وعُرفَ منه الرجوع، الكذب شديد. (¬2) في الأصل: "والكذب". (¬3) في الأصل: "عبيدة" وهو: أبو جعفر الهمداني من أصحاب أحمد الذين أخذوا عنه. قال فيه الامام أحمد: ما عبر هذا الجسر أنصح لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من أحمد بن أبي =

كثُرَكذبُه لم يُصلَّ خلفَه. فظاهرُ هذا أنَّه لا يخرج من العدالةِ بالكذبةِ الواحدةِ، ولكنَّه قالَ ذلك في الصَّلاة خَلْفَهُ، فلا ينبغي اُن يشملَ الخبرَ لما بيَّنا أنَّه قول، والكذبُ يرجِعُ إلى القول. فإن قيل: فإبراهيم عليه السَّلامُ كذبَ ثلاثَ كذباتٍ على ما صحَّت به الرواية عنه (¬1): قوله: "هذه أختي" وهي زوجته، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 89]، وما فعل الصَّنم شيئاً، ولا كان سقيماً، قيل: ذلك من المعاريض، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ في المعاريضِ لَمَنْدُوحةً عن الكذبِ" (¬2)، ووجهُ ذلك أنَّ قوله: "إنِّي سقيم"، من قولِكم وكفرِكم، "هذه أختي"؛ في الإسلام، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] فعلَّق الفعلَ ولم يَحتِمْه. هذا المذكورُ في تفاسير المحقِّقين الذين اجتهدوا في تبرئةِ الأنبياءِ بجهدهم. ¬

_ = عبدة، يعني بذلك جسر النهروان. انظر: "طبقات الحنابلة" 1/ 84. (¬1) أخرجه أحمد (9241)، والبخاري (3357) (3358)، ومسلم (2371)، وابن حبان (5737)، والبيهقي 7/ 366، من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لم يكذب إبراهيم قط إلأَ ثلات ... " الحديث. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 130.

وأيضاً ممَّا يد على تخصيصِ الكذبِ بإيجاب الردّ من غيرِ اعتبارِ تكرارٍ، ما روى إبراهيمُ الحَرْبى في كتاب "النهي عن الكذب" بإسناده عن موسى الجندي قال: ردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شهادة رجلٍ في كذبة كذبها (¬1). وبإسنادهِ عن يحيى بن سالم قال: اطَّلعَ رسولُ اللهِ من وافدِ قومٍ على كذبةٍ كذبها، فقأن له: "لولا سخاءٌ فيك وَمِقَكَ الله عليه -يعني أحبَّك؛ من المِقَةِ -لشرَّدتُك من وافدِ قوم" (¬2). يعني: لنفيتك لكذبتك. ومصداقُ هذا الخبر قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "تجاوزوا عن ذَنْب السَّخي، فإنَّ الله يأخذُ بيدِه كلَّما عثر" (¬3). ¬

_ (¬1) أورده المتفى الهندي "في كنز العمال" (14543) عن معاوية بن حيدة، و (17783) عن ابن عباس، ونسبه لأبى سعيد النقاش في كتاب "القضاء". (¬2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (7703) من حديث عباد الحنظلي، قال الطبراني؛ لا يروى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد، تفرد به زيد بن الحباب. وأورده الهيثمي في "المجمع" 3/ 129 وقال: رواه الطبر اني في الأوسط، وكأنَّ الصحابي سقط، فإن الأصل سقيم، وفيه جماعة لم أعرفهم. (¬3) أخرجه الطبرانى في "الأوسط" (1221)، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 59، والخطيب في "تاريخ بغداد" 14/ 98، من حديث ابن مسعود. وأورده الهيثمي في "المجمع" 6/ 282 وقال: وفيه بشر بن عبيد الله الدارسي، وهو ضعيف. وأخرجه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (282) من حديث ابن عباس.

ونُقِلَ عن أحمدَ فيمن تابَ عن الكذبِ: أنَّه لا يقبلُ حديثُه، فنقل أبو عبد الرحمن عبيدُ الله بنُ أحمدَ الحلبي (¬1) قال: سألتُ أحمدَ بن حنبل عن مُحدِّثٍ كذبَ في حديثٍ واحدٍ، ثمَّ تاب ورجع، قال: توبته فيما بينه وبين الله، ولا يُكتبُ عنه حديثٌ أبداً. وقال قاضي القضاة أبو عبد الله الدامَغَاني (¬2) رضي الله عنه: يُقبلُ حديْثُه المردودُ وغيرُه إذا تابَ، بخلاف الشَّهادة إذا رُدَّت ثم تاب، لا تُقبلُ المردودة خاصة، قال: والفرق بينهما أنَّ الشهادة المردودةَ ردُّها حكمٌ من الحاكمِ، فلا تقبلُ بعدَ ردِّها، لأنَّ فيهِ نقضاً للحكمِ بالتوبة، وهي ظاهرٌ، فلا يجوزُ نقضُ الحكمِ بظاهرٍ متردِّد، وردُّ الخبرِ ليسَ لمجكمٍ. وقالَ أبو بكر الشَّامي قاضي القضاة رضي الله عنه: لا نقبلُ خبرَه المردودَ بعد التَوبةِ، ونقبلُ غيرَه من رواياتِه اعتباراً بالشَّهادة. وقد اعتلَّ شيخُنا (¬3) رضي الله عنه لردِّ شهادته بعدَ التوبة: أنَّ مَنْ أقدمَ على الكذبِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - زنديقٌ، فَنُخَرِّجُ ردَّ توبتهِ على ردِّنا. لتوبةِ الزنديق. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عبد الله بن أحمد"، وهو: من كبار أصحاب الإمام أحمد، سمع منه مسائل مفيدة، قال أبو بكر الخلال: رجلٌ جليا جداً، كبير القدر. انظر: "طبقات الحنابلة" 1/ 197. (¬2) هو: أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن حسين بن عبد الوهاب الدامغاني، الحنفي تقدمت ترجمته 3/ 255. (¬3) هو: القاضي أبو يعلى الفراء. انظر "العدة" 3/ 929.

وفارَقَ الشَّهادةَ؛ لأنَّه قد يرغبُ في الكذبِ فيها لأجلِ رشوةٍ، أو تقرُّبٍ إلى أبناءِ الدنيا لغرضٍ خصَّه. وهذا عندي فرقٌ بعيدُ؛ لأنَّ الرغبةَ في التقرُّبِ إلى أبناء الدنيا بأخبارِ الإرجاءِ أو تخويفهم لغرضٍ يخصُّه من أخبارِ الوعيدِ، لا يدلُّ على الكفرِ؛ لكن غايته الفسقُ. ومن كلامِ أحمدَ رضي الله عنه ما رواه أبو إسحاق في بعضِ تعاليقِه عن أبي بكر النَّقاشِ (¬1)، عن محمدِ بن سعيدٍ (¬2)، عن محمّدِ بن سهلِ بن عَسْكَر (¬3)،سمعتُ "أحمدَ بن حنبل يقول: إذا سمعتَ أصحابَ الحديث ¬

_ (¬1) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد، الموصلي ثم البغدادي. كان مفسراً، عالماً بالقراءات، له كتب عديدة منها: "الاشارة في غريب القرآن"، و"دلائل النبوة"، وله كتاب في التفسير نحو من أربعين مجلداً، كان واسع الرحلة، قديم اللقاء، غير أنَّ في رواياته مناكير، توفِى سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة. انظر: "تاريخ بغداد" 201/ 2 - 205، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 573. (¬2) هو: أبو بكر محمد بن سعيد الحربي الزاهد، يعرف بابن الضرير. كان ثقة، وروى عنه ابن رزقويه، توفي سنة (351) هـ. انظر: "المنتظم" 7/ 15. (¬3) هو أبو بكر محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة البخاري، حدَث عن عبد الرزاق وغيره. وروى عنه: إبراهيم الحربي، وابن أبي الدنيا، والبغوي. كان ثقة. توفي سنة (251) هـ. انظر "طبقات الحنابلة" ا/ 298، و"تهذيب الكمال " 25/ 325 - 327. وقد وهم ابن الجوزي في "المنتظم" 7/ 15، فترجمه في وفيات (351).

- فصل لا يقبل الجرح إلا مفسرا

يقولون: هذا حديثُ غريبٌ أو فائدة، فاعلم أنَّه خطأٌ، وإذا سمعتَهم يقولون: هذا حديثٌ لا شيءَ، فاعلم أنّه صحيحٌ؛ لأنَّهم لا يستغربونَ إلاَّ الحديثَ الشَّاذَّ الذي ليسَ. بمشهورٍ، ولا رواه أئمةُ أصحابِ الحديث (¬1). وقولهم: "هذا الحديثُ لا شيءَ". بمعنى: ما أفادت روايتُه لاشتهارِه وتكرُّرِ روايته، وما هذا سبيلُه، ينتفي عنه السَّهوُ والغلطُ. فصلٌ ولا يُقبَلُ الجرح إلاَّ مفسَّراً، فعلى هذا إذا قال أصحابُ الحديث: "فلانٌ ضعيف"، و"فلانٌ ليس بشيء"، [فليس هذا ممَّا يوجبُ جرحَه، وردَّ خبرِه] (¬2). هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ في رواية المَرُّوذِي، وقد قيلَ له: إنَّ يحيى بنَ معين سُئِلَ عن الصَّائمِ يحتَجِمُ؟ قال: لا شيءَعليه، ليس يثبت فيها خبرٌ. فقال أبو عبدِ الله: هذا كلام مجازفة، فلم يقبل مجرَّدَ الجرح من يحيى. ونقلَ مُهنَّا: قلتُ لأحمدَ: حديث خديجةَ: كان أبوها يرغب أن يزوِّجَه (¬3)، فقالَ أحمدُ: الحديثُ معروفٌ، رويتُه عن غير واحدٍ. قلت: إنَّ ¬

_ (¬1) أورده القاضي أبو يعلى في "العدة" 3/ 930، والخطيب في " الكفاية " 225، ولم يتبين لي معنى قوله "فائدة"، غير أنَّ في سند هذا الأثر أبا بكر النقاش، وهو متهم، وفي رواياته مناكير. انظر "سير أعلام النبلاء" 15/ 573. (¬2) ما بين معقوفين ساقط من الأصل، انظر "العدة" 3/ 931. (¬3) أي: يرغب عن أن يزوِّجه، وحديث زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخديجة أخرجه=

النَّاسَ ينكرون هذا. فقال: ليس هو منكر. وروى المَرُّوذِيُّ عنه ما يدلُّ على أنَّه يُقبَلُ، فقال: قرئَ على أبي عبدِ الله حديثُ عائشةَ: كانت تلبّي: لبيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيكَ لا شريكَ لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والملك (¬1)، فقال أبو عبد الله: كان فيه "والملك لا شريك لك"، فتركتُه، لأنَّ الناسَ خالفوه. وقوله: فتركتُه، معناه: تركتُ روايتَه لأجلِ تركِ النَّاسِ له، وإنْ لم تظهرِ العِلَّة التي لأجلها تركَ النَاسُ روايتَه. وجهُ الرِّوايةِ الأولى: أَنَّ الناسَ اختلفوا فيما يحصلُ به الفِسْقُ، فلا بدَّ من كشفِ سببهِ لينظرَ هل هو فسقٌ أم لا، ولهذا لو شهدَ رجلان بأنَّ هذا الماءَ نجسٌ، لم نحكم بنجاسته، لجوازِ أن يكونَ نجساً عند المُخبِرَين الشَّاهدَين، وليسَ بنجسٍ عندنا، وذلك لأنَّ الفقهاءَ يختلفون في سببِ نجاسةِ الماءِ، فبعضُهم يحكم بنجاسة الماء القليل وإن لم يتغيَّر، وبعضهم لا يحكم بنجاسته، وبعضهم بنجاسةِ سؤر السَّبُع والحمار، وبعضُهم لا يرى نجاسته، وبعضُهم يرى أنَّ بولَ ما يؤكل لحمُه طاهرٌ، وبعضُهم يراه نجساً، فلمَّا كانوا يختلفون في ذلكَ لم نقبل قَولَهم: "نجس" ما لم يثبتوا وجهَ نجاستِه وسببَها. ¬

_ = أحمد (2849)، والطبراني (12838)، والبيهقي فِى "الدلائل" 2/ 73، من حديث ابن عباس. (¬1) أخرجه أحمد 6/ 32 و 100، والبخاري (1550)، والطيالسي (1513).

كذلكَ أسبابُ الجرح تختلف، فبعضُ الناسِ يرى اللّعبَ بالشِّطْرَنْجِ جرحاً، وبعضُهم لا يراه جرحاً، وكذلك التعيير وشربُ النَّبيذ، وكذلكَ السكر الذي يخلط به كلامه، كلُّ هذه مختلف في كونها جرحاً، فقومٌ لا يرونه جرحاً، وبعضُهم يراه جرحاً. فإن قيل: فهذا يوجب أن لا يُقبل قولُ المزَكي: إنَّه عدلٌ رِضًى؛ لأنَّ النَّاس أيضاً يختلفون في أسباب العدالة، وبعضُهم يرى أنَّ قانونَ المروءَةِ ليس من شرطِ العدالة، وبعضُهم يراه شرطاً في العدالةِ، وكذلك بعضُهم يرى أنَّ التوبةَ من القذفِ تعيده عدلاً، وتصحُّ شهادتُه على الإطلاق، وبعضُهم لا يرى قبولَ شهادتِه أبداً، كما قال الله تعالى (¬1). وبعضُ النَّاسِ يشترطُ التوبةَ من جميع الذنوبِ، ومُضيَّ الحولِ على صلاح العملِ، وبعضُهم لا يشترط ذلك، ثمَّ لا يوجبُ ذلك كشفَ سبب العدالةِ، كذلكَ الجرحُ المطلق. قيل: العدالةُ هي الأصلُ، فهي كالطَّهارةِ في الماء، فإنَّه لمَّا كان أصل الماء على الطَّهارةِ لم نحتج إلى بيانِ سببٍ، كذلكَ العدالةُ هي الأصلُ، ولأَنَّ العدالةَ لو اعتبرنا ذِكْرَ شروطها لَمَا أَمكنَ التَّعديلُ والتزكيةُ؛ لأنَّ العدالةَ لا تكمل إلاَّ بأفعالٍ وبتروكٍ جامعةٍ لكلِّ فرضٍ وتَرْكِ كل محظورٍ، ومَنِ الذي يحيط علماً بذلَك؟ والتركُ نفيٌ، والشهادةُ بالنفي لا تصحُّ، وليس كذلكَ الفسقُ والجرحُ؛ فإنَّه تكفي فيه الفعلةُ الواحدةُ والمخزيةُ النَّادرة، وذلك ممّا يمكنُ الإحاطةُ به فلا يتعذرُ ذِكرُه وكشفُه. ¬

_ (¬1) فى قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4].

- فصل يقبل في الجرح قول الواحد ولا يعتبر العدد

فصلٌ ويقبلُ في الجرح قولُ الواحد ولا يعتبر العدد. هذا قياسُ قولِه في التعديل: إنه يقبلُ فيه قولُ الواحدِ. قال أبو زُرْعَة: سمعت أحمدَ بنَ حنبل يقول: مالكُ بنُ أنس إذا روى عن رجلٍ لا يُعرَفُ فهو حُجَّةٌ. وقال إسماعيلُ بن سعيد الشَّالنجي (¬1): قلت لأحمد: تعديلُ الرجلِ الواحدِ إذا كان مشهوراً بالصَّلاح؟ [قال] (¬2): يُقبَل، وظاهرُ هذا أنَّ تعديلَ الواحدِ مقبولٌ. وقال أحمدُ أيضاً في رواية الأثرم: إذا روى الحديثَ عبدُ الرحمن بن مهدي عن رجل فهو حُجَّة. وروى مُهنّا عن أحمد ما يدلُّ على أنَّ روايةَ العدلِ عن غيرِه لا تكونُ تعديلاً لمن روى عنه. قال: وسألت أحمد عن رباح بن عبيد الله بن عاصم (¬3) بن عمر بن الخطاب، فقال: مدنيٌّ روى عنه عبدُ الرزاق. قلت: ¬

_ (¬1) هو أبو إسحاق، ذكره أبو بكر الخلال فقال: عنده مسائل كثيرة، ما أحسب أنَّ أحداً من أصحاب أبي عبد الله روى عنه أحسن مما روى هذا، ولا أشبع، ولا أكثر مسائل منه. وكان عالماً بالرأي كبير القدر عندهم، معروفاً. "طبقات الحنابلة" 1/ 104. (¬2) ليست في الأصل، انظر "العدة" 3/ 935. (¬3) هكذا في الأصل -نقلاً عن العدة- وهو رباح بن عبيد الله بن عمر العمري انظر "الجرح والتعديل" 3/ 490، "المجروحين" لابن حبان 1/ 299، "الكامل" لابن عدي 3/ 172.

- فصل الدلالة على أن تعديل الواحد مقبول

كيف هو؟ قال: ضعيف. وظاهرُ هذا أنَّه لم يجعل روايةَ العدل تعديلاً. وهو قولُ أصحاب الشافعي (¬1). فصلٌ والدلالةُ على أنَّ تعديلَ الواحد مقبول: أنَّ أصلَ الحديث وروايتَه ليس من شرطها العددُ، فلم يكن من شرطِ التعديلِ والجرح العددُ، لأنَّ ذلكَ وصفٌ، فإذا لم يُعتَبر العددُ في الأصل، ففي (¬2) الوصفِ التابع -وهي الجرحُ والتعديلُ- أَوْلى أنْ لا يعتبر. والدلالةُ على أنَّ روايةَ الواحدِ عن العدلِ تعديل: أنَّ العارفَ بالحديث لا يرويه إلا عمَّنْ يثق بدينه وأمانته، ولو روى عن غيرِ موثوقٍ به كان جنايةً في الشرع، وإدخالاً لما ليسَ منه لمجردِ قولِ [مَن] لا يَيقُ به، وقد أُخِذَ على العلماءِ أنْ لا يقولوا على الله ما لا يعلمون. ووجهُ مَنْ ذهبَ إلى أنه لا يكونُ تعديلاً: أنَّه لا يمنعُ من الرِّوايةِ عمَّن لا تعلمُ عدالتُه حملاً على ظاهر الإسلام والسَّلامة، ومَنْ حملَ الأمرَ على ¬

_ (¬1) هو قول أكثر الشافعية، وذهب بعضهم كالجويني، والغزالي، والآمدي إلى أنه إذا كانت عادة الراوي أن لا يروي إلا عن ثقة فتكون روايته عن ذلك الشخص تعديلاً له، وإن لم يعرف ذلك من عادته فليس بتعديل. انظر "البرهان" 1/ 623، و"المستصفى" 1/ 163، و"الإلحكام" 2/ 126، و"التبصرة" 339. (¬2) في الأصل: "وفي".

- فصل في مجهول الحال

ظاهرِه، لم يقل: إنَّه فعل زيادة على الجائز، وإنه بلغَ الأقصى وهو الاحتياط. فصلٌ وإذا روى عمَّن لا تعرفُ عدالتُه ولا فسقُه بل عُرِفَ مجرَّدُ إسلامِه، فظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّه لا يروى إلا عمَّنْ تُعْرَفُ ثقته بثناءِ أهلِ بلدِه عليه، ولا يقنَعُ. ممجرَّدِ إسلامِه في الرواية عنه. قالَ في روايةِ الفضل بن زياد، وقد سأله عن ابن (¬1) حميد: يروي عن مشايخَ لا يعرفهم، وأهلُ البلدِ يُثنون عليهم، فقال: إذا أثنيَ عليهم قُبِلَ ذلك منهم، هم أعرفُ. فقد اعتَبرَ في قَبولِ رواييهم ثناءَ أهلِ البلد عليهم. وحكيَ عن أبي حنيفةَ أنه يقبلُ ذلك ممَّن ثبت إسلامُه فقط، ما لم يُعرَفْ فِسقه (¬2). فصلٌ في الدِّلالةِ على ما حكيناه عن صاحبنا: أنَّ هذا مجهول العدالةِ فلا تحصلُ الثِّقةُ به، كالفاسقِ المعلوم فِسقه؛ يوضِّحُ هذا: أنَّ الفسقَ إِنما منعَ قبولَ الرِّوايةِ، لأنه متهم، ومَنْ لم تُعلَمْ عدالتُه متَّهمٌ، والإسلامُ لمجرَّدِه لا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وجاء في "العدة" 3/ 936: "أبى حميد". (¬2) "الإحكام" للآمدي 2/ 78، "شرح اللمع" 2/ 368.

- فصل في شبهة المخالف

يكفي، بدليلِ الفاسق: إسلامُه حاصلٌ، وروايتُه لا تقبل. ومنها: أنَّه خبرٌ تتعلَّقُ عليه أحكامٌ وحقوقٌ، فاعتبرَ فيه العدالةُ، أو نقول: فلم يقبل من غيرِ معلومٍ عدالتُه، كالشَّهادةِ. فصلٌ في شبهة المخالف فمنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا شهد عنده الأعرابيُّ برؤيةِ الهلالِ قال: "أتشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله" فلما ثبت عنده إسلامُه بكلمةِ التوحيد أمرَ بالنداءِ بالصوم (¬1)؛ ولم يقرِّر ما وراءَ إسلامِه، والشهادةُ برؤيةِ الهلالِ خبرٌ حيث يتعلق عليه حكمٌ من أحكامِ الدين، فهو أشبهُ بأخبارِ الديانات. ومنها: أنّه عَلِمَ إسلامه، ولم يعلم منه ما يوجبُ فسقاً، فكانَ على أصلِ العدالةِ، كالذي عرفت عدالتُه، ولأنَّها عدالةٌ فلا تعتبرُ في أخبار الدياناتِ، كالعدالةِ الباطنةِ. فصلٌ في الأجوبةِ عمَّا ذكروه أمَّا الخبرُ، فلا حجَّةَ فيه، فإنَّه حكايةُ فعلٍ وقضية في عين فتقف لمجردِ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 68، وأبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي 4/ 131 - 132، وأبن ماجه (1652)، من حديث ابن عباس.

* فصل هل يجوز الأخذ بالحديث الضعيف؟

الاحتمالِ، ووجهُ احتمالِها: أنَّ (¬1) الظاهر أنه أسلمَ حينَ سأله، إذ لو كان ممَّن بايعه على الإسلام لعرفه، لكن يكون عرض عليه الإسلامَ فأسلمَ، والإسلامُ يجبُّ ما قبلَه، فتلك عدالةٌ متجردةٌ، ولم يتجدد منه ما يزيلها ولا ينسخها (¬2)، ويحتملُ أن يكونَ سبقه غيرُه ممَّن لم يُعلم حالُه، فقويَ الظنُّ بالعددِ. وأمّا الإسلام وتعلّقُهم به فلا يكفي؛ بدليلِ الفاسقِ، فإنَّه مسلمٌ ولا يقبلُ خبرُه لأجلِ التهمةِ، ومَنْ لا تعرفُ عدالتُه فالتهمةُ في حقِّه حاصلةٌ، وأما العدالةُ الباطنةُ، فإنَّها تقفُ على بحثٍ واختبارٍ، ومُجالسةِ الحكامِ، وذلكَ لو شُرِطَ لقَبُول الأخبارِ لوقفت الرواياتُ، ولهذا اعتبرنا للشهادةِ بالعقوباتِ والحدودِ، العدالةَ الباطنةَ في الشُّهودِ، ولم نعتبرها في الأخبارِ المرويةِ في الحدود. فصلٌ هل يجوز الأخذُ بالحديث الضعيف؟ قد أطلقَ أحمدُ القولَ بالأخذِ به، فقال مهنَّا: قال أحمدُ: الناسُ كلُّهم أَكْفَاءُ إلا الحائكَ والحجامَ والكسَّاح (¬3). [فقيل له] (¬4): تأخذُ بحديث: ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنه". (¬2) في الأصل: "يشعثها". (¬3) كسح، كمَنَعَ: كنس. "القاموس": (كسح). (¬4) ما بين معقوفين ليس في الأصل. انظر "العدة" 3/ 938.

"كلُّ النَّاسِ أَكْفَاء إلاَّ حائكاً أو حجَّاماً" (¬1) وأنتَ ضعَّفتَهُ؟ فقال: إنَّما ضعَّفْتُ إسنادَه، ولكنَّ العملَ عليه. وكذلك قال في رواية ابن مشَيْش (¬2)، وقد سأله عمَّن تحلُّ له الصَّدقةُ: إلى أيِّ شيءٍ تذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث حكم بن جبير (¬3). فقلتُ له: وحكيمُ بن جبير ثبتٌ عندكَ في الحديث؟ فقال: ليس هو ثَبتاً عندي في الحديث. وكذلك قال مهنَّا: سألت أحمدَ عن حديث مَعمَر عن الزُّهْري عن سالم عن ابن عمر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ غيلان أسلم، وعنده عشر نسوة (¬4)؟ قال: ليسَ بصحيح، والعملُ عليه، كان عبدُ الرزاق يقولُ: عن معمر عن الزهري مرسلاً. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حائك أو حجَّام". والحديث أخرجه البيهقي 8/ 134 - 135، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1017) (1018) (1019)، من حديث ابن عمر، وقال أبن الجوزي: وهذا الحديث لا يصحُّ. وذكره ابن حجر في "التلخيص الحبير" 3/ 164. (¬2) هو محمد بن موسى بن مشيش البغدادي، روى عن الإمام أحمد، وكان جاراً له، وكان يقدمه ويعرف حقه. "طبقات الحنابلة" 1/ 323. (¬3) أخرج أحمد (3675)، وأبو داود (1626)، والترمذي (651)، والنسائي 5/ 97، وأبن ماجه (1840) من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوشاً، أو كدوشاً، في وجهه" قالوا: يا رسول الله، وما غِناه؟ قال: "خمسون درهماً، أو حسابها من الذهب". (¬4) فقال له رسول - صلى الله عليه وسلم -: "اختَر منهنَّ أربعاً". أخرجه أحمد (4609)، وابن أبي شيبة 4/ 317، والدارقطني 3/ 269، وابن حبان (4157)، والحاكم 2/ 193.

ومعنى قولِ أحمدَ: ضعيفٌ، على طريقةِ أصحابِ الحديث، وقولُه: والعملُ عليه. كلامُ فقيهٍ يُعَوِّلُ على ما يقوله الفقهاءُ من إلغاءِ التضعيفِ من المحدّثين؛ لأنَّهم يُضعِّفونَ. مما لا يوجبُ ضعفاً عند الفقهاءِ؛ كالإرسالِ والتدليسِ والتفرّدِ بالروايةِ، وهذا موجودٌ في كتبهم، يقولون: وهذا الحديث تفرَّدَ به فلانٌ وحده. وقال أحمد في روايةِ إسحاق بن إبراهيمَ: قد يحتاجُ الرجل يحدِّثُ عن الضعَفاء مثل عمرو بن مرزوق (¬1)، وعمرو بن حَكَّام (¬2)، ومحمد بن معاوية (¬3)، وعلي بن الجَعْد (¬4)، وإسحاق بن أبي إسرائيل (¬5)، ولا يعجبني أن ¬

_ (¬1) هو: الباهلي، روى عن: عكرمة بن عمار، وعنه: البخاري مقروناً بآخر، وأبو داود، وغيرهم. توفي سنة (223) 0 انظر "ميزان الاعتدال" 3/ 286، و"الضعفاء الكبير" للعقيلي 3/ 292. (¬2) هو: أبو عثمان الأزدي، روى عن شعبة، ضعفه ابن المديني، وغيره. انظر "الضعفاء الكبير" للعقيلي 3/ 266، و"المغني في الضعفاء" 2/ 63. (¬3) لعله محمد بن معاوية بن أعين النيسابوري، فقد سئل عنه الامام أحمد فقال: نعم الرجل يحيى بن معين، يريد بذلك التنويه به، لأنَّ يحيى بن معين كان نافراً منه. انظر "الضعفاء" للعقيلي 4/ 144، و"تهذيب الكمال " 26/ 481، و"تاريخ بغداد" 3/ 370، و"بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم" ص 386 لابن عبد الهادى. (¬4) هو: علي بن الجعد الجوهري، روى عنه البخاري، وأبو داود، ويحيى بن معين وعيرهم. وسبب تضعيفه له أنه بلغه أنه كان يقع في بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر "ميزان الاعتدال" 3/ 116، و"الضعفاء" للعقيلي 3/ 224. (¬5) هو أبو يعقوب إسحاق بن أبي اسرائيل المروزي، كان من أقران الشافعي، روى عن: حماد بن زيد، وكثير بن عبد الله، وروى عنه: أبو داود، والبغوي، اتهم أنه كان يقف في القرآن، ولا يقول: غير مخلوق، مات سنة (246 هـ). انظر "ميزان الاعتدال" 1/ 182، و"تهذيب التهذيب" 1/ 115.

يُحدَّثَ عن بعضهم. وقال أحمد في ابن لهيعة (¬1): ما كان حديثه بذاك، وما كنت أكتب حديثَه إلاَّ للاعتبارِ والاستدلال، أنا قد كنتُ أكتب حديث الرَّجل كأنِّي أستدلُّ به مع غيره يشدُّه، لا أنّه حجَّةٌ إذا انفرد. وقال: كنت لا أكتبُ حديث جابرٍ الجعفيِّ (¬2)، ثم كتبته أعتبرُ به. فقال له مُهنَّا: لِمَ تكتبُ حديثَ ابنِ أبي مريم وهو ضعيف؛ قال: أعتبر به (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل: "ابن أبي لهيعة" وانظر "العدة" 3/ 942. وهو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة، الحضرمي، خلط بعد احتراق كتبه، فمن روى عنه قبل اختلاطه قُبِلَ حديثه مثل: ابن المبارك، وعبد الله بن وهب، وابن يزيد المقرئ، وابن سلمة القعنبي. توفي سنة (174 هـ). انظر "الميزان" 2/ 475، و"الضعفاء" للعقيلى 2/ 293. (¬2) هو: جابر بن يزيد الجعفي الشيعي، تركه النسائى وغيره، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. انظر "الميزان" 1/ 379، و"الضعفاء الصغير" للبخاري ص 29، و"المغني فِى الضعفاء" 1/ 193. (¬3) في الأصل: "أعرفه".

* فصل في بيان الكبائر التي تمنع رواية الحديث وتوجب الفسق

فقد بيَّن وَجهَ قَصْده [بأَخذِه] عن الضُّعَفاء للاعتبارِ والشَّدِّ به. فصلٌ في بيانِ الكبائرِ التي تمنع روايةَ الحديث، وتوجب الفسقَ (¬1) روى أبو بكرٍ في كتابه بإسنادِه عن عبيدِ بن عُمَير (¬2) عن أبيه عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكبائرُ تسعٌ: الإشراكُ بالله، وقتلُ النَّفسِ المؤمنةِ، وقذفُ المحصنةِ، والزِّنى، والفرارُ من الزَّحفِ، والسِّحرُ، وأكلُ مالِ اليتيمِ، وعقوقُ الوالدين المسلمين، والإلحادُ بالبيت الحرام" (¬3). وروى أبو سلمة (¬4) بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: قال رسول الله ¬

_ (¬1) انظر هذا الفصل في "العدة" 3/ 944. (¬2) في الأصل: "عمر". وهو: عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّث عن أبيه، وعن عمر بن الخطاب، وعلي، وطائفة، وحدث عنه: ابنه عبد الله، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار، وغيرهم. كان من ثقات التابعين توفي سنة (68 هـ) وقيل غير ذلك. انظر "طبقات ابن سعد" 5/ 463، و"أسد الغابة" 3/ 353، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 47، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 156. (¬3) أخر جه أبو داود (2875)، والنسائى 7/ 89، والطبر اني في "الكبير" 17/ 101، والحاكم في "المستدرك" 1/ 59، والبيهقي 10/ 186. (¬4) في الأصل: "سلم". وهو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: اسماعيل، أحد الأعلام بالمدينة، ولد سنة بضع وعشرين، حدث عن: أبيه، وعن أسامة بن زيد، وعائشة، وغيرهم. وحدَّث عنه: ابنه عمر، والشعبي، ويحيى بن أبي كثير. توفي سنة (94 هـ). انظر=

- صلى الله عليه وسلم -:"الكبائر سبع" (¬1) وذكر أكلَ الرِّبا مع ما تقدَّم ذكرُه، من الشِّرك، وقتلِ النَّفس، وقذفِ المحصنات، وانقلاب إلى الأعراب بعد هجرةٍ. ورأيت عن علي رضي الله عنه أنَّها عشرةٌ قسَّمها على الأعضاء، فقال: في اللِّسان: الشِّركُ وقذفُ المحصنات، وفي اليدين: السَّرقةُ والقتلُ، وفي البطن: شربُ الخمر، وأكلُ الرِّبا، وأكل مالِ اليتيم، وفي الفَرْج: الزِّنى واللِّواط، وفي القدم: الفرارُ من الزحف إذا التقى الصَّفان (¬2). وقد روي في حديث آخر: عقوقُ الوالدين وشهادة الزور، وقد ورد في بعض الأخبارِ: وقولُ الزور، فتدخل فيه الشَّهادةُ وغيرُها، ودخل في القتلِ وَأْدُ البناتِ. وما رويَ من نهيه - صلى الله عليه وسلم - وأخذه على مَنْ أخذَ عليه الإسلامَ: "وأن لا تقتلَ ولدكَ خشيةَ أن يأكلَ معك" (¬3). وإذا كان تاركاً لهذه الكبائرِ فإنَّ الصَّغائرَ مكفَّرةٌ. بمصائبِ الدنيا أو ¬

_ = "طبقات ابن سعد" 5/ 155، و"تذكرة الحفاظ" 1/ 79، و"سير أعلام النبلاء" 4/ 287. (¬1) في الأصل: "تسع". والحديث أخرجه البزار (كشف الاستار) (109)، قال الهيثمى في "المجمع" 1/ 103: وفيه عمرو بن أبي سلمة، ضعفه شعبة وغيره، ووثقه أبو حاتم وابن حبان وغيره. (¬2) أورد نحوه المتقي الهندي في "الكنز": (4326)، ونسبه لابن أبي حاتم في التفسير. (¬3) أخر جه أحمد (3612)، والبخارىِ (4477)، ومسلم (141) (86)، وابن حبان (4415)، من حديث عبد الله بن مسعود.

بالفرائض، بدليل الكتاب والسُّنة. أمَّا الكتابُ فقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] نزلت في الرَّجلِ الذي سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن استمتاعِه من المرأةِ الأجنبية بكلِّ ما يستمتعُ به الرَّجُلُ من زوجتِه إلاً الجماعَ، فأنزلَ الله هذه الآيةَ (¬1) وقيل في التفسير: إنَّ الصلوات الخمسَ يكفِّرنَ ما بينها. فهذا حكمُ تمحيصها وتكفيرها بالطَّاعات. وأما تكفيرُها بالآلامِ والمكارهِ فلِمَا رويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "حُمَّى يومٍ كفارةُ سنة" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"ما من مصيبة تصيب العبدَ إلاَّ كفَّرت عنه خطيئة، حتى الشَّوكةُ يُشاكُها حتى النَّكبةُ" (¬3)، وقد قال الله سبحانَه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30] وقال النبىّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انقطعَ شِسْعُ نعل أحدِكم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2763)، وأبو داود (4468)، والتر مذي (3112)، وابن حبان (1728) (1730)، والبيهقي 8/ 241، من حديث عبد الله بن مسعود. (¬2) أخرجه تمام الرازي في "فوائده" (1315) من حديث أبي هريرة. وهو موضوع مسلسل بالكذابين. وروي نحوه عن ابن مسعود مرفوعاً عند القضاعي في "مسند الشهاب" (62). وإسناده ضعيف جداً. (¬3) أخرجه أحمد 6/ 88، والبخاري (5640)، ومسلم (2572) (48) (49)، والترمذي (965)، وابن حبان (2925) من حديث عائشة رضي الله عنها.

* فصل في أهل البدع ومن يرد حديثه منهم

فليسترجعْ، فإنَّها مصيبةٌ" (¬1). قال أحمدُ: ولا يُرَدُّ خبرُ أبي بَكْرة ولا من جُلِدَ معه (¬2)، لأنَّ م جاؤوا مجيءَ الشَّهادةِ، ولم يأتوأ بصريح القذفِ، ويسوغ فيه ألاجتهادُ ولا تردُّ الشَّهادةُ. مما يسوغُ فيه الاجتهاد. وهذا من كلامه يدلُّ على أنَّ اللعبَ بالشِّطرنج وشربَ النبيذ [ليس جرحاً] (¬3) في حقِّ المجتهدين، ومَنْ قلَّد مجتهداً في ذلك، ولمَّا نصَّ على أنَّه لا تردّ الشَّهادةُ في ذلك، كان تنبيهاً على أنَّه لا يردّ الخبرُ؛ لأنَّ الخبر دونَ الشَّهادةِ، ولأنَّ نقصانَ العددِ معني في غيره، وليس. بمعني من جهتِه. فصلٌ في أهل البدعِ ومَنْ يُرَدُّ حديثُه منهم قال أحمدُ في روايةِ الأَثرم، وقد ذُكِرَ له أنَّ فلاناً أمر بالكِتابِ عن ¬

_ (¬1) أخرجه البزار (3120) من حديث أبى هريرة مرفوعاً، قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 331: روأه البزار، وفيه بكر بن خنيس وهو ضعيف. وأخرجه البزار أيضاً (3121) من حديث شداد بن أوس، ثم قال: وحديث شداد لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً حدث به عن خالد إلا خارجة، وليس هو بالحافظ، وإسماعيل بن أبي الحارث ثقة مأمون. قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 331: رواه البزار بعد حديث أبي هريرة وفي حديت شداد خارجة بن مصعب وهو متروك. (¬2) أَخرج قصتهم عبد الرزاق (13564) (13565) (13566)، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 152 - 153، و"معرفة السنن" 14/ 264، وانظر "الاستذكار" 22/ 39، و"فتح الباري" 5/ 256. (¬3) انظر ص 14 من هذا الجزء.

- فصل يعتبر في الراوي أن يكون ضابطا

سعدٍ العَوفِى (¬1)، فاستعظمَ ذلك، وقال: ذاكَ جهميٌّ، امتُحنَ فأجاب قبل أنْ يكونَ ترهيبٌ. وقال في رواية أبي داود: احتَمِلُوا من المرجئةِ، ثم يُكتَب عن القدري إذا لم يكن داعيةً. وقال المرُّوذي: كان أبو عبد الله يحدِّث عن المرجئ إذا لم يكن داعيةً، ويكتبُ عن القدري إذا لم يكن داعيةً. فصلٌ ويعتبر أن يكونَ ضابطاً (¬2)؛ لأنَّ أحمدَ قالَ في روايةِ المرُّوذي: لا ينبغي للرجلِ إذا لم يعرفِ الحديثَ أن يحدِّث به، ثمَّ قال: صارَ الحديثُ يحدِّثُه مَنْ لا يعرفه. وقال فيما دون البالغ؛ لأنّه لا رغبةَ له في الصِّدقِ، ولا مخافةَ عليه في الكذبِ، فحالُه دون حالةِ الفاسق؛ لأنَّ الفاسقَ قد يرجو ثواباً ويخاف عقاباً، ولأنّنا إذا لم نقبلْ إقرارَه على نفسه، فَلأن لا نقبله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَولى. وأمَّا روايتُه بعد بلوغِه جائزٌ؛ لأنَّ السَّلفَ عملوا بخبرِ ابن عباس، ¬

_ (¬1) هو: سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، قال فيه الامام أحمد: لم يكن ممَّن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعاً لذلك. كما قال: جهمي. انظر: "تاريخ بغداد" 9/ 126، و"لسان اليزان" 3/ 18. (¬2) عاد الصنف هنا لسرد الصفات المعتبرة في الراوي لقبول روايته.

- فصل لا تعتبر الذكورية في رواية الحديث

وابنِ الزبير، والنعمانِ بن بشير، ومَن شَاكلهم من أحداث الصَّحابة، ولأنه لما جازَ تحمُّلُه للشَّهادةِ قبل بلوغِه مع كونِ الشَّهادةِ أضيقَ حكماً وآكدَ شروطاً، فأولى أن يتحملَ الخبرَ ويؤديه بعد بلوغه. قال أحمدُ في روايةِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ، والمروذي، وحنبل: يصحُّ سماعُ الصَّغيرِ إذا عقَلَ وضبط. وروى البخاريُّ في "صحيحه" عن الزهري، عن محمود بن الربيع: عَقَلْتُ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -مَّجةٌ مجَّها في فيَّ وأنا ابنُ خمسِ سنين (¬1). وهذا يدلُّ على [أنَّ] ابنَ حمس يعقلُ ويضبطُ، فصحَّ سماعُه. فإن قيل: فهلاّ صحِّحتْ روايتُه مع تكاملِ الأمر بينَ عقلِه لما سمع، وضبطِه لما عقَل؟ قيل: الشرعُ قصَرَه في شأنِ النطقِ، ولم يجعل له نطقاً في إقرارٍ ولا شهادةٍ، ولا طلاقِ ولا عتاقٍ في مثل (¬2) هذا السِّن، لأنَّه قد يُعتبرُ للأداءِ ما لا يعتبرُ للتحمُّلِ؛ بدليلِ الشهادةِ يتحملها مَنْ لا يُقبلُ أداؤُه. فصلٌ فأمَّا الذكوريةُ فلا تعتبرُ في روايةِ الحديثِ؛ لأنَّ النِّساءَ روين عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (77)، ومسلم (265) (33)، وابن حبان (4543)، والبغوي (112). (¬2) في الأصل: "قبل".

- فصل لا بأس برواية الضرير إذا كان يحفظ

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعَ أصحابُه (¬1) حديثَهنَّ، وبنوا عليه الأحكامَ، وذلك أشهرُ من أن يحتاجَ إلى ذِكْرهِ، من ذلك: رواياتُ أزواجِه رضي الله عنهنَّ، أفعالَه وأقوالَه التي بُنيت عليها الأحكامُ، ولأنّهنَّ دخلنَ في الشَّهادةِ وهي أضيقُ مسلكاً، وأكثرُ شروطاً وآكدُ، فكان ذلك منبِّهاً على جواز دخولهِنَّ في الأخفِّ والأوسع، ووجهُ ضيقِ الشَّهادةِ اعتبارُ العددِ والعدالةِ الباطنةِ في بابِ العقوباتِ إجماعاً ظاهراً، وعدمُ اعتبارِها في روايةِ أحاديثِ الحدودِ، والعقوباتِ، وعدمُ سماع الشَّهادةِ بالعنعنة، ومن وراءِ حجاب، ومن طريقِ الإجازةِ والإرسالِ، وذلك كلُّه غيرُ معتبرٍ في الأخبارِ. فصل وقال أحمدُ: لا بأسَ بروايةِ الضَّريرِ إذا كان يحفظ، وكذلك قال في الأمِّي، إذا كان يحفظ (¬2)، وذلكَ لأنَّه لا عملَ للبصر والخطِّ في الحفظِ والأداءِ، فإذا كان سليمَ الآلةِ التي يحصلُ بها الأداءُ، فلا عبرةَ. بما سواها. فصل وقال أحمدُ: لا يروى عن أهلِ الرَأي. وقوله: لا يروى عنهم، في عدة روايات، لا يجوزُ لعاقلٍ أن يحملَه على أصحابِ أبي حنيفةَ لمعانٍ، منها: ¬

_ (¬1) في الأصل: "أصحاب رسوله". (¬2) انظر "العدة" 3/ 952.

أنَّ غايةَ ما اعتَلَّ في تركِ الروايةِ عن بعضِ مشايخهم، أنَّه رأى سراويلَه على شراكِ نعلِه، لأجلِ الحديثِ فيما نزلَ من الإزارِ على العَقبِ (¬1) فعَلَّلَ بذلك، ولم يذكر الرأي، وكيف يذكرُ تركَ الرِّوايةِ لأجلِ الرأي الذي هو القياسُ، وهو ممَّن عمل بالرأي، يَذُمُّ ما ذهب إليه؟! وقد قاسَ، وعمل بالقياس، وردَّ على داود، ويذم أهلَ الظَّاهر، حتى قال في داود ما قال، وقاسَ هو وعملَ بالقياس (¬2). وكيف يذم الأرئيتية لأجلِ القياس؟ وأول من قال: "أرأيت" النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتِ لو كان على أبيكِ دينٌ فقضيتيه" (¬3)، "أرأيتَ لو تمضمضت" (¬4)، يقول ذلك لمَنْ سألتْ عن الحجِّ عن أبيها، ولِمَن سألَ عن قُبلةِ الصَّائم. وإنَّما يحملُ كلامُه في نفي الرِّوايةِ وفي الذمِّ، على أهلِ الأهواءِ الذين ردُّوا السُّننَ بالآراءِ، فأمَّا ما خلا ذلك فلا يُظنّ به مع دخولهِ في القياس، وعملِه به، وبناءِ مذهبِه عليه في مسائلَ عدَّة ليس له فيها آية، ولا خبرٌ، ولا قولُ صحابيٍّ. ¬

_ (¬1) يعني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسفل من الكعبين من الإزار، ففي النار"، أخرجه أحمد (9319)، والبخاري (5787)، والنسائي 8/ 207، والبيهقي 2/ 244، من حديث أبي هريرة. (¬2) انظر "أصول مذهب الإمام أحمد" الصفحة (616) وما بعدها. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 54. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 54.

- فصل وقال: لا أروي عمن أجاب في المحنة

فصلٌ وقال: لا أروي ولا يُروى عمَّن أجاب في المحنة (¬1). وهذا محمولٌ على مَنْ أجاب تقرُّباً إلى السُّلطانِ لا بإكراهٍ له على الإجابة، بدليل أنَّه لا خلافَ أنَّ الإكراهَ يزيلُ حكمَ ما أُكرِهَ عليه الإنسانُ من الأقوالِ في بابِ المآثم، ولا أشدَّ من كلمةِ الكفرِ، وليسَ الكلامُ في القرآنِ بخلْقٍ أو نفى خَلْق، أو توقّفٍ بأكثرَ من تصريح بكلمةِ الكفرِ، فهذا الذي ينبغى أن يقالَ ليوافقَ أصلَ السُّنة، وأصولَ الرَّجل في نفسِه، وما يليقُ بالعلمٍ، أو يحملُ على النزاهةِ والورع، خوفاً أن يكونوا استجابوا محاباةً، أو تقرباً لشكٍّ وقعَ له فيهم. فصلٌ قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كانَ الرجلُ في الجندِ لم أكتب عنه (¬2). وهذا من كلامِه الذي يجبُ صرفُه عن ظاهرِه، وإنما أرادَ أنَّه جنديٌّ الغالبُ من حالِه لبسُ المحظورِ وكلامه المكروه، وامتداد يدِه إلى الظلمِ والاستطالةِ، فأمّا نفسن التجنّدِ فليسَ. بمحظورٍ، بل التجنّدُ دخولٌ في عَسْكَر الإسلامِ ومعاضدة الإمام. فصلٌ ومنع من سماعِ الحديثِ عمَّن يُعاملُ ويبيع بالعِينَةِ، وهذا محمولٌ على النَّسيئة التي هي رباً، وكل بيع مراباةٍ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 953. (¬2) انظر "العدة" 3/ 952. (¬3) انظر "العدة" 3/ 953 وانظر تفصيل مسألة بيع العينة في "المغى" 6/ 262 ..

- فصل وقال: لا نكتب عمن يأخذ الدراهم على الحديث

فصلٌ وقال: لا نكتبُ عمَّن يأخذُ الدراهمَ على الحديثِ، ولا كرامةَ (¬1). وهذا محمولٌ على أخذِ الأجرةِ، مع كونِ الروايةِ فرضاً على الكفاية، فأمَّا السَّعي وأن يَصمُدَ للإتعاب لسماعِ يَقطَعُه عن شغله، فهو كنسخ الحديثِ والمقابلةِ له. فصلٌ وأمّا التدليسُ، فإنه يُكره، لكن لا يَمنَعُ قَبولَ الرِّوايةِ وسماعَ الحديث؛ لأنَّه ليس بكذبٍ، لكنَّه من المعاريضِ المغنيةِ عن الكذبِ، والموهمةِ ما ليس هناك، مثل: أنه لم يعاصر الزُّهريَّ، ولكنَّه روى عمَّن لقِيَه، فيقول قولاً يوهِمُ أنَّه لقِيَ الزُّهريِّ محتملاً. ومثل قولِه: حدَّثنا فلانٌ وراءَ النَّهر، ويشيرُ به إلى نهر عيسى ويوهم به جَيحان. وقد صرَّحَ أحمدُ بكراهةِ التدليسِ، وقال: التدليسُ عيب. وإنَّما كان كذلكَ لما فيه من الإيهامِ والبَخْس. بما ليسَ هو ثابتاً (¬2) في حقّه. وقد نصَّ على أنَّه لا يمنعُ، فقيل له: شعبةُ يقول: التدليسُ كذبٌ، ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 954، و"الكفاية" 241. (¬2) في الأصل: "ثابت".

- فصل إذا روى خبرا إنسان ثم نسى روايته للذي رواه عنه

فقال: لا ليسَ بكذبٍ، قد دلسَ قومٌ ونحن نروي عنهم (¬1). وذهبَ قومٌ من أصحابِ الحديثِ إلى أنَّه لا يقبلُ خبرُ المدلِّس (¬2). وجهُ قبولِ خبرِه: أنَّه يحصل (¬3) بإيهامٍ ليس فيه أكثرُ من استعارةِ اسمٍ مكانَ اسمٍ أَنَفَةً من النُّزولِ وإيثاراً للعُلوِّ، وهو صادقٌ في الباطنِ وما هو إلأ. بمثابةِ مَنْ قيل له: أحججتَ؟ فقال: لا مرةً ولا مرتين، يوهمُ أنه حجَّ أكثرَ، وهو يقصدُ نفيَ الجميع باطناً. فصلٌ إذا روى خبراً إنسان ثم نسي روايته للذي رواه عنه، فجحدَه النًاسي وأنكرَه، لم يوجب ذلك ردَّ الحديثِ في إحدى الروايتين عن أحمدَ رضي الله عنه (¬4)، حتى إنَّ الراوي الناسي إذا كان يثقُ إلى عدالةِ الرَّاوي عنه حَسُنَ أن يقول: حدَّثني فلانٌ عني بكذا وكذا. وبها قالَ أصحابُ الشَّافعي. وفيه روايةٌ أخرى بردِّ الخبرِ ولا يجوزُ العمل به، نصَّ عليها في إنكار الزُّهري روايتَه حديث عائشةَ في الوليِّ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 957. (¬2) انظر "علوم الحديث" لابن الصلاح76. (¬3) في الأصل: "يحمل". (¬4) انظر "العدة" 3/ 959، و"المسودة" 278. (¬5) أخرجه أحمد 6/ 66 و 260، وأبو داود (2083) (2084)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879) (1880) ولفظه: "أيما امرأةٍ لم يُنكحها الولي فنكاحها =

- فصل الدلالة على قبول خبر من نسي روايته للحديث والعمل به

فالأوَّلة أصحُّ؛ لأنَّ اكثرَ كلامِ أحمدَ يتضمن تصحيحها، فقال: كان سفيانُ يحدِّث ناسياً، ويقول: ليس من حديثي ولا أعرفه، قد يحدِّثُ الرجلُ ثم ينسى (¬1). فصلٌ والدلالةُ على قَبولِه، والعملِ به: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نسيَ فسلَّمَ من ركعتين، فقامَ إليه ذو اليَدين، فقال له: أقصرتِ الصَّلاةُ أم نَسِيتَ؟ فقال: "كلُّ ذلك لم يكن". تم سَألَ أبا بكرٍ وعمرَ فصدَّقا ذا اليدين، فقامَ يقضي ما أخبراه بأنّه نسيَه (¬2)، وهذا عملٌ بقولِ غيرِه فيما نسيَه، وجَحْده للنُّقصانِ، كجحد الزهريِّ للخبرِ. وأنَّ ربيعةَ بنَ أبي عبد الرحمن روى عن سهيلِ بنِ أبي صالحِ عن أبيهِ عن أبي هريرةَ: أنَّ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشَّاهد (¬3). ثمَّ نسيَه سهيل، ¬

_ = باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها مهرها. بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" وانظر "العدة" 3/ 960. (¬1) والإنكار الذي وقع الخلاف في اعتباره هو الإنكار الذي يكون منشؤه نسيان المروي عنه وتوقفه، أما إذا كان الإنكار مصحوباً بالتكذيب من المروي عنه للراوي، ومن الأصل للفرع، ففي هذه الحالة يرد الخبر بالاتفاف، لأنَّ كلاً منهما مكذب للآخر. انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 151 - 152. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 550. (¬3) أخرجه بهذا الإسناد الشافعي في "المسند" 2/ 179 (632)، والترمذي (1343)، وأبو داود (3610)، وابن ماجه (2368)، والدارقطني 4/ 213، والبيهقي 10/ 168 - 169.

- فصل في شبهات القائلين بعدم قبول خبر من نسي روايته للحديث

فكانَ يقولُ: حدَّثني ربيعة عنِّي أنِّي حدثته عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ويرويه هكذا، فلا ينكرُ أحدٌ من التابعين، ولا يخالفه مخالف منهم، فدلَّ على جوازِه. فإن قيل: هذا يحتمل ألا نخالفكم فيه، وهو أن يكونَ لمَّا نسيَ فأخبرَهُ وذكره فذكَرَ، فكانَ راوياً بنفسِهِ. قيل: لو كانَ كذلك لانطوى ذِكْرُ ربيعةَ، وكان يرويه رواية نفسِه، ألا ترى أنَّه لو رَوى حديثاً عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم نسيه فذكَّره آخر قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وما سَمِعَهُ منه، لم يقلْ: حدَّثني فلانٌ عن النبيِّ، بل كان يروي عن النبيِّ بحكم ذكرِه لقوله - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنَّ الراوي عنه [عَدْلُ] يُحَقِّقُ (¬1) مأنعه منه، وهَبْ أنَّ نسيانَه كموته، فإنَّ موتَ حِفظِه وذهابَه كفَقدِه، فيعوَّلُ على عدالةِ الراوي وإسنادِه إليه، ولا علينا كان ذاكراً أو ناسياً، ولهذا لو جُنَّ لم يؤثِّر، والجنونُ إعدامٌ لقوَّةِ الحفظ، والنِّسيانُ كذلك. فصلٌ في شبهاتِ الروايةِ الأخرى والموافقِ لها فمنها: أنَّ عمارَ بنَ ياسر لمَّا روى لعمرَ بنِ الخطاب رضيِ الله عنهما فقال: "أمَا تذكرُ يا أميرَ المؤمنين لمَّا كنا في الإبلِ، فأجنبتُ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بحق".

- فصل في أجوبتنا عما ذكروه

فتمعَّكْتُ في الترابِ، ثم سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما يكفيكَ أن تضرب بِيَديك" (¬1) فلم يقبلْ عمرُ من عمار ما رواه له، مع كونِه عدْلاً ثقةً عندَه. ومنها: أنَّ إنكارَ مَنْ أُسندَ إليه، يمنعُ من قبول قوله، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والحاكمِ إذا ادَّعى رجل أنَّه حكمَ له، فقال: لا أذكرُ ذلك، فأقامَ عندَه شاهدين بأنَّه حَكَمَ له. بما ادَّعاه، فإنه لا يُقبَلُ، كذلك هاهنا. وشاهدِ الأصلِ مع شاهدِ الفرع (¬2). فصل في أجوبتنا عما ذكروه أوّلاً أمَّا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقد قال لذي اليدين: "كل ذلك لم يكن في الصلاة"، فلم يزد، وسألَ أبا بكر وعمرَ وبنى فعله على قولهما. أمَّا الشَّهادةُ، فإنَّها أضيقُ طريقاً، وأكثرُ شروطاً، بدليلِ أنَّه لا يُقبلُ فيها الواحدُ، ولا يُقنعُ فيها بالعدالةِ الظَّاهرةِ، ولا يُقبلُ في العقوباتِ بشهادة النِّساءِ، ولا مَنْ ظاهره العدالة، وتقبل الأخبار الواردة، بالحدود والقَوَدِ من النساء، ولا تقبلُ فيها العنعنةُ، ولا من وراءِ حجاب. وأمّا الحاكمُ فلا نُسَلِّمُ، بل إذا شَهِدَ شاهدان بحكمِه، لزمه الرجوعُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (347)، ومسلم (112)، والتر مذي (144)، والنسائي 1/ 139، وابن ماجه (569). (¬2) انظر "العدة" 3/ 962.

* فصل المستحب رواية الحديث بألفاظه

إلى قولِهم، ومذهبُنا يوجب عليه الرجوعَ إلى حفظه (¬1) مِن تحتِ ختمه فِى قِمَطرْه (¬2)، فقولُ الشاهدَين أَوْلى. وأمّا حديث عمّار، فإنَّه يجوز أن يكونَ ذلك مذهباً لعمرَ بنِ الخطاب، ولنا في قولِ الصَّحابيِّ هل هو حجةٌ؟ روايتان، أصحُّهما: أنَّه ليس بحجَّةٍ، لأَنه مجتهدٌ وليس. معصومٍ، ولا ممنوع من خلافِه، فهو كسائرِ المجتهدين. فصلٌ المستحبّ رواية الحديث بألفاظِه (¬3)، لأنّه إذا نقِلَ بألفاظِه، أُمِنَ فيه التغييرُ والتبديل، وسوء التأويلِ، فهذا هو الأَوْلى. وإنْ نقلَه بالمعنى مَنْ يعرفُ العنى، وحَفِظَه من الشبهةِ، ومن التغييرِ المخلِّ بالمعنى، جازَ، وهذا إنّما يصحُّ ممَّن كانَ عارفاً بالمعاني، نصَّ عليه في روايةِ جماعةٍ من أصحابهِ، فقال: تجوز الروايةُ على المعنى، وما زال الحفَّاظُ يحدثون بالمعنى. وحكي عن ابنِ سيرين وجماعةٍ من السَّلف: أنه يجب نقلُ اللفظِ على صورتهِ. وحكاه أبو سفيان عن أبي بكر الرازي (¬4)، ولأصحاب الشَّافعيِّ ¬

_ (¬1) ليس المراد ما حفظه في ذاكرته، بل ما احتفظ به في سجلاته. (¬2) القِمَطرْ: ما يصانُ فيه الكتب. "القاموس": (قمطر). (¬3) انظر "العدة" 3/ 968، و"المسودة" 281، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 244، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 531. (¬4) تحقيق مذهب أبي بكر الرازي المشهور بالجصَّاص: أن الأحوط أداء اللفظ وسياقه على وجهه دون الاقتصار على المعنى، سواء كان اللفظ ممَّا يحتمل التأويل أو لا يحتمله. ويستثنى من ذلك ما إذا كان الراوي من أمثال الحسن البصري والشعبي في =

- فصل في ذكر الأدلة على جواز الرواية بالمعنى

وجهان كالمذهبين (¬1). فصلٌ في ذكر أدلَّتنا فمنها: ما رواهُ شيخُنا عن أبي محمدٍ الخلال (¬2) - ولي منه إجازةٌ - عن ابن مسعودٍ، سأل رجلٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، تُحدِّثنا [حديثاً] لا نقدر أن نسوقَه كما نسمعه، فقال: "إذا أصاب أحدُكم المعنى فليحدِّث" (¬3). ومنها ما روي عن مكحول (¬4)، قال: دخلنا على واثلةَ بنِ الأسقع، ¬

_ = إتقانهما للعبارات والألفاظ التي تأتي على وفق لفظ الحديث الأصلي، وتؤدي ذات معناه من غير أن تفضل عليه. بمعان جديدة، ولا تقصر دون أداء معناه المقصود. انظر "الفصول" للجصاص 3/ 211. (¬1) والراجح عند الشافعية جواز رواية الحديث بالمعنى إذا كان عالماً. بمعنى الحديث. انظر "الرسالة" 370، و"التبصرة" 346، و"المستصفى" 1/ 168. (¬2) هو: الحسن بن محمد بن الحسن بن علي البغدادي. ثقة، كان ذا علم ومعرفة في الحديث، خرَّج المسند على "الصحيحين" سمع من القطيعي، والدارقطني وغيره. حدث عنه الخطيب البغدادي، وعلي بن عبد الواحد الدينوري، وغيرهم، مات سنة (439) هـ. انظر: "تاريخ بغداد" 7/ 425، و"تذكرة الحفاظ" 3/ 1109 - 1111، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 593. (¬3) أخرجه الخطيب في "الكفاية" 302. (¬4) هو: أبو عبد الله مكحول بن أبي مسلم الدمشقي، عالم أهل الشام وفقيهها. =

فقلنا: حدِّثنا حديثاً ليس فيه تقديمٌ ولا تأخير، فَغَضِبَ. وقال: لا بأسَ إذا قَدَّمت وأخْرتُ إذا أصبتُ المعنى (¬1). ومنها: أنَّ المقصودَ من الألفاظِ المعاني، فإذا أتى بالمعنى، وجبَ أن تجوزَ، كما نقولُ في ألفاظِ الشَّاهدِ إذا تضمنت معاني ما شَهِدَ به. ومنها: أنَّ الحاجةَ إلى أحكامِ الشَّرع داعية، ولا طريقَ لنا بَعدَ القرآنِ إلى معرفتِها إلا السُّنَّةُ، والحوادثُ جمةٌ، فلو رَدَدْنا على الرُّواةِ بالمعاني، وأوقفنا القَبولَ والعملَ على نفسِ الصِّيغ، دونَ الرِّوايةِ بالمعنى، لوقَفَتِ الأحكامُ في أكثر الحوادثِ. ومنها: أنَّ الاجتهادَ في معاني ألفاظِه لاستخراج الأحكامِ سائغ جائز، بل واجبٌ لازمٌ، فتجزئُ المعانى من ألفاظِه للروايةِ التي بنينا عليها الأحكامَ كذلك. ومنها: أنَّا رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في القصةِ والحادثةِ قولاً، ثمَّ يقولُه مرةً أخرى بغير ذلك اللّفظِ، لكن يتطابقُ المعنى، مثل قوله: "أليسَ في الشَّث ¬

_ = روى عن؛ واثلة بن الأسقع، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. روى عنه: الزهري، وربيعة الرأي، وابن عجلان، وطائفة. توفي سنة اثنتا عشرة ومئة. انظر "طبقات ابن سعد" 7/ 453، و"وفيات الأعيان" 5/ 280، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 155. (¬1) أخرجه الترمذي في "العلل" 1/ 145بشرح ابن رجب، وهو في المستدرك 3/ 569، و"الكفاية" 204.

والقَرَظِ ما يطهِّره" (¬1)، "يطهِّر الدِّباغُ الجلدَ كما يطهِّر الخلّ الخمر" (¬2)، "دباغُ الأديم ذكاتُه" (¬3) الكلّ. بمعنى واحد، والألفاظُ مختلفةٌ، "ادرؤوا الحدودَ بالشبهاتِ" (¬4)، "مَنْ أتى من هذه القاذوراتِ شيئاً، فليستتر بسترِ الله" (¬5) "تجاوزوا عن ذنب السخيِّ، فإنَّ الله يأخذُ بيدِه كلما عثر" (¬6)، "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" (¬7)، "إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلعَ إلى أهلِ ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود (4126)، والنسائي 7/ 174، والطحاوي 1/ 471، والدارقطني 1/ 45، وابن حبان (1291)، والبيهقى 1/ 19 من حديث العالية بنت سبيع، بلفظ: "يطهرها الماء والقرظ". وليس لفظ: الشَّث من الحديث نبه على ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" 1/ 48. والشث: نبت طيب الريح يدبغ به. "القاموس": (شث). (¬2) أخرجه الطبر اني في الكبير 123/ (847)، والدارقطني 4/ 66، والبيهفي 6/ 37 - 38، من حديث أم سلمة. (¬3) أخرجه أحمد 6/ 154، والنسائي 7/ 174، والطحاوي 1/ 470، وابن حبان (1290) من حديث عائشة. (¬4) ليس هذا مرفوعاً، وهو موقوف عن ابن مسعود وغيره، انظر "نصب الراية" 3/ 333، و "التلخيص الحبير" 4/ 56. (¬5) أخرجه مالك 2/ 825، من حديث زيد بن أسلم مرسلاً. انظر "التمهيد" 5/ 321. وأخرجه الحاكم 4/ 383 من حديث عبد الله بن عمر. (¬6) تقدم تخريجه ص (10). (¬7) أخرجه أحمد 6/ 181، وأبو داود (4375)، وابن حبان (94)، والبيهقى 8/ 334، من حديث عائشة.

- فصل في شبه ما نعي جواز الرواية بالمعنى

بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (¬1)، وإذا جاز له هو أن يغيِّرَ اللًفظَ مع حفظِ المعنى، كان لنا نحنُ ذلك تعويلاً على المعنى. ومنها: أنَّ أحاديث الناسِ بعضِهم عن بعض تجوزُ بالمعاني، ولا تشترط الصيغة التي (¬2) سمعها، ولا يعدُّ كاذباً ولا متجوِّزاً، كذلكَ أحاديثهم عن الني - صلى الله عليه وسلم -. فصلٌ في شبههم فمنها: ما روي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "نضَّر الله امرأً" أو قال: "رحم الله امرأً، سمعَ مقالتي فوعاها وأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه، وربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه" (¬3). ومنها: أنَّه قولٌ تثبتُ به أحكامُ الشَّرع، فلا يجوزُ تغييرُه كالكتابِ والأذانِ والشَّهادةِ. فصلٌ في الأجوبةِ عنها أمَّا الحديثُ، فهو حجةٌ لنا من وجهٍ، ونقولُ به من حيثُ يحتجُّون به، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3007) (3983) (4274) ومسلم (2494) وأبو داود (2650) (2651)، والترمذي (3305) من حديث علي. (¬2) في الأصل: "إلى". (¬3) تقدم تخريجه 1/ 7.

أمَّا حجَّتُنا منه، فإنَّه عوَّلَ على المعنى في أوَّلِه وآخرِه حيث ذكرَ الفقهَ، ولم يتعرَّض للحفظِ، وإِنما نحن مجوِّزون لنقلِه بالمعنى في حقِّ مَنْ يفقه المعنى. وإذا كان فقهُ الحديث هو المقصودَ، لم يبق فيه إلا الاحتياط للفظِ خوفاً على المعنى، وذلكَ يقتضي الأَوْلَى والاستحباب، ونحن قائلودن به. ولأنَّ في تعليلِ الخبرِ ما يدلُّ على أنَّ المعنى أَوْلَى، وهو أنَّه إذا كان الحديثُ مشكلَ الظاهر فأزال إشكاله بروايته بالمعنى، أغنى السَّامعَ عن تفسيرِه، وعن سؤال وإيضاحِ للمعنى، فإنَّ الصَّحابة قد تخطئ في ذلك حتى يُشبَّه على أحدهم خيطا الفجر بخيطي الحبل، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لعريضُ الوِسادِ (¬1) (2 ......... 2) لا الكف عنه فقطع للسان غير معناه، مثل: أن يسمعَ من النبيِّ- صلى الله عليه وسلم -: "صاحبُ الحقِّ له اليدُ واللسانِ" (¬3)، وهذا يوهمُ: له اليدُ ضرباً ونَتْراً وجذباً، واللِّسانُ شتماً وسبًّا، فجاءَ الراوي وقال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"صاحبُ الحقِّ له المطالبةُ بلسانهِ، واليدُ بملازمتِه وإمساكهِ" ففصح بالمعنى، كان هذا أحسنَ في إزالةِ الإشكالِ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 4/ 62. (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن يشهد لمعناه حديث أبى هريرة أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه، فأغلظ له، قال: فهم به أصحابه فقال:" دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً". أخرجه البخاري (2306) (2390) (2401) والترمذي (1317) وابن ماجه (2423) والبيهقي 5/ 351، والبغوي (2137).

وأمّا قياسُهم على القرآن فغيرُ صحيحٍ، لأنَّ ذلكَ لفظُه ونطقُه إعجازٌ، فتغييره (¬1) لا يجوز، ولو لم تكَن آيه محكمةً، حتى [لو] كانت قصصاً، أو وعيداً للأمم السَّالفةِ أو مثلاً على أنه هو الحجة، لأنه لا يسقطُ الحكمُ الذي [ذَكَر] معناه الناقلُ بالمعنى، مثل قوله: إذا نوديَ للصَّلاة فامضوا ودعوا التبايعَ، ويقول: أنا سمعتُ ذلك، فإنَّه لا يكونُ قرآناً، ويكون الحكمُ ثابتاً، كما غيَّر ابنُ مسعود التلاوةَ بالتفسير، ولم يسقط حكمُ الغيَّرِ، وإنما سقطَ النطقُ عن كونهِ قرآناً. على أنَّ القرآن لو قَدَّمَ فيه المؤخر، لم نُجِزْه، فتلا بدل {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43]: اركعي واسجدي، لم يجز، ولو قال في روايةِ الحديث: "لا جنَبَ ولا جلبَ" أو قال: "لا جلَب ولا جنبَ" (¬2) كان سواءً، وكذلك إذا روى: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء بالغَسْلِ للدمِ والحتِّ والقرصِ (¬3)، أو قدَّمَ ما أخَّر، جاز. وأمّا الأذانُ والشَّهادةُ، فذلكَ تَعَبُّدٌ لا يحصلُ إلا بالصيغة التي تعبَّدَنا الشَّرعُ بها، كهيئاتِ التعبداتِ، وإذا غيَر لم نفهمِ الدُّعاء إلى الصَّلاةِ به، ولم نعلم أنَّه صادفْنا فيه الأصلحَ، وليسَ القصدُ به العملَ فنعملَ به، إنَّما القصدُ التعبدُ بالصيغةِ، والعملُ به الاستجابةُ والقصد إلى مواضع ¬

_ (¬1) في الأصل: "فتغيره ". (¬2) تقدم سؤيجه 1/ 51. (¬3) يعني قوله - صلى الله عليه وسلم -لأسماء: "حُتِّيهِ ثم اقرصيه" تقدم تخريجه 1/ 38.

* فصل إذا سمع من الراوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كذا، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كذا

العبادات (¬1)، وذلكَ لازمّ بقولِ القائل: الصلاة جامعةٌ، لكنَّه لا يكون أذاناً، فإن كانَ [القصدُ] الإعلامَ، فإنَّه يحصلُ، وإِنْ [كان القَصدُ] التَّعبُّدَ، فإِنه لا يحصل. فأمَّا في مسألتِنا، فإدنَّ القصدَ العلمُ. بمرادِ الشَّرع، وذلكَ يحصل بفهمِ المعنى بأيِّ صيغةٍ كانت، حتى بالخطِّ والمناولةِ تحصلُ الرِّوايةُ، وبكتابٍ يُسَطرَّ إلى أهلِ القريةِ والمحلّةِ من قِبَلِ المؤذن لا يحصلُ ثواب الأذانِ عند مَنْ يجعلُه سنَّةً، ولا فرضُه عندَ مَنْ يقولُ بأنَّه فرضٌ. فصلٌ وإذا سمع من الراوي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا، فقال: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذا، أو على العكسِ، فإنَّه يجوزُ، نصَّ عليه أحمد، رواه عنه عمرُ المَغَازلي؛ إذ الاسمانِ لمسمًّى واحدٍ، والمفهومُ من الاسمينِ المسمَّى المشارُ إليه - صلى الله عليه وسلم -، والنبوةُ وإنْ كانت دونَ الرِّسالةِ، فإنَّ كلَّ رسولٍ نبيٌّ، وليسَ كلُّ نبي رسولاً، لكن في حقِّ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - الاسمان حقيقةٌ فيه، فهو نبيٌّ وهو رسولٌ، والله تعالى قد دعاه بالاسمين فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] , {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]. فصلٌ إذا وَجَدَ سماعَه في كتابٍ، ولم يذكر أنَّه سمعَه، جازَ روايته، أشارَ إليه ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 972 - 974، و "المسوَّدة" 279.

- فصل في شبهة المخالف

أحمدُ (¬1). وبه قالَ الشافعي وأبو يوسفَ ومحمّد (¬2). وقال أبو حنيفةَ: لا يجوزُ أن يرويَه إذا لم يذكر سماعَه (¬3). لنا: أنَّ مبنى الأخبارِ على حُسن الطنِّ والمسامحةِ وتركِ الاستقصاءِ، والعمل فيها على الظاهرِ من الحالِ، بدليلِ أنه لا يشترطُ فيها العدالةُ الباطنةُ، وتقبلُ من العبيد والنِّساءِ وبالعنعنةِ (¬4)، والظاهرُ هاهنا من الخطِّ الصِّحَّةُ وصِدقُ الكاتب، ولهذا بَنَتِ الصَّحابةُ على الكتبِ المعزيَّةِ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثقةً بالخط. فصلٌ في شبهةِ المخالف منها: أنَّ الواجدَ لخطِّه بالشَّهادةِ لا يجوزُ أن يشهدَ به، كذلكَ الخبرُ ولا فرقَ. ومنها: أنَّ الأخبارَ لا يُؤمَنُ عليها الكذبُ، والخطّ يجوزُ أن يكونَ كاتبُه كاذباً، وأن يشبهَ خطّ غيرِه خطَّه، فلا يجوزُ أن يثقَ إلى ذلك. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 974، و"المسودة" 280، و"شرح الكوكب المنير" 2/ 528. (¬2) انظر "التبصرة" 344، و"أصول السرخسي" 1/ 358، و"فواتح الرحموت" 2/ 165، و"تيسير التحرير" 3/ 96. (¬3) وهو قول للشافعية أيضاً نصره الشيرازي في "اللمع" ص 45، حيث قال: وهو الصحيح لأنه لا يأمن أن يكون قد زُوِّرَ خطُّه، فلا يجوز الرواية بالشك. على أنَّ الشيرازي ذهب في "التبصرة" ص 344 إلى جواز الرواية لا وجده في كتاب حتى لو نسيه. (¬4) في االأصل: "العنعنة".

- فصل في الأجوبة

فصلٌ في الأجوبةِ فأمَّا الشَّهادةُ، فقد روي عنه جوازُ الشَّهادةِ بخطِّه، إذا لم يخرج عن يدِه، والصَّحيحُ: [عَدَم] (¬1) التسليم، فلأنَّ أمرَها مبنيٌّ على التأكيدِ والتغليظِ من الوجوه التي ذكرناها، وأمَّا الخطّ فإنَّه ظاهر، وليسَ يعتبرُ ما وراءَ الظاهرِ، ولا ما زادَ عليه، ويجوزُ أن يشبهَ الخطُّ الخطَّ، [و] يجوزُ أن يشبهَ الصوتُ الصوتَ، وقد أجمعنا على جوازِ روايةِ الأعمى عن البصير. بمعرفتِه الصوتَ، وإنِ اشتبهت الأصواتُ، وقد نصَّ أحمدُ على جوازِ روايةِ الضَّرير. فصلٌ في الحديث إذا قرئَ على المحدِّثِ وهو يسمعُ من قراءةِ غيرِه، أو قرأه هو والشيخ يسمعُ منه، فإنَّه لا يجوزُ أن يقول: سمعتُ الشَّيخَ يقول، ولا: أَمْلَى عليَّ الشيخُ، بل إنْ قرأه الشَّيخُ أو رواه له، جاز أن يقول: سمعتُ منه، وحدَّثني. فأمَّا إن قال: حدَّثني، وكان الحديث قد قرئَ على الشَّيخ، أو قال: أخبرني، ففيه روايتان (¬2): إحداهما: يجوزُ، قال: وقد سئلَ عن ذلكَ فقال: أخبرنا وحدثنا، عندنا واحدٌ. ¬

_ (¬1) زيادة لا بدَّ منها، فالمشهور عن الإمام أحمد في مسألة الشهادة بالخط أنه لا يجوز. انظر "العدة" 3/ 976. (¬2) انظر "العدة" 3/ 977.

- فصل في أدلة من أجاز ذلك

وقالَ أحمدُ: إذا قال حكايةَ الحال كما جرى فهو أحبُّ إليَّ. فقد أجازَ قولَه: حدَّثني وأخبرني فيما سمع منه، أو قرأ عليه فأقرَّ به، وجعلَ الأَوْلَى حكايةَ الحال، وبها قالَ أصحاب أبي حنيفة والشَّافعي. والرواية الثانية: لا يجوز أن يقولَ: أخبرني وحدَّثني إلا ممَّا يسمعه من لفظهِ، ولكن يقولُ: قرأته، أو قرئَ عليها، نصَّ عليها أيضاً، قال: الأعجب إليَّ أن يحكي كما سمع، إن قرئَ عليه أو قرأه قال ذلك، وإنْ قرأه الشيخُ قال: حدثني أو أخبرني (¬1). فصلٌ في أدلةِ مَنْ أجازَ ذلك إنَّ الحاكمَ إذا قالَ للمدَّعَى عليه: ما تقول فيما ادُّعي عليك؟ فقال: نعم؛ فإنَّه يكونُ إقراراً، وكذلك إذا قرأَ الشاهدُ الكتابَ، وقالَ المشهودُ عليه: نعم؛ جازَ للشَّاهد أن يشهدَ عليه بالإقرارِ بهذا القدر. فصلٌ في شبَهِ مَنْ منعَ ذلك فمنها: أنَّ قولَه: حدَّثني وأخبرني، يقتضي أنْ يكونَ المقروءُ عليه قد ¬

_ (¬1) وهو ما أيده الشيرازي في "التبصرة" ص 45، وأبو الحسين البصري "في العتمد" 2/ 644، واختاره الغزالي في "المستصفى" 1/ 165، ونصره الآمدي في "الإحكام" 2/ 142.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

فعلَ فعلاً قد استحقَّ به ذلك، وذلك إنَّما هو قولُه، فأمَّا قولُ غيرِه وهو يسمعُ فلا، كما لو قال: ضربني وشتمني، أو سلمَ عليَّ، أو ما شاكلَه من الأفعالِ والأقوالِ لا يكودنُ صادقاً في ذلك، إلاَّ أنْ يكونَ الفعلُ والقولُ صدرَ عن المضافِ إليه ذلك. ومنها: أنَّ الاستئذانَ من القارئ عليه الحديثَ، بأن يقولَ: أُحدِّث به عنك؟ فيقول: نعم، أو حدِّث عني، لا يكونُ إلاَّ إذناً أو أمراً، وليسَ الإذن والأمرُ حديثاً منه له، فلا يصحُّ قوله: حدَّثني، فهو إنما أمره أو أَذِنَ له، فيكونُ بخلافِ ما سمع، فإنَّه سمع الأمرَ والإذنَ، ولم يسمع منه إخباراً له، ولا حديثاً له. فصلٌ في الأجوبةِ عن شبههم أمَّا الأُولى: فقولُهم: أخبرني وحدَّثني، يقتضي إحداثَ فعلٍ، فقد كان ذلك، لأنَّ قولَه: نعم، وإقرارَه، حديثٌ منه وإخبارٌ منه، لأنه إذا قال له: هو كما قرأتُ؟ فقال: نعم، وكانَ الذي قرأَه عليه إنَّما صيغتُه: حدَّثنا فلانٌ عن فلانٍ، فهو إذنٌ له في الحديثِ عنه. وأمَّا قولُهم: إنَّ قولَه: اروه عني، أمرٌ، والأمرُ ليسَ بإخبارٍ له، فليسَ (¬1) لك، لأنَّ قولَه [في] جوابِ قوله: أرويه عنك وهو كما قرأتُ؟: نعم ¬

_ (¬1) في الأصل: "ليس".

* فصل إن قرئ على الشيخ وهو ساكت، هل يقول: حدثنا؟

اروه، أو قولِه: هو كما قرأتُ؟ هو (¬1) كقوله: حدِّث عني. بما قرأتَه عليَّ، والذي قرأه عليه إنَّما هو الحديث، كما إذا قال الشَّاهد للمشهود عليه: أنت تقرُّ عندي بجميع ما في هذا الكتاب؟ فقال: نعم، صارَ كأنَّه تلا على الشَّاهدِ وحدَّثه، وصرَّح. بما تضمَّنه ذلك الكتاب. فصلٌ فإنْ قرئَ على الشَّيخ وهو ساكتٌ، فهل يجوزُ أن يقال: أخبرنا وحدَّثنا؟ قال أصحابُنا: يجوزُ ذلكَ ويكون سكوتُه إذناً ورضاً بالروايةِ عنه؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّه راضٍ ومقرٌّ وآذِنٌ؛ لأنه لو لم يكن سماعَه لما أقرَّهم عليه، ومع هذا التجويز، فإنَّ الأحوطَ أن يقولَ له عَقِيبَ القراءةِ: هو كما قرأتُه أو قرئَ عليك؟ فإذا قال: نعم، فقد زالَ التردُّدُ (¬2). فصلٌ فإنْ قالَ المحدِّثُ: أخبرنا، فهل يجوزُ للمحدِّث عنه أن يقول: حدَّثنا؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لأنَّه حكى عنه خلافَ لفظِه الذي سمعَه منه. قال أحمد: إذا قال الشَّيخُ: حدَّثنا، فقل: حدثنا، وإذا قال: أخبرنا، فلا تقل: حدَّثنا. ¬

_ (¬1) فِى الأصل: "فهو" وكلمة "هو" هي الخبر لأن. (¬2) انظر "العدة" 3/ 977.

* فصل في الإجازة

كما لو قال: ضربني وشتمني، أو سلم علي، أو ما شاكله من الأفعالِ والأقوالِ لا يكونُ صادقاً في ذلك إلا أن يكونَ الفعلُ والقولُ صدر عن المضاف إليه ذلك. والثانية: يجوزُ، لأنه قال في رواية عبد الله بن أحمد الكِسَائي: حدَّتنا وأخبرنا واحدٌ، وهي اختيارُ أبي بكر الخلاَّل. فصل فإنْ قال: أجزتُ لك هذا الحديث، أو ما صحَّ عندك من حديثي، جازَ أن يقول: أجازَ لي فلانٌ، وحدَّثني وأخبرني فلان إجازةً، ولا يقولُ: حدَّثني وأخبرني مطلقاً؛ لأنَّه لم يخبره، ولم يحدِّثْه، وإنَّما أجازَ له إجازةً. فصلٌ وإذا ناولَه كتاباً فيه حديث هو سماعُه، فقال له: قد أجزتُ لك أن ترويَ عني ما فيه من الحديثِ، جاز له أن يقولَ: ناولَني فلانٌ، أو يقول: أخبرني فلانٌ مناولةً، وكذلكَ إذا كتبَ إليه بحديثٍ، جازَ أن يقول: كاتبني فلانٌ، أو أخبرني فلانٌ مكاتبةً. وقد نصَّ أحمدُ على هذا، فقال في رواية المرُّوذي: إذا أعطيتُكَ كتابي، وقلتُ لك: اروِه عني، وهو من حديثي، فلا تبالِ سمعتَه أو لم تسمعه (¬1). وقال أبو بكر الخلال: أخبرني أبو المثنى العنبري، أنَّ أبا داود خبَّرهم، ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 982.

أنَّ أبا عبدِ الله قال: لم أسمع من أبي تَوْبةَ (¬1) شيئاً، كَتَبَ إليَّ بأحاديث. قال أبو بكر الخلال: وكان محمّدُ بنُ عوفٍ الحمصي (¬2) يحدِّثنا كثيراً، فيكثر فيما نسمع منه من المسندِ خاصة، فيقول: أخبرني أبو ثَوْرٍ (¬3) في كتابِه إليَّ. وقال عبدُ الله: رأيت عبدَ الرحمن المتطبب (¬4) جاءَ إلى أبي فقال: يا أبا عبدِ اللهِ: أجِز لي هذين الكتابين، قال: ضعهما، فأخذَهما أبي، فعارضَ بهما حرفاً حرفاً، فلما جاءَ دفعهما إليه، وقال: قد أجزتُ لكَ هذه. ¬

_ (¬1) في الأصل: أبي ثور، والتصحيح من "سؤالات أبي داود السجستاني للإمام أحمدا" عند الترة رقم (329). وأبو توبة: هو الربيع بن نافع الحلبي الطرسوسى، روى عن ابن المبارك، وابن عيينة، وروى عنه: أبو داود، والدارمي، وغيرهم. انظر "تهذيب الكمال" 9/ 104، و"سير أعلام النبلاء" 10/ 653. وانظر "العدة" 3/ 982. (¬2) هو: أبو جعفر محمد بن عوف بن سنان الطائي الحمصى، من أصحاب الإمام أحمد، معروف بالتقدم في العلما والمعرفة على أصحابه، روى عن الامام أحمد وغيره. أثنى عليه أبو بكر الخلال، وروى عنه مسائل مفيدة. انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 310، و"سير أعلام النبلاء"12/ 613. (¬3) هو الامام الحافظ الحُجَّة المجتهد مفتي العراق، إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي. ولد في حدود سنة سبع ومئة، وتوفي سنة أربعين ومئتين. انظر "سير أعلام النبلاء" 12/ 72. (¬4) هو: أبو الفضل البغدادي، وقيل: كنيته أبو عبد الله، من أصحاب الإمام أحمد الذين تفقهوا عليه، ونقلوا عنه مسائل مفيدة. انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 208.

وبهذا قال أصحاب الشَّافعي (¬1). وقال أبو حنيفةَ وأبو يوسف، فيما حكاه أبو سفيان عنهما: لا تجوزُ الروايةُ بالإجازة ولا بالمناولةِ ولا بالمكاتبةِ، سواء قال: حدَّثني به إجازةً أو مكاتبةً أو مناولَةً، أو لم يقل ذلك (¬2). وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنَّه قال (¬3): إنْ قال الراوي لرجلٍ: قد أجزتُ لك أَنْ ترويَ عني جميع ما في هذا الكتاب فاروِه عني، فإنْ كانا قد علما ما فيه، جازَ له أن يرويَه فيقول: حدَّثني فلانٌ، وأخبرني فلانٌ، كما أنَّ رجلاً لو كتب صكًّا، والشُّهودُ يرونه ثم قال لهم: اشهدوا عليَّ بجميع ما في هذا الصَّكِّ، جازَ لهم إقامةُ الشَّهادةِ عليه. بما في ذلك الكتاب، وأمَّا إذا لم يسمع الراوي ولا السَّامع. بما فيه، قال: فإنَّ الذي يجب على مذهبنا أنَّه (¬4) لا يجوز أن يقول: أخبرني فلانٌ، كما قالوا في الصَّكِّ إذا أشهدَهُم، وهم لا يعلمون ما فيه، لم يصح الإشهادُ، فكذلك في الأخبارِ، فيصيرُ كأنَّه قال: ما يصحُّ عندَكَ مِنْ صَكٍّ فيهِ إقراري، فاشهدْ عليَّ فيه وبه. ¬

_ (¬1) انظر "المستصفى" 1/ 165، و"الإحكام" للآمدي 2/ 142. (¬2) بل الصحيح في مذهب أبي حنيفة أنه إن علم المجيز ما في الكتاب جازت الإجازة والرواية. بمقتضاها، وإن لم يعلم ما في الكتاب لم تجز الإجازة، لأن في هذا صيانة الكتاب والسنة. انظر "فواتح الرحموت" 2/ 165، و"تيسير التحرير" 3/ 43. أما منع الرواية بالإجازة فقد ورد عن أبى طاهر الدباس من الحنفية، وروي عنه أنه قال: مَنْ قال لغيره: أجزت لك أن تروي عني، فكأنه قال: أجزت لك أن تكذب علىَّ. (¬3) 1 نظر "الفصول" 3/ 192، و"العدة" 3/ 984. (¬4) في الأصل: "فإنَّه".

- فصل في حجتنا على جواز الرواية بالإجازة والمناولة والمكاتبة

قال: فإن عَلِمَ المكتوبُ إليه أَنَّ هذا كتابُ فلانٍ إليه، جازَ له أَنْ يقولَ: أخبرني فلانٌ، يعني الكاتبَ، ولا يقول: حدَّثني. فصلٌ في حجنا على جواز الرّواية بالإجازة والمناولةِ والمكاتبه على الوجهِ الذي ذكرناه (¬1) أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْفذَ. ممكاتَباتِهِ على أيدي أصحابِه إلى أمراءِ الأطرافِ، وملوكِ العربِ، والحُبشانِ، والرومِ، والفرسِ على ما نطقَتْ به السِّيرُ والتواريخُ. فكان قولُهم عنه - صلى الله عليه وسلم -: هذا كتابُهُ، روايةً عنه وإخباراً. بما تَضَمَّنه مِنَ الدِّعايةِ من أحكامِ الإسلامِ. ومنها أَنَّ أكثرَ ما فيه أنَّه لم يسمعْ منه ما فيهِ من لفظِهِ ولا قرأَهُ على مَنْ أجازَهُ له، ولا مَنْ ناولَهُ، وذلك لا يمنعُ من قولِهِ: حدَّثني وأخبرني، كما لو كان السَّامع هو القارئ للحديث، ثم يجوزُ له أن يقولَ: أخبرنى وحدثني، بقراءتِهِ هو على الشيخ، كذلك هاهنا. وأمَّا المكاتَبَةُ، فالكتابة حروف يُفهمُ منها مرادُهُ، فهي كاللفظ المسموع. ومنها: أَنَّ مبنى الأمرِ في الحديثِ على حسنِ الطنِّ، والظاهرُ من المكاتبةِ أنها روايةٌ؛ ولهذا كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالبلاغ فكان يُكاتِبُ، فلو لم يعلمْ أنَّ الكتابةَ بلاغٌ يخرجُ به مِنْ عُهْدةِ الأمرِ، لَمَا أقامَها ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 984.

- فصل في شبه المخالف

مقامَ القولِ، فكذلك تبليغُ العلمِ عنه - صلى الله عليه وسلم - وبلاغُ العلماءِ عنه كبلاغِهِ عن اللهِ، والظَّاهرُ صحَّةُ المكاتبةِ وصدقُها. فصلٌ في شُبَهِ المخاِلفِ (¬1) فمنها: أنه لم يوجَد مِنَ المحدِّث فعلُ الحديث، ولا ما يجري مجرى فعلِهِ، فلم يجزْ أن يقولَ: أخبرني، ولا حدَّثني، ومتى قال ذلك كان كَذِباً. ومنها: أن مثلَ هذا لا تحصلُ به الشَّهادةُ على الشهادةِ بأن يناولَهُ كتاباً مسطوراً، اُو يكتبَ إليه، فيقولَ: اشهدْ على شهادتى في هذا، أو في كذا، مكاتبةً إليه، لا قولاً له، كذلك الخبرُ. فصل في الأجوبة فأمَّا الأوَّلُ فليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ قولَهُ: ارْوِهِ عني، أو أجزتُ لك، أو مكاتبتُهُ بالحديثِ، كلّها أفعالٌ حقيقةً، فلم يبقَ إلأ أنَّ المعدومَ من ذلك صريحُ قولهِ: حدَّثني فلان، وهذا لا يمنعُ جوازَ الروايةِ، كما إذا كان القارئُ للحديثِ على الشَّيخ هو السَّامعَ له، فإنه هو الفاعلُ دولتَ الشَّيخ المسموع عنه، لِمَ يصحُّ أَنْ يقولَ: أخبرني وحدَّثني؟ كلُّ ذلك استناداً (¬2) إلى إقرارِه به، وإذنِهِ لَهُ، كذلك هاهنا ولا فرق. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 985. (¬2) في الأصل: "إسناداً".

* فصل فيمن قال: حدثني وأخبرنى فلان عن فلان

وأمَّا تعلُّقُهم بالشَّهادة على الشهادة: فإنَّ (¬1) مبنى ذلك على التغليظِ والتأكيدِ والاحتياطِ، بدليلِ اعتبارِ العددِ والعدالةِ الباطنةِ في الحدود بلا خلافٍ، وفيما سواها على مذهبِ جماعةٍ من الفقهاءِ، والمنع من العنعنةِ، ومن وراءِ حجابٍ، ومن المرأة على الانفرادِ في المالِ، والنساء وإنْ كثُرنَ مع الرجالِ في العقوباتِ. وأما أمرُ الأخبارِ فسهلٌ يُقبلُ مِنَ النساءِ والعبيدِ، ومَنْ ظاهِرُهُ العدالةُ حتى في العقوباتِ والحدودِ. فصلٌ (¬2). فيمن قال: حدَّثني وأخبرني فلانٌ عن فلانٍ، يحمل على أنه سمعَهُ منه مِنْ غيرِ واسطةٍ ويكون خبراً متصلاً. وقد قالَ أحمدُ في رواية أبي الحارث وعبد الله: ما رواهُ الأعمشُ (¬3) عن إبراهيمَ عن علقمةَ عن عبدِ اللهِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو ثابتٌ، وما رواه الزُّهريّ عن سالم عن أبيهِ، وداودُ عن الشَّعيِّ عن علقمةَعن (¬4) عبد اللهِ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثابتٌ، وبهذا قال أصحابُ الشَّافعي. ومِنَ الناسِ مَنْ قالَ: حديثُ العنعنةِ غيرُ صحيح. ¬

_ (¬1) والأصل: "إن". (¬2) انظر "العدة" 3/ 986. (¬3) في الأصل: "عن الأعمش". (¬4) في الأصل: "وعبد الله"

* فصل إذا روى صحابي عن صحابي خبرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لزمه العمل به

لنا: أَنَّ قولَهُ: عن فلانٍ، الظاهرُ أَنَّه عنه، وأنَّهُ هو الراوي، وقولَهُ: عن فلانٍ، الظاهرُ أنَّهُ سمعهُ منه، وأن كلَّ واحدٍ سمعهُ ممَّن عزاهُ إليه، والأصلُ عدمُ الواسطةِ ما لم يذكرْ واسطةً. قالوا: قولُ عبدِ الرزاق: عن مَعْمَرٍ، يحتمل أَنْ يكونَ عن معمر وبينه وبينه رجالٌ، مثلُ قولِ القائل: حدَّثني فلانٌ عن النبيِّ، وإنَّما هو بإسنادِ واحدٍ عن واحدٍ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: هذا يرويه أحمدُ عن الحسنِ، وإن كان بينه وبين الحسن رجالٌ. قيل: الظاهرُ عدمُ الواسطةِ، إلاَ أَنَّه إذا (¬1) عُلِمَ أنَّه لم يُدْرِكْ مَنْ عزاهُ إليه، فتلك قرينةٌ صَرَفَتِ اللَّفظَ عن ظاهرهِ. فصلٌ إذا رَوى صحابيّ عن صحابيِّ خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لزمَهُ العملُ به، ولا يلزمهُ سؤالُ النبيِّ عمَّا رواه عنه، وإنْ قدر على لقائِهِ وسؤاله، وحُكِيَ عن بعضِ الأصوليين أنَّه متى قَدَرَ على سؤالِهِ لزمَهُ سؤالُهُ. فصل في دلائلنا فمنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يبعثُ العمَّالَ والسُّعاةَ والقضاةَ والمعلمين ¬

_ (¬1) في الأصل: "وإذا".

- فصل في شبهة المخالف

للأحكامِ إلى البلادِ والأطرافِ، ليرجعَ الناسُ إلى قولِهم، ويحكموا (¬1) بحَسبِ أخبارهِم، ويقتصروا (¬2) على ذلك منهم، ولم يجبْ على أحدٍ منهم أن يسألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا وفدَ إليه وقَدِمَ عليه، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فلولا أنَّ تبليغَ الإنذارِ بأخبارِ هؤلاء الآحادِ لازمٌ، والبناءَ عليها للأحكامِ واجبٌ، لَمَا كان لنَدْبِهم إلى ذلك معنىً. ومنها: أنَّه لو كان سؤالُهُ واجباً بعد الإخبارِ عنه، لكان على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المشافهةُ بذلك، ولم يُجْزِه الاخبارُ [و] البلاغُ بواسطة، فلمَّا لم يجبْ على النبيِّ ذلك، لم يجبْ على السَّامع للخبرِ الاستقصاءُ إلى سؤالِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وقد صرَّحَ بذلكَ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ حيثُ قالَ: "ليبلغ الشَّاهدُ الغائبَ" (¬3) وهذا تصريحٌ بالإبلاغ، وجَعْلِه طريقاً للخطابِ والإيجابِ. فصلٌ في شبهةِ المخاِلفِ بأنَّ لهم طريقاً إلى معرفة الحكم بالقطع واليقينِ، وصارَ. بمثابةِ مَنْ قَدَرَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ويحكمون". (¬2) في الأصل: "ويقتصرون". (¬3) أخرجه البخاري (1739) (1741) من حديث ابن عباس، ومسلم (1679) من حديث أبى بكرة.

- فصل فيمن يقع عليه اسم الصحابي

على النصِّ فعدلَ إلى الاجتهادِ، وقول الصَّحابي كالاجتهادِ؛ لأنَّه مظنونٌ لا مقطوعٌ. فالجوابُ؛ أنهُ ليس يمتنعُ مثلُ هذا، كما يُبنَى على حكمِ أقوالِ رسلِهِ وقضاتِهِ في الآفاقِ. وبالعدلِ عن مقتضى أدلَّةِ العقولِ على براءةِ الذِّمم، وخلوِّ السَّاحات من الغراماتِ والكُلَفِ والمشاقِّ وغيرِ ذلك من التَخَسُّرِ في المالِ وإتعابِ الأبدانِ؛ بأخبارِ الآحادِ، فقضينا بها مع كونها موجبَةً للظُّنون، فأزلنا القطعَ بالظنِّ، فهذا في حكمِ الأصولِ. وأمَّا الفروع: فإنَّ مَنْ وَجَدَ إناءً مِنَ الماءِ على شاطئِ دجلةَ أو فراتٍ يَتوضَّأُ منهُ مع كونِ طهارتِه مظنونةً، وتجويزِ نجاستِهِ حاصلاً (¬1)؛ لأنَّه ماءٌ قليلٌ معرَّضٌ للنَّجاسةِ، وأما الفراتُ فمقطوع (¬2) بطهارتهِ، ولا يلزمُ العدولُ عن ماءِ الإناءِ إلى ماءِ دجلةَ والفراتِ. فصلٌ فيمن يقعُ عليه اسمُ الصَّحابيّ ظاهرُ كلامِ أحمدَ: أَنَّ الصَّحابيَّ يُطلقُ على مَنْ رَأَى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنْ لم يختصَّ به اختصاصَ المصحوبِ ولا رَوَى عنه الحديث "لأنَّه قال في روايةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "حاصل". (¬2) في الأصل: "مقطوع".

عبدوسِ بنِ مالك العطارِ: "أفضلُ النَّاسِ القرنُ الدين بُعِثْتُ فيهم" (¬1)، كلُّ مَن صحبَهُ سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآهُ فهو مِنْ أصحابهِ، له مِنَ الصُّحبةِ على قدرِ ما صحبَهُ. فقد أطلقَ اسمَ الصحبةِ على مَن رآه وإِن لم يختصَّ بِهِ. وحَكَى أبو سفيان عن بعضِ مشايخِه (¬2): أنَّ الصَّحابيَ إنَّما يُطلَق على مَنْ رَأى النبي - صلى الله عليه وسلم - واختصَّ به اختصاصَ الصَّاحبِ بالمصحوبِ، سواء روى عنه الحديثَ أو لم يَرْوِهِ، أخَذَ عنه العلمَ أو لم يأخذْ. فاعتَبَرَ تطاولَ الصُّحبةِ في العادةِ. وحكى أبو سفيان عن عمرو بن بَحْر (¬3) أنَّ هذا الاسمَ إنما يُسمَّى به مَنْ طالتْ صحبتُه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واختلاطُه به وأخذَ عنه العلمَ، فهذا القائلُ اعتبرَ طولَ الصحبةِ مع نقلِ العلمِ. وحكى الإسفرايينيّ: أنَّ الصحبةَ في العرفِ عبارةٌ عمَّنْ صحبَ غيرَهُ، فطالت صحبتُهُ له ومجالستُهُ معه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 4/ 433. (¬2) في الأصل: "مشايخهم"، انظر "العدة" 3/ 988 وأبو سفيان، هو محمد بن أحمد السرخسي الحنفي، تقدما ترجمته 3/ 361. (¬3) في الأصل: "عمرو بن يحيى"، والمثبت من "العدة" 3/ 988، و "المسوَّدة" 292، وزاد في "المسوَّدة" كنيته وهى: أبو عثمان، فتعين بهذا أنه المعروف بالجاحظ، والله تعالى أعلم.

- فصل في دلائلنا

فصلٌ في دلائلنا فمنها: أنَّ الصُّحبةَ اسمٌ مشتقٌّ من قولِ القائلِ: صَحِبَهُ، يَصْحَبُهُ، صُحْبَةً، وذلك يعمُّ القليلَ والكثيرَ، والناقلَ للعلم وغيرَ النَّاقلِ. تقول: الرجلُ صاحبنا في السَّفينةِ وصاحبي في السَّفرِ، فهو كقولك: مكلِّمي، ومحادثي، وزائري، وصاحَبَني، وصَاحَبَ فلانًا ساعةً ويوماً، ولو اقتضَتِ الإطالة لما صحَّ قولُه: صاحَبْتُهُ ساعةً. ولو حلفَ: لا صَحِبتُكَ، ولا صَحِبْتَني لا سفري، حَنَثَ بأيسرِ متابعةٍ يتبعُهُ فيها. ومنها؛ أنَّ أخص الصُّحبةِ في حقِّ الأنبياءِ عليهم السَّلام هي المتابعةُ لهم، والتصديقُ لِماَ جاؤُوا به، وقد وُجِدَ ذلك ممَّن آمنَ برسولِ اللهِ ورآهُ، فلا ينبغي أن يُسلبَ اسمَ الصُّحبةِ مع هذه الحالِ. ومنها: أنَّ الصُّحبةَ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مختلفةٌ؛ لأنَّ أحوالَه كانت مختلفةً، فتارةً يكون متشاغلاً بالجهادِ، وتارةً يكون مذكِّراً (¬1) بآلاء اللهِ ونعمِهِ، وتارةً ببيانِ الأحكامِ الشَّرعيةِ والآدابِ الحكميّةِ، وتارةً يكَون متشاغلاً بشأنِ نفسِه كخروجه إلى الغائط، وإذا قَصَرْنا صحبتَهُ على مَنْ جالسَهُ حالَ إيرادِ العلمِ حَرَمْنا مَنْ حملَ له إداوةً إلى الغائطِ، أو ناولَهُ أحجارَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مذاكراً".

- فصل يجمع شبه المخالفين

الاستجمارِ، أو خرجَ معه للجهادِ، ولا وجهَ لحرمان مَنْ صَحِبَهُ في أحدِ هذه الأمورِ اسمَ الصُّحبةِ، كما لا وجهَ لحرمانه اسمَ المعاصرةِ والخدمةِ والاجتماع به والرؤية، فلا يسلب اسمَ الصُّحبةِ لِسَلْبِ نوع منها. والزوجةُ تسمَّى صاحبةً، وهي صحبةٌ في الاستمتاع والسَّكنِ، يقال في الله سبحانه: لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. يعني: لم يتخذ زوجةً. ومنها: أنَّ القومَ كانوا يختلفونَ في الرِّوايةِ عنْهُ، فبعضُهم لا يروي الروايةَ والحديثَ، وبعضُهم يروي، حتى إنَّ السَّائبَ بنَ يزيدَ قالَ: صحبت سعدَ بنَ أبي وقاصٍ زماناً، فما سمعتُ منه حديثاً إلا أَني سمعتُه ذاتَ يومٍ يقولُ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُفرَّقْ بينَ مجتمِع، ولا يُجمعْ بينَ متفرِّقٍ، والخليطانِ: ما اجتمعا في الحوضِ والفحلِ والراعى (¬1) " (¬2)، وقد كانَ سعدٌ من سادات الأصحابِ، فما سلبَهُ أحدٌ اسمَ الصُّحبةِ. والذي يوضِّحُ هذا أنه لو أطلق مطلق صحبة رسولِ اللهِ، لحَسُنَ أن يُقالَ له: فبماذا صَحِبتَه في الجهادِ، أوِ السَّفرِ، أو في أخذِ العلمِ عنه؟ فلو لم تكنِ الصُّحبةُ اسماً شاملاً للمقارنةِ في أحد هذه المعانى، لما حسُنَ السُّؤالُ، بل كانَ يختصُّ بالمعنى. فصلٌ يجْمع شبههم فمنها: أَنَّ الصَّاحبَ لا يقعُ في عُرفِ القومِ وعادتِهم إلا على الملازمِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الرعي". انظر "العدة" 3/ 989. (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" 4/ 106 والدارقطني 2/ 104.

المكاثرِ، فصاحب المتاع هو المالكُ، وأصحابُ القريةِ مُلازموها، [و] أصحابُ الكهفِ والرَّقيم [ملازموه]، وأصحابُ الجنَّةِ ملازموها ومالكوها، وأصحابُ الرَّسِّ الملازمونَ لَهُ، ويقالُ: أصحابُ أبي حنيفةَ وأصحابُ الشَّافعيِّ لِمَنْ نَقَلَ عنهما العلمَ وعُرِفَ بِهِما (¬1)، فأمَّا جيرانُه، ومَنْ صلَّى خلْفَهُ، أو عامَلَهُ، فلا (¬2) يُسمَّى صاحباً له على الإطلاقِ، وإنَّما يكونُ على التقييدِ، يقالُ: صَاحَبَهُ في السَّفرِ، وفي السَّفينةِ. ولهذا لا يقال: أصحابُ الحديثِ، إلاَّ لأهلِهِ، والمكاثرينَ لدراسَتِهِ وقراءَتِهِ، والآخذينَ لهُ عنْ أهلِهِ، والنَّاقلينَ لَهُ إلى سامعِيْهِ. فصيغةُ الصُّحبةِ موضوعةٌ لهذا دونَ ما سواهُ، فلا ينبغي أَنْ يقع اسمُ صحبةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ على الحقيقةِ العهودةِ المستعملةِ بينَ النَّاسِ، وعلى ما يعهدُهُ أهلُ اللغةِ. قالوا: والذي يوضِّحُ هذا أَنَّهُ يحسُنُ النفيُ لاسمِ الصُّحبةِ عمَّنْ لم يلازمْهُ، فنقولُ: فلانٌ لم يصحبِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنْ وفَدَ عليه، لكنْ جاءه في رسالةٍ، لكن سايره في الغَزاةِ الفلانيةِ. ويقولُ القائلُ: لم أصحبْ أبا حنيفةَ، لكنْ رأيتُهُ وكنتُ ممَّنْ صلَّى خلْفَهُ، وعاملتُهُ لكنْ ما صحبْتُه. فعُلمَ أَنَّ الصَّاحاب لا يقعُ إلاَّ على اللازمِ أو النَّاقلِ العلمَ عنْهُ. والجوابُ: أَنَّ الوفودَ التي كانتْ تَرِدُ عليه من المسلمينَ كانَ يُطلَقُ عليهم اسمُ الصُّحبةِ، ولو كانوا كفَّاراً لم يقعْ عليهم الاسمُ، لأنهم غيرُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعرفا به". (¬2) في الأصل: "لا".

* فصل إن قال من عاصر النبي عليه السلام: أنا صحابي قبل منه

تابعينَ لَهُ، ولا مصدِّقينَ بهِ، وأمَّا غيرُهُ مِنَ العلماءِ فإنَّ مَنْ صحبَهُ في طريقٍ أوِ استفتاه في مسألةٍ لا يُسمَّى صاحباً على الإطلاقِ؛ لأنَّ العُرفَ ألأ يقعَ الاسمُ إلا بنوع دلالةٍ. ولسْنَا نمنعُ أَنَّ للصحبةِ غايةً تنتهي إليها من القربِ والملازمةِ، لكنَّ طلبَ الأقصى لوقوع الاسمِ لا معنى لَهُ، كما لا يُطلَبُ في الاسمِ رفيقٌ. على أَنَّ ما ذكرتُموهُ حجةٌ عليكم؛ لأَنَّ مَنْ رأى أبا حنيفةَ واتبَعَ مذهبَهُ صاحبٌ لَهُ، وإنْ [لم] يكنْ فقيهاً مبرّزاً، وكذلك أكبرُ رتبةِ الصحبةِ اتِّباعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مِلَّتِهِ، وبما دعا إليه، وطَلَبُ الأَقصى لا وجهَ لَهُ. فصلٌ قالَ أصحابُنا: فإنْ قالَ مَنْ عاصرَ النبيَّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ: أنا صحابىّ، قُبِلَ منه، كما لو قالَ غيرُهُ: هذا صحابيٌّ؛ لأنَّ قولَه الظاهرُ صدقُه فيه، فهو كقول غيرِهِ فيه. فإنْ قيلَ: قولُ الغير لا يُتهمُ فيه، وقولُهُ لنفسِهِ إثباتُ رتبةٍ، فهو متهمٌ فيها، كما نقولُ في الشَّهادةِ: يشهدُ لغيرِهِ، ولا يشهدُ لنفسِهِ، ولا لمن يجري مَجْرى نفسِه، كولَدِهِ. قيلَ: باطلٌ، [وهو] كخبرٍ يتضمَّنُ نفعاً لراويهِ، فإنه يقبلُ ولا يردُّ، كما لو تَضمَّنَ إيجابَ حقٍّ عليه. فصلٌ إِذا قالَ الصَّحابيُّ أوِ التابعيُّ: كانوا يفعلونَ كذا، حُمِلَ على الجماعةِ

- فصل في شبهة بعض من خالف في ذلك

دونَ واحدٍ منهم، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ، وذلك مثلُ قول عائشةَ: كانوا لا يقطعودنَ فِى الشَّيءِ التَّافهِ (¬1)، وقولِ إبراهيمَ النَّخَعيًّ: كانوا يحذفون التكبير حَذفاً، فيكونُ هذا حكايةً عن جماعتِهم، لا سيَّما وظاهرُ الأمرِ فيه: أنهم أخرجوه مخرجَ الحُجَّةِ والإسنادِ إلى قولِهم، والحجةُ إنَّما تكونُ راجعةً إلى ما أجمعوا عليه دونَ ما قاله الواحدُ منهم؛ ولأَنَّ في إسقاطِ الباقينَ إهمالاً لهم، وليس في الصَّحابةِ مَنْ يُهمَلُ أمرُه إلى حدٍّ لا يُذكرُ، ويُذكَرُ غيرُه. فصلٌ في شبهةِ بعض مَنْ خالف في ذلك قالَ: لو كانَ هذا عبارةً عن جماعتِهم لما سَاغَ الاجتهادُ في ذلكَ، ولمَّا سَوَّغْتُم الاجتهادَ، دلَّ على أنَّ القولَ عادَ إلى بعضِهم. والجوابُ: إنما سوَّغْنا الاجتهادَ، لأنَّ الطريقَ ظنيٌّ وليسَ بقاطعِ، فهو كخبرِ الواحدِ عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - لا يوجبُ قطعاً لأجلِ الطرَّيقِ، لا لأنَّ قولَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسُوغ في خلافِهِ الاجتهادُ. فصلٌ إذا قالَ الصَّحابيُّ: قالَ رسولُ اللهِ كذا وكذا، حُكِمَ بأَنه سَمعَ ذلكَ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شبية في "مصنفه " 9/ 476 - 477. وانظر "نصب الراية" 3/ 360.

- فصل في الدلالة على ما ذهبنا إليه

من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ويصيرُ كقولِهِ: سمعتُ ذلكَ من رسولِ اللهِ، أو كقولِهِ: حدَّثني رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وحكيَ عن أبي بكرٍ بن الطيبِ الأشعريِّ: أَنَّه لا يحكم بأنه سمع ذلكَ منه، بل يجوزُ أنْ يكونَ بينهما واسطةٌ (¬1). فصلٌ في الدلالةِ على ما ذهبْنا إليه إنَّ الظاهرَ من قولِهِ: قالَ، أنَّه سمعهُ منه ومن قولِهِ، كقولِهِ: قامَ رسولُ الله، ودخلَ رسولُ اللهِ، وتزوَّجُ رسولُ اللهِ، وباعَ رسولُ اللهِ، فإنَّهُ يكونُ الظَّاهرُ أَنهُ رأى ذلكَ منهُ، كذلكَ قولُهُ: قالَ، الظاهرُ أَنَّهُ سمع ذلكَ منه. فصلٌ في شبههم قالوا: قد يَقْطعُ القَوْلَ لِثِقَتِهِ إلى الواسطةِ فيما بينَه وبينَ رسولِ اللهِ، إمَّا لكثرةِ عددٍ، أو لعدالةِ الراوي وورعِهِ، ولهذا قلتم في المرسل: إذا قالَ الرَّاوي: قالَ رسولُ اللهِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 3/ 999. (¬2) يعني أن صورة الخبر المرسل أن يقول من لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله. انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 123.

* فصل إذا روى جماعة من الثقات حديثا وانفرد أحدهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه، وجب الأخذ بزيادته

والجوابُ: أَنه (¬1) بتركِ الواسطةِ يُوهمُ بل يعطي أَنَّه سمعهُ، فلا يجوزُ أن يظنَّ بالراوي أَنْ يأتيَ بلفظٍ يوهمُ، ويتركَ اللًفظَ الذي يزيلُ الوهمَ. فصلٌ إذا روى جماعةٌ من الثِّقاتِ حديثاً، وانفردَ أَحدُهم بزيادةٍ لا تُخالفُ المزيدَ عليهِ، مثل إنِ اتَّفقوا على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلَ البيتَ، وانفردَ أَحدُهم بزيادةٍ فقالَ: دخلَ البيتَ وصلَّى، وكذلكَ لو أَرسَلوُه كلّهم وأسندَهُ واحد، وكذلكَ لو أَوقفوه كلّهم على صحابي ورفَعَهُ واحدٌ إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، كانَ المسنِدُ والرافع والراوي للزيادةِ مقدَّماً، وكانَ [يَجِبُ] (¬2) الأخذُ بزيادتِهِ وإِسناده ورفعه. نصَّ عليه أحمد في عدَّةِ مواضعَ، فقالَ: الزَّائدُ أولى، والمثُبِتُ يشهد على النبيِّ بالإثباتِ فهو أوكد. وبهدْا قالَ جماعة [الفقهاء] (1) والمتكلمين. وذهبَ جماعةٌ منْ أصحابِ الحديثِ إلى أَنَّ التفرِّدَ بالروايةِ عنِ الجماعةِ مردود، وأبداً يقولونَ في الردِّ: تفرَّدَ بِهِ فلان، وعن أحمدَ مثلهُ، فيكون في المسألةِ روايتانِ، لأَنَّة قالَ في الحجَّاج بنِ أَرْطاةَ: هوَ مِنَ الحفَّاظِ، قالوا له: فَلِمَ هو عندَ النَّاسِ ليسَ بذأكَ؟ قالَ: لأَنَّ في حدييهِ زيادةً على حديث النَّاس [ما]، يكادُ له حديثٌ إلاَّ فيه زيادةٌ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن". (¬2) ليست في الأصل. انظر "العدة" 3/ 1006.

- فصل في دلائلنا على ذلك

فصلٌ في دلاِئِلنا على الروايةِ الأولى فمنها: أنَّ جماعةً لو رَوَوْا أَحاديثَ في حكمٍ منَ الأحكامِ، واتَّفقُوا على نَقْلِها، وانفردَ واحد بروايةِ حديثٍ يَتَضَمَّنُ حكماً زائداً على الأحكامِ التي اجتمعوا على نقلِها، عملنا بالخبر الذي رواه الواحد، كذلك الزيادة في الخبر الذي أجمعوا على نقله دونَ الزيادةِ، إنَّ الذي أوْجبَ الثقةَ بِهِ في الخبرِ الذي انفردَ بروايتهِ، هُوَ المعْنَى الذي أَوْجَبَ العملَ بقولِهِ في هذه الزيادةِ: وهي عدالتُهُ وحفظُهُ للحديثِ. ومنها: أَن الشَّهادةَ نوعُ خبرٍ، وهي آكدُ منْ حيثُ اعتبارُ العدد فيها، والعدالةِ الباطنةِ في بعضِها، والذكورةِ والحريةِ، ثُمَّ إنَّ ألفَ عدْلٍ لو شَهِدُوا بأنَّ لَهُ عليه ألفاً، وشهدَ شاهدانِ بألفينِ، حُكِمَ بالزيادةِ، كذلكَ [في الخبرِ مثلُه] (¬1). ومنها: أَنَّ السَّامع للزِّيادةِ يجوزُ أنْ ينْساها بعدَ أَنْ حَفِظَها، أو يَذهَلَ عن حفظ الزيادة فلم تَنضَبِطْ لَهُ، فأَمَّا أَنْ يَتَخَيَّلَ لَه زيادةً ويرويَها، هذا ممَّا لا يُظنُّ بالعدلِ الثقةِ، بلْ ما شَكَّ فيهِ يسكُتُ عنهُ، فلمَّا أقدمَ على روايَتها دلَّ على أَنَّهُ ضبطَها وتَحَقَّقَها. ومنها: أَنَّ الصَّحابةَ -رضوانُ اللهِ عليهم- لم ينكِرُوا الشُّذوذَ المرويةَ في القراءاتِ، فنُقِلَ ما انفردَ بهِ ابنُ مسعودٍ وأُبيٌّ، مَعَ كونِ القرآنِ احمَدَ من السُّننِ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين من "العدة" 3/ 1010.

- فصل في الأسئلة لهم على أدلتنا

فصلٌ في الأسئلةِ لهم على أدلتنا فمنها: أَنَّ أحمدَ صاحب مقالتِكم لمْ يأخذْ بالزِّيادةِ، فإنَّه روى عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ أعْتَقَ شِخصاً لَهُ من عبدٍ، قُوِّم عليه نصيبُ شريكِهِ ثم يعتق" (¬1)، وانفردَ ابنُ أبي عروبةَ فروى: "مَنْ أَعْتَقَ شركاً له في عَبْدٍ اسْتسْعيَ العبدُ غيرَ مشقوقٍ عليه" (¬2). فقالَ أحمدُ: حديثُ الاستسعاءِ يرويه ابنُ أبي عروبةَ، فأمَّا هشام وشعبة فلم يذكروه، ولا أَذْهب إلى الاستسعاء (¬3). وأَمَّا اَلشَّهادةُ، فيجوزُ أَنْ يكونَ أَقرَّ بألفٍ بمحضرٍ من جماعة شهود، وأَقَرَّ بألفَيْنِ في مجلسٍ آخرَ فيه شاهدانِ. وأَمَّا الخبرُ المنفردُ، فمنفصلٌ عن روايةِ الجماعةِ، وأَمَّا الزِّيادةُ في الخبرِ الواحدِ الذي اتفقتِ الجماعةُ على روايتِهِ من غير زيادةٍ وانفردَ الواحدُ بروايةِ الزيادةِ، فيَبعُدُ أَنْ تكونَ الزِّيادةُ مسموعةً، ولهذا رجِّحَ بالكثرةِ على خبرِ الواحدِ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (397)، والبخاري (2522)، ومسلم (1501)، وأبو داود (3940) والنسائي في "الكبرى" (4957)، وابن ماجه (2528) من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه أحمد (7468)، والبخاري (2492) (2527)، ومسلم (1503) (4)، وص 1288 (55)، وأبو داود (3938) و (3936)، والترمذي (1348)، والنسائي في "الكبرى" (4962) (4963)، وابن ماجه (2527) من حديث أبى هريرة. (¬3) انظر "المغني " لابن قدامة 14/ 359، و"العدة" 3/ 7، 100 - 1008.

- فصل في الأجوبة عن الأسئلة

فصلٌ في الأجوبةِ عنِ الأسئلةِ أمَّا قولُ أحمدَ في زيادةِ الاستسعاءِ، فليست من قِبَلِ المَزيد عليه، بلْ هي مخالفةٌ له، وهذا ليس ممَّا وقعَ الخلافُ فيهِ في هذا الفصلِ، فقدَّم ورجَّح روايةَ غير ابنِ أبي عَرُوبةَ بكثرةِ الرُّواةِ، وعَدَلَ عن روايةِ الاستسعاءِ لانفرادِ ابنِ أبي عروبةَ بها، ونحنُ في زيادةٍ لا تخالفُ المزيدَ فيهِ، ويحتملُ أَنْ يكونَ قالَهُ على تلكَ الرِّوايةِ الأخرى، فيكونُ مذهباً آخرَ، والمذاهبُ لا يُحَاجُّ بعضُها بعضاً. وأمَّا ما اعتذَروا بهِ في الشَّهادةِ من تجويزِ أَنْ يكونَ الإِقرارُ بأَلفينِ في مجلسٍ آخرَ فموجودٌ في الزِّيادةِ، وأنْ يكونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعادَ الخبرَ في موطنٍ آخرَ، فزادَ تلكَ الزِّيادة، فسَمِعَها الواحدُ، فرواها. وأمَّا اعتذارُهم في الخبرِ الذي انفردَ بِهِ، وأنه لم يَشهَدْ ما شَهِدَه الجماعةُ، والزيادةُ في الخبرِ الذي سمعوه مَعَهُ بخلافِ ذلكَ، ليسَ بعذرٍ صحيعِ، لأَنَّ التخصصَ بالحفظِ غيرُ مُنكَرٍ في الوجودِ، وكما يجوزُ الانفرادُ بسماع الخبرِ من أصلِهِ، يجوزُ أَنْ ينفردَ بحفظِ الزِّيادةِ دونَ الجماعةِ، أَلاَ تَرى أَنه يجوزُ أنْ ينفردَ بالحفظِ لأجلِ الحديثِ وإنْ شاركَهُ غيرُهُ في السَّماع، فكذلكَ الزِّيادةُ. فصلٌ في حميع شُبَههم فمنها: أَنَّ الذي نَقَلَهُ الجماعةُ متحققٌ، والأصلُ نفيُ الزِّيادةِ، فلا يُتركُ

التحققُ والأصلُ الذي يَعضُدُ روايتَهم لخبرِ الواحدِ. ومنها: أَنَّ الثِّقةَ بالجماعةِ أوفى، والظاهرُ أَنَّ الأمرَ ينضبطُ للجماعةِ ولا ينضبطُ للواحدِ، فلا يجوزُ تركُ ما روته الجماعةُ، والأخذُ بالزِّيادةِ عليه بروايةِ واحدٍ لعلَّهُ سها أو أخْطَأَ فتحمَّلَ الزيادةَ. ومنها: أَنَّ الواحدَ إذا زادَ فقد خَالَفَ أهلَ الصِّناعةِ، فأُلْغِيَ قولُه، كما لو اجتمَعَ المقوِّمُونَ على قِيْمةِ مُتلَفٍ، وخالَفَهم واحدٌ بزيادةٍ في القيمةِ [فلا يُؤخذ] بتقويْمِهِ. ومنها: أَنَّ بعضَ الرُّواةِ قدْ يسمعُ الحديثَ فيفسِّرُهُ ويتأَوَّلُهُ، فَسُمِعَ عنه التأويلُ والتفسيرُ فرُوِيَ عنْهُ معَ التفسيرِ فيصيرُ زيادةً، وهذا قَدْ وُجِدَ مثلهُ، فإنَّ ابنَ عباسٍ وأبا هريرةَ رَوَيَا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُغْسَلُ الإناءُ من وُلوغ الكلبِ سَبْعاً" (¬1) قالَ ابنُ عباسٍ وأبو هريرةَ: والهرِّ (¬2). وروى ابنُ عباسٍ: "أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام قبلَ أَن يُستَوفى (¬3) قالَ ابنُ عباسٍ: ولا أحسبُ غير الطعامِ إلاّ كالطَّعامِ. فأدرجه بعضن الرُّواةِ في كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلكَ ما رُوِيَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا زادتِ الإبلُ على مئةٍ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 148. (¬2) انظر: "سنن " أبي داود (72)، والتر مذي (91) من حديث أبي هريرة. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 150.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

وعشرينَ استُؤْنِفَتِ الفريضةُ" (¬1) فَظنَّ الراوي أَنَّ الاستئنافَ إعادةُ الفرض الأولِ في المئةِ الأولى، فقالَ: في كلِّ خمسٍ شاة، فادرجَ في كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كانَ كذلكَ، وَجَبَ التوقّفُ في الزِّيادةِ، وعمِلَ. بما رواه الجماعة. فصلٌ في الأجوبةِ عن شُبَههم فَأَمَّا تعلّقُهم بالأَصْلِ والكثرةِ، فنحنُ أبداً ننقلُ عَن الأصلِ الثَّابتِ بدليلِ العقلِ بخبرِ الواحد المظنون، اعتماداً على أنَّ وجوب العمل به مقطوع، ولأنه قد ينفرد الواحدُ بالقربِ منْهُ في مجلس فيَسمَع (¬2) ما لم يسمعْهُ مَنْ بَعُدَ عنه، ويحتملُ أَنْ يَنْفَرِدَ بجَودةِ الحِفْظِ، ويحتملُ أَنْ يكونَ شُغْل عَرَضَ لجماعةٍ بداخلٍ دَخَلَ، أو مُسلِّمٍ سَلمَ وهذا الواحدُ ناصتٌ مصغ لم يلتفتْ إلى الشُّغلِ الذي شغلهم. هذا كلّه مِنَ الممكنِ، وقد يستوونَ في السَّماع والحفظِ، ثُمَّ ينفردُ الواحدُ باستدامةِ الحفظِ، ولايستديمُ الباقونَ حفظَ أصلِ الخبرِ فضلاً عَنِ الزِّيادةِ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "المراسيل" (257) ومن طريقه البيهفى في "الكبرى" 4/ 94، وقال أبوداود: اسند هذا ولا يصح، رواه يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أييه عن جده. (¬2) في الأصل: "يسمع".

وأَمَّا تعلّقُهم بأَنه خَالَفَ أهلَ الصِّناعةِ، فلأ يجوز أَنْ يُطلَقَ على الحفظ والرِّوايةِ بأنَّها صناعةٌ يُقَدَّمُ الحاذقُ فيها (¬1) على غيرِهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ المستَهدِف لحفظِ الأحاديث ونقلِها لا يُقدَّمُ إمساكه وعدم علمِهِ بحديثٍ رواه واحدٌ ليسَ من أهلِ الصناعةِ، بلْ يجبُ على الحافظِ المستهدِفِ لهذا العلمِ أنْ يعملَ بروايةِ الثِّقةِ فيما يرويهِ لَهُ، وإنْ لمْ يكنْ حافظاً للحديثِ، ولا مكثراً لرواييهِ، وفارقَ التقويمَ، فإنَّهُ نوعُ موازنةٍ، وإذا اتفقَ المقوِّمونَ في رؤيةِ العينِ المقوَّمةِ، وإدراكِها بصفاتِها، والإحاطةِ. بمعانِيْها الخاصَّةِ التي توازيها الأَثمانُ، غَلَبَ على الظَّنِّ أَنَّ العددَ الأكثرَ هم المصيبونَ في القيمةِ، وأنَّ المكثرَ للقيمةِ تخيَّل زيادةَ قيمةٍ لِمَا خُيِّلَ إِليهِ منْ جَودةٍ أو صفةٍ أَعطاها ظنُّهُ من التقويمِ ما لا تُساوي. فأَمَّا الزيادةُ في مسألتِنا، فإنَّها لفظٌ مسموعٌ وقولٌ مدرَكٌ، فلا يدخلُ التخيُّلُ والاشتباهُ في الإِثباتِ، فأمَّا الذُّهولُ عنْ أصلِ الحفظِ، والنسيانُ بعدَ الحفظِ، فمجوَّزٌ على الجماعةِ. وأما قولهم: إنَّ الراويَ قد يفسِّر تفسيراً يزيد به في لفظ الخبر، فيظنُّ السَّامع أنَّها من جملةِ الخبرِ، فليس بكلامٍ لازمٍ؛ لأنَّه وإنْ جاز ذلكَ، إلاَّ أنَّ الظَّاهرَ أنَّه لا يُدرِجُ في كلامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما ليس منه، ولو عَوَّلْنا على مثلِ هذا، لكان الشَّكُّ واقعاً في جميع الأَخبارِ، فالذي أَجْمعوا عليه يكون زيادات فسَّرها روأتُها، فظنَّ السَّامعونَ لها أَنها منْ أَصْلِ الحديثِ، وليست كذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل: "منها".

* فصل إذا سمع خبرا فأراد أن يروي بعضه ويترك بعضه

وأمَّا المنفردُ بزيادة قِيمةٍ على جماعةِ المقوِّمين، فالتقويم ظنٌّ واجتهادٌ، وآنئذٍ الخطأُ في جانب الواحد، وهو عن الاثنينِ أبعدُ، فأمَّا البيِّنةُ، فلا يغلطُ الإنسانُ، فيروي ما لم يسمع، وما لم يشهد. فصل إذا سمع خبراً فأرادَ أنْ يرويَ بعضَه ويتركَ بعضَه، ففيه تفصيلٌ: فإنْ كانَ يتضمَّن أحكاماً يتعلَّقُ بعضها ببعضٍ، لم يجزْ أَنْ يفصلَ ويقطعَ البعضَ عن البعضِ ويرويَه، مثل قولِهِ: "نهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعامِ" (¬1)، ويقطعُة عنْ تمامِهِ وغايتهِ وهو قولُه: "حتى يَحُوزَهُ التّجارُ إلى رِحالِهم"، فيتغيَّرُ الحكمُ بروايةِ بعضِهِ. وأمَّا ما يكون فيهِ حُكمانِ لا تعلُّقَ لأحدهما بالآخرِ، مثلُ قولِهِ: "لا جلبَ ولا جنبَ" (¬2)، فيروي ذلكَ في السِّياقِ ويحذفُ قولَهُ: "ولا شغارَ" فجائزٌ، وكذلكَ: "جَرحُ العَجماءِ جُبَارٌ، والرجلُ جُبَارٌ" (¬3) ولا يروي "وفي الرِّكازِ الخُمس"؛ لأَنَّ كلَّ حكمٍ مِنْ هذهِ مستقلّ بنفسِهِ، فيصيرُ كُلُّ حكمٍ. بمثابةِ الخبرِ القائِمِ بنفسِهِ معَ خبرٍ آخر، لا يلزمُهُ أنْ يروي الخبرينِ، كذلكَ الحُكْمان (¬4) في الخبرِ الواحدِ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 150. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 51. (¬3) تقدم تخريجه 3/ 413. (¬4) في الأصل: "الحكمين".

