الهمة طريق إلى القمة

محمد بن موسى الشريف

تمهيد

تمهيد إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن الخافقاتِ لها سكونُ وإن ولدت نياقُك فاحتلبها ... فلا تدري الفصيلُ لمن يكونُ قال حكيم من الحكماء: ((لما كنت حدثاً كنت أتصور أن الرعد هو الذي يقتل الناس, فلما كبرت علمت أن البرق هو الذي يقتل, ولهذا عزمت من ذلك الحين على أن أقِل من الإرعاد وأكثر من: الإبراق))

مقدمة الطبعة الرابعة

مقدمة الطبعة الرابعة الحمد لله موفق من شاء بما شاء, والصلاة والسلام على خير الرسل والأنبياء, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه البررة الكبراء, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والجزاء, وبعد: فهذه هي الطبعة الرابعة من هذا الكتاب, ولله الحمد والمنة على ما وفَّق ويسَّر. وقد سرت في هذه الطبعة على المنهج العلميّ ((الأكاديميّ)) في ترجمة الأعلام, والفهارس المتعددة, إضافة إلى ما كان في الطبعات السابقة منها. وقد خاطبني بعض إخواني أن أوسع الكتاب قليلاً حتى يكون كالكتب الأخرى التي صُنفت في شأن الهمّة - وهذا الكتاب هو أولها صدوراً فيما أعلم - لكني آثرت أن يكون كما أردت له أن يكون: دليلاً للمبتدى المؤتسي وتذكرة للمنتهي الألمعي. والله أسأل كمال التوفيق, إنه على كل شيء قدير, وبالإجابة جدير. وصلّ اللهم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين. المؤلف محمد بن موسى الشريف الموقع على الشبكة: www.altareekh.com البريد الالكتروني: [email protected] مقدمة الطبعة الثالثة الحمد لله رب العالمين, وصلاةً وسلاماً تامَّين كاملين عطرين على سيد الأنبياء والمرسلين, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد: فهذه الطبعة الثالثة - ولله الحمد - من كتاب ((الهمّة)) , وقد تميزت عن ... الطبعتين السابقتين بزيادات كثيرة متنوعة, أهمها في نظري ما أوردته عن حال ... الغربيين في بداية القرن التاسع عشر وما بعده, وذلك إبان ثورتهم الصناعية ... الكبرى, وما كان بعضهم عليه من همة عالية, ولم أقصد بذلك تمجيدهم -حاشا وكلا- ولكني قصدت إظهار أنه من سنة الله في الكون أن يكافئ المُجِدَّ المجتهد العامل الساعي في الدنيا ويُنيله مرادَه مسلماً كان أو كافراً, أما الآخرة فلا يكافئ بها إلا من كان قد اجتهد لوجهه الكريم. ولما كان بعض أهل الغرب قد بذل وعرق ونصب وتعب في سبيل رفعة قومه, ... فقد أحببت أن أورد بعضاً من تلك الأخبار

والأقوال حتى تكون حافزاً- هي وما سبق أن سقته- لبني ديني لأن ينفضوا غبار الذل والضَّعة عنهم حتى يبزغ لهم بإذن الله تعالى- فجرٌ جديد. ثم إن أهل الهمّة العالية منهم لم يفوقوا في ذلك أسلافنا, بل هم قد سبقوهم سبقاً عظيماً, ولكن لما اقتربت حوادثهم من عصرنا, وحققوا بهممهم تلك ما نراه من مخترعات وتقنيات, ساغ لي أن أورد بعض أخبارهم على أنها من جملة ما يحسن بنا اتباعه والأخذ به من الحكم وتجارب الأمم, والله أعلم. هذا, ووصيتي لكل من يقرأ هذا الكتاب أن يأخذ نفسه بإرشاداته, ويعمل ما في وسعه ليتشبه بهمة وجدِّ وعزيمة أولئك الرجال الذين ذكرت أخبارهم وأحوالهم, فإنه إن صنع ذلك يُرجى له الفلاح والسعادة, وتمام الأمر والسيادة, والله المستعان.

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله رب العالمين, الذي خلق الخلق واصطفى منهم المؤمنين, ودلّهم على ما فيه سعادتهم بقوله: (خذوا مآ ءاتيناكم بقوة وآذكروا ما فيه لعلكم تتقون) (¬1) والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين, سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, الذين أضاؤوا بهمتهم العالمين. أما بعد: خلق الله سبحانه وتعالى الخلق وقدّر فهدى, فكان من تقديره تعالى أن قَسَم لهم حظوظهم من الدين والعقل والغنى والجمال, وكان مما قسمه الله سبحانه وقدره على كل إنسان - أيضاً - حظُّه من الهمّة والإرادة. والبشر يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في هذا الأمر, فمنهم من تعلو ¬

(¬1) الأعراف: 171

به همته حتى يكاد يبلغ حدود الكمال, ومنهم من تسفل به همته حتى يصبح حاله أسوأ من الدواب, وبين ذلك من المراتب ما لا يدخل تحت الحصر, وما لا يعلمه إلا الله تعالى. وإذا تقرر ذلك فاعلم أن أمر الهمّة عظيم, وشأنها خطير, يجدر بالإنسان المسلم أن يفهمه ويعتني به, ويحدث به نفسه دائماً عسى أن يكون من أهل الهمّة العالية فيفوز فوزاً عظيماً. وفي هذه الوريقات - التي أسأل الله تعالى أن يباركَ فيها ويضع لها القَبول- مباحثُ لا تخلو من جدَّة, توضح معنى الهمّة وكيفية تحصيلها وتطويرها إلى غير ذلك من المعاني المهمة, والمطالب التي تعلو بصاحبها إلى القمة. ولا يستصغرنّ إنسان شأن الهمّة فيسأل مستنكراً: هل هذا الموضوع يستحق أن يفرد له بحثٌ, وأن توضع له قواعد ومحاذير؟! نعم والله الذي لا إله إلا هو, إن للهمة لشأناً عظيماً وتأثيراً كبيراً على حياة صاحبها سواء أكان في سن الشباب أم تعداه, ممن يطلب الدنيا أم من طلاب الآخرة, فهي أساس حياة الإنسان, والقطب الجاذب له إلى العزة أو الهوان. ولا يُستغرب - أيضاً - إيرادُ هذا المبحث وُيقال: إن الكتب التي دلت على أهمية الوقت ودلَّلت على قيمته يستغنى بها عن

هذا المبحث, إذ الوقت يستثمره حق الاستثمار من علت همته, وعرف كيف يستفيد بها ومنها, وكتب الاستفادة من الوقت ومعرفة قيمته أمر آخر غير مباحث الهمّة كما سيرى القارىء, إن شاء الله تعالى. وإن مما دعاني لتأليف هذا المبحث ندرة من تكلم فيه وأوضحه, ولم أرَ فيه مصنفاً مستقلاً, ولا أزعم أني أعطيته حقّه, ولكني حاولت دخول هذا المضمار والتطفُّل على هذا الشأن, والله المسؤول بالإتمام وعليه التكلان.

معنى الهمة

معنى الهمّة جاء في القاموس: (هـ م م): ((ما هُمَّ به من أمر ليُفعل)). فالهمّة هي الباعث على الفعل, وتوصف بعلو أو سفول, فمن الناس من تكون همته عالية علو السماء، ومنهم من تكون همته قاصرة دنيئة سافلة تهبط به إلى أسوأ الدرجات. وعرّف بعضهم علو الهمّة فقال: ((هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور)) (¬1) قال ابن القيم (¬2) رحمه الله تعالى, واصفاً الهمّة العالية: ((علو الهمّة ألا تقف (أي النفس) دون الله, ولا تتعوض عنه بشيء سواه, ولا ترضى بغيره بدلاً منه, ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. ¬

(¬1) ((رسائل الإصلاح)): 2/ 86. (¬2) هو الشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الُزرعيّ الدمشقي, شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي, ولد سنة 691. وكان جريء الجنان, واسع العلم, كثير الصلاة والتلاوة, حسن الخلق, كثير التودد, توفي بدمشق سنة 751 رحمه الله تعالى, وكانت جنازته حافلة. انظر ((الدرر الكامنة)):4/ 21 - 23.

فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور, لا يرضى بمساقطهم, ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم, فإن الهمّة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها, وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان)) (¬1) وقد حذر السلف كثيراً من سقوط الهمّة وقصورها, فقد قال الفاروق عمر رضي الله عنه: ((لاتُصُغِّرَنّ همتك , فإني لم أرَ أقْعَدَ بالرجل من سقوط همته)) (¬2). وقال ابن نُباتة (¬3) رحمه الله تعالى: حاول جَسيمات الأمور ولا تَقُل ... إن المحامد والعُلى أرزاقُ وارغب بنفسك أن تكون مقصراً ... عن غاية فيها الطِّلابُ سِباقُ (¬4) ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)): 3/ 171. (¬2) ((محاضرات الأدباء)):1/ 445. (¬3) شاعر العراق, أبو نصر, عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نُباتة السَعْديّ, له نظم عذب, ومدح الملوك والكبراء, وله ديوان كبير, مات سنة 405 وهو في عشرالثمانين. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 17/ 234 - 235. (¬4) ((محاضرات الأدباء)): 1/ 445

وقد قيل: ((المرء حيث يجعل نفسه, إن رفعها ارتفعت, وإن قصر بها اتّضعت)) (¬1) وقال شاعرُ بني عامر: إذا لم يكن للفتى همة ... تبوئه في العلا مصعدا ونفس يعودها المكرمات ... والمرء يلزم ما عُوِّدا ولم تَعْدُ همته نفسه ... فليس ينال بها السؤدُدا (¬2) وقد ذمّ أعرابيٌّ رجلاً فقال: ((هو عبد البدن, حُرُّ الثياب, عظيم الرُّواق, صغير الأخلاق, الدهر يرفعه وهمته تضعه)) (¬3). وقال أبو دُلف (¬4): وليس فراغ القلب مجداً ورفعة ... ولكنّ شغلَ القلب للهمِّ رافعُ وذو المجد محمول على كل آلة ... وكل قصير الهمِّ في الحيّ وادعُ (¬5) ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق: 1/ 447 (¬3) صاحب الكَرج وأميرها القاسم بن عيسى العجلي, كان فارساً شجاعاً مهيباً, سائساً, شديد الوطأة, جواداً مُمَدّحاً, مبذراً, شاعراً مجوداً, وولي إمرة دمشق للمعتصم, وله أخبار في الكرم والفروسية, توفي ببغداد سنة 225.انظر ((سير أعلام النبلاء)): 10/ 563 - 564. (¬4) ((محاضرات الأدباء)): 1/ 447. (¬5) الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسر أبو الفرج عبد الرحمان بن علي بن محمد ابن الجوزيّ, ينتهي نسبه إلى بكر الصديق رضي الله عنه, ولد سنة تسع أو عشر وخمسمائة ببغداد, وسمع من مشايخ كثيرين, وكان رأساً في التذكير بلا مدافع, وصنف مصنفات كثيرة في بعضها أوهام وأخطاء بسبب عدم التحرير والمراجعة, وله حكم كثيرة وأقوال شهيرة, توفي سنة 597 ببغدد. انظر ((سير أعلام النبلاء)) 21/ 365 - 384.

