الهفوات النادرة

الصابئ، غرس النعمة

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعنْ قال الشيخ الأجل محمد بن هلال بن المحسن بن إبراهيم المعروف بالصابئ: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد النبي خاتم المرسلين، الذي انتخبه ربه تعالى للرسالة يؤديها، يوضحها ويبديها، صلاة يزكو لديه عرفها وطيب، ويورق في دوحته عودها الرطيب، كما صدق فيما حكى، وحقق فيما أدى، واحتمل الأذى وأغمض على القذى طاعة منه لمولاه، وصبراً على ما ابتلاه، وحرصاً على صلاح الأمة، ورضى بما لاقى في ذلك من المذلة، حتى أظهر الدين منشورة بنوده، منصورة جنوده، طالعة سعوده، ساطعة جدوده، ولم يزل معه ربه إلى أنت طبقت الأرض شرقاً وغرباً دعوته، وعمت الخلق عجماً وعرباً بركته، ضاعف الله تعالى في تلك الدار الخيرات، وأسبغ عليه السعادات، وأجزل قسمه من الزلفات، وحظه من رفيع الدرجات، بمنه ومجده. وكنتَ جاريتني من الهفوات الجارية على ألسن المتحفظين المتحررين، والسقطات الآتية من الغارين الغافلين وما أشبه ذلك من المقالات وطرف الاتفاقات طرفاً استطرفناه وحديثاً استغربناه، واتفق أن لحقني منه ما صدق العجب والاستطراف، ونالني فيه من الخجل والحياء ما بلغ الإفراط والإسراف، فعلمت على جمع ما ندر من ذلك وإن كان قليلاً معلوماً، وضم ما تفرق منه إن كان علماً مأموماً، وأضفت إليه قطعة من أخبار المغفلين المحظوظين والجهال المرزوقين، فإنها جارية في أسلوبه، وشبيهة بمقصوده، إحماضاً لقاريه، وتنبيهاً له على قدر نعمة، اله تعالى عنده وفيه، والله تعالى ولي التوفيق والتسديد. 1 - فأول ما أبدأ به ما خصني منه، وهو أنني كنت جالساً وإلى جانبي أبو سعد القادسي أحد المتفقهين المتشدقين، وجرى ذكر بعض ثقلاء الزمان المتعسفين فقلت مسرعاً متبرعاً: إنه يشبه ابن القادسي فيما يتعاطاه مما يتجاوز فيه الصواب ويتخطاه! ثم استيقظت من رقدة زلتي، وانتبهت لهفوتي، فالتفت إليه عجلاً وقلت له مسرعاً وكان له أخ بالحمق مشهور وبالهذيان معروف، وهو بذاك عالم، وله دائماً عليه لائم: اعلم أيها السيد أن أخاك يسمع من الألفاظ الأديبة، ذات المعاني الغريبة ما لا يفهمه، ويجب أن يستعمله، وعنده أن ذلك ورد يرده الواردون من غير تعب، ويورده الموردون من غير أدب، فيصدر عنه الكلام المستعجم، وتصير أغراضه ومعانيه لا تفهم، فنحن نضرب به الأمثال، هذاء يورده بوجه وقاح غير حيي، وخاطر لفاح غير وني فقال لي: والله العظيم إنني لألومه على فعله دائماً، وأمنعه منه دائباً، وأعلم أن الأقوال تكثر فيه، وتزري عليه، وهو على ما عمت من الجهل الذي يورده ولا يصدره، ويحسن له ما يقوله ويذكره! فحين شاهدته قد تحقق قولي ورضيه، ولم يخطر بقلبه ما يغضبه ويؤذيه، أتتني فرجة اقتحمتها، ولحقتني فرحة ما احتبستها. 2 - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير قال: حضر رسل نصير الدولة أبي نصر بن مروان الكردي أمير آمد وميافارقين وأعمالها عند معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلد أمير بني عقيل، يستحلفونه على معاهدة بينت، ومعاقدة قررت، وفيهم المنازي الشاعر فلما حلف معتمد الدولة أنشد المنازي: كلفوني اليمينَ فارتعتُ منها ... كي غروا بذلك الارتياعِ ثم أرسلتها كمنحدرِ السَّي ... لِ تهادى من المكانِ اليفاعِ قال له قرواش: يا ويلك قبحك الله وقبح ابن مروان، ما هذا الكلام! وبدا الشر في وجهه، وكاد يكون ذلك اليوم آخر أيام المنازي من عمره، فبدأ المنازي باليمين الغموس أنه أنشد ما أنشد عن سهوٍ لا عن روية، وباتفاق سوء لا عن قصد ونية، فتحقق ذلك قرواش وصدق قوله، لأنه ممات لا يقدم عليه مثله، فأغضى وعفا، عما غلط فسه وهفا. 3 - وحدثت عن بعض المغنين قال: حضرت عند شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش أمير بني عقيل يوماً أغنية، وجرى حديث عميد الملك أبي نصر الكندري رحمه الله وزير طغرل بك، فذكرت من محاسنه وما كان يستعمله معي ومع أمثالي من العطاء الذي مولنا، والإنعام الذي خولنا، طرفاً قوياً أسرفت فيه وزدت قصداً لتحريك مسلم لمثله، ثم انتهت نوبة الغناء إلى حيث انتهى ذكري لعميد الملك وترحمي عليه، فضربت وغنيت: قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصدَ البحرَ استقلَّ السواقيا

فقال لي مسلم: قبحك لله ما هذه المعاشرة! فاستيقظت لغفلتي وحلفت أنني لم أقل ما قلته عن نية فيه ولا عزمٍ عليه، إلا بحسب ما اتفق لي وعرض على قلبي، وخفت بادرة شره، فكفي الله تعالى وأمسك عني. 4 - وكان عبد الله بن حسن بن حسن يساير أبا العباس السفاح يوماً بظهر مدينة الأنبار، وهو ينظر إلى مدينته التي بناها هناك، ويريه أبنيته فيها، ويعجبه بها، فأنشد عبد الله: ألم تر مالكاً أضحى يبني ... بناءً نفعهُ لبني بقيلهْ يؤمل أن يعمَّر عمرَ نوحٍ ... وأمرُ الله يأتي كلَّ ليلهْ فتبسم السفاح كالمغضب وقال: لو علمنا لاشترطنا حسن المسايرة، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، بوادر الخاطر وإغفال المشايخ فقال: صدقت، خذني في غير هذا، وأنشد السفاح: أريدُ حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ 5 - وذكروا المدائني أن عيسى بن موسى بيننا هو يساير أبا مسلم يوم إدخاله على المنصور ووقوع الفتك به فيه إذا أنشد عيسى ابن موسى: سيأتيك ما أفنى القرونَ التي مضتْ ... وما حلَّ في أكبادِ عادٍ وجرهم من كان آبى منكَ عزَّاً ومفخراً ... وأنهدَ للجيشِ اللهام العرمرم فقال أبو مسلم: هذا مع الأمان الذي أعطيت، فقال عيسى: أعتقت ما أملك إن كان هذا الشيء من أمرك أضمرته، أو في الفك أجلته، بل خاطر أبداه لساني قال له: بئس الخاطر واله أبدى! ودخل على المنصور فأتاه ما أتى. 6 - وحكى إبراهيم بن المهدي قال: لما اشتد حصار طاهرين الحسين للأمين أبي عبد الله خرج ذات ليلة من قصر الذهب إلى قصر القرا بقرب الصراة ووجه إلي فجئته فقال (لي): أما ترى طيب هذه لليل وحسن القمر وضوءه في دجلة والصراة؟ فقلت: إن الموضع لحسن فاشرب، فشرب رطلاً وسقاني رطلاً، وابتدأتن فغنيت بما يشتهيه علي، فقال لي: هل لك فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أستغني عن ذلك؟ فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها، وقال لها: غني، فغنت بشعر النابغة: كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منكَ ضرِّجَ بالدمِ فاشتد ذلك عليه وعلي، ثم قال لها: غني غير هذا! فغنت: أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرُّق للأحبابِ بكاءُ ما زال يعدو عليهم ريبُ دهرهمُ ... حتى تفانوا وريبُ الدهرِ عدَّاِءِ فقال لها: لعنك الله، أما تعرفين غير هذا؟ فقالت: ما تغنيت إلا بما كنت تقترحه علي وتستدعي مني ثم غنت: أما وربَّ سكونِ والحركِ ... إنَّ المنايا كثيرةُ الشركِ ما اختلف الليلُ والنهارُ ولا ... دارتْ نجومُ السماءِ في الفلك إلاَّ لنقل السلطانِ من ملك ... عانٍ بحبِّ الدنيا إلى ملك وملكُ ذي العرش دائمٌ أبداً ... ليس بفانٍ ولا بمشركِ فقال لها قومي غضب الله عليك ولعنك! فنهضت وعثرت بقدح بلور حسن الصنعة فكسرته، فقال لي أما ترى! أظن أمري قد قرب، فقلت: بل يبقيك الله تعالى طويلاً، فسمعنا قائلاً يقول: "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" فقال لي: أما سمعت يا إبراهيم؟ فقلت: ما سمعت شيئاً وكنت قد سمعت، فلما كان بعد أيام (قلائل) قتل!. 7 - وحكى الصولي قال: أمر الأمين أن يفرش له بساط على دكان في الخلد أيام الفتنة، فبسط وطرح عليه نمارق، وملئ من آنية الذهب المرصعة بالجوهر ومشام، المسك والعنبر بما ملأه، وبين يديه عشر مغنيات، فابتدأت واحدة منهن فغنت بشعر الوليد بن عقبة في عثمان رحمه الله: همُ قتلوه كي يكونوا مكانهُ ... كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبهُ فإلا يكونوا قاتليه فإنه ... سواءٌ علينا ممسكاه وضاربه فتأفف ولعنها، وقال الأخرى: غني، فغنت: من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجهِ نهارِ يجدِ النساءَ حواسراً يندبنُ ... بالليلِ قبلَ تبلجَ الأسحارِ فزاد ضجره، ولعنها، وقل الأخرى: غني، فغنت: كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسرُ جرماً منكَ ضرج بالدمِ فنهض، وأمر بنقض الدكان تطيراً بما جرى.

8 - وعزم المأمون عند دخوله إلى بغداد على العبور إلى زبيدة والدة الأمين، ليعزيها به، فقدم إليها، من أعلمها ذلك، وعبر إليها فعزاها وأكثر البكاء معها، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن دوائي وباب تسليتي في غدائك اليوم عندي، فأقام وتغدى، وأخرجت إليه من جواري الأمين من يغنيه، وسألته أن يأخذ منهن من يرتضيه، فأومى إلى واحدة إلى لتغني، فغنت وضرب الباقيات عليها: همُ قتلوه كي يكونوا مكانهَ ... كما فعلت يوماً بكسرى مرازبهْ فإلاَّ يكونوا قاتليه فإنّه ... سواءٌ عينا ممسكاهُ وضاربهْ فوثب المأمون مغضباً، فقالت له زبيدة: يا أمير المؤمنين حرمني الله أجره إن كنت علمتها أو دسست إليها به، فصدقها وعجب من ذلك. 9 - وحدثني الرئيس الأجل أبو الحسين والدي قال: حدثني أبو إسحق إبراهيم بن هلال جدي قال: كنت بحضرة الملك عضد الدولة بن بويه بعد قتله عز الدولة أبا منصور بختيار ابن عمه، في مجلس أنس، وكانت مشعلة الثقيلة وظلوم الشهرامية قد حضرتاه، فابتدأت مشغلة، وكانت المقدمة عليها عنده فغنت: أيا عمرو ولم أصبرْ ولي فيكَ حيلةٌ ... ولكن دعاني اليأسُ منكَ إلى الصبرِ سأصبرُ محزوناً وإني لموجعٌ ... كما صبر العطشانُ في البلد القفرِ فظن أنها عرضت بعز الدولة بختيار، فأعرض عنها، وغاظه ذاك منها، وأقل الحفلَ بغنائها مع أنها واحدةُ زمانها، وأخذتُ أطريها فلا يرعيني سمعاً فيها، ثم غنت ظلومُ بعدها: سيسليك عما فات مقبلٍ ... أوائلهُ محمودةٌ أواخره ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على الجود مذ شدت عليه مآزره فتهلل وجهه، وطرب وشرب واستعاد الصوت، وقال لي: يا أبا إسحق، هذا الغناء، ولم يكن بين المرأتين تقارب، قال أبو إسحق: فما أدري كيف اتفق ذلك على مشغلة وأن غنت ظلوم بعدها ما غنت، فإن كان عن نية من ظلوم وعمدٍ فما قصرت، أو اتفاق فقد وفقت! 10 - وكان العلاء بن الفيروزان يوماً على طعامه، ومعه بعض الرؤساء، فقدم جدي، فأنشد العلاء: من كان يعجب الجداءُ الرضعُ ... من غير حاصله فلم لا يصفعُ فرفع الرجل يده ونهض، وقال: أما أنا فما يعجبني! فاعتذر العلاء إليه، وحلف أنه لم يقصد ما أنشد، وإما جرى لسانه بما لم يعلم، فتمم الرجل نهوضه ولم يعد، والحق العلاء من الخجل ما ترك الأكل معه ونهض. 11 - وروي شقير الخادم أنه كان مع المأمون في بلاد الروم، قال: فصاح بي ليلة وقال لي: ويلك من هوذا يغني؟ فقلت: ما يغني يا مولاي أحدٌ، قال: امض وتحسس، فمضيت إلى دار الحرم، وتحسست فلم أسمع شيئاً، فعدت إليه فأعلمته، فقال لي: ويلك! بلى والله إنه ليغني بشيء قد حفظته وهو: ألم تعجب لمنزلةٍ ودورِ ... خلتْ بين المشقر والحرور كأنَّ بقيةَ الآثار فيها ... بقايا الخط! ِ من قلمٍ من قلم الزبور واعتلَّ في اليوم الثالث من هذا ومات. 12 - وقال إبراهيم بن المهدي: رأيت في منامي كأن قليب جارية الرشيد على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي يدها عود وهي تغني: سوف يأتي الرسولُ من بعد شهرٍ ... بنعي الخليفةٍ المأمونِ فجاء نعيه بعد شهر! 13 - وحدث محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عن أخيه أحمد بن محمد قال: لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميادين الذي كان للعباسية، جلس فيه وجمع أه بيته وقومه وأصحابه ومواليه، وأمر الناس أن يلبسوا الديباج ويدخلوا عليه، وجعل سريره في أفيوان المنقوس بالفسافا الذي كان في صده العنقاء، فجلس على سرير مرصع بأنواه الجوهر، ووضع على رأسه التاج الذي فيه الدرة اليتيمة، وفي الديوان الأسرة عن يمينه وشماله من حد السرير إلى باب الإيوان فكلما دخل رجل رتبه وهو بنفسه في الموضع الذي يراه، فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم، فاستأذنه إسحق بن إبراهيم في النشيد فأذن له، فأنشد شعراً ما سمع الناس أحن منه وفي صفته وصفة المجلس، إلا وأن أوله تشيب بالدار المتقدمة ونعته إياها، فكان البيت الأول منه: يا دار غيرك البلى فمحاكِ ... يا ليتَ شعري ما الذي أبلاكِ

فتطير المعتصم، وتغامر الناسُ على إسحق، وتعجبوا كيف ذهب مثل هذا عليه مع فهمه وعلمه وطول خدمته للملوك! قال: فأقمنا يومنا وانصرفنا، وما عاد منا اثنان إلى ذلك المجلس، وخرج المعتصم إلى سر من رأى، وخرب القصر. 14 - وحدث حمدون بن إسماعيل قال: ما كان الخلفاء أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف، وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المعروف بالمسدود المغني من ذلك حسداً، وهجا الواثق بيتين، وكانا معه في رقعة، واتفق يوماً أن كتب رقعة إلى الواثق في حاجة له، وأراد تسليمها إليه، فغلط منها إلى الرقعة التي تتضمن الهجاء، فسلمها إلى الواثق فقرأها، وفيها: من المسدودِ في الأنفِ ... إلى المسدودِ في العينِ أنا طيلٌ له شقٌّ ... فيا طبلاً بشقينِ وكان الواثق على إحدى عينيه فص وإلى ذاك نحا المسدود، فلما قرأها علم أنها فيه، فقال له للمسدود: قد غلطت من رقعة الحاجة التي سألتها إلى هذه الرقعة، فاحترس من مثل هذا! وردها إليه، فو الله العظيم ما زاده على هذا القول شيئاً، ولا تغير له عما كان عليه، وكان يحب أن يتشبه بالمأمون في أفعاله. 15 - وذكر أحمد بن يحيى البلاذري قال: أقبل المتوكل يوماً فقام الناس إليه من بعيد، ولم يقم المنتصر ابنه حتى قرب منه، فاغتاظ المتوكل وجرى على لسانه: همُ سمنوا كلباً ليأكلَ بعضهمْ ... ولو علموا بالحزمِ ما سمَّنوا الكلبا فلم يبعد أن قتله المنتصر بعد ذلك. 16 - وانحدر المستعين من سر من رأى إلى بغداد أيام الفتنة مع الأتراك التي آلت إلى إمامة المعتز وخلع المستعين وقتله، واستصحب معه محمد بن الواثق، وأغفل أن يأخذ المعتز والمؤيد معه، فلما نزل المستعين ببغداد على محمد بن عبد الله بن طاهر قال له محمد: يا أمير المؤمنين أين المعتز والمؤيد؟ فقال له: بسر من رأى، قال محمد فجرى على لساني أن قلت شعر زهير: أضاعت فلم تغفر لها غفلاتُها ... فلاقتْ بياناً عند آخر معهدِ دماً حول شلوٍ تحجل لطَّير حولهُ ... ويضعٍ لحامٍ في إهابٍ مقدَّد فعلمت أن أمر الرجل مدبرٌ بتركه هذين الرجلين بسر من رأى، وبما جرى على لساني من التمثيل. 17 - وكان بالبصرة مغنية تسمى فضلة، وتقلب خيط البرادة، وجذرها خمسة دنانير في كل ليلة، وكانت مفرطة في الجمال وطيب الغناء، وتقلب القاف كافاً في كلامها، فحكت أنه دعيت لأمير من أمراء البصرة، فلما حصلت عنده ابتدأت فغنت: وما لي لا أبكي وأندبُ ناقتي ... فجاء بكلامها: "أبكي وأندب ناكتي"، فتطير الأمير من قولها وقال: قدر وزناً لك خمسة دنانير وأحضرناك لما يحضر مثلك له، فإذا كنت تبكين، وتندبين ناكتك فما نريد مقامك عندنا، وصرفها! قالت: فخجلت أتمَّ خجل واستحييت أعظم حياء، وانصرفت خزيانة. 18 - وحكت أنها ابتيعت للمتوكل، وحملت من البصرة إلى سر من رأى، قالت: فكنت أعلم آداب خدمة الخلفاء طول طريق، لأجل جهلي ونشوئي في خدمة العوام والسفهاء، فلما عدت إلى دار المتوكل وقع علي من التهيب والخوف ما أنساني جميع ما علمت ولقنت، وخلعت مداسي في بعض الحجر، وحملت إلى طرز عظيم، في صدره دست مضروب، فحين رأيت الدست صعدت على ما جرت العادة لي به في الختانات والأعراس، فقعدت إلى جانب الدست ساعة، ثم خرج غلام أسمر مليح الوجه، عليه قميص قصب مذهب وعمامة خفيفة مذهبة، وبين يديه خادم، فلما قرب قمت ولا أعفه، لكنني أظنه بعض أصحاب المتوكل، فقال: اقعدي، وجلس في عتبة الطرز، وجيء بمخدة، فجعلها خلفه، ثم دخل غلام شاب أملح منه، فقبل الأرض وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ورحمه الله وبركاته، فعلمت حينئذٍ أنه المتوكل، فقمت هاربة من مكاني، فردني وأمرني بالجلوس حيث كنت أولاً جالسة ففعلت، وأجلس ذلك الرجل وهو الفتح بن خاقان مقابلي من الطرز، ثم قال: ما اسمك؟ قلت: فضلة، قال: ما لقبك، وقلت: خيط البرادة، فضحك ثم قال: بم تغنين؟ قلت: بالعود، فأمر بإحضار عود، فأحضر الخادم خريطة ديباج فيها عود، من عود فسلمه إلي فأصلحته وغنيت: ما نقموا منْ بني أميَّةَ إل ... لا أنهم يحلمون إنْ غضبوا وأنهم سادةُ الملوكِ فما ... تصلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ فتغير لونه وقال: غني غير هذا، لعنك لله؟ وأنا لا أعلم ما في ذاك، فاندفعت فغنيت:

أعني ابن ليلى عبد العزيز بيا ... بليون تغدو جفانه رذما الواهب البختَ والولايدَ كال ... غزلانِ والخيلَ تعلكُ اللجما طرب له طرباً شديداً، واستعادة مراراً، ثم التفت إلى الفتح ابن خاقان لمن هذا الشعر وفيمن قيل؟ فقال: هذا لكثير عزة في عبد العزيز بن مروان أخي عبد لملك بن مروان، فغضب أشد من الغضب الأول، وقال: يا خدم خذها فعلقها في خيط البرادة مشدودة بالشادوفة، ثم دخل غلام شاب ظريف، في يده عود، فجلس بين يديه وغنى: أقبلي فالخيرُ مقبلْ ... ودعي قولَ المعلَّلْ وثقي بالنجحِ إذْ أب ... صرتِ وجهَ المتوكلْ ملك ينصفُ ياظا ... لمتي منكِ ويعدلْ فهو الغايةُ وألمأُ ... مولُ يرجوهُ المرملِّ فرفع المتوكل رأسه إلي وقال لي: كذا ويغني الناس! والله العظيم لا نزلت من مكانك حتى تحفظيه وتأخذيه عنه وتغنيه فما زال الغلام يردده حتى كحفظته ولقنته، وحططت فغنيته. 19 - وذكر أن مغنية كانت تغني بين يدي المهدي، فغنت: ما نقموا من بني أمية إل ... لا أنهم يسفهون إنْ غضبوا فقيل ها: غلطت في شيء تخلص له! فقالت: لا والله ما غلطت، وإنما بدأت بالبيت وعرفت غلطي بغنائي فيه، فاستدركته وأصلحته بما سمعتهم، ولم أرجع عنه ولم أورده على وجهه فيثقل على المهدي سماعه. 20 - وحكى الربيع أن المنصور أحضر أحد بني أمية يوماً إلى حضرته، فوبخه على فعلهم، وعدد ما حضره ما مساويهم وقبيحهم توبيخاً لم يشك الرجل أن السيف بعده، فامتقع لونه وكان أن يقتله خوفه، ثم أن المنصور رجع عن ذلك القول إلى الصفح عنه وإيمانه، فقلت له قليلاً قليلاً: قد وهبك أمير المؤمنين فأشكره وأدع له! فقال الرجل بإنذعاره وانزعاجه: فما بقيا عليَّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النِّبالِ واتفق لسعادته أن لم يسمع المنصور قوله، ورد عليَّ ما حيرني وأدهشني، فأما الرجل فلم يدر ما قاله لسانه لزوال عقله عنه ومفارقة لبه له، فقال لي المنصور: ما قال فقلت: قال: العبدُ عبدكمُ والأمرُ أمركم ... فعل عذابكَ عنّي اليومَ مصروفُ فقال: لعل في أذنه ثقلاً، ولم يسمع ما قلناه في العفو عنه وهبة دمه، فلأعلمه ذلك واصرفه، فلت له (في) ذلك واجب، مما سمعه المنصور، صرفته، ثم حدثه من بعد بما كان منه فانذعر له، وحلف أنه لا يدري ما قاله، وقال: قد حقنت دمي بحسن تلطفك بعد أن أراد أن يطيح بسوء الاتفاق ويكون لساني القاتل لي! 21 - وحكي أن امرأة وقفت للمأمون على الطريق وقد تحفظت كلاماً، سجعته ورتبه لتدعو له وبه وتستميحه فيه، فانقلب لسانها بالدعاء عليه على السجع الذي رتبته وهيأته، فعلم المأمون أنها غالطة، فقال: الله يفعل بنا ما نويته لا ما أبديته، اقضوا حاجتها. 22 - وكان شاعر يعرف بالدلو يخدم بني عبد الرحيم في سني نيف وعشرين وأربعمائة، وهم وزراء لوقت، وله فيهم مدائح، ولهم إليه إياد ومنائح، وهو بهم مختص، ومعهم منتصر، فاتفق أن صعد يوماً من سفينة وهو سكران، وأبو سعد بن عبد الرحيم الوزير الأكبر منه قد لبس خفاً وإزاراً إلى دجلة هارباً من العسكر، فقال الدلو بسكره، غير عالم ولا عامد، بل بخاطر عن له عابث، شعراً هو: سري يخبط الظلماء والليلُ عاكفُ ... وزيرٌ بأوقاتِ التسلل عارفُ وقصده بيده فيما أبداه، فلم يشك أبو سعد بن عبد الرحيم أنه عرفه وعناه، نزل إلى سميرة، انحدر فيها إلى حريم دار الخلافة، ثم عاود العبور والنظر بعد أيام، وجاءه الدلو بقصيدة يمدحه فيها، فمنعه من إنشادها واستخف به، وقال له: ويلك قد عاملناك بالجميل الذي لا تجحده، واستخلصناك لأنفسنا الاستخلاص الذي لا تنكره، فلم تصلح لنا ساعة من نهار وقفت لنا فيها على سر من الأسرار! لا فائدة لنا في الإقبال عليك والالتفاف إليك، وانصرف عنا معداً، فقال له: ما معنى هذا القول أيها الوزير، وأي سر عندي لك، ومتى كتبت بهذه المنزلة منك! فقال له: ويلك أما رأتني في اليوم الفلاني على الصورة الفلانية فقلت كذا وكذا؟

فقال: والله العظيم الرحمن الرحيم ما أدري ما يقو الوزير ولا أفهمه ولا عندي علم منه، فلا تجعل لي ذنباً تبعدني به! فقال: يلك أحقاً تقول؟ فحلف بالله تعالى وبالطلاق على صحة قوله وبطلان ما ظن فيه، فاستطرف أبو سعد لك استطرافاً شديداً، واستغربه كثيراً، وكان يحدث به دائماً. 23 - ولما قصد المتنبي عضد الدولة أبا شجع بن بويه بفارس ممتدحاً له جلس له ووصله، فأول ما بدأ بإنشاده: أوه بديلٌ من قولتي وسها ... لمنْ نأتْ والبديلُ ذكراها فقال عضد الدولة أوه! وطعنه وتطير من ابتدأئه. 24 - وحكى الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبد قال: ذكر يوماً أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد الشعر فقال يحتاج الشاعر إلى حسن المطالع ورونق المقاطع، فإن فلاناً أنشدني في يوم نوروز قصيدة من كلامه أولها: "بقبر وما .. " فتطيرت من افتتاحه بذكر القبر، فتنغصت باليوم والشعر، فقلت له: كذا وكانت حالة أبي مقاتل مع الداعي لما امتدحه بقوله: لا تقل بشرى ولكنْ بشريان ... غرَّة الداعي ويوم المهرجان فإنه نفر من قوله "لا تقل بشرى" أشد نفار، وقال: أعمى ويبتدئ بهذا القول في مثل هذا اليوم! 25 - وأنشد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد عضد الدولة رقصيدة مدحه بها، فلما انتهى إلى قوله: ضممتَ على أبناء تغلب تاءها ... وتغلب ما كرَّ الجديدان تغلبُ فتطير عضد الدولة من قوله (تغلب) وقال: نعوذ بالله وتيقظ الصاحب لهفوته فامتقع لونه، ولم يظهر تهيأ لما كان معه. 26 - وأضاف تغلبي طائياً، فلما قدم إليه طعامه أنشد الطائي بيت جرير في الأخطل: والتغلبي إذا تنحنحَ للقِرى ... حكَّ أستهُ وتمثَّلَ الأمثالا واسترجع الطائي وعلم أنه على طعام، وفي ضيافة تغلبي، فرجع عن الطعام، فقال له التغلبي: عاود كعامك فإنما قلت ما قيل! قال: لا والله فإني استحيي أن أضع طعامك بحيث سمعتَ منه ما كرهتَ! ورحل عنه خجلاً عجلاً!. 27 - ونزل أبو عبد الله بن الجصاص الجوهري يوماً مع الخاقاني الوزير في زبزبه، وفي يده بطيخة (فيها) كافور، فأراد أن يعطيها الوزير يبصق في دجلة، فبصق في وجه الوزير ورمى بالبطيخة في دجلة، فارتاع الوزير واشتغل بغسل وجهه مما أصابه، وانزعج ابن الجصاص وتحير لما شاهده من سوء فعلة وشدة تخلفه، فقال: والله العظيم أيها الوزير لقد أخطأت وغلطت، أردت أن أبصق في وجهك وأرمي بالبطيخة في دجلة! فقال: له الوزير: كذاك فعلت يا جاهل! فغلط في الفعل وأخطأ في الاعتذار. 28 - ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال: اسقوه ماء، فقال: شراب الحمار، وهو عنده كثير! قال: أسقوه لبناً، قال: عن اللبن فطمت! قال: فأسقوه عسلاً، قال: شراب المريض! قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد خمراً يا أمير المؤمنين، قال: ويلك أعهدتني أسقي الخمر لا أم لك، لولا حرمتك بنا لفعلت بك وعلت، فخرج فلقي فراشاً لعبد الملك، فقال له: ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني، وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فسقاه رطلاً، فقال: أعد لي آخر، فسقاه آخر، فقال له: تركتهما يعتركان في بطني، اسقني ثالثاً فسقاه ثالثاً، فقال: تركتني أمشي على واحدة أعدل ميلي برابع، فسقاه رابعاً، ودخل على عبد الملك فقال: خف القطين فراحوا منك أو بكروا فقال له عبد الملك: لا بل منك، فتطير من قوله، وعلم الأخطل خطأه فراجع وأنشد: خفَّ القطينُ فراحوا اليومَ أو بكروا ومر في القصيدة فلما بلغ إلى قوله: شمسُ العداوةِ حتَّى يستقاد لهمْ ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قدروا فقال عبد الملك: يا غلام خذ بيده فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما تغمره به، ففعل. 29 - وذكر إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت يوماً على الواثق وهو مصطبح فقال: غني يا إسحق صوتاً غريباً لم أسمعه منك حتى أكون عليه بقية يومي مسروراً، فكأن الله أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت: يا دارُ إن كان البلى قد محاكْ ... فإنَّه يعجبني أنْ أراكْ أبكي الذي قدْ كان لي مألفاً ... فيكَ فآتي الدارَ من أجلِ ذاكْ قال: فتبينت الكراهة في وجهه، وندمت على ما فرط مني، وتجلدت، وشرب رطلاً كان في يده، وعدلت عن الصوت إلى غيره، وكان والله ذلك اليوم آخر جلوسي معه.

30 - وروى أنا أبا النجم العجلي ورد على هشام بن عبد الملك في الشعراء فقال له هشام: صفوا إبلاً فقبطوها، وأصدروها حتى كأني أنظر إليها، فأنشدوه، وأنشد أبو النجم العجلي قصيدته: الحمدُ لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخلِ حتى بلغ إلى ذكر الشمس فقال: وهي على الأفقِ كعينِ الأحولِ ولم يقل (الأحول) وقطع البيت، وأرتج عليه، فقال له هشام: أتمم ويلك! فقال: (عين الأحول) وأتم القصيدة، فأمر هشام بوجء عنقه وإخراجه من الرصافة، وقال لصاحب شرطه: يا ربيع إياك وأن أرى هذا! فكلم وجوه الناس الربيع في أمره وأن يقره، ففعل، وكان أبو النجم متخفياً، يأوي (إلى) المساجد، ويصيب من فضول أطعمة الناس على المزابل، فاهتم هشام ليلة، وأراد محدثاً يحدثه، فقال الخادم له: أبغني محدثاً أعرابياً شاعراً يروي الشعر، فخرج إلى المسجد فإذا هو يأبى النجم، فضربه برجله وقال: قم وأجب أمير المؤمنين! قال: إني رجلٌ أعرابي غريب، قال: إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله، فأقبل به حتى أدخله القصر، وأغلق الباب! قال: فأيقنت بالشر، ثم مضى به وأدخله على هشام وهو في بيت صغير، بينه وبين نسائه ستر رقيق، والشمع يزهر بين يديه، فلما دخل قال له هشام: أأبو النجم: قال: نعم يا أمير المؤمنين طريدك، قال: اجلس، وسأله فقال: لمن كنت تأوي وأين منزلك؟ فأخبره، قال: ومالك من الولد؟ قال: ثلاث بنات وبني اسمه شيبان، وقال: وكيف اجتمعوا لك، وهل زوجت منهن أحداً؟ قال: نعم زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة، وقل: وما وصيت به الأولى؟ وكانت تسمى برة فقال: أوصيتُ منْ برةَ قلباً حراً ... بالكلب خيراً والحماةِ شراً لا تسأمي شرباً لها وجراً ... حتَّى ترى حلوَ الحياة مراً وإن كستكِ ذهباً ودراً ... والحيَّ عميهم بشرِّ طراً فضحك هشام وقال: ما الذي قلت للأخرى، قال: قلت: سبِّي الحماةَ وابهتي عليها ... وإنْ دنتْ فازدلفي إليها وأوجعي بالفهرِ ركبيتها ... ومرفقيها واضربي جنبيها قال: فضحك حتى بدت نواجذه وسقط على قفاه، وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب لولده، فقال: ولا أنا كيعقوب، قال: ما الذي قد قلت: في وصيتك للثالثة؟ قال: قلت: أوصيكِ يا بنتي فإني ذاهبُ ... أوصيكَ أن تحمدكَ القرائبُ والجارُ والضيفُ الكريم السَّاغبُ ... لا يرجع المسكينُ وهو خائبُ ولا تني أظفاركِ السَّلاهبُ ... في الزوجِ إنَّ الزوجِ بئس الصاحبُ قال: وما قلت ف تأخير تزويجها؟ قال: قلت واسمها ظلامة: كأنَّ ظلامةَ أختَ شيبانْ ... يتيمةٌ ووالدها حيَّانْ الرأسُ قملٌ كله وصئبانْ ... وليس في السَّاقين إلاَّ خيطان تلك التي يفزع منها الشيطانْ. فضحك هشام حتى ضحك النساء لضحكه وقال للخادم: كم بقي معك من نفقتك؟ قال: ثلاثمائة دينار، فقال: أعطه إياها فيجعلها في رجل ظلامه مكان الخيطين! وكان أبو النجم أسرع الشعراء بديهةً. 31 - وحكى عبد الله بن طاهر قال: حدثني من شهد لمأمون مع جماعة يتراءون هلال شهر رمضان، وأبو عيسى أخوه معه، وهو مستلقٍ على قفاه، فرأوا، وجعلوا يدعون للمأمون، فقال أبو عيسى قولاً أنكره عليه المأمون في التسخط لورود شهر رمضان، فما صام بعده، وقيل إنه قال: دهاني شهرُ الصَّومِ لا كان من شهرِ ... ولا صمتُ شهراً بعدهُ آخرِ الدهرِ فلو كانَ يغنيني الإمامُ بقدرةٍ ... على الشَّهرِ لاستعديتُ جهدي على الشهرِ ومات قبل ورود السنة الثانية. 32 - وروي أن المأمون امتنع من النوم عند وفاة أبي عيسى أخيه، فدخل عليه أبو العتاهية فقال له المأمون: حدثني بحديث بعض الملوك ممن كان في حالنا، يا أمير المؤمنين لبس سليمان بن عبد الملك بن مروان أفخر ثيابه، ومس أطيب طيبه، وركب أفره دوابه، وتقدم إلى جميع من معه بأن يركب في زيه وسلاحه، ونظر في مرآته فأعجبه هيئته وحسنه، فقال: أن الملك الشاب! ثم قال لجارية له: كيف ترينني؟ فقالت: أنتَ نعمَ المتاعُ لو كنتَ تبقى ... غيرَ أن لا بقاءَ للإنسانِ أنت خلوٌ من العيوبِ ومما ... يكرهُ الناسُ غيرَ أنك فانِ

فقال له: ويلك ما أنشدت؟ فقالت: والله ما أعلم، غير أن لساني نطق بما سمعت، فأعراض بوجهه وتطير من قولها، وعلمت الجارية بزلتها فاستطار عقلها، ولم تدر عليه الجمعة حتى حط ف قبره، فبكى الناس والمأمون، فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم، وهذان البيتان لموسى شهوات. 33 - وحدث أبو نواس قال: جاء شاعر غث إلى زبيدة فامتدحها بقصيدة قل فيها: أزبيدةُ ابنةَ جعفرٍ ... طوبى لزائركِ المثابِ غطين منْ رجليكِ ما ... تغطى الأكفُ من الرِّغابِ فهم الخدم به، فمنعتهم وقالت: إنما أراد الخير فأخطأ، ومن أراد الخير فأخطأ حب إلي ممن أراد الشر فأصاب، أعطوه ما أمل وتعرفوه ما جهل! قال أبو نواس: إنما أراد الشاعر أن يزيد على قول الآخر: "شمالك خيرٌ من يمين غيرك" فظن أنه إذا ذكر الرجلين كان أبلغ في المديح. 34 - وقال دعبل بن علي: اجتمعنا ثلاثة من الشعراء في قرية تسمى (طهياثا) فشربنا يومنا ثم قلنا: ليقل كل واحدٍ منا بيتاً من الشعر في وصف يومنا، فقلت: نلنا لذيذَ العيشِ في طهياثا فقال الثاني: لمّت حثثنا القدحَ استحثاثاً فارتج على الثالث، وأعجلناه، فجاء على لسانه أن قال: وامرأتي طالقةٌ ثلاثا! ثم قعد يبكي وينتحب على تطلقه لزوجته، وقعدنا نضحك منه ونتعجب مما اتفق له. 35 - ودخل أرطأة بن سهية المزني علي عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية، فرآه عبد الملك شيخاً كبيراً، فاستنشده ما قاله في طول عمره: رأيتُ المرءَ تأكلهُ الليالي ... كأكلِ الأرضِ ساقطةَ الحديدِ وما تبغي المنيَّةُ حين تأتي ... على نفسِ ابن آدم منْ مزيدِ واعلمُ أنَّها سكرُ حتَّى ... توفَّى نذرها بأبي الوليدِ فارتاع عبد الملك، وظنَّ أنه عناه، وعلم ارطأة بسهوة وزلته فقال: يا أمير المؤمنين إني أكني بأبي الوليد، وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلاً. 36 - ومن طريف الاتفاق أنَّ سليمان بن عبد الملك كان من أشدِّ الناس غيرةً وكانت له جارية تسمى بعوان يجد فيها، وهي برسم سفره لشدة محبته لها، واتفق أن خرج في بعض السنين غازياً، فنزل بدير البلقاء وأقام هو وحرمه فيه، ترك العسكر وحواليه، وكان معه فارس يعرف بسنان الكلبي، أحسن الناس وجهاً وغناءً وشعراً، فزار قومٌ من بني عمه فأطعمهم وسقاهم، فقالوا: يا سنان ما أتمت ضيافتك! فقال: وكيف؟ قالوا: لأنك لم تغننا فتطربنا، فغناهم: محجوبةٌ سمعتْ صوتي فارقها ... من خر الليل لمّا طلَّها السَّحر تثني على جيدها ثنتي معصفرةٍ ... والحلي منها على لبّاتها حصرُ في ليلة البدرِ ما يدري مضاجعها ... أوجها عنده أضوا أم القمرُ لم يحجب الصَّوت أحراسٌ ولا غلقٌ ... فدمعها لطروق الصوتِ منحدرُ لو خليتْ لمشتْ نحوي على قدمٍ ... تكادُ من رقةٍ للمشي تنفطرُ فتفهم سليمان الصوت وقام مرعوباً نحو عوان، فلما أحسست به وقد كانت سمعت الشعر أنشأت تقول خوفاً من سليمان: ألا ربَّ صوتٍ جائني من مشوهٍ ... قبيحِ المحيَّا ناقصِ الأبِ والجدِّ قصير نجادِ السَّيفِ جعدٍ بنانه ... إلى أمةٍ يدعى معاً وإلى عبدٍ فلما دخل عليها وجدها نائمة في القمر، قد انحسر إزار أحمر كان عليها عن صدرها، وحليها يلمع في القمر على صدرها ونحرها، فلما رآها على الحال التي وصفها الشاعر تغير وارتعد، وقال لها، يا عوان والله لكأنه يراك وينعتك في شعره! والله لأقطعنه قطعاً، كاناً من كان، وخرج وكان على رأسها خصي فقالت له: إن لحقت سناناً وحذرته وأنجبته فلك رقبتك وديته! فمضي الخضي وقد سبقت رسل سليمان إلى سنان وأحضرته بين يديه مكتوفاً، فقال له: من أنت ويلك؟ قال: سان الكلبي فارسك يا أمير المؤمنين، فأنشأ سليمان يقول: تثكُ في الثكلى سناناً أمهُ ... كانَ لها ريحانةً تشمَّه وخاله يثكله وعمه ... ذو سفيةٍ حياتهُ تغمهُ فقال سنان: استبقي إلى الصَّباح أعتذر ... إنَّ لساني بالشرابِ منكسرْ فارسك الكلبيُّ في يومٍ يكرْ ... فإنْ يكنْ أذنبَ ذنباً أو عثرْ فالسيد العافي أحقُّ من غفرْ

فقال: أما أني لا أقتلك، ولكن سأنكلك نكالاً يؤنثك من تفحلك، وأمر به فخصي، ومر بأن يخصى المخثنون في كل بلد، فسمي الدير دير الخصيان، فلا يعرف إلا به!. 37 - وصف ذو الرمة وهو غلام بالبادية لعبد الملك بن مروان، وذكر له جودة شعره فأحب أن يراه، فتقد بإحضاره وأنفذ وراءه من استحضره، فلما دخل عليه قال له: ما اسمك؟ قال: غيلان، قال: ابن من؟ قال: ابن عقبة، ونسبه فانتسب إلى مضر، واستنشده فأنشد قصيدة أولها: ما بالُ عينيكَ منها الماءُ ينسكبُ ... كأنَّه من كلىً مفرية سربُ واتفق أن كانت عينا عبد الملك تسيلان دائماً فظن أنه عرض له، فغضب وقطع إنشاده وأمر بإخراجه، فسأل من بعد عن السبب فيما فعل به فأعلم ذاك وانزعج منه، استطرف سوء الاتفاق له، أقام حتى أذن للشعراء فدخل معهم، وأعاد القصيدة، وقد غير الموضع منها وقال: لمياءُ في شفتيها حوَّةٌ لعسٌ ... وفي اللثاتِ وفي أنيابها شنبُ كحلاءُ في برجٍ صفراءُ في دعجٍ ... كأنها فضةٌ قد مسَّها ذهبُ فأجازه وأكرمه، وقال: لو أنها قيلت في الجاهلية لسجدت العرب لها!. 38 - وكان طاهر بن عبد الله بن طاهر قد ولي خراسان بعد موت أبيه عبد لله بن طاهر، وكان أديباً فاضلاً، قليل الرغبة في سماع الغناء، فحضره يماً مغن عراقي موصوف بالحذق (والذكاء) فابتدأ يغني وجماعة جلساء طاهر وخواصه حضور: شبَّ بالإثلِ من عزيزة نارُ ... أوقدتها وأينَ منكَ المزارُ وكان اسم والدة طاهر عزيزة، فتغامز الحضور به، وأعلموه بهفوته، فانقطع وأمسك، فقال طاهر: ما له؟ فسكتوا، فقال: قد علمت سبب انقطاعه ليس يغني اليوم في مجلسنا إلا بهذا الصوت! فغني فيه يومه أجمع، وخلع عليه وأجازه. 39 - وذكر عبد الصمد بن المعذل قال: كان خليلان الأموي يتغنى، ويرى ذلك زائداً في مروءته وفتوته مع شرفه في قومه وسعة نعمته، فحضر يوماً عند عقبة بن سلم الهنائي الأزدي، وهو يومئذٍ أمير البصرة من قبل المنصور، وكان جباراً عاتياً، فلما طعما وخلياً، انظر خليلان إلى عودٍ موضوع في جانب البيت، فعلم أنه عرض له به، فأخذه وتغنى: يا بنة الأزدي قلبي كئيبُ ... مستهامُ عندكم ما يؤوب ولقد لاموا فقلت دعوني ... إن منْ تلحون فيهِ حبيبُ فجعل وجه عقبة يتغير، وخليلانُ في غفة مما فيه عقبة، يرى أنه محسنٌ، ثم فطن لتغير وجهه، وعلم أنه قد غلط فيما تغنى به وذكر الأزدية فيهن فقطع الصوت وغنى مكانه: ألا هزلت بنا قرشي ... ية يهتز موكبُها فسري عن عقبة، فلم فرغ من الصوت وضع العود، وحلف إيماناً أكدها على نفسه أنه لا يتغنى عند من يجوز عليه أمره. 40 - وذكر أن بعض المغنين غنى عند الرشيد بشعر مدح به أخوه علي بن المهدي المعروف بابن ريطة، وهي بنت السفاح، وغناه المغني وهو لا يعرف قائله ولا من قيل فيه، وهو: قل لعلي أيا فتى العرب ... وخيرَ نامٍ وخيرَ منتسب أعلاك جداكَ يا عليُّ إذا ... قصر جدٌ في ذروة النَّسبِ فتغير الرشيد تغيراً شديداً، واستفهم المغنى عن الشعر وقائله ومن قيل فيه، فوجده لا علم من ذلك شيئاً، فبحث عن أول من غنى فيه مكان عبد الرحيم الرقاص، فأمر به فضرب أربعمائة سوطٍ.

41 - وحدث القاضي أبو الحسن بن السيني قال: حضرت يوماً مجلساً فيعه أبو يعلى ين كيكس كاتب منيع بن حسان الخفاجي ووزيره في سنة اثنتين وعرشني وأربعمائة بالجامعتين، وقد حضر هناك رؤساء لبلاد من سقي الفرات للسلام على منيع بن حسن وأبي يعلى بن كيكس، وكانا وردا من الشام، وحضر في جملة الأشراف الطالبين من الكوفة الزكي أبو علي عمر بن محمد بن السابسي، والزكي الآمر الناهي في الإقامات وترتيب الأمور، وبين يديه غلام يدعى بأبي يعلى بن عرس، فأخذ الزكي يقول له: ويلك يا أبا يعلى افعل كذا وامض في كذا، وينتهره ويستخف به استعجالاً له وحثاً فيما يستنهضه فيه ويستبطئه، ويقول: يا أبا يعلى يا فاعل يا صانع! فلما طال ذاك على أبا علي بن كيكس، لأجل موافقة كنيته لكنيته، قال له: أيها الشريف سأستخدم ليوم غلاماً كنيته أبو علي، واستخف به بحضرتك، مجازاة لك عن هذا الفعل منك! فاسترجع الزكي واستيقظ وقال: الله الله يا سيدنا، فو الله ما كان عن قصد مني بل بنسية، حضرتني! فضحكت الجماعة منه، ثم قال أبو يعلى: كان بخوزستان مير من أمراء الديلم بخصب لحيته، فحضر في مجلس فيه رجل من أكابر أصحاب الملك (أبي) كاليجار، ولذلك غلام خضيب، وكان يأمره وينهاه ويقول له: يا خر منحنى يا فاعل ويا صانع، ويا حر منحى، ومدبر منحوس، وما يشبه هذا القول، فنهض الديلمي مغضباً وقال هذا تعريض بي قصد لي، وصار ذلك سبب عداوة تأكدت بينهما واستحكمت معهما. 42 - وكان بالأهواز شيخ جلل ومتقدم كبير وذو نعمة ظاهرةٍ وحال زائدة يعرف بأبي إسحق بن هرون، فحدثني أبو سعد ابن سعدان العطار عنه قال: نفق له حمار مصري من مراكبه، وحضر عنده جماعة توجعوا له، وعزوه به، فتبرمك هم وبما واصلوه في ذاك قولهم، فقال لهم: أما مات حمار قبلي قط حتى انقلبت بي! أراد: ما مات لأحد حمار قبلي، فضحكوا وأمسكوا. 43 - وحدثني أبو سعدٍ قال: رأى أبو إسحق يوماً خادماً راكباً، وبعده صبي أسود راكب يتبعه، فالتفت إلي وقال لي: هذا الصبي ولده، فقلت: يا سيدنا خادم لا يكون له ولد، فقال: صدقت، وأنت بغدادي والبغداديون أذكياء، فضحكت من قوه الثاني. 44 - قال: وشكا علي يوماً قيامه للبول في الليل ووجدانه لبرد، فقلت: أنفذ إلى البصرة تستعمل لك مبولة زجاج تغنيك عن القيام في الليل، فقال: افعل، وأنفذ بمن استعملها وأحضرها فلما كان من الغد قال لي: أيها الشيخ ما نفعتنا تلك المبولة، ونحن في وجدان البرد على حالنا الأولى، فقلت: كيف ذاك؟ قال: قد جعلتها الفراش في طست على البالوعة، وأحتاج إلى أن أقوم إليها كما كنت أقوم! فضحكت وقلت: إذا كان الأمر على هذا فبل في البالوعة وأرح المبولة! ثم قلت: هذه تترك بقرب الفراش وبحيث تنالها اليد، فإذا أردت البول مددت يدك وأخذتها إلى الفراش وبلت فيها وأخرجتها وامتسحت بخرقة تكون معدة معها، وأنت في فراشك لم تبرح! قال نجرب هذا الليلة، وجئته من غد فقال: سبحان الله فما أحذقكم وأحصفكم وأعقلكم يا بغداديون جرى الأمر على ما ذكرته من غير زيادة ولا نقصان، فقلت: الحمد لله!. 45 - وحدثني أبو طاهر بن أبي قيراط العلوي قال: كان عندي جماعة من الرؤساء والأماثل وفيهم أبو الغنائم بن جمهور الكاتب، وكانت له أخت فاسدة، فدخل علينا وقال: كنت الساعة في مشرعة الروايا مجتازاً فرأيت جمعاً وضجيجاً وصياحاً، فسألت عن الحال فقيل لي: حصلت بنت ابن جمهور عند ابن المطبخي القاص على فساد، فكبسا وهربا، وظفر بسراويلهما ومداسها وشيء من آلاف الفساد الذي اجتمعا فيه، فحين فرغ من كلامه طأطأنا رؤوسنا حياء من أخيها، وندم الرجل على ما تسرع فيه واتفق له، والحق ابن جمهور أمر عظيم، ونهض على أقبح وجه وانصرف، فلمنا الرجل فقال: غلطة جرت وهنة طرت. 46 - وغنت جارية للمنصور قول عبيدة الله بن قيس بن الرقيات في عبد الملك بن مروان: ما نقموا من بني أميَّةَ إل ... لا أنَّهم يحملون إنْ غضبوا وأنهم معدونُ الملوكِ فما ... تصلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ فاستعادها الصوت وقد تكره، وعلمت غلطها فغيرته في الحال وغنت: ما نقموا من بني أميةَ إل ... لا أنَّهم يسفهون إنْ غضبوا وأنَّهم معدنُ النِّفاقِ فما ... تفسدُ إلاَّ عليهمُ العربُ

فقال لها: أحسنت يا جارية فمن أين لك هذا؟ قال: والله ما قصدت الغناء بهذا الشعر، فلما ابتليت به وعلمت بزلتي فيه غيرته على ما قلت. 47 - وحكي أن المعتمد اصطبح يوماً واقتراح أن يغني بشعر أبي نواس: يا كثيرَ النَّوحِ في الدمنِ ... لا عليها بلْ على السَّكنِ سنَّة العشَّاقِ واحدةٌ ... فإذا أحببتَ فاستكنِ فلم يزل يغني به يومه، ثم اشتكى جوفه ومات في ليلته. 48 - وحدثني أبو لفتح منصور بن محمد بن المقدم الأصفهاني قال: كان أبو الفتح، ابن ابن العميد يشرب على مجلس قد أعجب به، وأغاني قد اجتمعت، وسر سروراً كثيراً، طرب طرباً زائداً، وجرى على لسانه عمل أبيات: دعوتُ المنى ودعوتُ العلا ... فلّما أجابا دعوتُ القدحْ وقلتُ لأيامِ شرحٍ الشبابِ ... إليَّ فهذا أوان المرحْ إذا بلغَ المرءُ غاياته ... فليس له بعدها مقترحْ وتقدم إلى المغنين بتلحينه وألا يغني بقية ليلته إلا به، ففعل ذاك! قال الحاكي: فتطير جماعة الحاضرين عليه ما جرى على لسانه، ونهض من المجلس، وأم أن يغطى ولا يشوش، ليركب إلى دار فخر الدولة ويعود إلى حاله، وتقدم إلينا بانتظاره، وركب فقبض عليه فخر الدولة، وهربنا من داره، وكان ذاك آخر العهد به. 49 - وحكى الأصمعي قال: دخلت على الرشيد يوماً وهو ينظر في كتاب ودموعه تسيل على خده، فلما بصر بي قال: أرأيت ما كان مني؟ قلت: نعم، قال: أما إنه ليس لأمر الدنيا، ثم رمى إلي بالكتاب، فإذا فيه أبيات لأبي العتاهية إسماعيل بن أبي القاسم وهي: هلْ أنتَ معتبرٌ بمنْ خربتْ ... منهُ غداةَ مضى دساكرهُ ويمنْ أذلَّ الدَّهر مصرعه ... فتبرأتْ منهُ عساكرهُ ويمنْ خلتْ منه أسرَّته ... وبمن وهتْ منه منابرهُ ابن الملوكُ وأين عزُّهم ... صاروا مصيراً أنتَ صائرهُ يا مؤثرَ الدَّنيا للذتهِ ... والمستعدَّ لمنْ يفاخرهُ نلْ ما بدا لك أن ْ تناوله ... يوماً فإنَّ الموتَ آخرهُ فلما قرأتها قال: والله يا أصمعي لكأني أخاطب بهذا الشعر وحدي دون الخلق! فقلت: دع هذا يا أمير المؤمنين فإنه استشعار لا يقطع به ولا يعول عليه، فو الله ما لبث بعد ذلك إلا شهراً (واحداً) ثم مات. 50 - وحدث يقطين قال: إني لواقف على رأس المهدي إذا أغفى، فانتبه فزعاً وقال: علي بالشيخ! فقلت: أعيذك بالله اأمير المؤمنين، فقال: وقف علي الساعة وأنا نائم شيخ فقال: كأنَّي بهذا القصر قد بادَ أهلهُ ... وأقفرَ منه أنسه وشواكله وصار عميدَ القومِ من بعدِ نعمةٍ ... إلى جدثٍ تحثى عليه جنادلهْ ولم يبقَ إلاَّ ذكرهُ وحديثهُ ... تنادي عيهِ بالعويلِ حلائلهْ قال: فما مضى عليه إلا أيام حتى مات. 51 - وروي عن عبد الرحمن بن عفيف المروزي قال: حدثني أبي قال: وجدنا على باب علي بن عيسى بن ماهان، وهو الذي سعى بالبرامكة مع من سعى حتى هلكوا بيتين من الشعر لا يعلم من كتبهما: إنَّ المساكين بني برمكٍ ... صبتْ عليهم غيرُ الدَّهرِ إنَّ لنا في أمرهم عبرةً ... فليعتبر صاحبُ ذا القصرِ فلم تبعد نبكته، وكانت قريبة من نكبة البرامكة. 52 - وحدث سليمان بن أبي شيخ قال: بلغني أن جعفر بن يحيى البرمكي في آخر أيامهم أراد الركوب إلى دار الرشيد يوماً فدعا باصطرلاب ليختار وقتاً يركب فه، وكان جالساً إلى دجلة، فمر رجل في سميرية وهو لا يرى جعفراً ولا يعرفهن ولا يدري ما يصنع، فأنشد: يدبرُ بالنجومِ وليسَ دري ... وربَّ النجمِ يفعلُ ما يريدُ فضرب جعفر بالاصطرلاب الأرض، وركب وقيذاً. 53 - وحكي أن أبا عبد الله بن الجصاص كان جالساً يحادث المقتدر بالله، فنام، فقال له المقتدر هوذا تنام يا أبا عبد الله! فقال: تحت داري كلاب ما يدعوني أنام الليل، فقال له: تقدم إلى الغلمان بطردهم فقال: يا أمير المؤمنين هم شيء يطاقون، والله إن كل كلب مثلي ومثلك كرتين، فضحك المقتدر وقال: بل مثلك وحدك! واستيقظ ابن الجصاص فخجل واعتذر!.