وقد سئِلَ صاحبُنا أحمدُ- رضي الله عنه- عَنِ الرَّجلِ يحتاجُ إلى الكلمةِ منَ الخبرِ فقالَ: أرجو أنْ لا يكونَ عليهِ شيءٌ إذا اقتصرَ لطولِ الخبرِ. وقدْ ذكرَ أصحابُه عنه أنَّهُ كانَ يُخرِّجُ منَ الأحاديثِ بقَدْرِ حاجتِهِ ويتركُ الباقي (¬1). وذكرَ الأثرمُ فِى كتابِ "العللِ": أَنَّ أبا عبدِ اللهِ ذُكِّرَ بحديثِ طَلْقِ بنِ علي في المسكرِ الذي ذكرَ فيه: "ولا يشربه رجلٌ ابتغاءَ [لَذَّة] سكرٍ" (¬2) فقالَ: ربَّما تركْتُ هذهِ الكلمةَ، وهي "ابتغاءَ لذةِ سكرٍ"، مخافةَ أن يتأوَّلوها على غيرِ تأويلِها. وقالَ أَحمدُ: لا نَرى بأساً باختصار الأحاديثِ. فوجهُ المنع من روايةِ البعضِ فيما يتعلقُ بعضُه ببعضٍ، أَنَّ فيه تغييراً لحُكمٍ حتى إنْ كانَ شرطاً، أو غايةً، أو استثناءً، بقطْعِهِ عنْ شرطِهِ وغايتهِ، بطلَ المقصودُ بِهِ، حتى إِذا رَوى: "نهى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ بيع الثمرِ" (¬3) وتَرَكَ "حتى يُزْهِيَ"، و"نهى عن بيع الطعام" وترك "حتى يَحُوزَهُ التُّجارُ إلى رِحالِهم"، غَيَّرَ حكمَ اللهِ في بيع الثمارِ، وبيع الطَّعامِ، وحكمُه سبحانَه ¬

_ (¬1) انظر "العدهَ" 3/ 1015 - 1016. (¬2) أخرجه أحمد في "الأشربة" (32) وابن أبي شيبة 8/ 102، والطبرانى في "الكبير" (8259)، قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 70: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات. (¬3) أخر جه أحمد 3/ 221، 250، وأبو داود (3371)، والتر مذي (1228)، وابن ماجه (2217) وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 340، من حديث أنس.

* فصل في تراجيح الألفاظ إذا تقابلت، ولم يمكن الجمع وجب ترجيح ما يظهر فيه التأكيد إما في الإسناد أو المتن

النهيُ عن بيعِهما قبلَ الغايتينِ المذكورتينِ فيهما. ووجهُ جواز روايةِ البعضِ، إذا كانَ بعضُ الحديثِ حكماً مستقلاً: أنها روايةُ حكمٍ مستقلِّ بنفسِهِ، فلا تقفُ روايتُه على ضَمِّ روايةِ حكمٍ آخرَ إليه، كما لو كانَ الحكمانِ في خبرينِ. ووجهُ استحبابِ روايةِ الحديث كلِّهِ أَنَّ النيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "نَضَّرَ الله امرأً سَمِعَ مَقالَتِي فَوَعَاها، فأَدَّاها كما سَمِعَها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أَفقَهُ منه" (¬1). فصلٌ في تراجيع الألفاظِ إذا تقابَلَتْ، ولم يمكنِ الجمعُ، وَجَبَ ترجيحُ ما يظهرُ فيهِ التأكيدُ، إمَّا في الإسنادِ أوِ المتن (¬2). فأمّا ترجيحُ إلإِسنادِ، فمن عشرةِ أوجهٍ وفي الحادي عشر روايتان، وأمّاَ ترجيح المتن، فالوجه جوازه من وجوه يأتي ذكرُها في فصل يجيء بعدَ هذا الفصلِ إنْ شاء الله. فأمَّا أوَّلُ وجوهِ الترجيح في الإسنادِ: فكثرةُ العددِ، نَصَّ عليهِ أحمدُ، فقالَ في فسخ الحجِّ إلى العمرةِ أوذُكِرَ له، حديثُ بلالِ بنِ الحارثِ: "لنا خاصةً" (¬3): إلا أَنَّ أحدَ عشرَ من أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يروونَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 7. (¬2) انظر "العدة" 3/ 1019 وما بعدها. (¬3) أخرجه أبو داود (1808)، والنسائى 5/ 180، وابن ماجه (2984) من =

- فصل في جمع أدلتنا على ذلك

[الفَسْخَ] (¬1)، أينَ يقعُ بلالُ بنُ الحارثِ منهم؟ وبِهِ قالَ أصحابُ الشافعيِّ. واختلفَ أصحابُ أبي حنيفةَ (¬2)، فذهبَ الجُرْجانيُّ، وأبو سفيانَ السَّرخسيُّ إلى أنهُ يُرجَّحُ بكثرةِ الروأةِ، وحكى أبو سفيانَ عن الكَرْخيِّ أَنَّه لا يرجح بذلكَ. فصلٌ فى جمع أدلَّتنا فمنها: ما رويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لمَّا قالَ لهُ ذو اليدينِ: أَقصرَتِ الصلاةُ أمْ نَسِيتَ (¬3)؟ لم يرجعْ إلى قولِهِ حتَّى أخْبَرَهُ بذلكَ أبو بكرٍ وعمرُ، ولمَّا روى المغيرةُ لأبي بكرٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أطعمَ الجدَّةَ السًّدسَ (¬4)، طلبَ الزِّيادةَ، فشهدَ بذلكَ محمدُ بنُ مَسلَمةَ فقَضَى به، وهذا يدلُّ على أنَّ ¬

_ = حديث بلال بن الحارث قال: قلت: يارسول الله، فَسْخُ الحجِّ لنا خاصةً أو لمن بعدنا؟ قال: "بل لكم خاصة". وإسناده ضعيف. (¬1) انظر "العدة" 3/ 1020، و"نيل الأوطار" 4/ 347، و"زاد المعاد" 2/ 178 - 179. (¬2) انظر "الفصول" 3/ 162، و"أصول السرخسى" 2/ 224، و"كشف الأسرار" 3/ 102. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 550. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 117.

- فصل في شبهات المخالفين

الخبرَ يقوى إسنادُهُ بزيادةِ العددِ ويرجَّحُ بذلكَ. ومنها: أَنَّ الجماعةَ أضبط وآكدُ حفظاً، فإنَّ الواحدَ لو نَسيَ ذكَّره الآخرُ، والظَّاهرُ أَنَّ ثقةَ النَّفْسِ إلى قولٍ تَضافَرَ على نقلِهِ جماعةٌ، أَوْفى من ثقتِها إلى الواحدِ المجوَّزِ عليه الخطأُ والنِّسيانُ، وقد أشارَ سبحانَهُ إلى ذلك بقوله: {فرجلٌ وامرأتانِ} إلى قولِهِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فكانَ خبرُ الجماعةِ آكدَ لكونِهِ أقربَ إلى الحفظِ والضَّبطِ، وأبعدَ منَ الغلطِ والسَّهوِ. ومنها: أنَّ للأعلمِ الأتقنِ زيادةً، فالجماعةُ أحقُّ؛ لأنَّ لهم عدةَ أراءٍ وعقولٍ تضبطُ وتحفظُ. ومنها: أنَّ الله سبحانَه جعلَ الحدَّ الواجبَ بالزِّنى مِنْ أَكبرِ الحدودِ وآكدها، وجعلَ الشَّهادةَ عليه أكثرَ عدداً من كلِّ شهادةٍ، فدلَّ على أَنَّ كثرةَ العددِ تقوِّي في النًفسِ صحَّةَ الأخبارِ، وتؤكِّد الثِّقةَ بها. ومنها: أَنَّ كثرةَ وجوِه الشَّبَهِ تؤكِّدُ القياسَ، كذلكَ الأخبارُ إذا كثرت رواتُها غلبَ على الظنِّ [صِحَّتُها]. فصل في شُبُهات المخالفِ فمنها: أَنَّ خبرَ الواحدِ وخَبر آحادٍ عندَهُ سواءٌ في موجَبِهما، وهو الظَّنُّ، وإذا كانَ الحاصلُ بهما واحداً، وهو الظنُّ، فلا وجهَ لترجيح أحدِ المتساويينِ على الآخرِ.

- فصل في أجوبتنا عن شبههم

والدليلُ على ذلكَ من أصولِ الشَّريعةِ الشَّهادةُ بالأحكامِ، فالحقوقُ والأفعالُ التي تترتبُ عليها الغراماتُ والعقوباتُ، فإنَّه لو أقامَ أحدُ المتداعيين شاهدَيْنِ، وأقامَ الآخرُ. بما يدَّعيهِ أربعةً لم يرجح، والعِلًةُ في ذلكَ ما ذكرَ من تساوِيْهما في الموجَبِ، وهو غلبةُ الظنِّ، كذلكَ هاهنا ولا فرقَ، إذ كلُّ واحدٍ منهما خبرٌ يَنْبَني عليهِ حكمٌ شرعيٌّ. ومنها: أَنًا أجمعْنا على أَنَّ الحادثةَ إذا اختلفَ في حكمِها أهل الاجتهادِ، فأَفتى قومٌ بإباحةٍ، وقومٌ بحظرٍ أو إيجابٍ وإسقاطٍ، فكانَ عددُ المُفتِينَ بأحدِ الحكمينِ أكثرَ عدداً، لم يترجَّح الحكمُ بالعددِ، كذلكَ في بابِ الأخبارِ ولا فرقَ. فصلٌ في أجوبتنا عن شُبَههم فأَمَّا الأوَّلُ، وأنَّها تَساوَتْ في الظَّنِّ فلَعَمْري، لكنَّ غلبةَ الظنِّ بقول الأكثرينَ وروايتهم آكدُ في النَّفسِ، وأوقَرُ في القلبِ؛ ولهذا تُحدِثُ الكثرةُ ما لا يكون معَ القِلة، وهو أنَّها تنتهي إلى العلمِ القَطْعيِّ إذا صدرتْ في خبرِ التواترِ، وتمتازُ علَى ما يحصلُ بالآحادِ، وكذلكَ الواحدُ معَ الجماعةِ يستويانِ في رتبةِ الظنِّ في الأصلِ، لكنَّ الكثرةَ تُحدِث في النَّفسِ ما لا يجدُهُ الإنسانُ في خبرِ الواحدِ، ولهذا أثرت شهادةُ الأربع ما لم تؤثرْ شهادةُ الاثنينِ، فهذا يرجِّحُ القياسَ على القياسِ بكثرةِ الأشباهِ، وأَلْحَقَ الشيء بنظيرِه إذْ أشبَهه منْ وجهٍ، فإنْ ألحقهُ قائسٌ آخرُ بأصلٍ آخرَ مِنْ وجوهٍ كثيرةٍ وأشباهٍ عدةٍ، ترجَّحَ بها على القياسِ الذي أشبهَ الأصلَ الآخرَ من وجهٍ واحدٍ.

* فصل في الترجيح بكون أحد الراويين أتقن

وإنَّما لم تترجَّحِ الشَّهادةُ بكثرةِ العددِ، فقدْ كملَ فيما كثرةُ العددِ بقبولِ الأربع في حدِّ الزِّنى ورد ما دونهم، وما ذلكَ إلا إعطاءٌ للعددِ منزلةً (¬1) ورتبة لم يعطَها ما دونَه، على أَنَّ الشَّهادةَ تخالفُ الأخبارَ، ولهذا لا يُقدَّمُ فيها الأعلمُ، ولا الملابسُ للقصَّةِ، ولا الأقربُ إلى المشهود بِهِ من الحالِ. والخبر يُقدَّم [فيه] رواية الأعلمِ والأقربِ، كروايةِ عائشةَ في أحوالِ رسولِ اللهِ في بيتِهِ، وروايةِ حَمَلِ بنِ مالكٍ في أمر عمودِ الفُسطاط لما كانَ بالقصةِ خبيراً (¬2)، وإلى ما شاكلَ ذلكَ من الحفظِ والضَّبطِ والفقهِ، فجازَ أنْ يرجّحَ بالعددِ؛ لأَنه أقربُ إلى الضَّبطِ، وأبعدُ من الغلطِ والسَّهوِ. وأمَّا إسقاطُ التَّرجّحَ بالعددِ في بابِ الفتيا والاجتهادِ، فإنَّ قَبولَ المقلِّدينَ قولَ المجتهدينَ ليسَ بمعلومٍ، ولا هُوَ إلاّ محضُ التقليدِ، والمخبرُ يُؤَثرُ خبرُه ظناً لمنْ أخبَرَهُ، وكلما كَثُرَ عددُ المخبِرِينَ قَوِيَ الأثرُ في النَّفس، وبعد عن التُّهمةِ والشَّكِّ، وإنَّما يتحدّدُ العلمُ بالعددِ الذينَ يحصلُ بهم التواتُرُ، [و] قَدْ مضى التَّرجيحُ بالعددِ. فصلٌ في الترجيح بكونِ أحدِ الراويينِ أتقنَ؛ مثل أنْ يكونَ أحدُ الراويين ¬

_ (¬1) في الأصل: "ممنزلة". (¬2) لمانه كان زوج المرأتين، حيث قال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فقتلتها وجَنينها، فقضى النبي فِى جنينها بِغُرة عبدٍ، وأن تُقتل. أخرجه أحمد (3439)، وأبو داود (4572)، وابن ماجه (2641)، وابن حبان (6021) من حديث ابن عباس.

مالكاً أو سفيانَ، والراوِي للحديث الآخرِ المقابلِ زائدةَ أوعبدَ العزيز بن أبي حازم، فإنَّ حديث مالكٍ وسفيانَ مقدَّمانِ على حديثِ زائدةَ (¬1) وعبدِ العزيزِ (¬2)، قالَ أحمدُ: المُتَثبتُونَ في الحديثِ أربعة: سعيدٌ وسفيانُ وزائدةُ وزهير (¬3). وقالَ أيضاً: المشهورُ بالروايةِ أَولَى، ووجهُ ذلكَ أَن الأتقنَ والأحفظَ، النفسُ إلى روايَتهِ أسكنُ، والظنُّ بصحَّتِها أغلَبُ؛ لأَنَّهُ يكونُ عن السَّهوِ والشّبْهةِ أبعدَ. ¬

_ (¬1) هو: ابن قدامة التقفي، أبو الصلت، الكوفي، روى عن: أبي إسحاق السبيعي، والأعمش، وأبي الزناد، وغيرهم. روى عنه: ابن المبارك، وابن مهدي، وابن عيينة، وغيرهم. قال أحمد: إذا سمعت الحديثَ عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبى إسحاق. وثقه غير واحد، مات سنة ستين أو إحدى وستين ومئة، وقيل غير ذلك. "تهذيب التهذيب" 1/ 620 - 621. (¬2) هو: عبد العزيز بن أبي حازم عن سلمة بن دينار الخزومى، أبو تمام المدني الفقيه. روى عن: أبيه وهشام بن عروة، ويزيد بن الهاد وغيرهم، روى عنه: ابن مهدي، وابن وهب، والقعنبي، وغيرهم. وهو ثقة. مات سنة أربع وثمانين ومئة، وقيل غير ذلك. "تهذيب التهذيب" 2/ 583. (¬3) انظر كلام الإمام أحمد هذا في "تهذيب الكمال" 9/ 276، وزهير هو: ابن معاوية بن حديج بن الرُّحيل بن زهير بن خيثمة الجعفى، أبو خيثمة الكوفي، سكن الجزيرة. روى عن: أبى إسحاق السبيعي، وزُبيد، وعاصم، وغيرهم. روى عنه: ابن مهدي، والقطان، وعلي بن الجعد، وغيرهم. قال أحمد: كان من معادن الصدق. وثقه غير واحد. مات سنة اثنتين وسبعين ومئة، وقيل غير ذلك. "تهذيب التهذيب" 1/ 640 - 641.

- فصل في ترجيح رواية المباشر

فصل فإنْ [كان] أحدُ الراويينِ مباشراً لما رواهُ، كانَ مقدَّماً مرجَّحاً على روايةِ غير المباشرِ، وذلكَ مثلُ روايةِ أبي رافع: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نكحَ ميمونةَ وهوَ حلالٌ (¬1)، فإنّهُ أَولى من روايةِ ابنِ عباسٍ: أَنَّهُ نكحَها وهوَ حرامٌ (¬2)، لأَنَّ أَبا رافع كانَ السَّفيرَ بينَهما، والقابلَ لنكاحِها لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهوَ بذلكَ أَخبرُ مِمَّنْ لم يلابسِ الأمرَ ولَمْ يباشِرْهُ. فصلٌ فإنْ كانَ أحدُ الراويينِ صاحبَ القصَّةِ، كما رَوَتْ ميمونةُ: "تزوَّجَنيْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ حلالانِ" (¬3)، فإنَّه تُقدَّمُ روايتُها على روايةِ ابنِ عباسٍ؛ لأَنها أعرفُ بِعَقْدِهِ وَحَالِهِ حينَ عَقَدَ مِنْ غيرِها، لاهتمامِها بِهِ ومراعاتِها لحالِهِ ووقتِهِ. وخالفَ في ذلكَ الجُرْجانىُّ منْ أصحابِ أبي حنيفةَ، وقالَ: قدْ يكونُ غيرُ المُلابسِ أعرفَ بحالِ رسولِ اللهِ وأقربَ. وهذا بعيدٌ مِنَ القولِ؛ لأنَّ البعدَ منَ القصَّةِ يُبعدُ عن فهمِها وفهمِ حال مُلابِسِها في غالبِ الأحوال، فلا عبرةَ بما يَندُرُ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 6/ 392، والترمذي (841)، وقال: حديث حسن. (¬2) أخرجه أحمد (2393)، ومسلم (1410)، والطحاوي 2/ 269، وابن حبان (4133)، وابن سعد 8/ 135. (¬3) أخرجه أحمد 6/ 332 - 333 - 335، ومسلم (1411)، وأبو داود (1843)، والتر مذي (845)، وابن ماحه (1964).

- فصل في ترجيح رواية الأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم

فصلٌ فإنْ كانَ موضعُهُ أقربَ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فيكونُ أسمعَ لكلامِهِ ممن بَعُد عنه، فإنَّه تُرجَّحُ روايتُه على (¬1) روايةِ مَنْ بَعُدَ، مثل ما رُوِيَ في إحرامِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى قومٌ أَنَّهُ قَرَنَ (¬2)، وروى ابنُ عمرَ أَنَّه أفردَ، ثمَّ ذكرَ أَنَّهُ كانَ تحتَ ناقته حينَ لبَّى - صلى الله عليه وسلم -، وأَنَّهُ سَمِعَ إحرامَهُ بالإفرادِ (¬3)، فكانَ ذلكَ مقدِّماً ومرجِّحاً لروايتهِ على روايةِ مَنْ لم يكنْ مثلَهُ، وعلى حالِهِ مِنَ القُربِ. فصلٌ فإنْ كان أحدُ الراوينِ من كبارِ الصَّحابةِ، والآخرُ من صغارِهم، فإنَّ الكبارَ أقربُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهُ كانَ يقولُ: "لِيَلِيَني منكم أُولو الأحلامِ والنّهى" (¬4). فصلٌ وإنْ كانَ أحدُهما سَمِعَ مِنْ غيرِ حجابٍ، والآخرُ سَمِعَ مِنْ وراءِ حجابٍ، فإنَّ الذي سمِعَ منْ غيرِ حجاب أَوْلى ممَّنْ سمع من وراءِ حجاب، ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن". (¬2) انظر "مسند الإمام أحمد" (11958). (¬3) أخرجه أحمد (5719)، ومسلم (1231) (184)، والدارقطني 2/ 238، والبيهقي في "الكبرى" 5/ 4. (¬4) أخرجه أحمد (4373)، ومسلم (432) (123)، وأبو داود (675)، والترمذي (228)، من حديث عبد الله بن مسعود.

- فصل ترجح رواية الراوي عن غير كتاب

وذلكَ مثلُ حديثِ عروةَ بنِ الزبيرِ والقاسمِ بنِ محمدٍ عَنْ عائشةَ -رضيَ الله عنهَا-: أَنَّ بَرِيرةَ أُعتقتْ، وكانَ زوجُها عَبْداً (¬1). فيقدمُ على حديثِ أَسْودَ عن عاثشةَ: أَنَّ زوجَها كان حُرًّا (¬2)، لأَنَّهما سَمِعَا مِنْها مِنْ غَيرِ حجابٍ، لأَنَّها خالةُ عروةَ و [عَمَّة] القاسمِ، ومَنْ يسمعُ مِنْ غيرِ حجابٍ يشهدُ معَ النّطقِ الإشارةَ الدالةَ على المرادِ به. فصلٌ وإنْ كانَ أحدُهما يروي عن كتابٍ، والآخر عنْ غير كتابٍ، فالراوي عَنْ غيرِ كتابٍ مقدَّم ومُرجَّح (¬3)، وظاهرُ كلامِ صاحِبِنا أَنَّهما سواءٌ، فوجهُ قول صاحِبنا: إنَّ كتابَ رسولِ اللهِ كنُطْقِهِ؛ لأَنهُ جعلَ كتابَهُ بلاغاً قضى به حقَّ البلَاغ الذي أُمِرَ بهِ بقولِهِ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]. وقَدْ جَعَلَ أحمدُ الكتابَ الواردَ إلا جهَينة (¬4) يَنْهاهُمْ عَنِ استعمالِ جلودِ الميتةِ بعدَ الدباغ كقولِهِ (¬5)، وحَكَمَ بنسْخ ألفاظِهِ في الدباغ بالكتابِ. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 6/ 213، والبخاري (2563)، ومسلم (1504) (9)، وأبو داود (2233)، والترمذي (1154). (¬2) أخر جه أحمد 6/ 186، والبخاري (2536)، وأبو د اود (2916)، والترمذي (1256)، والنسا ئي 6/ 163. (¬3) في الأصل: "ويرجح". (¬4) في الأصل:"مزينة". (¬5) أخرجه أحمد 4/ 310 - 311، وأبو داود (4127) و (4128)، والترمذي =

- فصل إن كانت إحدى الروايتين مضطربة الألفاظ والأخرى غير مضطربة فغير المضطرب أولى

ووجهُ مَنْ قدَّمَ الألفاظ ورجَّحَها -وهو الجرجانيُّ الحنفيّ- أنَّ كتابَ القاضي إلى القاضي لا يعمل عملَ الشَّهادةِ باللَّفظِ في العقوباتِ، والألفاط تعمل لأَنَّ التغييرَ يتطرَّقُ على إلخَطِّ كالتزويرِ (¬1)، والألفاظُ لا يتطرق عليها ذلكَ. فصل فإنْ كانت إِحدى الرِّوايتينِ مضطربةَ الألفاظِ والأخرى غيرَ مضطربةٍ، فغيرُ المضطرَبِ أَوْلى؛ لأَنَّه يدلُّ على ضبطٍ وحفظٍ وثباتٍ في القلبِ على ما نَطَقَ بِهِ اللِّسانُ. واضطرابُ اللَّفظِ يدلُّ على اضطرابٍ في الحفظِ، ومثال ذلكَ كثيرٌ في الأخبارِ. فصل فإنْ كانت روايةُ أحدِها قد اخَتلَفتْ والأُخرى ما اختَلَفَتْ، فالتي لَمْ تختلفْ مقدَّمةٌ، ومِنَ الناسِ مَنْ قَالَ: ما اتَفَقا فيه يتساويانِ فيما اتفقا فيهِ، ويسقطُ ما اخْتَلَفا فيهِ. ومِنْهم مَنْ قَالَ: تتعارضُ الرِّوايتانِ وتسقطُ، ويعملُ بروايةٍ لم تختلفْ. وجهُ تقديمِ التي لم تختلفْ: أَنَّها دالةٌ على الضَّبطِ حسبَ ما قُلْنَا في التي لم تضطربْ. ¬

_ = (1729)، وابن ماجه (3613) من حديث عبد الله بن عكيم. (¬1) في الأصل: "والتزوير".

- فصل فإن كان أحدهما مسندا والآخر مرسلا، فالمسند أولى

فصلٌ فإنْ كانَ أحدُهما مُسنَداً والآخرُ مرسَلاً، فالمُسندُ أَولى، وقالَ الجرجانيُّ: المرسَلُ أَولى. وجهُ تقديمِ المسنَدِ: أَنَّ المرسَلَ مختلفٌ في كونهِ حجةً، ولا مستَدَلَّ على عدالةِ راويهِ (¬1) العَدْلِ الذي أَرْسَلَهُ، والسنَدُ معلومٌ عدالةُ رواتِهِ بِنفوسِهم، واعْتَلَّ الجرجانيُّ بأَنَّ المرسَلَ شَهِدَ راويهِ بقولِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شهادةَ قاطعِ، فقالَ: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فكانَ هذا أشدَّ ثقةً وآكدَ ممَّنْ عَزَاهُ إلى راويه تفويضاً إِليه، وتعويلاً عليه فِى حكاية القولِ عَنِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -. فصل فأمَّا إنْ كانَ أحدُ الراويين ممَّنْ تقدَّمَ إسلامُه، والآخرُ ممَّنْ تأَخَّرَ إسلامُه، فإنَّهُ لا تُقدَّمُ روايةُ متقدِّم الإسلامِ، وذهبَ بعضُ الشَّافعية إلى تقديم روايةِ المتقدم إسلامُهُ. مثلُ خبرِ قيسِ بنِ طلقٍ معَ خبرِ أبي هريرَة في الوضوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل "رواية". (¬2) أمَّا قيس بن طلق فقد روى عن أبيه طلق بن علي قال: خرجنا وفداً حتى قدمنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه وصلينا معه فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة؛ قال: "وهل هو إلا مضغة منك، أو بضعة منك". أخرجه أحمد 4/ 23، وأبو داود (183)، والتر مذي (85)، والنسائى 1/ 101، وابن ماجه (483)، والبيهقى في "الكبرى" 1/ 134 - 135، ونقل البيهقي عن =

* فصل في الترجيح في متن الحديث

والدلالةُ على أَنَّه لا يرجحُ بذلكَ أَنَّ سماعَ الكافرِ مِنَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع روايتَهُ حالَ إسلامِهِ، فلا وجه لترجيح رِوايةِ المتقدِّمِ إسلامُهُ. فصلٌ في الترجيحِ في متنِ الحديثِ (¬1) وذلكَ مِنْ وجوهٍ: أحدُها: أَنْ يكونَ أحدُ الحديثينِ قَدْ جَمَعَ بينَ النُّطقِ ودليلِهِ، كما قَدَّمْنا مِنْ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الشُّفعةُ فيما لم يُقسَمْ، فإذا وقعتِ الحدودُ، وصُرفتِ الرُّقُ، فلا شفعةَ" (¬2) فهذا آكدُ وأَقضى في البيانِ، لأَنَّه جمع بينَ إثباتِهَا في المشاع ونفيِها في المقسومِ، فهوَ آكدُ من خبرٍ يتضمَّنُ إِثباتَها في المشاع ويسكتُ فيهِ عَنِ المقسومِ. فصلٌ والاَخر: أنْ يكونَ أحدُهما قَوْلاً، والآخرُ فِعْلاً، فالقولُ أبلغُ في ¬

_ = يحيى بن معين أنه قال: قد أكثر الناس في قيس بن طلق ولا يحتج بحديثه. وأما أبو هريرة رضى الله عنه فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء". وأخرجه أحمد (8404)، والطحاوي 1/ 74، وابن حبان (1118)، والبيهقى في "الكبرى" 1/ 133. (¬1) انظر "العدة" 3/ 1034 و "شرح اللمع" 2/ 395 - 397. (¬2) تقدم تخريجه في 2/ 167.

- فصل أن يكون أحدهما قولا وفعلا والآخر قولا، فاجتماعهما أولى

البيانِ؛ لأَنَّ لَهُ صيغةً، ولا صيغةَ للفعلِ. فصلٌ والآخرُ: أن يكون أحدُهما قَوْلاً وفعلاً، والآخر قولاً، فيكون اجتماعهما أَوْلى. فصلٌ والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما لم يدخلْهُ التخصيصُ، والآخرُ دخلَهُ التخصيصُ، فيكونُ ما لَمْ يدخلْهُ التخصيصُ أَولى لأَنهُ أَقْوَى؛ لأَنَّ دُخُولَ التخصيصِ تضعيفٌ للْفظِ، ولهذا ذَهَبَ بعضُ النّاسِ إلى اُنَّهُ يصيرُ مجازاً. فصلٌ والآخرُ: أَنْ يكونَ قَدْ قُضِيَ بأحدِهِما على الآخَرِ في موضعِ، واختَلَفا في غيرِهِ، فيكونُ الذي قُضِيَ بهِ أَوْلى؛ لأَن القَضاء يدعم بحكمِهِ فيقوى بالعملِ. فصلٌ والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما مُطلَقاً والآخرُ وارداً على سببٍ، فإنَّهُ يُقصَر على سببهِ ويقدَّمُ المطلقُ عليه؛ لأن الوارد على سبب قَدْ ظهرتْ فيه أمارةُ التخصيص، فيكونُ أولى بإلحاقِ التخصيص بهِ.

- فصل أن يكون أحدهما مطلقا والآخر واردا على سبب، فالمطلق أولى

مثالُه: قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بدَّل دينَه فاقتلوه" (¬1)، فإنّه تقدَّم منه النَّهيُ عن قتلِ النِّساءِ، لأنَّ النهيَ واردٌ في الحربية، والأمر بالقتل قائمٌ في حقِّ التاركينَ للأديانِ. فصلٌ والآخرُ: أنْ يكونَ قَصَدَ بهِ بيانَ الحكمِ المختلفِ فيهِ فيكون أَولى، كما قدَّمنا قولَهُ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] على قولِهِ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] في تحريم الجمع بينَ الأختينِ في الوطءِ. مملكِ اليمينِ، لأنَّ قولَهُ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قصد به الزَّوجَ دونَ بيانِ الحكمِ. فصل والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُ المعنيينِ أظهرَ في الاستعمالِ، كما ذَكَرْنا في الحُمْرَةِ وأَنها أَظْهَر في الشَّفَقِ (¬2). فصلٌ الآخر: أَنْ يكونَ أحد التأويلينِ موافقاً لَفْظَة مِنْ غيرِ إضمارٍ، كما قُلْنَا في قولِهِ - صلى الله عليه وسلم - للمُرتَهِن: "ذهبَ حقّكَ" (¬3) يعني مِنَ الوثيقةِ دونَ الدَّيْنِ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 39. (¬2) تقدم في 2/ 563 و 3/ 234. (¬3) أخرجه ابن أبى شيبة 7/ 183، وأبو داود في "المراسيل" (188)، والطحاوي 4/ 102، والبيهقي 6/ 41، من حديث عطاء مرسلاً، وفي الإسناد إليه ضعف.

- فصل أن يكون أحدهما لا يوجب تخطة النبي لا ظاهرا ولا باطنا

ولم نحملْهُ على الدَّين؛ لأن حملَهُ على الدينِ يحتاج إلى إضمارٍ، وهو إذا كانَ بقدر قيمةِ الرَّهنِ. فصل الآخرُ: أَنْ لا يكونَ أحدهما يوجبُ تخطئةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الباطنِ، والآخرُ يتضمَّنُ إصابتَة في الظاهرِ وتخطئَتَهُ [في الباطن]، فالأولُ مقدَّمٌ ومرجَّحٌ؛ لأَنَّهُ تبعيدٌ له عن الخطأ، وهو الأَليقُ به وبحالِهِ - صلى الله عليه وسلم -. كما وَرَدَ في ضمان عليٍّ- رضي الله عنه- دينَ الميتِ، وقوله: هما عليَّ (¬1)، وأنه ابتداء ضمانٍ، وأَنَّ النبيَّ امتنعَ مِنَ الصَّلاةِ، [وكان] وقت الامتناع مصيباً فِى امتناعِهِ، فكانَ مقدماً على حملِهِ على الإخبارِ عن ضمانٍ سابقٍ يكشفُ عن أنَّه كانَ امتنعَ من الصَّلاةِ في غَيرِ موضِعِهِ باطناً. فصل الاَخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما إثباتاً والآخر نفياً، فيكون الإثباتُ أولى، كما قدَّمنا روايةَ بلالٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت وصلَّى (¬2)، على رواية اُسامة وأنَّه لم يصلِّ (¬3)، لأنَّ المثبت معه زيادةُ علم وإفادة ليست عند ¬

_ (¬1) أخرجه عبد بن حميد (893)، والدارقطني 3/ 78، والبيهقي 6/ 73، من حديث أبي سعيد الخدري. وهو حديث أسانيده ضعيفة انظر "التلخيص الحبير" 3/ 47. وأخرجه البيهقي 6/ 73، من حديث علي بن أبي طالب. (¬2) أخرجه البخاري (397)، ومسلم (1329) من حديث عبد الله بن عمر. (¬3) أخرجه البخاري (398)، ومسلم (1330) من حديث ابن عباس.

- فصل ما فيه زيادة مقدم على غيره

النَّافي، فهو كَمَنْ يروي والآخر لم يروِ، وابن عمر يقولُ: لم يقنتِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وغيره يقول: قنت (¬2)، وروى أنس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يخَضِب ولم يأنِ أنْ يخضبَ (¬3)، وغيره يقول: قد خَضَب (¬4)، فالذي يشهد على النبي ليس كمَنْ لم يَشهَدْ. فصل والآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما زائداً، كما قدمنا روايةَ الصَّاعِ على روايةِ مَنْ روى نصفَ صاعٍ، وروايةَ مَنْ روى خبر التكبيرِ سبعاً (¬5) في صلاةِ العيدِ على غيره أنَّه كبَّر أربعاً (¬6). فصلٌ الآخرُ: أَنْ يكونَ أحدهما متأخراً والآخر متقدِّماً؛ لأنَّ ابنَ عباسٍ قالَ: ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه عبد الرزاق (4954)، والطحاوي 1/ 148، عن ابن عمر موقوفاً. (¬2) أخرجه أحمد 3/ 113، والبخاري (1001)، ومسلم (677) (301)، وأبو داود (1444)، والنسائي 2/ 200، وابن ماجه (1184) من حديث أنس. (¬3) أخرجه البخاري (3550) ومسلم (2341) (104). (¬4) أخرجه أحمد 6/ 296، والبخاري (5896) (5897) (5898)، وابن ماجه (3623) من حديث أم سلمة. (¬5) أخرجه أبو داود (1149) (1151)، وابن ماجه (3629) (3630) مند حديث عائشه. (¬6) أخرجه أحمد 4/ 416، وأبو داود (1153) من حديث أبي موسى وحذيفة.

- فصل أن يكون أحدهما يوجب احتياطا للفرض وتبرئة الذمة

كُنَّا نَأنخُذُ مِنْ أَمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأحدت فالأحدثِ (¬1)، وإِنَّما كانَ كذلكَ لأنَّ الآخِرَ هُوَ الذي يَنسَخ دونَ الأولِ. فصل الآخرُ: أَنْ يكونَ أحدُهما يوجبُ احتياطاً للفرضِ وتبرئةَ الذمةِ، والآخرُ يوجبُ نفيَ الاحتياطِ، فالموجبُ للاحتياطِ مرجَّحٌ، لأنَّهُ يوجَبُ لأكبرِ المقاصدِ. فصلٌ الآخرُ: أنْ يكونَ أحدُهما حاظراً والآخرُ مبيحاً، فالحاظر مقدَّمٌ ومرجَّحٌ، أشارَ إليه أحمدُ في الأَخْذِ بالذي هو أهنأ وأهدى؛ وبِهِ قالَ الكرخيُّ والرازيُّ مِنْ أصحابِ أبي حنيفةَ، وذهبَ عيسى بنُ أبانَ إلى أنَّهما سواءٌ ويسقطان، ويرجعُ إلى حكمِ الأصلِ، لأنَّ في الحظرِ احتياطاً، لأنَّ تركَ المباح لا مأثمَ فيهِ، وفي ملابسةِ المحظورِ مأثمٌ، ولأَنهُ إذا اجتمعَ في العينِ الواحدةِ حظرٌ وإباحةٌ، قُدِّمَ الحظرُ، بدليلِ المتولِّدِ عن ما يؤكلُ وما لا يؤكلُ، وإذا اختلطَ المباحُ بالمحظورِ غلبَ الحظرُ. فصل في شبهة المخالف منها (¬2): أنَّ تحرج المباح كإباحة المحظور في باب الاعتقاد، فإنَّ كلَّ ¬

_ (¬1) تقدم في 2/ 355. (¬2) انظر "العدة" 3/ 1042.

- فصل في الأجوبة عن شبهاته

واحدٍ منهما يوجبُ كفرَ المعتقِدِ لما استقرَّ في الشَّرعِ خلافه، فلا وجهَ لتقديمِ أحدِهما ولا ترجيحِهِ. ومنها: أَنَّ الشَّيءَ الواحدَ يستحيلُ أَنْ يكونَ محظوراً على الواحدِ في وقتٍ، مباحاً له في ذلكَ الوقتِ، كما يستحيلُ اجتماعُ الضِّدَّينِ في المحلِّ الواحدِ، ولو شَهدَ شاهدانِ بأَنَّ فلاناً قَتلَ زيداً بمكَّةَ يومَ النحرِ، وشهِدَ آخرانِ أنَّه قتل عَمْراً ذلك اليومَ ببغدادَ، فإنَّ الشَّهادتينِ تسقطانِ لاستحالةِ اجتماع القتلينِ من الواحدِ في ذلك اليومِ، كذلكَ إذا رَوَى الواحدُ خَبَراً يعطي إباحةَ عين، وروى الآخرُ خَبَراً يقتضي تحريمَ تلكَ العينِ، وَجَبَ سقوطُهما. ومنها: أَنَّه لو أخبر واحدٌ بنجاسةِ الماءِ، وأَخْبَرَ آخَرُ بطهارةِ ذلكَ الماءِ، لم يُجْعَلْ لأحدِهما مَزِيَّة على الآخرِ، بل يسقطانِ ويبقى الماءُ على أصلِ الطَّهارةِ، كذلكَ هاهنا. فصلٌ في الأجوبة عن شبهاته أَمَّا ما عوَّل عليه مِنَ ألاستواءِ في الاعتقادِ، فإنَّ ذلكَ بعد ثبوتِ التَّحريمِ في المحظورِ، والإباحةِ في المباح، ولَعَمْري إنهما بعدَ الثّبوتِ صارَ كلُّ واحدٍ منهما شرعاً للهِ سبحانه، فإذا اعتقَدَهُ على خلافِ ما هُوَ بهِ كفر. فأمَّا عِنْدَ التقابلِ فلا يستويانِ؛ لأَنَّ الحاظرَ والمبيحَ منَ الألفاظِ عندَ

التقابلِ كالمحظورِ والمباح عندَ الاختلاطِ، ولو اختلطتِ الأَعيانُ، بعضها مباحٌ وبعضُها محظورٌ، غلبَ التجنبُ على الإقدامِ والحظر على الإباحةِ؛ ولأَنَّ الحظرَ إذا كانَ مشروطاً، والمباحُ مشروطاً، فوجِدَ بعضُ شروطِ الإباحةِ، لم تحصل الإباحةُ، ولو حصلَتْ بعض شروطِ الحظر كَفَى في تحصيلِهِ، كالبيع يحرمُ ويبطُلُ بشرط، ولا يباح ويصحُّ إلا بجميع شروط الصحة، والطّهارة تبطل بأحدِ أسباب إبطالها، ولا تصحُّ إلاَّ بكمالِ شروطِها، والجمعة كذلك. وأَمَّا قولُهُ: يستحيلُ اجتماعُ الحظرِ والإباحةِ كما يستحيل اجتماعُ الضِّدَّين، واستشهادُهُ بالشَّهادةِ، فَلَعمري إنَّه كذلك، لكن ليس يَقِف التقديم للحظرِ على اجتماعِهما، لكنَّ التجويزَ للحظر يوجبُ الحظرَ، ويكفي فيه مجرَّدُ التجويزِ، لأنَّ الحظرَ كالاحتراز والاحتياطِ، والتجويزُ كافٍ في وجوبه، أعني: وجوبَ الاحتراز، والإباحةُ إقدامٌ، ولا يكفي في الإقدامِ تجويزُ السَّلامةِ من الاستضرار بالتبعة أو غيرها من الضَّررِ، والشَّهادة إنما كانت على حقيقةِ فعلٍ لا يمكنُ وقوعه على الوجه الذي ذكرته، بل يستحيل، وهاهنا إخبارٌ عن إيجابِ تجنّبٍ، وإخبارٌ عن إيجابِ إقدامٍ وتجويزه، وتجويز الضَّرر في الإقدام يوجبُ الإحجامَ، كما وَجَبَ في العقلِ منَ التحرُّزِ من الضَّمانِ، وبما وَجَبَ في الشَّرع وفرق بينَهما، بدليل أنَّه لَوِ اشتبهَ علينا مَنْ هو القاتلُ، لم يثبتِ القاتلُ، فكيفَ إذا كانت الشَّهادةُ. بمستحيلٍ، فأمَّا في الأعيان والأحكام، فإنّها إذا اشتبهت محظورُها بمباحِها غُلِّبَ الحظرُ.

- فصل الموجب للحد مقدم على المسقط للحد

وأَمَّا تعلّقهم بإخبارِ اثنينِ، أحدُهما بطهارةِ الماء، والآخرُ بنجاسَتِهِ، فإنْ كانَتْ بسببٍ يوجبُ النَّجاسةَ، غَلَبَ خبر النجاسةِ وحكمنا بنجاستِهِ، وإنْ لَمْ يخبِرْ بالسببِ بل قالَ: هو نَجس، فذلكَ غيرُ مسموعِ أَصْلاً، لجوازِ أنْ يكونَ نَجِساً عندَهُ، إمَّا لجهله إنْ كانَ عامِّيّاً، أو كانَ عالِماً والنَّاسُ مختلفونَ في النجاسةِ، فعلى كلا الأمرينِ لا يُقبلُ مِنْ غيرِ بيانِ السَّببِ، لا مِنَ العالمِ ولا العامِّي، ويبقى الماء على طهارةِ أصلِهِ لا يقدحُ فيه الخبر بالنَّجاسةِ، ولا يؤكدُ طهارتَه خبرُ مَنْ أخبرَ بالطَّهارةِ، فلم يتحققْ لك حُجَّة مِنْ هذهِ الصّورةِ. فصلٌ فإنْ تعارضَ خبرانِ في الحدِّ، فإنَّهُ لا يقدَّم المسقِط للحدِّ، بل الموجِب لَهُ، فإنَّ صاحبَنا أَخَذَ بحديثِ عبادة في اجتماع الجلدِ والرَّجمِ (¬1)، ولم يقدِّم عليه حديثَ ماعزٍ (¬2) وأُنَيس (¬3) في إسقاطِ الجلدِ. ولأصحابِ الشَّافعي وجهانِ: أحدهما يقدَّم حديث إسقاطِ الحدِّ. ¬

_ (¬1) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مئةٍ وتغريب عامٍ، والثيب بالثيب جلد مئةٍ والرجم" تقدم تخريجه 1/ 193. (¬2) أخرجه أحمد (41)، وابن أبي شيبة 10/ 72، من حديث أبي بكر الصديق. وأخرجه البخاري (6815) (6825) ومسلم (1691) (16)، والترمذي (1428) من حديث أبى هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (6827) (6828)، وأبو داود (4445)، والترمذي (1433)، والنسائي 8/ 240، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد.

- فصل في شبهة المخالف والرد عليها

لنا: أنَّ روايةَ إيجابه إثبات له، وإثباتُ التشريع مقدَّم على النَّفي، والأَصل الإسقاطُ، فلا يجوزُ أن يَيْقَى على الأصلِ مع وجودِ خبرِ العدل الناقلِ عَنِ الأصلِ، وكما لوْ قامتِ البيِّنةُ بإثباتِ سببِ الحدِّ، وشهدت أخرى بنَفيه. فصل وتَعلق المخالف في ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ادرَؤوا الحدودَ بالشُّبهات، وادرَؤوا ما استطعْتمْ" (¬1). والجواب: أنَّ خبرَ الواحدِ العدلِ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليس بشبهةٍ؛ بدليلِ أنَّه ينتقلُ بِهِ عَنْ حُكْمِ الأَصْلِ، والذِّمم لا تُشغَل بالشمبهاتِ. فصلٌ فإنْ كانَ أَحَدُ الخبرينِ يثبتُ نقصاً لصحابىٍّ (¬2) كخبرِ القهقهةِ (¬3)، والآخرُ لا يُثبتُ نقصاً (¬4)، فَنَفْيُ النقصِ مقدَّمٌ؛ لأنه إذا أَوجَبَ نقصاً ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (40). (¬2) في الأصل: "بقضاء الصَّحابى". (¬3) عن أبي موسى الأشعري: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى بالناس، إذ دخل رجل، فتردى في حفرة كانت في المسجد -وكان في بصره ضرر- فضحك كثير من القوم، وهم في الصلاة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من ضحك أن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة". تقدم تخريجه في 2/ 143. (¬4) في الأصل: "بقضاء".

- فصل إن كان مع أحدهما قرينة تدل على الحكم، ترجح بها

وقَدْحاً، قابَلَتْهُ مِدحةُ اللهِ سبحانَه لهم بالعدالةِ وأنَّهم خيرُ أمةٍ أُخرجت (¬1). فصل فإنْ كانَ مَعَ أحدِهما قرينةٌ تَدلُّ على الحكمِ، فإنه يترجَّحُ بها، مِثَالُه (¬2). فصلٌ فإنْ كانَ أحدُهما يجمعُ بَيْنَ الحكمينِ، والآخرُ يُسقِطُ أحدَهما، فالجامع يقدَّمُ، لأَنَّهُ لا يُسْقطُ حكمًا مِنْ أحكامِ الشرع. فصول التراجيح التي تعودُ إلي غيرِ الإسنادِ والمتن، لكن تعود إلا غيرِهما فصلٌ من ذلك: أن يكونَ أحد الخبرينِ مُوافِقاً لظاهرِ القرآنِ أو السُّنةِ، فيقدَّمُ، مثلُ حديثِ التغليسِ (¬3) يرجَّحُ على خبرِ الإسفار (¬4)، لوافقَتِهِ لظاهر ¬

_ (¬1) انظر "المستصفى" 2/ 480، باب: فيما ترجح به الاخبار. (¬2) سقط المثال من الأصل، ولعله أراد قوله تعالي: {أوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] حَمْله على لمس اليد أَوْلى من الجِماع، لأنه قرن ذلك بالمجيء من الغائط، وذلك يوجب الطهارة الصغرى. انظر "العدة" 3/ 1045. (¬3) يعني حديث عائشة رضي الله عنها: كنَّ نساءُ المؤمنات يشهدنَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات. بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغَلَس. أخرجه البخاري (578). (¬4) أخرج ابو داود (423)، والترمذي (154)، والنسائي 1/ 218، من حديث =

- فصل إن كان مع أحدهما ظاهر القرآن ومهع أحدهما ظاهر سنة أخرى فأيهما أولى؟

القرآنِ، مثلُ قولِىِ: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ الوقتِ رضوانُ اللهِ" (¬1)، وقولِهِمْ: أَيُّ الأعمالِ أفضلُ؛ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلاةُ لأَوَّلِ وقتها" (¬2). ومثلُ قوله: "لا نكاحَ إلاَّ بولي" (¬3) مرجّحٌ على خَبَرِهمْ: "لَيْسَ للوليِّ معَ الثيب أمر" (¬4) بحديث عائشةَ عن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -:"أيما امرأةٍ نكحت نفسَها بغيرِ إذن وليِّها، فنكاحُها باطلٌ" (¬5)، لأَنَّ ظاهرَ القرآن والسُّنَّةِ حجةٌ في أنفسهما، فأوْلى أن يرجَّح بهما الخبرُ. فصلٌ فإنْ كانَ مَعَ أحدِهما ظاهرُ القرآن، ومَعَ أحدِهما ظاهرُ سنةٍ اخْرى، فايهما أَولى؟ ظاهرُ كلامِ أحمدَ: أَنَّ الحديثينِ إذا تعاضَدَا كانا مقدَّمَيْنِ على حديثٍ مَعَهُ ظاهرُ القرآنِ، وهذا يَنْبَنِي على أَصلٍ اختَلفَ مذهبُه فيهِ، وهوَ إذا ¬

_ = رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر". ويُحمل الاسفار على إطالة القراءة حتى يخرج من الصلاة مسفراً. انظر "فتح الباري" 2/ 55. (¬1) أخرجه الترمذي (172) من حديث ابن عمر، وقال: حديث غريب. (¬2) أخرجه الترمذي (170) والحاكم 1/ 189، من حديث أم فروة. (¬3) تقدم تخريجه في 3/ 308. (¬4) أخرجه أبو داود (2100)، والنسائي 6/ 85، وابن حبان (4089). (¬5) تقدم تخريجه 2/ 147.

- فصل إن كانت ألفاظ الخبرين مختلفة والآخر ألفاظه غير مختلفة قدم الأول

تَقابل لفظُ السُّنَّةِ ونطقُ القرآنِ آُيهما أَوْلى؟ فيه خلافٌ عَنه، فرُوِيَ أَنَّ السُّنَّةَ مقدَّمةٌ، لأَنَّها تَبْيينُ القرآنِ وتفسيرُهُ، والثَّاني: نُطقُ القرآنِ أَوْلى، لأنَّه مقطوعٌ بطريقِهِ (¬1). فصلٌ فإنْ كانَتْ ألفاط أحدِ الخبريْنِ مختلفةً، والآخرُ ألفاظُهُ غير مختلفةٍ، بَيِّنٌ، لفظُه واحدٌ، فيحتمل أَنْ يكونَ غيرُ المختلفِ مقدَّماً ومرجحاً (¬2)؛ لأَنَّه يدلُّ على ضبطِ رواتِهِ لعدمِ الاختلافِ فيهِ، ويحتملُ أَنْ لا يرجحَ؛ لأَنهُ يجوزُ أنْ يكونَ اختلافُ الألفاظِ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَهُ في مواضعَ مختلفةٍ بَيْدَ أنَّه لا يختلفُ والمعنى، ويحتملُ أَنْ يكونَ رواهُ بعضُهم بالمعنى والآخرُ باللَّفظِ، فاختلفتْ ألفاظُهُ مِنْ هذا الوجهِ، وذلكَ مثلُ خبرِ التقديرِ للماءِ في حملِ النَّجاسةِ. فصلٌ فإنْ كانَ أحدُهما موافقاً للقياسِ، والآخرُ يخالف القياسَ، فالموافقُ للقياسِ أَولى، وذلكَ مثلُ قولهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: "ليسَ على المسلمِ في عبدِهِ ولا في فرسِهِ صدقةٌ" (¬3)، فيُقدَّمُ على حديث غُورك السَّعدي (¬4)، ¬

_ (¬1) "المسوَّدة": 311 - 312. (¬2) في الأصل: "المتخلف مقدم ومرجح". (¬3) أخرجه البخاري (1463) (1464)، ومسلم (982) من حديث أبي هريرة. (¬4) ضعَّفه الدارقطني، وخبرُهُ: أخرجه البيهقي في "الكبرى" 4/ 119 من طريقه عن =

- فصل إن كان مع أحدهما حديث مرسل قدم على ما ليس معه حديث آخر

وموافقتُه القياسَ لخبرِ نفىِ الصَّدقةِ في الخيلِ، وهوَ أَنَّ ما لا تجبُ الزكاةُ في ذكورِهِ لا تَجبُ في ذكورِهِ وإِناثِهِ، كالبغالِ والحميرِ وسائرِ الحيواناتِ غيرِ الأنعامِ، ولا تَجبُ الزكاةُ فيه من جنسِهِ. فصلٌ فإنْ كانَ مع أحدِهِما حديثٌ مرسلٌ، فإنهُ يقدَّمُ على ما لَيْسَ معه حديثٌ آخرُ مرسلٌ ولا غيرُهُ؛ لأنَّ المرسلَ معَ المسندِ يقويه؛ لأنَّهُ جاءَ مِنْ طريقَيْنِ. فصل فإنْ كانَ أحدُهما عَمِلَ بِهِ الأئمةُ الأربعةُ [فيُقدَّم ويُرجَّح]، كما رَوَيْنا في تَكْبيراتِ العيدينِ سبْعاً وخَمْساً، وقدَّمنَاهُ على روايةِ مَنْ روى أَرْبَعاً كأربع الجنائزِ؛ لأنه عَمِلَ بِهِ أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ، وقدْ نَصَّ أحمدُ على هذا في عِدَّةِ مواضع في حديثِ الوضوءِ ممَّا مست النَّارُ (¬1)، وروي أَنَّهُ أنتهَس عَظْماً، وصلى ولم يتوضأ (¬2)، نَظَر إلى أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ ¬

_ = جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في الخيل السائمة في كل فرسٍ دينار". قال البيهقي: تفرد به غورك هذا. (¬1) أخرجه أحمد (7605)، ومسلم (352)، والنسائي 1/ 105، وابن حبان (1147) من حديث أبي هريرة. بلفظ: "توضؤوا بما مسَّت النار". (¬2) أخر جه أحمد (1988)، والبخاري (207)، ومسلم (354)، وأبو داود (187)، من حديث ابن عباس نحوه.

- فصل ولا يرجح أحدهما بعمل أهل المدينة أو أهل الكوفة

وعليٍّ، لم يتوضؤوا مِمَّا مَسَّتِ النّارُ، وإنَّماَ رجَّحْنا بعملِهمْ وقولِهمْ، لأَنَّ هذا أَمْرٌ طريقُهُ غلبةُ الظَنِّ، ولا شَكَّ أَنَّ الأئمةَ والخلفاءَ الذينَ بَلَغُوا مِنَ الإسلامِ المبلغَ الذي حازُوا به الفقهَ ولَمْحَ أَقْوَالِه - صلى الله عليه وسلم - وأفعالِهِ، يقوى الظَّنُّ فيما تضمنَه الخبرُ مِنَ الحكمِ إذا كانوا بِهِ عاملينَ وقائلينَ، ويُرجَّحُ على حديثٍ لَمْ تَعضُدْهُ أقوالُهم وأفعالهم. فصلٌ ولا يُرجحُ أحدُهما بعملِ أهلِ المدينةِ خلافاً لأصحابِ الشَّافعيِّ في قولِهم: يُقدَّمُ ما عملَ بِهِ أهلُ المدينةِ، وذكروا ذلكَ في حديثِ الترجيع في الأَذانِ (¬1)، وأنَّه يُقَدَّمُ على غيرِهِ. وكذلكَ لا يُرجَّحُ أحدُ الخبرينِ على الآخرِ بعملِ أهلِ الكوفةِ، خلافاً لأصحابِ أبي حنيفةَ فيما حكاه الجُرْجَاني في "أصوله": أنَّه يقدَّم بعمل أهل الكوفة إلى زمن أبي حنيفة قبلَ ظهورِهِ، قالوا: لأَنَّ أُمراءَ بني مروان [غلبوا] (¬2) على المدينة والكوفة، وكانَ منهم تغييرٌ للسُّنن. فصلٌ والدلالةُ على أَنَّه لا يرجَّحُ بقولِ أهلِهما: أَنَّه لا يجوزُ أنْ تكونَ المراعاة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (499)، والترمذي (191)، والنسائى 2/ 6، وابن ماجه (708) (709) من حديث أبي محذورة. (¬2) ليست في الأصل، انظر "العدة" 3/ 1052 - 1053.

- فصل إن اقترن بأحد الخبرين تفسير الراوي بفعله أو قوله كان مرجحا

لنفع البلدِ وعينه، لم يبقَ إلاَّ أَنهم نظروا إلى مصيرِ ألصَّحابةِ إليهما، وتوفرِهم (¬1) فيهما، وذلكَ خطأٌ في القولِ، إصابةٌ في المعنى، فإنْ كانَ لعملِ الصَّحابةِ فليقولوا ذلكَ، فإنَّ الخبرَ الذي عملتْ بِهِ الصَّحابةُ حيتُّ كانوا مِنَ البلادِ مقدَّمٌ عندَ كلِّ عالمٍ بالحديثِ، ونقدرُ موافقَتَهم، ولو كانَ بغيرِ المدينةِ والكوفةِ من أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمتابعتِهِ للحديثِ، ومعَ انتشارِ الصَّحابةِ في البلادِ لا معنى لاطراح من لم يكنْ بهذينِ البلدينِ. فصلٌ فإنِ اقترنَ بأحدِ الخبرينِ تفسيرُ الراوي بفعلِهِ أو قولِهِ، كانَ مرجَّحاً ومقدَّماً على ما لم يقترنْ بِهِ تفسيرُهُ، مثلُ ما روى جابرٌ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أيما رجل أُعمِرَ (¬2) عُمْرَى له ولِعَقِبِه، فإنها للذي (¬3) يُعطَاها، لا ترجِعُ إلى الذي أَعطاها؛ لأَنَّهُ أَعطى عَطاءً وقعت فيهِ المواريث" (¬4)، فَقُدِّمَ على روايةِ مَن روى: "مَنْ أُعمِرَ عُمرى فهيَ لَه ولِعَقِبِهِ يرثُها مَنْ يَرِثهُ مِنْ عَقِبِهِ" (¬5)، كَما رَوى معمرٌ عنِ الزُّهريِّ عنْ أبي سلمةَ عنْ جابرِ بنِ عبدِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وتوقيرهم". (¬2) في الأصل: "عمر". (¬3) في الأصل: "والذي". (¬4) أخر جه أحمد 3/ 360، ومسلم (1625)، وأبو داود (3553)، والترمذي (1350)، وابن ماجه (2380). (¬5) أخرجه أبو داود (3551)، والنسائي 6/ 275.

اللهِ أَنّهُ قالَ: "إنما العُمرى التي أجازَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يقولَ: هيَ لكَ ولعَقِبِكَ، فأمّا إِذا قال: هيَ لكَ ما عِشْتَ، فإنّها ترجعُ إلى صاحبِهِا" (¬1). ومثلُ خبر التفرقِ في خيارِ المجلسِ، حَمَلَهُ على التفرفِ بالبَدَن لما رويَ عنِ ابنِ عمرَ أَنّه كانَ إِذا أَرادَ أَنْ يوجب البيعَ مشى قليلاً ثم رجع (¬2)، وقال أبو بَرْزةَ: لا أُراكُما تفرقتُما (¬3). وكذلكَ رجع أَحمدُ في صومِ يوم شك بالغيمِ إلى تفسيرِ ابنِ عمرَ "فاقْدُرُوْا له" (¬4)، وأَنَّه كانَ يتراءَىَ الهلالَ، فإنْ كانَتِ السَّماءُ ذاتَ غيمٍ أصبحَ صائماً، وإنْ كانَت مصحيةً أصبحَ مفطراً. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1625) (23). (¬2) أخرجه مسلم (1513) (45)، وهو عند البخاري (2107) بنحوه. (¬3) أخرجه أحمد 4/ 425، رأبو داود (3457)، وابن ماجه (2182). (¬4) أخر جه أحمد (5294)، والبخاري (1906) (1607)، ومسلم (1080) (3)، والنسائي 4/ 134. وأخرجه أحمد (4488)، ومسلم (1080) (6).

* فصول الإجماع

فصولُ الإجماع (¬1) وقَدْ قدَّمنا حدَّهُ ورَسْمَه في الحدودِ والعقودِ التي افتتَحْنا بها كتابنا هذا (¬2). فصلٌ والإجماعُ حجةٌ ماقطوعٌ بها، فإذا اتفَقَ الفقهاءُ على حكمِ حادثةٍ، كانَتْ حجَّة معصومةً ودلالةً قطعيةً متبعةً، نصَّ عليه صاحبُنا أحمدُ بنُ حنبلٍ. ورويَ عنه ما يدلُّ على استبْعادهِ لِلإحماع فقالَ: مَنِ ادَّعى الإجماعَ فهوَ كذابٌ، لعلَّ النَّاس قَدِ اختلفُوا، هذِهِ دعوى بشْر المَريسِي والأصمِّ، ولكن يقولُ: لا نعلمُ النَاسَ اختلفُوا، أَو لم يبلغني أَنًّ الناسَ اختلفُوا. وقَالَ أَيضاً: كيفَ يجوزُ للرَّجلِ أنْ يقولَ: أَجْمَعُوا؟ إذا سمعتَهم يقولونَ: أَجْمعوا، فانهَهُمْ، لو قالَ: إني لم أعلمْ مخالفاً جازَ. وهذا منْهُ على طريقِ الورعَ، أو أنَّ الغالبَ أنَهُ لا يحيط علماً. بمقالةِ المُجْتهدينَ في الأَقطارِ معَ تباعُدِها وكثرةِ المجتهدينَ، وكيفية قولهم في الحادثةِ، وعدمُ الثقةِ ببقاءِ المفتي على فتواهُ، معَ تجويزِ أنْ يكونَ رجعَ فيما أفتى به أوَّلاً، فهذا وأمثاله أوجبَ استبعادَهُ لإطلاقِ الاجماع، وإنما تأوَّلنا هذه الرواية؛ لأَنَّه (¬3) قد حُقِّقَ الإحماعُ في عدَّةِ مواضعَ، وبهذا قالَ أكثرُ ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1057 وما بعدها. (¬2) انظر ما تقدم في 1/ 42. (¬3) في الأصل: "أنه".

- فصل في أدلتنا السمعية

الفقهاءِ والمتكلمينَ قالتِ الإماميةُ: ليس بحجَّةٍ، لكن فيه حجةٌ وهو الإمامُ المعصومُ، وإن خُولِفَ لم يُعتدَّ بخلافِ مَنْ خالفه. وقالَ إبراهيمُ النَّظَّام (¬1): ليس بحجةٍ، ويجوزُ اجتماعُ الأمَّةِ على الخطأ، ولا معصوم بعد موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. فصلٌ في أدلَّتِنا السَّمعية فمنها: قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. والسَّبيلُ هاهنا هو الطرَّيقُ، ولا طريقَ يحصلُ الوعيدُ على سلوك غيره إلاَّ ما أَوْجَبَة اجتهادهم، إذْ كانَ ما أوجَبَهُ نصُّ القرآنِ، أو تواتُر السُّنَّةِ، فذاكَ سبيل اللهِ ورسولِهِ، أخصَّ به من الإضافة إليهم. والمؤمنونَ هاهنا هُمُ العلماءُ، إذ قَدْ أَجْمَعْنا على أنَّ العوامَ والجهَّال لا سبيلَ لهم يُتَّبَعُ، فلم يبقَ إلاَّ العلماءُ، وقد تواعدَ على اتِّباع غيرِ سبيلهم، فثبتَ أنَّ سبيلَهم حقٌّ متَّبعٌ ودليلٌ مرشدٌ، والمخالفُ له مستحقٌّ للعقابِ بالوعيدِ المنصوصِ في الآيةِ، إذْ ليسَ بينَ سبيلِهمْ وبَيْنَ سبيلِ غيْرِهم قسمٌ ثالثٌ، فتعيَّنَ اتباعُ سبيلِهم حيثُ حصلَ الوعيدُ على اتباع غيرِ سبيلِهِمْ. ¬

_ (¬1) هو: إبراهيم بن سيَّار بن هانئ النظام، البصري، المعتزلي، له آراء شاذة وأتباع سُموا بالنظامية، وكان ذا ذكاء وفصاحة. انظر "تاريخ بغداد" 6/ 67.

ومنها: قولهُ تَعالى؛ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] يعني: عدولاً بدليلِ قولِهِ سبحانه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)} [القلم: 28]، وقال الشَّاعرُ: همُ وَسَطٌ ترضى الأنَامُ بحكمِهمْ .... إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعظِمِ (¬1) فوجهُ الدلالةِ أَنهُ عَدَّلَهُمْ، وجعلَهُمْ حجَّةً على النَّاسِ في قبولِ أقوالِهم، كما جَعَلَ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - حجَّةً علينا في قبولِ قولِهِ علينا. ومنها: جهةُ السُّنَّةِ: ما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قالَ: "أُمَّتي لا تجتمع على ضلالة"، ورويَ: "لا تجتمعُ أمتي على ضلالةٍ" (¬2) وروي: "على الخطأ"، ورويَ عنْهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لم يكنِ الله ليجمعَ هذه الأمة على الخطأ" (¬3)، وروي عنه في:"ما رآه المسلمون حسناً فهوَ عندَ اللهِ حسنٌ، وما رآهُ السلمونَ قبيحاً فهوَ عندَ اللهِ قبيحٌ" (¬4)، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فارقَ الجماعةَ ¬

_ (¬1) البيت لزهير وهو في معلقته المشهورة، لكنْ صدرُه يختلف هاهنا، ورواية العلقة (شرح المعلقات للزوزنى طبعة دار صادر) ص 85: لحيِّ حِلال يعصمُ الناسَ أمرهم ... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم وانظر: "البيان والتبيين" 3/ 225، وأساس البلاغة (وسط). (¬2) تقدم تخريجه 2/ 211. (¬3) هو حديث حسن. بمجموع طرقه، انظر "السنة" لابن أبي عاصم (82 - 85) و (92) بتخريج الألباني. (¬4) أخرجه أحمد (3600) من حديث عبد الله بن مسعود موقوفاً. وإسناده حسن. وروي مرفوعاً بإسناد تالف من حديث أنس عند الخطيب في "تاريخه" 4/ 165، وأورده ابن الجوزي في "العلل التناهية" (452) وقال: هذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعود.

- فصل يجمع الأسئلة على أدلتنا

قِيدَ شبرٍ، فقدْ خلعَ رِبْقةَ الإسلامِ منْ عنقِهِ" (¬1)، ورويَ أَنَّه نهى عنِ الشُّذوذِ، وقالَ: "مَنْ شَذَّ شَذَّ في النارِ" (¬2)، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "عليكمْ بالسوادِ الأعظمِ" (¬3). وروفيَ عنهُ - صلى الله عليه وسلم -: "عليكمْ بالجماعةِ فإنَّ الذِّئب يطلبُ -ورويَ: يأكلُ- شاردة الغنمِ"، ورويَ: "يأكلُ القاصيةَ من الغنمِ" (¬4)، ورويَ: "عليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ منْ بعديِ" (¬5). فهذهِ أخبار وردتْ منْ طرقٍ كثرة كلُّها دالٌّ على وجوبِ اتِّباع العلماءِ إذا أَجْمعوا على حكمٍ منَ الأحكامِ. فصلٌ يجمع الأسئلة لهم على أدلَّتنا فمنها: ما وَجَّهُوْهُ على الآية الأُولى. قالوا: نحنُ نقولُ: بأَنَّ الوعيدَ لاحقٌ بِمَنْ شاقَقَ الرَّسولَ، ويتبعُ غيرَ سبيلِ مَنِ اتَّبَعَهُ، فالوعيدُ لَحِقَ بهما، فلا يعلمُ أنَّهُ يلحقُ. ممَنْ أفردَ اتباعَ غيرِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 180، وأبو داود (4758) وابن أبي عاصم في "السنة" (892) من حديث أبى ذر. (¬2) أخرجه الترمذي (2167) من حديث ابن عمر. (¬3) أخرجه ابن ماجه (3950) من حديث أنس. (¬4) أخرجه أحمد 5/ 196، وأبو داود (547)، والنسائي 2/ 83 من حديث أبي الدرداء. (¬5) تقدم تخريجه 1/ 280.

سبيلِ المؤمن عن مشاقَّةِ الرَّسول. ومنها: أَنَّهُ يحتملُ الوعيدُ أَد يكونَ عادَ الي مشاقَّةِ الرَّسو واتباع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ في موافقتِهِ وترك مشاقَّتِهِ، هذا هوَ الظاهر كما إذا قالَ القائل: منْ يشاققِ الأميرَ أوِ الملكَ ويتبعْ غيرَ سبيلِ جندِهِ (¬1)، فعليهِ كذا، يرجعُ إِلى أَنَّ الوعيدَ لحقَ. بمشاقتِهِ وعدمِ الدُّخول فيما دخلَ فيهِ أهل طاعتِهِ، فيعودُ الكلُّ إِليهِ. والدليلُ عليهِ: أَنَّ مُشاقَّةَ الرَّسولِ على انفرادِها -ولوْ لم نكُنْ نؤمِنُ- يلحق الوعيدُ بها، فدلَّ على أَنَّ الوعيدَ رجعَ إليها خاصَّةً، وذُكِرَت مشاقَّةُ الؤمنينَ تبعاً. ومنها: أَنْ قالوا: لا حجَّةَ في الآيةِ لإثباتِ الإحماع حجَّة، لأنه شَرَطَ في الآيةِ لِلُحوقِ الوعيدِ: {مِنْ بعدِ ما تبيَّنَ لَهُ الهُدى} [النساء: 115]، والهُدى لا يتبيَّن إلاّ بدليلٍ، وفي الدليلِ حجةٌ كافيةٌ لوجوبِ الاتباع ولحوقِ الوعيدِ بالعدولِ عنهُ وتركِ الاتباع لَهُ، وإنما كانَ الوعيدُ حجَّةً لترك الإجماع إذ لَوْ لَمْ يَبِن الهُدى إلاَّ بالإجماع، فأمَّا إذا كانَ بيانُ الهُدى بغيرِ الإجماع، فلم يَبْقَ للإجماع عمل في الدلالة والحجة. ومنها: أنَّ قوله: {ويَتَّبِعْ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ} [النساء: 115] يرجعُ إلى ما كانوا بهِ مؤمنينَ، والذي كانوا بهِ مؤمنينَ إِنَّماَ هوَ الاعتقادُ وكلمةُ الإسلامِ، ونحنُ قائلونَ بلحوقِ الوعيدِ الَذي تضمَّنَتْهُ الآيةُ. ممَنْ عَدَلَ عَنِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "سبيل المؤمنين جنده".

اتِّباع السَّبيل الذي كانوا بِهِ مؤمنينَ، وهوَ الإيمانُ. يدلُّ على ذلكَ: أَنَّهُ لَوْ قالَ: مَنْ لم يتبعْ سبيلَ أهلِ العدالةِ أوِ الخيرِ، ولَّيْنَاهُ ما تَوَلَّى، رجعَ إلى سبيلهِم في الخيرِ والعدالةِ، كذلكَ يجب رجوع الاتباع هاهُنا فيما كانوا بِهِ مؤمنينَ، لا بما آمنوا بِهِ مِنَ الفروع. ومِنْها: أَنْ قالوا: المؤمنون (¬1) لا معرفةَ لنا بأعيانِهم، ولا بالاعتقاداتِ التي يكونون (¬2) بها ولأجلها مؤمنينَ، فلمْ يبقَ أَنْ تكونَ الحَوَالة إلاَّ على مشاقَّةِ الرَّسولِ الذي وَضَحَتْ دلالتُهُ، وبانَ برهانُهُ بالمعجزاتِ الباهرةِ. ومنها: أَنْ قالوا: إنَّ الله تعالى إنَّما أَلْحقَ الوعيدَ. بمتبع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ، وغيرُ المؤمنينَ هُمُ الكفَّار، فكأَنَّه قالَ: مَنْ يُشاققِ الرَّسولَ ويكفُرْ، نولِّهِ ما تَوَلَّى، وليسَ فِى الآية سوى هذا نطقاً، ونحنُ قائلونَ به. ومنها: أَنَّ الوعيدَ إِنَّما أضافَهُ إلى مَنِ اتَبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ كلِّهم، وذلكَ يَعُمُّ كل مؤمنٍ إلى يومِ القيامةِ، وذلكَ لا يتحققُ حجَّةً في عصرٍ منَ الأَعصارِ، فلم تتحقَّق مِنَ الآيةِ دلالةٌ. ومنها: أَنَّة لَوْ كانَ المرادُ بالوعيدِ مخالفةَ كلِّ مَنْ هوَ مؤمنٌ حقيقةً، لعَمَّ العالِمَ والعاميَّ، فلما لَمْ يعمَّ عُلِمَ أَنَّه لم يَعُدِ الوعيدُ إلى الإجماع الذي ذهبتَ إليهِ، إذْ ليس بعضُ المؤمنينَ بحكمِ لفظِ الآيةِ أَوْلى مِنْ بعضٍ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المؤمنين". (¬2) في الأصل: "يكونوا".

ومنها: قولهم: إنَّ الآيةَ لا حجَّةَ علينا بها؛ لأَنَّها دليل خطابٍ، لأَنّه إنَّما واعدَ على اتباع سبيلِ غيرِ المؤمنينَ، فاستدلَلْتُمْ بِهِ على وجوبِ اتِّباع المؤمنينَ، ولا يجوزُ التعلُّقُ بدليلِ الخطابِ في مثلِ هذا الأصلِ العظيمِ، وليسَ بحجةٍ عنْدَنا. ومنها: قولُهم: إنَّ سبيلَ المؤمنينَ في الحوادثِ الاجتهادُ (¬1) دونَ التقليدِ، وما مِنْ علماءِ العصرِ أحدٌ صارَ إلى قول غيرِهِ، بلِ اجتهدَ فصارَ منها إلى ما أَدَّاهُ اجتهادُه إليهِ، وهذا يعطي الحجةَ مِنَ الآيةِ عليكم لا لكم. والذي يشهدُ لهذا أَنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ -رضيَ الله عنْهُ- لمَّا قيلَ لَهُ: وسنة الشيخينِ، نَزَعَ يَدَهُ وقال: بل أجتهد رأيي (¬2)، كلُّ ذلك نفوراً من التقليد الذي لا يحلّ لمجتهدٍ سلوكه. ومنها: سؤالُ الشيعة: إننا قائلون بالآية، فإنَّ مِنْ جملةِ المؤمنينَ الأئمَّة المعصومينِ، وهم الحجَّةُ (¬3). ومنها: ما وجَّهوهُ على الآيةِ الأخرى: أَنَّ شهادةَ القرآنِ لهم بأَنهم عدولٌ، لا تُوجبُ أَنْ يكونَ قولُهم حجةً معصومةً، كما لا توجبُ كونَهم معصومينَ مِنَ الصَّغائرِ. ومنها: أَنَّ المرادَ بهِ شهادتُهم يومَ القيامةِ، لأَنَّ الرَّسولَ إنَّما يكونُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "والاجتهاد". (¬2) انظر "مسند الإمام أحمد (557)، و "فتح الباري" 13/ 197. (¬3) في الأصل: "المؤمنين الإمامين المعصومين وهو الحجة".

- فصل في الأجوبة على الأسئلة على أدلتنا السمعية

شْهيداً على الأمةِ يومَ القيامة، فلا يعطي هذا كونَ اتباعهِم واجباً، ولا قولَهم في الدنيا حجَّةً. ومنها: ما وجَّهوهُ على الأَخبارِ مِنَ الأسئلةِ: أَنَّ هذه أخبارُ آحادٍ لا يثبتُ بمثلِها إجماعٌ، كما لا يثبتُ بها بعثة نبي، ولا تثبتُ بها هذهِ الأصولُ. ومنها: أَنَّها مختلفةُ الأَلفاظِ. ومنها: أَنَّ معنى قولِهِ: "أُمتي لا تجتمعُ على ضلالةٍ" يعني: على كفرٍ، كما اجتمعت النَّصارى على عبادةِ عيسى، واجتمعتْ بنو إٍ سرائيلَ على عبادةِ العجلِ، بل خصَّ الله هذهِ الأمةَ بأنَّ فيها طائفةً مُحِقة، كما قالَ: "واحدةٌ ناجيةٌ من نيِّفٍ وسبعينَ فرقةً" (¬1). فصلٌ في الأَجوبةِ عَنِ الأسئلةِ على أدلَّتنا السَّمعيةِ أَمَّا الأوَّلُ: فحملُهم الوعيدَ على مشاقَّةِ الرَّسولِ خاصةً فغيرُ صحيح؛ لأنَّ الذَّمَّ والوعيدَ إذا عُلِّقا (¬2) على شيئينِ اقتضى أَن يكون كلُّ واحدٍ منهما مشاركاً للآخرِ في الذمِّ إلى أنْ تقومَ دلالةُ التَّخصيصِ، كما إِذا ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه أحمد في "المسند" (12208) -طبع مؤسسة الرسالة- من حديث أنس بن مالك. وانظر تمام تخريجه هناك. (¬2) في الأصل: "علق".

انتظَم لفظُ العمومِ أشخاصاً، شَمِلَهم حكمُ العمومِ ما لم تخرِجْ دلالةُ التخصيصِ أحد الأشخاصِ، وكذلكَ إذا انتظَمَ الأمرُ أفعالاً استدْعَاها الآمرُ وجَمَعَ بَينها في استدعائِهِ، كأنتْ على حكمِ الآمرِ إيجاباً أو نَدْباً، إلاّ أَنْ تقومَ دلالةُ تخصيصِ أحدِ المستدعَياتِ مِنَ الأفعالِ بإخراجِها عن مُقْتَضَى إطلاقِ الأمرِ، ولهذا لمَّا قالَ سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] كانَ الوعيدُ لاحقاً بالجميع وبكلِّ واحدٍ من ذلكَ على الانفرادِ. وأمَّا قولُهم: يحتملُ أنْ يكونَ اتباع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ الي مشاقَّةِ الرَّسولِ، فسبيلُ المؤمنينَ معَ النبيِّ الموافقةُ، وغيرُ سبيلِهم المشاقةُ لَهُ في تركِ اتِّباعِهِ، فليسَ بصحيح؛ لأَنَّ الظَّاهرَ أَنَّ الثانيَ غير الأوَّلِ، فحملُهُ على الأوَّلِ يُسقِطُ فائدةَ ذِكرِهِ للثاني؛ إذْ كان قولُكم: الكلُّ راجع إلى مشاقَّةِ الرَّسولِ، على أنَّ هذا تخصيصٌ بغيرِ دليل. وأمَّا قولُهمْ إنَّه شَرَطَ في لحوقِ الوعيدِ أَنْ يكونَ منْ بعدِ ما تبيَّنَ لَهُ الهُدى، والهُدى لا يتبيَّنُ إلأ بدليل، وذلكَ حجةٌ كافيةٌ قبلَ الاجماع، وحاصلَةٌ مِنْ غيرِ إجماع، فغيرُ لازمٍ؛ لأَنَّ تبيُّنَ الهُدى بدليلٍ بعدَ الوعيدِ (¬1) [يرجع] إلى تركِ الحكمِ الثَّابتِ بذلكَ الدليلِ، فلا يكونُ لعَودِهِ إلى اتِّباع غيرِ سبيلِ المؤمنينَ وإلى تركِ سبيلِ المؤمنينَ معنى؛ لأنَّ مَنْ تَرَكَ حكمَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الوعد".

الدليل لحِقَهُ الوعيدُ، سواءٌ كانَ سبيلاً لأحدٍ أو لم يكنْ، ولأَنَّه إنَّما شرط تبيُّن (¬1) الهُدى مشاقَّةِ اْلرّسولِ، ومشاقَّةُ الرَّسولِ لا تكونُ مُستَحَقًّا عليها الوعيدُ إلاَّ بعدَما تبيَّنَ بالدليلِ أَنَّه رسولٌ، وأَمَّا في تركِ سبيلِ المؤمنينَ واتباع سبيلِ غيرِهِم، فقدْ أطلقَ الوعيدُ، فوجَبَ أَنْ يتعلَّقَ الوعيدُ بمخالفتِهم بكلِّ حالٍ. وأمَّا قولهم: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] يرجعُ إلى ما كانوا بِهِ مؤمنينَ -وهوَ الإيمان-، فتخصيصٌ (¬2) لعمومِ الاتباع بغيرِ دليلٍ، واللَّفظُ يعمُّ كلَّ سبيلٍ مِنْ مذهبٍ ودينٍ، أَلاَ تَرَى أَنه إذا قالَ: اتبعْ سبيلَ المؤمنينَ، عمَّ الأمرُ باتِّباعهم جميعَ ما ذهبوا إليهِ مِنَ السُّبلِ، وكذلكَ إذا قالَ: اتبعْ سبيلَ العلماءِ، رجعَ إلى ما كانوا بِهِ علماءَ وما لَمْ يكونوا بِهِ علماءَ؛ ولأنَّ السَّبيلَ الذيْ كانوا بهِ مؤمنينَ، قدِ استُفِيْدَ تحريمُ تركِهِ والوعيدُ عليْهِ مِمَّا استفيدَ مِنْ مشاقَّةِ الرًّسولِ؛ لأَنها بنفسِها كفرٌ. وأمَّا قولُهم: فالمؤمنونَ لا معرفةَ لنا بأعيانِهمْ، فغيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الإيمانَ وإنْ كانَ عَنَّا غائباً إلاَّ أَنَّ له شواهدَ علَّقَ الشَّرعُ عليها أحكامَ الإِيمانِ، بشواهدِ الأَقوالِ والأفعالِ التي عليها بنينا حكمَ العِتقِ في كفَّارةِ القتلِ والظِّهارِ، وعليها ينبني الحكمُ بتَبَعيَّةِ الأَولادِ في الإيمانِ، وغيرِ ذلكَ مِنَ الأحكامِ، ولم نُكَلَّفِ العلمَ بالباطنِ إِلاَّ بهذا الطريقِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تبيين". (¬2) في الأصل: "تخصيص".

وأما قولُهم: إنَّما أُلحِقَ الوعيدُ. بما تضمَّنهُ النّطقُ: وهو اتباعُ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ وهمُ الكفارُ، فكأنَّهُ قالَ: [مَن] يشاققِ الرَّسولَ (1 ويكفُرْ نُوَلِّه1) ما تَوى ونُصْلِه جهنمَ، فغيرُ صحيح؛ لأنهُ لو أرادَ ذلكَ فقطْ منْ غيرِ إيجابِ اتِّباع سبيلِ المؤمنينَ، لقَنِعَ بذكرِ مشاقةِ الرَّسولِ، ففيها الكفر، والوعيدُ يكفي في ذلكَ، فلمَّا عطفَ اتباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ على مشاقَّةِ الرَّسولِ، عُلِمَ أنَّه أمرٌ يستحقُّ الوعيدَ عليه (¬2). وأمَّا قولُهم: إنه أضافَ الوعيدَ إلى مَنِ اتَّبعَ غيرَ سبيلٍ المؤمنينَ كلِّهم، وذلك يعمُّ كلَّ مؤمنٍ إلى يومِ القيامةِ، وذلك لا يتحققُ في عصرٍ من الأَعصارِ، فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ الوعيدَ إنَّما لحق. بمخالفةِ ما يمكنُ مخالفَتُهُ، واتباع سبيلِ المؤمنينَ الذين لم (3 يُخلَقُوا غير ممكن، وخلافهم أيضاً غير ممكنٍ لأنه لا يُعلم، فتسمية ... غير المخلوق مؤمناً لا تصحُّ 3)، وإنْ سُمِّيَ كانَ مجازاً، فلا يتحققُ الإيمانُ إلاً في أهلِ العصرِ وهم بعضُ المؤمنينَ، فأمَّا جميعُهم فلا يدخلُ اتباعُهم تحتَ الإِمكانِ. وأما قولُهم: إنَّهُ عادَ الوعيدُ إلى اتِّباع سبيل كلِّ المؤمنينَ، وذلكَ يدخلُ فيهِ العوامُّ معَ العلماءِ، فغيرُ لازمٍ؛ لأنَّ الآيةَ تقتضي أَنْ يكونَ المؤمنونَ مقسَّمينِ قسمينِ: قِسْماً تابعاً، وقسماً متبوعاً. ولو دخلَ العوامُّ ¬

_ (1 - 1) في الأصل: "ويكفي قوله". (¬2) في الأصل: "غير". (3 - 3) غير واضح في الأصل. وانظر "العدة" 4/ 1068، و"الستصفى" 1/ 354.

معَ العلماءِ لمْ يبقَ تابعٌ ولمْ يتحقَّقْ لنا متبوعٌ أَيْضاً؛ لأنَّ التبوعَ مَنْ لَهُ تابعٌ، لأَنهُ مِن بابِ المتضايفاتِ فلا بدَّ للمتبوع مِن تابعٍ، فإذا كانَ العامِّيُّ والعالمُ متبوعَينِ فأين التَّابعُ؟ وإذا لم يكن تابعٌ فأينَ (¬1) حقيقَةُ المتبوع؟! وأمَّا قولُهم: إنَّ هذا استدلالٌ بدليلِ الخطابِ وليسَ بحجَّةٍ عندَنا، ولا يثبتُ بِهِ مثلُ هذا الأصلِ، فليسَ بدليلِ خطابٍ، بلِ استدلالُنا منه تحريمُ تركِ سبيلِ المؤمنينَ بإلحاقِ الوعيدِ بتركِهِ، وعندَكم لا يحرمُ أتباعُ غيرِ سبيلِهمْ، بلْ يجوزُ أَنْ يتَّبعَ ما دلَّ عليهِ اجتهادُ المجتهدِ وإنْ خالفَ سبيلَهم، ولأَنه لمَّا ذَمَّ وتواعدَ التبِعَ غيرَ سبيلِهم، لم يبقَ ما يُتبَعُ ويجبُ اتباعُهُ إلا سبيلُهم، إذْ لا سبيلَ ثالث؛ لأَنَّه لا يتحقَّقُ سبيلٌ لا هُوَ سبيلُهم ولا غيرُ سبيلِهِم. وأمَّا قولُ الإِماميةِ: إنًا قائلونَ بالآيةِ إذا كانَ فيهم الإمامُ، فليسَ بصحيحٍ؛ لأَنَّ الآيةَ تقتضي لحوقَ الوعيدِ بِمَنْ خالفَ جماعةَ المؤمنينَ، وعندَهم إذا خالفَ الكلَّ لحِقهُ الوعيدُ بمخالفةِ الإمامِ وحدَهُ، ولوْ كانَ القصدُ الإمامَ وحدَهُ لَمَا كانَ لذِكْرِ المؤمنينَ معنًى، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لمَّا. كانَ لذكرِ المؤمنينَ معنًى عَطَفَهم على الرَّسولِ في إلحاقِ الوعيدِ. بمشاقتِهِ، ولم يقْنعْ بذكر الرَّسولِ وحدَهُ، ولا بذكْرِ المؤمنينَ على حِدَتِهم، لعِلمِهِ سبحانَهُ بأَنهُ ستحدثُ حوادثُ بعدَه يحكمُ فيها المؤمنونَ، فإذا أَجْمعوا كانَ إجماعُهم بعدَهُ في إلحاقِ الوعيدِ بِمَنْ خالَفَهُ كحكمِهِ - صلى الله عليه وسلم - حالَ حياتِهِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "فان".

وإلحاق الوعيد. بمشاقَّتِهِ، فلو كانَ الإمامُ هو المعمولَ بقولِهِ خاصَّةً، لما أُغفِلَ ذكرُهُ، فلمَّا دخلَ في عمومِ المؤمنينَ دلَّ على أَنَّ حكمَهُ حكمُ واحدٍ منهم، إذْ يبعد أَنْ يغْفِلَ المتبوعَ ويكرَ الأَتباعَ، أَلاَ تَراهُ كيفَ قَدَّمَ ذكرَ الرَّسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ، فلو كانَ الإمامُ هو المعتبرَ، لَذَكَرَهُ مُمَيَّزاً ومخصوصاً، لا في جملةِ أَتباعِهِ، كَمَا لم يَقنَعْ (¬1) بذكرِ النّبيِّ في جملةِ عمومِ المؤمنينَ. وأمَّا قولُهم: إنَّ سبيلَ المؤمنينَ -وهم الفقهاءُ- إنَّما هوَ الاجتهادُ في الحوادثِ إِذا عَرَضَتْ، فأَمَّا التقليدُ فلا، وإذا كانَ كذلكَ كانتِ الآيةُ حجَّةً لنا، حيثُ أوجبْنا الاجتهادَ في الحادثةِ التي اتفقوا على حكمِها والقولَ بما يؤدِّي الاجتهادُ إليه، وإنْ خالف ما اتفقوا عليه، ليتحقّقَ الاتباعُ الواجبُ بالآيةِ، وأَمَّا المصيرُ إلى قولِهم معَ كونِ اجتهادِ المجتهدِ يؤدي إلى حكمٍ يخالف ما ذهبوا إليه، فليْسَ باتِّباعٍ لهم، إذْ ليسَ ذلكَ طريقَ بعضِهم معَ بعضٍ، ولا طريقَ كلِّ واحدٍ منهم. فهذا من أجودِ ما وردَ فيهِ نظرٌ، إذ (¬2) لم أجدْ ما أرتضي سطرَه منَ الجوابِ. والذي توجَّه لي أنَّ الصَّحابةَ -رضوانُ اللهِ عليهم- حيثُ تحرَّجوا البيعةَ على عليٍّ قبلَ عثمانَ، قالوا لَهُ: نبايعك على كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ وسيرةِ الشَّيخينِ، فقالَ: بلْ أجتهدُ رأيي (¬3). فوجْهُ الدلالةِ أنَّه عَقَلَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتبع". (¬2) في الأصل:"إذا". (¬3) انظر "تاريخ الطبري" 5/ 38 - 41.

منَ الاتباع الاقتدَاءَ بهما، والصَّحابةُ، حين (¬1) قالَ: بلْ أجتهدُ رأيي، لم يقلْ أحدٌ منهم: فهذا هوَ سيرتُهما، بلْ عَدَلُوا عنْهُ إلى عثمانَ، فدلَّ على أَنَّ الاجتهادَ برأيه لم يكن هُوَ الذي دَعَوْهُ إليهِ من سيرةِ الشَّيخينِ، ولي في السّؤالِ نظرٌ. وأَمَّا سؤالُهم على الآيةِ الأُخرى وأَنَّ شهادتَهُ لهمْ بالعدالةِ لا توجبُ اتباعَهم، ولا أَنَّ قولَهم (2 حجةٌ معصومةٌ، لا يجوز عليه الخطأ، كما لا يوجب أنه لا يجوز 2) عليهمُ الصَّغائرُ منَ الذنوبِ، فغيرُ صحيحٍ؛ لأَنَّ العدالةَ توجبُ الرجوعَ إلى قولِهم ونفيَ الارتيابِ فيما أَخبروا بِهِ، كما جعلَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ لَمْ يوجِبْ ذلكَ نفيَ الصَّغائرِ عنْهُ. وأمَّا قولُهم: هذا يرجعُ إلى شهادتِهم يومَ القيامةِ، فغيرُ صحيحِ؛ لأَنَّ (¬3) الله سبحانَهُ جعلَ الرَّسولَ شهيداً علينا، وجعلَنا شهداءَ على النَّاسِ، فالشَّهادتانِ عامَّتانِ، فلا وجهَ لتخصيص أحدِهما بغيرِ دليلٍ، والآية التي تختصّ بالقِيامةِ (¬4) قولُهُ تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، فأمَّا هذهِ فلا ذكرَ للآخرةِ فيها إلاً مِنْ طريقِ العمومِ، وعمومُها يَشمَلُ الدنيا والآخرةَ في حقِّنا، كما ¬

_ (¬1) في الأصل: "حيث". (2 - 2) غير واضح تماماً في الأصل. (¬3) في الأصل: "ان". (¬4) في الأصل: "القيامة".

شَمِل في حقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا ما وجَّهوهُ من الأسئلةِ على الأخبارِ، وقولهم: إنْها أخبارُ آحادٍ توجبُ الظنَّ، وإنَّ كلامَنا في أصلٍ يقتضي القطعَ، فليسَ بصحيح؛ لأَنَّ هذه الأخبارَ مُتلقّاةٌ بالقَبولِ، ومعَ كثرتِها وسلامة طرقها لا يجوزُ أَنْ تكونَ كذباً، أو هي تواترٌ منْ طريقِ المعني، فهيَ كشجاعةِ علي، وسخاءِ حاتمٍ (¬1)، وفصاحةِ قُس (¬2)، وفَهَاهَة باقِلِ (¬3)، وبُخْلِ مادِرٍ (¬4)، فإنَّ ما ورد في حقِّهم من أخبار صارَ بكثرتِهِ تواتراً في الجملةِ، وإنْ كانَ آحاداً في التفصيلِ. ¬

_ (¬1) هو: الطائى، انظر ما تقدم في 2/ 139. (¬2) في الأصل: "قيس"، وقُس: هو: ابن ساعدة الإيادي، انظر ما تقدم في 2/ 139. (¬3) في الأصل: "باقيل"، وانظر ما تقدم في 2/ 139. (¬4) هو رجل من بني هلال بن عامر بن صعصعة، سار به المثل في البخل، وحمي مادراً لانه سقى إبله فبقي في أسفل الحوض شيء من الماء، فبخل به أن ينتفع به غيره فسلح فيه ومدر الحوض بالسَّلح، أي لطخه وطلاه. "شروح سقط الزند" 2/ 535. ولقد أجاد المعريُّ في قوله: إذأوصف الطائىَّ بالبخل مادرٌ ... وعيَّر قُسًّا بالفهاهة باقلُ وقال السُّها للشمس أنت خفيَّةٌ ... وقال الدجى يا صبح لونك حائلُ وطاولت الأرضُ السمَّاءَ سفاهةً ... وفاخرتِ الشُّهبَ الحصى والجنادلُ فيا موتُ زر إنَّ الحياةَ ذميمةٌ ... ويا نفسُ جدِّي إنَّ دهركِ هازلُ "شروح سقط الزند" 2/ 533 - 538.

ولأَنَّ هذا الأصلَ ليس يتخصَّصُ بأدلةِ القطع، بلْ يُستدلُّ فيهِ بظاهرِ الآى وأخبار الآحاد وإلاستدلالات الظَّنِّيَّة، ولهذا لم نبدع المخالفَ فيه، ولم نفسِّقْهُ، بخلافِ أصولِ الدِّينِ. وأمَّا قولُهم: قدِ اختلفتْ ألفاظُها، فهيَ وإنِ اختلفَتْ إلاَّ أَنَّ المعنى واحدٌ، وهو عِصْمةُ الأُمَّةِ وتبعيدُ الخطأِ عنهم، وإيجابُ اتِّباعِهم، وذمُّ المنفردِ الشَّاذِّ عن الحكمِ الذي اتًفقوا عليهِ. وأمَّا ما أفردُوهُ منَ السُؤالِ على قولِهِ: "لا تجتمعُ أمَّتي على ضلالة" (¬1)، وأَنهُ أرادَ بِهِ في الاعتقادِ، كما اجتمعتِ النَّصارى، بلْ في الأُصولِ، (2 فلا يَخْلُو زمانٌ 2) من طائفةٍ قائمةٍ بالحقِّ، مبطلة بالحجج شُبَه (¬3) أهلِ الزيغ والبدع والضلالِ، كما وردَ في السنَنِ والآثارِ، كما قالَ: "لا تزالُ طائفةٌ منْ أُمتي قائمةً بالحقِّ لا يضرُّهم مُناوَأةُ مَنْ ناوَأَهُم" (¬4)، فهذا تأويلٌ يعطي تخصيصَ الحديثِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نفى عَنْهم الاجتماعَ على الباطلِ أُصولاً وفروعاً، ونفيُهُ الخطأَ والضَّلالَةَ يدلُّ على نفى ذلكَ أصلاً وفَرْعًا، فأفْرَدَ للأُصولِ نفيَ الضَّلالِ، وللفروع نفيَ الخطأِ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 211. (1 - 1) غير واضح في الأصل. (¬3) غير واضحة في الأصل. (¬4) أخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد 4/ 93، ومسلم1524 (174) من حديث معاوية بن أبى سفيان. وروي نحوه عن غير واحد من الصحابة، انظر حديث أبي هريرة في "المسند" (8274).

- فصل في الدلالة -على أن الإجماع حجة- من غير السمع

وورودُ الأَخبارِ التي رَوَوْها في الطائفةِ القائمةِ بالحقِّ، وورودُ الآحادِ لا يختصُّ الأُصولَ أيضاً، بلْ قيامهم بالحقِّ في الفرع والأصلِ جميعاً، ولا يضرُّهم مناوأة مَنْ خرج عن مقالتِهم، وشذَّ عنِ اجتماعِهم حيث لا يعتدُّ بقولِهِ، ولا يُبْنَى على فُتياه. فصلٌ في الدلالةِ على مذهبنا منْ غيرِ السمع أَن الله سبحانَهُ لمْ يُخلِ شريعةً مِن الشَّرائع مِنْ معصومٍ، فإذا مَضَى معصومٌ بَعَثَ نبياًّ معصوماً يُحيى ما أَمَاتَ المبطلونَ مِنْ شريعتِهِ، ويجدِّدُ أحكاما بحسْبِ العصرِ الآخرِ ومصلحةِ أهلِهِ، وأَنَّ الله سبحانَهُ لمَّا جعلَ نبينا خاتمَ الأَنبياء لم تخلُ أمتُهُ بعدَهُ مِن معصومٍ ترجعُ إليْهِ، يُؤمَنُ عليهِ الخطأ، فجعلَ اللَّه سبحانَهُ إجماعَ علماء الأُمَّةِ على الحكمِ حجة معصومةً مأموناً عليها مِنَ الخطأِ، هى خَلَفُ النبيِّ لمعصومِ، وقدْ أَشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلكَ حيثُ قالَ: "العلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يُخلِّفوا ديناراً ولا درهماً، وإنما خلفوا العلمَ " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 196، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (88) من حديث أبي الدرداء. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" 3/ 164: ضعَّفه الدارقطني في "العلل"، وهو مضطرب الاسناد، قاله المنذري، وقد ذكره البخاري في صحيحه بغير إسناد. وذكر الحافظ أيضاً في "فتح الباري" 1/ 160 أن حمزة الكناني حسنه، وأن له شواهد يتقوى بها.

- فصل فيما وجهوه من الاعتراض عليه

فصلٌ فيما وجَّهوُه مِنَ الاعتراضِ عليهِ فمنها: أَنَّهُم قالوا: نحنُ قائلونَ بِهِ، وإنَّ كتابَ اللهِ باقٍ معصومٌ من التبديلِ والتًغْييرِ، فعصمته (¬1) التي فارق بها سائرَ الكتبِ أَغْنَتْ عَنِ المجتهدينَ وإِجماعِهم، وقد أَشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلِكَ بقولِهِ: "إنِّي مُخلِّفٌ فيكمُ الثَّقلينِ: كتابَ اللهِ وسنَّتي" (¬2). ومنها: أَنْ قالوا: قدْ أَجْمَعْنَا على أَنَّ طلبَ العصمةِ في الحوادثِ بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونصبَ جهةٍ معصومةٍ، يُزيلُ رخصةً عظيمةً، وفسحةً نافعةً، وهيَ ما أَشارَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم -[إليه] بقولِهِ: "أصحابي كالنّجومِ، بأيِّهِمُ اقتديْتُمُ اهتديْتُم" (¬3)، وقولِهِ: "إذا اجتهدَ الحاكمُ فأصابَ فلَهُ أجرانِ، وإذا اجتهدَ فأخطأَ فلَهُ أجرٌ" (¬4)، وهذا توسعةٌ ورخصةٌ لَهُمْ لم تكنْ في زمنِهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا كانتْ لَهُ، فلا يجوزُ أَنْ نحرصَ على أَنْ نزيلَها بأنْ نجعلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خلفًا يمنعُها، كما يمنَعُها كونُه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فصمته". (¬2) أخرجه الحاكم 1/ 93 من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 280. (¬4) تقدم تخريجه 1/ 294.

- فصل في الأجوبة عن الأسئلة

ومنها قولُ الإِماميةِ: نحنُ قائلونَ. بمُقْتَضَى الدَّليلِ بإثباتِ الإِمامِ المعصومِ، المغني إثباتُهُ عَنِ إجتهادِ المجتهدينَ، وهو الأَشْبهُ؛ لأنهُ واحدٌ [قامَ] مقام واحدٍ، وقدْ نصَّ على ذلكَ بقولِهِ: "إني مخلِّفٌ فيكم الثقلين: كتابَ اللهِ وعِتْرَتى، أهلَ بيتي" (¬1)، والمرادُ: الأَئمةُ. فصلٌ في الأَجوبةِ عنِ الأسئلةِ أمَّا قولُهم: كتابُ اللهِ كافٍ وهوَ معصومٌ مِنَ التبديلِ، فليس في كتابِ اللهِ ما يعطي أحكامَ الحوادثِ كلها، بدليلِ أَنهُ قد تَجَدَّدَ ما لم يوجد في كتابِ اللهِ لَهُ حكمٌ كالخُنَاثى والمُعتَقِ بعضُه، والحملِ في باب ارْث (¬2) الجَدَّةِ وميراثِ الإخوةِ معَ الجدِّ، وعددِ جلدِ الشَّاربِ، وتوريثِ الغرقى والهدمى بعضِهم مِن بعض وأمَّا الاجتهادُ فإِنهُ باقٍ أبداً؛ لأنَّ القرائحَ باقية ببقاءِ أربابِها، ومتجددة بتجدُّدِ أهلِها. وأمَّا قولُهم: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذكرَ أَنَّهُ مخلِّف الثَّقلينِ، فقد أدخلَ في جملةِ سنتِهِ ما أَشَرْنا إليهِ مِنَ الإحماع فقالَ: "عليكمْ بسُنتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بعدِي" (¬3)، وسنَّةُ الخُلفاءِ هيَ الإحماعُ. ¬

_ (¬1) أخر جه أحمد 4/ 371، والطحاوي في "المشكل" (3463)، وصححه الحاكم 3/ 109 و 148 من حديث زيد بن أرقم. (¬2) في الأصل: "الإرث". (¬3) تقدم تخريجه 1/ 280.

- فصل في جمع شبههم

وأمَّا قولُهم: إنَّ طلبَ العصمةِ يزيلُ رخصةَ الاجتهادِ، فلا فائدةَ في طلبِ معصومٍ بعدَهُ - صلى الله عليه وسلم - ينقطعُ مَعَهُ الاجتهادُ، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يمنعْ وجودُه الاجتهادَ، بلْ أَقَرَّ على الاجتهادِ معَ وجودِهِ، بدليلِ قولِهِ لمعاذٍ: "فإنْ لم تجدْ (¬1)؟ " قالَ: أجتهدُ رأيي، فحمدَ الله على توفيقِهِ. ولم يوقِفِ القضايا والأحكامَ على مكاتبتِهِ وسؤالِهِ، وليسَ في إثباتِ الإجماع ما يضيّق على المكلفينَ، ولا يمنعُ اجتهادَ المجتهدينَ، لا سيَّما معَ اعتبارِنا انقراضَ العصرِ فِى حصولِ الإجماع، فإنَّهُ زمان يتعسعُ لاجتهادِ أَهلِهِ إلى حينِ انقراضِهمْ، وإنَّما نَمْنَغ الخلافَ كما مَنَعْنا اجتهادَ المخالفِ نصَّ الرَّسولِ، ولم نَمْنَعْ مِنَ الاجتهادِ فيما لم يوجدْ فيه نصٌّ مِنَ الرَّسولِ. وأمَّا قولُ الشِّيعةِ: إنَنا قائلونَ بذلكَ بإثباتِ الإمامِ المعصومِ، فأَغْنانا إثباتهُ عَنِ الإجماع؛ فإِنهُ إثباتُ معصومٍ لم تقمِ الدَّلالةُ على عصمتِهِ، والإجماعُ قدْ قامتِ الدّلالةُ [عليه] بما ذكرْنا، ولأَننا إِنَّما دَلَّلْنا على إثباتِ معصومٍ في الجملةِ على مَنْ لم يُثبتْ معصوماً من إمامٍ ولا غيرِهِ، فأمَّا الشِّيعة فإنَّ كلامَنا مَعَهم ودلالتَنا عليهم في عينِ المعصومِ، وليسَ هذا موضِعَة. فصل في جمع شُبَههم فمنها: قولُهُ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وهذا يمنعُ مِنْ أَنْ نكونَ محتاجِينَ إلى الإجماع. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 5.

ومنها: قولُهُ تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، واقتصر على الكتابِ والسُّنةِ، وهذا يمنعُ الرَّدَّ الى الاجماع. ومنها: بما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ لمعاذٍ لما بعثَ بِهِ إلى اليمنِ: "بمَ تحكمُ؟ " قالَ: بكتابِ اللهِ. قالَ: "فإنْ لمْ تَجد؟ " الَ: بسنَّةِ رسولِ الَلّهِ. قالَ: "فإنْ لم تجِدْ؟ " قالَ: أجتهدُ رأي، ولا آَلُو (¬1). ولم يذكر الإِحماعَ. ومنها: ما رويَ عَنِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم - أَنهُ قالَ: "لا تَرجِعُوا بعدِي كفَّاراً يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ" (¬2)، وقالَ: "لتركَبنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقذّة" (¬3)، وهذا يدلّ على جواز الضَّلالِ عليهم، وعلى سلوكِهمْ سننَ الأُممِ مِنْ قبلِهم، وإذا كانَ كذلكَ بطلَ دعوى عصمتِهم وثبوت الحجَّةِ مِنْ قولِهم. ومنها: أَنهُ شهدَ على أواخرِ هذهِ الأمةِ بأسبابِ الذمِّ فقالَ: "تُمَّ تبقى حفالةٌ، أو حثالةٌ، كحثالةِ التمرِ لا يعبأ الله بهمْ" (¬4)، "ثمَّ يفشو الكذب، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 5. (¬2) أخرجه أحمد (5578)، والبخاري (6166) (6868) (7077)، ومسلم (66) (119) (120)، وأبو داود (4686)، والنسائي 7/ 126، وابن ماجه (3943) من حديث ابن عمر. (¬3) أخرجه أحمد (17135)، والبغوي في "الجعديات" (3459)، والطبراني في "الكبير" (7140)، وابن عدي في "الكامل" 4/ 1357 من حديث شداد بن أوس بنحوه. (¬4) أخرجه أحمد (17728) و (17729) و (17730)، والبخاري (6434) من حديث مِرداس الأسلمي.

فيشهدُ الرجلُ قبلَ أَنْ يُستشهدَ، ويحلف قبلَ أَنْ يُستحلف" (¬1)، "يكون النّاس فيهِ ذئاباً" (¬2)، "لا تقومُ السَّاعة إلا على شرارِ النَّاسِ" (¬3)، "كيفَ بِكمْ إذا كانَ كذا، ثمَّ تَكونُ فِتَنٌ كقطع الليلِ المظلم، يصبحُ الرجلُ فيها مؤمناً ويمسي كافراً" (¬4) وإلى أمثالِ ذلكَ مِنْ ذمِّ أهلِ آخرِ الزَّمانِ، وهذا ضدُّ ما تعلقتُمْ بِهِ مِنْ مدح البارئ للأمَّةِ بالعدالةِ ونفى الضَّلالةِ، وكونِهِم حجَّةً معصومةَ، فلمْ يَبْقَ إلاَّ أنْ يكونَ ذلكَ المدحُ وُالتعديل راجعاً إلى أصحابِ رسولِ اللهِ والقرون الثَّلاثةِ: الصَّحابةِ والتَّابعينَ وتابعي التابعينَ، بحكمِ الرِّوايةِ والثِّقةِ فيها، فأَمًّا الإجماعُ الذي تُشيرونَ إليهِ فَلا، وأَنْتم تجعلونَ القرنَ الأخيرَ كالأَوَّلِ في الحجَّةِ والعصمةِ في إِجماعِهم. ومنها: أَنْ قالوا: أُمة مِنَ الأممِ، فلا يكونُ إِجماعُها حجَّةً كسائرِ اللأُمَمِ. ومنها: أَنْ قالوا: لمَّا جازَ على كلِّ واحدٍ منهمُ الخطأُ والضَّلالُ، جازَ على جماعتِهم، إذْ ليس جملَتهم إلاَّ آحادَهم. ومنها: أَنَّ الأمَّةَ معَ تفرّقِها في الآفاق، وبُعدِ بعضِها عنْ بعض ما بين ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (114) و (177) - طبعة مؤسسة الرسالة- من حديث عمر بن الخطاب. وانظر تمام تخريجه فيه. (¬2) أخرجه بنحوه الطبراني في "الأوسط" (740) من حديث أنس بن مالك. قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 89: فيه من لم أعرفه. (¬3) أخرجه أحمد (3735)، ومسلم (2949) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬4) أخرجه أحمد (8030)، ومسلم (118) من حديث أبي هريرة.

- فصل يجمع الأجوبة عن شبههم

المغربِ والمشرقِ، تعذر تجميعُ (¬1) أقوالِها وتحصيلُ إجماعِها، والله سبحانَه لا يوقِفُ حكماً مِنْ أحكامِهِ على ما لا يتحصَّلُ مِنَ الأَدلةِ. ومنها: أن قالوا: ما لا يصحّ إثباتُهُ إلاَّ بالدليل، لا يُجعلُ قولُ أهلِ العصرِ حجَّةً ودليلاً لإثباتِهِ، كالتَّوحيدِ، وما يجبُ للهِ مِنَ الصِّفاتِ، ونفى ما لا يجوزُ عليه، وتجويزِ ما يجوزُ عليه. فصل يجمعُ الأجوبةَ عن شبههم فأمَّا قولُهُ تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فهوَ كما قالَ سبحانَهُ، وليسَ في إثباتِ الاجماع ما يمنع من كونِ الكتابِ تبياناً لكلِّ شيءٍ، لأنَّ الاَيَ الذي استدْلَلْنا بِهِ على الإجماع مِنْ كتابِ الله (¬2)، والاَيَ التي أثبتْنا بها القياسَ وفحوى الخطابِ وغيرَ ذلكَ مِنَ الأدلةِ؛ فما مِنْ دليلٍ إلا والقرآنُ أصلٌ لَهُ. وأما قولُهم في خبرِ معاذٍ: لم يذكرِ الإجماعَ، فلأَنَّ الإجماع لا يتحققُ شرطُهُ، فإنه لا يكونُ حجَّةً معَ وجودِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يتحققُ بعدَ موتِهِ - صلى الله عليه وسلم -[لذَلك] لم يذكُرْهُ معاذٌ، ولا انتقلَ إليه بعدَ السّنة. وأمَّا قولُهم: إنَّ النبيَّ جَوَّز على الأمةِ الضلالَ والكفرَ، فنحنُ لا نمنعُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "جميع". (¬2) في الأصل: "من كتاب الله على الاجماع".

مِنْ ذلكَ، ولا جَعْلُ الإجماع حجَّةً مانعٌ (¬1) مِنْ كونِ الأمَّةِ يجوزُ عليها الضَّلالُ، فيُجمعُ بين الأمريْنِ والخبرين: المِدْحة (¬2) وذكرُ العدالةِ، والذمُّ على اتِّباع غيرِ طريقِهم، فالمذمُومونَ: العوامُّ، وفساق العلماءِ، وأهلُ البدع، لا يدخلونَ في أهلِ الإجماع، لأنَّ أهلَ الاجتهادِ العدولَ المتبعينَ للسُّنةِ همُ الذينَ يُعتدُّ بأقوالِهم في الاجماع، فالمدحُ عادَ إلى مَنْ كمُلتْ فيه صفات الاجتهادِ، والذمُّ عادَ إلى الفساقِ وأهلِ البدع. وكما أَنة ذَمَّ فساقَ أهلِ آخرِ الزمانِ فقدْ مدحَ خيارَهم حيثُ قال: "واشوقاه إلى إخواني"، قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؛ قال: "أنتُم أَصحابي، وإخواني قومٌ يأتونَ مِنْ بعدِي" (¬3)، وقال: "فهم النُّزَّاعُ من القبائل" (¬4)، وقال: "فهم الهُرَّأب بدينهم من شاهقٍ إلى شاهق"، وقال: "فَهُم الذينَ يَصْلُحون إذا فَسَدَ الناس" (¬5)، فما كانَ مِن الذّمِّ عادَ إلى أهلِهِ مِمَّنْ فسقَ مِنْهُم أو ابْتَدعَ، وما كانَ مِنْ مَدْحِ عادَ إلى مَنْ بَرَّ وعَدل. وأهل الإجماع إنما يكونونَ في غالِبِ الأحوالِ عدداً يسيراً، وهذا لا يضادُّ قولَه في خبرِنا: ¬

_ (¬1) في الأصل: "مانعاً". (¬2) في الأصل: "فالدحة". (¬3) أخرجه بنحوه أحمد (7993)، ومسلم (249) من حديث أبي هريرة. وأحمد (12579) من حديث أنس بن مالك. (¬4) أخرجه أحمد (3784)، والترمذي (2629)، وابن ماجه (3988) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬5) أخرجه اللالكائي في "السنة" (173)، والطحاري فى "شرح مشكل الآثار" (689)، والبيهقى في "الزهد" (200) من حديث جابر.

"امَّى لا تجتمِعُ على ضَلالةٍ" (¬1)، وهذا يعطي أنَّه قد يكونُ فيهم ضلال، فأمَّا أَنْ يُعْطيَ أنْ ليسَ فيهم هُداةٌ ولا أعلامٌ فلا. وأما قولُهِم: إنَّ هده أمَّةٌ مِن الأمَمِ فأشبَهتْ مَنْ تَقَدَّمَهُم، فيحتملُ أنْ لا نسلِّمَ، بل نقُول: إِنَّ سائرَ الامم إجماعُ عُلمائِها معصوم، وقد ذهبَ إليهِ جماعةٌ مِنَ العلماءِ مِنْهُم: أبو إِسْحاقِ الإِسْفَرايِيني مِنْ أَصْحابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ الله عنهما، ويحتملُ أنْ نُفَرِّقَ بينهما، بأنّ سائرَ الامم يَتَطَرَّقُ عليها النسخُ بَعْدَ نبيِّها، ويَتَجَدَّدُ نَبِيٌّ بعدَه، فلا تخلُو الأمة مِنْ معصومٍ يُزيلُ ما اختلَّ مِنَ الشّريعةِ الأولي، ويُجدِّدُ علىِ يَديهِ ما تصلُحُ به الأمَّةُ الأخرَى، وامَّتُنا هذه لا نبيَّ بعدَ نبيِّها، ولا نسخ، فلمْ يَكُ بُدٌّ مِنْ خَلَفٍ معصومٍ يحفَظُ قولَ نبيِّها، وتَجري مجرى نبيِّها فِى العِصمةِ عن الضّلالِ والخطأِ. وأما قولُهم: لمَّا جازَ الخطأ على آحادِهم جازَ على جماعتِهم، فليسَ بلازمٍ؛ لأَنَّ هذا جمعٌ بينَ ما فرَّقه الشَّرْعُ، لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِاتباع الجماعةِ، ونَهى عنْ مُفارقتِها وعَن الشُّذوذِ، وذمَّ الانفرادَ، فلا يُجمعُ بينَ ما فرَّقَه الشَّرعُ. وأمَّا مِنْ طريقِ المعنى: فإِنَّ الانفرادَ يُضْعِفُ، والإجماعَ يقوِّي ويحصُلُ به التَّضافُرُ، ويتَجدَّدُ بالإحماع ما ليسَ للانفرادِ، بدليلِ أخبارِ التَّواتُرِ بالإضافةِ إلى أخْبارِ الآحادِ، وأنَّ أحَدَهُما يوجب القطعَ، والآخَرَ يوجِبُ الظنَّ، والواحدُ مِنَ الشُّهودِ لا توجِبُ شهادتُه الحقوقَ والحدودَ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 211.

وبمجموع الشهودِ يحصُلُ ثُبوتُ الأحكامِ والحدودِ. وأمَّا قولُهم: إنَّ الإجماع يتعذّرُ العلمُ بحصولِه لتفرُّقِ العلماءِ في البلادِ المتباعدةِ، فليسَ بصحيحٍ لوجوهٍ: أحدُها: أنّه لوْ كانَ هذا هو العِلَّة، لوَجَبَ إذا انحصَرُوا فكانوا في بَلَدٍ واحِدٍ، كأصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل انتشارِهم، أنْ يكونَ حجةً، فلمَّا لم يكنْ حجَّةً وإن انضبطوا، بَطَلَ التَّعلُّقُ في نفْي، الإحماع بتعذُّره (¬1)، لأنّه لو كانَ التَّعذُّرُ علةَ النْفي، لكانَ عدمُ التَّعذُّرِ يوجِبُ الإثباتَ. ولأَنَّ أهلَ الاجتهادِ أعلامٌ في البلادِ، وأخبارُهم سائرةٌ مشهورةٌ، ولا تكادُ تَخفى، لأَنَّ العلمَ معظَّم في النُّفوس، وبلاغ العالِمِ إلى الاجتهادِ لا يحصلُ إلاَّ في الزَّمان الطويلِ، فلا يكادُ ينطوِي ذلكَ ولا يخفى. ولأنَّنا نتكلَّمُ على حصولِهِ ونعلِّقُ الحكمَ على ثبوتِهِ، فإذا تعذَّرَ العلمُ بهِ لنوع عذرٍ، لم يخرجْ عنْ كونِهِ حجةً، كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه الحجّةُ المعصومةُ، فإذا منعَ مِنَ العلمِ بِهِ مانعٌ لم يخرجْ عنْ كونِهِ حجَّةً معصومة. وأمَّا اعتبارُهم الإجماع على الحكمِ في الحادثةِ بالتوحيدِ، فغير صحيحٍ؛ لأنَّ التوحيدَ لا يثبت عنْ أصلٍ قبلَهُ، وهذا يثبت عن أصل قبله، فهوَ كالنُّبوّةِ التي تثبتُ عنْ أصلٍ قبلَها، (2 وهو المعجزُ الدالُّ 2) على صحتها، فكانَ قولُ أهلِ الإجماع كقولِ النبي- صلى الله عليه وسلم - ولأنَّ التوحيدَ لا يتبعُ فيه ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعذره". (2 - 2) غير واضح في الأصل.

مسألة: إجماع أهل كل عصر حجة ولا يختص بالصحابة

العاميُّ العالمَ ولا يقلدُ فيهِ، وإنما يرجعُ فيهِ إلى دلالةٍ يشتركُ بها الكُلُّ وهيَ أدلةُ العقولِ، ولهذا لم يمتَزْ فيها العالمُ المجتهدُ على العاميِّ المقلِّدِ، فإذا افترقا في بابِ الآحادِ والإفرادِ، لم يجز اعتبارُ أحدِهما بالآخرِ حالَ الإجماع. مسألة: لا يختصّ الإجماعُ الذي علَّقْنا عليه العصمةَ في الحُجَّةِ بأصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلْ إجماعُ أهلِ كلِّ عصرٍ حجَّة، وبه قالَ جماعة الفقهاءِ (¬1) والمتكلمينَ (¬2)، وقالَ داودُ وأهلُ الظاهرِ (¬3): لا اعتبارَ إلا بإجماع الصحابةِ. وعن أحمدَ مِثْلُهُ، وصَرَفَ شيخُنا كلامَ أحمدَ عنْ ظاهرِهِ في الروايةِ الموافقة لداودَ بغيرِ دلالةٍ (¬4). فصل في الأَدلةِ على الروايةِ الأُولي فمنها: قولُه تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، وقولُه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، {وَكَذَلِكَ ¬

_ (¬1) انظر "فصول الأصول" للجصاص 3/ 164، و"أصول السرخسي" 1/ 313. (¬2) انظر "المعتمد" 1/ 482، و"التبصرة" 359، و"الإحكام" للآمدي 1/ 208، و "المستصفى" 1/ 189. (¬3) انظر "الإحكام" لابن حزم 4/ 494. (¬4) انظر "العدة" 4/ 1090 - 1091، و "شرح مختصر الروضة" 3/ 47.

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وذلك هم الصّحابةُ وغيرُهم، فلا يخرجُ علماءُ كل عصرٍ عنِ العموم إلا بدليلٍ صالح لتخصيصِ العمومِ. ومنها: الأحاديثُ المرويَّة عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مسألةِ الإجماع التي احتجَجْنا بها على إبراهيمَ النطام: "أمتي لاتجتمعُ على ضلالةٍ" (¬1)، "عليكم بالسّواد الأعظمِ " (¬2)، "إيّاكم والشّذوذَ" (¬3)، "من فارقَ الجماعةَ ولو قِيدَ شبرٍ فقدْ خلعَ رِبْقَةَ الإسلامِ مِنْ عُنقِه" (¬4)، ولا يجوزُ قَصْرُ هذا على أصحابه- صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّ جميعَ خطابِ القرآنِ والسّنّةِ بلاغٌ، وقد قالَ الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. ومنها: أنّ العصرَ الثانيَ والثّالثَ ومَن بعدَهم يشتركون في خطابِ الآيِ والأخبارِ، وٍ كلُّ ما كانَ حجةً على الأوائلِ مِن كتابِ اللهِ وسنّةِ رسولِه كانَ حجّة على مَن بَعْدَهم (¬5) كذلك الإجماعُ لمّا كانَ حجَّةً على العصرِ الأول كان حجة على الثاني. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 211. (¬2) تقدم تخريجه ص 107. (¬3) لم نجده بهذا اللفظ، وروي معناه من حديث ابن عمر عند الترمذي (2167) بلفظ: "مَن شذ شذ في النار". (¬4) تقدم تخريجه ص 107. (¬5) في الأصل: "تقدمهم".

- فصل في شبه المخالف

ومنها: أنّ العلّة التي لأجلها كانَ إجماعُ الصحابةِ حجَّةً معصومةً، أنَّ بالأمَّةِ حاجةً إلى ذلكَ بعدَ نبيِّها - صلى الله عليه وسلم -، إذْ لا نبيَّ بعدَهُ، وهذا في الأواخرِ موجودٌ كما في الأوائلِ، بلِ الأواخرُ أحوجُ إلى حجّةٍ معصومةٍ. ومنها: أنَّ آحادَ العُلماءِ في بابِ جواز تقليدِ العامّةِ لهم، والتسويغ لاجتهادِهم في الحوادثِ، كآحادِ الصحابةِ رضوانُ الله عليهم، ولم يختصَّ آحادهم بالتسويغ في الاجتهادِ وجوازِ التقليدِ، كذلكَ جماعتُهم يجبُ أنْ يُساووا جماعةَ الصحابةِ في عصمةِ (¬1) اتفاقهم عن الخطأِ، لئلاْ يخلوَ عصرٌ مِن حجّةٍ معصومةٍ، كما لم يخل عصرٌ مِنْ مجتهدٍ مُتبَع فيُرجَعُ إلى فتياهُ وحكمِهِ. ومنها: أنّه اتفاقُ علماءِ العصرِ على حكمِ الحادثةِ، فكانَ إجماعاً كاتفاقِ الضحابةِ. ومنها: أنّ رواية الصّحابةِ لم تختصَّ بالقَبُولِ دونَ مَن بعدَهم، فكذلك يجبُ أنْ يكون، في بابِ الاجتهادِ. فصل في شُبَهِ المخالفِ فمنها: قولُه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وهذه صفاتُ الصّحابةِ، فكانَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "العصمة".

الخِطالب مصروفاً إليهم، والعصمة موقوفةٌ علي إحماعِهم، إذْ لا طريقَ لنا إلى العصمةِ إلاً بالسمع، والسمغ إنّما وردَ فيهم، فأمَّا أهل الأعصارِ المتأخرةِ فإنّما وردتِ السّنّةُ بذمِّهم بقولِه: "ثُمَّ يَفشو الكذبُ" (¬1) ثمّ ذكرَ الفتنَ، وأنّ الرّجلَ يصبحُ مؤمناً، ويمسي كافراَ، وأنّ ألواحدَ منهم يحلف على ما لا يعلمُ، ويشهدُ قبلَ أنْ يستَشهدَ، وأنّ النّاسَ يكونونَ ذئاباً (¬2)، إلى أمثال ذلك (3 بما ينافي ما ذُكِرَ 3) من صفتِهم بالعِصْمة (¬4). ومنها: أنّ (5 المعوّلَ عليه هو قول 5) الصادق المؤيدِ بالمعجِزِ، لكنْ وردتِ السّنّةُ بقولِه - صلى الله عليه وسلم -:"أصحابي كالنجومِ بِأيِّهمُ اقتديتُم اهتديتم" (¬6)، "عليكم بسُنتي وسُنّةِ الخلفاء الرَّاشدينَ مِنْ بعدي" (4)، فرجعنا إلى أقوالِهم لأجلِ السُّنّةِ، وبقيَ مَنْ عداهم على حكمِ الأصلِ. ومنها: أنّ فقهاءَ الأعصارِ لا يمكنُ حصرُهم ولا العلمُ باتفاقِهم لتباعدِ الأقطارِ، وما لا يمكن تحصيلُه لا يكونُ حجةً مِن حجج الشّرع، بخلافِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم، لأنهم كانوا محصورينَ معلومينَ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 125. (¬2) انظر هذه الأخبار قريباً ص 125. (3 - 3) طمس في الأصل. (¬4) انظر "العدة" 4/ 1092 - 1093. (5 - 5) طمس في الأصل، انظر "العدة" 4/ 1093. (¬6) تقدم تخريجه 1/ 280.

- فصل في الأجوبة عن شبهة المخالف

فصل في الأجوبةِ عَن شبهةِ المخالفِ فأمّا دعواهم أنّ الآيةَ خطابٌ للصحابةِ فغيرُ صحيحةٍ، بل الخطابُ لسائرِ الأمّةِ وأهلِ جميع الأعصارِ مِن المسلمينَ مِمَّن تشتمل عليهم الصفاتُ المذكورةُ، كالخطابِ مِن اللهِ سبحانَه بالعباداتِ، يوضحُ هذا أنّه لو كانَ مَقصوراً على أهلِ العصرِ الذي نزلتْ فيهِ، لكانَ مقصوراً على المبلّغ وقتَ نزولِها، فلمّا عمّت مَن كانَ بالغاً ومن بلغَ بعدَ نزولِها بزمانٍ، علِمَ أنّها شاملَةٌ عامّةٌ غيرُ مقصورةٍ على مَن نزلتْ في عصرِهِ (¬1). وأمّا دعواهم أن المِدحةَ بالعصمةِ تختصّ الصحابةَ، فلا (¬2) وجهَ لها معَ كونِ ما مُدِحت الصحابةُ لأجلِه موجوداً في آحادٍ مِن أهلِ الاجتهادِ في كلِّ عصرٍ، لا يُخلي الله منهم عصراً مِن الأعصارِ، وقد وردتِ المدحةُ فيهم خاصةً بقولِه: "واشَوْقاهُ إلى إخواني"، فقال أصحابُه: ألسْنا إخوانَك؛ فقال: "أنتم أصحابي، وإخواني قومٌ يأتونَ مِن بعدي يؤمنونَ بي ولم يرونِي" (¬3)، وقالَ فيهم فِى متونِ الأحاديثِ والمسُّننِ: "الذينَ ¬

_ (¬1) انظر "شرح مختصر الروضة" 3/ 49 - 50. (¬2) في الأصل: "لا". (¬3) تقدم تخريجه ص 128.

- فصل إذا خالف الواحد والاثنان حكما اتفق عليه الجماعة لم يعد ذلك إجماعا في إحدى الروايتين

يَصلُحونَ إذا فسَدَ النَّاسُ" (¬1). وأمّا قولُهم: إنّ فقهاءَ الأعصارِ لم يمكنْ ضبطُهم، فهذ! قولُ مَن إذا تصوّرَ ذلك بحصرِهم وقلّة عددِهم كانَ قولُهم حجةً، وهذا لا يختلفُ باختلافِ الأعصارِ، وإنّما هذا بحسبِ الكثرةِ والقلّةِ. فصل إذا خالفَ الواحدُ والاثنانِ حكماً اتفقَ عليهِ الجماعةُ، لم يُعَدَّ ذلكَ إجماعاً في أصحِّ الروايتينِ، وهوَ قولُ الجماعةِ، وفيه روايةٌ أُخرى: يكونُ إجماعاً، ولا يؤثرُ خلافُ الواحدِ والاثنينِ، وإلى هذا المذهب ذهب محمدُ ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ (¬2) صاحبُ "التاريخ"، وحُكيَ عن أبي بكرٍ الرازيِّ (¬3) أيضاً، حكاهُ أبو سفيانَ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 128. (¬2) هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، أبو جعفر الطبري، صاحب التصانيف البديعة، من أهل آمُل طبرستان، ولد سنة أربع وعشرين ومئتين، أكثر الترحال، وكانَ من أفراد الدهر علماً قَلَّ أن ترى العيون مثله. كان ثقة، صادقاً، حافظاً، رأساً في التفسير، إماماً في إلفقه والاجماع والاختلافِ، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات، وباللغة، وغير ذلك. توفي سنة عشر وثلاث مئة. "سير أعلام النبلاء" 14/ 267. (¬3) انظر "أصول السرخسي" 1/ 316، و"كشف الأسرار" 3/ 245، و"التقرير والتحبير" 3/ 93.

- فصل يجمع أدلتنا على أن الإجماع لا ينعقد مع خلافهما

وقال أبو عبد الله الجُرْجانيُّ (¬1): إنْ سوَّغتِ الجماعةُ الاجتهادَ في مذهبِ ذلكَ الواحدِ كانَ خلافُه معتدّاً به، مثل خلافِ ابنِ عباسٍ في العَوْل، وإن أنكرت الجماعة على الواحد لم يُعتدَّ بخلافه، مثل قول ابن عباس في المتعةِ والصَّرفِ (¬2). فصل يجع أدلَّتنا للرّوايةِ الأولى بأنه (¬3) لا ينعقدُ الإجماعُ معَ خِلافهَما. فمنها: قولُه تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ومع الخلاف فالتنازعُ حاصل، فوجبَ أنْ يُردَّ إلى اللهِ سبحانَهُ، وهو الرجوعُ إلى كتابِه وسُنّةِ رسولِهِ دونَ قولِ أحدِ المتنازعينِ. ومنها: أنّه فد جرى ذلك في عصرِ الصحابةِ، فعمِلوا بما ذكرنا دونَ ما ذهبَ إليهِ ابنُ جريرٍ، فمِن ذلك ما رُويَ: أنّ الصحابةَ خالفوا أبا بكرٍ في قتالِ أهلِ الرِّدَّةِ وناظروهُ وحاجُّوهُ بالسُّنةِ، وأجابَهم عن ذلك (¬4)، ولا أحدَ منهم قالَ: إنّ اتفاقَنا حجّة مانعة لكَ مِن المخالفةِ لنا، فصارَ ذلك ¬

_ (¬1) انظر "البحر المحيط" للزركشى 4/ 478. (¬2) سيأتي تخريجه في الصفحة 140. (¬3) في الأصل: "فإنه". (¬4) تقدم تخريجه 4/ 273.