والهمّة قسمان: وهيبة, وكسبية: فالوهبيّة هي ما وهبه الله تعالى للعبد من علو الهمّة أو سفولها, ويمكن أن تنمى وتُرعى أو تهمل وتترك, فإن نماها صاحبها وعلا بها صارت كسبية, أي أن صاحب الهمّة كسب درجات عالية لهمته, وزاد من أصل مقدارها الذي وهبه الله تعالى إياه, وإن تركها وأهملها ولم يلتفت إليها خَبَتْ وتضاءلت. والهمّة في هذا تشترك مع باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء وقوة الذاكرة وحسن الخلق وغير ذلك مما هو معلوم بَدَهِيّ. وقال ابن الجوزي (¬1) رحمه الله تعالى: ((وقد عرفت بالدليل أن الهمّة مولودة مع الآدميّ, وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات, فإذا حُثَّت سارت, ومتى رأيت في نفسك عجزاً فَسَلِ المنعم, أو كسلاً فالجأ إلى الموفِّق, فلن تنال خيراً إلا بطاعته, ولا يفوتك خيرٌ إلا بمعصيته)) (¬2) ¬

(¬1) (¬2) ((لفتة الكبد إلى نصيحة الولد)):45

مراتب الهمم

مراتب الهمم الناس متفاوتون في أمرين: الأمر الأول: مطالبهم وأهدافهم. والآخر: الهمم الموصلة إلى هذه المطالب والأهداف. فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها, فهذا متمنٍّ مغرور. وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ومن أعظم المغالبات مغالبة النفس لتصبح ذا همة عالية. ومن الناس من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها, وهم فريقان: - فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا, فتجده السبَّاق إلى أماكن اللهو ومغاني الغواني, وهذا إن اهتدى يكن سبّاقاً إلى

المعالي, ذا همة عالية نفسية: ((الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إن فقهوا)) (¬1) - وفريق لا همة له, فهو معدود من سقط المتاع, وموته وحياته سواء, لا يُفتقد إذا غاب, ولا يُسأل إذا حضر. إني رأيت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خَزَّ الثياب وتشبعوا فإذا تذوكِرتِ المكارم مرّةً في مجلس أنتم به فتقنعوا (¬2) ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه فهنيئاً له. وبين كل هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه, فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته, والشوق إلى لقائه, والتودد إليه بما يحبه ويرضاه)) (¬3) وقال ابن القيم أيضاً: ¬

(¬1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوانه ءايات للسائلين). (¬2) ((محاضرات الأدباء)):1/ 447. ومعنى تقنعوا: غطوا وجوهكم خجلاً وتواروا لأنكم لستم من أهلها. (¬3) ((الفوائد)):196 - 197

((ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها! , فهمة متعلقة بالعرش, وهمة حائمة حول الأنتان والحُش)) (¬1) (¬2). يتفاوت الناس في هممهم فتتفاوت على هذا أعمالهم وحظوظهم ودرجاتهم, وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي (¬3) رضي الله عنه وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سَلْ)). فقال: ((أسألك مرافقتك في الجنة)) (¬4). وكان بعض الناس يسأله ما يملأ بطنه أو يواري جلده. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك)). قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله. فنزع نمرةً كانت على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليه فحدثني, حتى إذا استوعبت حديثه قال: ((اجمعها فصُرها إليك)). فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني (¬5). ¬

(¬1) بيت الخلاء. (¬2) ((مدراج السالكين)): 3/ 147. (¬3) ربيعة بن كعب بن مالك الأسلميّ, أبو فراس المدنيّ, من أهل الصُفّة, توفي سنة 63 بعد موقعة الحرّة, رضي الله عنه. انظر ((التقريب)):208 (¬4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الصلاة: باب فضل السجود والحث عليه. (¬5) أخرجه أبو نعيم في ((الحلية)): 1/ 381. والحديث مروي بنحو هذا اللفظ في صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد وغيرهم رحمهم الله تعالى.

فاكتسب رضي الله عنه بهمته في الطلب مجداً عظيماً, وهو أنه حفظ للناس أحاديث رسولهم صلى الله عليه وسلم, فأصبح حافظ الصحابة بلا منازع, بل أصبح راوية الإسلام. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني (¬1) لغلامه: ((ياغلام: لا يكن همك ما تأكل وما تشرب, وما تلبس وما تنكح, وما تسكن وما تجمع, كل هذا همُّ النفس والطبع فأين همُّ القلب, همك ما أهمك فليكن همك ربك عز وجل وما عنده)) (¬2). وهذه - والله - من أعظم الوصايا للدعاة حتى لا تضعف همتهم أمام المغريات, لا سيما وأن من أهم صفات الداعية مخالطته للناس والتأثير عليهم, فكم من داعية انزلق في بحر هذه المغريات حتى أضحت الدعوة آخر اهتماماته. ليس المروءة أن تبيت مُنعّماً وتظل معتكفاً على الأقداح ما للرجال وللتنعم إنما خلقوا ليوم كريهة وكفاح (¬3) وأما أمر ابن عباس رضي الله عنه مع صاحبه الأنصاري فهو دليل على تفاوت الهمم واختلاف مراتبها فقد قال رضي الله عنه: ¬

(¬1) الشيخ الإمام, الزاهد العارف القدوة, شيخ الإسلام, عَلَم الأولياء, محيي الدين, أبو محمد, عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الحنبلي, شيخ بغداد, ولد ب ((جيلان)) سنة 471, له الكرامات العجيبة والمواعظ المؤثرة, وقد تاب على يديه خلق كثير, عاش تسعين سنة, وتوفي سنة 561 ببغداد رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 20/ 439 - 451. (¬2) إحياء فقه الدعوة , الراشد , مجلة المجتمع: العدد 136. (¬3) ((محاضرات الأدباء)): 1/ 488

((لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كثير. فقال: العجب - والله - لك يا ابن عباس, أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فركبت ذلك وأقبلت على المسألة وتَتَبُّع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً, فأتوسد ردائي على باب داره تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إليّ, فإذا رآني قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟ قلت: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك. فيقول: هلا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك. وكان ذلك الرجل يراني, فذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد احتاج الناس إلي, فيقول: أنت أعلم مني)) (¬1). وترى اليوم من تفاوت الهمم أمراً عجباً, فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس أمر العامة - واستثناؤهم واجب لأنه قد ماتت هممهم, وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور- واطلع على أحوال الخاصة وهم: الدعاة, وطلاب العلم, وباقي الملتزمين الحريصين على دينهم, سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمّة, وأنها ¬

(¬1) قال في ((مجمع الزوائد)) 9/ 280: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

الشأن الغالب على الخصوص الذين ذكرتهم: فمنهم من إذا اطَّلع ساعة أو ساعتين في اليوم ظن أنه قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل , ومنهم من إذا خرج لزيارة فلان من الناس بقصد الدعوة يظنّ أنه قد قضى ما عليه من حق يوميّ, ومنهم من تتغلب عليه زوجة وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم, ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم على سماع بعض الأشرطة وحضور محاضرة أو اثنتين في الأسبوع أو الشهر, ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا والتمتع بمباحاتها تمتعاً يُفضي به إلى نسيان المعاني العلية, ومنهم من يقضي عامة يومه متتبعاً لسقطات إخوانه, ومطلعاً على ما يزيد علمه رسوخاً في هذا المجال. وهكذا يندر أن تجد إنساناً استطاع أن يعلو بهمته, ويجمع شمله ويَقْصر من الاعتذارات والشكايات فتصبح حياته مثلاً أعلى يُحتذى به. ولا أزعم أن جمهور الصحوة قد فات عليه هذا الأمر- أي أمر الهمّة وعلوها- ولكن أقول جازماً بأنه - إلا القليل - لم يستثمروا هممهم حق الاستثمار, ولم يحاولوا أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء. يقول الأستاذ المودوديّ رحمه الله تعالى مخاطباً قوماً ممن ذكرناهم آنفاً:

((إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متّقدة تكون في ضرامها - على الأقل مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجرّه إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي. إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم, وتعمر قلوبكم بالطمأنينة, وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد, وتستقطب عليها جهودكم وأفكاركم بحيث إن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين. وعليكم بالسعي ألا تنفقوا لمصالحكم وشؤونكم الشخصية إلا أقل ما يمكن من أوقاتكم وجهودكم, فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة. وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم, ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم, آخذةً عليكم ألبابكم وأفكاركم, فإنكم لا تقدرون أن تحرِّكوا ساكناً بمجرد أقوالكم . . الحقيقة أن الإنسان إذا كان قلبه مربوطاً بغايته, وفكره متطلعاً إليها, فإنه لا يحتاج إلى تحريض أو دفع. . . واسمحوا لي أن أقول لكم: إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبردَ من تلك

العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وأمهاتكم فإنكم لا بد أن تبوؤوا بالفشل الذريع)) (¬1). أرأيتم همة الإمام رحمه الله, ولا غرو أن تخرج هذه اللآلىء من رجل تصدى طيلة حياته المباركة لهموم دعوة الخلق إلى الحق, حتى أنه كان يصدر دورية بنفسه لا يشاركه فيها أحد - وكان هذا في مقتبل حياته - فهو الناشر ومدير التحرير والموزِّع, وقد أخبر عن نفسه بأنه كان يبل الخبز اليابس في النهر ثم يأكله, وحياته تصلح أن تكون تطبيقاً لما أوردته عنه آنفاً, رحمه الله. ويمكن بعد هذا أن نقول: إن مراتب الهمم متفاوتة فيما يلي: 1 - همة لا تسعف صاحبها لقضاء حوائجه الأساسية بل يظل عامة ليله وسحابة نهاره في نوم وتراخ وكسل, وهذه أدنى درجات الهمم - والعياذ بالله - وصاحبها عاجز قاصر يعتمد على الناس اعتماداً كلياً, وهذه المرتبة قليلة في النوع الإنسانيّ, ولله الحمد. ومن أمثلتها في الناس الطفيليون, وطبقة التنابلة المشتهرين في التاريخ بكسلهم وسقوط هممهم. 2 - ومن الهمم همة ترقى بصاحبها إلى قضاء الحوائج والسعي في ¬

(¬1) ((تذكرة دعاة الإسلام)): 58.

الأرض وأداء الفروض, ولكن كل هذا يقضيه بقدر بحيث يستصعب معه كثيراً من الأمور, ويعتقد استحالتها وهي أمور ممكنة التحقق عند غيره, وتجده - عند الاستشارة- كثير الصدّ قريب القصد. وهذه المرتبة من الهمّة يشترك فيها كثير من الناس إن لم نقل أغلبهم. 3 - ومن الناس من يريد الارتفاع بهمته ولكنه لا يعرف سبل استثمارها ولا كيفية الاستفادة التامة منها، فتجده متذبذباً في أموره, فتارة ينجز أموراً عظيمة, وتارة يستصعب الممكن ويستبعده. والغالب على أهل هذه المرتبة أنهم لا يحققون ما يصبون له يتطلعلون إليه. 4 - ومن الناس من تتجاوز به همته واقع الناس بكثير وتتعداه, بل تكاد تستسهل المستحيل ولا تخضع له, وصاحب هذه الهمّة نادر في دنيا البشر, ولكنه موجود معروف, يعرفه الناس ويقتدون به. والغالب على صاحب هذه الهمّة أنه يحقق أهدافه وغايته, بل يحقق أموراً تحتاج في تصور معظم الناس إلى فريق من العاملين لإنجازها.