54 - وكأن رجل يؤاكل صديقاً له، فدق إنسان الباب، فقال صاحب الطعام، من ذا الكشخان، الآخر؟ فنهض صديقه وقال: والله لا آكلتك أبداً، فخجل وحلف "أن لساني هفا وأنك أولى من عفا"، فلم يرجع عن أنه له عني وعنه كنى، وانصرف. 55 - وكان جماعة يأكلون سمكة مشوية، ففرغوا من جنبها وقبولها إلى الجنب الآخر، فسأل سائل على الباب، فأراد صاحب السمكة أن يرد عليه فقال: قد أقلبوها، فرفعت الجماعة أيديها، ونهضت، وخجل الرجل وحلف لهم أنه ما عنى ما وقع لهم وعرض بخاطرهم، بل سهو بدر به لسانه، فلم يقيموا ولا تمموا أكلهم، وخرجوا يبخلونه واستحيا منهم كل وقت يلقونه!. 56 - وذكر حماد بن إسحق عن أبي بكر بن عياش قال: كان بالكوفة امرأة لا زوج د عسر عله المعاش، فقالت له: لو خرجت فضربت في البلاد وطلبت من فضل الله تعالى رجوت أن ترزق شيئاً، فخرج إلى الشام فكسب ثلاثمائة درهم فاشترى بها ناقة فارهةً وركبها قاصداً إلى الكوفة، وكانت زعرة فأضجرته واغتاظ منها ومن زوجته وإخراجه وتقطيعه بأسفاره، فبدر لسانه فيها بأن حلف بطلاق امرأته أنه يبيعها يوم يدخل الكوفة بدرهم! وسكن من حوده فندم أشد ندامة واغتم أعزم غم، وقدم الكوفة فقالت له زوجته: أي شيء جئت به معك؟ ورأته مغتماً، قال: لا شيء، فقالت له: فهذه الناقة لمن؟ قال: لا أدري لمن تحصل له، وحدثها بحديثه وما جنى عليه حرده وجره لسانه، فقالت له: أنا أحتال لك حتى لا تخنث ولا تخيب، وعمدت إلى سنور فأخذتها وعلقتها في عنق الناقة وقالت: أدخلها السوق وناد عليها: من يشتري هذه السنور بثلاثمائة درهم والناقة بدرهم واحد، ولا أفرق بينهما؟ فدخل السوق وفعل ذلك، فجاء إعرابي يجور حول الناقة وجعل يقول: ما اسمك ما أفرهك ما أحسنك ما أرخصك، لولا هذا المشارك الذي في عنقك. 57 - حدثني أبو سعد محمد بن علي ن الحسن المعروف بابن المانداي قل: حدثني الجهرمي الشاعر قال: كان السقطي الصوف من أهل المروءات، وقد آلى على نفسه أنه لا يأكل طعاماً عند أحدٍ، فخلوت به يوماً وسألته عن العلة في ذاك فقال: بكرت إلى صديق لي في حاجة وعدن بها، ودخلت إليه وبين يديه غداؤه، فمددت يدي وأكلت، ووقف على الباب سائل، وأراد أن يقول له: لطف الله بك، فقال: قد كسر آخر فقلتُ: بعد ما مسه فخجل واستحيا وقال: ما قصدت ما وقع لك، فقلت: خذ في غير هذان ولم آكل معه، ونهض عن طعامه حياءً مما بدر من كلامه، وجعلت في نفسي ألا أكل طعام أحد بعدها. 58 - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جهير قال: كان سليمان ابن فهد كاب قرواش بن المقلد بالموصل حديداً سوداوياً على الفضل الذي كان فيه، واتفق أن كان جالساً وإلى جانبه أبو طاهر النصراني الكاتب ابن كعب، وله المنزلة الكبيرة وفي وقته المكانة الجليلة في بلده، وقد خدم شرف الدولة باب الفوراس ابن الملك عضد الدولة بن بويه والمسيب جد قرواش، فقال له سليمان مقبلاً على الحاضين على طريق الانبساط والاسترسال، وهذه أخت ابن كعب قحبة مشهورة كما تعلمون، وابن عرقل ممن تحبه ويفعل بها كل يوم، ولا يغبها ولا تغبه، وغيره وغيره، فإذا راسلتها واستدعيتها تمنعن وتحكمت وتبطأت وتأخرت! ثم التفت فرأى ابن كعب إلى جانبه، فاستحيا ونهض، وقال: هذا هو الجنون الذي لا دواء له! ودخل إلى بعض حجره، وانصرف الحاضرون خجلين ن ابن كعب وسماع ذلك، وبقي كعب جالساً حائراً لا تساعده رجله على النهوض والانصراف، وشاهد حاجب سليمان حاله، فجاءه وأخذ بيده وقال: ينهض سيدنا إلى جاره، فقد جرى ما فيه الثواب، وإن كأن من محن الدهر الصعاب، فقام يجر نفسه وانصرف. 59 - وحدثني أيضاً قال: كان البرقعيدي يوماً جالساً عند بعض أصدقائه بالموصل، فأنشد بعض الحاضرين: وليلٍ كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبردِ أغانيه وطولِ قرونهِ فقال له: هأنا قاعدا يا سخي العين! فاستحيا المنشد وضحك الحاضرون. 60 - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: كان النابغ والهائم بحضرة عضد الدولة يوماً يلعبان بالشطرنج، فغاصا في الفكر لدستهما، فأنشد أحدهما: وأبو القاسمِ يروي شعرنا ... حسنٌّ ذاكَ ويأتي بالخبرْ

والشعر لعضد الدولة أبي شجاع بن بويه، فقال له الآخر: أف منك ومن هذا الشعر! فإعادة ذاك إنشاد البيت على مذهب الشطرنجيين في مغايظة ملاعبيهم وتكرار ما يثقل عليهم، فال له: هذه شعرة لا شعر! فردده وكرر ذلك كالسب للشعر وقائله، وعضد الدولة يسمعهما، إلى أ، فرغا من دستهما، ونهض واستدعى أبا علي بن محمد أستاذ الدار، وتقدم إليه بضربهما مائتي سوط، وأن يأمرهما بألا يتكلما بعد يومهما على الشطرنج بشيء، فعل ذاك، وعرفا ما كان منهما، وأنه السبب فيما جرى عليهما. 61 - وبالضد من هذه الحكاية أن عضد الدولة وصف له ابن الصقر يلعب الشطرنج والتقدم فيه، وكان من العمال المتقدمين، وإليه عمالة البلاد العليا، فتقدم بإحضاره، وأجلس معه من يلاعبه ممن يجري في طبقته، فأجاد ابن الصقر، وغلب محاذيه دستاً، واستحسن عضد الدولة لعبه، ولعب الدست الثاني وفكر وفي نفسه وقال: متى واصلت غلب هذا المحاذي استحسن عضد الدولة لعبي ونقلني من الرئاسة والعمالة، وهي المنزلة الزرية والرتبة الدنية، وليس لي غير ما أقصر في لعبي وأتغالب لتزول هذه السمة عني! ولاح له في الدست أن يلعب بفرسه ضبة يغلب محاذيه بها، وفراغ عنها ولعب بغيرها، فقال له عضد الدولة: العب بفرسك، فإني أردك إلى عملك! فقبل الأرض ولعب بفرسه، وغلب الدست، ورده إلى العمل وأعفاه من اللعب. 62 - ودخل الزكي أبو علي العلوي يوماً على بعض الرؤساء فجالسه وحادثه فهما في ذلك إذ حضر صاحب ذلك الرئيس فقال: يا سيدنا أي الخيل نسرج اليوم؟ فقال اسرجوا العلوي: سمةٌ لفرس له يعرف بذلك، فقال الزكي: أحسن اللفظ يا سيدنا فاستحيا الرجل وقال: غفلة لا يؤاخذ عليها. 63 - وحضر يوماً بعض المغنين مجلس الملك جلال الدولة بن طاهر ابن بويه فغناه: وبتنا جميعاً لو تراقُ زجاجةٌ ... منَ الخمرِ فيما بيننا لم تسرَّبِ فقال جلالُ الدولة: صدقت! أقيموه، فأقيم وصرِف 64 - وحدثني أبو سعد محمد بن علي المانداي قال اجتاز المرتضى أبو القاسم نقيب العلويين، يوم جمعة على باب جامع المنصور، وبحيث يباع الغنم، فسمع المنادي عليها يقول: نبيع هذا التيس العلوي بدينار! فظن أنه قصده بذاك، وعاد إلى داره، وتألم إلى الزير مما فعل به، وكشف عن الحال فوجد أن التيس إذا كان في رقبته حلمتان (متدليتان) سمي علوياً، تشبيهاً بشعرتي العلوي المسبلتين على رقبته. 65 - واجتاز أبو الفرج بن الأقساسي العلوي الكوفة، كان أعرج أحول فسمع منادياً ينادي على تيس ويقول: بكم علكم هذا التيس العلوي الأحول الأعرج، فلم يشك أنه عناه، فراغ عليه صفعاً وضرباً إلى أ، تبن أن التيس أحول أعرج، فخلاه، وضحك الحاضرون مما اتفق في معناه. 66 - وحدثني المانداي وقال: كنت يوماً ند أبي البركات العلوي المدائني وهناك ابن عبد السميع الهاشمي وجماعة حضور، فانجر الحديث إلى أن حكين له حكاية كانت (مع رجل) في جوارنا بنهر طابق يقال له ابن نفاط، وقلت: إنه استدعى خياطاً فصل له ثياباً وأقعده بخيطها بين يديه، وجاء الليل وأحضرت الشمعة، فقال للخياط: حدثني بشيء من سير الفرس وأخبارهم، فلم يفهم عنه ما قاله، فضلاً عن أن يحدثه بما التمسه، وقال: يا سيدنا ما أعرف شيئاً من ذاك ومن هؤلاء الفرس ومتى كانوا وأين كانوا!! فقال إنا الله، فهات شيئاً من سيرة النبي عليه السلام وأخباره وفتوحه وأفعاله وما جرى له من قريش! فقال يا سيدنا ما اعرف إلا أنه رسول اله تعالى، فأما تفصيل ذلك فعند غيري، وعل من تشاغل به، ولم ينكمش على مثل صنعتي، فأنشد قائلا: غفلٌ من النَّاسِ ليسَ فيهِ ... موضعُ هجوٍ ولا مديحِ! ثم قال: فاقرأ خمس آيات من القرآن لنقطع زماننا بشيء يكون ثواب وأجرٌ، فقال: والله العظيم ما أعرف إلا ما أصلي به، على غير إتقان له ولا علم على الحقيقة به! فقال: ويلك فما سمعت أحدوثة في بيتك ومن أهلك ومن يضمه ذراك؟ فقال: أفمن هذا تريد؟ السمع والطاعة، ثم قال: كانت فأرة .. قال: أي شيء هذا مما يتحدث به! هات. فقال: كنست بيتها .. قال: والفأرة مسك مكنسة! وتفهم الكنس! وأي بين لها بخضه، هذا جنون، ولكن هات ما عندك لننظر آخره! فقال: وجدت حنطاية .. فقال: حنطاية! ما هي؟ قال: طعام .. قال: يجوز أن يكون في أعشاش الفأر طعام ..

قال: فحملتها إلى الطحان وقالت اطحن لي هذه وخذ نصفها وأعطني نصفها. فقال: ويلك أيتهيأ أن تمضي الفأرة إلى الطحان وتخاطبه بلسان صهصلق وكلام ذلق، هذا محال، وهذا محال!. وصاح ونفض كمهن فانطفأت الشمعة، وضحكت مما اتفق لهما. قال أبو سعد: فضحكت الجماعة ضحكاً شديداً، وقام من بينهم غلام فخرج، فلما خرج قيل لي: أي شيء قد علمت! فقلت: ما الخير! فقالوا: هذا الخارج ولد الذي حكيت عنه، وقد تغير وجهه وخبثت نفسه وانصرف على ما شاهدت من أمره، قلت: ما علمت ووجب عليكم أن تعلموني حيث بدأت بحديث أبيه! واستحييت مما اتفق!. 67 - قال: وكانت لابن الناط هذا حكايات: فمنها أنه خرج يوماً فرأى على بابه سنوراً ميتة، فقال لها: ها على بابي سنور ميتة! فقالت له جارية في داره: يا سيدي هذه سنور حوراء جارتنا، فقال: ومن هي حوراء البظراء! يجب أن نفذ إلى سيدنا السديد يعني صاحبه الذي كان يكتب له ويحضر منها نقيبان جلدان يأخذان هذه السنور من ها هنا ويطرحانها ها هنا، ويعني على باب حوراء صاحبتها. 68 - وحدثني وقال: قضى الرؤساء لأحد شعراء زماننا حاجة فجاء ليشكره (على صنيعه فقال): لا خيلَ عندكَ تعطيها ولا مالُ ... فليحسنِ القولُ إنْ لم تحسنِ الحالُ فقال له حاجب الرجل: يا هذا ليس ما قلت بمدح ولا خارج مخرج شكر! فقال: سهوت وغلطت، فانصرف خزيان. 69 - وجرى بين شهرام المروزي وبين أبي مسلم صاحب الدولة كلام، فال له شهرام: يا لقيط، فصمت الو مسلم وتنبه شهرام على هفوته، فاعتذر وخضع، فقال له أبو مسلم: لسان سبق ووهم أخطأ وبادرة غضب، والغضب من الشيطان، وأنا جرأتك بطول احتمالي لك، فإن كنت للذنب معتمداً كنت لك شركاً، وإن كنت مخطئاً فالعذر يسعك، وقد شمل عفوي الحالين! فقال له شهرام: أيها الأمير عفو مثلك لا يكون غروراً، قال له أبو مسلم: أجل، قال شهرام: فإن عظم ذنبي لا يدع قلبي يسكن! فقال أبو مسلم: سبحان الله العظيم، ومن أحسن إليك مع إساءتك لا يسيء إليك مع إحسانك! 70 - وكان عامر بن مصعب يوماً ينظر إلى ابنه وهو يخطب، وقد استحسن الناس كمه، فأقبل على قوم جلوس، وقال لهم: هذا بني ومن هذا خرج، وأومأ إلى ذكره، فتضاحك القوم به، وعرف زلته وانصرف. 71 - واجتاز بعض العوام وهو سكران بجماعة قعود، فجلس وأنشد وأومأ إليهم: اضرطْ عليهمْ فكلهمْ سفلُ ... شبابهمْ والشيوخُ والكهلُ وضحك ضحكاً مفرطاً، وانصرف، فقال رئيس كان من الجماعة لم يعننا هذا السكران بقوله، دفعاً لذلك عنهم، فقال له أحدهم: الله الله يا سيدنا، أنت سيد الجماعة ومتقدمها، وما على غيرك ولا أراد سواك! فقال له: أحسنت يا سخين العين! وضحكت الجماعة منه. 72 - قال مؤلفه: وحدثني والدي رحمه الله عليه قال: كنت عند أبي الحسن محمد بن عمر العلوي رحمه لله وقد دخل إليه بعض معامله شاكياً من بعض العمال، فقال له: يا سيدنا قد جرى علينا كذا وكذا من الامتهان والحرف، والاستخفاف والخف وأشرفنا على الانصراف من هذا الموضع والانجلاء عنه، فقال: يا هذا ولم ذاك؟ ولأي سبب؟ فأراد أن يقول له: قصداً لك وقبحاً معك، فقال: والله العظيم ما امتهنا ولا صفعنا إلا على رأسك! فقال: أخرجوه قبحه الله تعالى! فلما أخرج تبين قوله وطارت روحه! 73 - وحدثني أبو سعد محمد بن علي المانداي قال: كنت عند أبي الغنائم ابن القنائي جالساً فحضر بعض المعاملين وشكا من بعض الناس، فقال له ومستهزئاً به: ولم صبرت منه على هذات الفعل وكان يجب أن تشيل قفاك فتصفع يده ولا تفكر فيه ولا تحتشمه، فقال: هذا يفعله سيد مثلك فأما أنا فلا أقدم على مثله! فامتقع لون ابن القنائي حيا من الحاضرين. 74 - وحدثني قال: كان مع بعض القصاص رجل شيخ يعرف بعبدان، يحضر حلقته ويستحسن كلامه ويزهره ألفاظه، ويعطيه ثلاثة أرطال خبزاً جزاء فعله، وربما نام تحت الكرسي بشيخوخته وتخرج منه رياح تبلغ إلى أنف القصاص، فقال له يوماً: يا عبدان! قال: شافي والله العظيم، فقال له: دعني من هذا، هو ذا تنام وتؤذيني بفساك! فقال له أنا يا سيدي!! الله الله، هؤلاء الروافض يفسون حول الحلقة ويقولون: هذا في لحية الشيخ، قصداً لك وقبحاً لك، فقال له: يا عبدان أمسك، فعذرك أشد علي من فعلك، فضحك الناس منهما، وانحل المجلس وانفل جمعه ذلك اليوم.

75 - وحدثني قال: كان لابن القنائي أخ يعرف بالبقطائي من أمه، فقعد يوماً يلعب الشطرنج مع إنسان يعرف بأبي عمر الصيرفي وكان أبو عمر يسهو في لعب الشطرنج إلى الحد الذي تجعل على رقبته وظهره الشي الكثير الثقيل فلا يحس بع ويحمله ولا ينتبه له، فتوجهت له على الباقطائي، فقال له: شاه يا بن القحبة، فقال له ابنه: أنت مجنون! الرئيس أبو الغنائم قاعد وأنت تشتم أخاه وأمه! فعلم أنه د غلط، فقال: ما قلت ذاك إلا من جهة الباقطائي، فضحكت الجماعة منه، وخجل ابن القنائي ونهض. 76 - وحدثني قال: كان عندنا إنسان يعرف بزوج المرأة، فمضى يوماً لزيارة قبر (الشيخ) معروف الكرخي (قدس الله سره) ومعه ابن أخت له فرأى فاختة في الطريق، فقال لابن أخته: امض وعلق تلك الفاختة، فقال له: إذا قربت منها طارت فكيف أعلقها؟ فقال: امض مع الحائط نحو تنور الآجر، كأنك تساوم صاحبه على شراء الآجر وخذها، فضحك! 77 - قال: وماتت قريبة لأبي منصور بن الفرج، وكان رئيساً في الوقت، فاجتمع الناس على طبقاتهم لقضاء حقه، وأخرجت الجنازة والنساء يلطمن ويقلن: واستاه واستاه! على ما جرت به عادة النساء في ذلك، فأنكر زوج المرأة هذا القول وقال: لاستَّ إلا الله سبحانه وتعالى، وصاح عليهن، فضحك الناس، وصار المكان مكان هزل لا مكان حزن. 78 - قال: وأحضره السوادية طنجيراً وقال: قد ابتعت هذا بخمس دوانيق، فانظر أرخيص هو أم غالٍ! فأدخل رأسه فيه، فقال السوادي: هو صحيح يا سيدي، وليس فيه كسر، قال: ما نحوت إلى ذاك، وإنما أفتقده لا يكون العث قد وقع فيه، فتستعمله أياماً ويظهر لك بعد ذلك عيبه! فضحك منه وأخذ الطنجير، وذهب. 79 - قال: وكان عندنا كاتب ديوان يعرف بأبي غالب الإصطخري، شديد المعضلة قليل الدربة بالعادات، وكان في داره حمام، وكان يوقده بنفسه من السحر إلى الفجر، فإذا فرغ منه دخل الحمام وتغسل وركب، فمن حكاياته أنه صلى بالناس في شهر رمضان فقرأ سورة القصص وخرج من رأس السبعين إلى رأس الثمانين، وسقط في هذه العشر الآيات قصة قارون، فلمنا جلس في التشهد قال في تشهده: أليس كان لقارون المدبر في هذه السورة حديث طويل! ترى أليس كان منه! دع حتى يمر إلى لعنه الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! 80 - قال: ورأيته يوماً وهو على دكان مالحاني، وفي يده رغيف، وهو يأكل من خل المالح، فقلت: يا سيدنا أتأكل هذا الخبر اليابس بهذا الخل القذر في السوق وبين العوام، فاغتاظ مني فقال: خرا أريد أن أصلحه، فأي شي عندك في هذا يجيء خراء أولاً! 81 - قال: وكان إذا خرج في حاجة فقال له إنسان: إلى أين أيها الرئيس! رجع ولم يمض فيها، وجرى على القائل له ذاك قبح منه، فاجتاز علي يوماً مسرعاً ولم يسلم، فقلت: إلى أين مدة شهر؟ فرجع إلي: وقعد عندي وقال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إياك وأن تقول لإنسان ما في حاجة إلى أين، فربما كان ماراً في شيء من قاذورات الدنيا، فإن صدقك فقد أحرجته، وإن كذبك فقد آثمته! 82 - وحدث أن سابور الوزير استناب في دار العلم بين السورين خازناً يكنى بأبي منصور، فلبس في بعض الأعياد ثياباً جدداً، وأخذ في السحر قارورة فيها حبر، فصبها في يده وطرحها على وجهه، غلطاً من قارورة ماء الورد إلى قارورة الحبر، وخرج على تلك الصفة يريد الجامع، فلقيه الناس وتضاحكوا منه ورأوا ما به، فقال: غلطنا من ماء الورد إلى الحبر! ورجع. 83 - وكان أبو الحسن السمسماني متطيراً، فخرج يوم عيد داره، ولقيه الناس فقال له مهنئاً: عرف الله تعالى سيدنا الشيخ بركة شؤم هذا اليوم، فقال: وإياك يا سيدي، وعاد وأغلق به، ولم يخرج (بقية) يومه. 84 - ودخل بعضهم إلى رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة فقال له متعجباً من رئاسته التي عبقت به وجلالته التي باتت له: فسبحانَ الذي أعطاكَ ملكاً ... وعلَّمكَ الجلوسَ على السَّريرِ فضحك رئيس الرؤساء منه، ولم يعلمه بموضع غلطه، لعله بقلة معرفته وبأنه لا يعلم أصله! واتفق أن اجتمعت به يوماً عند عميد الملك أبي نصر الكندري بعد قتل رئيس الرؤساء، فقال له كيف أنشدت رئيس الرؤساء فسبحانَ الذي أعطاكَ ملكاً ... وعلَّمكَ الجلوسَ على السَّريرِ أما تعلم أنه ثاني بيت، هو:

أتذكرُ إذ قميصك جلدُ شاةٍ ... وإذ نعلاكَ من جلد البعيرِ فقال: والله يا مولاي ما أدري ما قلت، ولا أدري ما تقوله أنت الساعة لي، غير أنه مدحني به مادح فمدحت به رئيس الرؤساء فضحك عميد الدولة حتى استلقى! 85 - ورأيت أبا الحسن الوكيل عند بعض الأصدقاء وهما يشربان، ومع أبي الحسن فوطة كتان مغربية مقفصة مليحة، فمزحنا معه وقلنا له: هذه من غزل البيت! فقال: نعم يا سيدنا طاقه وضرطه! فضحكنا وقطعنا بذاك أكثر يومنا. 86 - ولقي يوماً بعض الأجلاف نصر بن الطيب في الطريق، فقال له: يا سيدي البارحة آلمني هذا الموضع من رأسي، وكشف رأسه وترك يده على الموضع، وبقي مكشوف الرأس، فقال له الطبيب: أر رد عمامتك فكفاني الإيماء إلى الموضع من فوق العمامة!. 87 - وخرج يوماً إلى بستان داره فقال للصعاد: احطط من هذا الفحل طلعاً فصعد له، فقال: قد ذكرت بهذا الطلع الجمار، فافتح جمارة الفحل واكسر لي من جانبها قطعة فقال له: يا سيدنا يموت الفحل، فقال: ما يصيبه شيء إذا أخذت لي من جانب جمارته، فامتنع وتعجب، فصفعه إلى أن فتح الجمارة وأعطاه منها طعمة، ومات الفحل بعد أيام، فقال: صدق والله الصعاد! 88 - ودخل بعض الأنصار إلى العلوي البلخي فحين وقعت عليه عينه قال: ذهبت قريشٌ بالمكارمِ كلَّها ... اللؤم تحتَ عمائمِ الأنصارِ فقال: هذا جزاء أجدادنا في نصرتكم، وجزاؤنا الآن في قصدكم وخدمتكم! فخجل وحلف أنه ما قصد ذاك ولا عناه، وإنما بيتٌ طرأ على قبله فحكاه! 89 - ودخل أبو نخيلة الراجز على مسلمة بن عبد الملك بن مروان، فقال له: أمسلمَ إني يا بنَ كلِّ خليفةٍ ... ويا فارس الهيجا ويا جبلَ الأرضِ شكرتك إنَّ الشُّكر حقٌّ على الفتى ... وما كلُّ من أقرضتهُ نعمةً يقضي وألقيتُ لما أنْ أتيتكَ عارياً ... عليَّ لحافاً سابغ الطولِ والعرضِ فأحييتَ لي ذكري وما كانَ خاملاً ... ولكنَّ بعضَ الذِّكر أهون من بعضِ فقال له: ممن أنت؟ قال من بني سعد، أحد بني جمان، قال: فأين أنت من الرجز؟ قال: أرجز الناس! قال أبو نخيلة: فذهبت أنشده فسهوت، وأنشدته للعجاج، فلما أكثرت قال: حسبك أنا أعلم بها منك! فخجلت واستيقظت، ومقتني على الكذب وحرمني. 90 - ولما قتل زيد بن المهلب أتى مسلمة برأسه، فقال رجل: من سرَّ يوماً بزَّ به ... والدَّهرُ لا يغترُّ بهْ فتطير مسلمة واغتم لذلك، فقال بعض من حضر، وقد رأى ما بمسلمة، يقيم عذر الرجل كم من رجل قد أتى هنا برأسه كذا! فكان قوله أشد على مسلمة من القول الأول، فنهض من مجلسه وانصرف. 91 - وقيل: خرج عبد الملك بن مروان يوماً قاراً، وعليه جباب خز متظاهرة، على علي بن عبد الله بن العباس، فقال عبد الملك: يا أبا محمد ندق أم دفر دقاً يعن الدنيا، تكنى بأم دفر، ثقة بالأمل والبقاء، فما مضت عليه جمعة حتى مات! 92 - وأخبر المدائني: قال أبو بكر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان يوماً لبعض الناس: ما أحسن غرة فرسك! يعني التي في يده. 93 - وقال: أتى رجل الوليد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين إنك تعيش، أربعين سنة خليفة، فقال الوليد: لا يرضى أمير المؤمنين بضعف ذلك! فمات في أسبوعه. 94 - وأخبر عن الجرمي عن أبيه قال: كنا مع عبد العزيز بن الوليد ومعنا حجر بن عقيل الرياحي، فقال عبد العزيز أو ابنه بشر: أنشدنا يا أبا بشير فأنشد: فما أخرجتنا رغبةٌ عن بلادنا ... ولكنَّه ما قدرَ الله كائنُ لحينِ نفوسٍ لم تجدْ متأخراً ... فلا تبعدنَ تلك النفوسُ الحرائنُ فقلت له تطيرت: قطع الله لسانك وهلك عبد العزيز في وجعه ذلك. 95 - وخرج زياد مع معاوية، فحدا الحادي: قد أعلمتهُ الضمرُ الجيادُ ... أنَّ الأميرَ بعدهُ زيادُ

فتنمر معاوية وقال لحصين وزياد يسمعُ يا حصين إن لك رأياً وتعقلاً، فما فرق أمر هذه الأمة فسفكت دماءها، قال قتل عثمان، قال: صدقت، إن الخلافة أمر من أمر الله وقدره، لا تصلح لمنافق ولا لمن ضل وأعان ظالماً، يعرض بزياد أنه أعان عليا عليه السلام، ففطن زياد واعتذر إلى معاوية وقال: يا أمير المؤمنين، راجزٌ رجز بما لم يكن عن أمري ولا علمي يصير ذنباً لي! أعيذك بالله من هذه الظنة التي لا تجوز لك ولا تحسن بك، فقبل معاوية ذاك وأمسك. 96 - وحكى مسرور الخادم قال: أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى، فهجمت عليه في الوقت، فوجدته يشرب، وبين يديه أبو زكار، المغني الأعمى وهو يقول: عداني أنْ أزورك غيرَ بغضٍ ... مقامك بين مصفحة سداد فلا تبعدْ فكلُّ فتىً سيأتي ... عليهِ الموتُ يطرقُ أو يغادي فقلت له: يا أبا الفضل الذي قد جئت له والله من ذاك قد والله طرقك، فأجب أمير المؤمنين، قال فدعني أوصي، فتركته فأوصى بما أراد، وحملته فحززت رأسه، وفي ذلك يقول الرقاشي: أيا سبتُ يا شرَّ السُّبوتِ صبيحةً ... ويا ضفرُ المشؤومُ ما جئتَ أشأما أتى السَّبتُ بالأمر الذي هدَّ ركننا ... وفي صفرٍ جاءَ البلاءُ مصمما وفيه يقول أيضاً: الآنَ استرحنا واستراحت ركابنا ... وأمسكَ من يجدي ومن كان يجتدي وقل للمنايا قد ظفرتِ بجعفرٍ ... ولن تظفري من بعدهِ بمسوَّدِ وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطَّلي ... وقلْ للرزايا كلَّ يومٍ تجددَّي ودونكَ سيفاً برمكياً مهنداً ... أصيبَ بسيفٍ هاشميٍّ مهنَّدِ! 97 - وقيل: كان فرج الرخجي مولى لحمدونة بنت الرشيد المعروفة بحمدونة بنت عضيض، ولحق ولاؤه الرشيد، وكان زياد أبو فرج معن بن زائدة، وسبي معه فرج ابنه عند غزو معنٍ الرخج. قال عمر بن فرج: حدثني أبي قال: كنت مع أبي زياد إلى حين سبانا معن، وكان قد غنم غنائم جليلة من الرخج وسبياً عظيماً، فنزل في معسكره، وحطت الأثقال، ونزعت السروج (عن الدواب) فينا نحن على ذاك إذ بصرنا بغبار عظيم، فظن معن أنه الطلب، فأمر قتل الأسرى، فقتل في ساعة واحدة أربعة آلاف أسير، وخبأني أبي تحت الأكف، وقال: لعلك إن قتلت أنا سلمت أنت! ثم أقشع الغبار عن حمير وحش، وبقي عدد يسير من الأسرى، فرفع السيف، وكان ذلك الغبار المشؤوم بقتل أربعة آلاف نفس. وهذا قصر فرج الذي ببغداد قصره، ولم يزل في يده وفي يد عمر ولده إلى أن قبضه المتوكل عن عمر، ونظر أعرابي إلى بناء قصر فرج فقال: لعمركَ ما طولُ البناءِ بنافعٍ ... إذا كان فرعُ الوالدين قصيرا 98 - وحكى أبو عبيدة قال: كان عجل بن لجيم من محمقي العرب، فقيل يوماً إن لكل فرس اسماً، فما اسم فرسك فإنه جواد؟ قال: لم اسمه، قالوا: فسمه، ففقأ إحدى عينيه وقال قد سميته الأعور! وفيه يقول الشاعر: رمتني بنوُ عجلٍ بداءِ أبيهمُ ... وهلْ أحدٌ في النَّاسِ أحمقُ منْ عجلِ أليسَ أبوهم عاب عينَ جوادهِ ... فسارت به الأمثالُ في النَّاسِ بالجهلِ 99 - وحدث الصولي بإسناده ذكره عن عمرو بن محمد الرمي قال: كان على بيت مال المعتصم رجل من أتهل خراسان يكنى أبا حاتم، فخرجت لي جائزة فمطلني بها، وكان ابنه قد اشترى جارية مغنية تسمى "قاسم" بستين ألف درهم، فعملت فيه شعراً أهجوه به، وجلست ألاعب المعتصم بالشطرنج، ويلعب بين يديه فلما في نفس من أمر أبي حاتم وغيظي منه غفلت عن كوني ألاعب المعتصم وأنشدت هجوي له، وكان: لتنصفني يا أبا حاتمٍ ... أو لتصيرن إلى الحاكم فتعطي الحقَّ على ذلة ... بالرغم من أنفكِ ذا الرَّاغم يا سارقاً مالَ إمامَ الهدىَ ... سيظهرُ الظلمُ على الظالم ستونَ ألفاً في شرا قاسمٍ ... من مالِ هذا الملكِ النائمِ

فقال المعتصم: ما هذا الشعر؟ فاسترجعت وفزعت من قولي "الملك النائم" وتحرجت أيضاًُ أن أكون سبب هلاك الرجل وفساد أمره، فلجلجت القول، وخفت الحال، وكلما انزعجت ورويت حرص بي، وألح علي، حتى تنعمه فقلت: أقول وأنا آمن؟ قال: نعم فقلت: أظن صاحب بيت الكمال مطل الشعراء شيئاً فعمل هذا الشعر فيه، قال: فما معنى قاسم؟ قد اشترى ابنه جارية اسمها قاسم، بستين ألف درهم، وإياها لاشك عني، فقال: إذاً فأنا الملك النائم لاشك، هذا رجل مملقٌ وليته بيت ليعيش بما يرتزق عليه منذ سنين، فمن أين لابنه هذا المال! ثم قال لإيتاخ: عليك بصاحب بيت المال وابنه فاقبض عليهما، وخذ مائتي ألف درهم منهما، ووله غيرهما. 100 - وحدث أبو الخطاب زياد بن يحيى قال: حدثنا الهيثم بن الربيع قال: حدثنا الهيثم عن الشعبي، قال: أرسل إلي عبد الملك بن مروان وهو شاك، فقلت: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين، قال أصبحت كما قال ابن قميئة أخو بني قيس بن ثعلبة، قلت: وما قال؟ قال: قال: كأني وقد جاوزتُ تسعين حجَّةً ... خلعتُ بها عني عذارَ لجامي رمتني بناتُ الدهر من حيث لا أرى ... فكيف يمن يرمي وليسَ برامِ فلو أنني أرمي بسهمٍ رايتهُ ... ولكنني أرمي بغير سهامِ إذا ما رآني الناسُ قالوا ألمْ يكن ... حديداً شديد البطشِ غير كهامِ فأفنى وما أفنى من الدَّهرِ ليلةً ... ولم يفن ما أفنيت سلكَ نظامِ على راحتي مرةً وعلى العصا ... أنوءُ ثلاثاً بعدهنَّ قيامي قال الشعبي: فقلت لا ولكنك كما قال لبيد بن ربيعة، قال: وما قال؟ قلت: قال. راحت تشكي إليَّ النَّفس مجهشةً ... وقد حملتُكَ سبعاً بعد سبعينا فإن تزادي ثلاثاً تبلغي أملاً ... وفي الثلاث تمامُ للثمانينا فعاش والله بعد ذلك حتى بلغ وتسعين حجة فقال: كأني وقد جاوزت تسعين حجةً ... خلعتُ بها عن منكبي ردائيا فعاش والله حتى بلغ عشراً ومائة فقال: أليسَ في مائة قد عشها رجلٌ ... وفي تكامل عشرٍ بعدها عبرُ فعاش والله حتى بلغ عشرين ومائة فقال: عمرتُ حيناً بعد مجرى داحسٍ ... لو كانَ للنفسِ اللجوجِ خلودُ فعاش والله حتى بلغ أربعين ومائة فقال: ولقد سئمت من الحياةِ وطولها ... وسؤال هذا الخلق: كيف لبيد؟ فقال عبد الملك: والله لقد ذهب بحديثك عن البأس، فاقعد يا شعبي عندي، ما بيني وبينك إلا الليل، فحدثني قال: فحدثته حتى أمسيت وانصرفت فمات والله في جوف الليل!.

101 - وحكى أبو عبيدة عن عمه عن أبيه عن الكلبي عن عوانة: أن زياداً بينا وهو جالس في قصره إذ برزت له كف قد عقدت ثلاثين، ثم غابت عنه، فقال زياد: إنا لله، نعيت إلى نفسي، أعيش ثلاثين يوماً أو ثلاثين شهراً أو ثلاثين سنة! فلمنا استوفى ثلاثين يوماً أمل ثلاثين شهراً، فلما بلغا اتفق أن قدم عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عامله على سجستان، فأمر زياد سليماً مولاه بمحاسبته من ليلته، ثم أرسل إلى سليم فحضر فقال له: إني أجد وعكاً، فمسه، فإذا مثل لهب، النار في جسده، فتأمله فرآه قد طعن في إصبعه، فأتاه بمائة وخمسين طبيباً منهم ثلاثة قد أدركوا كسرى، فنظروا إليه، فقال بعضهم: دلوني على أنصح الناس له، فقالوا: سليم، فأخذ بيده وقال له: مر صاحبك بالوصية، فانطلق سليم إلى شريح القاضي فقال له: يا أبا أمية إن بعض الأطباء أخبرني أن الأمير مما به قد أمرني أن آمره بالوصية، وأنا أكره أن استقبله بذاك، ولك عنده منزلة، فإن رأيت أن تأمره بالوصية فافعل، فإنه ليس يتهمك! قال: نعم، وأمر زياد ببابيه ففتحا ودخل الناس يعودونه ويدعون له وينصرفون، ثم جاء شريح حتى قام على باب القبة فسام، ودعا ثم قال: أيها الأمير الوصية، فإن الله قد أمر بها، وليست تقدم شيئاً وليست تؤخره، فقال: نشدتك الله أتاك سليم فقال لك كذا وقال لك كذا وقال لك كذا؟ قال: اللهم نعم، فقال: قد أوصيت ثلاث وصايا نسختها واحدة، واحدة منها عند أمير المؤمنين، وواحدة مثلها عند المنجاب الضبي، ونسخ ابن الكلبي الثالثة وبضعهم عند حارثة بن بدر الغداني! ثم قال: أيتهن أصبتم فاعملوا بها، ثم دعا مهران كاتبه فقال: اكتب إلى أمير المؤمنين: "من زياد بن أبي سفيان أمات بعد: فإني كتبت وأنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من (أيام) الآخرة، وقد وليت الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، ووليت البصرة سمرة بن جند، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال له سليم: أذكرك أيها الأمير إلا وليت عبيد الله ابنك فإنه ليس بدون هؤلاء في الفضل، فقال: اسكت، إن يكن فيه خير فسيوله عمه، وقدم الهيثم من الحجاز، فأخبر بذلك، فقال: ما أصنع بالهيثم وما معه! ولم يأذن له ومات من ليلته. 102 - وحدثنا أبو عبد الله الزبير بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام قال: حدثني تعمي عن معافى بن نعيم أن والياً كان على اليمامة ولاه بلال بن جرير بعض أعماله، فجلس يوماً يحكم والخصوم كجلوس، إذ تمثل أحدهم: وابنُ المراغةِ واقفٌ أعيارهُ ... مرمى القصيَّة ما يذقنْ بلالا ولا يعلم أنه من ذاك بسبيل، فقال: أين هذا المتمثل، قال: هأنذا أصلحك الله، قال: ادن أنت وخصمك، فدنوا، فقال: هلم أعد البيت فغمره إنسان فقال: والله ما هو إلا شيء على لساني وما أردت بذلك مكروهاً! قال: هو أشهر من ذاك، هلم فاحتجا، وحكم بينهما. 103 - وحدث الزبير قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال: حضر الأخطل عند عبد الملك بن مروان فأنشده: ألا سائلِ الجحَّافَ هلْ هوَ ثائرٌ ... بقتلي أصيبْ من سليمِ وعامرِ قال: واتفق أن كان الجحاف حاضراً فكلح في وجه الأخطل وقال مجيباً له: نعمْ سوفَ نبكيهمْ بكلَّ مهَّندِ ... ونبكي عميراً بالرِّماح الخواطرِ يعني عمير بن حبابٍ السلمي، ثم قال: لقد ظننت يا بن النصرانية أنك لم تكن لتجترئ علي ولو رأيتني لك مأسوراً، وأوعده، فما زال الأخطل من موضعه حتى حمَّ، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه. 104 - وحدث الزبير قال: حدثني عم مصعب بن عبد الله عن أبي نخيلة الراجز قال: قدمت على المنصور فأقمت ثلاثة أشهر لا أصل إليه، فقال لي عبد الله بن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة إن أمير المؤمنين يريد أن قدم المهدي ولده في العهد بين يدي موسى بن عيسى، فلو قلت شيئاً تحثه على ما يريد، ويؤكد عزمه كنت حرياً أن تخطى، فقال أبو نخيلة في ذلك: دونكَ تعبد الله ذاكا ... خلافة الله الذي أعطاكا أعطاكَ ربِّي وبها اصطفاكا ... فقد تنظرنا لها اباكا ثم انتظرنا بعده إيَّاكا ... ونحن فيهم والهوى هواكا نعرى فنستدري إلى ذراكا ... أسند إلى محمدٍ عصاكا

فابنك منا استرعيته كفاكا ... واحفظ النَّاسِ له أدناكا وقد وجدت الرجلَ والوراكا ... وحكتَ حتَّى لم تجدِ محاكا ودرتَ في هذا وذا وذاكا ... وكل قولٍ قلتُ في سواكا زورٌ وقد كفر هذا ذاكا وثناها بأخرى هي: إلى أمير المؤمنين فاعمدي ... سيري إلى بحرِ البحورِ المزبدِ أنتَ الذي يابن سميَّ أحمدِ ... ويابنَ بيتِ العربِ المسوَّدِ يا أعظمَ النَّاسِ بداً لم تجحدِ ... إنَّ الذي ولاكَ ربُّ المسجدِ ليس وليُّ عهدها بالسعدِ ... عيسى فنكلِّها إلى محمدِ فقد رضينا بالهمام الأمردِ ... بل قد فرغنا غير أن لم نشهدِ وغيرَ أن العقدِ لم يؤكَّدِ ... وحتى تؤدي من يدٍ إلى يدِ فبادرِ البيعةَ وردَ الحشَّدِ ... وردَّه منك رداءَ يرتد فهو داءُ السَّابق المقلَّدِ ... قد كان يروي أنَّها كأنْ قدِ عادتْ ولو قد فعلتْ لم ترددِ ... فهي ترامي فدقداً عن فدفدِ حتَّى إذا حان ورود الوردِ ... وحان تحويل الغوي المفسدِ قال لها الله هلمي وارشدي ... فأصبحت نازلةً بالمعهدِ لم ترمِ تزفارَ النفوسِ الحسَّدِ ... بمثلِ ملكٍ ثابتٍ مؤيدِ لما انتحوا قدحاً بزندٍ مصلدِ ... بلوا بمشزور القوى مستحصدِ صمصامةٍ تأكلُ كلَّ مبردِ وروي الخدم هذا الشعر وحفظوه وتداولوه، فبلغ ذلك المنصور فدعا به وعنده عيى بن موسى جالساً عن يمينه، فأمر بإنشاد ما بلغه عنه، فحذر عيسى، ولم يمكنه التوقف فيما أمره المنصور، فأنشده والمنصور يشر ويفرح، وعيسى يكمد ويحقد! قال أبو نخلة: وخرجت فلحقني عقال بن شبه فقال: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين، فلئن تم ما أصلت لتصيبن ما أملت ولئن أخطاك ذاك لتبغين "نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء! " قال: فعلت لعقالٍ: علقت معالقها وصرَّ الجندب! ما كان لي والله قدرة على الخلاص من هذا المجلس وما جرى فيه، فكتب المنصور لأبي نخلة بمائة ألف درهم، فخرج إلى الري لأخذها. قال الزبير: فحدثني عمي أن عيسى بن موسى وجه مولى يقال له قطري، فقتله في طريقه، وسلخ وجهه، وقال له لما أضجعه ليذبحه: يابن المومسة هذا أوان صر الجندب! فقال أبو نخيلة: لعن الله ذاك جندباً ما كان أشأم ذكره وأنكد جده! وكان ظفره به قطري بساوة، وهو ذاهب إلى الري، وقال لي محمد بن الحسن المخزومي، بل ظفر به حين انصرف من الري، ودخل عليه قومه وهو في بيت خمار، وقد ثمل فذبحه، وقتل مزن كان معه من غلمانه، وهرب بعضهم بدوا به وماله!.

105 - وكان سليمان بن عبد الملك في بادية له، فسمر حتى تفرق جلساؤه عنه، ودعا بوضوء فجاءته به جارية له، فبينا هي تصب عليه إذ لهت عنه، فحركها بيده واستمدها ومرة ومرتين فلم تصب عليه، فرفع رأسه إليها، وإذا تهي مصغية بسمعها مائلة بجسدها، هادلة إلى صوت غناء تسمعه من ناحية العسكر، فأمرها فتنحت، واستمع الصوت، فإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى فهم غنائه، ثم دعا جارية من جواريه يراها، فطرحت الماء عليه وتوضأ، فلما أصبح أذن للناس إذناً عاماً، فلما أخذوا مواضعهم أجرى ذكر الغناء ومن كان يسمعه، ولين فيه حتى ظن به أنه يشتهيه، فأفاضوا في ذلك إلى التحليل والتسهيل والتليين وذكر من كان يسمعه من أهل المروءات وسروات الناس، ثم قال: هل بقي أحد يسمع منه؟ فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين عندي رجلان حادان من أهل إيلة، فقال: وأين منزلك من العسكر؟ فأومأ إلى الناحية التي كن الغناء منها، فقال سليمان: تباعث إليهما، فوجد الرسول أحدهما، فأقبل به حتى أدخله على سليمان، فقال: ما اسمك؟ قال: سمير، فسأله عن الغناء كيف هو فيه، قال: حاذق ومحكم، قال: فمتى عهدك به؟ قال: في ليلتي هذه الماضية، قال: وفي أي نواحي العسكر كنت؟ فذكر الناحية أيضاً، قال: فما عنيت، فذكر الشعر الذي سمعه سليمان، فقال سليمان: هدر الجمل فصغت الناقة، وهب التيس فشكرت الشاة، وهدر الحمام فزافة الحمامة، وغنى الرجل فطربت المرأة! ثم أمر به فخصي، وسأل عن الغناء: أين أصله وأكثر ما يكون؟ قالوا: المدينة، وهو في المخنثين أكثر، وهم الحذاق الأئمة فيه، فكتب إلى عامله بالمدينة، وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزام: أن أخص من قبلك من المخنثين المغنين. 106 - وحكى أبو حاتم قال: أنبأنا أبو عبيدة قال: كان سليمان ابن عبد الملك أقام بدابق أياماً سأل عن أخبار جش من المسلمين بالروم، قال: فقال المفضل بن المهلب: فدخلت إليه يوم الجمعة، وقد دعا بثياب فاخرة، ثم اعتم وأخذ المرآة، فلم تعجبه الثياب، فدعا بثياب خضرٍ كان بعث بها إليه يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم ونظر في المرآة فأعجبه نفسه، فقال: إيه يا بن المهلب أأعجبتك؟ فقلت: إي والله يا أمير المؤمنين، ومثلك أعجب قال: فحسر عن ذراعيه وقال: أنا الملك الشاب! ثم خرج فصلى الجمعة، وما صلى بعدها، وكان سبب موته أنه أتخم، أكل زملين: أحدهما تين والآخر بيض، ثم أكل صفحة مملوءة مخاً، فقال بعض شعراء كلب: أعوذ بربِّ الناس من شرِّ أكلةٍ ... يكونُ كوؤسَ الموت صرفاً كفاؤها كدأبُ سليمانُ الذي كانَ داؤه ... ردة أكلةٍ كان الحمامَ دواؤها ولم ضمَّ بطنُ الفيلِ ما ضمَّ بطنه ... لفضت ضلوعٌ وانفرت حاوياؤها وما ضمَّت في الأرضِ حتى تفتَّقتْ ... حواياه واستولى على الترُّب ماؤها فيا نهماً أردى سليمانَ إنَّما ... هدمت العلا فارفضَّ منها بناؤها فليتَ الذي أهدى فداك بنفسه ... فسيقَ إليها حتفها وفناؤها فلما بلغت هذه الأبيات بني أمية قالوا: والله ما ندري أهجاه أم رثاه!. 107 - وحدث أبو الحسن أحمد بن محمد بن المدبر قال: كان بدء خروجي إلى الشام أن المتوكل خرج يتنزه بالمحمدية، ونخلا به الكتاب هناك فأحكموا أمري معه وأنا لا أعلم، ثم بعثا إلى وأنا لا أدري لم أحضرت، فصرت إليهم وهم مجتمعون، فلخما وصلت قالوا لي: إن أمير المؤمنين قد أمر أن تخرج إلى الرقة، فكم تحتاج إلى نفقتك؟ قلت: إلى ثلاثين ألف درهم، فما برحت حتى سلموها إليَّ وقالوا: تخرج الساعة! قلت: أودع أمير المؤمنين، قالوا: ما إلى ذاك من سبيل! قلت: فأصلح أمري مدة ثلاثة أيام، قالوا: ولا إلى ذاك، ووكلوني وخرجت وأنا في حالة المتولين المنصرفين، لا المتولين المتصرفين، وحثوني لفي السير، وأنا رجل خائف مستشعر، فلما قاربت الرقة أردت الدخول إليها فأدركت الليل، وإذا بإعرابي ناحية عنا، ومعه إبل يحدوها، فتفاءلت بقوله فأصغيت إليه فإذا به يقول: كم كرَّةٍ حفَّت بكَ المكارهُ ... خارَ لكَ اللهُ وأنتَ كارهُ

ولم يزل يكررها، فقويت نفسي وزال شغل قلبي، ودخلت الرقة، فما أقمت بها أياماً حتى ورود علي كتاب المتوكل بالخروج إلى الشام للتعديل، وأجرى علي مائتي ألف درهم، ويقول: إنَّ هذا ش كان المأمون نهض فيه بنفسه لجلالته وعظم خطره، وأنه قد رآني أهلاً له! فخرجت من الرقة إلى الشام، ورأيت كل ما أحببت، حتى لو بذلت لي العراق بأسرها عوض ذاك لما طبت نفساً! 108 - وقال أبو علي القنائي: حدثن جدي قال: بكرت يوماً إلى موسى بن عبد الملك، وحضر داود بن الجراح فوقف إلى جانبي فقال: كان لي أمس خبر طريف: انصرفت من ها هنا فوجدت في منزلي امرأة من شرائف النسا، فشكت موسى بن عبد الملك إلى وقالت: قد حاول أن يأخذ ضيعتي الفلانية، وأنت تعلم أنها عمدتي في معيشتي، وأن في عنقي صبية أيتاماً، فأي شي تدبر في أمري: أبيعها له وأصبر على أذاه إلى أن يفرج الله تعالى منه؟ فقلت لها: أما التدبير في أمرك فما لي حيلة، وأما المشورة فقد قال النبطي: "لا تبع أرضك لأجل الشرير الردي، فإنه يموت والأرض تبقي" فدعت لي وانصرفت، واتفق لي وهي تحدثني بذاك أن موسى وراء الباب الذي نحن قعود عليه، فسمع الحديث، ثم خرج وقال لداود: يا أبا سليمان، لا تبع أرضك من أجل الشرير الرديء فإنه يموت والأرض تبقى؟ ومشى ومشينا وراءه فقال لي داود: هذا والله هو اتفاق الهلاك! إلى أين أهرب! أين أقصد؟ كيف أتخلص؟ أفكر لي وأشر علي قبل أن تنفد طريقنا وقبل نزولنا معه إلى الديوان!. فقلت: والله ما أدري! فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم! اكفني شره وضره فإنك عالم بقصتي وأني ما زلت إلا الخير! واشتد قلقه وكثر بكاؤه ودعاؤه، وقربنا ن الديوان، فقال موسى: متى حدث هذا الجبل الأسود في طريقنا!! ومال عن سرجه حتى سقط وأسكت، فحمل إلى منزله وكان آخر العهد به. 109 - وكتب عامل للمنصور وعلى فلسطين يذكر أن بعض أهلها وثب عليه، واستغوى جماعة منهم، وعاث في العمل، فكتب إليه المنصور: "دمك ومرتهن به إن لم تنفذه إليَّ! " فصمد له العامل حتى أخذه، ووجه به إليه، فلما مثل بين يديه قال له: أنت المتوثب على عاملنا! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه عظمك .. وكان شيخاً كبيراً ضئيل الصوت، فقال: أتروض عرسكَ بعدما هرمتْ ... ومن العناء رياضةُ الهرمِ فلم يفهم المنصور جوابه، وقال للربيع: ما قال؟ فقال الربيع: قال: العبدُ عبدكمُ والمالُ مالكمُ ... فهل عذابك عني اليومَ مصروف فقال: يا ربيع قد عفوت عنه، فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن غليه، قال الربيع: ولما خرج الرجل قصدني وخدمني، فشرحت له القصة، وكاد يموت فرقاً. 110 - وحكى أن عبيد الله بن زياد لما ربني البصرة داره البيضاء بعد قتل الحسين بن علي عليهما السلام صور على بابها رؤوساً مقطعة، وفي دهليزها أسداً وكبشاً وكلباً، وقال تفاؤلاً: أسد كالح وكبش ناطح وكلب نابح، فمر بالباب إعرابي فقال: أما إن صاحب هذه الدار لا يسكنها إلا ليلة واحدة! فرفع الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأمر بالأعرابي فضرب وحبس، فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى قيس ابن السكن، ووجوه أهل البصرة لفي أخذ البيعة له، ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه، وراسل بعضهم بعضاً في الوثوب على عبيد الله من ليلتهم، فأنذره قوم منهم، وهرب في ليلته تلك التي انتقل إلى الدار في يومها، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين تميم بسببه، حتى أخرجوه فألحقوا بالشام، وكسر الحبس، وأخرج الإعرابي ولم يعد ابن زياد إلى البصرة، وقتل في وقعة الخازر.