إجماعاً منهم على قولِنا، وكذلك ابنُ عباسٍ وابنُ مسعودٍ انفردا عَنْ جميع الصحابةِ بمسائلَ معروفةٍ، ولم يمنعوا مِن الخوضِ في الخلافِ، ولا قيلَ لهما: قدْ حجَّكم الإجماع، فأمسِكوا عنِ المخالفةِ. ومنها: أنّه لو ثبَتَ هذا المذهبُ عدِمنا الثِّقةَ بالإحماع؛ لأنَّ كلّ واحدٍ مِن المجتهدينَ إذا عَلمَ أنّه لا يعوَّلُ على قولِه في الإجماع ولا يختلُّ بخلافِه، صانَ نفسَهُ عَنْ إسقاطِه؛ لأنّه فاسدٌ، وتحريرُ هذا يُسْقِطُ الثّقةَ بالموافقةِ. ومنها: أنّه إنّما أثبتْنا العصمةَ والقطعَ بقولِ الجماعةِ لأجلِ أنّ الشّرعَ نَطَقَ بذلكَ، فقالَ: "أمّتي لا تجتمعُ على خطأٍ"، ورُويَ: "على ضلالةٍ"، فإذا لمِ يكنْ لنا إجماعٌ بلْ كانَ الخلافُ واقعاً، بقينا على الأصلِ وأنْ لا عصمة. ومنها: أنّه لو قلَّ أهلُ الاجتهادِ فلمْ يبقَ إلاّ الواحدُ والاثنانِ، لوباءِ عَرَضَ، أو لِفِتنةٍ استوعبتْهم -والعياذُ باللهِ- كما قلَّ القرّاءُ في قتالِ أهلَ الرِّدَّةِ بكثرةِ مَنْ قُتلَ مِن قُرّاءِ السلمينَ، كان مَن بقيَ مِن المجتهدينَ مستقلاً بالإحماع، ولم ينخرمِ الإجماع لعدَمِ الكثرةِ، وإذا كانَ هذا العدد القليلُ يصلُحُ لإثباتِ أصلِ الإجماع المقطوع بهِ، فأَوْلى أنْ يصلُحَ لفلِّ الإجماع واختلالِه. بمخالفتِه. ومنها: أنّا لا نأمَنُ أنْ يكونَ الحقُّ في البلدِ ومع العددِ اليسير، كما كشفتِ الحالُ عَنْ إصابةِ أبي بكرٍ فيما توحَّدَ بهِ مِن الرّأيِ بذمِّ الرِّدَّةِ، حيثُ صارَ الكلُّ إلى قولِهِ، وكما كشفَ الوحيُ عنْ إصابةِ عمرَ في

- فصل يجمع شبه المخالف القائل بانعقاده

الأسرى يوم بدرٍ (¬1)، وإذا كانَ كذلك فلا يؤمنُ أنْ يكونَ الحقُّ معَ المخالفينَ للحكمِ الذي اتفقَ عليهِ الأكثرونَ، فلا يجوزُ مع هذا الاعتدادُ بقولِ الأكثرينَ إجماعاً مع هذه الحالِ وهذا التجويزِ. ومنها: أنّه قولٌ بالتحكُّمِ لم يتفقْ عليه فقهاءُ العصرِ، فلا يُقطعُ به، كما لو كانَ المختلفون في العددِ سواءً. ومنها: أنّ الواحدَ والاثنينِ عددٌ لا وجهَ لتخصيصِه بتركِ الإحفالِ بهِ دونَ أنْ يكونَ الأربعةُ والخمسةُ كذلك (¬2)، فلما كانَ الأربعةُ والخمسةُ بالإضافةِ إلى الكثرةِ يُعبَأُ بهم، ولا تُهملُ فتواهم، ولا ينعقدُ إجماعُ الأكثرينَ دونَهم، كذلك الواحدُ والاثنانِ، ولهذا جازت فتواهم، وسُوِّغ اجتهادهم، ولم يجزْ لهم تقليدُ مَن خالفَهم. فصل يجمعُ شُبَه المخالفِ في الرِّوايةِ (¬3) لنا فمنها: قولُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بالسوادِ الأعظمِ" (¬4)، "عليكم ¬

_ (¬1) عندما أشار بضرب أعناق الأسرى، وأشار غيره بفدائهم، فنزلت الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، انظر "تفسير الطبري" 14/ 58 وما بعدها، وانظر ما تقدم في 3/ 419. (¬2) في الآصل: "لذلك". (¬3) في الآصل: "والرواية". (¬4) تقدم تخريجه ص 107.

بالجماعةِ" (2)، "يدُ الله على الجماعةِ" (¬1)، وقولُه: "اثنانِ فما فوقَهما جماعةٌ" (¬2)، "إيّاكم والشذوذَ" (¬3)، والواحدُ، والاثنان بالإضافةِ إلى الجماعةِ شُذوذ، وقد نهانا عنِ الأخذِ بقولِهم. ومنها: أنّا أجمعنا على تقديمِ الخبرِ المتواترِ وألغيْنا خبرَ الواحدِ والعددِ اليسيرِ، فكذلك فِى بابِ الاجتهادِ، وما ذلك إلاّ لأنّ الخطأَ يبعُدُ عَنِ الجماعةِ، ويقرُبُ مِنَ الآحادِ. ومنها: أنّ الأخبارَ تُرجّحُ بكثرةِ عددِ الرّواةِ، فيجبُ (¬4) أنْ يقدّمَ فِى بابِ الرّأيِ الأكثرُ، ويُسقَط حكمُ الأقلِّ. ومنها: أنّ خلافةَ أبي بكرٍ لما اجتمعَ عليها الأكثرونَ، وشذ مَن شذَّ مِن الأنصارِ وأهلِ البيتِ، لم يعوِّل الصحابةُ على خلافِهم لأجلِ القِلةِ والشّذوذِ، وبنوا أمر الخلافةِ على الكثرةِ والغالبِ، وكذلك لمّا خالف ابنُ عباسٍ الجماعةَ فِى المتعةِ (¬5) وبيع الدرهمِ بالدرهمينِ (¬6)، أنكر عليه ابنُ الزبيرِ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2167)، وابن أبي عاصم في "السنة" (80)، والحاكم 1/ 115 - 116 من حديث ابن عمر. وأخرجه الترمذي أيضا (2166) من حديث ابن عباس. (¬2) تقدم تخريجه 3/ 430. (¬3) انظرص 125 تعليق (4). (¬4) في الأصل: "يجب". (¬5) أخرجه مسلم (1406) (27). (¬6) أخرجه أحمد 5/ 200، 204، 206، 208، 209، ومعسلم (1596) (102)، والنسائي 7/ 281، والبيهقي 5/ 280.

- فصل في جمع الأجوبة عن شبيهم

المتعةَ، وأنكرت الجماعةُ ربا الفَضْل، وإنّما كانَ ذلكَ لوَحدتِه في المذهبِ. ومنها: أنّه لمّا جاز أنْ يكونَ في الجماعة المتفقينَ مَن يخالفُ، ويُسِرُّ الخلافَ، ولم يمنع ذلك انعقادَ الإجماع، كذلك إذا أظهرَ الواحدُ والاثنانِ الخلافَ يجبُ أنْ لا يمنعَ انعقادَهُ. فصلٌ في جميع الأجوبةِ عَنْ شُبَههم فأمّا الخبرُ (1 في مَدْح ا) الجماعةِ والحثِّ علىَ اتباعِها، فإنّ المراد بهِ الإجماعُ الذي لا يشذّ عنهُ أحدٌ مِن أهلِهِ، ولهذا لو كانَ المجتهدُ واحداً أو اثنينِ، كانَ الحثّ على اتباعهما واتباعُه داخلاً تحتَ هذا الخبرِ. ومَن شذّ، إنما المراد به مَنْ عَدَلَ لا باجتهادٍ، وإنّما شذّ عناداً ومخالفةً، لا بدلالةٍ، بدليلِ أنّه مأمور بالاجتهادِ، فمحال أنْ يُذَمَّ على ما أمِرَ بهِ، أو يؤمرَ بتقليدِ غيْرِهِ مع تلوح الدليلِ لهُ في الحكمِ الذي صارَ إليهِ. وأمّا قولُهم: "اثنانِ فما فوقَهما جاعةٌ" (¬2) فإنّما الرادُ بهِ جماعة الصلاةِ، وأمّا تقديمُ خبرِ التواترِ وإسقاطُ خبرِ الواحدِ إذا تقابلا، فلأنّ خبرَ التواترِ يوجبُ العلمَ القطعيّ، ولا يجوزُ عليه الكذبُ، وخبرُ الواحدِ ¬

_ (1 - 1) غير واضح في الأصل. (¬2) تقدم تخريجه ص 139.

والآحادِ لا يُقطَع بصدقِهِ، ويجوزُ عليهِ الكذبُ، فأمّا في مسألتِنا، فإنَّ كل واحدٍ مِن الفريقينِ يجوزُ عليهِ الخطأُ، ولا يقطع بصوابِه، ولأنّ الأخبارَ تُقدّمُ وتُرجح بكثرةِ العددِ، ولا يرجح إلاجتهادُ بكثرةِ العددِ، بل ببلوغ الحدِّ المعصومِ، والمعصومُ هو: ما لايختلفُ علماء العصرِ فيهِ، ولا عصمةَ مع الخلافِ، كما لا قطعَ بصدقِ الرّواةِ مع عدمِ التواترِ. وأما قولُهم: الأَخبارُ تُرجح بالأعداد، كذلكَ ها هنا نرجِّحُ الأكثرينَ مِنَ المجتهدينَ على الواحدِ والاتنينِ، فليسَ ممَّا نحنُ فيهِ بشيءٍ؛ لأَنَّ أقوالَ المجتهدينَ لا ترجَّحُ بكثرةِ العددِ، فما (¬1) تعلَّقوا بِه مِن التَّرجيح ليسَ. بمؤثر في مسألتِنا. فأمَّا خلافَةُ أبي بكرٍ، فإنها انعقدت بمن بايَعَ منهم، وليسَ مِن شرطها الإجماعُ، ثم إنَّ إجماعَهم لوْ كانَ مشروطاً كانَ من شرطِهِ حضورُهمِ، ولأوفَوْها حالةً واحدةً ومجلساً واحداً، وقدْ دخلَ النَّاس في بيعته أرسالاَ، وجاءَ أهلُ البيتِ راضينَ (2 ببَيعَتِه، مُقبلين 2) على مبادَرَتِه معتذرينَ عَنْ تخلفِهم بشُغلِهم. بمصابِهم برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاعتذرَ كلّ منهم إلى صاحبِه، وأجمعتِ الأمة عليهِ. وأمّا الأنصارُ فكانت لهم جولة قبلَ سماع ما رُويَ لهم مِن قولِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم -: "الأئمةُ من قريشٍ" (¬3)، [ثم] زالَ خلافُ الأنصارِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيما". (2 - 2) غير واضح في الأصل. (¬3) تقدم تخريجه 37614.

- فصل انقراض العصر معتبر لصحة الإجماع واستقراره

ورضيَ سعدٌ، ومَن تخلفَ عن بيعتِه تخلفصَ عناداً، أو تَقِيَّةً، أو لارتيابِ، أو لشبهةٍ عَرَصَت لَه إلى أنْ زالتْ. وأمّا ابنُ عباسٍ فإنّهم لم ينكروا عليهِ اجتهادَه باجتهادِهم، وإنما رَوَوْا له الأخبارَ المرويَّةَ في رِبا الفضلِ، ولم يكن عندَه إلا ما رُويَ في ربا النَّسيئةِ، وكذلكَ رووا لَه نسخَ المتعةِ والرواياتِ التي تضمَّنتْ نسخها، فلزِمَهُ الرُّجوعُ إلى السُّنةِ، فأمَّا الاجتهادُ فلا، على أنَّ الإنكار الذي كان يجري بينهم لا يدلُّ على لزوم المذهب الذي دعا كلٌّ منهم إليه، فإنَّ مسائلَ الاجتهادِ كان كلٌّ منهم ينطق بحجَّتِهِ، ويجعلُ الإنكارَ لمخالفةِ الحجةِ، فهذا يقولُ: ألا يتقي الله زيدٌ؟ ايجعلُ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يجعلُ أبا الأبِ أباً؟ (¬1) وهذا يقولُ: مَن شاءَ باهلني باهلته، والذي أحصى رملَ عالجٍ عدداً، ما جعلَ الله في الفريضةِ نصفاً ونصفاً وثلثاً (¬2)، وإلى أمثالِ ذلكَ. وأمّا دعواهم جواز إسرار الخلاف في حقِّ بعضِ المتفقينَ، فلا نُسَلِّمُهُ، لأَنَّ تجويزَ ذلكَ يمنع الثقة، ويزيلُ القطعَ والعصمةَ، وما ذلكَ إلابمثابةِ تجويزِ إسرارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لبعض ما أُوحيَ إليهِ وشُرِعَ له. فصل انقراضُ العصر معتبر لصِحَّة الإجماع واستقراره، فإذا تراجعَ بعض ¬

_ (¬1) تقدم 2/ 37. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 30.

الصَّحابةِ أو جميعهم عن حكمٍ تقدَّمَ إجماعُهم عليهِ، انحلَّ الإحماع، (1ولو أدركَ 1) بعضُ التابعينَ عصرَ الصَّحابةِ وهو مِن أهلِ الاجتهادِ، اعتُدَّ بخلافِهِ، ذكرَهُ أحمدُ. واعتدَّ بخلافِ عليِّ رضي الله عنه في بيع أُمهاتِ الأولادِ بعدَ اتَفاقِهم على منع بيعِهنَّ (¬2)، وحدِّ عمرَ الشَّاربَ ثمانينَ بعدَ أن ضربَ أبو بكرٍ أَربعينَ، وضَرَبَ عليٌّ في خلافةِ عثمانَ أربعين (¬3)، فاعتدَّ بخلافِ مَن خالف بعدَ الاتِّفاقِ. وإليهِ ذهبَ بعضُ أصحابِ الشَّافعيِّ (¬4). وذهبَ المتكلمونَ مِنَ المعتزلة، والأشعريةِ، وأصحابِ أبي حنيفة فيما حكاهُ أبو سفيانَ، وبعض أصحاب الشافعي إلى أن انقراض العصر ليس بشرطٍ (¬5). ¬

_ (1 - 1) فِى الأصل طمس انظر "العدة" 4/ 1095. (¬2) أخرجه عبد الرراق (13224)، وابن أبى شيبة 6/ 436 - 437، والبيهقي 10/ 348. (¬3) أخرجه مسلم (1707) (38). (¬4) زاد في الأصل بعد هذا: "إلى أن انقراض العصر ليس بشرط" وهو خطأ ناتج عن انتقال نظر مما بعده. (¬5) انظر "المعتمد" 2/ 502، و "البر هان " 1/ 693، و "أصول السرخسي" 1/ 315، و "التقرير والتحبير" 3/ 86.

- فصل في جمع الأدلة على ذلك

وقد ذهب بعض إصحابِ الشافعيِّ (¬1) إلى تفصيلٍ فقالوا: إن كان القول منهم مطلقاً، لم يُعتَبَر انقراضُ العصر، وإن كان مقيداً، فإن قالوا: هذا قولنا، ونحنُ نجوِّزُ أَنْ يكونَ الحقّ غيرَ ما ذكرْنا، وإنِ اتَّضحَ الحق في غيرِهِ صِرْنا اليهِ، لم يكنْ إجماعاً (¬2). وقيلَ: إنَّ التفصيلَ في الوجهِ الثَّالثِ: إنْ كانَ قولاً من الجميع، لم يعتَبرْ فيهِ انقراض العصرِ، [و] إنْ كانَ قولاً مِن البعضِ وسكوتاً مِن الباقينَ، يُشترطُ فيه انقراضُ العصرِ. وفائدةُ الخلافِ: أنَّ مَن قالَ باشتراطِ انقراضِ العصرِ، يجعلُ (¬3) رجوعَهم أو رجوعَ بعضِهم مزيلاً رافعاً للاجماع، ويكونُ التسويغُ بحالهِ، ومَن قالَ: لا يكونُ شرطاً، يقولُ: إنَّ إجماعَهم التقدمَ يُحَجّ به كلُّ راجع، فلا يُلتفتُ إلى خلافِهِ. فصل في جمع أدلِننا فمنها: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ ¬

_ (¬1) يشير بهذا إلى قول الجويني. انظر "البرهان" 1/ 694. (¬2) وهذا رأي الأستاذ أبى إسحاق الإسفراييني وأبي منصور البغدادي، وقال فيه القاضي الباقلاني: إنه قول أكثر الأصحاب. انظر "البحر المحيط" 4/ 512، و"البرهان" 1/ 693. و "العدة" 4/ 1097. (¬3) في الأصل: "يحصل".

عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، فوجه الدَّلالةِ أَنَّه جَعَلَهم شهداءَ على غيرِهم، فأمَّا على أنفسِهم فلا، وأنتم تجعلونَهم حجَّةً على أنفسِهم. ومنها: ما احتجَّ بهِ صاحبُنا مِنْ أقوالِ الصَّحابةِ، فمنها: ما رُوِيَ عن على أنَّه قالَ: كان رأيَ مَعَ رأيِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ: أنْ لا تباعَ أمَّهاتُ الأَولادِ، وأرى الآنَ أَن يُبَعْنَ، فقالَ له عَبيدةُ السَّلْمانيُّ: رآيك معَ الجماعةِ أحبُّ إِلينا مِنْ رأيِكَ وحدَكَ (¬1). وإظهارُ علي للخلاف بعدَ الاتفات يكفي، فكيفَ وقدْ أقرَّهُ الجماعةُ، وغايةُ ما نطقَ بِهِ عَبيدةُ ترجيحاً لأحدِ الاجتهادينِ وهو الأَوَّلُ. وروى عطاء عَنِ ابنِ عباس أنَّه قالَ: واللهِ ما هيَ إلاَّ بمنزلةِ بعيرِكَ وشاتِكَ (¬2). وكانَ عبدُ اللهِ بنُ الزبيرِ يبيحُ بيعَ أمَّهاتِ الأَولادِ (¬3). ومنها: أنّه قولُ معصومٍ، أو قولُ مَنْ جعل الشَّرعُ قولَه حجَّةً، فلم يستقرَّ إلاَّ بموتِهِ، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنَّ ما ذهبَ إليهِ المخالفُ يجعل قولَ الإنسانِ عَنِ اجتهادِهِ مانعاً لَهُ عِن اجتهادِهِ، وهذا فاسدٌ؛ لأَنَّ الرأيَ أبداً عندَ المراجعةِ والتحيّر وتكرارِ النَّظرِ يكونُ أصحَّ، ولهذا قالَ الله سبحانَهُ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في أول الفصل السابق. ص 143. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (13218). (¬3) أخرجه عبد الرزاق (13228)، (13229)، والبيهقي 1/ 3430.

- فصل في الأسئلة على أدلتنا

{الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] فجعلوا باديَ الرَّأيِ مطعناً، فلا يجوزُ أَنْ يُجعل اَلرَّأيُ الأوَّلُ محكماً على الرأيِ الثاني ومانعاً منْهُ، سيَّما مِن شخْص واحدٍ، ولا سيَّما وأدلةُ الاجتهادِ ظنٌّ صادِرٌ عنْ أمارةٍ، فإذا بان له أنَّ الأولَ خطأٌ، زالَ ما كانَ يظنّهُ دليلاً، [وِ]، ليس بدليل لكنه شبهةٌ حصرته (¬1) عن صحَّةِ التأملِ، وصارَ كرجلٍ بانتْ له القِبلةُ بأمارةٍ صحَّتْ عندَهُ، بعدَ أَنْ كانَ عندَهُ أَنَّ القِبلةَ إلى جهةٍ غيرِها بأمارةٍ بانَ له فسادُها، وكذلك الوحيدُ في الاجتهاد يرجِعُ إلى اجتهادِهِ الثَّاني، حتى إنَّهُ لوْ حكمَ في حادثةٍ، وبانَ له في مثلِها خلافُ الأَوَّلِ، صارَ إليهِ، تعويلاً على ثاني اجتهاديهِ دونَ أوَّلِهما. ومنها: لأصحابِ الوجهِ الثالثِ، وهو التفصيلُ، أَنَّ المجتهدَ قَد يسكتُ، لأَنهُ في رَوِيَّةِ النظرِ، فلا يُقطعُ عليهِ. بموافقةٍ حتى يمضيَ زمانُ اجتهادِهِ بوفاتِهِ. فصل في الأسئلةِ على أدلَّتنا فمنها: أَنَّ الآيةَ تقتضي أَنْ يكونوا شهداءَ على الناسِ، وليسَ فيها نفيُ شهادتِهم على أنفسهم، بلْ رُبَّما كانَ إثباتُ شهادتِهم على غيرِهم تنبيهاً على قَبولِ قولِهم على أَنفسِهم، فإنَّ الإقرارَ يُقبلُ على مَنْ لا تُقبلُ شهادتُهُ على غيرِهِ، وهمْ غيرُ العدولِ، ولأنَّ ذلكَ عائد إلى يومِ القيامةِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حصرناه".

- فصل في الأجوبة على أسئلتهم

ومنها: أَنَّ قولَ علي يعطي اتفاقَهُ معَ عمر فقطْ، وهذا قولُ اثنينِ اتَفقا يرجعُ أحدُهما إلي رأيٍ خالف بِهِ الرأيَ الذي وافَقَ بِهِ، وليسَ هذا بإجماع ولا مِمَّا نحنُ فيهِ بشيءٍ. ومنها: قولُهم: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كانَ قولُه الثَّاني هو المعمولَ بِهِ وعليهِ، ولم يستقرَّ قولُهُ إلاَّ بموتِهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأَنَّ النسخَ مِنَ اللهِ سبحانَهُ مُتَرَقب، والنَّسخ إنَّما هو بقول غيره لا بقول نفسه، وبقول مَنْ لا يقولُ: إنَّ الأَوَّلَ خطأ، وإنَّما يقول: إنَّ الأول صوابٌ ومصلحةٌ إلى الآنَ، والآنَ قَدْ كانتِ المصلحةُ إزالةَ ذلكَ الحكمِا الأَولِ، وها هنا يفضي إلى تخطئةِ الاجتهادِ في الحكمِ الأَولِ، ولا يجوزُ تخطئةُ الجماعةِ، ولو جُوِّزَ تخطئَتُهم لا حصلتِ الثِّقةُ بإجماعِهم. ومنها: سؤالُ مَنْ قالَ بالتفصيلِ مِنْ أصحابِ الشَّافعي: أنَّ الظَّاهرَ مِن سكوتِهِ موافقتُهُ، وفي سكوتِهِ نوعُ احتمالٍ، فإذا قالَ بعدَ ذلكَ كانَ القولُ الأولُ صريحاً يقضي على الظَّاهرِ، فأمَّا إذا وافقَ قولاً فَلَمْ يبقَ احتمالٌ، فكانَ إجماعاً قطعياً لا يجوزُ أَنْ يؤثرَ فيه خلافٌ. فصل في الأجوبةِ عَنْ أسئلئهم فأمَّا قولُهم على الاَيةِ: ليْسَ فيها أَنَّهم ليسوا حجَّةً على أنفسِهم، ففيها ذلكَ، لأَنهُ غايَرَ بينَ أنفسِهم وبينَ غيرِهم، فجعلَهم شهداءَ على النَّاسِ وجعلَ الرَّسولَ عليهم شهيداً، فأفادَ ذلكَ أَنَّ الشَّهيدَ عليهمُ الرَّسولُ

خاصَّةً دونَ أنفسِهم، كما أنهمْ شهداءُ على النَّاسِ دونَ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - واعتبار عدالتهم يدل غلي ان شهادتهم على غيرهم، فأمَّا قولهم علي أنفسِهم، فلا (¬1) يشترطُ له العدالة كإقرارِهم. وأمَّا قولُ علي رضي الله عنه، فإنَّ اعتراضَ عَبيدة عليهِ يعطي أنَّهُ كانَ رايهُ معَ الجماعةِ، وقدْ روِيَ: أجمع رأيي ورأيُ الجَماعةِ أَنً أمهاتِ الأولادِ لا يُبَعْنَ (¬2)، فإذا كانَ قولُهُ: رآيكَ مَعَ الجماعة، عُلِمَ أنه كانَ إجماعاً، فلم يبقَ إلاَّ ذكرُ علي لعمرَ وحدَهُ، فكانَ ذلكَ لأنَّهُ الإمامُ، فاستغنى بذِكْرِهِ عن ذِكْر مَنْ تابَعَهُ؛ لأَنَّهُ الإمامُ المتَّبَعُ، ولو كان عمرُ وحدَهُ لم يكنْ لترجيحِهِ عليهِ معنىً؛ لأَنَّ قولَ عمرَ ليسَ بمقدَّمٍ على قولِ علي في الاجتهادَ ولا الرِّوايةِ، ولا نوع مِنَ الأَنواع، لا سيَّما بعدَ موتِ عمرَ وحياةِ علي وولايتهِ. وأَمَّا اعتذارُهم عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بإنَّه يرجع إلى النَّسخ ويتوقَعُه مِنْ جهةِ اللهِ؛ فإنْ كانَ يتوقعُ النَّسخَ، فالمجتهدُ أيضاً تَعرِضُ لَهُ دَلالة شرعية بعدَ أَنْ كانَ على شبهةٍ، وليسَ بمعصوم في نفسِهِ ما دامَ حياً، فهوَ مِنْ أهلِ النَّظرِ يتلقّى ما يأتي مِن قِبَلِ الله تعالى، فإنهُ مِنْ وجوهِ الاستدلالِ، وما بينَهما فرقٌ أكثرُ من [أنَّ] الدلالةَ الناسخةَ قطعيةٌ، والدلالةَ العارضةَ للمجتهدِ ظنِّيَّةٌ، وحالتُهُ الثَّانيةُ إنْ لم تترجَّحْ على رأيِهِ الأوَّلِ بالبادرةِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا". (¬2) تقدم في الصفحة 143.

فليسَ تنقصُ عنه، فلا إجماعَ مع انخرامِ اتِّفاقِهم. بما عَرَضَ مِن اختلافهم. وأمَّا سؤالُ أصحابِ الشَّافعيِّ على التفصيلِ، فليس بصحيح؛ لأنَّ قولَهم بعدَ السُّكوتِ وبعدَ التلوُّمِ فإنَّما قضيَ بِه، لأنهُ رأي صدرَ عنِ اجتهادٍ، فإنْ ترجَّحَ بالقولِ على الإمساكِ، فقدْ ترجحَ الثَّاني على الأَوَّلِ بطولِ التأمُّلِ ومراجعةِ الرأيِ، وما زالَ العقلاءُ يبنونَ على الرأيِ المتأخِّرِ المختَمِرِ لِمَا يحصلُ فيهِ مِنْ طولِ المُهلةِ، وكلُّ رأيٍ فَطيرِ وإنْ كانَ من جماعة، فالمختمرُ أَوْلى، وإن كالت مِن دونِهم عدداً. ولا رَأينا قولاً كان حجَّةً على قائِلِهِ، معَ كونِهِ صادراً عن رأيِهِ، يَحجُزُه عَنِ العملِ برأيِهِ الثَّاني. فإن قيلَ: بلْ قدْ يمنعُ الأوَّلُ العملَ بالثاني فيما طريقُهُ الاجتهادُ، ويكون قولُ الواحدِ الأوَّلِ مانعاً مِن نفوذِ قولِه الثَّاني، بدليلِ أنَّ الحاكمَ إذا حكمَ في حادثةٍ باجتهادِهِ ثُمَّ بانَ لَهُ باجتهادِه، الثًاني أنَّ (¬1) الحكمَ الأَولَ خطأ، فإنَّه لا ينقضُ الحكمَ، ولا يمنعُ نفوذَهُ تجَويزُ حدوثِ اجتهادٍ مِنَ الحاكمِ بعدَ الأَولِ. قيلَ: الحكمُ هوَ الحجَّةُ عليكم، لأنَّ (2 مَن حَكَم 2) في قضيةٍ بحكم لشخصينِ تحاكما إليهِ ثُم جاءا يتحاكمان عنده في تلك القضية، وجب أن يقضيَ فيها باجتهادِهِ الثاني، حتَّى إذا كانَ قد تَغيَّرَ اجتهادُه حكمَ في ¬

_ (¬1) في الأصل: "لأن". (2 - 2) طمس في الأصل.

- فصل في شبه المخالفين

القضيّةِ الثّانيةِ باجتهادِهِ الثّاني، وإن كانا في الصُّورة سواءً، وإنَّما لم نَنقضِ القضيَّة بعينها، لاننا لو نقضْنا اجتهادَه باجتهادِ غيره ممن هو أَعلم منه، لكانت (¬1) الأحكام لا تَستِقرُّ، وليس كذلك ها هنا، فإن توقيتَ الاجماع بانقِرَاضِ العصر لا يُخِلُّ بالإجماع. نعم، ولنا مندوحةٌ عن القَطْع في الحادثة؛ لأن الحُكْم فيها قد يَحصُل بالاجتهاد المُسوَّغ، ولا تَقِف الأحكام على الإجماع، فأمَّا الحكمُ فلا بُدَّ لكل حادثةٍ من حكم نافد، ومتى لم يكن كذلك اختَفتِ الأحكام، ووَقَفَت الحوادثُ. فصل في شبههم فمنها: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115]، وهذا عامٌّ في العصر وبعد انقِراضِه، وفيمن خالَفَهم من بعدِهم، ومن خالفهم من جُملَتِهم. ومنها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"امَّتي لاتجتمعُ على الخطأ، ولا تجتمعُ على ضَلالةٍ" (¬2). ومنها: أنه قولُ معصومٍ فكان حُجَّةً موجودةً من غير مُهلةٍ ولا تَراخٍ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "فكانت". (¬2) تقدم تخريجه ص 106.

قالوا: فلم يَقِفْ على انِقراضِ عصرٍ، كالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن قولكم يُفضِي إلى أن تَزُولَ خَصِيصةُ الإجماع، فإنَّ خَصِيصَته وسُلْطانه هو أنه لا يجوزُ عليه الخطأُ، فإذا قلتُم بأنهم إذا رَجَعُوا بانَ خطؤُهم، فلا ثِقةَ إلى قولهم، إذ قد أَجمَعُوا على رأيٍ واحدٍ فبانَ أنهم كانوا فيه على خطأ، ومثلُ هذا لا يجوز كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يجوز أن يقولَ قولاً، أو يَحكُمَ بحكمٍ شرعي (1ويقعُ خطأً، بل 1) لا يَقَعُ إلا صواباً، فإن جاء نَسخُ ذلك من قِبَلِ الله سبحانه، كان (2 حكمُه الأولُ 2) صواباً، والثاني صواباً أيضاً. ومنها: أنه اتفاقُ فقهاءِ العصرٍ على حُكْم الحادثة، فكان حُجَّةً مقطوعاً بها، أو فكان حُجَّةً معصومة كما لو انقَرَضَ العصرُ. ومنها: أن ما ذهبتُم إليه يُفضي إلى أن لا يَستقِرَّ لنا إجماع، والإجماع دليلٌ من أدلةِ الشرع نائب عن النبوَّة، فكلُّ قولِ ومذهب يُؤَدِّي إلى تعطيلِه باطلٌ في نفسه، قالوا: ووجه دَعْوانا عليكمَ عدمَ استقرارِه: أن العصر لا يَنقرِضُ حتى يَتجدَّدَ قومٌ من أهل العصر الثاني، وهم من أهل الاجتهاد، وكذلك العصرُ الثالث، وعلى هذا فيتسلسلُ الخِلافُ، ولا يستقرُّ إجماع. ومنها: أن من كان قولُه حُجَّةً لم يَقِفْ كونُه حجةً على موته، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (2 - 2) غير واضح في الأصل.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

فصل في الأجوبة عن شبههم أما الآية فلا حُجَّةَ فيها؛ لأن مع المخالفة يكون السبيلُ سبيلَ بعض المؤمنين، والاَية تقتضي اتِّبَاع غيرِ سبيل المؤمنين أَجمعَ. فإن قيل: فإذا كان مُقتَضَى الآية كلَّ المؤمنين، فالوعيدٌ لا يتَأتى، ولا يبقى مَن ينصرفُ إليه. قيل: بل يَبقَى من ينصرفُ إليه؛ غيرُ المجتهدين، أو من يتحرَّفُ عن إجماع المجتهدين وهو مجتهدٌ، لكن يَترُكُ ذلك مُحاباةً أو عصبيةً أو تقليداً، وأَدْواءُ الأهواءِ كثيرةٌ، وأحقُّ ماصُرِفَ الوعيدُ إليها دونَ انصرافِه إلى الاجتهادِ. وأما قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -:"امَّتي لا تَجتَمعُ على الخطأ، ولا تجتمعُ على ضَلاَلةٍ" (¬1)، فنحن قائلونَ به، وإذا اجتَمَعَت ومهما كان فيهم مُخالِف، فما اجَتَمَعت، لكنها اختَلَفَت. وأما تعلّقهم بقول النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فغيرُ حُجَّةٍ من وجهٍ، و [هو] أن الحكم لا يستقرُّ إلا بعد انقطاع الوحي بموت - صلى الله عليه وسلم -، وعَدَمِ تَرقُّب النسخ، وإنما وَجْهُ أن يكون حجة من غير مُهلةٍ: لأن ما يَصدُر عنه لا يَصدُر عما يجوزُ عليه الرجوعُ، ولا تحصل إصابةُ الحق فيه بالتأمُّل والفكر، لكن بالوَحْي ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 106.

عن الله سبحانه، فما يُبادِرُ به حقّ، وما يَتعقبه من النسخ فإنما يكون للمُستَقبَل، ولا يُعتَرض على الأول بالإبطال والتخطئة، بخلاف مسألتِنا، فإنه يَصدرُ عن رأي واجتهادٍ، وقد يَضِل الرأيُ في الأول وَيَتضحُ في الثاني لإدْمان الفِكْر والبحث، والنبيُّ لا يقول: الأولُ خطأٌ، وهذا المجتهدُ يقول: الرأي الأولُ خطأ، وكان التعلّقُ (¬1) فيه بشُبْهةٍ، والآن قد وَضَحَ الدليلُ، وبانَتِ الحُجَّة، فالردُّ لرأيه الثاني مع صِدْق اجتهاده كرَدِّ خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما وَرَدَ إليه من النَّسْخ مع صِدْق خبره، فكما لا يجوزُ ذلك لا يجوزُ هذا. وأما قولهم: بأن ما ذهبتُم إليه يُفْضي إلى أن لا يتَحقًقَ إجماعٌ لتَسَلسُل الخِلاف، ولحُوقِ خلاف المجتهدين في عَصْرٍ بالعصر الذي قبلَه، فإن هذا يَنبَنِي على أصلٍ: وهو أن التابعيَّ إذا عاصَرَ الصحابةَ وهو من أهل الاجتهادِ، هل يُعتَدُّ بخِلافِه (¬2)؟ ففيه روايتانِ عن صاحبِنِا، فإن قلنا: لا يكون مُعتَدًّا بخلافِهِ. لم يُفْضِ إلى ما أَلْزَمُونا من التسلسسل، بل يَنقَطِعُ عصرُ الضابعين عن عصر الصحابة. والثاني: يُعتَدُّ به، فعلى هذا يصيرُ التابعيُّ المجتهد كآحاد الصحابةِ، فإذاكان مُجمِعاً معهم على قولِ، كان كإجْماع الصحابة، لا يَجُوزُ لمن تَجدَّدَ من التابعين في العصرَ الثاني خلافُ إجماعهم؛ لأنه ما عاصَرَ الصحابةَ وإنما عاصَرَ من عاصرهم، وإنما يَسُوغُ الخلافُ لمن عاصرهم، ¬

_ (¬1) في الأصل: "التعليق". (¬2) ستأتى المسألة بالتفصيل في الصفحة 194.

فأمَّا من عاصرَ من عاصَرَهم فلا يجوز، وحصولُ الشخص من أهل الاجتهادِ ليس بأمرٍ يَتجدَّدُ فَيتَسلسلُ ويتلاحقُ، لأن (¬1) ذلك في الثمار إذا بَدَا الصلاحُ بها تلاحَقَتْ، فأمَّا أن يلحقَ التابعيُّ بالصحابي، وتابعيُّ التابعي بالتابعيِّ فبعيد حصولُه، وما يَبعُدُ ويَندُرُ حصولُه لا يُوقِفُ حصولَ الاجماع ولا يَتعذَّر به. وأما قولهم: إنَّ هذا يُفضي إلى زَوَال خَصيصةِ الإجماع: وهي العِصْمة ونَفْيُ الخطأ عنهم، فإذا جَوَّزتُم رجوعِ جماعتهم عما كانوا اتفَقُوا عليه من الرَّاي، لم يَبْقَ لأجماعهم عِصْمةٌ، ألا ترَى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما خُصَّ بالعِصْمة لم يرجع عن قول قاله، ولا يجوزُ عليه تخطئةُ حكمٍ حَكَمَ به، فهذا أجودُ ماتعلقوا به وأَشكلُه. فيقال: إنَّ الاجماع عندنا مشروطٌ، فإذا لم يُوجَدْ شَرطُه لا يكون إجماعاً، فلا يكون تخطئةً لما ضَمِنَ الشرعُ عِصمتَه، والشرط بقاءُ اعتقادِهم مع اجتهادهم إلى حينِ وفاتِهم، لأنَّ الرأي مختلف جداً، لا سيَّما إذا كان عليه أَمَارات تختلفُ، فما دامَ المجتهدُ باقياً، والأَماراتُ لائحةً، وأدواتُ الاجتهاد صالحةً (¬2)، فالاعتدادُ بها واقع، وتخصيصُ (¬3) عَيْن الرأي لا وجهَ له، على أنه ليس صَرْفُ الصِّيانة عن الخطأ والضلال [عن] الرأي الأول ¬

_ (¬1) غير واضحة فِى الأصل. (¬2) في الأصل: "لائحة". (¬3) في الأصل: "تخص".

- فصل إذا اختلفت الصحابة على قولين ثم أجمع التابعون على أحد قولي الصحابة لم يرتفع الخلاف، وساغ لكل مجتهد الذهاب إلى القول الآخر

وإجماعهم المبتدأ بأَوْلَى من صرفِه عن الثاني، بل الثاني هو المتخمِّرُ الذي تَحقَّقَ بطول المُهْلةِ، وجَوْدة التأمُّل، والمتحقِّقُ أبداً هو الثاني دون البادِئ. وأمَّا قياسُهم المجرَّد وقولُهم: اتفاقُ فقهاء العصر أَشبه ما بعدَ انقِراضِه، فليس تَعلّقُك باتفاقهم الأَوَّل بأَوْلَى من تَعلُّقِنا باتفاقهم الثاني، فنقول: اتفق علماء العصرِ على حكمِ الحادثةِ فكان التعويلُ عليهِ، أو فكان حجّةً معصومةً، أَو حجّةً مقطوعاً بها كالاتفاق الأول (3 قد وُقِفَ عليه وبَقي مدةً1)، ثم بان للثاني رأي حَتْم بعد التخمير وطولِ البحثِ والجِدِّ والتشميرِ. وأمّا قياسُهم على النبيَّ- صلى الله عليه وسلم - فقد سَبَقَ الكلامُ عليهِ. فصلٌ إذا اختلفتِ الصحابةُ على قولينِ، ثُمَّ أجمعَ التَّابعون على أَحدِ قوليِ الصّحابةِ، لمْ يرتفع الخلافُ، وساغَ لكلِّ مجتهدٍ الذّهابُ إلى القولِ الآخرِ، نصَّ عليه أحمد، وبهذا قالَ أبو الحسنِ الأشعريُّ. وقالَ أصحابُ أبي حنيفةَ (¬2) فيما حكاهُ أبو سفيان، والمعتزلةُ (¬3): يرتفعُ الخلافُ، فلا يجوزُ الرّجوعُ إلى القولِ الآخرِ. وإنّما قالوا هذا، إذا كان إجماعُ التابعينَ على أحدِ القولينِ بعدَ انقراضِ أهلِ القولِ الآخرِ. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) انظر "أصول السرخسي" 1/ 320، و "التقرير والتحبير" 3/ 88. (¬3) انظر "المعتمد" 2/ 497 - 517.

- فصل في أدلتنا

واختلفَ أصحابُ الشَّافعىّ (¬1) على وجهينِ: أحدُهما كمذهبنا، وعليه الأكثرونَ منهم، والآخر كمذهبِ مَن حكينا خلافَهُ. فصل في أدلّتنا فمنها: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ولم يفرّق بينَ وجودِ إِجماع التّابعين وعدمِه. ومنها: ما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:" أصحابي كالنجومِ، بأيهمُ اقتديتُم اهتديتم" (¬2)، ولم يفرّق بين أنْ يُجمِعَ التّابعونَ بعدَ ذلكَ، أو لم يُجمِعُوا. ومنها: أنَّ اختلافَ الصّحابةِ في المسألةِ على قولينِ إجماعٌ منهم على تسويغ الاجتهادِ، وجوازِ تقليدِ كلِّ واحدٍ منَ الفريقينِ وإقرارِه عليهِ، وإذا ثَبَتَ إجماعُهم على التسويغ، فهو إجماعٌ منهم على حكمٍ شرعي، فلمْ يُعتدَّ بإحماع التّابعينَ، كما لو أجمعوا على حكمٍ واحدٍ مِنْ تحريمٍ أو إباحةٍ، فأجمعَ التّابعونَ على خلافِه، فإنّه لا يُعْتدُّ بإجماعِهم. ومنها: أنّه لا خلافَ أنّ الإجماعَ إذا حصلَ واستقرَّ، لم يَجُز أنْ يتغيّرَ بالاختلافِ، كذلك إذا حصلَ الاختلافُ واستقرُّ وجبَ أنْ لا يتغيّرَ ¬

_ (¬1) انظر "البرهان" 1/ 780، و"المستصفى" 1/ 203، و"الأحكام" 1/ 248. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 280.

الإجماعُ بالاختلافِ (1كي لا 1) يؤدي إلى إبطالِ الإجماع، والمستقرّ مِنْ إجماع الصحابةِ هوَ تجويزُ تقليدِ كلِّ واحدٍ مِن الفريقينِ وتسويغ قولِه، فلا يجوزُ أنْ يزولَ هذا المستقرُّ بإجماع التّابعينَ. ومنها: أنّ كلَّ واحدٍ مِن الفريقينِ كالحيِّ الباقي في كلِّ عصرٍ، ولهذا تُحفظُ أقوالهم بعدَهم ويحتجُّ بها، وإذا كانوا بمنزلةِ الأحياءِ وجبَ أنْ لا يعتدَّ بالإجماع مع خلافِهم. ومنها: أنّ هذا الحكمَ كان يسوغُ فيهِ الاجتهادُ، ولا يجوزُ نقضُ الحكمِ على مَن حَكَمَ بِه بخلافِ الإجماع، وهذا نسخ بعدَ انقطاع الوحي، وذلكَ لا يجوزُ. ومنها: أنّه اختلافٌ حصَلَ مِن الصحابةِ فلا يزولُ بإجماع التّابعينَ، كما لوِ اختَلَفت الصحابةُ على قولينِ وأجمعَ التّابعونَ على قولٍ ثالثٍ. ومنها: أنّه لوْ كانَ إجماعُ التّابعينَ على أحدِ القولينِ مُسقِطاً لِما تقدَّمَ مِن الخلافِ، لَوَجبَ أنْ يُنقَضَ كلُّ حكمٍ حُكِمَ بِه في عهدِ الصّحابةِ بخلافه؛ لأنّه مقطوعٌ ببطلانِه، كما إذا حَكَمَ الحاكِمُ ثُمَّ بانَ لهُ فيما حَكَمَ بِه إجماعٌ أو نصٌّ يخالفُ ما حَكَمَ بِه، فإنّه ينقضُ حكمه، فلما لم ينقض ها هنا عُلمَ بطلانُ كونِه إجماعاً، فإنْ قالوا بذلكَ وارتكبوهُ فقدْ أَبطلُوا، وذلكَ أنّ الصحابةَ أجمعوا على صحّةِ ذلك وبقَّوهُ، وكلّ حكمٍ اجتمعتِ الصّحابةُ عليهِ لم يَجُزْ للتّابعينَ الإجماعُ على خلافِه كسائرِ الأحكامِ. ¬

_ (1 - 1) غير واضحة فِى الأصل.

ومنها: أنّ هذا القولَ يفضي إلى أن الصّحابةَ قدْ ذهبَ عنهم، وخفيَ ما في هذا الحكمِ الذي أجمعَ عليهِ التّابعونَ مِن الحكمِ القطعيِّ، وهذا عينُ الخطأِ والضلال عنِ الحقِّ الذي نفاهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عُلماءِ أمَّتِه، ولا سيَّما أصحابُه، وما أَفضى إلى الباطلِ باطل. ومنها: أنّ ما ذهبَ إليه المخالفُ يؤدِّي إلى أنْ يكونَ إجماعُ الصّحابةِ على تسويغ الخلافِ مشروطاً بعدمِ دليلٍ قاطعِ يجوز وجودُه، ويُترقّبُ كونُه [ناسخاً] (¬1)، وهذا يقطعُ عَنِ الثقةِ بإجماعِهم، ويُخرِجُه عن كونِه مقطوعاً به. ومنها: أن إجماعَ [الصّحابة] (¬2) أعلى وأقوى مِن إجماع غيرِهم عند التأمُّلِ، وذلك أنّ آحادَهم حجّة عند كثيرٍ مِن الأصوليينَ، وليسَ لغيرِهم مِن المجتهدينَ هذه الرّتبةُ. ومنها: أن النّاسَ اختلفوا في إجماع غيرِهم ولم يختلفوا في إجماعِهم، سِوى مَن شذَّ ممَّنْ لا يُعَوَّلُ على خلافِه، وإذا ثَبَتَ هذا فقدْ حصَلَ إجماعُهم على تسويغ كلِّ ذاهبٍ ذهبَ إلى أحدِ المذهبينِ، فإذا جاءَ إجماعُ التّابعينَ، وهو أضعفُ على ما قرّرنا، فأزالَ التسويغَ وجعلَ أحدَ المذهبينِ مقطوعاً على خطئِه، كانَ إجماعُهم الأدنى الأضعفُ مُزيلاً لإجماع الصّحابةِ، وهذا لا يجوزُ، كما لا يجوزُ أنْ يقضيَ الظاهرُ على النصِّ. ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. انظر "العدة" 4/ 1108 - 1109. (¬2) ليست في الأصل. انظر "العدة" 4/ 1108.

- فصل في جمع الأسئلة على أدلتنا

فصلٌ في جمع الأسئلةِ على أدلَّتنا فمنها: أنْ قالوا: قدْ عوَّلتم على إجماعِهم على تسويغ الاجتهادِ حيثُ انقسموا على مذهبينِ، وليسَ يمتنعُ أن يتفقوا على تسويغ الاجتهادِ اتفاقاً مشروطاً بأنْ لا يظهرَ إجماعٌ، فإذا ظهرَ إجماعٌ سقطَ ذلكَ الاتفاقُ، كما أنّهم اتفقوا على أنّ فرضَ العادمِ للماءِ التيممُ ما لم يجدِ الماءَ، فإذا وجدَ الماءَ زال حكمُ ذلكَ الإجماع. ومنها: أنْ قالوا: لو كانوا كالأحياءِ لوجَبَ أن لا ينعقدَ الإجماع بعدَ موتِهم في شيءِ مِن الحوادثِ، لأنَّه لا تعرفُ فيه أقوالُهم، ولوجبَ أنْ يجوزَ تقليدُهم كَما يجوزُ تقليدُ الأحياءِ. فصل في الأجوبةِ عنْ أسئلتهمِ فأمّا قولُهم: إنّه يجوزُ أنْ يكونَ اتفاقاً مشروطاً كاتفاقِهم على جوازِ الصّلاةِ بالتيممِ، فهذا غيرُ صحيحِ، لأنّ القومَ سوّغوا بإجماعِهم الاجتهادَ في تلكَ الحادثةِ على الإطلاقِ، ودعوى أشتراطِ معنى الإجماع دعوى بغيرِ دليلٍ، وإنّما هي (1زيادة من 1)، أنفسكم وفارَقَ اتفاقَهم على جواز الصّلاةِ ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل.

- فصل في شبه المخالفين

بالتيممِ، فإنّها مشروطةٌ نطقاً بقولِه: "الترابُ كافيك ما لمْ تجدِ الماءَ" (¬1)، والإجماعُ فيمَنْ لم يجد الماء، فليس مكان الإجماع مكان الخلاف، فالإجماع على مَن لم يجد الماء، والخلاف فيمَن وَجَدَه، وهنا إجماعُهم حصلَ على تسويغ الخلافِ في الحادثةِ على الإطلاقِ. وأمّا قولُهم: ليسوا كالأحياءِ، بدليلِ ما ذكروهُ مِن جوازِ حدوثِ خلافٍ في حوادثَ، فإنّما هم كالأحياءِ عندنا فيما أفتَوا فيهِ، فأمّا فيما لم يفْتوا فيهِ وحَدَثَ بعدَهم [فلا]، وهذا كما نقولُ: إنّهم إذا أجمعوا على قولِ واحدٍ، ثُمّ ماتوا، عُمِلَ بأقوالِهم بعدَ الموتِ، فوجبَ المصيرُ إليهِ كما لو كَانوا أحياءً فأفتوا بذلك ثُمّ لم يُجعلوا كالأحياءِ فيما يحدث بعدَهم (¬2) مِن الحوادثِ، فكذلكَ ما اختَلفُو افيهِ مثله. فصل في شُبَهِ المخالفينَ فمنها: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. ومنها: ما رويَ عنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أمتي لا تجتمعُ على خطأٍ، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 5/ 146، وأبو داود (332) (333)، والترمذي (124)، والنسائي 1/ 171، من حديث أبى ذر. (¬2) في الأصل: "بعده".

- فصل في أجوبتنا عن شبههم

وعلى ضلالةٍ" (¬1)، وهذا إجماعُ أهلِ العصرِ، فدخلَ تحت الآية والخبرِ حسبَ دخولِ إجماع الصّحابة. ومنها: أنّه اتفاقُ علماءِ العصرِ على حكمِ الحادثةِ، فكانَ إجماعُهم حجّةً مقطوعاً بها، كما لو لم يتقدّمْها خلاف. ومنهاة أنّه إجماعٌ تعقَّبَ خلافاً فأسقطَ حكمَ الخلافِ، كما لو اختلفتِ الصّحابةُ على قولينِ ثُمّ أجمعوا على أحدِهما. ومنها: أنّ الإجماع حجّةٌ، والاختلافَ ليسَ بحجّةٍ، فلا يتركُ ما هو حجّةٌ لما ليسَ حجةً كالكتابِ والسُّنَّةِ. ومنها: أنّ كلّ حكمٍ لا يجوز لعامَّة عصرِ التابعين العملُ بِه، لم يَجُزْ لِمَن بعدَهم العملُ به، كالنّسوغ مِن أحكامِ الشّرع. ومنها: أنّه إذا تعارضَ خبرانِ سمّ اتّفقَ أهلُ العصرِ على تركِ أحدهما والقولِ بالآخرِ، سقطَ المتروكُ منهما، كذلك ها هنا في القولينِ إذا تركَ جماعة علماء العصرِ أحدَهما وعملوا بالآخرِ. ومنها: أَنّ إجماعَهم معنىً يُسقطُ الخلافَ ويرفعُه فيما بعدُ، فَرَفَعَهُ فيما تقدَّمَه كالسّنًةِ. فصلٌ في أجوبتنا عنْ شُبههم أمّا الآيةُ، فلنا منها مثلُ ما لهم، ونحنُ بها أسعدُ، والصّحابةُ إلى ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 106.

حكمِها أسبقُ، وهم بِه أليقُ؛ لأنّ الصّحابةَ أحقُّ بالحثِّ على اتباعِهم، والوعيدِ على اتباع غيرِ سبيلهم، لأنّ لهم مزيّةَ السَّبقِ إلى التصديقِ والاتباع والاجتهادِ، وقدْ أجمعوا على حكمٍ هو التسويغُ، فلا وجهَ لاتِّباع سبيلٍ هو غير سبيلِهم، وهوَ رفعُ التسويغ الذي أجمعوا عليهِ. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -:"أمتي لا تجتمع على ضلالةٍ، ولا على خطأ"، فينفي الخطأَ عنِ الصّحابةِ فيما أجمعوا عليهِ مِن تسويغ الاجتهادِ. وأمّا قولُهم: إنّه اتفاقُ علماءِ العصرِ على حكمِ الحادثةِ، فقدْ سبَقَه اتفاقُ علماءِ العصرِ الأشرفِ، والقرنِ الأفضلِ على تسويغ المجتهدِ في حكمِ الحادثةِ، ولا يجوزُ اعتبارُ إجماع تقدَّمَه إجماع قبلَه بإجماع لم يتقدَّمْه إجماع قبلَه، ألا ترى أنّ الاختلافَ فيما لم يتقدَّمْه إجماع على حكمٍ واحدٍ، جائزٌ سائغٌ، والاختلافَ فيما تقدَّمه إجماع لا يجوزُ إحداث قولٍ آخرَ، ويُعتَبر المعنى بقولهم: إجماعٌ تقدَّمه خلاف لا يدفع المعصوم، وهو أنّه إجماع تقدّمهُ إجماع في الحقيقةِ، وهو إجماعُهم على التسويغ (1 لإجماع لم يَتَقدَّمه 1) اختلاف رأساً، فإنّه اتفاقٌ لا يفضِي إلى مخالفةِ اتفاقٍ قبلَه، وها هنا بخلافِه. وأمّا قياسُهم على إجماع الصّحابةِ على أحدِ قولينِ اختلفوا فيهما؛ فلأنّ من شرطِ الإجماع انقراضُ العصرِ، وهم ما داموا أحياءً في مهلةِ النظرِ، والإجماعُ منهم ما استقرَّ؛ لأنّهم كانوا في طلبِ الدليلِ، فلا يُجعَلُ ¬

_ (1 - 1) طمس فِى الأصل.

قولُهم الأوّلُ مانعاً مِنْ قولِهم الثّاني معَ تخمُّرِ الرأيِ، وتحقيقُه على ما قدّمْنا وبيَّنا. وأمّا قولُهم: إنّ الإجماع حجّة، والاختلافَ ليسَ بحجّةٍ، فلا نسلِّم أنّ الإجماع بعدَ الخلافِ حجّةٌ، وإنّما يكونُ حجّةً إذا لم يتقدّمْه خلافٌ، وليسَ يمتنعُ أنْ يكونَ حجّةً بشروطٍ: بأنْ لا يعارضَه ما هو أقوى منهُ كالقياسِ معَ نصِّ القرآن أوِ السُّنةِ، ولأنّكم إنْ راعيْتُم فيهِ إحماعَ التّابعينَ، كانتْ مراعاتُنا لإجماع الصّحابةِ على التسويغ أَوْلى؛ لأنه إجماعٌ مِن الصّحابةِ، ثُمَّ إنّه سابقٌ فلا يعتدُّ بإجماع يزِيلُه، ولو كانا سواءً لكفى، لأنّه مُوقِفٌ دليلَهم؛ إذْ ليسَ مراعاةُ إجماعٍ بأَوْلى مِن مراعاةِ إجماعٍ آخرَ. وأمّا دعواهم: أنّه لا يجوزُ لعامَّةِ التَّابعينَ العملُ بأحدِ قوليِ (¬1) الصحابة، فلا نسلِّمُ، بلْ يجوزُ العملُ به في عصرِ التّابعينَ. وأمّا قياسُهم على الخبرينِ إذا تعارضَا، واتَّفقَ أهلُ العصرِ على هِجْرانِ أحدِهما والعملِ بالآخرِ، فإنّما أسقطْنا المتروكَ؛ لأنّه لم يذهبْ إليهِ أحدٌ فكانَ ظاهرُ ذلكَ أنّه منسوخٌ، وليسَ كذلكَ القولانِ ها هنا؛ لأنّه قدْ عملَ بِه فريقٌ مِن الصّحابةِ، فلا يجوزُ إسقاطُ عملِهم، فوِزَانُه أنْ لا يكون بهذا المذهبِ عاملٌ، ولا به قائلٌ، ووزانُ مسألتِنا مِن الخبرينِ أنْ يكونَ قد رَوى أحدَهما بعضُ الصحابةِ وردَّه بعضُهم، فلا يؤثرُ إجماعُ التّابعينَ على هِجرانِه وتركِه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "قول".

* مسألة إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث

مسألةٌ: إذا اختلف الصّحابةُ على قولينِ لم يَجُز لِمَن بعدَهم إحداثُ قولٍ ثالثٍ، نصَّ عليهِ أحمدُ. وبه قالتِ الجماعةُ، خلافاً لبعضِ الرّافضةِ وبعض الحنفيةِ (¬1): يجوزُ إحداثُ مذهبٍ ثالثٍ. فصل في أدلتنا منها: أن اختلافَهم على قولينِ اتفاقٌ منهم على إبطالِ قولٍ ثالثٍ، وذلك حكمٌ أجمعوا عليهِ، فلا يجوزُ إحداثُ غيرِه لِمَن بعدَهم، كاتفاقِهم على قولٍ واحدٍ، فإنّه لا يجوزُ للتّابعينَ إحداثُ ثانٍ، كذلك ها هنا. ومنها: أنّه لو جَوَّزْنا إحداثَ مذهبٍ ثالثٍ لجوّزْنا عليهم الخطأَ في اقتصارِهم على مذهبينِ، كما أنّهم إذا أجمعوا على قولٍ واحدٍ، وجوَّزنا إحداثَ مذهبٍ ثانٍ، كانَ تجويزاً للخطأِ عليهم في ذلك اقتصارُهم على القولِ الواحدِ. يُوضحُ هذا: أنّ الناس اتفقوا على حصرِ المذاهبِ، فكما أنّ حصرَهم مَنَعَ مِن الزِّيادةِ عليهِ، فكانَ اجتماعُهم هنا على المنع مِن إحداثِ مذهبٍ ثالثٍ. فصلٌ في شبهِ المخاِلفِ فمنها: أن قالوا: طريقُ هذا الوجودُ، وقدْ وُجِدَ ذلكَ في التّابعينَ، فمِن ¬

_ (¬1) "مسلم الثبوت " 2/ 235، "تيسير التحرير" 2/ 250، "والاحكام " 1/ 249، "والتمهيد" 3/ 311.

ذلك ما رويَ مِن خلافِ الصّحابةِ في زوج وأبوينِ وزوجةٍ وأبوينِ، فقالَ ابنُ عباسٍ وحدَه: للأمِّ ثلث الأصلِ بعدَ نصفِ الزّوج وربع الزّوجةِ، وقال الباقونَ مِن الصّحابةِ: للأمِّ ثلث الباقي بعدَ نصفِ الزّوج وربع الزوجة (¬1)، ثمّ جاء التّابعونَ فأحدثُوا قولاً ثالثاً، فقالَ بقولِ ابنِ عباس في زوجةٍ وأبوينِ بعض التّابعينَ وهو ابنُ سِيرِينَ، وبقولِ الباقينَ في زوجِ وأبوينِ بعض التّابعينَ، فلمْ يُنكِرْ عليهم مُنكِرٌ. وكذلك اختلفتِ الصّحابة في لفظةِ الحرامِ (¬2) على ستةِ مذاهبَ، فأحدثَ مسروق قولاً سابعاً فقالَ: لا يتعلَّقُ بها حكم. وقال (¬3): ما أُبالي حَرَّمتُها أو قَصْعةً منْ ثريدٍ (¬4). فأقرُّوهُ على هذا ولم يُنكِروا عليه. ومنها: أنَّ اختلافَهما على قولينِ جوّزَ تسويغَ الاجتهادِ، وإحداث ثالثٍ قولٌ صدرَ عن الاجتهادِ، فصارَ. بمثابةِ ما قبلَ استقرارِ الخلافِ. ومنها: أنْ قالوا: أَجمَعْنا على أنّ الصّحابةَ لو انقرضَ عصرُهم، وماتوا عَن دليلينِ في مسألةٍ لا ثالثَ لهما، جازَ للتّابعينَ أنْ يُحدِثوا دليلاً ثالثاً، كذلكَ إحداثُ قولٍ ثالثٍ ولا فَرْقَ، وهذا صحيح، لأنّه إذا جازَ أنْ يُبيَّنَ بإحداثِ دليلٍ ثالثٍ خفاء الدَّليلِ الثّالثِ عنهم وعثور التابعينَ به، كذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي 6/ 227 - 228. (¬2) أي: في قوله لامرأته: أنتِ عليَّ حرامٌ. وانظر "العدة" 4/ 1115. (¬3) في الأصل: "فقال". (¬4) أخرجه عبد الرزاق (11375)، والبيهقي 7/ 352.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

جازَ أنْ يَخْفَى عليهم مذهب ثالث يعثرُ عليهِ التابعونَ. فصلٌ، في الأجوبةِ عنْ شُبَهم فأمّا دعواهم وجودَ ذلك مِن بعضِ التابعينَ، وإقرار الباقينَ عليهِ، فلا يمكنُ تحصيلُ ذلك، وأنّهم عرفوا وأقرّوا، ثمّ نحنُ لا نقرُّه على ذلك، بل يكونُ محجوجاً بإجماع الصّحابةِ، ولا يُقبلُ منه هذا القولُ؛ ولأنّ ابنَ سيرينَ عاصرَ الصّحابةَ، والتّابعيُّ إذا عاصرَ الصّحابةَ وهو مِن أهل الاجتهادِ [فهو من أهل الإجماع] (¬1) لا سيَّما معَ قولِنا باشتراطِ (¬2) انقراضِ العصرِ لانعقادِ الإجماع. وأمّا قولُهم: إنّ اختلافَهم على مذهبينِ إجماع منهم على تسويغ الاجتهادِ، فَلَعَمْري إنّ اختلافَهم على قولينِ تسويغ للاجتهادِ في طلبِ الحقً مِن أحدِهما، فأمّا مِن غيرِهما فليسَ ذلكَ في اختلافِهم، وهذا كما لو أجمعوا في حادثةٍ على إبطالِ حكمٍ فيها، فينقطعُ الاجتهاد في ذلك الحكمِ، ثُمّ لا يمنعُ ذلك مِن الاجتهادِ فيها في غيرِ ما أحمعوا على إبطالِه، كذلكَ ها هنا، ويفارقُ هذا إذا لم يستقرًا لخلافُ؛ لأنَّ الإجماع قبلَ الاستقرار لا يمنعُ مِن الخلافِ، وبعدَ الاستقرارِ يمنعُ، كذلك الاختلافُ بمثلِهِ. ¬

_ (¬1) ليس في الأصل. (¬2) في الأصل: "في شتراط".

* فصل يجوز أن ينعقد الإجماع عن القياس

وأمّا قياسُهم قولاً ثالثاً على إحداثِ دليلٍ ثالث، فليسَ بصحيح؛ لأنّ إجماعَهم على دليلٍ واحدٍ لا يمنعُ غيرَهم مِن استخراج دليلٍ آخرَ، وإجماعُهم على مذهبٍ واحدٍ وحكمٍ واحدٍ يمنعُ مِن إحداثِ مذهبٍ ثانٍ، ولأنّ إحداثَ دليلٍ ثالثٍ يؤيِّد الحكمَ الذي أجمعتْ عليه الصّحابةُ ويؤكِّدُه، وإحداثُ قولٍ ثالثٍ يخالفُ ما أجمعوا عليهِ، فافترقَا. فصل يجوزُ أنْ ينعقدَ الإجماع عنِ القياسِ، وقالَ ابنُ جَريرٍ (¬1)، والشِّيعةُ، وداودُ، وكلُّ مَن نفى القياسَ: لاينعقد الإجماع عنِ القياسِ، إلاّ أنّ نفاةَ القياسِ لم يسندوا الأجماع إليهِ؛ لأنه ليسَ بحجّة عندَهم، وأمّا ابنُ جريرٍ فإنّه لم يُنبِّه على هذا. فصل في دلائِلنا فمنها: مِن طريقِ الوجودِ وأنّ ذلكَ قد وُجدَ؛ لأنّ الصّحابةَ أجمعتْ على خلافةِ أبي بكرٍ الصِّدّيقِ من طريقِ الاجتهادِ والرأيِ، وأخذِ إمامةٍ وتقديمِ مرتبةٍ مِن إمامةٍ وتقديمٍ في رتبةٍ، فقالتْ جماعة منهم: رَضِيَهُ رسول اللهِ لديننا، وقالَ بعضُهم: نَظرنا فإذا الصّلاةُ عمادُ ديينا، فرضينا لدنيانا مَن رضِيَهُ رسولُ اللهِ لديننا (¬2)، ومنهم مَن أستدلَّ بقولِه: "إنْ تُوَلُّوا أبا ¬

_ (¬1) انظر "البرهان" 1/ 721، و "التبصرة" 372، و "الاحكام" 1/ 239. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 183 عن علي بن أبي طالب.

بكرٍ تجدوهُ قويّاً في أمر اللهِ، ضعيفاً فِى بدنِه" (¬1)، ومنهم مِن رضِيَهُ فعَقَد (¬2) له. ومِن هذا القبيلِ أيضاً وهو الوجودُ: أن المسلمينَ أقرُّوا خالدَ بنَ الوليدِ في مؤتةَ بموضعِ كانوا فيه باجتهادِهم (¬3)، فصوّبَ [النبي صلى الله عليه وسلم] ذلك وأقرَّهم عليهِ. (4 وكذلك اتفقوا 4) على قتالِ مانعي الزّكاةِ مِن طريقِ الاجتهادِ، واختلفتْ آراؤُهُمْ فيهِ قياساً على الصلاةِ، فقال أبو بكرٍ (¬5): واللهِ لا فرقتُ بينَ ما جمعَ الله قالَ الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] وأجمعوا على تحريمِ شحمِ الخنزيرِ قياساً على لحمِه، وأجمعوا على تقويمِ عتقِ الأَمَةِ في عتقِ الشريكِ قياساً على العبدِ، وأجمعوا على إراقةِ الشَّيْرَج (¬6) والدبسِ السلسِ والخلِّ قياساً على السَّمْنِ إذا ماتت فيه فأرةٌ، وعلى ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 1/ 109 (859)، والبزار (783)، والحاكم 3/ 70 من حديث علي بنحوه، وإسناده ضعيف. (¬2) في الأصل: "بعقد"، انظر "العدة" 4/ 1126. (¬3) وذلك بعد استشهاد أمراء الغزوة الثلاثة، فاصطلح الناس على خالد. انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 373 وما بعدها. (4 - 4) طمس في الأصل، واستدرك من "العدهَ" 4/ 1127. (¬5) انظر الحديث رقم (67) من "مسند الامام أحمد" طبع مؤسسة الرسالة. (¬6) معرب من شيره، وهو دهن السمسم، وربما قيل للدهن الأبيض وللعصير قبل أن يتغير: شَيْرَج، تشبيهاً به لصفاته، وهو بفتح الشين. "المصباح المنير" (شرج).

- فصل في الأسئلة على أدلتنا

أخذِها وما حولَها مِن جامدِ هذه المائعاتِ قياساً على جامدِ السَّمنِ. ومنها: لا مِن طريقِ الوجودِ، لكن مِن طريقِ جوازِ ذلك: أنّ القياسَ على الأحكامِ الشّرعيةِ أو أمارةٍ دالَّةٍ على الأحكام، فجازَ اجتماعُ المجتهدينَ على الحكمِ استدلالاً بها وتعويلاً عليها، أو نقولُ: فجازَ انعقاد الإجماع بجهتِه كالكتابِ والسُّنَّةِ. فصلٌ في الأسئلةِ على أدلَّتنا فمنها: أنْ قالوا: إنّ الصّحابةَ عَوَّلوا على النصوصِ فيما ظَهَرَ لنا وفيمالم يَظهَرْ لعلّ نصاً وقعَ إليهم. فمما (¬1) ظهرَ: قولُهم لأبي بكرٍ: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أنْ أُقاتلَ النّاسَ حتّى يقولوا: لا إلهَ إلاّ الله، فإذا قالوها عصَموا مِني دماءَهم وأموالَهم" (¬2) قالَ لهم أبو بكرٍ: أليسَ قدْ قالَ: "إلاَّ بحقِّها" والزّكاةُ مِن حقِّها، وقولُه: قالَ الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110]، وقال الآخرونَ: آُيكم يَطِيب نفساً أنْ يتقدَّمَ قدمينِ قدَّمَهما رسولُ اللهِ (¬3). وهذا استدلالى بقولِه - صلى الله عليه وسلم - وفعلِه، وأمّا بقيَّةُ ما ذكرتُم فيجوزُ (1 أن يكونوا ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيما". (¬2) تقدم تخريجه 1/ 190. (¬3) قاله عمر رضي الله عنه، أورده المتقى الهندي في "كنز العمال": (14127).

- فصل في الأجوبة

قد 1) ذهبوا فيه إلى نصوصٍ أيضاً. ومنها: أنْ قالوا: إنّ قياسَكم إثباتُ إجماع بالقياسِ، وفيهِ خولفتُم، على أنّ الأصلَ الذي قسْتُم عليهِ، وهو الكتابُ والسُّنةُ، طريقُهما السّمْعُ، ويجوز أنْ يتَّفقَ الكلُّ في سماعِه والاستجابةِ له، فأمّا القياسُ فطريقُه الرأيُ، والرأي أبداً يختلف ويبعُدُ أنْ يتفقَ عليه الجماعةُ. فصل في الأجوبةِ أمّا قولهم: الخلافُ في الاحتجاج بالقياسِ فكيفَ استدللْتُم به، فهذا غيرُ ممتنع، لأنّ الدّليلَ لا يُترَك لأجلِ المخالفةِ فيهِ، كما لم يمتنع مِن الاستدلالِ بأدلّةِ العقولِ على السوفسطائيةِ ونفاةِ الحقائقِ، ومِن الاستدلالِ بدليلِ الخطابِ على مَن أنكرَه، وبالإعجازِ على مَن أنكرَ النبوّاتِ. وأمّا قولُهم: إنّ الكتابَ والسُّنةَ طريقُهما (¬2) السّمعُ، والقياسَ طريقُه الرأيُ إلاّ أنّ على معانيه أماراتٍ تدلُّ عليهِ، وما كانَ عليهِ أمارات ظاهرةٌ يصيرُ في جوازِ الاتفاقِ عليهِ كالسّمع، بدليلِ القِبلةِ طريقُها الرأيُ والاجتهادُ ثُمّ جازَ اتفاقُ الجميع عليها. وأمّا قولُهم: احتجوا بالنّصوصِ، فقد أجابَ بغيرِ النّصِّ وما أنكروه؛ ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "طريقه".

- فصل في شبه المخالفين

وهو قولُه: لا أُفرِّقُ بينَ ما جمعَ الله، وقولُهم: نظرْنا فإذا الصّلاة عماد ديننا فرضِينا لدنيانا مَن رضِيَهُ رسولُ اللهِ لديننا، والصّلاةُ مَقِيسٌ عليها الإمامةُ وهي (¬1) غيرها. وأما قولُهم: يجوزُ أنْ يكونَ معَ الصّحابةِ نصٌّ، فلا يجوزُ أنْ يكونَ ذلك؛ لأنّه لو كانَ معهم نصٌّ لما احتجُّوا بالقياسِ، لأنّ العاقلَ لا يترك الدليلَ الأقوى ويَعدِلُ عنه إلى ما دونَه، ولا كانَ بحيثُ يخفى على غيرِهم. فصل في شُبههم فمنها: أنّ الاتفاق غيرُ حاصلٍ على القياسِ، لأنّه ليسَ مِن عصرٍ إلاّ وفيهِ قوم من نُفاةِ القياسِ، فلا يُتَصوَّر اجتماعٌ ينعقدُ مِن طريقِ القياسِ معَ اختلافهم فيهِ. ومنها: أنّ القياسَ طريقُه الظّنُّ، واختلاف النّاسِ في الظّنونِ يمنعُ اتِّفاقَهم على مُقتضى الظنِّ، وذلكَ. بمثابةِ الأمزجةِ لمّا اختلفت تعذَّرَ إجماعُ الكلِّ على حبِّ الحموضةِ أو الحلاوهِ بحيثُ لا يختلفونَ. ومنها: أنْ قالوا: طريقُ القياسِ غامضٌ، ومسالِكُه دقيقةٌ، والنّاسُ على غايةِ الاختلاف في مداركِ الظّنونِ، فلا يكادُ يتحصَّلُ اتفاقُهم على مُقْتضاهُ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ونعى"

ومنها: في إسنادِ الإجماع: وهو دلالةٌ قطعيَّةٌ، إلى القياسِ: وهو أمارةٌ ظنيَّةٌ ضَعيفةٌ، خروجٌ عن سَمْتِ وضْع الأصولِ شرعاً وعقلاً، ويشهدُ لضعفِ القياسِ: أنَّ مخالف القياسِ لا يُفَسَّقُ ولا يُبدَّعُ، ومَن خالفَ الإجماعَ فسِّقَ وبُدِّعَ، فلا يجوزُ أنْ يستندَ ما هذهِ حالُه في القُوَّةِ إلى ما تلكَ حالُه في الضعفِ، بل دأبُ الأصولِ استنادُ الأضعف إلى الأقوى، كاستنادِ الإجماع إلى قولِ الصَّادقِ: "أمتي لا تجتمعُ على ضلالةٍ"، وإلى كتابِ اللهِ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]،، ويستند قولُ الرَّسولِ إلى دلالةِ المعجِزِ الدالِّ على صدقِه، وتستندُ دلالةُ المعجزِ إلى ما دلَّ العقلُ عليهِ مِن إثباتِ صانع حكيمٍ لا يؤيد كذاباً بالعجِز، فأمّا أنْ يوجدَ في الأصولِ دلالةٌ قطعيةٌ تستندُ إلى أمارةٍ ظنِّيةٍ [فلا] (¬1). ومنها أنْ قالوا: الإجماع أصلٌ، والقياسُ فرع، والاجماعُ معصوم عنِ الخطأِ، والقياسُ عُرضةُ الخطأِ، ولهذا قُدِّمَ عليه خبرُ الواحدِ المجوَّزُ عليهِ الكذبُ، فلا يجوزُ أنْ يستندَ الأصلُ إلى الفرع، والمعصومُ إلى المجوَّزِ عليه الخطَأُ. ومنها: أنّ القياسَ لا يُقطَعُ على إصابتِه، ولا يقطعُ على تخطئةِ مخالفِهِ، ولهذا يكونُ بدخولِه في الرأيِ عُرْضةً للرجوع (¬2) والنزوع عمّا ذهبَ إليهِ بالرأيِ والقياسِ، والإجماعُ لمجبُ أنْ يكونَ قطعياً، فكيفَ يستندُ ما لا ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) فِى الأصل: "الرجوع".

نزوع عنهُ إلى ما يتردَّدُ بينَ المقامِ عليهِ والنزوع عنه؟! فصل في الأجوبةِ عنْ شُبههم فأمّا قولُهم: إنّ الاتفاقَ غيرُ حاصلٍ علىَ القياسِ، وأنّه ما مِن عصرٍ إلاّ وفيهِ نفاةٌ له، فلا (¬1) نسلِّمُه، بل لم يكنْ في عصرِ الصّحابةِ منكِرٌ له، ولا نافٍ للاستِدْلالِ به، وإنّما حدثَ ذلك فيمن لا يُعتَدُّ بخلافِه؛ إذ لا يُعملُ (¬2) بخلافِ مَن خالفَ بعدَ إجماع الصّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم. على أنّ هذا باطلٌ عليهم بخبرِ الواحدِ، فإنّ أخبارَ الآحادِ لا اتفاقَ على قَبولِها، ومعَ ذلكَ فقد أجازوا إسنادَ الإجماع إلى أخبارِ الآحادِ. وأمّا قولُهم: إنّ القياسَ طريقُه الظّنُّ، ولا يتفقُ النّاسُ في الآراءِ والظّنونِ كما لا يتفقونَ في الأمزجةِ والشهواتِ والميلِ، فغيرُ صحيح، لأنّ الأماراتِ على الحكمِ إذا وَضَحَتْ، والآراءَ إذا اتفقتْ على طلبِ إصابةِ الحكمِ عندَ اللهِ مع عدمِ الميلِ والهوى والتقليدِ، لم يَبعدِ اتفاق العقلاءِ المنصفينَ على جهةٍ، كجهة القِبْلة إذا اتفقوا على طلبها بأماراتها ودلائلها، لم يَتعَذَّر اتفاقهم على جهة بأنّها هي القِبلةُ، على أنّ هذا باطلٌ بخبرِ الواحدِ، فإنّ عدالته غيرُ معلومةٍ، لكنّها مظنونةٌ. بما يصحبها مِن أماراتَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا". (¬2) في الأصل: "يجعل".

عدالتِه وأسبابِ تزكيته، والنّاس مختلفونَ أيضاً في أسبابِ التزكيةِ والأفعالِ القادحةِ في المخبرِ، ولم يمنَعْ ذلك عندَهم بناءَ الإجماع على خبرِه، وحصولَ الاتفاقِ على الحكمِ الذي جاءَ بِه، على أنّه إذا جازَ اتفاقُ العددِ الكثيرِ والجمِّ الغفيرِ على شبهة مثل (¬1) اليهودُ والنصارى- وهما أُمَّتانِ عظيمتانِ- يستند اعتقادُهم لشُبْهةٍ ظاهرةِ العَوَارِ، فلا وجهَ لاستبعاد اجتماع العدد الكثيرِ، واتفاقِ أهلِ الإجماع على أمارةٍ، ومعلومٌ ما بينَ الأمارةِ والشبهةِ، وفارَقَ ما ذكروه مِن مثلِ الطِّباع والأمزجةِ، فإنّ الطّباعَ مع اختلافِها في أصلِ الخلقةِ مطلقةٌ لا معيقَ لها عن الاختلافِ، ولا داعيَ لها إلى الاتّفاقِ. فأمّا فِى مسألتنا، فإنّ الأمارةَ الظاهرةَ تدعو إلى مدلولِها، وذلك وجهٌ للاجتماع والاتفاقِ، فيصيرُ كاتِّفاقِهم على جهةِ القِبلةِ وحضورِ الأعيادِ والجُمَع، لما كانَ هناكَ داعٍ -وهو الأمارةُ الدّالةُ- جمعت العددَ الكثيرَ. وأمّا قولُهم: إنّ طريقَ القياسِ غامضٌ، ومسالكُه دقيقةٌ، فلا يكادُ يتفقُ النّاسُ على مقتضاهُ، فغيرُ صحيح، لأنّ أهلَ الإجماع هم أهلُ اجتهادٍ، ومعلومٌ ما نعتبرُه في أهلِ الاجتهادِ مِن العقلِ والدّينِ، ثُمّ الفهمِ والبحثِ، وبناءِ الأدلّةِ بعضِها على بعضٍ، وإلحاق الشيءِ بنظيرِه، فلا يكاد يشتبِهُ الأمرُ مع هذه الصفاتِ على أنْ يُلقى الَحكمُ مِن جهةِ السَّمع، فمعَ كونِ السَّمع مختلفاً بينَ تخليصِ المجازاتِ عنِ الحقائقِ والفحاوى، ودلائلِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهم". وانظر "العدة" 4/ 1128.

الخطابِ، وتقابلِ الألفاظِ في الظّاهرِ مع اتّفاقِها في المعنى وغريبِ الألفاظِ والمقدَّراتِ المحذوفةِ، وغيرِ ذلك مِن الاشتباهِ يختلف فيهِ أهلُ الاجتهادِ غايةَ الاختلافِ، ولم يَمنَعْ ذلكَ مِن إسنادِ الإجماع إليها وبنائِه عليها. وأمّا استبعادهم إسنادَ الإجماع: وهو دليلٌ قطعيٌّ، إلى القياسِ: وهو ظنيٌّ، فلا وجهَ لهذا الاستبعاد، لأنّ خبرَ الواحدِ غيرُ مقطوع بصدقِ راويهِ، وغايةُ ما يوجبُ الظنَّ، ومع ذلك يستندُ إليهِ الإجماعُ المقطوعُ بِه وينعقدُ عليهِ، على أنّا قائلونَ. بموجبِ الدليلِ، فإن الأمَّةَ إذا اتفقتْ على حكمٍ بقياسٍ، اتّفقوا على ثبوتِ الحكمِ به، سبقَ إجماعُهم على الحكم إجماعَهم على دليلِ الحكمِ وهو القياسُ، فلا يكونُ القياسُ الذي اتفقوا عليهِ ظنياً، ولا بأسَ بتقديمِ هذا الجوابِ قبلَ المناقضة لهم بخبرِ الواحدِ، وكونُه في الابتداءِ مُجوَّزاً عليه الخطأُ، لا يمنعُ مِن انتهائه إلى القطع، كآحادِ الرُّواة في المتواترِ يجوزُ على آحادِهم الخطأُ، وينتهي خبرُهم عند تكاملِ العددِ المعتبرِ إلى القطع، فصارَ القياسُ الذي اتّفقَ عليه المجتهدودنَ، كتعللِ صاحب الشّريعة بقياسٍ (¬1) عن رأيٍ معصومٍ. وأمّا كونُ القياسِ فرعاً، فهوَ فرعٌ لغيرِ الإجماع، لكنّه فرعٌ للكتابِ والسنةِ، وكونُه فرعاً إذا أتّفقَ على كونِه أمارةً دالةً على الحكمِ، قَويَ بالاتفاقِ على كونه أمارةً دالَّةً، فأُعطيَ حكمَ القطع، وبَطَلَ النّظرُ إليهِ بعينِ أنّه فرعٌ، فلا تبقى الاسميةُ فارغةً توهمُ الضعف، على أنّ كونَه فرعاً ¬

_ (¬1) في الأصل: "قياس".

- فصل في الأجوبة عن شبههم

ليسَ بأكثر مِن أنّه ضُعِّفَ بكونِه مبنياً على غيرِه، وهذا لا يمنعُ إسنادَ الإجماع إليهِ كخبرِ الواحدِ دلالةٌ ظنِّيةٌ، فجُوِّزَ على راويها الكذبُ، ولم يمنعْ كونها ضعيفةً أن يستندَ الاجماع إليها. وأمّا قولهم: القياسُ منزوع عنه وغيرُ مقطوع به، فقد تقدَّم أنه ليس فِى هذا القياس المجمع على كونِه أمارةً للحكمِ المتفًقِ عليه، فإنه زالَ عن كونِه متردداً، وإنما ذلك القياسُ في الأصلِ، فهوَ كخبرِ الواحدِ مظنون في كلِّ خبرٍ على انفرادِهِ، فإذا انتهتْ آحاده إلى عددِ التواترِ، خرجَ عن الظنِّ إلى القطع، على أنّه يَبطُلُ بخَبَر الواحدِ، فإنّه قد يَنزِع عنهُ الراوي ويردّه المرويُّ له لنوع مان وعارضٍ، أو غامض تأويلٍ يصرفُ إليه دليل، ولا يمنعُ ذلك بناءَ الإجماع عليه وردَّه إليهِ. فصل لا اعتبارَ بقولِ العامّةِ في الإجماع، ولا اعتدادَ بخلافِهم، هذا مقتضى الدليلِ عندي، وذكرَ شيخُنا (¬1) أنّه مذهبُ أحمدَ -رضيَ الله عنهُ- وذكرَ عنه ما ليسَ بمأخذٍ للمذهبِ؛ لأنه قال: رويَ عن أحمدَ أنه قال في روايةِ ابنِ القاسمِ، وذُكرَ له عن شريح وابنِ سيرينَ، فقال: هؤلاءِ لا يكونون حجّة على مَنْ كانَ مِثلَهم (¬2) مِن التّابعينَ، كيفَ مَن قبلَهم مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟! ¬

_ (¬1) يعني أبا يعلى الفرَّاء، انظر "العدة" 4/ 1133. (¬2) في الأصل: "قبلهم".

- فصل لا اعتبار بقول العامة في الإجماع

وهذا لا يعطي ما نريده في هذهِ المسألةِ؛ لأن ابنَ سيرينَ وشريحاً مجتهدان يُعتدُّ بإجماعِهم معَ أمثالِهم مِن التَّابعينَ، بلا خلافٍ على المذهبِ أنّه معتدٌّ بإجماعِهم وخلافِهم مع التّابعينَ، ومَن عاصرَ منهم الصّحابةَ، فالصحيحُ أنّه يُعتدُّ بخلافِهم، فلم يبقَ لقولِ أحمدَ في مسألتِنا عملٌ ولا أثرٌ، لم يبقَ إلاّ ما صرّحَ بِه مِنْ نفي الحجّة، ولَعَمْري إن قولَ التّابعي ليسَ بحجّةٍ في عصرِ الصّحابةِ على الصحابةِ، ولا حجّةً على مَن بعدهم، فنَفْيُ الحجّة عَنِ التّابعينَ، لا (¬1) يعطي نفيَ الاعتدادِ بقولِ العامة لا تصريحاً ولا تنبيهاً، فإذا لم يعط مذهباً كانَ المُعَوَّلُ (¬2) على الدليلِ، وبه قال الفقهاءُ خلافاً لبعض الأصوليينَ كأبي بكر بن الطيَب الأَشعَرِي. فصِل في أدلتنا فمنها: أن العامِّيَّ لا اجتهادَ له، فنقولُ: ليسَ مِن أهلِ الاجتهادِ، ولا يُعتدُّ بخِلافه، كما لا تُعتبرُ موافقتُه في إجماع المجتهدينَ، كالصبيان. ومنها: أن العامَّةَ حقُّهم التقليدُ لغيرِهم، وليسَ لهم رُتبةُ الفُتيا ولا رجوع غيرِهم إليهم، فلا يعتدُّ بوِفاقِهم للعلماءِ ولا بخلافِهم، كالمجانين والأطفالِ والفُسَّاقِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فلا". (¬2) في الأصل: "المعمول".

- فصل شبه المخالفين

ومنها: أنّ الفسَّاقَ مِن العلماءِ المجتهدينَ لا يُعتدُّ بخلافِهم، معَ كونِهم مِن أهلِ الصناعةِ، لأجلِ التُّهمةِ في الدينِ، والعوامُّ العدولُ أوْلَى أن لا يعتدَّ بقولِهم لتحقُّقِنا أنّهم لا معرفةَ لهم بالحجّةِ مِن الشبهة، ولا بتراتيبِ الأدلةِ بعضِها على بعضٍ. ومنها: أنّ في الاعتدادِ بقولِهم تعطيلٌ لأقوالِ أهلِ العلمِ، وإيقاف لحجّةِ الشّرع على قولِ أربابِ المِهنِ والصَّنائع الزَّرِيَّةِ، المصروفةِ فهومُهم إلى ما نَدَبوا إليهِ نفوسَهم مِن الأعمالِ، ولا يَشَمُّونَ رائحةَ العلمِ بحالٍ، فالمشاورةُ لهم في الآراءِ الدينيَّةِ والاجتهاداتِ الاعتقاديةِ استخفافٌ بحرمةِ أحكامِ الشَّرع، وهذا صحيحٌ؛ لأنّ كلَّ قومٍ يُرجَعُ إليهم فيما يعانونَه ويَخبرُونَه، ولذلك يُرجعُ إلى أهل الصَّنائع في صنائعِهم، وإلى أهلِ الأسواقِ في تقويمِ السلع بحَسَبِ تجارتِهم فيها وخُبْرِهم بأسواقِها، ولا يخلطُ أهلُ صناعةٍ بغيرِ أهلِها في الاعتدادِ بقولِهم فيها، فلا يرجعُ إلى أهلِ تجارةٍ في أعيانِ في تقويمِ ما لاخُبرَ لهم بِه ولا ممارسةَ، ولايُرضى إلاّ بالخُبْرِ العدولِ، ليجمَعَ بينَ الخبرةِ والثِّقةِ، فلا وجهَ لإهمالِ أحكامِ الشَّرع باتفاقِ قولِ الخبراءِ العلماءِ بها على قولِ مَن لا خبرةَ له بها. فصل في شُبههم فمنها: قولُ النبيِّ في: "أمتي لا تَجتمعُ على الخطأِ، ولا تجتمعُ على

- فصل في أجوبتنا عن شبههم

ضلالةٍ" (¬1)، والعامةُ ممَّن يقعُ عليهمُ اسمُ الأمةِ، فلا يُخرجونَ عن عمومِها إلا بدلالةٍ. ومنها: أن العامّيَّ مكلّف، وهو مِن أهلِ النَّظرِ والاستدلالِ في الأصولِ، بحيث لا يجوزُ لهم التقليدُ فيها، ويأثمونَ بالخطأِ ويثابونَ على الإصابةِ، ويُبَدَّعون إذا اعتقدوا البدعَ، فلا وجه لإخراجِهم مِن الإجماع، ولا لإهمالِ خلافِهم في الأحكامِ. ومنها: أنّ صاحبَكم أوجبَ عليهم الاجتهادَ في أعيان العلماء حتى اتّفقوا مع أهلِ العلمِ، فأهلُ العلمِ يجتهدونَ في الأحكامِ، والعوامُّ يجتهدونَ في أعيانِ العلماءِ، وذلك نوعُ ترجيح، واستدلال بدلائِلَ توجبُ تقديمَ أحدِهم في ألاتباع (¬2) دونَ الآخرِ. فصلٌ في أجوبتنا عن شُبههم أمّا الخبرُ، فإنّه خاصٌّ في أهلِ العلمِ، ودلائلنا صارفةٌ لَهُ عنِ العمومِ، كما أخرجت الصبيانَ والمجانينَ والفُسَّاقَ حيثُ لم يكونوا أهلاً، والعوامُّ ليسوا أهلاً لذلكَ، وإنَّما لم يكُنِ العاميُّ أهلاً؛ لأنه إذا قالَ قولاً كانَ حازراً وخارصاً، لا عَنْ تحقيقٍ، ولا يستندُ قولُهُ إلى دليلٍ، فلا يؤنسُ إلى ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص 106. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "الايقاع".

- فصل لا يعتد بخلاف علماء الأصول وغيرهم حتى يكونوا من أهل العلم بأصول الفقه وفروعه

قولِه لعدمِ الصناعةِ، كما لا يؤنسُ إلى الفاسق لعدمِ الثِّقةِ بالديانةِ، فالعمومُ مخصوصٌ بهذهِ الدلالةِ وما سبقَ مِن أدلتِنا. وأمَّا قولُك: إنَّه مكلًفٌ، وله نطقٌ في الأُصولِ، فالفاسقُ مكلفٌ عاقلٌ له نظرٌ في الأصولِ، ولا يكونُ بِعلمهِ مِن أهلِ الفُتيا، ولا يُعْتدُّ باجتهادِه، ولأنَّ الأصولَ أداتُها العقلُ، والعقلُ موجودٌ بكمالِه في حقِّ العامَّةِ، ولا أداةَ للعلمِ الأصولَ سوى العقلِ، وأداةُ هذهِ العلومِ عللٌ مستنبطةٌ، وأدلَّةٌ مرتبةٌ بينّ خاصٍّ وعامٍّ، ومجملٍ ومفسَّر، ومطلق ومقيَّدٍ، ودليلِ خطابٍ، وفحوى خطابٍ، وظاهرٍ، وعمومٍ، واستصحابِ حالٍ. والقياسُ مراتبُ، وأدواتُ الاجتهادِ كثيرةٌ متنوِّعةٌ لا يُهتَدى إليها إلا بعدَ التعليمِ والتفهيمِ، ومعاناتِها على وجهِ الإدمانِ فيها، والعاميُّ ليسَ مِنْ ذلكَ ولا إليهِ. وأمَّا اجتهادُهم في أعيانِ العلماءِ، فإئما يعودُ إلى الأَفعالِ، فيتبعونَ الأورعَ والأَنسكَ ومَنْ شاعَ عنْهُ بأنَّهُ الأعلمُ، فأمَّا أَنْ يجتهدوا في طرقِ العلمِ وأدلتِه، فلا، وترجيحُ الأَشخاصِ ليسَ مِن بابِ الاجتهادِ والذي نحنُ فيهِ بشيء. فصل ولا يُعتدُّ بخلافِ علماء الأصول، وهم المتكلِّمون، ولا أصحابِ الحديثِ، والنحو، واللُّغة، والحساب، والهندسة، حتى يكونوا من أهل العلم بأصول الفقه وفروعه، قال أحمدُ: لايجوز الاختيار إلاَّ لرجلٍ عالمٍ بالكتاب والسُّنَّة ممَّن إذا وَرَدَ عليه أمرٌ نظرَ فيه الأمورَ وشبَّهها بالكتاب والسُّنًةِ

- فصل في أدلتنا

وذهبَ قوم من المتكلمين إلى أنَّه لا يتمُّ الإجماعُ إلا بالموافقة (1 من جميع أهل العلم 1). فصِل في أدلّتنا فمنها: أنَّ هؤلاء عامَّةٌ في الفقه؛ لأنهم غيرُ عالين بطرقِ الاجتهاد، فلا يُعتدُّ بخلافهم كالعاميِّ. ومنها: أنّا أجمعْنا على أنّ كلَّ علم مِن هذه العلومِ لا يُرجَعُ عندَ اعتراضِ الشُّبهةِ فيه والاختلافِ إلى غيرِ أهلِه، ولايُعتدُّ بقولِ فقيهٍ لا معرفةَ له باللّغةِ والحسابِ والنّحوِ في شيءٍ مِن ذلكَ، وكذلك أهلُ التقويمِ للسِّلع يرجعُ في تقويمِ كلِّ شيءٍ عندَ التغريمِ إلى أهلِ الخبرةِ بالبَزِّ، وإلى تقويمِ الأَقْواتِ إلى التّجارِ فيها، والخبراءِ بقِيمتِها، وإلى أمثالِ ذلكَ، فلا وجهَ لإدخالِ أربابِ العلومِ في علمِ الفقهِ، وكما لا يُرجعُ إلى الفقهاءِ في علومِ غيرهم على ما بيَّنا. ومنها: أَنَّ المخالفَ في هذهِ المسألةِ جعلَ رضا أهلِ العلم بغيرِ الفقهِ وسكوتَهم، أو قولَهم: لا نجدُ عندَنا ما يخالفُ ما أجمع عليهِ الفقهاءُ، يكفي (¬2) ذلكَ في الاعتدادِ به إجماعاً مِن غيرِ إبداءِ دليلٍ، ولا تعلّقٍ بأمارةٍ، ¬

_ (1 - 1) مطموس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1136. (¬2) في الأصل: "كفى".

- فصل في شبه المخالفين

وهذا ليسَ بمقامِ المجتهدينَ؛ لأَنَّ المجتهدَ لا يُقنعُ مِنهُ إلاَّ بأنْ يفتيَ بذلكَ، ويشيرَ إلى دليلِه فيهِ، فأمّا إنْ قالَ: لا أُخالفُ، ولا عندِي دليل للموافقةِ، فإنه لا يُقنعُ مِن الفقيهِ عندَهم بِمثلِ هذا، ويقنعُ مِن المتكلمينَ بمثل ذلكَ، فدلَّ على أنّهم كالعوامِّ. فصل في شبههم فمنها: قولُه تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، وهؤلاءِ مِن جملةِ المؤمنينَ فيلحق الوعيدُ بمُخالفِهم. بعمومِ الآيةِ. ومنها: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي لا تجتمعُ علي ضلالةٍ"، فَشَرطَ لنفي الضلالةِ إجماع أمتِه، فلا نحكمُ بنفي الضلالةِ معَ تخلّفِ هؤلاءِ العلماءِ، وهم مِنْ ساداتِ الأمَّةِ وخيارِهم. ومنها: أنَّ لهم معرفةً بالأدلةِ والأماراتِ، ومراتبُ الأدلةِ صناعتُهم، ومعرفةُ ما بينَ الحجَّةِ والشُّبهةِ، وفي معرفةِ ذلكَ أُحوِجَ (¬1) المجتهدونَ إلى رأيِهم، واستخراج الصحيح مِن الفاسدِ، فلا يجوزُ أنْ يُجعَلَ قولُهم لغواً، ولذلكَ مَن عَرَفَ أصولَ الفرائضِ، ولم يعرفْ فروعَها، كانَ مِن أهلِ الفرائض معتدّاً بقولِه، كذلك مَن عرفَ أصولَ الدينِ والفقهِ ولم يعرفِ الفروعَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأحوج".

- فصل في الأجوبة عن شبههم

فصل في الأجوبَةِ عنْ شبههم أمّا الاَيةُ، فإنَّها ترجعُ إلى المؤمنينَ مِن علماَءِ الفروع، وهمُ الفقهاءُ، والدلالةُ على تخصيصِها ما ذكرْناهُ مِن الأدلّةِ. وأمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -:"أمتي لا تجتمعُ على الخطأِ، ولا على ضلالةٍ"، فيَعُمُّ الأمَّةَ، لكن نحملُه على أهلِ الاجتهاد، وهمُ الفقهاءُ، وتخصيصاتُهم بأدلَّتِنا. وأمّا قولُهم: إنَّ لهم نظراً، واجتهاداً، ومعرفةً بالأدلّةِ، وبناء الأدلَّةِ بعضِها على بعضٍ، فهو صحيحٌ، لكنْ في أصولِ الدينِ، وهي الكلاَمُ على الجوهرِ والعَرَضِ والاستطاعةِ وبناءِ العرضِ ومَثارِه، فأَمّا الفروعُ التي نحنُ فيها، التي مستندُها الأشباهُ، والسُّنَنُ، والمعاني من الآي، وتراجيح أدلَّة الحلالِ والحرامِ وهذا القبيل، فلا معرفةَ لهم بها، بل هم فيها بمنزلةِ العوامِّ، يوضحُ هذا، ويبيِّنُه: أنَّ الفُتيا لا تجوزُ أنْ تصرفَ إلى آحادِهم، فإذا لم يكنْ آحادُهم مِن أهل الاجتهادِ والأستنباطِ، لم تكنْ جملتُهم مِن أهلِ الإجماع، بخلافِ الفقهاءِ، فإنَّ آحادَهم يُرجعُ إليهِ في الفتوى، فَعُوِّلَ على جماعتِهم في الإجماع، وهؤلاءِ لما لم يُعَوَّل على آحادِهم في أَصلِ الفُتيا، لم يُعوَّلْ عليهم في الإجماع. فصل إجماعُ أهلِ المدينةِ ليسَ بحجَّةٍ، بل هم وغيرُهم سواء، فمتى اتفقوا على حكمٍ، ثُمَّ خالفَهم غيرُهم، لم يعد معَ مخالفةِ ذلكَ المجتهدِ إجماعاً،

- فصل في أدلتنا على ذلك

ذكرَهُ أحمدُ، وبِه قالَ الفقهاءُ، وأهلُ الأصولِ. وقالَ مالكٌ: إنه حجةٌ، واختلفَ أصحابُه، فقالَ قوم: أرادَ بِه روايتَهم، وقالَ بعضُهم: أرادَ بِه أصحابَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فصلٌ في أدلتِنا فمنها: قولُه تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، وليسَ أهل المدينةِ كلَّ المؤمنينَ، والآية تقتضي لحوقَ الوعيدِ بالمؤمنينَ المعهودينَ المعروفينَ بإضافةِ السَّبيلِ إليهم، والتعويل في الاجتهادِ والفُتيا عليهم، وليسَ يقفُ ذلك على أهلِ مكانٍ بعينه، فالمخصِّصُ يحتاجُ إلى دليلٍ. ومنها: قولُه [تعالى]: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وذلكَ كتابُ اللهِ وسنةُ رسوله، فالمضيفُ إلى ذلكَ أهلَ المدينةِ يحتاجُ إلى دليلٍ. ومنها: قولُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي لا تجتمعُ على الخطأِ"، ورويَ: "على ضلالةٍ" (¬2)، وليسَ أهلُ المدينةِ كلَّ أمتهِ. وقولُه: "أصحابي كالنّجومِ، بأيِّهم اقتديتُمُ، اهتديتُم" (¬3) وهذا يعمُّ ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1142 وما بعدها، "البحر المحيط" 4/ 483 - 493. (¬2) تقدم تخريجه ص 106. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 280.

- فصل في شبه المخالفين

أصحابَه أينَ كانوا، وحيثُ كانوا. ومنها: أنَّ ما ذهبَ إليهِ المخالفُ يؤدِّي إلى مُحال، وهو أنْ يكونَ قولُهم حجَّةً ما داموا بالمدينةِ، فإذا خرجوا منها، لم يكنْ قولُهم حجَّةً، وهذا منْ أبعدِ الأقوالِ (¬1)، أنْ يكونَ الشَّخصُ بمكانِه، لا بعلمِه، ولا اجتهادِه، ولو جازَ ذلك، لجازَ أنْ يصيرَ قولُ العاميِّ حجَّةً، إذا صارَ فيها، أو كانَ فيها. ومنها: أنْ يقالَ: لا يخلو أنْ تكونَ الفضيلةُ الموجبةُ لكونِ أقوالِهم حجَّةً، راجعةً إلى البقاع، أو إلى فضائلِ الرجالِ لأجلِ ما اكتسبوهُ مِن العلومِ، أولهما؛ فإنْ كانَ لأجلِ البقعةِ، فلا وجهَ لذلكَ؛ لأنَّ العامَّةَ ومَنْ لا اجتهادَ له هو في البقعةِ، ولم يُجعلْ قولُهم حجَّةً، وإنْ كانَ لأجلِ الفضلِ، فأصحابُ رسولِ اللهِ كابنِ مسعودٍ وثلاثِ مئةٍ مِن الصَّحابةِ ونيِّفٍ انتقلوا إلى العراقِ، وما كانَ مَن بقيَ بالمدينةِ بأكثَرَ مِنهم علماً، ولا أوفى فضلاً، فلا وجهَ لإِسقاطِ حكمِ خلافِهم، وإخراج قولِهم عن الحجَّة، وجعلِ مَن أقامَ بالمدينةِ حجَّةً عليهم، معَ التَّساوي في أدواتِ الاجتهادِ. فصل في شبههم فمنها: ما رُويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: "إنَّ المدينةَ تنفي خبثَها، كما ¬

_ (¬1) في الأصل: "قول".

- فصل في الأجوبة عن شبههم

ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ" (¬1)، والخطأ مِن الخبثِ، فكانَ منفياً عنها. وقولُه عليهِ الصلاةُ والسَّلام: "إنَّ الإسلامَ يَأرِزُ إلى المدينةِ، كما تَأرزُ الحيَة إلى جحرِها" (¬2). وقوله عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "لا يُكايدُ أحدٌ أهلَ المدينةِ إلا انماعَ كما ينماعُ الملحُ في الماءِ" (¬3). ومنها: أنْ قالُوا: المدينةُ مُهَاجَرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وموضعُ قبرهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومهبط الوحى، ومستقرُّ الإسلامِ، ومجمعُ الصَّحابةِ، فلا يجوزُ أنْ يخرجَ الحقُّ عنْ قولِ أهلِها. ومنها: أنّ روايةَ أهلِ المدينةِ مقدَّمةٌ على روايةِ غيرِهم. ومنها: أنّ أهلَ المدينةِ شاهدوا التنزيلَ، وحمعوا التأويلَ، فكانَ إجماعُهم حجَّةً لا يخرجُ الحقُّ عنْها، ويستقلُّ أهلُها به دونَ غيرِهم. فصلٌ في الأجوبةِ عن شبههم أمّا السُّننُ الواردةُ بفضلِها وحفظِها، فإنهُ رَاجعٌ إلى كونِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بنحوه (7232)، والبخاري (1871)، ومسلم (1382)، والنسائى في "الكبرى" (11399)، وابن حبان (3723) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه أحمد (7846) و (9471) و (10440)، واليخاري (1876)، ومسلم (147)، وابن ماجه (3111) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (1877) من حديث سعد بن أبى وقاص.

بها، فكانت محفوظةً بِه - صلى الله عليه وسلم -، وبكونِها دارَ الهجرةِ، وموطنَ الصَّحابةِ بعدَهُ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لا يمنعُ مِن كونِ بمجموع منْ فيها وفي غيرِها [عُلَماء] (¬1) تخصيصاً للمزية التي ذكرْناها. ولأَنَّ مكةَ ممدوحةٌ بكونِها قبلةً للخلقِ، وموضعَ المناسكِ، ومولد رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومبعثهُ، ومولدَ إسماعيلَ، ومنزلَ إبراهيمَ، ولم يدلَّ ذلكَ على أنَّ قولَ أهلِها حجةٌ، بل الاعتبارُ بعلمِ العلماءِ، واجتهادِ المجتهدينَ، سواء كانوا فيها، أو في غيرِها، والذي يوضحُ هذا، وأنَّه عادَ إلى الخصوصينَ مِن أهلِها لخصائصِهم مِن العلمِ، لا لها، ولا لعصمتِها: أنَّ الله سبحانَه اُخبَرَ عن كون المنافقينَ مِن أهلِها، فدلَّ ذلكَ على اُن الحفظَ والعصمةَ والتبجيلَ، عادَ إلى ساكنٍ أو نازلي مخصوصٍ بالعلمِ، والعملِ بِه. وأمّا قولُهم: إن المدينةَ مجمعُ الصَّحابةِ، ومهبطُ الوحي، وبها قبرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلعمري لكنْ لو جَمَعتِ المجتهدينَ مِن الأُمَّةِ (¬2)، لتخصَّصتْ، لكنها جمعت قوماً، وفارقَها قومٌ، على ما حفظوهُ مِن النقلِ، وفقهوهُ مِن المعاني، فلا يجوزُ أن يخرجوا عَنِ اتفاقِ أهلِ الاجتهادِ، واعتبارهم في الوفاق، والاعتداد بخلافهم في الخلافِ، فإنَّ الذي حَظُوا (¬3) به فيها لم يزايلهم، ولم ينسلخ عنهم، ولو زال عنهم العلمُ بنسيانٍ أو ذهول معَ مقامِهم بها، لم ¬

_ (¬1) طمست في الأصل. (¬2) في الأصل: "الامة". (¬3) في الأصل: "حظيوا".

* فصل لا يكفي في انعقاد الإجماع اتفاق أهل البيت مع خلاف غيرهم

يُعتبرْ وفاقُهم، ولا اعتُدَّ بخلافِهم. وأمّا تعلّقُهم بتقديمِ روايتهم على روايةِ غيرِهم، فدعوى لا دليلَ عليها، ولا علَّةَ تجمعُ بينَ الرِّوايةِ والدرايةِ، على أنّ الأخبارَ قدْ ترجحُ. بما لا يترجَّح به الاجتهادُ؛ بدليلِ أنّ روايةَ الجماعةِ ترجَّحُ على روايةِ الواحدِ، ولا توجِبُ ترجيحَ قولِ جماعةٍ مِن المجتهدينَ على قولِ الواحدِ، على أنّهم لمّا قَرُبوا مِن الحوادثِ التي جرتْ وسمعوا الأجوبةَ، كانوا أحقَّ بالنقلِ؛ لأنّهم أقربُ إلى الحفظِ والضبطِ، وطريقُ الأخبارِ السماعُ للحفظِ، والقربُ يؤكِّدُه، فقُدِّموا فيهِ؛ لأَنّهم الحُفظُ، فأمّا الاجتهادُ فإنّ طريقَه النظرُ، والبحثُ بالقلبِ، والاستدلالُ على الحكمِ، وذلكَ لا يختلفُ بالبعدِ والقربِ. فصل لا يكفي في انعقادِ الإجماع اتفاقُ أهلِ البيتِ معَ خلافِ غيرِهم، خلافاً للإماميةِ: هو حجةٌ بنفسِه. فصِّلٌ في أدلتِنا فمنها: قولُه تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] الآية وذلكَ يعمُّ كافّةَ أهلِ الاجتهادِ مِن أقاربِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرِهم، فلا وجهَ لتخصيصٍ. ومنها: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي لا تجتمعُ على ضلالةٍ" وروي: "لا

- فصل في الشبه التي تعلق بها المخالفون

تجتمعُ على خطأٍ"، وذلك يعمُّ ولا يخصُّ أهلَ البيتِ. وما رويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "أصحابي كالنُّجومِ بأيِّهم اقتديتُمُ اهتديتُم"، وهذا يدلُّ على أنّ الاقتداءَ بغيرِ أهلِ البيتِ مِن الصَّحابةِ، كالاقتداءِ بأهلِ البيتِ مِن ألاهتداء. ومنها: أنّ أهلَ البيتِ لا يتخصَّصونَ بأكثَرَ مِن القرابةِ والنسبِ، وذلك لا وَقْعَ له في الاجتهادِ، إنّما يحصُلُ الاجتهادُ بأدواتِه وهو العلمُ، فأمّا الشَّرفُ والنَّسبُ فلا أثَرَ لَه في الاجتهادِ في الأحكامِ واستخراج عللها، ونصب الأدلةِ عليها، فإنْ حصلتِ الإشارةُ في ذلك، وأجمعوا على المخالفةِ لوقوفهم على التنزيلِ وأفعال رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوالِه، فذلك لا يختصُّ بهم، بل زوجاتُه وأصحابه سواء على اختلاف أحوالِهم مَعَه، فالزوجاتُ في بيته - صلى الله عليه وسلم -، والأصحابُ في مجالسِه وأسفارِه، قدْ كانوا يتحفًظونَ مِن أقوالِه، ويَلحَظونَ مِن أفعالِه ما قدْ يَفُوت بعضَ أهلِ بيتِه، فلا وجهَ لإخراج مَن ساواهم عن الاعتدادِ بوِفاقِه لهم وخلافِه. ومنها: أنّ أحدَ طرقِ هذا الوجودُ، وقد كانَ عليٌّ رضي الله عنه خولفَ في عدّةِ مسائلَ، خالَفَه عليها الصَّحابةُ، فلمْ يُحفَظ عنه أنّه قالَ لواحدٍ منهم: إنّ قولي حجةٌ عليكم. فصل في الشُّبهِ التي تعلَّقُوا بِها فمنها: قولُه تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

- فصل في الأجوبة عن شبههم

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ومِن الرِّجسِ الضَّلالُ والخطأ، فإذا أخبرَ الله تعالى بذهابِه عنهم، كانوا مخصوصينَ بالعصمةِ عنِ الخطأِ. قالوا: وأهلُ البيتِ: عليٌّ، وفاطمة، والحسنُ والحسينُ، بدليلِ ما رويَ أنها لمَّا نزلت أدارَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الكساءَ على هؤلاءِ، وقال: "هؤلاءِ أهل بيتي" (¬1). ومنها: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي تاركٌ فيكمُ الثَّقلينِ، فإنْ تمسَّكتُم بهما لم تضلُّوا: كتابَ اللهِ وعِتْرتي" (¬2)، وإذا خصَّ التمسكَ بهما، لم تقفِ الحجَّةُ على غيرِهما، ولا يشترط لها غيرُهما. ومنها: أنّ أهلَ البيتِ اختصّوا بأنّهم أهل بيتِ الرِّسالةِ، ومَعدِن النّبوةِ، واختصوا بالعصمةِ. فصل فى الأجوبةِ عنْ شُبَهِهم أمّا قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33] فإنّه عائدٌ إلى زوجاتِه، فإنَّه قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، ونسق الكلام في خطابينِ إلى قولِه: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 6/ 298، والترمذي (3871)، والطبري في "تفسيره" 22/ 7 من حديث أم سلمة. وحسَّنه الترمذي. (¬2) تقدم تخريجه ص 122.

الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] محالٌ أنْ (1 يقصدَ غيَرهنَّ 1) بعدَ قولِه: "يا عائشةُ بنتَ أبي بكرٍ، ويازينبُ، ويا صفيَّةُ بنتَ حُيَيِّ بنِ أخطبَ، ويا فلانةُ وفلانةُ، إنَّما يريدُ الله ليذهبَ عنكمُ الرِّجسَ، يا عليُّ ويا حسنُ ويا حسينُ" (¬2)، فلم يَبْقَ إلاَّ عَودُ الخطابِ بأهلِ البيتِ إليهنَّ. فإنْ قيل: فإنْ تعلَّقتُم بخطابِ التأنيثِ في قولِه: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، تعلَّقنا عليكم بقوله: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ} ولو أرادَ الزَّوجاتِ لقالَ: عنكنَّ. قيلَ: الجوابُ عن هذا، وقولهم: إنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أدارَ الكساءَ على علي وفاطمةَ وولديهما وقالَ: "هؤلاءِ أهلُ بيتي": أنَّنا لسْنا نُخرِجُ مَن ذكرْتم عَن أهلِ البيتِ، والجمعُ إذا اشتملَ على ذكورٍ وإناثٍ غلبَ جمعُ التذكيرِ، وإنَّما نقولُ: إنَّ نساءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يدخلْنَ ولا يجوزُ خروجُهنَّ، معَ كون أوَّلِ الخطابِ لهنَّ فأفردَهنَّ في الأَولِ بالخطابِ، كما كلفَهنَّ وتواعدَهنًّ على المخالفةِ، ثمَّ لما خاطبَهنَّ بأهلِ البيتِ، أدخل معهنَّ غيرَهُنَّ مِن الذكورِ، وجاءَ بخطابِ التذكيرِ، ولا وجهَ لإخراج النساء مِن أهلِ البيتِ، ¬

_ (1 - 1) غير واضح لا الأصل. (¬2) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج الطبراني في "الكبير" 8/ 7890 عن أبي أمامة أنه لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال رسول الله:"يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا أم سلمة، ويا فاطمة بنت محمد، ويا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا في فكاك رقابكم، فإني لا أطلب لكم من الله شيئاً، ولا أغني ... ".

كما قالَ سبحانَه في حقِّ زوجةِ إبراهيمَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 71 - 73] فعادَ ذلكَ إلى إبراهيمَ وإليها وجميع مَن حَوَاهُ بيتُ إبراهيمَ مِن ذكرٍ وانثى. والرجسُ فِى الآيةِ التي تعلقوا بها لا يجوزُ أنْ يعودَ إلى الخطأِ في الاجتهادِ، لأنّه قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ}، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ}، فدلَّ على أنه أراد دفع (1 التهمة عنهنَّ 1)، وامتداد العيون بالنظر إليهنَّ، فأمَّا الاجتهادُ فلمْ يجرِ لَه ذكر، فلا يجوزُ أنْ نَعْدِلَ عَن رجس شهدَ لَه نطقُ الآيةِ ونَرُدَّهُ إلى خطأٍ في اجتهادٍ لم يَجْرِ له ذِكر في الآيةِ؛ ولأَنَّ ما تعلَّقُوا به مِن التفسيرِ فخبرُ واحدٍ، وعندَهم لا يُحتجُّ به، فكيفَ وهوَ مخالفٌ لظَاهرِ القرآنِ؟!. وأمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي تارك فيكمُ الثَّقلينِ" (¬2) إلى أخر الخبرِ، فإنّه مِن أخبارِ الآحادِ، وهو عندَهم ليسَ بحجَّةٍ، وعندنا هوَ حجَّة، لكنْ قدْ روىَ "كتابُ اللهِ وسُنَّتي" (¬3)، ولو كانَ ما ذكرْتُم لما ضرَّنا فيما قصدناهُ؛ لأنّه يجوز أنْ يعودَ إلى الرِّوايةِ عنه، وروايتُهم حجَّة، وخصَّهم بذلك، لأنهم (¬4) ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) تقدم تخريجه ص 122. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 93 من حديث أبى هريرة. (¬4) في الأصل: "لأنه".

أخبرُ. بما قالَ وفعلَ. ويحتمل أنّه أرادَ بِه إذا وافقَ قولُهم الصَّحابةَ، وخصَّهم بالذكر تبجيلاً، كما قال: "أصحابي كالنُّجومِ، بأيِّهمُ اقتديْتُمُ اهتديْتُم" (¬1) ولمْ يُخرِجْ ذلك أهلَ بيتِه عليهمُ السلامُ، وكما قالَ: "اقتدوا باللَّذَينِ مِن بعدِي أبي بكرٍ وعمر" (¬2)، "عليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِن بعدِي" (¬3) ولم يمنعْ ذلكَ دخولَ غيرِهم معَهم في الاعتدادِ بإجماعِهم، ويصرفُ ظاهرُ اللفظِ إلا هذا التأويلِ بِما تقدَّمَ مِن الدليلِ. وأمّا ما ذكروه من التخصص به، وقربهم منه - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ ذلك أمرٌ لم ينفردوا بِه، بلْ لزوجاتِه فيما يشاهَدُ منه - صلى الله عليه وسلم - مِن الأفعالِ البَيْتيَّة (¬4) التي تتعلَّقُ عليها الأحكامُ كغُسْلِه مِن الجنابةِ، ووضوئِه، ولبسِه، وأكلِه، وشربه، وصلاة النَّفْل بالليل، وما يجتنِبُه مِن المتعةِ في حالِ حيضِهِنَّ، وما يُقدِمُ عليهِ، كلُّ ذلك (5 هنَّ فيه أعلمُ من بقيَّةِ أهلِه 5) ... وإذا لم يتخصص أهلُ بيته بذلكَ، فلا وجهَ لتخصيصِهم بالإجماع دونَ مَن شاركَهم في ¬

_ (¬1) تاقدم تخريجه 1/ 280. (¬2) تاقدم تخريجه 2/ 182. (¬3) تافدم تخريجه 1/ 280. (¬4) في الأصل: "البتينة". (5 - 5) غير واضح في الأصل، ووقع في هذا الموضع أيضاً اضطراب في الكلام نتيجة ما أصاب الأصل من التلف.

* فصل في التابعي إذا أدرك عصر الصحابة وهو بن أهل الاجتهاد يعتد بخلافه

طرق الإجماع سيَّما الاجتهادُ، وجَوْدةُ النظرِ، والاستدلالُ بالرأيِ (¬1) لا يقفُ على القريبِ، أَلا ترى أنّ معاذَ بنَ جبلٍ لما بَعُدَ عنه إلى اليمنِ قالَ: أجتهدُ رأيى، فكانَ رآيه مَعَ بُعدِه كالرأيِ ممَّن قَرُبَ منْه - صلى الله عليه وسلم -، وليسَ فيما ذكروهُ بحِدَتِه مِن القربِ ما يوجب العصمةَ، وإنما غايةُ ما تحصلُ به العصمةُ اتفاق أهلِ الاجتهادِ على حكمِ الحادثةِ، وليسَ في القربِ ما يُقَوِّي الاجتهادَ إلى الحدِّ الذي ينفي الخطأَ، وفي إجماع أهلِ العلمِ ما ينفي، كما أنَّ جماعةً يحصلُ بخبرِهم المتواترِ (¬2) [ما] يوجبُ العلم (¬3)، ولا يوجبُ العلم روايةُ جماعةٍ دونَهم لهم (¬4) تخصُّص بما رووه وقُربٌ ممن رووا عنْه. فصل في التًابعيِّ إذا أدركَ عصرَ الصَّحابةِ وهو من أهلِ الاجتهادِ، فيه روايتانِ: إحداهما: لا يعتدُّ بخلافِه، نصرَها شيخُنا في "العدَّة" (¬5)، والثانيةُ؛ يعتدُّ بخلافِه، وهي الأصحُّ عندِي. وبالثانية قالَ المتكلمونَ وأكثرُ أصحابِ أبي حنيفةَ (¬6)، وأصحاب ¬

_ (¬1) في الأصل: "الذي". (¬2) في الأصل: "المتواهم"، وباسقاط "ما". (¬3) في الأصل: "العمل". (¬4) في الأصل: "له". (¬5) انظر "العدة" 4/ 1152. (¬6) انظر "أصول السرخسى" 2/ 114.

- فصل في أدلتنا على ذلك

الشافعيِّ (¬1)، إلاّ أنّ أصحابَ أبي حنيفةَ (¬2) قالوا: إنْ كانَ مِن أهلِ الاجتهادِ عندَ حدوثِ الحادثةِ، كانَ معتدّاً بِخلافِه، وإنْ لم يكنْ مجتهداً في ذلك الوقتِ، لكنَّهُ صارَ مجتهداً قبلَ انقراضِ العصرِ، فأظهرَ الخلافَ، لم يُعتَدَّ بخلافِه، خلافاً على ما حكاهُ أبو سفيانَ، وأصحابُ الشافعيِّ يجعلونَ خلافَهُ معتدّاً بِه إذا صارَ مجتهداً قبلَ انقراضِ عصرِ الصَّحابةِ. فصلٌ في أدلَتنا على نصرة الثَّانية فمنها: أنَّ الصحابةَ سوَّغتْ للتابعينَ الذينَ أدركوهم الاجتهادَ معَهم فيما حدَثَ في عصرِهم مِن الحوادثِ، كسعيدِ بنِ المسيّبِ، وشريح القاضي، والحسنِ البصريِّ، ومسروق، وأبي وائلِ، والشعبيِّ، وغيرِ هم، بدليلِ أنَّ عمرَ وعلياً- رضيَ الله عنهما- ولَّيا شريحاً القضاءَ، ولم يعترضا أحكامَهُ بالنسخ مَعَ إظهارِهِ الخلافَ عليهما في كثيرٍ مِن المسائلِ، وكتبَ عمرُ -رضيَ الله عنْه- إليهِ: فإن لم تَجِدْ في السُّنَّةِ فاجتهدْ رأيَكَ (¬3)، ولم يأمرْهُ بالرُّجوع إليهِ ولا الحكمِ بقولِه، وخاصمَ عليٌّ -رضيَ الله عنْه- إلى شريحِ ورضيَ بحكمِه حينَ حكمَ عليهِ بخلافِ رأيِه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة " 384. (¬2) انظر "فصول الأصول" 33413. (¬3) انظر "أخبار القضاة" لوكيع 2/ 189. (¬4) انظر "سنن البيهقي" 10/ 136.

ورويَ عن أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ أنه قالَ: تذاكرتُ أنا وابن عباسٍ وأبو هريرةَ في عدَّةِ الحاملِ المتوفى عنها زوجُها، فقالَ ابن عباسٍ: أبْعدُ الأجلينِ. وقلتُ أنا: عدَّتُها أنْ تضعَ حملَها، وقالَ أبو هريرةَ: أنا معَ ابن أخي. فسوَّغَ ابن عباسٍ لأبي سلمةَ أن يخالِفَه ومعهُ أبو هريرة (¬1). ذكر إبراهيمُ عن (¬2) مسروقٍ أنّه قالَ: كان ابن عباسٍ إذا قدِمَ عليهِ أصحابُ عبدِ اللهِ صنعَ لهم طعاماً ودعاهم، قالَ: فصنع لنا مرةً طعاماً فجعلَ يسألُ ويفتي، فكانَ يخالفُنا، فما يمنعُنا أنْ نردَّ عليهِ إلاَّ أنَّا على طعامِهِ. وسُئلَ ابن عمرَ عن فريضةٍ، فقالَ: سَلُوا سعيدَ بنَ جبيرٍ، فإنَّه أَعلمُ بها مني (¬3). وسُئِلَ الحسينُ بنُ علي عن مسألةٍ فقالَ: سلوا مولانا الحسنَ (¬4)، يعني البصريَّ. وإذا ثبتَ أنَّها قد سَوَّغتْ للتابعينَ ذلك، لم يَجُحزْ تركُ الاعتدادِ بأقوالِهم، وِفاقاً لصحَّةِ الإجماع، واعتداداً بخلافِهم لمنع الإجماع وأنخرامِه. ومنها: أنّ معَه آلةَ الاجتهادِ في وقتِ حدوثِ الناَّزلةِ، فكانَ معتدّاً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4909)، ومسلم (1485). (¬2) في ألأصل: "ومسروق". انظر "العدة" 4/ 1166. (¬3) أخرجه أبن سعد 6/ 258. (¬4) أخرجه أبن سعد 7/ 167.

- فصل في أسئلة المخالف

بخلافِه أوْ بقولِه، فوقفَ انعقادُ الإجماع على وفاقِه كالصَّحابيِّ. ومنها: أنّ الاعتبارَ بالاجتهادِ لا بالصُّحبةِ، والدليلُ عليهِ: أنَّه لوْ كانَ صحابي عامياً في عصر التَّابعينَ، لجازَ لَه تقليدُ فقهائِهمُ المجتهدينَ، ولم يعتدَّ بِقول الصَّحابيِّ لعدمِ الاجتهادِ، وإذا كان الاعتبارُ بِه، بطلَ قولُ مَن أخرجه مِن جملةِ المعتبرينَ في انعقادِ الإجماع. ومنها: أنّه لو كانَ انحطاطُ التابعيِّ عن رُتبةِ الصَّحابةِ يسقِطُ الاعتدادَ بخلافِه، لكانَ انحطاطُ بعضِ الصَّحابةِ عن الخلافةِ، وعن كونِه مِن المهاجرينَ الأولينَ والبدريينَ يمنع، لأنَّه قد صرَّح القرآنُ بتفضيلِهم بقولِه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "خيارُكم القرنُ الذينَ بُعِثتُ فيهم ثُم الذينَ يَلُونَهم ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم" (¬1)، ولما لم يَخرج الأدنى عن اعتبارِ وِفاقِه للأعلى والاعتدادِ بخلافِه من أصحابِ رسولِ الله، كذلكَ التابعونَ. فصلٌ في أسئلةِ المخالفِ فمنها: قولهم على الدليلِ الأوَّلِ: لعلَّهم إنَّما سوَّغوا اجتهادَهم فيما ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (7123) و (1318) (10211)، ومسلم (2534)، والطيالسى (2550)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2468) من حديث أبي هريرة.

- فصل في الأجوبة عن الأسئلة

اختلفو! فيهِ ولم يُجمِعوا عليهِ، وفد رويَ عن أبي هريرةَ ما يدلُ على ذلكَ وهو قولُه: أنا معَ ابنِ أخي، يعني أبا سلمةَ. ومنها: أنْ قالوا: لا يمتنعُ أنْ يكونَ لَه الاجتهادُ ويكونُ متعبّداً بغيرِه، كما كانَ مجتهداً ويتعبّدُ بخبرِ الواحدِ. ومنها: أنَّ الصّحابةَ مُيِّزوا بصحبةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فصلٌ في الأجوبةِ عنِ الأسئلةِ أمّا قولُهم: إنَّ التسويغَ للتابعينَ كانَ فيما اختلفت فيه الصّحابةُ، فكلُّ من اعتُدَّ بقولِه في الخلافِ لم يكنْ معَ مخالفتِه اعتدادٌ بالوفاق، بل لا يعدُّ وفاقُ مَن عداهُ وفاقاً. وأمّا قولهم: إنَّ الاعتدادَ بقولِهم لا يمنعُ التعبُّدَ بغيرِ قولِهم، كالخبرِ، فغلطٌ؛ لأنَّ الخبرَ دليل متَّبعٌ وسنةٌ هي أصل، فيسقِطُ حكم الرأيِ، ورأي الرجال يتقابلُ. وأمّا المزيَّةُ بالصحبةِ، فلا وجهَ لتقديمِ الشَّخصِ بها في بابِ الاجتهادِ، كالمزيّةِ بالقرابةِ على الصحبةِ، والخلافةِ على الرَّعايا. فصلٌ في شبههم -أعني مَن نصر الرواية الأخرى- فمنها: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدُوا باللّذينِ مِن بعدِي أبي بكرٍ

- فصل في الأجوبة عن شبههم

وعمرَ" (¬1)، وقولُه: "عليكم بسنتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدين مِن بعدِي عَضوا عليها بالنَواجذِ" (¬2). ومنها: أنّ قول الصَّحابيِّ حجةٌ على قولكم وقول أبي حنيفة, مقدم على القياس, وعلى قول الشافعي, ومن كان قوله حجة لم يجز لأهل عصره مختلفة, كالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنّ علياً- كرَّمَ الله وجهَه- نقض على شريعِ حكمَه في ابنَي عم، أحدُهما أخ لأُمِّ، لمّا جَعَلَ المالَ كلَّه للأخ مِنهما (¬3). ورويَ عن عائشةَ- رضيَ الله عنها- أنَّها قالت لأبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ: مثلُكَ مثلُ الفروج يسمعُ الديكةَ تصيحُ، فصاحَ بصياحِها (¬4). وهذا إنكارٌ عليه الدخولَ معَ الصَّحابةِ في الاجتهادِ. ومنها: أَنّ الصّحابيَّ له مزيَّةُ الصُّحبةِ، وشهودُ التنزيلِ، وسماع التأويلِ، وزادَ بالاجتهادَ. فصلٌ في الأجوبةِ عَن شبههم أمّا قولُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:"اقتدوا بِهم" فأَمرُه بَالاقتداءِ يرجع إلى المقلِّدين ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 182. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 280. (¬3) أخرجه البيهقي 6/ 239 - 240. (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 46.

دونَ المجتهدين، بدليلِ أنَّه إنَّما خاطبَ أهلَ عصرِه، ولا يجوز أنْ يأمرَ مجتهداً أنْ يقتديَ بهم، ويتركَ اجتهادَهُ، لأنَّ ذلكَ مِن التقليدِ الذي نهى عنه وأمرَ بالاجتهادِ، ومعلومٌ بأنَّ هذه الأخبارَ لم تَمنَعْ خلافَ غيرِ الخلفاءِ مِن أصحابِه - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، كذلكَ لا تمنعُ المجتهدَ مِن التابعينَ مِن خلافِهم. وأمَّا قولُهم: إنّ قولَ الصّحابيِّ حجةٌ، فلنا فيهِ روايتانِ، كهذهِ المسألةِ ولا فرق. وأمّا نقضُ علي على شريح حكمَه، فليسَ على ظاهرِه، بلْ يجوزُ أن يكونَ يقضي. بمعنى رَدَّه بالاستدلالِ، كما يُقالُ: نقضَ فلانٌ كتابَ فلانٍ، بمعنى ردَّه عليهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ معَ علي- عليهِ السلامُ- نصٌّ واجبٌ نَقَضَ حكمَه، أوْ لأَنَّه الإمامُ فرأى ذلكَ مصلحةً، كما أنَّ عمرَ- رضيَ الله عنه- نهى زيدَ بنَ ثابتٍ أنْ يفتيَ بالماءِ مِن الماءِ بعدَ ما أنفذَ إلى عائشةَ فسألَها، فروتْ لَه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يغتسلُ. وإنَّ فعله لا يقضي على قوله، بل يجوز أن يكون اغتسل تنظفاً، أو تطوُّعاً، أو لانتقال المَنِيِّ، ومعَ زيدٍ حديثُ: "الماءُ مِن الماءِ" (¬1)، ومعَ عائشةَ: أنَّ النبيَّ كانَ يغتسلُ (¬2)، ومعَ تقابلِ الخبرينِ منعَ زيداً وتهدَّدَه. وأمّا تَمَيُّزُ الصَّحابةِ بِما تميَّزُوا بِه، فلا (¬3) يمنعُ الاعتدادَ بخلافِ من ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 36. (¬2) تقدم تخريجه 3/ 103. (¬3) في الأصل: "لا".

- فصل إذا قال بعض الصحابة قولا فظهر للباقين وسكتوا عن مخالفته كان إجماعا

دونَهم في الرتبةِ لأجْلِ مساواتِه لهم في الاجتهاد (¬1)، كغيرِ الأئمةِ مع الأئمة، وغيرِ الأهلِ والقرابةِ معَ الأهلِ، وغيرِ الزوجاتِ معَ الزوجاتِ. فصلٌ إذا قالَ بعضُ الصَّحابةِ قولاً، فظهرَ للباقينَ وسكتوا عن مخالفتِه والإنكارِ عليهِ، كانَ إجماعاً، هذا ظاهر كلامِ أحمدَ، وبه قالَ الأكثرونَ مِن أصحابِ أبي حنيفةَ (¬2) فيما حكاهُ أبو سفيانَ السَّرخسيُّ والجُرْجانيُّ، وهو قولُ الأكثرينَ من أصحابِ الشّافعيِّ (¬3). وبعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ يقولُ: إنّه حجةٌ إلاّ أنّه لا يكونُ إجماعاً، حكاهُ الجرجانيُّ، ومِن أصحابِ الشّافعيِّ مَن قالَ: يكونُ حجَّةً مقطوعاً بها، ولا يكونُ إجماعاً؛ لأنَّ الشّافعيَّ قالَ: لا يُنسبُ إلى ساكتٍ قولٌ. وقالَ قومٌ مِن المتكلمينَ (¬4): لا يكونُ حجَّةً، وحكيَ ذلك عن قومٍ مِن المعتزلةِ (¬5) والأشعريةِ (¬6)، وحكيَ ذلك عن داود (¬7). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الجهاد". (¬2) انظر "التقرير والتحبير"، 3/ 101 و"تيسير التحرير" 3/ 246. (¬3) انظر "التبصرة" 391. (¬4) انظر "المحصول" 4/ 216، و"المستصفى" 1/ 191. (¬5) انظر "المعتمد" 2/ 539. (¬6) انظر "التبصرة" 392. (¬7) انظر "الإحكام" لابن حزم 4/ 531 - 542.