قال أبو الطيب المتنبيّ (¬1) رحمه الله تعالى: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجلّ من الدهر وقال أيضاً: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم وقال أيضاً: تجمعت في فؤاده همم ... ملءُ فؤاد الزمان إحداها وقال آخر: صدرٌ رحيبٌ لما يأتي الزمان به ... وهمة تَسَع الدنيا وما تَسَعُ وقال أبو فراس (¬2): تهون علينا في المعالي نفوسُنا ... ومن يخطب الحسناءَ لم يُغْلِه المهرُ (¬3) ¬

(¬1) شاعر الزمان, أبو الطيب, أحمد بن حسين بن حسن الجُعفيّ الكوفيّ الأديب, الشهير ب ((المتنبي)) ,ولد سنة 303, وأقام بالبادية يقتبس اللغة والأخبار, وكان من أذكياء عصر, بلغ الذروة في النظم, تنبأ فافتضح وحبس دهراً ثم تاب, قتل سنة 354 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 16/ 199 - 201. (¬2) الأمير, الحارث بن حمدان التَغْلبي الشاعر المُفْلِق, كان رأساً في الفروسية والجود وبراعة الأدب, أسرته الروم جريحاً فبقي في القسطنطينية أعواماً, تم فداه سيف الدولة , وكانت له مَنْبِج , بلدة بجوار حلب, ثم تملك حمص, ثم قتل سنة 357 عن 37 سنة. انظر المصدر السابق: 16/ 196 - 197. (¬3) النصوص الشعرية السابقة من ((محاضرات الأدباء)): 1/ 445 - 447

أهمية علو الهمة في حياة المسلم

أهمية علو الهمّة في حياة المسلم يقول ممشاد الدينوريّ (¬1): ((همتك فاحفظها, فإن الهمّة مقدمة الأشياء, فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال)) (¬2). ويقول ابن القيم رحمه الله: ((لابد للسالك من همة تسيِّره وترقيه, وعلم يبصِّره ويهديه)) (¬3). وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم الدرعيّ (¬4): ((كن رجلاً رجله في الثرى وهمه في الثريا, وما افترقت الناس إلا في الهمم, من علت همته علت رتبته, ولا يكون أحدٌ إلا فيما رضيت له همته)) (¬5). وقد أسلفتُ بأنها عمود أمر الإنسان والأمر المهم في دنياه, ولكن سأفصّل ما أجملت بما يلي: ¬

(¬1) وردت ترجمة له في ((حلية الأولياء)): 10/ 353 - 354 اقتصر فيها على ذكر أقواله وحكمه. (¬2) ((إحياء فقه الدعوة)) للأستاذ الراشد, مجلة المجتمع: العدد 136. (¬3) ((الدرر الكامنة)): 4/ 21. (¬4) الزاهد العابد, ولد عام 1001, وتوفي عام 1052, له حكم ومواعظ: انظر ((نشر المثاني)): 2/ 22. (¬5) المصدر السابق.

أولا: تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالا لا يتحقق

أولاً: تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً لا يتحقق: وهذا الأمر مشاهد معروف عند أهل الهمم, إذ يستطيعون - بتوفيق الله لهم أولاً, وبهمتهم ثانياً - إنجاز كثير من الأعمال التي يستعظم بعضَها من قعدت به همته ويظنها خيالاً. وأعظم مثال على هذا سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم, إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه, لكنه صلى الله عليه وسلم استطاع بناء خير أمة أُخرجت للناس في أقلَّ من ربع قرن, واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك, وجهاده صلى الله عليه وسلم وعمله وهمته العالية في بناء الأمة أمرّ معروف, وهو مما تقاصر عنه أطماع أهل الهمّة العالية وخيالاتهم وما يتطلعون إليه. والصدِّيق رضي الله عنه استطاع - في أقل من سنتين - أن يخرج من دائرة حصار المرتدين, ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت, هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم , ولكن همته العالية أبَتْ عليه ذلك واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالاً لا ينجز. وقس على هذا أمر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أنه من عظمة همته في طلب الحق قال له علي رضي الله عنه: ((لقد أذللت الخلفاء من بعدك يا أمير المؤمنين)) (¬1). ¬

(¬1) تاريخ عمر بن الخطاب , ابن الجوزي.

ويصلح أن يكون أمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز مثالاً يستضاء به لطالب الهمّة العالية , إذ أنه حاول إرجاع الناس إلى ما كان عليه الصدر الأول, ولقد حقق كثيراً من النجاح, رحمه الله. وهناك أمثلة كثيرة مبثوثة في التواريخ, ولكن لنقترب قليلاً من عصرنا, ونحلِّق قريباً من ديارنا, ولنضرب مثلين على علو الهمّة لا أكاد أجد لهما - فيما أعلم - نظيراً: أما أحدهما فشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي استطاع في مدة وجيزة إخراج مجتمعه من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد بهمة وعزيمة نادرتين. وأما الآخر فالإمام حسن البنا رحمه الله, إذ كانت حياته مثلاً جميلاً لعلو الهمّة, ومن أراد الإنصاف فليراجع ((مذكرات الدعوة والداعية)) , ((ورسائله)) التي تفوح بعلو الهمّة وقوة الإرادة, وكيف لا يكون كذلك وقد كان يخاطب أتباعه بقوله: ((أحلام الأمس حقائق اليوم , وأحلام اليوم حقائق الغد)). وأضرب - في الختام - مثلاً بهمة أحد الكافرين حتى نعتبره ونتعظ, فنحن أولى منه بعلو الهمّة وقوة الإرادة, وهذه القصة حكاها الدكتور توفيق الواعي حيث قال حفظه الله:

((أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثاً دراسية إلى ألمانيا كما بعثت الأمة العربية بعوثاً, ورجعت بعوث اليابان لتحضر أمتها, ورجعت بعوثنا خاوية الوفاض!! فما هو السر؟ لنقرأ هذه القصة حتى نتعرف على الإجابة. يقول الطالب الياباني ((أوساهير)) الذي بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألمانيّ الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء, كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية, كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً, كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى ((موديل)) هو أساس الصناعة كلها, فإذا عرفت كيف تصنع وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها, وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل, أو مركز تدريب عمليّ, أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها, وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها, ولكنني ظللت أمام المحرك - أياً كانت قوته - وكأنني أقف أمام لغز لا يحل. وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع, كان ذلك أول الشهر, وكان معي راتبي, وجدت في المعرض محركاً قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله, فأخرجت الراتب ودفعته, وحملت المحرك وكان ثقيلاً جداً, وذهبت إلى حجرتي, ووضعته على المنضدة

وجعلت أنظر إليه , وكأني أنظر إلى تاج من الجوهر, وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوربا, لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان, وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى , مغناطيس كحذوة الحصان, وأسلاك, وأذرع دافعة, وعجلات, وتروس وما إلى ذلك, لو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها ثم شغلته فاشتغل أكون قد خطوت خطوة نحو سر ((موديل)) الصناعة الأوربية. وبحثت في رفوف الكتب التي عندي, حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات, وأخذت ورقاً كثيراً, وأتيت بصندوق أدوات العمل, ومضيت أعمل, رسمت المحرك, بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه, ثم جعلت أفككه, قطعة قطعة, وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة وأعطيتها رقماً, وشيئاً فشيئاً فككته كله, ثم أعدت تركيبه, وشغلته فاشتغل, كاد قلبي يقف من الفرح, استغرقت العملية ثلاثة أيام, كنت آكل في اليوم وجبة واحدة, ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل. وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت, الآن لا بد أن أختبرك, سآتيك بمحرك متعطل , وعليك أن تفككه,

وتكتشف موضع الخطأ وتصححه, وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل, وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل, فقد كانت ثلاثاً من قطع المحرك بالية متآكلة, صنعت غيرها بيدي, صنعتها بالمطرقة والمبرد. بعد ذلك قال رئيس البعثة - وكان بمثابة الكاهن يتولى قيادتي روحياً (¬1) - قال: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك, ثم تركبها محركاً, ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد, وصهر النحاس, والألومنيوم, بدلاً من أعد رسالة الدكتوراه كما أراد مني أساتذتي الألمان, تحولت إلى عامل ألبس بذلة زرقاء وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن, كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم, حتى كنت أخدمه وقت الأكل, مع أنني من أسرة ساموراي, ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء, قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات, كنت أعمل خلالها ما بين عشرة وخمس عشرة ساعة في اليوم, وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة, وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة. ¬

(¬1) ليتنا نحذو حذوهم فلا نرسل بعثة إلا بمرافق يعلمها أمور دينها.

ثانيا: الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد

وعلم ((الميكادو)) - الحاكم اليابانيّ - بأمري فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة, وأدوات وآلات, وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت, فوضعت راتبي وكل ما ادخرته. وعندما وصلت إلى ((نجازاكي)) قيل لي: إن ((الميكادو)) يريد أن يراني, قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشىء مصنع محركات كاملاً, استغرق ذلك 9 سنوات, وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات (صنع في اليابان) , قطعة قطعة, حملناها إلى القصر, ودخل ((الميكادو)) وانحنينا نحييه وابتسم وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي, صوت محركات يابانية خالصة, هكذا ملكنا ((الموديل)) وهو سر قوة الغرب, نقلناه إلى اليابان, نقلنا قوة أوربا إلى اليابان ونقلنا اليابان إلى الغرب)) (¬1). ثانياً: الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد: وهذا مَعْلَم بارز في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ومن تبعهم بإحسان, يقول حذيفة رضي الله عنه: ((صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة, فقلت: يركع عند ¬

(¬1) "مجلة المجتمع": العدد 998.

المائة, ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة, فمضى, فقلت: يركع بها, ثم افتتح النساء فقرأها, ثم افتتح آل عمران فقرأها, يقرأ مترسلاً, إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح, وإذا مّربسؤال سأل, وإذا مر بتعوذ تعوذ, ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم, فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده, ثم قام طويلاً قريباً مما ركع, ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى, فكان سجوده قريباً من قيامه)) (¬1). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطال حتى هممت بأمر سوء, قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه)) (¬2). وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه على فراش الموت يذكر أموراً تدل على همّته في العبادة والزهد, فروي عنه أنه قال: ((اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري الأنهار, ولا لغرس الأشجار, ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل, وظمأ الهواجر في الحر الشديد, ولمزاحمة العلماء بالركب في حلَق الذكر)) (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صلاة المسافرين وقصرها, باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاؤه بالليل. (¬2) المصدر السابق. (¬3) ((حلية الأولياء)): 1/ 239.