111 - وروى الحرمازي قال: خرج أبو العباس السفاح ذات يوم بعد فراغ مدينته التي بالأنبار متنزهاً نحو الخورنق في بعض أيام الربيع، ومعه جماعة عمومته وسائر مواليه وخاصته، فدعا بغدائه، فبيناهم على طعامهم وانبساطهم وأنسهم إذ طلع عليهم أعرابي، فوقف بإزائهم، وأشار بالسلام، فأومأ إليه أبو العباس، فدنا، فلم يزل يدنيه حتى قرب منه، وأمر بغسل يده فغسلت، وأحضره الطعام فأكل أكل نهم إلى أن انتهى، قم أقبل على السفاح فقال: بأي أنت وأمي، ما أحسن وجهك وأكرم فعلك! انتسب لي أعرفك، فتبسم وقال: رجل من اليمن، ثم من بني عبد المدان! فقال: شريف ولكني أشرف منه! فقال السفاح: فانتسب لي أعرفك! فقال: أنا رجل من قيس عيلان، ثم من بني عامر بن صعصعة، فقال السفاح: أنت لعمري شريف، ولكني اشرف منك! فقال: لا ورب الكعبة، ما بنو الحارث بن كعب اشرف من بني عامر، إلا أن تكون عارضتني في نسبك! فقال له: ما عارضتك، وإنهم لأحد طرفي، قال له: فعرفني بأبي أنت وأمي الطرف الآخر لأثبتك! قال: رجل من بني هاشم! قال: بخ بخ رهط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما قرابة بينك وبين هذا الملك؟ قال: قرابة قريبة! قال: بأبي أنت، وهو الشروي الحميمي؟ قال: نعم هو هو?! قال: يا بني اكتم علي حديثاً أحدثك عنه? قال: أفعل فقل منبسطاً، فلا عين عليك، قال: بأبي أنت، لقد رأيته وهو غليم يفعة يرمي في غرض بالحميمة، فيجمع في كنانته بعض سهامه ثم يرمي الطائر فيصيبه ثم يقربه إلى نار بالقرب منه، فحين يظن أن النار قد عملت فيه يبادر فيخرجه خوفاً أن يغلبه أحد عليه حتى ينتهشه فيأتي عليه مع لحمه وفحمه، ولا يشركه فيه عشير ولا أجير? فصاح به داود بن علي عم السفاح: اسكت فض اله فاك وأسكت نأمتك، أتدري من تخاطب؟ إنما تخاطب أمير المؤمنين: فقال السفاح: مه يا عم، ما هذه المعاشرة الفظة، رجل تكلم على الأنس والانبساط، مأذون له، مستدعى ذلك منه، بعد أن تحرم بنا رعيته وأزعجته وقطعته عن حديثه! ثم أقبل على الأعرابي فقال: تكلم عافاك الله، فلما سمع الإعرابي وما كان من داود بن علي ثاب إليه عقله وأدركه ذهنه، واستيقظ من غفلته، وانتبه لهفوته، فقال له: لقد كنت أرى في هذا الملك أمارات الخير ودلائل العلو، وأنه سيملك ما بين بيتها، لفضحك السفاح وقال له: وما تلك الدلائل؟ قال: بهد الهمة وشرف الطبيعة ولين الجانب وبذل النائل والصفح عن الجاهل يعني نفسه مع مركبه الكريم ومحتده الشريف العظيم وموضعه من النبوة، فازداد تعجب السفاح من فصاحته وحسنة بيانه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وكساه وحمله، ثم قال: يا أخا بني عامر، إن كنت رأيت ما رألأيت إذ ذاك فكان يومئذٍ الموجود، وهذا أوان الجود!. 112 - وحكي أن الحجاج انفرد يوماً من عسكره في سواد واسط، فمر ببستاني يسقي ضيعته، فوقف معه وقال: يا بستاني، كيف حالكم مع الحجاج؟ فقال: لعنه الله، المبيد المبير، الحقود الحسود، وعاء النقمة، سافك الدماء غير حلها، المفرق بين الحبيبة ونخلها، جاعل النسا أيامى والولدان يتامى، والروح شيئاً معدوماً، والمال إرثاً مقسوماً، عجل الله منه بالانتقام، وصرف معرته ومضرته عن المسلمين والإسلام! فقال له الحجاج: أتعرفني؟ قتال: لا، قال: فأنا الحجاج! فرأى البستاني دمه طائحاً وموته لائحاً، فرفع عصاً كانت بيده عليه وقال: أتعرفني، أنا أبو ثور المجنون، وهذا يوم صرعي! وأزبد وأرغى وهاج وعدا، وأراد أن يضرب رأسه بالعصا، فضحك الحجاج منه ومضى.

113 - وقيل لما قلد السفاح يحي أخاه الموصل ونواحيها، وكان مقداماً ناقص العقل، متخلفاً في جميع أمورهن وكان يفعل أشياء غير مشاكلة لشرفه وأبوته، فوجه معه السفاح بجماعة مع مشايخ الدعوة، ويقومون أمره ويسددونه، ويكاتبون الناس عنه، وكان يحيى مشتهراً بالشراب وحب المخنثين، لا يختار عليهم غيرهم، فتقدم إلى رجل بالموصل حاذقٍ بصنعة الطبول باتخاذ عدد منها، واستعمله على تقديم عملها، فتهيأ أن فرغ من واد في يوم جمعة عند النداء بالأذان، فصار به إلى يحيى في دار الإمارة وهي بقرب الجامع، وبينها وبين الجامع باب في ممر طويل قد فرش بلاط، فصادف يحيى وقد ركب بغلة محرمة، وهو ماض في الممر إلى الجامع، وعليه سواده وشايته فقال له: ابن تلك الحاجة؟ فقال: معي منها واحد فقال: هاته، فلما رآه استفزه السرور به إلى أن جعله في عنقه، ووقع عليه بيده ليذوقه بزعمه ويعرف صفاء صوته، فساعة سمعت البغلة سوته حملت به نحو الجامع، ومع المكبرون وقع حافر البغلة على ذلك البلاط فرفعوا الستر، واقتحمت به البغلة إلى وسط الناس على حالة القبيحة، فنظر الناس منه إلى منظر لم يكن في الإسلام مثله، فمن بين متعجب وضاحك وقاذف، وأخذه الحصى من جميع المسجد، فما أفلت إلا بحشاشة نفسه! وشغل الناس به عن صلاتهم، وكتب إلى السفاح بذلك فاستعظمه وصرفه ولم يستعن به مدة أيامه. 114 - وحدث أبو العباس المبرد قال: دخل خالد بن صفوان علي أبي العباس السفاح، فوجده خالياً، فقال: يا أمير المؤمنين أنا أترقب منذ تقلدت الخلافة أن أجدك خالياً، فألقي إليك ما أريده، قال: فاذكر حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين إني فكرت في أمرك فلم أرد ذا حالة في مثل قدرك أقل استماعاً بالنساء ولا أضيق فيهن عيشاً منك، لأنك قد ملكت على نفسك امرأة واحدة، واقتصرت عليه، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن غضبت حرمت! إنما التلذذ باستطراف الجواري ومعرفة اختلاف أحوالهن والاستمتاع بهن، فلو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء والسمراء اللفاء والصفراء العجزاء والغنجة الكحلا والمولدات من المدنيات والملاح من القندهاريات، ذوات الألسن العذبة والقدود المهفهفة والأصداغ المزرفنة والذي المحققة! وجعل خالد بعذوبة لفظه واقتدار تعلى وصفه يزيد في قوله، فلما فرع من كلامه قال له: واله يا خالد ما سلك شمعي قط كلام أحن من هذا، فأعد علي قولك، فقد حرك مني ساكناً، فأعاد سمعي قط كلام أحسن من هذا! فأعد علي قولك، وبقي السفاح مفكراً عامة نهاره إذ دخلت عليه أم سلمة المخزومية زوجته، فلكما رأته دائم التفكير كثير السهو قليل النشاط ارتعت له؟ فقال لها: لم يكن من ذلك شي، قالت: فما قصتك؟ فجعل يوري عنها، فلم تزل به حتى حدثه، قال: فما قلت لابن الفاعلة؟ قال لها: سبحان الله؟ رجل نصحني تسبينه، فخرجت من عنده متميزة غضباً، وأرسلت إلى خالد بجماعة من مواليها وغلمانها العجم ومعهم الكافر كوبات، وأمرتهم ألا يتركوا فيه عضواً صحيحاً، قال خالد: وانصرفت وأنا على غاية السرور بما رأيت السفاح عليه من إعجابه بما ألقيته إليه، فقعدت على بابي أتوقع صلته، فلم أشعر إلا بالغلمان، وتحققت مجيئهم بالجائزة، حتى وقفوا على رأسي، وسألوني غني فقلت: هأنذا، فبقي بعضهم بهراوته فأهوى بها إلي، فوثبت ودخلت داري، وغلقت بابي واستترت وعرفت هفوت وزلتي في فعلتي وكلمتي، وعلمت من حيث أتيت، ومكثت أياماً مستتراً، فلم أشعر ذات يوم إلى بجماعة من خدم السفاح قد هجموا علي فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأيقنت بالهلكة، فركبت معهم وأنا بلا دم، فلما دخلت عليه وسلمت فرد علي سكنت نفسي بعض السكون، وأومأ إلي بالجلوس فجلست، ونظرت فإذا خلف ظهره باب عليه ستور قد أرخيت، وأحسست بحركة خلفه، فقال لي: يا خالد لم أرك منذ أيام فاعتللت عليه، فقال لي: ويحك إنك وصفت لي آخر يوم كنت عندي فيه من أمر النسا والجواري ما لم يخرق سمعي قط مثله، فأعده عليَّ!.

قلت: نعم يا أمير للمؤمنين، أعلمتك أن العرب اشتقت اسم الضرتين من الضر، وأن أحدهم لم يكن عنده من النسا أكثر من واحدة إلا كان في جهد وكد، وقال له السفاح: ويحك لم يكن هذا في كلامك! قال: قلت له بلى، والله لقد أخبرتك أن الثلاث من النساء كأثافى القدر تغلي عليهن! قال السفاح: برئت من قرابتي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن كنت سمعت هذا منك في حديث! قلت: بلى وأخبرتك أن الأربع من النساء شر مجموع لمن كن عنده، إنهن يهرمنه وينغصن عليه عيشه ويشيبنه قبل حينه! قال: ويلك والله ما سمعت هذا قط منك ولا من غيرك! قلت: بلى يا أمير المؤمنين لقد قلت؟ قال: ويلك تكذبني؟ قلت: يا أمير المؤمنين فتريد قتلي؟ قال: مر في حديثك .. قلت: وأخبرتك أن أبكار الجواري كالرجال، ولا لا خصي لهن، قال: فسمعت ضحكاً شديداً وراء الستر، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأعلمتك أن عندك ريحانة قريش وأنه لا يجب أن تطمح نفسك إلى شي من النساء غيرها! قال خالد: فسمعت من وراء الستر: "صدقت واله يا عماه ولكن أمير المؤمنين غير وبدل ونطق عن لسانك بغير ما ذكرته له! " فقال السفاح: مالك قاتلك اله، فما رأيت قط أبهت منك! قال: فخرجت من حرضته فلم أصل إلى منزلي حتى وجهت إلى أم سلمة ثلاثة تخوت فيها أنواع الثياب، وخمسة آلاف درهم. 115 - وذكر أبو القاسم الإيادي قال: قال لي أبي أن أبا العباس السفاح لما دخل عليه مشايخ بني أمية، وكان الغمر بن يزيد بن هشام رئيسهم، فلما نظر إليه السفاح قال الغمر: عبدُ شمسٍ أبوكَ وهوَ أبونا ... لا نناديكَ من مكانٍ بعيدِ والقراباتُ بيننا وأشجاتٌ ... محكمات القوى بعقدٍ وكيدِ فأعده على سرير ملكه ثم قال له: إني أحب أن أخلطكم بنفس، وأقعدهم يميناً وشمالاً، إذ دخل عليه سد ف بن ميمون، فأنشده: عمر الدينُ فاستنارَ مليا فلما أتى على آخر القصيدة قال السفاح: يا بن هشام وكيف ترى شاعرنا؟ قال لنحينه وإدبار بني أمية إن شاعرك وإن شاعرنا لشاعر! قال: وما قال شاعركم، قال: قال: شمسُ العداوةِ حتى يستقادُ لهمْ ... وأعظمُ النَّاسِ أحلاماً إذا قدروا فهاج من أبي العباس عرقٌ كان قد سكن، وقال: وما قال شاعركم أيضاً؟ قال: قال: لو تحملُ السُّحبُ والأجبالُ مثقلةً ... أحلامهم تركت عقري الأباهيرِ لا يعبثونَ إذا لجَّت مخاصرهم ... زينُ المجالسِ فرسانُ المنابيرِ فدر عرق بين عيني السفاح، واحمرت عيناه، ثم ضرب بيده على فخذ الغمر وقال: طعمت أميَّةُ أن تجاوزَ هاشمٌ ... عنها ويذهبَ زيدها وحسينها كلاّ وربِّ مُحمدٍ ومليكهِ ... حتَّى يبيدَ كفورها وخؤونُها فتذلَّ ذلَّ حليلةٍ لحليلها ... بالمشرفي وتستقصَّ ديونها ثم قال لهم: قوموا! فقاموا إلى مقصورة كانوا نزلوها، ثم دعا ثلاثة وسبعين رجلاً من أهل خراسان فأعطاهم الخشب وقال: أشدخوهم، فشدخوهم، قال سديف: فوالله ما خرجت من الأنبار حتى رأيتهم منكبين لعراقيبهم، وقد نهشت الكلاب رؤوسهم. 116 - ولما حاصر عبد الله بن علي دمشق لم يقدر عليها حتى وقع الخلف بين اليمانية والمضرة من أهلها، واختلفوا وتلاعنوا في المساجد، واقتتلوا بالأيدي والنعال، فآل ذاك إلى فتحها له، وفي مدة ذلك الخلف نصبوا في الجامع قبلتين: هؤلاء يخطبون لبني هاشم ويصلون، وأولئك يخطبون لبني أمية ويصلون، فأقاموا شيخاً لهم يوماً فقالوا له: قم واخطب وعير الناس بالفرقة، وحثهم على الجماعة والألفة، وذكرهم بالله تعالى والإسلام وصلة الرحم، وكمان الشيخ مغفلاً، فقام فخطبهم وحض على الألفة والصلح والجماعة، ثم قال: فأصبحتم كمنا قال الله تعالى: "فريقٌ في الجنَّةِ وفَريقٌ في السَّعيرِ" فتضاحكوا منه تفرقوا عنه. 117 - وحدث أبو العباس ثعلب قال: حدثنا الزبير بن بكار عن أبي عثمان بن عمر التيمي قاضي مروان بن محمد قال: رأيت في منامي كأن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية ناشرة شعرها وهي واقفة على مرقاتين من مراقي منبر الرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تنشد بيتين من قصيدة الأحوص التي أولها: يا بيتَ عاتكة الذي أتغزَّلُ ... حذرَ العدا وبهِ الفؤادُ موكَّلُ أين الشبابُ وعشنا اللذُ الذي ... كنّا به زمناً نرُّ ونجذلُ

ذهبت بشاشته واصبحَ ذكره ... حزناً يعلُّ الفؤادُ وينهلُ قال أبو عثمان التيمي: فلم يكن بين ذلك وبين الحادثة على بني أمية إلا أقل من شهر. 118 - ووجدتن بخط محمد بن سعد قال: كان الحزار يقول: من أعجب أحاديث مروان بن محمد رواه المدائني قال: لما حاصر مروان تجمر فظفر بها وهدم سورها، أفضى إلى جرن طويل، فلم يشك مروان والحاضرون أن تحت كنزاً، فنبشوه، وإذا امرأة مسجاة عظيمة الخل على قفاها، فوق سرير من حجارة، عليها سبعون حلة منسوجة بالذهب جرباناتها، ووجد لها غدائر من رأسها إلى رجليها، فذرع قدمها فكانت كعظم الذراع، وكان طولها سبعة أذرع، وغذ عند رأسها صفيحة من نحاس مكتوب عليها بالحميرية، فطلب من يقرؤه، فإذا فيه: "أنا تجمر بنت حسان بن أذينة بن السميدع بن هرمزة العماليقي، من دخل على بيتي هذا فأزعجني منه حتى يراني أدخل الله عليه المهانة والذل والصغار! ". فلما قرء الكتاب على مروان عظم عليه، وندم على ما كان منه، وتطير بذلك، وجعل يسترجع، ثم أمر بطبق الجرن، وأن يرد إلى موضعه، وما كان ذلك بين الظفر به وزوال الملك عنه وقتله واستباحة حريمه وحرمه إلا شهور! 119 - ولما آمن المنصور ابن هبيرة حضر عنده وأقام في معسكره، فقال يوماً للمنصور وهو يحاوره: "إيها لله أنت! " ثم قال: أستغفر الله، فرب العهد والله بالإمارة أنساني ما صرت إليهن وكانت هذه كلمته يقولها كثيراً، فغلط فخاطب بها المنصور، ثم استرجع. 120 - ودخل عيى بن عل على أبي العباس السفاح ف علته التي توفي فيها فقال له: يا أمير المؤمنين قد اصبح وجهك مسفراً ومنتك قوية! فقال: لا تقل هذا فإني أصبحت وقد استشعرت الموت، وما أراني أعيش بعد يومي هذا إلا أربع ليال، فقال: أعيذك بالله! قال: هو والله ما قلت لك، قال: وما السبب في ذلك؟ قال: لأني رأيت البارحة في منامي كان آتياً فقال انزع عنك ثيابك فإن المرض قد دنها، قلت: فإن المريض يلبس الثياب الدنسة، قال: لم أرد الثياب إنما أردت الخلافة! قال فهتف به هاتف سمعت صوته ولم أره فقال: لا تعجل، اتركها عليه أربعاً ثم خذه بنزعها، فقال: أربع ماذا؟ فقال: أربع ليال، قال له: فإلي من أدفعها، قال: إلى عبد الله الطويل، فإنه قد استحق لبسها، قال عيسى: فجزعت من قوله، وذهبت لأشجع نفسي وأقوي قلبه، فقال لي: اله عن هذا فقد استيقنت أني لا أعيش أكثر من هذه المدة! وجدد البيعة لأخيه، ومات بعد أربع ليال. 121 - وحدث أبو محمد بن عبد اله بن الحسن عن أبي خثيمة قال: نظر أبو العباس السفاح يوماً وجهه في المرآة، وكانت له وفرة تبلغ شحمة أذنه، وكمان من أحمد الناس وجهاً، فأعجب بنفسه وقال: الله عمرني في طاعتك طويلاً ممتعاً بالعافية، فسمع غلاماً يخاطب آخر في شي كان بينهما فقال له: ميعادك إلى شهرين، وهو آخر ما بيني وبينك! فتطير السفاح من ذلك وجزع جزعاً شديداً وقال: اللهم إنه لا حول ولا قوة لي إلا بك! فيقال إنه لم تمض عليه أيام حتى مرض، وكان موته بعد شهرين من نظره في المرآة. 122 - ووجد بخط إسحق بن سعيد قال: حدثنا عمر بن شبه قال: لما فرغ السفاح من بناء مدينته بالأنبار، وذلك في ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومائة قال لأبي محمد عبد الله بن حسن بن حسن: يا أبا محمد ألا تحب أن ترىمدينتنا هذه؟ ثم أخذ بيده يماشيه ويطوف معه فيها، فلما توسطها أنشد عبد الله بن حسن متمثلاً: بيننا يوسّع في الدنيا مدينتَه ... قاسوا له جدثاً ضنكاً بمقياس فأنكر ذلك أبو العبا، وتطير من إنشاده وتغير له وجهه، وعرف عبد الله خطأه فجعل يتنصل إليه ويحلف أنه ما تعمد ذلك، ولكنه رمي به على لسانه، فقبل ذلك منه قبول كاره جزعٍ. 123 - وقال المنصور: صحبت رجلاً ضريراً إلى الشام وهو يريد مروان بن محمد بشعر مدحه به، فسألته أن ينشدنيه فأنشد: ليتَ شعري أفاحَ رائحةُ الطِّي ... بِ وما إنْ إخال بالخيف إنْسي حين غابت بنو أميةَ عنهُ ... والبهاليلُ من بني عبدِ شمسِ خطبهُ على المنابر فرسا ... نٌ عليها وقالةٌ غيرُ خرسِ لا يعابونَ صامتينَ وإن قا ... لوا أصابوا ولم يعابوا بلبسِ بحلومٍ إذا الحلوم ستخفت ... ووجوه مثل الدنانير ملسِ

قال: فو الله ما فرغ من إنشاده حتى ظنت أن العمر قد أدركني، وحججت في سنة إحدى وأربعين ومائة، وأنا خليفة، فنزلت عن الجيزة أمشي في جبلي زرود لنذر كان علي، فإذا أنا بالضرير، فأومأت إلى من معي أن تأخروا، وتقدمت إليه فسلمت عليه، وأخذت بيده، فقال: من أنت جعلني الله فداك، قلت: رفيقك إلى الشام وأنت تريد مروان بن ممد، فسلم علي وأنشأ قول: آمتْ نساءُ بني أميَّةَ بعدهم ... وبناتهم بمضيعةٍ أيتامُ نامتْ جدودهمُ وأسقطَ نجمهم ... والنَّجمُ يسقطُ والجدودُ تنامُ خلتِ المنابرُ والأسرَّة منهمُ ... فعليهم حتَّى المماتِ سلامُ قلت له: كم كان مروان أعطاك؟ قال: أغناني فلا اسأل أحداً بعده، أعطاني أربعة آلاف دينار، وملكني الجواري والغلمان، قلت: وأين ذاك؟ قال: بالبصرة، قال المنصور: فهممت به ثم ذكرت حرمة الصحبة، فقلت له: أتعرفني؟ قال: ما أثبتك من معرفة ولا أنكرك من سوء، قلت: أنا المنصور أمير المؤمنين، فوقع عليه الرعدة ثم قال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغضِ من أساء إليها! فانصرفت عنه، فلما نزلت المنزل بدا لي في مسامرة الضرير، فتقدمت بطلبه فلم يُر. 124 - وقيل إن رجلاً وقف على شيرويه بن أبرويز، وقد رجع من المياد، فأراد مدحه والدعاء له والتقرب إليه فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يدك، وملكك ما كنت أحق به منه وأراح آل سلسان من جبريته وعتوه وبخله وكبره، فإنه كان يأخذ الأجنة، ويقتل بالظن ويخيف البريء ويعمل بالهوى! فقال شيرويه لبعض حجابه: احمله إلي، فحمله، فقال: كم كان رزقك في حياة أبرويز؟ قال: رزقي الآن لم يزد ولم بنقص، قال: فهل ترك أبرويز فانتصرت منه بما سمعت من كلامك الآن، قال: لا والله، قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه ولم يكن له إليك ما يقتضيه؟ قال: أردت أيها الملك شكرك والثناء عليك، فأخذني لساني بما سمعت وجذبني إلى ما رأيت! فقال: انزعوا لسانه من قفاه، ففعل به ذاك، وقال شيرويه: لحق ما يقال: إن الخرس خير من البيان بما لا يجب!. 125 - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جهير قال: قصدت ملك الروم، في رسالة زعيم الدولة أبي كامل بركة بن المقلد أمير بني عقيل، فرأيت ابن بطلان الطبيب هناك، فأنس بي وخدمني وأكرمني فقلت، له يوماً: اجتزت بطرسوس فرأيت قبر المأمون شعثاً دراساً، فغمني ذاك، فلو أمر الملك فيه بالعمارة لكان له فيه الجمال وحسن الأحدوثة! فقال لي: أحدثك بشيء ط ريف، رأيت القبر عند قصدي لهذا الملك وأردت أن أحثه على هذه المكرمة، واعتزمت يوماً على ذاك، وابتدأت لأذكر محاسن المأمون وآثاره الجميلة التي تحث مثل هذا الملك على ما رمته منه في معنى قبره، فلم تق خطيئة أو غلطة أو نادرة، من قبيح المأمون إلا أوردتها، وهو يضحك ويستهزئ، فتعذر علي ما أردته من قصدي، وأمسكت على ذاك، ولم يبق لي سبيل إلى ما أردته فيه، ورأيت في منامي في تلك الليلة كان المأمون يقول لي: لا أحسن الله جزاك عني، محاسني وأفعالي الجميلة قد طبقت الأرض فما ظفرت منها بحكاية ولا خبر ولا حديث قبحك الله! فانتبهت منزعجاً، وبقيت مما اتفق لي متعجباً!.

قال الوزير: فحصل ذاك في نفسي، فاتفق أن حضرت يوماً عند الملك وقد جلس فيه للمظالم، فحكم وأمر وأنصف وعدل، وفعل كل فعل جميل مليح استحسنه منه حسدته عليه، وحضرت امرأة تدعي ضيعة غصبها ولده عليها، فحكم لها بها عليه، وانتزعت الضيعة منه وردها إليها، فذكرت خبر المأمون والعباس ابنه مع المرأة التي شكت من اغتصابه ضيعتها وحكمه لها بها وأخذها منه وإعادتها، فأوردته عليه فحين سمعه طرب له وأعجب به، وقال للبطارقة ومن كان حوله: أما ترون إلى اتفاق فعلي وفعل صاحبهم، وزاد في استحسان ذلك وفي ذكره، فقلت: أيها الملك، وداك الإمام في جوارك، وقبره دارس، ولو تقدمت بعمارته لكن لك فيه الجمال الأكبر والذكر الأزهر! فلم يجيبني عن ذاك، وجاء الشتاء فلم يمكنني الرحيل، وأقمت إلى الربيع وانتجزت حوائجي، وخرجت عائداً إلى العراق، فتبعني بعض أصحابه في الطريق، فلما انتهينا إلى مرحلة من طرسوس قال لي: تدخل إلى طرسوس وتشاهدها؟ قلت: ليست طريقنا، ولا بي حاجة إلى تكلف مرحلتين مضياً وعوداً حتى أراها! فأعاد القول، فامتنعت، فقال: الملك أنفذني معك لذلك، ولابد منه! قلت: هذا لا دفع له، ودخلت طرسوس، وحملني إلى قبر المأمون، وقد عمل عليه مشهد وقبة كبيرة، وأنفق على ذلك جملة، فدعوت للملك وشكرته، وعدت إلى طريقي. 126 - لما بنى ابن زياد بيضاء البصرة أمر أصحابه أن يسمعوا من أفواه الناس ما قولون، فأتى برجل وقيل إنه لما رآها تلا: "أتبنونَ بكلِّ ريعٍ آيةً تعبثونً، وتتخذونَ مصانعَ لكم لعلَّكمْ تخلدون،" فقال زياد: ما حملك على ما قلت؟ قال: لم يكن أيها الأمير عن قصد وإنما آية خطت على قلبي فقرأها لساني، لا روية لي فيها ولا نية، قال: فو الله لأعلمن فيك بالآية الثالثة، "وإذا بطشتمْ بطشتمْ جبارينَ"، وأمر به فبنى ركنٌ من أركان القصر عليه!.

127 - وكانت الأكاسرة إذا امتحنت الواحد من أصحابها وخف على قل الملك، وكان عالماً بالحكمة موضعاً للأمانة في الدماء والفروج والأموال على ظاهره، وأحبوا أن يمتحنوا باطنه، أمر أحدهم بأن يحول الرجل إلى دار الملك وأن يفرد له حجرة يقيم بها مه غيره أن يفسح له في تحويل حرمه إليها، ويقول له: إني أريد الأنس بك في نهاري وليل، ومتى كان معك حرمة قطعتك عني، فاجعل منصرفك إلى منزلك في كل خمس ليال ليلة، فإذا تحول الرجل أنس به وخلا معه، وكان آخر من ينصرف من عنده، فيدعه على هذه الحال شهراً، ثم يمتحنه بالنسا: فامتحن أبرويز يوماً رجلاً من خاصته بهذه المحنة، ودس إليه جارية من جواريه ووجه معها إليه بألطاف وأمرها ألا تقعد عنده، ففعلت وانصرفت أنفذها في المرة الثانية بمثل ذلك، وأمرها أن تقعد بعد تسليم الهدية هنيهة، ففعلت، ولاحها الرجل وتملها وانصرفت، فلما كانت المرة الثالثة أمرها أن تطيل القعود عنده وأن تحدثه، فإنه أرادها على الزيادة في المحادثة أجابته إليها، وجعل الرجل يحد النظر إليها يسر بمحادثتها، ومن شأن، النفس أن تطلب الغرض بعد ذلك، فأبدى شيئاً كمن ذلك لها، فقالت: أخاف أن يعثر علينا، ولكن دعني حتى أدبر في هذا ما يتم به الأمر بيننا من غير أن يشعر بنا! وانصرفت فأخبرت الملك بكل ما جرى بينهما، فوجه غيرها من خواص جواريه، واعتمدت مثل ذلك، فلما جاءته المرة الأولى قال لها: ما فعلت فلانة؟. قالت: عليلة، فاربد لونه، وفعلت الثانية ما فعلت الجارية في المرة الأولى وفي الثالثة دعاها إلى ما دعا تلك الأولى فقالت: إنك من الملك قريب على خطىً يسيرة ومعه في دار واحدة، ولكن الملك يمضي بعد ثلاث إلى بستانه الفلاني فيقيم هناك، فإن أرادك على الذهاب معه فأظهر له أنك عليل، وتمارض فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك أو المقام هاهنا فاختر المقام ها هنا، وأخبره أنك لا تقدر على الحركة، فإن أجابك إلى ذلك جئت إليك كل ليلة، وأقمت عندك إلى آخر النهار، ما دما الملك غائباً عن داره، فسكن إلى قولها، وانصرفت، فأخبرت الملك بذلك، فلما كمان بعد ثلاث دعاه الملك فقال للرسول: أخبره أني عليل، فلما عاد الرسول بذلك تبسم أبرويز وقال: هذا أول الشر! فوجه غليه خفة حمل فيها غليه، وهو معصب الرأس، فلما بصر أبرويز به قال: والمحفة شر ثانٍ، وتبين العصابة فقال: والعصابة شر ثالث، فلما دنا من الملك سجد، فقال له: متى حدثت هذه العلة. قال: في هذه الميلة، قال له: فأي الأمرين أحب إليك، الانصراف إلى نسائك لتمريضك أو المقام هاهنا إلى وقت رجوعي؟ قال: المقام هاهنا أيها الملك أرفق بي لقلة الحركة، فتبسم وقال: ما صدقت، حركتك هاهنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك؟ ثم أمر له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنى، فأيقن الرد بالشر، وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً، فيقرأ على الناس إذا حضروا، وأن ينفي إلى أقصى المملكة، وتجعل العصا في رأس رمح يكون معه أين كان، ليحذر منه من لا يعرفه، فلما نفى من المدائن أخذ من بعض الموكلين به مدة كانت معه فجب بها ذكره، وقال من أطاع عضواً صغيراً من أعضائه فسد عليه جميع أعضائه، ومات من ساعته.

128 - وأخطأ بعض خاصة أنوشروان في ذلك بتعريضه لحرمة لأنوشروان، واطلع أنوشروان على ذلك فلم يدر كيف يقتله، غذ ليس بأمر ظاهر الحكم فيه، ولا وجوب القتل عليه، ولم يطب نفساً بالإمساك عنه والسلو عن الانتقام منه ولم يستحسن أن يكشف ذنبه لما في ذاك من الوهن عليه وعلى الملك والسياسة والتدبير، فدعا بالرجل من بعد سنةِ من خطيئته، وخلا به وقال له: حز بني أمر من أسرار ملك الروم، وبي حلاجة إلى عملها، وما أجدني أسكن إلى أحد سكوني إليك إذ حللت من لبي المحل الذي أنت به، وقد رأست أن تحمل مالاً إلى هاك للتجارة وتدخل إلى بلاد ملك الروم فتقيم بها، وإذا بعت ما معك حملت مما في بلادهم معك إلى هاهنا، كما يفعل التجار في تجارتهم، وفي خلال ذاك تصغي إلى أخبارهم وتطلع على أسرارهم، وتأتيني بجميع ما تتمكن منه في ذاك، فقال: السمع والطاعة لأمر الملك، فأمر له بمنال، وتجهز وخرج بتجارته إلى بلاد الروم، وأقام بها باع واشترى، وفهم لغتهم وكلامهم، واطلع به على بعض أسرار ملكهم، وانصرف إلى أنوشروان بذاك، فأظهر له الاستبشار بفعله وزاد في بره، ورده وأمره بالمقام والتربص بالتجارة ففعل حتى عرف واستفاض أمره بينهم، فلم تزل تلك حالة ست سنين حتى إذا كانت السابعة أمر الملك أن تصور صورة الرجل في جام من جاماته الذهب التي يشرب فيها، وتجعل صورته بإزاء صورة أنوشروان مخاطباً له ومستمعاً منه ومدنياً رأسه من رأسه في تلك الصورة، كأنه يسر إليه، ووهب لجام لبعض خدمه وقال له: إن الملوك يرغبون في مثل هذا الجام فادفعه إلى فلان إذا خرج إلى بلد الروم بتجارته ليبيعه لك من الملك نفسه ويجيئك من ثمنه بما يكون غناك وغنى عقبك، فحمل الخادم الجام إلى الرجل، وقد شد رحله ووضع رجله في الركاب، فسأله أن يبيع له الجام من الملك نفسه، فقال له: السمع والطاعة، وأمر بدفع الجام إلى الخازن، وقال له: احفظه فإذا صرت ملك الروم فاحمله في جملة ما تحمل للعرض عليهن ففعل، فلما وقع الجام في يد ملك الروم نظر إليهن ونظر إلى صورة أنوشروان في الجام وصورة الرجل، وكان الصانع قد أحسن التشبيه، فقال الرجل: خبرني هل يصور مع صورة ملككم صورة رجل خسيس، قال: لا، قال: فهل في داره اثنان يتشبهان شهاً لا يفرق به بينهما؟ قال: ما أعلم ذاك، قال له: قم قائماً، فقام، فوجد صورته في الجام، ثم قال: أدبر، فأدبر، فتأمل الصورة فلم يختلفا عليه، ولم يحسر التاجر أن يسأل الملك عن ضحكه، ثم قال: الشاة أعقل من الإنسان إذا كانت تخفي مديتها وتدفنه، وقد أهديت إلينا هذا مديتك بيدك? ثم قال له تغديت؟ قال: لا، قال فقربوا إليه طعاماً، فقال: أيها الملك أنا عبدٌ والعبد لا يأكل ين يدي مولاه، فقال له: أنت عبد ما دمت عند ملك الروم مطلعاً على أموره مستنبطاً لأسراره، وملك إذا قدمت بلاد فارس ونديم ملكها، أطعموه، فأطعم وقد أحس بالشر، إلا أنه لا يفهم، معنى ما يخاطب به، وأمر بأن يسقى، فسقي الخمر حتى إذا ثمل قال له: إن يقتل لا جائعً ولا عطشان، وأمر فأصعد إلى سطح كان يشرف منه على كل من في المدينة إذا صعد إليه فضرب عنقه هناك، وألقيت جيفته من السطح، ونصب رأسه الناس، فلما بلغ كسرى ذلك أمر صاحب الجرس أن يضرب بأجراس الذهب ويمر على دور نسائه وجواريه ويقول كل نفس ذائقة الموت إذا وجب عليها القتل، وفي الأرض يقتل، إلا من تعرض لحرمة الملك فإنه يقتل في السماء فلم يدر أحد من الناس ما أراد بذلك. 129 - عن سندي بن شاهك قال: إني على رأس المنصور وهو يتغدى، ومعه يزيد بن أسيد فبيناهما يأكلان وكان يزيد فأفاءً شديداً إذ قال له المنصور: كم ولدك، ففأفأ له ساء ثم قال: فلان وفلان، وبدرت من فيه قطرة وقعت في صحفة المنصور، فامتقع لونه وزال عقله، ورأى المنصور ما به، فأدخل يده في الصحفة وأكل منها لقمة أو لقمتين، فو الله ما رأيت صنيعاً أشرف ولا أجمل منه.

130 - وحكى حماد بن إسحق ن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: بعث إلي إبراهيم بن المهدي يوم دجن، فلما دخلت عليه ألقيته لا يعقل خماراً، فقال: إسحق، قلت: لبيك أيها الأمير، قال: أما ترى طيب هذا اليوم؟ قلت: قد رأيت فما حق مثله، قال: الصبوح وكيف لي به، أنا على ما ترى! قلت: يدعو الأمير بالطعام فنأكل بحضرته فلعله ينشط، قال: ذاك، فأحض الطعام، وجعلت آكل ولقمة، فأكل على كره، فلما غسلنا أيدنا قال: ويحك قد أكلت على كره، فكيف لي بالشراب، قلت: أيها الأمير يحضر الشراب فنشرب بحضرتك فلعلك تنشط، قال: وذاك فدعا الشراب فشربنا بحضرته، وعللته حتى شرب، فلما دارت الأقداح قال: يا إسحق، قلت: لبيك، قال: أريد أن أخصك فأسمعك غناء لم تسمع مثله، قلت: وكيف لي بذاك؟ قال: يا غلام أخرج شارية ومعمعة، فخرجت صبيتان لم أر أحسن منهما، فغنتا فلم أسمع بأطيب منهما، فشرب وشربنا حتى عمل فيه النبيذ، فقال: يا إسحق كم تساوي شارية؟ فقلت: وأنا أظن أنه أكثر من أثمان الجواري، مائة ألف درهم، فدارت عيناه في رأسه وحذفني بقضيب كان في يده وقال: يا بن الفاعلة تقول هذا لشارية وتضع من قدرها، خذوا برجب ابن الفاعلة، فخرجت مطروداً محروماً. ومضت الأيام على ذلك، وقعد المعتصم للشرب، فانحصر الملهين والندماء فحضرت وقد عددت عشرة أصوات في عشرة ألحان، وأجهدت نفسي فيها، وظننت أني أنال بها الغاية القصوى فلما دخلت رأيت بين يديه عشر جامات فضة، في كل جام مائة مثقال مسك وخمسمائة دينار جدد، فقال: من غناني فأطربني فله جام، فقلت في نفسي: أنا والله صاحب العشر وشددت حيازيمي وغنيت بصوت من الأصوات التي كنت أعددتها، فطرب طرباً شديداً وقال: أحسنت والله يا إسحق. وقد كان إبراهيم بن المهدي تخلف في ذلك اليوم فقضى أن جاء في ذلك الوقت، فدخل بغير إذن، وسلم وقعد في أخريات الناس، فغلظ على المعتصم فعله وقال: هاهنا يا عم! قال: لا أقعد إلا حيث انتهى بي المجلس، قال: وكيف تقول ذاك؟ قال: لأنك تفردت بقصفك ولم ترسل إلي! قال: والله أبقيت إلا عليك، فلم يزل به حتى ترضاه وأقعده إلى جانبه، وقال: يا عم أما ترى هذا الخبيث قد أقام القيامة، قال: بماذا يا أمير المؤمنين! قال: غناني فأطربني، قال: يعيد الصوت، فأعدته، فسمع حتى عرف طريقته، ثم قال: ما عمل شيئاً، إن شئت غنيتك في هذه الطريقة عشرة أصوات كلها أطيب من هذا؟ قال: يا عم فأخذ العود فتغنى فكان والله غناؤه أطيب، فقل: أحسنت والله، يا غلام ضع الجام بين يدي عمي، فقلت في نفسي: ذهبت والله واحدة، وغنيت صوتاً آخر قطعت فيه أوداجي، فطرب وقال: أحسنت يا إسحق، ما التفت إلى إبراهيم فقال: أما ترى! قال: يا أمير المؤمنين إن شئت غنيتم في هذه الطريقة عشر أصوات كلها أطيب من هذا؟ قال: وذاك، فغنى وأجاد فطرب المعتصم وأمر الغلام أن يترك بين يدي إبراهيم جاماً أخرى، فلنم تزال والله تلك حالي وحاله حتى أخذ الجميع، وخرجت أخيب الناس حتى صرت بالباب، فلحقني إبراهيم وضربني وقال: هيه كم تساوي شارية؟ فقبلت رجله وقلت: يا سيدي والله العظيم ما ظننت أن ثمناً يكون أكثر من مائة ألف درهم، وما العيب في ذاك عليها، وإنما هو نقصان عقل وعلم مني، فأقلني أيها الأمير فهي تساوي ألف ألف دينار، فضحك وقال: الحقني إلى المنزل، فصرت إليه وحدثته حديث الجامات وما كان في نفسي من مرها وما اتفق من مجيئه وحرمانه لي إياها، فضحك وقال: لعمري إني حرمتك ولكن أنصبك منها، وقاسمنيها. 131 - وحضر محمد بن عيسى بن علي بحضرة المنصور، والمنصور يأكل وحده، فدعاه إلى الغداء فقال: أنا شبعان يا أمير المؤمنين، فلما خرج أخذه الربيع وضر به بحضرة أهل بيته، فظنوا أن المنصور أمر بذاك، فمضى إلى أبيه يبكي، فجاء عيسى إلى المنصور وخلع سيفه بين يديه، وضج من فعل الربيع، فقال: ما أمرت بذاك، ولم يفعل الربيع ما تذكره إلا لأمر يقتضيه، واستدعى الربيع وسأله عن خبره فقال: أمرته يا أمير المؤمنين أن يتغدى معك، فقال: أنا شبعان، وإنما دعوته لتشرفه لا لتشبعه، فأدبته إذا لم يؤدبه أبوه! فقال المنصور: أحسنت، قد علمت أنك لا تخطئ.

132 - قال إسحق بن إبراهيم حدثني ابن عائشة عن يونس النحوي قال: مات رجل من جند أهل الشام فحضر الحجاج جنازته، وكان عظيم الوجاهة، فصلى عليه الحجاج، وجلس على شفير قبره وقال: لينزل في القبر بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوي المبن عليه: يرحمك الله أبا قنان إن كنت ما علمت تجيد الغناء وتسرع رد الكأس، ولقد رفعت في موضع سو لا تخرج منه أبداً إلى يوم الذكر! قال: فلم يتمالك الحجاج أن ضحك، وكان الحجاج قليل الضحك في الجد والهزل، وقال: هذا يوم ذا لا أم لك، قال: أصلح الله الأمير، فرس حبيس في سبيل اله لو سمعته وهو يغني: يا لبينى أوقدي النارا ... إنَّ من تهوينَ قد حارا ربَّ نارٍ بتُّ أرمقها ... تقضمُ الهنديَّ والغارا عندها ظبيٌّ يؤرِّثها ... وتخالُ الوجهَ دينارا لطربت على غنائه، فقال الحجاج: أخرجوه من القبر لعنه الله! ثم قال: يا أهل الشام ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم! ولم يبق أحد حضر الموضع إلا استفرغ ضحكاً. 133 - وحكى لي الرئيس أبو الحسين والدي قال: كنت عند الشريف أبي الحسن محمد بن عمر العلوي وقد حضر بعض متقدمي نواحيه بشكوى فأحضره وقال له: مالك؟ فقال: يا سيدنا هو ذا نصفع اليوم سبعة أيام على رأسك؟ فضحك منه وقال: أخرج قبحك الله! فأخرج وضحك الحاضرون. 134 - وحدثني بعض الأصدقاء قال: جاء ني .. الملقب بفخر الحجاب أحد حجاب الدار الخليفية يعزيني عن ولد لي، فقال لي: أيها السيد قال الله تعالى: إن تذهب الجلةُ فالسخلُ هدر! قال: فضحكت وضحك من كان حاضراً، ونهضت!. 135 - لما مات عبد الملك بن مروان جاه الوليد ابنه، فأنشد هشام بن عبد الملك، وكان أصغر ولده: فما كانَ قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ ... ولكنَّهُ بنيانُ قومٍ تهدما فلطمه الوليد على فمه وقال: اسكت يا بن الأشجعية، فإنك أحول أكشف تنطق بلسان شيطان! ألا قلت: إذا مقرمٌ منا ذرا حدُّ بهِ ... تخمَّطَ فينا نابُ آخر مقرمِ 136 - وأنشد جرير لعبد الملك بن مروان بعد أن أقام دهراً على بابه، وتسأله قيس وتشفع فيهن وهو لا يجيب إلى مسماع شعره ومدحه، ثم أذن في ذلك، فابتدأ وأنشد: أتصحو بل فؤادك غيرً صاحِ ... عشيَّةَ همَّ صحبكَ بالرواحِ فقال عبد الملك: بل فؤادك يابن اللخناء! فحصر جرير واغتم كيف اتفق له مثل ذلك بعد امتناعه من سماع إنشاده!. 137 - وحدث زياد بن عبيد الله الحارثي قال: خرجت وافداً إلى مروان بن محمد في جماعة، فلما كنا ببابه دفعنا إلى ابن هبيرة، وهو على شرطته وما وراء بابه، فتقدم الوفد رجلاً رجلاً، كلهم يخطب ويطنب في مروان وابن هبيرة، فجعل ابن هبيرة يبحثهم عن أنسابهم، فكرهت ذاك وقلت: إن عرفني زادني ذلك عنده شراً، فلطيت وجعلت أتأخر رجاء أن يمل كلامهم فيمسك، حتى لم يبق غيري، فقدمني، فلو أجد بداً ما كرهت، فتكلمت بدون كلامهم، وإني لقادر على الكلام، فقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل اليمن، قال: من أيها؟ قلت: من مذحج، قال: إنك لتطمح بنفسك، اختصر! قلت: من بني الحارث بن كعب، قال: يا أخا بني الحارث إن الناس ليزعمون أن أبا اليمن قردٌ فما تقول في ذلك؟ قلت: وما أقول أصلحك الله! إن الحجة لفي هذا لغير مشكلة، فاستوى قاعداً، وقال: وما حجتك؟ قلت: تنظر كنية القرد فإن كان بكنى "أبا اليمن" فهو أبوهم وإن كان يكنى "أبا قيس" فهو أبو من كني به! فنكس وندم ونكت الأرض وتعلم أنه هفا فيما واجهني بهن وجعلت اليمانية تعض على شفاهها، تظن أن قد هربت، والقيسية تكاد تزدردني، ودخل الحاجب إلى مروان، ثم رجع، وقام ابن هبيرة فدخل عله أيضاً ثم لم يلبث أن خرج، فقال الحارثي: فقمت على مروان وهو يضحك، فقال: إيه عنك وعن ابن هبيرة! فقلت: قال كذا وقلت كذا، فقال: أيم الله لقد حجبته، أو ليس أمير المؤمنين يزيد الذي يقول: تمسك أبا قيسٍ بفضل عنانها ... فليسَ عليها إن هلكت ضمانُ فلو أرَ قرداً قبلنا سبقتْ به ... جيادَ أميرِ المؤمنين أتانُ وهذان البيتان ليزيد بن معاوية، وذاك أنه حمل قرداً على أتان وحشية، وسبق بينها وبين خله، فسبقت الأتان وعليها القرد قال زياد:

فخرجت وخرج ابن هبيرة فوضع يده بين منكبي وقال: يا أخا بني الحارث، والله ما كان كلامي إياك إلا هفوة، وإن كنت لأربأ بنفسي عن مثل ذلك، ولقد سرني كيف لقنت علي الحجة، ليكون ذلك أدباً لي فيما استقبل، وأنا لك بحيث تحب، فاجعل منزلك عليَّ! ففعلت، وأكرمني وأحسن إليَّ!. 138 - وغنى علوية بين يديى المأمون: برئتُ من الإسلامِ إن كانَ ذا الذي ... أتاكِ به الواشونَ عنِّي كما قالوا ولكنَّهم لما رأوك سريعةً ... إليَّ تواصوا بالنميمةِ واحتالوا وقد صرتِ أذناً للوشاةِ سميعةً ... ينالون من عرضي ولو شئتْ ما نالوا فقال المأمون لعلوية: لمن هذا الشعر؟ قال: للقاضي، قال: أي قاضٍ؟ قال: قاضي دمشق، فأقبل على أخيه المعتصم وقال له: أعزله، قال: قد عزلته، قال: فليحضر الساعة! فأحضر شيخ خضيب ربعة، فقال له المأمون: من تكون؟ فنسب نفسه، فقال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله .. قال: يا علوية أنشده الشعر، فأنشده، قال: نعم يا أمير المؤمنين، وبرئ من الإسلام ونساؤه طوالق وعبيده أحرار وماله في سبيل الله إن كان قال شعراً منذ ثلاثين سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق! فقال للمعتصم: اعزله يا أبا إسحق، فما كنت لأولي الحكم بين المسلمين من يبدأ في هزله وجده بالبراءة من الإسلام، ثم قال: اسقوه، فأتي بقدح فيه شراب فأخذه بيده وهي ترعد، ثم قال: يا أمير المؤمنين، الله الله، ما ذقته قط! قال: فلعلك تريد غيره؟ قال: لم أذق منه شيئاً قط! قال: أفحواهم هو؟ قال: نعم، فقال المأمون: أولى لك، فبها نجوت، انصرف، فانصرف، ثم قال لعلوية لا تقل: برئت من الإسلام ...... وقلْ: حرمتُ مناي منكِ إن كان ذا الذي ... أتاكِ به الواشونَ عنَّي كما قالوا 139 - وقيل: أنشد الفرزدق الحجاج: وما يأمنُ الحجاجَ والطيرُ تتقّي ... عقوبته إلاّ ضعيف العزائمِ فقال له: ويلك يا فرزدق جعلتني لا عهد لي ولا عقد! قبحك الله وويحك أين أنت من قول جرير: فمن يأمنُ الحجَّاجَ: أمَّا عقابه ... فمرٌّ وأمَّا عقدهُ فوثيقُ يسرُّ لك الشَّحناءَ كلُّ منافقٍ ... كما كلُّ ذي دين عليك شفيقُ فاعتذر الفرزدق: وقال غلطة من غلطات الشعراء، وسهوة من سهوات القول! 140 - وحدث الصولي قال: انفرد الرشيد وعيسى بن جعفر بن المنصور والفضل بن البيه في صيد من الموكب، فلقوا أعرابياً مليحً فصيحاً، فولع به عيسى إلى أن قال له: "يا بن الزانية! " فقال: بئس ما قلت، قد وجب عليك ردها أو العوض منها فارض بهذين المليحين يحكمان بيننا، قال عيسى: قد رضيت، فقالا: يا أعرابي خذ منه دانقين عوضاً من شتمك! فقال: أهذا الحكم؟ قالا: نعم، قال: وهذا درهم خذوه وأمكم جميعاً زانية، وقد أرجحت لكم بدل ما وجب لي عليكم! فغلب عليهم الضحك، وما كان لهم سرور يومهم ذلك غير الأعرابي: وضم الأعرابي إلى الرشيد وخص به، وكان يدعوه في أكثر الأوقات، والأعرابي نادم واجمٌ، ويقول للرشيد: لو عرفت لأبقيت، وما نفع الحمق!. 141 - وحدث ابن دريد عن الرياشي عن الأصمعي قال: حدثني منتجع بن نهبان قال: أخبرني رجل من بني الصيداء من أهل الصريم: قال: كنت أهوى جارية من باهلة يقال لها رملة، وكان قومها قد أخافوني وأخذوا علي المسالك، فخرجت ذات يوم فإذا حمامات يسجعن على أفنان أيكات متناوحات في سراوة فاستفزني الشوق فركبت وأنا أقول: دعتْ فوقَ أغصانٍ من الأيكِ موهناً ... مطوقةٌ ورقاُ في إثرِ آلفِ فهاجت عقابيلَ الهوى إذ ترنَّمت ... وشبَّت ضرام الشوقِ بين الشراسفِ بكت بجفونٍ دمعها غيرُ ذارفٍ ... وأغرت جفوني بالدموع الذوارف وخرجت حتى أتيت أرضها، فآواني الليل إلى حي، فخفت أن يكونوا من قومها، فبت بالقفر فلما هدأت الرجل ورنقت في عيني سنة فإذا قائل يقول: يمتعْ من شميمِ عرارِ نجدٍ ... فما بعدَ العشيَّةِ من عرارِ فتفاءلت بها وانزعجت لها، ثم غلبتي عيناي فإذا آخر يقول: لن يلبثَ القرناءُ أن يتفرقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ فقمت فعثرت، وركبت متنكباً عن الطريق، وإذا راع قد سرح غنمه، وهو يتمثل بقول القائل: كفى بالليالي مخلقاتٍ بجدَّةٍ ... وبالموتِ قطَّاعاً حبالَ القرائن

فأظلمت عليَّ الأرض، فتأملته فعرفته، فقلت: فلان؟ قال: فلان، قلت: ما وراءك؟ قال: ضاجعت والله رملة الثرى! فما تمالكت أن سقطت عن بعيري، فما أفقت حتى حميت علي الشم، فاستيقظت وقد عقل الغلام بعيري ومضى فكررت راجعاً إلى أهلي بأخيب ما آب به راكب وأنا أقول قول المحروق: يا راعيَ الضأنِ قد أبقيتَ لي كمداً ... يبقى ويتلفني يا راعيَ الضَّأنِ نعيتَ نفسي إلى روحي فكيفَ إذاً ... أبقى ونفسي في أثناءِ أكفانِ لو كنت تعلمُ ما أسأرتَ في كبدي ... بكيتَ مما تراهُ اليومَ أبكاني 142 - وحدث ابن دريد قال: حدث أبو حاتم قال: سمعت أبا عبيدة يقول: ذكروا أن رجلاً ساءت حاله، فهرب من عياله، فصار إلى ساحل من سواحل البحر، فبينا هو قاعد يفكر في أمره إذ صر بصخرة مكتوب عليها: لما رأيتكَ قاعداً مستقبلي ... أيقنتُ أنكَ للهموم قرينُ فارفضْ بها وتعرَّ من أثوابها ... إن كان عندك بالقضاء يقينُ هوّن عليك يكونُ ما هو كائن ... فأخو التوكلِ شأنهُ التَّهوين طرحَ الأذى عن نفسِهِ في رزقهِ ... لما تيقَّنَ أنه مضمونُ قال: فنهض وعاد إلى أهله، وفتح عليه رزقه ودر. 143 - ولما أنفذ المأمون طاهر بن الحسين إلى قتال ابن ماهان، حضر بين يديه لوداعة فقال له: امض إلى هذا اللعين واصمد له، فإنك قاتله، فأنفذ رأسه إلى أمير المؤمنين بإذن الله ومشيئته! وخرج طاهر لوجهه، فلما أنفذ رأس ابن ماهان إلى المأمون دخل الفضل بن سهل وحل قباءه بين يديه، فأنكر المأمون ذلك عليه، وقال له: ما السبب في هذا الفعل السمج الشنيع، فقال: سمعت أمير المؤمنين يقول لطاهر لما ودعه: "إنك تقتل ابن ماهان وتحمل رأسه إلى حضرة أمير المؤمنين" وقد كان ذاك، وما هذا إلا غيب قد اطلع عليه أمير المؤمنين، إما وحي فاسأل إطلاعي عليه بحكم خدمتي ونصحي ومحبتي، أو علم عند أمير المؤمنين يحزنه عن آبائه وأجداده، أسأل إعلامي به، ولست أعود لخدمتي ولا أشد علي قبائي إلا بعد أن يشرفني أمير المؤمنين بما سألت! فقال له: يا هذا والله ما أعلم الغيب ولا عندي علم محزون منه فأطلعك عليه وأعلمك به، وإنما قلت ما قلت تفاؤلاً حققه الله تعالى بفضله ومنه وإحسانه وطوله! فامتنع الفضل من قبول هذا القول، وأعاد السؤال، وأعاد المأمون القول واليمين، فبعد جهد ما شد قباءه عن غير طيب نفس بقول المأمون، بل على يقين من كتمانه إياه، فقال المأمون: واله لقد سقط من عيني سقطة ما مثلها، وتحققت جهله، واستشعرت فيه ما طرحت معه قوله ورأيه وعقله بعده. 144 - وكان زياد بن عبيد الله الحارثي خال السفاح والياً له على مكة، فحضر أشعب مائدته في أناس من أهل مكة، وكانت لزياد صفحة يخض به فيها مضيرة من لحم جدي، فأتي بها فأمر الغلام وهو لا يعلم أنها هي فوضعها بين يدي أشعب، فأكلها الشعب واستطابها، واستبطأ زياد الصفحة فقال: يا غلام أين الصفحة؟ قال: أمرتني بتركها بين يدي أبي العلا؟ فقال وقد اغتاظ: هنأ الله أبا العلاء وبارك له؟ فلما رفعت المائدة قال: يا أبا العلاء هذا شهر رمضان وقد وافى، وهو شهر مبارك، وقد رققت لأهل السجن مما هم فيه من الضر وانهجام الصوم عليهم، وقد رأيت أن أسيرك إليهم فتلهيهم بالنهار وتصلي بهم في الليل! فقال: أو غير ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: وما هو؟ قال: أعطي الله عهداً ألا آكل مضيرة بلحم جدي أبداً! فخجل زياد واستحيا ونهض، وصار هذا خبر يسطر، وذماً يذكر إلى الأبد! 145 - وحدثني الرئيس والدي أبو الحسين رضي الله عنه قال: عمل فخر الملك أبو غالب سماطاً عظيماً للأتراك ببغداد، واغترم شيئاً كثيراً، وكان مما يتعذر مثله، وفرح بما تم له فيه، ووف يمشي على السماط، ويخدم الناس، فقال لبعض الأتراك مازحاً معه وقد كسر دجاجة ما بينك وبين هذه المسكينة! فرفع رأسه إليه وقال له: والله ما علمت أنك تراني يا مولانا! ورمى بالدجاجة، وكان يبخل على الطعام، فخجل خجلاً نغص عليه يومه وذمم له فعله، ودخل إلى بعض الحجر، واستدعى خمس قطع ثياباً حسنة وأنفذها إلى دار التركي اسكتفافاً له عن تلك الكلمة التي غلط بها وهفا فيها!.