- فصل في أدلتنا

فصِلٌ في أدلِتنا فمنها: أنّ الصّحابيَّ إذا قال قولاً، (1 وانتشر في الصَّحابة 1) فسكتوا عن إنكاره، فلا يخلو من خمسة أحكام: [الأول]: أن كانوا ما اجتهدوا. الثاني: أنْ يكونوا قد اجتهدوا وما أدَّاهم ذلك إلى قولِ شيءٍ يجبُ عليهم اعتقادُهُ. الثّالثُ: أنْ يكونوا اجتهدوا وأدَّاهمُ اجتهادُهم إلى خلاف القولِ (¬2) الذي ظَهَرَ. الرابعُ: أنْ يكونَ أدّاهم اجتهادُهم إلى وِفاقِه. الخامسُ: أنْ كانوا في تَقِيَّةٍ. فلا يجوزُ أن يكونوا لم يجتهدوا، لأنّ ذلك إهمال لحكمِ اللهِ فيما حدثَ، وذلك لا يليقُ بمنصبِهم، فإنّه غايةُ ما يوجب ذمَّ المجتهدينَ مِن أهلِ التديُّنِ، وما هوَ إلاّ بمثابةِ دخولِ وقتِ صلاةٍ فيهملوا الشُّروعَ في تحصيلِ شروطِ أدائِها. ولا يجوزُ أنْ يكونوا اجتهدوا فلم يذهبْ بهم الاجتهادُ إلى حكمٍ ¬

_ (1 - 1) غير مقروء في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1172. (¬2) في الأصل: "قول".

أصلاً، فبعيدٌ أيْضاً؛ لأنَّ على حكمِ اللهِ في كلِّ حادثةٍ دلائلَ وأماراتٍ، ولكلِّ ذي قريحة وطلب إعمالُ النظرِ (¬1) والبحث إلى أن يَهجُمَ به نظرُه على إثبات، أو نفى تحريمٍ، أو حظرِ إيجابٍ، أو إسقاطٍ، فأمَّا أَنْ لا يهجمَ به على حكمٍ، فهوُ. بمثابةِ القولِ بأنَّ الصَّحيحَ البصيرَ يجوزُ أنْ يحدِّقَ ويحقِّقَ التأملَ نحوَ ما تصحُّ رؤيتُه، ولا يدركُ شيئَاَ ولا يراهُ، ولوْ جازَ ذلكَ على كلِّ واحدٍ على الانفرادِ لجازَ على جماعتِهم، فيفضي إلى خلوِّ العصرِ عنْ حكمِ اللهِ في الحادثةِ. ولا يجوزُ أنْ تكونَ التقية مَنَعَتْهم، لأَنَه يفضي إلى سوءِ ظنِّ في السَّاكتِ والمفتي، أمّا المفتي فإنّه لا يخافُ ويتقي، إلاّ أنْ يكونَ على حالٍ يأبى النُّصِحَ والإصغاءَ إلى الحقِّ، ويستكبرُ عنِ المشاورةِ، ويتعجرفُ بالأذيةِ على مَن فتحَ لَه باباً إلى الإصابةِ، والساكتُ المفتي حابى في دينِ اللهِ، وقصَّرَ في البيانِ معَ كونِه وارثَ النُّبوةِ، والبلاغُ على النبيِّ واجبٌ، والعلماءُ ورثتُه، فبيانُ دليلِ اللهِ على (2 العلماء واجبٌ أيضاً 2)، على أنّا إذا تأمَّلْنا السِّيرةَ وجدْنا بعضاً من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - لا يَستنكِف عن سؤالِ بعضِهم، ووَجَدْناهم (2 في خلافهم لو نظرَ أحدهم 2) فلاح له دليلٌ أسرع النَّاس رداً على من تنكَّب [طريق] (¬3) الحقِّ، والشريعةُ مملوءةٌ مِن ذلكَ بما نُقلَ عنهم في مسألة الجَدِّ، والحَرَام، والإكسال والإنزال، والعَوْل، ودِيَة ¬

_ (¬1) في الأصل: "للنظر". (2 - 2) مطموس في الأصل. انظر "العدة" 4/ 1174 - 1175، و"مختصر الروضة" 3/ 80 - 81. (¬3) طمس في الأصل.

- فصل في سؤال المخالفين

الجنين وغير ذلك، على أنّا متى عملنا على التقيَّةِ لم يبقَ لنا ثقةٌ بقولِ مِن أقوالِهم، ولا فتوى مِن فتاويهم، وبهذا ردَدْنا على الشِّيعةِ قولَهم في التَقيَّةِ التي ادَّعَوها في حقِّ أهلِ البيتِ في مبايعتِهم لأبي بكرٍ وعمرَ وعثمان، وقبول أحكامِهم، والعملِ بأوامرِهم، فإنّها تسدُّ علينا بابَ الثقةِ بجميع ما حكيً عنهم؛ ولأَنَّ ذلكَ يؤدي إلى جوازِ إجماعِهم على الخطأِ، القائل والسّامع، إذ كانَ القائلُ مخوفاً، والسامع محابياً، فمتى يظهرُ الحقُّ بينَ هؤلاءِ معَ تجويزِ ذلكَ؟! وإذا بطلتْ هذهِ الأقسام، لم يبقَ إلاّ أنّهم سكتوا وِفاقاً. فصلٌ في سؤالهم قالوا: قدْ أخللْتم بأقسامٍ منها (¬1): الذي يمنعُ الحكمَ بوفاقِهم، وهو أن يكونوا أمسكوا للارتياءِ والنًظرِ، ومعلومٌ مراتب النَّاسِ فِى ذلك، فقسم: يبادرُ فيصيبُ، وبعضُهم يبادرُ فيخطئ، وبعضُهم يتوقفُ في النظرِ فيبطئ. وقسم ثان: أنْ يكونَ المفتي إماماً فيقولُ ذلك، إمّا حَكَماً، فلا سبيلَ إلى الاعراضِ علىً حكمِه فيما يسوغ، أو يفتي فيحتشمُ ويخافُ المعترض مِن أنْ يكونَ افتئاتاً عليهِ، كما رويَ فيما قيلَ عن عمرَ: هبتُه، وكانَ امرأً مَهِيباً (¬2). وقسمٌ ثالثٌ: أنْ يكونَ السّامعُ يعتقدُ أنّ الحقَّ في جهاتٍ، وأنّ كلَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "هو". (¬2) تقدم تخريجه 2/ 30.

- فصل في الجواب عما وجهوه من سؤالهم

مجتهدٍ مصيبٌ. فصلٌ في الجوابِ عمّا وجَّهوُه مِن سؤالهم أمّا الارتياءُ، فلا يجوزُ أنْ يمتدَّ ويتطاولَ إلا انقراضِ عصرِ الصَّحابةِ، فإنّ مَن بلغَ إلي هذا الحدِّ مِن إبطاءِ الاجتهادِ كانَ حكمُه حكمَ الوافقِ (1 إذ أنّ 1) مهلةَ النظرِ معلومة عندَ المجتهدينَ. وأمّا محاباةُ الإمامِ فكانوا يعتقدونَه غِشًّا، ويعدُّونَ الكلامَ نصحاً لا افتئاتاً، مِن ذلك قولُ عليِّ في الدِّيةِ التي أوجَبَها في حقِّ عمرَ في التي أنفذَ إليها فأجهضتْ (¬2). وقولُ معاذٍ لعمرَ لمّا همَّ يحلدِ الحاملِ: إنْ جعلَ الله لك على ظهرِها سبيلاً، فما جَعَلَ لك على ما في بطنِها سبيلاً. وقولُه: لولا معاذٌ هلكَ عمرُ (¬3). وقولُه في حقِّ الحجر الأسودِ وتقبيلِه: إنّك لحجرٌ لا تضرُّ ولا تنفعُ (¬4). وقولُ علي: إنّ الله حينَ [أخذ] العهدَ على بني آدمَ، جعلَه في هذا الحجرِ، ولهذا يُقالُ: ايمانٌ بكَ، ووفاءٌ بعهدِكَ. (5 [فقال له عمر:] 5) لا ¬

_ (1 - 1) غير واضحة تماماً في الأصل. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (18010). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 88. (¬4) أخرجه البخاري (1605)، ومسلم (1250) من حديث ابن عمر. (5 - 5) ليس في الأصل.

- فصل في شبههم

عِشْتُ بأرضٍ لستَ بها يا أبا الحسنِ (¬1). وقول عَبيدةَ السَّلْمانيِّ لعلي- رضي الله عنه- لمّا ذكرَ أنّه قدْ تجدَّدَ لَه رأي في بيع امَّهاتِ الأولادِ: رآيكَ معَ الجماعةِ أحبُّ إلينا مِن رأيِك وحدَكَ (¬2). فالقوم لم يكونوا قاطعينَ على الأحكامِ، بلْ ظانينَ بأدلةٍ مظنونة، فلا وجهَ لإكثارِ الرَّدِّ عليهم، والتلويح بِما يقع لغيرِهم مِن دليلٍ عساهُ يعزُبُ عنهم. نعم، وقدْ كانَ يمكنُ إخراجُ القولِ على وجهٍ لا يحصلُ به الافتئاتُ. ولا يجوزُ أنْ يمَنعَهم القولُ بأنّ كلَّ مجتهدٍ مصيب؛ لأنّ هذهِ مقالة لم تكنْ في زمنِ الصَّحابةِ، وإنّما هو قول حادث، على أنّ مَن ذهبَ إليهِ لا يسكتُ عنْ بيان دلالةٍ، فإنّ من لَه مذهبٌ وسمعَ خلافَهُ، لا يتأتى مِنه السّكوتُ، لا سيِّما مِمَّنْ يُثبِتُ الأشبهَ عند اللهِ سبحانَه. فصل في شبهِهم فمنها: قولُهم: إنّ سكوتَ الباقينَ يجوزُ أنْ يكونَ لأنّهم في مهلةِ النظرِ، ويجوز أنْ يكونَ لاعتقادِهم إصابةَ كلِّ مجتهدٍ، لكونِ الحقِّ عندَهم لا تَتَّحِدُ جهته، ويحتمل أنْ يكونَ تَقيَّةً لبعضِ الولاةِ، أو حشمةً لَه كما ¬

_ (¬1) أخرجه بطوله الحاكم 1/ 457 وسكت عنه، وقال الذهبي: فيه أبو هارون، ساقط. وأورده السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 144، والمتقى الهندي في "الكنز": (12521). (¬2) تقدم تخريجه ص 145.

- فصل في الجواب عما ذكروه من الشبه

قالَ ابنُ عباسٍ في عَوْلِ الفريضةِ: أولُ مَن أعالَ الفرائضَ عمرُ بنُ الخطابِ، وايمُ اللهِ لو قَدَّمَ مَن قَدَّمَه الله وأخَّرَ مَن أخرَه الله ما عالتْ فريضةٌ، فقال له ابنُ أوسٍ: فما مَنَعَكَ أنْ تشيرَ بهذا الرَّأيِ على عمرَ، فقالَ: هِبْتُه، وكانَ امرأً مهيباً (¬1). وإذا تردَّدَ السُّكوتُ بينَ هذهِ الوجوهِ، لم يَجُزْ صرفُه إلى الموافقةِ وقصرُه على الرِّضا. فصلٌ في الجوابِ عمّا ذكروهُ أنّ مهلةَ النظرِ لا تمتدُّ بالمجتهدِ مِن حينِ حدوثِ الواقعةِ إلى آخرِ العصرِ لمعنيينِ: أحدُهما: أنّ المجتهدَ قدْ جمعَ شروطَ الاجتهادِ، ومنها الفهمُ، والعلمُ، وسرعةُ الإدراكِ لمعاني الكتابِ والسُّنَّةِ والاستنباطُ منهما. والثاني: أنّ الأدلَّةَ واضحةٌ، فمَن نظرَ فيها بإنصافٍ لم يلبثْ أنْ يهجمَ بِه النظرُ على حقيقةِ الحكمِ المطلوبِ. وأمّا احتمالُ أنْ يكونوا اعتقدوا أنّ الحقَّ في جهاتٍ، فإنّه لم يكنْ ذلك في عصرِ الصَّحابةِ، لكنْ هذه مقالةٌ مُحدَثَةٌ، ولو كانَ ذلك فيهم، لظهرِ كما ظهرَ خلافُهم في كلِّ حادثةٍ اختلفوا (¬2) فيها. ¬

_ (¬1) تقدم تخربِحه 2/ 30. (¬2) في الأصل: "واختلفوا".

* فصل لا فرق بين أن يكون القول الذي ظهر للباقين وسكتوا عنه - فتيا أو حكما

وأمّا الاتقاءُ، فلا وجهَ لَه؛ لأنّ التَّطاولَ على الذاكرِ لدليلٍ أو شبهةٍ والإنكارَ عليهِ لم يكنْ، بل كانَ الصغيرُ ينبسطُ على الكبيرِ في المذاكرةِ والشورى، ولا كانَ فيهم مَن يستجيز الكَتْمَ لِما يعلمه في دينِ اللهِ، وقدْ قدَّمْنا طَرَفاً مِن ذلك، كتجرُّؤِ عَبِيدةَ السَّلمانيِّ على علي- رضي الله عنه - في خلافتِه، وقولِ الحارثِ بنِ حوطٍ لعليِّ وهو على المنبرِ: أتظن أنّا نظنُّ أنّ طلحةَ والزبيرَ كانا على باطل؛ قال: يا حارِ، إنّه ملبوسٌ عليكَ، إنّ الحقَّ لا يُعرفُ بالرِّجالِ، اعرفِ الحقَّ تعرفْ أهلَه (¬1). وكيفَ يُظنُّ منهم كتمُ العلمِ معَ الوعيدِ الصَّادرِ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن كَتَمَ علماً نافعاً، ألجمَه الله بلجامٍ مِن نارٍ" (¬2)، ولأنّ هذا القولَ يسدُّ علينا بابَ الثِّقةِ بأقوالِهم، فإنَّ السكتَ على مثلِ هذا على سبيل الاتقاءِ والهيبةِ، يجوزُ عليهمُ الموافقةَ بالقولِ لأجلِ الاتقاءِ والهيبةِ، وتجويزِ التقِيُّة، فعدمْنا الثقةَ بجميع قضاياهم ورواياتِهم، وذلك باطل- أعني عدمَ الثِّقةِ بِهم- فما أدَّى إليهِ باطلٌ. فصل ولا فرفَ بينَ أنْ يكونَ القولُ فتيا أو حكماً. وقال ابنُ أبي هريرةَ (¬3) مِن أصحابِ الشّافعيِّ: إنْ كانَ حكماً لم يكنْ إجماعاً، وإنْ كانَ فتيا كانَ ¬

_ (¬1) انظر "البيان والتبيين" 3/ 211. (¬2) أخرجه الترمذي (2649)، وأبو داود (3658)، وابن حبان (95) (96)، والحاكم 1/ 102. (¬3) هو: الحسن بن الحسين، أبو علي ابن أبي هريرة الشافعي، الفقيه، القاضى مات سنة (345) هـ. انظر "تاريخ بغداد" 7/ 298، و "طبقات الشافعية" 3/ 256.

- فصل في حجتنا

إجماعاً (¬1). فصل في حجَّتِنا إنّ قولَ الحاكمِ: حكمتُ بكذا، قولٌ صدرَ عنِ اجتهادٍ، فكانَ تركُ مخالفتِه أو السكوت عنه، موافقةً لَه، دليله فتوى المفتي. فصلٌ في شبهةِ المخالفِ أنّ الحاضرَ مجالسَ الحكَّامِ يحضُرُ على بصيرةٍ مِن خلافِهم في الأحكامِ، ولا ينكِرُ، لأنّ الإنكارَ افتئاتٌ عليهم، ولأنَّ حكمَهم يقطعُ الخلافَ، ويسقط الاعتراضَ، بخلافِ المفتي، فإنّه لا تلزِم فتواه ولا تقطع الاجتهادَ. فيقالُ: إنّ مِن عادةِ الحكّامِ المشاورةَ لذوي الاجتهادِ في الأحكامِ، والأئمةُ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُعترَضُ أحكامُهم، حتى إنّ امرأةً قالَتْ لعمرَ بنِ الخطابِ لما نهى عن المغالاة في صَدُقات النساءِ: أيعطينا الله ويمنعُنا عمرُ، والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقالَ عمرُ: امرأةٌ خاصَمَتْ عمرَ فخصمَتْهُ (¬2). وعليٌّ - رضي الله عنه- يقولُ لعمرَ في جنينِ التي أجهضت لما أفتاه عثمان وعبدُ الرحمنِ ¬

_ (¬1) انظر "البحر المحيط" 4/ 499. (¬2) أخرجه البيهقى في "الكبرى" 7/ 233.

- فصل قول الصحابي في مسائل الاجتهاد والحوادث ليس بحجة

بأنْ لا ضمانَ عليهِ: أرى عليكَ الدِّيةَ، فقالَ: أقسمت عليكَ لا تَقمْ حتّى تقسمَها على قومِكَ بني عَدِي (¬1). فمتى كانَ اعتراضُ المجتهدينَ افتئاتاً؟! ومتى كرهَه أحد مِن السَّلفِ في حكمٍ أو قضيةٍ أو فتوى؟ فإِمَّا أنْ يُجعلَ السكوتُ فيهما وفاقاً، أو لا يُجعلَ السكوتُ عنهما جميعاً وفاقاً، فأمّا الفصلُ بينَهما، فلا وجهَ لَه. فصلٌ اختلفتِ الروايةُ عن صاحبِنا في قولِ الصَّحابيِّ في مسائلِ الاجتهادِ والحوادثِ: هل هو حجةٌ؟ على روايتينِ: أصحُّهما عندِي: ليسَ بحجَّةٍ، والقياسُ مقدَّمٌ عليهِ (¬2)، وهو مذهبُ الدَّهماء مِن الأصوليينَ المعتزلةِ والأشعريةِ، وبعضِ أصحابِ أبي حنيفةَ، وهو الكَرخىُّ ومَن تابَعَه، والقول الجديدُ للشّافعيِّ: إذا لم ينتشرْ قولُ الصَّحابي. والرِّوايةُ الأخرى: أنّه حجةٌ مقدَّم على القياسِ، وهذه الرِّوايةُ موافقة لإسحاقَ، ومالكِ بنِ أنسٍ، ولجماعةٍ مِن أصحابِ أبى حنيفةَ، البَرْذعىِّ والرازيِّ، والقولُ القديمُ للشّافعىِّ. ولا خلافَ أنّ قولَ بعضِهم على بعضٍ ليسَ بحجَّةٍ، سواء كانَ أعلمَ أو كانَ مماثلاً، إماماً كانَ أو حاكماً أو مفتياً. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (205). (¬2) انظر "العدة" 4/ 1178، وما بعدها.

- فصل في أدلتنا

فصل في أدلَّتنا فمنها: أن الله سبحانَه أحالَنا عندَ وقوع الاختلافِ إلى كتابه، وسنَّةِ نبيهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأمر بالاستنباطِ والاعتبارِ فقالَ: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، فإذا ثبتَ أن المرجعَ أدلَّة الشَّرع التي بها يستدلُّ أصحابُ رسولِ اللهِ، كما أن إليها مرجعَ كلِّ مجتهدٍ، لم يكنْ لتقديمِ قولِهم وجه معَ اتفاقِهم وإيَّانا على الرُّجوع إلى هذهِ الأدلةِ، فكيفَ نتركُ الدليلَ ونرجعُ إلى قولِ بعضِ المستدلينَ؟ وما الذي يوجبُ تقديمَ مستدلِّ على مستدل؟ ومنها: أن نقولَ: إن القياسَ عَلَمٌ على الحكمِ، ودليلٌ مِن أدلًةِ الشَّرع، فلا يُقدَّمُ عليهِ قولُ مَن يجوزُ عليهِ الخطا، كخبرِ الواحدِ. ومنها: أن هذا قول صادر عنِ اجتهادِ مَن يجوزُ عليهِ الخطا، ويُقرّ على (¬1) الخطأ، فكان القياسُ مقدَّماً عليهِ، أو نقولُ: فلم يقدَّم على القياسِ، كقولِ التّابعيِّ وآحادِ المجتهدينَ في كلِّ عصرٍ. ومنها: أن الصَّحابيَّ والتابعيَّ شخصانِ مِن أهلِ الاجتهادِ، أو نقولُ: اتَّفَقا في الاجتهادِ، فلا يجوزُ لأحدِهما تقليدُ الآخرِ، كالصحابيَّينِ والتابعيَّينِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليه".

- فصل في شبه المخالفين

ومنها: أنَّ القياسَ يخصُّ به عموم القرآن، ويُصرفُ به عن ظاهرِه، فلا يُقدَّمُ عليهِ قولُ الصّحابيِّ، كالخبرِ. ومنها: أنّه لو كانَ قولُه حجَّةً، لكانَ يدعو التّابعيَّ إلى اتباعِه، كالخبرِ عن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لمّا كانَ حجَّةً دعا إلى اتباعِه. ومنها: أنَّ التابعيَّ المجتهدَ إذا دعاهُ الصَّحابيُّ إلى متابعتِه فطالبَه بالدليلِ، كانَ على الصَّحابيِّ إقامتُه، فلوْ كانَ قولُه حجَّةً بدلالةٍ أَوجَبتْ كونَ قوله حجّةً لمَا ملكَ أحدٌ أنْ يُطالبَه بالحجَّة على الحكمِ، كالنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والمجمِعينَ مِن علماءِ الأمةِ، لمّا كانَ قولُهم حجَّةً لم يَلزمْهم بيانُ الدلالةِ على الحكمِ إذا طولِبوا بها. ومنها: أنّه لوْ كانَ حجَّةً لكانتْ حجج اللهِ متقابلةً، فإنّهم اختلفوا في عدةِ حوادثَ كلفظةِ الحرامِ (¬1)، وفيها ستَّة مذاهبَ، وليس فيهِ حجَّتانِ متقابلتانِ بلْ حجةٌ واحدةٌ، والباقي شبهةٌ، فلا يفزعُ المجتهدُ معَ هذا الحالِ إلاّ إلى الرَّأي، والذي يفزعُ إليهِ هو الحجَّةُ دونَ أقوالِهم. فصلٌ فى شبههم فمنها: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل ¬

_ (¬1) يعني قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ حرام. وانظر "العدة" 4/ 1115 و "الغني" 10/ 396.

عمران: 110]، وإذا كانَ ما تأمرونَ بِه معروفاً بنصِّ القرآنِ وَجَبَ قَبُوله والمصيرُ إليهِ، لأنه إذا كانَ الأمر بالمعروفِ واجباً فقبوله أَوْلَى. ومنها: قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنّجومِ، بأيِّهمُ اقتديتم اهتديتم" (¬1)، وقولُه: "أقتدوا باللّذَينِ مِن بعدِي أبي بكرٍ وعمرَ" (¬2)، ولا يجوزُ أنْ يكونَ راجعاً إلى العامَّة، لأنَّه يسقط ميزةَ التخصيصِ، فلمْ يبقَ إلاّ أنه عادَ إلى فقهاءِ التّابعينَ وجميع أهلِ الاجتهادِ ممَّن ليس مِن أصحابِه. ومنها: أنَّ الصّحابيَّ إن قالَ قولاً، وأفتى بِه عن توقيفٍ، فهو حجةٌ مقدَّمّ على القياسِ، وإنْ كانَ عنِ اجتهادٍ فاجتهادُه مقدَّمٌ على اجتهادِنا، لأنَّه شاهَدَ التنزيلَ، وعرفَ دلائلَ الأحوالِ، وخَبَرَ التأويلَ، ووقفَ مِن مرادِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[على] ما لا يقف عليهِ التّابعيّ، فكانَ التّايعي معه. بمثابةِ العامِّيِّ معَ المجتهدِ. ومنها: أن قالوا: كلُّ مَن كانَ قولُه حجَّةً إذا وافقه، أو كانَ معَه قياسٌ صحيحٌ، كانَ قولُه حجَّةً وإنْ لم يكن معَه قياسٌ، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنّه صحابيٌّ، فكانَ قولُه مُقدَّماً على قولِ التابعيِّ المجتهدِ، كما لو كانَ معَه قياسٌ ضعيفٌ. ومنها: مَن كانَ قولُه حجَّةً إذا أنتشرَ، كانَ قوله حجَّةً وإنْ لم ينتشرْ، كالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ورُبَّما قالوا: كلّ مَن لوِ انتشرَ قولُه أوجبَ العلمَ، قُدِّمَ قولُه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 280. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 182.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

على القياس كالأصلِ. ومنها: أنْ قالوا: القياسُ وقولُ الصَّحابىِّ جنسانِ، يترَك أقواهما للأَقوى الآخرِ، فَيتركُ أضعفُهما للأضعفِ الآخرِ، ثُمّ الخبرُ لو عارضَه أقوى القياسينِ لا ينقضه، ولو عارض قولَ الصَّحابيِّ أقوى القياسينِ قُدِّمَ القياس عليهِ، فإذا عارضه أضعفهما قدِّمَ عليهِ. فصلٌ في الأجوبةِ عنْ شُبههم أمّا الأمَّةُ فإنّ الله شهدَ لهم. بما شهدَ مِن الخَيرِ والأَمرِ بالمعروفِ، وهذا إشارةٌ إلى جماعتِهم، ونحن قائلون بوجوبِ اتباع ما أجمعوا عليهِ وكونِه حجَّةً يجب المصير إليها، ووجوبِ ما يجمعون على الأمرِ به. وأمّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابى كالنّجومِ"، "واقتدوا باللذينِ مِن بعدِي"، فنحنُ قائلونَ به، وهو أنّ الاقتداء بهم في حقِّ العامةِ التقليد، وفي حقِّ العلماءِ القضاءُ باجتهادِهم في كل حادثةٍ حسَبَ ما كانوا عليهِ مِن العملِ في الحوادثِ، وهو إعطاء الاجتهادِ حقه مِن الفرع إلى القياسِ فيما لا كتابَ فيهِ ولا سنة، ولو حملناه على العامَّةِ بدلائلِنا لم يكنْ بذلك بأس، فإنّ الاقتداءَ تقليداً إنما يؤمر بِه العوامُّ دونَ أهلِ الاجتهادِ. وأمّا قولهم: إنه عن توقيفٍ، فلا وجهَ لَه، لأنَّه لو كانَ توقيفاً لروَوْة، فإنه مِن العلمِ النافع، وقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن كَتَمَ علماً نافعاً ألجمة الله

بلجامٍ مِن نارٍ" (¬1)، ولأنَّ الكتْمَ التوقيف، وإظهارُ الفتوى يوهم أنّه رأى فيحمل النّاسَ على الاجتهادِ معَ وجودِ النصِّ، وهذا إفسادٌ لتراتيبِ أدلَّةِ الاجتهادِ، فلا يحلُّ للصَّحابيِّ فعلُ ما يؤذي، فصارَ الظاهرُ أنه أفتى من غيرِ توقيف. وأمّا تعلُّقُهم بفضيلةِ الصُّحبةِ، ومشاهدةِ التنزيلِ، وقوةِ الاجتهادِ، فذلك لا وجه له؛ لأنّه قد يكون الصحابيُّ دونَ غيره في الاجتهاد والفقه، وإلى هذا أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حيث قالَ: "ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منْه" (¬2)، والقربُ لا يوجب القوَّةَ، بدليلِ أنَّ الأئمَّةَ والأهلَ مِن الصَّحابةِ لا يقدَّمون على مَن دونَهم في الاجتهاد، وإنْ كانَ لَهم رتبةُ استحقاقِ الإمامةِ، بفضائلَ اختصُّوا بها، وقربٍ مِن رسولِ اللهِ، وكانَ يجبُ أنْ يتأخّرَ مَن قلتْ صحبتُه في بابِ الاجتهادِ عمَّن طالتْ صحبتُه، ولمّا لم يجبْ ذلك في طبقاتِ الصُّحبةِ، كذلك لا يجبُ فيما يتعلقُ بمَن بعدَ الصَّحابةِ مِن التابعينَ. وأمّا قياسهم على صحابيِّ معَه قياسٌ ضعيف، فلا نُسلِّمُه، فإنّه وغيرُه مِن أهلِ الاجتهادِ سواءٌ، والقياسُ مقدَّمٌ عليهِ؛ ولأنَّ الظّاهرَ أنّه إنّما صارَ إلى ذلك القياسِ، فالقياسُ مقدَّم على قياسِه الضَّعيفِ، والرِّجالُ يعتبرونَ (¬3) ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (208). (¬2) تقدم تخريجه 1/ 7. (¬3) في الأصل: "تصرون".

* فصل إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس

بالأدلَّةِ، فأمّا أنْ يقوَّى القياسُ الضَّعيفُ بالرِّجالِ فلا، بدليلِ قولِ علي- رضي الله عنه-: إنّ الحقَّ لا يعرفُ بالرِّجالِ (¬1). وأمّا قولهم: إذا انتشرَ قوله وظهرَ أوجبَ العلمَ، فلا نسلِّم، بل لا يوجب العلمَ إلاّ موافقةُ الجماعةِ له، وإنْ سلَّمنا على ما نصرْنا في إمساكِ مَن سمع ذلك، فإنَّه إذا انتشرَ يخالفُ حكمَ ما لم ينتشرْ بدليلِ قولِ التّابعيِّ، فإنه لوِ انتشرَ أوجب العلمَ، ثمَّ لا يقدَّمُ على القياسِ مِن غيرِ انتشارٍ. وأمّا قياسُهم لَه على الخبرِ، فإنَّه لوْ كانَ كالخبرِ لوجبَ إذا عارضَه خبرٌ أنْ يتعارضا، أو نُسِخَ أحدهما بالاَخرِ كالخبرِ إذا عارضَه خبر. وأمّا قولُهم: إنّ قولَ الصَّحابيِّ والقياسَ جنسانِ يُتركُ أقواهما لأقوى الآخرِ، ويُتركُ أضعفُهما لأضعف الآخرِ، كالشَّبهِ والقياسِ، فإنه يبطُلُ بقولِ التّابعيِّ معَ القياسِ، فإن أقواهما يتركُ لأقوى الآخرِ، وأضعفَهما لايتركُ لأضعفِ الآخر، ثُمَّ الخبرُ لو عارضَه أقوى القياسينِ لأسقطَه الخبرُ، ولو عارضَ قولَ الصَّحابيِّ أقوى القياسينِ قُدِّمَ القياسُ عليهِ، فإذا عارضَه أضعفُهما قُدِّمَ عليهِ. فصل إذا قالَ الصَّحابىُّ قولاً يخالفُ القياسَ، فإنّه لا يكونُ ذلك توقيفاً، وبهذا قالَ أصحابُ الشّافعيِّ (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم ص 208. (¬2) انظر "التبصرة" 399.

- فصل في الدلائل على أنه لا يكون توفيقا

وذكرَ شيخُنا في كتابِ "العدَّة" (¬1): أنَّه يكونُ لَه حكمُ التوقيف والسُّنَّةِ، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ (¬2). ومثالُ ذلك: قول عمرَ: في عينِ الدّابةِ ربع قيمتِها (¬3)، وقوله فيمَن فَقَأَ عَيْنَ (¬4) نفسِه خطأً: تحملُه عاقلتُه (¬5). وقولُ ابنِ عباسٍ فيمَن نَذَرَ ذبحَ ولَدِه: يذبحُ شاةً (¬6). وما شاكلَ ذلكَ. فصل في الدلائل على أنَّه لا يكونُ توقيفاً فمنها: أنّ هذا سوءُ ظنٍّ بأصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومعَ مِدْحةِ اللهِ لَهم لا يجوزُ أنْ نُلْحِقَ بِهم ما يوجب الوعيدَ، مهما أمكنَنا حَمْلُ أحوالِهم وأفعالِهم على السَّلامةِ، وقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مَن كتَمَ علماً نافعاً، ألجمَه الله بلِجام مِن نارٍ" (¬7)، ولا علمَ أنفعُ مِن حديثٍ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1196. (¬2) انظر "أصول السرخسي" 2/ 105. (¬3) أخرجه عبد الرزاق. (18418)، وابن أبي شيبة 4/ 275. (¬4) في الأصل: "نفا عن"، والتصحيح من "العدة" 4/ 1193، ومن "المصنف". (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (17827). (¬6) أخرجه عبد الرزاق (15905)، والبيهقي 10/ 73. (¬7) تقدم تخريجه ص (208).

رويَ في وقتِ الحاجةِ إليهِ، وحدوثِ الواقعةِ، والصحابةُ تتكلمُ فيها بآرائِها: هلْ للجدَّةِ أمِّ الأمِّ شيءٌ مِن الميراثِ؟ فهذا يقولُ: لا شيءَ لَها، لأنّ أبا الأُمِّ لا شيءَ لَه، فأمُّها كذلك، بخلافِ أبِ الأبِ، وهذا يقولُ: أُنثى تدلي بالأمِّ فورثت السُّدسَ كبنتِ الأمِّ، وهم في ذلك [سواء] (¬1)، وهذا (¬2) يقولُ: لها السّدسُ، ولا يذكرُ سبباً، ويكونُ معَه عنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أطعمَها السُّدُسَ، فلا يرويهِ، ويتركُهم عادلينَ عنِ الحقِّ؟! ما بهذا وَصَفَهم الله سبحانَه، نعم، ويترُكُهم مستدلِّينَ بطريقٍ، لا يكونُ الاستدلالُ بِه إلاّ بعدَ أنْ تُعدمَ السُّنَّةُ. ومنها: أنّ الصَّحابيَّ غيرُ معصومٍ عنِ الخطأِ والزللِ، وإذا قال ما يخالفُ القياسَ، تردَّدَ قولُه بينَ أنَّه أخطأَ أو (¬3) تعلقَ بشبهةٍ ضعيفةٍ، ويحتملُ أنَّه كانَ توقيفاً فلا تثبتُ السُّنةُ بالشَّكِّ. ومنها: أنَّه لو ثبتَ بقولِهِ المخالفِ للقياس (¬4) سُنةٌ لثبتَ بقولِ التابعيِّ، ولمَّا لم يَثبُتْ بقولِ التابعيِّ المخالفِ للقياسِ سُنة كذلكَ الصَّحابيُّ. ومنها: أنَّه لوْ كانَ قولُهُ المخالفُ للقياسِ سنَّةً، لكانَ إذا عارضَهُ خبرٌ يَرِدُ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحكمٍ يخالف حكمَه أن يَتعارَضا، ولمَّا قدَّمَ الخبرَ بطلَ أَنْ ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) في الأصل: "وهو". (¬3) في الأصل: "و". (¬4) في الأصل: "القياس".

- فصل في شبهة المخالفين

يكونَ له منزلةُ التوقيفِ. فصل في شبهةِ المخالفينَ قالوا: الظَاهرُ مِنَ الصَّحابيِّ معَ كونِهِ عارفاً بطرقِ الاجتهادِ والثِّقةِ بهِ في معرفةِ القياسِ، أَنهُ لم يعدلْ عَنِ القياسِ الصَّحيح إلاَّ لتوقيفٍ عَرَفَهُ في الحادثةِ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فيقالُ: هذا ظاهرٌ لا يُسلمُ، بلِ الظاهرُ غيرُهُ، وهو أَننا نقرِّرُ أنْه معَ حسنِ الظنِّ بهِ وثقتهِ، لا يجوزُ أَنْ يكتمَ روايةً هاديةً عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الحقِّ، كاشفةً لحكم الله في حادثة أبهمَ أمرُها، ويقول قولاً لايَشهدُ له القياسُ، فيُحدِث بذلك جَلَلَينِ عظيمين، أحدهما: كَتْم العِلم النافع مع كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حَث على حِفْظِ صيغةِ كلامِهِ، خوفاً مِنْ خَفَاءِ الفقهِ فيها، وإلى ذلكَ أشارَ بقولِهِ: "فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هوَ أفقهُ منْهُ" (¬1)، وهذا في الأَداءِ كما سُمِعَ وهوَ وَصْفٌ، فقد نبَّه على أصلِ الرِّواية لاتضيع فيضيع أصلُ الفقهِ، ويفزَعُ النَّاسُ إلى آرائِهم. الثاني: أَنَّهُ لم يقنعْهُ المدحُ على تحرِّي الصِّيغةِ حتَّى تواعَدَ على كَتْمِ العلمِ فقالَ: "مَنْ كتمَ علماً نافعاً ألجَمهُ الله بلجامٍ مِنْ نارٍ" (¬2)، فمعَ هذهِ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 7. (¬2) تقدم تخريجه ص 208.

* فصل لا يعد اتفاق الخلفاء الأربعة إجماعا بحيث يمنع الاعتداد بخلاف غيرهم لهم من الصحابة

الحالِ الطاهرُ خِلافُ ما ذكرْتُم، فلمْ يَبْقَ إلا حملُهُ على ما يجوزُ عليهِ مِنْ وقوفِهِ على قياس ضعيفٍ يخطئُ فيهِ، وليْسَ هُوَ مِمَّنْ لا يُقوّ على الخطأِ إذا أخطأَ، بلْ يجوز عليهِ الخطأ، ويجوزُ إقرارُهُ على الخطأِ، فلا وجهَ لإحالةِ الحكمِ على ما لَمْ يَرْوِهِ عَن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَهُ لوْ جازَ ذلكَ في حقِّ الصَّحابيِّ، لجازَ في حقِّ التَّابعيِّ أيضاً؛ ولأَنهُ لو كان الظاهرُ التوقيفَ، لَمْ يقدَّمْ عليهِ خبر واحدٍ، ويكون خبر الواحدِ إذا خالفَ قاومَهُ وقابلَهُ قولُ الصَّحابيِّ إذا كانَ الظَّاهرُ أَنَّهُ توقيفٌ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وجميعاً ظاهرانِ: الذي عَمِلَ به الصَّحابي، والاَخر الذي رواه الصَّحابي، ولمَّا قُدِّمَ خبرُ الواحدِ عليهِ، بطلَ تقدِيرُ الرِّوايةِ. فصل لا يُعدُّ اتفاقُ الخلفاءِ الأربعةِ إجماعاً بحيثُ يمنعُ الاعتداد بخلافِ غيرِهم لهم مِنَ الصَّحابةِ في إحدى الروايتينِ عن أحمدَ (¬1)، وهو اختيارُ الجُرجانيِّ مِنْ أصحابِ أبي حنيفةَ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ عَنْ صاحبِنا: أَنهُ لا يعتدُّ بخلافِ مَنْ خالفهم، ويُجعلُ قولُهم كالإجماع، وهو اختيارُ أبي خازمٍ (¬2) مِنْ أصحابِ أبي حنيفةَ، رويَ ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1198. (¬2) هو عبد الحميد بن عبد العزيز السكوني، أبو خازم- وقيل: أبو حازم، بالحاء، الفقيه القاضي، ولي قضاء الشام والكوفة والكرخ، توفي سنة (292) هـ. "سير أعلام النبلاء" 13/ 539، "المنتظم " 13/ 38.

- فصل في الدلالة على ذلك

عنه أَنَّهُ لم يعتدَّ بخلافِ زيدِ بنِ ثابت في توريثِ ذوي الأرحامِ، وحكمِهِ بردِّ الأموالِ التي كانت حصلتْ في بيتِ المال آَيامَ المعتضدِ وجعلِ ذوي الأرحامِ أَوْلَى من بيتِ المالِ، فقبلَ ذلكَ منه المعتضدُ، وأمر بردِّها على ذوي الأرحامِ. فصلٌ في الدّلالةِ على الرّوايةِ الأُولي فمنها: ما رويَ عَن النَبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:" أصحابي كالنُّجوم، بأيِّهم اقتديتُمُ اهتديتُم" (¬1)، وذلك يعمُّ الخلفاءَ وغيرَهم مِمَّنْ يقعُ عليهِ اسمُ الصَّحابيِّ. ومنها: أَنَّ غيرَ الخلفاءِ ساوى الخلفاءَ في الاجتهادِ الذي لا يزادُ بالولايةِ، بلْ قدْ يُفضَّلُ بالاجتهادِ غيرُ الوالي على الوالي، لأسيَّما إذا لم يُعتَبرْ أَن يكونَ الإمام الأفضلَ واخترْنا ولايةَ المفضولِ، على أَنَّهُم لوكانوا أفضلَ فإنَّ المجتهدَ عندَنا لا يجوزُ لَهُ تقليدُ الأَعلمِ، سواءٌ كانَ الوقتُ ضيِّقاً أو واسعاً، وقدْ دلَّلْنا على ذلكَ الأصلِ. ومنْها: أَنَّ الإمامة رتبةٌ فلا يقدَّمُ بها ولأجلِها القولُ في بابِ الاجتهادِ، كالقربى والإمامةِ في السَّرِيَّة والرِّمالةِ والقضاءِ، وبيانُ ذلكَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لوْ أَمَّرَ أميراً على سَرِيَّةٍ، أو أرسلَهُ في رسالةٍ، أوْ ولأَهُ القضاءَ، لم يوجب ذلكَ تقديمَهُ في الاجتهادِ بعد موتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلْ هوَ وغيرُهُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 280.

- فصل في شبهة المخالف

سواءٌ، لا سيَّما والخلافة ثَبَتتْ بعدَة بالاختيار تارةً وبالنَّصِّ أخرى، والرسالة والقضاء والإمارة ألتي كانت حالَ حياته كانت بالنصِّ منه - صلى الله عليه وسلم -. ومنْها: أَنَّ الأربعةَ يجوزُ عليهمُ الخطأ، إذْ لا دلالةَ على عصمتِهمْ، وإنَّما الإجماعُ مِنْ علماءِ العصرِ وَرَدَ فيهِ ما وَرَدَ مِنَ الدَّلائلِ، وبقي ما عدا ذلكَ على حكمِ الأصل منْ تجويزِ الخطأِ، وإذا جازَ الخطأ عليهمْ لم يُمنَعْ مِنَ الاعتدادِ بقولِ غيرِهمْ معهم، كما ذكر [من] أمر أمراءِ السَّرايا والحكام والرّسلِ الذينَ قدَّمْنا ذكرَهمْ. فصل في شبهة المخالف من قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاءِ الرَّاشدينَ من بعدي" (¬1)، فكما لا يعتدّ بخلافِ سنة النبيَّ، لا يعتدُّ بخلافِ سنة الخلفاءِ. فيقال: إنْ كانَ الاحتجاجُ بالقرينةِ فليستْ حجَّةً، إذْ لا خلافَ أنَّ سنَّةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مقدَّمةٌ على قولِ كلِّ قائلٍ، وأَئة لا يَسُوغُ الأخذُ بالرَّأيِ معَ السُّنةِ بخلافِ أقوالِ الخلفاءِ، على أن قوله: "الخلفاء" (¬2) لم يَخُصّ به قوماً دونَ قومٍ، وأَنتمْ لا تقولونَ بعمومِهِ، فإذا أضمرْتُمْ خلفاءَ مخصوصينَ حملْناهُ على الاقتداءِ المخصوصِ، والخطابِ لقومٍ مخصوصينَ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 280. (¬2) في الأصل: "والخلفاء".

- فصل في أن الواحد من الخلفاء يسوغ خلافه

وهمْ غيرُ المجتهدينَ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يُوضِحُ هذا أَنَّ اتباعَ الأربعةِ معَ اختلافِهمْ لا يمكنُ (¬1)، فلمْ يبق إلاّ ما ذكرْنا، وأَنهُ لا يُسقِطُ هذا خبرَنا، وهو قولُهُ: "أصحابي كالنُّجومِ، بأيِّهمُ اقتديتمُ اهتديتم" (¬2)، فيتعارضانِ، وليسَ في خبرِكمْ ما يُسقِطُ خبرَنا، وفي خبرِنا زيادةٌ وهي اسمُ الصَّحابةِ. فصلٌ ولا يختلفُ ظاهر قولِ صاحبِنا: أَنَّ الواحدَ مِنَ الخلفاءِ يسوغُ خلافهُ، ولا يُمنعُ بقيةُ الصَّحابةِ مِنْ خلافِهِ، وبهذا قالَ جميع العلماءِ، وحكيَ عَن بعضِ الشَّافعيةِ: أَنهُ حجةٌ لا يجوزُ مخالفتُهُ، وقد أَومَأَ إليهِ صاحبُنا في قولِ ابن عباسٍ: أَنَّهُ إذا انقطعَ دمُها في الحيضةِ الثَّالثةِ فقدْ بانَتْ منه، وهوَ أصحُّ في النظر، قيلَ لَهُ: فلمَ لا تقولُ به؛ قالَ: قدْ قالَ عمرُ وعليٌّ وابن مسعود، فأنا أَتَهيَّبُ أَنْ أُخالفهم (¬3). وروى ابن منصورٍ ما هو أصرح من هذا، قالَ ابنُ منصورٍ: قلت لَه: قولُ ابنِ عباسٍ في أموالِ أهلِ الذِّمَّةِ العفوُ؟ (¬4) فقالَ أحمدُ: عمرُ جعلَ ¬

_ (¬1) بعدها في الأصل ت "اتباعه". (¬2) تقدم تخريجه 1/ 280. (¬3) انظر الآثار في ذلك في "سنن سعيد بن منصور" (216) وما بعده. (¬4) أخرجه عبد الرزاق (10122).

- فصل في الدلالة على ذلك

عليهم ما قدْ بَلَغَكمْ. فعَدَلَ عن هولِ ابنِ عباسٍ لقولِ عمرَ (¬1). فصل في الدلالةِ على المذهبِ الأوَّل إنَّ الواحدَ مِنَ الأئمَّةِ ليسَ بمعصومٍ، بلْ مجوَّزٌ عليَهِ الخطأُ، مقرٌّ على الخطأ، فهوَ كآحادِ المجتهدينَ، وغيره منَ الصَّحابةِ مجتهدٌ، فلا يجبُ عليهِ بلْ لا يجوزُ لَهُ تقليدُهُ كالإمامِ بعدَهُ لا يلزمُهُ العملُ بقولِهِ في الحادثةِ؛ كذلكَ بقيَّةُ المجتهدينَ، وقد دلَّ على هذا قولُ علي- رضي اللَة عنه- في أمَّهاتِ الأولادِ ما قالَ، وأَنهُ رأى بيعَهُنَّ بعدَ أَنْ كانَ رآيه ورأيُ أبي بكرٍ وعمرَ أَنْ لا يبيعهنَّ، وقولُهم لَهُ في البيعةِ: وسيرة الشَّيخينِ، فقالَ: أجتهدُ رأيي (¬2)، ونَزَعَ يدَهُ. فصل في شبهة المخالف من قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"عليكم بسنتي، وسنةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بعدِي" يعطي اتِّباعَ كلِّ واحدٍ منهمْ. قالوا: ولأَنَّ مخالفَتَهُ افتئاتٌ عليهِ. فيقال: أَمَّا أمرُهُ باتِّباع سنتِهم، فإنَّ المرادَ بهِ التقليدُ، فأمَّا أَنْ يكونَ ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1203. (¬2) تقدم ص 117.

- فصل إذا عقد بعض الخلفاء الأربعة عقدا لم يجز لن بعده من الخلفاء نقضه ولا فسخه

الخطابُ لأهل الاجتهادِ، فلا يوضحُ هذا أَنَّ اتِّباعَ الأربعةِ لا يمكنُ معَ اختلافِهمْ في الحكمِ، واتباع واحدٍ لا يتعين معَ خلافِ الآخرِ لَهُ، ولأَنهُ يعارضُهُ قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:"أصحابي كالنُّجومِ، بأيِّهمُ اقتديْتُمُ اهتديْتُمْ ". وأمَّا دعواهم الافتئاتَ عليهِ، فلا وجهَ لَهُ؛ لأَنَّ حكمَهُ لا يُعتَرضُ عليهِ، فأمَّا بابُ الاجتهادِ فلا يتخصَّصُ به، وإذا لم يتخصَّصْ به لا يكونُ افتئاتاً، بلْ يكونُ إِيضاحاً لحجَّةِ اللهِ، كروايتِهِ حديثاً خَفِيَ على الإمامِ في حادثةٍ، وهذا يساعدُ على بيانِ حكمِ اللهِ، والمساعدةُ لا تكونُ أفتئاتاً، وكما لا تكونُ مشاورتُه إزراءً عليهِ، كذلك لا تكونُ مخالفتُهُ افتئاتاً، ولأنَهُ يقابل مراعاةَ ما ذكرتَ من الافتئات (1 التًقديمُ للأنفع من الحكمين، فإذا تقابلا 1)، كان الأكثرُ نفعاً هوَ المقدَّمَ، والنفع ببيانِ حجَّةِ اللهِ نفعٌ عامٌّ، فلا يُتركُ لتعظيمِ خاصِّ. فصلٌ قالَ أصحابُنا: إذا عقدَ بعضُ الأئمةِ الأربعةِ عقداً، لم يجزْ لِمَنْ بعدَهُ مِنَ الخلفاءِ نقضُهُ ولافسخُهُ (¬2)، نحوُ ماعقَدَه عمرُ -رضيَ الله عنهُ- مِنْ صلح بني تَغلِبَ (¬3)، ومِن خراج السَّوادِ والجزيةِ (¬4)، وِما جرى هذا المجرى خلافا للرَّأفضةِ؛ لأَنَّ قولَهمْ: للأئمةِ مِن أهلِ البيتِ نقْضُ ذلكَ. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) نظر "العدة" 4/ 1206. (¬3) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (70). (¬4) أخرجه أبو عبيد في "الأموال" (143) (146) (147) (151).

والدلالة عليهِ: أَنَّ ذلكَ عقْد حصلَ باجتهادِهِ فلا يملك غيرُهُ نقضَهُ كسائرِ العقودِ، ولأَنَّ في ذلكَ افتئاتاً على الأئمةِ فلا يجوزُ، كما إذا حكمَ بشيءٍ مِنَ الأحكامِ حالَ حياتِهِ، فإنهُ لا يملكُ أحد تغييرَهُ (¬1)، كذلكَ بعدَ موتِهِ. وعندي أَنَّ لقائلٍ أَنْ يقولَ: إنَّ في المنع مِنْ تغييرِ أحكامِ الخليفةِ الأولِ حصراً ومنعاً (¬2) للخليفةِ الذي بعدَهُ عَنِ الحكمِ باجتهادِهِ، وهذا لا يجوز؛ لأَنَّ المصالحَ تختلفُ باختلافِ الأزمنةِ، وإلي هذا أشارَ عليٌّ - رضي الله عنه- حيث قالَ: أجتهدُ رأيي (¬3). ولهذا جازَ لمَنْ بعدَ عمرَ الزِّيادةُ في الجزيةِ بحسَب. وقالَ عثمانُ ما قالَ في ردِّ طريدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نفاهُ- وهوَ الحَكَمُ (¬4)، كانَ يحكي مِشْيَةَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كالتّعييب (¬5) لَهُ- وما كانَ ذلك [إلاَّ] لِمَا رآه مِنَ الأصلح. وقال علىّ: كانَ رأي في أمَّهاتِ الأولادِ ورأيُ أبي بكرٍ وعمرَ أنْ لا ¬

_ (¬1) في الأصل "تغيره". (¬2) في الأصل: "حصر ومنع". (¬3) تقدم ص 117. (¬4) الحكم بن أبي العاص الأموي، من مُسلمة الفتح، نفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، ورده عثمان، رضي الله عنه، إلى المدينة، وقال: كنت قد شفعت فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوعدنى برده. انظر "الإصابة" 2/ 28، "أسد الغابة" 2/ 33. (¬5) في الأصل: "كالتعيب".

* فصل إذا اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مذهبين، لم يجز لمن بعدهم من المجتهدين الأخذ بأحدهما من غير دليل

يُبعْنَ، وأَرى الآنَ بَيْعَهُنَّ (¬1). فلا يُردُّ اجتهادُ حيِّ لميتٍ. ولأَنَّ الأصوليينَ والفقهاءَ اختلفوا في تقليدِ العاميِّ لقولِ ميتٍ مِنَ السَّلف [إن] لم يبقَ مجتهدٌ في العصر يُفتى بقولِهِ، هلْ يجوزُ أمْ لا؟ فذهبَ قومٌ إلى أَنهُ لا يجوز تقليدُ مذاهب الموتى، فكيف يُمنع الاجتهادُ في حقِّ الأحياءِ مِنَ الخلفاءِ المجتهدينَ لأجلِ الموتى؟! (2 ولأنَّ رأي 2) الماضي ليس بمقطوعِ على إصابتِهِ، بلْ يجوزُ عليهِ الخطأُ، وهذا الموجودُ (¬3) يجوزُ أَنْ يصيبَ باجتهادِهِ الحقَّ الذي عندَ اللهِ سبحانَهُ، فلا يجوزُ أَنْ نمنعَ طريقاً يجوزُ أَنْ يوصلَنا إلى الصَّوابِ، لأجلِ قولِ قائلٍ يجوزُ أَنْ يكونَ ماتَ على الخطأِ، فهذا عَيْنُ حملِ المجتهدِ على التقليدِ ومنعه مِنَ الاجتهادِ، وتعطيل الاجتهادِ لأجلِ الاجتهادِ لا يجوزُ. فصلٌ إذا اختلفَ أصحابُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ورضيَ عنهم، على مذهبينِ، ولم يُنكِرْ بعضُهمْ على بعضٍ قولَهُ، لم يَجُزْ لمن بعدَهم مِنَ المجتهدينَ الأخذ بأحدِ المذهبين مِنْ غيرِ دليل، بلْ يجبُ أنْ يتبعَ ما يؤدِّيهِ إليهِ الدَّليلُ أيَّ القولينِ كانَ، بلْ لا يُحدِث قولاً ثالثاً، نص على هذا (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم ص 143. (2 - 2) غير واضح في الأصل. (¬3) في الأصل: "للوجود". (¬4) انظر "العدة" 4/ 1208.

- فصل في دلائلنا

وقالَ بعض أصحابِ أبي حنيفةَ فيما حكاهُ السَّرخسيُّ- أعني أبا سفيانَ-: أَنهُ إذا كانَ قولاً ظهرَ وانتشرَ، ولم ينكرْهُ منكرٌ، جازَ للمجتهدِ الأخذ بِهِ، واختاره. وحكيَ عَنْ بعضِ المتكلِّمينَ: إنْ كانَ ذلكَ قبلَ وقوع الفُرقةِ بينَهمْ وانتشارِهمْ في الأمصارِ، جازَ للمجتهدِ الأخذ بِهِ مِنْ غيرِ دليلٍ، وإنْ كانَ بعدَ الانتشارِ والفرقةِ لم يجزِ الأخذُ به إلاّ أَنْ يدلَّ دليل على صحَّتِهِ (¬1). فصل في دلاِئلنا فمنها: أَنَّ الصَّحابةَ إذا اختلفوا، فقد سوَّغوا الاجتهاد لمن خالفهم، ومَنْ خالف فإنما سوَّغوا لَهُ ذلكَ لأجلِ اجتهادِهِ واتباع الدليلِ، فلا يجوزُ لمَنْ بعدَهمْ أنْ يسوغَ له القولُ بغيرِ دليلٍ، ففي ذلكَ تقليدٌ وتعطيلٌ للاجتهادِ. ومنْها: أنَّ هذا القائلَ قدْ منعَ الأخذَ بقولِ إحدى (¬2) الطائفتينِ إذا جرى بينَ الطَّائفتينِ إنكارٌ. فنقولُ: إنهما قولانِ للصَّحابةِ، فلا يجوزُ للمجتهدِ تقليدُ أحدِهما، كما لوْ أنكرتْ إحدى الطائفتين على الأُخرى، وأنكرتْ الأُخرى عليها، ¬

_ (¬1) انظر "أصول السرخسى" 2/ 113. (¬2) في الأصل: "أحد".

- فصل في شبه المخالفين

يوضح هذا أَنَّ المخالفةَ نوعٌ مِنَ الإنكارِ، لأنَّ المخالفةَ ردٌّ للقول السابق بالاجتهاد، وفي الردِّ ما في الإنكار. ومنها: أَنَّ اعتبار الإنكار في الردِّ، وترك الإنكار في جوار الأَخْذ بالقولِ لا وجهَ له، فالمخالفةُ تَمنَعُ إِجماعَهمْ، كما أَنَّ الإنكارَ يمنعُ إجماعَهمْ، ولأَنَّ تركَ الإنكارِ إنَّما حصلَ لأَنَّ مسائل الاجتهادِ يسوغُ فيها المخالفةُ، فلا وجهَ للإنكارِ، فيصيرُ تركُ الإنكارِ لمقالةِ المخالفِ للتسويغ لا للموافقةِ. ومنها: أَنَّ كلَّ طائفةٍ مساويةٌ للأُخرى في تجويزِ الخطأِ والإِصابةِ، فالاتباعُ لأحدِهما مِنْ غيرِ ترجيح نفسُ التقليدِ. فنقولُ: هذا مجتهدٌ، فلا يجوزُ له التقليدُ، وتركُ الترجيح مع قُدرتِهِ عليهِ، كما لو لاحَ له دليلانِ: خبرانِ أو قياسانِ، فإِنَّه لا يتخيَّرُ بل يُرجِّحُ، كذلكَ هاهنا. ومنها: أَنَّهُما مجتهدان، فلا يجوزُ لأحدِهما الأخذُ بقولِ الآخرِ بغيرِ دلالةٍ، كالمجتهدين مِنَ الصًّحابةِ والمجتهدين مِن أهلِ الأَعصارِ بعدَ الصَّحابةِ. فصلٌ في شبههم فمنها: أَنَّهُ إذا لم يَحصُلْ منهمُ الإنكاَرُ، دلَّ على كونِهِ صواباً، لأَنَّهُ لو كانَ خطأً لم يُمسِكوا عن إنكارِهِ. ومنها: أنَّ الصَّحابةَ رجعَ بعضُهم إلى قولِ بعضِ، مثلُ رجوع عمرَ

- فصل في الأجوبة عنها

إلى قولِ علي في التزامِ دِيَةِ جنينِ التي أَجهَضَتْ ذا بطنِها مِن فَزَعِه (¬1)، ومثلُ قَبول عثمانَ البيعةَ على سنة أبي بكرٍ وعمرَ (¬2)، فَمَنْ بعدَهم ودونَهم أَوْلَى أنْ يَتَبعَ إحدى الطائفتينِ منهم. فصلٌ في الأجوبةِ عنْها أمَّا التعلُّقُ بِأنَّهُ لم يحصلِ الإنكارُ، فلا يدلُّ على الموافقةِ حيثُ حصلتِ المخالفةُ، والتسويغُ يمنعُ الاعتراضَ، وليس يلزمُ مِنَ التسويغ التصويب، كسائرِ الفقهاءِ، بعضُهم لا يمنعُ بعضاً في عصرِنا، وأما رجوعُ بعضِهِم إلى قولِ بعضٍ، فلم يكن إلا لدليلٍ قد دلَّ على الموافقةِ، لا اتِّباعاً لأجل القائلين، ولا لمجرَّد (3 اشتباه، ولو كان لمجرَّد اشتباه 3) لم يَحصُل بينهم خلافٌ، كما (3 خالفوا في كثير بما ذكرنا فيما سبق 3). فصلٌ يجوزُ تركُ ما ثبتَ وجوبُهُ بالإجماع إذا تغيَّرت حالُه، وذلك مثل الاجماع على جوازِ الصَّلاةِ بالتيممِ، فإذا وُجِدَ الماءُ في أثنائِها جازَ الخروجُ منْها، بل وَجب، وبه قالَ أصحابُ أبي حنيفة خلافاً لبعضِ أصحابِ ¬

_ (¬1) تقدم ص 205. (¬2) تقدم ص 117. (3 - 3) غير واضح في الأصل.

- فصل في أدلتنا

الشافعيِّ: لا يُنتقل عن الإجماع إلا بإجماع مثلِهِ (¬1). فصِلٌ في أدلتنا فمنها: أَنَّ سلطانَ الإجماع قدْ زالَ، وذلكَ أَنَّهُ إذا تجدَّدَ وجودُ الماء، تجدَّد التسويغُ بعد أن كان الخروجُ منها لا يَسُوغ، وإذا زالَ سلطانُهُ لم يُحتَجْ إلى إجماع يزيلُهُ وقدْ زالَ. ومنها: أَنَّ تجدد وجودِ الماءِ ليسَ هوَ حالَ الصلاةِ معَ عدمِ وجود الماءِ، فما تركْنا الأصلَ الأولَ، ولا هذا هوَ المجمعُ (¬2) عليهِ. فصل في شبههِم فمنها: أَنهُ لوْ جازَ تركُ المجمَع عليهِ بغيرِ الإجماع، لأدَّى ذلكَ إلى قيامِ دلالةٍ تخالفُ الاجماعَ مَعَ كونِهِ معصوماً، فلا يجوزُ ذلكَ لما فيهِ مِنْ إخراج الإجماع عن موضوعِهِ. ومنها: أَنها دلالةٌ قطعيةٌ فلا يجوزُ تركُها بالاجتهادِ، كنصِّ القرآنِ ونصِّ السُّنةِ. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1211. (¬2) في الأصل: "الجمع".

- فصل في الجواب عنها

فصل في الجوابِ عنْها أَمَّا الأولى: فإنَّ المجمعَ عليهِ بتغيرِ الحالِ خرجَ عنِ الإجماع، لأَنَّ إجماعَهم على صحَّةِ الصَّلاةِ بالتيممِ ووجوبِ المضيِّ فيها معَ عدمِ الماءِ، فلمَّا وُجدَ الماءُ عُدِمَ الإجماعُ في هذه الحادثةِ وصارَتْ كسائرِ الحوادثِ المُجتَهَدَاتِ، فكفى في حصول حكمِها دليل ليس بقطعي، وكذلكَ الجوابُ عنِ الثانيةِ، لأَنَّ الدّلالةَ إَنما كانت في المتيمِّمِ العادمِ للماءِ، فأَمَّا الواجدُ فلا. فصل يجوزُ إثباتُ الإجماع بخبرِ الواحدِ، قال أبو سفيانَ مِن أصحابِ أبي حنيفةَ: قالَ بعضُ شيوخِنا: لا يجوزُ إثباتُ الإجماع بخبرِ الواحدِ، فهذا على ما يقع لي خلاف في عبارة وتحتها اتفاق، (1فَلا ضَيْرَ1)، في الاختلاف (1في العبارة؛ لأنه لا يقود إلى الاختلاف في عين المقصود، فان خبر الواحد لا يُعطي علماً ولكن يفيد ظناً 1) ونحن إذا قُلْنا: إِنَّ خبرَ الواحدِ يَثبُتُ به الإجماعُ، فلسْنا قاطِعينَ بالاجماع ولا بحصولِهِ بخبرِ الواحدِ، غير أَنا ظانِّينَ له، وإنَّما القطعُ للحُكمِ الذي يثبتُ أَنَّ الإجماعَ انعقدَ عليهِ. والذي حكاهُ لهم أبو سفيانَ مِنَ الشُّبهةِ: أنَّ الإجماعَ دليلٌ قطعيٌّ، وخبر الواحدِ دلالة ظنية، فلا يجوزُ أنْ يثبت بخبر الواحدِ دليل قطعيّ. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، واستُدرك من "المسودة": 345.

* فصل إذا وقعت حادثة بحضرة النبي وسكت عن الحكم فيها فهل يجوز أن نحكم في نظيرها باجتهادنا؟

وهذا تَوهُّم منْهم أنّا نقولُ: إنَّ القطعَ يحصلُ لنا بخبر الواحدِ، وليسَ كذاكَ، بلْ نقولُ: إنَّ الإجماع بخبرِ الواحدِ حصلَ لنا ظَنَّا لا قطعاً، وما أجمعوا عليهِ مِنَ الحكمِ يوجب القطعَ إذا ثبتَ بطريقهِ القطعيِّ، أَلاَ ترى أَنَّ خبرَ الواحدِ يَثْبُت به قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سائرِ الأحكامِ، لكنْ لا نقولُ: إنَّ خبرَ الواحدِ معصوم، حيثُ كانَ مستندُهُ روايةً عَنْ معصومٍ، فخبرُ الواحدِ مظنون وأثبتْنا به قولَ المعصومِ، لكنْ ثبوتاً بحَسَبِهِ، وهوَ أَنا نظنُّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَهُ وحَكَمَ به، فقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في نفسِهِ قول معصومٌ، وخبر مقطوع بصدقِهِ، والطريقُ إلى إثباتِهِ خبرُ واحدٍ مظنون صدقُهُ، غيرُ مقطوع به، وعلى هذا نحنُ نعلمُ أَنَّ الإجماع قطعيّ، ومستندُهُ اجتهادُ الأُمةِ، وذلكَ رأيٌ وهوَ القياسُ، والقياسُ في نفسِهِ مظنونٌ، ونَصوغُه قياساً، فنقولُ: إنَّ الإجماع دلالةٌ قطعيةٌ، أو قول معصوم، فجازَ أنْ يكونَ طريقُ إثباتِهِ خبرَ الواحدِ، كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولأَنَّ التّاريخَ الذي يترتبُ عليهِ النسخُ في ترتبِ نص على نصِّ يثبت بخبرِ الواحدِ، رتَّبنا على التاريخ الثابتِ بخبرِ الواحدِ النسخَ الذي هو النًصُّ القاطعُ الرافعُ للحكمِ الأوَّلِ، وإن لم يثبتِ النسخُ بخبرِ الواحدِ، فإنا نُثبت الإجماع القاطع بخبرِ الواحدِ، وكذلكَ الإحصانُ يثبت بشهادةِ رجلين، وإن لم يَجُزْ إثباتُ الزِّنى بشهادَةِ رجلينِ. فصل إذا حَدَثَت حادثةٌ بحضرةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -[و] سكتَ عَنِ الحكمِ فيها، ولم يحكمْ فيها بشيء، قالَ أصحابُنا: يجوز أنْ نحكمَ في نظيرِها باجتهادِنا، وقالَ بعضُ المتكلمينَ: لا يجوزُ الحكمُ في نظيرِها بشيءٍ، بلْ نُمْسِكُ كما

أمسكَ - صلى الله عليه وسلم - وهذا عندِي على وجهٍ: وهو أَنْ يكونَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - له في نظيرِها حكم يَصِحُّ استخراجُه من معنى نُطقِه، فأمَّا إذا لم يكن في قوَّةِ ألفاظِ السُّننِ، ولا في كتابِ الله سبحانَه، فلا وجهَ لرجوعِنا إلى طلبِ الحكم مع إمساكِه عنه. نعم، ولا وجهَ لإمساكِه عن الحكمِ في وقتِ الحاجةِ، لأننا أجمعنا على وجوب (¬1) البيانِ في وقتِ الحاجة، فمتى لم يكن لله حكم في نِظْرِ (¬2) هذه الحادثةِ، استحالت المشقةُ. فوجه قول أصحابنا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد يمسكُ عن بعضِ الأحكامِ ويَكِلُها إلى اجتهادِنا مع إمكانِ التنصيصِ على الحكمِ، لكن يقصدُ بذلك ما قصدَه الله سبحانَه حيثُ لم ينصَّ على سائرِ الأحكامِ، بل تركَ لنا ما نُعمِلُ فيه أفكارَنا وبحوثَنا، ونجتهدُ ليحصلَ لنا ثوابُ الاجتهادِ، فكذلكَ إمساكُه عن حكمِ الحادثةِ. يوضِّحُ هذا: أنَّهَ لايجوزُ أن تخلوَ حادثةٌ عن حكمِ الله سبحانَه، ولا يجوزُ أن يثبت الحكمُ إلا بدليل، فإذا عُدِمَ النصُّ لم يبقَ إلا الاجتهادُ. وللمخالف أن يقولَ: إذا كان هذا دليلَكم، فقولوا بجوازِ اجتهادِكم ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "ركوب". (¬2) النِّظر: لغة فِى النظير، كالنِّد والنديدِ.

في عَينِ الحادثةِ التي أمسك عنها، واجعلوا حُجَّتَكم هذه لتجويزِ الاجتهادِ، وإن أمسكوا وكل الاجتهادُ إليكم في عين الحادثة، ولما لم يُوجِب (1 ذلك جوازَ الاجتهاد في عين الحادثة1) التي حدثت بحَضْرته وأمسك عنها (1 فكذلك في نظيرتها، على أنه مستلزمٌ لتأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غيرُ جائز1) عليه، ولايجوزُ أن يكونَ عَلِمَ وأمسكَ، لأنَّ هذا هو عين تركِ البيانِ والتبليغ الذي أمرَه الله به، وقال له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ} [المائدة: 67] وقال {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وإن كانَ لعُزوبِ الحكمِ عليه، فما عَزَبَ على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيه لا يُشَكُّ أنَّ الأصلحَ أو الإرادةَ بتَرْكِ بيانِه، إذ لو أرادَ الله سبحانَه بيانَه، لمَا طواه عن نبيِّهِ وأوقعه للأمَّةِ من غير طريقهِ وبيانِه. ومعلومٌ أنَّ المجتهدَ لابدَّ له من أصلٍ يستمدُّ منه اجتهادَه، وذلكَ الأصلُ هو ما كانَ في كتابِ اللهِ أو سنَّةِ رسولهِ، فإن كان ذلكَ موجوداً، فلا يجوزُ للنبيَّ تركُه، ولايجوز عزوبُه عنه، وإن لم يكن له أصلٌ، فهو حكمٌ بالواقع والنهي، وذلكَ ليسَ بطريقٍ، فلا وجهَ للاجتهادِ في نِظْرِ ما سكتَ النبيَّ عن الحكمِ فيه. فإن قال مَنْ نصرَ جوازَ إلاجتهادِ (¬2): قد يجوز أن يقعَ لبعضِ الأُمّةِ ما ¬

_ (1 - 1) مطموس في الأصل، واستُدرِك من "المسودة" 345. (¬2) انظر "العدة" 4/ 1214.

لا يقعُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد موتِه كما كانَ في حالِ حياتِه، فإنَّ عمرَ أصابَ الرَّأيَ يوم بدرٍ، ونزلَ القرآنُ بما قال (¬1)، ولم يكن ذلك من رأي النبيَّ وأبي بكر، وكذلكَ لمَّا سأل عمرُ عن الكلالةِ، قال له النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:"تُغنِيك آيةُ الصَّيف" (¬2)، ووكَلَ ذلك إلى اجتهادِه. فيقال: لسنا نمنعُ من ترك النصِّ والايماء إلى الظاهر، أو إحالةِ المجتهدِ على المنطوقِ في حكمِ المسكوتِ إذا كانَ في النّطقِ علةٌ تَصلُحُ لتعديةِ الحكم، وإنما منعنا أن يكون لله حكمٌ في حادثة، ثم إنه يَعزُب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويَتبيَّنُ لمن بعدَه (3 .................. 3). ¬

_ (¬1) تقدم ص 138. (¬2) أخرجه أحمد (89)، وابن سعد 3/ 335، والحميدي (10) (29)، والبزار (315)، وابن حبان (2091)، بلفظ: "تكفيك آية الصيف" وهى الآية- الأخيرة من سورة النساء. (3 - 3) طمس في الأصل. بمقدار ثلاثة أسطر.

* فصول التقليد

فصول التقليد وحدُّ التقليد: الرُّجوعُ الي قولِ الغيرِ بغيرِ حُجَّةٍ، مأخوذٌ من تقليده بالقلادةِ وجعلِها في عُنقِه، وهو طريقُ العاميِّ مع المجتهدينَ من العلماءِ في مسائلِ الفروع التي يسوغُ الاجتهادُ فيها. فصل فأمّا مسائلُ الأُصولِ المتعلِّقة بالاعتقادِ في الله، فيما يجوزُ عليه وما لايجوزُ، وما يجبُ له، وما يستحيلُ عليه، وما يجب نفيه عنه، فهذا لايجوزُ التَّقليدُ فيه. وحكيَ عن عُبيدِ الله (¬1) بن الحسن العنبري أنه يجوز ذلك. وسمعتُ الشَّيخَ أبا القاسم بن التبَّان يقول: إذا عَرَف الله، وصدَّق رسله، وسكن قلبُه إلى ذلكَ واطمأنَّ به، فلا علينا من الطريقِ، تقليداً كان أو نظراً أو استدلالاً، حتى إنَّ الطريقَ الفاسد إذا أدَّاه إلى معرفةِ الله كفى، فلو قالَ: أنا أعرفُ الله سبحانَه من طريقِ أنِّي دعوتُ الله يوماً في غرضٍ لي فكان ذلكَ الغرضُ، وما دعوتُ سواه، فدلني ذلك على إثباتِه، وكذلك ¬

_ (¬1) في الأصل: "عبد الله"، وهو عبيد الله بن الحسن بن حصين بن أبي الحرِّ مالك بن الخشخاش، العنبري. ولد سنة مئة، ويقال سنة: ست ومئة، قال ابن سعد: ولي قضاء البصرة، وكان ثقة، محموداً، عاقلاً من الرجال. مات سنة ثمانٍ وستين ومئة. "تهذيب التهذيب" 3/ 7.

- فصل في أدلتنا

لو قال: قد سَكَنَت نفسي إلى جميع ما جاءت به الأنبياءُ- صلوات الله عليهم- من الوعدِ بالبعثِ وغيرِه، فقيل له: بماذا سكنت نفسُكَ إلى تصديقهم؟ فقال: لأن واحداً منهم مع ما ظهر على أيديهم من الأفعالِ الإلهية، لم يدَّع الإلهيةَ كعيسى أو موسى، وقد ادَّعاها من لم يَبلُغْ مَبلَغَهم، كفِرعونَ بمجرَّدِ القدرةِ على المالِ قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51]؛ فإنّ إيمانَه مقبولٌ، ودليلَه على ذلك مدخولٌ. فصِل في أدلتنا فمنها: أنَّ الله سبحانَه ذمَّ التقليدَ في كتابه بمثل قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22 - 23] ....... (¬1). (2 ومنها: أن في تقليد المقلّد 2) رجوع إلى خبرِه، وخبرُه يتردَّدُ بين الصِّدقِ والكذبِ، فلا يجوز تركُ دلالةٍ قاطعةٍ لقولٍ يتردَّدُ بين شك وظن. فصل في شبههم فمنها: أنّه لما كانَ التقليدُ طريقا لمسائِل الفروع، كذلكَ جازَ أن ¬

_ (¬1) طمس في الأصل: وانظر "التبصرة" 401. (2 - 2) مكانه طمس في الأصل.

- فصل في الأجوبة عنها

يكونَ طريقاً لمسائِل الأصولِ؛ من حيثُ إنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلق بالتكليف من جهةِ اللهِ سبحانه، وكما كلَّفَنا اعتقادَ الأحكامِ فقَلَّدْنا، كذلكَ إذا كلَّفَنا اعتقادَ الأصولِ قفدنا العلماءَ بها. ومنها: أنَّ الغرضَ سكونُ القلبِ إلى المعتَقَد، فلا علينا من الطريقِ، وهذه شبهة الشَّيخ أبي القاسمِ بن التبَّان. ومنها: أنَّ أدلةَ الأصولِ بها من الغموضِ ما لا يكادُ يقفُ عليه العوامُّ وأكثرُ العقلاءِ، فإذا جازَ التقليدُ في الفروع مع (¬1) سهولةِ أدلتها، فلأَن يجوز التقليدُ فِى الأصولِ مع (2 الغموض والخَفاءِ2) المستمرِّ، أَوْلى. فصل فى الأجوبة عنها أمَّا الفروع، فإنَّ طرقَها الكتابُ والسنّهُ والإجماعُ والاستنباطُ، وذلكَ بحرٌ عظيم لو كُلِّفَ العوامّ سلوكَه لانقطعوا عن أشغالِ الدنيا، فجعلْنا ذلكَ إلى أهلِ الاجتهادِ [وهم] آحاد بَذَلوا نفوسَهم لذلك، وأسقطناه عن العوام، لما ذكرنا من المشقةِ الفادحةِ. فأمّا الأصولُ، فإنَّ أداتَها العمَولُ، والناس مشتركونَ فيها، فلا يشقُّ عليهم النظر والاستدلال على ما تؤدي إليه من المعتقداتِ، فصار العامة ¬

_ (¬1) في الأصل: "تبع". (2 - 2) في الأصل: "العرض ولحوق".

و (1 الخاصة متساوين في طريق الوصول إليها، وهو النظر، وإنما أوجبه الله تعالى على المكلف ليُثابَ عليه 1)، ولو كان المقصودُ المجرفةَ بغير طريقِ النّظرِ لخصَّ الله بها أنبياءَه- صلواتُ الله عليهم-الهاماً، لكنّه ينزِّهُهم عن تفويت مراتب النظرِ والاستدلالِ، وإعمال جواهرِهم في اعتقاداتهم، ألم تسمعْه يقولُ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 75 - 76] فدرَّجَ الرسلَ في مقاماتِ النَّظرِ ليحصلَ ثوابُه بذلك، ولو كانَ بالإلهام لسقطَ ثوابُ النًظرِ والاجتهادِ في تحصيلِ الاعتقادِ، فبطل دعواه أن الغرضَ المعرفةُ فقط، بل الطرَّيقُ أكبرُ التعبدين، إذ هو رأسُ العملِ في تحصيلِ العلمِ. قالوا: فقد بيَّنَ الله سبحانه أنه خص بعضَ أنبيائه بالاعتقادِ به من غيرِ نظرٍ ولا استدلالٍ، وما ذلكَ مسقطاً حكمَ اعتقادِه لإعدام طريقِ الاعتقادِ من الاجتهادِ، فقال في حقِّ عيسى: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)} [مريم: 30] وقال في حقِّ يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)} [مريم: 12]، فبطلَ اعتبارُ النْظرِ واشتراطُه، وبانَ أنَّه بالالهامِ كافٍ، فكذلكَ سكونُ النفسِ إلى المعتَقدِ بطريقِ التقليد كافٍ. فيقالُ: الجوابُ عنه من وجوهٍ: أحدها: أنَّ ذلكَ مُنطَقٌ ومُجرىً على لسانِه الكلامُ، لا أنَّه صدرَ عن ¬

_ (1 - 1) غير واضح في الأصل، وإنظر "قواطع الأدلة" للسمعاني 5/ 112 - 115.

فهمٍ وقصدٍ، بل على طريقِ الإعجازِ أو الكرامةِ لأمِّهِ لتبرئتها مما رُمِيَت به من الزِّنى، كمن نطق من الأطفالِ المرويِّ نطقُهم في بني إسرائيل كجُرَيج لما اتُّهم بالزنى فنطقَ الحملُ بأنَّه ابنُ راعي غنم (¬1)، ولما اتهم موسى الكليم بالزِّنى (¬2)، فنطق الحملُ. بما نطق، وإلى أمثال ذلك، على أنه ....... (3 الثاني: أن قوله: {آتاني الكتاب} إخبارٌ عن مستقبل حاله، كقول القائل ليوسف عليه السلام: {إني أراني أعصر خمراً} 3) [يوسف: 36]، يعني: عصيراً يؤول إلى الخمر، وتقولُ العربُ في الولودِ: يهنيك الفارس، يوضّح هذا قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 31]، ومعلومٌ أنه لم يكلَّف في تلك الحال صلاةً، فلم يبقَ إلا أنه أخبرَ عن مستقبَلِ حالِه. وجوابٌ ثالث: لو كانَ ذلكَ في حقِّ عيسى، لكانَ مخصوصاً به وإطْلاعاً له في تلكَ الحالِ ذلك القدرَ، فيكونُ كما أُطلِعَ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ المعراج، فخرجَ بذلكَ عن حيِّزِ التكليفِ للإيمان به بطريقِ الاستدلالِ، إذ ثبتَ أنه يقظةً لامناماً، وهو الصَّحيحُ عندَنا، ولا يبقى تكليفُه بأن يؤمنَ بأنَّ في السَّماءِ ملائكةً مسبِّحين، ولا أنَّ للهِ جنَّةً وناراً مخلوقتين؛ لأنَّ عِيانَه - صلى الله عليه وسلم - أبطلَ حكمَ التكليفِ له في ذلك، وصارَ في حقه بعد تلكَ الليلةِ كالسَّماءِ ونجومِها، والأرضِ وجبالِها، لا يدخلُ إثباتُها تحتَ تكليفِه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1206) (2482) (3436) (3466)، ومسلم (2550) (7) و (8). (¬2) انظر "الدر المنثور" 5/ 136 للسيوطي. (3 - 3) طمس في الأصل.

كذلكَ تلكَ اللحظة التي تكلمَ فيها عيسى، إنْ كانت عن شيءٍ وَقَرَ في صدرِه من اعتقادٍ قبلَ أوانِ الاعتقادِ، كما نطقَ لسانُه قبل أوانِ النّطقِ، كانَ بذلك مخصوصاً، وذلك لايُسقطُ طرقَ المعارفِ في حقِّ بقيَّةِ المكلفين. قالوا: أليسَ الله سبحانَه لما استخرجَ ذريَّةَ آدمَ من ظهرِه وأشهدَهم على أنفسِهم وأخذَ عليهم الميثاقَ، كانَ بغيرِ نظرٍ ولا استدلالٍ، لكن بمجردِ الاستنطاقِ والإلهامِ، وجعلَه حجَّةً حيث قال: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]؟ فيقال: إنَّ الإخراج هو بالتناسل، والإشهادَ بعد تكاملِ العقل للنظرِ والاستدلال ......... (1 كما خلقَ لنا الحيوان لنَنْتفعَ 1) بِلبنهِ وسِخالِه ولحمانِه، فهو بينَ مركوب ومحلوب، وحابسٍ وحارس، ومترنِّم ومترسِّل، كلُّ ذلكَ دليلٌ على صانعِه وخالقِه، وآيات (¬2) من القرآن تدلُّ على أنه إنما أرادَ بالإشهاد ما أشرنا إليه، من ذلك قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِ جَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} [النبأ: 12 - 16]، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 20 - 21]، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ ¬

_ (1 - 1) في الأصل طمس، وانظر "العدة" 4/ 1223 و 1224. (¬2) تحرفت في الأصل إلى: "ونفات".

* فصل إذا استفتى العامي عالما في حكم حادثة تم حدث مثلها وجب عليه أن يحدث لها اجتهادا ثانيا

وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11]، {أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9]، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19]، {سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32]، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل: 14]، {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] الى قوله: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية: 12] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20 - 21] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]. فهذا وأمثالُه هو الإشهادُ للعقلاءِ البالغينَ، بدليلِ قولِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ القلمُ عن ثلاث" (¬1) وذكر الصبَّي والمجنون. وأجمعت الأمَّةُ على أنَّ الخطابَ لايتوجَّهُ إلاَّ إلى العاقلِ الكاملِ، وأجمعَ أهلُ السُّنةِ أن بَعْدَ العقل والبلوغ لا يكون خِطابٌ ولا تكليف إلا بالرسالة، (2 ......... 2) القرآن بعضه بعضاً. فصل إذا استفتى العاميُّ عالماً في حكمِ حادثةٍ فأفتاه، ثمَّ حدثَ مثلُها، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 118. (2 - 2) طمس في الأصل.

* فصل لا يجوز لعالم تقليد عالم

وجبَ عليه أن يحدثَ لها اجتهاداً ثانياً، ولا يفتي. مما أفتى أوَّلاً، فيكونُ مقلِّداً لنفسه، كما إذا اجتهدَ في القِبلةِ فأدَّاه اجتهادُه إلى حهةٍ ثم حضرت صلاةٌ اخرى، فإنه يُحدِثُ لها اجتهاداً ثانياً إذا كانت القبلةُ على الخفاءِ، ولايستقبلُ الجهةَ الأولى لأنَّ الاجتهادَ قد يتغيرُ، فلا يُؤمَن أن يكونَ الحقُّ فيما يتجدَّدُ من الحكمِ باجتهادِه الثاني، وفارَق أدلةَ السَّمع، فإنّها لا تتغيَّرُ إلاّ بنسخٍ ورفعٍ، وذلكَ قد امتنع. فصل ولا يجوزُ للعالمِ تقليدُ عالمٍ، سواءٌ كان مثلَه أو أفضلَ منه، وسواءٌ كانَ الوقتُ يضيقُ عن الاجتهادِ أو يتسعُ، حاكماَّ كَان أو لم يكن حاكماً، هذا ظاهرُ كلامِ أحمدَ (¬1)، وبهذا قال إسحاقُ والشافعي (¬2). وقالَ أبو حنيفةَ ومحمدُ بنُ الحسنِ: يجوزُ له تقليدُ العالم (¬3). وحكيَ عن محمد اُنه قيَّدَ ذلك بأن يكون أعلمَ منه، ولايجوز تقليدُ مثله. وذهب ابنُ سُرَيج إلى جوازِ ذلك في ضيقِ الزَّمان. فصل في أَدلتَّنا فمنها: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1229. (¬2) انظر "التبصرة" 403. (¬3) انظر "الفصول" 3/ 362.

- فصل في الأسئلة

[النساء: 59]، والمرادُ به كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسولِه، والتقليا للعالمِ ليس واحداً منهما. وقولُه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ولا علمَ للمقلِّد فيما أفتى به العالمُ. ومنها: "اجتهدوا فكلّ مُيسَّر لما خُلِقَ له" (¬1) ولم يفصِّل بين الأعلم وغيره، والعالم وغيره، وعند ضيق الوقت وسَعَتِه. ومنها: أنَّ معه (2 آلةً يتوصَّل بها إلى الطلوب، فوجب أن لايجوز له التقليدُ فيه 2). (3 ....... 3) بالتقليد يُفضي إلى إبطالِه، لأنَّه إذا جازَ التَّقليدُ للغيرِ في حكمٍ من الأحكامِ، جازَ تقليدُ من يفتي بضدِّ ذلك الحكمِ، وذلكَ يبطلُ ذلكَ الحكمَ. فصل في الأسئلة فمنها: أنَّهم قالوا: إنَّ تقليدَ العالم حكمٌ من أحكامِ اللهِ بطريقِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6596)، ومسلم (2649)، وابن حبان (333) من حديث عمران بن الحصين. (2 - 2) مكانه طمس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1231. (3 - 3) طمس في الأصل. بمقدار سطر.

- فصل في الأجوبة عن الأسئلة

الاجتهادِ منه، ولهذا كان ردّ العاميِّ إليه وتقليدُه له لايمنعُ من كونِه تابعاً للآية. ومنها: أنَّ قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، هذا قد قَفَا ما له به علمٌ، وهو ما أدَّاه إليهِ الاجتهادُ. ومنها قولُهم: لايمتنُع أن يكونَ معه آلةٌ يتوصَّل بها إلى المطلوبِ، ثمَّ يجوزُ تركُه إلى غيرِه، ألا ترى أنَّ من يمكنُه أن يسمَع الحكمَ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يجوز له تركُ السَّماع منه والعدولُ إلى سماع خبرِ المخبِرِ عنه. فصل في الأجوبةِ عن الأسئلة فأمّا قولُهم: إنه على حكمِ اللهِ بتقليدِ العالم، فليس بصحيح، لأنه إذا تركَ ما يقتضيه ظاهرُ الكتابِ أو ظاهرُ السُّنةِ وقلدَ غيرَه، فقد تركَ حكمَ الله ولم يعمل به. وأما قوله: التقليد للعالم قَفْو للعِلم، فليس بصحيح، لأنَّ العالمَ المقلد لا يعلمُ صحَّةَ ما أفتى به مَن قلده. وأمّا قولُهم: يجوزُ أن يتركَ ما يتوصَّل له ويعدلَ إلى غيرِه (¬1)، كما جازَ الأخذُ باجتهادٍ والنبىُّ حيٌّ، وقبولُ خبرِ غيرِه عنه مع القدرة على خبرٍ منه ناطق، فأمَّا ما ذكروه من أنه تركُ قولِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فليسَ ذلكَ تركاً له إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "غيرها".

- فصل في شبهات من لم يفصل بل أطلق الجواز

غيره، انما هو تركُ الطريق إلى طريق غيره، كأن يلوحَ له دليل في المسألةِ يقتضي حكماً، فيتركه (أويسلك طريق دليلٍ آخر يقتضي ذلك الحكم 1). (2 ............... 2) كالعقلياتِ، ولايُلزمُ عليه العامِّي حيث لم يقلِّد مثلَه، ويقلدُ العالمَ؛ لأنَّ العامِّي لا يساوي العالِمَ، ولمَّا ساواهُ في العقلِ الذي هو أداةُ النظرِ والاستدلالِ في الأُصولِ لا جرمَ لم يقلدْه. فإن قيل: الفروعُ طريقُها الظنُّ، والأعلمُ يغلبُ على الظنِّ إصابتُه للحقِّ، فجازَ لمن هو دونَه تقليدُه، ويصيرُ مَن دونه كالعاميِّ بالإضافةِ إلى العالمِ. قيل: العالِمُ وإن كان دونَ طبقةِ الأعلمِ، لكنه على يَقِينٍ من نظرِه واجتهادِه، وعلمٍ وإحاطةٍ من ظنِّه، وعلى حُسنٍ من غيرِه الأعلم وظنه لا على إحاطةٍ ولا يقينٍ، ولاخلافَ بيننا أنَّه يجوزُ تركُ اجتهادِ غيره، والتعويلُ على اجتهادِ نفسِه، وإن كان الغيرُ أعلمَ، وإذا جازَ له تركُ اجتهادِ الأعلمِ لاجتهادِ نفسه، وجازَ للعاميِّ اجتهادُه وتركُ اجتهادِ الأعلم، علمنا أنَّ تقليدَه لا يجوز. فصل في شبهاتِ من لم يفصّل بل أطلق الجواز فمنها: قوله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، واستدرك من "التبصرة": 405. (2 - 2) طمس في الأصل.

[النحل: 43]، وهذا قبلَ أن يجتَهد لايعلم حكمَ الحادثةِ، فجازَ أن يسألَ بظاهرِ الآيةِ. ومنها: قوله تعالى؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 9] ولم يفصل بينَ العالِمِ وغيرِه. ومنها: أنَّ الصَّحابة رجعت إلى تقليدِ بعضِهم لبعض، وإن كانوا كلُّهم علماءَ، وقال عبد الرحمن، لما بايعَ علياً وعثمان، بدأ فعرض على [علىِّ] (¬1) سيرةَ الشَّيخين، وعرضَ على عثمانَ ذلك وبايعه عليه، وعثمان دخل على ذلك، وذلك بمحضر من جِلةِ الصَّحابةِ فصار كالإجماع. وروي عن عمرَ أنَّه قال: إنِّي رأيت في الجدِّ رأياً فاتبعوني (¬2)، فهذه دعوةٌ منه إلى التقليد، إذ لو لم يكن جائزاً لما دعا إليه. وروي: [أنَّ أمرأة ذكِرت عند عمر بالفاحشة، فوجَّهْ إليها فأَجهَضت ذا بطنها من الفزع، فاستشار الصَّحابة، فقال عثمان وعبد الرحمن: إنك مؤدِّبٌ، ولا شيء عليك، وعليٌّ ساكت، فقال له عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ، وإن لم يجتهدا فقد غشَّاك، عليك الدية، فقال عمر: عَزَمتُ عليك لتقسمنَّها على قومك] (¬3). ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، والخبر تقدم تخريجه ص 117. (¬2) أخرجه عبد الرزاق (19052)، والدارمي (2916). (¬3) ما بين معقوفين مكانه مطموس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1233. وهذا الأثر تقدم تخريجه ص 205.

- فصل في شبهات أصحاب أبي حنيفة القائلين بالجواز

ومنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يفتي. مما يُنزِّلُ الله عليه من القرآنِ، وبما يدلّ عليه الاجتهادُ، وللعالِم طريقٌ إلى معرفةِ ذلكَ من طريقِ الاجتهادِ، ويجوز له تركُ اجتهادِه والعملُ. بما سمعَه من النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، كذلكَ ها هنا مثلُه. ومنها: أنه إذا جازَ تقليدُ الأُمَّةِ فيما أفتوا به، وإنْ لم يُعلم الطريقُ الذي أفتَوا به، فكذلكَ تقليدُ آحادِها من العلماءِ. ومنها: أنه لو كانَ التَّقليدُ لايجوزُ لجوازِ الخطأ عليه، لوجبَ أن لا يجوزَ الرُّجوعُ إلى خبرِ الواحدِ لجوازِ الخطأ على ناقلِه. ومنها: أنَّ الاجتهادَ من فروضِ الكفاياتِ كالجهاد، ثم يجوزُ الاتكالُ ممَّن له آلةُ الجهادِ وتكاملت فيه شروطُه لقيامِ آخرين به، كذلكَ في الاجتهادِ. فصل في شبهات أصحاب أبي حنيفة فمنها: قصَّةُ الشُّورى، وأنَّ عبدَ الرحمن دعا علياً إلى تقليدِ أبي بكرٍ وعمرَ رضى الله عنهما. ومنها: أنَّ اجتهادَ الأعلمِ له مزيةٌ بكثرةِ علمِه، وحُسنِ معرفتِه بطريقِ الاجتهادِ، واجتهادُ مَنْ دونَه له مزيَّةٌ من وجهٍ آخر؛ وهو أنه على ثقةٍ وإحاطةٍ من جهةِ الدَّليلِ وما يقتضي الحكمَ، وليسَ على ثقةٍ من اجتهادِ الأعلم، فتساويا، فيخيَّر بينهما.

- فصل في الأجوبة عن شبهاتهم

فصل في الأجوبة عن شبهاتهم أمَّا قولُه سبحانَه: {فاسآلوا أهلَ الذِّكْر} فإنما انصرفَ إلى العامَّةِ؛ يشهد لذلك شيئانِ: أحدهما: أنَّه أمرَ بالسّؤال، والعالِمُ لايجبُ عليه السُّؤالُ، بل له العملُ باجتهادِه والفتيا (1 التي أفتى بها، والذي يجب عليه السؤال هو العامي. الثاني: أنه أَمرَ بسؤال أهل الذكر، وهذا يقتضي أن يكون الخاطب بالسؤال غير أهل الذكر، فيجب أن تكون الآية خاصةً في العامّة، فلم يكن فيها حُجة 1). وأمَّا قولُ عبدِ الرَّحمنِ لعلي وعثمانَ: في سنة الشَّيخين، فإنما قصدَ بذلك في حراسةِ الأمَّةِ، وسياسةِ الرَّعيَّةِ، وكفِّ النُفوسِ عن مالِ السلمين، والزَّهادةِ والقنوع باليسيرِ، والتحنُّنِ على الرَّعيةِ، والإشفاقِ، فأبى عليٌّ ذلكَ لعلمه بأنه لا يمكنُ ذلكَ لأمورٍ تجدَّدت، وشروطٍ عُدِمت، ودخلَ عثمانُ على ذلكَ وما أطاق. والذي يدلُّ على أنَّ المرادَ به ذلك، أنَّ اتباعَهما في المجتهَداتِ وأحكامِ الحوادثِ، لايمكنُ، لاختلافِهما في أحكامٍ كثيرةٍ، فهذا كانَ يرى التسويةَ في العطاءِ، وهذا بعده كان يرى المفاضلةَ في العطاءِ، ومختلفان لا يمكن اتباعُهما. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل واستدرك من "التبصرة" 406.

على أنَّ ظاهرَ اللفظِ يقتضي أن تكونَ سنّتُهما العملَ بالنُّصوصِ والطواهِر، والاجتهادَ فيما لانصَّ فيه ولاظاهرَ من كتابٍ ولا سنة. وأمَّا قولُ عمر في الجدِّ: "اتبعوني" فإنّما أرادَ اتباعَه في الدَّليلِ، كما يدعو بعضنا بعضاً إلى ما نعتقده من المذهبِ والدليلِ، دونَ التَّقليد، ولأنَّ عليّاً خالفهم فِى ذلك، لأنه قال: أجتهدُ رأي جُهدي وطاقتي. وأمَّا قولهم: يسوغُ فيه الاجتهادُ فأشبهَ تقليدَ العامي، فلا (¬1) يصحُّ؛ لأنَّ العاميَّ لاطريقَ له إلى إصابةِ حكمِ الحادثةِ؛ لأنه ليس معه آلةُ الاجتهادِ الموصلِ إليه، فلذلكَ كان فرضُهُ التقليدَ، ولهذا يجبُ عليه السُّؤالُ، ولا يجبُ على العالِمِ السُّؤالُ، بل له الاجتهادُ، والعاميُّ لايصحُّ تقليدُ غيرِه له بخلافِ العالم، فلو كان العالمُ مثلَه لوجبَ عليه التقليدُ. وأمَّا تعلُّقهم بترك اجتهادِه وتعويلِه على العملِ بما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك في مسألتنا، فبعيدٌ؛ لأنَّه (2 لو كان. ممنزلة ما سمعه من النبي- صلى الله عليه وسلم - لوجب أن لا يجوز له تركه بالاجتهاد، كما لا يجوز له ترك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنَّ 2) قولَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حجةٌ مقطوعٌ بصحَّتِها؛ لأنه إنْ كانَ عن (¬3) وحي فهو مقطوعٌ بصحَّتِه، وإن كان عن اجتهادِه، فاجتهادُه معصومٌ، لأنَّه لايُقرّ على الخطأ، بخلافِ ما يقضي به العالمُ، فإنَّه غيرُ مقطوع ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا". (2 - 2) طُمس في الأصل واستدرك من "التبصرة" 409. (¬3) في الأصل: "غير"، انظر "التبصرة" 409.

بصحَّتِه، فلم يجُز للعالِم تركُ اجتهادِه الذي يثقُ إليه والرجوعُ إلى مَنْ يجوزُ عليه الخطأ، ولايثقُ إلى إصابتِه الحقَّ في اجتهادِه. وأمَّا قولُهم: إذا جازَ تقليدُ الأمَّة جازَ تقليدُ الواحدِ. فهذا بعيد جداً؛ لأنَّ الأمَّةَ معصومة لاتجتمعُ على خطأ ولاضلالةٍ، بدلائلَ قد سبقت فِى بابِ الإجماع، ولهذا يجبُ تقليدُ الأمَّةِ، ولايجوزُ العملُ باجتهادِه مع إجماع الأمَّةِ، والواحدُ من العلماءِ يجوزُ عليه الخطأ، ويجوزُ الاجتهادُ في حكمِ الحادثةِ، والعدولُ عن حكمِه. وأمَّا قولُهم: لمًا جازَ الرُّجوعُ إلى خبرِ الواحدِ مع تجويز الخطأ، كذلكَ جازَ الرُّجوعُ إلى العالِم مع تجويزِ الخطأ. فغيرُ لازم؛ لأنَّ خبرَ الواحدِ إذا ظهرَ من غيرِ نكيرٍ، فهو بمنزلةِ قولِ الواحدِ من الصَّحابةِ إذا انتشر من غير خلافٍ عند قوم، وهو عندنا حجةٌ لايجوزُ الاجتهادُ معها، وأعنا على أنَّ الاجتهادَ من العالمِ مع وجودِ عالمٍ يجوزُ، فبانَ الفرقُ بينهما. فوِزان ما ذُكرَ من الخبرِ. بمسألتِنا، أن يتعارضَ خبران، فلا يكونُ أحدُهما أولى من الآخرِ فِى المصيرِ إليه والعملِ به. ولأنا لو أوجبنا عليه البحثَ عن الرُّواةِ وجهةِ سماعِهِ حتى يساويَ الراويَ فِى طريقِه، لأدَّى إلى المشقةِ العظيمةِ، وربما تعذرَ ذلك عليه بتعذر الطريقِ بينَه وبينَ الرَّاوي عنه أو موتِه، فسقط عنه ذلك، كما (1 سقط عن العاميِّ الاجتهادُ، وليس كذلك ها هنا، فإنَّ العالمَ لامشقَّة عليه في إدراك الحادثة باجتهاده، والنظر فيها كما نظر المقلد، فلزمه الاجتهاد والنظر.

- فصل شبهات أصحاب أبي حنيفة والرد عليها

وأما قولهم: الاجتهاد فرض من فروض الكفايات، كالجهاد ثم يجوز في الجهاد أن يتكل البعض على البعض، إذا حصلت الكفاية، فكذلك في الاجتهاد. قلنا: لانسلِّم أنَّ مع الاختلاف 1) كفاية، وإنّما الكفايةُ مع الاتفاقِ، فوزانُه من الجهاد أن يضعف القيِّمُ منهم بأمرِ الحرب، فلا يجوزُ للباقين الاتكالُ عليه، بل يلزمُهم مساعدتُه وتقويته على الجهاد. فصل وأمَّا شبهاتُ أصحابِ أبي حنيفةَ: فمنها: أنْ قالوا: إنَّ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الشُّورى دَعَوْا علياً إلى تقليدِ أبي بكرٍ وعمرَ، ودعَوا عثمانَ إلى ذلك، وكان الداعي لهما عبدَ الرحمن، بمحضَر من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تكاثرِهم، وما كانت إجابةُ عثمان إلا لكونِه دونَهما في العلمِ. ومنها: أنَّ الأعلمَ أقوى اجتهاداً في استخراخ حكمِ الحادثةِ، لشدَّةِ معرفتِه بطرقِ الاجتهاد، ومَنْ دونَه أضعفُ في ذلك القام، وهو على يقينٍ من ظنِّه وإفراغ وُسعِه في استخراج الحكمِ، فتوازيا وتساويا، فكانَ مخيَّراً بينَ العملِ باجتهادِه، أو تقليدِ الأعلمِ لأجلِ التَّساوي. فأمَّا الجوابُ عن الأوَّلِ، فقد سبقَ من الوجوهِ التي قدَّمناها، وأنَّ القومَ لم يدعوا [إلا] إلى التقليدِ في (¬2) السياسةِ، والتوفيرِ على النظرِ، والزهدِ ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، وأستدرك من "التبصرة" 410. (¬2) في الأصل: "إلى".

* فصل لا يجوز التقليد للعالم وإن ضاق الوقت

والتبتلِ بحقوقِ الرعايا، وشدةِ الإشفاق، فأمّا الاجتهادُ فى الأحكامِ فلا، بدليل ما قدّمنا. وأمّا الثاني وتعلقُهم بالمزيةِ وموازنتُها. ممزيةٍ مثلها، فباطلٌ. بمن تَقدمت صحبتُه، وكثُرت مخالطتُه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه لايُجعَلُ ذلكَ مؤثراً في جوازِ تقليدِ من دونَه فى ذلك المقام في الأحكام. وكذلك الحال من أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مع المجتهد من التابعين لايُجعَل (¬1) .................................... ، .................... (2 فصل لايجوز التقليد للعالم، وإن ضاق الوقت. فصل في دلائلنا فمنها: ما تقدم من قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأن المراد به كتاب الله وسنة رسوله، وكما منعناه من التقليد 2) مع سَعَتِه، فلا يجوزُ له التقليدُ مع ضِيقِه، كالقادر على النظرِ والاستدلالِ في مسائلِ الأصول. ومنها: أنَّ من شرطِ الفُتْيا والعملِ بالحكمِ الاجتهادَ في طلبِ الدليلِ، ¬

_ (¬1) بعدها طمس في الأصل. ممقدار أربعة أسطر، وانظر "التبصرة" 410 - 411. (2 - 2) طمس في الأصل، وانظر "التبصرة" 412، و "العدة" 4/ 1237.

- فصل في شبه المخالفين

وما كان شرطاً لايجوزُ إسقاطُه لضيقِ الوقتِ، كالسُّؤالِ والاستفتاءِ في حقِّ العاميّ، لما كان سؤالُه للعالِم شرطاً لم يَجُزْ تركُه لضيقِ الوقت، كذلكَ الاجتهادُ في حقِّ العالم. يوضِّحُ هذا: أنَّ شروطَ العباداتِ، كالطَّهارةِ للصَّلاةِ، واستقبالِ القِبْلة، الذي هو شبيهٌ بمسألتِنا، فإنَّه يحتاجُ إلى اجتهادٍ لايجوزُ تركُه، واستقبال أيِّ جهةٍ شاءَ، لضيقِ الوقتِ، كذلكَ الاجتهادُ لطلبِ حكمِ الحادثةِ. فصل في شبههم فمنها: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهذا عامٌّ في كلِّ حالٍ إلا ما خصَّه الدليلُ. ومنها: أنه مضطرّ إلى السُّؤالِ من جهةِ خوفِ الفَوَاتِ، والاضطرارُ يجيزُ التقليدَ، كالجهلِ في حقِّ العاميِّ لما كانَ مضطراً جازَ له التَّقليدُ، كذلك الخائفُ لفوتِ الوقتِ. ومنها: أنَّه لا يَتَوصّلُ إلى معرفةِ حكمِ النَّازلةِ، فجازَ له التًقليدُ كالعاميَّ. ومنها: أنَّ العالمَ يجوزُ له تقليدُ الصَّحابيِّ لمزيَّةِ الصَّحابيّ، كذلكَ ها هنا يجبُ أن يجوزَ لحاجة العالمِ، وخوفِ فوتِ تحصيلِ الحكمِ لضيقِ الوقت.

- فصل في الأجوبة عنها

فصل في الأجوبة عنها فأمَّا الآيةُ، فإنها متناولةٌ لمن ليسَ من أهل العلم وهو العامي، إذ لا يجوزُ أن يكونَ معناها: يا أهلَ (1 العِلْمِ اسألوا أهل العلم، وإن أهلٍ الشيء مَن هو مُتأهلٌ لذلك الشيء، لا مَن حصل له ذلك الشىء1) ولأنه قال: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 44]، والعالِمُ يعلمُ بالبيناتِ والزبرِ. وأمّا قولُهم: لا يتوصلُ إلى معرفةِ الحكم، فلا (¬2) نسلِّم، بل قدرتُه على الاجتهادِ قدرةٌ على التوصُّلِ إلى تحصيل الحكمِ. وأمَّا دعواهم أنَّه مضطرٌّ إلى التقليدِ، فغيرُ صحيح؛ لأنه إذا نظرَ وصدقَ الاجتهادَ، هَجَمَ به على الحكمِ، فلا ضرورةَ إلى (¬3) ما تشيرُ إليه من ضيقِ الوقتِ، والوقتُ ظرفٌ، والاجتهادُ شرطٌ، فلا يسقطُ الشَّرطُ لضيقِ الظرفِ، كسائرِ العباداتِ المؤقتةِ، لا يجوزُ تركُ شروطِها لخوفِ فواتِها، ولأَن يُجعلَ الإشكالُ في الدليلِ عذراً مبيحاً للتأخيرِ، أَوُلى من أن يجعلَ عذراً لإسقاطِ الاجتهادِ والرُّجوع إلى التقليدِ، لأنَّ التأخيرَ لتحصيلِ الشَّرطِ تأخيرٌ لمقصودٍ هو قادرٌ على تحصيله، فهو كالتاخيرِ لتحصيلِ الوقوع على القِبلةِ، ورفع الحدثِ باستعمالِ الماءِ، وغسلِ السترةِ النجسةِ. ¬

_ (1 - 1) طمس من الأصل، وقدرناه من "الإحكام" للآمدي 4/ 207. (¬2) في الأصل: "لا". (¬3) في الأصل: "إلا".

*فصل لا يتخير العامي بين المفتين بل يجتهد أيهم أدين وأورع

وأمّا التقليدُ للصَّحابي، فلا نسلِّمه على روايةٍ، بل لا يجوزُ لمجتهدٍ أن يقلِّدَ صحابياً، ولأنَّ مَنْ جعلَه حجَّةً جعلَه كالخبرِ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدَّمه على اجتهادِه بحكمِ تراتيب الأدلَّةِ، فأمَّا الوقتُ فلم يثبت أنه مقدَّمٌ على الاجتهاد. وأمّا قياسُهم في جميع هذه الأدلَّةِ على العاميِّ، فغيرُ صحيح؛ لأنَّ العاميَّ متعطِّلٌ عن الاستدلالِ والاجتهاد، فلم يبق له طريقٌ إلاَّ التقليدُ، والعالمُ غيرُ متعطِّلٍ بذلك جوازُ العمل باجتهادِه في حقِّ نفسِه وفي تقليدِ العاميِّ له. فصل لا يتخيَّر العامِّي بين المُفتِين (1 فيقلد من شاءَ منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين الأدين والأورع، ومَن يُشارُ إليه أنه الأعلم، ذكره أحمد، وهو قول 1) ابن سُرَيج والقفال من أصحاب الشافعي، وجماعة من الفقهاء والأصوليين. فصل في أدلتنا فمنها: (2 ......... 2) للحكم بخبره، والاجتهادُ في الأرجع منه، كالدَّليلِ في ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، وانظر "المسودة" 462، و"الإحكام" للآمدي 4/ 237. (2 - 2) طمس في الأصل. بمقدار خمس كلمات.

- فصل في أدلتنا

حقِّ المجتهدِ، ولاشكَّ أنَّ النفسَ إلى الأعلمِ والأورع أسكنُ، وبه أوثقُ، وما هو إلا كتخيُّر الدليلِ الأدل على الحكم في حقِّ العالمِ المجتهد. ومنها: أنَّ طريق هذه الأحكامِ الطنُّ، والطنُّ في تقليدِ الأَعلَم والأَدْيَنِ أقوى، فوجب أن يكونَ المصيرُ إليه أَوْلَى. فإن قيل: لو كانَ هذا واجباً، لوجبَ أن يتعلمَ الفقهَ ليكونَ مجتهداً في الحكمِ، فإنَّ ألاجتهادَ أقوى، قيل: إذا سُمْنَاهُ تَعلّمَ الفقهِ كان على النّاسِ غاية المشقةِ ووقفت المعايشُ، فأمَّا إذا سُمْناه تَخيّرَ العالمِ الذي يقلده، فلا مشقةَ عليه. فصل في شبههِم فمنها: قولُه تعالى: {فاسألوا أهلَ الذِّكرِ إنْ كنتم لاتعلمون} [النحل: 43]، ولم يفصِّل بينَ الأعلمِ والأورع وغيره. ومنها: أنَّ مَنْ كان له أن يقلّدَه إذا كان منفرداً عن غيرِه، جازَ له تقليدُه وإن من معه غيرُه، كالمساوي في الطبقةِ في العلمِ والورع. ومنها: أننا إنَّما جوَّزنا للعاميِّ التقليدَ، لما في تكليفِ التعلمِ للفقهِ على الأعيانِ من المشفةِ، وهذا موجود في تكليفِ العاميِّ الاجتهادَ في أعيان المُفتِين، لأنه لايمكنُه الترجيحُ له إلاَ بعدَ الخبرةِ بما يرجَّحُ فيه، ومن لا معرفةَ

- فصل في الأجوبة عنها

له بالعلمِ أصلاً، كيف يعرفُ طبقاتِ أَهْلِهِ والفاضلَ فيه من المفضول؟! فصل في الأجوبةِ عنها فمنها: أنَّ الآيةَ أفادت أصلَ السُّؤالِ، وما ذكرناه من الأدلَّةِ أفادَ اختيارَ المسؤولِ، فلا حجة لهم فيها (1 ...................... وأما دعواهم أن الاجتهاد في أعيان المفتين فيه مشقة على العامي، فلا نوجبه، كما لم نوجب عليه الاجتهاد في مسائل العلم. فنقول: نحن لم نوجب عليه الاجتهاد هناك 1) لأنَّه يحتاجُ إلى أدواتٍ لا تتحصَّلُ إلا على طِوال الأوقاتِ، واستيعابِ الأعمار، بخلافِ ترجيح ما بين رجلينِ، فهو بترجيح ما بين خبرين أشبهُ، وذلك أنَّه إذا شاعَ في النَّاسِ: أنَّ فلاناً أعلمُ وأورعُ، ووَجَدَ أهلَ الصِّناعةِ يقدِّمونَه ويعظمونه، علمَ بذلك أنَّه أرجحُ، وكفى بذلك طريقاً للمعرفةِ بالأرجح والأورع. فصل في الأفعال والأقوال قبل ورود الشَّرع ما حكمها؟ فالذي يقتضيه أصلُ صاحبنا: أنَّ مالم يَرِدْ السَّمعُ فيه بحظرٍ ولا إباحةٍ، لايوصف بحظر ولا إباحة، إذ ليسَ قبلَ ورودِ الشَّرع على أصلِه محسِّنٌ ولا مقبِّحٌ، والعقلُ عندَه غيرُ مبيح ولاحاظرٍ، ويحسِّنُ ولا يقبح. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل.

والأليقُ بمذهبِه أن يقالَ: لانعلمُ ما الحكمُ. وقد أخذَ شيخُنا -رحمهُ الله تعالى- من كلامِه في مسائِل الفروع روايتين: إحداهما: الحظر، والثانية: الإباحة (¬1). وهذا إنَّما يصحُّ مع القولِ بنفي تحسينِ العقلِ وتقبيحِه، وإباحتِه وحظرِه، [و] أنَّ السَّمعَ لما وَرَدَ بحظرِ أفعالٍ في أعيان، وإباحةِ أفعالٍ في أعيان، وبانَ لنا بأنَّ لهذه الأعيان مالكاً بدليلِ العقل، وأنه أباحَ ما أباحَ، وحظرَ ما حظرَ: إمّا لمصلحةٍ أوَ نفى مفسدةٍ، أو لتحكّمٍ ومطلقِ إرادةٍ ابتلاءً وامتحاناً، رجعنا إلى مقتضى الشَّرع فيما سكتَ عنه من إباحةٍ أو حظرٍ حسب ما نذكره من الأدةِ المستنبطةِ من السَّمع، أو ما ثبتَ بدليلِ العقل، فهذا معناه مع تعطيلِ العملِ عن إباحةٍ أو حظرٍ، واختلفَ العلماءُ في هذا على مذاهب، فذهب المعتزلةُ البغداديون والاماميَّةُ وابن أبي هريرة (2 من أصحاب الشَّافعي إلى أيها على الحظر. وقال البصريون من المعتزلة الجبَّائي وابنه: إنها على الإباحة، وبه قال أصحاب أبي حنيفة فيما حكاه السرخسيُّ 2). وذهب إلى "القول بالإباحة أيضاً جماعةٌ من أصحاب الشَّافعي كابن (¬3) ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1238 - 1239. (2 - 2) طمس في الأصل، وانظر "العدة" 4/ 1240، و"التبصرة" 532 - 533. (¬3) في الأصل: "وابن".

سُريج والمرُّودي (¬1) وهو قولُ أهلِ الظَّاهرِ، واختاره أبو الحسنِ التميمي من أصحابِنا. وذهبت الأشعريةُ إلى أنَّها على الوقفِ، ولا يقالُ فيها بإباحةٍ ولا حظرٍ إلى أن يَرِدَ السَّمعُ بأحدِهما. وهو قولُ بعضِ أصحابنا، وهو أيضاً مذهبُ جماعةٍ من أصحابِ الشَّافعيِّ: الصَّيرفيِّ وأبي علي الطَّبري. والقائلُ بالوقفِ إلى القائلِ بالحظرِ أقربُ منه إلى القائل بالإباحةِ؛ لأنه يحتجُّ عن الفتوى بالإقدام كما يحتجُّ الحاظر، والمبيحُ يفتي بالتناول. وقد صوَّرَ قوم هذه المسألةَ في شخصٍ ولِدَ في جزيرةِ البحرِ، أو منقطع من الأرضِ لم يصل إليه السَّمعُ بإباحةٍ ولا حظرٍ، وظَفِرَ بأعيان تمتدُّ يدُه إليها بالتناولِ لحاجاتِه، كفواكه وحشائش: هل يُباحُ له تناولُهًا أو يَحرمُ عليه؟ والذي نحقِّقُهُ من المذهبِ أنَّ الحظرَ هو المنعُ، ولامانعَ عند جماعةِ العلماءِ إلاّ عقل أو سمع، فالفعل الممنوعُ منه في العقلِ ما كانَ فاعلُه مُسيئاً مستحقاً للذَّم، والمنعُ السَّمعي ما استحقَّ عليه الإثم والعقوبةَ. فإذا كانَ مذهبُ صاحبِنا أنَّ العقلَ لايوجبُ ولا يحظُرُ، وأنَّ عبَّادَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المروزي" بالزاي، والمروُّذي نسبة إلى مَرْو الرُّوذ، وهو القاضي أبو حامد أحمد بن بشر بن عامر، صاحب "الجامع" في المذهب، وألف شرحاً لمختصر المزنى، وألف في الأصول. توفي سنة اثنتين وستين وثلاث مئة. انظر "سير أعلام النبلاء" 16/ 166 - 167، و"طبقات الشافعية الكبرى" 3/ 12.

الأوثانِ والأصنامِ لايعاقبونَ على شيءٍ مما اعتقدوه، ولا على شيّء من الأفعالِ، وأن لاعذابَ ولا عقوبةَ قبل السَّمع، فلا وجهَ للقولِ بإباحةٍ قبلَ السَّمع ولا حظرٍ، فهذا أصل لاينبغي أن يُغفَلَ لأنه من أصولِ الدينِ، فلا يسقط حكمُه بمذهبِ أصولِ الفقه، فلا يبقى لكلام الرَّجلِ في مسائلِ الفروع بحظرٍ أو إباحةِ حكمٌ يخالفُ أصله في أصول الديانات، وإذا ساغَ لشيخنا -رضى الله عنه- أن يأخذ له أصلاً هو حظرٌ أو إباحةٌ من نهيه تارة فيما لم يرد فيه سمع كقطع السدر، وتارة في إباحة كتجويزه قطع النخل، فلِمَ لا يأخذ من كلامه الذي لا يُحصَى: لا أدري ما هذا، ما سمعت فيه شيئاً، أنا أجبن عن أن أقول بكذا، فيؤخذ منه أحد مذهبين: إمَّا الوقف أو الامساك عن الفتوى رأساً. وأن يقال فيما لم يرد فيه سمع: لا مذهب له إلا (¬1) الإمساك، فافهم هذا الأصل، فإنه يستمرُّ على قولِه في المتشابه من الآياتِ وظواهرِ الأخبار، وأنها لا تُفسَّرُ ولا تُؤَوَّل، فلا وجهَ للقطع بالقولِ بالإباحةِ أو الحظرِ مع عدمِ السَّمع وعدم قضيَّة العقل. ¬

_ (¬1) طمس في الأصل، واستدرك من "المسوَّدة" 482 - 483 نقلاً عن ابن عقيل.

- فصل في الدلائل على نفي القول بالإباحة والحظر

فصل في الدلائل على نفي القولِ بالإباحةِ والحظرِ فمنها: أنَّ الإباحةَ إطلاق، والحظرَ منعٌ، وهو من بابِ الأفعالِ التي لاتقع إلاَّ من فاعلٍ، فلابدَّ للمنع من مانعٍ، ولابدَّ للإطلاقِ من مطلِقٍ، وذلكَ الحاظرُ والمبيحُ، [و] المانع [و] المطلق، ليسَ يعدو أحدَ سببين: جمعٌ من قِبَل الله تعالى، أو عقل، فإذا كانت العقولُ عاطلةً عن قضيتي الحظرِ والإباحةِ، وكان السَّمعُ لايَرِدُ، فلا وجهَ للقولِ بواحدٍ من الحكمينِ مع عدمِ الدلالتينِ والطريقين، إذ لا مذهبَ بغير طريقٍ، فلا جوابَ لهذه المسألةِ على التحقيقِ إلا قول المسؤول (¬1): لا أعلم ما كان الحكمُ قبل الشرع، إذ لاطريقَ لي إلى العلمِ بالحكمِ. ومنها: أنَّ هذه الأعيانَ قد بانَ بدلائلِ العقول أيها ملك للصَّانع القديمِ الذي ثبتَ وجودُه سبحانه وإيجاده للأعيان، وليس للعقل تحكم ولا حكم على ملكه سبحانه، والسَّمعُ بإذنِه في تناولِها والانتفاع بها لم يرد، فلا وجهَ لإباحتِها، فبطلَ بهذه الدلالةِ مذهبُ الإباحةِ. ومنها: أنَّ المنعَ والحظرَ بطريقِ العقلِ لو كان ثابتاً، لما جازَ أن يَرِدَ السَّمعُ بإباحتِها؛ لاتفاقِ العلماءِ على أنه لايجوزُ أن يردَ السَّمع إلا بمجوَّزاتِ العقولِ، فأمَّا ورودُه. بما يخالفُها فلا، وفي هذِه الدلالةِ ما يبطلُ به ¬

_ (¬1) في الأصل: "الأقوال للسؤال".

القولُ بإباحتِها، لأنها لوكانت الإباحة بالعقل (1 ......... 1) على القول بالحظرِ أو الإباحةِ، التناولُ لها والانتفاعُ بها متقابلين تقابلاً لايظهرُ فيه ترجيح لبعضِ الأقوال على بعض، ولا يبقى سوى الاحجامِ عنها والكف والإمساك عن الفتيا فيها، وهو (¬2) الوقفُ حينِ الكشفِ بطريقِ السَّمع. والدلالةُ على تقابلِ الأدلةِ: أنَّ القائلَ بالحظرِ إنْ تعلقَ بأنَّ هذه الأعيانَ ملك لله سبحانه، وما أذنَ في تناولها والانتفاع بها، فهي كأملاك الآدميين، قابَلَه أنها وإن كانت ملكَه، فنحنُ مماليكُه وعبيده، [و] في تركِ الانتفاع إتلاف لنا، ونَزيدُ عليها بالحرمةِ، وإذا تقابلَ الأمرُ بين إتلافِها وتلفِنا بتركِ تناولِها، كان تلفُها مع حفظِ نفوسِنا أَوْلَى. وقابلَ ذلك أيضاً أنَّ أملاكَ الآدميين وَرَدَ السَّمعُ بحظرِها، وها هنا لم يَرِدْ بحظرها، فالتعويلُ في تحريمِ أموالِ الآدميينِ على الحظرِ السَّمعي، دون كونِها ملكاً لهم. يبيِّن صحَّةَ هذا، وأنَّ المنعَ ليسَ لأجلِهم ولا لعدمِ إذنِهم بل للسَّمع: أنَّ الشَّرع لما أذنَ في أكلِ طعامِ الغيرِ عند الضَّرورةِ، واتقاء البرد ببنيانه، وإشعال حطبه، خوفاً على نفسِ غيرِ المالِك؛ أبيحَ مع ملكَه وعدم إذنِه، لإذنِ الشَّرع، وكذلك أبيحَ الاستظلالُ بظلِّ جداره، والاستضاءةُ بضوءِ نارِه بغيرِ رضاه، لما أذنَ فيه الشَّرع وإِنْ سَخِطَ. ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر. (¬2) في الأصل: "سوى".

ويقابلُه أيضاً أنَّ الآدميَّ يستضرُّ بالانتفاع بأملاكِه لحاجته إليها، ومشاركته لغير المالك في الحاجة، وانفراده بالتخصيص بالملك، فالله سبحانَه لاضررَ عليه في تناوُلِها، ولأنه لا حاجةَ به إليها، ولانفعَ يلحقه بها، لاستحالةِ إلحاق الضَّرر والنفع به (1 ........... 1) لاضرر بتناولها، ولا نفعَ ببقائِها وإحجامنا عن الانتفاع بها، لامتناع ذاتِه سبحانه بغنائها واستحالة الحاجة عليها، وإنما خلقها لنا بحسبِ دواعينا إليها وحاجاتِنا، فصارت في القياسِ إلينا كظلِّ الجدارِ وضوءِ النَّارِ. ولأنَّ الحكيم لايفعلُ شيئاً إلاَّ لغرضٍ ووجهٍ من الحكمةِ يقتضي فعلَه وخلقَه، والتقسيمُ يوجبُ أن يكونَ خَلَقها لنا ولانتفاعِنا بها، لأنه لا يخلو أن يكونَ خلقَها ليَنتَفعَ بها، وذلكَ محال، أو ليضرَّ بها غيرَه، وذلك لا يليقُ بالحكيم، فلم يبقَ إلا أنّه خلقَها لنفعِنا، وهذا يكفي في الحكمِ بإباحتِها. فتقابل من ذلك أشياءُ نُبطِلُها، منها: أنَّهم قد أخلّوا ولم يستوفوا؛ فإنَّ من الأقسامِ ماهو مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ: وهو أنَّ أفعالَ البارئ لا تُعللُ ولايضافُ إليه غَرَضٌ، وهذا يرد أصلَ تعليلِهم. وأخلّوا في التقسيم مع ثبوتِ غرضٍ أو تعليلٍ قِسماً لم يذكروه: وهو أن يكونَ خلقَها ابتلاءً لنا. والذي يوضِّحُ هذا وبطلانَ قولِهم: أنه لو كان ما ذكروه مانعاً من ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر

- فصل في أسئلة المخالفين على ما ذكرناه وما سنح لنا من الاعتراض

حظرها، لما جاز أن يرد السمع بحظرها، لما ذكروه، وأنه لا ينتفع بها ولا يستضر بانتفاعنا بها، وأنه خلقها لنا، فكان يجب ألا يرد سمعٌ بالمنع لهذه التعاليل التي ذكروها، فإذا جاز ان يردها حظرها مع جميع ذلك، بطل القول بإباحتها قبل ذلك. على أنه لأهل الحظر ان يقولوا: أن لم يكن مالكها منتفعاً بها، ولا مستضراً بتناولها، فقد تكون (1 في نفسها توجب لنا 1) بتناولها مفسدة (¬2) ............. للمتناول بصلاحه فيما يتناوله، وعدم كونه مضراً به مفسدة له، ونحن مع الاعيان قبل ورود السمع، كالجاهل بخواصَّ تلك العقاقير المجوَّز حصول الضرر فى تناول بعضه مع عدم العلم به. وإذا لم يكن دليل أحد هذين المذهبين مترجحاً على الآخر لما ذكرنا، لم يبق الا الوقف الى أن يرد السمعُ بالكشف لحكمِ الله سبحانه فيها، أو بترجح دليل احدهما بما يوجب العمل به، وإسقاط المذهبِ الذى يخالفُه فصل فيما وجهوه على ما ذكرنا وما سنح لنا من الاعتراض فمن ذلك قولهم: إذا كان ما قررتم من تعذر الادلة مانعاً لكم من القول بالإباحه والحظر، فهلا منعكم عن القول بالوقف. وكما أنَّ العقل ¬

_ (1 - 1) طمس فى الأصل. (¬2) بعدها طمس فى الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.

لو منعَ وحظرَ، أو أباحَ وأطلقَ، لم يجز أن يردَ الشَّرعُ بخلافِه، كذلك إذا حكمَ بالحظرِ لايجوزُ أن يردَ الشَّرعُ بما يخالفُ قضيته من الحظرِ بالوقفِ، ولاقضيَّتَه بالاباحةِ إلى الوقف، فقد لزمكم من استدلالكم ما ألزمتمونا. ومن ذلك: أن نسألكم عن أفعال وأقوالٍ مخصوصةٍ فعلها فاعل، وقالها قائلٌ قبل ورودِ السَّمع، وهي أنَّ عاقلا بالغاً نظرَ واستدلَّ فعرفَ بنظرِه واستدلالِه حدوثَ (¬1) العالَمِ، ووجودَ الصّانع، وأنَّه المنعمُ بالإيجادِ، وأنه الواحدُ، فهل يكون قولُه بالتثنيةِ والتثليثِ، أو بِقِدَمِ العالَم، أو سجودُه لصنم وصرفُ الشكر الصادرِ عنه إلى غير الواحد القديم الذي حكم بوحدته وإنعامه (2 ............................ 2) على ما قدمت. وإن قلتَ بالإباحةِ، كان أكبرَ من ذلك لما في ذلك من كفرِ النعمِ، وصرفِ الشكرِ إلى غيرِه، ولمناقضة ما قدمت من أنْ لاطريقَ لكَ إلاً السَّمعُ، ولا سمع. فيقال: إنَّ فرضَ السائلِ الداخلةِ تحتَ ما قرَّرنا من الأصلِ، تفريعٌ لما قد استقرَّ الخلافُ فيه، وعُلمَ من جملتِه مالا يَحسُنُ استدعاءُ الكلامِ في تفصيله، ونحن إذا قلنا بإبطالِ قضايا العقولِ في التحسينِ والتقبيح، والإباحة والحظرِ، لم نحكم في قولٍ ولا فعلٍ بحكمٍ، بل نكونُ منتظرين لما يَرِدُ به السَّمعُ، والشرع يأتي بالعجائب، ودلائلُ الإعجازِ الدَّالةُ على ¬

_ (¬1) في الأصل: "حدث". (2 - 2) طَمسٌ في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.

صدقِ الرُّسل -صلوات الله عليهم- توجبُ الإذعانَ لتحسينِ ما حسَّنه الشَّرعُ، وممَّا جاءَ به الشرعُ ممّا لم يكن يتهدَّى إليه عقل أنْ أباحَ كلمةَ الكفرِ به سبحانَه، وهو المنعمُ الأوَّلُ، لتوقية النفسِ عند الإكراه، وأوجبَ الثباتَ للموتِ في صفِّ المشركين بذلاً لها، لإعلاءِ كلمةِ التوحيدِ، فتارةً حسَّنها حيث أباحها لدفع المكروه عن النفرِ، وتارةً أسقطَ حكمَ النفوسِ لإعلائها وجعلَ النفوس دونها، وكذلك السُّجودُ للصَّنمِ، فأمَّا مع سلوكِ الوقفِ في هذا الأصلِ، فلا (¬1) احجِمُ عن القول بهِ فيما صوَّرتُم من القولِ والفعلِ المعنيَّين. وأمَّا قولكم: إنه يلزمكَ في الوقفِ إذا جاء الشَّرعُ بإباحةٍ أو حظرٍ ما ألزمتنا من ورودِ السَّمع بعد القولِ بالإباحةِ والحظر، فليس على ما ذكرتم، بل غاية ما يتبيَّنُ بمجيءِ الشَّرع بالإباحةِ أو الحظرِ الكشفُ عن (2 حكم الشَّرع 2) بالدليل الذي كنا ذهبنا إليه في الوقف (¬3)، ........... أو الحظرٍ لم يرد عليه قولُه، بل أرشدَه إلى قولٍ كان عنه واقفاً، ولإرشاده متوقعا. والذي يوضخ هذا: أنَّ الواقِفَ لايسمّى بالمصير إلى الحكم راجعاً، بل يقالُ: إنه مستحِبّ وتابع ومرشد ومبيِّن، ولهذا يحسُنُ أن يقال لمن قال بالحظر: من أين قلت، ولم قلت؟ ولمَنْ قال بالإباحة كذلك. فلا يحسُن ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا". (2 - 2) غير واضحة في الأصل. (¬3) بعدها طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.