هذا وقد كان يعيش في دمشق ولكنه علا بهمته عما فيها من مغريات وجمال. وهذا الإمام مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة قد روى عنه الإمام ابن القاسم (¬1) هذه الحادثة: ((كنت آتي مالكاً غلساً (¬2) فأسأله عن مسألتين, ثلاثة، أربعة, وكنت أجد منه انشراح الصدر, فكنت آتي كلّ سحر, فتوسدت مرة في عتبته, فغلبتني عيني فنمت, وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به, فركضتني سوداء له برجلها وقالت لي: إن مولاك لا يغفل كما تغفل أنت, اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العَتَمَة (¬3) , ظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه)) (¬4). وإذا أردت التوسع في أمثلة عبادة السلف وزهدهم فسيطول بي الأمر, وحسبي ما أوردته دليلاً على علو هممهم. ¬

(¬1) عالم الديار المصرية ومفتيها, أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العُتَقيّ بالولاء, المصريّ, صاحب الإمام مالك. كان ذا مال ودنيا فأنفقها في العلم, وله قدم في الورع والتألّه , ولد سنة 132 وتوفي سنة 191 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 9/ 120 - 125. (¬2) انظر إلى هذه الهمة العالية إذ يأتيه قبل الفجر, وفي أيامنا قلّ من يجلس مستيقظاً بعد صلاة الفجر إلى أن يصلي ركعتين بعد ارتفاع الشمس قدر رمح, وإذا طلب من أحد الدرس بعد الفجر يعتذر بأنه موعد غير مناسب, وهذا حتى في أيام الإجازات التي ليس فيها عمل صباحيّ مبكر يحتاج إلى راحة. (¬3) أي العشاء. (¬4) ((ترتيب المدارك)): 3/ 250.

ثالثا: البعد عن سفاسف الأمور ودناياها

ثالثاً: البعد عن سفاسف الأمور ودناياها: صاحب الهمّة العالية لا يرضى لنفسه دنايا الأمور بل يطمح دائماً إلى ماهو أفضل وأحسن, فتجده يترفع عن مجالس اللغو وإضاعة الوقت, وينأى بنفسه عنها. يقول الإمام ابن الجوزيّ متألماً من حال من يقطع يومه وليلته في سفاسف الأمور: ((قد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً, إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر, وإن طال النهار فبالنوم, وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق, فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري وما عندهم خبر, ورأيت النادرين قد فهموا معنى الزمان وتهيأوا للرحيل, فالله الله في مواسم العمر, والبدارَ البدارَ قبل الفوات, ونافسوا الزمان)) (¬1). ولما فرّ عبد الرحمن الداخل (¬2) - صقر قريش - من العباسين وتوجه تلقاء الأندلس أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: ((إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها, وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت ¬

(¬1) ((قيمة الزمن عند العلماء)): 27 - 28. (¬2) عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان, أمير الأندلس وسلطانها, أبو المُطرِّف الأموي المروانيّ- المشهور ب ((الداخل)) - ولما سقطت دولة بني أمية هرب ودخل الأندلس فتملكها 33 سنة, وبقي الملك في عقبه إلى سنة 400, ولد سنة 113 بتدمر, وتوفي سنة 172 بالأندلس رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 8/ 244 - 253.

همتي, ولا حاجة لي بها الآن, وردّها على صاحبها)) (¬1). ويروي الأستاذ عبد الستّار نوير قصة طريفة فيها عبرة فيقول: ((قرأت للأستاذ أحمد أمين طريفة معبرة, قال: حُدثت أن جندياً ظريفاً رأى في مقهى رجلين يلعبان النرد, وكانت الساعة السابعة مساءً, فتقدم إليهما بكل أدب واحترام وحيّاهما ثُمّ سألهما: -? من أي وقت بدأتما اللعب؟ - من الساعة الرابعة. - وإلى متى؟ - إلى الثامنة أو التاسعة. - وما عملكما؟ - مدرسان. فانهال عليهما ضرباً ولكماً وقال: أما لكما عمل تعملانه, أو رياضة تقومان بها, أو خدمة اجتماعية تؤديانها؟)). ذكر الأستاذ القصة ثم قال معلقاً: ((ليت لنا مشرفين من هذا القبيل يعزرون من أضاع وقته على هذا النمط, إذا ما نجا من ¬

(¬1) ((نفح الطيب)): 4/ 43

رابعا: صاحب الهمة العالية يعتمد عليه, وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه

الضرب واللكم إلا القليل)) (¬1). إن الإسلام - وهو الدين الشامل الخاتم - قد أبيح فيه الترويح والتنفيس, ولكن أن يُخطأ في تقدير هذا الترويح فيُجعل هو الأصل, فهذا من الدنايا التي تُنزه عنها الأديان وترتفع عنها همة الإنسان. رابعاً: صاحب الهمّة العالية يُعتمد عليه, وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه: وهذا أمر مشاهد معروف, فإن كل رؤساء ومدراء الجمعيات والمؤسسات يطمحون للعمل مع صاحب الهمّة العالية ويطمئنون له ويسعدون به, كيف لا وهو عوض عن فريق من العاملين, وكذلك صاحب الهمّة العالية في الدعوة يكون بمثابة فريق من الدعاة, ويرفع الله به الدعوة درجات. وقد قيل: ((ذو الهمّة وإن حط نفسَه تأبى إلا العلوّ, كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً)) (¬2) ¬

(¬1) ((الوقت هو الحياة)): 178 (¬2) ((محاضرات الأدباء)): 1/ 445.

خامسا: صاحب الهمة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة, وتكون أوقاته مستثمرة بناءة

خامساً: صاحب الهمّة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة, وتكون أوقاته مستثمرة بنّاءة: وهذا هو مطمع الصالحين ومراد العالمين ومجال المتنافسين, وقد كان السلف رحمهم الله يضربون أعظم الأمثلة في هذا المجال, وحسبي في هذا الأمر أن أورد مثالين: أكان الإمام ابن عقيل الحنبليّ (¬1) يقول: ((إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري, حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة, وبصري عن مطالعة, أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح)) (¬2). ب ووصف الإمام النوويّ (¬3) حياته لتلميذه أبي الحسن ابن العطار (¬4) فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحاً: درسين في ((الوسيط)) , ودرساً في ((المهذب)) (¬5) , ودرساً في صحيح مسلم, ودرساً في ((اللمع)) (¬6) لابن جنّي (¬7) , ودرساً في إصلاح المنطق، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه, ¬

(¬1) الإمام العلامة البحر, شيخ الحنابلة, أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد البغداديّ الحنبليّ المتكلم, صاحب التصانيف. ولد سنة 431, وخالط المعتزلة فانحرف عن السنة, وكان يتوقد ذكاء, بحرُ معارف, وكان كريماً, توفي سنة 503 وكان الناس في جنازته يفوقون الحصر. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 19/ 443 - 451. (¬2) ((الوقت هو الحياة)): 178. (¬3) يحيى بن شرف بن مُرِّي, الإمام المشهور, توفي سنة 676 عن 45 سنة. انظر ترجمته في ((فوات الوفيات)): 4/ 264 - 268. (¬4) علي بن ابراهيم بن داود, أبو الحسن, من أهل دمشق, ولد سنة 654, وكان أبوه عطاراً وجده طبيباً, ألف مؤلفات عديدة, وباشر مشيخة المدرسة النورية 30 سنة, توفي سنة 724 رحمه الله تعالى. انظر ((الأعلام)): 4/ 251. (¬5) كتاب في الفقه الشافعيّ لأبي إسحاق الشيرازيّ, شرحه الإمام النوويّ في كتابه ((المجموع)). (¬6) كتاب في النحو. (¬7) إمام العربية, أبو الفتح عثمان بن جنيّ الموصليّ, صاحب التصانيف, له نظم جيد, توفي سنة 392 عن قرابة 63 سنة رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 17/ 17 - 19.

ودرساً في أسماء الرجال, ودرساً في أصول الدين, قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة, وضبط لغة, وبارك الله تعالى في وقتي)) (¬1). وقال أبو الحسن العطّار: ((ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يُضيع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق, وأنه دام على هذا ست سنين, ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق. قلت (¬2): مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه, والعمل بدقائق الورع, والمراقبة, وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها)) (¬3). وإليك - أخي القارىء - كلاماً مهماً لأحد الغربيين يوضح حال أهل الهمّة مع وقته: قال د. ماردن: ((كل رجل ناجح لديه نوع من الشّباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان, ونعني بها فَضَلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يَكنِسه معظم الناس بين مهملات الحياة, وإن الرجل ¬

(¬1) ((تذكرة الحفاظ)): 4/ 147. (¬2) أي الذهبي. (¬3) ((تذكرة الحفاظ)): 4/ 147.

سادسا: صاحب الهمة العالية قدوة للناس

الذي يدخر كل الدقائق المفردة, وأنصاف الساعات, والأعياد غير المنتظرة, والفسحات التي بين وقت وآخر, والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم, ويستعمل كلَّ هذه الأوقات, ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن)) (¬1). سادساً: صاحب الهمّة العالية قدوة للناس: صاحب الهمّة قدوة في مجتمعه, ينظر إلى حاله القاعدون وأنصاف الكسالى والفاترون فيقتدون بهمته, ويرون ما كانوا يظنونه أمراً مسطوراً في الكتب القديمة قد انتهى وعُدم من دنيا الناس, يرونه واقعاً متحققاً في حياتهم, فيظل هذا الشخص رمزاً للناس ومحل ضرب أمثالهم. سابعاً: تغيير طريقة حياة الأفراد والشعوب: يقول الشيخ الأستاذ محمد الخضر حسين (¬2) شارحاً المراد: ((يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور, فهو الذي ينهض بالضعيف يُضطهد أو يزدرى فإذا هو عزيز كريم, وهو الذي يرفع القوم من سقوط ويبدلهم بالخمول ¬

(¬1) ((سبيلك إلى الشهرة والنجاح)): 56. (¬2) محمد الخضر بن الحسين بن علي الحسنيّ التونسيّ, ولد سنة 1293, عالم إسلاميّ وباحث, من أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق, وتولى مشيخة الأزهر, وكان هادىء الطبع, وقوراً, خص قسماً كبيراً من وقته لمقاومة الاستعمار, توفي سنة 1377 رحمه الله تعالى. انظر ظزالأعلام)): 6/ 113 - 114.

نباهة وبالاضطهاد حرية, وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية. هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها ... أما صغير الهمّة فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة, ويطرق إليهم رأسه حِطَّة ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم, ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم)) (¬1). ¬

(¬1) ((رسائل الإصلاح)): 2/ 88.

وسائل ترقية الهمة

وسائل ترقية الهمّة إذا عرفنا معنى الهمّة, ومراتبها, وأهميتها, فكيف السبيل لتنميتها والرقي بها؟ إن تطوير الإنسان لهمته والرقي بها أمر مطلوب, ويتأكد هذا المطلوب عند عقلاء الناس ومفكريهم ودعاتهم ومصلحيهم, وهذه جملة أمور تساعد - في ظني - على تطوير الهمم: 1 - المجاهدة: فبدونها لا يتحقق شيء ولا تُخطى خطى, قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (¬1) قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((أعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه, فإذا وجد إفاقة قرأ فيه, فإذا غُلب وضعه, فدخل عليه الطبيب يوماً وهو كذلك فقال: إن هذا لا يحل ... لك, فإنك تعين على نفسك, وتكون سبباً لفوات مطلوبك)) (¬2). ¬

(¬1) العنكبوت: 69. (¬2) ((روضة المحبين)): 70.