146 - وحدثني ابن عاصم قال: لما انحدر الملك العزيز بن بويه قاصداً البصرة ومحاراً لها وطامعاً فيها شيعته وخدمته وكنت في جملة الغلمان قائماً على رأسه، فأنشد شيئاً من شعره وأخذ الحاضرون يصفونه ويمدحونه، وذكر في شيء منه انحداره هذا وقصده ورجاء النجاح فيه والثقة به، فأردت أن أدخل نفسي في جملة من يمدحه ويتكلم بين يديه، وكنت أحفظ له ثلاثة أبيات فيها ذكر الانحدار فقلت: يا مولانا ولك في كذر الانحدار شي حسن! فقال ما هو؟ فقلت: وما شكرت زماني حين أصعدني ... فكيفَ أشكرهُ في حال منحدري تلاعبت بي أمور لو رميت بها ... جوانب الفلك الدَّوَّارِ لم يدرُ تزيدني قسوةُ الأيَّام طيبَ ثناً ... كأنني المسك بين الفهرِ والحجَر فتطير من ذلك وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لا أحسن الله جزاءك! فرجعت إلى نفسي، وعرضت غلطي على نفسي فعرفته، وهربت على وجهي خجلاً ولنفسي معنفاً! وكسر في هذا الوجه ورجع كما لا يجب!. 147 - ودخل بعض أصدقائنا إلى رجل قد ابتاع داراً في جواره، وسلم عليه وأظهر الأنس بقربه والابتهاج بمكانه، وعاشره وصادقه، فلما كان يوماً من الأيام وهم على نبيذ قال له: كان فلان صاحب هذه الدار تلتي ابتعتها أنت الآن رحمه الله صديقنا وأخانا ورفيقنا وشقيقنا، إلا أنك أنت بحمد الله أوفى منه مكاناً وكرماً وموضعاً، وأوسع نفساً وصدراً، وأعلى محلاً وقدراً، والحمد الله الذي عوضنا مثلك عنه، وبدلنا به من هو خير منه! وأنشد: بدلٌ من البازي غرابٌ أبقعُ فضحك الرجل حتى استلقى، وتعجب من غفلته، ولم يكن المنشد يفهم ما أنشد ولا يعلم ما أورد، فسقط قوله، وخجل من إنشاده، وصار معيرة له يوله لأجلها دائماً به. 148 - وكان في دار العلم بين السوريين التي وقفها سابور الوزير خازن يعر بأبي منصور، واتفق بعد سنين كثيرة من وفاة سابور أن آلت مراعاة الدار إلى المرتضى أبي القاسم الموسوي نقيب نقباء الطالبين، فرتب معه آخر يعرف بأبي عبد الله بن حمد مشرفاً عليه، وكان داهيةً جلداً وضد أبي منصور مكراً وكيداً، فصار يتلهى به دائماً، فمن ذلك أنه قال يوماً: قد هلكت الكتبوذهب معظمها! فقال له وانزعج: بأي شيٍ؟ قال: بالبراغفيث وتعيثهم فيها وهعبثهم بها، قال: فما نفع في ذاك؟ قال: تقصد الأجل المرتضى وتطالعه بالحال وتسأله إخراج شي من أدوائها المعدة عنده لها لينثر بين الو رق ويؤمن الضرر! فمضى إلى المرتضى وخدمه وقل له بوقار وسكون، ومن طريق النضح والاحتياط: يتقدم سيدنا إلى الخازن بإخراج شي من دواء البراغيث، فقد أشرفت الكتب على الهلاك بها، ليتدارك أمرها بتعجيل إخراج الدواء المانع لها المبعد لضررها؟ فقال المرتضى مكرراً: البراغيث البراغيث! لعن الله ابن أحمد، فأمره كله هزل وطنزٌ! قم أيها الشيخ مصاحباً، ولا تسمعن لابن حمدٍ نصيحةً ولا وقولاً. 149 - وحدثني أبو الحسن ابن الصوفي العلوي قال: كان ملاحان من النبط في سفينة بالبطائح: أحدهما منطرح والآخر يجدف، فسقطت على صدر النائم بقة، فأشار إلى الذي يجذف بأن اقتلها، إيماءً خوفاً من أن تسمع البقة قوله، وعجز أن يقتلها بيده فأخذ النبطي حربة كانت معه في السفينة وضرب بها البقية شجاعة عليها، فدخلت الحربة في صدر الآخر وطلعت من ظهره، فمات من وقته!

150 - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جبير قال: كان بعض الشطرنجيين برسم خدمة عضد الدولة أبي شجاع بن بويه، يلاعبه، فلاعبه يوما وله رسم يشرب بحضرته، فحاف النبيذ عليه، وغلب لعضد الدولة فقال له: شاه مات يا خرا! وكان للشطرنجي غلام تركي يخف على قلب عضد الدولة وينفق عنده لنجابته وذكائه، وقد أذن له في أن يسقي بحضرته، فلما سمع الغلام ما قال له مولاه استعظمه، وعلم أن النبيذ قد غلب على عقله فأبدى ما أبدى من جهله، فأخذ مخدة فتركها على رأسه، إعلاما لعضد الدولة أنه لا يحس بفعله، فكيف بقوله؛ فلما كان من غد حضر الشطرنجي على رسمه، ولم يبد لعضد الدولة منه ولا شاهد عنده ما يدل على علمه بما جرى منه، فعلم أنه لم يحس بقوله ولا أطلعه الغلام على فعله لئلا يظهر منه خوف يوحش عضد الدولة منه، فأعجب عضد الدولة بالغلام زيادة إعجاب، وشغف بذكائه فضل شغف، وعرض للشطرنجي به وبالرغبة فيه، فلم يطب الشطرنجي قلبا بإخراجه عن يده، لمحبته له وغلبته عليه، وكونه قوام أمره! ثم مات الشطرنجي فلم يكن لعضد الدولة همة غير الغلام، وأخذه، ووضع عليه من يطارحه الحديث ويعرض له به، فما أقر لأحد بمعرفة تلك الحال وما جرى فيها، واستنبطه بنفسه عن فعل مولاه وقوله وغلطه وجهله، فأنكر أشد الإنكار، وجحد أنه رأى ذلك أو حضره؛ فاختص به عضد الدولة وقدمه حتى استودعه أسراره ومهماته وما لم يكن يثق فيه إلى غير نفسه! 151 - وحكى المرزباني قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثني أحمد بن محمد الأسدي قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن مخوف عن أبيه قال: كنا مع جعفر بن يحيى فأخبر أن الرشيد مغموم، قال: بماذا؟ قالوا: منجم يهودي قد حكم عليه بأنه يموت في سنته تلك، وإن اليهودي في دار الرشيد موكل به .. فركب جعفر مبادرا وأحضر اليهودي فقال له: يا مدبر ما حملك على هذا القول الذي قتلك وأهلكك؟ قال: هفوة وزلة! قال: قد حكمت على أمير المؤمنين بالوفاة في هذه السنة فهل حكمت لنفسك أن تعيش؟ قال: نعم، قال: كم؟ قال: كذا وكذا سنة، لسنين كثيرة ذكرها، فنهض جعفر بن يحيى إلى الرشيد وأعلمه بما جرى وكذبه عنده، وقال: قد ذكر أنه مختل العقل وأن ذلك حمله على ما قال، وأنها زلة وهفوة يسأل العفو عنها والإقالة منها، فإنها كذب وزور أوجبه فساد عقله والسوداء المعترضة له! فقال الرشيد: هيهات! هذا يقول حيث خاف وفزع! واجتهد جعفر في أن يخرج ذلك من نفس الرشيد فلم يكن إليه سبيل، فقال لهما أيس منه: يا أمير المؤمنين قد ظهر كذبه وحمقه بما لا يقع شك فيه، قال: وما هو؟ قال: قد ذكر أنه يعيش كذا وكذا سنة، وإذا تقدم أمير المؤمنين بضرب عنقه علم كذبه وفساد علمه وأنه لا يصح حسابه لنفسه فكيف يصح لغيره! فتقدم الرشيد بضرب عنقه، وزال عنه ما اهتم له؛ ومضى دم المنجم بحمقه! 152 وحكي أن أبا عبد الله بن الجصاص صلى خلف إمام، فلما قرأ "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال ابن الجصاص: إي لعمري! وأنه أراد تقبيل رأس الخاقاني الوزير فقال له مازحا معه: لا تفعل ففي رأسي دهن! فقال: والله لو كان في رأس الوزير خراء لقبلته! وقال يوما: قمت البارحة في الظلمة إلى الخلاء فما زلت أتلمظ المقعدة حتى وقعت عليها! ووصف يوما مصفحا بالعتق فقال: هو كسروي! 153 - وحدث القاضي أبو حامد قال: كنت قائما بين يدي معز الدولة أبي الحسين بن بويه فقال لأبي جعفر الصيمري وزيره: أريد الساعة خمسمائة ألف درهم لمهم، فقال له: زد أيها الأمير فإني أيضا أريد مثله! قال: فإذا كنت وزيري فممن أطلب إلا منك؟ قال: فإذا كان الارتفاع ما يفي بالخرج من أين لي مال أعطيه إذا طلبته! فحرد معز الدولة فقال: الساعة أحبسك في الخلاء حتى تؤدي ذاك! قال: إذا حبستني في الخلاء خرئت نقرة وضربتها دراهم!! فخجل معز الدولة وأمسك عنه. 154 - وحدث أبو أحمد الحارثي قال: كان عندنا بواسط رجل مختلف موسر يقال له أبو محمد بن أبي أيوب، وكان يعاشرنا بمغنية يهواها، وكان من غنائها صوت أوله: إنَّ الخليطَ أجدَّ منتقلهْ ... ولوَ شكِ بينٍ حملتْ إبلهْ وكانت تجيد فيه الصنعة فيستحسنه ولا يفهمه أبو محمد لتخلفه فاقترحه يوما عليها فقال: بالله يا ستي غني لي: إني خريت وجئت أنتقله!!

فقالت: أنا أغني شيئا من هذا!! ففطنت أنا لما يريد، فقلت لها: إنه يريد أن تغني له: إن الخليط أجد منتقله فقالت له: قطع ظهرك! أين هذا من هذا!! وغنت الصوت. وكان من غنائها الجيد: خليليَّ هبّا نصطبحْ بسوادِ فقال لها يوما: يا ستي غني لي بالله: خليلي هبا نصطبح بسماد فقالت له: إذا عزمت على هذا فوحدك! 155 - وحدث أبو محمد يحيى بن محمد بن فهد قال: رأيت أبا الحسن علي بن عمرو الموصلي يكتب إلى أبي تغلب ابن ناصر الدولة كتابا، فكتب في موضع منه: "أمور حميدة" فقلت: أمور جميلة قال: صدقت، ولكن كتبت وأنا بالموصل إلى أبي تغلب رقعة فيها "أمور جميلة" ووصلت الرقعة إليه وهو عند أخته جميلة، وكانت غالبة عليه محتوية على أمره، لا يقطع شيئا دونها، فعرضها عليها وأخذ فيها تضمنته رأيها، فأنكرت علي قولي "جميلة" إنكارا شديدا لأنه اسمها، وبلغني فاعتذرت أعظم الاعتذار، وما كتبت إلى أحد بعدها "جميلة"، وصارت لي عادة! 156 - وحدث أبو القاسم الجهني قال: كان في أسد بن جهور نسيان وسوداء، فحضرته يوما في دار بعض الوزراء وقد جلس يتحدث، ومعنا بعض القضاة، وكان يوما حارا، فوضعنا عمائمنا، ووضع القاضي قلنسوته، فطلب الوزير أسد بن جهور، فقام مسرعا، وأخذ قلنسوة القاضي، وعنده أنها عمامته، فلبسها ودخل على الوزير، فصاح القاضي به وجماعتنا، فما سمع ولا رجع، حتى بلغ الوزير، فضحك منه، وخجل أسد وعدا إلينا راجعا عنه.

157 - وحدث القاضي أبو القاسم التنوخي أن بعض المعمرين من الشهود بالأهواز حدثه عن بعض أهله قال: كان محمد بن منصور يتقلد القضاء بكور الأهواز وعمر بن فرج الرخجي يتقلد الخراج بها، وكانا يتوازيان في المرتبة السلطانية، ولا يركب أحدهما إلى الآخر إلا بعد أن يجيئه، ويتشاحنان على التعظيم، وترد كتب الخليفة عليهما بخطاب واحد، وتولدت بينهما من ذلك عداوة عظيمة، ويكتب الرخجي إلى المتوكل في القاضي فلا يلتفت المتوكل إليه لعظم محله عنده وموضعه منه، ويبلغ القاضي ذلك فلا يحفل به .. فلما كان في بعض الأوقات ورد خادم بكتاب المتوكل لهما بأن يجتمعا على أمر رسمه لهما، فقال الرخجي للقاضي: تحضر الديوان لذلك، وقال القاضي له: بل تحضر أنت الجامع لنجمع على ما رسم، فقال الرخجي للخادم: ترجع إلى أمير المؤمنين وتعلمه أن القاضي امتنع من أن يحضر ديوانه، وسامني الحضور إلى الجامع لإمضاء أمر أمير المؤمنين فلم أفعل، لما فيه من القباحة والوهن، وأن العرض وقف إلى أن يعود الأمر بما يفعل فيمتثل! فبلغ القاضي ذلك فركب إلى الديوان، ودخل والرخجي جالس في دسته، وبين يديه الكتاب والجلة، فحين شاهدوا القاضي قاموا له وخدموه، إلا الرخجي فإنه لم يكلمه ولا سلم القاضي عليه، وجلس في طرف المجلس وآخر البساط، بعد أن رفع غلامه طي البساط، وجلس على البارية، واحتف به شهوده، وجاء الخادم فجلس عنده ووقفه على كتاب المتوكل، وتخاطبا فيما رسم، حتى فرغوا منه، فلما انقضى ذلك قال الرخجي له: يا أبا جعفر ما هذه الجبرية! لا تزال تولع بي وتتحكك بمناقرتي ومضاهاتي، وتقدر أنك عند الخليفة أطال الله بقاءه مثلي، أو محلك يوازي محلي! قال: وأسرف في هذا القول، وحمي في الخطاب، ومضى على رأسه في الكلامُ والقاضي ساكت، إلى أن قال في جملة كلامه وبحدة طبعه: والخليفة أعزه الله لا يصرف على يدي في أمواله التي بها مقام دولته، ولقد أخذت من ماله ألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار فما سألني عنها، وإنما إليك أن تحلف منكرا لحق، وأن تفرض لامرأة على زوجها، وأن تحبس ممتنعا من أداء حق ... وأخذ يعدد هذا وشبهه، وأبو جعفر لما ذكر الرخجي يعد بأصابعه الألف الألف التي كررها، وقد كشفها للناس ليروها إلى أن عقد خمسة، فلما أمسك الرخجي لم يجبه القاضي بشيء، وقال: يا فلان الوكيل، قال: سمعت ما جرى؟ قال: نعم، قال: قد وكلناك لأمير المؤمنين وللمسلمين على هذا الرجل في المطالبة لهم بهذا المال الذي أقر به، فقال الوكيل: إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال للمسلمين فعل! فأخذ القاضي دواة وكتب بخطه في مربعه سجلا بالمال ورمى به إلى الشهود وقال: اشهدوا على إنفاذي الحكم بما في هذا الكتاب، وإلزامي فلان بن فلان هذا وأومأ إلى الرخجي ما أقر به عندي من المال المذكور مبلغه في هذا الكتاب للمسلمين! فكتب الشهود خطوطهم بالشهادة وختموها، وأخذها القاضي فجعلها في كمه، ونهض، وأخذ الرخجي يهزأ بالقاضي ويقول: يا أبا جعفر بالغت في عقوبتي، قتلتني، أهلكتني! فقال له القاضي: إي والله! فما سمعناه أجابه بغيرها وافترقا.

وكتب صاحب الخبر إلى المتوكل قي الوقت بما جرى، فلما وقف المتوكل على الحال تقدم بالقبض على الرخجي وتقييده، وقال لوزيره: حاسب هذا الخائن المقتطع لأموالنا حتى حفظها الله تعالى بقاضينا محمد بن منصور، وقد ظهرت أموالنا عليه بإقراره في سقطات قوله وفلتات فعله، وهذه عادة الله تعالى عند أئمة عباده أن يأخذ لهم أعداءهم كذلك، اكتب الساعة في أمره بما رسمته واحمله مقيدا مغلولا، فخرج الوزير وهو على غاية القلق لعنايته بالرخجي، واستدعى خليفته على الباب وقال له: اكتب إليه الساعة: "قد تسرعت يا مشؤوم، وقتلت نفسك، ما الذي دعاك إلى معاداة القضاة! " وقل له: "قد جرى كيت كيت، وأنت مقتول إن لم تتلف أمر محمد بن المنصور، فاجتهد فيه" وأعلمه أنني هو ذا أؤخر ما أمر الخليفة به فيه اليوم فقط إلى أن يحكم أمره مع القاضي، وأقول للخليفة إني قد أنفذت إليه من يقبض عليه، وأنفذ إليه في الغد! فلما ورد ذلك على الرخجي قامت قيامته، وأحضر من يخصه فشاوره فقال له: تركب الساعة إلى القاضي وتطرح نفسك عليه .. فركب إليه في موكب عظيم، فحجبه ولم يوصله، واجتهد في الوصول إليه، فلم يكن إلى ذلك طريق، فرجع حيران، وقال لأصحابه: ما ترون فإني أخاف أن يرد العشية من يقبض علي! فقيل له: إن للقاضي رجلا يخصه، وقد قدمه وعظمه وأنس به، ويريد أن يسمع شهادته، وهو غالب عليه جدا، فتستدعيه وتكتب له روزا بشيء من خراجه ترغبه فيه، وتسأله أن يوصلك إليه ويستصلحه لك! فأحضره الرخجي، وكتب له روزا بألف دينار من خراجه وسأله ذلك، فقال: أما استصلاحه لك فلا أضمنه، ولكن أوصلك إليه، فقال له: قد رضيت، فقال: إذا كان الوقت المغرب فانتظرني! وخرج الرجل، فلما كان المغرب جاءه وقال: تلبس عمامة وطيلسانا وتركب حمارا وتجيء وحدك، ففعل ذلك وركبا بغير سمعة، وجاء الرجل فقال للحاجب: استأذن لي على القاضي ولصديق لي معي؛ فدخل إليه وخرج إليهما وقال: ادخلا، فدخلا، فحين شاهده القاضي صاح على الرجل وقال له: ادخلا، فدخلا، فحين شاهده القاضي صاح على الرجل وقال له: أتحتال وأنت أمين مرشح للشهادة! ثم قال للرخجي: اخرج عافاك الله عن داري! قال: فبادر الرخجي إلى رأسه فقبله، فلماذا رآه القاضي قد فعل ذلك قام إليه وعانقه وجلسا، وبكى الرخجي بين يديه، ودفع الكتاب إليه، فبكى القاضي وقال: عزيز علي يا هذا ما كان اضطرك إلى الإقرار بما أقررت به! قال: غلطت وأخطأت وغفلت، فتحتال الآن في أمري؟ فقال: والله ما لي حيلة، فإن الحكم كالسهم إذا خرج لم يمكن رده! فجهد به الرخجي فما زاده على هذا، وانصرف بأقبح منصرف، فما كان من الغد ورد خادم فقبض عليه، وغله وقيده، وحمله، وورد كتاب الخليفة إلى القاضي:"أحسن الله تعالى جزاءك على ما فعلته في أموال المسلمين، وقد كنا نأمر بمحاسب هذا الرجل فنؤخر ذلك لعوائق، والآن فقد أقر طائعا غير مكره بما في ذمته، وما نؤثر معاملته إلا بما يعمله أهل الذمة لو كانوا في مكاننا من أخذ الحق بالحكم، وقد أنفذته على الواجب بارك الله عليك وله أملاك قبلك، فتنصب من يبيعها وتحمل ثمنها إلى بيت المال" ففعل ذلك، وهي الأملاك التي تعرف الآن بالرخجيات، وجعل الرخجي في العذاب بسر من رأى. وحدث الحسين بن عياش قال: كان جحظة لما أسن يفسو في مجالسه، فيلقي من يعاشره منه جهدا، وكنت أحب غناءه، والكتابة عنه لما عنده من الآداب، وكان عشيري، فكنت إذا جلست عنده أخذت عليه الريح، فجئته يوما في مجلس الأدب، والناس عنده، وهو يملي، فلما خفوا قال لي ولآخر كان معي: اجلسا عندي حتى أقعد كما على لبود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما من غناء المسدود! فقلنا: هذا موضع سجدة! وجلسنا وصدبقي لا يعرف خلقه في الفساء، وأنا قد أخذت الريح فوقي، فوفى لنا بجميع ما ذكره: وقال لنا وقد غنى وشربنا: نحن بالغداة علماء، وبالعشي في صورة المخنكرين! فلما أخذ النبيذ منه أقبل يفسو، وصديقي يغمرني ويتعجب، فأقول: إن ذلك عادته وخلقه، وإن سبيله لي يحتمل، إلى أن غنى صوتا من الشعر، والصنعة له فيه، وكان يجيده جداً: إنَّ بالحيرةِ قسَّا قد مجنْ ... فتنَ الرُّهبانَ فيها وافتتنْ ترك الإنجيلَ حبَّا للصِّبا ... ورأى الدُّنيا مجوناً فركنْ

فطرب صديقي عليه طربا شديدا، واستحسنه كثيرا، وأراد أن يقول له: أحسنت والله يا أبا الحسن، فقال له لما في نفسه تردد من أمر الفساء: افس علي يا أبا الحسن كيف شئت! فخجل جحظة، وخجل الفتى وانصرفنا! 159 - وحدث أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحق ابن البهلوي التنوخي قال: حدثني أبي قال: حضرت أسد بن جهور، وكان شديد النسيان، عند عبيد الله بن سليمان الوزير وهو يخاطبه في أمر من الأمور فيقول له أسد: السمع والطاعة لأمر القاضي أغزه الله، وقد أنسي أنه الوزير؛ وكان إلى جنب أبي العباس بن الفرات، فغمزه أبو العباس وقال له: قل الوزير أعزه الله! فقال لأبن الفرات: نعم أعز الله القاضي! فضحك ابن الفرات وقال: لست القاضي، فارجع إلى صاحبك فقضه!. 160 - قال: وكنت يوما عند أسد بن جهور وهو يكتب، فجفت دواته، فقال: يا غلام كوز ماء للدواة، فجاء الغلام بكوز ماء، فأخذه وشربه، ومضى الغلام بالكوز، وأخذ يكتب فلم تنكتب له، فقال: ويلك هات الماء للدواة، فجاء بشربة ثانية، فأخذها وشربها، ولم يطرح في الدواة منها، ثم كتب فلم تنكتب له، فقال: ويلك كم أطلب للدواة ماء ولا تحضره،! فجاءه الغلام بشربة ثالثة، فأخذ يشربها، فقال له: يا سيدي اطرح منها أولا في الدواة، ثم اشرب الباقي! فقال: نعم نعم! وطرح في الدواة وكتب. 161 - وحدث أبو محمد السليماني الهاشمي المعروف بعباد رحله، وقد جرى ذكر البربهاري بحضرته، فقال: رأى عينا هائجة فقال: لو استعمل لها الخضرط عوفيت! فقال له: ليس هو الخضرط، فقال: نعم غلطت، الخضخض! فسكتوا عنه، وإنما أراد الحضض!. 162 - وطلب المكتفي يوما من أبي عبد الله بن الجصاص عقدا حسنا من فاخر الجوهر ليبتاعه منه، فقال: كم يبلغ يا أمير المؤمنين؟ قال: ثلاثين ألف دينار، قال: لا تصب ما تريد إذا، ولكن عندي عقد فيه ستون حبة، ولا أبيعك إياه بأقل من ستين ألف دينار، فإن بلغت حملته إليك، فقال: افعل، فحمله إليه والعباس بن الحسن الوزير قائم بين يديه، فعرضه عليه، فهال المكتفي أمره وحسنه! قال: ما رأيت قط مثل هذا! فقال له ابن الجصاص: ومن أين عندك أنت مثل هذا يا أبا مشكاحل! فتنكر المكتفي وتنمر، وأومأ إلى ابن الجصاص العباس بالإمساك والانصراف، ففعل. وقال المكتفي للعباس: بالله وبحقي عليك هذه الكنية تلقبني بها العامة؟ قال: لا والله يا مولاي، ولكن هذا الرجل رقيع عامي جاهل، والعامة إذا افتخرت على إنسان قالت له: يا أبا مشكاحل! وقد ربحت يا أمير المؤمنين بهذه الكلمة العقد بلا ثمن فدعني وابن الجصاص، فتنمر له وأحله علي؛ فلما كان بعد أيام جاء ابن الجصاص فأذكر المكتفي بثمن العقد، فازور عنه وقال له: الق العباس؛ فجاء إليه يطالبه بالمال، فقال له: ويحك تطالب بثمن العقد للخليفة بعد أن لقيته بما لقيته وخاطبته في معناه بما خاطبته، واجترأت عليه وأخطأت بين يديه بما لا يجوز أن يتفوه به!! ولولا أنه ينسبك إلى العامية والبحارة والجهل والحمق لضرب رقبتك! أمسك عنه ولا تتكلم في معناه بحرف؛ فأمسك، وذهب العقد بتلك الكلمة!. 163 - وورث بعض المتخلفين المخلقين مالا جليلا فقامر به وعمل كل ما اشتهى، وضجر من المال فقال لجلسائه وندمائه: افتحوا لي باب صناعة أتلف فيها بقية هذا المال، لاتعود علي بشيء منها! فقال أحدهم: تشتري التمر من الموصل فتبيعه بالبصرة! فقال: أليس يعود من ثمنه شيء وإن كان قليلا! وقال آخر: تبتاع الإبر التي كل ثلاث وأربع بدرهم، وتجمع منها ألوفا كثيرة وتسبكها سبيكة لاتساوي خمسة دراهم! قال: وذا أيضا يعود منه خمسة دراهم، وما قصدي إلا ما لا يعود منه درهم واحد! فقال آخر: ابتع ثيابا واخرج إلى الأعراب فبعها عليهم وخذ سفاتج منهم إلى الأكراد، وافعل مثل ذلك مع الأكراد، فما يرجع إليك شيء! فقال: ذلك، وفعله في بقية ما بقي معه.

164 - وبلغني عن آخر أنه أسرع في إتلاف ماله حتى بقيت منه خمسة آلاف دينار، فالتمس مثل ما ألتمس الأول، وأشير عليه بأشياء لم توافقه، فقيل له: ابتع بالمال إلا خمسمائة دينار مخروطا وبلورا، واجعله في بيت مصففا مصنفا واشرب عليه يومك، وأنفق الخمسمائة دينار في الجذور وما تحتاج إليه ذلك اليوم، فإذا فرغت فخل فيه فأرا وسنانير، فإن تلك تهرب وهذه تطلب، فيتكسر الجميع فلا يرجع منه شيء! فاستطاب ذلك وفعل، وكان يفرح بتكسير ذلك ويضحك، وقام جلساؤه فجمعوا الزجاج ووجدوا فيه صحيحا ومصدعا، وباعوه واقتسموا بدارهم صالحة من ثمنه، وتفرقوا عنه، ولا حديث لهم غير حديثه، فلما كان بعد سنة قال صاحب المشورة بالزجاج والفأر والسنانير: أمضي إلى ذلك المدبر .. فمضى فوجده قد باع قماش بيته وآلاته وأنفقه في قوته، ثم نقض داره وباع آلتها، ولم يبق غير دهليزها، وهو فيه نائم، تحته قطن وفوقه قطن من البرد وعدم الملبوس، فقلت له: يا مشؤوم ما هذا؟ قال: ما تراه! فقلت: بقيت في نفسك حسرة؟ قال: نعم، أشتهي أن أرى فلانة، المغنية التي كان يعشقها وأتلف المال عليها، وبكى بكاء شديدا، فرققت له، وأعطيته دست ثياب، فلبسها، وجئنا إلى بيت المغنية، فقدرت أن حاله قد أثابت، فأدخلتنا إليها وأكرمته، وبشت به، وسألته عن خبره، فصدقها عن الصورة، فقالت في الحال: قم لا تجيء ستي فتراك وليس معك شيء فتحرد علي لم أدخلتك الدار، فاخرج إلى الشارع حتى أصعد أكلمك من الروزنة! فخرج وجلس ينتظرها، فقلبت عليه مرقة السكباج فصيرته آية ونكالا، وضحكت فبكى بكاء شديدا، وقال: يا فلان بلغ أمري إلى هذا، أشهد الله تعالى وأشهدك أني تائب من كل ما يكرهه الله تعالى، فأخذت أطنز به وأقول: أي شيء تنفعك التوبة الآن!! فرجعنا إلى بيته، وأخذت الثياب عنه، وتركته بين القطن وانصرفت ولم أرجع إليه نحو ثلاث سنين؛ فأنا ذات يوم في باب الطاق، وإذا بغلام يطرق لرجل راكب، فرفعت رأسي وإذا به على برذون فاره بمركب مليح فضة محرقة، وعليه ثياب فاخرة، وكان من أولاد الكتاب وممن يركب الخيول الحسان الفرهة بالآلات الحسنة، ويلبس من الثياب الثمينة، فحين رآني قال: فلان؟ فعلت أن حاله قد صلحت، فقبلت فخذه وقلت: سيدي أبو فلان؟ قال: نعم، قلت: ما هذا؟ فقال: قد صنع الله تعالى فله الحمد، البيت البيت، فتبعته حتى انتهى إلى بابه، ونزل ودخل ودخلت معه، فإذا بالدار الأولية قد رتبها وجعلها صحنا فيه بستان، وجصصها وطبقها، وعمل فيها مجلسا حسنا عامرا، وجعل باقي الدار صحنا كبيرا، وقد صارت منزلا جيدا ليس على ما كانت عليه أولا، وأدخلني إلى حجرة كانت له قديما يخلو فيها، وقد أعادها أحسن مما كانت عليه، وقد فرش فيها فرشا حسنا، وفي داره أربعة غلمان وخادم وبواب وشاكري هو سائس دابته، وجلس فجاءوه بآلة حسنة مقتصدة نظيفة، وفاكهة متوسطة، وطعام نظيف كاف على قدر ما نحتاج إليه، فقدم وأكلنا، وجيء بنبيذ تمري حسن فجعلوه بين يدي، وبمطبوخ بين يديه، ومدت ستارة، وبخر موضع بعود مطرى، هذا كله وأنا متشوف إلى علم السبب في ذاك، وشربنا وغنت جارية من وراء الستارة غناء طيبا، فلما طابت نفسه قال: يا فلان تذكر أيامنا الأولية؟ قلت: نعم، قال: أنا الآن في نعمة متوسطة، وما قد رزقته من العقل والعلم بالزمان والإخوان أحب إلي من تلك النعمة، هو ذا ترى فرشي؟ قلت: نعم! قال لي: إن لم يكن ذلك الكثير فهو الذي يحتاج إليه، قلت: أجل، قال: وكذلك داري وآلتي وثيابي ومركوبي وطعامي وشرابي .. وأخذ يعدد ويقول: إن لم يكن ذاك المفرط ففيه جمال وبلاغ وكفاية، وقد تخلصت من تلك الشدة الشديدة! أتذكر يوم عاملتني المغنية لعنها الله بما عاملتني، وما عاملتني أنت أيضا من أخذك الثياب عني وتعريتي؟ فقلت: هذا قد مضى والحمد لله الذي أخلف عليك وخلصك مما كنت فيه، فعرفني من أين تجددت لك هذه النعمة، ومن هذه الجارية التي تغنينا؟ فقال: أما الجارية فاشتريتها بألف دينار وربحت تخريق الثياب والجذور والهدايا والألطاف وتلك الحماقات، وأما النعمة فإنه كان لأبي خادم بمصر وابن عم، وماتا في يوم واحد، وخلفا ثلاثين ألف دينار، فحملت إلي وأنا بين القطنين كما رأيت، فحمدت الله تعالى على ذلك، واعتقدت أني لا أبذر، وأنا أدبر أمري وأعيش عيشا وسطا صالحا طيبا، فعمرت الدار، واشتريت جميع ما فيها بخمسة

آلاف دينار مع ثمن الجارية، وجعلت تحت الأرض خمسة آلاف دينار، وابتعت ضياعا ومستغلا بعشرين ألف دينار تغل لي كل سنة مقدار نفقتي التي تراها، وأمري يمشي على هذا! وأنا في طلبك منذ سنة، ما عرفت لك خبرا، فإنني أحببت أن ترى رجوع حالي ونعمتي ثم لا أعاشرك يا ماص بظر أمه أبدا!! يا غلمان برجله! فجروا والله برجلي وأخرجوني مسحوبا؛ فكنت بعد ذلك أراه راكبا فيضحك مني، ولم يعاشرني ولا لتلك الطبقة جميعها!. 165 - وحدث أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن العباس قال: كان أبو عصمة العكبري الخطيب غالبا على أبي القاسم بن الحواري، ومنزله في الطيبة مشهور، قال: حدثني أن أبا عمر القاضي خطب لابن رائق الكبير على ابنة قيصر الكبير بحضرة المقتدر فأطال وأبلغ، وكان يوما حارا؛ فلما انقضت الخطبة قيل له: اخطب على الابنة الأخرى للأخ الآخر؛ فكره الإطالة لئلا يضجر الخليفة، وأراد التقرب إليه، فحمد الله تعالى وقرأ آية من القرآن وعقد النكاح، فنهض المقتدر مبادرا لشدة الحر، ووقع ذلك التخفف عنده ألطف موقع لأبي عمر. قال: وعاد ابن الحوري إلى داره، وجئت وجلست معه أحادثه وأتطايب له على عادتي وأغمزه، فقال: جرى اليوم لأبي عمر كل جميل، ووصفه الخليفة وقرضه واستحسن إطالته في الخطبة الأولى وإيجازه في الثانية، وقال: مثل هذا الرجل وفيه هذا الفضل لم لا نزيده في الإحسان إليه؟ فقررت معه أن نزيده في أرزاقه وأعماله كذا وكذا، وأمرني بتنجز ذلك له من الوزير! قال: وكان ابن الحواري صديقا لأبي عمر، فلما سمعت ذلك دعتني نفسي إلى أن أسبق بالخبر إلى القاضي، لأستحق البشارة منه وأتقرب إليه، فطال علي الوقت حتى نام أبو القاسم، وقمت وركبت وجئت إلى أبي عمر، فأنكر مجيئي ذلك الوقت، وعلم أنه لمهم، فأوصلني وجلست وهنأته وحدثته بالحديث، فقال أبو عمر: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأحسن جزاء أبي القاسم، ولا عدمتك! فاستقلت شكره، وولد لي ذلك فكرا مغما بأن لي في وجهه من التعجب مني، فلما خرجت ندمت ندما شديدا وقلت: سر للسلطان أفشاه إلى رجل عنده في منزلة الوزراء، فباح به ذلك الرجل إلي وحدي، لأنسه بي، لا يسره إشفاؤه، ولعله هو أراد أن يعيد على القاضي، فبادرت أنا بإخراجه إليه، "إنا الله وإنا إليه راجعون" وإن راح أبو عمر يشكره على ذلك ويذكره به علم أن ذلك من فعلي، وبأي صورة يتصورني؟ أليس يراني بصورة مخرج سر، وإخراج السر في الخير والشر والفرح والغم والجيد والرديء واحد، وربما أداه ذلك إلى استثقالي واطراحي وتجنبي واحتشامي وقطع معيشتي وحجابي، وإذا فعل ذلك من يرغب في، ومن يستخدمني بعده ويدخلني داره وقد علم أني طردت لإفشاء سر لا يعلم ما هو!! ما لي إلا أن أرجع فأتدارك غلطي وزلتي وجهلي وغفلتي وحمقي وهفوتي، وأسأل القاضي ألا يظهر أنه علم بذلك، قال: فرجعت إليه، فحين وقع ناظره علي قال: يا أبا عصمة ولا حرف!! فعلمت أنه علم بما جئت له، وحسب لي ما حسبته لنفسي، وعرف من جهلي وغلطي ما عرفته أنا من زللي وخطلي، فشكرته وعجبت من صحة حدسه وزيادة عقله، وانصرفت. 166 - وحدث أبو الطيب بن هرثمة أنه سمع الباغندي الأب المحدث يقول لجارية كانت تخدمه، وقد حرد عليها: قد ذهب زمانك الذي كنت تخضبين فيه خديك بالكتلتين، أراد: الكلكون!. وسمعه أيضاً قال في حديث حدث به قوله: "وفاكهة وأبا" فقال: وفاكهة وأتا! 167 - وحكى السلامي الشاعر قال: دخلت على عضد الدولة فمدحته فأجزل عطيتي من الثياب والدنانير، وبين يديه جام خسرواني فرآني ألحظه، فرمى به غلي وقال خذه، فقلت: وكل خير عندنا من عنده فقال عضد الدولة: ذاك أبوك! فبقيت متحيراً لا أدري ما أراد، فجئت أستاذاً لي فشرحت له الحال، فقال: ويحك قد أخطأت خطيئة عظيمة، لأن هذه الكلمة لأبي نواس يصف كلباً حيث يقول: أنعتُ كلباً أهلهُ من كدَّهِ ... قد سعدت جدودهم بجدّهِ وكل خير عندهم من عندهِ قال: فعدت متشحاً بكساء، ووقفت بين يدي الملك أرعد، فقال: مالك؟ قلت: حممت الساعة! فقال: هل تعرف سبب حماك؟ فقلت: كنت أنظر في شعر أبي نواس فحممت! فقال: لا تخف فلا بأس عليك من من هذه الحمى! فسجدت له وانصرفت.

168 - وكان شرف الملك بن الهمام قد اختص نديماً ذكياً فاضلاً، وكان أحد أصحابه منهوماً بالباه، فاتباع فاتباع يوماً شحم السقنقور، وعرف شرف الملك ذلك فقال لنديمه: فلان بلا سقنقور كما تعلم، فإذا تناول السقنقور هات رجلك! فقال النديم: بل هات نساءك! ثم أفاق لغلطة فأظلمت عليه الدنيا، فوانسه شرف الملك، ولم يظهر له قبحاً ولا تنكراً. 169 - ونقل عن المدائني أنه قال: تمثل خالد بن طليق قاضي البصرة في مجلس المهدي: إذا القرشيُّ لم يضرب بعرقٍ ... خزاعيِّ فليسَ من الصَّميم قال: فغضب المهدي حتى ظنوا أنه قاتله، فقال خالد بن طليق: إذا كنتَ في دارٍ فحاولتَ رحلةً ... فدعها، وفيها إن أردتَ معادُ قال: فسكن غضبه. 170 - عن الهيثم بن عمرو بن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن دغفل البكري قال: حمى النعمان بن المنذر ظهر الكوفة، فكان يقال له خد العذراء، ينبت الشيح والقيصوم وشقائق النعمان! قال: فخرج النعمان يسير في ذلك الظهر فإذا هو بشيخ بخصف نعلاً، فقال: ما أولجك ها هنا؟ قال: طرد النعمان الرعاء فأخذوا يميناً وشمالاً فانتهيت إلى هذه الوهدة في خلاء من الأرض، فنتجت الإبل وولدت الغنم ونتطلب السمن! والنعمان متلثم لا يعرفه الرجل .. قال: أو ما تخاف من النعمان.؟ قال: وما أخاف منه؟ والله لربما لمسته بيدي هذه بين عانة أمه وسرتها كأنه أرنب جاثم! فحسر عن وجهه فإذا خرزات ملكه، وقد هاج وجهه غضباً، فلما رآه الشيخ قال: أبيت اللعن، لا ترى أنك قد ظفرت بشيء! لقد علمت العرب أنه ليس فيما بين لا بتيها شيخ واحد هو أكذب مني! فضحك النعمان من قوله، ثم مضى ولم ينله بمكروه. 171 - وحدثني أبو الفوارس أحمد بن كتيلة العلوي الحسيني قال: مرض ابن عم لي علي بن ناصر بن زيد بن كتيلة، فجئت أعوده، فلقيت ولده، فسألته الوصول فقال: إنه قد أغمي عليه، وقعدنا جميعا على دكة في دهليز داره، فأنشدت على سهو مني: إنَّا إلى اللهِ راجعونا ... كانَ الذي خفتُ أنْ يكونا أضحى المرجّى أبو عليٍّ ... موسَّداً في الثَّرى دفينا لمّا انتهى واستوى شباباً ... وحقَّقَ الرَّأيَ والظنونا دافعتُ إلاَّ المنونَ عنهُ ... والمرءُ لا يدفعُ المنونا ثم استرجعت فرأيت أنني قد غلطت في إنشادي الأبيات، فقلت لابنه معتذرا إليه: والله ما أنشدت الأبيات إلا على سهو مني! فقال لي: هو أوكد! وخرجت من عنده ووصلت داري، ولم ألبث حتى سمعت ناعيه، ثم خرجت مع ولده وجماعة من الناس خلف جنازته، فقال لي ولده: والله إنني منذ أنشدت الأبيات أيست منه! 172 - وحدث علوية المغني قال: كنت مقتولا لولا كرم المأمون لا محالة، فإنه دعاني آخر جلسة جلسها وهو بدمشق، وقد عزم على الخروج إلى البذندون، ودعا مخارقا فقال: غنياتي، فسبقني مخارق وغنى: لمّا تذكَّرت بالدَّيرين أرَّقني ... صوت الدَّجاجِ وضربٌ بالنَّواقيسِ فقلتُ للرَّكبِ إذ جدَّ المسير بنا ... يا بعدَ يبرينَ من بابِ الفراديسِ قال: وجننت فغنيت بشعر فيه: الحينُ ساقَ إلى دمشقَ وما ... كانتْ دمشقُ لأهلنا بلدا فضرب المأمون بقدح في يده الأرض، وقال يا غلام أعط مخارقا ثلاثة آلاف درهم، وأخذ بيدي، فقمت، ودمعت عين المأمون وقال للمعتصم: ما أظنني يا أبا إسحق أرى العراق أبدا:

173 - قال مؤلفه: كان عندي أبو طاهر بن أبي قيراط العلوي، وقد رتبته في خزن الكتب بدار العلم من شارع ابن أبي عوف في غربي مدينة السلام التي وقفتها في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فبينما نحن نتحدث إذ استؤذن لإنسان ديلمي أقعدته في الدار هو وزوجته لحفظها وخدمة من يدخل إليها، فقال ابن أبي قيراط: فاتشوه عما عنده مني لننظر ما يعتقده في؛ وكنت أمزح معهما دائما على العبث بينهما، وأشطر كلا منهما عن صاحبه، فأضحك مما يورده هذا الديلمي في العلوي؛ واستتر العلوي وراء إنسان كان حاضرا، فلما جلس الديلمي وفرغ من سلامه قلت له: كان العلوي البارحة هاهنا فهل استوحشت له أم لا؟ فقال: لعن الله ذاك، فإنه كافر وزنديق، ساقط شحيح، يشتري شيئا بنصف حبة يأكله يوما ويومين، فإن كان مالحا وبقي ذلك الجلد الذي لا ينقطع ولا يؤكل، أو باذنجانة مرة، أو قليل لبن حامض، صاح بالمرأة وأعطاها الذي لا يصلح للسنانير فضلا عن الناس، ويناظر ظاهرا في إبطال الشريعة وتكذيب الأنبياء، ويظهر الكفر والإلحاد، وبالله يا سيدي إني أكره أن يكون مثله نائبا عنك في ذلك الموضع وعلى تلك الدار والكتب!! وضحكنا، وزاد فيما يورده، وأفحش فيما يذكره. وأخرق العلوي ما سمعه، فخرج من وراء ذلك الإنسان، لضحك الرجل ووقوعه على وجهه، فلما رآه الديلمي بقي حائرا وقال: يا شريف كذبت فيما قلته، والتفت إلي وقال: يا سيدنا رجل حر فيه خير والله، ما يقصر معنا، يعطينا البزر والشيرج ومن جميع ما يشتريه قبل أن يأكله، ونحن له شاكرون داعون! وامتقع لونه، وتلعثم لسانه، وتعثر كلامه، فلحقنا من النوبة الأخرى ما زاد ضحكنا له وأسرف، فأما أنا فغلب علي الأمر حتى قمت من المكان وغبت عنهم ساعة من الزمان ورجعت والديلمي قد انصرف، وبقي العلوي يلوم نفسه، ويقول: شرعت في أن سمعت سبي والاستخفاف بي في وجهي!.