* فصل في التحسن والتقبيح

عند العقلاءِ عتبٌ ولألومٌ لمن توقّفَ مع إبهامِ الأمرِ وعدمِ الدليل. والذي يكشفُ ذلك: أنَّه لا يحسنُ عند العقلاءِ عيب المتوقفِ لانتظارِ الدليل، ويحسُنُ عيبُ المقدم بالقولِ أو الفعلِ أو الحكمِ مع عدمِ الدليل، فليسَ القولُ بالإباحةِ والحَظْرِ من القولِ بالوقفِ بسبيل، والله أعلم. فصل رأيتُ لبعضِ المحققين في الأُصولِ كلاماً حسناً في التحسينِ والتقبيح فقال: وقد يشتبه على قوم ما توجِدُهم رقَّة طباعِهم والإشفاق (1منهم على 1) الحيوانِ فيعتقدون كلَّ مؤلم ولاذع قبيحاً، ويتغطّى عليهم وجه الحسنِ والقبح، بمعتقدِهم أنَّ كل منكرٍ في طباعِهم صدرَ عن العقل، وهذا عينُ ما ذهبت إليه (¬2) البَراهمة في تقبيح ذبح الحيوان وإتعابِه في الأغراض المدخِل عليه أنواع الآلام، وبئس المحكَّمُ الطبعُ؛ فكَم ممَّا نهشُّ إليه وهو مُستَقْبح، وكم من موجِعِ وهو مستحسن، لما فيه من المصالح، كما قال سبحانه: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وربَّما دقَّ الفرقُ بينَ إنكارِ الطبع وإنكارِ العقل، ويظهره إقدامُ العاقل على طلب (¬3) ......... وكل حكيمٍ من خلقه قد تؤلم أفعاله وإن لم تكن قبيحةً. ¬

_ (1 - 1) غير واضح في الأضل. (¬2) في الأصل: "من". (¬3) بعدها طمس في الأصل بمقدار أربعة أسطر.

* فصول المسائل النظريات في الكلام في القياس

فصول المسائل النظرياتِ في الكلام في القياس فصل القياسُ والاستدلالُ المستنبطانِ بالعقولِ طريق لاثبات الأحكامِ العقليةِ، نصّ عليه أحمدُ (¬1) حيثُ استدلَّ فيما تكلَّمَ به على نفاةِ الصِّفاتِ، ومن أثبتَ أنَّ الله نورٌ، وأنه في كلِّ مكان، وضربَ المقاييسَ حتى قال: فما بالُ البيتِ المظلمِ مع كونِ اللهِ نوراً وهو في كلِّ مكان؟! وذكرَ أيضاً أنَّ الله محيطٌ بجميع خلقهِ، وليس في شيء من خلقه، وضربَ لذلك مثلاً: رجلاً في يدِه قدح من قارور صافٍ وفيه شيءٌ صافٍ، فإنَّ بصرَه يحيطُ فيه من غيرِ أن يكونَ فيه. وهذا مذهبُ سائرِ الفقهاءِ والأصوليين والمحقِّقين (¬2). وذهب قوم من أصحاب الحديث وأهل الظًاهر إلى أنَّ حججَ العقولِ باطلةٌ، والنظرَ حرامٌ، والطريق إنَّما هو التقليد، أو ما يُعلمُ ضرورةً بطريق الحِسَ. فصل في الدَّلائل على إثباتِ النظرِ طريقاً، وإفسادِ القولِ بالتقليدِ في المعقولاتِ. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1273، و "السؤَدة" 365. (¬2) انظر "التبصرة" 416.

فمنها: أنَّ الله سبحانَه نصبَ أَدلَّةً على الإثباتِ، وحثَ على النَّظرِ فيها والتأمُّلِ لها، والاستدلالِ بها، وقد ذكِرَ ذلكَ في كثير من آي كتابه العزيزِ مثل قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21]، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] إلى قوله: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] (¬1) ........ وإفساد وتطلّب لأسباب ما يَعرِض في العالَم من الأحوالِ وعللِ الأحكامِ، فهذا من داخل ثم نجد من خارج مذاهب مختلفة وأقاويل متكافئة، فلا طريق لنا إلى معرفة الصَّحيح والفاسد، وتخليصِ الحقِّ من الباطلِ، وتمييزِ ما يجب اعتقادُه، أو يجوزُ ممَّا لا يجبُ أو لا يجوزُ إلاَّ النظرُ والاستدلال. ومنها: ما نجده وجميعُ العقلاء في نفوسهم عند دفع المَضارِّ واختلاف النافع، أو ترجيح أحد الطريقين على الآخر، مثل أن يدفعه العطشُ إلى قصدِ ماءٍ فِى مكانٍ بعَينه، فيجدُ في طريقِ الماء أثرَ الأسدِ، فإنَّه لايفزعُ في توقي أَحْفَز الضررينِ بأبطئهما (¬2)، ودفع أَكَدِّهما بأيسرهما، إلا إلى نظره واستدلاله في استخراج الأصوب من ذلك برأيه، أو المشاورة لغيره تقوية لرأيه برأي غيره، وهذا دليلٌ على أنَّ ذلك هو الطريقُ. ¬

_ (¬1) بعدها طمس في الأصل بمقدار أربعة أسطر. (¬2) في الأصل: "بان ابطاهما".

ومنها؛ بيانُ إفسادِ القول بالتقليد: أنَّ التقليدَ إنما هو الرُّجوعُ إلى قولِ الغيرِ، وقد ثبتَ أنَّ الاختلافَ حاصل بين مثبتٍ وناف، وموجب ومسقطٍ، ومحرمٍ ومبيحٍ، فإن قلدَ الكلَّ لم يصحَّ، فإنه لايصحّ أن يكونَ جامعاً بين الإثباتِ والنفي، والإباحةِ والحظرِ. وإن رجعَ إلى قولِ أحدهمِ، فلا وجهَ لتخصيصِ أحدِهم بالتقليدِ له والاتباع مع كون الآخر مساوياً له، فلا بدَّ من نوع ترجيحِ، وذلكَ لا يحصُلُ إلاَّ بالنَّظر الموجِبِ لترجيح قولِ أحدِهما على الآخر، والترجيحُ لايحصلُ في نفسِ من يقلِّده، بل في دليلِه وما أوجب له القولَ بذلك المذهَبِ، وهذا هو النظر الذي ندعوا إليه، ونوقِفُ عِرْفانَ الحقِّ عليه. ومنها (¬1): ....... والمُتنبِّىءُ يدَّعي مثل ما يدَّعي النبيُّ، ولا مفزغَ لنا إلاَّ إلى النًظر المفرِّق بين الصَّادق والكاذب في المعجِز والمخرقة، فبطلَ القولُ بالتقليدِ. ومنها: أن يقالَ: إنَّ مقالتكم هذه إذا دعوتم إليها مَنْ خالفَكم فيها بدليل ونظر، فإن دعاكم إلى مقالتِه فقال: أنا أدعوكم إلى مقالتي، ولستُ في دعائي لكم خارجاً عن معتقدِكم، بل أدعوكم إلى التقليدِ الذي هو طريقٌ لإصابةِ الحقِّ عندكم، ما الذي يكون جوابُكم؟ فلابدَّ من أحدِ أمرين: إمَّا وقوفكم وإيَّاه موقفا واحداً، أو عدولكم إلى بيانِ ما يوجبُ اتباعَه لكم دون اتباعِكم له، ولايحصلُ ذلك إلا بدليلٍ يصدر عن نظرٍ واستدلالٍ. ¬

_ (¬1) بعدها طمس في الأصل بمقدار أربعة أسطر.

- فصل في شبه المخالفين في ذلك

ومنها: أنْ يقال: هل مقالتكم هذه بنَفْي النَظر لاتخلو أن تكون عن ضرورةٍ، فكنا وإيّاكم سواءً في معرفة ذلك كسائرِ الضَّرورات، أو عن نظر، فكيف وقد أبطلتم النَّظر؟ وإن كان تشهّياً وتحكُّماً، فذلك يُسوّي بينكم وبين مخالفكم في القول. فصل في شبههم فمنها: من طريقِ الظواهر: أنَّ الله سبحانه قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فلم يبقَ للرأي والنَّظرِ أثرٌ في الأحكام. وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فلم يبق للرأي والنظرِ أثرٌ في الأحكام. وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا سئلَ عنِ الشَّيءِ توقَّف إلى أن ينزل عليه الوحي، فلو كان النظر طريقاً (¬1) ........... ونهى عن الجدال الذي يسلكه أهلُ النَّظر فقال: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]. ¬

_ (¬1) بعدها طمس فى الأصل بمقدار أربعة أسطر.

- فصل في الأجوبة عن هذه الشبه

وقال النبىَّ - صلى الله عليه وسلم -"مراءٌ في القرآنِ كفرٌ" (¬1) يقوله ثلاثاً. وقال: "إذا ذكِرَ القدرُ فأمسكوا" (¬2). وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -خرج وقومٌ يتجادلون عند حُجْرته وكأنَّ وجهَه يقطر دماً فقال: "يا قوم لاتجادلوا في القرآن، فإنَّما هلكَ الأمم قبلكم بهذا" (¬3). وإذا نهى عن الجدال وهو من أثرِ النظر والبحث، دلَّ على أنَّه ليس بطريقٍ من طرقِ العلمِ، فوجب العدول إلى التقليدِ والتعويلُ عليه. فصل في الأجوبةِ عن هذه الطرق فمنها: أن يقال: قد وردَ في الكتابِ والسُّنة ما يردّ هذا، فمن ذلك: أمرُه سبحانه بالاعتبارِ بقولِه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال سبحانه: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، فأمرَ بالاعتبارِ ومدحَ على التفكرِ للاستبصارِ، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 334. (¬2) أخرجه الطبرانى في الكبير (10448)، وأبو نعيم في الحلية 4/ 108 من حديث ابن مسعود. (¬3) أخرجه أحمد (6801)، ومسلم (2666)، والنسائى في "الكبرى" (8095).

النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الى قوله {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، فهذه الآي وأمثالُها حث على النظرِ، وهو التأمُّلُ فيما ابتدعَ من صنائعه استدلالاً على إثباته والتصديق لما جاءت به رسله ممَّا وعد، وتواعد به من البعث بعد الموت، (1 فلما جاء أحدُهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعظمٍ حائلٍ، ففتَّهُ بيده وقال: يا محمد، أيُحيي الله هذا بعدما أرى؟ قال له: "نعم، يبعث الله هذا ثم يُميتك ثم يُحييك تم يدخلك نار جهنم " (¬2). وقال سبحانه 1): {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78]، وفي قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أتمُّ حجَّةٍ، وأبلغ استدلالٍ (¬3)، لأنَّ مبدأ خلقِهْ الأول ترابٌ، وثانيَه ماءٌ مَهين، فإذا كانَ ابتداءُ خلقِه من نطفةٍ قذرة-، لايسوغُ له استبعادُ إعادتِه من رِمَةٍ نَخِرة. ولما قال الآخر: أتزعم أنَّ الله يُعيدنا من الأرضِ أحياءً؛ قال له: يا أعرابي: أمررتَ بالأرضِ الجُرزِ الميتةِ، وعُدتَ وهي خضراءُ حيَّة تهتزُّ بالنباتِ؛ فقال: نعم، قال: وكذلكَ النّضورُ (¬4). وذلكَ عينُ المعنى الذي ¬

_ (1 - 1) طمس فِى الأصل، وقدرناه بحسب ما بعده. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 429 عن ابن عباس، وانظر "الدر المنثور" 5/ 269. (¬3) في الأصل: "استدلالاً". (¬4) أخرجه أحمد 4/ 11، 12، والبيهقى في "الأسماء والصفات" (1069)، والطيالسى (1089) عن أبي رزين العقيلي.

ضمَّنه الله فِى كتابه، فقال سبحانَه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9] (¬1). ولما قالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5]، {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]، قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]، {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]، وهذا كلُّه حِجاجٌ وأجوبةٌ واقعة. فأمَّا ما تعلقوا به من الآيات، فإنَّ إتمامَ الدّين إنّما كانَ بالنُّصوصِ والظواهرِ، وما تَضمَّنَها من الأمرِ بالنظرِ والتأمُّلِ في دلائلِ العِبَر، وفي استنباطِ المعاني الضمَّنةِ في النطوقِ وتعديتها إلى المسكوتِ، والدليلُ عليه: سلوكُ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -هذه السالكَ بما ظهر منهم عند الحوادثِ من التجاذبِ بكتابِ الله وسنةِ رسوله، وهم أفهمُ بمعانى الكتابِ منا ومنكم، كخلافهم في مسألةِ الجد مع الإخوة، ولفظة الحرام، والخنثى والمعتَق بعضه، والعَوْل، والإكسال والإنزال وغير ذلك. وأما قوله: (1 {تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فإنه لم يُرَدْ به: إلى ذات الله وذاتِ رسوله، وإنما الرادُ: إلى ¬

_ (¬1) خلط المؤلف رحمه الله بين آيتين: ففي [الروم: 24] {..... وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. وفِى [فاطر: 9] {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}.

حكمِ كتاب الله وحكمِ رسولِهِ، وحكمُ 1) الرَّسوِل، يعني سُنَّته، بدليل أنه لايوجدُ الرَّسولُ في كلِّ عصر، وإنَّما الموجودُ سنته، وهذا يعطي الرُّجوعَ إلى ما يوجب في الكتابِ والسُّنَّة، وما ليسَ فيهما فقد صُرِفنا فيه إلى الرَّأي، بدلائلِ الأخبارِ والآثارِ المرويَّةِ في ذلك، ولأنَّ ذلك راجعٌ إلى الأحكامِ الشَّرعيةِ، فأمّا العقليةُ فلها حكمها. وأمّا قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] فإنَّما رجعَ إلى أحكامِ الفقهِ، والأمرُ للعوام، وأهلُ الذِّكرِ: المجتهدون. ولأنَّ السُّؤالَ يعودُ إلى مَنْ ليس معه الآلةُ التي يتوصَّلُ بها، والعقلاءُ كلُّهم في العقلياتِ بمثابةِ المجتهدين في الشَّرعياتِ، لايَسألُ أحدٌ أحداً، ولا يقلِّدُ بعضُهم بعضاً. وأمَّا قولُ النبيِّ عليه الصلاة والسلام: "إذا ذُكِرَ القضاءُ والقدرُ فأمسكوا (¬2) " يعني: عن الاحتجاج بهما على التكليف، مثل قول عمر: ففيمَ العملُ؛ أفنتَّكِل؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"بل اعملوا وسدِّدوا وقاربوا، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلِقَ له" (¬3). ونهيه عن الجدلِ في القرآن إنَّما عادَ إلى طلب المناقضةِ والمقابلة، ولهذا ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل، واستُدرك من "العدة" 4/ 1314. (¬2) تقدم ص 274. (¬3) أخرجه بنحوه البخاري (4949)، ومسلم (2647) من حديث على بن أبي طالب.

- فصل في شبههم من الاستدلال بغير النقل والسمع

قال سبحانه: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] وإنَّما الجدالُ الذي هو الكفرُ جِدال يتضمَّن المناقضةَ والمقابلة. فصل في شبههم من الاستدلال بغير النَّقل والسَّمع فمنها: أنَّ التقليدَ طريق لمعرفةِ الأحَكاَمِ الشرعيةِ، فجازَ أن يكونَ طريقاً لمعرفةِ الأصولِ العقليةِ. ومنها: أنّه لو كان النَّظر طريقاً، لوجب إذا تغيَّر العِلم الذي أثمره أن لايتغير العلم الحاصل عندنا (1 .................... 1) فاسد؛ لأنّه يتضمنُ إثباتَ حكمِ الغائبِ من الشَّاهدِ، وجعلَ الضروري منه أصلاً لما ليس بضروريّ، وانقطاعُ الغائب عن الشَّاهد، والضَّروري عن الاستدلالي يمنع إلحاقَ أحدِهما بالآخر، وأخذَ حكمِ أحدِهما من الآخرِ. ومنها: أنَّ النًظرَ لو كانَ معتَبراً صحيحاً، وطريقاً موصِلاً، لوجبَ أن يتحصَّلَ للكل ويشتركَ فيه جميع العقلاءِ، بدليل المعاييرِ في الكيلِ والوزنِ والذرع والأعداد، فلما لم يَجْتَمِعْ على كونهِ طريقاً ولا معياراً جميعُ العقلاءِ، بَطَل كلُّ مذهبٍ صدرَ عنه، وصار كالحزرِ والتبخيتِ. ومنها: أنَّ القولَ بالنَّظرِ يفضي إلى أنَّ الإنسانَ لاينفكُّ عن فعلِ القبيح واعتقادِ الجهلِ، إنه قبلَ أن ينظر قد يعتقدُ المذهبَ الفاسدَ والشَّكَّ، ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.

- فصل في الأجوبة عن شبههم

وذلك لاينفكّ منه كلّ عاقلٍ قبل نظرِه، فلا ينفكّ من ذلك إلاّ بما ذكرناه من اعتقادِه بعلمِ الضرورةِ أو تقليدِ مَنْ حصلَ الثقة بقولِه وخبرِه. فصل في الأجوبة عن شبههم أمَّا قياسُهم أُصولَ الدينِ على فروعِه، فهذا نظر منهم، ومن العجبِ استدلالُهم بضربٍ من النَّظرَ على فسادِ النَّظرِ، فإن رَضُوا بالنَّظرِ طريقاً لإفسادِ النَّظرِ، فقد ناقضوا أصلَهم، وأبطلوا مقالتهم، لأنه (¬1) باطل، لأنَّ مسائلَ الفروع طريقها الظنّ، وإذا قلَّدَ العاميُّ عالماً بطرقِ الاجتهادِ، عدلاً مأموناً جَمَعَ (¬2) بين الصِّناعةِ والديانةِ، غلبَ على الظَنِّ إصابة الحكم، فأمَّا أصول الدينِ فإنَّ طريقَها العلمُ القطعيّ، ولهذا يُفسَّقُ ويبدَّع الخالفُ في الأصول دون الفروع. جواب آخر: أن العلم بالفقه لا يحصل للعموم، (3 ............. 3) التغير الحاصل، والاختلاف الواقع، فإنه لا يمنع كونَ النَّظر صحيحاً وطريقاً للعلمِ، كما أنَّكم رضيتم هذه الطرَّيقة النَّظريَّة لإفسادِ الَنَّظر، وإنْ وصفتم النَّظر بما وصفتم من سرعة التَّغيير، ووقوع ألاختلاف. وقد أفسدتم أصلكم الذي أصَّلتموه من أنَّ النَّظرَ ليس بطريق، وعدتم تُفسدونَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فلأنه". (¬2) في الأصل: "فجمع". (3 - 3) طمس في الأصل بمقدار ثلاثة أسطر.

ذلك الأصلَ بتعويلكم على النّظرِ، على أنَّه لاعبرةَ بتقلّبِ أهل المذاهب ولا بمقامهم، فكم من ثابت مقيمٍ على باطل، قال الله تعالى إخباراً عن قومٍ أنهم قالوا: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6]، {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]، وكم من قومٍ رجعوا عن طريقِ الحقِّ إلى الباطلِ، فهذا وأمثالُه لاعبرةَ به، وإنما المعوَّلُ على الأدلَّةِ دونَ اعتقاداتِ الرِّجال، وإنما بَنَوْا هذا على تعويلهم على التقليدِ، والأُنسِ بالغير، والوحشةِ من الوحدةِ في الاعتقادِ، والعاقلُ مَنْ لم توحِشْه الوحدةُ، ولم تؤنِسه الكثرةُ، بل ثقَتُهُ بالدليلِ، وضعفه بعدمِ الدليل. وأمَّا منعُهم من أخذِ حكمِ الغائبِ من الشَّاهدِ، وجعلِ الضَّروري من العلومِ أصلاً للاستدلالي، فإنه مجرَّدُ تحجُّرٍ وتحيُّزٍ بغيرِ دليل، ولأنَّ هذا عينُ النظرِ وحقيقتُه، فكيف (¬1) يمنعونَ النًظرَ بضربٍ من النًظر؟ ولأنَّ الأدلةَ أبداً تكون حاضرةً شاهدةً، والمدلولات غائبةً، إذ لو كانا شاهدين لم يكن أحدُهما بأوْلى من الآخر، فالغيمُ المُسِفُّ (¬2) دلالةٌ (3 على أنه يكون منه مطر 3)، وبُدُوُّ العشبِ وابتلالُ الأرض دلالة على غيث كان قد نزل، وتَصاعدُ الدخان دالٌ على أن شيئاً يحترق، وعلى هذا حكم الأدلةِ، فبناء الدار دالٌ على تَقَدَّم وجود بانٍ، وإحكامُها دالٌّ على ¬

_ (¬1) في الأصل: "كيف". (¬2) أَسَفتِ السَّحابةُ: إذا دَنَتْ من الأرض. "القاموس": (سفف). (3 - 3) غير واضح تماماً في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1285.

أن (¬1) بانيها كان حكيماً، ولو كان ما ذكروه صحيحاً لوجبَ أن لايصحَّ الحساب، فإنَّ (¬2) العملَ منه إنَّما هو حملُ خفي غامضٍ على جلي واضحٍ، ولما صحَّ ذلك بطَلَ ما استدلوا به على بطلان النَّظر. وأمَّا قولُهم: لو كان صحيحاً لاشتركَ في معرفتِه الكلّ، كالمعاييرِ وسائرِ المقاديرِ من العدد والكيلِ والوزن والمساحةِ، فلا فرقَ بينهما عندنا، فإنَّه إذا كان محقِّقاً فِى الحساب قلَّ أن يُخطئَ المقدارَ مع صحَّةِ الاعتبارِ، وكذلكَ في النَّظرِ والاستدلال. وإن قصَّرَ في الاعتبارِ أخطأ في الموضعين وإن تفاوتا في الرُّتبة، كان أحدُهما أسرعَ حصولاً وأسهلَ طريقاً. وأمَّا دعواهم: بأدتَّ القولَ بالنَّظرِ لاينفكُّ معه الإنسان من فعل القبيح، فليست دعوى صحيحةً؛ لأنَّ ذلك إنما يصيرُ قبيحاً بعد التكليفِ لإصابةِ الحقِّ ونفي الجهل، وذلك إنَّما يكون بعد النَّظرِ، فأمَّا الطالبُ الباحثُ فإنَّه لايقبحُ منه شكٌّ ولا ارتيابٌ حالَ نظرِه إلى أن يعلم، فإذا علمَ، قبُحَ منه الشَكُ والجهلُ. وجوابٌ جامعٌ عن جميع طرقِهم: أنَّ جميعَ ما ذكروه من أخطارِ النَّظرِ فالتقليدُ فيه أخطر، لأنَّا على غيرِ ثقةٍ من قول الغير، فكم من داعيةٍ يدعو إلى باطل، وكم من مستتبعِ لغيرِه على غير بيّنةٍ مما يدعو إليه؟ وكم من مذهبٍ يُظهِرُ ضدَّ ما يعتقده اتقاءَ مخافةِ سلطانٍ، أو عوامَّ، أو ميلاً إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "كونه". (¬2) في الأصل: "فإنه".

* فصل يجوز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلا وشرعا

دولةٍ، ومَنْ عرف السَّبرَ كان إلى نظر نفسه أميل، وبه أوثق من الأخبارِ، لما قد تضمنته من الدَّواهي، والانسانُ لايكذب نفسه، ولايألوها نصحاً، وهو من قول غيره على شكِّ أو حُسن ظنٍّ، ومن نَظرَ نفسه عنى تحقيقٍ وقطعٍ. فصل يجوز التعبُّد بالقياس في الشَّرعياتِ عقلاً وشرعاً (¬1). نصَّ عليه أحمدُ فقال: لا يستغى أحد عن القياس، وعلى الحاكم والإمام يَردُ عليه الأمرُ - يعني به حدوثَ الحادثةِ- أن يجمعَ لها النْاسَ، ويَقيسَ، ويشبِّه، كما كتب عمرُ إلى شُريح (¬2). وكلامُ أحمدَ بالعملِ بالقياسِ كثير مبدَّد في المسائلِ التي نقلها عنه الدَّهماءُ من أصحابه، وجميعُ ما حكي عنه من ذمِّ الرأي إنْما أراد به مع معارضة السُّنة له، لَيجتمع قولاه، يوضِّحُ هذا قولُه في روايةِ أبي الحارث: وما نصنعُ بالرأي وفي الحديثِ غُنيةٌ عنه؟ وبهذا قالَ السَّلفُ من الصَّحابةِ والتابعين، وأنه قد وردَ السَّمعُ بذلك، وأكثر الفقهاءِ الأصوليين. وقال جميعُ الشِّيعةِ وإبراهيمُ النظام وجماعةٌ من المعتزلةِ البغداديين مثل يحيى الاسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب بإحالةِ ورودِ التعبُّد به، وأنَّ الشَّرعَ قد وردَ بحظرِه ومنعهِ. ¬

_ (¬1) انظر "العدة" 4/ 1280. (¬2) تقدم في الصفحة 195.

- فصل في دلائلنا

وقال بنفيه من الفقهاء أيضاً داودُ بن علىّ الأصفهاني، والقاساني، والنهرباني، والمغربي ومَنْ قال بقولِهمِ. ثم إنَّ الكلَّ منهم افترقوا فرقتين، فقال مَنْ قدَّمنا ذِكرَه من المعتزلةِ البغداديين وغيرهم: إنَّه محال من جهةِ العقلِ ورودُ التعبدِ بالقياسِ في الأحكامِ. وقال داودُ وابنُه ومَنْ صار إلى قولهما: إنه قد كان جائزاً من جهةِ العقلِ ورودُ التعبُّدِ به، لكن لم يَرِدْ بذلك، بل ورد بحظرِه ومنعِه. واختلف المُحِيلون لورود التعبُّدِ به من جهةِ العقل في نسبة إحالة ذلك وعِلته، فقال بعضهم: إنما استحال ذلك لأنه لا يمكن معرفةُ الأحكامِ من جهته، لأنها مبنيَّة على الصالح التي لاتدركُ به، ولا بأمارة تؤدِّيه إلى غلبة الظن. وقال بعضُهم: إنَّما أحاله العقلُ ولم يجوِّزه؛ لأنَّ في القولِ به ما يقتضي وجوبَ الحكم بالتضادِّ الممتنع. وقال بعضُهم: إنَّما لم يَجُزْ، لأنَّه اقتصار على أدون البيانين مع القدرةِ على أعلاهما، وهو النَّصُّ، وذلك محال في صفتِه وحكمته. فالذي ينبغي أن يبدأ به الدلالة على فسادِ مقالاتِهم أوَّلاً، ثم نُتبعُ ذلك بالتقريرِ لورود السَّمع بذلك إنْ شاء الله. فصل في دلائلنا فمنها: أن نقول: إذا جازَ في العقلياتِ أن يثبت الحكمُ في الشَّيءِ

لعلةٍ، وتعرفُ تلك العلَّةُ بأنها علةُ ذلك الحكمِ بدليلٍ - وهو التقسيم والمقابلة- ثمَّ يقاسُ غيرُه عليه، جازَ أن يثبتَ الحكمُ في المشرَّعياتِ في عينٍ من الأعيانِ بعلةٍ، وينصب على تلك العلَّةِ دليلٌ يدلّ عليها، ثمَّ يقاسُ غيرُه عليه مثاله من العقليات والشرَّعيات، فإذا قسَّمنا في العقليات صفاتِ الحي واستقريناها فلم نجد منها ما يصلحُ أن يعلّل به كونه حياً سوى الحياة، ولا ما يعلّل به كونه عالماً سوي العلم، جعلنا علةَ كلِّ حي لكونِه حياً الحياةَ، وعلَّةَ كلِّ عالمٍ لكونه عالماً العلمَ. وقسَّمنا صفاتِ الخمرِ، فلم نجد ما يصلحُ أن يكونَ علة تحريمها سوى الاشتداد المطربِ، فعَدَّينا الحكمَ إلى كلِّ شرابٍ فيه تلك الشِّدةُ. ومنها: أنَّه لاخلافَ بين العقلاءِ أنَّه يحسنُ ويجوزُ من صاحبِ الشَّرع أن يقول: "لايقضي القاضي غضباناً" (¬1) لأنَّ الغضب يضلِّل رأيه، ويُعقِم فهمه، فقيسوا على الغضبِ ما كانَ في معناه من كلِّ مضلِّل للرأي مشعِّثٍ للفهم، كالجوع المفرطِ، والعطش، والإعياء المضجر لكثرةِ عملٍ أَوجَبَت تعباً، وحَرَّمتُ عليكم الخمرَ؛ لأنَّه شرابٌ فيه شدَّةٌ مطرِبةٌ تصدُّ عن ذكرِ اللهِ، وتوقعُ العداوةَ والبغضاءَ لتضليلها العقلَ، فقيسوا عليها ما في معناها من كلِّ شرابٍ. فهذا وأمثالُه ممَّا يستبينُ به المعقلُ، ويستحسنُه العقلاءُ، وإذا كان تنقيحُه هكذا، حسُنَ أن ينصَّ على تحريمِ الخمرِ ثمَّ يأذنَ لنا في استخراج ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 525.

المعنى ونعدّي حكمَها إلى غيرِها من الأشربةِ، ولو كان هذا محالاً في العقل أو قبيحاً، لما حسُنَ التنصيصُ عليه. ومنها: أنَّه لمْا جازَ أن يأمر بالتوجُّهِ إلى الكعبةِ لمن عايَنَها، جازَ أن ينصبَ عليها دلالةً لمن غابت عنه، بحائلٍ مانعِ، أو بُعدٍ شاسع، ثمَّ يتعبَّدُ باستقبالِ جهتِها بالاستدلالِ بتلك الدلالةِ التي نصبَها. ومنها: أنَّ العاقلَ إذا صدقَ نظرُه واستدلالُه، أدركَ بالأمارات والأدلَّةِ الحاضرةِ المدلولاتِ الغائبةَ، فإذا رأى جداراً قد انشقَّ ومالَ، حكمَ بأنَّه سيهبط، وإذا رأى غيماً كثيراً مُسِفّاً، وهواءً رطباً، حكمَ بأنه سيُمطِر، وإذا رأى إنساناً بيدِه حديدةٌ مخضَّبةٌ بدمٍ خارجاً من بيتٍ فيه مقتولٌ، جازَ منا الحكمُ على أنَّه القاتل بهذه الأمارات، وإنْ جاز أن نخطىءَ في النَّادر. فإذا رأى الشرعَ حَكَمَ بتحريمِ العصيرِ إذا اشتدَّ، وقد كان مباحاً قبل حدوثها، ثم إذا تخلَّلَ أبيح، غلب على ظنِّه أنَّ التحريمَ تابعٌ للشِّدَّة. ومنها: أنَّ في التعبُّدِ به كبيرَ مصلحةٍ لاتحصل إلاَّ بالتعبدِ به، وهي إثابة المجتهدِ على اجتهادِه، وإعمال فكرِه، وبحثه لاستخراخ علَّةِ الحكمِ من المنصوصِ لتعدييه إلى غيرِ المنصوصِ، وذلك نوعُ تكليف باقٍ عليه، وما كان طريقاً إلى الصلحة للمكلَّف، كان وضعه مصلحةً، ولا عاقل يستقبحُ طرقَ الأصلح ولايُحيلها. فإن قيل: لو كانَ الأمرُ على ما ذكرتم، لجازَ أن يخير بينَ الحكمِ بالنَصِّ أو الرأيِ والقياسِ، فلمَّا لم يجز العملُ بالقياسِ مع وجودِ النُّصوصِ، بطلَ ما ادَّعيتموه من حصولِ الأصلح فيه، ومن كونهِ طريقاً إلى معرفةِ

- فصل في شبه المخالفين

الأحكامِ الشَّرعية. قيل: هذا لايصحّ لوجوه: أحدها (¬1): ولِمَ إذا تساويا وجبَ التخييرُ بينهما؟! ولم لايكونان سواءً أو يترتب أحدهما على الآخر، ويكونُ التقديمُ والتأخير لمصلحةٍ يعلمُها، كتقديمِ عبادة على عبادةٍ، وإنْ كانتا (¬2) حسنتين، لكن كانَ التقديم لاحداهما هو الأصلحَ، والتأخيرُ للأخرى هو الأصلحَ، وقد جعلَ الأبدالَ في الكفاراتِ مخيَّرةً ومرتبةً، وكانَ جميعُ المخيَّرات متساويةً في الأصلح، والمرتبات كذلك، ولم يفترقا إلا في التَّقديمِ والتأخيرِ، كما أنه قد يعلمُ أنَّ الجمعَ بين الحسنين قبيحٌ، والتخييرَ حسنٌ وليس بقبيح، كذلكَ جاز أن يعلمَ أنَّ التخييرَ بين النصِّ والرأي قبيحٌ، والترتيب بينهما حسنٌ. فصل في شبههم فمنها: أن قالوا: إذا تعبّدنا بالقياس، وغلبَ على الظنِّ تحريم بيع التفاضلِ في البُرِّ لكونه مكيلاً جِنساً، أو مطعوماً، أو قوتاً، أو مالاً، فما وجهُ الصلحةِ في تحريم ما هذه صفته متفاضلاً؟ فيقال لهم: هذا قولُ مَنْ يبعدُ عن فهمِ الكلامِ في هذا البابِ، لأنَّ ¬

_ (¬1) لم يذكر المصنف رحمه الله غير هذا الوجه. (¬2) في الأصل: "كان".

المصالحٍ والألطاف في الأفعالِ التي علينا فيها تكليف، لاتكونُ مصالحَ (¬1) وألطافا لجنسها، ولا لوجهٍ في العقل يتميَّز وينفصل من غيره بدليل، كما نعلم انفصالَ أحكامِ الأجناسِ وحقائقها بقضيّة العقلِ، وإنَّما يكونُ الفعلُ المتعبَّدُ بتحليلِه أو تحريمِه أو إيجابِه أو الندبِ إليه مصلحةً وداعياً إلى فعل الحسن واجتنابِ القبيح، وليسَ يكونُ كذلكَ لصفةٍ هو في ذاتِه عليها. وقد يكونُ مصلحةً في وقتٍ، وغيرَ مصلحةٍ في غيرِه، وهو في الوقتينِ على جنسِه وصفتِه وذاتِه، وقد يكونُ في الوقتِ الواحدِ مصلحةً لمكلَّفٍ، ومفسدةً لغيرِه على ما هو عليه من جنسِه وذاتِه وصفتِه، ولذلك ربما تختلفُ أحكامُ الشَّرائع، وتختلفُ تكاليفُ العقلاء فيه، فيجبُ على البعضِ منه ما يسقطُ عن غيرِه، وتختلفُ أحكامُ هذه الأَشياء في زمنِ النسخ. وإذا كان كذلك، وجب أن يُقال: إنَّ جهةَ كونِ تحريمِ بيع البُرِّ متفاضلاً مصلحةً، علمُ اللهِ عزَّ وجلَّ بأنَّنا عند تحريمِ ذلك وكفِّنا عنه نكونُ أقربَ إلى الطاعةِ، وأبعدَ عن المعصيةِ، أو يكونُ نفسُ اعتقادِنا التحريم والانكفاف لأجلِ ذلك الدليل، مصلحةً لنا من حيث إنَّا بنينا على ذلك، وحملنا المقيس عليه، ولا انفصال عن ذلك. ويقالُ لهم: إنَّكم بهذِه الطريقةِ والمطالبة ناقضون لمذهبكم في الأصلح، لأنَّكم قلتم: إنه لايعلمُ الألطافَ والمصالحَ في العباداتِ الشَّرعيةِ الاّ علاَّمُ الغيوب، وإنه لاسبيلَ لأحدٍ من الخلقِ إلى علمِ ذلك، وتقولون: إنَّه لايجوزُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مصالحاً".

أن يُطالَبَ أحد من الخلقِ بعلمِ ما لا سبيلَ إلى علمِه، ثم تطالبونا مع هذا القول بتعريفِكم وجهَ المصلحةِ في تعلُّقِ الأحكامِ بصفاتِ ما حلَّ أو حرُمَ، وهذا تعدِّ منكم ورجوعٌ عن قولِكم. ويقالُ لهم أيضاً: إنَّنا إذا علمنا أنَّ العليمَ الحكيمَ لايتعبَّدُنان إلا بما فيه المصلحةُ، قطعنا أنَّ العباداتِ كلها مصالحُ، وإن لم نعلم وجهَ المصلحةِ في كلِّ واحدةٍ من العباداتِ بعينِه، ولا يكون جهلنا بوجهِ المصلحةِ في كلِّ شيء منها مُخرجاً لنا عن العلمِ بأنه مصلحةٌ في الجملةِ، ألا ترى أنَّ الصِّحةَ والمرضَ، والقوَّةَ والضَّعفَ، والغِنى والفقرَ، وكلَّ ما يفعلُه الله سبحانَه عندكم بالعبدِ، وإن لم يعلم على وجهِ التفصيلِ كونه مصلحةً ومن أي وجه، كان ذلك مصلحةً له. والذي يكشفُ عن صحَّةِ ما قلناه، من أنه ليسَ من شرطِ المعرفةِ بكونِ الشَّيء مصلحةً أن يكونَ وجهُ المصلحةِ فيه معلوماً لنا، بدليلِ أعدادِ الركعاتِ، ومواقيتِ الصلواتِ، فكونُ الرُّكوع واحدأً، والسُّجود اثنتينِ، وتكليف الجوع والعطش في نهار الصوم، والتطيب للجمعة، والشعث للحجِّ، وتحريم العمَّةِ والخالةِ، وتحليل ابنتَيهِما، وتحريم قتل الصيد في الحَرَم والإحرام، والبُدْن في ذبح الهَدْي في الحرم والإحرام، فهذه كلُّها تكاليف فإذا قلنا لكم بأنها مصالحُ، دخلنا معكم في القول بالأصلح فيها، وإن جهلنا وجه الأصلح في كلِّ واحدٍ منها، فيَبْطُلُ ما تعلقتُم به من إبطالِ الأصلح بالجهلِ بوجهِ الأصلح، حتى إنّنا لو أوقفنا التزامَ التكليفِ على معرفةِ وجهِ كلِّ شيء منه في فعلٍ وتركٍ، وإيجابٍ وحظرٍ، لما لَزِمَنا شيء

من التكليفِ، إذ لا تتحقَّقُ لنا معرفةُ ذلك، وهذا يبطلُ جميعَ التكاليف، وما أدَى إلى ذلكَ باطلٌ. على أني أقولُ: من المنكَرِ قولُ القائلِ: إن الله سبحانَه إنما تعبَّدَ العقلاءَ بالقياسِ لاستخراج جواهرِهم، وامتحانِ آرائهم، وما يعتريهم في ذلكَ من كَلِّ (¬1) القلوبِ بالأفكارِ، وتَهْذيبِها بالبحثِ والتدقيقِ المؤدي بها إلى الاستبصارِ واستثارةِ عِللِ الأحكام، ومقابلةِ أربابها يحزيلِ الثوابِ، وليرفَعَ الله منازلَ العلماءِ، وهل هذا إلاَّ عينُ الحكمةِ في تكليفِهم؟ كما أنه سبحانَه قسَّمَ منافعَهم الدنيوية بين كلياتٍ تولاَّها لاسبيلَ لهم إلى تحصيلِها، ولا التسبُّبِ إلى تأثير ما يحصلُ عندها، كالرياح والسَّحابِ والأمطارِ وخلقِ الحيوان لأنواع الأغراض، فجرت تلك مجرى النّصوصِ التي لاسبيلَ للعبدِ إلى تحصيلِ الأحكامِ الحاصلةِ بها والصَّادرةِ عنها، وبين جزئياتٍ وكَلَها إلى اكتسابِ خلقِه، واستخراجِها بصفاء نحائزهم (¬2) وصحَّة قرائحهم، كالحرثِ والحصادِ والدِّياس، وما يحتاجودت إليه من بناء الأكنان والبيوتِ، ونساجةِ الملابسِ وعملِ الأطعمه لتقريبها من التغذيةِ والتناول، وتركيبات الأدويةِ للأمراض، والجُنُن المانعة من الأذايا، كالدروع وما يقي الحرَّ والبرد من الملابسِ، فجمعَ لهم بين النعمتينِ؛ الكبرى التي تولاها، والصُّغرى التي ألهمهم توليها، وهداهم إلى تحصيلِها بما منحهم من صحَّةِ النحائزِ. وأدوات التحصيلِ من جَودةِ القرائح، وهذا ¬

_ (¬1) الكَلاَل: الاعياء. "القاموس": (كلل). (¬2) النحيزَةُ: الطبيعة. "القاموس": (نَحَزَ).

دأبُهُ ومَشِيئتُه (¬1) سبحانَه في جميع الحيوانِ يتولى الأجنَّةَ في ظُلَم الأحشاءِ، بتولي التغذية، وإيصال الغذاءِ، فإذا ظهروا من بطونِ الأمهاتِ، سخرَ لهم القلوبَ للتربيةِ والتغذيةِ، فإذا نهضوا وكَلَهم إلى اكتسابِهم، فما الذي يبعدُ من فعلِه في التكليف؛ كذلك يتولى النُّصوصَ فيما لايتعدى العقلُ إليه، ويَكِلُهم في استخراج المعاني بالمقاييسِ الصَّحيحةِ عن الفطَرِ السَّليمةِ لتحصيلِ الأحكامِ من الحلالِ والحرام. ومنها أن قالوا: وممَّا يدلُّ على إحالةِ التعبُّدِ بالقياسِ، أنَّه لو كانت المعاني المنتزعةُ من الأصولِ أدلةً على ثبوتِ الأحكامِ، وعللاً لها، لم يقف كونُها أدلًةً على ورودِ شيء يتصلُ بها، وحمعِ يُوقِفُ على كونِها أدلةً، كما أنَّ أدلَّة العقلِ لايقفُ كونُها أدَّلةً على شيءٍ سواها، ولا معنىً ينضمُّ إليها، ولا يدلُّ عليها. فيقال: إنها وإن كانت عللاً، فليست عللاً حقيقة ومعنىً، نفى (¬2) الحقيقة عنها أنها ليست موجبةً للأحكامِ لأنفسِها وأجناسِها وما هي عليه من الصِّفاتِ من ذواتِها، وإنما تصيرُ أدئة بالوضع والتوقيف، وكذلك وقفُ كونِها على المسمَّى أو الحكمِ بالوضع أو التوقيفِ، وكذلك وقف كونها دليلاً على جعلِ السَّمع لها أدلّةً، فسقط ما قالوه. ومنها أن قالوا: ومما يدلُّ على إحالة التعدية، أنَّه لوصحَّ أن نُدرِكَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "سببه". (¬2) في الأصل: "نعنى".

معرفةَ الحكمِ وثبوتَ المصلحةِ فيه بالقياسِ وطريق الظنِّ، لصحَّ أن نُخْبِرَ عن الغيوبِ، وما يكونُ في المستقبلِ، وأن نُصِيبَ الصِّدقَ فيه بطريقِ القياسِ، ولما لم يجز ذلك، لم يجز استبدالُ علمِ الأحكامِ والمصالح بطريقِ القياسِ. فيقال لهم: إنّ كلَّ شيءِ جعلَ عليه أمارةً أو دلالةً فليسَ من الغيوب، بل الغيبُ ما لا دليلَ عليه، وَانفردَ الله سبحانه بعلمِه، لأنّه لايقفُ علمُه على دليل، فإذا جعلَ الله سبحانَه الاسمَ والمعنى المُودَعَ في النَّصِ أمارةً على ثبوتِ الحكم، ثبتَ كونُهما دلالةً على الحكمِ، وعلى تعلّقِ المصلحةِ بتحريمِ كلِّ ما له ذلك الاسمُ والمعنى، فكذلكَ إذا جعلَ الله سبحانه لنا أمارةً على إصابةِ الصِّدقِ في جميع ما نخبر به، علمنا عند حصولها كوننا صادقين فيما نخبر به، وإذا تعبَّدنا بأن نخبرَ بذلك، عُلِمَ كونُ الصلحةِ متعلقةً في التعبُّدِ بذلك، فلو أنَّنا قدَّرنا قولَه تعالى لإنسانِ: إذا أظلَّك السَّحابُ، أو كَسَفت الشَّمسُ، فأَخبر عمَّا في بطونِ الحوَاملِ، وعن الغيوبِ المستقبَلة، فإنَّكَ لاتخبرُ إلاَّ بالحقِّ والصِّدقِ، لوجبَ أن نعلم بإظلال السَّحاب وكسوفِ الشَّمسِ حصولَ صدقِ ذلكَ الإنسانِ بجميع ما يخبرُنا به من كونِ ما في بطنِ الحاملِ ذكراً أو أنثى، وقدوم زيدٍ الغائب غُرَّةَ الشهر، ومجئ الغيث يومَ السبت، وموت عمرَ يومَ الأحد، وإذا جازَ أن يُجعَلَ إظلالُ السَّحابِ، وكسوفُ الشّمسِ، أمارةً على إطلاعِه سبحانه لبعض النَّاسِ على الغيوبِ التي لا يعلمها سواه، لم لاجاز أن يُجعَلَ بعض الأمارات لمجتهدٍ علامةً على الوقوفِ على حكمِه سبحانَه في الحادثةِ من تحليلٍ أو تحريم؟

ومنها: أن قالوا: القياسُ فعل القائس، ولا يجوزُ أن يتوصلَ بفعلِه إلى معرفة المصالح. فيقال: لسنا نعرف المصلحةَ بنفس نَصبِ العلَّة، ولا بحملِ الفرع على الأصلِ الذي هو فعل القائس، وإنما نعلمُ ثبوتَ المصلحةِ في ذلكَ بتوقيفه على تعليقه الحكمَ بالعلةِ وقوله: ما وجدتموها فيه فاعلموا أنَّ حكمي فيه كذا وكذا، فنعلمُ المصلحةَ بحكمِ ما حكمَ به، وبكونِ المعنى دلالةً على ثبوتِ الحكم، وفِعْلنا إنَّما هو حملُ الفرع على الأصلِ، والله سبحانَه هو الدَّالُّ على وجوبِه، وهو سبحانَه -على أصلِهم- لا يَتعبَّدُ إلا بما فيه مصلحةٌ، فبطلَ ما قالوه. ومنها: أن قالوا: لو صحَّ أن يتعبَّدَ بالقياسِ في أحكامِ الفروع التي ترد للمصلحةِ، لجازَ أن يتعبَّدَ بإثباتِ الأصولِ وإن كانت من المصالح، فلمَّا لم يجز إثباتُ الأُصولِ به، لم يجز إثباتُ الفروع. فيقال لهم: ومَنِ الذي خبَّركم عنا. بمنع ذلك؟! بل القولُ عندنا في ذلك: أنَّه متى نصبَ لنا أدلَّةً على وجوبِ إثباتِ الحكم في الأصولِ، لآثبتنا صلاةً سادسةً، وحَجَّة ثانيةً، وصومَ شهر آخر، ولكن ليس في شىءٍ من الأصول صفةٌ جُعلَت أمارةً على إثبات أصل آخر، فلذلك امتنعنا، وما ذلكَ إلا بمثابةِ الاجتهادِ في طلبِ القِبْلةِ ثبت في حقِّ البصيرِ؛ لأنه جَعلَ له إلى معرفتها طريقاً، ولم يثبت في حقِّ الضّريرِ حيث لم يَجعلْ له إلى معرفتها طريقاً. لذلك فإنَّ المنعَ من إثباتِ أصلٍ إنَّما كان لعدمِ الطريقِ، لا لكونه أصلاً، ولو عدمنا الطريقَ في الفروع لما أثبتناها إلا بالسَّمع.

ومنها: أن قالوا: لما ثبتَ أنَّ المصلحةَ في إثباتِ الأصولِ لما لم يصحَّ أنَّ تُعلمَ إلا سمعاً وتوقيفاً، لم يصحَّ أن يُعلمَ ثبوتُ الحكمِ في الفرع وكونُه مصلحةً إلا من هذا الطريق، لأنَّ ما يُعلم جليُّهُ من طريق، وجب أن يُعلَمَ خفيُّه منه، وهذا يوجب أنْ لا يثبت حكمُ الفرع، وتعلُّقُ المصلحة به إلا بالنص. فيقالُ لهم: لِمَ سلمتم أنَّ ما عُلِمَ جليُّه من طريقٍ وجب أنْ يُعلَم خفيُّهُ منه، وما الدليل على ذلك؛ وما أنتم فِى هذا إلا بمثابة مَنْ قال: إذا وجب العلمُ ببعض الموجودات ضرورةً، وجب العلمُ بكلِّ موجودٍ ضرورةً، وإذا عُلِمَ بعضُها بدليل، وجب عِلْمُ جميعها بدليل، لتساوي صفة الوجود في كلِّ موجود، وكذلك يجب إذا عُلِمَ بعض الأمور بدَرْكِ الحاسَّة، أنْ يعلمَ سائرُها من ذلك الطرَّيق. وهذا كلّه باطلٌ، لأنَّ طريقَ العلمِ بوجود الشَّيء لا يجب أن يكون طريقاً للعلم بغيره، وكذلك يجب إذا علم قبح بعضِ المقبَّحات، وحُسْن بعض المحسَّنات عقلاً، والفرائض والعبادات العملية عقلاً وضرورة، وجب أن يكون طريقاً للعلم بحُسْن سائر العبادات، وقُبْح جميع المحظورات بضرورة العقل، وهذا باطلٌ عندهم، لأنَّ منه ما يعلم ضرورةً بطريق العقل، ومنه ما لا يعلم إلا بطريق السَّمع، ولو لم يَرِدْ سمعٌ لما عُلِمَ قبحُ ذلك، ولا حُسنُه، وهذا نقض لكلامهم ظاهر. ثم يقال لهم: إننا لا نَدَّعي علمَ أحكامِ الفروع بقياسنا، وحَمْلِنا الفروعَ على الأصول، وإنما نعلم ذلك يحعل الصِّفة علامةً لنا على إثبات الحكم، فما يثبت الحكم في الفرع بالسَّمع والتوقيف، كما أثبت في

الأصل بذلك، غيرَ أنَّه مسموع في الأصل، ومستدل عليه في الفرع، وهذا كما نَعلمُ بعض المعلومات العقلية بضرورة العقل وبديهته، ونَعلمُ بعضها بدليله وحجته، وكله معلوم بالعقل، فكذلك نعلم ورود الحكم من الله سبحانه في بعض الأمور سماعاً ونصاً، ونعلمه في بعضها بدليل، وكلّه معلومٌ وثابتٌ بالسَّمع؛ لأنَّ السَّمعَ جعل المعنى أمارة على الحكم، ولو لم يرد ذلك لم يكن علامة تُبْطِلُ ما قالوه كلّه. ويقال لهم أيضاً: إذا كانت العللُ العقلية تُدرَكُ صحتُها ...... والعلم بما أدّت إليه ببنائها على الأصول التي هي العلومُ الضرورية ومردودة إليها، وجب أيضاً أن لاتكونَ علومُ الحواسِّ والضَّرورات طريقاً للعلم بشيءٍ إلا ببنائها على علومٍ اخرى، وكذلك القولُ في أصول أصولها، وإذا لم تجب التسويةُ بين الفروع والأصولِ فِى هذا البابِ، لم يجب ما قالوه. وكذلكَ إذا كنا قد اتفقنا على أنَّ علومَ الضَّرورةِ متناوِلةٌ للمعلوماتِ، بأنفسِها بغيرِ واسطةٍ، وبناؤها على علومٍ سواها، وجبَ أن تكون هذه سبيلَ علومِ النظر التي هي فروعُها حتى نحصِّلَ علوماً متناوِلة للمعلوماتِ، مبتدأة من غير نظرٍ ولا بناءٍ لها على علومٍ هي أصول لها متقدمةٌ عليها، وإذا لم يجب هذا باتفاق، سقطَ قولهم: إنَّ ما به ثبت الأصلُ، هو الذي به يجب ثبوتُ الفرع. على أنَّ أصلَ الكلامِ منهم باطل؛ لأنَّ لكلِّ حقيقةٍ دركاً مخصوصاً،

بحاسَّةِ السَّمع تُدركُ الأصوات، وبحاسَّة (¬1) البصر تُدركُ الألوان، ودركُ الطُّعومِ بالذوقِ، ودركُ الرَّوائح بالشَّمِّ، ومعلوم أنَّه لايجوز أن يقالَ: لما كأنا حاسَّة منها تدركُ محسوساً مخصوصاً، يجبُ أن تدركَ غيرَه أو يُدركَ بغيرِها. ومنها: أن قالوا: أجمعَ القائسونَ على أنَّ علةَ الحكمِ المستنبطةِ تحتاجُ إلى دليلٍ، وكونُها تحتاجُ إلى دليلٍ يمنعُ كونَها دليلاً، بل تكونُ بهذه الرتبةِ كالحكمِ، والحكمُ لمَّا افتقر إلى دليلٍ لم يكن دليلاً. فيقال: ليسَ الأمرُ على ما ذكرتُم؛ لأنَّ قولَ الرَّسول لم يثبت كونُه صدقاً إلاَّ بدلالةِ الإعجاز، ولم يكن احتياجُه إلى دليلٍ مانعاً من كونه دليلاً على الأحكام، وكذلك القرآنُ ثبت كونُه صدقاً وكلاماً لله سبحانَه بدليلِ العقل، ومع ذلكَ فهو دالّ على الأحكامِ. وحدثُ الأعراض وأصل ثبوتها إنّما كانَ بدليلٍ، ثم إنَّها في أنفسِها بعدَ ثبوتِها بالدليلِ- الذي لولاه لما ثبتَ العلمُ بوجودِها ولا بحدثها- كأنا دليلاً على حدثِ الأجسامِ، فكلُّ مستدِلِّ بهما عدا علمِ الحسِّ والضَّرورةِ، معلوم بدليلٍ، وإن كانَ دليلاً في نفسه. ومنها: أن قالوا: لابدَّ أن يجعلَ الله للمكلَّفِ طريقاً إلى معرفةِ حكمِه، والقياسُ لا يجوزُ أن يكونَ طريقاً إلى ذلك، بدليلِ أنَّه لابدَّ فيه بإجماع القائسين من علةٍ يقاسُ عليها، والعلَّةُ: صفةٌ أو حكم في الأصل، وهي ¬

_ (¬1) في الأصل: "وحاسة".

محتملةٌ لتعلُّقِ الحكمِ بها، ومحتملةٌ أن لايتعلق الحكمُ بها، وأن يكونَ الحكمُ في الأصلِ غيرَ معلولٍ أصلاً، أو معلولاً عندَ الله بغيرِ ما ظنه القياسُ عليه، وما يصحُّ فيه هذا التجويزُ والاحتمالُ، لايكونُ دليلاً موصلاً إلى العلم. فيقالُ: إننا متى غلبَ على ظنِّنا أنها علةٌ للتحريمِ أو التحليلِ بالطرد والجريانِ (¬1)، أو بالتأثيرِ، أو المقابلةِ والتقسيمِ، وجبَ بعد غلبةِ ظننا لذلك، القطعُ على أنها علةٌ للحكم، وصارَ غلبةُ الظنِّ لكونِها علةً، علماً قاطعاً على وجوبِ تحريمِ كلِّ ما وجدت فيهِ من غيرِ شكِّ في وجوبِ ذلك، وأنه حكمُ اللهِ الذي لاحكمَ لله غيرُه، كما لو قال: إذا ظننتَ أنَّ زيداً في الدارِ، ووجدتَ الظنَّ كذلكَ من نفسِك، فقد جعلتَ ظنك لذلكَ علماً على تحريمِ الطعامِ والشرابِ قطعاً عند ظنِّك كونَ زيدٍ في الدار، بتحريمِ ما جُعِلَ ذلك عَلَماً على تحريمه من غير شك وتجويز لخلافِ ذلك، فبَطلَ ما قالوه. فهذا على قولِنا: إنَّ كلَّ مجتهد مصيب، وأمَّا إنْ قلنا: بأنَّ الحقَّ من قولِ المجتهدين في واحدٍ، فلا يمكنُ أن نقولَ: إنَّ ما غلبَ على ظنِّ المجتهدِ هو الحقيقةُ والقطعُ، وإنه حكم الله، وإنَّ ما ظنَّ المجتهدُ أنَّه علةُ الحكمِ هو العلةُ للحكم عند الله، لكنا نقولُ: إنها علةُ الحكمِ في غلبةِ الظنِ، وذلكَ كافٍ في إبطالِ ما تعلَّقوا من الترددِ، وأحكامُ الشَّرع على هذا؛ بدليلِ ما يرويه الواحدُ عن صاحبِ الشَّرع متردِّد، لكن تَرَجُّحُ خَبَرِهِ إلى جانبِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "والحرمان".

الصِّدق لعدالتِه، واجتماع شروطٍ فيه أوجبت غلبةَ الظنِّ، أوجبَ ذلك بناء الحكمِ على قولِه، حظراً كانَ، أو إباحةً، أو إيجاباً. ومنها: أنْ قالوا: لمًا كانت العلَّةُ العقليةُ لايصحُّ تقدمُها على الحكمِ، وكانَ حكمُها لو تأخَّرَ عنها أبطل كونَها علَّةً، وجبَ أن يدلَّ ذلك على فسادِ العلةِ الشَّرعيةِ، لأنَّ حكمَها متأخِّر عنها؛ لأنَّ الشِّدة تكونُ في الخمر، وإنْ لم يكن حراماً قبل الشَّرع، وفي الشَّرع أيضاً قبلَ نزولِ النسخ. فيقال: إنها ليست على الحقيقةِ، ولو كانت موجبةً، كالعقليةِ لم توجد إلاَّ موجبةً لحكمها، وحكمُها مقارنٌ لها غيرُ متأخِّرٍ عنها، وإنَّما هي بمنزلةِ الاسم الذي هو علَمٌ على المسمّى بوضع اللُّغة، كذلكَ هي عَلم على الحكمِ بوضع الشَّرع، وتَخرجُ عن أن تكونَ عَلَماً بالنَّسخ وتكون عَلَماً على الضِّدِّ، وهي بعد أن جعلت علَّةً للحكم، وعلماً عليه لا تزال تدلُّ على الحكم ما دامت مجعولةً علةً، وتكون بعد النسخ وإعدامها عن كونِها علةً كعدم العلم في إعدام كون العالمِ عالماً، وعدم الحركةِ لكون المتحرك متحركاً، فالنسخُ لها كَالإعدام للعللِ العقليةِ، وما دامت موجودةً، فهي مقتضيةٌ للحكمِ اقتضاء العللِ العقليَّةِ. ومنها: أن قالوا: لو كانَ من صفاتِ المحرم والمحلّلِ ما هو علةٌ توجب الجمع بينَه وبين ما لم يذكر في ذلكَ الحكمِ، لوجبَ أن يوجَبَ الجمعُ بينهما في جميع الأحكامِ. فيقال: ما أبعدَ هذا! لأنَّ العلةَ العقليةَ توصاُ الجمعَ بين ما وجدت

فيهِ فِى الحكم، ولا توجبُ الجمعَ بينهما فِى جميع الأحكامِ، لأنها ليست علَّةً لجميعها، وكذلكَ العلةُ الشَّرعيةُ، وكذلكَ جريانُ الاسمِ المعلقِ به الحكمُ على الشيئين يوجبُ الجمعَ بينهما، ولا يقتضي الجمعَ بينهما في جميع الأحكامِ، فسقط ما قالوه. ومنها: أن قالوا: لو جازَ أن تُجعَلَ بعضُ صفاتِ الأصلِ علة، لم يكن بأن تكونَ علّةً للحكم بأَوْلَى من غيرِها من الصِّفات، وهذا يوجبُ تكافؤَ الأدلّةِ، أو أن تكونَ جميعُ صفاتِ الأصلِ علةً للحكمِ، وذلكَ باطلٌ. فيقال: ليسَ صفةُ الأصلٍ علةً من حيثُ كونُها صفةً، لكن لأجلِ جعلِ الشَّرع لها علةً وعلامة على الحكمِ بطريقِ الاستدلالِ عليها، كما تصيرُ علَّةً له بالنصِّ على أنَّها علة لا لكونِها صفةً، ولا يوجبُ ذلكَ جعلَ صفاتِ الأصلِ كلها علةً، وكما يصيرُ الاسمُ علامةً على الحكم، ولا يجوزُ أن يقال: ليس بعضُ أسماءِ الشَّىءِ بأن يُجعَلَ علةً على تحريمه، بأَوْلَى من بعضٍ إذا كان السَّمع قد جعله عَلَماً على تحريمه، وإذا ثبت هذا فسد ما قالوه. ومنها: أن قالوا: إنَّ في الحكمِ بالقياسِ إيجابَ إثباتِ الخبرِ عن الله عز وجلَّ ورسوله- عليه الصلاة والسلام- بقياس، وهذا باطل، لأن الخبرَ عنهما وعن غيرهما لايصح أبداً ثبوته بقياس، والقائل بموجب القياس يتوسَّعُ في خبره عن الله بأنه قد حرَّمَ النبيذَ حيثُ حرَّمَ الخمر، وحرَّم التفاضل فِى الأرز حيث حرَّم التفاضلَ فِى البُرِّ، وهذا تجرُّؤٌ على الله سبحانه.

فيقال لهم: لسنا نخبرُ عن تحريمِ النَّبيذِ بالقياسِ، بل نخبر بذلك عن إخبار الله لنا بذلك، إذ قامت الدِّلالةُ عندنا على ثبوتِ القياسِ وأنَّه سبحانَه قد تعبَّدَنا به، وجعلَ العلَّةَ التي يستدلُّ عليها هو طريق العلم بصحتها، وغلبة الظن لكونها علة وعلامة، على أنه إذا وجدت فيه فحكمُه كذا وكذا، فكنا حينئذٍ مُخبِرين بإخبارِ الله عزَّ وجلَّ بتحريمِ الفرع بالخبرِ الذي حرمَ به الأصل، وصارَ ذلك بمثابةِ أن يقول لنا: إذا ظننتم أنَّ زيداً في الدارِ، فاعلموا أنني قد حرمت عليكم الطّعامَ والشَّرابَ والكلامَ، فإننا مع هذا القولِ إذا غلبَ على ظنِّنا كونه في الدارِ، علمنا قطعاً أنَّ الله تعالى قد أخبرنا بتحريمِ ذلك، وكذلك لو قال: إذا علمنا كونَ زيدٍ في الدَّارِ، فاعلموا أنَّ خالداً في المسجدِ، وجبَ متى علمنا أنَّ زيداً في الدارِ أن نعلمَ أنَّ خالداً في المسجد، وكنا مُخبِرين بذلكِ عن إخبارِ الله سبحانه لنا، لا بقياسٍ، ولا بكونِ زيدٍ في الدار. وكذلكَ لو قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا تركتُ يدي على رأسي، أو تقلَّدتُ سيفي، فاعلموا أنَّ الله قد حرَّم عليكم كذا وكذا، كان ما نَشْهَدُهُ من تركِ يده على رأسه، أو تَقَلّدِهِ لسيفه، علامةً على أنَّ الله سبحانه قد أخبره بتحريمِ ذلك الذي أشارَ إليه، فنكونُ مُخبِرين بخبره عن اللهِ، لا بتلكَ الأمَارة. وجوابٌ آخر: وهو فيما تعلَّقوا به من هذه الشُّبهات لنفي القياس، إنما هي شُبُهاتٌ لا يجوز أن يكون مثلُها نافياً للقياس، ولا دلالة على نفيه، وفي إبطالِ القياس بمثْل هذا ينقلب عليكم ما ذكرتم، فيقال لكم: إنكم

تخبرون بذلك عن الله، ولا يجوز الخبر عن الله سبحانه بما هذا سبيله، ولايقطع بمثله على نفي القياس، فنحن فيما أخبرنا عن الله على الوجه الذي ذكرنا بالتحريم أسعد منكم فيما تخبرونَ بهِ عن الله في نفي القياسِ، لأننا نستندُ بذلكَ إلى أماراتِ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم -وإجماع أصحابهِ بعده، وأنتم مخبرونَ بالمنع من ذلك من غير مستندٍ. ومنها: أن قالوا: إنَّ في إجازةِ القياسِ وتصحيحهِ إيجابَ تكافؤ الأدلةِ، وأن يكونَ حاكماً بالشَّيءِ وضدِّه، ومحرماً لما أحله، وذلكَ محالٌ. وإنما وجب هذا لأنه لا صفةَ يدَّعي بعضُ القائسين أنها (¬1) علةٌ للتحريمِ، إلا ويجوزُ لغيره أن ينصبَ علّةً تقابلها موجبةً للتحليل، فلا يكونُ قولُ بعضِهم أَوْلى من قولِ بعضٍ، ولاعلةُ أحدهمِ بأن يكونَ الحكمُ متعلِّقاً بها أَوْلى من علّةِ غيرِه، وهذا هو القول بتكافؤ الأدَّلةِ والأحكامِ المتضادَّة، وذلكَ غيرُ جائز على الله سبحانه في شرائعه. فيقال: لسنا نمنع تكافؤ الصِّفاتِ التي ينتزعها المختلفونَ من القائسينِ، وكونُ كلِّ صفةٍ منها دلالةً على تعلّقِ الحكمِ بها في حقِّ من غلَبَ على ظنِّه منهم أنَّ الحكمَ متعلِّق بها دون ما عداها، وأن تكونَ أحكامُ الله تعالى في الحادثةِ وتعليلُ حكمِها مختلفةً في حقوقِ المجتهدين، وفرضُه عليهم في ذلك مختلفٌ، لأن ذلك ليس بمُستبعَدٍ القولُ به، وسنوردُ في ذلكَ ما يقتضيه في موضعِه، حتى إنه إذا تساويا عندَ المجتهد تساوياً يمتنعُ معه ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنه".

الترجيحُ، كانَ المجتهدُ مخيَّراً كما خُيِّر المكلَّفُ في بعضِ الكفاراتِ بين ثلاثة أشياء، لمّا تساوت الأعيانُ الثلاثةُ. على أنّا لو سلمنا أنَّ الحقَّ عند الله في واحد وليس كلُّ مجتهد مصيباً، لما كان ما ذكروه دليلاً على ذلك، لأنَّهم توسَّعوا في الدعوى حيث قالوا: لا علَّةَ لبعض القائسين تدلُّ على التحريمِ، إلاَّ ويجوزُ لغيرِه أن ينصبَ علةً موجبةً للتحليل، لأنَّ هذا قولُ من ظَنَّ أنَّ العلل لكلِّ أحدٍ نصبُها بالتشهي، أو أنَّ الله سبحانه لم يجعل لعلَّةِ الحكمِ أمارة تمتازُ بها وتترجح على ما يشتبه على آحاد المجتهدين ويتوهَّمه علَّةً لحكمٍ يضاد ذلك الحكمَ، وليسَ الأمرُ على ما ظنَّه، بل العلَّةُ التي توجبُ حكماً من تحليلٍ أو تحريم لايجعلُ الله سبحانَه لها ما يُضادُّ حكمَها ممَّا يصحُّ به التعليل. وما ذلكَ إلاَّ بمثابةِ اختلافِهم في الحكمِ، وتعلق كلِّ واحدٍ. مما يدعيه نصاً لله أو ظاهراً، وإن كانَ النَّصُّ من الله سبحانه لا يقعُ على حكمين مختلفين إلاّ وأحدُهما رافعٌ للآخرِ ناسخ له. وهذا أصلٌ لنا، وأنَ الله سبحانه لا يجعلُ الأماراتِ على الحكمينِ المختلفينِ متساويةً، ولا بدَّ أن ينصبَ على علَّةِ الحكمِ دلالةً لا ينصبُها على علةٍ أُخرى، فتمتازُ بنصبِ تلكَ الأدلةِ عن توهُّمِ الأُخرى علَّة للحكمِ المضادِّ لحكمِ العلًةِ التي نصبَ عليها الدلالةَ. ومنها: أن قالوا: قدِ اتفقَ العلماءُ على أنَّ اعتمادَ المعصيةِ، وإصابةَ المحظورِ قبيحٌ، وأنَّ الإقدامَ على ما لا يؤمنُ معه مواقعة المحظورِ قبيحٌ أيضاً، حتى إنَّ أكلَ الميتةِ ومباشرةَ الأجنبيةِ قبيحان، والاجتهادَ في مواقعتهما،

والتحري مع اختلاطهما بالمساليخ المذكاةِ، وبالمملوكاتِ من الاماءِ والزَّوجاتِ، قبيح، وهذه سبيل القائسينَ في الدِّماءِ والفروجِ؛ فإنهم لايأمنونَ مواقعةَ المحظورِ بتجويزِهم الخطأ على القائس، ومحال أن يَتعبَّدَ اللهُ سبحانه بما لا تؤمَنُ معه مواقعةُ الخطأ، كما أنه محالٌ أن يتعبدهم بطريق يُقطَع فيه بمواقعة المحظورِ والخطأ. فيقالُ: إنَّ اللهَ سبحانَه قد بنى الاجتهادَ في الأحكامِ الشَّرعيةِ على أماراتٍ ظنِّيَّةٍ غيرِ قطعيةٍ، ولا مأمونٍ معها إصابةُ الخطأ، فمن ذلك الرجوع إلى خبر الواحد وشهادةِ الشاهدين في الدماء، والفُروج والأَموال والعقود، واللعان بين الزوجين، والتحالفِ بين المتبايعين المختلفين، والاجتهادِ في القِبلةِ عند الاشتباه، والبناء على الأصلِ في الشكوكِ العارضةِ كالشكِّ في الحدث، والشك في إيقاع الثلاثِ وما دونها، أو في أصل الطَّلاق والعتاق. وفي بناء الحكمِ على الأَصلِ تجويزٌ لمباشرةِ الفروج مع عدم الإذن، ونفيهِ الإباحةَ وبقاء الملك؛ لأنَّ البقاءَ على حكمِ الأصلِ لا يوجبُ العلمَ بشىءٍ من ذلكَ، لجوازِ أن تكونَ البيِّنةُ زوراً عند الله، ومع كونِ الشَّرع قد قطعَ على أنَّ أحد المتلاعنين كاذبٌ عند الله، ومع ذلك فقد بنى على هذا التجويزِ إباحةَ الدِّماءِ والأموالِ والفروج، وفسخَ العقودِ، ونقلَ الأملاكِ، لاسيَّما على قولِ مَنْ قال: إنَّ حكمَ الحاكمِ يحيلُ الحظرَ إباحةً، والإباحةَ حظراً، وما منعَ بالعفو عن الخطأ أن (¬1) ضمَّ إليه أجراً، فقال: "إذا اجتهدَ الحاكم فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن ضم".

فله أجر" (¬1)، وفارقَ المنعَ من الاجتهادِ في أعيانِ الفروج والمساليخ التي فيها مباح ومحظور، لأنَّ هناكَ عيناً قطعنا على حظرِها، وعيناً اختلطت بها، وفي مسائلِ الاجتهادِ ما قطعنا على عينٍ محظورة، فنحن بالدلائلِ والأماراتِ نستخرجُ حكمَ الله سبحانه. ومنها: قولهم: لوكانَ القياسُ الشَّرعيُّ صحيحاً يجوزُ التَّعبُّد به، وهو لايثبتُ إلاَّ بعدَ ثبوتِ القياسِ العقلي، وهو أصله المردودُ قياس الشَّرع إليه، لوجب أن يجريَ مجرى عللِه المقيسِ عليها، فيجري القياسُ العقليُّ عليه، وقد ثبت أنَّ العلَّةَ العقلية إذا أوجبت حكماً، وجدت مثلها ونظيرها موجباً لذلك الحكم، وقد اتفقَ القائمون على أنَّه قد يكون مثلُ علةِ الحكمِ في الشيء غيرَ علة لثبوته في غيره، فوجب لذلك القضاءُ بفَسادها، وبطلانُ القياس عليها. فيقال لهم: إننا لا نثبتُ القياسَ الشَّرعيَّ لثبوتِ القياسِ العقلي، ولا نعلم أنَّ العلَّةَ لتحريمِ الشيءِ وتحليلِه علةٌ لذلك بقَضِيَّةِ العقلِ بضرورتِه ودليل فيه، وإنَّما نصَحِّحُ القياسَ الشَّرعي وموجبه بالتوقيف على وجوبِه، ونعلمُ علةَ الأصل علَّةً بحكمةٍ يجعلُها سبحانه لنا عَلَماً على الحكم، ولولا ذلكَ لم يعلم كونُها علةً بما يعلما به كونُ عللِ العقلِ عللاً لأحكامها، وإذا كانَ ذلك كذلك، بطلَ ما بنيتم عليه أكثرَ شبهكم في هذا الباب، فكلامُكم في كثيرٍ منها إنَّما يتوجَّه على القائلين بوجوبِ القياسِ الشَّرعي من جهةِ العقل، فهذا فاسد عندنا بما نبيِّنه بعدُ إن شاء الله. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 294.

على أنَّ ما قلتموه لا يجوزُ بعد ورودِ الشَّرع، والتعبدِ بالقياسِ، وجعلِ الصِّفة علةً للحكم وعلامة على ثبوتِه؛ لأنَّ تجويزَ وجودِها في بعضِ الأعيانِ مع عدمِ الحكمِ نقضٌ لها، سواءٌ كانت منصوصاً عليها أو مستنبطةً مستثارةً، فهو كلامٌ باطلٌ، وإن كانَ كلاماً على مجيزي تخصيصِ العللِ الشَّرعيةِ مع ثبوتِ القياسِ والتعبدِ به، وذلكَ غيرُ جائزٍ على ما نبيِّنه فيما بعدُ إن شاء الله. فإن قيل: لا بدَّ لكم من القول بذلكَ، لأنَّ الله تعالى قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]، إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وحالُه - صلى الله عليه وسلم - وحالُ سائِر المؤمنين متساويةٌ، وقال عليه الصلاة والسلام في أُضحِيَّة أبي بُرْدة: "تُجزِئُك ولا تجزئ أحداً بعدك" (¬1) وجميعُ المكلفين متساوون، ولا معنى يختصّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بردة يوجب إفرادَهما عن جماعة المكلفين المتساوينَ حُكماً. قيل: ليسَ الأمرُ على ما ذكرتم، لأنَّ هذين الحكمين ليسا معلولين، ولا يدلُّ على تعليلهما دليلٌ، وما نقولُ: إنَّ جميعَ أحكامِ الشَّرع معلولةٌ، بل الأكثرُ منها غير معللة، وهذان الحكمان من جملة ما لم يُعلل، ولا عرفنا له علَّةً دلَّ عليها بعضُ الأدلّةِ على العللِ الموجبةِ للتسوية بين النبي عليه الصلاة والسَّلام وبين غيرِه من ألامَّةِ في استباحة الموهوبةِ، ولا بينَ أبي بردةَ وبين غيرِه في الأضحية، وإذا كان كذلك سقطَ ما قالوه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 98، تعليق (3).

على أنه يجوزُ أن تكونَ العلةُ الكرامةَ التي خُصَّ بها، وخَصَّ أبا بردة لأجلِ أنه حَرَصَ على الطَّاعةِ فبادرَ بما كان عنده ثم لم يحل فَسومِحَ كرامة له خاصة. ومنها: أنَّ عللَ الأحكامِ فاسدةٌ لخروجها عن سُنَنِ العللِ العقليةِ، لأنَّ منها ما لا يثبتُ الحكمُ عندكم إلاَّ بمجموع أوصافٍ ينضمُّ بعضُها إلى بعضٍ، وكلٌّ منها على حدته لا يُثبِت الحكم، فالعلل ما استقلت بإيجاب أحكامها، كالحركةِ استقلت بإيجاب حكمها، وهو كون ما قامت به من الأجسام متحرِّكٌ، وكذلكَ السَّوادُ والحياةُ لكونِ المحلِّ حياً. فيقال: قد تكرَّر منَّا القولُ بأنَّها ليست موجبةً، وإنَّما هي أمارةٌ وعلامةٌ على الحكمِ، والأماراتُ والدلائلُ قد تكونُ في كشف ما كانت أمارةً عليه متعاضدةً، كالغيمِ تتعاضدُ أماراتُه من الكثافةِ، والدنوِّ والامتدادِ، وسقوط الجدار بانشقاقه وانتثاره، وكون الأمير في داره بفتح الباب ووقوف البوَّاب وضَجَّة الغِلمانِ إلى ما شاكَلَ ذلك، فهي من هذا القَبيلِ لا من قبيل العللِ الموجبةِ، وقد أَطَلْنا في هذا القول. على أنَّ بعضَ المتكلِّمين من القائلين بالقياس لإثبات الأحكام قد أجاب عن هذا بأن قال: وقد ضربنا في إثبات القياس مثلاً وهو غرق السّفينة، بأنه معلل باعتماد الأثقال فيها، وإذا تعاضد حجر بعد حجر، وقفيز بعد قفيز، فهذا ما أغرقها، إنما حدث غرقُها باجتماع تلك الأثقال إذ لم يكنِ الواحد من الحجارة والقفزان محصِّلاً حكمَ العلة، وهو غرقُ السَّفينة، فمَنْ قال: إنَّ الغَرَقَ حصلَ بالجميع، جعل العلَّة مجموعَ أشياءَ

وأهلُ الأصول في ذلك على المذهبين، وسنبيِّن ذلك في باب العلل إنْ شاء الله. ومنها: أن قالوا: إنَّ أحكامَ الشَّرع لم تَرِدْ على بناءِ القياسِ العقلي المجمَع على صحَّته، ولا قياسُ الأحكامِ الشَّرعية واردٌ بما توجبه قضية العقل، وعلى تقدير ما فيه من الأحكام، لأنَّ قضيةَ القياس العقلي توجبُ أنَّ كلَّ شيئيْن متماثليْن متساويين فحكمُهما متماثل متفق غير مختلِف، لأنَّ الأحكامَ تَتْبَعُ عللَها، فلا توجب الحركةُ انتقالَ الجسمِ ولُبْثه، ولا السوادُ سوادَ الجسم وكونه أبيضَ، بل السَّواد يوجب كون ما قام به من الأجسام كونه أسود، والبياض يوجب كونه أبيضَ، جئنا إلى عللكم وجدنا أنَّ الشَّرعَ قد وَرَدَ بالتسوية بين حكم المختلف في الصِّفة والمعنى، وبالمخالفة بين حكم المتفقين، بيان ذلك الحيضُ، والنفاسُ، والمنيُّ، والبول، والغائطُ، والمَذي، كلُّها خوارجُ من محل واحدٍ، والحكمُ مختلف في الغُسل وتحريمِ الوطء وإبطالِ الصَّوم، وأباح النظرَ إلى وجه الحُرَّة وهو مجمعُ المحاسنِ، وحرَّم النظر إلى شعرها، وسوَّى بين قتل الصَّيد عمداً وخطأً في إيجابِ الضَّمانِ، وهما مختلفان في الغايةِ، وسوَّى في إيجابِ القتل بين الرِّدَّةِ والزِّنى والقتل، وسوَّى في إيجاب الكفارة بين قتلِ النفسِ والوطءِ في رمضانَ وبين الطهار، وهي أمورٌ مختلفةٌ جداً، ومعلوم أنَّ هذا يبطل الاعتبارَ بالأمثال وتقريبِ بعضها إلى بعض في كلِّ الأحكام، فإنَّ غايةَ ما يمكن المجتهد أن يوجب للمتشابهين اللذين جمع بينهما اجتهاده، حكماً وجده لأحدهما فعدَّاه إلى الشبيه مثلاً، وقد بانَ من وضع الشَّرع أنَّ التساوي لا يوجب حكماً للمتساويين، فلا وجه للعمل بالقياس في

إثباتِ الأحكام الشَّرعية، ويوضح هذا كون الشدَّة في زمانِ لا توجب تَحريماً ولا مأثماً ولا حدّاً مع كونها تفسد العقل عند التغيرَ بشدة، وفي زمان آخر حرِّمت، وفي عصير العنب كفرت المعتقِد، وفسَّقت الشارب وفي عصير التمر لم توجب ذلك، بخلاف علل العقل التي لا تختلف بمحل ولا زمان. فيقال لهم؛ أمَّا قولكم: إن قياسَ الشَّرع ورد بخلاف حكمِ العقل .... (¬1) وبناء أحكامه وقياساته فهو إطلاق، باطل، لأنَّه يوهم أنَّه مُحالات العقول، وأنه قد علم بضرورة العقل أو دليله استحالةُ ورود التعبد به. وهذا باطلٌ، وفيه وقعَ الخلافُ، وبالدلالة عليه طولبتم، بل لم يرد السَّمعُ فيه من التعبد به إلاَّ بما يجوز بالعقل ولا يحيله، ولو سلَّمنا أنَّه بما يحيله العقلُ لأجَّلنا ورودَ التعبُّدِ به، ولقطعنا على بطلانِ ثبوته من أَبَى بأنه من اللهِ عزَّ وجلَّ، فهذا جواب. وأمَّا قولكم: إنَه قد جمع كثيراً من الأحكام بين المختلفين، وفرَّق، فيها بين المِثلين في الصِّفة، فإنَّه كلامٌ مُطرًّح، لأنَّنا قد بيَّنا فيما سلف أنَّ الصِّفَة التي تكون علةً للحكم، وعلامةَ عليه، لم تكن علَّةً لكونها صفةً نفسية، أو معنويةً، أو صورةً وبُنْية وهيئة، أو حكماً شرعياً في الأصل، وإنَّما يجب أن تكون علَّةً إذا دلَّ الدليلُ على تعلُّقِ الحكمِ بها وكونها أمارةً لوجوبه ودلالة عليها، فإذا ثبت كونُها علًةً مع التعبُّد بالقياس، وجب تعلُّقُ الحكمِ ¬

_ (¬1) هنا في الأصل قدر أربع كلمات غير مقروءة.

بها في كلِّ ما وجدت فيه، وإنِ اختلفَ ذلك في أحكامٍ وصفات أخر، ولو ورد النصُّ بمثل هذا لوجب باتفاقٍ القولُ به والقضاءُ بصحَّته، وأنَّه غيرُ خارج عن قضيةِ العقلِ، لأنه لو قال: حُرِّمت الخمرُ لشدَّتها وصدها عن ذِكْر الله، فأَلْحِقُوا بها كلَّ ما سواها في هذه الصِّفة، لوجبَ إلحاقُ النبيذِ وكلِّ مسكرٍ شديدٍ بها، وإنِ اختلفت أجناسها وهيئاتها (¬1)، وكذلك لو قال: قد ضربت التكليفَ على العاقل لكونه عاقلاً، لدخل في ذلك الطويلُ والقصيرُ، والأنثى والذكر، والصَّحيحُ والسقيمُ. وهذا هو الذي تقتضيه قضيَّةُ العقل، وقضيةُ علله، لأنَّ الجسمين متى اشتركا في وجودِ الحياة بهما وجب القضاءُ على تساوي حالهما وكونهما حيَّينِ، وإن كان أحدهما قاضياً والآخر تاجراً، أو أحدهما عالماً والاَخر جاهلاً، وإذا اجتمع الجسم والعَرَض في الوجود عن عدم قُضِي لهما بالحدوث، وإن اختلفا من كلِّ وجهٍ، وفيما عدا هذه الصِّفة. وأمثال هذا يكثر ويطول فيمَنْ يقضي بافتراق حكمي الشيئين فيما يوجب افتراقهما، وباجتماعهما فيما يوجب مساواة حكمهما، فبطل بذلك ما قالوه. فإن قيل: فقد يشبه الفرع أصلين متضادَّي الحكمين، أحدهما: حلال، والآخر: حرام، ويُشاركُ كل واحد منهما فِى صفة من الصِّفات يقتضي عند المجتهد الحكمُ فيه بحُكْمِهما جميعاً، فما الذي تَصنعون في ذلك؛ قيل: يكون عندنا مخيَّراً في الحكم بأيِّهما شاء، على ما نبينه من بعدُ إن شاء الله. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أجناسهما وهيئاتهما".

فأمَّا الجواب عن تفصيل ما ذكروه من التفرقة بين المتفق في الصِّفة، والتسوية بين المختلف فيها،- فإنَّه بُعْدٌ منهم، لأنَّنا لانعر علَّة شيء ممَّا ذكروه، ولا ندَّعى لكلِّ حكمٍ علةً، فما نعرف أنَّ العلًةَ في وجوبِ الغُسل من المنيِّ لا يختص كونه خارجاً من مخرج واحد حتى يوجبه من البول بخروجه من مخرجهما، بل لا نعرف لذلك علَّةً فلم يجبِ القياسُ عليه، ولا نعرف علَّةَ التفرقةِ بين النظر إلى وجهِ الحرَّةِ وشعرها، حتى نحمل أحدهما على الآخر، فأمَّا إيجاب الكفارة في القتلِ والظِّهار والحنث في اليمين، وأمثال ذلك من إيجاب القتلِ بالقتل والرِّدَّة والزِّنى والإحصانِ، فليس بقادحِ في القياسِ؛ لأنَّ كلَّ شيء من هذه العاني والأفعال المختلفة علًةٌ لثبوتِ الحكم، نعني بذلك أنَّها علَمٌ على وجوبه، وليس يمتنع أن يجعل الله سبحانه على (¬1) وجوب الكفّارات علامات مختلفة، ولذلك صحَّ القولُ بالعلتين على ما نذكره من بعدُ إنْ شاء الله. وإنَّما يمتنع اجتماع الأشياء المختلفةِ الأجناسِ في إيجاب حكمٍ عقلي لأجل أنَّ موجبه من العلل يوجب حُكمَه وما هو عليه من الصِّفة في ذاته، وإنْ كان الله سبحانه خلقه وجعله موجباً للحكم، كما أنَّه قد جعل الشِّدَّة علامةً على تحريم الخمر، وكلاهما مجعولان من قِبَلِه تعالى على هذا الوجه، وهذا واضحٌ في فساد ما تعلَّقوا به. وهذه الجُمَلُ التي ذكرناها عن مُحِيلِي التَّعبُّد بالقياس لأجل جهل العباد بالمصالح، وفساد العلل الشَّرعية وإحالة كونها علامةً على الأحكام، كافيةٌ ومنبِّهةٌ على كل ما يعتلّون به ¬

_ (¬1) في الأصل: "علم".

* فصل في الكلام على من أحال التعبد به لأحل أنه يوجب على المكلفين الأحكام المتضادة

من جنس ما ذكرنا، ومما لعلنا لم نذكره، وبالله التوفيق. فصل في الكلام على مَنْ أحال التعبُّدَ به لأجل أنه يوجبُ على المكلفين الأحكامَ المتضادة قال هؤلاء: إنما وجب إحالةُ التعبُّد به، لأجل أنه يؤدّي إلى ما لا يصحُّ دخولُه تحت التكليف من إلزام الأحكامِ المتضادَّة، وما ليس في الوُسع والطاقة. قالوا: وبيانُ ذلك: أنَّه قد يتردَّدُ الفرعُ بين أصلين أحدُهما محلَّلٌ، والآخر محرَّم، ويُشبِهُهما، فيوجب شبهُه بالمحلل عند المجتهد كونه حلالاً، ويوجب شبهُه بالمحرَّم كونه حراماً، فيوجب أن يكون حلالاً حراماً. فيقال: إنَّ هذا باطلٌ من وجهين: أحدهما: أنَّ أكثر القائسين يَمنَعُ من ذلك، ويزعم أنَّه لا بدَّ من ترجيح شَبَهه بأحدِهما، ونحن وكلُّ مَنْ يقول: إنَّ الحقَّ في جهةٍ، وليس كلُّ مجتهدٍ مصيباً على هذا المذهب، وأنَّ الله سبحانه لم يجعل شبهه إلا بأصلٍ واحدٍ: إمَّا حلالاً وإمَّا حراماً، وأمر بالحاقه بذلك الأصل، فلا يجوز أن يُدَّعى أنْه يشبه الأصلين المختلفين أو المتضادين شبهاً واحداً، ومتى عَرَضَ ذلك للمجتهدِ، وَجَبَ عليه أن يجتهدَ في الترجيح، فإنه سيقعُ عليه ويصادفُه، ويَهجُم به الاجتهادُ في النظر على لحوقه بأحدهما، وربَّما قضى بعضُ المجتهدين فلم يعطِ الاجتهادَ حقه، فيَتهم حينئذٍ نفسَه، ويتوفف ولايُقدِم فيه بقضيةٍ ولا فتيا، حتى إنهم اختلفوا، أعني في هذا القبيل في أنَّه يقلِّد غيره، وبما يخصُّه من حكم

* فصل في القول في محيل التعبد به لأجل استحالة تعبده بالحكم بغالب الظن مع القدرة على النص وما يوصل إلى العلم

الحادثة، أو يكون وقت فرض تعبُّده غَلَبَةَ ظنِّه لقوةِ أحدهما على ما نذكره في كتاب التقليد من بعدُ. وهذا جوابٌ يُبطِلُ ما أصَّلوه من إلزام التضادِّ. جوابٌ آخر: مع التسليم أن التقاوُمَ والموازنةَ على المساواة قد يَقَعُ في مثلِ هذا ويجده المجتهدُ من نفسه أحياناً، فحكمُ اللهِ حينئذٍ تخييرُ المجتهدِ في ذلك بين إلحاقه بأيِّ الأصلين شاءَ، كما يتخيَّر في الكفَّاراتِ بين الأعيان، وتعليقُ الحكم على الواحد المنكَّر مثل قوله للمكلَّف: اقتل مشركاً، أو أعتِقْ عبداً، فيَتَخيَّرُ في قتل أيِّ المشركين شاء، وعِتْق أيِّ العبيد شاء، وهذا لايجيءُ إلا على القول بأنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، وكذلك العاميُّ يقلِّدُ أيَّ العلماء شاء. فصل في القول في مُحيل التَّعبُّدِ به لأجل استحالةِ تَعبُّدِه بالحكم بغالب اَلظنّ مع اَلقدْرة على النصّ وما يُوصِلُ إلى العلمِ فزَعَمُوا أنَّ ذلك لايجوزُ؛ لاستحالَة اقتصارِه بالمُكلَّف على أَدْوَنِ الطريقين والدليلين: وهو القياسُ، مَعَ القدرةِ على أعلاهما: وهو النَّصُّ، وما يَجْرِي مَجْراهُ مما لايَحْتمِلُ إلا معنى واحداً. فأوَّلُ ما يقالُ لهم: ولِمَ زَعَمْتُم أنَّ ذلك محال في صفتِه سبحانه؟ وما دَليلكُم عليه مَعَ الخلافِ الواقع فيه؟ فإن قالوا: لأَنَّ الحُكْمَ بالعِلْمِ اليقينِ أَصلحُ في تدبيرِ الخَلْقِ من إِحالتِهم

فيه على غالبِ الظنِّ. قيل: ولِمَ زَعَمْتُم أَنَّه لايجوزُ أن يفعلَ بالخلقِ في أَمرِ الدنيا والدينِ إِلا ما هو أَصلحُ الأمورِ لهم؟ وليس هذا من كلامِ الفقهاءِ في شيءٍ. ويقالُ لهم على سبيلِ ما ادَّعَوْه: ومِن أين عَلِمْتُم أنه لابُدَّ أن يكونَ العملُ بموجِبِ النّصوصِ أَصلحَ في تدبيرِ المكلَّفينَ مِن إِحالتِهم في كثيرٍ منها على موجبِ الرَّايِ وغالبِ الظنِّ؟ وما أَنْكَرتم من أنَّه قد عَلِمَ سبحانه أنُّ رَدَّهم فيَ كثيرٍ من ذلك إلى الاجتهادِ وغالبِ الرايِ أَصلح لهم، وأنه لو نَصَّ لهم على كُلِّ حكمٍ بعَينه بم لنَفَرُوا عن طاعتِه، وكان ذلك لُطْفاً في فسادِهم، وأَنَّ في تخفيفِ مِحْنَتِهم وتسهيلِ الأَمرِ عليهم في الرُّجوع إلى الرَّايِ لطفاً في المصلحة، وأَنّه عندَه أَقربُ إلى الوافقةِ والطاعةِ، فلا تجِدُونَ إلى دَفْع ذلك طريقاً. ويقالُ لهم أَيضاً: أَتَزْعُمُونَ أَنَّ غالبَ الرَّايِ والظنِّ بيانٌ للحكم، وعَلَمٌ على وجوبِه، ومصلحةٌ في التكليفِ، وإن كان التعبُّدُ بالرُّجوع إلى مُوجِبِ النصِّ أَبْينَ وأَصلحَ، أَم تَزْعُمُونَ أنَّ غالبَ الظنِّ ليس ببيان للحكمِ، ولا العملَ بموجِبِه مصلحةٌ في الدِّينِ أَصلاً؟ فإِن قيل: بل (¬1) هو بيانٌ ومصلحةٌ، وإِن كان دون البيان بالنَّصِّ والاسْتِصلاح به؛ فقد أَقَرُّوا بأَنَّ الأَعلى والأَدنى في مَرْتبةِ البيانِ والاستصلاح قد اسْتَوَيا، وهذا إِقرارٌ بعَيْنِ ما أَنْكَرُوه علينا، وتَعلقُوا به. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لم".

* فصل مفرد لبيان ورود السمع بذلك

ويقالُ لهم أيضاً: إِنَّ الله سبحانه قد رَدَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في كثيرٍ من الأَحكام وأَصحابَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - إلى طريق الظنونِ بأخبارِ الآحادِ والآراءِ، والاسْتِثارةِ المُصدرةِ للرأيِ، معَ قُدْرتِه على بيانِ جميع ذلك بالنُصوصِ غيرِ المُحتمِلةِ؛ بل بالمُوجِبةِ للقَطْع، فلِمَ مَنَعْتم إِثباتَ الأَحكام إِلا من طريق النُّصوصِ دونَ الأَدِلةِ المُوجِبةِ للظُّنونِ؛ ومعلومٌ أنّه فَسَحَ لنا في العملِ بقولِ الشُّهودِ في الدِّماءِ والأَموالِ والعُقودِ، وهي ظنونٌ، ورَجَّح بالتصَرُّفاتِ والأَيدي واللَّوْث (¬1)، وكلُّ ذلك أَمارات ظَنِّيَّةٌ لا أَدلَّةٌ قَطعيَّةٌ، وكذلك أَمرُ القِبْلةِ ومواقيتِ الصلواتِ فِى أَيام الغُيومِ وخَفاءِ الأَظِلةِ والأَفْياءِ المُستدَلِّ بها، وَكَلَنا فيه إلى الأَماراتِ، ثم إِنَه قَدَّرَ بعضَ العقوباتِ -وهي الحدودُ- بالنُّصوصِ القاطعة، ثم وَكَلَ إِلينا التعازيرَ للعَبيدِ والزَّوجاتِ عند النُّشُوزِ (¬2)، وما دونَ الحُدودِ من عُقوباتٍ، وَكَلَها إلى آراءِ الأَئِمَّةِ، وتلك ظنونٌ متجاذبةٌ، فأَينَ مطالَبتُكم بالقطعيَّاتِ في الأَحكام معَ هذه الأَوضاع الشَّرعيةِ التي لامَحِيصَ لكم عن التَّفَصِّي (¬3) عن القولِ فيها بغَلَبَةِ الظنِّ دونَ القطع. فصل مفرد لبيانِ وُرود السَّع بذلك بعدَ فراغِنا من بيان أنَّه طريقٌ فنقولُ وبالله التوفيقُ: إِنَّ النُّقو الصَّحيحةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابِه- رضوانُ الله ¬

_ (¬1) اللوْث: البينة الضعيفة غير الكاملة. قاله الأزهري. "المصباح المنير (لوث). (¬2) النُشُوز: هو العصيان والامتناع. "القاموس": (نشز). (¬3) التفَصِّي: التخلص أو التفلت."المصباح المنير": (فصى).

عليهم- مُطبقة على استعمالِه في الأَحكام، فالأخْذُ به، والتعويلُ عليه فيما لانَصَّ فيه أَمر مقطوع به. فمِن ذلك: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سُئِلَ عن القُبْلَةِ في حقِّ الصَّائمِ: "أَرَأَيْتَ لو تَمَضْمَضْتَ؟ " (¬1) فانظر إلى استثارةِ المَعْنى؛ أَنَّ القُبْلةَ الْتِذاذٌ يَحصُلُ بالفَمِ؛ هو مَبْدا الاستثارة للشَّهوةِ التي تَنْتَهي إلى غايةِ الوَطَرِ، وهو الجِماعُ، فكذلك وصولُ الماءِ إلى محل لايحصلُ به الرِّيُّ، وإنَّما يحصلُ به الإحساسُ ببرودةِ الماء الذي هو مَبْدأ ينتهي إلى غايةِ الوَطرِ، وهو الرِّيُّ. وقولُه - صلى الله عليه وسلم - للَّتي سَأَلَتْه عن إِدراك فريضةِ الحجِّ أَباها وهو شيخٌ كبيرٌ لا يَسْتمسِكُ، والحَجِّ عنه: "أَرَأَيْتِ لو كان على أَبيكِ دين؟ " (¬2) فهذا في الإِلحاقِ والتًعْدِيَةِ، وتَشْبيهِ الشيءِ بنَظِيرِه، وإفاضةِ حُكْمِه عليه. وإنما استثارَ العانيَ مثل قولِه: "إنما أَنْسَى لأَسُنَّ" (¬3) إنما يأتيني (¬4) النسيان لأسنَّ التلافي والجبران، "إِنما نَهَيْتُكم عنِ ادِّخارِ لحومِ الأَضاحي لأَجل الدَّافةِ" (¬5)، وقال في القُبورِ: "كنت نَهَيْتُكم عن زيارةِ القبورِ، أَلا فزُورُوها؛ فإنها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرةَ" (¬6) "إِذا اسْتَيْقَظَ أَحدُكم مِن نومِه، فلا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 54. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 54. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 23. (¬4) في الأصل: "يلتقي". (¬5) تقدم تخريجه 2/ 52. (¬6) أخرجه أحمد 5/ 350، وأبو داود (3235)، والنسائي 4/ 89، من حديث بريدة الأسلمي

يَغْمِسْ يدَهُ في الإِناءِ، حتى يَغْسِلَها ثلاثاً، فإِن أَحدَكم لا يَدرِي أين (¬1) تَطُوفُ يَدُه" (¬2)، وقال في الصَّيدِ: "فإن وَقَعَ في الماءِ، فلا تَأكُلْ، لعلَّ الماءَ أَعانَ على قَتْلِه" (¬3)، "الهِرُّ ليست بنَجِسٍ، إنَّها مِنَ الطوَّافِينَ عليكم والطوَّافاتِ" (¬4)، وقال في الجَمْع بين الأُخْتَينِ، والمرأَةِ وبنتِ أُختِها: "فإِنَّكم إذا فَعَلْتم ذلك، قَطَعْتم أَرْحامَكم" (¬5)، وسُئِلَ عن ضَاَّلةِ الغَنَمِ، فقال: "هي لكَ، أَو لأَخيكَ، أَو للذِّئْبِ" تقديرُه: فخُذْها؛ لِئَلاَّ تكونَ للذئْبِ، فتَهْلِكَ على رَبِّها وعليك، وقال لَمَّا سُئِلَ [عن] ضَالَّةِ الإِبِلِ: "ما لكَ ولها، معها حِذاؤُها وسِقاؤُها، تَرِدُ الماءَ وتَأكُلُ الشَجَرَ، فدَعْها حتى يَأنتِيَها ربُّها" (¬6)، فأَبانَ بذلك عن عِلةِ الفَرْقِ بينها وبين الغَنَمِ؛ لامتناعِها على الذئابِ، واستقلالِها بتحصيلِ العَلَفِ مِن أَعالي الشَّجرِ إن عَدِمَتْ عُشْباً، وتحصيلِ الماءِ العميقِ بطولِ أَعناقِها المُشبَّهةِ بالسقاءِ، وقوله: "أَقِيلُوا ذوي الهَيْئاتِ عَثَراتِهم" (¬7)، "تجاوزوا عن ذَنْبِ السَّخِيِّ" (¬8)، "إِنَّه شَهِدَ بَدْراً، وما يُدْرِيكَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن". (¬2) أخرجه أحمد (7282)، ومسلم (278)، والنسائى 1/ 6 - 7 من حديث أبى هريرة (¬3) أخرجه البخاري (5484)، والنسائى 7/ 218، 219. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 108. (¬5) أخرجه الطبراني في "الكبير" 11/ 337. (¬6) أخرجه أحمد 4/ 117، والبخاري (2372) (2429)، ومسلم (1722)، وأبو داود (1705) والترمذي (1372) من حديث زيد بن خالد الجهني. (¬7) تقدم تخريجه ص (41). (¬8) تقدم تخريجه ص (10).

* فصل فيما جاء في استعمال القياس عن الصحابة

أَنَّ الله اطلعَ إِلى أَهلِ بَدْرٍ، فقال: اعْمَلوا ما شئْتم، فقد غَفَرْتُ لكم" (¬1) فنبَّهَ على تأثيرِ مكارمِ الأَخلاقِ وفضائلِ الأَعمال فني إِسقاطِ المؤاخذةِ والمقابلةِ على نَوادرِ الإِساءاتِ وبَوادرِ الخَطايا. ولو تُتُبِّعَ دْلك مِنَ الشَّرع لَطالَ به الكتاب وفيما ذَكرْنا كِفايةٌ للمُنصِفِ، ونَذْكرُ ما جاءَ عن الصَّحابةِ رضوان الله عليهم في ذلك. فصل فِيما جاءَ في استعمال القياس عن أَصحابِ رسول اللهِ، وفزَعِهم إليه عندَ اختلاَفِهم في اَلحوادثِ التي عَرَضَتَ في عصرِهم فيما لم يَردْ فيه سَمع؛ إذ لوكان سَمع، لما وَقع الاختلافُ بينهم فَمِنْ ذلكَ: اختلافهم في لَفْظَةِ الحَرامِ، وتوريث الجَدِّ مع الإخْوَةِ. فبعضهم قاسَ لَفْظةَ الحرامِ على لَفْظةِ الظِّهارِ، وبعضُهم شَبَّهَها باليَمينِ، وبعضهم جَعَلَها طَلاقاً ثلاثاً، وبعضُهم جَعَلَها طَلْقةً بائنةً، وبعضُهم جَعَلَها طَلْقةً رَجْعِيَّةً، وبعضُهم أَوْجَبَ بها كَفارةَ اليَمينَ، ولم يَحْكُمْ بها يميناً (¬2). وبعضُهم جَعَلَ الجَدَّ كالأَبِ في إسقاطِ الإِخوةِ والأخواتِ، وبعضُهم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (41). (¬2) انظر "المغني". 1/ 396، و 11/ 61.

جَعَلَه كأَحدِ الإِخوةِ، ومَيَّزَهُ عندَ المُزاحمةِ بتوفيرِ السُّدُسِ، وبعضُهم قاسَهُم به، مالم تُنْقِصْه المُقاسمةُ من ثُلُثِ الأَصلِ أو ثُلُثِ الباقي بحَسَبِ المكانِ (¬1). ومِن ذلك: اختلافُهم في قَدْرِ حَدِّ الشَّاربِ، وقولُ عليّ كَرَّمَ الله وجهَه: ارَاهُ إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افتَرى، فحُدُّوه حدَّ المُفترِي (¬2). ومِن ذلك: مُشاورةُ عمرَ رضي الله عنه في التي أَنْفَذَ إليها، ففَزِعَتْ، فأَجْهَضَتْ ذا بَطْنِها، وقولُ عثمانَ وعبدِ الرحمن: إِنَّما أَنت مُؤَدِّبُ، لا نَرى عليك شيئاً، وقولُ علي: أَرى عليك الدِّيَة (¬3). ومِن ذلك: اختلافُهم في الإِكسالِ والإِنزالِ، وقولُ علي رضي الله عنه: تُراني أَرْجُمُه بالحِجارةِ، ولا أُوجِبُ عليه الاغتسالَ بصاعٍ مِن ماءٍ؟! (¬4) ومن ذلك: قولُ ابنِ عباس في مسأَلةِ الجَدِّ: أَلا يَتَّقي الله زيدٌ! يجعلُ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يَجْعَلُ أَبَ الأَبِ أباً! (¬5) وقولُه في العَوْل: مَن شاءَ باهَلَني، باهَلْتُه، والذي أَحصى رَمْلَ عالجٍ عَدَداً، ما جَعَلَ اللهَ في الفريضةِ نِصْفاً ونِصْفاً وثُلُثاً، ذهبَ المالُ بنِصْفَيه، ¬

_ (¬1) انظر "المغني" 9/ 65. (¬2) تقدم تخريجه 3/ 225 (¬3) تقدم تخريجه ص (205). (¬4) تقدم تخريجه 2/ 36. (¬5) تقدم تخريجه 2/ 37.

فاُينَ موضعُ الثلُثِ؟ (¬1) ومِن ذلك: قولُ ابنِ مسعود في بَرْوَعَ بنت واشِقٍ: أَفولُ فيها برَايى؛ فإن يَكُنْ صواباً، فمِنَ الله، وإن يَكُنْ خطأً، فمنِّى ومِنَ الشَّيطانِ (¬2). ومِن ذلك: قولُ عمرَ في صَدُقاتِ النِّساءِ: فإِنها لو كانت مَكْرُمةً أَو تَقْوى عندَ اللهِ، لكان أَسْبَقَكم إليها رسولُ الله، فلما قالت له امرأَةٌ: لِمَ تَمْنَعنا ما أَعطانا الله؟ قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، [فقال]: امرأةٌ قالت، فأَصابت. ورُوِيَ: كلُّ أَحدٍ أَفْقهُ مِن عمرَ حتى امرأَة! (¬3). ومِنْ ذلك: قولُ أبي بكر الصِّدِّيق- رضي الله عنه- في الكَلالَةِ: أَقولُ فيها برايي، فإن يكُنْ صواباً، فمِنَ الله، وإِن يكُنْ خطأً، فمِني ومِنَ الشَّيطانِ، واللهَ ورسولُه منه بَرِيئانِ، الكَلالَةُ، ما عدا الوالِدَ والولَدَ (¬4). ومِن ذلك: أنَّه كان مِن رَايِه رضوانُ الله عليه التسوِيَةُ بينَ الناسِ في العطاءِ، حتى قال له عمرُ: أَتَجْعَلُ مَنْ هاجَرَ إلى الله ورسولِه، وتَرَكَ ديارَه وأَمْوالَه، كمَنْ دَخَلَ في الإِسلام كُرْهاً؟! فقال أَبوبكر: إِنهم إِنما أَسْلَمُوا ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي 6/ 253، وانظر 2/ 30. (¬2) أخرجه أبو داود (2114) (2115)، والترمذي (1145)، والنسائى 6/ 431، وابن ماجه (1891). (¬3) تقدم تخريجه 2/ 35. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 402، وعبد الرزاق (19191).

وهاجرُوا إِلى الله، فأُجورُهم على الله، وإِنما هذه الدُّنيا مَتاعٌ (¬1) وكأَنَّ أَبابكر- رضي الله عنه- لم يُحِب أن يَجْعَلَ مِنَ العَطاءِ ثمناً للإِيمانِ والهِجْرَةِ وفضائل الأَعمالِ، ووَكَلَ ذلك إلى دَيّانٍ يَسْمُو فِى العطاءِ، ثم لَمَّا صارَ (¬2) كُرْسِيُّ الخِلافةِ إلى عمرَ رضي الله عنه، فاضَلَ في العطاءِ، وعَلِمَ أَن الله سبحانه قد جَعَلَ الآخِرةَ دارَ الجَزاءِ، وعَجَّلَ في هذه أَصْلَ العطاءِ، بُلْغَةً وإعانةً على ما هم بصَدَدِه مِن نَدْبِ نفوسِهم لِمَا نَدَبُوها، فلَمَّا لم يَمْنَعْ ذلك أَصْلَ العطاءِ- وإِن لم يَكُنْ ثمناً لكن بلاغاً- كذلك الزِّيادة، فكُلٌّ منهما ذَهَبَ إلى وَجْهٍ مِن وجوهِ الرَّأيِ، والمعنى الواضح. ومِن ذلك: أَنَّ أبا بكر الصِّدِّيقَ اشْتَهَرَ عنه أَنَّه وَرَّثَ الجَدَّةَ أمَّ الأُمِّ، ولم يوَرِّثِ الجَدَّةَ أمَّ الأَبِ، فقال له أَنصاريٌّ: لقد ورَّثْتَ امرأَةً مِن ميِّتٍ، لو كانت هي المَيتةَ لم يَرِثْها- يعني: أُمَّ الأمِّ، فإِنَّه ابنُ بِنْتِها- وتَرَكْتَ امرأَةً لو كانت هي الميَتَةَ، وَرِثَ جميعَ ما تَرَكَتْ- يعني: أَن الأَبَ ابنُها-، فلَمَّا سَمِعَ ذلك، أَشْرَكَ بينهما في السُّدُسِ (¬3). وهذا أَخْذٌ منهم بالرَّايِ، وتعويلٌ على المعاني المستنبَطةِ المعقولةِ. ومِن ذلك: ما أَجْمَعوا عليه مِنَ الرَّأيِ والاجْتهادِ، وكان المبتدِئ به عمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه، الذي لم يَزَلْ رأيه موافقاً لِمَا يَنْزِلُ مِن وَحْي الله إِلى نبيِّه في عِدَّةِ قضايا ومواطنَ: [وهو] ما رَآهُ وأَشارَ به من ¬

_ (¬1) انظر "الأموال" لأبي عبيد 264. (¬2) في الأصل: "صارت". (¬3) أخرجه عبد الرزاق (19084)، والبيهقي 6/ 235.

تَسطيرِ القرآن في المصاحفِ حِفظاً له عنِ الشّذوذِ، لَمَّا رَأَى القَتْلَ قد اسْتَحَرَّ (¬1) بقُرَّاء القرآن في قتالِ أَهلِ اليَمامَةِ، وقولُه لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، وقولُ أبى بكرٍ: لا أَفْعَلُ، وكيف أَفْعَلُ ما لم يَفْعَلْهُ رسولُ اللهِ؟! وإِحضارُه زَيْدَ بنَ ثابتٍ، وكَراهَةُ زيدٍ ما كَرِهَه أَبو بكر مِن جَمْعِه، وقولُ زيدٍ (¬2): فلو كَلفُوني يومَئذ نَقْلَ جبالِ تِهامَةَ، لكان أَهْونَ عليَّ مِن ذلك، ثم شَرَحَ الله صَدْرَ أبي بكر وزيدٍ والجماعةِ إلى راي عُمَرَ (¬3)، واتفَقُوا على تَوْريثِ العَمَلِ به. وكان في ذلك أكثرُ المصالح، حيثُ حُفِظَ القرآنُ من الزِّيادةِ والنّقصانِ مِن أَهْلِ الاِلْحادِ، ومعلومٌ أَنه لم يَكُنْ نُفورُهم عن رَايِ عُمرَ إِلا لعَدَمِ النقلِ والسَّمع، ثم اتفَقُوا على مَحْضِ الرَّايِ ومُجرَّدِه. ومن ذلك: ما رَآهُ عثمانُ رضي الله عنه مِن جَمْع الكُلِّ على صَحِيفةِ أَبي بكر ومُصحَفهِ، وأَخْذِه مِن حَفْصَةَ، وضَمانِه لها رَدَّهُ عليها حتى سَمَحَتْ به، وأَخْذِه لجميع المصاحفِ الى كان فيها تَقديم وتَأنخير، وتَأويل وتَفسير، وتَبديل وتَغيير، إِلى غيرِ ذلك من التخليطِ والتَّحريفِ، على قَدْرِ حِفْظِ كاتِبِهِ، وتَحريقِ ذلك، ومُوافقةُ الكُلِّ له على ذلك (¬4)، حتى إِنَّه لَمَّا قيلَ فِى فِتْنَتِه: حَرَّاقُ المصاحفِ، قال عليّ رَدّاً على مَنْ عابَهُ: ¬

_ (¬1) أي: اشتد وكثر، وهو استفعل من الحَرِّ: الشدة. "النهاية" (حرّ). (¬2) في الأصل: "أبو بكر" وهو خطأ. (¬3) أخرجه أحمد (76)، والبخاري (4679). (¬4) أخرجه البخاري (4986) (4987).

واللهِ ما حَرَّقَها إلاَّ عن رَأي من جماعتِنا أَصحاب محمدٍ (¬1). فكان ذلك مِن فضائلِ عثمانَ رضي الله عنه. وإنَّما جَعَل الله سبحانه الرَّايَ طريقاً، وإن كان قادراً على إِنزالِ نُصوصٍ كاشفةٍ لأَحكامِ شريعتِه، ليُظْهِرَ فضائِلَهم التي أَوْدَعَها، وجَواهِرَهم التي مَنَحَها، كما أَبانَ عَمَّا أَوْدَعَه فيهم مِن تَلَقِّي أَثقالِ التكليفِ بحُسْنِ الاستجابةِ ببَذْلِ النُّفوسِ والأَموالِ، وفِراقِ الأَهلِ والأوطانِ، وقَطْع الأَرحامِ فيه، كذلك أَبانَ عن فَضْلِهم في الاجتهادِ والرَّايِ. ومِن ذلك: أَنَّهم ما تَحَرَّجُوا أَنْ ضَرَبُوا لأَحكامِ اللهِ الأَمثالَ، فقالوا في الجَدِّ ما قالوا مِنَ التشْبيهِ بشَجَرَةٍ تَشَعَّثَتْ (¬2) أغصانُها، وبنَهْرٍ انْخَلَجَ منه خُلْجانٌ (¬3)، وهذا كُلُّه ثِقَةٌ منهم بأَنَّ الرَّايَ طريقٌ من طُرُقِ الأً حكامِ. ومِن ذلك: ما كاتبَ به عمرُ رضى الله عنه في العُشورِ، ونَهْيُه للولاةِ بالعراقِ عن أَخْذِ الخُمورِ، فقال: وَلّوهم بيعَها، وخُذُوا العُشْرَ مِن أَثْمانِها (¬4)، وهذا مِن أَفقهِ الفِقْهِ، ومعناه أَخذَه مِن قولِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسَّلام في هَدِيَّةِ بَرِيرةَ ما كانَ تُصدِّقَ به عليها- وكانت الصَّدقةُ تَحْرُمُ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبى داود بنحوه في "المصاحف" 19. (¬2) أي: انتشرت وتفرَّقت: "المصباح المنير": (شعث). (¬3) جمع خليج، وهو النُّهَيرُ يقتطع من النهر الكبير إلى موضع ينتفع به، وانخلج بمعنى: تفرَّع. "اللسان": (خلج). (¬4) أخرجه البيهقي 9/ 206.

عليه كتحريمِ الخَمْرِ علينا والرِّبا-، فقال: "هو لها صدقةٌ، ولنا هَديَّةٌ" (¬1). فأَخَذَ مِن تَغيُّرِ الحكْمِ بالانْتقالِ، تَغيُّرَ حكم أَثمانِ الخمورِ عن أَعيانِها، ونَهَى أَصحابَ رسولِ الله عن قَبْضِها وبيعها، ووَكَلَ ذلك إِلى مَنْ يَعْتَقِدُها مالاً. ومِن ذلك: تَلَوُّمُهم على الصِّدِّيقِ وتَحرُّجُهم مِن قتالِ مانِعِي الزَّكاةِ، واحْتِجاجُهم بقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"امِرْتُ أَن اقاتِلَ النَّاَسَ، حتى يَقُولوا: لا إلهَ إِلا الله، فإِذا قالوها، عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهم وأَموالَهم " (¬2) وأَجابَهم بالرِّوايةِ، وهو قولُه: أَليس قد قال: "إِلاَّ بحَقِّها"؛! أَوَليستِ الزَّكاةُ مِن حقِّها، والرَّاي بِقوله: أَدَعُ اليومَ لهم الزَّكاةَ، وغداً الصَّلاةَ، فأَحُلُّ الإسلامَ عُرْوَةً عُرْوةً! وقولِه: كيف افَرِّقُ بين ما جَمَعَ الله، والله يقولُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]؟! ثم صارَ الناسُ كلُّهم إِلى رَايِه. [و] قولُ عمرَ رضي الله عنه يومَ السَّقِيفَةِ لأَبي عُبيدةَ: امدُدْ يَدَكَ أبايِعْكَ، وقولُ أبي عُبيدةَ له: ما كان لك في الإِسلام فَهَّةٌ (¬3) غيرها، تقولُ هذا وأَبو بكر [فينا]! ومُقاوَلتُهم واحتجاجُ كل منهم، هذا يقولُ: مِنا أَمير، ومنكم أَميرٌ، فيقولُ الآخرُ: سَيْفان في غِمْدٍ لا يَجْتمعان أَبداً، فهذا يقولُ: إِنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬4) أَوْصَانا فيَكم، فقال: "اوصِيكَم بالأنصارِ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 3/ 117، والبخاري (1493)، ومسلم (1074). (¬2) تقدم تخريجه 1/ 190. (¬3) الفهَّة: السقطة والجهلة والعي. "النهاية" و "القاموس": (فهه). (¬4) سها الناسخ فكتب: "إنَّ الله عزَّ وجل أوصانا فيكم".

خيراً" وهذا يَدُلُّ على ذَوِي الحِجَا منكم: أَنَّ الأَمْرَ فينا دونَكم؛ إذ لو كان فيكم، لأَوْصاكُم بنا (¬1). وهذا كُله نَظر واستنباط عندَ عَدَمِ النصِّ. ومِن ذلك: تَصرُّفُ أَبي بكرٍ في الخِلافةِ برَايه، ونصُّه على عُمرَ برَايِه، ومصيرُ الكلِّ إليه، ومُوافقتُهم له، وإنْ لم يَكُن في ذلك نَصّ مِنَ القرآنِ يُتْلى، ولا حديث عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرْوى، سوى قولِ أَبي بكر عن رأيِه فيه، ونَظرَه واجتهادِه، فأَمْلى عَهْدَه الذي عَهِدَه مِن لَفْظِه على عثمانَ رضي الله عنه: هذا ما عَهِدَ عبدُ اللهِ بنُ عثمانَ آخِرَ عهدِه بالدُّنيا وقتاً يُسِلمُ فيه الكافِرُ، ويَبَرُّ فيه الفاجِرُ، فأُغْمِيَ عليه، ثم أَفاقَ، فقالَ له: مَنْ كَتَبْتَ؟ قال: عُمَرَ بنَ الخطَّابِ، فقال: أَصَبْتَ ما في نَفْسِي، ولو كَتَبْتَ نفسَك، لكُنْتَ لها مَوضِعاً، ولم يَعْتَرِضْ عليه أَحدٌ فيما رَآهُ (¬2). ولَمَّا اعْتَرَضَ عليه اثنانِ، سَمِعَا ما قال فيهما مِن عَدَمِ صَلاحيَّتهما للخِلافةِ، فقال لِطَلْحَةَ لَمَّا قال له: ماذا تقولُ لربِّكَ وقد وَليْتَ علينا فَظّاً غَليظاً؟ فأَغْلَظَ له في القولِ، ثم قال: أَقولُ له: وَلَّيْتُ عليهم خيرَ أهلِكَ (¬3). وكان مِمّا قال في ذلك: إني مُستخلِفٌ عليكم عمرَ بنَ الخطَّابِ، فإن ¬

_ (¬1) لم نجد حديث السقيفة بهذه السياقة، وانظر القصة بتمامها فِى "مسند" أحمد (391)، والبخاري (6930) من حديث ابن عباس. (¬2) انظر "تاريخ المدينة المنوَّرة" لعمر بن شبة 2/ 665 - 666، و"مناقب عمر" لابن الجوزي 48. (¬3) انظر المصدر السابق.

يَعْدِلْ فذاك ظَنِّي فيه، وإِنْ لم يَفْعَلْ فأَنا منه بريء، والخيرَ أَرَدْتُ (¬1). ومِمّا قال في ذلك: إِنَّ هذا الأَمْرَ لا يَصْلُحُ إِلاَّ للقَوِيِّ في غير عنْفٍ، اللطيفِ- وروي: الليَنِ- مِن عْير ضَعْف، ومَن صِفَتُه كذا وكذا، وأَطالَ في صفةِ الإمامِ، ثم قال: لا أَعْلَم إلا عُمرَ بنَ الخطابِ، فشاوِرُوا وانطروا في أَمرِكم (¬2). وهذ كُلُّه تصريحٌ بالرايِ بعد الارْتياءِ والنظَرِ والاجتهادِ، إذ لم يَكُنْ لهم في ذلك سمعٌ ولا نصٌّ. ومِن ذلك: اختيارُ عُمرَ رضي الله عنه السِّتةَ مِن بينِ أَصحابِ رسولِ اللهِ، وجعلُ الإِمامةِ شورى في النَّفَرِ الذينَ نَصَّ عليهم واقْتَطَعُهم برأيِه (¬3). ومن ذلك: ما اشْتَهَرَ عنه فيما عَهِدَهُ إلى أبى موسى رضى الله عنهما: اعْرِفِ الأَشباهَ والأَمثالَ، ثم قِسِ الأُمورَ برايِكَ، ولا يَمْنَعُكَ قضاءٌ قَضَيْتَه بالأَمسِ، راجَعْتَ فيه عَقْلَك، وهُدِيتَ فيه لرُشدِكَ، أَن تَرْجِعَ إلى الحق، فإِنَّ الرجوعَ إلى الحقِّ خيرٌ مِنَ التَّمادي (¬4). فكان يَعْمَلُ بالقياسِ والتمثيلِ، ويَأمُرُ حكامَه بالعملِ بذلك، ولو تُتُبِّعَ ذلك مِن أَقوالِه وأَحوالِه ¬

_ (¬1) انظر المصدر السابق. (¬2) انظر المصدر السابق. (¬3) "تاريخ المدينة المنورة" 3/ 924 وانظر ما تقدم في 3/ 88. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 55.

وأَحكامِه في أَعيان المسائلِ، لَكَثُرَ. ومِن ذلك: قولُ عثمانَ لعُمَر رضي الله عنهما في بعضِ القضايا: إن نَتَّبِعْ رَأيَك أسَدُّ، وإِلى نَتَّبِعْ رَايَ مَن قَبْلَك، فنِعمِ ذو الرايِ كان. وهذا إخبارٌ منه بجوازِ القولِ بالرايِ، ويُومِىءُ أَيضاَ إِلى القولِ إِلى تصويبِ الرَّأيَيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ، ولو كان فيه دليلٌ قاطعٌ على أَحدِهما، لم يجز تصويبهما (1ولا على 1) باقي الأُمَّةِ إِقراره على تصويبِ قولينِ أَحدُهما خطأٌ مقطوعٌ به. ومِن ذلك: ما رُويَ عن علي وعثمانَ رضي الله عنهما أَنَّهما قالا في الجَمْع بين الأختَيْنِ بملْكِ اليَمينِ: أَحَلَّتْهما آيةٌ وحرمتهما آية (¬2)، ويَعْنِيان بذلك قولَه تعالى: {أَو ما مَلَكَتْ أَيمانُكم} [النساء:3]، وقولَه: {واحِلًّ لكُمْ ما وراءَ ذلكُم} [النساء: 24]، ولا بُدَّ أَن يكون لهما في ذلك قولٌ، ولو كان معهما دليلٌ آخَرُ يَقْطَعُ (¬3) بوجوبِ الحكمِ بموجِب إِحدى الآيتيْنِ، لم يَجُزْ أَن يقولا: إِدى التحليلَ والتحريمَ في ذلك يَتَعارَضُ، وعندَهما في نَفْي التعارضِ دليلٌ قاطع، فلا يَصِيرُ معتقدُ التعارضِ في ذلك إِلاَّ إلى ما يُوجِبُ غالبَ الظَّنِّ والرَّايِ. ومن ذلك: قضايا عليِّ بنِ أبي طالبٍ كرَّم الله وجهَه، وكان أَكثرَهم ¬

_ (1 - 1) غير واضح في الأصل. (¬2) تقدم تخريجه 3/ 318. (¬3) في الأصل: "فاقطع".

أَخْذاً بالرَّايِ: فرُوِي أَنَّ عمرَ بنَ الخطابِ كان يَشُكُّ في قَوَدِ القتيلِ الذي اشْتَرَكَ في قَتْلِه سَبْعَةٌ، فقال له عليّ: يا أَميرَ المُؤْمنينَ، أَرَأَيت لو أَنَّ نَفَراً اشْتَركُوا في سَرِقةٍ، أَلَسْتَ قاطِعَهم؟ قال: نعم، قال: فذلك (¬1). يعى بقولِه: "فذلك" أَنه مِثْلُه، وهذا قياسٌ وتمثيلٌ. وقال في قَضِيَّةٍ: أَقضي فيها برأيى، فإنْ وافقَ قضاءَ رسولِ الله، وإلا فقَضائِي فَسْلٌ (¬2) رَذْلٌ (¬3). وقال في أمِّ الولدِ: كنتُ أَرى أَن لا يُبَعْنَ، والآن رَأيى أَن يُبَعْنَ، حتى قال له عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ: رَايك مَعَ الجماعةِ أَحبُّ إِلينا من رأيِك وَحْدَك (¬4). وقال في المَرْأةِ التي أَجْهَضَتْ بإنْفاذِ عمرَ إليها: أَمّا المَأثَمُ، فأَرجو أن يكونَ عنكَ زائِلاً، وأَرَى عليك الدّيَةَ، فقال: عَزَمْتُ عليك أَلاّ تَبْرَحَ حتى تَضْرِبَها على قومِك بني عَدِي. يعنى: قَوْمِي (¬5). وقال في قتالِ أَهلِ البَصْرةِ وصِفِّينَ ونهْرَوانَ ما دَلَّ على أنَّه برَايه لابسَمْعٍ، وحَلَفَ أَنه ما عَهِدَ إِليه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عَهْداً، قالَ: إنما هو برايٍ رَأَيْناه، فقال له السَّائلُ: ما بالُنا إِنِ ابْتُلِينا بِقتالٍ غداً؟ قال: ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (18077). (¬2) أي: رديء. "المصباح المنير": (فسل). (¬3) الرذل: الدون الخسيس، أو الرديء من كل شيء. "القاموس": (رذل). (¬4) تقدم تخريجه في الصفحة 143. (¬5) تقدم تخريجه ص (205).

- فصل في اعتراضات المخالفين في ذلك

مَنْ أَرادَ الله بذلك نَفَعَه (¬1). فقد بانَ بهذه الجملةِ الكافيةِ أَنَّ الصَّحابةَ رضوان الله عليهم مَثَّلُوا الأَحكامَ بغيرِها، وشَبَّهُوها بنَظائرِها، ورَدُّوها إِليها، وذلك مَحْضُ القِياسِ. فقد جَمَعْنا بينَ دلائِلنا على جوازِ التًعبُّدِ به عَقْلاً وشَرْعاً، وبينَ العملِ به إجماعا. فصل في اعتراضاتِهم على ذلك فمِن ذلك: أنَّ هذه كُلها أَخبارُ آحادٍ، وغايةُ ما تُعْطي الظنَّ، ونحن في إِثباتِ أَصلٍ لا نَقْنَعُ في إِثباتِه إلاَّ بأَدِلَّةٍ قَطعِيَّةٍ. ومنها: أَنَّ جميعَها مردودٌ بما رَوَىُ عنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "سَتَفْتَرِقُ أُمَّتي فِرَقاً، فأَعظمُهم فِتْنةً الذين يَقِيسُون الأُمورَ بالرَّايِ" (¬2). ورَوَى أَبو هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قال: "تَعْمَلُ هذه الأُمَّةُ بُرْهَةً بكتابِ اللهِ، وبُرْهَة بسُنَّةِ رسولِ الله، وبُرْهَة بالرَّايِ، فإذا فَعَلُوا ذلك، ضَلُّوا وأَضَلُّوا" (¬3) وهذا نصٌّ في الذمِّ على العملِ بالقياسِ. ¬

_ (¬1) أخرجه نحوه أحمد (1207) و (1217)، وانظر "الصواعق المحرقة" لابن حجر الهيتمي 2/ 116 - 118. (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" 4/ 430، والخطيب في "تاريخ بغداد" 13/ 307، من حديث عوف بن مالك. (¬3) أخرجه أبو يعلى (5856).

ومنها: ما رُوِيَ عن أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ أَنه لما سُئِلَ عن الكَلالَةِ، قال: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلّني، وايُّ سَماءٍ تُظِلّني، إذا قلتُ في كتابِ الله برأيي (¬1)؟ ورُوِيَ عن علي أنَّه قال: لو كان الدِّينُ بالقِياسِ -وزوِيَ: بالرأي-، لكان باطنُ الخُفِّ أَوْلَى بالمسح من ظاهرِه (¬2). ورُوي عن عمرَ أنه قال: إِيَّاكم وأَصحابَ الرَّأي؛ فإنْهم أَعداءُ الدِّينِ، أَعْيَتْهُمُ الأَحاديث أَن يَحْفَظُوها، فقالوا (¬3) بالرايِ، فضَلّوا وأَضَلُّوا. وقال: إِيَّاكم والمُكايِلَةَ، فسُئِلَ، فقال: المُقايَسَةُ. وعن شُرَيح قال: كَتَبَ إِليَّ عمر، وكنت يومَئِذٍ مِن قِبَلِه: اقْضِ بما في كتابِ الله، فإِن جاءَك ما ليس في كتابِ اللهِ، فاقْضِ بما في سُنةِ رسولِ اللهِ، (4 فإن جاءَكَ ما ليس في سُنَّةِ رسولِ الله، فاقْضِ بما أَجْمَعَ عليه أهلُ العلم، فإنْ لم تجد فلا عليك ألاَّ تقضي (¬5). وعن ابنِ مسعودٍ قال: إِنْكم إِنْ عَمِلْتُم في دينِكم بالقِياسِ، أَحْلَلْتم كثيراً 4) مما حَرَّم الله، وحَرَّمْتم كثيراً مما حَللَ الله (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 380. (¬2) أخرجه أبو داود (162). (¬3) في االأصل: "فقال". (4 - 4) طمس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 4/ 1304. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 240، والبيهقي في "الكبرى" 10/ 115. (¬6) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتففه" 1/ 182.

وعنِ ابن عباسٍ: إن الله تعالى قال لنَبيِّهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يَقلْ: بما رَأَيت (¬1)، ولو جُعِلَ لِأَحَدٍ أَن يَحكُمَ برايِه، لجُعِلَ ذلك لرسولِ الله. وقال: إيَّاكم والمَقاييسَ، فإنما عُبِدَتِ الشمسُ والقمرُ بالمقاييسِ (¬2). وعن ابنِ عمرَ: السُّنَّةُ ما سنه رسولُ اللهِ، فلا تَجْعَلِ الرايَ سُنَّةً (¬3). فقَابَلُوا بهذا ما ذَكَرْناه عن الصَّحابةِ رضوانُ الله عليهم. ومنها: قولُ الرَّافِضةِ منهم: وأَنَّى (¬4) الثِّقةُ إلى أقوالِ مَن رَوَيْتم عنهم، وقد كَتَمُوا نصَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على علي رضي الله عنه، وتَأَلبُوا على أهلِ بييه، وغَصَبُوهمُ الخِلافةَ، ومَنَعُوا فاطمةَ بنت رسولِ اللهِ إِرْثَها المنصوصَ عليه في كتاب الله بروايةٍ انفردَ بها الواحد، إلى مثل ذلك من أفعالهم المانعة من أن يكون عملهم بالرأي شرعاً، بل ابْتِداعاً منهم، وأَشْنَعوا في ذلك بما ذكروه في الإِمامةِ من أُصول الدِّينِ، وليس هذا موضِعَه، لكن ما ذَكَرْناه كافٍ في البلوغ بما رامُوه مِنَ الطعْنِ الذي لايَقدَح ولا يُؤَترُ. والذي يُشِيرُ إلى ذلك مِن طريقِ الشَّاهدِ لما ذَكَرْناه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرج الطبري في "تفسيره" (12124) أثراً نحوه. (¬2) أخرجه الدارمى 1/ 65 عن ابن سيرين. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" 2/ 166 عن عمر. (¬4) فِى الأصل: "وأمَّا".