فهذا رغم مرضه - يجاهد ليقرأ ويزداد علماً. وقال الإمام عيسى بن موسى: ((مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريسة السوق فلا أقدر على ذلك, لأجل البكور إلى سماع الحديث)) (¬1). وقال الإمام عبد القادر الجيلانيّ رحمه الله تعالى: ((كنت أقتات بخرنوب الشوك, وقمامة البقل, وورق الخس من جانب النهر والشط, وبلغت الضائقة في غلاء نزل بغداد إلى أن بقيت أياماً لم آكل فيها طعاماً, بل كنت أتبع المنبوذات أطعمها)) (¬2). وهذا جنديّ من الجنود الغربيين يحدث عن مجاهدته في تعلم بعض الفنون, فيقول: ((تعلمت وأنا جندي بسيط بمرتب ستة بنسات في اليوم ... ولم يكن لدي مال أشتري به مصباحاً أو زيتاً, وكان من النادر في ليالي الشتاء أن أحصل على نور ما عدا نور النار, وذلك أثناء نوبتي في ¬

(¬1) ((ذيل طبقات الحنابلة)): 1/ 298. (¬2) ((الدلائل النورانية لطالب الربانية)): 154 - 155.

2 - الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله تعالى

الخدمة فقط, وكنت أضطر أن أتخلى عن مُشترى قسم من القوت الضروري لي, لأشتري قلم رصاص أو ورقاً ولو بقيت متحملاً آلام الجوع الشديد, ولم يكن لي دقيقة من الوقت أستقلُّ بها لنفسي, فكان علي أن أقرأ وأكتب بين حديث وقهقهة وغناء وجَلَبة عدد لا يقل عن عشرين جندياً ممن لا يفكرون بشيء ... وكان مجموع ما يوفره كل منا بعد نفقاته بنسين في الأسبوع, وأذكر أني احتلت مرة لتوفير نصف بنس بعد نفقاتي الضرورية اليومية, وصممت على أن أشتري به سمكة في الصباح, وكان الجوع قد بلغ مني مبلغه ولكنني لما خلعت ثيابي في الليل وجدت أن نصف البنس قد ضاع, فغطيت رأسي بملاءتي الحقيرة وجعلت أبكي كالطفل)). ثم قال: ((إذا كنت في وسط هذه الأحوال الصعبة أتمكن من تحصيل العلم, فهل يبقى في العالم كله شاب يجد لنفسه عذراً في القعود عن الدرس والتحصيل)) (¬1). 2 - الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله تعالى: فهو المسؤول سبحانه أن يقوي إرادتنا, ويعلي همتنا, ويرفع درجاتنا. ¬

(¬1) ((سبيلك إلى الشهرة والنجاح)): 35 - 36.

3 - اعتراف الشخص بقصور همته وأنه لا بد له أن يطورها ويعلو بها

3 - اعتراف الشخص بقصور همته وأنه لا بد له أن يطورها ويعلو بها: وهذا أمر أوليّ نفسيّ لا مناص منه في هذا الباب, ومن ثَمّ لا بد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من أهل الهمّة العالية, فهذان الأمران - الاعتراف بقصور الهمّة, واعتقاد إمكانية تطويرها - عاملان مهمان لابد منهما في محاولة تطوير الهمّة, وبدونهما لا يكون الشخص قد خطا خطوات صحيحة. 4 - قراءة سير سلف الأمة: أهل الجد والاجتهاد والهمّة العالية, الذين صان الله تعالى بهم الدين, فكم من إنسان قرأ سيرة صالح مجاهد فتغيرت حياته إثر ذلك تغيراً كلياً, وصلح أمره وحسن حاله. يقول الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى: ((أعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم, لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدىء, ولا صاحب ورع فيستفيد منه المتزهد (¬1) , فالله الله, وعليكم بملاحظة سير القوم, ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم, فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم ... ولقد نظرت في ثَبَت الكتب (¬2) الموقوفة في المدرسة ¬

(¬1) يقول هذا عن أهل زمانه, فماذا نقول عن أهل زماننا؟ إلى الله المشتكى. (¬2) أي فهرست الكتب.

النظامية (¬1) فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد, وفي ثَبت كتب أبي حنيفة, وكتب الحميديّ (¬2) , وكتب شيخنا عبد الوهاب (¬3) , وابن ناصر (¬4) , وكتب أبي محمد الخشاب (¬5) , وكانت أحمالاً, وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه, ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر, وأنا بعد في الطلب (¬6). فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم وقدر هممهم وحفظهم وعباداتهم وغرائب علومهم ما لا يعرفه مَن لم يطالع, فصرت أستزري ما الناس فيه, وأحتقر همم الطلاب, ولله الحمد)) (¬7). وقال علي بن الحسن بن شقيق (¬8): ((قمت لأخرج مع ابن المبارك (¬9) في ليلة باردة من المسجد, فذاكرني عند الباب بحديث, أو ذاكرته, فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح)) (¬10). وقال محمد بن علي السلميّ (¬11): ((قمت ليلة سحراً لأخذ النوبة على ابن الأَخْرم (¬12) , فوجدت قد ¬

(¬1) وهي المدرسة المنسوبة إلى نظام الملك الوزير المشهور. (¬2) الإمام الكبير شيخ الإمام البخاريّ, عبد الله بن الزبير القرشيّ الأسديّ الحُميديّ المكيّ, أبو بكر, توفي بمكة سنة 219 رحمه الله تعالى. انظر ((التقريب)): 303. (¬3) الشيخ الإمام, الحافظ المفيد, الثقة المسند, أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد البغداديّ الأنماطيّ, ولد سنة 462, وجمع فأوعى, وكان حسن المعاشرة, سريع الدمعة, على طريقة السلف, توفي سنة 538 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 20/ 134 - 137. (¬4) الإمام المحدث الحافظ, مفيد العراق, أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد السَلاميّ البغداديّ, ولد سنة 467, وقرأ ما لا يوصف كثرة, وحصل الأصول, وجمع وألّف, وبَعُد صيته, وكان فصيحاً مليح القراءة, قوي العربية, جم الفضائل, توفي سنة 550 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 20/ 265 - 271. (¬5) الشيخ الإمام, العلامة المحدِّث, إمام النحو, أبو محمد عبد الله بن أحمد البغداديّ, ابن الخشاب, يُضرب به المثل في العربية, ولد سنة 492, وقرأ كثيراً, وفاق أهل زمانه في علم اللسان, وكان له أحوال عجيبة في التبذل وقلة النظافة , توفي رحمه الله تعالى سنة 567. انظر المصدر السابق: 523 - 528 .. (¬6) انظر إلى همة هذا الإمام القعساء, رحمه الله. (¬7) ((قيمة الزمن عند العلماء)): 31. (¬8) المروزيّ, له ترجمة مختصرة في ((الجرح والتعديل)): 6/ 180. (¬9) عبد الله بن المبارك المروزيّ الحنظليّ - بالولاء -. ثقة ثبت, فقيه عالم، جواد, مجاهد, جمعت فيه خصال الخير. توفي سنة 181 وله ثلاث وستون سنة. انظر ((التقريب)): 320. (¬10) ((نزهة الفضلاء)): 2/ 657. (¬11) لم أقف له على ترجمة. (¬12) مقرىء دمشق, العلامة أبو الحسن محمد بن النضر بن مُرّ الربَعيّ الدمشقيّ, ابن الأخرَم, كان يحفظ كثيراً من التفسير ومعانيه, وكانت له حلقة عظيمة بجامع دمشق, توفي رحمه الله تعالى سنة 341 وعاش 81 سنة. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 15/ 564 - 566.

5 - مصاحبة صاحب الهمة العالية

سبقني ثلاثون قارئاً, ولم تدركني النوبة إلى العصر)) (¬1). وهذا الخبر كلما قرأته تعجبت من همة أولئك الأطهار, جعلنا الله منهم. 5 - مصاحبة صاحب الهمّة العالية: إذ كل قرين بالمقارن يقتدي, والنظر في أحواله وما هو عليه, وكيف يُختصر له الزمان اختصاراً نافع مفيد. وهذا من أعظم البواعث على علو الهمّة، لأن البشر قد جُبلوا على الغيرة والتنافس ومزاحمة بعضهم بعضاً, وحُب المجاراة في طبائع البشر أمر لا ينكر. 6 - مراجعة جدول الأعمال اليومي, ومراعاة الأولويات, والأهم فالمهم: وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمّة, إذ كلما كان ذلك الجدول بعيداً عن الرتابة والملل كان أجدى في معالجة الهمّة, ومثال ذلك شخص اعتاد أن يزور أقاربه أو صحبه كل يوم, ويقضي الساعات الطوال معهم بغير فائدة تذكر, فمراجعة مثل هذا الشخص لجدول عمله تفيده أيما فائدة بحيث يقلل من تلك الزيارات لصالح أعمال أخرى تعود على همته بالفائدة. ¬

(¬1) المرجع السابق: 2/ 1245.

7 - التنافس والتنازع بين الشخص وهمته

7 - التنافس والتنازع بين الشخص وهمته: أعني بهذا أن على مريد تطوير همته أن يضيف أعباءً وأعمالاً يومية لنفسه لم تكن موجودة في برنامج حياته السابق, بحيث يحدث نوع من التحدي داخل الإنسان لإنجاز ما تحمله من أعباء جديدة, ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط واليأس. ويجب عليه كذلك أن يحسن اختيار هذه الأعمال والأعباء الجديدة بحيث تكون مبلغة له إلى الكمال, ((فمن كانت همته حفظ جميع كتب محمد بن الحسن (¬1) فالظاهر أنه يحفظ أكثرها أو نصفها)) (¬2). فالتحدي الذي نشأ في نفسه بسبب رغيته في حفظ كتب معينة سيوصله إلى حفظ أكثرها, والله أعلم. 8 - الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة: فمن استوى عنده العلم والجهل, أو كان قانعاً بحاله وما هو عليه فكيف تكون له همة أصلاً, قال ابن حجر (¬3) رحمه الله يصف حال الإمام جلال الدين البُلْقِينيّ (¬4): ¬

(¬1) محمد بن الحسن بن فَرْقد, العلامة فقيه العراق, أبو عبد الله الشيبانيّ الكوفيّ, صاحب أبي حنيفة, ولد بواسط ونشأ بالكوفة, وأخذ عنه الشافعيّ فأكثر جداً, وولي القضاء للرشيد بعد أبي يوسف, وكان فصيحاً إلى الغاية. توفي سنة 189 بالري رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)):9/ 134 - 136. (¬2) ((تعليم المتعلم)): 60 (¬3) أحمد بن علي بن محمد, الأستاذ إمام الأئمة, أبو الفضل الكنانيّ العسقلانيّ المصريّ الشافعيّ, ويُعرف بابن حجر, وهو لقب لبعض آبائه, ولد سنة 773 بمصر القديمة, ونشأ بها يتيماً وجد في العلوم حتى بلغ الغاية, وله المصنفات الحسنة, ولي بعض المناصب كالقضاء والحسبة والإمامة, توفي بالقاهرة سنة 852 رحمه الله تعالى. انظر ((الضوء اللامع)):2/ 36 - 40. (¬4) عبد الرحمن بن عمر بن سلامة العسقلانيّ الأصل, ثم البُلْقِينيّ المصريّ, أبو الفضل جلال الدين, من علماء الحديث بمصر, ولي القضاء مراراً وانتهت إليه رئاسة الفتوى بعد أبيه, وله مصنفات, توفي بالقاهرة سنة 824. انظر ((الأعلام)): 3/ 320.