174 - وحكي أن الرشيد والفضل بن الربيع خرجا في يوم صائف لتنسم الأخبار ومشاهدة الناس على عادة كانت للرشيد في ذاك، فبلغا في الظهيرة إلى باب كبير، وفي دهليزه حباب وجرار لطاف والرحبة التي فيها آلباب مرشوشة مكنوسة، وفيها دكة عليها بارية جديدة، والهواء في الموضع رقيق كثير، فجلسا، وسمعا من الدار صوت غناء، فدخلا الدهليز وتطلعا إلى الدار، فرأيا غلاما شابا وبين يديه مجلس ظريف وعتيدة يخرج منها منها ثياب النساء، فيقلبها ويبكي ويقبلها، ويغني بالعود أطيب غناء وأحرقه، فطرقا الباب، فخرج إليهما، فلما رآهما قال: مرحبا بكما، ألكما رأي في الدخول والقيلولة عند عبدكما؟ فقالا: نعم، فدخلا وغلق الغلام الباب، وقدم لهما طستا وإبريقا ومنديلا دبيقيا، وأقلب عليهما حتى توضأا وصليا، وقدم لهما ما أكلاه، وأخذا في الشرب معه، فقالا له: رأيناك تخرج من هذه العتيدة ثياب امرأة فتقبلها وتبكي وتغني عليها وكان سبق إلى وهم الرشيد أنه كان يحب امرأة فقتلها وجعل ثيابها عنده، يذكرها بها، ويبكي عليها، وهو مجتهد في أن يعلم صحة ذاك وتحقيقه ليقيده بها، ويحقق الأمر عنده كون الرجل وحده وخلو الدار من غلام وجارية أو صاحب أو أنيس! فقال لهما: لا تسألاني ودعاني! فمازحاه ولاطفاه وألحا عليه إلى أن قال: اسمعا خبرني فإنه عجيب، وأمري فإنه غريب، كان والدي وهب لي وأنا صغير جارية في سني وقريبة مني، وتربت معي ودخلت الكتاب لدخولي، فتعلمت الكتابة والقراءة أجود مني، وعلمت الغناء فتعلمت معها، وتحاببنا حبا شديدا، ومات والدي أعظم ما كنت بها وجدا، فرفع خبرنا إلى الفضل ابن الربيع لعنه الله فرفعه إلى الرشيد كافأه الله فلم أشعر إلا بالجارية قد أخذت مني، وحملت إلى دار الخلافة خبرها الله، فاستغثت وقلت: لأي حال تؤخذ مملكتي؟ فاستخف الفضل بي قصم الله أجله وتبر عمره وقال: هذه جارية أبيك، ولا يجوز أن تكون بعده معك، والظاهر من أمرها أنها تجري مجرى الوالدة لك، فأحضر النخاسين وانظر قيمتها ليسلم إليك، فحلفت على أن أبي وهبها لي منذ كنا طفلين، فلم يلتفت علي، وأمرني فانصرفت، ولم تطب نفسي بقبض ثمنها، وغصبت عليها! هذه صفتي وحالي! فسري عن الرشيد، وقال له: ما اسمها؟ فقال: عتب، فقال له: أعلم أننا من قوم سحرة، كهنة مخدومون، ونحن نجمع الليلة بينك وبينها، ونذلل لك الجن حتى يحملوك إليها ويعيدوك وقد نعمت عينا بالاجتماع معها طول ليلتك! فقال: أنتما رائدا الخير، وأرجو أن يصح لي منكما هذا الخبر! فسار الرشيد الفضل وقال له: تقدم إلى الفراش الخاص بأن يحضر منام الناس، ويجلس على الباب، ومعه خمسة من الفراشين الأجلاد ومعهم كساء كبير وثيق، وأحضر أنت معك بنجا جيدا وشيئا من البراكير الحديد وما نوهمه به أننا نضرب له مندلا ونحضر الجن، وتقدم إلى عتب بأن تزين دارها، وتتخذ طعاما وشرابا وتعما مجلسا جميلا وتعليق الدار بأصناف الثياب المنقوشة، وتستكثر من الشمع، فإنني أريد الليلة الشرب عندها! فقال: السمع والطاعة؛ وقال له ظاهرا: قم وأحضر أداتنا، فنريد أن نتعصب مع صديقنا الليلة! فقال: حبا وكرامة؛ وانصرف وعاد آخر النهار ومعه برخاشات توهم أنها آلة، فلما أعتم الليل ضربا مندلا وتكلما عليه، ثم أقعداه في وسطه وسقياه قدحا فيه البنج، فوقع لا يعقل أمره، ودخل الفراشون فحملوه في الكساء، وأقعدوا واحدا منهم في الدار، وانصرفوا به إلى دار عتب فطرحاه فيها؛ وقال الرشيد لعتب: هذا مولاك؟ قالت: نعم، قال لها: قد رجعت إلى رقه على شرط وهو أنك لا تعلمينه بما فعلنا به، وكوني معه كأنكما لم تتفارقا، ليتصور أنه يراك ويرى ما هو فيه في النوم، فإن أطلعته على أننا جئنا به إليك أخذنا رأسك! فقالت: الله الله يا مولانا! وأعطاها دواء يخلص من البنج، فسقته إياه، وطرحت عليه الماء البارد، فاستيقظ ورأى تلك الشموع والدار والمجلس والجارية، ففرح وقال لها: يا عتب، قالت: لبيك يا سيدي، وجلست تغني له وتشرب معه، وهو يقبلها ويفرح بها، ويتعجب مما هو فيه، ويقول لها: أليس أخذت مني؟ أليس فعل بي الفضل بن الربيع لعنه الله كذا وكذا؟ وأخذك الرشيد مني فعل الله به وصنع! وجاءني البارحة ساحران فضربا لي مندلا وجمعا بيني وبينك، فاحذري لا يشعر بنا الرشيد فنهلك! فقالت: الله تعالى يكفي! وبقي يحدثها فيما نحن فيه، فلما صار آخر

الليل وإذا بالرشيد قد جاء، فقالت له: ويلك قد جاء الخليفة إلى عندي، فبكى وفزع وجزع، وهجم الرشيد عليه فقال: من عندك يا عتب؟ قالت: هذا مولاي جاء به الجن الليلة إلى عندي! فقال له: ويلك الجن يحملون الناس إلى دور الناس! هاتوا سيفا ونطعا، فأحضرا وقال: اصدقني، من أوصلك إلى هاهنا، وإلا تقدمت بضرب عنقك! فأخذ يقص عليه حديث الساحرين، وهو يكذبه ويتهدده، إلى أن نشفت لهواته، فقال اسقوني ماء، فأمر عتبا أن تطرح له في الماء بنجا، ففعلت، فلما شربه وقع نائما، وتقدم بحمله إلى بيته، وأن ينزل في المنزل الذي أخذ منه، وترد أبوابه عليه، ويقعد فراش في الشارع يحفظ الباب عليه، إلى أن يجيئاه، وجرى الأمر على ذاك، وجاءه الرشيد والفضل وسقياه من الدواء المخلص من البنج، فانتبه فزعا مروعا، فقالا له: ما عمل أصحابنا الجن معك؟ فأخذ يتذكر ويشرح لهما ما رآه في نومه، وما لحقه وجرى عليه، حتى قال: وشربت ماء فانتبهت وتخلصت من عظم ما تورطته وحصلت فيه! فقالا: إلا أنك رأيتها وفرحت بها، وتفرجت معها؟ قال: إي والله، ورجعت روحي إلي، وطابت نفسي، وليت كان لي مثل ذلك كل ليلة، ودع أقتل على التحقيق لا التفزيع! فقالا له: هذا لك عندنا، ما دمنا نعاشرك؛ فقبل رأسيهما وشكرهما، وأحضرهما ما طعماه معه، وأخذوا في الشرب، وأخذ يغني ويبكي أكثر من أمسه، وقال: قد تجدد علي من رؤيتها البارحة ما قد جدد أحزاني وأطار عقلي! وجرى أمره في الليلة الثانية على ما جرى في الأولية، وفي الثالثة على مثل ذلك، إلا أنه كان يتخلص في الليلتين من الخليفة والقتل بشرب الماء، فكان في الليلة الثالثة يلتمس الماء فيسقاه، ولا يطرح فيه بنج فلا ينام، ويعاود طلب الماء فيسقاه دفعات ولا ينام، ولا ينتبه على حسابه وظنه، فلما مات في جلده، كما يقال، تقدم الرشيد إليه بأن يأخذ بيد الجارية وجميع ما في دارها وينصرف به وبها إلى بيته، ففعل ذلك وأصبح في داره مالكا جاريته، وعرف حقيقة الحال فجزع وخضع مما كان يجري منه على الخليفة والفضل، وأمره الفضل بن الربيع بأن يتردد إلى الدار، فصار يتردد وهو خجل حي، وأطلق له من المال وأجري عليه من الجراية ما يقوم بحاله، وأنفق له من المال إنفاق لم يكن في حسابه. 175 - وخاطب الوزير أبو القاسم بن المغربي بعض العمال واحتد عليه، وقال: لأتقدمن بصفعك! فقال: بل نترك العمالة ولا تصفعنا ولا نصفعك! فأطرق المغربي، وترك الكلام، وعرف الرجل غلطته، فبقي ميتا، ثم خرج متحاملا. 176 - وحدثني محمد المعروف بابن الدوري قال: حدثني أبو المعالي ابن الطوابيقي البزاز قال: كنت سائرا في اليمن إلى مكة، ومعي تجارة على جمل، وزاد وماء على جمل، وأنا ورفيق لي على جمل موطأ لنا عليه، ونحن نتحدث، ويقارضني، ونتقارض ونتفرج، فحضر في نفسي قول الله تعالى:"وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفاس" وقلت: ما نبلغ مقصدنا إلا ونحن على الرفاهة وفي اللذة والفرجة، فما مر هذا الخاطر على قلبي حتى وقع الجمل الذي عليه الزاد والماء، فمات، فنزلنا إليه فأخذنا الزاد عنه، ولم يكن معنا في الرفقة جمل فارغ نكتريه، فاحتجنا أن نقلنا الزاد على الجمل الذي كنا عليه، ومشينا وراءه يومين وليلتين إلى مكة، فدخلناها ورجلاي قد انتفختا وتنضختا دما، وقد لقيت تعبا ونصبا وشقاء لم أظن أنني أسلم معه، وبقيت بمكة مدة أداوي ما لحقني وأصابني، وتحققت أن ذلك جواب ما خطر لي واعترضني، وعجبت من ذلك، وكثر فيه فكري!.

177 - وفي كتاب الأوراق المصولي قال: كان المأمون نازلا على البذندون، نهر من أنهر الروم عند طرسوس، فجلس يوما وأخوه المعتصم عليه، وجعلا أرجلهما فيه استبرادا له، وكان أبرد ماء وأرقه وألذه، والزمان صائفا، فقال المأمون لأخيه المعتصم: أحببت الساعة من أزاذ العراق أكلة، وأشرب من هذا الماء عليه! وسمع صوت أجراس البريد، فقال: هذا بريد أين؟ فقيل: بريد العراق، وأحضر طبقا فضة فيه رطب أزاذ، فعجب من تمنيه وما اتفق له فيه، فأكلا وشربا من الماء، ونهضا، فودع المأمون وقال ثم انتبه محموما، وفصد، وظهرت في رقبته نفخة كانت تعتاده ويراعيها الطبيب إلى أن تنضج ويفتحها فتبرأ، فقال المعتصم للطبيب وأظنه ابن ماسويه ما أظرف ما نحن فيه! تكون الطبيب المتفرد المتوحد في صناعتك وخدمة أمير المؤمنين وتعتاده مثل هذه النفخة فلا تزيلها عنه فتتلطف في حسم مادتها حتى لا ترجع إليه!! والله لئن عادت هذه العلة لأضربن رقبتك! فانصرف ابن ماسويه مستطرفا لقول المعتصم، وحدث بذاك بعض من يثق به ويأنس إليه، فقال له: تدري ما قصد المعتصم؟ فقال: لا، قال: قد أمرك بقتله حتى لا تعود النفخة إليه، وإلا فهو يعلم أن الطبيب لا يقدر على منع الأمراض عن الأجسام، وإنما قال: لا تدعه يعيش فيعود المرض إليه! وتعالل ابن ماسويه، وأمر تلميذا له بمشاهدة النفخة والتردد إلى المأمون نيابة عنه، والتلميذ يجيئه في كل يوم، فيعرفه حال المأمون وما تجدد له وبه، فأمره بفتح النفخة، فقال له: أعيذك بالله، ما احمرت ولا كملت ولا بلغت إلى حد الجرح، فقال له: امض وافتحها كما أقول لك ولا تراجعني! فأطاعه وفتحها، فمات المأمون منها. 178 - وحدث الرئيس أبو الحسين والدي قال: رأى الحسن بن رجاء بن الضحاك، وهو يتقلد فارس، وقد صفا له أمرها، كأن آتيا أتاه وصاح به بباب البيت الذي كان نائما فيه:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة" فانتبه مرعوبا، ومات من غده!. 179 - وقال: رأى الأفشين في منامه قبل سخط المعتصم عليه رؤيا أفزعته، فأرسل ليلا إلى مفسر كان قريبا منه فأحضره، وقال له: قد هالني أمر رؤيا رأيتها! قال: خير أيها الأمير اقصصها علي عند طلوع الشمس، فقال لخازنه: يكون عندك! فلما أصبح دعاه وقال له: رأيت البارحة كأن الشمس والقمر دخلا علي وأنا جالس في بهو، فقعد أحدهما على كتفي الأيمن، والآخر على الأيسر، وانتبهت لجزعي منهما! قال المفسر: فما حضرني ما أقوله في ذاك، فاستعفيته، فقال: قل ما خطر لك وأنت آمن، قلت: اقرأ "لا أقسم بيوم القيامة"، فقرأها، حتى بلغ: "وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر" فأخذته رعدة وزمع وخرجت من عنده، فما مضت عليه ثالثة حتى قبض عليه. 180 - وحدثني والدي الرئيس أبو الحسين قال: حدثني أبو الحسن محمد بن محمد الحبشي النحوي وهو من أهل البطيحة قال: أقام أبو محمد بن عمر بن شاهين صاحب البطائح بعد وفاة أبيه، وقبل انحدار أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة أبي شجاع بن نويه لحربه، وبعد وقوع الصلح معه، على سيرة جميلة في نظره، ثم حسده أبو الفرج أخوه على موضعه، وكان جاهلا متهورا، فأعمل الحيلة في الفتك به، واتفق أن اعتلت أختهما فقال لأبي محمد: إن أختنا مدنفة مشفية، فلو عدتها لقويت من نفسها؛ ففعل وركب إليها، ورتب أبو الفرج في دارها قوما وأوقفهم على الفتك به، فلما دخل أبو محمد إليها وقف أصحابه عنه لأنها دار حرم، وحمل أبو الفرج سيفه على عادة كانت له في ذلك؛ ومشى من ورائه، حتى إذا تمكن منه وقرب من الموضع الذي رتب القوم فيه جرد سيفه وضربه به، وخرجوا فتمموه له؛ ووقعت الصيحة واختلط الناس، فصعد أبو الفرج إلى سطح الدار، وأطلع على الجند وقال لهم: ما لكم علي إلا أن أطلق لكم الأموال، وأضع فيكم العطاء، وأغمر جماعتكم بالإحسان! وكان الأمر قد فات، فسكتوا وأطاعوه وأمروه، فأعطاهم وفرق فيهم! قال أبو الحسن: وحدثني أبو القاسم هبة الله بن عيسى، وكان يكتب لأبي محمد أيام عمران أبيه، وبعد ذلك له أيام إمارته، قال: لهج أبو محمد آخر عمره بأن يقترح على المغنين: لم تلبثِ الحلفاءُ والجمرُ ... يا سيِّدي قد نفدَ العمرُ فكنت أتطير عليه من ذلك، حتى كان من أمره ما كان!

181 - وحدث أبو جابر أحمد بن خلف المعروف بابن القاضي الموصلي قال: كنت أهوى جارية لأبي القاسم المعروف بابن الداية يقال لها شراة، وكانت من المحسنات، فأعطيته بها ثلاثين ألف درهم فلم يبعها، وكان صوتي عليها: أبي المدنفُ الغضبانُ يا نفسُ أن يرضى ... وأنتِ الذي صيَّرتِ طاعته فرضا وجزتِ به حدَّ الهوى فاجمعي له ... إذا همَّ بالهجرانِ خدَّكِ والأرضا فرأت قائلا يقول لها في منامها، ليلة من الليالي: لا تغني بهذا الصوت! فانقطعت عن غنائه مدة، ثم عاودت الغناء به، فرأت ثانيا في منامها مثل ما رأته أولا، فأمسكت عنه مدة أخرى؛ واتفق أن حضرت عند مولاها فألححت عليها ولم أزل بها حتى غنته لأنها كانت تجيده، فما استتمته حتى سعلت، وأداها السعال إلى الخناق، وماتت. 182 - وكان لموسى الهادي جارية يقال لها ضياء، ويجد بها وجدا شديدا، ففكر يوما فكرا طويلا، ثم عاد بهارون أخيه وقال له: يا أخي إن هذا الأمر صائر إليك، فدع لي ضياء! قال: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويمتعك بها! فقال: دع هذا عنك واحلف لي وعاهدني أنك لا تقربها؛ ففعل، ومات الهادي وكانت ضياء من أكبر هم الرشيد، فدعاها إلى نفسه، فقالت: يا أمير المؤمنين فكيف بالعهود المأخوذة عليك في أمري!! أما كذا فكفارته كذا، وأما الحج فأحج راجلا .. وبلغت من الموقع عنده أن كانت تنام على فخذه فلا يزعجها حتى تنتبه لنفسها، فبينا هي نائمة على ذلك، وهو جالس على عتبة باب إذ انتبهت ووضعت يدها على رأسها، وجعلت تبكي وتصيح، فقال لها الرشيد: مالك؟ فقالت: رأيت الهادي آخذا بعضادتي الباب وهو يقول: إن الذي غرَّه منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدُّنيا لمغرورُ أنت الذي خنت عهدي بعد موثقةٍ ... إن لم تكن كذبتْ عنك الأخابيرُ. فضمها الرشيد إلى صدره، وما جاء الليل حتى ماتت. 183 - وقال خالد بن عبد الله القسري يوما، وقد اجتمع عنده جماعة من سماره وخواصه: حدثوني عن الحب حديثا لا فحش فيه، فقال أبو حمزة اليماني: كان فتى من العرب يسمى مالك بن نصر، له بنت عم يحبها وتحبه، يقال لها الرباب، وكانت جمال وكمال وظرف وعقل، فبينما هو يوما معها إذ بكى، فقالت: ما يبكيك؟ قال: إني نظرت إليك فقلت أموت فتتزوج بعدي، فأسفت بك، ولحقتني حسرة عليك! قالت: فلعلك أن تبقى بعدي؟ قال: إن بقيت بعدك فلك عهد الله أني لا أتزوج ما حييت! قالت: ولك مني مثل ذلك .. وتعاهداً وتواثقاً .. ثم إن الفتى خرج مع قتيبة بن مسلم الباهي إلى خرسان، فلم يزل يقاتل بين يديه حتى طعن فسقط عن فرسه فقال وهو يجود بنفسه: أل ليتَ شعري غزالٍ تركته ... إذا ما أتاه مصرعي كيفَ يصنهُ أيلبسُ أثوابَ السَّوادِ تسلِّياً ... على مالكِ أم فيه للبعل مطمعُ فلو أنني كنتُ المؤخَّرَ بعدهُ ... لما لبثت نفسي عليه تقطَّعُ قال: ثم مات، فبلغ الرباب ذلك، فكاد الحزن يقتلها، وذابت حتى لم يبق منها إلا خيال، وكانت لا تهدأ من البكاء والشهيق، فتشاور أهلها فيها وقالوا لو زوجت لسلت! فزوجوها على كره منها، فلما كانت الليلة التي أرادت أن تزف فيها إلى زوجها نامت وأمها عند رأسها، فرأت في منامها مالك بن نصر زوجها الأول آخذا بعضادتى الباب وهو يقول: حيَّيتُ ساكنَ هذي الدَّارِ كلَّهمُ ... إلاَّ الربابَ فإنِّي لا أحيِّيها استبدلتْ بدلاً غيري وقد علمتْ ... أن القبورَ تواري منْ ثوى فيها فانتبهت مذعورة، وذكرت لأمها ما رأت، فقالت: يا بنية ارقدي فهذا من عمل الشيطان، وتعوذي منه! فوضعت رأسها، وأتى خيال زوجها مالك، فأخذ بعضادتى الباب ثم قال: قد كنتُ أحسبها للعهدِ راعيةً ... حتى تموتَ وما جفَّت مآقيها أمستْ عروساً وأمسى مسكني جدثاً ... حتى تموتَ فإنِّي ما ألاقيها أمسيتُ في حفرةٍ يبلى الحديدُ بها ... لا يسمعُ الصوتَ نفساً مشطتها فانتبهت مذعورة، فخرقت ثيابها، وقطعت جلبابها ونقضت مشطتها وعاهدت الله لا يجتمع رأسها مع رأس رجل ما عاشت، فلم تلبث إلا قليلا حتى ماتت.

184 - وحدث محمد بن يزيد بن عبد الحميد الكاتب بالرقة قال: حدثني السندي بن شاهك قال: كنت نائما ذات ليلة في غرفة الشرطة بالجانب الغربي من مدينة السلام، كما جرى به رسم ولاة الشرطة من المبيت في أعمالهم إلا في ليال معلومة، فرأيت في منامي جعفر بن يحيى بن خالد وهو واقف بإزائي، وعليه ثوب مصبوغ بالعصفر، وهو ينشد: كأن لم يكن بين الحجونِ إلى الصَّفا ... أنيسٌ ولم يسمرْ بمكَّةَ سامرُ بلى! نحنُ كنّا أهلها فأبادنا ... صروفُ اللَّيالي والجدودُ العواثرُ فانتبهت فزعا وقصصت الرؤيا على أحد خواصي، فقال: هذه أضغاث أحلام، وليس كل ما رآه الإنسان وجب أن يفسر! وعاودت مضجعي فلم تمتلئ عيني غمضا حتى سمعت صيحة الرابطة والشرط وقعقعة لجم البريد، ودق باب الغرفة فأمرت بفتحها، فصعد إلي سلام الأبرش الخادم، وكان الرشيد يوجهه في مهماته، فانزعجت وأرعدت مفاصلي، فظننت أن الخليفة قد أمره بأمر في، وجلس إلى جانبي وأعطاني كتابا، وقال: اقرأه، ففضضته وإذا فيه: "يا سندي، كتابنا هذا بخطنا، مختوم بالخاتم الذي في يدنا، وموصله سلام الأبرش، فإذا قرأته فقبل أن تضعه من يدك فامض إلى دار يحيى بن خالد، للإحاطة عليه، وسلام معك، حتى تقبض عليه وتوقره حديدا وتحمله إلى الحبس في مدينة أمير المؤمنين المنصور، المعروف بحبس الزنادقة، وتتقدم إلى باذام بن عبد الله خليفتك بالمصير إلى الفضل ابنه مع ركوبك أنت إلى دار يحيى، وقبل انتشار الخبر، والتقدم إليه بأن يفعل مثل ما تقدم به إليك في يحيى، وأن تحمله أيضا إلى حبس الزنادقة، ثم بث، مع فراغك من أمر هذين، أصحابك في القبض على أولاد يحيى وأولاد إخوته وقراباته". 185 - ورأى ميمون بن هرون في منامه، وهو بسر من رأى، رجلا واقفا بباب العامة ينشد: يا طالبَ الحقِّ أينَ الحقُّ وا أسفا ... غالتهُ غولٌ أمِ الإنصافُ مدفونُ أضحى الخليفةُ مقتولاً تهضَّمه ... عبيدهُ وهو بالإرغام مقرونُ فأصبح وقد قتل المعتز بالله. 186 - وذكر أبو بكر بن أبي الدنيا فقال: كان بنصيبين رجل يكنى أبا عمرو، وكان يواصل الشرب ولا يفتر عنه، فرأى في منامه قائلا يقول له: جدَّ بك الأمرُ أبا عمرو ... وأنتَ معكوفٌ على الخمرِ تشربها صرفاً صراحيَّة ... سالَ بك السَّيلُ وما تدري فلما كان في اليوم الثاني من رؤيته ما رأى مات. 187 - قال الزيادي: كنت نائما فأتاني آت في منامي وقال: من للطلاء والمغنا? ... ء ومن لشرب الخسرواني قد ماتَ شيخُ الكافري? ... نَ وكان داهيةَ الزَّمانِ فانتبهت بصوت الناعي لإسحاق بن إبراهيم. 188 - وحدثنا أبو الفضل الربعي عن أبيه قال: كان عبد الله بن قثم بن عبد الله بن العباس أمير مكة في زمن المهدي، وكان متزوجا بلبابة بنت علي بن عبد الله بن العباس، فاتفق أن كان قائلا يوما ورأى رؤيا .. قال ابن صيفي: وأرسل إلي يدعوني فلما جئته قال لي: رأيت يا أبا إسماعيل في قائلتي ما قد أزعجني، وأراني والله ميتا! قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت وجها برز إلي من هذا الجدار وقال منشدا: بينما الحيُّ وافرونَ بخيرٍ ... حملوا خيرهمْ على الأعوادِ قلت: يبقي الله الأمير، ولعل ذلك من الشيطان! قال: ما كان وجه شيطان! قلت: لعل الميت غيرك! فقال: من هو؟ عساك تعرض بلبابة بنت علي؟ نعم هي والله خير مني وأمجد .. فما مضى على هذا الحديث شهر حتى توفيت لبابة، فأقمنا بعد ذلك بسنة فأرسل إلي في مثل الوقت من اليوم المتقدم فقال: رأيت ذلك الوجه بعينه، خرج إلي في القائلة وأنشد ذلك البيت بعينه، وأنا والله ميت وما بقيت، لبابة أخرى! فقلت: يبقيك الله أيها الأمير! وما مضى شهر حتى مات.

189 - وحدث يوسف المعروف بابن الداية صاحب إبراهيم بن المهدي قال: صار إلى إبراهيم بن المهدي في النصف من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين رجل من ثقاته فأعلمه أنه رأى في المنام كأن في يده رقعة مكتوب فيها: "الطالع الجوزاء ثلاث عشرة درجة" وكأنه دفعها إلى إبراهيم فقرأها وهي تنقرض حتى لم يبق في يده منها شيء، ثم نظر إلى الأرض فلم يجد فيها شيئا مما انقرض! فقال إبراهيم: ينقرض أمر المأمون ولا يلي بعده أحد من ولده، لأن طالعه الدرجة الثالثة عشرة من الجوزاء! فلما مضى أحد وثلاثون يوما على الحديث قدم جعلان التركي على إسحق بن إبراهيم والفضل بن مرزوق بنعي المأمون، وأنه توفي بعد العصر من يوم الخميس السابع عشر من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين. 190 - ذكر حبيب بن إبراهيم البصري قال: حكى بعضهم أنه رأى ليلة الفطر من سنة إحدى وثلثمائة وقد حبس أبو الهيثم بن ثوابة في منامه كأن دارأبي الهيثم مسودة، وفيها جارية سوداء، بيديها عود وهي تضرب وتغني: أزجر العين أن تبكّي عظيما ... إن في الصَّدرِ لوعةً وهموما قتلته ملوكُ آلِ أبي العا? ... صِ وقد كانَ سيِّداً معلوما قال: وكأني أقول لها: الشعر على خلاف هذا، وهو: أزجرُ العينَ أن تبكّي الرسوما ... إن في الصَّدرِ منْ يزيدَ هموما قتلتهُ ملوكُ آل أبي العا? ... صِ وقد يقتل الكريمُ الكريما فقالت: هذا يا معشر الإنس قاله شاعركم الطرماح وما غنيته أنا إلا لشاعرنا لما أدخل رأس يزيد بن المهلب إلى دمشق، فارووا ما عندكم فإنا نروي ما عندنا?! ثم قامت إلى وسط الدار وقالت: وأيقنتُ التفريقَ يومَ قالوا ... نقسِّمُ مالَ أربدَ بالسِّهام وضربت بعودها الأرض فكسرته، ودخلت حجرة في دار أبي الهيثم، وغابت عن عيني، فقتل أبو الهيثم بعد مديدة. 191 - وحدث بعض وجوه الكتاب ببغداد قال: رأيت في المنام جارية كانت لامرأة أبي العباس بن الفرات تسمى "همة"، وفي يدها عود وهي تغني: السلاح السلاحْ ... إن أتانا الصباحْ أينَ فرسانُ قيسٍ ... ألطِّوال الرِّماحْ أينَ ساداتُ قومي ... ذو الأكفِّ السِّماحْ أين أهلُ القصورِ ... ألجعادُ الملاحْ ثم حدثت الحادثة على أبي الحسن بن الفرات بعد ذلك بأربعة أشهر سواء، واستتر أهله، وحصلت هذه الجارية عندي، فسألتها هل تغني بهذا الشعر؟ قالت: نعم، ثم أنشدتنيه، وقالت في البيت الأخير في مكان (القصور) (البطاح). 192 - وحدث محدث قال: رأيت في منامي نصف النهار قبل نكبة أبي الحسن بن الفرات بخمسة عشر يوما كأن أبا الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب ابن الفرات قد دخل علي، وعليه قميص كرابيس، وهو منتوف بعض لحيته، فقلت له: مالك؟ وكيف جئتني على هذه الحالة؟ فقال: أخنى علينا الدَّهرُ كلكلهُ ... من ذا يقومُ بكلكلِ الدَّهرِ وانتبهت فكتبت هذا البيت على الحائط، فلما كان بعد الأيام المذكورة نكب ابن الفرات. 193 - كان الوزير أبو القاسم سليمان بن الحسن بن مخلد مدلا على الوزير أبي الحسن بن الفرات لمودة بين أسلافهما، واختصاصه هو بأبي الحسن، فوجد أبو الحسن الكتب النافذة إلى أصحاب المعاون في البيعة لعبد الله بن المعتز بخطه، فلم يظهر ذلك للمقتدر بالله، حراسة لسليمان وصيانة عن أذية تطرقه وبلية تلحقه، واعتمد تقديمه والتنويه به، وكان سليمان قد تقلد للوزير أبي الحسن علي بن عيسى أيام نظره مجلس العامة في ديوان الخاصة، فقلده ابن الفرات هذا الديوان رئاسة، ثم شرع سليمان لأبي الحسن بن عبد الحميد في الوزارة وصرف ابن الفرات، وعمل لذلك نسخة بخطه إلى المقتدر بالله يسعى فيها بابن الفرات وكتابه وأصحابه وأسبابه وضياعه وأمواله، واتفق أن قام لصلاة المغرب مع جماعة من الكتاب في دار ابن الفرات فسقطت من كمه، فأخذها الصقر بن محمد الكاتب، وكان إلى جانبه، فحملها إلى ابن الفرات من وقته، فلما وقف عليها فبض عليه، وحدره في زورق مطبق إلى واسط، وصودر هناك وعوقب، ثم رفع صاحب البريد إلى ابن الفرات في جملة رفوعه أن أم سليمان ماتت ببغداد ولم يحضرها ولدها ولا شاهدته قبل موتها، فاغتم ابن الفرات لذلك فكتب بخطه كتابا هذه نسخته:

"ميزت أكرمك الله بين حقك وجرمك، فوجدت الحق يوفي على الجرم، وذكرت من سالف خدمتك في المنازل التي فيها ربيت، وبين أهلها غذيت، ما ثناني إليك، وعطفني عليك، وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت، فثق أكرمك الله بذاك، واسكن إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه، واعلم أنني أراعي فيك حقوق أبيك التي تقوم بتوكد السبب مقام اللحمة والنسب، وتسهل ما عظم من جنايتك، وتقلل ما كثر من إساءتك، ولن أدع مراعاتها والمحافظة عليها إن شاء الله تعالى، وقد قلدتك أعمال قهستان لسنة ثمان وتسعين ومائتين وبقايا ما قبلها، وكتبت إلى أحمد بن محمد بن حبيش بحمل عشرة آلاف درهم إليك، فتقلد هذه الأعمال، وأظهر فيها أثرا حميدا يبين عن كفايتك ويؤدي إلى ما أحبه من زيادتك إن شاء الله." 194 - وحدث أبو علي بن القائي النصراني قال: كان بشر بن علي كاتب حامد صديقا لي ولأبي يعقوب أبي، فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات الوزارة الثالثة، واستعرت الدنيا نارا بالمحسن ابنه وشره وتسلطه وتبسطه، طلب بشرا وأبا محمد بن عينونه في جملة من طلبه، وتتبعه وكبس عليه واستقصى في أمره، فأما بشر فإنه أخذ لنفسه عند القبض على حامد صاحبه، واستتر عندي، ولم أعلم أبي وأخي به خوفا أن يحلفا فيدلا عليه، واتفق أن كتب أخي إلى بشر رقعة ضمنها كل إرجاف وفضول، وما اطلع عليه من تقرر الأمر لأبي القاسم الخاقاني وقرب تقلده الوزارة، وبأنه قد أحكم له ما يريده منه، وأجابه بشر في تضاعيفها بما شاكل الابتداء، من غير تحفظ ولا تحرز، واختلطت الرقعة بين يدي أخي بمكاتبات وكلائه وحسبانات صنيعته، وغير ذلك مما لا فكر فيه؛ وكتب أبو أحمد عبيد الله بن محمد أخو أبي إبراهيم موسى بن محمد، وكان يتولى نصيبين، إلى المحسن بما قال فيه:"إن أردت ابن عينونه وعبد الرحمن بن عيسى بن داود فهما عند ابن القنائي"، فما شعر أبي وأخي في يوم واحد إلا بمريب خادم المحسن وقد كبسهما في جماعة من الرجالة، وفتش جميع الحجر والبيوت، ولم يبق غاية إلا بلغها في الاستقصاء والاحتياط في التفتيش والطلب، فلما لم ير أحدا عدل إلى ما كان بين أيديهما من رقاع حساب، فجمعه وحمله إلى المحسن، وفي جملته الرقعة إلى بشر وجوابه فيها، المشتملة على العجائب! ورأى أخي ذاك فمات في جلده؛ ولم يقصد أحد داري اكتفاء بما جرى على دار أبي وأخي، وسلم ابن عينونه، وكان في الوقت سكران لا فضل فيه لحركة! وقال ابن هندي: فحدثني أبو منصور بن فرخانشاه صهرنا قال: كان خبر الرقعة عندي، وأنها فيما أخذه مريب من الرقاع، فلم أزل أمشي خلفه، وهو متأبط بما أخذه، إذ انسلت الرقعة بعينها بتفضل الله تعالى من بين سائر تلك الكتب والرقاع وسقطت على الأرض، فأخذتها وبادرت إلى مستراح رأيته في الطريق مفتوحا، فطرحتها فيه، وهدأت نفسي عند ذلك. قال: ومضى أبي وأخي مع مريب إلى المحسن، ووقف على الرقاع والكتب، فلم يجد فيها ما أنكره، فخاطبهما بالجميل، واعتذر إليهما، وعرفهما السبب الذي من أجله فعل! وجاءته رسالة أبي الحسن والده ينكر عليه فعله، وانصرفا مكرمين، وزالت المحنة والبلية عنهما بانسلال تلك الرقعة من بين تلك الرقاع المأخوذة، ولله الحمد والفضل والمنة والطول. 195 - وحدث أبو القاسم بن زنجي قال: حدثني أبو الطيب أحمد ابن إسماعيل عمي قال: مضيت في يوم من الأيام على رسمي إلى الديوان بالثريا، فبينا أنا أسير لحقني فارس يسايرني، وأقبل يحدثني ويسألني عن اسمي وكنيتي ومنزلي وصناعتي، فلما ذكرت له مكاني مع أبي العباس بن الفرات قال: كيف مذهبه في العمل؟ قلت: أحسن مذهب، يستقصي حقوق سلطانه، ويستوفي مناظرة عماله، ويجد في استخراج أمواله!

قال: فكيف يجري أمر هذا الوزير يعني عبيد الله بن سليمان فإنني ما رأيت أشد تخليطا منه، ولا أغظم من حجابه، ولا أكثر إخلافا لمواعيده! قلت له: وكيف ذاك؟ قال: لأني رجل من الفرسان، قد أخر قائدي عني رزقي، فاحتجت إلى أن أخللت به، وصرت إلى الحضرة متظلما منه، وأنا أجتهد في أن يطلق لي ما وجب من رزقي، فليس يلتفت إلي، وكلما رفعت إليه رقعة رمى بها، ومتى وصلت إليه لم يخرج عليها توقيع، فقد احترقت وهلكت ونفدت نفقتي، وطالت على بابه أيامي، وكيف يمكن لهذا الرجل، وهو على ما وصفته لك، أن يعمل أعمال الخلافة ويدبر أمور المملكة؟ قلت له: الذي نعرفه من مذهبه وتقدمه ومعرفته وكتابته وكفايته غير ما ذكرته عنه، وما يدع شيئا إلا نظر فيه، ولا مظلوما إلا أنصفه! قال: الذي يبلغني عنه أنه قد اصطلم الدنيا، وأخذ الأموال لنفسه، والجند يتظلمون، وحاشية الخليفة يشكون، والنواحي خراب! فقلت: ما أحد من الحاشية إلا وهو راض، والأموال تحمل إلى الحضرة، والعمارة زائدة، والأمور مطمئنة! فقال: ما الآفة في جميع ما يجري إلا هذا الغلام الذي رفعه الخليفة فوق قدره، وأعطاه ما لا يستحقه، وصير الناس عبيدا وخولا له! فقلت: من الغلام؟ فقال: بدر، وأقبل يطعن عليه، ويتكلم فيه .. قلت: ما وضعه الخليفة إلا موضعه، والرجال حامدون له وراضون برئاسته! فحول وجهه عني فرأى كوكبة من الفرسان قد أقبلت، فحرك دابته ومضى، وما بعد حتى جاءت الكوكبة، وسألوني عن الخليفة هل رأيته، وأين أخذ؟، فقلت: ما رأيت الخليفة! قالوا: هل مر بك فارس على دابة شيتها كذا، وعليه من اللباس كذا! قلت: نعم، قالوا: وأين هو؟ فإنه الخليفة، قلت: بين أيديكم! ووجمت، ووقعت فيما لا ينادي وليده، وأقبلت أتذكر ما قلته له، وذكرت أصحابه عنده، حذرا من خطأ وقع فيه أو طعن سهوت به، وصرت إلى الديوان بالثريا، وأنا لا أعقل غما وهما، فأنا في تلك الحال إذ خرج عبيد الله بن سليمان من حضرة المعتضد بالله، واستدعى أبا العباس ابن الفرات صاحب الديوان، وأعاد عليه كل ما جرى بيني وبين المعتضد بالله، وأحمد عنده ما كان مني، وجزاني الخير، وخرج أبو العباس واستدعاني وسألني عن حالي في طريقي، وما جرى فيه لي معه، فحدثته حديث الفارس وما دار بيننا، فذكر أن الوزير أعاده عليه بعينه، وأقبل يحمد الله تعالى حسن توفيقه إياي فيما قلته وأجبت به، وأوصلني بالتحفظ فيما بعد. 196 - وحكى أبو علي عبد الرحمن بن عيسى أخو الوزير أبي الحسن علي بن عيسى أن أبا علي محمد بن عبيد الله الخاقاني كان لين العريكة قليل البصيرة، لا يدفع عن الشيء يخاطب عليه، ولا يتصور عواقب أمره فيه، فانبسطت العامة عليه فضلا عن الخاصة، وانقاد لكل محال! قال: فحدثني سبك المفلحي أن أحد القواد الأصاغر سأله أمرا، فقال: اكتب رقعة حتى أوقع لك فيما أردته، فأحضره بياضا وقال له: يوقع الوزير في آخره بالإجابة إلى المسؤول، لأكتب العرض فيه من بعد! فوقع له. قال: وتأخر نصر بن الفتح كاتب مؤنس الخادم عن الخاقاتي ثم جاءه، فسأله عن سبب تأخره فقال له: لي بنت عزيزة علي، وهي عليلة، وأنا بها قلق وعليها مشفق ولأجلها متأخر! واتفق بعد انصرافه من بين يديه أن عرض عليه صك قد أنشئ على نصر بمال لبعض الوجوه، فوقع فيه: "أطلق أكرمك الله ذلك، وعرفني خبر الصبية إن شاء الله"! قال: وحدثني سبك المفلحي قال: سألته إثبات راجل معي بأربعة دنانير في كل شهر، فقال: أربعة دنانير كثير! وكررها، ومازال يحسبها حتى صارت ثمانية وأربعين ديناراً في السنة، وكتب: "تجري له ثمانية وأربعين ديناراً في المشاهرة"!. وعرضت عليه رقعتان: إحداهما عن بعض الجند نفي استطلاق ما تأخر من رزقه، والأخرى من بعض حرمه، تستأذنه في دخول الحمام، فوقع تحت رقعة حرمته وعنده أنها رقعة الجندي: "قد حظر أمير المؤمنين ذلك، فلا سبيل إليه! " وتحت رقعة الجندي: "إذا خلونا كان الخطاب شفاهاً إن شاء الله! " فعجب والكتاب من هذا التوقيع، ووقعت المرأة على ذكر الخليفة وأنه حظر عليها دخول الحمام فلطمت واغتنمت كيف عرف الخليفة ذلك ومنع منه!. 197 - وحكى أبو الفرج السلمي الكاتب قال: حدثني أبو العباس بن النفاط قال: حدثني أبو عبد الله

بن أبي العلاء الكاتب قال: كنت بحضرة الخاقاني وقد عرض عليه كتاب من كتب الديوان إلى عامل النيل بحمله غلة كانت حاصلة قبله، وأنكر عليه تأخيرها، فوقع في الكتاب: "أحمل الغلة وأزح العلة ولا تجليس متودعاً في الكلة! " قال: ثم التفت إلي فقال لي: يا أبا عبد الله في النيل بق يحتاج معه إلى الكلل! فقلت: إي والله، وأي بق، ومن أجله يلزم الناس الكلل نهاراً وليلاً! قال: فسر بذلك وقال: نحمد الله على حسن التوفيق! ونفعني ذلك عنده. قال: ووقع في كتاب بعض العمال وكان مستزيداً له: "الزم وفقك الله المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحمل ما يمكن من الدجاج، إن شاء الله! " قال: فحمل العامل دجاجاً كثيبراً، فتقدم بأن يباع ويورد ثمنه في الحساب، فأورد منسوباً إلى ثمن دجاج السجع!. 198 - وجدت في بعض الكتب أن شيخاً من فارس رأى في منامه امرأة من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه حاسرة، في يدها عود وهي تضرب وتغني: إنَّ الشّبابَ وعيشنا اللذّ الذي ... كنّا به زمناً نسرُّ ونجذلُ ذهبت بشاشته وأصبح ذكرهُ ... حزناً يعلُّ به الفؤادُ وينهلُ فلم يكن بين ذلك وبين قتل مروان بن محمد وخروج الأمر عنهم إلا قليل. 199 - وحكى ابن أبي ربعي أنه رأى في منامه كأن رجلاً ينشده: يا عينُ ويحكِ فاهملي ... بالدمع منك وأسبلي دّلت على قرب القيا ... مةِ قتلةُ المتوكِّل فقتل المتوكل بعد ذلك بمديدة. 200 - وحكى صالح بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما قال: رأيت في منامي كأن رجلاً يعرج به إلى السماء وقائلاً يقول: ملكٌ يقادُ إلى مليكٍ عادلٍ ... متفضِّلٍ بالعفو ليسَ بجائرِ فلما كان من الغد جاءنا نعي المتوكل من سر من رأى. 201 - وقال أبو الوارث قاضي نصيبين: رأيت في منامي كأن آتياً فأنشدني: يا نائمَ العينِ في جثمانِ يقظانِ ... ما بالُ عينكَ لا تبكي بتهتانِ إنَّ اللياليَ لم تحسنْ إلى أحدٍ ... إلاَّ أساءتْ إليه بعد إحسانِ أما رأيتَ صروفَ الدَّهرِ ما فعلت ... بالهاشميِّ وبالفتحِ بنِ خاقانِ فأتي البريد بأنهما قتلا في تلك الليلة!. 202 - وحدث أبو البركات بن كامل قال: وجدت بخط الملك العزيز أبي المنصور بن الملك جلال الدولة أبي طاهر بن بويه ما نسخته: "رأينا فيما يرى النائم بالذخيرة بألطف من البصرة بعد المعركة هناك في صبيحة يوم الاثنين، مستهل شهر رمضان سنة أربعين وأربعمائة، كأن امرأة تنازعنا رمحاً في دارنا البصرة، وكأنا استنفذناه منها، فانعطفت تنشد متكئة على دار ابزين البستان الذي في الدار، وذلك بعد وفاة الملك أبي كاليجار بن بويه الذي كان غلب على العراق، وأبعد الملك العزيز عنها وشتته منها: يا غارسَ الكرمِ والنّخيلِ ... وقائد الرحل والخيول لو كنتَ تدري إلامَ صارتْ ... أحوالُ ذي المال ذا الجليلِ ما جئت من منزلٍ بعيدٍ ... ترمي قتيلاً على قتيل وبعد الأبيات: "اللهم إنا نستعيذ بك من طول الأمل في هذه الدنيا الزائلة المتنقلة تنقل الأفياء، اللهم فلا تشقنا فيها، ولاتلهنا بها عن الآخرة، واجعلنا من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، واحشرنا مع أهل بيت نبوتك الطاهرين، ولا تضرعنا مصارع الجبارين .. " وكتب خسرو فيروز بن شاهنشاه الأعظم أبي طاهر فيروز خسرو بخطه في التاريخ، وعاش بعد ذلك مرتاعا منزعجا، ولم يبق إلا قليلا ومات عن ثلاث وثلاثين سنة وستة عشر يوما شمسية. 203 - ودخل إنسان يهودي يعرف بصاعد الصيرفي حماما بباب المراتب فقال شعرا لأبي الحسن البصروي الشاعر في دواتي لنور الدولةأبي الأعز بن مزيد يسمى ثابتا: ليسَ على شاطئِ الفراتِ ... أسقطُ من ثابتِ الدّواتي طلبتُ منه وكان جهلاً ... منشفةً نشَّفتْ حياتي فقال واللهِ ما تراها ... ولو تمسَّحتَ في لهاتي واتفق أن تدخل ثابت الدواتي وسمعه ينشد، فمسك لحيته، وقال له: يا كلب ما وجدت من تقطع به خمارك إلا هجائي! فاعتذر صاعد إليه واستحيا منه.

204 - وحكى أبو سعد بن سعدان العطار قال: حدثني أبو القاسم أبي قال: اجتاز بي يوما أبو الحسن سعيد بن نصر، وكان دواتي الصاحب أبي محمد بن مكرم، فسلم علي وسلمت عليه، وسألني بعض الحاضرين عنه فقلت: أذكر هذا وقد أنكر عليه ابن مكرم فعلا فعله، فتقدم بصفعه على باب داره بالشمشكات! واتفق أن أبا الحسن لم يكن بعد عني البعد الذي لا يبلغه كلامي، فالتفت إلي وقال: يا هذا ما وجدت ما تعرفني به غير هذا الحديث! فخجلت واستحيي، ولم يكن لسان يجيبه، ولا عين تنظره، فأطرقت وأمسكت. 205 - وحدثني قال: كان في جوارنا إنسان يعرف بابن بيهويه فأحضرنا لمشاهدة حائط في داره قد عاب، واتفق أن أمه كانت تغسل الثياب، فاخرج إلي في طست من تراب الحائط وقال لي: ما يمكن أن تدخل اليوم إلى الحائط وتشاهده، وهذا من ترابه فانظر ما تريد معرفته منه! فقال له: أنا أرجع في غد إليك، وضحك منه، وتحدث بذلك عنه. 206 - وحدث عن ابن الزنفيلفي التاجر الكوفي قال: خرجت من مصر أطلب العراق، ومعي متاع ب? نحو خمسين ألف دينار للتجار ولي، واستصبحت معي جارية اشتريتها بمصر، وهويتها، ولم يمكني مفارقتها، فلما حصلنا في السماوة قالت لي الجارية: اعلم أن هذا البدوي هوذا يولع بي، وقد طالبني نفسي فامتنعت منه، فحلف ليقتلنك الليلة ويأخذني ويأخذ المال جميعه، فدبر أمرك بما تراه! قال وكان البدوي وابنا أخ له خفرائي الذين نسير معهم ونحدر بهم، فبقيت واجما، وعلمت أني مقتول وأموال الناس مأخوذة لأجل الجارية، وفكرت في أن أزوجها به، فإذا بلغنا الكوفة أخذتها منه وألزمته طلاقها، فقلت لها ذلك، وقررت رأيي معها عليه؛ فلما أدركنا المساء ونزلنا وتعشينا قلت له: يا علون، قال: لبيك، قلت: أحببت أن أزوجك بجاريتي فلانة، ألك في ذلك رأي؟ فقال: إي والله وأي رأي! فزوجته بها، وضحك واستهل، وأخذها وبعد إلى وراء رابية عنا ... فلما كان السحر جاءتني الجارية فقالت: يا مولاي جاء الرجل! فقلت: ويلك ما تقولين؟ قالت: ما قد سمعت، فقلت لها: هذا هو الهلاك بعينه، سيقول ابنا أخيه: أنت وضعت الجارية على أن أطمعته شيئا سمته به، ويجعلان ذلك طريقا إلى ما أراد هو أن يعمله بي! وقمت إليهما فقلت لهما: اسمعا ما تحكيه هذه الجارية، فقالت له: إنه لما خلا بي لم ينزل عن صدري، ولا ترك الجماع إلا بقدر الراحة ساعة بعد ساعة، ثم ثقل على صدري ثقلا عظيما، فرميت به عني، فبعد جهد ما أنزلته ودميته إلى الأرض، وتأملته فرأيته ميتا! فقالا: لا ترغ، فإنه نوى لك القبح واعتزمه فيك، وأحوجك إلى ما فعلته معه فأهلكه الله وعجل مقابلته، امض يا شيخ فلا بأس عليك! .. وقمنا إليه فواريناه وارتحنا! 207 - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: قبض عضد الدولة على أبي الوفاء طاهر بن محمد أحد أصحابه، واعتقله بقلعة الماهكي، فلما توفي عضد الدولة كتب أبو عبد الله بن سعدان إلى أبي الهيجاء عقبة ابن عنان الحاجب، وأضنه كان بالبند نيجين، على يد شجاع التنائي بقتله، فقتله وأنفذ إليه برأسه في مخلاة، فلما أحضره بين يديه وشاهده، تقدم بدفنه فدفن تحت مسناة داره على دجلة بالجانب الشرقي من مشرعة باب الطاق، فسمعت جماعة يذكرون أنه لما قتل أبو عبد الله بن سعدان رمي برأسه وجثته إلى دجلة، فلم يزل الماء يحدر الرأس إلى مسناة دار أبي الوفاء طاهر بن محمد، وكانت في مشرعة المخرم، فأخذه أحد الملاحين ودفنه تحت المسناة، فسبحان الله ما أطرف هذا الاتفاق! 208 - وحدث بعض من كان في القعة بين الغساسيري وبين عسكر خراسان التي قتل فيها الغساسيري في ذي الحجة من سنة إحدى وخمسين وأربعمائة قال: أخذت مع الناس، وكان معي سبعون دينارا، فعمدت إلى ثل صغير فدفنتها في جانبه، وعفيت أثرها، وقعدت عنها بحيث أشاهدها. فاتفق أن سقط غراب على التل، ورماه أحد الأتراك بنشابة فوقعت في الدنانير ومضى التركي فانتزعها فظهرت له الدنانير، فأخذها.

209 - وحدث أبو علي المحسن بن علي التنوخي في (نشوار المحاضرة) قال: حدثني أبو القاسم الجهني قال: حدثنا أبو محمد بن حمدون قال: أمر المعتضد بالله، في علته التي مات فيها، وقبل موته بأيام يسيرة، بأن يصنع له سم يقتل به جماعة ممن كان في الحبس، لم يحب قتلهم قتلة ظاهرة بسياسة رآها، وفعل ذلك وجيء بالسم إلى حضرته، فأراد تجربته قبل أن يقتل به من أراد قتله، فطرح في كرنبية، وأحضرت في طيفورية، وهو مفكر فيمن يطعمه منها وعلى من يجرب السم الذي فيها، إذ دخل محمد بن أحمد نفاطة وابن أبي عصمة، فقيل لهما: إن الخليفة يريد أن يأكل من ذلك اللون، وهو محجم عنه للحمية، فقالا: ما أحسن هذه الكرنبية! فلو أكل منها مولانا لقمة رجونا أنها لا تضره! وتجاوزا ذاك إلى أن أكلا منها لقما، كأنها قصدا استنهاض شهوته وتحريكها بأكلها، فلم يمكنه أن ينهاهما لئلا يخرج السر، وأمسك عنهما، ومضيا إلى منازلهما فماتا من يومهما، وبلغ الخليفة خبرهما من الغد، وقد اشتدت علته، فعلم صحة السم، وأمسك لسانه أن يأمر في معنى من أراد أن يأمر في معناه بإطعامه من ذلك السم الذي عمل له! ومات المعتضد بعد ذلك بثلاث أيام، ومضى أولئك بالعرض وسيء الاتفاق وسوء المقدار، وكأنه عمل لهما لا لغيرهما، وسلم من عمل له وقصد به ونجا. 210 - حدثني الرئيس أبو الحسين قال: رأيت في منامي قبل وفاة عميد الجيوش الحسين بن استاذ هرمز بأيام شخصا راكبا قد تحلق بين السماء والأرض، والأبصار إليه شاخصة، ثم ذاب حتى لم يبق منه شيء، فتأملته فإذا به عميد الجيوش، فانتبهت وعاودت النوم فرأيت عميد الجيوش قد نزل من داره إلى زبزبه، ومعه أبو الفتح محمد بن عنان وأبو الفتح بن المطاميري حاجبه، وكأنني قد سألت عن قصده فقيل لي: هو منحدر إلى الجبل لأن أبا غالب قد وافى عكبرا، فاستيقظت ولم أعرف أبا غالب، واتفق أن دعاني أبو الحسن رشأ بن عبد الله الخالدي واجتمع معي هناك أبو القاسم علي بن محمد بن المطلب، فلما أخذنا في الشرب حدثته حديث المنام واستكتمته إياه، فما استتممت الحديث حتى غنت المغنية: قد مضا ذلك الزّما ... نُ فما فيه مطمعُ فعلى ذلك الزما ... نِ سلامٌ مودّعُ فقال لي: أما تسمع؟ قلت: بلى! وتوفي عميد الجيوش من غد أو بعده، ولحق به أبو الفتح بن عنان ثم أبو الفتح المطاميري، وكان أبو غالب فخر الملك الذي وزر بعد بالعراق. 211 - وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثتني علم قهرمانة المستكفي بالله الشيرازية حماة أبي أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي قالت: كان المستكفي لما أفضى إليه الأمر يوصيني بتفقد القاهر بالله بنفسي، وألا أغول على أحد في ذلك، ويكرمه ويبره ويحسن غليه، وكان قد اختل عقله لسوداء لحقته، ويخرق ما يلبسه من الثياب، وقلما يبقى عليه منها قميص أو جبة، وينتف شعر لحيته وبدنه، وربما صاح وضج، ثم يثيب إليه عقله. قالت: فراسلني في بعض أيام إفاقته المستكفي يأمرني بأن استعرض شهواته وحاجاته، فسألني تمكينه من جواريه، فعرفته ذلك فأمرني بحملهن إليه، وأدخلت إليه طماعة منهن، ثم استدعى بعد ذلك مرة أن تدخل إليه ابنته، ففعلت، فقبض عليها يوماً وافتضها، وبلغ المستكفي ذلك فأعظمه وهاله، وأمر أن يفرق بينهما، ولا يمكن أن يدخل إليه غير جواريه. 212 - وحدث قال: حدثني أبو أحمد الحارثي قال: كنت أعاشر بهمذان بعض كتاب الديلم، وحسبك وصفاً بجهل أن أقول: إنه من كتاب الديلم! وكان يتحلى مغنيه، فسمعها يوماً تغني: يا حبيباً نأى عليكَ السّلامُ ... فرّقتْ بينَ وصلنا الأيّامُ فاستطابه، فلما أراد أن يستعيده قال: يا ستي غني ذاك الصوت الذي أوله: "يا حبيب الله عليك السلام! " فقالت: هذا صياح الحراس، أظنك أردت: يا حبيباً نأى عليك السّلامُ ... ....................... قال: نعم، هوهو، شدي لي في ذنبه علامة، أي وقت أردته أخرجته!. قال: وسمعته يحلف فيقول: والله الذي لا إله إلا هو أعني الطلاق والعتاق!. قال: وكتب مرة بحضرتي تذكرة بأضاحي يريد تفرقتها في دار صاحبه، وقد قرب عيد الأضحى: "القائد ثور وامرأته بقرة، ابنه كبش، بنته نعجة، الكاتب تيس" قال: فقلنا له: الروح الأمين ألقى هذا عليك فلم يدر ما أردت!.