قال: "لا تَرْتَكِبُوا ما ارْتَكَبَ مَنْ قَبْلَكم، فتَستحِلُّوا محارمَ اللهِ بأَدنى الحِيَلِ، إِنَّ الله إذا حَرَّمَ شيثاً حَرَّمَ ثَمَنَه" (¬1). وأمَرَ الصَّحابةَ بالمُتْعَةِ، وأَمَرَهم بفَسْخ الحجِّ إِلى العُمرةِ طلباً لفَضْلِ الثمتُّع وتأَسفاً عليه، فقال: "لو استَقبَلْتُ مِن أَمري ما استَدْبَرْتُ، ما سُقت الهَدْيَ، ولجعَلْتُها عُمرةً" لَمَّا قالوا له: أَمَرْتَنا بالفسخ ولم تَفْسَخْ (¬2). وهذا عمرُ بنُ الخطابِ فَعَلَ ما خَالَفَ الخَبَريْنِ، فكَتَبَ إلى عامِله (3 يَنْهاه عن أَخذِ الخمورِ، وقال: وَلُّوهُم 3) بَيْعَها، وخُذُوا العُشْرَ (4 من أَثمانِها (¬5). وخَطَبَ رضي الله عنه الناسَ، فقال: إن الله عز وجلَّ رَخصَ لنبيِّه ما شاءَ، وإن نبيَّ اللهِ قد مضى لسَبيلِه، فأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمرةَ كما أَمَرَكم الله عَزَّ وجَلَّ (¬6). فها هو قد خالف الخَبرَيْنِ ولم يُعوِّلْ 4) عليهما، ومَنٍ كانت مُخالَفتُه للسّنَنِ كذا، كيف يُوثَق إلى عملِه بالقياسِ، ويُجعَل حُجَّة في الشَّرْع؟ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة كما في "تفسير ابنِ كثير" 2/ 257 في تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} وقال: وهذا إسناد حيد. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 33. (3 - 3) طمس في الأصل. (4 - 4) طمس في الأصل. (¬5) تقدم تخريجه ص (321). (¬6) أخرجه مسلم (1217)، والبيهقى 5/ 21.

- فصل في الأجوبة عما تعلقوا به من شبههم

وأَبو بكر تَنَدَّمَ عندَ الموتِ على أَشياءَ عَدَّدَها، وقال فيما فَعَلَه: وَدِدْتُ أَني لم أَفْعَلْه، ولو كان الرايُ طريقاً للعملِ به، لَمَا تَنَدَّم على ما فَعَلَه به، كما لم يَتَنَدَّمْ على ما عَمِل فيه بكتابِ اللهِ وسُنَةِ رسوله. وقد ذَكَرَ الجاحظُ في (¬1) كتابِ "الفُتْيا" عن أَبى إِسحاقَ النًظَّامِ مِن ذَمِّ أَصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لِمَا حَكَيْنا عنهم من العملِ بالرَّايِ، وتَهَجَّمَ بتَسْخيفِ آرائِهم، ما دَلَّ به على فسادِ عَقْدِه، وسُخْفِ رايه وعَقْلِه، ولم أَحْكِه تَحرُّجاً وتَورُّعاً، ولو كان فيه نوعُ شُبْهةٍ، لحَكَيْتُهَ لأَتَكلمَ عليه، لكني رَأَيْتُه فارغاً مِن حُجَّةٍ وشُبْهةٍ، دالاّ على دَخَلٍ كان في قلبِه، استرْوَحَ به إِلى ذِكرِهم رضوان الله عليهم. فصل في الأَجوبةِ عما تَعَلَّقُوا به مِن شُبَهِهِم فأمَّا قولُهم: إِئها أَخبارُ آحادٍ، فإِنَّ اشتِهارَ ذلك عنهم تَوَاتر، وإن كانت آحادُ القضايا آحاداً في النقلِ، فصارَ كشجاعةِ علي، وسَخاءِ حاتمٍ، وفَصاحةِ قُسٍّ، وفَهاهَةِ باقِلٍ، وبُخلِ مادِرٍ، تَواتَرَ في الجملةِ، وإن كانت جُزئِيَّاتُ أحوالِهم وأَقوالِهم آحاداً، على أَنَّ اصولَ الفِقْهِ لايُطلَبُ لها القَطعِيَّاتُ مِنَ الأَدِئةِ إِذ كأنا إِلى إِثباتِ الأَحكامِ أَقْربَ، وعن أصولِ (2 الدِّينِ أَبْعدَ، ولهذا لا نُفسِّقُ المُخالِفَ فيها، ولا نُبدِّعُه ...... 2) فنُقابِلُه بما ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن". (2 - 2) طمس في الأصل، وانظر "المسوَّدة" 368 - 369.

رُويناهُ: مِن أنه مَدَحَ معاذاً، حيثُ قال: أَجتهدُ رَايى (¬1)، وْقوله: "إِذا اجْتَهَدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجرانِ، وإذا اجْتهدَ فأَخطأَ، فله أَجر" (¬2)، وقوله: "أَرَأيْتَ لو تَمَضمَضْتَ؟ " (¬3)، "أَرَأَيْتِ لو كان على أَبيكِ دَيْن؟ " (¬4)، وما رويناهُ عن جماعةِ الصَّحابةِ وآحادِهم، ولا بُدَّ مِنَ الجمع بينَ هذين، فلم يَبْقَ للجَمْع وَجْه، إلَّا أَنَّ أَخبارَنا عادَتْ إِلى إِثارةِ المعاني مِنَ الظواهِرِ والنُّصوصِ لمسائلِ الفُروع، وذَمُّ الرَّايِ وأَهلِه في أَخبارِهم رَجَعَ إلى مَنْ تَرَكَ السُّنَنَ لأَجل الرَّاى؛ ومَن تَرَكَ السَّمعَ للرأيِ مُستحِقّ لِلذمِّ والوَعيدِ، وذلك مِثلُ تَعاطِي اِّلمُعترِضينَ من المُلحِدينَ على قوانينِ الشَّرع، وقولُهم: المَرْاًةُ ضِلْع أَعْوَجُ، والرَّجلُ مُكتسِب، فلِمَ فُضِّلَ عليها في المِيراثِ؟ والبَوْلُ والغائِطُ نَجِسانِ بإجماع، وهما أَخْبس وأكثرُ مِن المَنِيِّ، والمَنِيُّ مُختلَف في طهارتِه، فما بالُهَ يُغسَلُ لخروجه جميعُ البَدَنِ، ويُقْتَنَعُ في الطهارةِ عن الأَخبس بغَسْلِ أَعضاءٍ أَرْبع؟ وما باَلُ الشَّرع يُوجِبُ غَسْلَ الوجهِ واليَديْنِ ومسحَ الراسِ وغَسْلَ الرِّجلَيْنِ مِن خروج الغائطِ والبَوْلِ، ولا يُوجِبُ غسلَ مَخْرَجِهما؟ فهذا وأمثالُه، إذا قاله قائل، واعْتَرَضَ بأمثالِه معترِضٌ قَصْدَ الإزراءِ على الشَّرع، فذاك مارِقٌ مِنَ الدِّين، مُستحِقٌّ الوعيدَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 512. (¬2) تقدم تخريجه 1/ 294. (¬3) تقدم تخريجه 2/ 54. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 54.

بإِجماع المسلمينَ، فأَمَّا الآراءُ التي هي إِلحاق (1. . . . . . . . . .1) وقد تَوأتَرَتِ الأَخبارُ بها عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابِه. وأَما ما تَعاطَتْه الرَّافضةُ الجُهّالُ، وحكاه أَبوعثمانَ الجاحظ عن أَبي إِسحاقَ النَّظَّامِ مِنَ الطَّعْنِ في أَصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقولٌ لا يَتَعَدَّى قائِلَه، دَالٌّ على فسادِ العَقْدِ، وعدم العَقْلِ؛ فإنَّ الله سبحانَه مَدَحَهم بالعدالةِ، فقال: {وكذلك جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطاً} [البقرة: 143]، وبالرَّافَةِ والرَّحمةِ على أَمثالِهم، والشِّدَّةِ والغِلْظَةِ على الكفَّارِ، وأَثنى عليهم، فالقادحُ فيهم مردودٌ قَولُه في نَحْرِه، ثم يقالُ له: إنَّ هذه المقالةَ عائدةٌ بإبطالِ النّقولِ عن الرَّسولِ، مُعدِمةٌ للثِّقةِ بالنّصوصِ، لأَنَّ القومَ إذا كانوا بصِفَةِ الاستعلاءِ بالظّلْمِ والاستبدادِ بالرأيِ، وكان أهلُ البَيْتِ على التَّقِيَّةِ والكَتْمِ والمُظاهرةِ بالموافقةِ، لم يَبقَ مِنَ الشَّرع على زعمِكم إلاَّ اعتقاداتٌ مكتومةٌ عندَ أَربابِها، تَتلَجْلجُ في الصُّدورِ تموتُ بموت مُعتقدِيها، ولا يعملُ النَّاسُ إلاَّ بما سَمِعوا وشَهِدوا دونَ ما غابَ عنهم، وإذا بَطَلَ النَّقلُ بفسادِ النَّقَلَةِ وكَتْمِ الحَفَظَةِ، تَبِعَ المُعِلَّ للرايِ في الإِبطالِ، فلا سَمْعَ ولا رَأيَ، وما أَفْضى إلى هذا التَّعطيلِ فعاطلٌ في نفسِه. على أننا لو نَزَلْنا في ذلك على الأَشَدِّ، وأَنَّ القومَ ما خَلَوْا من هَفَواتٍ وزَلاَّتٍ، فقد كان منهم في عصرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَقْدَمَ على قَذْفِ مَنْ عَظُمَتْ حُرْمةُ قَذفِه كمِسْطَحٍ، ومَن كاتبَ بأخبارِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - للمشركين كحاطبِ بنِ أَبي بَلْتَعَةَ، ومَن آذى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بما لا يجوزُ له مِنَ ¬

_ (1 - 1) هنا في الأصل خرمٌ. بمقدار سطرين.

* فصل إذا ورد النص على حكم شرعي معللا وجب الحكم في غير المنصوص عليه إذا وجدت فيه العلة المذكورة في النص

القولِ والأَذى، والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنه شَهِدَ بَدْراً، وما يُدرِيكَ أَنَّ الله اطلَعَ إِلى أَهلِ بَدْرٍ، فقال اعْمَلوا ما شِئْتم، فقد غَفَرْتُ لكم" (¬1) أما يقولُ ذلك مع الإِقْرارِ (¬2)، فلا يَضرُّهم قَدحُ القادح، والظاهِر أنَّه لايكون ذلك على هذا الوجهِ، فلا يَبْقى إِلأ أَنَّ الله يُوَفِّقُهم للاستغفارِ ليُحَققَ المِدْحَةَ لهم. فصل إِذا وَرَدَ النَّصّ على حكمٍ شرعي معللاً، وَجَبَ الحكمُ في غير المَنْصوصِ عليه، إذا وجدَت فيه العِلَّةُ المذكورةُ في النصِّ، سواءً وَرَدَ النصَّ بذلك قبلَ ثُبوتِ حكمِ القياسِ أو بعدَ ثبوتِه، مثل قولِه: حَرَّمْتُ الخَلَّ لحُموضتِه، وأَبَحْتُ السّكَّرَ لحَلاوتِه. أَشارَ إليه صاحبنا أحمدُ بن حنبلٍ، فقال: لا يجوزُ بيعُ رَطبٍ بيابسٍ إذا كانت الثمَرَةُ واحدةً، واسْتَدَل بنهي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرّطبِ بالتمرِ (¬3). وبهذا قال إِبراهيمُ النَّظامُ والقَاسَانيُّ والنهْرُبِينيّ مِن نفاةِ القياسِ. قال أبو سفيانَ: وإليه كان يشيرُ شيخُنا- يعني: ابد بكر الرازيَّ- في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (41). (¬2) في الأصل: "الإصرار". (¬3) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 6، والحاكم 2/ 139، والبيهقي 5/ 294.

احتجاجه بقولِ النبيِّ: "إنما هو دَمُ عِرقٍ، فتَوضَّئِي لكلِّ صلاةٍ" (¬1) في إيجابِ الَوُضوءِ من الرّعافِ ونحوهِ، وصارَ بمثابةِ قولِه - صلى الله عليه وسلم -: الوُضوءُ مِن كلِّ دَمِ عِرْقٍ. وحَكَاهُ عن الكَرْخِيِّ أيضاً، ولم يُفرِّقْ بين ورُودِ النَّصِّ بذلك قبلَ ثبوتِ حكمِ القياسِ وبعدَه. قال أَبو سفيانَ: وذهبَ بعضُ شُيوخِنا: إلى أَنَّه لا يجبُ أَن يُحكَمَ بما وُجِدَتْ فيه تلكَ العِلَّةُ بحكمِ المنصوصِ عليه قبلَ ثبوتِ حكمِ القياسِ. واختارَ هذا التفصيلَ أَبو سفيانَ، وهو قولُ جعفرِ بنِ حَرْبٍ (¬2). واختلفَ أَصحابُ الشافعيِّ: فمنهم مَنْ قال كقولِنا. ومنهم من قال: لايَجِبُ الحكمُ بذلك بما وُجِدَت فيه تلك العِلَّةُ إلاً أنْ يقومَ الدَّليلُ بذلك. وهو قولُ البَصْرِيِّ (¬3)، وهو اختيارُ الإِسْفَرايينيِّ (¬4) وهذه المقالةُ تُبْنى على العِلَّةِ الواقفةِ على مَحَلِّها، كالثَّمِنيَّةِ في الذًّ هبِ والفِضَّةِ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 120. (¬2) هو: أبو الفضل جعفر بن حرب الهمذاني المعتزلي، انتهت إليه، رئاسة المعتزلة في وقته، توفي سنة ست وثلاتين ومئتين."سير أعلام النبلاء" 10/ 549. (¬3) هو: أبو عبد الله الحسين بن على البصري، الملقب بالجُعَل، تقدمت ترجمته 3/ 352. (¬4) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الاسفراييني الأصولي الاشعري. توفي سنة (418) هـ. "سير أعلام النبلاء" 17/ 353.

- فصل في أدلتنا

فصِل في أَدِلتنا فمنها: أَنَّ التحريمَ لو كان حكماً لأَجلِ السّكَّرِ وحلاوتِه المختَصَّةِ به، لَمَا كان لقولِه: لأَنه حُلْوٌ، فائدةٌ؛ لأَنَّ الحلاوةَ وصف للسُّكَّرِ لا تُفارِقُه، وكان يكفي قولُه: لا تأكلِ السُّكرَ، والحكيمُ إذا عَلقَ حكماً على مَحَل أَو عَينٍ من الأعيان ذاتِ أَوصاف غيرِ مفارقةٍ لها، كَفاه ذكرُ المَحَل والعَيْنِ، فإذا ذكرَ الصِّفةَ وعَللَ بها، لم يَخْلُ ذكرُه لها من فائدةٍ، ولا فائدةَ بالتعليلِ بالحَلاوةِ إلا التَّعدِيةَ (¬1) إلى كلِّ حُلْوٍ من سُكَّرٍ وغيرِه؛ إِذ لو كان المَحلُّ أَحدَ وَصْفي العلَّةِ، وكان معناه: لا تَأكُلِ السُّكَّرَ؛ لأنَّ حلاوتَه علَّةُ التحريمِ دونَ حلاوةِ غيرِه، لكان في ذكره كِفايةٌ، لأنَّه يَستَتْبِعُ حلاوتَه المُختصَّةَ به، وكان ذكرُ الحلاوةِ لايُفِيدُ إلاًّ ما أَفادَه النَّصّ. فإن قِيلَ: بل أَفادَ ذكرُ العلَّةِ أَنَّ الحكمَ مُعفلٌ لا بحكمٍ، ولو أَطلق تحريمَ السُّكرِ، لكان تحريمُه بحكمٍ لا مُعللاً، فقد أَفادَ بيانَ التعليلِ بعد أَنْ لم يكُنْ ذلك مُستفاداً بمجرد النَّصِّ، وقد قال الله تعالى: انَّ لَهُ {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] وكان ذلك الحكمُ مقصوراً على بِنْيامِينَ، ولم يَتعَدَّ ذلك إلى الجماعةِ وإِن كانوا أَبناءَ ذلك الشَّيخ الذي بِنْيامِينُ ابنُه، وكذلك يجوزُ أَن تكونَ حلاوةُ السُّكَّرِ خاصَّةً تجلب الحُكم دونَ حَلاوةِ التَّمرِ. قيل: هذا خلافُ الظَّاهِرِ في التعاليلِ كلِّها؛ فإنَّ المعقولَ مِنَ العِلةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا للتعدية".

اسْتِقلالُها دونَ مَحلِّها، وعقلاءُ العربِ ما نَطَقوا بعلةٍ إِلاَّ وطَرَدُوها في غير المَحَلِّ الذي أَضافُوها إِليه، فإذا قالوا: اضرِبْ هذا العبدَ الأَسْودَ الطَّويلَ؛ لأنَّه يُسِيءُ، اقْتَطَعُوا ذِكْرَ السّوادِ والطّولِ عن التعليلِ بالإِساءَةِ؛ لبيانِ أَنَّ الضَّربَ لإِساءَتِه، فكان ذكرُ السَّوادِ والطولِ للتعريفِ بالإساءة، فيُعقلُ مِن كلامِهم أَنَّ الإِساءَةَ إذا وُجِدَتْ من أَبيضَ قصير، أَوْجَبَت ضَرْبَه بحكمِ التعليلِ، وإِنِ انْعدَمَتْ صِفَتا التَّعريف. فإن قيل: عِلَلُ الشَّرع أَماراتٌ كالأَسماء على المُسمَّياتِ، فلا يَبعُدُ أَنها محلّها إِلاَّ بِدَلالةٍ، وذلك أَنَّه يجوزُ أَن تكَونَ المفسدة في حلاوةِ السُّكَّرِ خاصَّةً، ولا تكونُ المفسدةُ في غيرِه من حلاوةِ تَمْرٍ أو عَسَلٍ، أَلا تَرى أَنَّه قد وَرَدَ بتحريمِ المَيْتَةِ؛ فكان الموتُ علةَ تحريمِ الشَّاةِ والبعيرِ والبقرةِ، ولم يَكُنْ علةً لتحريمِ السَّمكِ والجرادِ، ودم العُروقِ حُرِّم، ودمُ الكَبِدِ لم يُحرَّمْ، فلا يجوزُ والحالةُ هذه أَن يُعدَّى الحكمُ عن محلِّه إِلا بِدَلالةٍ تُوجِبُ التَّعدِيةَ؛ لأَنّنا لا نَأمنُ أَن تكونَ التعديةُ مَفسدةً. قيل: لو أَرادَ ذلك لنصَّ على تحريمِ السُّكَّرِ؛ لأَنَّ السُّكَّرَ جامعُ لذاتٍ في جسمٍ مخصوصٍ بالحلاوةِ، فكانت حلاوتُه تابعةً، فلما أَفْرَد التعليلَ بذكرِه الحلاوةَ، أَوْجَبَ ذلك إِعمالَ التعليلِ، كما أَوْجَبَ إعمالُ ذكرِ المَيْتَةِ تحريمَ كُلِّ مَيْتٍ سوى ما استَثْناهُ النَّصُّ، وما ذَكَرْتُ من المَيْتةِ فهو الحُجَّةُ؛ لأنَّه لَمَّا حَرَّمَها عَمَّ كلَّ مَيْتَةِ إِلى اُن تَأتِ دلالةُ التخصيص. ولو كان ما ذَكَرُوه صحيحاً، لكانت الثِّقةُ غيرَ حاصلةٍ بالقياسِ؛ لأنَّنا لا نَأنمَنُ أَن يكونَ جمعُنا بينَ النصوصِ والمسكوتِ بما يُعللُ به المنصوصُ

- فصل في شبه المخالفين

مَفسدةً من الطريقِ الذي ذكرَه في تحريمِ الشَّرْع بعضَ الميتاتِ وإِباحتِه بعضَها، ولَمَّا لم يُوجب ذلك مَنْعَنا من القياسِ، كذلك لا يُوجِبُ منعنا ههنا من التعديةِ بذكَرِ العلةِ، وعدم الجمودِ على المحلِّ المنصوصِ عليه بحلاوتِه المُختصَّةِ به؛ إِذ لو كان ذكرُ العِلةِ في محل يُعطي أن يكونَ المَحلُّ أَحد وَصْفَيها، وأنَّها غيرُ مُفارقةٍ له، لما ساغَ لنا القياسُ، لأَنَّ الشِّدَّةَ في عصيرِ العِنَبِ، ودمَ العِرْقِ في الفَرْج، وملكَ البُضْع تحت العبدِ، والرِّقَّ في الأَمَةِ، يُوجب نصفَ الحدِّ، والعفوَ عما دون الدِّرهمِ من الدَّمِ في المحلِّ المخصوصِ به، ومتى سَلَكْنا هذا، امْتَنَعَ تعليقُ حكمِ علةٍ في محل على وجودِها في محل آخرَ؛ لفوات أَحدِ وَصْفيها؛ إِذِ العلةُ لاتعملُ إِلأ بكمالِها. فصل في شبههم فمنها: أَنَّ العلةَ لو كانت تُوجب الَتعديةَ، لوَجَبَ إِذا قال: حرَّمْتُ عليكُم السُّكَّرَ لحلاوتِه، أن لا يَحْسُنَ قولُه بعدَ ذلك: وأَبَحْتُ العسَلَ، بل يكونُ مُناقِضاً، أَلا تَرى أَنَّ ما ظَهَرَتْ فيه التعديةُ بِدَلالةِ العقلِ، مثلُ قولِه: اضْرِبْ زيداً لَأنه مُسيءٌ، ولا تَضرِبْ عَمراً، وكان عَمرٌ ومسيئاَّ أً يضاً، لَعُدَّ مُناقِضاً، وكذلك لو قال: لاتُطْعِمْ وَلَدي أَو عَبدي الشُّوِنيزَ (¬1)؛ لأَنه حارٌّ، وأَطْعِمْه العسَلَ والعصافيرَ. ¬

_ (¬1) الشونيز: الحبةُ السود اء."القاموس": (شنز).

ومنها: أَنَّ تعليلَ الشَّرع يَخْتَصُّ بزمانٍ دونَ زمانٍ، فإِذا جازَ أَن تكون الشِّدَّةُ علةً لتحريمٍ عصيرِ العِنَبِ في بعض شريعتِنا، حلالاً في شرع مَن قَبْلَنا وشَطر مِن شريعتِنا، وبمَحَلِّ دونَ محلِّ، فيكونُ الموتُ في السَّلاحفِ مُحرِّماً لها، والموتُ في السَّمكِ والجرادِ غيرَ مُحرِّمٍ لها، لم نَأمَنْ أن تكونَ الشِّدَّةُ مُختصَّةً بعصيرِ العنبِ دونَ غيرِه، كما اخْتصَّت بزمان دونَ زمانٍ، فلا يُقْدَمُ على التَّعديةِ إِلاَّ بِدَلالةٍ. ومنها: أَن قالوا: إِنَّ هذه الأَوصافَ، مثلُ: الشِّدَّةِ في العَصيرِ، والحلاوةِ في السُّكَّرِ، والموتِ في الحيوانِ، إِنَّما جُعِلَتْ عِلَلاً للمَنْع على سبيلِ المصلحةِ، ولذلك اخْتَصَّتْ بعصيرٍ دونَ عصيرٍ، وإذا كان كذلك، لم يَجُزْ أن نَتَعدَّى بها المَحَلَّ الذي عُرِفَتْ به؛ لأَنَّنا لا نَامَنُ أَن تكونَ المصلحةُ عَدَمَ التعديةِ، والشِّدَّة إِنّما اخْتَصَّتْ بالمحلِّ المخصوصِ كما اخْتَصَّت بالعصيرِ المخصوصِ. ومنها: أَنَّ هذهِ عِلَلَ الشَّرْع ليست مُوجِبةً بنفسِها (¬1) بخلافِ العَقْليَّةِ، وإنّما هي مَجعولَةٌ يحَعْلِ جاعلٍ، فإِذا قال: لا تَأكُلُوا السُّكّرَ لحلاوتِه، فقد جَعَلَ حلاوةَ السُّكرِ مَحرِّمةً له، فلا يجوزُ أَن نجعلَ نحن حلاوةَ التَّمْرِ والعسلِ علَّةً في المنع منها، لأنَّها غيرُ مجعولةٍ. ومنها: أَنه لو وَجَبَ تعديتُها، لوَجَبَ إذا قال القائلُ: عَبْدِي زيدٌ حُرٌّ؛ لأَنه أَسودُ، وله عَبِيدٌ كثيرٌ سودانٌ، أن يُعتَقُوا لِعلَّةِ السَّوادِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لنفسها".

- فصل في جمع الأجوبة عن شبههم

فصل في جمع الأَجوبةِ عن شُبَههم فالأولى منها: قولهم: لَمّا حَسنَ أَن نقولَ: وأبَحْت العسلَ، ولم يكن مناقضاً، دَلَّ على أَنَّ الحلاوةَ ليست عِلَّةً. فيقالُ: إِذا قال في تحريمه: لانه حُلْوٌ، كان الظاهرُ تَعدِّي التحريمِ إلى كُلِّ حلْوٍ، فإِذا قال: وأَبَحْتُ العسل، كان هذا تصريحاً يَقضِي على الظاهرِ، تَبَيَّنا به أَنه ذَكَرَ الحلاوةَ، وهي أَحد وَصفَيْ علةِ الحكمِ، وأَنَّ الوصفَ الآخَرَ هو الجِنسُ- أَعني السُّكًرَ-؛ فكأَنَّه بانَ بذلك [أَن] (¬1) العله الجالبةَ للحكمِ حلاوةُ السُّكرِ. وليس إِذا اقْتَرَنَتْ باللًفظِ قرينةٌ، أَو دَلَّت عليه دَلالةٌ أَخْرَجَتْهُ عن ظاهرِه، ممَّا يَدلُّ على بطلانِ ظاهرِة وتعطّلِه؛ بدليلِ العموم والظاهر تُعطِّلُه القَرائِن والأَدِلًة عن شمولِه وظاهرِه، ويَجِبُ العملُ به عند إِطلاقِه. وما استشهدَ به من إِساءَةِ العبدِ، وحرارةِ الشُّونيزِ، غيرُ صحيحٍ، بل يَحْسن ولا يعَدُّ مناقضاً، بل يتبيَّن أَنَّه أَرادَ إِساءَة ذلك بعَيْيه وحرارةَ الشُّونيزِ خاصَّةً. وأَمَّا تَعلّقُهم بكون العِلَلِ الشَّرعيَّةِ تَختَصُّ بزمان دونَ زمانٍ، ومَحَل دونَ محلٍّ، فلَعَمْرِي، لكَنَّ ذلك لا يَمْنَعُ التعديةَ إلىً كُلِّ محلٍّ، مالم تَقُمْ دلالةُ التخصيصِ، كما أَنَّ لفظَ العمومِ يَتسَلًط عليه التخصيصُ بالدَّلائِلِ ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

والقرائِنِ، ولا يَدُلُّ على أَنَّ إِطلاقَه لا يَقْتَضِي الشُّمولَ والاسْتغراق، ولأَن هذا لَمَّا لمِ يَمْنَعْ جوازَ القولِ بالقياسِ، لايَمنَعُ التَّعدِيةَ، ولوَجَبَ أَن لا تَكُون علَّةَ إِلاَّ في الزمانِ الذي جَعَلَها علَّةً فيه، فيكون مقصوراً على الزَّمانِ الذي جَعَلَه علَّةً، ولَمّا لم يَصِحَّ أن يقالَ هذا في الزمانِ، [لم يَصِحَّ] (¬1) أن يقالَ ذلك في الأَعيانِ. وأَمَّا تَعلّقُهم بأَنَّ التحريمَ المُعلَّقَ على العِلَلِ الشَّرعيَّةِ إنَّما هو للمصلحةِ، فهذا عندنا لا يَقِفُ التَّكليفُ عليه، ولا يُقصَرُ التَّعليل أَيضاً عليه، ولو سَلمْنا على طريقِ التَّوسِعَةِ، فإِنَّ المصلحةَ لا تحدُّ في التَّعديةِ حيث عَلَّقَها على علًةٍ تَعُمُّ كلَّ موصوفٍ بها، وكلَّ محلٍّ هي موجودةٌ فيه، ولو أَرادَ تخصيصَ العِلَّةِ بمحللِّها ووقوفها عليه، لَمَا احْتِيجَ إلى ذكرِ التعليلِ، لأَنَّ حلاوةَ السُّكَّرِ تابعةٌ له، وكذلك شِدَّةُ عصيرِ العنبِ، فلَمَّا عَلَّلَ بالحلاوةِ والشِّدَّةِ، عُلِمَ أَنَّه أَرادَ زيادةً على المحلِّ. وأَمَّا تَعلّقُهم بأَنَّها مجعولةٌ، فإِدتَّ كونَها مجعولةً لا يَمْنَعُ تَعدِّيَها، لأنَّها تَصِيرُ بعدَ جعلِها علَّةً كالمُوجِبةِ بنفسِها، على أَننا إِذا رَجَعْنا إلى التحقيقِ في الجَعْلِ، كانتِ العقليَّةُ أَيضاً مجعولةً؛ لأنّ التحرُّكَ في الجِسْمِ الذي قامَتْ به الحركةُ مجعولٌ لله تعالى، فهو الخالقُ للحركةِ، وخالق التحرُّكِ عندها، إِلاَّ أَنَّها هي المُوجِبةُ لتحرُّكِه. وأَمَّا قولُه: عَبْدِي زيدٌ حُرٌّ، لأَنه أَسودُ، أَو: أُعتِقُه، لأنه أَسودُ، إِنَّما لم ¬

_ (¬1) ليست في الأصل.

* فصل يجوز إثبات الحدود والكفارات بالقياس

يُوجِبْ عِتْقَ كُلِّ عَبْدٍ له أَسودَ بخلاف تعليلِ صاحب الشَّرع؛ لأنَّ الواحدَ منا يجوز عليه المناقضةُ، ولأَنَّ إِزالةَ الأَملاكِ لم تُوضَعْ للتعْدِيةِ، وتعاليلُ صاحبِ الشَّرع تقييد للمجتهدِينَ عن الاسْتنباطِ (¬1)، فلا يجوزُ تعليلُ تعطيلِه، وفي إيقافِها على المحلِّ تعطيل للتعديةِ والاستنباطِ؛ إذ لا يُفيدُ إِلا ما أَفادَهُ النصُّ. فصل يجوزُ إِثباتُ الحُدودِ والكفاراتِ بالقياسِ، وبه قال أَصحابُ الشَّافعيِّ. وقال أَصحابُ أَبي حنيفةَ: لا يجوزُ إِثباتُها إِلا بالتوقيفِ (¬2). فصِل في أَدلتِّنا فمنها: ما رُوِيَ عن معاذٍ أنَّه لَمّا بَعَثَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسأَله: "بِمَ تَحْكُمُ؟ " فقال: بكتابِ [الله]، قال: "فإِن لم تَجِدْ"، قال: بسُنةِ رسولِ الله، قال: "فإِنْ لم تَجدْ"، قال: أَجْتَهِدُ رَأيي (¬3). ولم يُفَرِّقْ، ولا فَصَّلَ له النيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين الأَحكامَ مَعَ حاجتِه إِلى البيانِ. ومنها: أَنَّ أَصحابَ رسولِ الله لَمَّا اشْتَوَرُوا في حَدّ الشَّارِب للخَمْرِ، ¬

_ (¬1) فِى الأصل: "بالاستنباط". (¬2) انظر "البحر المحيط" 5/ 51. (¬3) تقدم تخريجه 5/ 2.

قال عليٌّ: إِنه إِذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هَذى، وإِذا هذى افْتَرى، حُدُّوهُ حَدَّ المُفترِي (¬1). فأَجْمَعَتِ الصَّحابةُ على إلحاقِه بالقاذفِ بالقياسِ والرايِ. ومنها: أَنّه حُكم ليس فيه دليل قاطعٌ، فجازَ إِثباتُه بالقياسِ كسائرِ الأَحكام. ومنها: أَنَّ القياسَ دليلٌ ثَبَتَ به الحَظر والإِباحةُ في الأَعْيانِ والعُقودِ، فتَثْبُتُ (¬2) به الكَفّاراتُ والحُدودُ، كخَبَرِ الواحدِ. ومنها: أَنَّ القياسَ في معنى خبرِ الواحدِ، أَلا تَرى أَنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يثبتُ بالظنِّ (¬3)؛ فإِذا ثَبَتَ هذان الحكمان بخبرِ الواحدِ، جازَ أَن يَثْبُتا بما هو مِثْلُه في الرّتبةِ. ومنها: أَنَّ أَصحابَ أَبي حنيفةَ أَثْبَتُوا إيجابَ الكفّارةِ على الأكل في نهار رمضانَ قياساً على المُجامعٍ فيه، وأَوْجَبُوا الحَدَّ في المُحاربةِ على الرِّدءِ (¬4) قياساً على المُباشرِ، وقياسا على استحقاق الغنيمة حيث اشترك فيه الردء والمباشر. فإِن قيل: لم نُثبِتْ أَصلَ الكفارةِ والحَدِّ بالقياسِ، لكنْ أَثبَتْنا موضعَهما، وذلك جائزٌ عندنا، وإِنَّما الذي لا يجوزُ كإيجابِ القَطْع على المُخْتلِسِ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 3/ 225. (¬2) في الأصل: "ثبت". (¬3) في الأصل: "الظن". (¬4) الردْء: مهموز وزان حِمل: المعين والنْاصر. "المصباح المنير": (ردأ).

والنبّاشِ قياساً على السَّارقِ، والحدِّ على اللأئطِ قياساً على الزاني. وأَمَّا الكفارة: فلم نُوجبْها قياساً، لكن بطريقِ الأَوْلى؛ فإِنَّ مَأثمَ الأكل أَكثر من مَأثمِ الجِماع؛ لأَنًّ الثوابَ على تركِه، أو مِن حيث كانت المَشقةُ في هِجْرانِه أَوْفَى؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشة" ثوابُك على قَدْرِ نَصَبِكِ" (¬1) فإِذا وَجَبَتِ الكفارة في الجماع، ففي الأَكل أَوْلى. فيقال: تفريقكم بينَ مكانِ الحدِّ وأَصلِه، وإِيجابِ الكفّار ومكانِها أَيضاً، لا يَتحققُ فَرْقاً يُبْرؤُكم مِن عُهْدَةِ جمعِنا بينهما؛ لأَن (¬2) تعليلَكم في نفي إِيجابِ الحدِّ والكَفَّارةِ بالقياسِ: أَنَّ الحدودَ والكفاراتِ لا تعْرَفُ بالقياسِ؛ لأَنَّ مَقاديرَ الرَّدْع والزَّجرِ والعقوباتِ كمقادير المَأثمِ، وذلك لا يَعْلَمه إِلأ الله، وكما لا يُعلَمُ الأَصل، فالمَوضعُ والمكانُ أَيضاً يَجِبُ أَنْ لا يعلَمَ على قودِ قولِهم. والاستدلالُ بالأَوْلى لا يَتحققُ في حقِّ الرِّدْءِ مع المباشرِ، بل المباشرُ أَشدُّ تأثيراً في الجنايةِ المستوجب بها العقوبةُ إِذا كانت في قَطْع الطريقِ، وفي المَثوبةِ إِذا كَانت في الجهادِ؛ فلا أَولى إذاً. وأَمَّا دَعواكُم أَنَّ المَأثمَ في الأَكلِ آكدُ، فغيرُ صحيح، لأنَّ هَوالِجَ الطبع في باب الوِقاع والجِماع لا تَضبِطُها المروءات غالباً، وأَيسرُ أَنَفَةٍ وأَدنى تَماسُكٍ يَمنَعُ الأَكلَ والشربَ، وهذا معلوم طبعاً، وأَنَّ النَّاس لايَسْتقبِحون اللهَجَ. بمحبَّةِ الصُّوَرِ، والعِشْقَ، وإِنْشادَ الغَزَلِ والأَشْعارِ، والتظاهرَ بحُبِّ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 254. (¬2) في الأصل: "لا".

- فصل في شبه المخالفين

المِلاح، وقد أَخبرَ الله سبحانه عن امْرأَةِ العزيزِ: أَنَّها جَمَعَت، وأَبرَزَتْ مَن به لهِجَت، وقالت: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 32]، وما مِن عَصْرٍ من الأَعصارِ إِلاَّ وفيه شخصٌ يَشْتَهِرُ في هذا الشأنِ، ويُدوَّنُ حديثُه في الأَخبارِ والتَّواريخ، والضِّنَّةُ به والبخلُ من أَكبرِ ما يُمدَحُ به الرِّجالُ، والبِطْنَةُ والشَّرَهُ في بابِ الطعامِ مذمومة، والبخلُ به مذمومٌ، والسَّماحةُ به غايةُ الكَرَمِ، والمَدحُ عليه وبه هو الغايةُ؛ حتى جُعِلَ نسباً، فقيل: هاشمٌ، وكُرِّمَ معشرٌ فقيل: بنو هاشمٍ، وهم الغايةُ، فمكابرُ هذا خارجٌ عن سَمْت النظَرِ والجدالِ إلى التعلُّقِ بالمُباهتةِ بالمُحالِ. فصل في شُبِههم فمنها: أَنَّ الحدودَ والكفاراتِ وَجَبَتْ عُقوباتٍ ومُقابلاتٍ عن المَعاصي، فالحدودُ عقوبةٌ، وفي الكفَّارةِ شائِبةُ عقوبةٍ وشائبةُ عبادةٍ، وجميعُ ذلك لا يَعْلمُ مقدارَه إِلاَّ الله سبحانَه، بدليلِ المَأثمِ وعقابِ الآخرةِ، وأَعدادِ الرَّكَعاتِ. ومنها: أَنَّ القياسَ على شُبهةٍ؛ لأنَّه إلحاقُ فرع بأَشْبهِ الأَصليْنِ، فيبقى الأَصلُ الاَخرُ شُبهةً في نفي الإلحاق، ولا يجوزُ إيجابُ هذه العقوباتِ مع الشُّبهاتِ. ومنها: أَنَّه حقٌّ للهِ مقدَّرٌ، فلا يَثبُتُ بالقياسِ كمقاديرِ الرَّكَعاتِ، ونُصُبِ الزَّكَواتِ.

- فصل في الأجوبة عن شبهاتهم

فصل في الأجوبةِ عن شبهاتِهم (¬1) أمَّا قولُهم: وجَبَتْ عقوباتٍ مَحْضةً، أَو عباداتٍ وعقوباتٍ مَشُوبةً. فإنه لو كان هذا مانعاً من القياسِ فيهما، لكان مانعاً من القياسِ في جميع الأَحكامِ، لأنها مبنيةٌ على المصالح ونفي المقايس ومواضع الحدود والكفارات أيضاً، كما منع من ذلك نفاة القياس، فلمَّا لم يُمنَعْ من إِثباتِ سائرِ الأَحكامِ به، كذلك هذان الحُكمانِ. على أَنَّ ما أَشارَ إِليه أَميرُ المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: من أنَّه إِذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هَذَى، وإِذا هَذَى افترى، إِلحاقٌ بِمثْلِه، يَغلِبُ على الظنِّ إِيجابُ مقدارِ الجَلْدِ الواجبِ في القَذْفِ بالشُّربِ ليسيرِ الخَمْرِ. وإِذا تَأَمَّلَ العاقلُ المجتهدُ تسويةَ ما بين كفارةِ الظِّهارِ والقتل في باب اعتبار إيمان (¬2) الرقبة، رأى أنَّ الشرع سوَّى بينهما في الصيام في عددِ الأَيامِ، ثم في الصِّفةِ، وهي تتابُعُ الصِّيامِ، مع كونِ الرَّقبةِ جُعِلَت في كفارةِ اليمينِ مُقابلةً بصيامِ ثلاثةِ أَيامٍ، فكان هذا شاهداً بإيجابِ التسويةِ بينهما واشتراط الإِيمان (¬3) فيمن أَقدم. . . . . . . (¬4) ولا يعتبر الراي في مثلِه. ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" 442. (¬2) في الأصل:"أثمان". (¬3) في الأصل: "الأثمان". (¬4) بياض. بمقدار كلمتين لم أتبينه.

* فصل يجوز القياس على ما ورد به الخير مخالفا للقياس

وأَمَّا قولُهم: إِنَّ القياسَ على شُبْهةٍ، فكَلاً؛ لأَنَّ تَرجُّحَه إِلى الأَشبهِ به من الأَصلَيْنِ يُخرِجُه إِلى بابِ غَلَبَةِ الظنِّ، كعدالةِ الرَّاوي والشَّاهدين بعد تَردُّدِ الخَبَر بينَ الصِّدقِ والكذبِ، وتجويزِ الاشتباهِ على الراوي والشَّاهدِ رَجَّحَتِ الصّدقَ، فأَوْجَبْنا بها الحدَّ؛ لتَرجُّح الصِّدقِ لا القطع، لمكانِ العدالةِ المُرجِّحةِ. وقد دَخَلَ ما تعلقوا به من أَعدادِ الرَّكَعاتِ فيما ذكرنا على أَدِلَّتِهم من الأَجوبةِ. فصل يجوزُ القياسُ على ما وَرَدَ به الخَبَرُ مُخالِفاً للقياسِ، وهو الذي يُسَمِّيهِ أَصحابُ أَبي حنيفة موضعَ الاسْتحسان بم خلافاً لهم [بأَنه] لا يجوزُ القياسُ على ذلك إِلأ أَن يكونَ الخبرُ الواردُ مُعللاً، أو يكونَ مُجْمعاً على تعليلِه، أَو هناكَ أَصلٌ آخرُ يُوافِقُه، فيجوزُ القياسُ. فصل في دلاِئِلنا فمنها: أَنَّ ما وَرَدَ به الخبرُ أَصلٌ، يَجِبُ العملُ به، فجازَ أَن يقاسَ عليه بمعنىً يُستنبَطُ منه، كما لو لم يَكُنْ مُخالِفاً للقياسِ. ومنها: أَنَّ المخصوصَ من العُمومِ يجوزُ القياسُ عليه، ولا يَمْنَعُ منه العُمومُ، فكذلك المخصوصُ من الأَصلِ يجبُ أَن يجوزَ القياسُ عليه، فلا يَمْنَعُ منه الأَصلُ.

- فصل في شبهة المخالف

ومنها: أَنَّ الخبرَ لو نُصَّ على تعليلِه، جازَ القياسُ عليه، فإذا ثَبَتَ تعليلُه بدليلٍ مِن جهةِ الاسْتنباطِ، وَجَبَ أَن يَجُوزَ القياسُ عليه؛ وذَلك لأَنَّ ماثبت بدليلٍ شرعي يكونُ كالمنصوصِ عليه. ومنها: أَنَّ ما وَرَدَ به الخبرُ أَصلٌ، كما أَنَّ ما ثَبَتَ بالقياسِ [أَصلٌ]، فليس رَدُّ هذا الأَصلِ لمخالفةِ ذلك الأصلِ بأَوْلى من رَدِّ ذلك الأصلِ لمخالفتِه هذا الأَصلَ، فوَجَبَ إجْراءُ كُلِّ واحدٍ منهما في القياسِ عليه على مايَقْتَضِيهِ. فصل في شبهةِ المُخالفِ بأنَّ ما ثبت بقياس الأصولِ مقطوعٌ به، وما يَقتَضيه هذا القياس مظنونٌ، فلا يجوزُ إبطالُ المقطوع بأَمرٍ مظنونٍ. ويقالُ: هذا باطل بالخصوصِ من عُمومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ، فإِنه يجوزُ القياسىُ عليه وإن كان فيه إِبطالُ مقطوعِ به بأَمرٍ مظنونٍ. ويَبْطُلُ أَيضاً بالخبرِ إِذا وَرَدَ مخالفاً للأُصول وكان مُعفلاً، فإنَّه يثبت من طريقِ الظنِّ، ثم يقاسُ غيرُه عليه، ويُتْرَكُ له قياسُ الأُصولِ الذي طريقُه القَطْعُ. فصل إِذا ثَبَتَ الحكمُ في فرع بالقياسِ على أَصلٍ، جازَ أن يجْعَلَ هذا الفرعُ

- فصل في احتجاج المخالف

أَصلاَّ لَفرع آخرَ يقاسُ عليه بعِلًةٍ أُخرى على قولِنا، وقو أَبي عبدِ الله البَصْرِيِّ من أصحابِ أَبي حنيفةَ، وأَحدِ الوَجهَيْن لأَصحابِ الشَّافعيِّ، خلافاً للوجهِ الآخَرِ لأَصحابِ الشَّافعيِّ، ولأَبي الحسنِ الكَرْخِيِّ: لا يجوز ذلك (¬1). دليلنا: هو أَنَّ الفرعَ لَمَّا ثبَتَ الحكمُ فيه بالقياسِ، صارَ أَصلاً في نفسِه، فجازَ أَن يُسْتنبطَ منه معنىً، ويقاسَ غيرُه عليه، كالأَصلِ الثابتِ بالنَّصِّ. فصل في احتجاجِ المُخاِلفِ قالوا: إِنَّ العلَّةَ التي ثَبَتَ بها الحكمُ في الفَرْع هو المعنى الذي انْتُزِعَ من الأَصلِ وقِيسَ عليه الفرعُ، وهذا المعنى غيرُ موجودٍ في الفرع الثَّاني، [أي] (¬2) ما ثبت به الحكم في الفرع الأول، فلم يَجُزْ قياسُه عليه. فيقالُ: ليس يَمْتَنِعُ أن [لا] (¬3) يكونَ موجوداً في الثاني ويقاسُ عليه؛ أَلا ترى أَنَّ ما ثَبَتَ به الحكمُ في الأَصلِ من النصِّ غيرُ موجودٍ فيما يقاسُ عليه، ولا يَمْنَعُ ذلك صِحَّةَ القياسِ عليه فكذلك ها هنا يجوز أن [لا] (2) يوجَدَ في الفرع الثاني معنى الفرع الأول ثم يصحُّ القياس عليه. ¬

_ (¬1) انظر "المسودة": 397. (¬2) ليست في الأصل. (¬3) ليست في الأصل، واستدركناها من "التبصرة" 451.

ومما احْتَجُّوا به: أنَّه إِنَّكم إِذا عَللْتم السُّكرَ بأَنه موزونٌ، وقِسْتُم عليه الرَّصاصَ خَرَجتُم (¬1) عن أَن تكونَ العِلة في السُّكرِ أنَّه طعوم، وأَنتم تُعلِّلُونَه بالطُّعْمِ في إِحدى الرِّواياتِ. فيقالُ: لا نَخْرجُ عن أن يكونَ الطُّعْمُ عِلةً في السكرِ، بل الطُّعْمُ علًة والوَزنُ علَّةٌ، ويجوزُ أَن يَثْبُت الحكمُ الشرَّعيُّ في العَيْنِ الواحدةِ بعِلَّتينِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أخرجتم".

* فصول الاجتهاد

فصولُ الاجْنهادِ فصل الحقُّ في أُصولِ الدِّياناتِ في واحدٍ من قول المُجتهدِينَ، وما عداه باطلٌ. هذا مذهبُنا، وبه قال الفقهاءَ والأصوليونَ، خلافاً لعبيدِ (¬1) الله بنِ الحسنِ العَنْبرِيِّ في قوله: إنَّ المُجتهدِينَ مِنٍ أهلِ القِبْلةِ مصيبونَ معَ اختلافِهم، وليس أحدٌ منهم مُبطِلاً، ولا ضالاّ. فصل في أدلَّتنا على صحَّةِ ما ذهبْنا إليهِ، وإبطال مذهبِ العَنْبريّ فمنها: أنَّ معنى الإِصابةِ مصادفةُ الحقِّ، والحقُّ هو ما إذا أَخْبرَ بِه المخبِرُ، كانَ في خبرِه صادقاً، وقد ثبَتَ أنَّ المُختلفينَ في أصولِ الدينِ، بعضُهم يقولُ: ليس لله علمٌ، وكلامُه خَلْقُه وفِعْلُه، وإنَّه لا يصِحُّ أنْ يُرى بأبصارِ العُيون، وإنَّه لا يُريدُ بإرادةٍ ومشيئةٍ هي صفةٌ له، بل يَخلُقُ إرادةً للمُراداتِ، وإنه ما أرادَ كُلَّ موجودٍ مِن أفْعالِ الآدميينَ، لكن أرادَ الحسَنَ منه دونَ القبيح المنهيِّ عنه، وإنَّ المعاصيَ والشُّرورَ ليست مِن تقديرِه (¬2). وبعضُهم يقولُ: إنَّ له كلاماً قديماً وعلماً وإرادةً هي صفةٌ لذاتِه، وإنَّه ¬

_ (¬1) في الأصل: "لأبي عبيد الله" وتقدم ص 237. (¬2) انظر "العدة" 5/ 1540 - 1541.

يَصِحُّ أنْ يُرى، وإنه يَقضي ويُقدِّرُ أفعالَ عبادِه خيرَها وشرَّها، وعلي العكسِ مِن جميع ما ذَهَبَتْ إليه الطائفة الأولى. وإذا ثَبتَ هذا، وعُلِمَ أنَّ اجتماعَ الأمرَينِ في حقِّ اللهِ سبحانه مُحالٌ، أعني: أنَّه لا يجوز أنْ يكونَ عالماً بعِلمٍ لا عالماً بعِلم وأن كلامَه قديم مُحْدَثٌ، وأنّه لا يَصِحُّ أنْ يُرى ويَصحُّ أنْ يرى، وأنّ المخبِرَ بالأمرَينِ عنه سبحانه كان فِى أحدِ خَبرَيهِ كاذباً، وجَبَ أنْ لا يكونَ الحقُّ مجتمعاً (¬1) في الاثنينِ، وأنْ يكونَ أحدُهما هو المصيبَ حَسَبَ ما تقومُ به دلائل الإصابةِ، وما كانَ ذلك إلا بمثابةِ الاختلافِ بينَ المُسلمينَ الموحِّدينَ، والنصارى، والمجوسِ في التوحيدِ والتثْنيةِ والتثليثِ، لما لم يَجُزْ أنْ يكونَ الله سبحانه إلا واحداً، واستحالَ بدليلِ التمانُع أنْ يكونَ خالقُ الخَلْقِ أثنَين، وأوجبت الدلائلُ كونَه سبحانه واحداً، لا جَرَمَ كانَ مذهبُ التَّثْنيةِ والتثْليثِ باطلاً. ومنها: أنّ أدلةَ الأُصولِ هي أدلًة عقليةٌ قطعية، ونصوص جلِيَّة، تدلُّ على مُعتقَد مخصوص، وأن ما عداه باطلٌ، والخبر عنه كذِب، وأنَّ ما يَتعلقُ به المخالفُ شبهةٌ تتخيَّل للضعيفِ النظرِ، اْو المُخلدِ إلى التقليدِ والعَصبيَّةِ، كأنَّها مُرشدةٌ وهي مُضِلةٌ، فدعوى التًساوي في الإصابةِ رجوعٌ عن القولِ بأنَّ أدلةَ الأصولِ قاطعةٌ؛ فإنّه لا اشتباهَ مع القطع، وإنما يؤتى المجتهد مِن قِبلِ نفسِه، ومتى صدَقَ نفسَه الاجتهادَ، هَجَمَ بِه على إصابة الحقِّ الذي دعا الله إلى اعتقادِه، ونهى عنِ العُدولِ عنه. ¬

_ (¬1) طمس في الأصل.

- فصل في أسئلة المخالفين وهي شبههم

ومنها: أنَّ هذه المقالاتِ؛ أعني: القِدَمَ والحُدوثَ، والنَّفيَ والإثباتَ فيما أشَرْنا إليهِ مِن الصِّفاتِ، ومثلَ اعتقادِ خلافةِ أبي بكرٍ، واستحقاقِه لها، والقولِ بأنَّ المُستحِقَّ غيرُه وإنَّما غلَبَ عليها، واعتقاد الخوارج في عثمانَ وعلي، وأنهما كفرَا بعدَ ايمانهما، واعتقادِ أهلِ الحقِّ أنَّهما خَليفتانِ عَدْلانِ إمَامَا هُدىً، لا يجوزُ أنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بصحَّةِ جميعِها؛ فنقول: كلُّ قولينِ لا يجوزُ ورودُ الشَّرع بصحَّةِ كلِّ واحدٍ منهما، لم يَجُزْ أنْ يكونَ القولُ بهما صواباً، كالقولَينِ اللَّذَينِ أحدُهما توحيدٌ، والاَخرُ تثْنيةٌ وتَثْليثٌ. فصل في الأسئلةِ، وهي شُبَهُهِم قالوا: معلوم أنه لا يجوزُ أنْ يكونَ الوَصف ونقِيضُه للهِ سبحانه، ولا يجوزُ أنْ يكونَ كلامُه قديماً محدثاً، ولا مُستحيلَ الرُّؤيةِ مُجوَّزاً (¬1) رُؤيَتُه، ولا قاضياً بالشُّرورِ لا قاضياً بها، وكيف نقولُ ذلك والنَّقيضان لا يجتمعانِ؟! فكيف يَصحُّ اعتقادُهما على الصِّحَّةِ والإصابةِ؛! لكن ما يُنكرُ من قولِنا: إنَّ القائلَيْنِ: كلُّ واحدٍ منهما مصيبٌ فيما بَذَلَه من جُهدِه ووُسعِه؛ وإنه لم يبقَ عليه بعدَ ذلك شيءٌ، فهو مُصيبٌ من هذا الوجهِ، فأمّا الحقُّ عندَ اللهِ في القِدمِ أو الحَدثِ، والسلبِ والإثباتِ، فهو (¬2) واحدٌ من الأمرَينِ، ونعوذُ بالله من الاعتقادِ في اللهِ سبحانه أنْ يكونَ عندَه وفي ¬

_ (¬1) في الأصل: "مجوز". (¬2) في الأصل: "فهي".

- فصل في الأجوبة لنا عما ذكروه

علمِه كونُ الشيءِ الواحدِ قديماً ومحدثاً، وذلك علمُ الشيء على خلاف ما هو به، وذلك هو الجهلُ (¬1) المستحيل عليه سبحانه، بل على آحاد خلقه، إذ لا يجوز أن يكون الواحد من خلقه يعلم الشيء الواحد قديماً مُحدَثاً، حَقّاً باطلاً. قالوا: ولأَنه إِذا جازَ أَن يكونَ كُلُّ مجتهدٍ مصيباً (¬2) في أَحكامِ الشرع؛ من الإِباحةِ والحَظْرِ، والإِيجابِ والندْبِ، وإِن كانا نَقِيضيْنِ يستحِيلُ اجتماعهُما، [جاز مثله في الأصول] (¬3). فصل في الأَجوبةِ لنا عمَّا ذكرُوه أَمَّا الأَوَّل، وأَنَّ الإِصابةَ هي بذلُ الوُسع، فهذا سوءُ عبارةٍ عمَّا قَصَدْتُموه، وإِنما غاية ما يقالُ في ذلك: أَنَّ صاحبَه معذور، ولا يُسمَحُ له بذلك، فإِنه ما قَصَدَ الأَمرَ من بابِه، حيثُ لم يَستَدِلَّ بأَدلةِ اللهِ سبحانه المُوجِبةِ للقطع، الكاشفةِ عن الحقِّ، بل عَدَلَ عنها إلى الشُبَهِ المُضِلةِ بنوع من تقصيرٍ: إِمَّا لتقليدٍ، أَو عَصبيَّةٍ، أَو إِهْمالٍ وإِغْفالٍ يَظُنُّ معه أَنهُ قد بَدَلَ الوُسْعَ، فأَمَّا أَن يقالَ: إِنه مصيب، فلا وجهَ للاِرْتقاءِ إِلى هذه الرُّتْبةِ، مع انَّ حقيقةَ العُذْرِ لم تَتحققْ؛ إذ لم يتحقق بذلُ الوُسْع. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الجهد". (¬2) في الأصل: "مصيب". (¬3) ما بين معقوفين ليس في الأصل.

على أَنهُ إِن جازَ دعوى ذلك، فالثنوِيَّةُ يَدَّعونَ أَنَّهم بَذَلُوا الوُسعَ في إثباتِ الاِثنينِ؛ لِمَا نَعْلَمُ ممَّا أَوْرَدُوه من شُبَهِهم في تَثَنِّي الأَفعالِ إلى خيرٍ وشر، ونَفعِ وضُر، وحَسنٍ وقبيع، وأَنَّ الَحسنَ أَوْجَبَ المدحَ، والقبيحَ أَوْجَبَ الذَّمَّ، والحَسنَ أَوْجَبَ لفاعلِهِ الحِكْمَةَ، والقبيحَ الضارَّ (¬1) أَوْجَبَ لفاعلِه ضِدَّها، فكان يَجِبُ على قودِ قولِكَ أَن يكون كلُّ واحدةٍ من الطَّائِفتينِ مُصِيباً ومُحِقُّا؛ من حيث بَذل وسعه، فأَدّاهُ اجتهادُه إِلى مقالتِه، فلا يَتحقَّقُ فرقٌ بين أَصلِ التوحيدِ والتثْنيةِ، والصِّفاتِ في (¬2) النًفى والإِثباتِ، والقِدَمِ والحدوثِ. وأَمَّا الثاني، وإِلزامُ الأَحكامِ الفُروعيَّةِ، فلا نُسلِّمُ أَن المُجتهدِينَ المُختلِفينَ على الإصابةِ كُلُّهم، بل الحقُّ في واحدٍ؛ مثل مسألتِنا، وكما لا يَصِحُّ أن يكون القديمُ مُحدَثاً، والمُحدَثُ قديماً عندَ اللهِ، لا يكون الحرامُ حلالاً، والواجبُ نَدْباً، ولو سَلَّمْنا على سبيلِ توسعةِ النَّظرَ، فالفرقُ بينهما ظاهر، وهو أَنَّ الفروعَ ليس عليها أَدِلَّةٌ قاطعةٌ، فلم يَجُزْ ألت يكونَ كُلُّ مجتهدٍ مصيباً. ولأَنَّ الأَحكامَ يجوزُ أَن يَرِدَ الشَّرعُ بكون العَيْنِ الواحدةِ مُحرَّمةً في وقتٍ، ويَرِدَ بكونِها مباحةً في وقت، أو يَرِدَ بكونِها مُحرَّمةً على شخصٍ، ويَرِدَ بكونِها مباحة في حقِّ شخصٍ، وقد كان ذلك، مثلُ: الإِباحةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "المضار". (¬2) في الأصل: "و".

* فصل الحق من قول المجتهدين في الفروع في واحد أيضا

للمضْطَرِّ، والتحريمِ على غيرِه، وإِباحةِ الأَمَةِ للعبد على كلِّ وجهٍ، وتحريمِها على الحرِّ، وتحريمِ الخمر على غيرِ المُتداوِي بها، أَو الدافع بها التخَنّقَ، ولم يَرِد الشَّرع بقِدمِ شيءٍ وحُدوثِهِ، وإِثباتِ شىءٍ وسَلْبِه، على ماقَدَّمْنا. فصل والحقُّ من قولِ المُجتهدِينَ في الفروع في واحدٍ أَيضاً، وعلى ذلك الحقِّ دليلٌ يَجِب على كُلِّ مجتهدٍ طَلَبُه، و [هو] مَن سَلِمَ من العاهات، وسلمت آلات اجتهاده، وأدوات نَظرِه من الآفات، ثمَّ إنه سلم بعد ذَلك من المَيْلِ والهَوى، والعَصبيَّةِ للأَسْلافِ والمتبوعينَ. نصَّ عليه أَحمدُ في الحديثَيْنِ المُختلفَيْنِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إِذا أَخَذَ رجلٌ بأَحدِ الحديثيْنِ، وأَخَذَ آخرُ بالحديثِ الآخرِ ضِدَّه، فالحقّ عندَ اللهِ في واحدٍ، وعلى الرَّجلِ أَن يَجْتهِدَ، فهذا نَصٌّ منه على ما ذَكَرْنا. ويَتخرَّجُ عن صاحبنا روايةٌ: أَن يكونَ الحقُّ في جهاتٍ؛ لأَنهُ قد ثَبَتَ عنه أَنَّهُ كان يَدُلّ ويُرشِدُ المُستَفْتِيَ إلى حِلَقِ المُخالِفينَ، ولا تجوزُ الدَّلالةُ على الخطأِ إِلأ ليُجتنَبَ، فأَمَّا ليُتبعَ فلا؛ ولهذا لا يَجوزُ أَن يَدُلَّ مَنِ اسْتَرشدَه في القِبْلةِ على مَنْ يَغلِبُ على ظَنِّه أنَّه يُرشِدُه إِلى غيرِها، فهذا مَأخذٌ لإِصابةِ كلِّ مجتهدٍ. فأَمَّا حكمُه بصحَّةِ الصَّلاةِ خلفَهم -وقد نَصَّ عليه في مواضعَ-، فهو مَاخَذٌ بعيدٌ؛ لأَنَّه قد يُحكَمُ بصحَّةِ الصَّلاةِ خلفَ مَن لا تَتحقَّقُ إِصابته؛

لأنّ اعتبارَ ذلك يَشُقُّ ويُحرِجُ؛ لاختلافِ المذاهبِ، واتساع الفَلَواتِ، واحتياج العَوامِّ إِلى صلاةِ الجماعاتِ خلفَ المُصيبِ والمُخطئِ، وحاجتِهم إلي الصَّلاةِ خلفَ كلِّ بَر وفاجرٍ، فأَمَّا الحاجةُ إلى استفتاءِ المخطئِ، فإدت حصلت، فإِن الدِّلالةَ عليه والإِرشادَ لا (¬1) حاجةَ بنا إِليه، كما أَنَّنا نحكَمُ بصحَّةِ صلاةِ العامِّيِّ والأَعمى خلفَ المُجتهدِ في القِبلَةِ، وإِنْ سأَلنا عن الصَّلاةِ خلفَهم، لم نَحكُمْ ببُطلان صلاتِهِم، ولا يَدُلُّ ذلك على تجويزِ دِلالَتِنا للمُسترشِدِ السائلِ عن القِبْلةِ إِلى مَن نَعْلَمُ أَنَّه على خطأٍ فيها بالرَوايةِ الأُولى. وبهذا قالَ أَكثرُ أَصحابِ الشَّافعيِّ، حتى إِنَّ القاضِيَ ابا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ، رحمه الله تعالي، بالغَ في ذلك، فقالَ: إِنَّني أَعلمُ إِصابتَنا للحقِّ، وأَقطَعُ بخطأِ مَنْ خالَفَنا، وأَمْنَعُه من الحكمِ باجتهادِه، غيرَ أَنَّني لا افَسِّقُهُ (¬2). ووافَقنا أَيضاً بِشْرٌ المريسِيُّ، والأَصَمُّ، وابنُ عُلَيَّةَ. وقال أَبو الحسنِ الكَرْخِيُّ -فيما حكاه أَبو سُفْيَان السَّرخسِيُّ عنه-: مذهبُ أَصحابِنا جميعاً: أَنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ لِمَا كُلِّفَ من حُكمِ اللهِ تعالى، والحقُّ في واحدٍ من أَقاويلِ المُجتهدِينَ. قال: ومعنى ذلك: أَن الأَشْبَهَ واحدٌ عندَ اللهِ، إِلاَّ أنَّ المُجتهِدَ لم يكلَّفْ إِصابتَه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بلا" (¬2) في الأصل: "أنقضه"، والمثبت من "المسودة": 497 - 498.

- فصل في ذكر الدلائل على أن الحق في واحد من جهة الكتاب والسنة

قال: وهكذا حُكِيَ عن عيسى بن أَبانَ: أنَّه كان يقول: لابُدَّ من مطلوبٍ هو أَشْبَهُ الأَشْياءِ بالحادثةِ، إلا أَنَّ المجتهدَ لا يُكلفُ إِصابتَه، وإنما تَعَبَّدَهُ الله أَنْ يَحكُمَ فيها بحكمِ الأَصلِ الذي هو أَشبهُ به في غالبِ ظَنِّه. ونحوَ هذا حَكَى أَبو عبد الله الجُرْجانِيُّ، وفَسَّرَ الأَشْبهَ: بأَنَّ شَبَهَ الحادثةِ ببعضِ الأصول أَقربُ عندَ اللهِ تعالي، وأَنه لو أَنْزَل ذلك الحكمَ، لكان يُنزِلُه بأَحدِ الوَجْهَينِ. وذَهَبَتِ المُعتزِلةُ وأَبو علي الجُبَّائِيُّ في إِحدى الرِّوايتينِ (1 عنه، وأَبو هاشمٍ: إلى أنَّه ليس هناك أَشبه مطلوب أَكثر من أَنَّ الحُكمَ بما هو أَوْلى عندَه أَن يَحكُمَ به. واختلفتِ الأَشعريةُ: فقالَ الأَكثرُ منهم، مثلُ؛ ابنِ فُورَكَ، وأَبي إِسحاق الإِسْفَرايينيِّ، وغيرِهما: مثلَ قولِنا. وقال أَبو بكر بنُ البَاقِلانيِّ: لأَبي الحسنِ الأَشْعَرِيِّ في ذلك قولان 1). واختارَ هو: أَنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، وأَنَّ فرْضَ كلِّ واحدٍ ما يَغلِبُ على ظَنِّه، ويُؤَدِّيه إِليهِ اجتهادُه، وليس هناك أَشْبَهُ مطلوبٍ. فصل في ذكر الدَّلاِئل على أَنَّ الحقَّ في واحدٍ من جهةِ الكتابِ والسُّنَّةِ من ذَلك: قولَه تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ¬

_ (1 - 1) خرم في الأصل، واستدركناه من "العدة" 5/ 1549، و"التبصرة" (499).

- فصل في أسئلة المخالفين على الآية

إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78 - 79]، وتخصِيصُ سليمانَ بالفَهْمِ دَلالةٌ على أَحدِ أَمرَيْنِ: إِمَّا السَّلبُ للفهم في حقِّ داودَ، أَو (¬1) إِصابةُ الحقِّ بفهمِه دونَ داودَ، وإِلا سَقَطَتْ فائدةُ التًخصيصِ بالتفهيمِ، وعلى قولِهم: إِنهما جميعاً مُفْهَمانِ مُصيبانِ، تسقط (¬2) فائدةُ التخصيص بسليمان. فصل في أَسئلتهم على الآيةِ فمنها: قولُهم: ليس تخصيصُ سليماَنَ بالفهمِ بأَكْثرَ من تخصيصِهما جميعاً بالعِلْمِ، ثمَّ لم يَدُلَّ على تخصيصِهما به دونَ سائِرِ الأَنبياءِ صلوات الله عليهم، كذلك لا يَدُلُّ على تخصيصِ سليمانَ بالفَهْمِ. ومنها: أَنْ قالوا: قد رُوِيَ أَنَهما حَكَما بالنًصِّ، ثم نَسَخَ الله الحُكمَ في مثلِ تلك القَضِيَّةِ في المُستقبَلِ، فعَلِمَ النسخَ سليمانُ، فحَكَمَ بالنصِّ الناسخ، فكان هذا هو الفهمَ الذي أَضافَه إِليهِ. ومنها: إِن كانا حَكَما بالاجتهادِ، فلعلَّ سليمانَ أَصابَ الأَشبهَ المطلوبَ عنِ الله سبحانه. ومنها: أَنْ قالوا: لَعَلَّ سليمانَ (3 حَكَمَ بنص خَفِي كان قد 3) وَقَفَ عليه، وخَفِيَ على داودَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن". (¬2) في الأصل: "فسقط". (3 - 3) غير واضح في الأصل، واستدركناه من "العدة" 5/ 1553.

- فصل في الأجوبة على الأسئلة

ومنها: (1 أَنَّه لَمّا سَوّى بينهما في المِدْحَةِ، دَلّ ا) على اتفاقِهما في الإِصابةِ، وهو قولُه (2 سبحانه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، فلو كان أَحدُهما قد أَخطأَ، لم يَصِفْه بأَنَّه آتاه حُكماً وعِلماً، فثبت أَنَّ اجتهادَهما كان صواباً 2). (3 فصل في الأجوبة 3) على الأسئلة فأَمَّا قولُهم: إِنَّ التخصيصَ لا يَدُلُّ على النَّفْي عَمّا سِواه؛ بدليلِ قولِه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15]، ولم يَدُلَّ على سَلْبِ العِلْمِ عَمَّنْ عداهما، فهذا مُجرَّدُ دعوى، وبيانِ مذهبٍ، وإِلا فالعربُ لا تَخُصُّ بالاسمِ والصِّفةِ إِلأ وغيرُ المخصوصِ بهما غيرُ مُشارِكٍ لذلك المخصوصِ، وهذا أَصل قد سَبَقَ الكلامُ فيه، وهو دليلُ الخِطابِ. وأَمَّا قولُهم: إِنَّ داودَ حَكَمَ ولم يَعْلَمِ النَّصَّ، وكان لسليمانَ نصٌّ خَفِيَ عن داودَ، فحكمَ به، فغيرُ صحيح؛ لأَنَّ شريعةً يكونُ فيها نصّ على حكمٍ لا يَخْفَى على نبيِّ تلك الشَّريعةِ، فهذا تأويل بعيد. على أَنهُ لو كان نصٌّ (¬4)، لماَ عُزِيَ إِلى سليمانَ،- ولا سُمِّيَ ذلك باسمِ تَفْهيمٍ. ¬

_ (1 - 1) خرمٌ في الأصل. (2 - 2) ليس في الأصل، واستدركناه من "التمهيد" 4/ 316 - 317 بتصرف. (3 - 3) خرم في الأصلٍ. (¬4) في الأصل: "نصا".

وأَمَّا قولُهم به في الأَشبَهِ، فإنَّ جماعةَ مَنْ خالَفَنا في هذه المسأَلة لا يقول: إِنَّ هناك أَشْبَهَ مطلوباً (¬1)، وإِنما فَرْضُه الاِجْتهادُ، ومَن قال: إنَّ هناك أَشبَهَ، قال: بأَنَّه لم يُكَلَّفْهُ، وإِذا لم يُكَلَّفْه، فلا يُؤَثِّرُ وجودُه وعَدَمُه في حقِّ أَحدِهما، ولأَنَّ الإِصابةَ إِذا كانت مصادفةً، فلا مِدْحةَ لصاحبِها، كالإِصابةِ للقبلةِ مِن غيرِ طَلَبٍ لها، ولا استدلالٍ عليها. على أَنه قد رُوِيَ: أَنَّ سليمان نَقَضَ حكمَ داودَ، قال شيخُنا الإِمامُ أَبو يعلى رضي الله عنه: ولو كان على وَجْهِ مصادفةِ الأَشبهِ عندَ الله، لما نَقَضَ حكمَ داودَ، لأَنَّ المصادفَ لايكونُ على بَيِّنةٍ من أَمْرِه وخطأِ غيرِه. وأَمَّا قولُهم: إِنَّه لَمّا سَوَّى بينهما في المِدْحةِ، دَلَّ على استوائِهما في الإصابةِ، فليس بصحيح؛ لأَنَّ الاجتهادَ (2 عندنا يَستحِقُّ المخطئُ فيه والمصيبُ المَدْحَ، فقد قالَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:"إِذا اجتهدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ 2)، وإِن اجْتَهدَ فأَخطأَ، فله أَجرٌ" (¬3) والمَدْحُ يَتْبَعُ الأَجْرَ (¬4)، وقال سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} [الحديد: 10]، ثم قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ولأَنَّ الاجتهادَ حُكمٌ وعِلم، وإِنْ لم يَكُنْ إِصابة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مطلوب". (2 - 2) خرمٌ في الأصل. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 294. (¬4) في الأصل: "الأحرة".

* فصل في الدلائل من السنة على أن الحق في واحد

فصِل في أَدِلّتنا فمنها مِن جهةِ السُّنَنِ: ما رواه أَبو هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "إِذا اجْتَهَدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ، وإِنِ اجتهدَ فأخطأَ، فله أَجْر" (¬1)، وهذا نصّ في أن المُجتهدِينَ يخطئونَ (¬2). وكذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - لعمرِو بن العاصِ: "احكم، فإِن أَصَبْتَ، فلك أَجْرانِ، وإنْ أَخْطَاتَ، فلك أَجْر" (¬3)، ولو كان الكلُّ على إِصابة، لم يَكُنْ لذِكْرِ الخَطأِ وجه. فإِن قيل: هذا الخبرُ بأَن يعطيَ أَنَّ كُلَّ مُجتهدٍ مصيب، أَوْلى مِن أَن يُعطِيَ أَنَّ الحقَّ في جهةٍ؛ لأَنَّ الخطأَ لا يَحْسنُ ان يُقابَلَ إلا بالعُذْرِ، والعَفْوِ عن المؤاخذةِ، فأَمَّا الأَجر فلا، فلمَّا قابلَه بالأَجْر، علِمَ أَنهُ لإِصابةِ الحقّ، أَلا ترى إِلى قولِه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]، وقولِ النبيِّ عليه الصلاة والسَّلام: "عفِيَ لأمَّتي عنِ اَلخطأِ والنِّسيانِ" (¬4). وأَمّا تسميته مُخطِئاً مَعَ حَمْلِنا له على الاِصابةِ، فليس براجع إلى خطأ في الاجتهادِ، وإِصابةِ الحُكْمِ بدليلِه، لكن عادَ إِلى أَن يُصيِبَ حُكمَ اللهِ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 295. (¬2) في الأصل: "يخطئا". (¬3) تقدم تخريجه 1/ 294. (¬4) تقدم تخريجه 2/ 443.

كأن (¬1) يَقْتطِعَ المحكومُ له مالَ خَصْمِه أَو حَقه بذلك الحكمِ، لكَذِبِ الشُّهودِ؛ أَو مُغالطةِ الخَصْمِ بكونِه أَخْصَمَ وأَلحنَ بحُجَّتِه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنما أَحْكُمُ بالظاهرِ؛ إنكم لتَخْتَصِمُونَ اِليَّ، ولعلَّ أَحَدَكم أَلحنُ بحُجَّتِه مِن صاحبِه، (2 فمَن قَضَيْت له بشيءٍ من مالِ أَخيه، فلا يَأخُده، فإِنما 2) أَقْطَعُ له قِطعةً مِن النارِ" (¬3)، (4 وهذا النوعُ من الخطأِ هو الذي يَستحِقُّ الحاكم 4) فيه أَجرَ اجتهادِه، وإِصابةِ حكمِ الشَّرع؛ حيث قَضى بالبَيِّنةِ بظاهرِ العدالةِ، وحُرِمَ أَجرَ تحصيلِ الحقِّ لمُستحِقِّه بحكمِه؛ إِذ كان إنَّما حَصَلَ لغيرِه بحكمِه، وصارَ ذلك بمثابةِ رجلٍ رَأَى مُضْطرَّاً إِلى الماءِ، ووَجَدَ ماءً لا يَعلَمُ أَنهُ مسمومٌ، فسَقاهُ، فماتَ فله أَجرُ قَصْدِه لريِّهِ، وأستِنقاذِه من تَلَفِ العَطَشِ، ولكن حُرِمَ ثوابَ إِحياءِ نفسِه بإِسقائِه؛ حيث لم يَتحصَّلْ ذلك بإِسقائِه. فيقالُ: الجَهالةُ بكَذِبِ الشُّهودِ، وما شاكلَ ذلك من إِقرارِ الخَصْمِ على سبيلِ التّهَزِّي، [ونحو] ذلك، مِمَّا لا يُضافُ إِلى الحاكمِ به خَطَأٌ، ولهذا مَنْ جَهِلَ نجاسةَ ماءٍ، فتَوضَّأَ به بناءً على حُكمِ الأَصلِ، وأَخطأَ جِهَةَ القِبْلةِ مع اجتهادِه ولم يَعلمْ، لا يَنْقُصُ (¬5) ثوابُه، ولا أَجرُ عملِه؛ ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل: "لكن". (2 - 2) خرم في الأصل. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 259. (4 - 4) خرم في الأصل، واستدركناه من "المسودة" (505). (¬5) في الأصل: "نقص".

* فصل فيما ورد في ذلك عن فضلاء الصحابة وأقوالهم الدالة على أن الحق في واحد من أقوال المجتهدين

للرَّاعى، لَمَّا سأَله قوم عن الماءِ: "لا تُعلِمْهم (¬1) "، وقال عمر لصاحبِ المِيزابِ، لَمَّا قَطرَ منه ماء، فسَألوه عن حكمِه: لا تُعلِمْهم (¬2). ولو كان ذلك مما يُقصِّرُ أَجراً، أَو يُنقِصُ ثواباً، لَمَا أَمَرَ بكَتْمِه، على أنَّ اللّفْظَ عامٌّ في الجميع، لو كان هذا مما يَقَعُ عليه اسمُ الخطأِ. فإِن قيلَ: فلعلَّ قولَه: إِذا اجتهدَ، فأَخْطأَ حكمَه باجتهادِه، وما عَلِمَ أَن [في] القَضيَّةِ نصّاً أَو إِجماعاً. قيل: اللفظُ عامّ، فلا وجهَ لتخصيصِه، ولأَنَّ الأَجْرَ لا يَختَصُّ بإِصابة النصِّ والاِجماع؛ لأنَّ ما فيه نصّ أَو إِجماعٌ وما لا نَصَّ فيه فِى الأَجرِ سواءٌ، فَدَلَّ على عمومِه. فصل فيما وَرَدَ في ذلك عن (¬3) فُضلاء الصِّحابةِ، وأَقوالهِم الدَّالَّةِ على أَن الحقَّ في واحدٍ (4 من أقوال المجتهدينَ فمنها: ما رُوِيَ عن أَبي بكرٍ 4) الصدِّيقَ أَنّه قال في الكَلالةِ: أَقولُ (4 فيها براي، فإِن يَكُنْ صواباً، فصنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإِن يَكُنْ خظأً، فمِنِّى 4)، وأَسْتغفِرُ الله (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني 1/ 26 من حديث عبد الله بن عمر. (¬2) أخرجه الدارقطني 1/ 32. (¬3) في الأصل: "من". (4 - 4) خرم في الأصل. (¬5) تقدم تخريجه ص (318).

ورُوِيَ عن عمرَ: أَنَّه حَكَمَ بحُكمِ، فقال له رجلٌ حَضَرَ: هذا- واللهِ- الحقُّ. فقال عمرُ: إِنَّ عمرَ لا يَدْري أنَّه أَصابَ الحقَّ، لكنَّه لا يَالو جَهْداً. ورُوِيَ: أَنَّ عمرَ كَتَبَ، فقال لكاتبِهِ: اكتب: هذا ما رأَى عمرُ، فإِن كان خَطَأً فمنه، وإِن كان صواباً فمِنَ اللهِ. ورُوِيَ عن علي: أَنَّه قال في المرأَةِ التي ستحْضَرَها عمرُ، فأَجْهَضَتْ ذا بَطْنِها، وقال له عثمانُ وعبدُ الرحمن: إِنَّما أَنتَ مُؤَدِّبٌ، لا نَرَى عليك شيئاً. فقال: إِنْ كانا اجْتَهَدا، فقد أَخْطأ، وإِنْ لم يَجْتهِدا، فقد غَشَّاكَ، أَرَى عليك الدِّيَةَ (¬1). ورُويَ أَنه لَمَّا قال في امَّهاتِ الأَولادِ: ورَاي الآنَ أَن يبَعْنَ. قال له عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ: رَايك معَ الجماعةِ أَحبُّ إِلينا من رايِك وحدَك (¬2). ورُويَ عن ابن مسعودٍ أَنَّه قال فِى المُفَوِّضَةِ: أَقولُ فيها برايي، فإنْ كان صواباً، فمِنَ اللهِ ورسولِه، وإِنْ كان خَطأً، فمِني ومن الشَّيطانِ، والله ورسولُه منه بريئانِ (¬3). ورُويَ: أَن عليّاً وابنَ مسعودٍ وزيداً رضي الله عنهم خَطّؤُوا ابنَ عباسٍ في تَرْكِ القولِ بالعَوْلِ، وأَنْكَرَ عليهم ابنُ عباس قولَهم بالعَوْلِ، حتى ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (205). (¬2) تقدم تخريجه ص (143). (¬3) أخرجه أحمد (4099) (4100) (4276)، وأبو داود (2115)، والترمذي (1145)، والنسائي 6/ 121 - 122، وابن ماجه (1891).

قال ابنُ عباس: مَنْ شاءَ باهَلَنِى باهَلْتُه، إِنَّ الذي أَحْصى رَمْلَ عالِج عَدَداً لم يَجْعَلْ في مالٍ واحدٍ نِصْفاً ونِصْفاً وثُلُثاً، قد ذهبَ النِّصفانِ بالمالِ، فأَينَ موضعُ الثلُثِ؟! (¬1) ورُوي عن ابنِ عباسٍ أَنَّه قال: أَلا لا يَتَّقي الله زيدُ بنُ ثابتٍ، يَجْعَلُ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يَجْعَلُ ابد الأَبِ أَباً! (¬2). وهذا إِجماعٌ ظاهرٌ على تَخْطِئَةِ بعضِهم بعضاً في مسائلِ الاجتهادِ، دلَّ على (3 أَنَّ الحقَّ من هذه الأَقوالِ في 3) واحدٍ، وما سِواه باطلٌ. وممَّا (4 استُدِلَّ به: الإِجماعُ، فقد ثَبَتَ 4) بإِجماع الأمَّةِ أَنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَمَرَنا بالتَّأليفِ والاِجْتماع، ونهى عن الفُرقةِ والاِخْتلافِ، هذا مما أَطْبَقَتِ الأمَّةُ عليه، وورَدَ السَّمعُ به، فقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، اقْتَصَرَ على أَنَّ المُختلِفَ ليس من عندِه، وعلى زَعْمِهم أَنَّ المُختلِفَ من المذاهبِ: الحاظرِ والمُبيح، والمُوجِبِ والمسقِطِ، شرعٌ لله، وصوابٌ عندَ اللهِ، وقال سبحانه {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119]، فاسْتَثْنى المَرْحومِينَ من المُختلِفينَ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 36. (¬2) تقدم تخريجه 2/ 37. (3 - 3) خرم في الأصل، واستدركناه من "التبصرة" 501. (4 - 4) خرم في الأصل.

جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقالَ تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهذه آياتٌ كُلُّها تَمْنَعُ من الفُرْقَةِ، وتَزْخرُ عنها، وتَذُمُّ أَهْلَها، وتَحُثُّ على الاجتماع، وتَأمرُ به، وتَمدَحُ عليه، وعندَكم أَنَّ الكُلَّ سَواءٌ. وللمُخالِفِ أَن يقولَ: لا مُتعلَّقَ لكم ولا حُجَّةَ في ذلك؛ لأَنّكم- وإِنْ قُلْتُم: إِنَّ الحقَّ في واحدٍ، وإِنَّ كُلَّ مخالفٍ لذلك مُخطئٌ - لستُم ناهِينَ عن المخالفةِ، ولا آمِرينَ بالموافقةِ، لأَنَّ كُلَّ واحدٍ من المُجتهدِينَ غيرُ مأمُورٍ باتِّباع الآخرِ تقليداً له، ولا بموافقته في مَقالتِه، بل فَرْضُه الاجتهادُ وإِن خالَفَ وفارَقَ، ولو تَرَكَ اجتهادَه المُؤَدِّيَ إلى المخالفةِ، ووافقَ، لَلَحِقَه الوعيدُ، وكان داخلاً تحتَ النَّهىِ، غيرَ مُوافِقٍ للشَّرع، وإِذا كنا مُجمِعينَ على أَنَّ الله قد أَبْرأَ كافًةَ المُجتهدِينَ بما يُؤَدِّيهم (¬1) إِليه اجتهادُهم، ونَهاهُم عن الموافقةِ (2 لبعض المجتهدين 2) فيما ذَهَبُوا إِليه بالاجتهادِ، فصار الإِجماعُ (2. . . . . . . . .2) دونَ طَلَبِ الموافقةِ، وتَرْكِ المخالفةِ، وفي أُصول الشَّرع شواهدُ لذلك ممَّا أَوجبَ (3 فيه الأخذ بما أدى إليه الاجتهاد 3) دونَ مجرى الوِفاقِ، فمن ذلك: اختلافُهم في القِبْلةِ؛ مَعَ اختلافِهم في الاجتهادِ، قد أَجْمَعْنا على تحريمِ المُوافقةِ، وإِيجابِ استقبالِ كلِّ واحدٍ إِلى ما أَدّاهُ اجتهادُه إِليه من الجِهاتِ، وإِنْ وَقع الخلافُ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يؤديه". (2 - 2) خرم في الأصل. (3 - 3) خرم في الأصل.

ومن ذلك: إِذا قالت زوجةُ رجلٍ: سَمِعْتُه يُطَلِّقُني ثلاثاً. وقال الزَّوجُ: لم اطَلِّقْها. أَمَرَهما الشرعُ بالفُرقةِ، ومَنَعَهما مِنَ الاجتماع، فقيل للمرأَةِ: اهرُبي، فأَنتِ مُحرَّمةٌ عليه. وقيل للرَّجلِ: اطْلُبْها، فهي زوجتك. وكذلك الأَعْيانُ الواجبةُ في الكفاراتِ؛ يَختلِفُ الناسُ فيها باختلافِ أَحوالِهم؛ فهذا فَرْضُه العِتْقُ، وهذا فَرْضُه الإِطعامُ أَو الكسْوَةُ، وهذا فرضُه الصَّومُ. وهذا في المُترتِّباتِ، وأَما المُخيَّراتُ؛ فقد جَعَلَ الله سبحانه اختيارَ كُلِّ إِنسانٍ مُفوّضاً إِليه فيما يُكَفِّرُ به من أَنواع التكفِيرِ. فهذا اختلافٌ مأمورٌ به في الاعتقاداتِ والتعبُّداتِ من الأَفعالِ. وكذلك تقويمُ المُقوِّمينَ إِذا اختلَفُوا في قيمةِ المُتلَفِ، لم يُؤْمَرُوا بالاتِّفاقِ، بل يُؤْمَرُ كُلُّ واحدٍ منهم بما يُؤَدِّيه اجتهادُه، ويُنهى عن موافقةِ مَنْ يخالِفُه. فإِذا ثَبَتَ أَنَّ الأصولَ على هذا، فلا بُدَّ أَن يَكُونَ الذَّمّ للفُرْقةِ، والأَمرُ بالاجتماع والاتِّفاقِ، راجعاً إِلى تَرْكِ المُعاندةِ للحقِّ، والمخالفة للمُحِقِّينَ الدين اتبَعُوا الأَدلةَ، وهَجَرُوا الشّبُهاتِ، وكم طالبٍ للفُرقةِ، وهاجرٍ [للأَدلةِ] (¬1) بمجرد الأَنَفةِ من الاتِّباع لدليلٍ صارَ إِليهِ مَن (2 يَتَعصَّبُ عليه، أَو لمُغالبةٍ 2) ومطاولةٍ، أَو انفرادٍ بمذهبٍ ليُتَّبَعَ؛ فيَصِيرَ به صاحب قالةٍ، والناسُ على هذا إِلاَّ مَن عَصَمَ الله، وإِنَّما سَطرتُ هذه الطريقةَ، ليُجْتَنَبَ ¬

_ (¬1) خرم في الأصل. (2 - 2) خرمٌ في الأصل.

- فصل في أدلتنا النظرية

سلوكُها، والتعويلُ عليها. فصل في أَدلَّتنا النَّظَريةِ فمنها: أَنَّ الأمَةَ قد أَجْمَعَتْ على وجوبِ النَّظَرِ، والفَزَع إليه عندَ حدوثِ الحادثةِ، ووقوع الواقعةِ، وتَرْتيبِ الأَدِلةِ، وبناءِ بعضِها علىَ بعضٍ، ولو كان الجميعُ حقاً وصواباً، لم يكن للنَّظر وجهٌ، ولا كان لعقد مجالس النظرمعنىً، بل كان مُجَرَّدَ العَبَثِ، وإِتعابِ النفْس، أَلا ترى أَنَّ كلَّ مُتَّفَقٍ عليه من خَبَرٍ أَو حُكمٍ يَقْبُحُ فيه النِّزاعُ والمُماراةُ، فلو اجْتَمَعَ قومٌ يَتَناظَرُونَ في الماء: هل هو طَهورٌ؛ أَو الزِّنى: بأَنَّه فُجورٌ، أَو في الأَعيانِ المُخيَّرِ بينها في الكًفَّارةِ: أيها المُسقِطُ للفَرْضِ، والمُبرئُ للذِّمَّةِ؟ لكان ذلك تضييعاً للوقتِ لمَحْضِ العَبَثِ؛ حتى قال الحكماءُ: لو أَنَّ طَبَقاً من رُطَبٍ أو غيرِه مِن المأكولاتِ حَضَرَ بينَ يديْ إنسانٍ، واذنَ لَه في الأكلِ، واتفقَ أنَّ آحادَ ذلكَ متساوٍ في الجودةِ وكلِّ صفةٍ مرغوبٍ فيها؛ بحيثُ لا تفضُلُ واحدةٌ من ذلكَ على الأخرى، لَما امْتَدَّتْ يدُ ذلك الإنسانِ إلى واحدةٍ، ولا يُوجب مدُّ اليدِ إلا بحصولِ ترجيحٍ؛ بجودةٍ، أو قربٍ، أو ما شاكلَ ذلك، وهذا ممّا يجدُه الإنسانَ من نفسِه، إذا خطرَ له في طريقٍ توجَّه فيه المُضيُّ إلى جهتينِ مُختلفتينِ، وتساوَيا فلم تترجَّح إحدى الجهتينِ على الأخرى بنوعٍ من أنواع الترجيح؛ فإنَّه يقِفُ لا قصْداً، بل يوقفُه التردُّدُ عن

التوجُّهِ، فإذا ترجَّحَ أحدُ المقصدينِ، خطا نحوَه؛ فالجسدُ (¬1) في حَجرِ الرَّأيِ، كما أنّ الرَّأيَ والجسدَ في حَجْر قدرِ اللهِ تعالى وقضائِه وتوفيقِه، فإذا ثبتَ هذا، علمَ أنَّه إنَّما جازَ الَنظرُ والاستدلال ووجَبَ؛ لكونِ الجهاتِ غيرَ متساويةٍ، وإنما هناك مطلوبٌ خفيٌّ تُظهِرُهُ الدَّلائِلُ. فإِن قيلَ: لا نُسلِّمُ أَنَّ النظرَ واجب في مسائِلِ الاجتهادِ، بلِ الإنسانُ عندنا بالخيِارِ بين الأَقاويلِ، يأخُذُ منها بما شاءَ، كما نقولُ في أَعْيانِ الكَفاراتِ المُخيَّرِ فيها بينَ العِتْقِ والكسوةِ والإطعامِ. قيل: هذا خِلافُ الكتابِ والإجماع، أَمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] والمرادُ به: كتابُ اللهِ وسُنةُ رسولِه، وأَمَّا الاجماعُ: فإِنَّ العلماءَ لا يَختلفُونَ في الفَرْق بين العامِّىِّ المُقلِّدِ، والعالمِ المجتهدِ، فبعضُ الناسِ يقولُ: إِنَّ العامِّيَّ يُقلِّد مَنْ شاءَ من المُجتهدِينَ، وبعضُهم قال: يَجْتهِد في أَعْيانِ المُجتهدينَ، ولا يقلِّدُ مَنْ شاءَ، بل الأَعْلمَ الأَوْرعَ، وأَمَّا العالمُ المجتهد، ففَرْضُه الاجتهاد، فلو كان مُخيَّراً في القول بأيّ مذهبٍ شاءَ، لكان كالعامِّيِّ سواءً، ولم يُفِدْهُ اجتهادُه رُتْبةً في التكَليفِ. فإِن قيل: إنما يَتناظَرُونَ ويَجتهدُونَ في ذلك لمعرفةِ النصِّ والإجماع؛ حتى لايقْدِمُوا على مخالفتِهما. قيل: هذا خطأ، لأَنَّ الاجتهادَ لا يَقَعُ إِلاًّ فيما لا نَصَّ فيه، ولا ¬

_ (¬1) غير واضحة في الأصل.

إِجْماعَ، والنصُّ لا يَخْفى إِلى حَدِّ يَجْتهِدُ الإِنسانُ في طَلَبِه، وإِنْ خَفِيَ، فعلى مَنْ ليس مِن أَهلِ الاجتهادِ، فأَمَّا أَنْ يَخْفى على مُجْتهِدٍ، فلا. فإِدْ قيل: يُحتَمل أنَّ اجتهادَهم ومُناظرتَهم لطلبِ الأَصلح والأَشبهِ دونَ معرفةِ الصَّحيح من الفاسدِ. قيل: الأَصلحُ لا أَمارةَ عليه، لأَنَّ الله سبحانه إِنما أَمَرَنا ونَهانا، ونَصَبَ الأَدِلةَ على ما أَمَرَنا به ونهانا عنه، فأَمَّا الأَصْلحُ لنا، فلا دليلَ عليه يفرَد به، ولرُبَّما قال قومٌ: إِنَّ الأَصلحَ فعلُ ما أَمَرَنا به، وتركُ ما نهانا عنه، فإِذا كان المأمورُ به والمَنهيُّ عنه منصوصاً، فلا اجتهادَ مع النصِّ، على ما بَيَّنا. فإِنْ قيل: فالنظرُ والاجتهادُ والمناظرةُ لطلبِ الأَشبهِ. قيل: إِنْ كان الأَشبَة ما قالَه الكَرْخِيُّ: مِن أَشبه [مطلوب] عندَ اللهِ تعالى في الحادثةِ، فقد سَلَّمْتُم المَسْأَلَةَ؛ لأَنَّه إِذا كان لنا عندَ اللهِ أَشبهُ مطلوبٌ، دَلَّ على أَنَّ الحقَّ هو ذاك، وهو واحدٌ، فمهما سَمَّيْتُمُوه من أَشبهَ، أَو حقٍّ، أَو صوابٍ، فهو ذاك، وما سِواه ليس بحقٍّ. وإِن كان الأَشبهُ ما قالَه أَبو هاشمٍ: وهو الحُكْمُ بما هو أَوْلى عندَه، فهذا ما لا فائدةَ في النَّظرِ لأَجلِهِ؛ لأَنَّه إِذا كان الجميعُ حقّاً وصواباً، لم يَكُنْ للنَّظرَ معنىً أَكثرَ من إِتعابِ الفِكْرِ، وتقطيع الوقت في غيرِ فائدةٍ. فإِن قيلَ: بل الأَوْلى مقصودٌ عندَ العقلاءِ، ولا يكونُ تقطيعاً للوقت. قيل: إِذا كان هناك أَوْلى لا يُصِيبُه الكُلُّ، فليس كُلُّ مجتهدٍ مصيباً

للمطلوبِ، وهو الأَوْلى. فإِن قيل: إِنَّ المُناظرةَ قد تُفِيدُ عثوراً، على نصِّ في المسأَلةِ، يُظفَرُ به عندَ مذاكرةٍ ومناظرةٍ، وذاك مما لا يَسُوغُ الاجتهادُ مع وجودِهِ، فنستفيدُ الاِسْتِبْراءَ، كطالبِ الماءِ والسترةِ والقِبْلَةِ. قيل: إِنا لم نُلْزِمْكمُ الاستعلامَ عن النُّصوصِ ممَّن جَهلَها، وإِنما الكلامُ في النَّظرِ والارتياءِ مع تَحقُّقِ عَدَمِ النصِّ، بالتراجيح، والتًّعلُّقِ بالأَماراتِ. ومنها: أَنَّ مَقالةَ الخَصْمِ تُؤَدِّي إِلى مُحالٍ، وما أَدَّى إِلى المُحالِ، فمحالٌ، وذلك أَنَّ النَّاسَ قد اختلفوا في العَيْن الواحدةِ، فحَرَّمَها قوم، وأباحَها قومٌ، كالنبيذِ، وفي العَقدِ (1 الواحدِ، فصححه ا) قومٌ، وافسَدَهُ قوم؛ كالمُتْعَةِ، والعِبادةِ أَوْجَبَها قومٌ، ولم يُوجِبْها قومٌ، كالوِتْرِ، والتحلِيلُ والتحريمُ، والصِّحَّةُ والفَسادُ، والإِيجاب والإِسْقاطُ، نقائِضُ لا تَجْتَمِعُ في جهةٍ واحدةٍ، وعَيْنٍ واحدةٍ، بل يَستحيلُ اجتماعُها؛ فإِنَّ الحُكميْنِ المُتضادَّيْنِ للعَيْنِ الواحدةِ، كالعَرَضَيْنِ المتضادَّيْنِ للجَوْهَرِ الواحدِ، فكما يَستحيلُ أَن يكونَ الجَوْهَرُ ساكناً مُتحرِّكاً في حالةٍ، أَسْودَ أَبْيضَ (¬2) كذلك، يَستحِيلُ أَن تكونَ العَيْنُ الواحدةُ حلالاً حراماً، والعبادةُ واجبةً ساقطةً، والعَقْدُ صحيحاً فاسداً، ومَنْ قال: إنَّ المَذهبَيْنِ صوابانِ عندَ اللهِ، فقد أَثْبَتَ المُستحِيلَ، وكَفَى بذلك خَطَأً. ¬

_ (1 - 1) خرم في الأصل. (¬2) في الأصل: "أسوداً أبيضاً".

وقد أَخْرَجَه ممَّن وافَقَنا في هذا المذهبِ قومٌ، وأَنَّ الحقَّ في جِهَةٍ واحدةٍ مَخْرَجَ التقْسيمِ؛ فقالوا: لا يَخْلُو أَن يكونَ المذهبان صَحيحينِ، أَو فاسدَيْنِ، أَو أَحدهما صحيحاً، والآخرُ فاسداً، لا يجوزُ أَنَ يكونا فاسِدَيْنِ، لأَنَّ ذلك قولٌ يُخالِفُه الإِجماع، وما خالفَ الإِجماعَ مقطوعٌ بفسادِه، ولا يجوزُ أَن يكونا صَحيحيْنِ، لأَنه يفْضِي إِلى كونِ العَيْنِ الواحدةِ حلالاً حراماً، والعَقْدِ الواحدِ صحيحاً فاسداً، وذلك محالٌ، فلم يَبْقَ إِلاَّ أَنَّ أَحدَهما صحيحٌ، والآخرَ فاسدٌ، وهو قولنا. فإن قيل: إِنّما لا يجوزُ أَن يكونا كذلك في حقِّ شخصٍ واحدٍ، ولا يُنكَرُ ذَلك في حقِّ شخصَيْنِ، أَلا ترى أَنَّ المَيْتَةَ ولحمَ الخِنْزيرِ يجوزُ أَن يكونَ مُباحاً للمُضْطرًّ مُحرَّماً على المُكْتَفِي، والعَقْدَ بلا وَلِيٍّ ولا شُهودٍ نكاحٌ صحيحٌ في حقِّ الكُفَّارِ، حتى إِنَّه يجوزُ لهم اسْتِدامتُه بعدَ الإِسلامِ، وهو فاسدٌ في حقِّ المُسلِمينَ، وإِفطارَ رمضانَ حرامٌ على المقيمِ السَّليمِ، مباحٌ للمريضِ والمُسافرِ، كذلك لا يَمْتَنِعُ أَن يكونَ القَدَحُ من النَّبيذِ، والحيوانُ المخصوصُ كالسِّباع، مباحاً طاهراً في حقِّ مَنْ أَدَّاهُ اجتهادُه إِلى إِباحتِه وطهارتِهِ، حراماً (¬1) على من أَدَّاهُ اجتهادُه إِلى حَظْرِه وتحريمِه، قالوا: ولهذا يحسنُ أن نقول: هذه العين حرامٌ على مَنْ أَدَّاه اجتهاده إلى تحريمها، حلالٌ لِمَن أَدَّاه اجتهادُه إِلي إِباحتها، كما يَحْسُنُ أن نقولَ في الجِهَتيْنِ المُختلِفتيْنِ على كلِّ واحدةٍ منهما: قِبْلةٌ، لمَنْ أَدَّاه اجتهادُه إلى كونِها قِبْلةً. ¬

_ (¬1) فِى الأصل: "حرام".

قيل: الضَّرورةُ ومَشقةُ السَّفَرِ حالٌ من أَحوالِ المُكلفِ، فحَسُنَ أَن يُخالِفَ الشَّرع بالنص بينَ الحالتَينِ رِفقاً ورُخْصةً، والاجتهادُ طَلَبٌ (¬1) لحق، وتَحر (¬2) لمُصادفةِ معنىً، والناس في أَدواتِ النَّظَرِ وكُلِّيِّ العقول وإِزاحةِ العِللِ لا يَتفاوَتُونَ، وإِنَّما يَجِىءُ (¬3) التفاوتُ من جِهَتِهم بنوع إهْمالٍ، ونوع تقليدٍ للرِّجالِ، وإِذا كان بالاجتهادِ، وعن صحةِ عَقْلٍ، وسلامةِ أَدواتِ النظرَ، فإذا وَقَعَ به أَحدُهما على المطلوبِ، ولم يَقَع الآخرُ على عَيْنِ ذلك، علِمَ أنَّه أَخطأَ. ولأَنَّ ما ذَكَرُوه مِن تلك الأَعيانِ وَرَدَ النص فيها على سبيلِ التفصيلِ والمخالفةِ، فكان الحكمُ في حقِّ الشَّخصَيْنِ بحَسَبِ التفصيلِ، فأَمَّا في مسأَلتِنا، فنحن نَتكَلمُ فيما وَرَدَ الشَّرعُ فيه على سبيلِ العمومِ والاطلاق، فلا يجوزُ أَن يُقْضى بالحكمِ على سبيلِ التخصيصِ. فإِن قيل: الدليلُ الذي يَذلُّ على الحكم ظَنُّ المُجتهِدِ، فأَمَّا الأَمارات فإِنها تَقَعُ متكافِئَةً، وظنّ كلِّ مُجتهِدٍ يَخُصُّه لا يتناولُ غيرَه. قيل: هذا خَطَا، بل الدليل الكتابُ والسُّنةُ والقياسُ، ولهذا قالَ الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فَرَدَّ إِلى الكَتابِ والسُّنةِ، وقالً النبي - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ حينَ بَعَثَهُ إِلى اليَمَنِ: "بمَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "طلباً". (¬2) في الأصل: "وتحرياً". (¬3) في الأصل: "هى مجئ".

تقْضِى؟ " (¬1)، فذَكَرَ الكتابَ والسُّنةَ والقِياسَ، ولم يَذْكُرِ الظنَّ. ولأَنَّ العلماءَ أَجْمعَ لا يَفْزعُونَ عندَ حدوثِ الحادثةِ إِلاَّ إِلى الكتابِ والسُّنَّةِ والقياسِ، فدَلَّ على أَنَّها هي الأَدِلَّةُ دونَ الظنِّ. ولأَنهُ لو كان الدَّليلُ هو الظَّنَّ، ما صَحَّ أَن يَحْتَجَّ أَحد على أَحدٍ بكتابٍ، ولا سُنةٍ، ولا قياسٍ، لأَنَّ ذلك غيرُ الدَّليلِ، وما ليس بدليلٍ لا يُحْتَجُّ به. ولأَنه لو كان الدليلُ هو الظَّنَّ، لاستوى العالمُ والعاميُّ في ذلك، لأنَّهما في الظنِّ واحد، ولأنَّ الظنَّ نَتِيجةٌ وثَمَرَةٌ تَحْصُلُ في قلبِ المجتهدِ عن الدَّليلِ، فتُثمرُ الأَماراتُ والدَلائلُ الظنَّ، كما يُثمِرُ النظَرُ والاستدلالُ العِلْمَ، وما كان ثمرةَ الدَّليلِ، فهو (¬2) غيرُ الدَّليلِ. فإِن قيل: لو كان الدَّليلُ على ما ذَكَرْتم، لوَجَبَ إذا نَظرَ الحَنفِيُّ فيما يَنْظرٌ فيه الشافعيُّ والحَنبليّ والمالِكيّ مِنَ الدليلِ، أَن يَقعَ له ما وَقَعَ لهم. قيل: ليس مِن حيثُ لم يَتَساوَوْا ويَتَّفِقوا في الوقوع لهم، يَدُلُّ على أَنَّ ما نَظرُوا فيه ليس بالدَّليلِ، أَلا تَرَى أَنَّ مسائلَ الأصولِ كلّ واحدٍ من المُختلفِينَ فيها يَنْظرُ فيما نَظر فيه الآخرُ مِن أَدِلةِ العَقْلِ، ولا يَقَعُ لكلِّ واحدٍ ما يَقَعُ للآخرِ، ثم لا يَدُلُّ على أَنَّ المنظورَ فيه ليس بدليلٍ، ولا أَنَّ الظنَّ هو الدليلُ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 512. (¬2) في الأصل: "فهي".

ومن أَدِلتِنا في هذه المسأَلةِ: ما يُقارِب هذا، ويُسْتخرَجُ منه: أَنَّ تحليلَ الشَّيءِ وتحريمَه، وإِفسادَ العَقْدِ وتصحيحَه، لا يجوزُ ورودُ الشَّرْع به، ولو جاز ذلك، لجاز ورودُ النَّصِّ به، فيقول: النبيذ حلالٌ حرامٌ، والنكاحُ بغيرِ وَلِي أَو بغيرِ شهودٍ صحيحٌ فاسدٌ، فلما لم يَجُزْ وُرودُ الشَّرع به، ومجيءُ النصِّ عليه، لم يَجُزْ أَن يَدُلَّ عليه النظرُ والاجتهادُ. يُبيِّنُ (¬1) صِحَّةَ هذا: أَنَّ النَّظرً والاجتهادَ نتيجةُ النصِّ والإجماع، فإذا استحال أن يدلَّ النصُّ والإجماع على تحليل الشيء وتحريمه على الإطلاق، استحالَ أن يدلَّ عليه النظر والاجتهاد، إذ لا يجوز أَن تَدُلَّ نتيجةُ الشَّيءِ على ما لا يَدُلُّ عليه أَصلُه. فإن قيل: إِنَّما يَسْتحِيلُ ورودُ الشرع من جهة النظر والاجتهاد في حقِّ الَواحد، فأمَّا في حقِّ الاثنين، فلا يستحيل، أَلا ترى أَنَّ النَّصَّ قد وَرَدَ بتحليلِ المَيْتَةِ للمضْطَرِّ، وتحريمِها على الغَنِيِّ عنها، وإِحلالِ الفِطْرِ في رمضانَ للمسافرِ والمريضِ، وتحريمِه على الصَّحيح الحاضرِ، فكذلك هاهنا يجوزُ أن يَحِلَّ الشَّيءُ في حقِّ المجتهدِ، ويَحْرُمُ في حقِّ غيرِه، ويفسُدُ العقد في حقِّ مجتهدٍ، ويَصِحُّ في حقِّ غيرِه. قيل: لسنا نُنْكِرُ ورودَ الشَّرْع بتحريمِ الشَّيءِ على شخصٍ، وإِباحتِه لغيرهِ؛ بحَسَبِ ما يَقْتضِيه الأَصلحُ أَو الحاجةُ، وبحَسَبِ ما تَقْتضِيهِ الدِّلالةُ من التفصيلِ والتخصيصِ، وإِنما نُنكِرُ ورودَ الشَّرْع بتحليلِ الشَّيء ¬

_ (¬1) في الأصل: "بين".

- فصل في جمع شبه المخالفين في المسألة

وتحريمِه، وإِفسادِه وتصحيحِه، على سبيلِ الإِطلاقِ والعمومِ، وذلك لا يجوزُ من جهةِ النصِّ والإِجماع، كذلك لا يجوزُ من جهةِ النَّظرَ والاجتهادِ. ومنها: أَنَّ ما ذَهَبُوا إِليه يُفْضِي إلى قولٍ شَنِيعِ في الإِسلامِ، ومخالفةِ الإِجماع، وأَن تكونَ المرأَةُ الواحدةُ تحتَ زَوجَيْنِ؛ وذلك أَنَّها إِذا تَزَوَّجَتْ من رجلٍ بغيرِ شاهِدَيْنِ؛ لاعتقادِه أَنَّ العقدَ صحيح، وكان مصيباً، وتَزَوَّجَها آخرُ بعدَه بوَلِيِّ مُرشدٍ وشاهديْنِ؛ لاعتقادِه أَن الأَوَّلَ باطلٌ والثانيَ صحيحٌ (¬1)، وكان عند الله سبحانه مصيباً، فهي امرأَةٌ ذاتُ زَوجَيْنِ، وهذا من أَشْنع قولٍ في الإِسلامِ، وأَشَد خلافاً للإِجماع. فإِن قيل: ما يَلْزَمُنا من الشَّناعةِ يَلْزَمكم مِثْلُه؛ من القولِ بالتًسْويغ، وعدمِ الإِثمِ. قيل: أما الإِصابةُ؛ فإنَّها حكمُ اللهِ تعالى بالصِّحَّةِ، وَأَمَّا التَّسويغُ؛ فإِنَّما هو إِقرارٌ مُجَرَّدٌ، لا حكَمَ فيه بصِحَّةٍ ولا انعقادٍ، فلا يُفْضِي القولُ به إِلى إحالةٍ ولا فسادٍ. فصل في جَمعْ شُبَههم في المسأَلةِ فمنها: قولُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -:"أَصَحابي كَالنُّجومِ، بايَهمُ اقْتَدَيْتُم، اهْتَدَيْتُم" (¬2)، فوجهُ الدَّلالةِ من الحديث: أَنَّهُ جَعَلَ الكلَّ مهتدِينَ مَعَ كونِهم ¬

_ (¬1) في الأصل: "صحيحاً". (¬2) تقدم تخريجه 1/ 280.

مُختلِفينَ في الحوادثِ الخِلافَ المُتبايِنَ، فهذا يُسقِطُ الإِخوةَ بالجَدِّ، وهذا يُوَرِّثُهم، وهذا يقولُ بالعَوْلِ، وهذا يَنْفِي العَوْلَ، وخلافُهم في لَفْظِ الحرامِ معلومٌ، هذا يَجْعَلُه طَلاقاً ثلاثاً، وهذا يَجْعلُه طلاقاً رَجْعيّاً، وآخرُ يَجْعلُه ظِهاراً، وآخرُ يَجْعَلُه يَمِيناً، وآخرُ يَجْعَلُه واحدةً بائِنةً، وآخرُ يُوجِبُ فيه كَفارةَ اليمينِ، ولا يَجْعلُه يَمِيناً. فإِذا أَخْبَرَ - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّ المُقْتدِيَ بكل منهم مُهتَدٍ، ثَبَتَ أَنَّ الكلَّ على هدايةٍ، والخطا لا يُسمَّى هدىً، وإِذا كان الخطأ هدىً، صارَ لَقَباً واسْتِعارةً لا حقيقةً. والجوابُ: أَنه يُحْتَملُ أَن يكونَ مرادُه بالاقتداءِ: الأَخْذَ بالرِّوايةِ دونَ الرأي. ويحتمَلُ أنَّه أَرادَ بالهُدى: نفيَ المَأثمِ بتقليدِ العامِّيِّ آيهم قلدَ، وسَوغانُ الاجتهادِ معَ الخَطَأِ يجوزُ أَن يُسمَّى هدىً، من حيثُ بَذْلُ الوُسْع في طَلَبِ الصوابِ، ويَكْشِفُ ذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -:"إِذا اجْتهَدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ، وإِذا اجْتهَدَ فأَخطأَ، فله أَجْرٌ"، فالذي سَمَّى الكلَّ هدىً، أَوْقَعَ على البعضِ اسمَ الخَطأِ. ويحتمَلُ أن يُرِيدَ بذلك: الإِمامة، وأنَّ كلا منهم صالح لها، فالاقتداءُ به هُدىً. ويحتمَلُ أَن يُريدَ به: إِذا اتفَقوا على الحُكمِ، كان المُقلِّدُ مُخيَّراً بينَ تقليدِ هذا أَو هذا، والتخييراتُ في المُتساوياتِ أَبداً، والتساوِي معَ الاتفاقِ يُفيدُ أَن لا يَخْتصَّ التقليدُ بالأَرْفع، فإِنْ قلدَ مُعاذاً مع وجودِ علي جازَ،

وإن قَلَّدَ ابنَ عباس مع وجودِ أَبي بكر وعمرَ جاز، فهذا أَفادَ التخيُّرَ. ومنها: تَعلُّقُهم أَنَّ الصَّحابةَ رضوان الله عليهم اخْتَلَفُوا في مسائلَ كثيرةٍ، وحوادثَ عِدَّةٍ، فلا أَحدَ منهم تَبَرَّأَ مِن مخالفِه، ولا غَلَّظَ القولَ فيه، بل وَلوْا قُضاةً وحُكَّاماً يَعْلَمونَ مخالفتَهم لهم في الأَحكامِ، وتَدافَعُوا الفَتاوَى، وبعضُهم دَلَّ على بعضٍ، وقال: ائت فلاناً، واذْهَبْ إِلى فلانِ، ولو كان يَعتقِدُ أَحدٌ منهم خطأَ غيرِه، وعَدَمَ إِصابتِه، لَمَا دَلَّ عليه، ولَا أَرْشَدَ إِليه؛ فإنَّ الدَّالَّ على المُخطئِ في الرَّايِ مُضلِّلٌ لمَن دَلَّه وعَيَّنَ له، أَوَ لا تَراهُم كيفَ غلَّظُوا على مانِعي الزَّكاةِ، وتَبَرَّؤُوا منهم، وأَظْهَرُوا التبَرُّؤَ مِمَّن خالفَ ما تَضَمَّنَه المصحفُ المُصطَلحُ عليه، وحَرَّقُوا ما سِواه، وَأظهَرُوا التَّبرُّؤَ من الخوارج، وقاتَلُوهم، واسْتَباحُوا دماءَهم، فلو كانوا يَعْتقِدونَ تحريمَ ما أَباحهُ الله، وإِباحةَ ما حَرَّمَه الله، وحِرمانَ مَن أَعطاه الله؛ لأَنْكَرُوا ذلك على مَنْ أَتى ذلك، وأَفْتَى به، فلَمّا تَساكَتُوا على الخِلافِ، ولم يُقنِعْهم (¬1) ذلك حتى أَقَرُّوا، ودَفَعُوا الفَتاوَى، فأَحالُوا على مَن خالفَهم، عُلِمَ أَنهم حَكَمُوا بتساوي الكلِّ في الإِصابةِ. والجوابُ: أَنَّ لنا مِن إِجماعِهم أَكْبرَ حُجَّةٍ بحيثُ تُقابِلُ ما ذَكَرْتُم، فتُوقِفُه، أَو تُسقِطُه وتُبطِلُه؛ وذلك أَنهم صَرَّحُوا بتَخطِئَةِ مَنْ خالفَهم بما قَدَّمْنا من الأَقوالِ المُغنِي عن الإِعادةِ، لكنَّا نُشيِرُ إِليه: فهذا يقولُ: أَلا يَتَّقِي الله زيدٌ! جعلَ ابنَ الابنِ ابناً، ولا يَجْعَلُ أَبا ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتبعهم".

الأَبِ أَباً (¬1)! وهذا يقولُ: والَّذي أَحصى رَمْلَ عالِج عَدَداً ما جعلَ الله في الفَريضةِ نِصْفاً وفصفاً وثُلُثاً (¬2). وهذا يقولُ: إِن اجْتهَدُوا، فقد أخطؤُوا، وإن لم يَجْتهِدُوا، فقد غَشُّوكَ (¬3). إلى أمثالِ ذلك. فأَينَ تَرْكُ الإِنكارِ؟! وأَين الموافقةُ، والإِذعانُ بالإِصابةِ، وهم على هذا الاختلافِ (¬4)، والإِزراءِ على المقالةِ التي ذَهَبَ إِليها مَن خالفَهم، والعَتَبِ؟ وأَمَّا التبَرُؤُ: فإِنما لم يَرْتَقُوا إِليه في أَمثالِ هذه المسائلِ؛ لأَنَّ دلائِلَها أَماراتٌ تَلُوحُ (¬5) وتَخْفى، وليس لها أَدِلةٌ قطعِيَّةٌ، بخلافِ ما ذَكَرْتُم من الامتناع من إِخراج الزَّكاةِ، أَو مِن اعتقادِ وجوبِها، وبخلاف تَكْفيرِ علي وعثمانَ بما لا تُوجَدُ فيه شُبْهةٌ فَضْلاً عن حُجَّةٍ، ومَعَ إِيضاح دلائِلِ فضائِلِهما، من السَّابقةِ، ومَدْح رسولِ الله لهما، والشَّهادةِ بأَنهما من أَهلِ الجنَّةِ، والدعاءِ لهما في عِدَّةِ مَقاماتٍ، ووضوح بُطلانِ ما تَعلقَ به الباغِى عليهما، من التّجِيبِيِّ وطائفتِه المِصْرِيّينَ في حقِّ عثمانَ، والتمِيمِىِّ وطائفتِه ¬

_ (¬1) تقدم 2/ 37. (¬2) تقدم 2/ 36. (¬3) تقدم ص 205. (¬4) في الأصل: "الاخلاف". (¬5) في الأصل: "ببلوح".

من الخوارج في حقِّ علي وعثمانَ، وما شَهِدَتْ به السّنَنُ والآثارُ من ذمِّهم، والشَّهادةِ عليهم بالمُروقِ من الدينِ. فأَمَّا الأَحكامُ الفُروعيَّةُ، فإِنَّها مما تَقابَلَتْ فيها الأَماراتُ، واشْتَبَهَت الظواهرُ، وتَخَيَّلَتِ الشُّبهاتُ بالدلائِلِ، فليس بذلك يَبْرَأُ بعضُهم من بعضٍ، وقالوا في ذلك بحَسَبِ الخطأِ فيه؛ من نوع مَلامةٍ، وتَعْييبِ المَقالةِ بإِيرادِ أَمارةٍ، كما (¬1) ظَهَرَ منهم في حق ابن مسعودٍ ومخالفتِه في المُصحَفِ، وما ظَهَرَ منهم في حقِّ عثمانَ؛ لكن ذلك لِماَ ظَهَرَ من تقديمِ أَهْلِه وعشيرتِه، وتَفَسّحِه فِى المالِ. ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقُّ في واحدٍ؛ لنَصَبَ الله عليه فى دليلاً، وجَعَلَ إِليه طريقاً، ليُزِيحَ عِلَّةَ المُعتَلِّ، ويَقطَعَ حُجَّةَ المُحتجِّ، تلك سنَّتُه في كلِّ ما دعا إِليه، قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال (¬2) سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه: 134]، ولو أَقامَ دليلاً، وأَوْضَحَ إِلى ذلك الحقِّ والصَّوابِ طريقاً؛ لسَقَطَ فيه عُذْرُ المخالِفِ؛ ولوَجَبَ أَن يُحكَمَ على كلِّ مَن خالفَ ذلك بالفِسْقِ، ويقْضَى عليه بالإِثْمِ، كما فَعَلْنا ذلك في باب العَقْليَّاتِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وما". (¬2) في الأصل: "فقال".

والجوِابُ: أَنَّه قد نَصَبَ عليه دليلاً بحَسَبِ ما اقْتَضى، وهو أَنه اقْتَضانا بالظنِّ، ونصَبَ على الحكمِ أَمارةً ظَنِّيَّةً، وأَبانَ بها خَطَأَ المُخالِفِ أيضاً بطريقِ الظنِّ، فكما لم يَجبْ على المُكلًفِ المجتهِدِ أَن يَقْطَعَ بإِصابتِه؛ حيثُ لم يَجْعَلْ له على الحَكمِ دليلاً قَطْعِيّاً، كذلك لا يَجِبُ عليه المَقطعُ بخطأِ مُخالِفِه، وكان من جُمْلةِ ما سَهَّلَه إِسقاطُ المَأثمِ، ولم يَقْنَعْ بإِسقاطِ المَأثمِ؛ حتى جَعَلَ له على كلْفَةِ الاجتهادِ أَجراً؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -"إِذا اجْتَهدَ الحاكمُ فأَصابَ، فله أَجْرانِ، وإِذا اجتهدَ فأَخطأَ، فله أَجرٌ" (¬1). ولأَنَّ الله سبحانه قد نَصَبَ على شًغلِ الذِّممِ بعدَ براءَتِها أَدلَّةً ظَنِّيَّةً، وأَوْجب الحكمَ بها في استحقاقِ الأَموالِ، ونقلِ الأَملاكِ، وإِراقةِ الدِّماء، واسْتِباحةِ الفُروج، وهي شهادةُ الشَّاهِديْنِ، ولم يَذلَّ ذلك على أَنَّ المالَ مُباحٌ للاِثْنيْنِ (¬2): المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه، ولا أَن الدَّمَ مُستحَقٌّ (¬3) غيرُ مُستحَق، ولا أَنَّ البُضْعَ مباحٌ حرامٌ، بل أَثْبَتَ هذه الحقوقَ بدَلالةٍ ظَنيَّةٍ وحُجَّةٍ غيرِ قطعيَّةٍ، وقَضَى بها على دَلالةِ القَطْع، وهي بَراءَةُ الذِّمَمِ الثابتةُ بدَلالةِ العقلِ؛ بأَن (¬4) كان الحقُّ لجهةٍ واحدةٍ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 294. (¬2) فِى الأصل: "الاثنين". (¬3) في الأصل: "يستحق". (¬4) في الأصل: "فان".

ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقّ في جهةٍ واحدةٍ، لوَجَبَ أَن يُنقَضَ به كلُّ حُكمٍ (1 يُخالفُه، كما قال 1) الأَصَمّ وبِشْرٌ المريسِيّ، ولَمَّا قلتم: لا يُنقَضُ أنكم بما يُخالِفُ ما اعْتَقَدتموه إِصابةً وحقّاً، دَلَّ على أَن الحُكميْنِ جميعاً حقٌّ وصوابٌ. والجوابُ: أَنه إِنَّما لم يُنقض الحكم؛ لأَنَّ الله سبحانه جَعَلَ (¬2) أَدِلَّةَ الحقِّ خَفِيَّةً، والشبهاتِ مُعترِضةً، والأَدلَّةَ مُتجاذبَةً، فلو جَوَّزَ نَقْضَ الحُكمِ، لَما ثَبَتَ للشَّريعةِ حكمٌ، ولنَقَضَ كلّ حاكمٍ على غيرِه، فسامحَ الشَّرعُ وساهلَ في ذلك، لِئَلاّ يَقَعَ التَّهارجُ والتَّنازعُ، وعدمُ استقرارِ حكمِ الله في الأَرضِ؛ إِذ كان كلّ واحدٍ من الحكَّام ينقض على مخالفه، فلا يستقرّ شيءٌ من الأحكام، وليس كل ما (¬3) عَفَى عنه، ولم يَتعرَّضْ له بالنَّقضِ، دلَّ على أَنَّه حقٌّ، فإنَّه سامحَ أَهلَ الكِتابيْنِ بالإِقرارِ على ما يُخالِفُ حكمَ الإِسلام، ولا يَتعرَّضُ لأَحكامِهم بالنَّقضِ، ولا لِبيَعِهم وصَوامِعِهم وكَنائِسِهم بالهَدْمِ، وكذلك البَيْعُ عندَ النداءِ، والسَّوْمُ على سومِ المسلمِ، والخِطْبةُ على خِطْبتِه، كلّ ذلك لا يُنقَضُ، ولا يَدُلّ على أَنه حقٌّ وصوابٌ، ولا جائزٌ في الشَّرع. على أَنه إِن كان عَدَمُ النقضِ دليلاً عندَكم على الصَّوابِ، كان وجوب الرّجوع عن الاجتهادِ الأَوَّلِ إِلى الثاني دَلالةً على أَنَّ الكلَّ ليس ¬

_ (1 - 1) بياض في الأصل. (¬2) في الأصل: "لله". (¬3) في الأصل: "كلما".

بصوابٍ؛ إِذ لا وَجْهَ لتر الصَّوابِ إِلى مِثْلِه. ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقُّ في واحدٍ، لَمَا ساغَ لأَحدٍ من العوامِّ أَن يُقلِّدَ أَحداً من العلماءِ إِلا بعدَ الاجتهادِ وتَحَرِّي الصوابِ، فلما جازَ للعامِّيِّ تقليدُ مَنْ شاءَ منهم، عُلِمَ تساوِيهم في الصوابِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لا يُخيَر إِلاَّ بينَ مُتساوِيَيْنِ؛ كتَخْيِيرهِ بين الأَعيانِ في كَفاراتِ التخييرِ. والجوابُ: أَنَّ مذهبَنا في ذلك مُختلِفٌ، فلا نسَلِّم أَنَّ العامِّيَّ يُقلِّد مَنْ شاءَ، بل يُقلِّدُ الأَعْلمَ، ويكون (1تعويلُه في الأَعلمِ على من أَشارَ إليه 1) أَهلُ العلمِ بأَئة الأَعلمُ، والصحيحُ عن صاحبِنا؛ ما تَكاثَرَتْ به الرِّواياتُ (¬2) عنه: أَنَّه دَلَّ على حِلَقِ الدنيِّين بجامع (¬3) الرّصافةِ. وقال لبعضِ أَصحابِه: لا تَحْمِلِ الناسَ على مذهبِك. ورُوي: أنَّه أستَفْتاه إنسانٌ، فقال: سَلُوا عبدَ الوهَّابِ. ورُوي: أنَّه أَحالَ بالفَتْوى على أَبي ثَوْرٍ. فعلى هذا إِنما يجوز له تقليد مَنْ لا يُخالِفُ الحقَّ، فنقول له: قَلِّدْ عالِماً بشَرْطِ أَن لا يُخالِفَ النًصَّ. على أَنَّا لو مَنَعْنا العامِّيَّ أَن يُقلِّدَ إِلا مَن مَعَه الصوابُ، لم يَجِدْ إلى معرفةِ ذلك سبيلاً؛ إِلاَّ بأَن يَتعلمَ الفِقْهَ، ويَعْرِفَ الأَدلَّةَ، وفي إيجابِ ذلك ¬

_ (1 - 1) غير واضح في الأصل. (¬2) انظرها في "العدة" 5/ 1571 - 1572. (¬3) في الأصل: "لجامع".

على كلِّ إحدٍ مَشقَّةٌ وفسادٌ؛ لوقوفِ المَعايشِ. ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقُّ في واحدٍ، والباقونَ على خطأٍ، لَمَا جازَ لبعضِهم أَن يُوَلِّي غيرَه القضاءَ مَعَ اعتقادِه أَنَّ الحقَّ والصَّوابَ معَه، وأَنَّ غيرَه على الخَطأِ؛ لأَنَّ المُوَلِّيَ للمُخطئٍ كالحاكمِ بالخطأِ؛ لأَنَّه يَعلَمُ أَنَّه إِنَّما يَحكُمُ بمذهبِه، ومذهبُه خطأٌ، وكما لا يَحِلُّ له الحُكْمُ بالخطأِ، لا يَحِلُّ له توليةُ مَنْ يَحكُمُ بالخطأِ. والجوابُ: أَنَّ الله سبحانه حيثُ وَضَعَ أَدِلّةَ هذه الأَحكامِ، وَضَعَها وَضْعاً لا يُؤَدِّي إِلى قَطْعِ، بل جَعَلَها أَماراتٍ مُتَرَدِّدَةً بينَ إِصابةِ الحقِّ والخطأِ، وجعلَ بَذْلَ الوُسْع في الاجتهادِ (1. . . . . . . . . 1) هذا إذا صدق الاجتهاد (1. . . . . . . . . . . .1) بأَنه يُحدِثُ لكلِّ حادثةٍ اجتهاداً يكونُ معه ... فلسنا نُوَلِّيهِ ليُقلِّدَ، ولا ليَعمَلَ بمذهب غيرِه، ولكن بمذهب اعتقده واجتهد فيه، فعرفناه ط وعلمنا خطأَه، فوَلَّيْناه. وعلى نظيرهِ (¬2) جَعَلَ الشرعُ الوِلاياتِ، فقال: "إِذا اجْتهَدَ الحاكمُ، فأَخطأَ، فله أَجرٌ"، وإِذا كان خطأً مغفوراً لم يَمنَعْ، فكيف إِذا كان خطأً هو عليه مأجور؟! فإِذا جَوَّزَ الشَّرعُ توليةَ حاكمٍ مَعَ تَجْويزِ الخطأِ عليه؛ ثِقَةً بظاهرِ الإِصابةِ مع بَذْلِ الاجتهادِ، وشَهِدَ بأَن (¬3) له على اجتهادِه مع ¬

_ (1 - 1) خرم في الأصل. (¬2) في الأصل: "بصيرة" (¬3) في الأصل: "فإن".

خطأه أَجراً، لم يَمْنَع تَوْلِيتَهُ؛ تعويلاً على إصابةِ الحَقِّ، وعَفْواً عن الخطأ إِن لم يُؤَدِّهِ اجتهادُه إِلي الحقِّ، وأَصلْ العُذرِ فيه: ما قَدَّمْنا من أَنَّ الأَماراتِ المَنصُوبةَ على هذه الأَحكامِ عْيرُ مُوجِبةٍ للعِلمِ والقطْع. ومنها: قولُهم: لاخلافَ أَنَّ المُجتهِدَ إِذا بَذلَ وُسْعَه فِى الاجتهادِ وطَلَبِ الحكْمِ، وَجَبَ عليه اعتقادُ ما أَدَّاهُ إِليه الاجتهادُ، ومتى تَرَكَ ذلك، أستحَقَّ الذَّمَّ، فلو لم يَكُنِ المأمورُ ما أَدَّاهُ اجتهادُه إِليه، لَمَا اسْتَحَقَّ الذَّمَّ على تركِه، وإِذا ثَبَت أَنَّ ذلك هو االمأمورُ، وجبَ أَن يكونَ حَقّاً وصواباً، لأن هذين الخَصمين على الحق. والجواب: أنه لا يصحُّ منك دَعْواكَ وقد عُلِمَ إنكارُ المخالفِ لك في ذلك، ومنعُه منه، وإظهارُ الاحتجاج على فسادِه. وعنده أن هذا من مضائق التسويغ دون الحقِّ والصواب. ولو سَلَّمْنا ذلك تَوْسِعةً للنَّظرِ، لم يتمَّ لك الدليلُ، لأنَّ الموجب لذلك إِنَّما يُوجِبُه بشَرْطِ السَّلامةِ (1 والصحة، فإذا أدّى إلي خلاف الحق، نسبناه 1) إِلى الخطأ، كما يجوزُ (2 الرمي إلى الهدف بشرط السلامة 2)، فإذا أَدَّى إِلى إتلافِ مالا يَمْلِكُ إِتلافَه، نَسَبْناه إلى التفريطِ، وعَلِمْنا خطأَه فيه. ثم هذا يبْطُلُ بهِ، إِذا أَدّاه الاجتهادُ إِلا حكمٍ لا يَعْلَمُ أَنَّ فيه نَصّاً يُخالِفُ اجتهادَه، أَو كان وَرَدَ نسخٌ خَفِيَ عليه؛ فإِنَّه مَأمور بما أَدَّاه اجتهادُه إِليه، ولم يَدُلَّ ذلك على آنه حقٌّ وصوابٌ. ¬

_ (1 - 1) خرم في الأصل، وما اثبتناه من "التبصرة" (508).