9 - الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها

((ما رأيت أحداً ممن لقيته أحرص على تحصيل الفائدة منه, بحيث إنه كان إذا طرق سمعَه شيء لم يكن يعرفه لا يقر ولا يهدأ ولا ينام حتى يقف عليه ويحفظه, وهو على هذا مكب على الاشتغال, محب في العلم حق المحبة)) (¬1). وقال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: ((إن نفسي تواقة, وإنها لم تُعط من الدنيا شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه, فلما أُعطيَت ما لا أفضل منه في الدنيا تاقت إلى ما هو أفضل منه - يعني الجنة -)) (¬2). 9 - الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمّة وتضييعها: كثير من الصالحين تضيع طاقاتُهم في أمور لا تعود عليهم بالنفع بل قد يكون فيها كثير من الضرر, فمن صور هذا التضييع: أ- كثرة الزيارة للأقارب بدون هدف شرعيّ صحيح, ولا غرض دنيويّ فيه منفعة وفائدة معتبرة. ب- كثرة الزيارة للأصحاب والإخوان بدعوى الأخوة والتناصح, فيكثر في المجلس اللغو والمزاح وتقل الفائدة. ¬

(¬1) ((الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)): 4/ 109. (¬2) ((عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين)): 34.

يقول الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله تعالى: ((أعوذ بالله من صحبة البطّالين, لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما اعتاد الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد: خدمة, ويطيلون الجلوس, ويُجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني ويتخلله غيبة, وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس, وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش الوحدة, وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد, فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض, ولا يقتصرون على الهناء والسلام, بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء والواجب انتهابُه بفعل الخير كرهتُ ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف, وإن تقبلته منهم ضاع الزمان, فصرت أدافع اللقاء جهدي, فإذا غُلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق)) (¬1). وكلام الإمام هذا ينطبق - في الجملة - على حال كثير من اللقاءات والاجتماعات التي يقوم بها الناس اليوم. ¬

(¬1) ((قيمة الزمن عند العلماء)): 28.

ج- الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله

ج- الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة وحيازة المال النافع للإسلام وأهله, ثم لا يلبث هذا الأمر أن ينقلب إلى تحصيل محض, وحب للدنيا والانغماس فيها, ومن ثَمّ يقسو قلب الشخص وتنحط همته. د- تكليف الموظف نفسه بعملين: صباحيّ ومسائيّ بدون حاجة أو ضرورة ملجئة, وإنما دفعه لهذا حُب هذه الدنيا والتمتع فيها. هـ- كثرة التمتع بالمباح, والترف الزائد, والترفل في النعيم, وكل هذه الأمور من العوامل الفتاكة القاضية على الهمّة مهما قيل في تبريرها وتعليلها. ذكر ابن حجر رحمه الله أن تاج الدين المراكشيّ- أحد فقهاء الشافعية (¬1) - كان قد ((انقطع بالمدرسة الأشرفية ملازماً للقراءة والاشتغال, صبوراً على ذلك جداً, بحيث يمتنع عن الآكل والشرب (¬2) والملاذ بسبب ذلك)) (¬3). وهذه الأمور من المباحات قطعاً, ولكن ذلك الفقيه علم أن الإكثار منها والولع فيها سبب لسقوط الهمّة وضعف العمل. ¬

(¬1) محمد بن إبراهيم بن يوسف, تاج الدين المراكشي, الفقيه الشافعيّ, ولد بالقاهرة, بعد السبعمائة, وتقدم في الفنون, وكان طويل النفَس, كان مطموس العينين يبصر بإحداهما قليلاً, وكان يعطي الأجرة لمن يطالع له , توفي سنة 752 رحمه الله تعالى. انظر ((الدرر الكامنة)):3/ 386 - 387. (¬2) أي عن فضولهما. (¬3) ((الدرر الكامنة)): 3/ 387.

وذكر السبكيّ (¬1) أن أباه الإمام تقيّ الدين (¬2) ((كان من الاشتغال على جانب عظيم بحيث يستغرق غالب ليله وجميع نهاره ... كان يخرج من البيت صلاة الصبح فيشتغل على المشايخ إلى أن يعود قريب الظهر, فيجد أهل البيت قد عملوا له فرّوجاً فيأكله ويعود إلى الاشتغال إلى المغرب فيأكل شيئاً حُلواً لطيفاً, ثم يشتغل بالليل, وهكذا لا يعرف غير ذلك، حتى ذكر لي أن والده قال لأمه: هذا الشاب ما يطلب قط درهماً ولا شيئاً فلعله يرى شيئاً يريد أن يأكله فضعي في منديله درهماً أو درهمين, فوضعت نصف درهم, قالت الجدة: فاستمر نحو جمعتين وهو يعود والمنديل معه والنصف فيه إلى أن رمى به إليّ وقال: أيش أعمل بهذا؟ خذوه عني)) (¬3). وهذا مثال على أن الفتيان إذا أحسن توجيههم وتربيتهم ارتفعوا عن الترف والتنعم, وأخذوا بأسباب المعالي والرفعة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((قال لي يوماً شيخ الإسلام (¬4) قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطاً في ¬

(¬1) عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكيّ, أبو نصر تاج الدين الشافعيّ, ولد سنة 727, وأمعن في طلب الحديث حتى مهر وهو شاب مع ملازمة الاشتغال بالفقه والأصول والعربية, انتهت إليه رئاسة القضاء والمناصب بالشام, وحصل له محن شديدة وهو ثابت, وكان كريماً مهيباً, توفي سنة 771 رحمه الله تعالى. انظر ((الدرر الكامنة)): 3/ 39 - 42. (¬2) علي بن عبد الكافي بن علي السبكيّ, تقي الدين, أبوالحسن الشافعيّ, ولد ب ((سبك العبيد)) بمصر سنة 683, وتفقه وطلب الحديث وارتحل, ثم تولى قضاء دمشق سنة 739, وكان ينظم كثيراً، وشعره وسط، وله مصنفات كثيرة. توفي بالقاهرة سنة 756 رحمه الله تعالى. انظر ((الدرر الكامنة)): 3/ 134 - 142. (¬3) ((طبقات الشافعية)): 10/ 144. (¬4) شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام, ابن تيمية, سيرته مشهورة, توفي سنة 828 رحمه الله تعالى. انظر ((الدرر الكامنة)): 1/ 154 - 170.

و الاستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية

النجاة, فالعارف يترك كثيراً من المباح برزخاً بين الحلال والحرام)) (¬1). هذا والذي لام عليه الإمام ابن تيمية تلميذه ((شيء من المباح)) , فما بالكم بما نراه اليوم من تمتع الدعاة بمباحات ونعيم لا يعرفه الملوك السالفون. والاستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية: فنجد الشخص منهمكاً في تلبية مطالب زوجه وعياله وقد لا تكون مهمة في أحيان كثيرة, وقد يعترض معترض ويورد أحاديث لا تدل على ما ذهب إليه مثل ((خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي)) (¬2) , ومثل ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)) (¬3) , وغير ذلك, وإنما هذه الأحاديث في الحث على إحسان الخُلق مع الأهل وعدم تركهم وتضييعهم بالكلية كما لا يخفى, وقد دخلت علينا في حياتنا الأسرية كثير من التقاليد الغربية في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد, ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم, وغير ذلك مما حاصله نسيان الكفالة الإلهية والضمان الربانيّ. ¬

(¬1) ((مدارج السالكين)): 2/ 26. (¬2) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح, باب حسن معاشرة النساء, وأخرجه كذلك الترمذيّ وابن حبان. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة, باب في صلة الرحم.

ز- التسويف

ز- التسويف: وهو داء عضال ومرض قتال, إذ أن ((سوف)) جند من جنود إبليس, قال الشاعر: ولا أدخّر شغل اليوم عن كسل ... إلى غدٍ إنّ يوم العاجزين غدُ ح- الكسل والفتور: ((لابد للمرء من البعد عن الكسل لأنه قاتل للهمّة مُذهب لها, وخاصة عند تقدم العمر وعجز الجسم, فهذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاريّ (¬1) رحمه الله تعالى ((كان يصلي النوافل من قيام مع كبر سنه وبلوغه مائة سنة أو أكثر, وهو يميل يميناً وشمالاً لا يتمالك أن يقف بغير ميل للكبر والمرض, فقيل له في ذلك فقال: يا ولدي, النفس من شأنها الكسل وأخاف أن تغلبني وأختم عمري بذلك)) (¬2). ¬

(¬1) زكريا بن محمد الأنصاريّ المصريّ, عُمِّر طويلاً ورزق بتلامذة نجباء, وبارك الله له في مصنفاته, توفي بالقاهرة عن مائة سنة, وذلك سنة 926 رحمه الله تعالى. انظر ((الكواكب السائرة)): 1/ 196 - 207. (¬2) المصدر السابق: 1/ 202.

وهذه أقوال تبين ما في العجز والكسل والفتور من آفات: - ((ما لزم أحد الدَّعَة إلا ذَلّ, وحب الهوينا يُكسب الذلّ, وحب الكفاية (¬1) مفتاح العجز)) (¬2). - وقال الصاحب (¬3): ((إن الراحة حيث تعب الكرام أودع لكنها أوضع, والقعود حيث قام الكرام أسهل لكنه أسفل)) (¬4). - وقال الشاعر: كأن التواني أنكح العجزَ ابنتَه ... وساق إليها حين أنكحها مهراً فراشاً وطيئاً ثم قال له: اتكىء ... فقُصرا كما لا شك أن تلدا فقراً - وقد قيل: ((زُوِّج العجز التواني فنتج بينهما الحرمان)) (¬5). ¬

(¬1) أي حب الاكتفاء بما عليه الإنسان وعدم الرغبة في الارتقاء. (¬2) ((محاضرات الأدباء)): 1/ 448. (¬3) الوزير الكبير العلامة الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقانيّ, الأديب الكاتب, وزير الملك مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة. صحب الوزير أبا الفضل بن العميد ومن ثم شهر بالصاحب. كان شيعياً معتزلياً, تياهاً جباراً, فصيحاً متقعراً. مات بالري سنة 385 عن تسع وخمسين سنة. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 16/ 511 - 514. (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق.

ط- ملاحظة الخلق

ط- ملاحظة الخلق: أكثر الخلق مفرّطون, وهم في الغفلة غارقون, فهم صوارف عن الهمّة العلية حيث يُغتر بهم ويقلدون في تفريطهم, فالحذار الحذار من غفلة الغافلين والاغترار بها. وقال الشاعر: ترجو غداً وغد كحاملة ... في الحيِّ لا يدرون ما تلد ((والإسراع في القيام بعمل من الأعمال يُزيل ما فيه من العناء, أما التأجيل فمعناه الإهمال, والعزم على العمل يصير مع الوقت عزماً على عدم العمل, وما أشبه من يعمل عملاً بمن يُلقي بذاراً في الأرض فإذا هو لم يعمله في حينه فإنه يبقى إلى الأبد بدون ثمرة, وليس صيف الزمان من الطول بحيث إن الأعمال المؤجلة تنضج ثمارها فيه)) (¬1). ¬

(¬1) ((سبيلك إلى الشهرة والنجاح)): 106.