قال: وحدثني أبو أحمد الحارثي أيضاً: قال: حضرت هذا الكاتب وهو يشرب. وقد قل نبيذه، فكتب إلى صديق له رقعة يطلب منه نبيذاً ما رأيت أطرف منها، فقلت له: يا سيدي قد رأيت كتاب بغداد وطرقت الآفاق ما رأيت أحسن من هذه الرقعة، فأحب أن تأذن لي في نسخها، فقال: يا بابا، ونحن اليوم أين بقي ما نحسنه! قد نسيناه كله مع هذا القائد! انسخها .. وأعجبه ذاك، وكانت: "كتبت هذه الكلمات يا سيدي وزري أعني به قميصي ومن هو فاضلي ومولاي وأنا عبده ومتصنع له، أطال الله بقاءه، من منزلك الذي أنا ساكنه، وقد نقصت الدم من قفاك المرسوم بي، وليس وحق رأسك الذي أحبه عندي من نبيذك الذي تشربه شيء، فبحيلتي العزيزة عليك إن كان عندك من نبيذ اشربه فوجه إلي منه بما عسى الأسهل على يدي غير هذا الرسول، فإنه ثقة، أوثق مني ومنك، وإن أردت ألا تختمه فلا تفعل، فإن الصورة لا توجب إلا ذاك، فعلت عن شاء الله. قال: وكنت يوماً عنده فجاءه صديق له من كتاب الديلم مجروحاً، فقال له: مالك؟ قال: جاء إلى الأمير اليوم كتاب من وكيله في إقطاعه فرمى به إلي وقال: اقرأه، وكنت قبل ذا إذا جاءه كتاب أخرج إلى المعلم حتى يقرأه علي وأحفظه، وأدخل فأقرؤه عليه، فلم أقدر اليوم أن أخرج من بين يديه، فقلت له باكياً: أنا لو كنت أحسن أقرأ وأكتب كنت أكون كاتب الأمير علي بن بويه! فرماني بالزوتين فجرحني. قال: وبلغني عن بعض قواد الديلم انه قال: كاتبي أحذق الناس بأمر الدواب والضياع وشراء الأمتعة والحوائج، وما له عيب إلا أنه لا يقرأ ولا يكتب!. 213 - وقال: حدثني محمد بن عبد الله التميمي قال: حدثني الهمذاني الشاعر قال: انحدرت أريد الحامدة، وكان في الوقت يليها الهيثم بن محمد العامل. فمدحته، فقال لي: لست ممن يعطي على المدح شيئاًأريأ، فلو هجوتني لكان أجدى عليك! قال: فأردت النهوض من مجلسه، فلما رأى ذلك قال: اجلس، فجلست، وجيء بمائدة لم أر مثلها، عليها من كل شيء حسن طيب شهي لذيذ، فأقعدني ناحية، وجعل يأكل ويقول: لو هجوتني لأكلت معي! وكلما مر لون وصفه ونعته وشهانيه وحسرني عليه، وأرانيه ومنعنيه، والروائح تقتلني، والمشاهدة تحسرني، إلى ان فرغ من الطعام، وجيء بالحلوى، وكانت الصورة فيه مثلها في الطعام، ثم جيء بغسول من دواري عجيبة طيبة، فغسل يده بها وهو يقول: لو هجوتني لأكلت مما أكلت وتحليت مما تحليت به وغسلت يدك من هذا! ثم أحضر الشراب وعبئ بحضرته مجلس ما ظننت أن مثله يكون إلا في الجنة حسناً، بأصناف الفاكهة وألوان الرياحين والطيب والكافور والتماثيل والشمامات والمطبوخ القطربلي والنبيذ من الزبيب والعسل، وهو يقول: لو هجوتني لشربت من هذا وحبيت من هذا وتنقلت من هذا، قم الآن وكل ما تستحقه بمدحي، فقمت وجاءوني بطبق وسخ عليه أرغفة سود وقطع مالح ومرق سكباج أحمض من الفراق، وقليل تمر، فأكلت لفرط الجوع، وجاءوني بأشنان أخضر لم ينق يدي، وجئت فجلست عنده، فقال: اجعلوا بين يديه من الشراب مثل ما يستحق من مدحي! فجاءوني بقنينة زجاج أخضر غليظ وحش وقدح مثلها وسخين وحشين، وفي القنينة نبيذ دوشاب طري، وباقلي مملوح وباقة ريحان، فشربت أقداحاً، وهممت بهجائه وأنا أمتنع خوفاً من أن يكون ذاك يصعب عليه، وإنما يمازحني بما يقوله لي، وأنا أفكر في ذاك إذ خرج خمسين ديناراً فقال: الآن قد فاتك ما مضى، ولكن اهجني مستأنفاً حتى أعطيك لكل بيت ديناراً، فقلت إن كان لابد فاكتب وقلت: جاءت بهيثم أمّهُ ... من بغيها وزنائها فرمى إلي ديناراً، فقلت: جاءت به من نتنهِ ... لا شكَّ يومَ خرائها يا هيثمُ بنَ محمدٍ ... يا بنَ التي لشقائها فقال: ما صنعت شيئاً! قلت: انتظر، قال: هات، فقلت: أمستْ تناكُ بكسرةٍ ... وكذاك مهرُ نسائها فرمى بقية الدنانير إلي، وقال: حسبك، ما أريد أجود من هذا ولا أكثر! هاتوا له مما أكلت؛ فقدم لي من جميع ما كان على المائدة فأكلت، وقدم لي من الشراب الذي بين يديه والتحايا والأنقال، فلما أراد القيام أمر لي بجائزة وخلعه فأخذتها وانصرفت من عند أحمق الناس وأجهلهم على الإطلاق.

214 - وقيل: دخل شاعر من شعراء الهند على أمير المنصورة فمدحه، فقال له الأمير: تقدم يا زوج القحبة! فقال: وما زوج القبيحة أيها الأمير؟ قال: هذا بلغة العرب كناية عمن له قدر جليل ومحل كبير ومال ودواب وجمال وغلمان وقدر ومنزلة! قال: فأنت أيها الأمير إذن أكبر زوج قحبة في الدنيا! فخجل وعلم أن هزله ومزحه جر عليه سبه وشتمه. 215 - وكان بسجستان إنسان يعرف بأبي العباس بن أشناس، يتقلد أعمال السلطان، فجاءه أبوه يوماً يسأله في أمر إنسان، وضجر منه وقال: أحب منك وأسألك إذا جاءك إنسان وقال لك: كلم ابنك، تسبني وتقول: ذاك ما هو ابني! فقال له الأب: يا بني والله إنني أقول هذا منذ ثلاثين سنة وما يقبل مني! فخجل الابن، وندم فلم تنفعه الندامة، وتداول الناس الحديث. 216 - ودخل سليمان بن بندار إلى مالك بن أسماء الفزاري يقتضيه مالا له عليه، فقال له: ليس لك علي إلا أير حمار! وكان بنو فزارة يأكلون لحم الحمير، فقال له سليمان: بارك الله لكم يا بني فرازة، إن جعتم أكلتموها وإن كان عليكم دين قضيتموه منها! فخجل مالك وطأطأ رأسه، وقال: رذيلة جلبتها بمزحي على نفسي!. 217 - قيل إن أهل الكوفة أصابهم مطر شديد في يوم صائف عظيم الحر، حتى سقطت سقوفهم وتهدمت حيطانهم، والحجاج إذ ذاك بها، فركب وسار منفرداً ينظر مبلغ أثره، فأتى موضعاً يقال له العريان، فرأى غلاماً من غلمان العرب، من اصحبهم وجهاً وأحسنهم شباباً، ومعه قوس وهو يتصيد، فقال له الحجاج: اقبل يا غلام، فأقبل، فقال له: ممن أنت يا غلام؟ قال: من الناس! قال: وأي الناس؟ قال: من ولد آدم، قال: فمن أبوك؟ قال: الذي ولدني، قال: فأين ولدت؟ قال: على ظهر الأرض في بعض الحجرات، قال: فأين نشأت؟ قال: ما بين السماء والأرض في بعض الفلوات، قال: وما اسمك؟ قال: وما تريد من اسمي؟ قال: أحببت ان أعرفك، قال: والله ما ضرني إنكارك إياي في سالف الدهر فينفعني اليوم علمك بي ومعرفتك لي! قال: إني أظنك مجنوناً، قال: أحلني ذاك عندك مجيئي إليك سعياً كأنني ممن يرجو منك خيراً أو يخاف لك شراً، ولست هناك! قال: وما يدريك يا غلام؟ قال: لعيك بجوابي وإظهارك لسبابي! قال: فانطلق معي افعل بك خيراً، قال: والله ما أرى فيك شيئاً من الخير فأنطلق معك! قال: ما أسفهك يا غلام! قال: وما علمك بسفهي وأنني سفيه، وأنت قد ذهب بك التيه وذاك بك شبيه!. فبيناهما في ذلك إذ أحدقت بهما خيل الحجاج فقالوا: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، فقال مغضباً: احتفظوا بالغلام، ثم رجع إلى الكوفة، فلما اطمأن به المجلس أمر بان نقف من جانبيه ستة آلاف رجل من الجند، بأيديهم الأعمدة والترسة والسيوف المخترطة، ثم أمر بإدخال الغلام عليه، فدخل يخطر بين الصفين، لا يهوله ما يراه، حتى وقف بين يديه، فقال له الحجاج: يا عدو الله أنت صاحب الكلام لا أم لك ولا أب لك ولا أرض لك! قال الغلام: لو كنت عدو الله كنت شيطاناً رجيماً، وما أحد بلا أم ولا أب إلا آدم وحواء، والأرض فالله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وما هي لي ولا لك، وأنا صاحب الكلام فما أنكرت منه؟ فلما رآه لم يغفل عن الجواب، ولا تغير في الخطاب، أمسك عنه مخافة أن يشتد غضبه فيقتله، وأطرق طويلاً ثم رفع رأسه إليه فقال: هل أصابكم من هذا المطر؟ قال: نعم، قال: فشهدت ابتداءه؟ قال: نعم، قال: فصفه لي؟ قال: والله لقد نظرت إليه حين أقبل تؤلفه الرياح، فوعهد الله ما عنانا ولا اكترثنا له، ثم لم يلبث أن صار نشاطاً لا ترى منه خلاصاً، ثم تحندس وأظلم، واشتدوا كتهم، وتزاحم حتى علا البقاع والتلاع، وبلغ رؤوس الجبال فهد الصخور وثور البحور، ثم هدأ بإذن من على العرش استوى، "ذلك تقدير العزيز العليم"! قال: يا غلام سلني حاجتك؟ قال: والله ما اسأل إلا من أنا وأنت عنده في المسالة سواء! ذلك الله ربي وربك! فأمر له بعشرة آلاف درهم، وبعث به إلى عبد الملك بن مروان، فأضعف له الجائزة بعد أن عجب منه ومفق عليه، وانصرف إلى أهله مسروراً.

218 - وحكي أنه حمل أبو اسحق الأهوازي إلى المتوكل، فلما أدخل عليه قال لابن حمدون: اعبث به! فقال له ابن حمدون: متى تعلمت العبارة؟ قال: أنا معبر قبل أن تكون مضحكاً! قال: فما تقول في رؤيا رأيتها؟ قال: وما هي؟ قال: رأيت كأن أمير المؤمنين حملني على فرس أشهب أخضر الذنب مثل خضرة النبات! قال: إن صدقت رؤياك فإن أمير المؤمنين يأمر بأن يدخل في استك فجلة فيغيب أصلها الأبيض وتبقى الخضرة بين فخذيك! فضحك المتوكل وقال: صدقت رؤياك يابن حمدون! هاتوا فجلة، فقال له: يا أمير المؤمنين أنت أمرتني! قال: ولكنك رأيت الرؤيا قبل أمري لك! وأمر بأن فعل به ذاك، وأجاز الأهوازي جائزة سنية.

219 - وحكى محمد بن أيوب الهاشمي أن اسحق بن العباس بن محمد كان والياً على البصرة، وكان مزاحاً عبيثاً، فلاعب الصباح بن عبد العزيز الأشعري بالنرد، في أمره ورضاه، فقمره اسحق، فقال له الصباح: احتكم أيها الأمير وأجمل، قال: أصفعك عشراً جياداً! قال: أبو الفداء أعزك الله! قال: والله لو أعطيتني جميع ما تملك ما قبلته، ثم التفت إلى غلام أسود كأنه شيطان فقال له: اصفع وجود، فصفعه عشراً كاد أن يعميه! ثم لاعبه وغلبه وفعل به مثل فعله الأول، ثم عاود اللعب فغلبه الصباح وقال له: قمرتني أيها الأمير نوبيتين فلم تحسن الصنيع، ولم تجمل الفعل، ولم ترجع عن الصفع الوجيع! قال: فما تريد؟ قال: صفعك كما صفعت، ومقابلتي لك بمثل ما فعلت! قال: ويلك، تفضحني، ويبلغ أمير المؤمنين خبرنا فيكون سبب عزلتي ونكبتي وزوال نعمي! قال: إذن لا أبالي والله! قال: أو أدفع إليك خليفتي عبد السميع فتصفعه عشرا، قال: لا أفعل، قال: وأعطيك فاضل الصرف فيما بين الصفع مائة دينار؟ قال: هات على بركة الله تعالى ... فأحضر عبد السميع فجاء كالفيل، فقال له: اجلس، وقال له: ما أشك في مودتك إياي وموالاتك لي، قال: أنا عبد الأمير وخادمه، قال: ما أعرفني بذاك منك وفيك! اعلم أن هذا الفاسق الأحمق الجاهل لاعبني بالنرد .. وقص عليه القصة إلى ما انتهى الأمر بينهما إليه ووقف الحكم عليه، فقال عبد السميع: أعيذ الأمير بالله، ما ظننت أنه ينزلني هذه المنزلة ويحلني في هذه الرتبة! قال: صدقت والله ولا ظننت أنا أن مثل هذا يتفق ويكون، ولا خطر لي ببال، لكنها بلية أوقعت نفسي فيها، وزلة ما كان لي مثلها قبلها، وأحب أن تنقذني منها وتحتمل المكروه عني فيها، فأقدني وأنقذني منها! فأقبل عبد السميع على الصباح وقال له: تأمر أعزك الله أن ألطم يسيرا عوض الصفع؟ فقال له: أنت والله أحمق! إما أن تمكنني من قفاك وإلا قمت إلى قفا الأمير أعزه الله! فقال إسحق بن العباس لعبد السميع: دع هذا وأمثاله عنك، فهو أنكد وألج وأشأم من أن يرجع أو يحسن أو يجمل! فقال الصباح: الأمير بذاك بدأ، وأمر به وبمثله! فقال عبد السميع: اصفع لا بارك الله لك وفيك، فالتفت الصباح إلى عبد له أسود كأنه الجمل الهائج فقال: اصفع وجود وبالغ وخذ بثأر مولاك ولا تراقب! فصفع عبد السميع عشر صفعات كاد رأسه يقع منها، وقال له الأمير بعد ذلك: يعز علي والله ما نالك ولحقك، ارجع إلى عملك! وكان يخلفه على الشرطة وجميع أموره ولا ينفذ لإسحق أمر إلا على يده، وقام يجر رجليه؛ وعاودا اللعب، فقمره الصباح ثانيا، واتفقا على ما اتفقا عليه أولا، واستدعي عبد السميع، فتغافل واحتج، فلم ينفعه، وجاء مكروها وهو وجل خائف، فقال له إسحق بن العباس: اعلم أن هذا الأحمق قد قمرني ثانيا واحتكم مثل حكمه أولا! فقال: اعزلني أيها الأمير، فلا رأي لي في خدمتك، فقال له: أعني هذه المرة الواحدة، وخلصني من هذا الجاهل القليل العقل والمروءة، العادم المعرفة والدراية! قال:"إن الله وإنا إليه راجعون" فقال الصباح لعبده: اصفع وجود صفعا ينثر الشعر من اللحية، ويحلق الشعر من القفا! فقال: لا كرامة ولا عزازة، اصفع يا هذا صفع المداعبة والإخوان، لاصفع العقوبة والسلطان، وأجمل فيما تفعل، فعسى أن تقع لك حاجة فأجازيك بالحسنى! فقال له مولاه: اصفع الرقيع، الصفع الوجيع، ولا تصغ إلى ما لم يصغ إليه من قتل مولاك! فقال إسحق: استعن بالله واجر على عادتك في طاعتك، فقال: لاحول ولاقوة إلا بالله! وجثا على ركبتيه، وصفعه العبد صفعا زعزع به أركان رأسه، فقال: فبكى وانتحب مما لحقه، فقال له إسحق: يعز والله علي، ارجع إلى عملك أعزك الله! فقال: لعن الله هذا العمل ويوما توليته فيه! لي إليك حاجة! قال: حوائجك عندي كلها مقضية! قال: لاتلاعب هذا الشئوم دفعة أخرى فإنه ألعب منك! فقال: اسكت، فوالله إني لأرجو أن تتولى منه ما تولى منك، وأن تشتفي منه كما اشتفى منك! قال: ما أريد ذاك أيها الأمير، قال: فما ألاعبه كما تشتهي؛ ونهض يجر رجليه خزيان جيران، وتقدم إلى صاحبه بأن يقف هناك وينظر مل يكون من الأمير والصباح، ويعلمه، وتقدم بأن يسرج له فرس، وقعد ينتظر الغلام، فجاءه وأعلمه بأنهما لعبا، وأن الصباح قمر إسحق، وأنه تقدم باستدعائه .. فركب الفرس وهرب على وجهه يقول: لا والله لا أطيع ولا أجيب ولا أعمل له

عملا أبدا! وعرف إسحق ذلك فابتاع القمرة من الصباح بخمسة آلاف درهم، ولم يلعب معه بعدها! 220 - تقدم أعرابي فصلى بالناس فقرأ (الحمد) بفصاحة وبيان، ثم قال: ويوسفُ إذ دلاَّه أولادُ علَّةٍ ... فأصبحَ في قعرِ الركيَّةِ ثاويا فوثبوا إليه فصفعوه! 221 - وكان لزيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم ابن يخالط سفهاء المدينة، فغضب عليه وأخرجه إلى خبير، فجمع إليه مشيخة مجانا، لهم هيئة من حلق الشوارب وتوفير اللحى، واتفق أن خرج زيد إلى ماله بخبير، فلما رآهم قال لابنه: مثل هؤلاء كنت آمرك أن تعاشرن ولعمري قد أحسنت الاختيار، وسترى مني ما تحب! فأقبل الابن عليهم وقال لهم: إني أخاف أن يخرج أبي من خبير ولم يعرفكم، فقالوا له: الساعة يعرفنا! وحضرت صلاة المغرب فتقدم زيد فصلى بهم، فلما قرأ:"قل يا أيها الكافرون" قالوا: لبيك لبيك! فلما قرأ:"لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد" قالوا: صدقت صدقت جعلنا الله فداك! فلما انصرف قال لابنه: ما هؤلاء! عليك وعليهم لعنة الله، فما رأيت مثلهم قط! قال: وما أنكرت منهم؟ لقد دعوتهم فلبوك، وخبرتهم فصدقوك! 222 أحضر النعمان بن الشقيقة صاحب الخورنق سنمار الرومي من بلاد الروم فبنى له الخورنق، فكان يبني فيه السنة والسنتين ثم يدعه زمانا لايعمل فيه شيئا، حتى يستقر البناء، ثم يبني، فأقام كذلك مدة طويلة، فلما فرغ من البناء دخله النعمان وعلا عليه فنظر إلى أحسن منظر وإلى ما اجتمع له في ذلك القصر مما لم يتهيأ له في غيره، فكان يرمي بظرفه إلى حسن الماء في بحر النجف واتساعه وأصوات الملاحين وصيد السمك، ثم يرمي بطرفه إلى الجانب الآخر فيرى رعي الإبل وصيد الظباء والأرانب والثعالب وجناة الكمأة، فسر به غاية السرور، وأعجب به أعظم العجب، فقال له سنمار متبجحا بالبراعة في صنعته وحكمته وهندست، ولاهيا عن غفلته وغلطته: إني لأعلم في هذا القصر موضع حجر لو حركته لتداعى القصر! قال: أويعرف غيرك؟ قال: لا! قال: لاجرم والله لايعرفه أحد على وجه الأرض! وأمر به فرمي من القصر، فتقطعت أعضاؤه، فقالت العرب في أمثالها: جزاهُ، جزاهُ اللهُ شرََّ جزائهِ، ... جزاءَ سنمَّارٍ وما كانَ ذا ذنبِ وقالَ: اقذفوا بالعلجِ من رأسِ شاهقٍ ... وذاك وبيتِ اللهِ من أعظم الخطبِ 223 - حدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جهيز قال: كنت بجلب عند أميرها معز الدولة أبي علوان ثمال بن صلح الكلابي يوما أتحدث معه، فانجز الحديث إلى أن قلت: وصف لأمير بني عقيل المقلد بن المسيب في سني نيف وثمانين وثلاثمائة جارية مغنية ببغداد، فبذل فيها ألوف كثيرة، وأجابت مالكتها إلى بيعها، فامتنعت الجارية من الإجابة إلى البيع عليه؛ فرأيت حماد بن الندى ابن عم معز الدولة وهو جالس وهو أعور، فأمسكت ووقفت، وأردت أن أقول:"لأنه أعور"، والتفت، فقال لي معز الدولة: فلم امتنعت من الخروج إليه؟ فقلت: لأنه بلغها أنه أنجزه! واتفق أن نهض حماد، فقلت لمعز الدولة: والله أيها الأمير لقد أقلت اليوم من سوء أدب أراد أن يلفظ به لساني، وأقع فيما لا أؤثره ولا أشتهيه! فقال: وهو؟ فذكرت ذلك له، فضحك وقال: ردوا إلي حمادا، فرد، فقال له: يا حماد حدثني فلان بكذا وكذا ... فقال: أيها الأمير، أما الرجل فأحسن الله جزاءه حيث فعل ما فعل، وأما القبيح فما سمعته إلا منك، ولاواجهني به غيرك! وضحكا، وخلصت أنا من حماد.

224 - حدثني منصور محمد بن محمد بن عبد العزيز العكبري قال: كتب القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي رقعة إلى كمال الدولة أبي الفضل بن فسانجس بشيء فعله أبو الحسن بن عبد الرحيم النائب عن كمال الملك أبي المعالي بن عبد الرحيم أخيهن في معنى ضرب دنانير ناقصة العيار ومطالبة الناس بأخذها بدنانير الجياد، فعلة من أفعاله القباح التي كان بها معروفا وعلى أمثالها معتمدا في متصرفاته ونيابته عن أخيه، وليس قصدنا ذكر ذلك فنخرج به عما قصدناه، وإن كانت أخباره القبيحة كثيرة وظاهرة، البيانيغني عن ذكرها وسطرها، فشكاه التنوخي فيما فعله وارتكبه واستحسنه ونفث مما في صدره منه ثقة بكمال الدولة ولأنس كان بينهما، وكمال الدولة عدو بني عبد الرحيم، وأعطى الرقعة لغلام كان له أعور يدعى بأحمد، وقال له: احمل هذه الرقعة إلى كمال الدولة، فوقع في أذنه:"احمل هذه الرقعة إلى كمال الملك، فأخذها وحملها إليها، ودخل بها عليه" فحين وقف عليها علم أنها من غلطات التنوخي وحماقته وهفواته وزلاته، وكان بذلك معروفا، وقد صار منه مألوفا، فقال له: يا أحمد قد غلطت! هذه إلى كمال الدولة أبي الفضل بن فسانجس، فاحملها إليه؛ فأخذها أحمد وحملها إلى ابن فسانجس، وأخذ جوابها إلى القاضي، فلما سلمه إليه قال له: أنت أبدا لاتفهمني ما تقوله لي! قال: كيف؟ قال: قلت لي احمل الرقعة إلى كمال الملك، فلما قرأها قال لي هذه إلى كمال الدولة، فرجعت بها إليه! قال له: أو قد حملت اللاقعة إلى كمال الملك؟ قال: نعم، فلطم على رأسه ووجهه وقال: ويه ثم ويه ثم ويه! ووثب إليه فأخذ عمامته وهرب منه، فخرطها حتى لم يبق منها مصرة درهم صحيحا ... قال أبو منصور: وجاءني لا يعقل أمره، وحدثني ذاك، فقلت له: يا قاضي! أنت سيدي ووالدي، وأنا عبدك وولدك، والله إنك فضولي، ما عليك من بني عبد الرحيم وفعلهم، وهم أولياء نعمتك ومحبوك، وأنت وليهم ومنتم إليهم ومحب لهم، وبحيث لو قيل لك: أيما أحب إليك أن تموت أنت قبل بني عبد الرحيم أو هم قبلك لاخترت سبقهم وبقاءهم بعدك، لأنهم يراعونك ويفعلون معك مالا تفعلونه مع غيرك! وقد وسموك بدار الضرب، وما تخل من ثلاثين دينارا في الشهر، وما هم إلى غيرك بالإطلاق فعل يقارب هذا الفعل، ثم أي تعلق لابن فسانجس في هذه الأمور وهو رجل قاعد في بيته، لايحلي ولايمر، ولايقضي ولا يمضي، حبابه السلامة منهم وأن يمكنه المقام في بيته معهم حتى تكاتبه بأخبارهم وأفعالهم! ثم إنك عدوه ومضمر بغضه، وأنت تصوم كل يوم ثلاثاء لما قبض عليه في يوم الثلاثاء، سرورا بمساءته وفرحا بمضرته، ولما أسلف إليك من القبح الذي يطول به الشرح!! فقال: اعلم أن بطن الأرض أحسن إليَّ من ظهرها وأصلح، فم بنا إلى المرتضى أبي القاسم نقيب النقباء؛ فقمنا وجئناه بالحديث، فقال له مثل قولي، وقال له التنوخيُّ: الشيخ أبو منصور من لا قوم وإليهم، وأسألك أن تكلفه أن يمضي إلى كمال الملك ويفاتشه في ذلك ويسأله الإقالة من هذه العثرة والإغضاء عنها وعن هذه الزلَّة! فقال له: كمال الملك يعرفك ويفهم فعلك وأنه عن غير نية قبيحة فاسدة، بل عن هفوة منك وأشياء متصلة زائدة، وهو أقل من أن يجري في ذاك قولاً أو يحدث عليه فعلاً! فقال: ما تسكن نفسي ولا يراجعني أنسي إلاَّ بعد أن أعلم من هاذ الأمر زوال ما أحذر! فالتفت المرتضى إليَّ وقال: هو ذا تسمع، وأنت أولى من انتهى إلى إرادته وتطِّف لمصلحته! فقلت: السمع والطاعة، وقمت وعبرت إلى باب المراتب، ودخلتُ على كمال الملك عصراً، فقال لي: أريد أ، آكل خبزاً، وما اتفق لي من يأكل معي، فقم بنا .. فدخلنا إلى موضع المائدة، وأكلنا، وجاءوه بما يشرب، وبدأته لما ظهرت نشوته وطابت نفسه فحدثته بحديث القاضي، فضحك وقال: قد والله ابتلي بنفسه وحمقه وخفته! ثم قال: قل له لا يقل في هذا شيئاً فيسمع أبو الحسن أخي، وليس ذاك بمأمون على المقابلة، وصدق، قال فإنه كان محسن بيت بني عبد الرحيم، يعني بذاك المحسن بن الفرات الذي كان سبباً في هلاك أبيه وأهله وذويه، قال: فرجعت إلى التنوخي بذاك فطابت نفسه، وأمسك. 225 - حدثني أبو القاسم بن البسري البندار، وكان محدثاً عالي الإسناد، قال: أنشدني أبو القاسم بن بابك الشاعر لنفسه في التنوخي: إذا التنوخيُّ انتشى ... وغاص ثم انتعشا

أخفى عليه إنْ مَشَي ... تُ وهو يخفى إن مشى فلا أراه قِلَّةً ... ولا يراني عمشا وذاك أن عينه كانت غير صحيحة، لا تهدأ جفونه من الانخفاض والارتفاع والغمض والانفتاح، وفيه يقول البصروي في قصيدة: وفي انض الأعمالِ قاضٍ ... ليسَ بأعمى ولا بصيرٍ يقضمُ ما يجتبى إليهِ ... قضمَ البراذيِن للشَّعيرِ بعني بذاك نظره في أمر العيار ودار الضرب. 226 - وحدثني غيره قال: جاء إلى التنوخي رجل على الطريق، وهو راكب حماره، فأعطاه رقعة وبعد مسرعاً عنه، ففتحها فإذا فيها: إنَّ التنوخيَّ به أُبنَةٌ ... كأنَّه يسجدُ للفيشِ له غلامانِ ينيكانهِ ... بعلةِ التزويح في الخيشِ فلما قرأها قال لغلمانه: ردوا ذاك زوج القحبة الذي أعطاني الرقعة، فعدوا وراءه وردوه، فقال: هذه الرقعة منك؟ قال: لا، أعطانيها بعض الناس وأمرني أن أوصلها إليك، قال: قل له يا كشخان يا قرنان يا زوج ألف قبحة، هات زوجتك وبنتك وأمك وأختك إلى داري، واحضر معهم، وانظر ما يكون مني إليهم، واحكم ذلك الوقت عليَّ بما قد حكمت به في رقعتك أو بضده، قفاه قفاه! فصفعوه وافترقا. 227 - حدثني أبو سعد بن سعدان العطار قال: كان في جوارنا بدرب عبدة من نهر الدجاج فقيه يعرف بالكشفلي من الشافعيين، وتقدم التقدم الشديد حتى جعل في رتبة أبي حامد الأسفراييني، وقعد بعد موته مقعده وسد مسده، واتفق أن حملت إليه عمامة عريضة قصيرة من خراسان، فقلت: أيها الشيخ اقطعها وألفقها ليمكنك التعمم بها، فلما كان من غد رأيتها على رأسه أقبح منظر؛ وتأملتها وإذا به قد قطعها عرضاً ولفقها فصار عرضها أربعة عشر شبراً، وطولها نصف ما كان، فعجب منه ولم أراجعه. 228 - عرض على الوزير ذي السعادات أبي الفرج محمد بن جعفر ابن فسانجس بالبصرة في سني نيف وثلاثين وأربعمائة، بعض التجار المسافرين ثلاث شقاق دبيقية مذهبة رفيعة، فبقيت مدة في خزانته، وحضر صاحبها في يوم كان ذو السعادات فيه متنمراً من شيء اتفق عليه، وطالب بها، فتقدم بإخرجها إلى حضرته، فجيء بها، ففتح الدواة، وكتب على واحدة بخط غليظ: "هذه لا تصلح"وعلى أخرى: "هذه غير مرضية" وعلى الأخرى: "هذه غالية" وقال: ادفعوها إليه، فأخذها الرجل وقد هلكت عليه! وكانت له في مثل ذلك نظائر، لأن السوداء كانت غالبية عليه وعلى خلقه وطبعه، وكان إذا أخطأ الفرس تحته يتقدم بقطع قضيمه، تأديباً له، فإذا قيل له في ذلك قال: أطعموه ولا تعلموه بأني علمت بذالك! 229 - وحدث الكرماني، كاتب كان لأبي بكر ابن الصيرفي صاحب الجيش، قال: أنفذني أبو بكر صاحبي لأنفق في رجال أبي محمد جعفر بن محمد بن ورقاء، فأنفقت فيهم، واستقضلت أنا وكاتب أبي محمد جعفر والجهبذ والنقيب نحو عشرة آلاف درهم، وقلنا ندخل إلى موضع ونتحاسب ونتقاسم، فدخلنا مسجداً بإزاء دار أبي محمد جعفر، ليس فيه إلا رجل عليل نائم في زي السؤال، فأقللنا الفكر فيه، وغلطنا وأخطأنا في ذلك، وأخذنا نتحاسب ونقول: أخذنا من رزق فلان الساقط بالوفاة كذا، ورزق فلان البديل كذا، ومن الضروب كذا، ومن فضل الوزن كذا، إلى أن جمعنا المبلغ الذي أخذناه، وعينا قسط كل واحد منا، وأقبلنا نزنه لصاحبه ونعطيه إياه، فرفع الرجل الغريب رأسه وقال: يا أصحابنا أخرجوا لي قسماً معكم، فقلنا: ولم؟ قال: قد سمعت ما كنتم فيه! فقلنا: هذا الرجل ضعيف، فأعطيناه خمسة دراهم، فقال: لا أقنع إلا بقسط مثل واحد منكم، فغاظنا، واستخففنا به، فقال: لا عليكم إن أعطيتموني ما طلبت، وإلا قمت الساعة ومضيت إلى أبي بكر بن الصيرفي وعرفته أنكم أخذتم باسم فلان الساقط بالوفاة كذا، وباسم فلان البديل كذا، ومن جهة كذا وكذا، ومن جهة كذا وكذا .. ولم يزل يذكر ما كنا فيه تجارينا إلى أن أتى على جميع الوجوه ومبلغ المال المسروق، حتى لم يخرم شيئاً منه، وقال: فأقل ما يعاملكم به إذا لم يصرفكم أن يرتجع المال منكم! ففكرنا في قوله، وعلمنا صحته، فرمنا منه الاقتصار على بعض ما طلب، فلم يفعل، ودخلنا تحت حكمه، وأعطيناه سهماً كأحدنا، وقمنا واجمين من غلطنا وسهونا فيما سامحنا به نفوسنا في فعلنا ما فعلناه.

230 - وحضر يوماً أبو عباد ثابت بن يحيى وزير المأمون بحضرة المأمون، فعرض عليه ما أراد عرضه عليه، وخاطبه على ما أراد خطابه فيه، ثم انصرف، فأمر المأمون برده، فرد، وخاطبه في شيء، وانصرف حتى إذا بعد تقدم برده، فرجع، وقد تغيظ وتنمر، وأمره بأمر وانصرف، فلما بعد تقدم برده، فقال للرسول: وأخذ الدواة من الدواتي بيده الساعة والله يابن الفاعلة أضرب بها رأسك! ألا قلت له: قد مضى إلى النار!! ورجع فقال له المأمون: اعرض غداً فيما تعرض حوائج الهاشميين، فقال: نعم، والآن فاذكر يا أمير المؤمنين كل ما تريده مني، فو الله لا رجعت اليوم إليك بعد هذه الدفعة ولو قمت بنفسك إلي تردني! فضحك المأمون وقال: انصرف راشداً. 231 - كان شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش بن بدران أمير بني عقيل قبض على إبراهيم أخيه لإفساد عليه اتهم به، واعتقله في قلعة له، وأراد المضي إلى السلطان عضد الدولة أبي شجاع الب ارسلان إلى خراسان، فاستدعى مستحفظ القلعة التي فيها إبراهيم أخوه، وقال له: أنا ماض إلى هذا السلطان، ولست أعلم ما يكون مني هناك، فإن أنا هلكت أو قبض علي فأفرج عن إبراهيم أخي ليقوم مقامي في إمارة العشيرة، وإن سلمت فأنت على حالك في الحفظ والحراسة ل، وكان أبو وجابر بن صقرب كاتب مسلم حاضراً، فوضع يده على فخذ مسلم رأسه إلى مستحفظ القلعة وقال له: دع هذا الكرم عنك، لو جاءك رأس الأمير في مخلاة لا تفرج عن إبراهيم حتى تراني! فأطرق الأمير، وخرج المستحفظ ثم عاد من بعد إلى الأمير وقال: ما تقول فيما قاله أبو جابر؟ قال له: هذا رجل أحمق لا تسمع منه ولا تطع له! وقبض بعد أيام على ابن صقلاب وقتله. 232 - قيل: وجلس أبو عباد يوماً بين يدي المأمون يكتب فدخلت شعرة بين سنى قلمه، وعمد إلى إخراجها بسنه، ثم كتب فإذا هي بحالها، فأهوى إليها ثانية فقطع وبقي أصلها، ثم كتب فإذا هي غمرت جميع حروفه، فكسر القلم ورمى به وقال: لعنك الله ولهن من براك ومن أنت له! فضحك المأمون وأنشد أبيات دعبل فيه وهي: أولى الأمورِ بضيعةٍ وفسادِ ... أمرٌ يدبرهُ أبو عبادِ خرقٌ على جلسائه فكأنَّما ... حضَرُوا لملحمةٍ ويمِ جلادِ وكأَنَّهُ من دَيْرِهِزْقِلَ مفلِتٌ ... حردٌ يجرُّ سلاسلَ الأقيادِ فاشددْ أميرَ المؤمنين وثاقهُ ... فأنصحُّ منه بقيةُ الحدّادِ 233 - ودخل أبو عباد يوماً إلى المأمون فقال له: يا ثابت، ما أراد بك دعبل حيث يقول: وكأَنَّهُ من دَيْرِهِزْقِلَ مفلِتٌ ... حردٌ يجرُّ سلاسلَ الأقيادِ فقال: الذي أراد يا أمير المؤمنين حيث يقول: إنِّي من القومِ الذين سيوفهم ... قتلنْ أخالك وشرفتكَ بمقعدِ شادوا بذكركَ بعد طول خُموله ... واستنقذوكَ من الحضيض الأوهدِ فقال المأمون، وقد تنمر وعلم غلطه في خطابه لمثله بما خاطبه به حتى أجابه عنه بما أجابه: فإني قد عفوت عنه، فلا يتعرض له! 234 - وحدث محمد بن أبي سمير وكان كاتباً لأبي عباد قال: كان في ناحية أبي عباد رجل خراسان يعرف بالغالي يأنس به، وكان من رسمه أنه إذا مدح شاعرٌ أبا عباد أنشد الغالي عقيبه مثله ... من قيله فيه، فاتفق أن دخل يوماً أبو سعد المخزومي إلى أبي عباد، وهو مشغول، فاستأذنه في إنشاده فأذن له على كره، فلما فرغ أظهر له استحسان شعره، وانصرف أبو سعيد، وقد ضجر أبو عباد بقطعه إياه بشعره عن شغله، فقام الغالي على عادته واستأذنه في الإنشاد، فقال له متبرماً متغيظاً: أنشد، فقال: لمّا أنخنْا بالوزيرِ ركابنا ... مستعصمين بجودهِ أعطانا ثَبَتَتْ رَحى مُلْك الإمام بثابتٍ ... وأفاضَ فيه العدلَ والإحسانا يقري الوفودَ طلاقةً وسماحةً ... والناكثين مهنَّداً وسِنانا منْ لم يزلْ للناسِ غيثاً مُمرِعاً ... متخرِّقاً في جوده .... وأشار إليه بوجهه، وجعل يردد: "في جوده .. " فاغتاظ أبو عباد وقال: ويلك! قل: "قرنانا، كشخانا! " وأرحنا! فقال: يا سيدي "معوانا" فارتجَّ المجلس بالضحك، ومضى الغالبي على وجهه، فلما سكن أبو عباد جعل يضحك مما كان منه، وأخذ القلم ووقع له بألفي درهم، وسلمه إلى من لحقه به.

235 - وجلس المأمون يوماً على الشرب والحسن بن سهل معه، فقال له المأمون: لعلك تقدر أنني قتلن الفضل أخاك؟ ولا والله ما قتلته! فقال له: بلى والله لقد قتلته! فقال: والله ما قتلته، فقال بلى والله لقد قتلته! فقال: والله ما قتلته يكررها ثلاثاً فقام المأمون من مجلسه وقال: أفٍّ لك! وانصرف الحسن إلى منزله. 236 - وحدث أبو العباس بن أبي البهلول قال: حدث المأمون قال: وصفت لي جارية بالعراق وأنا بخراسان، عاملة كاتبة لاعبة بالشطرنج والنرد، مفتنة في كل أدب، فأنفذت وابتعتها بمال كثير، وحملت إليَّ فأعجبتني وشغفت بها، واتفق في بعض الأيام أن خلوت بها ولهوت معها وجعلت الشطرنج بيني وبينها، إذ دخل الفضل بن سهل علي هاجماً ومعه غلام له، فلما رآني على ذلك أخذ قنينة كانت بين يدي وضرب بها الأرض وقال لي: أنت على هذه الحال وتنازع أخاك الخلافة، وتبلغ في التخرق والتوفر على النساء واللهو إلى هذه الغاية، ونحن ندعي لك التشاغل بالصلاة والصيام! وقال لغلامه: خذ بيد الجارية فهي لك! وورد علي من فعله ما كدت أن اجعله سبب دنو أجله، ثم كظمت غيظي وصبرت على ما لحقني. 237 - لما قدم طاهر بن الحسين العراق أقر العباس بن موسى على الكوفة وزاده عدة طساسيج، فوجه العباس إليه كاتبه يشكره ويؤديه رسائل منه إليه، فلما دخل إليه قال له: أخيك أبي موسى يقرئك السلام! قال: ومن أنت منه؟ قال: كاتبه الذي يطعمه الخبز! فقال طاهر: أين عيسى بن عبد الرحمن الكاتب؟ فجاء، فقال: اكتب بصرف العباس ابن موسى عن الكوفة وأعمالها لتركه اتخاذ كاتب يحسن الأداء عنه! 238 - دخل المتوكل يوماً على محمد بن عبد الملك الزيات فلما رآه قال له: يا جعفر تكون ابن أمير المؤمنين المعتصم بالله رحمه الله وأخا أمير المؤمنين الواثق بالله أطال الله بقاءه وهذا شعرك كأنك بعض المخنثين!! وأمر بإحضار مزين، وحضر، وقال خذ طرته وشعر قفاه، فألقى عليه بعض غلمان محمد منديلاً، فزجره محمد وقال: لا! إلا على ثوبه، فحكى عن المتوكل أنه كان يقول: ما بلغ مني شيء ما بلغه فعل محمدٍ في طرحه الشعر على ثوبي! 239 - وكان محمد بن عبد الملك تشكى، فدخل عليه احمد بن أبي خالد، وهو أصم، فقال محمد: كيف أصبحت جعلت فداك؟ قال له: بشر! فلم يسمع، فقال: الحمد لله على ذلك، فمن يختلف إليك من الأطباء؟ قال: إبليس قال: مبارك رفيق، فأي شيء وصف لك؟ قال: آجر مدقوق! قال: خفيف طيب، فخذه ولا تفارفه! 240 - وحدث محمد بن علي بن طاهر بن الحسين قال: كان أحمد بن يوسف يسقط السقطة بعد السقطة، فتلفت نفسه في بعض سقطاته، وذاك أنه حكى لي علي بن يحيى بن أبي منصور أن المأمون كان إذا تبخر طرح له العود ة والعنبر على المجمر، فحين يبخر يأمر بإخراجه ووضعه تحت الرجل من جلسائه إكراماً له؛ وحضر أحمد بن يوسف يوماً، وتبخر المأمون على عادته، ثم أمر بوضع المجمر تحت أحمد بن يوسف، فقال أحمد: هاتوا ذا المردود، فقال المأمون: ألنا تقول هذا، ونحن نصل رجلاً واحداً من خدمنا بعشرة آلاف درهم! إنما قصدنا إكرامك، وأن أكون أنا وأنت قد اقتسمنا البخور قطعة واحدة! يحضر عنبر! فأحضر منه شيء في الغاية من الجودة، في كل قطعة ثلاثة مثاقيل، فأمر أن تطرح قطعة في المجمر، ويبخر بها أحمد، ويدخل رأسه في زيقه، حتى ينفذ بخورها، وفعل به ذلك بقطعة ثانية وثالثة، وهو يستغيث ويصيح، وانصرف إلى منزله وقد احترق دماغه فاعتل ومات. قال محمد: ومن سقطاته أنه كلم أب العباس عبد الله بن طاهر في حاجة له يخاطب له المأمون عليها فوعده بذاك، ثم عاد إليه فقال له: كنت سألتك أن تكلم أمير المؤمنين في كذا، وقد سألت مؤنس يعني جاريةً كان المأمون يتحظاها أن تخاطب أمير المؤمنين فيها، وما بالأمير حاجة إلى الخطاب في ذلك! فلما خرج قال: رأيتم أحمق من هذا! يسأل مثلي في أمر أن أخاطب الخليفة فيه، ثم يجيئني ويعرفني أنه قد سأل جارية. فيما سألني، ولأنه قد استغنى بها عني! 241 - وحدث أبو هفان قال: كنت يوماً عند الفضل بن مروان وزير المعتصم، فقال في شيء جرى: الله المستعين أراد المستعان ما أحسن بالرجل أن يذكر ربه على كل حال! فقلت له: ليس ربك الذي ذكرت، فقال: قد قلت ألف مرة إني لو كنت أحسن العروض لقلت الشعر!

242 - وحدث إبراهيم بن المهدي قال: دخل الفضل بن مروان على المعتصم بالله ومعه كساء طبري في غاية الحسن فعرضه عليه، واستحسنه المعتصم وأعجب به وقال: ما رأيت مثله! وأرانيه، فقال الفضل لي: كم قيمته؟ قلت: ليس التقويم من عملي وإنما يرجع فيه إلى الباعة! فقال: فبكم كنت تبتاعه لو حمل إليك؟ قلت: بمائة دينار، فقال: لأجل هذا يا أمير المؤمنين لا تفي ضياع عملك بنفقاته، ولا تبين صلاتك له في حاله! وحقك يا أمير المؤمنين لقد صمدت لصاحبه منذ صليت الظهر إلى أن غربت الشمس أراوضه في ثمنه، لم أتشاغل بغيره حتى ابتعته منه بثلاثين ديناراً! فقلت: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما قلدك من أمور عباده، فقد أقر الفضل بين يديك بأنه لم يعمل عملاً وهو وزيرك الذي تجري على يده أمور مملكتك ورعيتك وأموالك إلا لمكاس في ثمن كساء بثلاثين ديناراً، فلو ابتاعه بألف دينار أو بعشرة آلاف دينار ما كان أنفع وأعود، وكان شغله بأمور الدين والدنيا أجدى وأولى من توفير سبعين ديناراً في ثمن كساء! وما أدفع حرمة الفضل بك وحقه عليك ومعرفته بالأسعار وقيم الأعلاق، فوفره على ذلك واشغله به، واطلب لوزارتك ودواوينك من هو أقوم بها منه وأكفى فيها! فقدح هذا القول فيه، وأثر في قلب المعتصم، وحط منزلته عنده. 243 - وحدث ابن عبد السلام الهاشمي قال: كنت في مجلس الفضل ابن مروان إذ دخل عليه إعرابي فصيح اللسان، يتظلم من بعض عماله، فصدف بوجهه عنه وزبره، فوقف ساعة متحيراً واجماً لا يحير جواباً ثم قال: أياستني من عدلك، فاسمع مني واصنع ما بدا لك، ثم أنشده: تجبرتَ يا فضلُ بن مروانَ فانتظر ... فقبلكَ كانَ الفضلُ والفضلُ والفضلُ ثلاثةُ أملاكِ مضوا لسبيلهم ... أبادهمُ التغيرُ والموتُ والقتلُ فإنك قد أصبحتَ في الناسِ ظالماً ... ستودي كما أودى الثلاثةُ من قبلُ ثم ولى منصرفاً، فقال الفضل: ما عني بقوله؟ فقيل له: أراد الفضل بن يحيى بن خالد، والفضل بن سهل، والفضل بن الربيع؛ فتغير وجهه وامتقع لونه، وبان غضبه وغيظه، وتصبر، ولم يرد الأعرابي، ولا أمر بإنصافه، ولم يكن بين ذلك وبين القبض على الفضل إلا أيام يسيرة. 244 - وحدث أبو العباس بن عمار قال: حدثني سعيد بن فضالة أنه عرض على الفضل بن مروان عند وزارته للمعتصم بالله مجمعاً عمله خليل الصايغ للخليفة، فجعل منه المقاريض وآلات المجامع حتى أخرج مبرداً، وقال: ما هذا؟ قلت: مبرد، قال: تبرد به ماذا؟ قلت: إذا قلمت الأظفار بردت بها ليزول ما فيها من شعت! قال: وأنا لا أحسن إذا قلمت أظفاري أن أبلها بريقي، وأحكها بالحائط، وأستغني بذاك عن المبرد! وفعل ذاك بحضرتنا وأراناه. 245 - حدث عبد الله بن سليمان عن الحسن بن وهب قال: قال المعتصم بالله يوماً لأحمد بن عمار، وهو يتقلد العرض عليه: أين الحسن اين وهب؟ فقال له: في منزله، فقال: لم يأخذ في كل شهر ألفي درهم ولا يعمل بها؟ أحضره ووله كتب الكتب الصادرة عنا، فإنه حسن الخط جيد البلاغة، فأحضرني وعرفني ما جرى، واستعملني، فتمكنت منه وغلبت عليه، وملكت الإيراد والإصدار عنه، وكان يجيئني أكثر من مضي إليه، فلم أشعر يوماً وأنا في منزلي إلا به وقد دخل علي، وعليه دراعة وجبة وعمامة من وشي، وقد انصرف من دار المعتصم، فسلك الطريق بهذا الزي إلى داري، فقمت إليه متلقياً، وعلمت أ، مثل تلك الثياب لا تكون إلا خلعة، وجلس مغموماً مهموماً، وقال لي: ما الكلأ؟ فقلت: النبت الذي يكثر في الصحراء عند توالي الأمطار؛ ثم قلت به: أرى أمراً ساراً وأراك معه مفكراً واجماً؟ قال قرأت على أمير المؤمنين كتاب صاحب البريد بالبصرة يذكر فيه أن المطر اتصل فكثر الكلأ، فقال لي: ما الكلأ؟ قلت: لا أدري! فقال: أنالا أدري وكاتبي لا يدري! يا غلام اصفع! فصفعت ثلاثاً، ثم قال لي: امضِ إلى الحسن بن وهب فاسأله ما الكلأ وعرفنيه، فلما وليت من بين يديه قال لبعض أصحابه: سيظهر ما جرى عليه فيضعف جاهه ويقف أمره! وأمر بأن يخلع علي هذه الخلعة من خاص ثيابه ليزول بها غضاضة ما عوملت به، وجئتك كما ترى! فقلت: هبك بم تعرف الكلأ، وأما علمت أنه لا يكثر عند المطر إلا النبات!