جوابٌ أخر: وهو أَنَّ هذا حُجَّةّ عليهم؛ لأَنَّه مَن أَدَّاه اجتهادُه إِلى شيءٍ، وقَامَ الدَّليلُ عليه، لم يَجُزْ له اعتقادُ غيرِه، فلو كان الجميعُ حَقاً وصواباً، لجازَ تَرْكُه إِلى غيرِه، كالمُخَيَّراتِ كُلِّها في الكَفّاراتِ. ومنها: قولُها: لاخِلافَ أَنَّ ترجيحَ الظواهرِ المُتقابلةِ يجوزُ بما (¬1) لايجوزُ أَن يُثبِتَ (¬2) الحكمَ بنفسِه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ دليلَ الحَكمِ هو الذي وَقَعَ فيه المُقابَلةُ، وأَنَّه إِذا تعارضَ ظاهرانِ، فقد قامَ دليل كلِّ واحدٍ مِنَ الخَصْمَينِ على الحكمِ؛ فدَلَّ على أَنَّ الجميعَ حقٌّ وصوابٌ. والجواب: أَنَّا لانُسَلِّمُ؛ فإنَّه لايُرَجَّحُ أَحدُ الدَّليلَينِ على الآخرِ إِلاَّ بما يَجوزُ أَن يُجعَلَ دليلاً عندَ الكَشفِ والتَّقريرِ. على [أنَّ] هذا هو حُجَّة عليكم، فإنَّه لو كان الجميعُ حَقّاً وصواباً، لما طَلِبَ تقديمُ أَحدِ اللَّفظَيْنِ على الآخرِ بضروبِ التَّراجيح، ولَمَّا عَدَلُوا عند التَّقابُلِ إِلىٍ التَّرجيح، دَلَّ على أَنه لايجوزُ أن يكونَ ما اقْتَضاهُ الظَّاهرانِ جميعاً حَقّا. ومنها: قولُهم إِنَّ أَدِلَّةَ الأَحكامِ في مسائلِ الخِلافِ تَقَعُ مُتكافِئَةً، ليس منها ما يَقْتضِيِ القَطْعَ، أَلا ترى أَن كُلَّ واحدٍ من الخَصْمَيْنِ يُمكِنُه أَن يَتناولَ دليلَ خصْمِه بضَرْبٍ من الدَّليلِ، ويَصرِفَه عن ظاهرِه بضَرْبٍ من التَّأوِيلِ، ويُسنِدَ إلى دليلٍ، بحيثُ لا يصرفه لأحدِهما على الآخر مزية في ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما". (¬2) في الأصل: "ثبت".

البناءِ والتأويلِ فدَل على أَنَّ الجميعَ حَقٌّ. والجوابُ: أَنا لانسَلِّمُ أَنَّه يَنْتَهي أَمرُهما إِلى التَّساوي؛ بحيثُ لايَتَرجَّح أَحذهما على الآخرِ، ولا يتَكافَأُ دليلانِ في الشَّرع، وهذا ظاهرٌ في المُناظراتِ، وأَنَّه لايَخْلُو مِن ظهورِ أَحدِهما على الآخرِ. على انَّ هذا لو كان دليلاً على أَنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ في الفُروع، لدَلَّ على أَنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ في الأصولِ؛ فإِنَّ الأصُوليِّينَ إذا تَكَلَّموا في مسألةِ القَدَرِ، أَو تخليدِ الفُسَّاقِ من أَهلِ المِلةِ؛ فإنَّه تكاد الظواهر تَتقابَلُ، ولا تَدُلُّ أنَّ الحقَّ في جِهَتَيْنِ، ولا يُقال فيها بتَكَافُؤ الظَّاهِرَيْنِ. ومنها: أَن قالوا: إِنَّ حَمْلَ الناسِ على مذهبٍ واحدٍ يُؤَدِّي إِلى التَّشديدِ والتَّضييقِ، فوَجَب أَن يُجعَلَ الجميعُ حَقّاً؛ ليَتوسَّعَ الناسُ فيها. فالجواب: أَنَّه لو كان هذا دليلاً، على أنَّ الجميعَ حَقٌّ، لوَجَبَ أَن لايَلْزَمَ العملُ بما وَرَدَ، به النَّصُّ والإجماعُ من الأحكام المُغلَّظةِ، لأَنَّ في ذلك تغليظاً وتشديداً، فلَمَّا بطَلَ هذا بالإِجماع، بَطَلَ ما ذَكَرُوه أَيضاً. ولأَنَّ المصالحَ في الشرْعيَّاتِ لا تَتعلقُ بما تميل إِليه الطِّباعُ، وتَحصُل به الرّخْصة والاتِّساع، بل مَبْناها على ما هو الأَ نْفعُ لهم والأصلحُ، لا الأَطْيب والأَشهى والأَخَفُّ؛ فإذا كان في التَّكليفِ نوعُ صعوبةٍ، كان ثوابُ ذلك أَوْفرَ، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعائشةَ: "ثوابُك على قَدْرِ نَصَبِكِ" (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم تخرجه 1/ 254.

* فصل القول بتكافؤ الأدلة قول فاسد

ومنها: قولُهم: لَمَّا كان القُرَّأءُ كلامُهم على صوابٍ في قِراءاتِهم (¬1)، كذلك الفقهاءُ في مَقالاتِهم. والجوابُ عن ذلك من وجْهَينِ: أَحدهما: أَنَّ تلك منصوصٌ عليها، حيثُ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"نَزَلَ القرآنُ على سبعةِ أَحْرُفٍ، فاقْرَؤُوا كيفَ شئتُم" (¬2). ورُوي: "كُلّها شافٍ كافٍ" (¬3). والثاني: أَنَّه لا تَناقُضَ بين القِراءَتَيْنِ؛ ولذلك جازَ للقارئ أَن يَقْرَأَ بالسَّبْعةِ، وبأيَها شاءَ، ولايجوزُ للفقيهِ أَن يَعْتقِدَ الإِباحةَ والحَظْرَ في حالةٍ واحدةٍ، ولا يَتخَيَّرَ أَيَّ الحكمَيْنِ شاءَ. فصل القولُ بتكَافُؤ ألأَدِلَّةِ قولٌ فاسدٌ، ومذهبٌ باطلٌ، ولابُدَّ أَن يكون لأَحدِ الدَّليليْنِ مَزِيَّة وتَرجيحٌ يُخرِجُهما عن التَّكافؤ (¬4). هذا مذهبُنا، وبه قال الفقهاءُ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "قراءته". (¬2) تقدم تخريحه 2/ 133. (¬3) أخرجه أحمد فى 5/ 114، وأبو داود (1477)، والنسائي 2/ 153 - 154 من حديث أبي بن كعب. (¬4) انظر "العدة": 5/ 1536، و "التمهيد" لأبي الخطاب 4/ 346، و "التبصرة"

* فصل في أن ما يؤب إليه اجتهاد المجتهد بأدلة الحكم غير مقطوع به

وقال أَبو عليِّ وأَبوهاشمٍ: يجوزُ أن يتكافَأَ دليلانِ، فيَتخيَّرَ المجتهدُ، فيعملَ بما شاءَ منهما. ووَجَدْتُ للمُحقِّقِينَ منهم: أنَّ ذلك في الأَماراتِ خاصَّةً دونَ الأَدلًةِ. لنا: أَنَّ هذه المسأَلةَ مَبنيَّةٌ على أَصل، وهو أَنَّ الحقَّ في واحدٍ، وإِذا ثَبَتَ بما قَدَّمْنا أَنَّ الحقَّ في واحدٍ، لم يَجُزْ أَن يُخْلِيَ الله سبحانه ذلك الحقَّ من دليلٍ، ولايجوزُ أن يُسوِّيَ بين دليلَيْنِ بم يُؤَدِّي كلُّ واحدٍ منهما إِلى حكمٍ يُخالِفُ الحكمَ الذي دَلَّ عليه الآخرُ؛ لأنَّ في ذلك تضليلاً وحَيْرَةً تَمْنَعُ إِصابةَ الحقِّ. وحُجَّةُ ما ذَهَبَ إِليه المخالفُ: أَنَّ الحادثةَ تأخُذُ شَبَهاً من أَصْلَيْنِ، بحيثُ لايُرجَّحُ أَحدُهما على الآخرِ، فدلَّ على جوازِ تكافُؤ الدَّليليْنِ. والجوابُ: أَنَّ هذه دعوى وجودٍ، وليس يُمْكِنُ الخالفَ أَن يُبررَ ذلك في مسألةٍ بعَينها، ومتى ادَّعَى ذلك في شبْهَيْنِ، أَظْهَرْنا التَّرجيحَ والمَزِيَّةَ، فمنه الدَّعوى، وعلينا بيانُ إِبطالِ كلِّ ما يُشِيرُ إِليه من ذلك في أَعيانِ السائِلِ. فصل فإِذا ثَبَتَ أَنَّ الحقَّ في واحدٍ، وأَنَّ الأَدِلَّةَ لا تَتكافَأ؛ فإِنَّ ما يؤَدِّي إِليه اجتهادُ المجتهدِ بأَدةِ الحكمِ غيرُ مقطوع به، وإنما هو مظنونٌ، والدَّلالةُ على نفى القَطْع أَشياءُ: أَحدها: أَنَّا نُوجِبُ على المجتهدِ إِذا اسْتُفْتِيَ في مثلِ تلك الحادثةِ أَن يُحْدِثَ لها اجتهاداً ثانياً؛ لئَلا يكونَ قد تَغَيَّرَ اجتهادُه.

* فصل يجوز التعبد بالاجتهاد في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كان غائبا عنه وبمحضر منه

الثاني من الدَّلائل على ذلك: أنَّا لو قَطَعْنا على كونِ الحقِّ مَعَنا فيما أَدَّى إِليه اجتهادُنا، لفَسَّقْنا أَو كَفرْنا، وضَلَّلنا مُخالِفَنا، كما قُلْنا فى الأُصولِ، لَمَّا كان على مسائِلِها دلائِلُ قاطعةٌ، ضَلَّلْنا المخالفَ فيها، فلَمَّا لم نضَلِّلْ مُخالِفاً في هذه الأَحكامِ، عُلِمَ أَنَّها ظَنِّيَّةٌ غيرُ قطعيَّةٍ، وصارت أَدلَّةُ الأَحكامِ الفِقهيَّةِ (¬1) بمثابة بيِّنةِ الحقوقِ وأَماراتِ القِبْلةِ بم فإنَّ الشَّهادةَ مما تَثْبُتُ بها الأَحكامُ، والأَماراتِ تُوجِبُ استقبالَ الجهةِ أنت دَلًّتْ عليها. فصل يجوزُ التَّعبدُ بالاجتهادِ في عَصْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ كان غائباً عنه وبمحضرٍ منه - صلى الله عليه وسلم -. وقال قوم من المُتكلِّمينَ: لايجوزُ التعبُّدُ بالاجتهادِ في عصرِه، لا مَعَ الغَيْبَةِ عنه، ولا مَعَ الحضورِ عندَه. وقال قومٌ: يجوزُ التَّعبُّدُ لمَنْ غابَ عنه من أَصحابه وخُلَفائِه وقُضَاتِه، وأَنَّه قد وَرَدَ بذلك السَّمْعُ عنه - صلى الله عليه وسلم -. وذَهبَ بعضُهم: إِلى جوازِ التَّعبُّدِ بذلك لمَن لم يَمْنَعْه من ذلك، وجَعَلُوا عَدَمَ المَنْع كالإذنِ (¬2) منه. ويجوزُ التَّعبُّدُ به في عصرِه، مَعَ الغَيبَةِ، وبحَضرَتِه. قالَه (¬3) أبو بكر ابنُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الفقيه". (¬2) في الأصل: "كالأمر". (¬3) في الأصل: "قال".

* فصل في الأدلة على جوازه في عصره مع الغيبة عنه وبمحضر منه

الباقِلانيِّ، والشيخُ الإمامُ أَبو إسحاقَ الشِّيرازِيُّ رحمة الله عليه، وجماعةٌ من أَصحابِ الشافعيِّ، وذهبَ قومٌ من أَصحابِه: إِلا المَنْع من ذلك، على ما ذَهَبَ إِليه بعضُ المُتكلِّمينَ كما (¬1) قَدَّمْناه. وذَهَبَ الجُرْجانِيُّ من أَصحابِ أَبي حنيفةَ: إِلى أَنَّه إِن كان بإِذْنِه، جازَ، ولا يَجُوزُ بغيرِ إِذْنِه (¬2). فصل في الأَدِلَّةِ على جوازه في عَصْره مع الغَيْبَةِ عنه وبمَحْضَرٍ منه فمنها: أَنَّ أَبابكرٍ الصًّدِّيقَ قال. إِن أَقْرَرْتَ أَرْبعاً، رَجَمَك رسولُ الله (¬3). وهذا فتوى منه. وقولُه في قِصَّةِ السَّلَبِ: لاها اللهِ، لايَقْصِدُ إِلى أَسَدٍ مِن أُسُدِ اللهِ قاتلَ عن اللهِ ورسولِه، فيُعْطِيكَ سَلَبَهُ. وعَنَى بقولِه: أَسداً من أُسُدِ الله: أَبا قتادةَ؛ حيثُ قتلَ رجلاً من المُشرِكينَ يومَ حُنَيْنٍ، فأَخَذَ سَلَبَ المقتولِ غيرُه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَ" (¬4)، يُصَدِّقُ أبا بكر في فَتْواهُ. ومنها: أَنه ليس في ذلك إِحالةٌ في صِفَةِ الرِّب جَلَّ (¬5) ذِكرُه، ولافي ¬

_ (¬1) في الأصل: "مما". (¬2) انظر "العدة" 5/ 1590. (¬3) تقدم تخريجه 1/ 41. (¬4) أخرجه سعيد بن منصور (2696). (¬5) في الأصل: "حال".

صِفَةِ العبدِ المُكلَّفِ، ولاقَدْحٌ في الشَّرْع، ولاخروجٌ عن سَمْتِه ووَضْعِه؛ فإِنَّ الاجتهادَ طريقٌ، والقياسَ دليل، والتَّعبُّدَ [به] جائزٌ، وليس ذلك مما يُخْرِجُنا عن العِلْمِ الذي نحن به عالِمونَ، فكان مَعَ هذه الحالِ جوازُ التَّعبُّدِ به كجوازِ تَعبُّدِنا بسائرِ العِباداتِ، بل مَعَ حضورِه الذي يَحصُلُ به استدراكُ خطأ إِن حَصَلَ، وبيانُ زيادةٍ إِن قَصَّرَ المُجتهِدُ، أَوْلى منه مَعَ العُذْرِ والغَيْبةِ التي يَنْعَدِمُ فيها الاستدراكُ. ومنها: أَن الاستصلاحَ بالتَّعبُّدِ لسائرِ المكلَّفينَ أَو بعضِهم ليس بمحالٍ في صِفَةِ القديمِ جَلتْ عظمتُه، وإِن لم نَقُلْ نحن: إِن ذلك واجبٌ عليه سبحانه الحكْمَةِ، وقاله غيرُنا، وإِذا جازَ ذلك باتِّفاقٍ، لِم يَمْنَعْ أَن يَعلَمَ الله سبحانه أَن تَعَبُّدَ العلماءِ باجتهادٍ فيما لم يَقُل (¬1) فيه نصّاَ مصلحةٌ للنبيِّ، أَو لأُمَّتِه، أَو لبعضِ الأُمَّةِ، فجاز لذلك أَن يَستصلِحَ بذلك مَن يَعلَمُ أَنَّ له فيه مصلحةً، وذلك يَعُمُّ عصرَه في الغائبِ عنه والحاضرِ عندَه. ومنها: أنَّ الاجتهادَ بمعرض الخطأ، وقد جازَ بحيثُ لامُستدرِكَ يَستدرِكُ، وهو في غيرِ عصرِه، ومعَ الغَيْبةِ عنه عندَ قومٍ، فالاجتهادُ بحَضْرَتِه - صلى الله عليه وسلم - معَ استدراكِه للخطأ، وعَدَمِ إِقرارِه عليه، أَوْلى أَن يَجُوزَ. ومنها: أَن ما جازَ الحكمُ به في غَيْبَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، جازَ الحكمُ به، أَو التَّعبُّدُ بالحكمِ به مَعَ حضورِه، كخبرِ الواحدِ، يُوَضِّحُ هذا: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مُوجب للظنِّ، وهو بعُرْضةٍ للخطأ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يقول".

- فصل في جمع شبه المخالفين والرد عليها

فصل في جمع شُبهاتِهم فمنها: أَن قالوا: إِنَّ الموجودَ في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَادرٌ على طريقِ النصِّ الذي هو القاطعُ على الحُكْمِ، والأَصْلحُ، والمعصومُ عن الخطأ، فلا يجوزُ الانحطاطُ عنه الي الظنِّ المُجَوَّزِ فيه الخطأُ والفسادُ، وإنما أَباحَ الشَّرْعُ الانتقالَ إِلى الظّنونِ عند عَدَمِ النصوصِ، والمُوصِلِ إلى النُّصوصِ. فيقالُ: هذا غيرُ مُمتنِع بم بدليلِ قَبولِ خبرِ الواحدِ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان مقدوراً على السَّماع منه، والسَّماعُ منه قطع، والسَّماعُ عنه ظَنَّ. وكذلك يجوزُ العملُ بخَبَرِ الواحدِ، وإِن قُدِرَ على الرُّجوع إِلى خبرِ جماعةٍ يَحصُلُ العِلْمُ بخبرِهم. على أَنَّ الاجتهادَ بحَضْرَتِه حكمٌ بالعلمِ؛ لأَنه لايُقِرُّه على الخطأ، فإذا حَكَمَ، وأَقَرَّه - صلى الله عليه وسلم -، بانَ أَنه حَكم بطريقِ العِلمِ لا الظنِّ، وقد حَكَمُوا بالأَمارةِ مع إِمكانِ طَلَبِ القَطْع (¬1)؛ وذلك أَنَّ البخاريَّ رَوَى في "صحيحه" (¬2): أَنَّ قوماً سأَلوا أَصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هل كان يَقْرا النبيِّ في الأُخْرَييْنِ، فقال قومٌ من الصَّحابةِ لمَنْ سأَلَ: نعم، فإنا كنا نرى حَرَكةَ لِحْييه. فما ظَنّك بقومٍ تَعَلقوا في قراءَتِه بتحريكِ لِحْمتِه؟ وذلك أَمارة، وقد ¬

_ (¬1) في الأصل: "والقطع". (¬2) برقم (760).

كانوا قادرينَ. ومنها: أَن قالواة الاجتهادُ بحَضْرتِه - صلى الله عليه وسلم - تَعَاطٍ عليه، وإسقاط لأُبَّهةِ النُّبوة؛ لأنَّه طريقُ الوَحْي؛ ومَعْدِنُ تَلَقِّي مواردِ الحقِّ بالأَمرِ والنهي، فإِذا نَطَقَ بحضرتِه ناطقٌ في شَرْعِه من طريقِ الرَّايِ الصادرِ عنه، أَيّ حكمٍ يَبْقَى لَىُ؛ فهذا غايةٌ في فَتْح بابِ الافْتِئاتِ عليه؛ حتى إِنَّ في اطِّرادِ العُرْفِ أَنَّه سوءُ أَدبٍ وافْتِئات؛ ولهذا رُوي: أَنَّ عليّاً رضي الله (1 عنه قالَ: أَيُّ 1) آيةٍ في كتابِ الله أَرْجى؟ فأَخَذَ مَن حَضَرَه يَحْرَجُونَ في افتقادِ الآيِ، فيَتْلو هذا آيةً، وَيَتْلُو هذا آيةً، فقامَ رجلٌ، فقال: هَلاَّ رَدَدْتُمُ الأَمرَ إِلى عالمِكم، قلِ (¬2): يا أَميرَ المؤمنينَ، قال (4): {وَالضُّحَى (1)} [الضحى: 1] إِلى قولِه: {فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، تم قال: واللهِ لايَرْضَى (¬3) محمدٌ ومن (¬4) أُمَّتِه في النارِ (¬5) أَحدٌ. ومَنْ صَانَه عن أَن تُرفَعَ الأَصْواتُ بحضرتِه، يَفتحُ بابَ الفَتْوى بحَضْرتِه؟ هذا بعيدٌ. فيقالُ: أَمَّا مراعاةُ آُبهَةِ النُّبُوَّةِ فيما طريقُه الاعتراضُ في الفقهِ، ¬

_ (1 - 1) خرم في الأصل. (¬2) في الأصل: "قيل". (¬3) في الأصل: "رضى". (¬4) في الأصل: "في". (¬5) في الأصل: "من"

وحوادثِ الشَّرع؛ فإِنَّهم لم يُنْهَوْا عن ذلك مع إِكثارِ اعتراضِهِمُ الذي لايُحْصى عدداً، مثلُ قوهم: نَراك تَتَوضَّأ من بِئْرِ بُضاعَةَ وهي يُلقَى فيها المَحائِضُ، والجِيَفُ، ولحومُ الكلابِ، وما يَنْتَجِي الناس (¬1). [وقولِهم]: نَهَيْتَنا عن الوِصالِ، وواصَلْت (¬2). [و] أَمَرْتَنا بفَسْخ الحَجِّ، وما فَسَخْت (¬3). [و] أَجبتَ بَيتَ فلانٍ لَمَّا دَعَوْكَ، ولم تُجِبْ بيتَ فلانِ، فقال: "إنَّ في بَيْتِ فلانٍ كَلْباً" (¬4)، قالوا: إِنَّ في بيتِ فلانٍ هِرّاً. [و] قال: "هَلاّ أَخَذَ أَهلُ هذه الشَّاةِ إِهَابَها، فَدَبَغوهُ، فَانْتَفَعُوا به"، فقالوا: إِنها مَيْتَةٌ (¬5). وقالوا له في غمْرةِ القَضاءِ، لَمَّا أَجابَ أَهلَ مَكَّةَ إِلى مَحْوِ اسمه من الرِّسالةِ، ورَدِّ مَنْ جاءَه مسلماً، ورَجَعَ عن العُمرةِ إِلى العامِ القابلِ: أَلَسْتَ رسولَ اللهِ حقّاً؛! أَلَسْنا المُسلمين (¬6)؛ فعَلامَ نُعْطيِ الدَّنِيَّةَ من ديينا؟! أَليسَ قد نُزِّلَ عليك: {لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ} (¬7)؟ [الفتح: 27]. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد 3/ 15، وأبو داود (67)، والترمذي (66). (¬2) تقدم تخريجه 2/ 26. (¬3) تقدم تخريجه 3/ 106، تعليق (1). (¬4) تقدم تخريجه 2/ 27. (¬5) أخرجه أحمد 6/ 329، ومسلم (363)، وأبو داود (4120)، والنسائي 7/ 171وابن ماجه (3610) من حديث ميمونة رضى الله عنها. (¬6) في الأصل: "المسلمون". (¬7) تقدم تخريجه 2/ 35، وتقدم أن ذلك كان في صلح الحديبية لا في عمرة القضاء.

* فصل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في الحوادث ويحكم فيها باجتهاده

فلو كان ذلك الحِجاج أَو الاعتراضُ مِمَّا يُسقِطُ أُبَّهَةَ النبوَّةِ، ويَطْعن (1في مَقامِها 1)، لَمَا أَجَابهم عنه رسول اللهِ؛ فعلِمَ أَنَّ الاجتهادَ أَولى أَنْ يَجُوزَ في عَصْرِه (¬2) وبحضرَتِه. فصل وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجتهِدُ في الحوادثِ، ويَحكُمُ فيها باجتهادِه، وكذلك سائرُ الأنبياءِ صلوات الله عليهم. هذا مذهبُنا، ذكرَه أبنُ بَطَّةَ من أَصحابنا، وذُكرَ عن أَحمد نَحْوُه. وبه قال أَصحابُ أَبي حنيفةَ، فيما حكَاهُ الجُرجانيُّ والسَّرخسِيّ. واختلف أَصحابُ الشَّافعيِّ على وجهين: أَحدهما: مثلُ قولِنا. والثاني؛ المنعُ من ذلك. وبالمنع قال بعضُ المُعتزلَةِ. فصل لجمعِ أَدلَّتِنا فمنها: قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وهذا يَعُمُّ ما يَرَاهُ من النَّصِّ والاسْتنباط ¬

_ (1 - 1) خرم في الأصل. (¬2) في الأصل: "عصرته".

- فصل في أسئلة المخالفين على الآيات

من النُّصوصِ، واسمُ الرَّأْيِ بالاجتهادِ أَخَصّ منه (¬1) بالنّصوص. وقولُه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، والمُشاوَرَةُ لا تَقَعُ في الوحْي، ولا فيما يَرِدُ من اللهِ سبحانه، فلم يَبْقَ إِلاً فيما يُحْكَمُ فيه من طريقِ الاجتهادِ. وقولُه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، يَأمُرُ بالاعْتبارِ لأُوِلي الأَبْصارِ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - داخلٌ لأنَّ ذلك، لأَنه من أهل (¬2) البَصائِرِ، بل أَشرفهم وأَسْبَقُهم في ذلك. وقولُه تعالى في آياتٍ تَدُلُّ على العَتْبِ، والمَعْتَبةُ لا تَقَعُ إِلاً عن خطأ، والخطأ لايَقَعُ في الوَحْي، فلم يَبْقَ إِلاَّ الاجتهادُ. وقولُه تعالى إِخْباراً عن أَنْبيائِه [أنهم] (¬3) اجْتهَدُوا، فقال: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] الآية، وقولُه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، وما يُذكَرُ بالتَّفهيمِ إِنَّما يكونُ بالاجتهادِ، فأَمَّا الوَحْيُ والتَّنزيلُ، فلا يُذكَرُ بالتَّفْهيمِ. فصل في الأَسئلةِ على الآياتِ فمنها: أَنَّ قولَه: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، والذي أَرَاهُ: قوله: ¬

_ (¬1) في الأصل: "معه". (¬2) في الأصل: "أدل". (¬3) ليست في الأصل

- فصل في الأجوبة عن الأسئلة

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. أِ منها: قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] من الحُروبِ، وأُمورِ الدّنيا كُلِّها، وسِياساتها. منا: أَن العَتبَ ورَدَ على تركِ التَّذفِيفِ (¬1)، أَو مُساكَنةِ الرِّقَّةِ على قومِه، والمَيلِ إلى استِبقائِهم، كما عاتبه (¬2) على الاستِغفارِ لمَنْ ماتَ على الكفرِ من أَهلِه، وقوله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]. فصل في الأَجوبة عن الأَسْئلةِ أَمَّا األأَوَّلُ: فإِنَّما أَحالَه على رأيِه، فإِذا حَمَلتَه على الوَحْىِ، وأَنَّه هو الذي أَرَاهُ الله، فيُفْضِي إلي حَملِ قولِه: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] على ما أَنْزَلَ الله، والظَّاهرُ من تغايرِ اللَّفْظَينِ والصِّيغَتَيْنِ تغايرُ المَعْنيَيْنِ. على أنَّ الاجتهادَ حكم بما أَنْزَلَ؛ لأَنَّه قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، [وقال]: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. وأَما حملُهم آيةَ المشاورةِ على أَمرِ الدنيا، فغيرُ صحيح؛ لأنَه شَاوَرَهم ¬

_ (¬1) في الأصل: "التوقف"، والتذفيف: الإجهاز على الجريح. (¬2) في الأصل: "عتبه".

في الفِداء، وهو من كبارِ أَحكامِ الدِّينِ؛ لأَنَّه أَمرٌ يَتعَلقُ بالدِّماءِ، ومَصْلحةِ أَكْثرِ عبادِه، وهو الجهادُ. وأَما قولُهم على آيةِ العَتْبِ: إِنَّه لمكانِ الرِّقَّةِ والرَّاُفَةِ، فذاك أَمرٌ داخلٌ في الاجتهادِ وعِلَّتِه (¬1)، وإلاَّ فالأَصلُ اسْتِخراجُ الرأْيِ لحكمٍ من أَحكامِ اللهِ، وهو المَنُّ أَو الفِداءُ، فلا يُظَنُّ به أَنه تَرَكَ أَصْلَ الرَّاي، وعَدَلَ إِلى الرِّقَّةِ، بل الرِّقَّةُ داخلةٌ؛ مثل قولِه تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، فنهَى عن مُساكنةِ الرِّقَّةِ والرَّافَةِ في إِقامةِ الحدِّ، كذلك هاهنا؛ إِن حَصَلَ العَتْبُ على رَافةٍ ورِقَّةٍ أَوْرَثَتْ تحريفاً في الرايِ، فقد أَجازَ أَصْلَ الرايِ، وعَتِبَ على التقصيرِ فيه، فهذا غايةُ ما يكونُ في الحُجَّةِ لمن أَثْبَت الاجتهادَ. وأَمَّا أَدِلتنا فيها من جهةِ السُّنَّةِ: فما (¬2) رواه الشَّعْبِيُّ قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضي القَضِيَّةَ، ويَنْزِلُ القرآنُ بعدَ ذلك غيرَ ما كان قَضَى، فيَتْرُكُ ما كان قَضَى على حالِه، ويَسْتَقْبِلُ ما يَنْزِلُ به القرآنُ. فإِن قيلَ: هذا مُرْسلٌ، وخبرُ واحدٍ. قيلَ: المُرسَلُ حُجَّةٌ، وهو مُؤَكِّدٌ لهذا الرَّايِ، إن لم يَكُنْ مُثْبِتاً لأَصلِه. على أَنَّ هذه أُصولَ الفقهِ ليس طريقُها القطعَ، وأَينَ أَدِةُ القطع منها، وهي مما لايُفَسَّقُ، ولا يُبَدَّعُ المُخالِفُ فيها؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعليه". (¬2) في الأصل: "ما".

- فصل في أدلتنا من جهة المعقول والمعاني

فصل في أَدِلَّتنا من جهةِ المَعْقول والمعاني فمنها: أنَّ المعانيَ المُسْتنبَطةَ طريقٌ لإِصابَةِ الأَحكامِ الشرْعيَّةِ، تدْرَك بجَوْدةِ الانتقادِ، وصفاءِ النَّحِيزَةِ، وجَوْهرِ النَّفْسِ، والقُوَّةِ على إلحاقِ المِثْلِ بالمِثْلِ، واستخراخ المعاني من الأَلفاظِ، وهذا فضيلةٌ دائِبةٌ، ثم إِنّه من أَجَلِّ الأَعمالِ، وأَفضلِ العباداتِ، وأَوْفَى أَسبابِ الثَوابِ، ومِثلُ هذا لا يُحْرَمُه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَه من الفضائلِ العظيمةِ، والطاعاتِ الكثيرةِ، ونُحرِّرُه قياساً، فنقولُ: ما جازَ أَن تَثْبُتَ به الأَحكامُ الشَّرعِيَّةُ، جازَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الاسْتدلالُ به، أَو الحُكْمُ به. أَو نقولُ: جازَ للنبيِّ أَن يَحْكُمَ به؛ كالكتابِ والوَحْىِ النازل على قَلْبِه - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أَنَّ طريقَ القِياسِ: النَّظَرُ، وملاحظةُ المَعْنى، وإِلحاقُ الشَّيءِ بنظيرِه، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى النَّاس بذلك؛ لأنَّه السَّليمُ الخَلْقِ، المخصوصُ بسلامةِ القَلْبِ، المعصومُ من الإِقرارِ على الخطأ، المَلْطوفُ به في نَظَرِه واجتهادِه. ومنها: أَنَّه سببٌ للثَّوابِ، فلا يجوزُ أَن يُحْرَمَه - صلى الله عليه وسلم -، ويَحْظى به مَن دونَه من الأُمَّةِ، بل هو المُميَّزُ بأَسبابِ الثَّوابِ، بإِيجابِ قيامِ اللَّيْلِ، والوِترِ، وغيرِ ذلك. ومنها: أَنَّه لا يُقَرُّ على الخطأ، فإِذا اجْتَهَدَ فأَصابَ، فذلك سُنَّةٌ مُتَّبَعةْ، وإِذا أَخْطأَ، فرُدَّ عن الخطأ، كان فيه أكثرُ الفوائدِ؛ لأَنَّه يُعلَمُ به طريقُ الخطأ فيجْتَنَبُ، كما إِذا بانَ الصَّوابُ بالإقرارِ يُتَّبَعُ، ومازالَ الانْتِفاع

- فصل في جمع الأسئلة لهم على الأدلة المعنوية

بطريقِ التحْذيرِ من الخطأ، كما يَحصُلُ الانْتِفاعُ بالتَّحْريضِ على الإِصابةِ، فنقول: طريقٌ يُومَنُ مَعَه بقاءُ حكمِ الخطأ، فكان طريقاً للأَحكامِ في حقِّ النبْيِّ، كالنًصِّ. ومنها: أَنَّ النبيَّ إِذا قَرَأَ الآيةَ، وعَرَفَ منها الحكمَ وعِلَّةَ الحكمِ، فلا يَخْلُو: إِمَّا أَن يَعْتقِدَ ما تَقْتَضِيهِ العِلةُ، أَو لايَعْتَقِدَ؛ فإِنِ اعْتقَدَ، فلابُدَّ أن يَعمَلَ بما اعْتقَدَه، وهو الاجتهادُ (¬1) الذي أَثْبَتْناهُ، وإِن لم يَعْمَلْ به، كان تاركاً للعملِ بما اعْتقَدَ، وَحُوشِىَ من تَجَنّبِ الصَّوابِ على بَصِيرةٍ. فصل في جمع الأَسئلَةِ لهم على الأَدِلَّةِ المَعْنوَّيةِ فمنها: أَن قالوا: صَدَقْتم أَن في الاجتهادِ فضيلةً وثواباً (¬2)، ولكن إِذا صَدَرَتِ الأَحكامُ عن رَأيه، أَوْرَثَ تُهْمةً في حَقِّه، وأَنَّه هو الواضعُ لهذا الأَمرِ مِن عندِه، وطَرَّقَ عليه مِنَ المَشُورةِ المُراجعةَ والمُخالفةَ المُسقِطَيْنِ لِحشْمَةِ مَنْصِبِ النّبُوَّةِ وأبهَتِها، وقد يَحْرِمُ الله نبيَّه فضيلةً، إِذا كان إِثْباتُها له يَجُرُّ عليه تُهْمَةً، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]، ثم عَللَ ذلك بقولِه: {إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}، فإِذا حَرَمَه فضيلةَ الكَتْبِ، مَعَ كونِه امْتَنَّ بها على مَن عَلمَه إِياها بقولِه: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الجهاد". (¬2) في الأصل: "وثواب".

- فصل في الأجوبة عن أسئلتهم

مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5]، وقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4] وإِذا كان كذلك، جازَ أَنْ يَحْرِمَه فضيلةَ الاجتهادِ وإن كان فيها نَوْعُ ثوابٍ؛ لدَفع التُّهْمةِ، وتخصيصُه بسُلوكِ الاتِّباع لمُجرَّدِ الوَحْى، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، ووَصَفَه في التَّوراةِ: بأَنَّه (¬1) لايقولُ عنِ اللهِ إِلا ما قِيلَ له، وسِيرتُه كانت انْتِظارَ الوَحْى، حتى إِنَّه كان يُنْسَبُ إِلى الانقطاع؛ لِشدَّةِ انتظارِه للوحى في جوابِ ما يُسأَلُ عنه، وذلك مشهورٌ في السِّيَرِ. ومنها، أَن قالوا: إِنَّ الاجتهادَ عُرْضةُ الخطأ، فلأَن يُصانَ عنه، ويُخَص بطريقةِ الوَحْى خاصَّةً التي لايجوزُ عليها الخطأُ، أَولى. ومنها: أَن قالوا: إِنَّما جازَ النَّظَرُ مشروطاً بعَدَمِ النَّصِّ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لايَتحقَّقُ في حقِّه هذا الشَّرْطُ، لأَنَّ النَّصَّ يَأنتِيهِ، والوَحْيَ يَنْزِلُ عليه أَحياناً بما يَشْرَعُ له، فإِذا لم تَتحقَّقْ شريطةُ الاجتهادِ، فارق أُمَّتَه في ذلك، فلم يَجُزْ له الاحتهادُ لعَدَمِ شَرْطِه، وهو تَعذُّرُ الوحى. فصل في الأَجوبةِ عن أَسئلَتهم أَمَّا الأَوَّل، وأَنَّ ذلك يُورِثُ تُهْمةً في حَقِّه، ويُطَرِّقُ عليه المُراجعةَ، فحَرَمَه لهذه الفضيلةِ لأَجلِ هذه التُّهمةِ والمَنْقَصَةِ، كما حَرَمَه فضيلةَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإنه".

الكَتبِ، فإنَّ التّهمةَ لا وَجْهَ لها هاهنا؛ لأَنَّ الذي نَفَى عنه تُهْمةَ ما يَأتِي به عن الوَحى من الأَحكامِ، نَفَى عنه تُهْمةَ ما يَاتي به من الأحكامِ عن الاجتهاد والرأيِ، وهو ظهور المعْجِزِ الدّالِّ على صِدْقِ ما ادَّعاهُ من النّبوَّةِ، بل ربَّما كان إِلى نَفْى التهْمةِ أَقربَ؛ لأَنه إِذا اجْتَهَدَ فاعْتَراهُ الخطأُ، رُدَّ عليه، ويَبْعُدُ عن الإِنسانِ أَن يَأتِيَ بما يكونُ كاشفاً عن خطئِه، فإِذا اجتَهَدَ بتجويزِ الشَّرع له الاجتهادَ، تَبَرَّأَ من التُّهمةِ؛ حيثُ كان اجتهادُه عُرْضةً للرَّدِّ عليه بم من الله تارَةً؛ فإِنَّه لايُقِرّه على الخطأ، ومن أُمَّتِه أخرى؛ بحيثُ إِنهم لايُمسِكُونَ عن المَشُورةِ بالرايِ. ولأَنَّ تَعلّقَك بأَنه عُرْضةُ اعتراضِهم عليه المُزِيلِ لأُبَّهة النّبُوَّةِ، غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ذلك لو كان مِمّا يَجِبُ صِيانتُه عنه، لأَنْكَرَ عليهم اعْتِراضاتِهم عليه، وما زالوا يَعْترِضُونَ والوَحيُ لايُنْكِرُ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصِبرُ عليهم، ولو تَتَبَّعْنا ذلك لأَطَلنا؛ لكنا نَذكُرُ طَرَفاً من ذلك: وهو اعنزاضُهم عليه في وُضُوئِه من بِئْرِ بُضاعةَ، والإِجابةِ لبيتِ قومٍ، وعدم إِجابتِه لآخَرِينَ، ومُواصلتِه في الصَّومِ مَعَ نَهْيِه لهم عن الوِصالِ، وأَمْرِه إِيَّاهم بفَسخٍ الحَجِّ ولم يَفسَخْ، واعتراضُهم عليه يومَ عُمْرَةِ القضاءِ، لَمَّا أَجابَ قُريشا إلى ما اقتَرحوا عليه، ورَدِّه لأَبي جَنْدَلِ، حتى قالوا: ففيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ من ديينا، (1والله يقولُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 1)؛ [الفتح: 27]، وقولُهم: ما بالُنا نَقصُرُ، وقد أَمِنا؟ حتى أَحْرَجُوه إِلى الأَجوبةِ عن ¬

_ (1 - 1) وقعت هذه الجملة في الأصل بعد قوله: "وقد أمنا" ورأيْنا أن الصواب الموافق للسياق إثباتُها في هذا الموضع.

هذه الأَسولةِ والاعتراضاتِ؛ بأَن قال: "الماء طهُور"، "إِنَّ في بَيْتِ فلانِ كلباً"، "لستُ كأَحدِكم؛ إِني أَظَلّ عندَ ربيِّ، فيُطعِمُني ويَسْقِييي"، "لوَ استَقْبَلْتُ من أَمْرِي ما استَدْبَرْتُ، لمأسُقْتُ الهَدْيَ، لكني سُقْتُ هَديِي، ولبَّدْتُ راسِي، ولا أَحِل حتى أَحلِقَ". وما أَنْكَرَ البارئ عليهم في قرآنِ هذا الشَّانَ، أَو أَنْكَرَه عليه الصلاة والسلام، كما أَنْكَرَ عليهم القِراءَةَ مَعَه، فقال: "مالي أُنازَعُ القُرآنَ؟ " (¬1)، فلم يَستطِعْ أحدٌ (¬2) أَن يَقرَأَ معَه بعدَ قولِي ذلك، فلَمَّا لم يُنكِرْ ذلك، عُلِمَ أَنه ليس من الأمورِ المُسقِطةِ لأُبَّهَةِ النّبُوَّةِ على ما ذَكَرْتَ، وما زالتِ النّبُوَّاتُ مَبْنيَّةً على ماقاساةِ الأُمَمِ ومُداراتِهم، فبالصَّبْرِ فضلوا، وبه وُصِفُوا، قال سبحانه لي تعالى: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} [الأنعام: 34] (3. . . . . . . . 3) النّبُوَّةت طَلَبِ الحُكمِ بالاجتهادِ (3. . . . . . 3)؛ لأنَّ البارئ، سبحانه لم يَرْفَعْه عن أن (3 يَسألهم ويَستشيرهُم 3) في الأَمْرِ، ومَدَحَ المُتخلقِينَ (3 بذلك، فقال 3) {وَأَمرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وقولُهم: إنَّه عُرضةُ (¬4) الخطأ، فهو هذا بعيْنِه، وقد أَجَبْنا عنه، على أَنَّه لايُقَرُّ عليه، وإِنَّما يُخافُ مِنَ المَضَرَّةِ بالخطأ، ولا مَضَرَّةَ به إِذا لم يُقَرَّ عليه، ¬

_ (¬1) أخرجه أن (7270)، وابن أبي شيبة 1/ 375، وأبو داود (827)، وابن ماجه (848)، والبيهقي 15712 من حديث أبي هريرة. (¬2) في الأصل: "أحداً". (3 - 3) خرم في الأصل. (¬4) في الأصل: "عرض".

وفي رَدِّه عنه، وبيان خطئِه فيه، دليلٌ على أَنه لم يَضَعْ ذلك لنفسِه، وأَنه تابعٌ لغيرِه؛ إِذ لو كان عن نفسِه يقول، لما رَدَّ بنَفسِه على نفسِه، وقد اسْتَدَلتْ عائشة رضي الله عنها بمثل ذلك؛ حيثُ قالت: لو كَتَمَ محمدٌ على نفسِه أَمْراً، لكَتَمَ ما في نفسِه، والله سبحانَه يقولُ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] وأَما قولُهم: إِنَّما جازَ النَّظرُ والاجتهادُ والاسْتنباطُ مشروطاً بعَدَمِ النصِّ، ومهما وَجَدَ المُجْتهِدُ النَّصَّ، لم يَجُزْ له الاجتهادُ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سبيلُ النصِّ في حَقِّه مُتسَهِّلٌ مُتيسِّرٌ، ولا مَعْنى لاجتهادِه. فإِنَّ ذلك باطلٌ باجتهادِ أَهلِ عصرِه، ومعلومٌ أَنَّه نَصَّ على ذلك، وأَقَرَّ عليه قُضاتَه، كمُعاذٍ وعَتابٍ وعليِّ بنِ أَبي طالبٍ، ومازالُوا يَجْتهِدُونَ، ويَعْترِضُ أَحكامَهم، فيُقِرُّهم عليها؛ فمن ذلك: حكمُ علي في الزُّبْيَةِ (¬1) التي وَقَعَ فيها ثلاثة؛ واحد على آخرَ، فهَلَكُوا (¬2). وقولُه (3 لسعدِ بن معاذ 3): "يا سعد، لقد حَكَمْتَ بحُكْمِ الله من فوقِ سَبْعةِ أَرْقِعَةٍ (¬4) ". (3 وقال معاذٌ حينَ بَعَثَه إلى اليمنِ:3) أَجتهدُ ¬

_ (¬1) الزُّبيةُ: حُفرة تُحفر وتُغَطى ليقع فيها الأسد أو غيره فيُصاد. (¬2) في الحديث أنهم أربعة، أخرجه أحمد (573) و (574) و (1063) و (1310)، والبيهقي 8/ 111، والطيالسي (114)، وابن أبي شيبة 9/ 400 من حديث علي. (3 - 3) خرم في الأصل. (¬4) أخرجه بنحوه أحمد (11168)، والبخاري (4121)، ومسلم (1768) (64)، وأبو داود (5216)، والنسائي في "الكبرى" (8222) من حديا أبي سعيد الخدري.

- فصل في جمع شبههم والرد عليها

رايي، فقال: "الحمدُ لله الذي (3 وَفَقَ رَسُولَ رسولِ الله لِمَا يُرْضِي رَسولَ 3) الله" (¬1). فصل في جمع شبههم فمنها: (3 قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وأَمره أَن يقول: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، وهذا ينفي القولَ بالاجتهادِ، ويوجِب أَنَّه لايقول إِلاًّ عن وحي. فيقال: نحن قائلون بالآية، وأَنَّه - صلى الله عليه وسلم - لايَنطِقُ عن الهوى؛ لأَنَّ الهوى هو ما تهواه الأَنفسُ، والقول بالاجتهاد استنباطٌ مما أَوحى الله سبحانه إليه، فانتزعَ من المنطوقِ علَّةً يُعَدِّي بها الحكمَ إِلى المسكوت، وهذا لايسمَّى هوىً، ولا يَخرُجُ عما أَنزلَ الله وأَوْحى. وأما الآية الأخرى، فلا حجَّةَ فيها؛ لأَنهبم قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]، فنفى التبديلَ من عنده، والاجتهادُ تاويلٌ، وليس بتبديلٍ. ومنها: أَن قالوا: إِنَّ الاجتهادَ طريقُه الظنُّ، والنبيُّ قادرٌ على القطع، ومَنْ قدرَ على القطع، لايجوزُ له سلوكُ ما طريقُه غلبةُ الظنِّ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 5.

فيقال: إِنَّ النبيَّ لايقال: إنَّه قادر، بل راج لنزو الوحي، وإِلاَّ فأَيُّ قدرةٍ له على نزول حبريلَ عليه، وإِنزال الله إليه؛ بلِ ذلك إلى الله تعالى، يوضح هذا: قولُه إِخباراً عن الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]، وإنَّما غايةُ مايقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - إِنَّما (¬1) يَتَرجَّى ويتَوقعُ نزولَ الوحي عليه، وهذا أَمرٌ لايمنعُ من الاجتهادِ فيما لم يَنزِلْ فيه وحي، ولم يُتلا فيه نصٌّ، أَلا ترى أَنَّ آحادَ أُمته من أَصحابِه ومعاصريه قادرونَ على سؤالِه عن أَحكام الحوادثِ التي لانصَّ فيها عندهم؛ كمعاذٍ لما بعثه إِلى اليمن، أَقرَّه على قوله: أَجتهدُ راي، ومدحَه على ذلك، وسماه موفقاً، وكان في إمكانِ معاذٍ الكتابةُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالسُّؤال، لكنَّه لم يُوجِبْ عليه ذلك، ولا منعَه من الاجتهادِ مع وجودِ هذا الطريق، وكذلك سماعُ الصَّحابةِ بعضهم من بعضٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وخبرُ الواحد عنه ظنٌّ، وسؤالُه وجوابُه لسائِله قطعٌ، ومعٍ هذا سَمِعُوا الأَخبارَ في مدينتِه عنه، ولا إِنكار منه لذلك، ولاحثّ أَحدا منهم على العدولِ عن سماع الخبرِ عنه إِلى سماع القول منه. ولأَنَّ الله سبحانَه كان قادراً على جعل طريقِ الأَحكامِ كلِّها النصَّ القاطعِ، ثم إنَّه غاير بين الطرق إِلى الأَحكام، فجعل بعضَها نصاً، وبعضَها ظاهراً، وبعضها وَكَلَهُ إِلى مجرَّد الاجتهادِ، وهو عُرضةُ الخطأ؛ فإمَّا أَن يكونَ ذلك تحَكماً منه سبحانه، فلا يُستنكَرُ أَن يفعلَ في حقِّ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ما فعلَ في حقِّ الأُمَّةِ، ولا فرقَ في التشريع بين ما يَعُمُّ أَو يَخُصُّ، أَو يكونَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "إنه".

دْلك معلَّلاً بأَنَّه سبحانه قصدَ تكليف ذوي العقولِ استخراجَ المعاني، واستنباطَها من النّصوص والظَّواهر؛ ليُثيبَهم بذلك الاجتهاد الذي هو أَعمالُ القلوبِ، كما أَثابهم على أَعمال الأَبدان، وكلُّ ذلك جائزٌ على الله سبحانه، حسنٌ في العقل، لا يمنعُ منه مانعٌ، ولا يناقضُ أَصلاً من أُصولِ الشرع. ولأَنَّه يجوزُ أن يَحْكُمَ بنص واقعةٍ أَو حادثةٍ مع تجويزِه أن ينسخَ الله ذلك النَّصَّ بغيره، ممَّا يُوجِبُ تغييرَ حكمِ ذلك النصِّ، وكذلك في أَعصارِ الصَّحابة والتابعين بعدَه، يجوزُ الاجتهادُ لكلِّ واحدٍ منهم في صُقْعِهِ وزاويته، وإن جازَ أَن يكونَ قد سبق اجتهادَه ما يجري مجرى النَّص في العصمةِ والقطع، وهو الإِجماعُ على حكمِ الحادثةِ. ومنها: أَنّه لو كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحكم بالاجتهادِ، ما كَفَرَ مَنْ خالفَ أَمرَه، ولمَّا أَجمعنا على أَنَّ مَنْ خالفَ أمرَه كفرَ، كان ذلك دليلاً على أَنَّ أَمره لايقعُ عن طريقٍ مظنونٍ؛ لأَنَّه إِنَّما يَكفُرُ الإِنسانُ بمخالفةِ القطع. والجواب: إِنما كفرَ بتكذيب ما ضمنَ الله سبحانَه عصمتَه، وإقامةَ الدلالةِ القاطعة على صدقِه، وبقوله: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولا علينا ممَّن صَدَرَ ولا عمَّا صدرَ؛ كالإجماع إِذا كان على حكم، وجبَ اتباعُه، وإِن كان الإِحماع قد يصدُرُ عن قياسٍ، أَو خبرِ واحدٍ، وهو مثلُ الإِجماع، من حيث إِنَّ الإِجماعَ معصومٌ عن الخطأ، والنبيُّ لايُقَرُّ على خطأ. ولأَنَّه يجوزُ أَن يكونَ كفرُه بم لأَجل أَنَّه كما يُخبِر عن اجتهاده، قد يُخبِرُ

* فصل يجوز أن يرد من الله سبحانه الإذن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بما أراد وشاء بأن يجعل له تأييدا في موافقة الصواب وتجنب الخطأ

عن الوحي، فإِذا ردَّ قوله، فقد ردَّ ما يجوزُ أن يكون وحياً (¬1) من الله سبحانه. فصل يجوز أَن يَرِدَ من اللهِ سبحانه الإِذنُ لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بما أَرادَ وشاءَ؛ بأن يجعلَ له تأييداً وعِصْمةً في موافقةِ الصَّوابِ، وتجنّبِ الخطأ، بناءً على جواز الاجتهاد (2 فيما يَتعلقُ بالشرع. وهو اختيارُ الجرجانيِّ، وقولُ الشافعيةِ، وجمهورِ أهل الحديثِ 2). وحُكِيَ عن جماعة من المعتزلة، وعن أَبي سفيان السَّرخسيِّ من أَصحاب أَبي حنيفة: المنعُ من ذلك. فصل في أَدلَّتنا على جواز ذلك فمنها: أَنَّ الله سبحانه قادرٌ على إِنزالِ ما هو الأَصلحُ للمكلفين من الأَحكام قولاً يُتْلى، فَيتَّبعُه الرَّسولُ، ويدعو إِليه، فيكونُ الحقَّ والصَّوابَ، وهو القادرُ على إِلهامهَ - صلى الله عليه وسلم - سلوكَه باجتهادِه المسلكَ الذي يَهجُمُ به على الحقِّ والصَّواب، وتوفيقِه لإِصابة الحقِّ، وعصمتِه من الزَّللِ في رأيه، كما عَصَمَه عن الكذب في نطقِه، وإذا كان قادراً على ذلك، فلا وجهَ للمنع منه؛ إِذ كان مؤدِّياً له إِلى الصَّوابِ الذي يُدرِكه بالنّصوصِ التلوةِ والوحي ¬

_ (¬1) في الأصل: "واجباً". (2 - 2) خرمٌ في الأصل، واستدركناه من "العدة" 5/ 1587، و"المسودة" (510).

الصَّادر عن الله، أو (¬1) بواسطة الراي والاجتهاد. ومنها: أَنَّه إِذا جاز أن يَكِلَ أُمور الدنيا، وسياساتِها؛ من الحروبِ وتراتيبِها، والعطاء لمن يكونُ عطاؤه (¬2) مصلحةً، والمنع لمن يكونُ عطاؤه مفسدةً، إلى رأيِه ورايِ أَصحابه، ويَحُثَّه على مشاورتهم؛ اعتماداً على ما مَنَحَهم من الآراءِ السَّليمةِ، والعقولِ الصَّحيحة، جاز أن يَكِلَ أَمرَ الأَحكامِ الدينيةِ إِلى رأْيه واجتهادِه، مع منحته ما يكونُ به مدركاً للصَّوابِ ومُتنكِّباً للخطأ. ومنها: أَنه قد وُجِدَ ذلك، ولا يُستنكرُ مثلُه من جهةِ الله سبحانه؛ لأنَّ غيرَ الجائز (3 عليه لا يوجَدُ 3) فإِذا وجد، فقد جاز، وإِذا جاز، فلا وجه (3. . . . . . 3) الكفر به إِلى الرَّاي، والتخيير في حقِّ كافَّةِ المكلَّفين، وكان اختياز المكلَّفِ لايها وافق، فهو الأَصلح، ولو اختارَ ثلاثةٌ من الكلفين كلُّ واحدٍ منهم أَحدَ تلك الثلاث، استوعب باختيار الثلاثة الثلاث، وكان كلُّ واحدٍ منها في حقِّ مَنِ اختاره هو الأَصلح. ومن ذلك: قولُ عمر: وافقت ربي في ثلاث، فنزل القرآن على اختيارِ عمر في ثلائةِ أَحكام: آيةِ الحجاب، واستقبالِ الكعبة بدلاً من بيتِ المقدس، والمنع من المفاداة في حقِّ الأَسرى (¬4). وأَخَّر معاذٌ قضاءَ ما فاته مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مع كون السُّنَّة الأولى تقديم قضاء ما فات؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -:"سنَّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "لا". (¬2) في الأصل: "العطا". (3 - 3) خرم في الأصل. (¬4) تقدم تخريجه 3/ 419.

- فصل في جمع شبه المخالفين

لكم معاذ، فاتَّبعوا سنَّته (¬1) "، ومعنى هذا: موافقة ما نزل به الوحى؛ لا أَنَّ معاذاً وضع ذلك شريعةً، فإِذا كان في أمَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ يوافقُ رأيه وحيَ اللهِ، فلا نكيرَ أن يعلم الله سبحانه من نبيه موافقةَ الأَصلح فيما يختاره، فيقول له: احكمْ بما ترى، فهو اختيارُنا وحكمُنا. وقد رأَيتُ لبعض الأُصوليين استدلالاً في هذه المسألة (¬2) بقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93]، فأَثبت تحريمَ الطعام على بني إِسرائيل بتحريم نبي على نفسه، فقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}، فأَبان بذلك أَنَّه إِنما حرَّمه على بني إِسرائيل بتحريمه واختياره، ولو لم يكن جائزاً في العقل، لما جاز في حقِّ أَحدٍ في شريعةٍ من الشَّرائع. فصل في جمع شبههم فمنها: أَنَّ الأُمورَ الشَّرعية والأَحكامَ الدينية مبنية على المصالح التي لا عِلْمَ للخلق بها، فإذا قيل للبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: احكم بما ترى، كان تفويضاً إِلى مَنْ لا علمَ له بالأَصلح، فيحيل المصالح الدينية، والأَحكام الشرعية. ومنها: أَنَّ لنا صواباً في الرأي، وصدقاً في الخبر، ثم إِنه لا يجوزُ أَن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 3/ 419. (¬2) أورد هذا الاستدلال أبو الحسين البصري في "المعتمد": 890 ونسبه لأبى علي الجُبائي.

- فصل في جمع الأجوبة عن شبههم

يُخبِرَ بمالا يَعلَمُ كونه صدقَاَ؛ ليوافق الصدق، كذلك لايجوزُ أَن يحكمَ بما لاطريقَ إِلى العلم بصوابه؛ ليوافق الصواب. ومنها: أنَّه لو جاز ذلك، لجاز أَن يرسل الله رسولاً؛ ويجعل إليه أن يشرعِ شريعةً برَأيه (¬1)، وينسخ ما تقدمه الشريعة برأْيه، وينسخ أَحكاماَ أَنزلَها اللهَ عليه برأيه، ويرى أَن نسخَها أَصلحُ من استدامتِها بحكمِ الحالِ التي تجدَّدت، فيُبَيحَ الخمرَ بعدَ أَن حُرِّمَتْ، ويُبيحَ الجمعَ بين الأُختين، والأمهاتِ، والأَخواتِ من الرَّضاع؛ لواقعةٍ تقر لَه من المصلحة التي يراها، أَو يَخُصَّ من يرى أَنه لا يستجيبُ لتحريمِ ذلك بالإباحةِ له، ويُحرَمَ ذلك على مَن يَعلَمُ أَنَّه سريعُ الانقيادِ، وإلى ما شاكلَ ذلك من الآراءِ وألاختياراتِ السَّانحةِ له. وإِن جوَّزتم ذلك؛ لِما يَعلَمُ من الإصابةِ، فلا يَبعُدُ أن تُجوِّزوا أَن يُقالَ له: أَخبر بما شئتَ في المستقبل من أَمرِ الدنيا والآخرة، فسيُوافَقُ تحقيقُ (¬2) خبرك، ويوقع ما أَخبَرتَ به علىِ ما أَخَبَرتَ، وأَن يقان له: ومَن اختارِ من أَصحابك والتابعين لك شيئاً، فهو الحقّ؛ وهو الصَّوابُ، فاجعَلْهُ شرعاً متَبعاً، وديناً لمن بعدَهم من أُمتِك. فصل في جمع اللأجوبة عن شبههم أَمَّا اعتبارُ المصالح، فأصحابنا يمنعون اعتبارَ ذلك، وأشتراطه من طريق الإيجابِ على اللهِ سبحانه، وذلك أَصل أتَّسعَ الكلامُ فيه في أُصولِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعرانه". (¬2) في الأصل: "تحريك".

الديانات، ولو دَخَلنا على تسليمِه، وأَنَّه معتبرٌ على طريقِ النَّظر، لما امتنعَ أَن يُلهِمَ الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - الحقَّ والصَّوابَ في كلِّ حادثةٍ تَحدُث في عصرِه، فلا يعدو باجتهادِه الحقَّ عندَ الله، والصوابَ الذي هو أَصلحُ له ولأُمتِه، كما خص بعضَ أَتباعِه -وهو عمر بن الخطاب- فيما وافقَ الوحيُ فيه رأيَه، وموافقتُه (¬1) فيما بَدَرَ مِن عمرَ يجوزُ أَن تدومَ في حقِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أَنَّه جعلَ له أَن يأْخذَ الماءَ من العطشان، ويَتزوجَ ما شاء من النسوان، وكما أَنه نَقَلَه من قبلةِ بيت المقدس إِلى الكعبةِ، وقال له: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] فمَقْ نقلَهُ من قبلةٍ إِلى قبلةٍ ترجِّياً لرضاه، وجعلَ ذلك الرِّضا موافقاً للأَصلح، لا يَبعُدُ أَن يجعلَ رضاه ومشيئتَه مقصورتين علىِ ما هو الصَّوابُ عنده، ويُجنِّبَه إِرادةَ الخطأ، ومحبَّة المفاسد، ويَقْصُرَ مشيئته واختيارَه على الصالح، وعساه إِذا قال له: افعل ما تشاء، تَوَخَّى الصَّوابَ بنوع من النَّظر والاجتهاد، ولم يَحكُمْ بنادرةٍ شيئاً، من غيرِ تقديمِ رويةٍ، وهذا هو الظَّاهرُ من حاله - صلى الله عليه وسلم -، وما يليقُ بمحاسنِ سياستِه، وقد بدرَ منه ذلك مطاوي كلامه، حيث قال: "إِنى لأعطي الرَّجلَ وغيرُه أَحبُّ الي منه خوفاً على إيمانه، وإِنِّي لأَكِلُ أَقواماَ أَمنعهم (¬2) إِلى إيمانهم" (¬3)، والتأَلُّف (¬4) بالمال، وإِن كان مأموراً به، لكن مقاديرُ العطا" كان موكولاً [بها] إِلى رايه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ووافقه". (¬2) في الأصل: "اببفهم". (¬3) أخرجه مسلم (150) من حديث سعد بن أبي وقاص. وأخرجه بنحوه البخاري (923) من حديث عمرو بن تغلب. (¬4) في الأصل: "وبالف".

ولأنَّ الله سبحانه قد خيَّر بين أَعيانٍ في التكفيرِ فأَي الأنواع شاءَ، كفر به، وإنما كان كذلك عند المعتبرين للمصالح؛ لأَنَّه (¬1) علم أَنَّ المكلف لايختار واحداً من الأعيان إِلا وهو المصلحة والصَّوابُ، وكذلك وَكَلَ الى رأي المزكِّين إِخراجَ أَيِّ أَعيانِ الغنم أوِ البقرِ أَو الإِبل شاؤُوا، كذلك في إِطلاق رقبةٍ في الكفَّارة، فلم يُعيِّنْ أَحدَ رقابه من عبيده وإِمائه، بل وَكَلَ ذلك إِلي رايه. وأَمَّا الخبر، فلا يمتنِعُ أَن يقالَ له: أَخبِرْ بالفتحِ أَو النصرِ، ثم يمدُّهم بالنَّصرِ والفتع تصديقاً لخبره، أَو يقالَ له: أَخبر بما تحِبّ أَن تخبرَ به، فيُحِبُّ أَن يُقوِّيَ قلوبَهم بالخبر السَّار، فيخبرُهم، فيؤيدُ الله خبرَه بتحقيق ذلك، فلا يَبعُدُ ذلك من طريق العقل والشَّرع؛ والواحد منَّا يقولُ لوكيلِه: وكَّلْتكَ وكالةً مطلقةً، فمهما رأَيتَ من المصلحة، فأَمضه واسلكه؛ فيصالح إِنْ رأَى الصُّلْحَ، ويبرئ إِن رأَئ الإِبراء ويُشَدِّدُ إِنْ رأَى التَّشديدَ ويسهلُ إِن رأَى التَّسهيلَ، مع ثقته براي وكيلِه وحِذْقِه، فما ظنّكَ بالقادِر على أَن لايوقعَ في قلبه إِلاَّ حب الأَصلح دونَ الأَفسدِ، ويقدرَ على تصديق إِخبارِ رسوله بإِيقاع ما أَخبرَ بوقوعه، والمنع لما أَخبرَ بعدمِ وقوعه، كما يُخبِر عن نفسه؟ مثل قوله في أَبي لهب: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} [المسد: 3]، وكما قال سبحانه: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]، فلما رأموا الخروجَ معه، ثبَّطهم، وقال سبحانه في جواب قولهم {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ}: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا ¬

_ (¬1) في الأصل: "أنه".

- فصل يجوز للعامي تقليد العالم فيما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ

كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15]، فكما جاز أَن يُقَدِّم قولاً منه سبحانه بخبر، ثم يؤيِّدُه بالتصديقِ، كذلك يجوزُ أَن يأمرَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأَن يخبرَ بالخبر، ثم يؤيِّده بالتَّصديق لما أخبر أُمته به، ولافرقَ، ويكون اعتمادُه فيما يقدمُ عليه من الخبر على أنَّ الضَّامن له تصديقَ خبره قادرٌ على ذلك، فلا يكون حازراً ولا مخمِّناً، بل قاطعاً بكون ما أَخبرَ به على ما أَخبر. وأما بعثته لرسولٍ يجعلُ إِليه ما يشرعُه برايه واختياره، وَيقصُرُ شريعتَه على ذلك، من غير وحي يَتنَزَّلُ إليه سوى قوله: احكم بما ترى، فجائزٌ (¬1)، ولا يفعلُ ذلك إِلاَّ في حقِّ مَنْ يَعلَمُ أَنَّ المصالح ونفيَ المفاسدِ واستقامةَ أَحوالِ الأمَّة، حاصلةٌ فيما يراه ويدبِّرُه بصحيح نظرِه، ولامانعَ من ذلك من جهةِ الشَّرع والعقلِ، ولا نَعلَمُ وجهاً لإحالة ذلك وامتناعِه، وغاية ما يُتَخَوَّفُ من هذا: وقوعُ الخطأ، ونحن نقول: إِنّه لايجعلُ الرأيَ إِلى رسولٍ من رسله إِلاَّ وقد علمَ عصمَتَه من الخطأ، وإِنْ لم يَعصِمْه عن وقوع الخطأ، عصمَه عن استدامةِ الخطأ، بأن لايُقِرَّه عليه، كما قلنا في الاجتهادِ الواقع منْهُ، وأنه لايُقَرُّ على الخطأ، وكما أخبرَ سبحانَه عن إِلغاءِ (¬2) ما يُلقيه الشَّيطانُ من الفتنة: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52]. فصل يجوزُ للعاميِّ تقليدُ العا لمِ فيما يسوغ، فيهِ الاجتهادُ، ومالايسوغُ، فيَرْجعُ إلى قولِهِ في الفعل والتركِ، وبه قالَ الأكثروتَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "جاز". (¬2) فى الأصل: "الياء".

- فصل في أدلتنا

وقالَ أَبو عليٍّ (¬1) مِنْ أصحابِ الشَّافعيِّ: لايجوزُ تقليدُهُ للعالمِ فيما لايسوغُ فيهِ الاجتهادُ. وقالَ بعضُ الأُصوليينَ: لايجوزُ لَهُ الأخذُ بقولِهِ حتى يَعْرفَ العاميُّ علَّةَ الحكمِ الذي أفتى به ذلكَ العالمُ. فصل في أدلّتنا فمنها: قولُهُ تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وهذا يعمُّ ما يسوغُ ومالا يسوغُ، ومَنْ يَعْلَمُ علَّةَ الحكمِ ومَنْ لا يعلمُ. ومنها: أَنَّ العاميَّ ليسَ معَهُ آلةُ الاجتهادِ، فجازَ له التقليدُ، قياساً على ما يسوغُ فيه الاجتهادُ. ومنها: أنَّ إلزامَ العاميِّ معرفةَ الدليلِ وعلَّةَ الحكمِ يقطعُهُ عن المعاش، فإنَّ ذلكَ إنَّما يتحصَّلُ للمتبتلِ لذلكَ من طلبةِ العلمِ، والمُنْتَدبونَ (¬2) لذلكَ تراهُمْ يقطعونَ الأعمارَ فيه حتى يتحصَّلَ لهم طرفٌ منه، وقلَّ مَنْ يبلغُ مرتبةَ الاجتهادِ، وما بلغ هذا المبلغَ من الإِضرارِ، سقطَ، كالتزامِ الحجِّ في كلِّ سنةٍ، وإِلزامِهم أنْ يتفقَّهوا في الدينِ كلهم، وأن يتكلَّفوا بلوغَ مرتبةِ الاجتهادِ. ¬

_ (¬1) هو أبو على الطبري الحسن بن القاسم، تقدمت ترته 2/ 60. (¬2) في الأصل: "والمتدس".

- فصل في جمع شبه المخالفين

فصل في جمع شبههم فمنها: أنَّ أكثرَ ما في هذا: أنَّ الأدلة تغمضُ وتدقُ، وذلكَ لايبيحُ التقليدَ، كما نقولُ في معرفةِ اللهِ سبحانَه، وما يجبُ لَه، وما لا يجوزُ عليهِ، وما يجوزُ عليهِ، وأدلةُ هذا الأصلِ العظيمِ أدقُّ، وما جازَ لأحدٍ أنْ يُقلِّدَ فيه. ومنها لأبي علي (¬1): أنَّ ما لا يسوغ فيه الاجتهادُ، ففيه دليلٌ مقطوعٌ به، فلا يجوز التقليدُ فيه؛ كالاعتقاداتِ في مسائلِ الأصولِ. فصل في الأَجوبه عن شبههم أمَّا الأوَّلُ، فإنٌ مسائلَ الأصولِ للعامِّيِّ فيها آلةٌ يتوصلُ بها إلى معرفةِ الأدلةِ التي تخصُّها، وهي العقلُ، وليسَ للعاميِّ آلةُ الاجتهادِ في الأحكامِ؛ لأنَّ الأدلَّةَ فيها مكتسبةٌ ومُقتَبَسَةٌ بالتعليمِ لا بالقريحةِ؛ لأنَّ أكثرَها نُقولٌ تحتاجُ إلى قطع أزمنةٍ يتعطَّلُ فيها المعاش. وأمَّا ما تعلَّقَ به أبو علي، وقولُه: ما لا يسوغُ مقطوعٌ، لكن دليل المقطوع ليسَ معه آلتُه، والإجماعُ فلا بُدَّ أنْ يستندَ إلى أدلةٍ. وأمَّا تعلقُه بالعقلياتِ، فقد سبقَ الجوابُ عنه. ¬

_ (¬1) يعني الجُبَّائي، انظر "التبصرة": (414).

- فصل لا يجوز للعامي تقليد من شاء من العلماء بل عليه تخير الأعلم والأورع

فصل لا يجوزُ للعاميِّ تقليدُ مَن شاءَ مِن العلماءِ، بل يجبُ عليهِ أن يتخيَّرَ الأعلمَ والأورعَ تَحرِّياً لدينه بحسبِ جهدِه، وبهذا قالَ ابنُ سُريج والقفال من أصحابِ الشّافعيِّ (¬1). وقالَ جماعةٌ من العلماءِ: لا نُلزِمُه ذلكَ، وعليه الأكثرونَ من أصحابِ الشّافعيِّ (¬2). فصل في الدَّلالةِ على ذلك فمنها: أنَّ اجتهادَ العلماءِ إنَّما اعتبرَ؛ ليكونوا إلى إصابةِ الحقِّ أقربَ، وعن الخطأِ أبعدَ، وذلك موجودٌ في حقِّ المستفتي (¬3) فإنّه إذا تحرَّى الأفقهَ والأعلمَ، كانَ إلى إصابةِ الحقِّ باتباع فتواهُ أقربَ. ومنها: أنَّ معه آلةً يتوصَّلُ بها إلى معرفةِ الأَعلمِ، والأعلمُ إلى إصابةِ الحقِّ أقربُ، فلا يجوزُ أن يعطلَ إعمالَ آلتِه في ذلك (¬4)، كما لا يجوزُ للعالمِ أنْ يعطِّلَ ترجيحَ ما بينَ الأدلَّةِ، وإمعانَ النَّظرِ فيها؛ ليكونَ إلى الإصابةِ للحقِّ أقربَ. ¬

_ (¬1) انظر "التبصرة" (415). (¬2) انظر، المنخول" (479)، و "فوات الر حموت" 2/ 404. (¬3) في الأصل: "المستثني". (¬4) في الأصل: "كذلك".

- فصل في شبه المخالفين

فصل في شبههم فمنها: تعلُّقُهم بقولِه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولم يُفرِّقْ بينَ شخصٍ وشخصٍ، وعالمٍ وعالمٍ، بعدَ أنْ جمعتهم أهليةُ الذكرِ. ومنها: أنَّ مَن جازَ تقليدُه إذا كانَ وحدَه، جازَ تقليدُه وإنْ كانَ معه غيرُه، كما لو كانا متساويينِ. ومنها: أنَّ تجويزَ التقليدِ في الأصلِ إنَّما كانَ؛ لأنَّ تكليفَ التعلمِ لما يصيرُ به مجتهداً مشقةٌ عظيمةٌ معطلةٌ للنّاسِ عنِ المعاشِ والأشغالِ الدنيويةِ، وهذا موجودٌ في تكليفِ اجتهادِ كلِّ عاميِّ لمعرفةِ الأعلمِ؛ فإنه لا طريقَ إلى معرفةِ ذلكَ إلاّ بنوع نظرٍ واستدلالٍ، فوجبَ أنْ لا يُعتبرَ، كما لم يُعتبر أصلُ الاجتهادِ. فصل في الأجوبةِ أمّا الآيةُ، فلا بُدَّ فيها من إضمارِ: مَن عَلِمْتُم عدالتَه مِن أهلِ الذكرِ، وعقلَه وبلوغَه، وذلك بأدلَّةٍ أَوْجبت ذلك، فيُضْمَرُ: من علمتم تَرَجّحَه (¬1) على غيرِه، بما ذكرْنا مِن الدلالةِ في نهى [و] أمَرَ، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"إذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "من حجه".

* فصل لا يخلو عصر من الأعصار من مجتهد يجوز للعامي تقليده

أمَرْتُكم بأمرٍ، فأتوا منه ما استطعْتُم" (¬1). وأمّا إذا كانَ وحدَه تعيَّنَ، فليس (¬2) إذا تعيَّنَ بالوحدةِ، لم يجبِ الاجتهادُ عندَ اجتماع غيرِه معَه؛ بدليلِ الأدلَّةِ والبَيِّناتِ إذا تعارضَتْ، فإنَّ الآياتِ والأخبارَ والبيناتِ يجبُ الاجتهاد للعملِ عندَ تقابلِها؛ إمّا للجمع، أو الأخذِ بالأخصِّ بالحكمِ وإسقاطِ غيرِه، وحكمُ الأَشخاصِ كذلك؛ ولأنَّ الواحدَ ما يخلو من اجتهادٍ في النَّظرِ إلى أحوالِه وخلاله التي تحصُلُ معَها الثقةُ إلى فتواهُ. وأمّا دعوى المشقَّةِ في ذلكَ، فبعيدٌ، لأنَّ المشقَّةَ إنَّما حَصَلَتْ في بابِ تحصيلِ العلومِ الصالحةِ للاجتهادِ، لأنَّها بعيدةُ القعرِ، كثيرةٌ صعبةٌ، تقطعُ الزمانَ على أربابِ الأَشغالِ، فأمّا تميزُ ما بينَ شخصينِ؛ فإنَّ ذلك يحصلُ بالسَّماع مِن أهلِ الخبرةِ بذلكِ. فصل لا يجوزُ خلوّ عصرٍ من الأعصارِ مِن مجتهدٍ يجوزُ للعاميِّ تقليدُه، ويجوزُ أنْ يُولَّى القضاءَ خلافاً لبعضِ المُحْدَثينَ في قولِهم: لمْ يبقَ في عصرِنا مجتهدٌ (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 2/ 548. (¬2) في الأصل: "وليس". (¬3) انظر "المسودة" (472) و "الإحكام" للآمدي 4/ 233.

- فصل في أدلتنا

فصل في أدلَّتنا فمنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ" (¬1)، وأحقُّ الأممِ بالوراثةِ هذه الأُمَّةُ، وأحقُّ الأنبياءِ بإرثِ العلمِ عنه نبيُّ هذه الأُمَّةِ؛ إذ لا نبيَّ بعدَ نبيِّها. ومنها: أنَّ الاجتهادَ طريق لمعرفةِ حكمِ اللهِ في كلِّ حادثةٍ، فلو لم يبقَ مجتهدٌ، لتعطَّلتِ الحوادثُ عن أحكامِ اللهِ، فإنَّ غيرَ المجتهدِ إنما يقولُ حزراً وتخميناً، وذلك ليس بطريقٍ في الشَّرع. ومنها: أنَّه لا طريقَ للعامَّةِ إلاّ التقليدُ، ولا يجوزُ لهمُ التقليدُ إلاّ لمجتهدٍ، فلو خلا العصرُ مِن مجتهدٍ، لا نْقطَع طريقُ الاتباع، والإصابةِ لحكمِ اللهِ، فلا عالمَ يَجْتَهِدُ، ولا عاميَّ يمكنُه التقليدُ معِ فقدِ المجتهدِ، فتبقى الأمَّةُ في الحيرةِ والضَّلالِ، وقد ضمنَ الله سبحانه حفظَ الأمَّة وحراستَها عنِ الضَّلالةِ؛ بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: "أمتي لا تجتمعُ على ضلالةٍ" (¬2). ومنها: أنا أَجْمَعْنا أنَّ الإجماعَ دلالةٌ معصومةٌ قطعيةٌ، وليسَ الإجماعُ إلاّ اتفاقَ أهلِ الاجتهادِ على حكمِ الحادثةِ، فإذا عُدمَ المجتهدُ، عُدِمَ الإجماعُ، [و] أفضى إلى بقاءِ الأُمَّةِ بغيرِ معصومٍ يخلفُ النبيَّ المعصومَ. ومنها: أنَّ التفقّهَ في الدينِ فرض على الكفايةِ، إذا اتفقَ على تركِه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص (121). (¬2) تقدم تخريجه ص (106).

- فصل في شبه المخالفين

الكلُّ، أَثِمُوا كلّهم، وكانوا جاهلينَ كلّهم بحكمِ الحادثةِ إذا حَدَثَت، وكانوا مجمعينَ في تركِهم على ضلالةٍ، وقد أخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ أمتَه لا تجتمعُ على ضلالةٍ، وهذا يعمّ الاعتقادَ والفعلَ، فكما لا بُدَّ مِن مُعتقِدٍ للحقِّ في أُمَّتِه، لا بدَّ مِن طالبٍ للحقِّ، وإهمالُ الاجتهادِ ضلالٌ، وليس بحق، وخبرُ النبيِّ لا يقعَ بخلافِ مُخبَرِه. فصل في شبههم فمنها: أنَّ شروطَ الاجتهادِ قد تَعذَّرَتْ؛ إذ كانت علوماً شّتى، بينَ لغةٍ، وعربيةٍ، وحفظِ كتابِ اللهِ، وسنةِ رسولِه، ومعرفةِ أحكامِ القرآنِ، والحديث، والصَّحيح مِنه والفاسدِ، ومعرفةِ الخاصِّ والعامِّ، والناسخ والمنسوخ، والمطلقِ والمقيَّدِ، ثُمَّ يعرفُ القياسَ، وشروطَه، وصحيحَه وفاسدَه، وغيرَ ذلكَ مِن الأدلّةِ، ويضعُها مواضِعَها، وما يناسبُها فيها مِن الأحكامِ ويُلائمُها، وذلك لا يكمُلُ فيه أحد في عصرِنا على حَسَبِ ما نعرفُه مِن علمائِنا، وتقصُّرِهم عن علومِ السَّلفِ. ومنها: أنْ قالوا: إنَّ العلماءَ اليومَ بينَ محقِّقٍ في النَّظرِ وتشقيقِ المعاني، ليسَ لَه قدم في الكتابِ والسُّنَّةِ، أو محقِّق في الكتابِ والسنة، قاصرٍ (¬1) في القياس، ولا تجتمع علومُ الاجتهادِ [لأحدٍ]، إلاً ويُقَصِّرُ في بعضٍ إذا تفرَّدَ في بعضٍ، فإنْ بَدَرَ مَن يومأُ إليهِ بالتكافلِ، كانَ فاسقاً بمخالطةِ ظلمةِ السَّلاطينِ، وأكلِ الحرامِ، ولبسِ الحريرِ، وغيرِ ذلك مِن الأسبابِ الموجبةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "قاص"

- فصل في الأجوبة

للفسقِ، بخلافِ السَّلفِ الذينَ تَكامَلَتْ أدواتُ الاجتهادِ فيهم، معَ عدالتِهم، وزهدِهم في الدنيا، وعفتِهم، وإذا كانَ ذلك متعذراً بما نعلمُه ونقطعُ بِه، كانَ إثباتُ الاجتهادِ الصّالح للاستفتاءِ، وانعقادِ الإجماعِ، كإثباتِ الرّافضةِ الإمامَ المعصومَ الذي لا نعرفُه، فإجماعُكم الذي تثبتونه اليومَ، كإثباتِ الإمامِ المعصومِ عندَ القومِ، ولا إمامَ لأولئك نعلمُه، ولا إجماعَ، ولا اجتماع لأدوات (¬1) الاجتهادِ في أحدٍ نعرفُه، وإنّما هو مجرد شبهةٍ (2 لأسماء عنها 2). فصل في الأجوبةِ أمّا الأوَّلُ، وتعظيمُ شروطِ الاجتهادِ، وتعدادُها، فلا عاقلَ شَرَطَ لهذا العمرِ القصيرِ، والعلومِ المهولة الكثيرةِ، أن يكون الواحدُ في النحوِ كالخليلِ وسيبويهِ، وفي اللغةِ كالأصمعيِّ وأبي زيدٍ، وفي الفقهِ كأبي يوسفَ ومحمدٍ، أو الأثرمِ والكوسج، أو كأبى القاسمِ الخرَقى في البلاغةِ والجوالةِ في الفقهِ، أو المزنيِّ وابنِ سُرَيج، وفي القراءةِ كابنِ مجاهدٍ، وفي الحديثِ كابنِ معين أو سفيانَ، فضلاً عنِ المشايخ الأكابرِ كأبى حنيفةَ، ومالكٍ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ بنِ حنبل، لكنَّ المأخوذَ على المجتهد معرفةُ ما جمعته كتبُ الفقاءِ في أصولِ الفقه وفروعه منْ معرفةِ الأدلةِ، وذلك لا يقصر ¬

_ (¬1) في الأصل: "ادوات". (2 - 2) هكذا في الأصل.

عنه منتدبٌ للفتيا، ولقد وقفَ الأواخر مِن علوم الأوائل، وما تَجدَّدَ من الحوادث، على ما كادوا يتزيدونَ بهِ على مَنْ قبلَهم، وللسبق حكمُه من الفضل، والغُلوُّ في تعظيمِ الأوائلِ بحطِّ المتأخرين عن مناصبِهم غيرُ محمودٍ في الشَّرع والعقلِ، والعدلُ إعطاغ كلِّ إنسان منزلتَه، فلا يجوز حطُّ الأواخرِ عن منزلةٍ بلغوها، كما لا يجوز إعطاءُ الأوائل منزلةً لم يبلغوها، والحقُّ أحقُّ أنْ يتبَعَ، وقد رأينا مَنْ تقدَّم، لمَّا بقيَ بعضُهم، فتواترت عليه الحوادثُ، وكثرتِ المسائل، تَقَدَّمَ في الفقهِ تقدماً (¬1) فاقَ به مَنْ تقدَّمَه فإذا وُجدَ مثلُ ذلك في عصرنا، لم يجز أن يُحرمَ صاحبُه رتبةَ الاجتهادِ؛ لكونِهِ في عصرٍ تأخرَ عن عصرِ السَّلفِ، وهذا سائرُ العلومِ السَّابقُ والتَّالي فيها سواءٌ، إذا كانَ سالكاً طريقَتَه في العلْمِ، وعاملاً عملَهُ، وسادّاً مَسَدَّهُ، ولا يُحرَم الأواخرُ رتبةَ الأوائل، لمكانِ مجردِ التقدُّم. وأمَّا تعلُّقهم بالفسق، ومخالفة العلم، فلا وجه [له]؛ لأنَّ العَصْرَ لا يخلو من عاملٍ بعلْمِه ونعوذُ بالله أن يُدَّعى أنَّ العصرَ يخلو من عدلٍ، ولئن جازَ دعوى ذلك، وَجَبَ أن يَنسدَّ طريقُ الأخبارِ والشَّهادات، فإنَّ العدالةَ المعتبرةَ في الفتوى، والاجتهادِ الحاصلِ ممن (¬2) ينعقدُ به الإجماع، معتبرةٌ لرواةِ الأحاديث التي عليها تنبني أحكام الشَّريعة، وكما لا يجوز أنْ يقالَ: لا عدلَ تثبتُ به الحقوق، ولا تصحُّ به رواية الأخبار، لا يجوز أن يُقال: لا عدلَ مجتهدٌ تحصلُ به الفتوى، وكما أنَّ الشَّرعَ معنيٌّ بأمرِ الحقوقِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "بعدما". (¬2) في الأصل: "ميمن".

* فصل إذا تورط في معصية لا يمكنه الخروج منها إلا إقلاعا بالقلب، كغاصب الدار، يكون في خروجه منها طائعا

وأخبارِ الديانات؛ لئلاّ تتعطَّلَ، فكذلك (¬1) معنيّ بأمر الفُتيا والتقليد والإجماع؛ لئلا يتعطل هذا الأمرُ العظيمُ الذي تعمُّ حاجة المكلًفينَ إليه، وبه يصلح أمرُ العالمَ. فإن قيل: أليس الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - قد قالَ "إنّ الله لا يَقْبضُ العلمَ انتزاعاً من صدورِ [العباد]، لكن يَقبِضُه بموت العلماءِ، فإذا لَم يبقَ عالمٌ اتخذَ النًاسُ رؤوساً جُهّالاً، فسُئلوا، فأَفْتَوْا بغيرِ علمٍ، فضَلّوا، وأَضَلُّوا" (¬2). قيلَ: وقد روي عن على أنَّه قال: لا تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحجةٍ. وما روي عنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - محمولٌ على طرفٍ من الأطرافِ، أو صُقْعٍ من الأصقاع، أو أرادَ به: قلةَ القومِ، مثل قولنا: لم يبقَ في البلدِ رجلٌ، نعني به: قلَّ الرِّجالُ، [و] قيلَ بحضرة النبي: أُبيدَتْ خضراءُ قريش، فلا قريشَ بعد اليوم، ففهمَ مراد القوم، وهو كثرةُ القتلى. فصل إذا تورَّط في معصيةٍ لا يمكنه الخروجُ منها إلا إقلاعاً بالقلب دونَ تركِها صورةً، مثالُ ذلك: غاصبٌ لدار تمكَّن من سكناها وتَوسُّطِها ابتذالاً واستمتاعاً بعِراصِها، ومستظلاً (¬3) بسقوفِها، ومستنداً (¬4) إلى ¬

_ (¬1) في الأصل: "فذلك". (¬2) تقدم تخريجه 1/ 278. (¬3) في الأصل: "ومستظل". (¬4) في الأصل: "ومستند".

جُدْرانهِا، ومستمتعاً (¬1) بأنواع الاستمتاع بها، عرض له النَّدمُ لتذكرة ونظرٍ أَوْجبَ الندم، وتحقَقَ لَه العزمُ على أَنْ لا يعودَ، فجعلَ يسعى في عَرْصتِها خارجاً، ولرجله ناقلاً، فهل يكون بتحرُّكه فيها آثماً؟ ومثال آخر: دار أو ساحَةٌ فيها جرحى في آخر أرماقِهم، أقدمَ إنسانٌ إلى توسُّطِهم لينظرَ إليهم، فَحَصَلَ على ذواتِهم ساعياً، ثم بلغ إلى جريح متوسِّطٍ، فظلَّ عليه واقفاً، ثمّ عرضَ له الندمُ على حصوله، وعلى ما تقدَّم مِن تنقُّلِه حالَ دخولِه، ووطئِه لواحدٍ منهم بعدَ واحدٍ، وعَزَمَ أنْ لا يعاودَ إلى مثلها، فهل ينفعُه ندمُه في إزالةِ مأثمِ المقامِ على جسدِ ذلك الجريح؟ وما الحيلةُ له؟ وهل يحصل له زوال المأثمِ بالتوبةِ قبلَ الخروم، أو يكونُ على الذنب مُصِرّاً وبه متلبِّساً؟ اختلف الناسُ في ذلك: فقالَ قومٌ من المعتزلةِ وغيرهم من المتكلمين: لا تصحُّ له توبةٌ، وهو على ما تَصرَّفَ وتَحرَّكَ في الدارِ المغصوبةِ، وفي لبْثِه على الجريح، عاصٍ مُصِرٌّ لا توبةَ لَه (¬2). وقالَ قومٌ: بل تصحُّ توبته، ولا تقفُ صحَّتُها على مفارقةِ المكانِ، ولا مَشيه وسَعْيُه في عَرْصةِ الدارِ الغصبِ خارجاً عصياناً (¬3) بلْ هو معَ الندمِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ومستمتع". (¬2) انظر "البرهان" 1/ 298 وما بعدها، و"المنخول" (126) وما بعدها. (¬3) في الأصل: "عصيان".

- فصل في أدلتنا

والعزمِ تارك مقلعٌ، وهو الصَّحيحُ عندِي (¬1). فصِل في أدلّتِنا فمنها: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على وجوبِ التوبةِ، والخطابَ منصرفٌ إليهِ في تحصيلِها، والنهي عن الإصرارِ على ما أقدمَ عليهِ مِن المعصيةِ والحوبة (¬2)؛ بدخولِ الدارِ والسَّاحةِ على الصِّفةِ المذكورةِ، وهي المخالفةُ لأمرِ الشَّرع ونهيهِ، وكلُّ مخاطبٍ بطاعةٍ فلا بُدَّ لَه مِن حصول شرطِها، وشرطُ التوبةِ بعدَ تَقدُّمِ الندمِ على الماضي، والعزمِ في المستقبلِ: التركُ، وإخراجُ المظلمةِ؛ إمّا برضا المظلومِ، أو التوصُّلِ إلى إزالةِ الظُّلمِ عنه، ولا طريقَ لمفارقةِ الذنب ها هنا -وهوَ الكونُ في المكانِ- إلاً بمفارقتِه، ولا تتحققُ المفارقةُ للمكانِ إلاَّ بقطع الأكوانِ في مساحةِ الدارِ كوناً بعدَ كونٍ كما يتخلصُ إذا تجدَّدَ الحَدَثُ (¬3)، بأنْ كانَ في مسجدٍ، فأجنبَ، وحرمَ عليه اللّبثُ؛ فإنه يخرجُ، ولا يلبثُ، وما خروجُه إلاّ كصورةِ لبثِه؛ في كونِ إشغالِ عرصةِ المسجدِ به معَ حدثِ الجنابةِ، وكذلك مَن كانَ في دارٍ على وجهِ الاستعارةِ من مالكَها، فانتقلتْ إلى غيرِه بأمر حقٍّ واجبٍ، صارَ كونه فيها بعد الانتقالِ إلى ذلك الغيرِ ومقامُه عصياناً، ثمَّ لا يكونُ ¬

_ (¬1) انظر "تيسير التحرير" 2/ 219، و"الأصول" للسرخسي 1/ 81. (¬2) الحوب والحو بة: الإثم. (¬3) في الأصل: "الحق".

بخروجه، وقطع عَرْصتِها خارجاً، عاصياً، بل متخلِّصاً وتاركاً، وكذلك مَن طلَعَ الفجرُ عليهِ وهو مخالطٌ لأهلِه نَزَعَ، وإنْ كانَ النَّزعُ تصرُّفاً في الفرج بعدَ طلوع الفجرِ، لكنْ لمّا كانَ بتصرُّفِه تاركاً، خرجَ عن كونِه آثماً، وكذلك غاسلُ الطيبِ عن ثوبهِ وبطنِه وظهرهِ بيدهِ، هو مُطيِّبٌ لها، لكنْ لمّا كانَ قصدُه الإزالةَ، لم يُعَدَّ بالغسلِ باليدِ مطيِّباً لليدِ، كما لم يُعَدَّ واطِئاً بالنًزع لذَكَرِه من الفرج [فلا خلاف] في الإثم، وإنِ اختلفوا في التكفيرِ، فما اختلفوا في معنى التأثيمِ. فإنْ قيلَ: هو الذي ورَّطَ نفسَه، وأَلْجأَها إلى التصرُّفِ في مِلكِ (¬1) الغيرِ، والوقوفِ على الجريح، والنَّدمُ في قلبِه لا يُزيلُ الإصرارَ المحسوسَ بتصرُّفِه في دارِ المغصوبِ منْهُ، وذات المجروح، فصار كالاعتذار من الجاني إلى غير المجني عليه، وكُلُّ ما يتجدَّدُ مِنَ التصرُّفِ، فهو الذي أحوجَ نفسَه إليهِ، وهذه جناياتٌ مبتدأةٌ، فلا تغني التَّوبةُ معَ بقائها؛ لأنَّها ندمٌ معَ ملابسةٍ، وذلك عينُ الإصرار. وفارق حدوث الجنابةِ على مَن دخلَ المسجدَ غيرَ مُحدِثٍ، ودخلَ دارَ الغيرِ وهو مالكٌ؛ لأنَّ الحدثَ تجدَّد، وملكَ الغيرِ تَجدَّدَ، وما سبقَ منه فعل منهيٌّ فاستَدامَه، وها هنا سبقَ منه الغصبُ، والدُّخولُ إلى الجرحى مقتحماً للنهي، فجميعُ ما يتوالى من دوامه فهو عصيانٌ صورةً ومعنى، فلا سبيلَ إلى صحَّةِ التوبةِ إلاّ بعد زَوالِه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "تلك".

فيقال. هذا جميعُه لم يمنع اتجاهَ الأمرِ بالتوبةِ إليهِ، ومفارقةِ ما هو عليه بحسبِ إمكانِه، وإذا كانَ مأموراً، كانَ التخلُّصُ بكونِه متصرِّفاً في الدارِ مغفوراً، إذا كانَ تصرُّفُه للتخلُّصِ منَ الظُّلم، وإخلاءِ الدارِ من جثتِه، ولا يمكنُه ذلك إلاْ بشيءٍ يكونُ به مفرغاً (¬1) للدارِ عن جثَّتَه (¬2)، وعن شغلِها بجسمِه، ولهذا لو طيَّبَ المحرمُ عضواً عَمْداً، كانَ عاصياً، فلو ندمَ، وجعلَ يغسلُ الطيبَ بيدِه قاصداً لإزالتِه، لم يُعَدَّ متطيِّباً، ولو غصبَ عيْناً منَ الأعْيانِ، ثم نَدِمَ، وشَرَعَ في حملِها على رأسِه معتذراً إليهِ بعدَ اعتذارِه إلى اللهِ، لم يخرج عنْ كونِه تائباً بذلك النقلِ، وإنْ كانَ تصرُّفاً، وكذلك إذا جعلَ يُرسلُ (¬3) الصَّيدَ مِنَ الأَشْراكِ في الإحرامِ أو الحرمِ، كانَ بذلكَ طائعاً لا عاصياً، إلاّ أنَّ الضَّمانَ باقٍ إلى أنْ تحصلَ العينُ المغصوبةُ في يدِ المغصوبِ منه (¬4)، ويحصلَ الصَّيدُ ممتنعاً بنفسِه طائراً في الفضاءِ، أو شارداً في العراءِ؛ لأنَّ الضَّمانَ لا يقفُ على الإثمِ، ولا يتبعُ الإثمُ الضمانَ بدليلِ المخطئِ والنًائمِ، وكذلك الرَّامي بالسَّهمِ إذا خرجَ السَّهمُ عنْ محلِّ قدرتِه، فندمَ، سقطَ المأثمُ، وبقيَ الضَّمانُ، وكذلك إذا جرحَ، وتابَ والجرحُ مارٌّ (¬5)؛ إمّا إلى السِّرايةِ، أوِ الاندمالِ، صَحَّتْ توبتُه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يعرعاً". (¬2) في الأصل: "حشيته". (¬3) في الأصل: "يسرسل". (¬4) في الأصل: "الغاصب". (¬5) في الأصل: "مارا".

فإنْ قيلَ: لا نُسلِّمُ هذا جميعَه، بلْ كلُّ أثرِ معصيةٍ معصيةٌ إلى أنْ يَزولَ، وتعْقُبَه التوبةُ، وقدْ جاءَ في السُّننِ ما يشهدُ لهذا المنع، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ سنَّ سنَّةً سيِّئةً كانَ عليه وِزْرُها، ووزرُ مَنْ يعملُ بها إلى يومِ القيامةِ" (¬1) ووردَ في الخبرِ: أنّ الداعيَ إلى البدع إذا تابَ، قيلَ لَه: وكيف بمنْ أضللْتَ (¬2)؟ وعن ابنِ عباسٍ في القاتلِ: وأنَّى لَه التَّوبةُ (¬3)؟ وإنَّما قالَ ذلك في القتلِ، لأَنَّه أثرٌ لا يمكنُ تلافيهِ بالإزالةِ. قيلَ: إذا لم تُسلِّم، دلَّلْنا عليه بأنَّنا أَجْمَعْنا على أنَّ الحاصلَ في دارِ الغيرِ غصباً مأمورٌ بالخروج عنها، فإذا ثبتَ أنَّه مأمور، فخروجُه طاعةٌ لأمرِ اللهِ، فلا يجوزُ أنْ يكونَ معصيةً وهو حركةٌ واحدةٌ، فيكون بها طائعاً منْ حيثُ كانَ تاركاً، عاصياً مِنْ حيثُ كانَ في الدارِ ساعياً؛ إذْ لا يجتمعُ النًقيضانِ للفعلِ الواحدِ، وبهذا المعنى مَنعْنا صحَّةَ الصَّلاةِ في الدّارِ المغصوبةِ، وحَكَمْنا بإبطالِها، حتى لا تجتمعَ الطّاعةُ والعصيانُ في كونٍ واحدٍ. فإنْ قيلَ: فذاكَ هو الحجَّةُ [عليكم]؛ لأنَّكم غلَّبتُم المعصيةَ على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 3/ 224. (¬2) أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة": (287)، ورواه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" 28 - 29، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 16/ 23 - 24، وقال: إنه من إلاسرائيليات. (¬3) أخرجه أحمد (1941) و (2142)، والترمذي (3029)، وابن ماجه (2621)، والنسائي 7/ 85 و 8/ 63.

الطّاعةِ، فأبطلتم الصَّلاةَ؛ لكونِه لابثاً في الدارِ المغصوبةِ، فأَبْطِلوا ها هنا التوبةَ، وأوقِفوا صحَّتَها على مفارقةِ الدّارِ، كما أَوْقَفْتُم صحَّةَ صلاتِه على الخروج منِ الدّارِ، وإنْ كانَ الشَّرع يأمُرُه بالصَّلاةِ لا سيَّما عندَ ضيقِ الوقتِ، كما يأمُرُه بالخروج ها هنا، ثُمَّ أَسْقَطْتُم حكمَ الأمرِ، وغلَّبتُم الحظرَ، فوجبَ أنْ تُغلبوا الحظرَ ها هنا على الأمرِ بالخروج، ولا يقعُ الخروج طاعةً، وإنْ كانَ مأموراً بِه. قيلَ: الأمرُ بالصَّلاةِ مشروطٌ بالبقعةِ الحلالِ، فلم تَحصُلْ طاعة إلاّ بالخروخ عنِ الغصبِ، وها هنا الطّاعةُ المأمُورُ بها فهي نفسُ الخروج، ولا يجوزُ أنْ يقعَ الخروجُ مشروطاً بأنْ لا يكونَ في العَرْصةِ ساعياً، وفيها ماشياً، بلْ يكونُ مشروطاً بأنْ لا يكونَ مُصِرّاً، ولا قاصداً للمقامِ والتصرفِ، ألا ترى أنه يحسُنُ أنْ يقالَ: صلِّ بشرطِ أنْ لا تكونَ غاصباً لمكانِ الصَّلاةِ، ولا يحسُنُ أنْ يقالَ: اخْرُجْ منَ الغصبِ ولا تَكُنْ في الغصبِ ساعياً، فلا يبقى ما يدخلُ تحتَ الإمكانِ إلاّ تغييرُ قصدِه، فأمّا تغييرُ مكانِه، فلا. [و] لو قيلَ في الصَّلاةِ في البقعةِ المغصوبةِ: إنها كمسألتنا، لم يَبْعُدْ، فهو أنَّه لو غصبَ داراً، فحبَسَه فيها غيرُ (¬1) مالِكها، ومنعَه من الخروج، فإنه إذا ندمَ وأقلعَ، ثُمَّ صلّى، صحَّتْ صلاته، وإنْ كانَ مصلِّياً في نفسِ المكانِ، لكنْ لمّا زالَ الإصرارُ، وحصلَ الندمُ والإقلاعُ، صحَّتِ الصَّلاةُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن".

بحَسبَ الإمكانِ. فإن قيلَ: هذا حكمُ الدارِ المغصوبةِ، فما قولُكم في حصولِه في السَّاحةِ المستوعبةِ بالجرحى، إذا حصلَ على واحدٍ منهم، وندمَ، ما الذي يصنعُ؟ قيلَ: لا يجوزُ أنْ ينتقلَ إلى آخرَ قولاً واحداً؛ لأنَّه يحصلُ مبتدئاً بالجنايةِ على ذلك الإنسانِ، كما لو سقطَ مِن غيرِ اختيارِه، فحصلَ سقوطُه على واحدٍ، لم يَجُزْ عنْدَنا جميعاً أنْ ينتقلَ؛ لأنَّ الأوَّلَ أصابَتْهُ محنة لم يكن للساقط عليه فيها صنعٌ، وإذا أراد الانتقال إلى الغيرِ، صارَ مبتدئاً بالجنايةِ، فيقفُ مُتندِّماً (¬1) مُتمنِّياً أنْ يُخلَقَ له جناحانِ يطيرُ بهما، أو يَتدلَّى لهُ حبلٌ يَتشبَّثُ به، فإذا علمَ الله منه ذلك، كانَ ذلك غايةَ جهدِهِ، وصارَ بعدَ ندمِه كحجرٍ أَوْقعَه الله على ذلك الجريح، وقد قالَ الفقهاءُ مثلَ ذلك فيمن كانَ في مركبٍ، فرماهُ أهلُ الحربِ بالنَّارِ، فإن علمَ بأنه ينجو بإسقاطِ نفسِه إلى البحرِ، أو غلبَ على ظنِّه السَّلامةُ بذلك، وجبَ عليه الرَّميُ بنفسِه ليقيَها من العطبِ، وإنْ غلبَ على ظنِّه السَّلامةُ معَ المقامِ في المركبِ بتلافي النارِ وإطفائِها، حَرُمَ عليه طرحُ نفسِه في البحرِ، وإنْ تساوى الأمرانِ في تجويزِ السّلامةِ، تخيَّرَ، وإنْ تساوى الأمرانِ في تحقّقِ الهلاكِ، وقف ولم يَتحرَّكْ، حتى لا يكونَ شارعاً في إهلاكِ نفسِه، فلأن يموتَ مغلوباً على هلاكِ نفسِه، وليسَ ذلك فِعْلَه، أَوْلى مِنْ أنْ يشرعَ في فعلٍ يكونُ فيهِ وبِه مساعداً على هلاكِ نفسِه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مبتدباً".

ومنها: أنَّه أتى بالمأمورِ بحسبِ إمكانِه، فلا يكونُ عاصياً، كما لو ضربَ ساقَه، فعجزَ عنِ الصَّلاةِ قائماً، أو ضَرَبَتْ بطنَها، فنَفِسَت وأَجْهضت ذا بطنِها، فإنه يجعل ذلك بمثابةِ ما كانَ الأمران جميعاً منْ قِبَل غيرِهما، في سقوطِ الصَّلاةِ عنِ النّفَساءِ، والقيامِ عنِ المَكسورِ السّاق، كذلك السَّعيُ في السّاحةِ بعدَ التوبةِ قصداً للخروج طاعةٌ، فلا يجوزُ أن يُجعَلَ معصيةً معَ كونِه خرجَ بحَسَبِ إمكانِه. ومنها: أنَّ إخراجَ نفسِه منَ الغصبِ قاطعاً بها كوناً بعدَ كونٍ، وهُويّ اليَدِ في مِلْكِ المغصوبِ منه، ليسَ بأكثرَ مِنْ حملِ العينِ المغصوبةِ لرَدِّها (¬1) على مالكِها قاطعاً بها كوناً بعدَ كونٍ وهىٍ (¬2) في يدِه على الصُّورةِ التي كانت، ثم مرورِه بها إلى دارِ صاحبها، نادماً على ما سبقَ منَ الغصْبِ، عازماً على أنْ لا يعاودَ غصبَها، ولا غصبَ غيرِها، وذلك محضُ الطّاعةِ الى لا يَشوبُها عصيان، كذلك الخروجُ بنفسِه منِ البقعةِ المغصوبةِ. فإنْ قيلَ: لا نُسلمُ، بلْ حكمُه حكمُ الغاصبِ في المأثمِ، إلى أنْ تزولَ يدُه إلى يدِ المالكِ، كما تقولُ الجماعةُ في الضَّمانِ لها، وإنْ كانَ حاملاً لها إلى (¬3) مالكِها، ولم يبرأ منْ ضمانِها، كذلك نقولُ نحنُ في مأثمِ الغصبِ. قيلَ: لا بقاءَ للمأثمِ بعد ما رضيَه الشَّرعُ معذرةً وتوبةً، فقال: "التوبة ¬

_ (¬1) في الأصل: "كردها". (¬2) في الأصل: "وهو". (¬3) في الأصل: "على".

تَجُبّ ما قبلَها" (¬1)، كما لا بقاءَ لسيئةٍ معَ الإيمانِ بعدَ الكفرِ؛ لقولِه: "الإسلامُ يجبُّ ما قبلَه" (¬2)، وبابُ الضَّمانِ لا يُقارِب المأثمَ؛ بدليلِ أنَّ المبتدئ بإتلافِ المالِ على وجهِ الخطأِ أو الجهلِ لا يأثمُ بِه، وإنْ كانَ ضامناً معَ الجهلِ والخطأِ، والذي خاطَبَه الشرعُ بِه منَ التوبةِ، وأحبطَ به الماضي، لم يَكُنْ إحباطَ الماضي مِنَ الذنوبِ بالمستقبلِ منَ التوبةِ إلاّ لأَنَّ العملَ (¬3) الماضيَ، والواقعَ الفارطَ، لا يمكنُ تلافيهِ بأمرٍ يعودُ إليه، لكنْ بندمٍ على وقوعِهِ، وعَزْمٍ في المستقبلِ أنْ لا يعاودَ إلى مثلِهِ، ولا علَّةَ في قبولِ التوبةِ، وإحباطِها لما سبقَ، إلاَّ هذه العلةُ، وهوَ أَنَّه لا يمكنُه تغيير ما وقعَ وسبقَ، ولا إزالةُ ما سلفَ، وهذا في الحاصل في عَرْصةِ الجرحى والغَصْبِ ممتنعٌ استدراكُه بعدَ حصولِهِ، منْ طريقِ إزالةِ دوامِ كونِهِ في السَّاحةِ والدارِ المغصوبةِ، فلا يبقى لَة فيه حيلةٌ، فيصير في استحالةِ التلافي كالماضى منَ الأعمالِ القبيحةِ، ويبقى ما (¬4) امرَ بهِ منَ التوبةِ ندماً وعزماً على ترك المعاودةِ، ماحياً لمأثمِ دوامِ كونِهِ صورةً ممثلةً، كما محًتِ التوبةُ ما قدْ كانَ منَ الأعمالِ، وخرجَ إلى الوجودِ منها، وكما صارَ بالتوبةِ ما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 188 - 189 من حديث شداد بن أوس، بلفظ: "التوبة تغسل الحوبة". (¬2) أخرجه أحمد 4/ 199و 204 و 205، وابن سعد في "الطقات" 7/ 394 - 395، والبيهقي في "دلائل النبوة" 4/ 351، من حديث عمرو بن العاص الطويل في قصة إسلامه. (¬3) في الأصل: "العل". (¬4) في الأصل: "بما".

- فصل في متعلق المخالفين وشبههم في ذلك

كانَ، كأنَّه لم يكنْ، وَآثار (¬1) ما سبقَ منْ فعلِهِ تتخلدُ بمن قتلهم، صرعى في الصحراءِ تأكلهم العافِية (¬2)، أو في لحودهم وقبورهم، وآثارُ أفعالِه في تَخريبِ الأبنيةِ، وإحراقِ العروش، وقلع الغروسِ، وقطع الأعضاء، والمسألة التي أوقعَها في المظلومين مِنَ الأحياءِ يرون بها أنفسَهم بينَ الأَصِحّاء، فهذه آثارُ الأفعالِ باقيةٌ، وتوبتُه منْ ذلكَ لجميع ذلكَ ماحيةٌ، كذلكَ نفيُ كونِه بعدَ التوبةِ في هذهِ الساحةِ التي أمرَ بالتوبةِ منْ أصلِ الفعلِ، يكونُ كوناً وشغلاً صورَةً، ويسقطُ المأثمُ حكماً، كما كانتْ تلكَ الاَثارُ باقيةً صورةً، وتَنْمَحى بالتوبةِ حكماً، والعلةُ تجَمعهما (¬3)، وهيَ عدمُ القدرةِ على إزالةِ ما وقعَ إلا بما أتى بهِ منَ الندمِ والعزمِ استدراكاً، كذلكَ ها هنا، فلا فرقَ بينَهما، فصارَ الكونُ والشغلُ الحاصلُ في الحالِ كالفعلِ الماضي؛ حيث لا تدخلُ تحتَ القدرةِ إزالتُه، وصارتِ التوبةُ ماحيةً لمأثمِ الأثرِ الماضي، وهذا الأثرِ الباقي. فصل في متعلقِهم وشبههم في ذلكَ فمنها: أنْ قالوا: إنَّ الأفعالَ مبتدأ" ومستدامةٌ، ثمَّ إنه لا توبةَ معَ المبتدأَةِ من الأفعالِ؛ كالقتلِ، والشربِ، والزِّنى، كذلكَ لا توبةَ معَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وآثام". (¬2) أي السباع الطالبة للطعام. (¬3) في الأصل: "تجمعها".

استدامةِ ذلكَ، وهل الاستدامةُ إلاَّ الفعلَ بعينه (¬1)، لكنَّه امتدَّ بمعنى مضى عليه زمان بعدَ زمانِ، وهوَ في سعيِه في الدارِ الغَصْبِ خارجاً، كسعيِهِ فيها داخلاً صورة، وهوَ فَعل بنِيَ على التَّغَلُّبِ والتعدي، فلا وجهَ لصحَّةِ التوبةِ معَ بقائِهِ ودوامِهِ. فيقالُ: نحنُ قائلونَ بموجب هذا الدليلِ، وأنَّ الدوامَ كالابتداءِ، لكنْ مَنْ يُسلِّمُ لكمْ أنَّ السَّاعيَ للخروج والتركِ، والخالعَ للثوبِ الغصبِ للتعرِّي عنْهُ وترك اللبسِ، معَ ندمِهِ على ما ابتدأَ، وعزمِه على أَنْ لا يعودَ إليهِ أبداً، يكونُ مستديماً؟! بلْ يجبُ أن نحقِّقَ ما الذي كانَ به آثماً وعاصياً في الابتداءِ، وهلْ كانَ إلاَّ الدخولَ بقصدِ الاستعلاءِ، ورفع اليدِ المُحِقَّةِ، وإثباتِ اليدِ المبُطِلَةِ؟ فلو لم يكنْ بهذه النيةِ، بل كانَ غيرَ عالمٍ، أوْ كانَ مغروراً به (¬2)، أو (¬3) كان مأذوناً لَهُ في ذلكَ، لم يكنْ عاصياً ولا آثماً، فإذا زالَ ذلكَ في الدوام، عُدِمَ الغَصْبُ بعدمِ القصدِ، وهل هوَ مأمورٌ بالتركِ والنّزوع، أم لا؟ فمن قولكم: بل هوَ مأمورٌ بالخروج، منهيٌّ عَنِ المقامِ، فيقالُ: فإذا امتثلَ الأمرَ، ونزعَ عَنِ الغَصْبِ بغايةِ الإمكانِ، كيفَ يقالُ: إنَّه مستديمٌ للغصبِ؟! وهل بقيَ بعدَ الندمِ والعزمِ إلاَّ صورةُ الفِعلِ؟! وهي صورةُ التركِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لعينه". (¬2) في الأصل: "بها". (¬3) في الأصل: "و".

ومنها؛ أنْ قالوا: إنَّ غصبَ الملكِ حقٌّ لآدمي، والتصرُّفَ فيهِ حقٌّ لَهُ، فإذا تابَ، فقدِ اعتذرَ إلى غيرِ مالكِ المجنيِّ عليهِ، فلا تسقطُ المعتبة واللائمةُ مِنْ جهةِ صاحبِ الحقِّ، كما لو جنى على شخصٍ، ثُمَّ اعتذَر إلى غيرِهِ، فإنَّه لا يؤتر في حقهِ، كذلكَ هاهنا. فيقالُ: الله سبحانَة لَمَّا (¬1) أذنَ للغيرِ في أكل مالِ الغيرِ عندَ الضَّرورةِ، سقطَ حكمُ المأثمِ بالإذنِ من جهةِ اللهِ، وبقىَ الضَّمانُ للآدمي، فحسُنَ أَنْ تكونَ التوبةُ تلافياً يرجعُ إلى اللهِ سبحانَهُ، فتزيل مأثمَ التعدي، والبارئ هو المالك في الحقيقة، والآدمىُّ مستخلفٌ في المال، قال سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الأعراف: 129]، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165] فلا يُجعلُ الاعتذارُ للهِ (¬2) سبحانَهُ كالاعتذارِ إلى بعضِ الخلقِ عن جنايةٍ أوقَعها بغيرِه، ولهذا أعنا على أنَّه إن لم يَتُبْ ويَنْدَمْ ويَعمَلْ على تركِ المعاودةِ، كان عاصياً، ووقعَ الخلافُ على صورةِ الفعلِ بعدَ التوبةِ، وأَجْمَعْنا على أنَّه لا يجبُ التنصلُ والاعتذارُ إلى غيرِ المالكِ مِنْ آحادِ الآدميينَ. ومنها: أنْ قالوا: اليدُ ثابتةٌ، والتصرُّفُ حاصلٌ، والضَّررُ بتأَخّرِ تسليمِهِ، وتَمْكينِ المالكِ منْهُ، واقع، فلا معنى لإزالةِ المأثمِ معَ وجودِ سببِهِ ودوامِهِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لو". (¬2) في الأصل: "الله".

* فصل لا يجب شكر المنعم بالعقل، بل لا يجب إلا بالسمع

فيقالُ: صورةُ الفعلِ قدْ قابَلَها بقاءُ الضمان الذي هو غرضُ المالكِ، وبه تحصلُ إزَالةُ (¬1) الضررِ عنْهُ، فأمَّا المأثمُ فهوَ مقابِلٌ للعصيانِ، والعصيانُ يُزِيلُه (¬2) الاستغفارُ والندمُ والعزمُ المأمورُ بهِ منْ جهةِ اللهِ، ولو وُجِدَ مثلُه في حقِّ الآدميِّ، سقطَ الضمانُ، وهوَ الأمرُ منَ المغصوبِ مِنْهُ إذا صدرَ إلى الغاصبِ: أمسكِ العينَ لي واحْفَظْها، أو احْمِلْها إلى موضع كذا، أو اجْعَلْها في موضعٍ كذا، أو سلِّمْها إلى فلانٍ -شخصٍ عيَّنهُ-، فإنَّ حقَّه منَ الضمانِ يسقطُ؛ لأَنه يصيرُ لأجلِ ذلكَ ممتثلاً، فحقُّ اللهِ يسقط؛ إذْ صارَ بالتوبةِ ممتثلاً. فصل لا يجبُ شكرُ النعمِ بالعقلِ، بلْ لا يجبُ إلا بالسمع، خلافاً لكثيرٍ منَ المتكلمينَ المعتزلةِ (¬3) في قولِهمْ: يجبُ عقلاً (¬4). والفائدةُ في ذلكَ: أَنَّه إذا لم يَشكر، حَسُنَ تعنيفُه وتأنيبُه، وهوَ نوعُ عقوبةٍ. فصل في الدلائلِ على ذلكَ فمنها: أن المحسنَ لا يخلو: إما أنْ يكونَ بإحسانه متبرعاً، أو كانَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ازلة". (¬2) في الأصل: "مزيله". (¬3) في الأصل: "للمعتزلة". (¬4) انظر "البرهان" 1/ 94 وما بعدها، و "المنخول" 14.

إحسانه واجباً؛ فإنْ كانَ واجباً، لم يَجِبْ شكرُهُ؛ لأَنَّ الواجبَ، كقضاء الدَّينِ، ورفع المضرَّةِ عنِ الغيرِ، وكفّ الأذى عنْهُ، والعقلاءُ يقبِّحونَ شكرً الإنسانِ على أَنه لم يؤْذِهم في مالٍ ولا نفسٍ، فلو قالَ قائل: قوموا بنا نَشْكر فلاناً؛ كيفَ لم يَنهَبْ أموالَنا، ولم يَحرِق منازلَنا، ولم يحرقْ ثيابَنا، لاستُهجِنَ ذلكَ، [و] حيثُ كانَ كفُّ الأَذى واجباً، قَبُحَ الشُّكر عليهِ، كذلكَ قضاءُ الدَّينِ لمَّا كانَ واجباً، لمْ يجبِ الشُّكرُ عليهِ، بلِ استُهجنَ الشُّكرُ عليهِ. وإنْ كانَ بإحسانِهِ متبرِّعاً فإيجابُ (¬1) الشكرِ كإيجابِ دفع العوضِ، فإنَّ الشُّكرَ يقعُ عوضاً، كما أنَّ ذمَّ المسيءِ يقعُ عقوبةً، ولهذا جعلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كالاستيفاءِ لبعض الحقِّ، والتخفيفِ عن المُجرِمِ، فقالَ لعائشةَ لما ذَمت، ودَعَتْ على سارقِ غزلِها: "لا تُسَبِّخِي عنه" (¬2)، قال أبو عبيد (¬3): يعني تُخففي عنه. ومتى وجبَ الشكرُ على إحسانِ المتبرع بهِ، خرج عن كونِهِ إحساناً، وصارَ عوضاً وتجارةً، ومَنْ ندبَ نفسَهُ لبيع الأموالِ طلباً للأثمانِ، ومَنْ تَنوَّقَ في المأكولاتِ لبيعها كالهراسِ والمراقِ والحلاوي، لمْ يُعَدَّ محسناً، بل تاجراً وطالباً للأثمانِ، كذلك من أَحْسَنَ وأَوْجب (¬4) أن يُقابل، صارَ بالإيجابِ لمقابلتِه تاجراً، وخرجَ عنْ تَمحُّضِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فانجاف". (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 348، وأبو داود (1497) و (4909)، والبغوي في "شرخ السنة" 5/ 154. (¬3) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي 1/ 33. (¬4) في الأصل: "تجب".

- فصل في شبه المخالفين

الإحسانِ، فهذا بحَسَبِ (¬1) هذا القبيل، ولهذا قالَ العلماءُ منْ أهلِ السنةِ: لا يجبُ على اللهِ شيء لخلقِهِ، إذْ لو وجب عليهِ، لما وجبَ شكرُه؛ كقاضي الدَّيْن، فعلى هذا الأصلِ نبني، وإليهِ نذهبُ، وقالَ الحسنُ بنُ علي وقد سئل: لمَ تُحرِّمُ الزيادةَ في قضاءِ القَرْضِ؟ قالَ: لئلا يصيرَ الإنفاقُ والمكارِمُ تجارةً. فبقصدِ هذا النحوِ فإنه يستحيلُ العنى. ومنها: أنَّه لو وجبَ الشكرُ على الإحسانِ عقلاً، لوجبتِ العقوبةُ على الإساءةِ عقلاً، ولو وجبَ ذلكَ، لكانَ العفوُ قبيحاً، وفي إجماعِنا على أن العفوَ حَسَن عن المسيءِ، فيجبُ (¬2) أنْ لا يكون تركُ الشكرِ قبيحاً، ولو كانَ الشكرُ واجباً، لكانَ تركُه قبيحاً. فصل في شُبهِهم فمنها: أنَّ العقلاَء أجمعوا على إيجابِ برِّ الوالدينِ، وشكرِ الخالقِ، معَ كونِهِ عنِ الشكرِ غنياً، والوالدان أحسنا إشفاقاً وطبعاً، ومداواةً لقلوبِهما منْ ألمِ الرِّقةِ على الأولادِ، والحنوِّ الذي طُبعا عليهِ في أصلِ الإيجادِ. فيقالُ: إنَّ شكرَ اللهِ وجبَ شرعاً، وإلأَ فما كُنَّا نهتدي إلى أصلِ شكرِهِ، فضلاً عن إيجابِهِ؛ لأنَّنا غاية ما أعطانا العقل منه: أَنه ثابتٌ بحكمِ صناعتِهِ لهذهِ المصنوعاتِ، والعقلُ الذي دلَّنا على أَنْه صانع، أرشدَنا منْهُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "تحتل". (¬2) في الأصل: "يجب".

على أَنهُ فائضُ الجود بعدَ الإيجادِ، لا ليقابلَ بالشكرِ، ولا نعلمُ أنَّه بالعقلِ على صفةٍ يُؤثِّرُ عندَهُ الشكرُ منا؛ لِما دلَّ عليهِ العقلُ منْ أنَّه غنيٌّ أفاضَ لا ليعتاضَ، وأعطى لا ليأخذَ، ونَفَعَ لا ليُقابلَ، فلمَّا جاءَ الشرعُ بإيجابِ (¬1) الشكر انسَبَكَ منَ الشكرِ أنَّه نفع لنا، لِمَا يعوضُنا عليهِ منَ النفع الدائمِ، فصارَتْ تجارةً لنا، فأكسبناها غنى الأبد للعمرِ السَّرمدِ الخالص منْ كلِّ كَدَرٍ، ولا أنَّ إحسانه -إنْ أوجب العقلُ، أو جوَّزَ إعادةَ الخلقِ- موقوفٌ على الشكرِ منا، ولا عندَ العقل خبرٌ عَنْ شكرِهِ، ولا كيفيةِ شكره، بل ليسَ عندَ العقلِ سوى العلم بأنهُ لا نعمةَ إلا منْهُ، إذْ لا فعلَ صدرَ إلاّ عنْه من ضرٍّ ونفع، وما صدرَ عنْهُ سبحانه منَ المَضارِّ وسلبِ المنافع بأوجع سلب يَمْنعُ العقلَ مِنْ أنْ يحكمَ على أفعالِهِ بأنّها لعنى استدعاءِ الشكرِ، فغايَةُ ما في قوى العقلِ: أنْ يعلمَ أنَّه الفاعلُ للمنافع لا لمعنى (¬2) يعودُ إليهِ نفعُه، ولا لاستدعاء شكرٍ، لأنَّ الشكرَ مِن قبيلِ الجدوى والفائدةِ، والله سبحانَهُ بالعقلِ منزهٌ عن ذلكَ، وإنما تلقينا ذلكَ مِنْ قِبَلِ الشَّرع، حيثُ قالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومنْ حيثُ استدعى منا على ألسنةِ الرُّسلِ صلواتُ اللهِ عليهم أعمالاً مخصوصةً، وصرَّحَ بأنَّها قرباتٌ إليهِ، وطاعاتٌ لَهُ. وكذلك بِرُّ الوالدينِ علمْناهُ شرعاً، ثمَّ لو فرقَ بينَ برِّ الوالدينِ وشكرِ اللهِ سبحانَهُ، لَساغَ، وذلكَ أنَّ الشُّكرَ وُضِعَ تقرباً إلى المنعِمِ، ومقابلةً على ¬

_ (¬1) زاد في الأصل هنا بعد قوله: "بإيجاب": "شرع بإيجاب". (¬2) في الأصل: "معنى".

إحسانِهِ المُبتدأ بالإحسانِ إليهِ بشكرِهِ، والأصلُ فيهِ مقابلة نفعٍ بنفعٍ وإحسانٍ بإحسانٍ، وهذا لا يقعَ إلاَّ من اثنين، يلحقُ بكلِّ واحدٍ منهما الانتفاعُ، ألا ترى أنَّ كلَّ نفع صدرَ عمّا لا يَنْفعُ (¬1) لم يَحْسُنْ صرفُ الشكرِ إليهِ؛ كالمطرِ في إنباتِ العشْبِ، والقمرِ في الكشفِ عَنِ الجادة في حقِّ السَّيارةِ، وهبوبِ الريح المُسيِّرةِ للفُلْكِ في البحرِ، يُتلقى منها الانتفاعُ عندَ مَنْ لم يُثبِت ذلكَ بقصدِ قاصدٍ، وهُمْ أهلُ الطبع، أوْ أثبتها بقصدِ قاصدٍ، لكن لم يَجْعَلْ ضياءَ القمرِ، وهطلَ المطرِ، وهبوبَ الريح من جهةِ هذهِ الأشياءِ المنتفعَ بها بل جَعَلَ النَّافعَ بها هوَ الله، فعلى كلا المذهبينِ والاعتقاديْنِ لا يَحسُنُ صرفُ الشُّكرِ إلى واحدٍ منْها فيما صدرَ مِنَ النَّفع، بلْ لا شكر (¬2) رأساً مصروفٌ نحوَ واحدٍ منْ هذه المنتفع بها، حيثُ ثبتَ أنها لا تنتفعُ بالشكرِ، ولا أنّها بذلت ذلكَ وقصدتهُ طالبةً لمقابلتِها بالشكرِ، فقبحُ الشكرُ، فالثابتُ بأصلِ الدليلِ العقليِّ أنَّ الله سبحانَهُ لا يلحقُهُ نفعٌ، وأنهُ مفيضٌ للجود، معطٍ أبداً، غير (¬3) طالبٍ منْ غيرِهِ شيئاً، فلذلكَ لم يوجب العقلُ، ولم يَتَهدَّ إلى مقابلةِ إنعامهِ (¬4) بشيءٍ، بلْ غايةُ ما يوجبه: العلمُ بأنَّ النعمَ منْهُ، وعنْهُ صَدَرَتْ. وأمّا الوالدانِ، فدلائلُ أحوالِهما بوضعهما على الحاجةِ أنَّهما ¬

_ (¬1) في الأصل: "ينتعع". (¬2) في الأصل: "لسكر". (¬3) في الأصل: "عن". (¬4) في الأصل: "العامه".

بالترْبيةِ (¬1) والإكرام مدَّخرانِ ومُقْتنيانِ عندَ الولدِ ما يرجوان ويأملانِ عائدَته عليهما عندَ حاجتِهما الي الأولادِ، كما يَعتدَّانِ التربيةَ والإشفاقَ (2 على الحيوانات بغية النفع بلحمانها وألبانها، ويعتدانِ 2) التزيينَ واللِّقاحَ للشجرِ والنخِيلِ طلباً لعائدةِ النفع بثمارِها، وكما يَعتدَّانِ التداويَ وشربَ الشرباتِ في الفصولِ لصحَّةِ الأجسادِ، والاستعانة بأعمالِها على تحصيلِ النَّفقاتِ والموادِّ بأعمالِها وتصرفاتِها. والذي يوضحُ أنَّ شكرَ اللهِ سبحانَهُ ليسَ منْ هذا القبيل لا عقلاً ولا شرعاً: أنَّ المضارَّ الصَّادرةَ عن (¬3) القاصدِ بها، يحسُنُ الذم [عليها]، وأنها إذا صَدَرَتْ عنْ غيرِ قاصدٍ، قَبُحَ صرفُ الذمِّ إليه، كالحجرِ يَنكُتُ، والريحُ تغرقُ، والنارُ تحرقُ، وحرُّ الشمسِ يؤذي، وصوبُ المطَرِ في البدوِ يؤذي المسافرَ في نفسِهِ ورحلِهِ، وفي حضرِهِ في كِنِّهِ وبيته، وإلى أمثالِ ذلكَ، ولو ذمَّ ذامٌّ شيئاً لأجلِ الضَّررِ اللاّحقِ بهِ، لقَبَّح ذلكَ العقلاءُ، كما قبَّحوا شكرَهُ لما يحصلُ منَ الانتفاع بذلكَ، وعلةُ تقبيحِهم لذلكَ؛ لأحدِ أمرينِ، أَوْ لَهُمَا جميعاً: إمَّا لأنَّ هذهِ الأشياءَ لم تَقْصِدْ نفعاً ولا ضراً، على قولِ مَنْ نسبَ الفعلَ إليها مِنْ أهلِ الطبع، ومَنْ نسبَ الفعلَ إلى اللهِ سبحانَهُ مِنْ أهلِ التوحيدِ والشرع، أوْ لأنَّ الشَّكرَ لا (¬4) ينتفعُ بهِ، والذم لايستضر بهِ، والشكرُ إنَّما يقعُ مقابلةً للمنافع، لأحدِ أمرينِ: إمَّا ليَقَعَ موقع التعويضِ، ¬

_ (¬1) تحرفت في الأصل إلى: "بأكثر منه". (2 - 2) ليس في الأصل. (¬3) في الأصل: "عند". (¬4) في الأصل: "ما لا".

فيزيدُ منَ الإحسانِ إلى الشاكرِ، أوْ يستديمُ إحسانَهُ إليهِ لموقع الشكرِ منْهُ، أوْ ليحصلَ لَهُ النفعُ، والله سبحانَهُ لَيْسَ منْ هذا القبيلِ، فما حصلَ لنا الطريقُ إلى شكرِهِ على فائض إِحسانِهِ إلاَّ بما جاءَتْ بهِ رسلهُ صلواتُ اللهِ عليهمْ، وأمَّا شكرُ بعضِنا لبعضٍ، فلدلائلَ قامت، وعاداتٍ دلتْ علي المقابلةِ، فأمَّا العقلُ، فإنَّه لا يوجبُ ذلكَ، لما بينَّا منْ أنهُ يخرجُ إلى حَيِّزِ المعاوضةِ لا الإحسانِ؛ ولهذا لم يوجب الشرعُ على مَنْ قُدِّمَ بينَ يديه طعامٌ شهيٌّ، أو أُفيضَ على ثوبِهِ طِيبٌ ذكيٌّ، أو سُقيَ شربةً منْ ماءٍ على ظمأٍ، أو حُمِلَ على ظهرٍ بعدَ التعبِ والإعياءِ، عوضاً عنْ جميع ذلكَ، وإذا لم يوجبِ الشَّرعُ عوضاً، فلا بُدَّ أنْ يكونَ لعلَّةٍ، ولا يظهرُ أنْ تكونَ العلَّةُ إلاَّ إخراجَهُ مخرجَ الجودِ، لا المعاوضةِ والبدلِ، مِنْ غيرِ شرطِ مقابلةٍ، ولا دلالةِ حالٍ تدلُّ على العوضِ، بخلافِ ما استقرَّ مِنْ أجرِ الحماماتِ، والسَّفرِ، وأُجرة الحجامِ المتهدِّفِ، وإلى ذلكَ، وكذلكَ الشكرُ هوَ نوعُ عوضٍ، فلا وجهَ لإيجابِهِ على المُحسَنِ إليهِ مِنْ غيرِ عقدٍ ولا شرطٍ. فإنْ قيلَ: العرفُ الوضعيُّ يوجبُ، وهوَ أنَّ كلَّ محسنٍ يقتضي الشكرَ على إحسانِهِ. قيلَ: إذا كُشِفَتْ هذهِ اللَّطيفةُ، علمَ أنَّ اقتضاءَ المحسنِ للشكرِ (¬1) كالمستقبحِ المستهجنِ، وجَعلُ الشكرِ واجباً يُخرجُ الإحسانَ عنْ وصفِهِ، فإنَّ إضافة الإنعامِ إنَّما حَسُن ابتداءً، وبهذا وصفَهُ الله سبحانَهُ: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، وما كان واجباً، حسُنَ الاقتضاءُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالشكر".