((وإن للتأخر عواقب مشؤومة, فتأخر يوليوس قيصر عن قراءة رسالة وردت إليه كلفته خسارة حياته حين بلوغه مجلس الأعيان الرومانيّ, والكولونيل راهل قائد موقع ترانتون لما جاءه رسول يحمل إليه كتاباً متضمنناً نبأ اجتياز واشنطن لنهر ديلاور كان يلعب بالورق فوضع الكتاب في جيبه ولم يفضّه إلا بعد انتهاء اللعبة, وللحال سار في مقدمة جنوده إلى ميدان القتال فقتل ثم أخذ رجاله أسرى، فتأخّر بضع دقائق جَرَّ عليه خسارة الشرف والحرية الحياة)) (¬1). هذان مثالان على ما يمكن أن يجره التسويف, ولا تستهن أخي الداعية بعاقبته فإن التسويف في الدعوة وغزو القلوب قد يؤخر تَسنُّم الشرف بتمكين دعوة الله في الأرض, وقد لا تتاح الفرص المتوفرة الآن - على قلتها - في المستقبل القريب فتعضَّ حينذاك أصابعك ندماً على ما فرطت فيه, وتُحصر الدعوة بسبب ¬

(¬1) المصدر السابق. 104

تسويفك أنت وأمثالك في مضايق لا عهد لها بها, والله الموفق. ****

العلامات الدالة على علو همة الشخص

العلامات الدالة على علو همة الشخص إضافة إلى كل ما ذكر يمكن أن نذكر التالي: 1 - تحرُّقه على ما مضى من أيامه وكأنه لم يكن قطُّ صاحب الهمّة المتألق المنجز لكثير من الأمور, وأكثر ما يكون ذلك على فراش الموت. 2 - كثرة همومه, وتألمه لحال المسلمين وما يجدون من ظلم وعَنَت. 3 - موالاته النصيحةَ وتقديم الحلول والاقتراحات - التي تقوم بالإسلام والمسلمين وتعزهم -لمن يأمل فيهم التغيير ويرجو منهم الإصلاح. 4 - طلبه للمعالي دائماً فيما يفعله أو يتعلمه أو يصلحه. قال الأستاذ محمد الخضر حسين: ((طالب العلم الذي لا يدع باباً من أبوبه إلا ولجه ... يكون أعظم همة ممن لا يطرق منه كل باب, أو لم يعرج منه على كل مسألة

قيمة, وطالب العلم الذي يخوضه بنظر حر ويتناول مباحثه بنقد وبصيرة يكون أعظم همة ممن يجمع مسائله حفظاً ويتلقاها كما يتلقى حاكي الصدى لا يكلفك غير إملائها عليه)) (¬1). 5 - كثرة شكواه من ضيق الوقت وعدم قدرته على إنجاز ما يريده في اليوم والليلة. وليست هذه الشكوى من نمط ما نسمع من ترداد كثير من الناس لها, ولكنها شكوى حقيقية نابعة من عمل دؤوب يستغرق أوقات الشخص فيبث تلك الآهات الصادقة. 6 - قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردُّده: فهو إذا قرّر أمراً راشداً لا يسرع بنقضه بل يستمر فيه ويثبت عليه حتى يقضيه ويجني ثمرته, ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر بعد إبرامه من علامات تدني الهمّة. إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تتردّدا وقال الشاعر أيضاً: لكلٍ إلى شَأو العُلى حركات ... ولكنْ قليلٌ في الرجال ثبات (¬2) **** ¬

(¬1) ((رسائل الإصلاح)): 2/ 90 - 91. (¬2) الشأو: الطلب والسعي.

كيفية استثمار همة الناس

كيفية استثمار همة الناس إذا عرفنا ذلك كله فيجب علينا أن نحسن استثمار الهمّة عند الناس, ونستخرج منهم دفائن الكنوز وخبايا الصدور والعقول. والناس أمام المسلم الصالح ثلاثة أقسام: صالح ملتزم بدينه, ومستقيم محافظ على الفرائض والواجبات, وثالث مضيع ضائع. أما القسم الثالث فيترك لحين إفاقته. وأما القسم الثاني, وهم المستقيمون المحافظون ولكن في استقامتهم ومحافظتهم تخليط فتستثمر هممهم كما يأتي, والله أعلم. 1 - إن كانوا من ذوي اليسار والغنى يوجهون للمشاركة في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد, وإغاثة المنكوبين, وإقامة المنشآت النافعة ونحو ذلك, وخير ما يمكن أن يشاركوا فيه هو

تلك الهيئات والجمعيات الإسلامية المنتشرة في العالم الإسلاميّ, ولله الحمد, حيث إن الكوارث والنكبات التي تحيط بالعالم الإسلاميّ والتي توضحها وتتبناها تلك الهيئات كفيلة بإثارة نوازع الشفقة والخير فيهم, فينشطون للمساعدة بهمة جيدة. 2 - إن كانوا من ذوي الدخول المتوسطة - وهذا حال معظم ذلك القسم وتلك الفئة - فيوجهون إلى سماع الدروس الطيبة, وخطب الجمعة النافعة التي يؤديها خطباء مشهورون بالتأثير على العامة. 3 - ومن الحلول الناجحة لهذه الفئة هو توجيه شبابها وتحميسهم للمشاركة في الجهاد, إذ كم سمعنا عن أشخاص من عامة الناس قد علت همتهم وارتقى بم حماسهم حتى شاركوا في الجهاد الأفغانيّ - على سبيل المثال - وحسنت صلتهم بالله تعالى والتزموا هذا الدين, ولله الحمد. 4 - التوضيح والتبيين لهم بأنهم يضيعون أوقاتهم فيما لا يفيد, فلو قضوا ذلك في مجالات أجدى وأنفع لكان حسناً. 5 - توجيههم للقراءة النافعة, إذ معظم تلك الطائفة أمّيو الثقافة وإن كانوا يحملون شهادات جامعية, فقد عكف الناس

للأسف على متابعة أخبار بعينها وتركوا ما ينفعهم عاجلاً وآجلاً ويثير فيهم الغرام إلى دار السلام. وأما القسم الأول فهو المعتمد عليه والمأمول منه الإصلاح والرقي بهذه الأمة, ويمكن استثمار همم هذا الصنف كما يأتي, والله أعلم. 1 - الانتساب إلى جمعية أو هيئة لها برنامج عمل محدد يُنجز من خلالها كثير من الأمور النافعة, وذلك مثل بعض الهيئات الإغاثية المنتشرة في العالم الإسلاميّ, أو جمعيات البر, أو لجان البر, أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغير ذلك. وليحذر الأخ من التأثر بما تشتمل عليه بعض هذه الهيئات من نوع خطأ أو ميل قليل عن الحق فيترك العمل كلية لأجل هذا. 2 - الانتساب إلى جماعة إسلامية صالحة من الجماعات المنتشرة في العالم الإسلاميّ, وهي تعمل بجهد وإخلاص لإقامة دين الله تعالى, والقائمون على تلك الجماعات لهم برامج محددة تصلح لاستثمار همم الشباب وإقامة عمل إسلاميّ نافع. 3 - توعية الشخص المنصوح بأن يختار لنفسه مجالاً يبدع فيه ويبرز ويكون عطاؤه من خلاله بالغاً غايته, وهمته في إنجازه

قوية عالية, فمن وجد من نفسه انصرافاً للعلم وتحصيله فليقبل عليه, ومن وجد منها ميلاً إلى الأعمال الخيرية والإغاثية فليشارك إخوانه, ومن وجد منها حباً للجهاد ومقارعة الأعداء فلا يتوان وليقدم على بركة الله تعالى, وهكذا. ****

محاذير موجهة لأهل الهمة العالية

محاذير موجهة لأهل الهمّة العالية هذه المحاذير التي سأذكرها خاصة بأهل الهمّة العالية فقط وليست لغيرهم من متدنّي الهمم أو متوسطيها, وذلك لأن فيها جملة من الأمور لا يفهمها غيرهم ولا يدركها سواهم. وقد يقول قائل: إن بعض ما أذكره في هذا الصدد قد يخالف ما تعارف عليه كثير من أهل الصلاح والالتزام والدعوة من أن التوازن مطلوب والهمّة تكون بقدر, وأنا أوافقهم ولا أخالفهم ولكن قد يبدو بعض ما أورده مخالفاً لمنطقهم الصحيح وليس الأمر كذلك: 1 - صاحب الهمّة تحلق به همته دائماً فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد, فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمره به, وفي الوقت نفسه لا يقوم به كله بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به. وتزاحم الأعمال على الإنسان ومحاولة القيام بها مجتمعةً أمر لا ينكره أهل الهمّة العالية, ومثال ذلك رجل مسافر في قطار مع أهله للترويح والمتعة فهو في أثناء تجواله يتمتع بجمال

الطبيعة, كما أن عليه أن يهتم بأطفاله وينبههم ويوجههم, ولعله بيده كتاب يقرأه أو أمر ينجزه, وهو - أيضاً - يتكلم مع زوجه ويلاطفها, وتدور في مخيلته عدة أفكار وتحدث له كل هذه الأمور في وقت واحد وقد ينجزها على وجه القبول, وكذلك أهل الهمّة تتزاحم عليهم الأعمال الكثيرة فينجزونها كلها أو معظمها. وهناك محذور آخر خلال ذلك وهو أن: 2 - صاحب الهمّة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته وتحاول أن تذكره دائماً بأنه (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (¬1) , وأن صاحب الصنعتين كاذب والثالثة سارق, وهكذا, فالحصيف لا يلتفت لهذه النصائح إلا بقدر محدود, وذلك لأن موجهي هذه النصائح قد تنشأ نصائحهم هذه لحسد اعتراهم من حال المنصوح, أو لأنهم يجهلون ما يستطيع عمله هذا الرجل ذو الهمّة العالية من أمور لا تدركها أفهامهم ولا تستطيعها هممهم. قال ابن نباته السعديّ: أعاذلتي (¬2) على إتعاب نفسي ... ورعيي في الدجى روضَ السهاد (¬3) ¬

(¬1) سورة الأحزاب: 4. (¬2) العذل: اللوم. (¬3) أي تلومه على سهره الليالي.

إذا شام الفتى برق المعالي ... فأهون فائت طيب الرقاد 3 - وصاحب الهمّة معرض لسهام العين والحسد فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه من سهام القدر على يد الحساد. 4 - وصاحب الهمّة قد تعتريه فَتْرة وضعف قليل لما يراه من تدني همم غالب الخلق فلا يحزن لأجل هذه الفترة, وليوطن نفسه على الإحسان وعلو الهمّة مهما ضعف أو تخاذل مَن حوله, وأياً كان سبب الفترة التي تعتريه فهي أمر طبيعيّ يعتري العاملين والسالكين, وليتذكر حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((لكل عمل شِرّة (¬1) , ولكل شِرّة فَتْرة)) (¬2). 5 - وأهل الهمّة العالية قد يكونون مفرِّطين في بعض الأمور التي قد لا يرون فيها تعلقاً مباشراً بموضوع هممهم, وذلك مثل بعض حقوق الأهل والأقارب, فينبغي على من وقع في هذا المحذور أن يلتفت إلى إصلاحه ولو بالقدر الذي يُبعد عنه سهام اللائمين. ¬

(¬1) الشرّة: النشاط والهمّة , والفترة: الضعف والانكسار. (¬2) الترغيب والترهيب للمنذري: 1/ 51, ورواه ابن أبي عاصم وابن حبان.