246 - وحدث ابن أبي عون عن أبيه عن الفضل بن مروان قال: كان محمد بن الفضل الجوجرائي شديد البخر، فدخل يوماً إلى إبراهيم بن المدبر، وذكر في عرض الحديث حال جارية له لطيفة الموقع من قلبه، كثيرة الحظ من شغفه، محبة مع موافقة، وأنه كان يدخل لسانه في فمها منذ أول الليلي وإلى آخره؛ فقال له إبراهيم بن المدير: حق لهذه ألا تعيش! أراد لنتن فيه، ولم يفطن محمد بن الفضل لما ذهب إليه فقال: هكذا والله كان، ما عاشت إلا قليلاً ثم ماتت؛ فضحك أهل المجلس حتى كادوا يفتضحون. 247 - وقال موسى بن عبد الملك للناس وقد تكاثروا بين يديه في ديوان الخراج: تقدموا إلى خلف! وخرج إليه يوماً صاحب خزانة السلاح فقال له: قد تقدم أمير المؤمنين يعني المتوكل بابتياع ثلاثين ألف رمح، طول كل واحد أربعة عشر ذراعاً، فقال: نعم هذا الطول، فكم يكون العرض فضحك الناس منه، ولم يفطن لما غل فيه! 248 - وكان أحمد بن الخصيب وزير المنتصر خفيفاً طائشاً، وكان يرفس المتظلمين إذا كثروا عليه وهو راكب، ويبصق عليهم فقال فيه بعضهم: قل للخليفة يابن عمِّ محمدٍ ... أشكلْ وزيرك إنه ركالُ أشكلهُ عن ركلِ الرِّجال وأنْ تردْ ... مالاً فعند وزيرك الأموالُ وقال فيه أحمد بن أبي طاهر: قل للخليفة يابن عمِّ مَّحمدٍ ... أشكلْ وزيرك أنَّه محلولُ فلسانُه للشَّتم في أعراضنا ... والرجلُ منه في الصدور تجولُ كم طالبٍ لظلامةٍ أو حاجةٍ ... متعرضٌ لكلامه مرْكولُ وكان أحمد بن محمد بن المدبر يقول: إنما رزق الله تعالى أحمد بن الخصيب الحظ الذي رزقه ليعلم الناس أن الأرزاق ليست بالاجتهاد ولا الاستحقاق، وأنها فوضى بين العقلاء والجهلاء! وقال رجل لأحمد بن الخصيب يصف عنده رجلاً: ما سمع إلا سبع! فقال أحمد: تقول: سبع! أنا أعرف به منك، والله ما هو إلا تسع! يذهب إلى العدد. 249 - وحدث علي بن عبد الغفار قال: أصيب أحمد بن الخصيب بمصيبة فخرج إلينا يعصر عينيه ويقول: غيضنَ من عبراتهنَّ وقلن لي ... ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا فقلت: ماذا؟ قال: لنا رأيت النساء يبكون قلت هذا البيت فيهن! فقلت: إنه لجرير! فقال: وما في هذا، قد يقع توارد! وقرأ يوماً أحمد بن الخصيب كتاب وقف أشناس بسر من رأى في أيام المعتصم بالله، وبلغ إلى موضع فيه: "بتا بتلاً" فقال: "تباّ تبلاً" فقال بعض الحاضري: قاتله الله، أما سمع قط بلفظ الطلاق! ووقع يوماً في ذكر رجلين كانا زنديقين، فنزعا ورجعا، وأمر لهما بصلة: "هذان اللذان كانا زنديقين أسلما! ". 250 - وقال ابن حمدون: قال لي المنتصر بالله يوماً: شعرت يابن حمدون بأن أحمد بن الخصيب على غاية الجهل، وأنه يشتمني في وجهي شتماً يذكر فيه حرمي، فتمنعني خدمته لي وحرمته بي من الإساءة إليه في مقابلته عليه! فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ومن يقدم على هذا؟ فقال: إذا دخل في غد إلي فاحضر بين يدي، فركبت في غد، ولم يكن يوم نوبتي، ووافى أحمد، فلما انصرف الموكب وتقوص المجلس قام المنتصر وأخذ بيد أ؛ مد، وماشاه في ممر دار البستان، وأنا اتبعهما، فسمعت المنتصر يقول به: قد طالبتني السيدة بإقطاعها ضياع أم المتوكل فما ترى؟ قال: لا، ولا كرامة لهذه الفاجرة! قال: وقد التمست أيضاً أن نقيم لها ولخدمها مثل ما كان لأم المتوكل من الإقامات والإنزال! فقال: دق يدها الفاجرة على رجلها وقل لها: حتى نرضي الموالي أولاً! قال ابن حمدون: والتفت المنتصر إلي وقال: هاتان ثنتان سماعاً من غير إخبار! 251 - وذكر المبرد قال: قرأ ابن رياح كتاب الصدقات بحضرة المنتصر بالله، وأحمد بن الخصيب حاضر، وقال: "في كل ثلاثين بقرة تنيع"، فقال المنتصر: وما التبيع؟ فبادر ابن الخصيب وقال: البقرة وزوجها! فقال المنتصر لابن رياح: أكذاك هو؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ووصف له التبيع، فقال ابن الخصيب: هذا متفق عليه! 252 - وذكر المبرد أيضاً أن ابن الخصيب قرأ على المنتصر حساباً قال في بعضه: "وعشرة آلاف درهم في مرمة التنور"، فقال: ما هذا؟ تنور يرم بعشرة آلاف درهمّ وتؤمل ذلك فكان: "في مرمة السور.

253 - شكا الكتاب إلى الفضل بن مروان ما يلقونه من حدة أحمد ابن الخصيب وعجلته وسفهه وتخلفه، فقال: كيف لو رأيتم محمد بن جمثيل وهو يلي ديوان الخراج، وقد أنكر على كاتب له حرفاً كتبه فأخذ النعل وقام إليه، وعدا الكاتب بين يديه، وجعل يتبعه وهو يدور حول بستان كان في صحن الدار، فلما أيا الكاتب قال له: أنا كتب أو وحش يصاد1 فاستحيا منه ورجع عنه. 254 - وحدث إبراهيم بن المدبر قال: دعاني صاعد بن مخلد يوماً فوجدت عنده ابن الخصيب، وقدمت إليه المائدة وعليها هليون، فأكب أ؛ مد عليه واستكثر منه، فقلت: أراك محباً له؟ قال: نعم، هو يزيد في البهاء! أراد: الباه، فعجبت من سخنة عينه! ثم قدم الشراب، فغنت المغنية: إن العيونَ التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا ثمَّ لا يحيينَ قتلانا فقال أحمد: هذا الشعر لأبي، فقلت: قاتل الله جريراً ما كان أكثر ما يسرق من شعر أبيك! 255 - وحكى أبو عمرة صاحب المظالم قال: ألحَّ الناس بسر من رأى على أحمد بن الخصيب في الجلوس لهم والوقوف على قصصهم والنظر في ظلاماتهم، فقال لجماعة من بني هاشم وأولاد المهاجرين والأنصار: ادفعوا قصصكم إلى أبي عمرة ليأخذ جوامعها ويضمنها تذكرة يعرضها عليَّ لأوقع فيها بما تنتجز به أموركم، فسكنوا إلى ذاك، وجاءوني بقصصهم، فعملت جوامعها في ثلث قرطاس وجئته به فوضعته بين يديه، ولم يوقع فيه وطالبني القوم يما فعلته في حوائجهم فعللتهم ووعدتهم، فأغلظوني وأسمعوني، وشكوت ذلك إليه، ووعدني بإنقاذ الجوامع موقعاً فيها؛ ثم أنقذها مختومة ففضضتها، فإذا هو قد وقع تحت باب (بني هاشم): "هشم الله وجوههم! " وتحت باب (المهاجرين): "هجرهم الله" وتحت باب (الأنصار): "لا نصرهم الله" وفي غير ذلك من الأبواب نسب أصحابها، فبقيت واجماً حائراً، وخلوت ببعضهم وتوثقت منهم وخرجت إليهم بالسر في ذلك، واستحلفتهم على كتمان ما ذكرته لهم منه، فعذرني العقلاء، واستزادني الجهلاء، وانبسطت الألسن بالدعاء عليه، والوقيعة فيه والظلامة منه. 256 - حدث عبد الواحد بن محمد قال: حدثني أبي قال: تشكى حجاج بن هرون صاحب ديوان الزمام على الخراج، فجئناه عواداً، ووجدناه يصلي الضحى، وابنه هرون جالس، فسألناه عن خبر أبيه، فقال: لحقته حمى واعتقال، فأشار حجاج إلينا وهو في صلاته ثم قال: عوعوعو! يريد أ، هـ أكل لحم جزور، فقال ابنه: نعم أكل لحم جزور فأفعله. وحدث أيضاً قال: حدثني نصر بن الحجاج قال: أقرأني عيسى بن فرخانشاه كتاب حجاج بن هرون إليه وقد عنونه "بخادمك وولي نعمتك حجاج بن هرون"! 257 - وحدث أحمد بن الخصيب أن حجاجاً صاح به يوماً في الديوان: ي أبا إسحق، ابن بويب من أيوه؟ فقلت له: بويب! قال: صدقت والله. قال: وعصفت الريح يوماً وأخذت من بين يديه رقعة رفعتها في الهواء فلم تلحق إلا بعد سقوطها بعد زمان، فأقبل على الريح وقال: ما عرفك إلا سليمان بن داود الذي حبسك حتى أكلت خراك! قال: وكان يطلب العمل والرقعة فإذا تعذر عليه وجوجه قال: سبحان من يدع الشيء في موضع فإذا طلبه لم يجده سبحانه! قال: وكان يقول لخازن الديوان إذا طلب منه عملاً: أين الاهن الاهنة الايش اسمه الما يقال له! 258 - ودخل عليه يوماً أبو العيناء فحادثه، وجرى ذكر الرطب، فقال الحجاج: أطيب الرطب ما دق أنوائها ورق لحائهاّ فقال له أبو العيناء: يا أبا محمد ما كنت أعرفك تحسن النحو، وأراك قد تعلمته! فقال: نعم تعلمت من معلم الصبيان، قال: ففي أي باب الصبيان اليوم منه؟ قال: في باب الفاعل والفاعلة! فقال: إذن فهم في باب والديهم! وقال أبو العيناء: قلت له يوماً قد قطعتني لغير ذنب! فقال: لا والله ما يمنعني من التوالي عنك إلا الشغل! 259 - وحدث المبرد قال: حدثني نفيس الكاتب قال: وصف حنين بن إسحق الطبيب لحجاج معجوناً وواقفه على أخذ وأن يؤخر غداءه إلى وقت الظهر ويعرفه خبره بعد ذلك! قال حنين: فكنب إلي رقعة يقول فيها: "شربت الدواء وأكلت قليل كسرة، واختلفت كرامة لوجهك أربعة: أحمر وأخضر مثل السلق، ووجدت مغساً، ورأيك في إنكار ذلك على بطني إن شاء الله! " فلم أدر بما أجيبه، وقلت للرسول: أقره السلام وقل له: نلتقي غداً إن شاء الله تعالى.

260 - وحكى الوزير أبو القاسم عبيد الله بن سليمان قال: حدثني علي بن يحيى قال: اجتاز شجاع بن القاسم يوماً في الشرب من دار الخلافة، فخرقت كلاب كانت فيه ثيابه، ودخل على المستعين على تلك الحال، فقال به: ما بالك على هذه الصورة؟ فقال: داس كلب ذنبي فخرقت ثيابه! فضحك المستعين حتى زال تماسكه. 261 - وحكى إبراهيم بن المدبر قال: حدثني أحمد بن عمار قال: عملت شعراً رائجياً وواقفت سعيد بن حميد أن يلقيه على رجل من الطالبين كان جلداً خبيثاً، ولنا ملازماً وصديقاً، ويواقفه على أن يقصد به شجاعاً وينشده إياه على أنه مديح له فيه، وبذلنا له عن ذلك براً، والشعر هو هذا: شجاعٌ نجاعٌ كاتبٌ لاتبٌ معاً ... كجلمودِ صخرٍ حطهُ السيلُ من علِ خبيصٌ لبيصٌ مستمرٌّ مقوّم ... كثيرٌ أثير ذو شمالٍ مهذَّب فطينٌ لطينٌ آمرٌ لك زاجرٌ ... حصيفٌ لصيفٌ كلُّ ذلك يعلمُ بليغٌ لبيغٌ كل ما شئتَ قلته ... لديه وإن تسكت من القول يسكن أديبٌ لبيبٌ فيه عقلٌ وحكمةٌ ... عليمٌ بشعري حين أنشدُ يشهدُ كريمٌ عليمٌ قابضٌ متباسطٌ ... إذا جئته يوماً إلى البذلِ يسمح فحفظه الطالبي ومضى إلى شجاع وقال له: ليس الشعر أعزك الله من صناعتي، وقد قلت شيئاً أرجو أن أوافق عليه، وجعلته مديحاً لك وجزاء عن إحسانك إلي وإلى بني عمي، فإن رأيت أن تسمعه مني؟ فقال له: قد أغناك الله عنه مع شرفك ووجوب حقك! قال: أحب أن تتفضل علي بذلك، واندفع فأنشد الأبيات، وشجاع مصغ إليه، فلما فرغ من إنشادها شكره عليها، ودخل إلى المنتصر فتنجز له عشرة آلاف درهم صلة، وأرزاقه ألف درهم في كل شهر، وعاد إلينا الطالبي فقال: أنتما السبب بما وصل إلي، ووالله لا أخذت منكما شيئاً! وكنا وعدناه بألف درهم. 262 - قال الحسين بن يحيى: ما سمعت شجاعاً ينشد شعراً قط غير بيت كان يتمثل به كثيراً: وإذا تكونُ كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندبُ 263 - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي رضي الله تعالى عنه قال: كان لروزبهان بن ونداخرشيذا جد أمير الديلم كاتب يعرف بأبي الحسن علي بن أبي الحسين القمي، وقد استخلفه بحضرة معز الدولة أبي الحسين بن بويه ببغداد وعول عليه في مراعاة إقطاعه بالسواد، فاتفق أن كان الوزير أبو محمد المهلبي جالساً في دار معز الدولة بباب الشماسية على الأرض يشاهد البناء فيها، وأبو الحسن القمي هذا بين يديه مع جماعة، فنهض القمي وقرب من الوزير كأنه يريد أن يساره بشيء، ثم رفع يده ولطم وجه الوزير وقال: دبابة! بالدال وكانت بقة، فقال له: يا جاهل فإذا كانت ذبابة تقتلها على وجهي! فقال: ذاك صغار لك خرطوم يلسع، فقال له: قم فقد سقط عنك القلم! فانصرف وهو يقول: إنما خدمنا! والجماعة تضحك منه وتعجب. 264 - وحكى أبو رفيد الأزدي قال: أكثرنا الضجيج على عبيد الله بن يحيى بن خاقان في أمر البصرة لما دخلها الزنج، فضجر يوماً وقال: ذهبت البصرة فمه؟ فقال فيه العدوي البصري: قال الوزير المعاون الظَّلمةْ ... الأخرسُ اللفظ مشبه امرخمهْ وقد شكونا ذهابَ بصرتنا: ... إن ذهبتْ بصرة العُرَيبِ فمهْ إن ذهبتْ زال ملكُ آل بني ال ... عباسِ أهلِ الفخار والعَظَمَهْ كلمةُ سوءٍ زلَّ اللسانُ بها ... وربَّ حتفٍ تسوقُه كلمهْ وجعل الصبيان يصيحون إذا مر عبيد الله في الطريق: فذهبت البصرة فمه! ثم اختصروا وصاحوا: فمه فمه!! فبلغ ذلك أبا يعلى كاتب عبدي الله بن يحيى فقال: والله لأنفين العدوي من الدنيا. فقال العدوي: أما من الدنيا فلا، ولكن ربما نفاني من سر من رأى، وقال يهجوه: نعمة اللهِ لا تعابُ ولكنْ ... ربمَّا استقبحتْ على أقوامِ لا يليقُ الغنى بوجهِ أبي يع ... لى ولا نورُ بهجةِ الإسلامِ وسخ الثَّوبِ والعمامةِ والبرِ ... ذونِ والوجه والقفا والغلام لا تمسُّوا أقلامهُ فتمسُّوا ... من دماءِ الحسين في الأقلام وبلغت هذه الأبيات عبيد الله، وقد تدوولت وشاعت وذاعت بسر من رأى، فتنكر لأبي يعلى، وكرده مقامه معه، ونبا عنه، وكانت السبب في خروج أبي يعلى عن سر من رأى.

265 - وحدث جعفر بن أبي نوح قال: حدثني أبي قال: كان جعفر بن محمود وزير المعتز ثقيلاً على قلبه إلا أنه لم يكن متمكناً من صرفه وتغيير أمره لأجل الأتراك، فدخلت يوماً على المعتز فنظر إلي نظراً علمت معه أنه يريد أن يلقي إلي شيئاً على خلوة، فتوقفت إلى أ، خلا مجلسه، ثم قال لي: رأيت يا عيسى أحداً ابتلي بما بليت به، لقد بلغ المكروه مني في نفسي وحرمي مبلغاً ما أطيق الصبر عليه! قلت: يبقي الله أمير المؤمنين ويصلح أموره، ما الذي ضاق صدراً به؟ قال: ويحك كنت جالساً خالياً ومعي عقد جوهر أنظمه لجاريتي فلانة، فلم أشعر إلا بدخول جعفر بن محمود ووقوفه بين يدي، وقال لي: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ قلت: إن فلانة جاريتي لطيفة الموقع من قلبي فأنا أنظم لها لهذا؛ فضحك وقال: هل علمت يا أمير المؤمنين أنها كانت ربيطتي ومحبة لي، وأرجو أن يملها أمير المؤمنين فيهبها لي! فتداخلني من الغيظ والحمية ما لم أملك معه أمري، وهممت أن أتقدم بقتله ولا أبالي ما جرى من بعده، ثم رجعت وصبرت واحتملت! فقلت: هذا رجل جاهل، والرأي ما رآه أمير المؤمنين وفعله. 266 - وحدث أبو علي نطاحة قال: أمل صالح بن شسرزاد على كاتب كتاباً إلى بعض العمال وقال فيما قال: "أبقاكما الله وحفظكما" فقال له الكاتب: يا سيدي الكتاب إلى واحدّ فقال له: فاجعله عني وعن شريكي! ولباذنجامة الكاتب في صالح: حمارٌ في المتابة يدعيها ... كدعوى آل صخرٍ في زيادِ فدّعْ عنك الكتابةَ لستَ منها ... ولو عرفتَ ثوبكَ بالمدادِ وكيف يجوزُ في الكتاَّبِ فدمٌ ... عديمُ الفهمِ منخوبُ الفؤادِ 267 - حدث أبو العباس بن عمار قال: حدثني بعض المتأدبين من أهل سر من رأى ومن كتاب ديوان الخاتم ا، صالح بن شيرزاد دخل على بعض الوزراء فقال له: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، فقال: لست بالأمير ولا السلام على الأمراء كذاك! فقال: أعزك الله إذا دخلنا على أمثالك تصاعد الكلام في صدورنا حدوراً! 268 - وحكى أن أبا أيوب ابن أخت الوزير في أيام المعتصم كان من الحمق، وكان يقول بخلطة الجن له ومعرفته بهم ومعرفتهم به، وأوهم نفسه عشق جارية منهم تسمى "قرة العين"، وكان يطرح إلى جانبه مصلى لتجلس عليه معه، وزاد ذكره لها ولهجه بها حتى غارت داريته عز عليه من ذاك وهجرته وامتنعت من لقائه وكلامه! وركب يوماً إلى باب قوم فاستأذن عليهم وقال لهم: قد مات عامر من عمار داركم، وكان شيخاً صالحاً، وأريد أن أدخل وأعزي أهله به فأدخلوه، وصلى تحت سدرة في الدار أربع ركعات، ثم قال: عظم الله أجركم في أبي سعيد وأحسن عزاءكم! وانصرف. 269 - وحكى محمد بن موسى بن سيف قال: كنت أكتب لموسى بن عيسى بالبصرة، فوصل إليها فيل أهداه صاحب السند إلى الموفق، وكتب موسى بخبره إلى الموفق، فعاد الجواب بخط أبي العلاء صاعد بن مخلد وزير الموفق: "كتابي إليك بخطي، بين يدي الأمير أطال الله بقاءه وقد وصل كتابك في أمر الفيل، وسار خبره فر وصوله سالماً، وقد أمر الأمير أيده الله بأن يقاد الفيل على أصلح الطرق، حتى يؤمن عليه الخلل فيما يحتاج إليه، إن شاء الله! " 270 - قال: وكتب إلى عبيد الله بن سليمان، وقد مات له ميت: "أحب جعلني الله فداءك أن تكتب إلى صاحب الجسر في إطلاق إحضار نائحة ليشفوا غيظهم الليلة" فقال عبيد الله: فلم أعلم غيظهم على الله أم على ملك الموت! وكتب له بما أراد. 271 - وقرأ صاعد يوماً على الموفق كتاباً فلم يفهم معناه، وقرأه الموفق وفهمه، فقال فيه عيسى بن الفاسي: أرى الدهرَ يمنعُ من جانبِه ... ويُهدي الحُظوظ إلى عائبهْ وكم طالبٍ سبباً مجلباً ... فأعيا عناه على طالبهْ ومن عجَب الدَّهرِ أنَّ الأمي ... ر أصبحَ أكتبَ من كاتبهْ وله فيه أيضاً: أتاني كتابانِ من صاعدٍ ... بمدح الرضى وبذمِّ الغضبْ وتاريخ هذا وذا واحدٌ ... بيوم الخميس، في للعجبْ فيا ليتَ شعري لماذا رضي ... وياليتَ شعي لماذا غضب! 272 - وكتب ابن الفيروزان المدائني إلى صاعد بن مخلد أبياتاً، وأهدي إليه هدية معها في يوم مهرجان، فأجابه صاعدٌ: وصلت تحيفاتك ... في يوم مهرجانك فلا عدمتُ بلاغتَك ... وطيب ريحانك

فأنت جانجاني ... وأنا جانجانك! وخاطبه أبو العينار يوماً فيحاجة، فأمسك عنها، ولم يرد جواباً عليه، فعاوده، وكان الأمر على حاله تلك، فقال له: تكلم يا سيد من سكتّ فقال ابن بسام في ذلك: يا من علا وتعظَّمْ ... اللهُ أعلى وأعظمْ يا أهلَ بغدادَ صوموا ... أبو العلا قد تكلمْ وكانت نعمة صاعد عظيمة جمة فخمة زائدة، وكان استغلال ضياعه في كل سنة ألف ألف دينار، ووجد له لما قبض عليه من الأموال والجواهر والثياب والفروش والآلات والصياغات والطيب وآلات السلاح الشيء العظيم، ومن الكراع والجمال أربعة آلاف رأس، ومن الخصيان والأتراك والسودان والحشم ثلاثة آلاف نفس وما ينيف عليه. 273 - كان إسماعيل بن بلبل الوزير يفاوض المعتمد بالله في أمر، فقال له: إذا أخرجه أمير المؤمنين من أستي أربعة أصابع فليدخله في أست من شاء! قال المعتمد، وكان المخبر بذاك لعبيد الله بن سليمان وزيره: فورد علي من قوله ما أخجلني، وأطرقت حياء منه! 274 - وحدث هشام قال: كنت بحضرة حامد بن العباس وقد نظر في وزارة المقتدر بالله إذ خرجت أمُّ موسى القهرمانة وقالت له: أنقذني أمير المؤمنين إليك وأمرني أن أقول لك في مجلس عملك كان ابن الفرات يحمل إلي في كل يوم خريطة فيها ألف دينار وإلى السيدة عشرة آلاف في كل شهر، وإلى الأمراء والقهارمة خمسة آلاف دينار، وما حملت شيئاً من ذلك منذ أربعين يوماً! فقال لها غير محتشم: قد جئت الساعة حادة محتدة تطالبينني بذاك! اضربي والتقطي واحذري لا تغلطي! فخجلت واستحيت وانصرفت. 275 - وقال يوماً في مجلسه الحفل لابن عبد السلام: هذا الدقيقي ابن البظراء قرابة أم كلثوم العفلاء تعرفه؟ فقال له: الوزير أعزه الله أعرف به مني! 276 - وقال يوماً لأبي القاسم بن الحواري في دار الخلافة وأم موسى القهرمانة حاضرة، في عرض حديث: خاصمني الطائي دفعتين فنكت أمه مرتين! فقالت أم موسى: ما هذا الكلام من كلام الناس! إنا لله وإنا إليه راجعين! .. فاستحيا وقال: نحن في السواد إذا غلبنا خصومنا قلنا: نكنا أمهاتهم. 277 - واستدعى يوماً الوليد ابن أخت الراسبي يطالبه بمال مصادرته، فقال له أبو الحسن علي بن عيسى، وهو يؤمئذ نائب عنه، يوليني الوزير خطابه؟ فقال: افعل، فاستدناه، وجلس يساره، والوليد الآن على أن أنيك أم ذا؟ فقال له: اللهم غفراً، إي والله وأي لوم! فقال محمد بن عبزس الجهشياري صاحب كتاب الوزراء، وكان حاجب علي بن عيسى: لعن الله زماناً صرت فيه وزيراً. 278 - وقال علي بن هشام: اجتاز حامد على باب دارنا بشارع باب الكوفة، فاتفق أن كلمه قوم من التناء ببادوريا وقالوا له: نحن أيها الوزير مطالبون عن كل نخلة سهريز بثلاثة دراهم، وحملها مائة رطل نبيعها بدرهمين، فأما ان أذنت لنا في قلعة أو خففت عنا من خراجه! فزبرهم وقال: النظر في مثل هذا إلى أبي الحسن علي بن عيسى فاقصدوه وخاطبوه، فمضوا، وسار خمس خطوات ثم وقف وأمر بردهم فردهم الرجالة، وقال لهم: كأني بكم وقد قلتم لعلي لن عيسى قد أجابنا الوزير وأحال عليك في التقرير! أمي إن كنت أجبتكن زانية، وأمكم إن قلتم هذا زانية، وأم علي بن عيسى إن أجابكم إليه زانية! 279 - وكان علي بن عيسى يستوفى على حامد مال ضمانه المسواد، وهو إذ ذاك موسوم بخلافته على الوزراء، ويناظره عند اجتماعهما في دار الخلافة على ما يحل عليه منه، فيستظهر على بن عيسى، ويخلد حامد إلى السفه، فيقول له علي بن عيسى: سلاماً سلاماً! يريد قول الله تعالى: (وإذا خاطَبَهُم الجاهِلونَ قالُوا سَلاَماً) فلما كثر ذلك على حامد منه قال له: كم تكثر من ذكر سلامه الذي ينيك أسماء أختك! فقال علي بن عيسى: ما بقي بعد هذا شيء! وتجنب كلامه وخطابه.

280 - كتب أسد ين جهور، وكان ممن تصرف في الأعمال الجليلة وله النعمة العظيمة، إلى بعض العمال أن احمل لنا مائتي جوانبيرة، فقال العامل: ما يصنع بهؤلاء العجائر! ثم حصل منهن ما أمكن، وأنفذهن طوعاً أو كرهاً، فما وصلن إلى بابه وقرأ كتاب العامل بإنفاذهن، قال: ادفعوهن إلى الطباخ وتقدموا إليه بأن يذبح لنا في كل يوم ما نحتاج إليه، فقيل له: انهن نساء! فقال: إنا لله، إنما أردت الجوامركات فغلطت، وتقدم بأن يدفع إليهن دراهم ويصرفن، وأن يكتب إلى العامل بحمل جوامركات من الدجاج. 281 - وحدث عبد الله بن محمد الروزي عن إسحق بن صالح قال: قيل للمأمون: إن بني علي بن صالح صاحب المصلى فجار سفهاء، قد نقش كل واحد على خاتمه ما يدل على مجونه وفجوره، فقال المأمون لعلي بن صالح: أحضرني أولادك لأقدمهم وأرتبهم، فقال: السمع والطاعة، وعرف أولاده ما رسمه المأمون في أمرهم، فأخذوا أهبتهم ودخلوا معه على المأمون فسلموا ووقفوا، فأمر بأخذ خواتيهم، وقرأ ما عليها فكان على واحد منها: "اس مكنسه استه" وعلى الآخر: "أبي يغلب النوكى بسيفه" بسيفه ورماحه" وعلى الآخر: تعس الأير وانتكسْ ... دخل الكسَّ فاحتبس وعلى الآخر: "النيك من قدام يضعف الركبتين، فلا تستعمله في الصيف"

فقال المأمون: يا سفهاء قبحكم الله، تركتم الأدب واطرحتموه، وآثرتم المجون والسفه واتبعتموه! هذا وأبوكم أحد العلماء والفقهاء الذين يرتضى برأيهم ويستضاء بهديهم! ثم أقبل عليه فقال له: مال الذنب إلا لك، لأنك أهملتهم حتى تتايعوا في غيهم وتركوا ما كان أولى بهم وبك! قال: ما لي عليهم قدرة ولا طاعة، ولا سيما هذا الكبير فإنه أفسدهم وأهتكهم، ويزين لهم سوء أعمالهم! فأطرق الكبير وأمسك، فقال له المأمون: تكلم، فقال: يا أمير المؤمنين أتكلم بلساني كله أم كما يتكلم العبد الذليل بين يد مولاه، تاركاً لحجته، وهائباً لسيده؟ قال: تكلم بما عندك! قال يا أمير المؤمنين، هل أحمدت رأي أبينا إذ أحمدت فهمه وعلمه؟ قال: نعم، قال: أعتق ما أملك وأطلق ما أطأطلاق الحرج، وعلي ثلاثون حجة تبلغ بي الكعبة إن لم يكن أبي علي بن صالح طلب سكر طبرزد فلم يجد في خزانته منه شيء، ولم يكن الوقت وقتاً يوجد فيه بائع ولا سكر، فقال له خازنه: ما عندنا سكر؛ فقال: الحمد لله رب العالمين، ولا أقول إنا لله وإنا إليه راجعون وإن كانت مصيبة، إلا أن هذا يقال عند المصائب في الأنفس، لكني احمده على السراء والضراء والشدة والرخاء، بما حمده الشاكرون، وأنا أرجو أن نكون منهم ومعهم إن شاء اللهٍ .. ثم أقبل على الخازن فقال: ادع لي الوكيل، فدعاه، فقال: ما منعك إذ فني السكر أن تبتاع لنا سكراً؟ قال: ما أعلمني الخازن، فقال للخازن: لم لم تعلمه؟ قال: قد كنت على ذلك .. قال: ما ها هنا ما هو أبلغ في عقوبتكما من أن أقوم على إحدى رجلي ثم لا أضع الأخرى على الأرض ولا أراوح بينهما حتى تحضر اني ألف من سكراً من الجنس الذي طلبته، ليس بوسخ ولا مضرس ولا لين المكسر ولا محدث العمل ولا معوج القالب؛ ثم وثب وقال: "يُوفون بالنَّذْر ويَخافونَ يوماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً" والله ثم والله لا أزال قائماً حتى أوفي ينذري! قال: فتبادر غلمانه ومواليه وبعض ولده وعجائزه نحو السوق، فواحد ينبه حارساً، وآخر يفتح درباً، وآخر يحمل شريجة، وآخر يوقظ نائماً، وآخر يرمي كلباً، والغلمان والخزَّان والجواري والحراس والسُّوقة في مثل يوم القيامة! ثم قال: يا قوم أمالي من أهلي مساعد؟ أين البنات العواتق المخبآت؟ أين اللواتي كنت أغذوهن لي الطعام واللبوس ويرعين فيما أرعين من خفض العيش وغضارة الدهر؟ أين أمهات الأولاد اللواتي اعتقدن العقد النفسية وملكن الرغائب بعد الحال الخسيسة؟ أين الأولاد الذكور الذين لهم نسعى ونحفد، ونغدو أو نروح؟ فتبادر إليه بناته وأمهات أولاده، فقامت كل واحدة منهن على ساق، فقال: أحسنتم والله، أحسن الله جزاءكن عن بركن، لمثل هذا كنت أعدكن وأحسبكن الحسنى! ولاحظ الكبرى من بناته وآخر من بنيه وهما يراوحان بين أقدامهما، فقال له: تراوحان ولا أراوح! صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم قال: "إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم". حذاري منكماّ ثم قال: علي بن صالح ليس في خزانته سكرطبرزد، وجائزته من أمير المؤمنين ثلاثمائة ألف إذا كان السعر بين الغالي والرخيص، وضيعته بالزَّاب تغلُّ مائة ألف، وضيعته بالكوفة المعروفة بالمغيريه من أجل ضيعة ملكها أحدٌ، وضيعته بطسوج الدسكرة لولا أن سعيداً السفدي أدال الله منه قطع شربها وغور مجاري مائها حتى عطلت أنهارها وبطلت عمارتها، إضراراً بنا وتعدياً علينا، ما كان لأحد مثلها، وعلى أن أكرتها ومزارعيها من ألعن خلق الله، لو تمكنوا من أن يقتطعوا الحاصل ما أعطونا شيئاً، ومن أخبرك أن الضيعة لرب الضيعة فقل كذبن لا أم لك، الضيعة ثلاثة أثلاث: فثلث للسلطان، وثلث للوكيل، وثلث للأكار، وإنما يبقى لرب الضيعة صبابة كصبابة الإناء، ومجة كمجة العرقوب، يجيء وقت الدياس، فيمر بهم الأمير، فهذا يخبز له، وهذا يذبح له، وهذا يستقيهم النبيذ، وما نبيذهم العكر الأسود إلا وضر الدبس وماء الكشوث، قبح الله ذاك شراباً ما أثقله في الجوف وأضره بالأعلاق النفيسة! ثم يأتي وقت الكيل فمن بين رقام رقم الله جلبابه، وأعدَّ له من الهوان ما هو أهله ومن بين كيال كال الله له الويل بقوله: "وّيْلٌ للمُطَفِّفين" ما يبالي أدهم بما يقدم عليه، ولقد سمعت أمير المؤمنين أعزه الله يسأل قضاته بالحضرة، هل عدلتم كياً قط؟ فكلهم قال: لا! قال: فإن أطعموا الجداء الرضع ونقى دستميسان ووهبت

لهم الدراهم، فويل يومئذ لفئة السلطان ماذا يحمل عليها من القشب والقصر والمدر ويخلط فيها من التبن! ثم قال: يا قوم لم أسهبت في ذكر هؤلاء وما الذي هاج هذا في هذه الساعة حتى تكلمت فيه؟ أما كان يكفيني أني قائم على رجلي بأحد جناحي؟ فقالوا: هذا للسكر الذي خلت خزانتك منه! قال: أجل والله، إذا كان وكيلي مشغولاً بزوجته وبناته ومصالح أمره فمتى يفرغ للنظر في مصالح خزانتي! والله لقد حدثت أن حلي بناته بألوف دنانير، وقال لزوجته: اخرجي إلى الأعياد، وادخلي الأعراس واسألي عن رجال المذكورين، واطلبي المواضع المعروفة والأنساب المرضية والأخلاق الكريمة لبناتك، وأخرجيهن في الجمعيات يتصفحن محاسن العزاب، ويخترن أولي الأنساب! أو لم يزو عن الثقات أنهم كرهوا خروج الأبكار في الجمعات التي فرض الله فيهن السعي، فنبع قوم من هذه البدعة: خارجية خرجت ومارقة مرقت،، ورافضة رفضت الدين وأهل الدين، فتركوا فرض الله، "قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله! " وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وجه ولا اثنين أنه خطب الناس فقال في خطبته: "إن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافاً بها وجحوداً لها فلا جمع الله له شملاً، ولا بارك الله له في أهله، أل اولا حج له ولا جهاد حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه"! ثم قال: يا قوم ما الذي حركنا على هذه الفضيلة في جوف الليل؟ فقالوا: السكر! قال: أجل والله فما أحضرتموني ألف من سكراً إلى هذه الغاية! أيا صبح أيا فتح أيا نصر أيا نجح! تبادروا مولاكم ويلكم فإنه قد تصب ولغب من طول القيام! والله إني لأحسب أن الثريا مقابلة سمت رأسي! ذهب والله الليل وجاء الويل! ويلكم أدركوني فإني أُريغ نومة ولا بد من البكور نحو الدار! فبادر بقية الخدم يستحثون الأول، وأخذوا السكر فجاءوا به من غير وزن ثمنه ولا تقرر سعره، طلباً للسرعة والعجلة، فقال: ما هذا؟ قالوا: ما أمرت به، قال: فهل أخذتموه من الجنس الذي طلبت؟ قالوا: نعم، قال: فهل وزنتموه واستوجبتموه؟ قالوا: لا! قال: يا أعداء الله أردتم أن توقعوا أذيتي، والله لا يطمع مني في هضمه، ولا أزال على حالي حتى تأخذوه بيعاً صحيحاً لا شرط فيه ولا خيار ولا مثنوية! هيهات يا أبي الله ذلك وعلي بن صالح! فرجعوا وقطعوا ثمنه مع التجار، ووزنوا لهم ثمنه، وعادوا إليه فأخبروه بذلك، فقال: يوزن بحضرتي! فجاءوا بالقبان، فقال: من يزن منكم؟ فقالوا: من أمرته، فقال: زن يا صبح، فقد دنا الصبح، وأرجح، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى ثوباً فقال للوزان: زن وأرجح، فو الله لو لم يكن في الرجحان إلا تحلة القسم وإن كانٍ في ذلك لما يدعو العلماء بالله الفقهاء في دين الله إلى العمل به لتوالي العمل به! فجعل الغلام يزن ويرجح، وهو يقول له: ويلك عجل، فذاك أهلك، فقد دنا الصبح! أوه جاءت والله نفسي أو كادت! قال: فلما استوفى الوزن خرَّ مغشياً عليه ما يدري أرضاً توسد أم وساداً، وكذلك كانت حال من كان معه في مثل حاله، فما انتبه واحد منهم لفريضةٍ ولا نافلةٍ إلا بحر الشمس .. فهذه يا أمير المؤمنين حال من أحمدت علمه وعقله وفهمه ورأيه وفقهه! فقال له المأمون: قاتلك الله، فما أعجب أمرك على كل حال، والله لئن كنت ولدت هذا على أبيك في مقامك هذا فمالك في الأرض نظير ولا في السماء شيبه! وإن كنت حكيت عنه حقاً وعياناً ووعيت لقد أجدت الحكاية وأحسنت العبارة وأحكمت الحفظ والدراية وما في الدنيا لأبيك في ذلك شبيه، وإنك لتعمي مساوئك بمحاسنك، فلا تذكرن شيئاً من هذا بعد هذا المجلس، فإن عيبه فينا أقدح منه في أبيك! قال: فذهب علي بن صالح ليتكلم، فقال له المأمون: إياك أن تنبس بحرف! ثم أمرهم بالانصراف. 282 - كان ليعقوب بن داود ابن متخلف، فوهب له المهدي جارية، فلما دخل إليه قال له: كيف أمرك مع تلك الجارية؟ قال له: ما وضعت يا أمير المؤمنين بيني وبين الأرض مطية أوطأ منها، حاشا السامع! فقال المهدي لأبيه: من تراه عني؟ مني أو منك؟ فقال له: الأحمق يا أمير المؤمنين تحفظ من كل شيء إلا من نفسه!

283 - وكان ليقطين بن موسى كاتب يكنى بأبي خالد ويسمى بزدانفاذار فذكر الجاحظ في (كتاب البيان والتبيين) أن لكنة بزدانفاذار كانت لكنة نبطية، وأنه أملى يوماً على كاتب به: "والحاصل ألف كر "فلما قرأه أنكر ذلك، وقال له: أنت لا تهسن تكتب وأنا لا أهسن أملي! كتب الآن: الجاصل بجيم معجمة، فكتب. 284 - وقلد المتوكل ابن الكلبي الخبر والبريد، وأحلفه على مطالعته بكل ما يبلغه ويعرفه، فكتب إليه يوماً: "ومما أنهيه إلى حضرة أمير المؤمنين أن زوجتي خرجت مع حبة لها إلى بستان، فعربدت عليها حبتها وجرحتها في صدغها" فقال إبراهيم بن العباس لما قرأ ذلك على المتوكل: هذا تصحيف، وأظنه بالعين وفتح الصاد! فضحك المتوكل وقال: ما هو إلا كما قال إبراهيم. 285 - وحدث أبو العباس ابن عمار قال سقط سنور على قفا داود ابن الجراح فقال: رياش وخير! وحضر داود مجلساً فيه جماعة من الفقهاء، فلم يزل الكلام يجري بينهم إلى أن خاضوا في باب التزويج، فقام من المجلس وقال: نحن لا ندخل في باب الفروج! 286 - وحكى ثابت بن إبراهيم عن الصابىء قال: لما ورد معز الدولة أبو الحسين بن بويه إلى بغداد، ومعه أبو جعفر محمد بن يعلى الصيمري فصدته مع جماعة من الناس، فدخلنا داراً قوراء، في جانب صحنها حصيران في صدرهما حصير مبطن عليه ثلاث مخاد، وجلسنا ننتظر إذنه، فما راعنا إلا رفع الستر وخروجه من حجرة كان فيها، وعليه منديل لطيف، وقميص نوري قد رفع ذيله على كتفه، وسراويل مسح بتكة ظاهرة، وقيل: الأستاذ الأستاذ! وبذاك كان يدعى، فنهضنا وبادرنا إلى السلام عليه وتقبيل يده، فجلس بين المخاد، فأمر ونهى غير متحاش، وانصرفنا متعجبين من أن شاهدنا ما شاهدنا من وقار علي بن عيسى بن الجراح وتزمته وأنه ما رئي في خلوته فضلاً عن جمعه إلا متعمماً متحنكاً عليه القميصان والمبطنة بينهما والدراعة من فوقهما، وفي رجله الخفان، ورأينا ما رأيناه الآن من الصيمري! 287 - قال محمد بن هلال: وأذكر في سنة تسع وأربعين وأربعمائة وقد دخلت وقاضي القضاء أبو عبد الله الدامغاني إلى العميد أبي نصر أحمد المستوفى، وهو الناظر ببغداد من قبل الملك طغرل بك، وقد سار الملك إلى الموصل وراء الفساسيري والعرب، وعليه قميص رومي خفيف فقط، فدخل إليه الأشقر الطبيب وسأله عن حاله وكيف كان مما يشكوه، فلم يشعر به إلا وقد تمدد على وجهه، وكشف القميص عن جسمه وهو مملوء دماميل وأراه إياها، وما زال يتقلب بين أيدينا على تلك الصفة ليشاهد الأشقر ما في جسمه من ذاك، ثم رجع وقعد؛ فقمت ولم أراجع إليه من بعد .. وحدثت عميد الملك أبا نصر بن محمد الكندري وزير طغرل بك بذاك، فضحك منه، وقال: هؤلاء قول سفل من أوغاد الناس وأصاغرهم، تقدموا معنا، وبلغوا إلى الغاية من جليل خدمتنا، لأن رؤساء البلاد والأكابر لم يرضوا هذه الدولة في اول خروجها واشمأزوا منها، ورفعوا نفوسهم عنها، فهلكوا واندحضوا وبادوا وذهبوا، وتبعها الأوباش والأصاغر والأدوان والأراذل، فارتفعوا وعلوا! ثم قال: وتأمل الملك والشرائع ثم الدول من بعدها تجد أوائلها وأحوالها على هذا! 288 - وحدثني الرئيس أبو الحسين رضي الله عنه قال: حدثني ثابت بن إبراهيم عمنا قال: كنت يوماً عند أبي جعفر الصميري وقد جاءه رسول الأمير معز الدولة يطلب منه فقيراً، فقال: نعم سنطلبه ونحصله، فمضى وعاد وقال: يراد الساعة! فقال: مالي فقراء، أخرأ فقراءّ فوجمنا مما سمعناه. 289 - وحكى التنوخي قال: كان بالبصرة إنسان يعرف بأبي محمد التومني، كثير الأدب والمعرفة، حسن النشوار والمحاضرة، وعادته جارية بالتصدي لخطاب العمال عن أهل البصرة والقيام بحججهم في كل معضلة، فلما ورد الصيمري البصرة طالب الناس مطالبة اعترضه التومني فيها على عادته وقال له في عرض قوله: بلدنا أيها الأستاذ كثير الصلحاء ضعيف الأهل، وما أحمد أحد قط حيفه عليهم وإساءته إليهم، وربما وكلوك إلى الله تعالى ورموك بسهام الليل يعني الدعاء! فقال له الصيمري: سهام الليل في لحيتك يا شيخ! فاستحيا الرجل وانصرف.

290 - وحدث ابن خربان الأهوازي قال: كان في أبواب المال بالأهواز جهبذ يعرف بابن واصل، تمت عليه حيلة في تزوير، وبقي عليه منه باقٍ، وطولب به فأدى بعضه وفلج في باقيه؛ وكان أبو عبيد الله الشيرازي صاحب ديوان الأهواز لمعز الدولة أبي الحسن بن بويه، وله عادة في سجع الكلام دائمة كثيرة جارية في ديوان العيوب والحماقة، لا ديوان الفضل والكتابة، وله فيها أخبار وحكايات غريبة عجيبة، فسئل في أمر ابن واصل وإنظاره فأجاب، ثم صار يقول إذا دعاه: "هاتوا ابن وصل وطالبوه بما عليه من الحاصل! "فيحضر ذلك المسكين ويحبس، ويطالب للسجع المشؤوم، ثم يؤخذ منه شيء قريب، ويسأل فيه فيفرج عنه، ثم يعيد السجع فيعود القبض والحبس! وقال يوماً: يا سيدنا أنا أعرف بابن بهية اسم والدته وأسألك أن تعفيني من الدعاء باسم أبي وتنقل ذكري إلى اسم أمي! فقال: حباً وكرامة، وصار يقول: يحضر ابن بهية ويطال بالبقية! فعاد الرجل فيما كان فيه من جهة الأب، وجرت عليه المطالبة بذلك السجع مرات وكرات! فقال: يا سيدنا أنا أنتقي من والدي وأسألك ألا أدعى باسم واحد معهما!! فضحك منه وأمسك عنه. 291 - وكان لبنجاسب أحد قواد الديلم الأكابر كاتب بعرف بأبي الرعاقل الطحري، فاستدعاه أبو عبيد الله يوماً وطالبه بفاضل القطاع بنجاسب وقال له: "على صاحبك من فضل الاقطاع ما قد كشف في طلب كسره القناع" فقال له: لا تقل مثل هذا فإن صاحبي معرف، وهو ابن عم الأمير، ولا يلبس بحمد الله مقنعة قط، ولا هو مخنث! فقال له: يا جاهل ومن قال إنه يلبس المقنعة؟ فقال: أنت الساعة، وستعلم من هو الجاهل! وقام مبادراً وجاء إلى صاحبه فقال له: يا قائد اقتلني بين يديك ولا أسمع فيك الكلام الرديء القبيحّ! فسأله عن ذلك، فقال: أ، ت بنجاسب بن يعقوب لنا مالح خالص فرابة الأمير يقول أبو عبيد الله فيك في الديوان والناس حضور يسمعون إنك مخنث تلبس المقنعة وقد كشفها عن رأسك بسبب فاضل إقطاع لا يجب علينا! فثار بنجاسب كالمجنون، وكان قد شرب أقداحاً، وأخذ في يده خشتاً، وركب دابة النوبة، وأسرع يطلب أبا عبيد الله لفتك به، ورآه قوم من القواد وعرفوا خبره، فأمسكوه وهو يجاذيهم وقالوا له: هذا لا يحسن بك، ويجب أن تمضي إلى الأمير وتعرفه ما جرى، فإن هو أجابنا إلى ما نريده في هذا الرجل، وإلا كان هذا بيدك لم يفتك منه شيء، وعدلوا به إلى دار الأمير معز الدولة، وصارت فتنة عظيمة، وبين لبنجاسب معنى الكلام بالفارسية، فلم يقبل، ولم يصغ إلى قول أحد إلى قول كاتبه، إلى أ، حضر أبو بكر السيرجاني كاتب الإنشاء، وكان موقراً عندهم، وحدث بالحديث فقال: أن أحل هذه العقدة! ودخل الدهليز فرأى بنجاسب على ما هو عليه من الامتعاض والغيظ، فسأله عن حاله فأعاد عليه ما قاله أبو عبيد الله لكاتبه، وقال: جعلني مخنثاً ألبس المقنعة! ولئن لم ينصفني الأمير منه لأقتله وأعود إلى ديلمان! فقال أبو بكر: أما كاتبك فأحسن الله تعالى جزاءه كيف حمي لصاحبه وامتعض له، إلا أنه ذهب عليه المعنى لأنه كاتب حاسي، ولا يعرف كلام العرب، والقناع في لغتهم السيف، وأبو عبيد الله يتكلم دائماً بما لا يفهمه غيره! ولم يزل يداريه ويحمد الكاتب على فعله حتى قبل منه وقال له: قد صدقت، وكأني ما عرفت هذا، ولا تلزمه معرفته، وكذا يكون الكاتب الناصح، إذا سمع كلمة في صاحبه قلق لها ولا يحتملها! وانصرف بنجاسب إلى داره، فخلع على كاتبه وأعطاه دابة يركبها، وكان من قبل راجلاً! 292 - حدثنا أبو الفتوح منصور بن محمد المقدر الأصفهاني قال: كان بالري شاهد يعرف بأبي محمد الصفار، فشكاه قوم إلى الصاحب أبي القاسم شكوى أكثروا فيها ورفعوا إليه القصص بها، فوقع على أحدها: "إن كان ذاك دأب أبي محمد الصفار فالري ليست به بدار" وبلغ أبا محمد خبر التوقيع فأقل الفكر فيه والانزعاج له وقال: وقال ما أردابي الصاحب بما وقع به ولا اعتقد لي سوءاً فيه، وإنما طلب السجع فكتب بما كتب! وكان الأمر على ذلك. 293 - وحدثنا أبو الفتوح بن المقدر قال: أشيع بالبصرة عند ورود فخر الدولة والصاحب إلى الأهواز بأن الصاحب يرى رأى المعتزلة ويكفر الطوائف المخالفة، إيحاشاً منه وتنفيراً لهم عنه، وبلغه ذاك فقال: بثُّوا أحاديثَ غيرَ متَّفقهْ ... وفَسَّقُونا وكلُّهُمْ فَسقَهْ

حدِّثْ بمعروفِنا ومُنكرِهم ... ورأينا في مبَرَّةِ العققَهْ إذا ملكْنا غداً بواصيهم ... فليثقُوا بالرَّجاءِ كل ثقهْ إنْ لم نصدِّقْ على مُسيئهمُ ... بالعفوِ منا فملكُنا صدقَهْ وأنفذ الأبيات مع من طرحها في المسجد الجامع بالبصرة، فتدوولت وأجاب عنها سفهاء الشعراء هنالك. 294 - ووقع يوماً أبو الحسين محمد بن أحمد الرازي المعروف بكوردوير وتفسيره الكاتب الأعور في وزارته لمعز الدولة أبي الحسين بن بويه أول أمره: "احمل أيدك الله يا وكيل الأنقاض في الوقت والساعة خمسين طافالا للذنب إن شاء الله" أراد خمسين جذعاً للجسر، فكتب نصف التوقيع بالعربية ونصفه بالعجمية. ووقع أيضاً مثل ذلك: "افعل ما رسمته لك وباشت بين إن شاء الله، وقد أعذر من أنذر، السلام" باشت بين: أبصر بين يديك! ووقع أيضاً: "اعمل الذي أمرتك به بجهد وتوان وعزل التقصير إن شاء الله، وتوان قدرتك! " 295 - وحدث أبو الفضل بن المرزبان الشيرازي عن أخيه أبي منصور أنه قرأ رقعة كتبها كوردوير إلى أبي على الطبري، وكان بعسكر مكرم: "واستدعى معز الدولة حضور أبي علي لمهم يخاطبه عليه مولاي الأستاذ أدام الله عزه يعرف الأمر كيف هو والذي ذكره مولانا الأمير أطال الله بقاءه أنه لا يحتمل المكاتبة ولا يجوز تأخيره ويحتاج إلى السرعة، والصواب أن يترك مولاى الأستاذ الدواب على الشط ويبادر هو ويمشي على الزبزب في السرعة الخفيف ولا يفكر في الدواب، فقد أقمت له ما يحتج إليه منهم في حان الطواف، إن شاء الله تعالى". 296 - ووقع أبو القاسم العلاء بن الحسن أحد وزراء صمصام الدولة بن عضد الدولة في رقعة عرضها عليه ابن ثعلبة أحد كتاب الديلم بالأهواز، وكان يكثر عليه في طلب المحال وما لا يجوز ولا يسوغ: "قاق قاق قاق! " ولأبي الفضل بن حيدرة فيه: إذا ما العَلاءُ علا دستَهُ ... يُوقَّعُ في القصصِ الوارِدَهْ فقُلْ للزَّمانِ بلا حشمةٍ ... خريتَ على الناسِ بالواحدهْ! 297 - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي رحمه الله قال: كان أبو الطيب بن لافرخان ابن شيران أحد وزراء صمصام الدولة أبي كاليجار المرزبان ابن عضد الدولة أبي شجاع بن بويه يكشف رأسه، ويضع عمامته على مخاد دسته، ويحمى في المناظرة والمخاطبة، ويزحف إلى أن يخرج من الدست، ويطاف به فيحال بينه وبين دسته وعمامته، فسرقت يوماً، فسأل عنها فلم توجد، وجيء له يغيرها. 298 - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي رضي الله عنه قال: حدثني أبو طالب العلاء بن محمد سبط أبي الحسن علي بن محمد المعروف بالأشقر قال: كان أبو علي الحسن بن بندار من أهل كازرون وزربشيراز، فوقع يوماً: "بس الله الرحمن: الصبر في نفس السلطان الأعظم أطال الله بقاءه كالماء في القدح العدل كلما زاد على الحد ذهب منه الكل"فلما وصل ذلك إلى عبد الواحد بن مسعود أحد الرعاة المنغلبين بأطراف فيروزاباد، وكان إليه، قال: لو فهمت ما كتبته لأجبت عنه! قال: وقال يوماً لأبي القاسم البلخي: أيها الأستاذ ماء القسمة أصلح للشجر أم ماء الوكيلّ فقلت الماء أيها الوزير واحد وإنما قسم قسمين فقسم لوكيل السلطان وقسم للتناء سمي القسمة، وسمي ذاك ماء الوكيل! 299 - وحدثني والدي رضي الله عنه قال: حدثني أبو عبد الله بن المرزبان ابن أخي أبي منصور الشيرازي قال: لعب أبو غسان عبد الله بن أحمد الشيرازي مع أبي سعيد بن ميدان الشيرازي أحد عمال عضد الدولة أبي شجاع بن بويه، ومتقدمهم بالشطرنج، فقال أبو غسان وقد اتجهت له ضربة: شاهك وسر كلاهك وأطيل حزنك فأهلك فرمى بالشطرنج ونهض وقال: هذا لمن يقول وقد بلغنا إلى النساء فضحك أبو غسان منه وضحكنا وشتمنا وانصرف.