بهِ؛ كالديون، وسائرِ الحقوق، ومعلوم أنَّ المحسنَ لوْ صرَّحَ عقيبَ إحسانِهِ بالمطالبةِ بشكَر (¬1) إحسانِهِ، لتَكدَّرَ إحسانة بمطالبتِهِ. وقد احتجَّ بعضُهم فيها بقولِهِ تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، وهذا أمر مطلق، فاقتضى الوجوبَ. فيقالُ: هذا مصروف عن الإيجابِ إلى الندبِ بأدلتِنا، ولأنَّا لا نمنعُ إيجابَ الشَّرع لأمورٍ (¬2) لا يوجبُها العقلُ، وكلامُنا هلْ يجبُ في العقلِ؛ على أنّكم لا تقولونَ بِهِ، وهوَ أَنّه لا يجبُ إلا الشكرُ، فأمّا المقابلةُ بالأحسنِ وما يُرْبي على الإحسانِ، فلا يجب. ولأنَّ الآيةَ لوْ كانتْ على ظاهرِها، لصارتْ إيجاباً، ولابتدأت (¬3) بالإحسانِ كلفاً على المُحسَنِ إليهِ، وتثقيلاً بإيجابِ الشكرِ والزيادةِ على الإحسانِ، وذلكَ يثقلُ فعلاً، وقولاً، وبذلاً للمالِ، ويصيرُ كطروح السَّلاطينِ على السُّوقة لأموال لا يحتاجونَ إليها، وإيجابِ أوفى الأثمان عليهم في مقابلتها، والبارئ سبحانه خَففَ ردَّ السلام، وجعلَه فرضاً على الكفايةِ؛ حيثُ علمَ أَنّه يثقلُ الجوابُ لكلِّ مسلِّمٍ معَ كثرةِ أشغالِ الناسِ المانعةِ منْ تتابع الرَّدِّ على المبتدئِ بالسَّلامِ (¬4) , فوسعَ بالنيابةِ، واكتفى ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيسكر". (¬2) في الأصل: "بامور". (¬3) في الأصل: "النحايا والابتدات". (¬4) في الأصل: "السلم".

* فصل يجوز أن يرد العموم إلما بعض المكلفين وترد دلالة التخصيص السمعية فيطوى عنهم

يحوابِ الواحدِ من الجماعةِ السلام عَنْهُم. وممَّا يوضح قبحَ ذلكَ: أَنه لو طلبَ المحسنُ شكرَ (¬1) إحسانِه ممَّنْ أحسنَ إليه عندَ الحكامِ، وأعدىِ على مَنْ أحسنَ إليهِ فلم يَشْكُره، كما يُعدى في الديون والحقوقِ، لا سْتُهجِنَ ذلكَ (¬2) عندَ العقلاءِ بحكمِ العقلِ والشَّرع، ولوْ كانَ واجباً، لما قبحتِ المطالبةُ بهِ، والإعداءُ عليه. فصل يجوزُ أن يرد العمومُ إلى بعضِ المكلفينَ، وترد دلالةُ التخصيصِ السَّمعية، فَيُطوى عنهم؛ خلافاً لبعضِ المتكلِّمِينَ منَ المعتزلةِ: لا يجوزُ ذلكَ في دلالةِ السَّمع، إذا لمْ يكنْ في العقلِ ما يدلُّ على التخصيصِ، بلْ إنْ كان في العقلِ دلالةٌ على التخصيصِ، وَكلَهُمْ إليها (¬3). فصلٌ في الدَّلائل على ذلكَ فمنها: أنَّ مِنْ أصلِنا أنَّ تأخير البَيانِ عن وقتِ الخطابِ جائزٌ، وقدْ دللْنا على ذلكَ الأصلِ، فإنَّه لا مانعَ في العقلِ منْ أن يتعبدَ الله المكلفَ باعتقادِ وجوبِ الكلِّ، وتحقيقِ العزمِ عليهِ، وكتمِ دلالةِ التخصيصِ؛ ليتحقَّقَ منْهُ الاعتقادُ والعزمُ، وهما تعبُّدان يُثْمران الثوابَ عليهما، وفيهما ¬

_ (¬1) في الأصل: "بسكر". (¬2) في الأصل: "لا تسهجن وذلك". (¬3) انظر "البرهان" 1/ 284، و"المسودة" (116).

- فصل في شبه المخالفين

أكبرُ المصالح؛ لتوطينِ النّفسِ على الأمرِ بمقتضاهُ في الظاهرِ، ثُمَّ التزامِ التخصيصِ إذا ظهرتْ دلالتُهُ، فيُعقِبُ ذلكَ ثواباً ثانياً عَنِ المسارعةِ إلى اعتقادِ البعص بعدَ اعتقادِ الكلِّ متابعةً للأمرِ. ومنها: أنَّ الله سبحانَهُ قدْ طوى النسخ عَن طائفةٍ، حتى إِنها صَلَّت إلى بيتِ المقدسِ شطرَ الصَّلاةِ، ثمّ كاشفَ لها عنْ دليلِ النسخ، فانتقلتْ، واعتدَّ لها بما كانَ مِنَ الصلاةِ، ولوْ لم يكُ جائزاً عقلاً، لما ورد بهِ السمَّعُ، لأَنَّ السَّمعَ لا يردُ بغير مُجوَّزاتِ العقولِ. ومنها: أنَّ طيَّ الدليل الموجبِ للتخصيصِ قد يكونُ مصلحةً في حقِّ بعض المكلفينَ، فلا يمنعُ منه مَنْ يعتبر المصالحَ، أو يكونُ ذلكَ بمطلقِ المشيئةِ (¬1)، ولا يمنعُ منْهُ مَنْ يقولُ بالمشيئة، ولا يَعْتبِرُ المصلحةَ، فلا وجهَ للمنع مِنْ ذلكَ. فصل في شبههم فمنها: أَنَّ في ذلكَ تعريضاً بالجهلِ، والجهلُ قبيحٌ، فالتعريضُ بالقبيح قبيحٌ. ومنها: أَنَّ نفسَ الخطابِ بالعمومِ معَ طَيِّ المخصصِ له خطابٌ بما المرادُ ضِدُّه، والخطابُ بما يرادُ ضدُّه، كالخطابِ بالنهي والرادُ بهِ الأمرُ، والزجرِ والمرادُ بهِ الندبُ والحثُّ، وهذا قبيحٌ في الخطابِ، واستدعاء ضدِّ المرادِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الشبه".

- فصل في الأجوبة عما ذكروه

فصل في الأجوبة عما ذكروه فأمّا دعواهمُ التعريضَ بالجهلِ، فما اتيَ المكلَّفُ إلاَّ من قِبَلِ نفسِهِ، وإلا فمَنْ عَلِمَ أَنَّ دأبَ الشرع تخصيصُ العمومِ، كما أنَّ دأبَه نسخُ الأحكامِ، وتأخيرُ البيان، لا يبادرُ باعتقادِ العمومِ، بلْ يعتقدُه مشروطاً بأنْ لا يتراخى (¬1) عنْهُ دليلُ تَخصيصٍ. ولأنه باطلٌ بالنًسخ، فإنهُ بِبَادِرَةِ الأمر يعتقدُ الدوامَ، ثم يَاتي النسخُ قاطعاً ورافعاً، فالذي يعتذرُ بهِ عنْ ذلكَ: أنَّه يجبُ أنْ يعتقدَ الدوامَ ما لم تَرِدْ دلالةُ النسخ، كذلك عذرُنا في أَنَّه يعتقدُ العمومَ ما لم تردْ دلالةُ التخصيصِ، وهما سواءٌ في أنَّهما تخصيصانِ، وإنَّما يفترقان في المُخصَّصِ، فهذا تخصيصُ أعيانٍ، والنسخُ تخصيصُ أوقاتٍ وأزمانٍ. وأمّا قولُهم: إنَّه يكونُ أمراً بضدِّ مرادِهِ، فلا يلزمُ ذلكَ، بلْ يبينُ بدلالةِ التخصيصِ: أنّه أرادَ حصولَ الاعتقادِ بأنّه يعملُ بالجميع ما لم يُخَصَّ، ويَعْزِمُ على ذلكَ، وهما تكليفانِ مقصودانِ، ولأنَّ شبهتهما جميعاً يلزمُ عليها: إيرادُ لفظِ العمومِ، وقدْ كانَ يمكنُ أنْ يقعَ الخطابُ بالأعيانِ المرادةِ فقط، منْ غير إيرادِ عمومٍ، ثمَّ إيرادِ خصوصٍ، ولمَّا لم يمنعْ منْ ذلكَ لمعنىً وحكمةٍ في ذلكَ، لا يمنعُ منْ طَيِّ المخصص عَن المكلف، ثمَّ إظهارِهِ بعدَ ذلكَ، وهذا مستحسنٌ شرعاً وعقلاً وعرفاً، فإنَّ مَنْ أمكنَهُ أنْ يقول: إنَّما ¬

_ (¬1) في الأصل: "يترافا".

* فصل يحوز النسخ وفي السماء إذا كان هناك مكلف

سلطانك على مَنْ يتبعُك من الغاوينَ؛ فقالَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر: 42] وأمكنَ أنْ يقولَ: فاسلك فيها مَن آمَنَ مِنْ أهلِكَ، فأسر بمنْ آمن بكَ مِنْ أهلكَ، ثُمَّ إنه لم يقلْ ذلكَ، وقالَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ} وقالَ: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27]، {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ. . . . . . . . . . إِلَّا امْرَأَتَكَ إِ} [هود: 81]، وإذا لم يُستقبَحْ هذا قولاً بعدَ قول، وإنْ تتابعَ وتعقبَ، كذلكَ لا يقبحُ وإنْ تأخرَ، لا بينّا من الحكمةِ والصلحةِ، أوِ المشيئةِ المطلقةِ. فصل يجوزُ النَّسخُ في السَّماءِ إذا كانَ هناكَ مكلف، مثلُ أنْ يكونَ قدْ أُسرِيَ ببعضِ الأَنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم، ولا يكون بَداءً، خلافاً للمتكلمينَ مِنَ المعتزلةِ، ومَنْ جحدَ المعراجَ يقظةً: مَنعَ مِنْ وجودِ ذلكَ، كما منع منْ جوازِهِ عقلاً (¬1). فصل في الدَّلائل عليه إِنَّ النَّقلَ صحَّ بأنَّ الله سبحانَهُ فرضَ على نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - خمسينَ صلاةً، ¬

_ (¬1) انظر "المسودة" (323)، و"روضة الناظر" 1/ 321 - 323، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 255.

- فصا في شبه المخالفين

ثمَّ لما راجعَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الاستنقاص، وتَضَرَّعَ (¬1) في التخفيفِ، نقصَ إلى أنْ جعلَتْ خمساً (¬2)، وهذا هو النَّسخ قبلَ وقتِ الفعلِ بعينه، وقدْ دَللنا عل هذا الأصلِ، ولأنَّ لله (¬3) سبحانه أنْ يكلِّفَ الواحدَ كما يكلفُ الجماعة، ويكلِّفَ في السمَّاءِ كما يكلفُ في الأرضِ، وقذ كلَّفَ الملائكةَ السجودَ لآدمَ عليهِ السلامُ، وكلَّفَ آدَم وحواءَ قبلَ الإهباطِ (¬4) تركَ أكلِ الشَّجرةِ، فإذا كانَ المكانُ صالحاً، وكانَ الشخصُ صالحاً، جازَ أنْ يكلفَه ليلتزمَ ويعتقدَ، فيُثيبَه على توطينِ (¬5) النَّفسِ على الأشقِّ الأكثرِ، ثُمّ ينسخَ ذلكَ بالأقلِّ الأسهل، وفي ذلك لطيفةٌ، وهو أنَّ الأخيرَ يسهلُ بإسقاطِ الأَوَّلِ، كما كلفَ مصابرة الواحدِ للعشرةِ، ثُمَّ خفَّفَ بأنْ أَسقطَ ذلك إلى اثنينِ، وهذا يوجد في السماءِ في حقِّ مَنْ كلَّفَه من الأنبياء، كما يوجد في الأرضِ، ولا فرقَ، وفي إخبارِه لأُمتِه بذلك ممّا يوجبُ شكرَه، فيُعْقِبهم الشكرَ على ذلك ثواباً، وما لم يَخْلُ عنْ هذه الفوائدِ لا وجهَ للمنع منه. فصل في شبههم قالوا: الأمر في السَّماءِ أمرٌ بالتبليغ، فإذا نسخَه، صارَ كأنَّه قالَ لَه: ¬

_ (¬1) في الأصلِ: "وصريح". (¬2) حديث المعراج وفرض الصلاة أخرجه البخاري (3207) و (3393) و (3430) و (3887)، ومسلم (164)، والترمذي (3346)، والنسائى (447). (¬3) في الأصلِ: "الله". (¬4) في الأصل: "الإحباط". (¬5) في الأصل: "توطن".

* فصل: يجوز أن يتطرق الخطأ لاجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحوادث لكن لا يقر عليه

بلِّغْ ذلك، لا تبَلِّغْهم، وهذا عينُ البداءِ. فيقالُ: بلِ النسخُ لذلك بانَ أنَّ المرادَ به اعتقادُه، وتوطينُ نفسِه، على تبليغ ذلك، والعملِ بِه بنفسِه، وتبليغ أُمَّتِه، وتبليغهم رفقَ الله بهم، ولُطْفَه، وإجابته إلى سؤالِه فيهم، والتخفيف عنهم، فما خلا الأمر عنْ فائدةٍ، ولا خلا النسخُ عنْ حِكْمةٍ ومصلحةٍ، ولا يتحقًقُ ما قالوا مِنَ النفي لما أثبتَه، ولا النهى عمَّا أمرَه بِه مِنَ البلاغ. فصل اختلفَ القائلونَ بجوازِ الاجتهادِ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الحوادثِ في تطرقِ الخطأِ عليهِ في اجتهادِه على مذهبينِ: أحدهما: جوازُ الخطأِ عليهِ، لكنْ لا يُقرُّ عليهِ، وهو مذهبُنا، ومذهبُ الأكثرينَ منْ أصحابِ الشّافعيِّ، وأصحابِ الحديث (¬1). وذهبَ بعضُ أصحابِ الشّافعيِّ: إلى أنّه لا يجوزُ عليه الخطأُ، بلْ هو معصومٌ في اجتهادِهِ، كعصمتِه في خبرِه عنِ اللهِ (¬2). فصل في الدلائل على ذلك فمنها: أنَّ فِى القرآن معتبةً، منْ ذَلك: قولُه سبحانَه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ ¬

_ (¬1) انظر "روضة الناظر" 2/ 409، و"المسودة" (507)، و"أصول السرخسي 2/ 91. (¬2) انظر "التبصرة" (524).

لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]، وقوه فِى المفاداةِ (¬1) في يومِ بدرٍ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآيات، إلى قولِه: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، حتى قالَ: لوْ نَزلَ منَ السماءِ عَذابٌ، لما نجا منه إلاَّ عمرُ بنُ الخطابِ (¬2)؛ لأنَّه كانَ أشَارَ بالقتلِ، ونهى (¬3) عنِ المفاداة. ومنها: أنه قدْ جازَ عليهِ السَّهوُ حتى سلَّم مِنْ نقصانٍ، فقيلَ له: أَقَصُرتِ الصلاةُ، أمْ نَسِيت (¬4)؟ فقالَ: "كلُّ ذلك لم يَكُنْ" وقد كان، ثُمَّ قالَ: " إنَّما أنا بشر أنسى كما تَنْسَوْن (¬5) ". فإن قيلَ: أمّا (¬6) النسيان، فقد بانَ منْه المصلحةُ بقولِه: "إنما أنسى، لأسنَّ" (¬7). قيلَ: إذا كان ينسى؛ ليسنَّ الاستدراكَ بالسجود والجبران، جاز أن يُسلطَ عليه الخطأ، ولا يُعصمَ منْه؛ ليفصلَ بينَ رأيِه وخبرِه عنِ اللهِ سبحانَه، وليمعنَ في الاجتهادِ تحذراً من مضضِ المعتبةِ، وليعيَه فيعطيَ هو ¬

_ (¬1) في الأصل: "المفادة". (¬2) أخرجه الطبري في التفسير (16319). (¬3) في الأصل: "عها". (¬4) تقدم تخريجه 2/ 551. (¬5) أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬6) في الأصل: "انما". (¬7) تقدم تخريجه 2/ 23.

- فصل في شبه المخالفين

وأمته الاجتهادَ حقه؛ مِنْ بذلِ الوسع، وتركَ المبادرةِ إلى الجوابِ. فصل في شبههم فمنا: أنّ تجويزَ الخطأِ عليهِ يوجب التوقُّفَ في قولِه والشكَّ؛ لأنه إذا بادرَ بالجوابِ، وكان (¬1) يجوزُ عليه الخطأ، تردَّدَ قوله بينَ الخطأِ والصَّوابِ. فأوجب لنا تَردّداً فيه، وذلك عينُ الشَّكِّ في صحَّةِ جوابِه، والشَّاكُّ أبداً يتوقفُ عن الاستجابةِ إلى حينِ يَترجَّحُ عندَه أحد المجوَّزَينِ؛ إمّا (¬2) بظنٍّ، أو قطع، والشَّكُّ في قولِه يوجب فسقَ الشَّاكِّ؛ لشكِّه وتوقفِه، قالَ الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. فيقالُ: إنَّ تجويزَ الخطأِ لا يوجب التوقّفَ، كما أنَّ تجويزَ ذلك على المفتي مِنْ علماءِ أمتِه - صلى الله عليه وسلم - لا يوجب التوقّفَ؛ خوفَ الاستدراكِ والخطأِ، ولا الشَّكَّ فِى فتواهُ، بلْ يغلبُ على الظنِّ صحَّةُ قولِ المفتي، والانقيادُ إلى فتواهُ، إلى أنْ تقومَ دلالةُ الخطأ. ولأنّه باطلٌ بالتجويزِ للسهوِ، فإنَّه إذا سَلَّمَ مِنْ نقصان، وبانَ أنَّه كانَ أخطأَ، يجوزُ عليهِ الخطأُ فِى مناسكِه، ولا يوجب شكّاً، وكلُّ عذرٍ لهم عنِ السهوِ صالحٌ أنْ يكونَ عذراً عنِ الخطأِ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكما". (¬2) في الأصل: "أو".

ومنها: أنّ القائلينَ بالإحماع اتفقوا على عصمتهِ عنِ الخطأِ، والإجماعِ ليسَ بأكثرَ منْ قولِ المجتهدينَ منْ أمتِه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كانتْ أمتُه معصومةَ عنِ الخطأِ، لم يجزْ أن يكونَ هو مجوَّزاً عليهِ الخطأُ؛ لأنَّه لا يجوزُ أن تُعطى أمته رتبةً فوفَ إصابةِ الحقِّ لم يعطَها هو، كما لا يجوز تميزُ أمتِه عليه في بابِ الخيرِ والعصمة (¬1). فيقالُ: إنما ثبتَ الأَوْلى (¬2) بعدَ صحةِ أصلِ المأخذِ منَ الذي يمنعُ أنْ يكونَ لأمتِه نوع ميزةٍ، وقدْ أصابَ عمرُ في رأيٍ بيَّنَ الوحيُ خطأَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنْ تابعَه فيهِ، وهو ما تقدّمَ مِن المفاداةِ، ووافقَ ربَّه في أشياءَ أشارَ بها، ولم يكن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سبقَ إليها، والخضرُ أصابَ في التأويلِ لأمرِ اللهِ وما طويَ في تلك الأفعالِ مِن المصالح، وأنكرَها موسى عليه السلام، والخَضِرُ تابعٌ، ورجلٌ منْ آحادِ أمةِ موسى، فهذا بابٌ لا يتحقَّقُ فيه أصلُ القاعدةِ فضلاً عنِ الأَوْلى. على أنَّ الأمةَ بعدَ موتِ نبيِّها - صلى الله عليه وسلم - لوْ جُوِّزَ عليها الخطأُ، ولم تعصمْ عنه، لم يحصلِ الاستدراكُ لذلك الخطأِ، واستمرَّ على الحوادثِ، ولم يَكُنْ للناسِ مَن يبيِّن لهم؛ ليرفعوا عنْ خطأِهم، وليسَ كذلك النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه إذا أخطأَ، نبَّهه الوحيُ، وأوجبَ عليه الاستدراكَ، فلمْ يستمرَّ الخطأ، فبانَ الفرقُ بينَه وبينَ أمتِه في هذا. ¬

_ (¬1) زاد في الأصل هنا: "عليه"، ولا داعي لها. (¬2) في الأصل: "الأول".

- فصل في صفة المفتي

فصل في صفةِ المفتي وهو الذي يعرفُ بالأدلةِ العقليةِ النَّظريةِ حدثَ العالمِ، وأنّ لَه صانعاً، وأنّه واحدٌ، وأنّه على صفاتٍ واجبةٍ لَه، وأنه منزهٌ عن صفاتِ المُحدَثينَ، وأنّه يجوزُ عليهِ إرسالُ الرسلِ، وأنه قدْ أرسلَ رسلاً بأحكامٍ شرعَها، وأنَّ صدقَهم فيما (¬1) جاؤوا بِه ثبتَ بما أظهرَه على أيديهم منَ المعجزاتِ. فإذا ثبتَ ذلك، وجبَ أن يكونَ محصلاً منْ كتابِ اللهِ، وسُنةِ رسولِه، وطريقِ الاستنباطِ، وإلحاقِ الشيءِ بنظيرِه، ومناسبةِ الحكمِ لعِلتِه. والذي يشتملُ عليهِ الكتابُ ممّا يحتاجُ إليهِ الفقيهُ: أحكامُ القرآنِ، والفصْلُ فيما بينَ المحكم والمتشابِه، والنّاسخ والمنسوغ، والمجمل والمفسرِ، والطلقِ والمقيدِ، والنَّصِّ والظّاهرِ، والعامِّ والخاصِّ، والصَّحيح من الأخبارِ والباطلِ، وطريقِ الجمع بينَ ما أوهمَ الاختلافَ بظاهرهِ، ومعاني الآيِ والأخبارِ منْ لغةِ العربِ. ولسنا نريدُ أنْ يكونَ في كلِّ علمٍ منْ هذهِ العلومِ ماهراً مثلَ أنْ يكونَ في النحوِ مثلَ سيبويهِ والخليلِ، ولا في اللغةِ كأبي زيدٍ، ولا في الحديثِ كيحيى بن معينٍ، فإنَّ ذلكَ محالٌ حصولُه لأحدٍ معَ كثرةِ العلمِ وقلةِ العمرِ، لكنَّا نريدُ ما دوَّنَه الفقهاءُ، وهذبَه العلماءُ في كتبهم، وقدْ روى جماعةٌ عنْ أحمدَ رضىَ الله عنه: أنَّه اعتبرَ أنْ يكونَ حافظاً لمئتي ألفِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "مما".

[حديثٍ]، حتى إنّه تردَّد في الحافظ لأربع مئةِ ألفِ حديثٍ، وهذا محمولٌ على أنّه يكونُ قدْ أنسَ بالأحاديث التي تدورُ عليها الأحكامُ، وإلاّ فالحفظُ للأخبارِ بغيرِ فقهٍ، كالحفظِ للقرآنِ بغيرِ معرفةِ الآياتِ المحكماتِ، ولوْ حفظَ الآياتِ المحكمةَ التي تتضمّنُ أحكامَ العباداتِ والمعاملاتِ والأنكحةِ والجناياتِ، لكفاهُ ذلك عنْ حفظِ المواعظِ والقصصِ وما لا حكمَ فيهِ، ورويَ عنْه أيضاً: أنه [قال]: استفتاءُ أصحابِ الحديثِ أولى منَ استفتاء أهلِ الرأيِ، وهذا يحملُ على مَنْ جمعَ بينَ الأحاديث والفقهِ، وإلاَّ فالمُحدِّثُ الذي لا فقهَ لَه، كالحافظِ للكتابِ الذي لا يفقهُ معانيَ الكتابِ، ولا يعرفُ أحكامَه. [و] مَنْ حفظ أحكامَ الفقهِ، وما أكملَ المعرفةَ بأصولِ الدينِ، فهو عاميٌّ، لا يجوزُ أنْ يُستفتى، بلْ حكمُه أنْ يَسْتفتيَ عالماً، ولسنا نريدُ أنْ يكونَ في الأصولِ كآحادِ المتكلمينَ، لكنْ ما لا يسعُ جهلُه، وإنْ لم يُدَقِّقْ في الحقائقِ، ويُمْعِنْ في الدقائقِ منَ الكلامِ، وهذا ممّا لا يجهلُه أحدٌ منْ أئمةِ الفقهاءِ. ويجبُ أنْ يكونَ قدِ اطَّلعَ منَ السِّيرةِ في عصرِ الصَّحابةِ والتابعينَ ما يعرفُ بِه ما أجمعوا عليهِ مما (¬1) اختلفوا فيهِ، والمحاوراتِ الفقهيةَ، فذلكَ أصل أيضاً، فإنّ بعضَ النّاسِ يجعلُ قولَهم حُجَّةً، وبعضُهم يجعلُ ما اشتهر من فتاويهم معَ سكوتِ الباقينَ وعدمِ نكيرِهم إجماعاً، فذلك منْ بعضِ الأدلَّةِ الشَّرعيةِ التي لا غنى للفقيهِ عن الإحاطةِ بها. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيما".

- فصل في الدلائل

ويعرف مقاديرهم في المراتب والمعرفةِ؛ ليُرجِّحَ أقوأن بعضِهم على بعضٍ، وروايةَ بعضِهم على بعضٍ. ويعرفُ ما الأصلُ الذي يُبْنى عليه استصحابُ الحالِ؛ هلْ هو الحظرُ، أوِ الإباحةُ، أو الوقفُ؛ ليكونَ عندَ عدمِ الأدلةِ متمسكاً بالأصلِ إلى أن تقومَ دلالةٌ تخرجُ عنِ الأصلِ. ويَعْرفُ الأدلة وتراتيبَها على ما بيَّنّا في أوَّلِ كتابنا، والصَّحيحَ منَ الفاسدِ، والحجَّةَ مِنَ الشبهةِ؛ ليَتبعَ الحجَّةَ، ويرفضَ الشُّبَهةَ. ويعرفُ الأَسماءَ الموضوعةَ في الأَصلِ -وهي الحقائقُ- والمجازَ، ليَبْني الأحكامَ على الحقائقِ دونَ المجازِ والاستعارةِ. فصل في الدلائلِ فمنها: أنّ الاستفتاءَ استخبارٌ واستعلامٌ، ولا يجوزُ استعلامُ مَنْ لا يعلمُ، ولا استخبارُ منْ لا يُحسِنُ؛ بدليلِ أنَّه لا يجوزُ السُّؤالُ عنِ الإعرابِ لغيرِ نحوي، ولا عنْ معاني الأسماءِ لغيرِ لغويٍّ، ولا السُّؤالُ عنْ فرضٍ في تركةِ متوفىً لغيرِ فَرَضِي، وعلى هذا كلُّ صناعةٍ؛ حتى التقويم لا يجوزُ أنْ يسألَ عنْه إلاّ مَنْ لَه خبرةٌ بالسِّلع، والأسواقِ، والأسعارِ المتقلِّبةِ، والرغبات المختلفةِ. ومنها: أنَّه معنى يحتاجُ فيهِ إلى التقليدِ، فاعتبر في المُسْتَفتَى فيه الخبرةُ بطريقِ العلمِ بِه، كاستقبالِ القبلةِ.

* فصل في صفة من يجوز له التقليد

فصل في صفة مَن يجوز له التقليدُ وهو الذي لا يعرفُ الأدلة، ولا طرقَ الأحكامِ التي ذكرناها في المستفتى، [و] منْ لم تكمُلْ فيه تلكَ الأحكامُ، جازَ لَه التقليدُ؛ فإنَّنا لوْ كلَّفناهُ النظرَ فيهِ، لشقَّ ذلك على الأمَّةِ، ولم يتسع الحالُ للمعايشِ والصَّنائع، ولذلك جعلَ الله تعالى طلبَ العلمِ فرضاً على الكفايةِ بقولِه تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] بعدَ قولِه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} وما ذاكَ إلاّ لِما ذكرْنا، وقدْ قالَ صاحبُنا أحمدُ، وقدْ سُئلَ عنِ الرجُلِ يكونُ عندَه الكتبُ فيها الأحاديثُ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واختلافُ الصَّحابةِ، ولا يعرفُ صحَّةَ الأسانيدِ، ولا الصَّحيحَ منْ غيرِه: هلْ يأخذُ بِما شاءَ مِنْ ذلك؟ فقالَ: لا، بلْ يسألُ أهلَ العلمٍ. فقدْ جعلَه عاميّاً، ولا يجوِّزْ لَه الأخذَ بشيءٍ منْ ذلك، فكانَ ذلك تنبيهاً على أنّه لا يجوزُ له أنْ يفتيَ غيرَه؛ لأنَّ تقليدَ الكتبِ، وأقوالِ الصَّحابةِ، إذا لم يكنْ معَه معرفةٌ، غيرُ موثوقِ بها، فيصيرُ بذلك مقلِّداً لِما لا يجوزُ تقليدُه، وهو المخبرُ، والمخبرُ لا يقلدُ، كذلك الكتاب، ولهذا يمنعُ العاميُّ أنْ يعملَ بآي المصحفِ؛ فإنه لا يعرفُ النّاسخَ منَ المنسوخ، ولا الخاصَّ منَ العامِّ، ولا المصروفَ عنْ ظاهرِه بالدلالةِ إلى غير ما نطقتْ بِه الاَيةُ، مثل أنْ يسمعَ قولَه تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} الي قوله {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]، فيدخلَ بيتَ رجلٍ منْ معارفِه بغيرِ إذنِه، ويأَكلَ طعامَه، أو يُفْتِيَ بذلك، أو يسأله أَعمى، أو أعرجُ عنْ

* فصل في خصال يستحب أن تعتبر في المفتي

مثلِ ذلك، فيقولُ: ليس عليك إثم ولا حَرَج، ويتلو على ذلك: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61]، وعلى هذا وأمثاله، فلذلكَ منعَ أحمدُ العاميَّ مِنَ الأخذِ بِما في الصحفِ منْ السُّنَّةِ وأقاويلِ الصَّحابةِ، والذي يشهدُ بذلك: أنَّ النبيٍّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أخبروهُ بالذي شُجَّ (¬1) رأسُه، فقالَ: هلْ تجدون لي رخصة؛ فقالوا (¬2): لا، فاغتسلَ، فماتَ، قالَ: "قتلوهُ، قتلَهم الله، هلاّ سألوا إذ (¬3) لم يعلموا" (¬4) ومعلوم أنهم إنما تعلقوا بقولِه تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وكانوا واجدين للماءِ، فلمْ يكنْ فيهم فقيه يعلمُ أنَّ ضررَ الجرح كالعدمِ، ولوْ كانَ سألَ فقيهاً منْ فقهاءِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم، لأَفْتاهُ، وتركَ ظاهرَ الآيةِ بالدلالةِ المفهومةِ منَ الآيةِ، أوْ منْ غيرِها منَ الأدلةِ. فصل في خصالٍ يستحبُّ أنْ تعتبرَ في المفتي ذكرَها صاحبُنا أحمدُ رضيَ اللهُ عنْه فينبغي للمستفيّ أنْ يَتخيَّرَ منَ الفقهاءِ مَن تجتمعُ فيه، ويتجنبَ مَن لا تكونُ فيه؛ مِن طريقِ طلبِ الفضلِ، لا على وجهِ الشرطِ. قالَ أحمدُ: لا ينبغى للرجلِ أنْ ينصبَ نفسَه -يعى: للفُتيا- حتّى تكونَ فيه خمسُ خصالٍ: ¬

_ (¬1) في الأصل: "مسح". (¬2) في الأصل: "فقال". (¬3) في الآصل: "إذا". (¬4) أخرجه أبو داود (336) من حديث جابر بن عبد الله.

- فصل في تفسير ذلك وبيان فوائد هذه الخصال

أنْ تكونَ له نية، فإنَّه إذا لم تكقْ لهُ نيةٌ، لم يكنْ عليهِ نور، ولا على كلامِه نور. والثانيةُ: أنْ يكونَ لَه وقارٌ وسكينةٌ. والثالثةُ: أنْ يكونَ قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفتِه. والرابعةُ: الكفايةُ، وإلا مضغَه النّاسُ. والخامسةٌ: معرفةُ النّاسِ (¬1). فصل في تفسيرِ ذلك وبيان فوائدِ هذه الخصال أمّا النيةُ، فإنّه يعني: قصدَ الإرَشادِ، وإظهارِ أحكَامِ اللهِ سبحانَه للعامَّةِ، وهدايةِ المسترشدينَ، دونَ الرياءِ، والسُّمعةِ، والتنويهِ باسمه، فإنَّ ذلك إذا خلصَ، كانَ عليه مسحةٌ منَ القبولِ، فاستجابَ لَه المسترشدُ، وصارَ إلي فتواهُ، ويكونُ قصدْه في بيانِ أحكامِ الشرع العملَ بها، كما يقصدُ المجاهدُ إعلاءَ كلمةِ اللهِ. وأمّا قولُه: ويكونُ عليهِ سكينةٌ وحِلْمٌ ووقارٌ، فإنَّ ذلك ممَّا يُرغِّبُ المستفتيَ في الإصغاءِ إلى فتواهُ، والاستجابة لأحكامِ اللهِ، فإنَّ المفتيَ مخبر عنِ اللهِ، ووارثُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وكما أنّ للنبوةِ (1 وقاراً معتبراً ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" 4/ 199.

ليكونَ 1) ذلك داعيةً إلى الاستجابةِ لَهم، كذلك ورثةُ الأنبياءِ -وهمُ العلماءُ- يجب أنْ يتخلًقوا بأخلاقِهم؛ ليستتبعوا في أحكامِ الحوادثِ العوامَّ، كما إستتبَعَ الأنبياءُ عليهم السلام الأممَ في أصلِ ما دعوا إليه منَ الإسلامِ، ولأنَّ المفتي مخبر عنِ اللهِ، فإذا كانت عليه سكينةٌ ووقارٌ وحِلمٌ، كانَ ذلك منْه تعظيماً للخبرِ والمُخبَرِ عنْه، وإذا كانَ فيه خَرَقٌ وتَبذّلٌ وهَزْلٌ، لم يثقِ النّاسُ إلى خبرِه كلَّ الثقةِ، وقالوا في نفوسِهم: لوْ كانَ ما يدعونا إليه على علمٍ منه، لسبقَ إليه، ولفاضَ ذلك على أبعاضِه وأطرافِه. وأمّا قولُه: يكونُ قوياً، فإنّما يعني به: قوياً في العلمِ، ويأوي إلى ثقةٍ بالدلالةِ التي أسندَ إليها فتواه، كما قال سبحانهَ: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، يعني: بفهمٍ وعلم لما (¬2) يفهمُ، ويقين لما يسمعُ، وقالَ لموسى عليه السلامُ في التوراةِ: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، ومتى لم يكُ كذلك؛ كانَ مخمِّناً أو حادساً، والضعف ميزةُ التقليدِ، والقوةُ ميزة الأخذِ بالدليلِ. وأمّا قولُه: الكفايةُ وإلاّ مضَغه النّاسُ، فيريدُ بذلك: المعيشةَ، و [أَن] لا يمنعَه التفقهُ منَ التكسبِ، فإنَّ المنتدبَ للعلمِ متى لم تكنْ له جهةٌ يرتفقُ بها، نسبَه النّاسُ إلى التكسبِ بالعلمِ، وأخذِ العوضِ عليه، فسقطَ قولُه إذا تكلمَ الناسُ فيهِ، ولهذا حمى الله أنبياءَه عنْ أخذِ أموالِ النّاسِ، بلْ لم يَنصبْ نبياً للبلاغ عنْه إلاّ ولَه حرفةٌ بينَ خياطةٍ، وقصارةٍ، ونجارةٍ، ورعي ¬

_ (1 - 1) في الأصل: "وقار معتبر ليكن". (¬2) فى الأصل: "بما".

غنمٍ، ليكون (¬1) ذلك أبعدَ للتهمةِ، والتهمةُ تمنعُ قبولَ القولِ، والمندوبُ للاستجابةِ لَه لا يعرضُ لِما يلفتُ النّاسَ عنْه، فيسقط مقصودُ النصبةِ، والمنصب منصبُ (¬2) استتباعِ. وأمّا قولُه: فمعرفةُ النّاسِ، فيحتملُ: أنْ تكونَ معرفة الرجالِ، ليعولَ على روايةِ المعروفِ بالحفظِ والثقةِ، ويتجنَّبَ مَن يعرفُه بالتحريفِ، أو الغلطِ، أو عدمِ الحفظِ، أو تَنكّبِ السُّنَّةِ، ويحتملُ: ومعرفةُ النّاسِ الفاجرِ الذي لا يستحقُّ الرُّخصَ والتسهيلَ عليهِ، فيلزمُ عليه العزائم، ولو استفتاهُ في الخلوةِ بالمحارمِ معَ علمِه بأنه يسكرُ، لا يفتيهُ، فإنّه لا يُؤمنُ وقوعُه على محظورٍ منْها، ويزن بمعارف الرجالِ كما وزنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشّابَّ والشيخَ في سؤالِهما عنِ القُبْلةِ في الصَّومِ، فأمرَ الشَّيخَ بجوازِها، والشّابَّ بالنهي عنْها، وكذلك رخصُ السَّفرِ لا يُفتى بها أجناد وقتِنا؛ لمعرفتِنا بأسفارِهم، فهذا وأمثالُه لا يحصلُ إلاّ بمعرفة النّاسِ، وكذلك المُعْتدَّاتُ إذا كنَّ على صفاتِ وقتِنا، لا ينبغي أنْ يسهلَ عليهم أمر العِدَّةِ بقبولِ قولِهنَّ في أقصرِ مُدَّةٍ، بلْ تبنى الفُتيا لهنّ على العادةِ منَ الحيضِ، ويستشهدُ الثقات من بطانةِ اُهلِها، وإلى أمثالِ [ذلك]. فمتى لم يكنْ الفقيهُ ملاحظاً لأحوالِ النّاسِ، عارفاً لهم، وَضَعَ الفُتيا في غيرِ موضِعِها، وإلى هذا أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقولِه (¬3): "اسْتَفْتِ نفسَك، ولو ¬

_ (¬1) في الأصل: "ليكن". (¬2) في الأصل: "ينصب" (¬3) فِى الأصل: "لقوله".

* فصل: إلا يقف الاستفتاء والتقليد على إمام معصوم

أفتاكَ المفتونَ" (¬1). فصل ولا يقفُ الاستفتاءُ والتقليد على إمامٍ معصومٍ، بلْ منْ ظهرَ علمُه وعدالتُه وبلوغُه حده، كانَ تقليدُه جائزاً، خلافاَّ لَلشيعةِ: لا يُعتَدُّ إلا بتقليدِ إمامٍ معصومٍ، وهذا يُبنى على أصلٍ لهم نخالفُهم فيهِ، وهو إثباتُ معصومٍ غيرِ الإجماع. فصل الدلائل على ذلك فمنها: أنَّ العصمةَ لوْ كأنت معتبرةً في التقليدِ في الحكمِ، لكانت معتبرةً في المخبرينَ عنِ الإمام؛ لأنه لا تجتمعُ معَ شيعتِه في سائرِ الآفاقِ، فإنْ اوقِفَتِ (¬2) العصمةُ في المُبَلِّغينَ عنْه، بطلَ قولُهم؛ لأنَّ خبرَ الواحدِ غير المعصومِ عنِ المعصومِ فِى الحكمِ، كتقليدِ غيرِ المعصومِ في الأحكامِ أنفسِها، وإذا جازَ إسنادُ التقليدِ إلى المخبرِ عنِ الإمامِ، ولا عصمةَ في حقِّه، بطلَ هذا الأصلُ. ومنها: أنَّ الإمامَ عندَهم لم يَظْهَرْ تَقِيَّةً، والمُتَّقِي لا تظهرُ فتواهُ، ولا تنفصلُ التقِيَّةُ عنْ غيرِها في الفتوى، فلا يحصلُ الوقوفُ على أحكامِ اللهِ. ومنها: أنه لو راعينا في أحكامِ الفروع الرجوعَ إلى القولِ المقطوع، ¬

_ (¬1) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في "الحلية " 9/ 44 من حديث واثلة بن الأسقع. (¬2) في الأصل: "اومت".

* فصل: لا يجوز للعامي أن يستفتي في الأحكام من شاء بل عليه البحث

لوقفتِ الحوادثُ، وإذا بنيَ الأمرُ فيها على الظن، تحيرتِ (¬1) الأحكامُ. ومنها: أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ كرمَ الله وجهَه- وهو إلأصلُ في هذا - نطَقَ بما يُبنى على (¬2) الظنِّ دونَ القطع، مثلُ قولهِ في حدِّ السكرانِ: إنَّه إذا سكرَ هذى، وإذا هذى افترى، فحدُّوه حدَّ المفتري (¬3)، وقولِه في الرجلِ الذي كانَ يؤتى كما تؤتى النساءُ: عاقبوهُ بما عاقبَ الله بِه قومَ لوطٍ، وهو الرجمُ بالحصى (¬4)، وهذه استدلالاتٌ ظنيَّّةَ، وتعليلاتٌ إقناعيةٌ، بنى عليها الأحكامَ الشرعيةَ. فصل ولا يجوزُ للعاميِّ أنْ يستفتيَ في الأحكامِ مَن شاءَ، بل يجبُ أنْ يبحثَ عنْ حالِ مَن يريدُ سؤالَه وتقليدَه، فإذا أخبرَه أهلُ الثقةِ والخبرةِ أنَّه أهلٌ لذلك علماً وديانةً، حينئذٍ استفتاهُ. وقالَ قوم: لا يجبُ عليه ذلك، بلْ يسألُ منْ شاء (¬5). فصل في أدلنِنا فمنها: أنَّ الرجوعَ إلى قولِ الغيرِ لا يجوزُ إلا بعدَ العلمِ بأنَّه أهلٌ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فتحيرت". (¬2) فِى الأصل: "عن". (¬3) تقدم تخريجه 3/ 225. (¬4) انظر "السنن الكبرى" للبيهقي 8/ 232. (¬5) انظر "المسودة" (464).

- فصل في شبهة المخالف

لذلك؛ بدليلِ النبيِّ، والحاكمِ، والمقوِّمِ للسلع، والمخبرِ بالعيوبِ التي تنفسخُ بها العقودُ، وإذا ثبتَ هذا فيما عزَّ، وهوَ النبوةُ والإمامةُ والحكمُ، وفيما هانَ؛ كالعيوبِ وقيمِ المتلفاتِ، وجبَ اعتباره في التقليدِ في أحكامِ الشَّرع، ومتى لمْ يعتبرْ ذلكَ، لم يثقِ السائلُ بالمسؤولِ، والمستفتي بالمستفتى، ولم يكنْ قولُهُ بأَوْلى مِنْ قولِ غيرِهِ. ومِنْها: أنَّه لوْ كانَ سؤالُهُ لمَنْ شاءَ تقليداً كافياً، لجازَ لَهُ أنْ يفعلَ ما شاءَ، وكانَ ذلكَ كافياً. فصل في شبهة المخالف لوْ كانَ استعلامُ حالِ المستفتى معتبراً، لكانَ مِنَ الواجبِ عليهِ معرفةُ الأدلةِ التي تُسنَدُ إليها الأحكامُ، فلما لم يجبْ عليهِ البحثُ عنِ الأدلةِ، كذلكَ لايجبُ عليهِ البحثُ عنْ صفاتِ المسؤولِ. فيقالُ: أمَّا السُّؤالُ عَنْ حالِ المستفتى، فلا يقطعُ عَن الأشغالِ، ولا يَنْشَغِلُ بهِ عنِ المعايشِ؛ إذْ ليسَ بأمرِ يطولُ، فأمَّا تَعلّمُ العلومِ التي يَصلحُ بها للاجتهاد (¬1)، ويصيرُ بها أهلاً لذلكَ، فيحتاجُ إلى إفرادِ وقتِهِ، وإِفراغ وسعِهِ لذلك خاصةً، إلى أنْ يبلغَ مبلغَ أهلِ الاجتهادِ. فإنْ قيلَ: فهلْ تعتبرونَ التواترَ في كونِهِ منْ أهلِ الاجتهادِ؛ لتقطعوا على ذلكَ، أمْ تكتفونَ بخبر الواحدِ؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاجتهاد".

* فصل إن لم يكن في العصر، إلا عالم واحد، سقط طلب الأعلم والأورع

قيلَ نَكْتَفي بأخبارِ الآحادِ، كما نكتفي بخبر الواحدِ في الأحكامِ عَنِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليسَ طريق الرجوع إلى هذا بأَوْفى منْ طريقِ الرجوع إِلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، في الأحكامِ الشرعية. فصل فإن لم يكنْ في المِصْرِ إلاَّ عالمٌ واحدٌ، رجعَ إلى قولِهِ، وتسقطُ عنْهُ كلفةُ الاجتهادِ في طلبِ الأعلمِ والأورع، وإنما (¬1) كانَ كذلكَ، لأنَّ الوحدةَ أَبداً تُسقِطُ الترجيحَ والتخييرَ، كما إذا لم يجدْ إِلاَّ طعاماً (¬2) في كفارةِ التخييرِ، تعيَّنَ عليهِ، وإذا لم يجدْ إلاَّ واحداً يصلحُ للصلاةِ على الميتِ، تعيَّنَ عليهِ، وكذلك في كلِّ أمرٍ هو فرضٌ على الكفايةِ، وإذا عدم الجامدُ في الاستنجاءِ، تَعيَّنَ عليهِ استعمالُ الماءِ. فصل في الفرق بينَ النسخ والتخصيص مِنْ طريق الأحكامِ والجمع بينَهما في الَحقيقةِ اعلمْ أنَّ النسخَ: رفع وإزالةٌ للحكمِ في وقتٍ بعدَ أن كان ثابتاً على الدوامِ، كإِطلاقِ (¬3) قولِهِ: صَلُّوا إلى بيتِ المقدسِ، والصَّلاةُ قدْ قامتِ الدلالةُ على دوامِها وتكرُّرِها، والاستقبالُ الذي هوَ شرطها دائمٌ بدوامِها، ¬

_ (¬1) في الأصل: "وإن". (¬2) في الأصل: "طعام". (¬3) في الأصل: "باطلاق".

فإذا جاءَ النسخُ لقبلةِ بيتِ المقدسِ إلى الكعبةِ، كانَ النسخُ رافعاً للحكمِ في المستقبلِ عَنِ استقبالِ بيتِ المقدسِ فيهِ، وكانَ بياناً لزمانِ الاستقبالِ، كما إذا وردَ لفظُ العمومِ بحكم في أعيان، كقتل المشركينَ، وقتلِ المرتدينَ، ثم جاءَ النهيُ عَن قتلِ أهلِ الكتابِ إذا بذلوا الجزيةَ، وقَتْلِ النساءِ والصبيانِ، خرجوا من العمومِ، وزالَ الحكمُ في حقِّهم، وبانَ المرادُ منَ الأعيانِ المقتولينَ. فتحقق المعنى فيهما واحدٌ (¬1)؛ هذا تخصيصُ أعيان، وهذا تخصيصٌ لزمان، وهذا بيانٌ لمدةِ التعبدِ باستقبالِ القبلةِ الأُولى، وإزالة التعبد في المستقبلِ باستقبالِها، وكذلكَ تحريمُ الخمرِ وإباحتُها، وإلى أمثالِ ذلكَ. فأمّا افتراقُهما في غيرِ الحقيقةِ، فإنَّ النسخَ بدليلِ العقلِ لايجوزُ، ويجوزُ التخصيصُ بدليلِ العقلِ، ولايجوزُ النسخُ بهِ، وإنَّما كانَ كذلكَ، لأَنَّ دليلَ العقلِ يعملُ في قولِه: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وإخراج صفاتِه سبحانَه، وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] تعمل فيهِ دلالةُ العقلِ؛ بأنها ما دمَّرتْ هوداً ولا قومَه ممَّن آمنَ بِهِ، وكانَ ذلك لدليلِ العقلِ المانع منْ كونِ (¬2) صفاتِهِ اللازمة محدثةً، لما منعَ العقلُ منْهُ؛ منْ خلوِّه سبحانه مِن علمٍ وقدرةٍ وحياةٍ، ومنعَ منْ إرسالِ الريح مهلكةً لمَنْ خالفَهُ، ثُمَّ يهلكُ بها مَنْ تابَعَه، فلا يكونُ ذلكَ هدىً، بلْ تضليلاً وإعداماً للثقةِ بالرُّسلِ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "واحدا". (¬2) في الأصل: "كونه".

* فصل في غرائب المسائل والفصول

فأمَّا النسخ، فلا يثبتُ إلاَّ بطريقٍ واحدٍ ليسَ للعقلِ طريقٌ إلى علمهِ، وهوَ المصلحة في وقتِ إثباتِ الحكمِ، والمفسدة بإثْباتِهِ في وقتِ نسخِهِ، وهذا أمرٌ لا اطلاعَ للعقلِ عليهِ، فلذلكَ اختلفْنا فيهِ. وأمَّا التخصيصُ للقرآن بخبرِ الواحدِ، والقياسِ، وقولِ الصحابيِّ، وغيرِ ذلكَ منَ الأدةِ الظنيةِ، فكلَّ ذلكَ ممنوعٌ منهِ عندَ قومٍ، ومُجوَّزٌ النسخُ بهِ عندَ طائفةٍ، فليسَ شيءٌ منْ ذلكَ متفقاً على إثباتِهِ مخصِّصاً أو، إثباتِه ناسخاً. فصل وإنَّما سلكتُ فيه (¬1) تفصيلَ المذاهبِ، ثمَّ الأدلَّةِ، ثمَّ الأسئلة، ثم الأجوبةِ عنها، ثم الشبهاتِ، ثم الأجوبةِ، تعليماً لطريقةِ النظرِ للمبتدئينَ، والله الموفق بمنِهِ وكرمه. [فصل] مسائل تَتبعْتها ممَّا كنتُ أَغفلْمنها، وفصول لقطتها منَ الكتبِ والمجالس من غرائب المسائل والفصولِ. إنْ قالَ قائلٌ: هلْ يجوزُ تأبيدُ التكليفِ إَلى غيرِ غايةٍ؟ فقدِ اختلفَ الناسُ في ذلك: فذهبَ الفقهاءُ، والأشاعرةُ مِنَ الأصوليينَ: إلى جوازِ ذلكِ في عدلِ ¬

_ (¬1) يُبين ابنُ عقيلٍ رحمه الله، هنا الطريقة التي اتبعها في ترتيب كتابه، ولعل هذا آخر الكتاب، وألحق فيما بعدُ المسائل الآتية، والله أعلم.

- فصل في الدلالة على ذلك

اللهِ وحكمتِهِ؛ فإنَّ لَهُ أنْ يقطعَ التكليفَ، ولَة أنْ يديمَه ويُؤبِّدَة. وقالتِ المعتزلةُ: لايجوزُ ذلكَ، ولايجوزُ في عدلِ اللهِ وحكمتِهِ إدامتُه تكليفَه لخلقِهِ، بلْ يجث أنْ ينتهيَ ذلكَ إلى غايةٍ. فصل في الدلالةِ على جواز ذلكَ ما أجمع المسلمونَ عليهِ مِنْ وجوبِ طاَعةِ اللهِ سبحانَهُ، ووجوبِ شكرِهِ على ما ابتدأَ بِهِ من النعمِ مِنْ غيرِ استحقاقٍ: إخراجِ من العدم، ودعاءٍ إلى المعرفةِ، وإقامةِ شواهدَ تدلُّ عليها، وترشد إليها، وأرزاقٍ دارَّة، وإلى نعم لاتحصى [ولا] تعد، كما قالَ سبحانُه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] واقتضانا الشكر (¬1) عليها، حيث قال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وساقَ الاقتضاءَ، وبيَّنَه: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 8 - 14]، فإذا ثبت وجوبُ طاعتِهِ وشكرِه، وأبقى المنعمَ عليهِ أبداً، حَسُنَ أنْ يديمَ إيجابَ الطاعةِ والشكرِ أبداً. فصل في شبههم قالوا: تُبْنى المسألةُ على أصلٍ، و [هو] أنَّ الثوابَ على الأعمالِ التي ¬

_ (¬1) في الأصل: "لشكر".

تضمنها التكليفُ، الشاقَّةِ على المكلفينَ بم منَ الوضوءِ في السَّبَراتِ (¬1)، والانزعاج من لذيذِ الرقادِ إلى الصَّلواتِ، وتركِ الماءِ البارِد في الصَّيفِ لأجل الصَّومِ، وهجران اللذاتِ لأجلِ نهيِهِ سبحانَهُ، والحمل (¬2) للسلاح، والثباتِ عندَ لقاءِ العدوًّ في مصافِّ الغزواتِ، ومقاطعةِ الأهلِ والعشيرةِ تعظيماً لكلمةِ اللهِ، وبغضاً في اللهِ، والصَّفح عنِ الإساءاتِ منْ قِبل الأقارب، وبَذْلِ الأموال حباً في اللهِ، والصَّبرِ على من آذى (¬3) أيضاً، وإنْ صعب على الطباع، وأَوْجعَ النفوسَ، كل ذلك مما ضَمِنَ عنه الأَعْواضَ، وأوجبَ على نفسِهِ المقابلةَ عليه بالنَّعيمِ، فإذا جوَّزتم إدامةَ التكليف، لم يبق زمان للمجازاةِ، فمن هاهنا أحلنا ذلك ومنعناه. قالوا: وكذلك من أصلنا: أنَّ الوعيدَ واجب، وأنَّ العفوَ عن العصاة المصرِّين غيرُ جائزٍ، فلابدَّ من زمانِ المجازاة، وإيقاع العقوبةِ، فمنْ هذينِ الأَصلين منعنا إدامةَ التكليف إلى غير غاية. والجوابُ: أنَّنا نعتبرُ هذين (¬4) الأصلين بما أوجب الله علينا من الطَّاعة بإجماعِنا، ولوْ قُلْنا: يجب الجزاءُ والثوابُ عن الفعل الواجب، لوجب علينا أيضاً الشكرُ عنِ الثوابِ الواجبِ، ولانزال كذلك نقابلُ واجباً (¬5) بواجب، فلا ننتهي إلى غاية، وقدْ ثبتَ أنَّ كلَّ واجبٍ، من قضاءِ الديونِ، ¬

_ (¬1) السَّبْرَةُ، بالفتح: الغداة الباردة، والجمع: سَبَرات. "القاموس": (سبر). (¬2) في الأصل: "الصمد". (¬3) في الأصل: "موارد". (¬4) االأصل: "هذان". (¬5) في الأصل: "واجب".

* فصل هل يصح أن يكون المكلف في نظره مطيعا؟

وأداءِ الحقوقِ، لايجبُ الشكرُ عليهِ، ولا الجزاءُ عنْهُ، فإذا ثبتَ وجوب طاعةِ اللهِ، بطلَ إيجابُ الجزاءِ عليها، والأجرِ عنْها. ولأَنهم قدْ قالوا: إنَّ تركَ المعرفةِ قبيح، وكذلكَ إهمال الاستدلالِ والنظرِ المؤديينِ إلى المعرفةِ، وإذا كانا قبيحينِ لأنفسِهما، وجبَ تركُهما بقضيةِ العقلِ، فمنْ أينَ يجبُ ثواب على ذلكَ، والحالُ هذهِ؟ وأمَّا وجوبُ دوامِ العقابِ، فظاهرُ (¬1) الفسادِ؛ فإنَّ العفوَ عَنْ كلِّ عقوبةٍ حسن في العقلِ، إلا إذا كانت تُفضيْ إلى مفسدةٍ توفي على ذلكَ، ولامفسدةَ في عفوِ اللهِ عنْ جميع حقوقِهِ بعدَ زوالِ التكليفِ. فصل هلْ يصحُّ أنْ يكونَ في نظرِهِ مطيعاً؟ قالَ أهلُ التحقيق لايتَأَتَّى أنْ يكونَ مطيعاً في نظرِهِ، لأنَّ النظرَ فِى دلائلِ العبرِ هيَ الطريقُ الموصلُ إلى معرفةِ الآمرِ الواجبِ (¬2) طاعتُهُ، ولاتصحُّ طاعةُ مَنْ لم يعرفْ، ولا معرفةَ لمَنْ لم ينظرْ، فمنْ هذا الوجهِ امْتَنعَتْ طاعةُ الناظرِ في نظرِهِ المؤدي إلى معرفةِ مَنْ تلزمُ استجابةُ أَمره. اعترضَ معترضٌ بآيات الأمْرِ بالنظرِ، والمدح عليهِ، والذمِّ على تركه: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [يوسف: 109]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ ¬

_ (¬1) في الأصل: "بظاهر". (¬2) في الأصل: "الواجبه".

* فصل في أخبار الآحاد إذا جاءت بما ظاهره التشبيه، هل يجب ردها رأسا، أو يجب قبولها، ويكلف العلماء تأويلها؟

لِلْمُوقِنِينَ (20)} [الذاريات: 20]، وإلى أمثال ذلك، وإذا ثبتَ الأمرُ، فإنه استدعاءٌ من الأعلى، فإذا وقعَ النظرُ منَ الأدنى، تحفقَ حدّ الطَّاعةِ؛ لأن حدَّها الانقياد لأمرِ الأَعلى. فيقالُ: لسْنا نمنعُ أنْ يكونَ مأموراً بكتابٍ سبقتِ المعرفةُ بالمتكلمِ بِهِ جلتْ عظمتُهُ، وهوَ الآمرُ، فالانقيادُ لَهُ بعدَ النظرِ الأولِ المُحصِّلِ لإثباتِهِ، ووجوبِ الاستجابة لَهُ، وكلامُنا في النظرِ الأوَّلِ الذي هوَ مقدمةُ العرفانِ، ذلكَ الذي لايقعُ طاعةً، لأنهُ ما ثبتَ الأمرُ المطاعُ قبلَ النظرِ في دلائلِ إِثباتِهِ، فخرجتِ الآياتُ عَنْ كونِها دلائلَ فيما وقعَ الخلافُ فيهِ. فصل في أخبارِ الآحاد إذا جاءتْ بما ظاهره التشبيهُ، والتأويلُ فيها [غيرُ] محالٍ، لكنْ يَبعُدُ عن اللّغة حتى يكونَ كأنه لغزٌ، هلْ يجبُ ردّها رأساً، أو يجبُ قبولُها، ويُكلَّفُ العلماءُ تأويلَها؟ اختلفَ الأصوليونَ في ذلكَ على ثلاثة مذاهبَ: فقومٌ قالوا بظاهرِها؛ لأنَّ ظاهرها لايعطي الأعضاءَ والانفعالات، وحمل الأعراضِ؛ لأنها بينَ ذكرِ يدٍ ورجلٍ، وحَقْوٍ وأصابعَ، وأضراسٍ ولهواتٍ، ونزولِ وصعودٍ، ومشي وتدل، ووضع يدٍ على ظهرٍ ولها بردٌ، واستلقاءٍ على الَظهر ووضع إحدى الرجلينِ على الأخرى، إلى أمثال ذلك من إثبات الغضبِ صفةَ ذاتٍ، والرحمةِ صفةَ ذاتٍ، وهي [عبارةٌ] عنِ التهاب وغليان دم القلب طلباً للانتقام، ورقة طبع يتألم بوقوع الألم

- فصل الدلالة على وجوب قبولها

والمكروهِ بالحيوانِ. الذهبُ الثاني: ردُّوا الأخبارَ صفحاً، وكذبوا رواتها، واتهموهم بأنواع التهمِ؛ إمَّا الوضع والكذب على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أو عدم الضبطِ، أو كُذب لهم ولم يعلموا، ووضع على أسانيدَ صحاح، فاغتروا بذلكَ، وروَوْها منْ غيرِ النظرِ إلى بُعْدِ معانيها عنِ اللهِ سبحانَهُ. والمذهبُ (¬1) الثالثُ قالَ: يجبُ قبولُها حيث تلقَّاها أصحابُ الحديثِ بالقبول، ويجبُ تأويلها لنقضها على ما يدفعُها عنْ ظاهرِها، وإنْ كانَ منْ بعيد اللَّغةِ ونادِرِها، وهذا هو اعتقادُنا، ولايختلف العلماء أنّه إذا كانَ طريقُ ذلكَ قطعياً؛ كالوارِد في آيِ القرآنِ منْ ذلكَ، وأخبارِ التواترِ لا تردُّ، بل تُقْبَلُ على مذهبينِ؛ إمَّا التأويل، أوِ الحمل على الظاهِر. فصل والدلالةُ على وجوبِ قبولها: أنَّ رواةَ هذهِ الأخبارِ، والمتلقينَ لها بالقبولِ، هُمُ العدولُ الثقاتُ الذينَ رضينا بهم في إشغالِ [الذِّممِ] الخاليةِ من الحقوقِ والأموالِ والديونِ، وأرقنا بهم الدماءَ المحقونةَ، وأبحنا بهم الفروج المعصومةَ، فلا وجهَ لردِّ أخبارِهم مع إمكانِ تأويلِ ما جاؤوا بهِ، وعدم استحالتِهِ التي توجبُ كذبَهم، لاسيَّما وقدْ عضدَ ذلك ما جاءَ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ممّا يوجبُ ظاهِرُه التشبيهَ؛ كذكرِ اليدينِ، والوجهِ، والمجئ والإتيانِ، والإقراضِ، معَ وصفِهِ نفسَهُ بأنَّ له كلَّ شىءٍ، [فقال]: ¬

_ (¬1) في الأصل: "قال والمذهب".

{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21]، وإضافةِ المكرِ والاستهزاءِ والأذيةِ إليهِ؛ بقولِه تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57]، وظواهرُ هذه الألفاظِ كلها مستحيلةٌ على اللهِ سبحانَهُ، فحُمِلَت بالتأويلِ (¬1) على أذيةِ رسولِهِ، والاقتراضِ من الأَغنياءِ منْ خلقِهِ للفقراءِ، فعبَّر عنِ الفقراء بنفسِهِ، وعلى هذا كلّ ما (¬2) جاءتِ [به] الأخبارُ مستبعداً (¬3) منَ الشرائع وكتبِها ورموزِها ومقدَّراتِها ومحذوفِها وزائدِها، وسرُّ ذلكَ: أنه قصدَ امتحانَ العلماءِ؛ ليجهدوا أنفسَهم باستخراخ التأويلِ الصارفِ لها عَنِ الظواهِر التي تقتضي التشبيهَ بالنُّصوصِ التي في كتبِهِ، وبأدلَّةِ العقولِ التي منحَهم، ولمعنى آخرَ أغمضَ منهُ وأدقَّ، وهو أنَّ الله سبحانَه علمَ أنَّ أكثرَ الناسِ عبدوا المحسوساتِ، وأنِسُوا إليها؛ لمكانِ المجانسةِ في الحدثِ والحسن، فقومٌ عبدوا النجومَ استحساناً لها، ونظراً إليها بعينِ البقاءِ والدوامِ، ثمَّ التّأثيراتِ (¬4) على ما توهموهُ منَ الأحكامِ، وأضافوا إلى كلِّ نجمٍ أمراً منَ الأمورِ منَ المنافع والمضارِّ والشرورِ واتفاقِ الأمور، وجعلوا جميعَ ما يحدثُ في العالم السّفليِّ إنَّما بتأثيرٍ عنها، وقومٌ عبدوا النّوَرَ والظلمةَ، وأضافوا الخيرَ إلى النُّورِ، وإلى الظلمةِ المضارَّ والشرورَ، وقومٌ عبدوا الملائكةَ، وقوم عبدوا الأشخاصَ كعيسى وعُزَيرٍ، وقومٌ عبدوا بعضَ البهائمِ كالبقرِ، وقوم عبدوا الديكةَ، ¬

_ (¬1) في الأصل: "حملت التأويل". (¬2) في الأصل: "لما". (¬3) في الأصل: "مستبعد". (¬4) في الأصل: "المتاثرات".

وقومٌ عبدوا الحجارةَ المُشكلةَ، وكلُّ مَنِ استحسنَ شيئاً عبدَهُ، أو كَلِفَ بشيءٍ عظمَهُ، فأنست نفوسُ العالمِ إلى المحسوسِ المقطوعِ بوجودِهِ منْ طريقِ المشُاهَدة، فلوْ جاءتِ الشرائعُ بالتنْزِيه المحضِ، لجاءت بما يطابق الجحدَ والنفيَ، فلوْ قالوا: صفْ لنا ربَّنا؟ فقالَ: لاجسم، ولا عرض، ولا حامل، ولامحمول، ولا طويل، ولا عريض، ولا بشاغلٍ لمكانٍ ولا لجهة منَ الجهات الست، ولا متلوِّن، ولا ساكن، ولا متحرك، ولاراض، ولا غضبان، ولايحب، ولا يبغض، ولايريدُ، ولا يكره، ولا يغتمُّ، ولا يسرُّ، ولا يُتَخَيَّلُ في النفوس، ولا له صورة في القلوب من داخل، ولا يدركه الإحساسن من خارج، لقالوا له: فهاتِ حُدَّ لنا النفيَ، بأن تُميِّزَ ما تدعونا إلى عبادته على النفي، وإلاَّ علمنا (¬1) أنك دعوتنا إلى عبادةِ عدمٍ، وعيَّرتنا بعبادة أشياء موجودة، تأثيراتُها محسوسة، فهذِه الشمسُ تنضج الثمار، وتجفِّف الحبوبَ، وتعدل الأمزجة، وهذه النجوم تؤثرُ الاهتداء والاستضاءة، وهذه الرياحُ تُؤَبِّرُ اللقاح، وهذه الأصنام والأزلام قد جرَّبنا عليها النجاح، وبلوغ الأغراض، وأنت فقد أتيتنا بمحض النفي والعدمِ، تدعونا إلى تعظيمِهِ، فلما علم ذلك سبحانه بالعلم الإلهي، والخالقُ أعلمُ بما خلق، جاءَهمْ بأمماءٍ يعقلونَها، وصفاتٍ تعطي بلوغَ الأغراض؛ كلُّ صفةٍ تؤثر معنىً من منافعهم، فسميعٌ يعطي سماعَ أدعيتهم، وبصير يعطي النظر إلى ما يعرض لهم، ورحيم للتحنّنِ عليهمْ، وغضبانُ يوجب الانتقام من السيء المخالف لما وضعه من الشَّرائع لصالِحهم، وإلى أمثالِ ذلكَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "علمت".

- فصل في شبه المخالفين

فلما عقلوا (¬1) بالإثبات، جاءَ بنفي التشبيهِ، ولو بادأهمْ بالنَّفى، لأُحيلَ الإثباتُ، ثمَّ جاءتِ الأخبار والآثارُ بما يطابقُ القرآنَ، وكانَ القومُ أهلَ معاريضَ ورموزٍ واستعاراتٍ وتحاذيفَ (¬2) ومقاديرَ، فإذا قالَ: "الحجرُ الأسودُ يمينُ الله" (¬3)، علموا أنَّه أرادَ: جعلَهُ كيمينِ المصافح، فإذا قال: "الريحُ نَفَسُ الرحمن" (¬4)، علموا أنَّه أرادَ: تَفعل ما يفعلُ النفسُ مِنْ تنفيسِ الكُربِ، وترويح دواخل الأجسام، وبواطنِ الحيوان، وإذا قال: " اشدُدْ وَطْأتَكَ على مضر" (¬5)، و"آخر وطأةٍ وطئها الله بوَج" (¬6)، علموا أنَّهُ أرادَ: العذابَ، لا الدوسَ بجارحة الرِّجل، وعلى هذا فما أغنانا مع هذهِ الطريقةِ عَنْ ردِّ آثارٍ رواها الثقاث الأَثْباتُ الذينَ بنيْنا على رواياتِهم إراقةَ الدماءِ المحقونةِ، واستباحةَ الفروج المعصومةِ. فصل في شبههم قالوا: إن الاستلانةَ والمساهلةَ في سماع هذه الأحاديثِ وقَبولِها فيهِ منَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "عيعوا". (¬2) في الأصل: "وتحاويف". (¬3) أخرجه الخطيب في "تاريخه" 6/ 328 من حديث جابر. (¬4) أخرجه عبد بن حميد من حديث أبي الدرداء كما في "المطالب العالية" (3373)، ولفظه: "الريح نفس الله". (¬5) أخر جه أحمد (7260)، والبخاري (6200)، ومسلمِ (675) (294)، والنسائي 2/ 201، وابن ماجه (1244) من حديث أبي هريرة مطولاَ. (¬6) أخرجه أحمد 4/ 172 من حديث يعلى العامري، و 6/ 409 من حديث خولة بنت حكم. و"وجُّ ": اسمُ وادٍ بالطائف لا بلد به. "القاموس": (وجّ).

الفساد مالا يندفُع بالتأويلِ، لأنَّ التأويلَ البعيدَ تنفرُ عنْهُ القلوبُ، لاسيَّما في حقِّ العوامِّ، وإذا دارتْ في الكتب، وسُمِعَتْ، ولم يُنكِرْها العلماءُ، ترسَّخَ في النفوسِ التشبيهُ، وتَعذَّرَتْ إزالته بضربٍ منَ التأويلِ، فكانَ حسمُ المادةِ بردِّهِ أَوْلى منَ المساهلَةِ والمسامحةِ بإثباتِهِ، والعلاج بنفى ظاهرِه، وقد بانَ ووضحَ مِنْ فسادِ طوائفَ كثيرةٍ منْ أصحابِ الحديث، وُلو ردَّتْ بأوَّلِ وهلةٍ، استرحنا وغنينا عَنْ كدِّ نفوسِنا بمنابذتهم، ومداراتِهم، وعلاجِهم بالتأويلِ الذي تَمُجُّه أسماعُهم، وهَبْ أنك تأوَّلتَ اليدَ والأَذى والإقراضَ، فما الذي عسانا نتأول به أنَّه يضحكُ، حتى تَبْدُوَ أضراسُه ونواجذُه (¬1)، وروي: ولهاته؛ والرَّحِمُ شُجْنةٌ (¬2) آخذةٌ - أو متعلِّقةٌ - بحَقْوِ الرَّحمنِ (¬3)، وأنَّه لما خلقَ السَّماوات والأرضَ، استلقى على عرشِهِ، ورفعَ إحدى رجليهِ على الأخرى، وقالَ: هذهِ نومةٌ لاينبغي لأحدٍ أنْ ينامها، أوْ ما شاكلَ هذا اللًفظَ، فإنَّ بعضَ الصَّحابةِ نامَ كذلكَ، فقرص آخرُ رجلَهُ، فقالَ: أوجعتني يا ابن أخي، فقالَ: ذاكَ أردْتُ، وروى لَهُ الحديثَ (¬4)، وهذا تصريحٌ بالتشبيهِ، والقرآنُ يكذبُ ذلكَ بقولِه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ ¬

_ (¬1) انظر ما ورد في ذلك في "الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 401 وما بعدها. (¬2) في الأصل: "والرحمة شجن". (¬3) انظر "الأسماء والصفات" 2/ 222 - 225. (¬4) أخرجه البراني في "الكبير" 19/ 13، والبيهقي في "الأسماء والصفات": (761) وقال: "فهذا حديث منكر". وذكره الألباني في "السلسلة الضعيفة": (755) وقال: "فالحديث يُسْتَشم منه رائحة اليهودية الذين يزعمون أن الله تبارك وتعالى بعد أن فرغ من خلق السماوات والأرض استراح، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وأنا أعتقد أن أهل هذا الحديث من الاسرائيليات ..... ".

لُغُوبٍ} [ق: 38]، وقوله: "القلبُ بينَ إصبعينِ منْ أصابع الربِّ، إنْ شاءَ أنْ يقيمَه أقامَهُ، وإن شاءَ أن يزيغَه أزاغه" (¬1)، و"إنَّ الملائكةَ خلِقَتْ من نورِ الذراعين" (¬2)، و"إنَّه مَرِضَتْ عينه، فعادَتْة الملائكةُ" (¬3)، وإلى أشباهِ ذلكَ، فتركُ هذهِ في كتبِ الشريعةِ، وجريُها على الألسنِ، وقبولُ العلماءِ لها، فتحُ بابٍ لايسدُّه إلاَّ الردُّ والإِنكارُ، وإذا استهدفَ لها الملحدةُ، مَجَنُوا واستهزؤوا بالشَّرع، وسخفوا، وجاءَ مِنْ ذلكَ تنفير العوامِّ عَنِ الشرائع، فما يقي ما ذكرتُم مِنْ قبولِ قولِ الرُّواةِ مثل هذا الفسادِ العظيمِ، ومن يَنْزِعُ (¬4) من القلوبِ التشكلَ والتمثيلَ والتشبيهَ بعدَ ما كتَبهُ؛ فما أغنانا عَنْ قبول شيءٍ يُثْبِتُ هذا الداءَ العضالَ، ثمَّ يعودُ يُعالِجُه، وعساهُ لايبرأُ بالعلاج. وفارقَ ما جاءَ في القرآنِ؛ فإنَّه قطعيٌّ لم يبقَ لنا في ردِّه حيلةٌ، فأَخْلَدْنا إلى التأويلِ، وأزلنا التشبيه بما قدرنا، وأردنا (¬5) أنْ لايكون فيه شيءٌ يوهمُ التشبيهَ. ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه أحمد (6569) و (6610)، ومسلبم (2654)، وابن حبان (902)، والنسائي في "الكبرى" (7739) من حديث عبد الله بن عمرو. (¬2) أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات": (744)، وأبو الشيخ في "العَظَمة" 2/ 733، والبزار في مسنده 2/ 449، وابن مندة في الرد على الجهمية (78) عن عبد الله بن عمرو. (¬3) هذا مما دَسَّهُ الزنادقةُ في الأحاديث لاجتيالِ الإسلام، انظر "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة: 245. (¬4) في الأصل: "سوع". (¬5) في الأصل: "ولروونا".

- فصل الأجوبة عن ذلك

فصل الأجوبة عن ذلك إنَّ الفسادَ الذي جاءَ إنما اتُوا فيه مِنْ قِبَلِ نفوسِهم، وقلةِ مبالاتِهمْ بتحقيقِ النظرِ في اللهِ سبحانَهُ، (1 وصفاتِهِ التي رواها 1) الثقات، ولوْ صدقوا النظرَ، هجَمَ بهمْ على حقيقةِ ما يَستحِقّه سبحانَهُ مِنْ نفي النقائصِ عنْهُ، فإذا جاءتِ الألفاظُ التيْ للغةِ العربِ فيها نوعُ مساغ واتِّساع، وإنْ بَعُدَ عَنِ الحقيقةِ، صرفُوها عَنْ ذلك تبعيداً لها عَمَّا لايليقُ بالأزليِّ جلّتْ عظمتُهُ، ولوْ كانَ البارئ لايريدُ الامتحانَ والابتلاءَ بهذِه الألفاظِ، لما ضَمَّنها كتابَهُ العزيزَ، وإنْ كانَ عالماً بأنَّهُ سيضلُّ بها خلقٌ كثيرٌ، لكنَّهُ اعتمَد على ما أوضحَ بهِ السَّبيلَ، منْ نصِّ كتابِهِ، وما وضعَ في العقولِ منْ وجوبِ نفي التشبيهِ عنْ ذاتِهِ، ومهما وجدْنا للتأويلِ مساغاً، كنا ممنوعينَ مِنْ تكذيب الثقاتِ، وردِّ أخبارِ الرُّواة، ولو رددْنا خبرَهم في قبيلِ هذا، وماَ علينا تفسيقُهم، ولوْ وجب تفسيقُهم، لما ساغَ لنا سماعُ أخبارِهمْ في الدماءِ والفروج. فإنْ قيلَ: لايلزمُ هذا، لأنَّ الشَّرعَ مبنيٌّ على سماع قول الإنسانِ في شيءٍ دونَ شىءٍ، فسمع في الأموال شهوداً ردَّهم في الدماءِ والفروج، وهيَ شهادةُ النساءِ معَ الرجالِ، وسمع في الولادة لِشاهدٍ (¬2) بغيرِ رجالٍ، ولم يسمعْ ذلك في الأموالِ، وردَّ شهادةَ الأبِ العدلِ لابنِهِ، ولم يَرُدَّ ¬

_ (1 - 1) فِى الأصل: "الذي روى عير" (¬2) في الأصل: "ساهد".

* فصل إذا نسخ التنبيه لم ينسخ ما نبه عليه

شهادتَهُ لغيرِ ابنِهِ، ولايقالُ: فسَّقَهُ بالردِّ، وكذلكَ العدوُّ معَ عدوِّه، وقَبِلَ أخبارَ الدياناتِ منَ العبيدِ والنساءِ، ومن وراءِ حجابٍ، وبالعنعنةِ، ولم يَقبلْ مثلَ ذلكَ منْ أولئكَ بأعيانِهم بلفظِ الشَّهادةِ. قيلَ: إنَّ الشَّهاداتِ على غيرِ بناءِ الأخبارِ؛ بدليلِ أنَّ أخبارَ النِّساءِ والعبيدِ في الحدودِ والقصاصِ مقبولةٌ، وفي الشهاداتِ مردودةٌ، وخبرُ الواحدِ في كلِّ شيءٍ مقبول، ولايُقبلُ في الشَّهادةِ إلا العدلانِ (¬1). ولأنَّ المانعَ ها هنا ليسَ إلاَّ التشبيهَ، فإذا انتفى عنهم بنوع تأويلِ لما يجبُ تأويلُهُ، بَقِيَ الرَّدُّ تَشَهِّياً لا لمعنى. فصل إذا نُسِخَ التَّنْبيهُ، لم ينُسَخْ ما نبهَ عليه، مثالُهُ: أنْ يُنسخَ المنعُ منَ التأفيف، فإنَّه لايرتفُع المنعُ منَ الإضرارِ والأذيةِ ممّا زاد على أذيَّةِ التأفيفِ؛ خلافاً لبعضِ القائلينَ بأنَّه قياس جليٌّ. لنا: أنَّ هذا يبتَنى على أصلٍ، و [هو] أنَّ التنبيهَ ليس بقياسٍ، وإنَّما هو من جملة النصوص الموضوعة للنهي عن الزائدِ والأكثرِ، فإذا ثبتَ ذلكَ، كان نسخُ النصِّ الناهي عنْ شيءٍ، لايوجبُ نسخَ النهي عن شيءٍ آخرَ نُصَّ على (¬2) النهي عنْهُ، مثلُ أنْ يقولَ: لاتُؤْذِهما (¬3) بالتبرُّمِ والتَّضجُّرِ، ولاتُوْذِهما (2) بالشتمِ والسبِّ، ثمَّ إنهُ نَسَخَ الأدنى من الأذايا، بقيَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "العدلين". (¬2) في الأصل: "عن". (¬3) في الأصل: "تؤذيهما".

* فصل في قول المخالف والرد عليه

المنصوصُ عليهِ بالنهي، وهوَ الأكثر من الأذايا. والدلالةُ على هذا الأصلِ: أنَّ العربَ وضعت هذا نصاً مختصراً، فإذا أرادتِ استئصالَ الأذايا بالنهي، قالتْ: لاتقلْ لفلانِ أف، ولا تأخذْ منْ مالِهِ ذرَّةً، فيكونُ أخصَّ نصّاً منْ قولِهِ: لاتظلمْهُ بدينارٍ، ولا قنطارٍ، ولا بذرةٍ، وأخصرَ مِنْ قولِه: لاتشتمْه، ولاتسبَّه، فإنَّ هذا اليسيرَ المنبَّه به بعضُ ذاك الكثيرِ المنبَّهِ عليه. فصل قالوا: إنَّ التنبيهَ معقولٌ ومعنى وقياس، بدليلِ أنه يفهمُ منَ النهي عنِ التأفيفِ النهيُ عنْ أدنى الأذايا، لكونِه أذى، فإذا عُلِمَ أنهُ نهى عنْهُ؛ لأنه أذىً، وهو أذىً يسير، نَبَّهَ بذلكَ على النهي عنِ الأذى الذي هو أوفى، فإذا كانَ الأكثرُ مأخوذاً من هذا المنصوصِ عليه، وهو الأقلُّ، ثمَّ نُسخَ الأصلُ المستفادُ منه النهيُ، ارتفعَ (¬1) المستفادُ المأخوذُ، كما لو نصَّ على أَعْيان في منع (¬2) التفاضلِ، فعقلنا من ذلكَ النهي عِلته، كطعمٍ، أو قوتٍ، أو كيلٍ، فعدَّينا الحكمَ إلى الفروع غير (¬3) المنصوصِ عليها، ثم نسِخَ الحكمُ في الأصولِ المنصوصِ عليها، فإنه يرتفُع الحكمُ في الفروع، كذلكَ ها هنا. فيقالُ: قدْ مَنَعْنا هذا الأصلَ، وبَيَّنا أنَّه ليس من القياسِ في شيءٍ، ثمَّ لو دَخَلْنا على هذا، لم يكنْ صحيحاً أيْضاً؛ لأنَّ النهيَ عن اليسير نهي عنِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وارتفع". (¬2) في الأصل: "صيع". (¬3) في الأصل: "عن".

* فصل اختلف الناس في العلة التي لأجلها لم يحصل لنا العلم الضروري بصحة قول الأعداد الذين بخبرهم يحصل التواتر

الكثيرِ، لكنَّ الكثيرَ جُمْلةٌ فيها أَضْعافُ ذلكَ القليلِ، وإباحةُ القليلِ لاتعطي إباحةَ الكثيرِ، ولا يدخلُ الكثيرُ في القليلِ إباحةً وعفواً. فصل اختلف الناسُ في العلةِ التي لأجلِها لم يَحْصُلْ لنا العلمُ الضروريُّ بصحَّةِ قولِ الأعدادِ الذين بخَبَرِهم (¬1) يحصلُ التواترُ، وحصلَ بخبرهم عن دركِ الحواسِّ العلمُ الضَّروريّ. فقالَ قوم: العلةُ في ذلكَ: [أنهم] في أنفسِهم غيرُ مضطرينَ بالعلمِ الاستدلاليِّ إلى ما أفضى بهمُ الاستدلالُ إليهِ، مثل: القول بحدث العالمِ، أو إثباتِ الصانع، فإذا كانوا غيرَ مضطرينَ في أنفسِهم، استحالَ أنْ يكونَ السَّامعُ منهم مضطراً، فيكونُ الفرعُ أكثرَ منْ أصلِهِ. وقال قوم: إنَّ هذا ليسَ بتعليلٍ صحيحٍ، لأنه باطل بما يخبرنا به المهندسونَ منَ المقادير والنهاياتِ والخطوطِ، فإنّا لانجدُ أنفسَنا مضطرينَ إلى علمه، وإن كثر عددهم، فكانوا ببراهينهم (¬2) قاطعين بما أخبروا به مضطرين، فلوْ كانت العلةُ في كونِنا مضطرينَ إلى علمِ ما أخْبَرَنا بهِ أربابُ الحواسِّ كونَهم أخبرونا عنْ علمٍ ضروري، لكنا مضطرينَ إلى ما يخبرنا به أهلُ الهندسةِ وعلمِ الهيئةِ، لأنَّهمْ أخبرونا عنْ ضرورةٍ تجري مجرى درَكِ الحواسَ. ¬

_ (¬1) فِى الأصل: "التي بتاخرهم". (¬2) في الأصل: "براهينهم".

* فصل هل يثبت الإجماع بخبر الواحد؟

فيقال: إنَّ لتلكَ العلومِ طرقاً وَعِيرَةً، وموصلاتٍ غامضةً تجري مجرى متائه الطرقِ، فلا يحص لنا (¬1) معَهم المشاركةُ؛ لعدم مشاركتنا لهمْ في التهدي إلى تلكَ المراقي والمدارج التيْ ينتهي فيها إلى الغاياتِ، فصاروا كالمخبرين لنا عنْ أمرٍ لايقطع بصحتِهِ، ويجوز خطأهمْ فيهِ. فصل هلْ يثبتُ الإجماعُ بخبر الواحدِ؟ بيانُهُ؛ أنْ ينقلَ إلينا الواحدُ أن الصَّحابَةَ أجمعت على المنعٍ منْ بيعٍ أمهاتِ الأولادِ، أو تحريمِ المتعةِ، فهلْ يكونُ ذلكَ الإجماعُ حجة معمولاً بها بنقل الواحدِ لها؟ اختلفَ الناسُ في ذلكَ: فمذهبُنا (¬2): أنَّه يثبتُ، وهوَ قولُ أكثرِ الفقهاءِ. وقالَ قومٌ (¬3): لايثبت إلا بطريقِ التواترِ؛ ليكونَ مقطوعاً. بمقطوعِ. لنا: أنَّ أكثرَ ما فِى الإجماع أنَّه قول معصوم عنِ الخطأِ، فجازَ أنْ يكونَ طريقُ إثباتِهِ ظنيَّاً، أَو خبرَ واحدٍ؟ كقولِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - فالقولُ (¬4) منهُ معصوم، وطريقُ ذلكَ مظنون، كذلكَ إجماع الأمةِ، ولافرقَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "لها". (¬2) انظر "المسودة" (344). (¬3) انظر "تيسير التحرير" 3/ 261. (¬4) في الأصل: "كالقول".

وأيضاً: فإنَّ في إيقاف ثبوتِ حكمِ الإجماع وكونِهِ حجَّةً على نقلٍ مقطوع إيقافٌ للأحكام (¬1)، وأينَ لنا طريقٌ قطعيةٌ في ذلكَ؛ ولوِ اعتبرْنا ذلكَ، لوجبَ أنْ يعتبرَ للنقلِ التواتر في السُّنَّةِ، وما أسقطْنا اعتبارَ التواترِ في السنةِ إلاً لتعذرِ ذلكَ، فإنَّه يفضي إلى تعطيلِ الأحكامِ، كذلكَ في بابِ الإجماع. احتجَّ مَنْ منعَ ذلكَ: بأنَّ خبرَ الواحدِ مجوَّز عليهِ الكذبُ، متردِّدٌ بينَ الصِّحَّةِ والبطلانِ، والطريقُ يجبُ أنْ يحكمَ الثابت بهِ، فلهذا لم يثبتِ القرآنُ القطعيُّ بخبرِ الواحدِ، ولا أَثْبَتْنا النُّبوةَ بخبرِ الواحدِ، ومعنى ذلكَ: أنَّ نَبِيّاً ثَبَتَت نبوتُه بقيامِ العجز على يديهِ، فروى عنْهُ عدلٌ ثقةٌ مِنْ أصحابهِ، أنه قال: بعدي نبيٌّ، في زمان تَقْبلُ النُّبوُّةُ الخَلَف كزمنِ عيسى، أوِ الشرَكةَ كزمنِ موسى، شركَه هارونُ في النبوةِ؛ فإنَّه لاتثبت نبوة المُخبَرِ به [بخبرِ] الواحدِ عنِ النبيِّ، أنَّه قالَ: هذا نبيٌّ بعدي، أو معي، ولوْ أنَّه قالَ لنا: هذا معي وشريكي، أو هذا نبيٌّ بعدي، ثبتَ ذلكَ، وكذا (¬2) إعجاز النبيِّ المخبَرِ [به]، وإنْ لم يكُن للمُخبَرِ (¬3) بكونِهِ خلفاً وشريكاً مُعجِز يخصُّه، وكذلك لايثبت القرآنُ بخبرِ الواحد، كذلك ها هنا. والجوابُ: أنَّ النبوهَ لايتعذرُ في إثباتِها الطريقُ القطعيُّ؛ إما لإعجازٍ (¬4) ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاحكام". (¬2) في الأصل: "وكنا". (¬3) فِى الأصل: "الخبر". (¬4) في الأصل: "الاعجاز".

يخصُّها، أو قولٍ منْ جهةِ النبيِّ المخبرِ بها في غيرِه، أو لمحضرٍ (¬1) منْ عددٍ لايجوزُ عليهم التواطؤ على الكذبِ، فأمَّا في مسألتِنا، فإنهُ يتعذرُ ذلك، كما يتعذَّرُ النقلُ لكلامِ النبيِّ فى مختلف (¬2) الأحكامِ، فإنَّ في الحوادثِ كَثْرةً، وكلامُ النبيِّ فيها لايسمعُه إلا مَنْ يكونُ بمحضرٍ منْهُ، ولهذا عفا (¬3) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ اعتبارِ التواترِ في الخبرِ عنْهُ إلى خبرِ الواحدِ عنْهُ، وهوَ في المدينةِ يقدرُ آحادُ الصَّحابةِ على سماع كلامِهِ في القضيةِ، ومعَ ذلكَ سَمع بعضُهمْ عنْ بعضٍ عنْهُ، ولا النبىُّ أنكرَ، ولاهُم استظهرُوا، فالواحدُ ينادي: ألاَ إنَّ القبلةَ قد حُوِّلَتْ، والآخرُ يقولُ في نسخ الكلامِ في الصَّلاةِ: إنَّ الله يحدثُ مِنْ أمرِهِ ما يشاءُ، وممَّا أحدثَ أنْ لا يتكلّمَ في الصَّلاة، ولا أحدَ منهمْ سألَهُ، فقالَ: إنَّ فلاناً يحكي عنكَ كذا، فهوَ كما قال؛ ولا النبيُّ أنكر سماعَ (¬4) ذلك عنْهُ منَ الآحادِ، بلْ عرضَهم لذلكَ؛ حيثُ أنفذَ بآحادٍ منَ الصَّحابةِ إِلى البلادِ حتى إنَّ معاذاً يقولُ: أجتهدُ رأيي، فأقرَّه وصوَّبهُ، ولم يقلْ: وأيُّ رأيٍ لكَ معَ وجودي، وقدرتكَ على سماع قولي المقطوع (¬5) بهِ؟! وما كانتْ تلكَ المسامحةُ إلا لأنَّ اشتراطَ عددِ التواترِ في نقلِ أحكامِه وقضاياهُ يُوقِفُ (¬6) أَكثرَ الشريعةِ، ولم يَقُلْ باعتبارِ معصومٍ عنْ ¬

_ (¬1) في الأصل:" لمحض". (¬2) في الأصل: "مبدد". (¬3) في الأصل: لاعنا". (¬4) خرم في الأصل. (¬5) في الأصل: "المطوع". (¬6) في الأصل: "يوقت".

* فصل من الزوائد، هل يجوز أن يرد من الله سبحانه حروف مقطعة لا يعقل لها معنى

معصومٍ إلا الشيعةُ، وقدْ رَأَيْنا كيفَ حالُهم في الأحكامِ، وتعطيلُهم (¬1) للقضايا انتظاراً للإمامِ المعصومِ. فصل منَ الزوائد هلْ يجوزُ أنْ يردَ من اللهِ سبحانَهُ حروفٌ مقطعةٌ لايعقلُ لها معنى، وتكونُ رمزاً، والمرادُ بها: قصةُ نبيِّ، أو دولة ملكٍ، أو أمة خلتْ، فيقولُ سبحانَهُ (¬2): أردتُ بقولي: (حم)، أو (ق): قرناً كانَ، أو ملكاً كانَ، أو نبيَّاً من الأنبياءِ اسمهُ كذا وكذا. فمذهبُنا: أنهُ يجوزُ ذلك على اللهِ، ولا يمتنعُ عقلاً ولاشرعاً؛ خلافاً لبعضِ الأصوليينَ: لايجوزُ ذلكَ، بلْ هوَ منِ (¬3) اللغوِ والعبثِ. فصل والدلالةُ على جوازِهِ: أنَّه إذا لم تكنِ الكلمةُ موضوعةً لتكليفٍ، ولا مضمنةً أمراً، ولانهياً، ولا خبراً تحته اقتضاءٌ، ولا طلباً، بقيَ أنهُ رمزٌ، ونحنُ بحكمتِهِ واثقون (¬4)، وبغوامضِ أسراره وأقدارِه الخافيةِ عنا مذعنون (¬5)، وعلى بصيرةٍ بأنَّ ما أبدى قليلٌ يسيرٌ فِى جنب ما كتمَ وأخفى، وأحاط به ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعطلهم". (¬2) في الأصل: "سبحانه فيقول". (¬3) في الأصل: "عن". (¬4) في الأصل: "واثقين". (¬5) في الأصل: "مذعنين".

- فصل في شبه المخالف

علماً (1 فما المانعُ من أن يكتُمَ معنى حرفٍ 1) نطقَ بِه، كما يكتُم الحكم المطويةَ في أفعالِهِ، فأقوالُه كأفعالِهِ، وقدْ عللَ أربابُ المصالح، واجتهدوا، وما بلغوا كنهَ مرادِهِ، ولا حقيقةَ حكمتِهِ في مختلفِ أفعالِهِ، واختلفوا في الحروفِ المقطعةِ فِى أوَّلِ السّورِ، فأوسعوا القولَ، والله أعلمُ، وبانَ أنهُ لا معنى لها عندَ العربِ؛ حيثُ دهشوا لما نزلتْ، وأمسكوا عنْ لغوِهم فِى تلاوتِه حيثُ سُمِعَتْ؛ إعجاباً منها، ودهشاً بها. فصل في شبهةِ المخالفِ، وأنه متى جُوِّز ذلكَ على اللهِ سبحانَهُ، أفضى إلى أقوالٍ فاحشةٍ، ومذاهبَ باطلةٍ، وهيَ مذاهبُ الإسماعيليةِ والباطنيةِ؛ حيث قالوا: الشجرةُ الملعونةُ: بنو (¬2) أميَّةَ، والزيتونةُ المباركةُ، لاشرقيةٌ ولا غربيةٌ، يكادُ زيتُها يضيءُ: هيَ أهلُ البيتِ خاصَّةً، والضَّالين: أصحابُ رسولِ اللهِ، وإلى أمثالِ ذلكَ. وإذا حسمْنا عنْهُ سبحانه تجويزَ ذلكَ، كانَ أسلَم، وأمنعَ لاعتقادِ أهلِ الأَهواءِ. ولأنَّ القرآنَ نزلَ بلغةِ العرب، والعربُ لم تضع الحروفَ المقطعةَ لقصصِ الأنبياء، ولا دُوَل الملوكِ، ولا القرون الخالية؛ والبارئ أثبته عربياً، ونفى عنه العجمةَ، فلا يضافُ إليه مانفاه. ¬

_ (1 - 1) غير واضح في الأصل. (¬2) في الأصل: "بني".

- فصل في الجواب

فصل في الجواب وهوَ انَّ تجويزَ ذلكَ لايفضي إلى ما ذكرْتَ؛ لأننا نحن لانجوِّز تفسيرَ القرآنِ إلاَّ بالنقلِ، وإذا لم نُجوِّزه إلا بالنقلِ المسندِ إلى المعصومِ، أَمِنا ذلكَ الذي ذكرْتَ منَ الذريعةِ، وليسَ كلُّ ما جوزناه على الله سبحانه استجزناهُ منْ نفوسِنا، كما أنَّنا نُجوِّزُ التحكمَ بالأحكامِ، ولا نتحكم نحن، ونجوزُ عليهِ أفعالاً لايظهرُ لنا وجهُ المصالح فيها، ولا نجوزُ لنفوسِنا أنْ نفعلَ فعلاً إلا بعدَ أنْ نحكمَهُ، ويتَمهَّدَ لنا وجهُ الصَّلاح فيهِ. وأمّا العجمةُ التي نفاها، فإنما نفاها عمّا كلفَنا بهِ منَ الألفاظِ، فأمَّا مالا تكليفَ فيها، فلا، بدليلِ الحروفِ في أوائلِ السورِ التي أدهشتِ العربَ، حتى سكتوا عنِ اللغوِ، ولا يُدْهِشُ ويُعْجِبُ إلا ما لا يُعرف معناه. فصل يجوزُ نسخُ القياسِ في عصرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ طريقَ النسخ حاصلٌ، وهوَ الوحيُ، فإذا قال: حَرَّمْتُ المفاضلةَ في البُرِّ؛ لأنهُ مطعومٌ، كانَ ذلكَ نصاً منْهُ على الحكمِ، وعلى علتِهِ، وقد اختلفَ الناسُ؛ هل نصُّه على العلةِ إذنٌ منْهُ في القياسِ، أمْ لا؟ على مذهبينِ. فإنْ كانَ هذا إذناً، أو أذنَ على القياسِ نصاً، فقاسوا الأَرزَّ على البُرِّ، فعادَ، وقالَ بعدَ ذلكَ: بيعوا الأرزَّ بالأَرُزِّ متفاضلاً.

* فصل هل الأصل في القياس الشرعي النص أو حكم النص؟ وأيهما يقع الاستناد إليه؟

قالَ قومٌ: يكونُ تخصيصاً للعلةِ بالطعم في البُرِّ خاصَّةً، كما عَللَ في تحريمِ الخمرِ بإِيقاع العداوةِ والبغضاءِ، وصدِّها عنْ ذكر اللهِ، وكانَ هذا موجوداً في السُّكْرِ في كلِّ زمان، فعلمنا بتحريمِهِ في هذهِ المسألةِ أنَّه خصَّها بصيانةٍ لم تكنْ فِى حقِّ الأممِ قبلها. وقال قوم: يكونُ نسخاً للقياسِ. والذي لاخلافَ فيه؛ أنْ يُصرِّحَ، فيقولَ: لا تقيسوا الأَرُزَّ على البُرِّ في تحريمِ التفاضلِ، فهذا غيرُ ممتنع، بلِ الممتنعُ نسخُ قياسٍ استنبطناهُ بعدَ وفاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا وحيَ ينزلُ، ولا حكمَ يتجدَّدُ بعدَ مضيِّ عصرِه، وانطواء زمانِه - صلى الله عليه وسلم -، فإنْ عُثِرَ على نصِّ يخالفُ حكمَ القياسِ، كانَ للقياسِ رافعاً، لكنه لايكونُ نسخاً، لكنْ نَتبيَّنُّ أنَّ القياسَ كانَ باطلاً، لأنَّ مِنْ شرط القياسِ: أنْ لايخالفَ حكمُه نصَّ كتابٍ، ولاسنةٍ، حسبَ ما قالَ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ: "فإنْ لم تَجِدْ؟ " قالَ: أجتهذ رأيي، فصَوَّبَه بهذِه الشريطةِ. فصل هلِ الأصل في القياسِ الشرعيِّ النصُّ، أوْ حكمُ النصِّ؟ وأيهما يقعُ الاستنادُ إليه؟ اختلفَ أهلُ الأصولِ في ذلكَ: فقالَ قومٌ: الأصلُ النصُّ والنطقُ. وقالَ قوم: الحكم. والذي اخْتارُهُ: أَنَّ الأقربَ هوَ المستندُ، والأصلَ هوَ حكمُ النْصِّ وعلتُه.

- فصل الدلالة على أن الأقرب هو المستند، والأصل هو حكم النص وعلته

فصل والدلالةُ على ذلكَ: أنَّ عادةَ أهلِ العلم، لاسيَّما هؤلاء أهل الأُصولِ والجدلِ: لايضيفونَ الأمرَ إلاَّ إلى الأقربِ، فإذا وردَ الخبرُ بنهي أو تعليل، أضافوا الحكمَ إلى علتِه، ولا يضيفونَهُ إلى النصِّ، بلْ إلى الحكمِ أوِ العلَّةِ، ولهذا يستقبحونَ قولَ القائلِ، إذا سُئلَ عَنِ الإجماع: هلْ هُو حجَّة؟ أنْ يقولَ القائلُ: نعمْ، فيقالَ لَهُ: ما الدليل؟ فيقولَ: إثباث الصانع الحكيمِ، فإذا قيلَ لَهُ: أين الإجماعُ إلى إثباتِ الصَّانع؟ فيقولَ: لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أمتي لاتجتمعُ على خطأ"، ورويَ: "على ضلالةٍ" (¬1)، وإنما عرفنا صدقَه؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالمعجزِ الذي هو خصيصةُ فعلِ اللهِ سبحانه، وهي خرقُ العاداتِ، ولايكونُ خرقُ العادةِ دالاَّ على صدقِ مَنْ جاءَ بهِ إلاّ أنْ يسبقَ أنَّ المقيمَ لَهُ والمؤيدَ لَهُ حكيمٌ، لايؤيدُ كَذاباً بالمعجزِ، فهذا اَلتسلسلُ لايسلكُه أحد لإثباتِ حجَّةِ الإجماع، ولذلكَ لايحسنُ بالإنسانِ [أن] ينتسبَ إلى أدمَ ونوح، ويقولَ: مِنْ أولادِ الأنبياءِ، لكنْ يَنْتَسِبُ (¬2) إلى الأبِ الأقربِ، ويصيرُ الأبعدُ لا حكمَ لَهُ، حتى إنه يشرفُ بانتسابِهِ إلى هاشمٍ وعلي والعباسِ، وهم الآباءُ الأقربون (¬3)، ولايشرفُ بالأنبياءِ منَ الآباءِ الأباعدِ المتقدمينَ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 5/ 106. (¬2) في الأصل: "ينسب". (¬3) في الأصل: "الأقربين".

* فصل هل يجوز ويمكن أن ينص الشرع على كل الأحكام؟

فصل هلْ يجوزُ ويمكنُ أنْ ينصَّ الشرعُ على كل الأحكامِ التي للهِ سبحانه في الحوادثِ، حتى لايبقى لمجتهد في ذلكَ قول، وتتعطل آراءُ المجتهدينَ في الحوادثِ؟ قالَ بعضن الناسِ: لايجوزُ. وعندنا: أنه يجوزُ ذلكَ، واعتلَّ أصحابُنا في تجويزِهِ عقلاً: بأنَّ الله سبحانَهُ أَحْوَجَ إلى الآراءِ والاجتهاداتِ في الحوادثِ، بأن لاينصَّ عليها، وفي (¬1) ذلكَ الحكمة البالغة؛ حيثُ أظهرَ جواهرَ المجتهدينَ باستخراج أحكامِ شرعِهِ باستنباطِهم، كما قالَ سبحانَهُ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ويثيبهم (¬2) على اجتهادِهم، كذلكَ لَهُ في تجويزِ تعميم (¬3) الأحكامِ بالنصوص الغنية عنْ الاجتهادِ صيانةٌ لهمْ عَنِ الخطأِ، فإنَّ الاجتهادَ وإنْ كانَ طريقاً للإصابة؛ فإنه عرضةُ الخطأِ، وترفيهُهم (¬4) عن كدِّ التأويلِ، وتعب الاستنباطِ فيه، وفي كلا الأمرينِ حِكمة بالغةٌ، وكرامة نافعة، فهذا في التجويزِ عقلاً. وأمَّا الدلالةُ على الإمكانِ خلافاً لمنْ منعَ الإمكانَ، فإنَّ القادرَ على أنْ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ففي". (¬2) في الأصل: "ويثبهم". (¬3) في الأصل: "نعيبم". (¬4) في الأصل: "وترفههم".

- فصل في شبهة المخالف

يمنَحَ العلماءَ فُهُوماً يستنبطونَ بها معانىَ توجبُ الأحكامَ، ويصرحون (¬1) ويفتون (¬2) بالفتاوي، قادرٌ على إخراج الأحكامِ إلى الأفهامِ بنصوص يعدها لكلِّ حادثٍ يحدثُ منها، وقدْ ذكرَ ذلكَ، وأخبرَ بهِ، حيثُ قالَ فيما يزيدُ على الأحكام: {وَوَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} إلى قولِهِ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، والكتاب نفس النصوصِ، وإذا كانَ عالماً بما يحدثُ منها، كاتباً في اللوح ما أملاهُ مِن معلوماتِهِ في خلقِهِ، كانَ الإمكانُ للتنصيصِ على جميع حوادثِ الأحكامِ حاصلاً في حقه سبحانَة. فصل في شبهةِ المخالفِ قالَ: الخارجُ إلى الوجودِ على سبيلِ الأعداد والحصول متناهٍ، وهوَ في المثال ما ذكرتَ منَ اللوح المحفوظِ، وهو جسمٌ متناهٍ، وإنْ كبرَ وعظمَ، ولكنًّة ينتهي إلى حد، والمتُجدِّداتُ منَ الحوادثِ لا نهايةَ لها، وكيفَ ينطبقُ متناهٍ على غيرِ متناهٍ؟! ولهذا يمتنع أنْ يكونَ اللوحُ المحفوظ حاوياً لآحادِ نعيمِ أهل الجنة، لأنَّ نعيمَ أهلِ الجنةِ لاغايةَ لآحادِه؛ بل هو مارٌّ مسلسلٌ إلى غيرِ غايةٍ، فكيف ينطبقُ عليهِ مسطورٌ لَهُ غايةٌ؛! وليسَ لنا وجود شيءٍ لاغايةَ لَهُ حاصلٌ سوى القديمِ سبحانَة، فمِنْ هذا الوجهِ استحالَ تحصيل نصوصٍ في حوادثَ لاغايةَ لها. ¬

_ (¬1) في الأصل: "يصرحو". (¬2) في الأصل: "وينعنون".

- فصل في جوابنا عن الشبهة

فصل في جوابِنا عنِ الشبهةِ وهوَ أنْ يقالَ: بأَنَّ حوادثَ المسائلِ التي نحنُ فيها حوادثُ في زمنِ التكليفِ، وللتكليفِ غاية هو القيامة، وليسَ بعدَ القيامةِ حوادثُ يكلَّفُ الناسُ فيها ولأجلِها فعلٌ، ولا تركٌ، وإذا كانَ لها غايةٌ انطبقَ عليها ما يخرجُهُ الله منَ النصوصِ التي لها غاية، فبطلَ المعنى الذي أَحَلْتَ تحصيلَ النّصوصِ لأجلِهِ، ولوْ كانَ الله سبحانَة يديمُ التكليفَ تقديراً، لقَدرْنا أيضاً أنهُ يحدثُ نصوصاً بحَسَبِ امتدادِ الحوادثِ، فالغاية منَ النّصوصِ للغايةِ من الحوادِث، إلى المعلومةِ، إلى يومِ القيامةِ، والحوادث المقدرةُ لا يستحيلُ على اللهِ سبحانَهُ أنْ يمدَّ بنصوصٍ إلى غيرِ غايةٍ، كما يمدُّ بنعيمٍ إلى غيرِ غايةٍ، فبطلَ ما تعلقَ به المخالفُ. فصل في تعلُّقِ الحكمِ الشَّرعى بعلتينِ وأكثر، فذلكَ جائز عندَ جمهور الفقهاءِ (¬1) والأصوليينَ، خلافاُ لبعضِ الأصوليينَ (¬2). والدلالةُ على جوازِ ذلكَ: أنَّ عللَ الشَّرع أمارات، فهي كأماراتِ الكائناتِ؛ كمجيءِ المطرِ، ووقوع الحربِ، وحصولِ المرضِ؛ فإنَّ الغيمَ الكثيفَ أمارةٌ ودلالة على مجيء المطرِ، وقدْ ينضمُّ إليه الهواءُ النديّ، وتتابعُ ¬

_ (¬1) انظر "المسودة" (416). (¬2) إنظر "إرشاد الفحول" (209).

- فصل في شبهة المخالف والرد عليها

الرعدِ، وكونُ البرق متشققاً، وهذهِ أماراتٌ متعددةٌ مؤذنة بالمطرِ الموازن بحكمِ عللِ الشرع، وكذلكَ حصولُ المنافرةِ بين الحيين، وذكرُ الحقائدِ القديمةِ والثارات، ثمَّ جمعُ الخيلِ والرجل، والوعيدُ باللقاء (1. . . . . .1) مؤذنٌ بالحرب وبتكسر البدنِ، وألم الأعضاءِ، وتكررُ التمطي مؤذنٌ بالمرضِ، فعللُ الشرعِ كذلكَ؛ فإنَّ الزنى من المحصنِ، معَ القتلِ في المحاربةِ، معَ قتلِ الكافىء عمداَ محضاً ظلماً وتعدياً، مؤذنٌ بإباحةِ إراقةِ الدمِ، بلْ بوجوبِهِ، وهذهِ عللٌ عدةٌ، والحكمُ واحدٌ. وفارق العللَ العقليةَ التي (¬2) تستقلُّ بمعلولها، ولا يتصورُ اعتقادُها في معلولها بغيرِها، كالحركةِ لا توجبُ إلاَّ التحركَ، ولا معلولَ لها (¬3) سوى التحركِ، والسوادُ يوجبُ كونَ الجسمِ أسودَ، ولا يشركُه غيرُه في كونِ الجسمِ أسودَ، لَمَّا كانت موجِبةً، لم يُتصوَّرْ موجِبٌ آخرُ يعضدُها. فصل في شبهةِ المخالفِ قالوا: هيَ وإنْ كانت أماراتٍ، إلاَّ أنَّها موجبة لمصالحَ، ودافعةٌ لمفاسدَ، وليست من جنسِ ما ذكرتَ منَ الأماراتِ السَّاذجةِ العاطلةِ من إيجابٍ، فإنَّ صاحبَ الشَّرع إذا قالَ: لايحلُّ وطءُ مَنْ رأتْ دمَ الحيضِ أوِ النِّفاسِ، ولا مَنْ أَحرمَتْ بالحجِّ، فإنَّ المتعةَ بها مَفْسَدَةٌ في الدينِ، كانت ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. (¬2) في الأصل: "الذى". (¬3) في الأصل: "معلولها".

كل واحدةٍ منْ هاتينِ العلتينِ -أعني: الحيضَ والإحرامَ- ميستقلَّةً بتحصيلِ المفسدةِ وتأثيرِها، وما كانَ مستقلاً بالحكمِ وحدَهُ، لايتصور اثنانِ منْة يجتمعان في التأثيرِ، كالفعلِ بينَ فاعلينِ، والمقدورِ بينَ قادرينِ؛ لما استقلَّ كلُّ قادَرٍ بكل الفعلِ والحكمِ، فلا ينقسمُ أيضاً، فيقعُ بعضه بعلةٍ، وبعضُه (1. . . . . . . . . .. . 1) ثُمَ إنَّ هذه العللَ الشرعيةَ تتساعد (¬2) فيها الأوصافُ العدَّةُ، فتكونُ العلةُ ذاتَ وصفينِ وثلاثةٍ وأربعةٍ، مثل قولِنا: سرقَ نصاباً، من حِرْزِ مثلِهِ، لاشبهةَ لَهُ فيهِ، وهوَ مِنْ أهلِ القطع، وقَتَلَ من يُكافِئُه ظلماً لاستبقاءِ نفسِهِ، كلُّ واحدٍ مِنَ الأوصافِ مؤثرٌ لايجوز أنْ يكونَ حشواً معطلاً مِنْ مناسبةٍ للحكمِ وتأثيرٍ، بخلافِ العللِ العقليةِ التي لا تحتملُ التساعدَ (¬3) بالأوصافِ أصلاً. ثُمَّ إنَّ عللَ الشرع قدْ تكونُ مشروطةً بشرطٍ (¬4) وشرطين، مثلُ: إيجابِ الرجمِ، يقفُ على كونِ المحدودِ حُرّاً، وعندَ قومٍ: مسلماً، ثمَّ يكون قدْ وَطِئَ في نكاح صحيح، وعلل العقلِ تجلبُ معلولَها بنفسِها، بغيرِ أوصافٍ ولا شروطٍ. وأمّا ما ذكرتَ منَ استقلالِها بالحكمِ، وأنَّ ذلكَ يحيلُ مساعدةَ أخرى مستقلةٍ بالحكم، كما ذكرتَ مِنَ المقدورِ بينَ قادرينِ، فماْ تنكرُ أنْ تكونَ ¬

_ (1 - 1) طمس في الأصل. بمقدار سطر. (¬2) في الأصل: "ساعد". (¬3) في الأصل: "للتساعد". (¬4) في الأصل: "لشرط".

* فصل في الاستدلال هل هو قياس أم ليس بقياس

عندَ انفرادِها تستقلُّ، لكن (¬1) إذا انضمَّ غيرُها إليها، صارتا جميعاً في جلبِ الحكمِ كوصفين لعلةٍ واحدةٍ في التساعدِ؟ وهذا صحيحٌ، فإنَّها مجعولة، ألا تراها تكونُ علةً في بعض الأزمانِ دونَ بعضٍ؛ كشدةِ الخمرِ الموقعةِ للعداوةِ والبغضاءِ، ما تزال كذلكَ مؤثرةً لمعلولِها في الطباع القابلةِ للإسكارِ والعربدةِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرعَ جعلَها في وقتٍ مخصوصِ موجبةً لأحكامِها؛ منَ التنجيس، والتحريمِ، وإيجابِ الحدِّ [و] إذا كانت مجعولةً، لم يُستبعدْ أنْ يقول: حَرَّمت الاستمتاعَ بهذِه المرأةِ الحائضِ؛ لأجل قيام الحيض بها، وكونِه أذىً، فإذا أَحْرمت، حَرَّمت المتُعةَ بهذين الأمرين جميعاً: الحيضِ، والإحرامِ، والمقدورُ بين قادرين ليسَ هو بالجعلِ والوضع، بلْ من أَحالَهُ، جَعَلَهُ ممتنعاً لمعنى يعودُ إلى نفسِهِ وذاتِهِ. فصل في الاستدلال هلْ هُوَ قيال أم (¬2) ليسَ بقياسِ؟ مثالهُ: أنْ يعللَ في طَهارةِ الهر؛ بكونِها منَ الطوافينَ والطوافاتِ، فيحكمَ المعللُ بأنَّ الفأرةَ طاهرةٌ مقيسة على الهرِّ بعلةٍ جمعتْ بينَهما، وهي (¬3) التطوافُ الذي يشقُّ معَهُ حفظ المائعاتِ التي في بيوتِ الناسِ عنْها، كما يَشُقُّ الاحترازُ (¬4) منَ التحفظِ عَنْ نظرِ الأطفالِ والعبيدِ؛ بقولِهِ: ¬

_ (¬1) في الأصل: "ممن" (¬2) في الأصل: "امر". (¬3) في الأصل: "وهو". (¬4) في الأصل: "الاحراز".

- فصل في الدلالة على أنه ليس بقياس

{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]، وذكَرَ أوقاتاً (¬1) يكونُ الإنسانُ فيها نائماً (¬2) متكشفاً باديَ العورةِ، ثُمَّ عللَ، فقالَ: {ثلاثُ عَوْراتٍ لكم} [النور: 58]، فلأجلِ ذلكَ وجبَ استئذانُ منْ يتولجُ البيوتَ في غيرِها منْ أوقاتِ التحفظِ. فمذهبُنا: أنهُ ليسَ بقياسٍ، وهوَ مذهبُ جماعةٍ منَ الفقهاءِ. وقالَ قومٌ مِنَ الفقهاءِ، وأهلِ الجدلِ: هوَ قياس. فصل في الدلالةِ على مذهبنا هو أنَّ هذا الحكمَ دخلَ تحتَ قولِهِ - صلى الله عليه وسلم - "اليسَ بنجسٍ، إنْها منَ الطوافينَ عليكمْ والطوافاتِ" (¬3)، فعمَّ هذا الطوافُ كلَّ طائفٍ، فغنِينا بالعمومِ مِنْ صاحبِ الشرع عن أنْ نُعلقَ الحكمَ على قياسٍ مستنبطٍ، وإلحاق الفأرةِ بالهر (¬4) إلحاقَ الفروع بالأصولِ؛ إذ كانَ العمومُ منتظماً لهما، فَكانا أصلينِ في المعِنى، وصارَا في انتظامهما في العموم كالأجناسِ الست في انتظامِها بالنص؛ لايقال في الشعير: مكيل جنس (¬5)، فَحَرُمَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "اوقات". (¬2) في الأصل: "ماثما". (¬3) تقدم تخريجه 2/ 108. (¬4) في الأصل: "بالنفس". (¬5) غير واضحة في الأصل.

* فصل لا يجوز للعامي أن يقلد في التوحيد والنبوات

التفاضلُ فيه كالبر، وما أخرجَ هذا أنْ يكونَ قياساً إلاَّ انتظامُ الشعيرِ والبرِّ جميعاً في نصِّ صاحبِ الشرع، فكانَ دخولُ الشعيرِ في نصِّهِ كدخولِ الحنطةِ، فلمْ يكنْ كون الحنطةِ أصلاً بأَوْلى من أنْ يكونَ الشعيرُ أصلاً للحنطةِ؛ لدخولهما جميعاً تحتَ النصِّ، كذلكَ ما دخلَ في العمومِ استغنى عنْ قياسِ أحدِ الداخلين على الآخرِ؛ لوجودِ التطوافِ المصرَّح بِهِ على الفأرةِ، كدخولِهِ على الهرِّ، ودخولُ الفأرةِ فيهِ كدخولِ الهرِّ، فلمْ يبقَ معَ هذهِ الجملةِ إلاّ أنْ يكونَ القياسُ مثلَ رؤية النعاسِ الشديدِ، والجوع المفرطِ، والخوفِ المحفزِ، والحزنِ، في حقِّ القاضي يقاسُ على الغضبِ؛ حيثُ قالَ - صلى الله عليه وسلم -:"لا يقضي القاضي حينَ يقضي وهوَ غضبانُ" (¬1)، فلمّا كانَ الجوعُ والخوفُ والحزنُ غيرَ داخلٍ في عمومِ قولِهِ: "وهوَ غضبانُ"، كانَ منعنا لَهُ منَ القضاءِ معَ هذهِ الأحوالِ مقيساً على الغضبِ بعلَّةٍ مستنبطةٍ منْ جهتِنا، حيثُ رأيْنا أنَّ كلَّ واحدٍ منْ هذهِ الأحوالِ مانعاً لَة منَ الثباتِ لفصلِ الأحكامِ، والاعتدالِ الذي يتأتى معَهُ النَّظرُ في حكمِ القضية، والاستدلال، والسلامة من التضجرِ والتبرمِ، والاستعجالِ المانع منَ الموعظةِ لمَنْ عزمَ على اليمين، والتخويفِ باللهِ، فهذا وأمثالُهُ منَ القياسِ، والله أعلمُ. فصل لايجوزُ للعاميِّ أنْ يقلِّدَ في التوحيدِ والنُّبواتِ، وهوَ مذهب الفقهاءِ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه 1/ 525.

- فصل الدلالة على المنع من التقليد في ذلك

وأهلِ الأصول والكلامِ، خِلافاً لما حكيٍ عن بعض أصحابِ الشافعيِّ: يجوزُ تقليدُهُ في ذلك، ولم يختلفوا في أنه ليسَ لَهُ أنْ يقلِّدَ في أصولِ الشَّريعةِ، كوجوبِ الصَّلواتِ، وأعدادِ الركعاتِ (¬1). فصل الدلالةُ على المنع مِنْ ذلك إنَّ المأخوذَ على المكلَّفِ من هذهِ الأمورِ العلمُ، والمقلِّد لايحصلُ له العلمُ بصحَّةِ قولِ مَنْ قلدَ، بلْ يجوزُ عليهِ الخطأ، وركوبُ الهوى، لأجلِ ذلكَ [مَن] لم يُجِزْ تقليدَهُ في أصولِ الشَّريعةِ، فقدْ ناقضَ، لأنَّ المعرفةَ بوجوبِ الصَّلاةِ والصِّيامِ لاتصحُّ إلاً بعدَ المعرفةِ بصدقِ مَنْ جاءَ بها وبوجوبِها، فإنْ قلدَ في صدقِهِ، فقدْ قلدَ في وجوبِ جميع ما جاءَ بِهِ، وإنْ جازَ أنْ يعلمَ صدقَهَ بالتقليدِ، جازَ أن يعلَم أصولَ الشَّريعةِ بالتقليدِ. فصل في شبهةِ مَنْ خالفَ في ذلك إنَّ الأصولَ أدلَّةٌ تدقُّ عَنْ فهمِ العوامِّ، فاحتاجوا إلى تقليدِ العلماءِ. ومِنْ ذلكَ: أَنَّ تكليفَ العوامِّ استخراجَ الأدلة يقطعُهم عَنِ الأشغالِ والمعايشِ، وبهذِه العلة جوَّزْنا التقليدَ للعوامِّ في فروع الدينِ، فإنا لو كلفنا جميعَ العوامِّ الاجتهادَ، لكَلفْناهم التفقهَ، وذلك يقطعهم عَنْ عمارةِ الأرضِ، وملابسةِ المعايشِ والتجائرِ. ¬

_ (¬1) انظر "المسودة" (457)، والعتمد 2/ 941.

- فصل في الجواب عن شبههم

فصل في الجواب عَنْ شبههم أمَّا الأول، فإنَّ دلائلَ الأصول وإنْ كاَنَتْ دقيقةً، إلاَّ أنَّ طريقَها العقلُ، والعقلُ يتساوى فيه جميع الأنامِ من خواص وعوام، ولوْ صرفُوا عنايتَهم إلى ذلكَ؛ لتمَهَّرُوا فيهِ، ألا تراهُمْ لمَّا صرفُوا همَّتهم نحوَ الصَّنائع الدقيقةِ والتجائر، [مهروا فيها]، وليسَ في علمِ الأصولِ المأخوذِ اعتقادُها ما يطولُ، فيقطعُ الزَّمانَ، ويعطِّلُ عَنِ الأشغالِ، وإنّما هو حدثُ العالمِ، وأنَّ لَهُ مُحْدِثاً، وأنَّه مستوجبٌ لصفاتٍ مخصوصة، ومُنزهٌ عن صفاتٍ مخصوصةٍ، وأنَّه واحدٌ في ذاتِهِ وصفاتِهِ، وهذا معَ الأيام لو جعلَ (¬1) لهُ لحظةً في تصاريفِ الأيامِ، لأَتى على القصودِ مِنَ الإثباتِ. ولأنَّه ينقلبُ عليهمْ في التقليدِ، فيقالُ: إنْ قَلَّدَ واحداً (¬2) دونَ غيرِه، فلا بُدَّ أنْ يكونَ للذي يقلِّدُه معنىً خصَّهُ بجوازِ التقليدِ أو وجوبهِ لَهُ دونَ غيرِهِ، فإذا كانَ كذلكَ، فلا بُدَّ مِنَ النَّظرِ في رجلٍ يصلُح أنْ يُقلِّدَه، وذلكَ لا يتحصَّلُ إلا بنوع تأمُّلٍ وترجيح، وذاكَ أيضاً لابُدَّ فيهِ مِنْ معرفةِ ما يرجحُ بهِ الأشخاصُ، ولأنَّ العقلَ محثوثٌ على الاحتياطِ والاحترازِ، وآكدُ الاحتياطِ ما ينجي مِنْ سوءِ العاقبةِ، ويعودُ بالعيشِ السَّالمِ، والنعيمِ الدائمِ، وقد استطارت دعوى الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهمْ في سائرِ الأقطارِ؛ بالتخويفِ منَ النَّارِ، وبالبعثِ بعدَ الموتِ؛ للمناقشةِ في الحسابِ، والمجازاةِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فعل". (¬2) في الأصل: "واحد".

على الأعمالِ، ومثل ذلكَ لوْ لم يثبتْ بدليلِ الإعجازِ، بلْ كانَ قولاً بغير حجةٍ، لأفزعَ العاقلَ إلى النظرِ لنفسِهِ، والتحرُّزِ (¬1) والاحتياطِ لعاقبتِهِ، كما قالَ سبحانَهُ: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] وقال في حقِّ نبيِّنا صلواتُ اللهِ عليه: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57]، وإذا كانَ في العقلِ باعثٌ يبعثُ على التحرزِ، فليسَ دعاءُ الأنبياء بما جاؤوا بِهِ بأقلَّ مِنْ قائلٍ على طريقٍ: يا قوم، تزوَّدُوا لهذا الطريقِ، وتحَرَّزُوا (1 فإنه مَهْلكة، فيأخذ القوم في التحرُّزِ و 2) الاحتياط لقولِ ذلكَ القائلِ مِن غيرِ حجَّةٍ، فهلْ يجوزُ أنْ يُشْغِلَ عنْ هذا النوع مِنَ النظرِ للنفوسِ والاحتياطِ معاشٌ؟ أو يجعلُ العاقلُ دَأبَه العملَ بالفكرِ والبحثِ والنظرِ لعاقبتِهِ، ويجعلُ لذلكَ نصيباً منْ أوقاتِهِ، وإخلاء بعض زمانِه، فأمَّا اطِّراحُ ذلكَ، وتقليدُ الرِّجالِ فيهِ، [فلا]، ولو (¬3) كانَ ذلكَ كذلكَ، لكانَ أحقَّ مَنْ قُلِّدَ الأنبياءُ صلواتُ اللهِ عليهم، ومعلوم أَنَّ الله سبحانَهُ لم يقنعْ للخلقِ بمجردِ دعايتهم، وحسنِ طريقتِهم بما يغلبُ على الظّنونِ صدقهم، حتى أيَّد ذلكَ بالمعجزاتِ القطعيةِ، والبراهينِ الخارقةِ، فليسَ هذا مِنَ النَّظرِ في الفقهِ وأدلتِه في شيء؛ فإنَّ طرقَ ذلكَ كثيرة مختلفةٌ، ثُمَّ بعدَ تحصيلِ الطرقِ يحتاجُ إلى النظرِ، وً طريقُ هذه الأصولِ إنما هي العقولُ، وقد تساوى فيها المكلَّفونَ، ولايحتاجُ معها إلى سواها، فلا وجهَ لتقليد مساوٍ فيها، كما لايجوز للعالمِ بالفروع والأصولِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "والمتحرز". (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) في الأصل: "فلو".

تقليدُ مساويهِ وعلمِهِ (¬1). واحتجَّ بعض المخالفينَ في هذا الفصلِ؛ بأنْ قالَ: المقصودُ ثقةُ النفسِ إلى المعتقد وسكونُها، وإذا وجدَ ذلكَ، سقطتِ الطرّقُ؛ لأنَّ الطرقَ لا ترادُ لأنفسِها، إنَّما ترادُ لدَرْكِ الغايةِ، والغايةُ في المقصود، فسواءٌ حصلَ بالسكون والثقةِ بقولِ شخصٍ، أو بنظرٍ يحصلُ من النفس أو بإلقاءٍ يُلقيه البارئ في القلوبِ، فتزول معه الشبه في نفوسِهم والريب، وهذا التقليدُ أمر يحصلُ به سكونُ نفوسِ العوام، حتى أنَّ ما وَقَرَ في نفوسِهم لا يزولُ، وكثير منهم تُوفِّيَ على ثقةِ العلماءِ بما علموه بالأدلَّة القاطعة، فإنَّ العلماءَ تَعترضُهم الشبه فيما اعتقدوه، فالواحدُ منهم يذهبُ إلى مذهب يطمئن إليه، ثم يعرض له مذهبٌ آخرُ، والعاميُّ الناشئ في بيعةٍ عتيقة، أو كنيسةٍ، لاتستنزلُهُ عنْ دينهِ كلُّ حجَّةٍ، وإنْ ظهرتْ للعقولِ ظهورَ المحسوسات للحواسِّ، وكذلك مَنْ نشأ ببلاد الرَّفضِ لاتستنزله أدةُ السنةِ عَن اعتقادِ الرفضِ، ومن نشأ في بلادِ الخوارج لا تَسْتَنزلُهُ أدلَّةُ الحجج عنِ المناصبةِ لعليٍّ وأهلِ البيتِ، كلُّ ذلكَ للثِّقةِ. بمنْ قلَّدُوهُ. والجوابُ: أنَّ الثقةَ لابطريقٍ، تبخيتٌ (¬2)، والتبخيتُ لا يرضى به العقلُ طريقاً، وإنْ حصلَ مِنْ طائفة الثقةُ به، فقدْ حصلَ مثل (¬3) ذلك منَ النِّساءِ بضربهنَّ بالحصى، ومنَ الأكرادِ في إِشعار الكفِّ، ومِنْ قومٍ بزجرِ السعيرِ، ومِنْ قومٍ بزجرِ الطائرِ، وأنسوا بالفألِ، وعوَّلُوا على الحذرِ بالطِّيَرةِ، وأنسَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "عمله". (¬2) أي اعتماد على الخط، فالبَختُ: الجد والحظ: "القاموس": (بخت). (¬3) في الأصل: "منك".

قومٌ بالسِّحرِ، وأنسَ قوم بالشعاوذِ، واعتقدوا أنّه لافرفَ بينَها وبينَ معجزاتِ الأنبياءِ صلوات اللهِ عليهمْ، وبنَوْا على ذلكَ أمورَ الدينِ والدنيا، واستباحوا به الفروجَ والدماءَ، وأخذَ قومٌ بقولِ القائفِ في الأنسابِ، وقومٌ باللوْثِ فِى إراقةِ الدماءِ، وأنس قومٌ إلى المنامِ والأحلامِ، وبنَوْا على المنامات في الاعتقاداتِ، وأخذَ قوم بشواهدِ الأحوالِ، وأنكرَ قوم درك الحواسِّ ونقولَ الحقائقِ بما تخيَّلَ وتطرق على المدارك من العوارِض والاختلال، فأفسدوا المدارك الأصليةَ معَ السلامةِ والاعتدالِ بتطرّف العوارضِ، وأَنِسوا بذلك أنساً أزالوا (¬1) به أصلَ ما استدوا بهِ، فقالوا: أَيُّ ثقةٍ لنا أن القمرَ وأحدٌ والأحولُ يراه قمرَيْنِ؟! وأيُّ ثقة لنا بأَنَّ العسلَ حلوٌ والممرورُ يُدرِكُه مُرّاً؟! وأيُّ ثقةٍ لنا (2 أن العودَ مُستقيم، وهو 2) يرى في الماء مكسوراً مُتعرِّجاً؟!، وأيّ (2 ثقةٍ لنا أن الدارَ ثابتة 2)، والمدار به يرإها دائرةً، ويرى نفسَه غيرَ ساكنة، بلْ يُدار بها، وإلى أمثالِ ذلكَ، فجمعوا العاهات العارضةَ على الحواسِّ بآفاتٍ تتجدَّدُ على الأمزجةِ، هلْ كانَ ذلكَ عندنا وعندَكم طريقاً (¬3) يؤخذ بِهِ، ويعولُ عليه؟ فمنْ قولِكمْ: لا، فيقالُ: فقدْ بطلَ تعلّقُكم بثقةٍ تحصلُ منَ المقلدينَ أنساً إلى غيرِ طريقٍ، ولا مخلصَ لَهُمْ مِنْ هذا، والله أعلمُ. وصلواته على سيدنا محمدٍ النبيِّ وآلِهِ وسلّمَ تسليماً والحمد للهِ ربِّ العالمينَ. ¬

_ (¬1) في الأصل: "ازلوا". (2 - 2) طمس في الأصل. (¬3) في الأصل: "طرائف".

§1/1