6 - وقد تؤدي الهمّة العالية بصاحبها إلى أن يتحمس تحمساً اندفاعياً فيستعجل ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب, وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها, وليكن مثلُه سيدَ أولي الهمّة العالية - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يوصي أصحابه رضي الله عنهم بالعمل والصبر, فالصبر لا غنى عنه لأهل الهمم. 7 - وأهل الهمّة العالية قد يتعرضون لأمور تؤثر في هممهم وتطلعهم إلى معالي الأمور, وأعظم مثال على هذا التعرض للخلاف الحاصل بين الفقهاء بعين الذمّ والمقت, ونقدهم والإقلال من شأنهم, ومثاله أيضاً التعرض للجماعات الإسلامية العاملة على الساحة وذمها والتنقص من شأنها وإلصاق التهم بها بدون وجه شرعيّ معتبر في أحيان كثيرة, ويمضي هذا الأخ سحابة يومه وليلته باحثاً عن الأخطاء متصيداً لها, ومثل هذا الشخص إن أصبح هذا الأمر ديدنه فستتخلف همته ولا شك وتقعد به عن معالي الأمور. يقول الأستاذ محمد الخضر حسين: ((كبير الهمّة يستبين خطأ في رأي عالم أو عبارة كاتب فيكتفي

بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم ليفقهوه, ويأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام أو يَخفَّ إلى التبجح (¬1) بما عنده, وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخُلق المكروه, فكان عوجاً في سِيَرهم ولطخاً في صحفهم, ولو تحاموه لكان ذكرهم أعلى ومقامهم في النفوس أسمى, ومنزلتهم عند الله أرقى)) (¬2). يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ((أعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة, والفهم عن الله ورسوله نفس المراد, وعلم حدود المنزل, وأخس همم طالب العلم قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل, ولا هو واقع, أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس, وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال, وقَلّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه)). 8 - صاحب الهمّة العالية لا بد له من المداومة على الأعمال التي تدوم ولا تنقطع: ¬

(¬1) السرور. (¬2) رسائل الإصلاح: 1/ 89.

وليتذكر صاحب الهمّة العالية أن أحبّ الأعمال إلى الله ((أدومها وإن قل)) (¬1) , فهمة متوسطة العلو تدوم خير من همة عظيمة متقطعة. ولنسق إليك أخي ثلاثة أمثلة نهديها إليك فيها دلالة على ما نقول, وبها يختم هذا البحث إن شاء الله تعالى: أما المثال الأول فهو الإمام أبو القاسم بن عساكر (¬2) فقد قال عنه أبو المواهب بن صَصْرَي (¬3): ((لم أرَ مثله, ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة, من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر, والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة, وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور, قد أسقط ذلك عن نفسه, وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عرضت عليه, وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا تأخذه في الله لومة لائم)) (¬4). وهذا الشيخ كمال العباسيّ الكجراتيّ الهنديّ (¬5) , كان ((من عوائده أنه كان يستيقظ في الليل إذا بقي ثلثه فيغتسل ويتهجد, ¬

(¬1) أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الرقاق: باب القصد والمداومة على العمل. (¬2) الإمام العلامة، الحافظ محدث الشام، ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقيّ الشافعيّ، ولد سنة 499، وغلب عليه الحديث فاشتهر به وبالغ في طلبه، ورحل ولقي المشايخ، وكان ديناً، صنف التصانيف المفيدة أجلّلها ((تاريخ دمشق))، توفي رحمه الله تعالى سنة 571 بدمشق. انظر ((وفيات الأعيان)): 3/ 309 - 311. (¬3) الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري الربعيّ التغلبيّ الدمشقيّ, أبو المواهب, من حفاظ الحديث, وكان محدث دمشق, له بعض المصنفات, توفي سنة 586 عن قرابة 50 سنة رحمه الله تعالى. انظر ((الأعلام)): 2/ 225. (¬4) تذكرة الحفاظ: 4/ 1332. (¬5) الشيخ العالم الكبير المفتي كمال محمد العباس الكجراتيّ الهنديّ, أحد العلماء المبرزين في الفقه والأصول والعربية, ولد ونشأ بأحمد آباد, واشتغل بالعلم من صباه حتى برع وفاق أقرانه, وولي الإفتاء فاشتغل بالفتيا والتدريس 30 سنة, توفي سنة 1013. انظر ((الأعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام)): 5/ 342 - 343.

ويقرأ سبعة أجزاء من القران في الصلاة, ثم يدعو بالأدعية المأثورة, ثم يذكر الله سبحانه وتعالى, ثم يصلي الفجر, ثم يشتغل بتلاوة القرآن إلى صلاة الإشراق, ثم يصلي ويجلس للدرس والإفادة فيدرس إلى زوال الشمس, ثم يتغدى ومعه جماعة من المحصلين عليه, ثم يقيل ساعة, ثم يصلي الظهر, ثم يجلس للإفتاء فيشتغل به إلى العصر, ثم يصلي, ثم يشتغل به (¬1) , ثم يصلي ويقبل على أصحابه , فيتحدث معهم إلى العشاء, ثم يدخل في حجرته ويشتغل بمطالعة كتبه التي يدرسها إلى الثلث الأول من الليل, ثم يدخل في المنزل, وكان من الخامسة عشرة من سنه إلى أربع وخمسين صرف عمره على هذا الطريق)) (¬2). وقال أبو العباس ثعلب (¬3): ((ما فقدت إبراهيم الحربيّ (¬4) من مجلس لغة ولا نحو, من خمسين سنة)) (¬5). وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعلني والقارئين من أهل الهمّة العالية, وأن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمالنا, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. **** ¬

(¬1) أي بالأفتاء. (¬2) ((الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام)): 5/ 342 - 343. (¬3) العلامة المحدِّث, إمام النحو, أبوالعباس أحمد بن يحيى بن يزيد, الشيبانيّ بالولاء, البغداديّ, صاحب التصانيف, ولد سنة 200, وكان ثقة حجة, ديناً صالحاً, مشهوراً بالحفظ, عُمِّر وأصم, وصدمته دابة فوقع في حفرة, ومات فيها سنة 291 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 2/ 982. (¬4) الشيخ الإمام, الحافظ العلامة وشيخ الإسلام, أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم البغداديّ الحربيّ, صاحب التصانيف. ولد سنة 198, كان إماماً في العلم, رأساً في الزهد, عارفاً بالفقه, بصيراً بالأحكام, حافظاً للحديث, مميزاً للعلة, صنف كتباً كثيرة, توفي سنة 258 رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 3/ 356 - 372. (¬5) نزهة الفضلاء: 2/ 982.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع * القران الكريم. 1 - ((الإعلام)): الأستاذ خير الدين الزركلي. نشر مؤسسة العلم للملايين, بيروت, الطبعة الخامسة, سنة 1980. 2 - ((الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام)): للشيخ عبد الحيّ الندوي. تعليق سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي. نشر دار عرفان, الهند, سنة 412هـ. 3 - ((تاريخ عمر بن الخطاب)): للإمام ابن الجوزي. دار إحياء علوم الدين, دمشق. بتعليق الشيخ أسامة الرفاعي. 4 - ((تذكرة الحفاظ)): الإمام الذهبي. دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان. 5 - ((تذكرة دعاة الإسلام)): الأستاذ المودودي. الدار السعودية للنشر والتوزيع, جدة, الطبعة الثانية, سنة 1407هـ. 6 - ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك)): القاضي عياض. طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية, المغرب. 7 - ((تعليم المتعلم في طريق التعلم)): تأليف الشيخ برهان الدين الزرنوجي. تحقيق صلاح الخيمي ونذير حمدان. نشر دار ابن

كثير , دمشق, بيروت, الطبعة الأولى, 1406هـ. 8 - ((تقريب التهذيب)): الحافظ ابن حجر العسقلاني = أحمد بن علي (ت852). تحقيق الأستاذ محمد عوامة. 9 - ((حلية الأولياء)): الإمام أبو نعيم الأصبهاني. دار الفكر, بيروت 10 - ((الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)): ابن حجر العسقلاني. تحقيق محمد سيد جاد الحق. نشر دار الكتب الحديثة, القاهرة. 11 - ((الدلائل النورانية لطالب الربانية)): عدنان الرومي وعلي الهزاع. مكتبة المنار الإسلامية, الكويت, الطبعة الأولى, سنة 1405هـ. 12 - ((ذيل طبقات الحنابلة)): الإمام ابن رجب الحنبلي. دار المعرفة, بيروت. 13 - ((رسائل الإصلاح)): تأليف الشيخ محمد الخضر حسين. نشر دار الإصلاح, الدمام. 14 - ((روضة المحبين)): الإمام ابن القيم. توزيع دار الباز, مكة المكرمة. 15 - ((سبيلك إلى الشهرة والنجاح)): أوريزون ماردن. دار الكاتب العربي ودارالشواف, الطبعة الأولى, سنة1992.

16 - سنن أبي داود وابن ماجه. 17 - ((سير أعلام النبلاء)): الحافظ الذهبي= محمد بن أحمد (ت748). تحقيق مجموعة من الأساتذة. نشر مؤسسة الرسالة, بيروت, الطبعة الأولى. 18 - صحيحا البخاري ومسلم. 19 - ((الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)): للسخاوي. نشر مكتبة دار الحياة, بيروت. 20 - ((عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين)): تأليف عبد الستار الشيخ. دار القلم, دمشق, الطبعة الأولى, 1412هـ. 21 - ((الفوائد)): لابن القيم. دار النفائس, بيروت, الطبعة الأولى, سنة 1399هـ. 22 - ((فوات الوفيات)): محمد بن شاكر الكتبي (ت764). تحقيق د. إحسان عباس. نشر دار الثقافة، بيروت، طبعة 1974. 23 - ((قيمة الزمن عند العلماء)): الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. مكتب المطبوعات الإسلامية, حلب, الطبعة الأولى, سنة 1404هـ. 24 - ((الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة)): الشيخ نجم الدين الغزي. تحقيق جبرائيل جبّور. نشر دار الآفاق الجديدة, بيروت, الطبعة الثانية, سنة 1979. 25 - ((لفتة الكبد إلى نصيحة الولد)): للحافظ ابن الجوزيّ. المطبعة السلفية.

26 - ((مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)): الحافظ الهيثمي. منشورات مؤسسة المعارف, بيروت, سنة 1406هـ. 27 - مجلة المجتمع: عدد 136, 998. 28 - ((محاضرات الأدباء, ومحاورات الشعراء والبلغاء)): لأبي القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني. نشر دار مكتبة الحياة, بيروت. 29 - ((مدارج السالكين)): ابن القيم. دار الكتب العلمية, بيروت, طبعة سنة 1972م. 30 - ((نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني)): للشيخ محمد بن الطيب القادريّ. تحقيق الأستاذين محمد حجي وأحمد التوفيق. نشر مكتبة الطالب, الرباط, المغرب, الطبعة الأولى, سنة1403هـ. 31 - ((وفيات الأعيان)): ابن خلكان (ت683). تحقيق د. إحسان عباس. نشر دار الثقافة, بيروت. 32 - ((الوقت عمار أو دمار)): جاسم المطوع. دار الدعوة, الكويت, الطبعة الثانية, سنة 1408هـ. 33 - ((الوقت هو الحياة)): د. عبد الستار نوير. دار الثقافة, قطر, الطبعة الأولى, سنة 1406هـ.

34 - ((نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء)): للمؤلف. دار الأندلس الخضراء, جدة, الطبعة الأولى, سنة 1411هـ. 35 - ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)): الإمام أحمد بن محمد المغربي التلمساني. بتحقيق الشيخ البقاعي. الطبعة الأولى, سنة 1406هـ , دار الفكر, بيروت.

§1/1