300 - وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال: حدثني أبو القاسم أبي قال حدثني أبي عن الحسين بن السميدع الأنطاكي قال كان عندنا بأنطاكية عامل من قبل أمير حلب، وكان له كاتب أحمق، فغرق في البحر شلنديان من مراكب المسلمين التي يقصدون فيها الروم، فكتب الكاتب عن صاحبه إلى الأمير بحلب: "بسم الله الرحمن الرحيم: أعلم الأمير أعزه الله أن شلنديين، أعني مركبين صفقا أي غرقا من خب البحر، أي من شدة موجه، فهلك من فيهما، أي تلفوا" فأجابه صاحب حلب: "ورد كتابك، أي وصل، وفهمناه أي قرأناه، فأدب كاتبك أي اصفعه، واستبدل به أي اصرفه، فإنه مائق أي أحمق، والسلام أي قد انقضى الكتاب". 301 - كان أبو سعيد بن ميدان ينشد دائماً: متى كنَّ لي إنَّ السّوادَ خضابُ ... فيخفى بتبييضِ القرونِ شبابُ وقيل له: إنه منى، فلم يقبل. 302 - وكان أبو طاهر الطرسوسي قد خدم العمدة أبا محمد بن مكرم على المطبخ، فقال له العمدة يوماً: هذا الخبز الذي يقدم على الطبق رديء فأحضر الخباز واصفعه على حمل مثله إليك، فقال: السمع والطاعة، وكان الخباز والد أبي طاهر، وهو له عاق وبه مشاق، فأحضره وتقدم به فصفع عشرين صفعة. 303 - ومن حكايات هذا الخباز مع ابنه: أن ابنه انتهى إلى أن رد إليه في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة عرض العسكر، وخلع عليه، فكان يجتاز في كل يوم بين السورين إلى دار الوزارة راكباً، وبين يديه الغلمان، فيقوم أبوه وهو خباز في دكان هناك. ويدعو له ويقول: زينك الله في عين السلطان، تلهياً به وإذكاراً له بنفسه. 304 - وقع بين القاضي أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي وبين أبي طاهر الطرطوسي كلام ومشاجرة، فقال له القاضي في دار الوزارة: يقي الله السفل آباءهم. 305 - وسمعته ينشد دائماً: وأنتَ تهذي بجملٍ مذنُ أزمانِ فقلت له: يا هذا: منذ أزمان فقال: ما حفظته إلا كما أنشدته ولا أرجع عنه! فكنا نضحك منه ونتعجب منه! وكان معطلاً ذهرياً لا يصلي ولا يصوم، فقلت له يوماً: يا هذا أما تصلي تجملاً ورياءً إن لم يكن نية واعتقاداً! ما نصبر على مشاهدة هذا منك ولا نرضى به! فقال: نعم وصلى قاعداً متوجهاً إلى غير القبلة فقلت له: يا هذا ما توضأت قال: أن على وضوء، قلت: فما الصلاة إلى هذا الصوب فقال: قال الله تعالى (فأينما تولّوا فثَمَّ وَجهُ الله) فقلت له: إن لم تصل فأنت عارف بتأويل القرآن وقمت إليه فوجهته إلى القبلة مكرهاً. ودخلت إليه وهو يجود نفسه فقلت له: تب يا هذا ما كنت تعتقد! فقال: اسكت عني ودعني. وأدار وجهه إلى الحائط، فنهضت عنه، لعنه الله. 306 - وحدثني أبي قال: كان من كتاب الإنشاء في أيام عضد الدولة وبعدها في أيام صمصام الدولة ابنه كاتب يعرف بأبي الحسين القمي، قال: فشاهدته في ديوان الإنشاء يكتب بين يدي جدي أبي إسحق أبو الفتح عثمان بن جني النحوي في الديوان، وجلس يتحدث مع جدي تارة، ومعي إذا اشتغل جدي أخرى، وكانت له عادة في حديثه بأن يلوز شفتيه ويشير بيده، فبقي أبو الحسين القمي شاخصاً ببصره، ويتعجب منه، فقال له أبو الفتح: ما بك يا أبا الحسين تحدق إلي النظر وتكثر مني العجب؟ فقال: ما هو؟ قال: شبهت مولاي الشيخ وهو يتحدث غليه ويقول ببوزه كذا وبيده كذا، بقرد رأيته اليوم عند صعودي إلى دار المملكة على شاطئ دجلة، فعل مثلما فعل مولاي الشيخ فامتعض أبو الفتح وقال له: ما هذا القول يا أبا الحسين أعزك الله، ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي أو أمجن فتمجن بي، فلما رآه أبو الحسين قد حرد واشتط وغضب قال له: المعذرة إلى الله تعالى وإلى مولاي الشيخ، وقد صانه الله تعالى عن أن أشبهه بالقرد، وإنما شبهت القرد به، فضحك أبو الفتح وقال: ما أحسن ما اعتذرت، وعلم أبو الفتح أنها نادرة تشيع وكان يتحدث هو بها دائماً. 307 - وأخبرنا قال: اجتاز أبو الفتح يوماً وأبو الحسين في الديوان وبين يديه كانون فيه نار، واليوم شديد البرد، فقال له أبو الحسين: تعال أيها الشيخ إلى النير فقال له أبو الفتح وضحك: أعوذ بالله، والنير هو صماد البقر.

308 - وحدثنا قال: كان في الديوان أيضاً كاتب يعرف بأبي نصر ابن مسعود، فلقي يوماً أبا الحسن ابن البواب علي بن هلال ذا الخط المليح في بعض الممرات، فسلّم عليه وقبل يده، فقال له أبو الحسن الله الله يا سيدي ما أنا وهذا فقال له أبو نصر: لو قبلت الأرض بين يديك لكان قليلاً، قال له: ولم ذاك يا سيدي وما الذي أوجبه واقتضاه؟ قال له: لأنك قد تفردت بأشيا ما في البغداديين كلهم من تفرد بها غيرك: الخط الحسن وإنني لم أر في عمري كاتباً من طرف عمامته إلى طرف لحيته ذراعان ونصف غيرك، فضحك أبو الحسن منه وجزاه خيراً، وقال له: أسألك أن تكتم هذه الفضيلة علي ولا تكرمني لأجلها، ولا تبح بها عني فقال: ولم تكتم فضائلك ومناقبك؟ فقال له: أنا أسألك هذا فبعد جهد ما أمسك. 309 - وقال: كان أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدان الأهوازي يكتب لأرسلان الجامدار، فأراد يوماً أن يكتب إلى صاحبه كتاباً، فتقدم إلى أبي منصور علي بن إسحق كاتبه بأن يعمل نسخة له، فعملها وأنفذها إليه، فوقع على رأسها "حرحرها" أراد حررها فقال فيه أبو ذر القصري: استأذنَ الكاتبُ في نسخةٍ ... قد عملتْ كيف يقرّرها فوقّعَ الصاحبُ في رأسها ... استخر الله وحرحرها وكان الهنكري المغني يغني له، ومن أصواته عليه: تجاسرتُ وكاشفت ... كَ لما غلبَ الصّبرُ وقد يحسنُ في مثل ... كَ أن ينكشفَ السّترُ فأراد يوماً أن يقترحه عليه، فقال له بالله غنِّ ذاك: "يا مهتوك الستر" فقال له الهنكري: عافاك الله ما أفهم ما تقول. وكان له صوت على جارية لابن السيلحاني، وهو: لكِ الخيرُ هل من مصدرٍ تصدرينه ... مريحٍ كما هيّجت لي سبلَ الوردِ فقال لها يوماً: غني لي يا ستي ذاك: "صوت هيجانك" فغضبت ونهضت، فصاح بها مولاها وردها. 310 - وقال: كان علي بن خلف النيرماني ينشد دائماً: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكنَّ أخلاقَ الرجالِ تضيقُ فقال له أحد الكتاب يوماً: يا سيدي تعرف قول الشاعر: لعمركَ ما ضاقت بلادٌ بأهلها فقال: نعم قال: فما تمامه؟ قال: ولكنَّ عظمَ السّاقِ منكِ دقيقُ فقال له صدقت. هذه رواية يعقوب في إصلاح المنطق قال: نعم أخذنا ذلك عن الشيوخ الكبار 311 - وأنشد عبد الله بن فضلويه عامل قزوين في مجلس العمل: يومُ القيامةِ داءٌ لا دواءَ له ... إلاّ الطّلاءُ وإلاّ الطّيبُ والطّربُ فقال له أحد من كان بين يديه: إنما هو أعزك الله: يوم الحجامة فقال له: أتيت بنادرة باردة، الحجامة والقيامة واحد! 312 - وحدث فضل الزبيدي قال: كان محمد بن نصر بن بسام الكاتب أسرى الناس منزلاً وآلة وطعاماً وعبيدا، وكان قليل الأدب، وكنت أختلف إلى ولده عبد الله بن إسحق بن إبراهيم، ليقرأوا علي الأشعار، وكان عبد الله أيضاً سرياً جاهلاً، فدخلت يوماً والستارة مضروبة وهما يشربان، وأولادهما بين أيديهما وقد تأدبوا وفهموا وظرفوا وعرفوا، فغنى قول جرير: ألا حيِّ الديارَ بسعدَ إني ... أحبُّ لحبِّ فاطمة الديارا فقال عبد الله بن إسحق لمحمد بن نصر: ولا جهل العرب ما كان معنى ذكر السعد ها هنا، فقال له محمد: لا تفعل يا أخي فإنه يقوي معدهم ويصلح أسنانهم? قال اليزيدي: فقال لي علي بن محمد بن بسام: يا أستاذ بالله اصفعهما وابدأ بأبي. 313 - وكان أبو العباس سهل بن بشر ممن ارتفعت في الدولة الديلمية رتبته، وعلمت درجته ومنزلته، وضمن واسط والأهواز، على حماقة متمكنة ورقاعة متبينة، وكان دأبه تغليظ الكتاب والرد عليهم وتغيير كتبهم التي ينشؤنها عنه وعكس حسباناتهم التي يرفعونها إليه ويعرضونها عليه بالمحال والفاسد المستحيل الباطل، ولقد قال يوماً لأحدهم: ويلك لم يجب أن تفصل في هذا الموضع هذا التفصيل الواسع! كان يجب أن يكون بقدر ما تسلكه نملة وقد جعلته بحيث تسلكه حية، أيش حية بل شاة، أيش شاة بل دابة، أيش دابة بل جمل، أيش جمل بل فيل، أيش فيل بل كركدن! ثم خرق الكتاب ورمى به.

314 - وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال: رأيته عدة دفعات لا أحصيها كثرة، يجلس في مجلس العمل، فإذا كثر عليه الشغل وضاق به صدره وغلبت عليه سوداؤه تركه مفكراً، ثم أخذ الدرج الذي بين يديه وخرق منه وفلته وتخلل به وأخرج من فيه وشمه ثم رمى به حيث وقع من حجور الناس أو وجوههم أو لحاهم أو عمائمهم، فاتفق في بعض الأيام أن وقع من ذلك واحدة في لحية أحمد بن عمر الطالقاني الكاتب، فصوت من فيه كصوت البوق، فتنبه سهل بن بشر من غفلته وقال: ما هذا! وشتمه أفحش شتم، وسبه أقبح سب، فقال له: نصب سيدنا الأستاذ في لحيتي هذا المطرد فظننت أنه يريد الخروج إلى بعض الأسفار، فضربت بالبوق ليعلم ذاك فيصحبه من يريد أن يصحبه ويسير معه فضحك منه الحاضرون. 315 - وقال القاضي: كان سهل حديداً سفيها شتاماً للغلمان، ولم يكن يصبر على خدمته أحد، وشتم يوماً بعض الفراشين، فتداخلت الفراش حمية الإسلام ودخل بقربته إلى حجرة خالية بعيدة عن الدار الكبيرة التي فيها الغلمان ليرش خيشاً فيها، وقام سهل وراءه يتبعه ويشتمه، ورأى الفراش خلو الموضع من غيرهما، فصفعه بالقربة إلى قطعها على قفاه جميعاً، ووقع سهل مغشياً عليه، فداس بطنه ولكم جنوبه، فلما شفى نفسه منه تركه يتخبط وخرج فأخذ ما كان له في خزانة الفراشين وانصرف، وبعد ساعة ما ظهر على سهل وعرف ما جرى عليه، وطلب الفراش بأصحاب الشرط والمراكز والجوازات فلم يوقف له على خبر. وشتم يوماً فراشاً آخر فرد عليه، فنهض إليه، وعدا من بين يديه فقال له بحق محمد نبيك قف لي حتى ألحقك! فقال له: بحق عيسى ربك ارجع عني واتركني! وما زالا يعدوان حوالي البستان، وعثرا الفراش فوقعت عمامته فأخذه سهل ومازال يعضها ويخرقها ويقول: اشتفيت والله ثم رجع فجلس في مكانه. 316 - قال القاضي واجتمع النصارى بجنديسابور إلى مطرانهم وشكوا ما يجري من سهل عليهم من السب والشتم والقذف والصفع، وأنهم لا يأمنون نفرة من المسلمين عليهم لأجله، وفتكة منهم بهم بسببه، فقال لهم أن أكفيكم ذاك في يوم الأحد عند حضوره في البيعة، وفعل المطران ذاك، واستقصى الخطاب له فيه، فقال له: أنت يا أبونا أحمق، إنما أخاطب الناس بما أخاطبهم به عن القائد لا عني، فإن لساني مستعار عنه، ومستأجر لهذا وغيره! فلعنه المطران، وانصرف سهل، وأراد أن يشتم رجلاً فقال له: اسمع يا هذا قد وعظني المطران، وأنا رجل مستأجر مع هذا القائد، ولابد لي من أن أمتثل أمره وأؤدي عنه ما يقوله. وقد قال لك: يا زوج كذا وابن كذا ويا أخو كذا! وشتمه وسبه لم فعلت كذا وذكر له ما أراد موافقته عليه وبقي يقول ذلك مدة، ثم قال: هذا طويل، حر أم المطران، ورجع إلى ما كان عليه أولاً. 317 - وقال القاضي كنت عنده يوماً ونحن خاليان، فجاء الدواتي بكتاب فقرأه وطواه، وكتب عليه: "لأبي فلان فلان بن فلان من .. " ووقف ثم قال لي: ممن؟ فقلت: إما منك أو من الأمير! فقال: صدقت صدقت! وكتب. 318 - قال القاضي: وحدثني عبيد الله بن محمد الصرومي الشاعر، وكان منقطعاً إلى سهل فقال: رأيته يوماً وقد سقط غراب على حائط صحن داره، فنعب فتطير من صياحه، وأمر بصفع البواب لما مكن الغراب من دخول الدار. 319 - كان خالد بن صفوان يدخل على بلال بن أبي بردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذاك على بلال قال له: يا خالد حدثني أحاديث الخلفاء فتخلط وتلحن لحن السقاءان فصار خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب. وكف بصره فكان إذا مر به موكب بلال يقول: ما هذا؟ فيقال: الأمير، فيقول خالد: سحابةُ صيفٍ عن قليلٍ تقشّعُ. فقيل ذلك لبلال فقال له: لا تتقشع والله حتى تصيبك منها بشؤبوب! وأمر به فضرب مائتي سوط. وكان خالد كثير الهفوات، لا يتأمل ما يقول، ولا يفكر فيما يبديه لسانه، وإنما هو قائل ما خطر بباله، ومن ذاك أن سليمان بن علي سأله عن ابنيه جعفر ومحمد فقال: كيف إحمادك جوارهما يا أبا صفوان؟ فقال مسرعاً عجلاً: أبو منذر جارٌ لها وابنُ برثنٍ ... فيا لكِ جارى ذلةٍ وصغارِ فأعرض سليمان عنه، وكان حليماً كريماً. وكان الحسن يقول: لسان العاقل من وراء قلبه، إذا عرض له القول نظر فيه، فإن كان له قال، وإن كان عليه أمسك، ولسان الأحمق أمام قلبه، فإذا عرض له القول قاله، له أم عليه.

320 - وحدث القاضي أبو علي قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن بن جمهور البصري الكاتب قال: كنت أكتب لأبي الفضل بن علان بن إسماعيل، وهو عامل أرجان، ولحقته حمى ربعاً، فقيل له يوماً: قد ورد أبو المنذر النعمان بن عبد الله متوجهاً إلى أرجان، ومتقلداً لها، وهو قريب منك، فخرج في غد نستقبله ونقضي حقه! فقال: كيف أعمل وغداً نوبة الحمى، ولا أتمكن فيه من الحركة، وفكر ساعة ثم قال: الرأي أن أحم اليوم وأركب غداً، هات يا غلام الدواج فأحضره وقام وألقاه عليه، وأخذ يترعد ويتحمم بجهله وتخلفه. 321 - قال الرئيس أبو الحسين والدي رضي الله عنه: حدث أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي قال: قال لي المطيع لله، وقد كتبت له، وأنا أماشيه وأحادثه، عرفت خبري مع إسماعيل؟ يعني أبا علي بن الحبان صاحبه، قلت لا يا مولانا قال: قال لي منذ أيام في عرض حديث: عرفت ما يقول هؤلاء الروافض ويبتدعون فيه وقتاً بعد وقت؟ قلت: مثل ماذا؟ قال يقولون إنه لا يقطع الصلاة إلا كلب أو هاشمي! فضحكت تعجباً من حمقه وجهله، وقلت بلغتني هذه الحكاية على خلاف ما حكيتها، قال: كيف؟ قلت: لا يقطع الصلاة إلا كلب وابن حبان! 322 - وحدثني الرئيس أبو الحسين رضي الله عنه أيضاً قال: خرج قوم من الديلم إلى إقطاعهم في أيام معز الدولة فظفروا في طريقهم باللص المعروف بالفراتي في بستان، فأخذوه وحملوه إلى الوزير أبي محمد المهلبي، فتقدم بإحضار أبي الحسين أحمد بن محمد القزويني كاتب بكج الأحمر مملوك معز الدولة، وقد رد إليه النظر في الشرطة ببغداد، فلما حضر قال له المهلبي: هذا الفراتي اللص العيار الذي عجزتم عن أخذه وكف أذاه عن الناس، إذ قد أسعر بغداد بالكبسات والعملات وقتل النفوس ونهب الأموال، فخذه واكتب خطك بتسليمه، فقال: السمع والطاعة لما يأمر الوزير، لكنه يقول: ثلاثة وهذا واحد! وكان المهلبي أحضر العيار بين يديه ليسلمه إليه فكتب أكتب خطي بتسليمي ثلاثة؟ فقال له: من قال لك اكتب بثلاثة؟ فقال الفراتي اللص العيار ثلاثة وهذا واحد، فقال له: يا هذا هذا العدد وصف لهذا الواحد، فاكتب وأمسك واستر هذا العقل عليك وعلى مستكتبك، ودفع إليه دواة فكتب: "يقول أحمد بن محمد القزويني كاتب بكج الأحمر فتى معز الدولة: تسلمت من حضرة سيدنا الوزير أطال الله بقاءه ما أحمل إلى صاحبي اللص العيار الفراتي ثلاث هم واحد رجل" وكتب بخطه في التاريخ! فضحك الوزير وقال لأبي الفرج بن داذيشوع النصراني كاتب الفتك: قد صحح القزويني مذهبكم في تسلم هذا اللص! فقال نعم يا سيدنا وصحح تخلفه أيضاً.

323 - وحدثني أيضاً قال: حدث الحسين بن الحراوي المهلبي قال: كان أبو سعيد بن بندار الرازي المجوسي من كبار كتاب الديلم المشهور تخلفهم، السابقة فيه أخبارهم، وكان يكتب لعلي بن سامان أحد قواد الديلم، فأراد الوزير أبو محمد أن ينفذ ماهك في بعض الخدم، فقال له وقد أراد الخروج من بين يديه: يا أبا سعيد لا تبرح من الدار حتى أوافقك على شيء أريده منك، فقال السمع والطاعة لأمر سيدنا الوزير ونهض من بين يديه، فقال الوزير: هذا رجل مجنون، وربما طال بي الشغل وضاق صدره فانصرف، فتقدموا إلى البوابين بألا يدعوه يخرج من الدار، وفعل ذلك، وجلس ماهك طويلاً، وأراد دخول الخلاء، فقام بطلب ذلك فرأى الأخلية مقفلة وكان يتقدم المهلبي بذاك ويقول: كانت دار أبي جعفر الصيرمي منتنة الرائحة لأجل خلاء كان فيها لعامة الناس، ووجد ماهك خلاء الخاص غير مقفل وعليه ستر مسبل، فرفع الستر ليدخل، فجاء الفراش الموكل بالموضع ومنعه ودفعه، فقال يا هذا أليس هذا خلاء؟ قال: نعم! قال أريد أن أعمل فيه حاجة فلم تمنعني؟ قال: هذا خلاء الخاص لا يدخله غير الوزير! قال: فبقية الأخلية مقفلة فكيف أعمل وقد جئت أخرج فمنعني البوابون، فأخرأ في ثيابي؟ فقال: لا استأذن في دخول خلاء ليتقدم بذاك ونفتح لك أحد الأخلية، فتقضي حاجتك! واشتد به الأمر فكتب إلى الوزير رقعة قال فيها: "قد احتاج عبد سيدنا الوزير ماهك إلى بعض ما يحتاج إليه الناس ولا يحسن ذكره، والفراش يقول لا تدخل، والبواب يقول لا تخرج، وقد تحير عبده في البين، والأمر في الشدة فإن رأى سيدنا الوزير أن يسمح لعبده بأن يعمل ما يحتاج إليه في خلائه فعل إن شاء الله تعالى" ودفعها إلى بعض الحجاب فأوصلها إلى الوزير ولم يعلم ما أراد بالرقعة، واستعلم الوزير الصورة وعرفها فضحك، ووقع على ظهر الرقعة: "يخرأ أبو سعيد أعزه الله حيث يختار إن شاء الله تعالى! " فأخذ التوقيع وجاء به إلى الفراش وقال: هذا ما طلبت، توقيع سيدنا الوزير، فقال: التوقيعات يقرؤها أبو العلاء بن أبرونا كاتب ديوان الدار، وأنا لا أحسن أكتب ولا أقرأ! فصاح ماهك في الدار هاتي من يعمل لي في الديوان صك الخراء! فضحك فراش آخر وأخذ بيده وحمله إلى بعض الحجر حتى قضى حاجته. 324 - وحدثني أيضاً قال: كان أبو الحسن علي بن الحسين القمي يكتب لأبي منصور راذرويه أحد مماليك معز الدولة، فطولب بفاضل إقطاع خرج على صاحبه، فقال لأبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي الوزير: يا سيدنا الوزير، القائد يطلب في ذاك حبة مهل بضم الميم فقال له الوزير: المهل يعطيه لكاتبه فشكره وتقدم يقبل رجله ويده على ذلك، فقال أبو الفضل لأبي العلاء صاعد بن ثابت النصراني خليفته: هذا الجاهل قد ألزمنا الإنظار بحمقه، فافعله معه وأخره أياماً، فقال: السمع والطاعة.

325 - وحدثني والدي رضي الله عنه قال: حدثني أبو إسحق جدي قال: كنا ليلة بحضرة الوزير أبي محمد المهلبي والقاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن قريعة معنا، ونحن نتذاكر فأنشدت قطعة للعماني الراجز استحسنها كل من حضر، فقال لي القاضي: لمن هذه الأرجوزة يا أبا إسحاق؟ قلت له من طريق العبث به: لأبي العباس دستويه! وكان درستويه هذا جاهلاً متخلفا وفدما ناقصاً، وصاحباً لأبي سهل ديرزشت بن المرزبان العارض، وثقة من ثقاته، يجري مجرى خلفائه. قال أبو إسحق: فتعجب القاضي من قولي وقال: هذا رجل موفور المثابة من الفضل والدراية وقوة البضاعة في الأدب والرواية! قلت: هيهات الأمر على أكثر مما ذكرت وظننت، قال: فيجب أن أقصده وآخذ عنه وأستدعي ديوانه منه فأنتسخه وأقرأه عليه! فقلت: قد قصر القاضي حيث لم يفعل ذلك إلى الآن! قال: لم أعلم فلما كان من الغد بكر القاضي ولبس وتطيلس وصار إلى دار درستويه، ودخل إليه فسلم وجلس، وتعرف أخباره ثم قال: كنا البارحة بحضرة الوزير أطال الله بقاءه وأنشد صديق للشيخ أرجوزة من أراجيزه استحسنها الوزير وجميع من حضر، ولم أعلم أنه من الأدب بهذه المنزلة، فجئته لآخذ عنه ما ينشدنيه من فيه! فلم يعلم درستويه ما يقول، وقال لغلمانه: ادعوا أبا نصر، يعني ابنه، فحضر وكان في الجهل شراً منه، وقال له انظر ما يريد القاضي، فاستعاد منه القول، فلما استتمه لم يفهمه، إلا أنه سمع أرجوزة فقدر أنها خرقة، فقال لأبيه بالفارسية: القاضي يطلب خرقاً يعمل منها قلنسوة! فقال: السمع والطاعة، واستدعى خازنه وأمره بإحضار ما عنده من بقية الثياب، فأحضر رزمة كبيرة فيها نحو مائة خرقة من ديباج وسقلاطون ووشي وغير ذلك من فاخر الثياب فحلها وبسط الخرق بين يدي القاضي وقال له: اختر يا سيدي ما تريد، ففطن القاضي، وأخذ عشر خرق تساوي عشرين ديناراً، ووضعها في كمه ونهض، وقال: أحسن الله جزاء الشيخ وأطال بقاءه ولا أعدمناه! وراح القاضي في ذلك اليوم إلى دار الوزير أبي محمد، فلما اجتمعنا بين يديه على رسمنا قال لي: يا عيار نصبت لي مكيدة فنفعني الله بها! وشرح ما جرى له مع درستويه وأخرج الخرق من كمه فأراناها ثم ردها إلى كمه، وضحك الوزير وفحص برجليه، واستعاده الحديث مرات وضحكت الجماعة. 326 - وحدثني رضي الله عنه أيضاً قال: كان أبو الفرج محمد بن العباس قد جلس للعزاء بأبي الفضل العباس أبيه، وقد ورد الخبر عليه بذاك من فارس، فحضر العزاء أبو العباس درستويه، وقال حين جلس: رحم الله الأستاذ أبا الفضل فإنه كان تربي ومولاي وأستاذي، ثم أقبل على أبي الفرج فقال: أطال الله بقاء سيدنا، صح الخبر؟ فقال: قد وردت الكتب والأخبار به ولم يبق شك فيه! فقال له: دعني من هذا، ورد كتابه رضي الله عنه بخطه بصحة الخبر؟ فقال أبو الفرج: لو ورد كتابه بخطه ما جلسنا للعزاء وضحك الناس ونهض جماعة من شدة الضحك، ونهض أبو الفرج وقطع العزاء فلم يجلس من بعد. 327 - وحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي قال: رأيت عند القاضي أبي بكر بن قريعة في سنة إحدى وستين وثلثمائة شيخاً يعرف بابن سكران يتوكل له في ضياعه وضماناته ببادوريا فقلت له: من يكون منك ابن سكران الذي كان يتوكل للحسن بن عبد العزيز الهاشمي في ضيعته ويكتب إليه كتباً ظريفة مضحكة؟ فقال أنا هو، وسمناه أن يقرأ علينا شيئاً من ذاك، وكان يقول عنه إنه يحفظ، فامتنع، ولم أزل والقاضي أبو بكر به إلى أن أمل علي كتابين من لفظه على ما بهما من الخطأ والنقصان في الهجاء، فكان أولهما وعنوانه "من الحسن بن عبد العزيز الهاشمي الإمام أبو لمة يريد أبو الأئمة، لأن أولاده كانوا أئمة في الجوامع إلى وكيله وخادمه أبو القاسم بن سكران" ولولا أنه يقول إنه خادمه ما قلنا إنه منهم، ومضمونه:

"بسم الله الرحمن الرحيم: يابن سكران قد أعجبتك نفسك، صبغوني في عينك، أنت تعرفني إذا دحرت فكيف إذا غضبت، ها وها كدت أفعل، كنت إذا أردت أن تعمل شيء تكتب إلي وتستأذني وتشاورني، صرت تأمر وتنهى لنفسك، والله لأقطعن يدك الأخرى ورجليك، ولأضعنك في أضيق الحبوس، أنا مع أمير المؤمنين ابن عمي أعزه الله وقد خرج صلى بنا الجمعة وأنا أكلمه داه داه، أكلمه في أمير المسلمين والدين والهاشميين، وعينه في جوف عيني، وعيني في جوف فمه، لا ينظر إلى غيري، ترى لا أقدر أنتصف منك، والذي يبقى لي ابني أبو بكر وعمر وعثمان هاه من هونا يحردون الروافض عليك وعليهم لعنه الله، يا ماص بظر أمه، إن كنت منهم، وإن لم تكون منهم فلا شيء عليك، وليس أنت كما ذكرت طويتك ما دامت لك هذه العين تدور، وهذه الشعرة تعيش، والذي يعطيني في الآخرة أضعاف ما أعطاني في الدنيا منه أسأل إن شاء الله. الجزير الذي أوصل كتابك قد أطعمته البارحة مما أكلت: خبز وشواء، وكل خير وما رزق الله، فسله حتى يقل لك. البارحة وحياتك يا أبا القاسم ذكرتك وقد شربت ماء بارداً بثلج كثير، فقريت عليك وعوذتك ودعوت لك ولوالدي ولجميع المسلمين، وقلت: ترى ذاك ابن سكران وكيلي الميشوم إيش خبره في هذه الشمس الحارة ونصف النهار! وما أبالي معك بولد ولا تلد ولا أحد، فاحمل إلي الخراج وضح وصنانن الباذنجان وخيار وبطيخ وكل ما في القرية، والحملين الذي طلبتهم منك احملهم إلي في شعبان قبل رمضان، سمان سمان: واحد كبير نطبخه وآخر صغير نشويه، وسمعت أبا القاسم أعزك الله وفهمت أعزك الله يا أبا القاسم، وأطال بقاءك وأكرمك وأتم نعمته عليك، وصلى الله على محمد النبي وآله، وعلى أصحابك، قول آمين". وعنوان آخر: "من الحسن بن عبد العزيز الهاشمي الإمام في الرصافة، وابنه أبو بكر الإمام في دار الخلافة، وابنه الآخر عمر الإمام بمصر والحرمين، وابنه عثمان يكون الإمام في مدينة المنصور، وابنه علي يكون الإمام في باقي الدنيا إن شاء الله، إلى وكيله ابن سكران" وباطنه: "بسم الله الرحمن الرحيم: تحضر الجبابرة بني دينار والأطروش خاطر وابن كيلوه، لعنهم الله فإنهم كلاب، أحاط الله أكرة برقط حتى ننظر إيش يعملون، فقد والله محمود أردت أن أضرب القريتين بالنار، ولكن الله سلمكم فانظروا كيف تكونون، وقولوا أمر سيدنا وسيدكم أبو علي الحسن بن عبد العزيز الهاشمي ابن عم النبي، صلوات الله عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، بشرى من هم نحن منهم، وقد تقدم سيدنا أبو علي بإحضاركم، فتكون أعينكم بين أيديكم، والسلام". 328 - وكان أبو الحسن القمي يكتب لروزبهان بن ونداخرشيد على إقطاعه في السواد، وخليفة عنه بحضرة معز الدولة ببغداد، وكان يهوى منداه جارية قهرمانة ابن مقلة، وهي صبية مليحة الوجه طيبة الغناء، وكان من أصواته عليها: أيا راهبي نجرانَ ما فعلت هندُ ... أقامت على عهدي وأنّي لها عهدُ فأراد يوماً أن تغنيه له، فقال لها: يا ستي غني في ذاك سوت: أيا راهبي نجران ما فعلت هندي ... أقامت بلا عهدٍ وإني بلا عهدِ فضحكت وقالت له: أعلم أنك سفلة بلا عهد! وقال لها مرة: يا ستي غني ذاك سوت: يا فاتمة بعط ذلول فضحكت وضحك الحاضرون يريد: أفاطم مهلاً بعض التدلل وحدثت عنه بين يديه وهو يسمع قالت: غنيت له ليلة: أمن شميّة دمعُ العين مذروفُ ... لو أنَّ ذا منكَ قبلَ اليومِ معروفُ وفيه لحن حسن، فأعجبه وأطربه، ولم يزل يتلفنه ويتحفظه إلى أن ظن أنه قد أتقنه، وصبر ساعة وقال لي: يا ستي بالله غني لي ذاك سوت: أمن سميته دموعك عينك ذرذف! فضحكت منه فقال: مالك؟ فأعدت البيت عليه على صحته فقال: يا باردة كله واحد. قالت: وغنيت له مرة صوتا استحسنه وقال لي: يا ستي اكتبيه لي، فقلت له: يا هذا أنت كاتب أو أنا؟ فقال: أنا ما أحسن أكتبه بلحنه، أريد أن تكتبيه أنت بلحنه كما تحسنينه.

وكان يوماً في دار أبي الحسن الأهوازي فتحدث بحديث يقطين يكون بقم عظيما حتى إن قشر الواحدة إذا فرغ وجفف وسع من الحنطة شيئاً كثيرا. وقال وهو مقبل على أبي الحسن بن محمود البادرائي نديم أبي الحسن الأهوازي وكان طيباً نادرا، فقال له اقطعون رأس أخرجون صوف! فقال له ابن محمود يكون يا سيدي في قرع قم صوف، قال: هاي كيف يكون صوف في قرع، إنما أخرجون قماش بطنك، فقال ابن محمود: كانت حالي مع الصوف أصلح، مر يا سيدي في حديثك، فلك نبيك، وقد علمنا ما أردت، فضحكت الجماعة، فقال: ذا قرع مبارك جاب الضحك والفرح، وضحك معهم. وكتب يوماً رقعة إلى عبد الواحد بن المقتدر بالله يسأله مبايعته سقف ساج مذهب كان في بيت ماء من داره على دجلة بباب خراسان: "بسم الله الرحمن الرحيم: قد علم سيدي الأمير حال السقف الذهب الذي حاشا وجه سيدي في الخلاء، وهو هدية من ماله، والشكر عليه كثير، وليس أجعل وحياة رأس سيدي في الخلاء، أريده لصفه ويوعز سيدي الأمير إذا منحني من ثمنه، مزحت مع سيدي، وليس أخرج له من رأي قضاء حقي، حتى أبو محمد القرافي يعرفه ما في الأمر ويزن الثمن، وعرفته ذلك حتى يعمل معي ما يشبه إن شاء الله". 329 - وحدثني والدي الرئيس رضي الله عنه قال: ورد عليه كتاب عامل له بناحية الذنب يقول فيه: "وقد ورد التياس وهو مقيم منذ أيام، وقد منع الرحى من الدوران، وسقط بذاك الارتفاع" فظن القمي أن التياس بعض أصحاب السلطان، فحرد وغضب، وركب إلى دار الوزير أبي الفضل الشيرازي، وكتب رقعة عن صاحبه يشكو فيها التياس، ويسأل التوقيع بصرفه وإنفاذ نقيب جلد لذلك، وقال: لولا هيبة الوزير لأنفذت من يصرفه ويمنعه، ويضرب قفاه ويصفعه! فعجب أبو الفضل منه وقال له: يا أبا الحسن التياس من رعيتك، وأمرك فيه كأمري، فافعل ما أحببت فلا أعترض عليك مني! فقبل يده ورجله وشكره وقال: أحب أن ينفذ من الديوان نقيبان لذلك، فوقع له إلى أبي العلاء صاعد بن ثابت خليفته، على ظهر رقعته: "يجاب أبو حسن أيده الله إلى ملتمسه في أمر هذا التياس" فشكره على ذلك، وحمل التوقيع إلى صاعد وعرضه عليه، فلما قرأه تبسم ودفعه إلى أبي منصور كاتبه، وكتب له في المعنى منشوراً نسخ ببغداد وتدوول، وسلم إليه نقيبان ينفذان به! قال: وقال أبو إسحق بن المفتي كاتب القمي: فلما انصرف والمنشور والنقيبان معه وافقهما لنفقتهما على مائة درهم، أطلق لهما منها خمسين درهماً، وقال لي: اكتب إلي العامل معهما بما يجب في ذلك فتحيرت ودهشت وقلت له: التياس يا سيدي الماء، وهذا الذي كتب له سخرية من الكاتب ولهو، فلا تنفذه وتضيع ما تطلقه للنقيبين فقال لي: يا أبو إسحاق هذا لك أبداً تعارضني في أموري وتدبيري ويحك كم أقول لك أعمل ما أريد ولا تكثر كلامك وليس تقبل ثم كتب بخطه إلى العامل يوصيه بإكرام النقيبين وعطيتهما بقية نفقتهما، ويوزعها على الأكرة، ويسلم إليهما التياس حتى يشخصاه إلى الديوان! ومضيا إلى العامل وأعطياه الكتاب، وطالباه بالبقية من نفقتهما وتسليم التياس إليهما، فتحير وقال: أما التياس فهو الماء فتسلماه كيف أردتما وقدرتما، وأما الدراهم فما يستجيب الأكرة إلى وزنها، وما في حالي فضلل لإطلاقها من جهتي! فاستخفا به ولم يفارقاه حتى أخذا ما أراده منه، وكتب الجواب يشكو ما جرى عليه ويقول: "التياس زيادة الماء، وهذا شيء من فعل الله تعالى، وما لمخلوق فيه حيلة" ويستعفي من العمالة، فلما وقف القمي عليه قال: قد بليت بهذا القرفان المتخلف، مرة يكتب كذا ومرة يكتب كذا، ومضى إلى الوزير أبي الفضل وقال: أطال الله بقاء سيدنا، بليت بتخلف هذا العامل، كتب يشكو التياس، والساعة قد كتب يقول: التياس الماء فاستعظم أبو الفضل قوله وحمقه، وقال: اسكت ويلك، ثم تقدم بأن يكتب إلى النقيبين بالانصراف. 330 - وكتب هذا القزويني يوماً رقعة إلى بعض أصحابه وصدرها ب"أطال الله تعالى بقاءك" فقال له بعض من كان عنده: ما يساوي الرجل هذا الدعاء فقال: صدقت وذكرتني! وكتب قبل "أطال الله بقاءك": لا، وأنفذ الرقعة.

331 - وكان أبو سعيد ماهك بن بندار يكتب في صدر كتبه ورقاعه إلى عماله وأصحابه: "أطال الله بقاءك وحوائجها، فيقال له: ما معنى حوائجها؟ فيقول: دام عزك وتأييدك وهم لا يسوون ذكره ويكتب في آخر الرقعة: "الحمد لله وصلى الله على محمد وحاشيته" فيسأل عن ذلك فيقول: ذاك علي وفاطمة وكلهم غلمانه وحواشيه! 332 - وحدث الرئيس أبو الحسين رضي الله عنه قال: قال أبو العباس درستويه يوماً لمعلم ولده أبي نصر: ما تناصحني في تعليمه! فقال له: كيف يا سيدي؟ قال: البارحة اجتهدت به في أن ينشدني قصيدة من الفصيح فلم يحسن. وكتب هذا المعلم إلى درستويه يسأله أن يطلق له جاري شهر قد استحقه، ويسلفه مال آخر ليكتسي به، فوقع إلى وكيله أبي محمد: "أبو محمد المؤدب أيده الله وأنت تطلب شهراً له وشهراً ليس له، فأطلق له الواجب، وتطلق له آخر قرضاً علي بسبب كتبته إن شاء الله". 333 - وقال: كتب الطوسي لعلمكان الديلمي في أيام معز الدولة فاستدعاه علمكان في بعض الأيام منكراً عليه شيئاً، فبادر يعدو حتى وقف بين يديه، ولحظة علمكان لحظ منكر متهدد، فضرط ضرطة، وأطرق علمكان ضاحكاً، فقال له الطوسي مسرعاً: يا قائد هذا العمل من فزع وجهك الحردان، فكيف لو كان شيئاً آخر فضحك وقال له: اخرج. 334 - قال: وكتب أبو القاسم الحسين بن أميرويه كاتب موسى بن قتادة رقعة مع جارية له إلى البلقي: "يدفع أعزك الله البلقي في الجارية عشرين قثارة كباراً، فقال لها البلقي: دعيني أدفع فيك قثاة واحدة بكل ما في الصن من القثاء. 335 - قال: وقال إسرائيل ابن سعيد الرازي: قال ابن أميرويه يوماً لأبي القاسم علي بن الحسين ابن أخت الوزير أبي الفرج محمد بن العباس، وهو معروف بالتزمت والتصوف، وقد جرى على ابن أميرويه من الأتراك استخفاف وصفع: يا سيدنا أنا أخدم بين يديك وليس لي بعد الله غيرك، والجاري خمس مائة درهم تكفيني لنفقتي، فلم الأتراك في كل وقت وحين يصفعونك ويجرون برجليك ويستخفون بك فضحك منه وقال: لسوء أدبهم وأدب من يجرؤن برجله وأعرض عنه، وصار بعدها لا يكلمه إلا بالفارسية. 336 - وكتب أحد كتاب الأتراك المتقدم على جماعته، المعروف بأبي منصور بن الفرج في اتفاق كتب بين أصحابه: "قد رضينا بذاك، وكتب محمد بن الفرج عن السادة الأصفهلارية بأمرهم ونهيهم". ووقع إليه وزير العصر في سنة ثمان وثلاثين وأربع مائة ذو السعادات أبو الفرج بن فسانجس بأن ينظر بين غلامين من الأتراك تشاجرا في إقطاع ضيعة بينهما، وقال في التواقيع: "فإن الحق مقطعه ثلاث" يريد بيت زهير: فإن الحقَّ مقطعهُ ثلاثٌ ... يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ فلما عرضا التوقيع عليه قال: أنتما اثنان فأين الثالث؟ قالا: ما لنا شريك ولا منازع! قال: فكذا ذكر الوزير في توقيعه، وقام فدخل إلى الوزير واستفهمه عن المقطع الثالث، فقال له مستهزئاً به: أنا المقطع الثالث فخرج إليهما وقال: الوزير يدعي معكما ثلث الإقطاع فأفردا ما يتعلق به لأحكم بينكما في الباقي: فضجا من ذلك ودخلا إلى الوزير فعرفاه الحال، فضحك، وعرفهما الصورة فضحكا أيضاً، وحكم الوزير بينهما. وكتب يوماً إلى الوزير وقد رتبه على سد البثق بنهر الرفيل يخبره بتمام سده، وقال فيه: "وأتمم البثق بسعادة مولانا، وصاح الناس عليه: عساو" ومد ما بين العين والألف مدة استوعب بها السطر فلم يفهم الوزير ذاك، واتفق أني كنت عنده، فأعطانيه وقال: ما هذا.؟ فقلت: قد حكى لمولانا صياح الرجال عليه فضحك، وتدوول بين الناس ذلك. 337 - وحدثني الرئيس أبو الحسين رضي الله عنه قال: حضر أبو منصور بردانقادار بن المرزبان يوماً عند الوزير أبي نصر سابور بن أردشير، أحد وزراء بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه في سني نيف وثلاثمائة وتجاريا حديث الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الأبرقوهي، وقد قبض سابور عليه واعتقله عنده وكان بحيث يسمع تحاورهما، وأبو منصور لا يعلم، فأسرع وغلط فيما بدر منه وأشار عليه بقتله، والاتفاق الردي ما سمع الأبرقوهي ما اشار به في معناه، واتفق أن خلص الأبرقوهي وتقلد الوزارة، وقبض على بردانفادار وقابله على ما كان منه، فكان إذا خوطب في معناه قال: يا قوم أنا سمعته يشير على سابور بقتلي فيمسك المخاطب ويكف السائل.

338 - وحدثني رضي الله عنه قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن الحسن النسوي المعروف بالنائب لأنه كان ينوب عن الوزراء قال: حدثني أبو القاسم الأبرقروهي، وكان مغرماً بالغلمان ومائلاً إليهم، قال: رأيت غلاماً أمرد مع أحد الخدم، فاستملحته واستحليته وراسلته واستملته، ووعدته وأرغبته، فأجابني وانتقل إلى حاشيتي، وشق على الخادم فعلي به، فشكاني إلى الملك بهاء الدولة، وبينا أنا في دار المملكة أنظر فيما يتعلق بي من العمل إذ جاءني فراش فقال: الأستاذ الأثير نحرير يستدعيك، فجئته فحين رآني قال: هاتوا حصيراً، فأحضر وبسط بين يديه، وصرف من كان قائماً وحاضراً إلا ثلاثة خدم استوقفهم، ثم قال لهم: ابطحوه على وجهه، فبطحوني، وضربت عشرين عصا جياداً، وأقعدني بعد ذلك وأنا أتململ، وقال: الملك يقول لك "إذا لم تكن مأموناً على غلام خادم فكيف آمنك على خمسة آلاف غلام تركي يجرون مجرى الحرم، وقد وكلتهم إلى مرعاتك" وأمرني بما عاملتك به، فانظر الآن بين يديك واحرس نفسك وجاهك، وارجع إلى شغلك. فقمت وعدت إلى ديواني نادماً على ما تسرعت إليه وغلطت وهفوت فيه. 339 - وحكى أبو حيان التوحيدي قال: حضرت مائدة الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد فقدمت مضيرة رائقة فأمعنت فيها، فقال لي: يا أبا حيان إنها تضر بالمشايخ فقلت: إن رأى الصاحب أن يدع التطبب على طعامه فعل فكأنني ألقمته حجراً، وخجل واستحيا، ولم ينطق إلى أن فرغنا. 340 - ومما تحدث به عن أبي الفتح محمد بن فارس أحد من نظر في الوزارة في أيام صمصام الدولة أبي كاليجار بن عضد الدولة أبي شجاع بن بويه أنه صعد يوماً من أيام ولايته من زبزبه إلى دار السيدة أم صمصام الدولة، فسقط من كمه زبيب، فقال عند مشاهدة الناس له وحيائه منه: أنا أجد في معدتي رطوبة، وقد وصف لي تناوله على الريق، فأنا أستصحبه لذاك فكان العذر أقبح من الفعل، ولقبه مجان بغداد: الوزير الزبيبي. 341 - وحدثنا الرئيس أبو الحسين والدي رضي الله تعالى عنه قال: حدثني نجم الكفاة أبو عبد الله الحسين بن الحسن النسوي قال: حدثني أبو الفرج عبد الله بن الحسين الراماني قال: ورد أبو القاسم المعمر بن الحسين المدلجي مع الوزير أبي القاسم العلاء ابن الحسن من الأهواز إلى شيراز، وأبو القاسم المعمر أحد كتاب الإنشاء إذ ذاك، وعرضت للوزير أبي القاسم العلاء بن الحسن سفرة، فكتب إلي المدلجي، وأنا حينئذ خليفة العلاء، يطلب مني بغلة سروجية بآلتها، ولم تكن منزلته عندي منزلة من أراعيه أو أعطيه، فرددت الرقعة مع رسوله فلم أجبه عنها، ومضى الرسول ثم عاد إلي ومعه الرقعة بعينها وقد كتب على ظهرها: فإنك لا تدري إذا جاءَ سائلٌ ... أأنتَ بما تعطيهِ أم هو أسعدُ عسى سائلٌ ذو حاجةٍ إن منعته ... من اليومُ سؤلاً أن يكونَ له غدُ قال: فقرأت ذاك ثم أعدت الرقعة ثانياً بغير جواب كما فعلت أولا. وضرب الدهر ضربة وصرف العلاء بن الحسن ووزر المدلجي، وكنت إذ ذاك أتقلد كورة سابور وكورة أردشير خرة، فأنفذ إلي من أشخصني إلى شيراز، ووردت عليه وأنا لا أشك في القبض علي والمصادرة لي، لما كان من غلطي وسوء فعلي وما قضاه المقدور في، وحضرت مجلسه فقدمني وقربني ورفعني وأكرمني، وأقمت متردداً إليه وأياماً ومتعجباً من فعله وله مستطرفاً، فلما كان في بعض الأيام وقد قمت من مجلسه منصرفاً فتبعني الحاجب وقال: تقيم يا سيدي ساعة فإن الوزير يريد أن يجاريك شيئاً على خلوة، فلم يتخالجني شك في أنه القبض علي فأقمت خائفاً وجلا، ثم استدعاني وقد خلا مجلسه، وأسر إلى دواتيه شيئاً ومضى وعاد ومعه الرقعة بعينها فأخذها وسلمها إلي، فلما فضضتها وعرفتها أظلمت الدنيا في عيني، وودت أن الأرض ساخت بي، وقال لي: لا ترع فإنما واقفتك على فعلك الرذل القبيح لكيلا تستصغر بعدها أحداً وتطرح مراعاة العواقب والنظر فيها، وليكون هذا الفعل مني لك مصلحاً ولأخلاقك مهذباً، ثم خلع علي وردني إلى عملي.

342 - وحدثنا والدي رضي الله تعالى عنه قال: حدثني أبو سعد عبد الله بن فهد النصراني الكاتب قال: لما تقلد أبو القاسم بن فسانجس أعمال النهروانات في أيام الوزير فخر الملك أبي غالب، وأبو العلاء سعيد بن الحسن بن يزيد النصراني يتولى يومئذ ديوانها، اتفق أن رفع أبو القاسم من حسابها ما احتيج إلى الموافقة عليه وحضر بحضرة فخر الملك وجرى من الخطاب ما خرج فيه أبو العلاء إلى سوء الأدب واستعمال السرف، وعادته بذاك جارية، وثقل على أبي القاسم ما سمعه منه، وإمساك فخر الملك عن إنكاره عليه ومنعه منه، وانقضى المجلس على غيظ من أبي القاسم تجرعه وكظمه، وامتعاض أسره وكتمه، ومضت الأيام وقتل فخر الملك، ووزر أبو القاسم لسلطان الدولة بواسط، فقامت قيامة أبي العلاء من ذاك، وضاقت به الأرض بما رحبت، وبقي متحيراً بين الاستتار والتغيب أو المقام والتجلد، وورد أبو القاسم إلى بغداد فحمل بنفسه على أن لقيه، فلم ير منه ما ظنه به، ونفسه تحدثه بضد ما يظهره له ويشاهده، فلما كان في بعض الأيام وقد خرج من بين يديه منعه الحاجب وقال له: الوزير يأمرك ألا تنصرف إلا بعد استئذانه فما شك أنه الذي خافه وتوقعه. قال: فأقمت ساعة، ثم استدعاني فوجدته جالساً على الفاكهة وهو يأكل منها، فجلست وظننت أن ما بين يدي منها مسموم، فلم أزل أقلبه وأولع به ولا أتعرض له، وأحس بفعلي فأخذ كمثراة وقطعها وأكل منها ثم أعطاني باقيها فأكلته، وأنست قليلاً، وقمنا إلى الطعام فجرت حالي على مثل ذاك، وهو يطعمني مما يأكل، ويقدم إلي مما بين يديه تأنيساً بي وفرغنا، وخرجت لغسل يدي، واستدعاني وقال لي: أراك منقبضاً متجعداً وجلا منزعجاً، وأظن ذاك لتذكرك ذلك اليوم هيهات ما الأمر على ما تظن وإني لك على ما تحب وتهوى، وليس من المروءة ذكر ما مضى فقبلت يده ورجله والأرض بين يديه، ودعوت له وانصرفت ساكناً مطمناً. ? 343 - وحدثنا رضي الله عنه قال: كان الوزير أبو القاسم العلاء بن الحسن قد لقبه الديلم سياه سبال لقباً اشتهر به بينهم وفشا فيهم، إما لأنه كان أسود السبال دون لحيته، أو لأنه كان يخضبه، حتى إن أحد الديلم المتقدمين قال له في كلام دار بينهما: يا وزير سياه سبال بار خداه، فضحك منه وعلم الديلمي بما جناه عليه، فنهض خجلاً عجلاً، واستعيد فلم يعد ثم راسله بالاعتذار الشديد، وبقي مدة لا يلقاه حياء. 344 - وحدثنا رضي الله عنه قال: حدثني الوزير مؤيد الملك أبو علي الرخجي قال: عاد فخر الملك من الأهواز في خرجته الأولى للقاء سلطان الدولة أبي شجاع بن بويه، فاتفق أن حضر عيد أو فصل، وحضر أبو الفضل بن أبي أحمد الشيرازي لخدمته فيه على رسمه، وأنشده قصيدة مدحه بها وهناه بذلك اليوم فيها، ثم وصل آخر القصيدة بحديث جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مع الرشيد في قتله إياه، وقرأه عليه مسنداً له عمن رواه، فاستطرفنا إيراده ما أورده منه من غير أمر يقتضيه، وثقل على فخر الملك ما سمعه، وعلينا ما أورده وتطيرنا على فخر الملك من اتفاق ما اتفق، وأقبل بعضنا على بعض يعجب من ذلك، وندم أبو الفضل على ما كان منه، وانحدر فخر الملك عائداً إلى الأهواز، فكان من أمره ما كان وجرت حاله مجرى جعفر بن يحيى في قتله، فسبحان الله ما أطرف هذا الاتفاق. 345 - وحدثنا رضي الله عنه قال: حدثني نجم الكفاة أبو عبد الله الحسين بن الحسن النسوي النائب قال: حدثني أبو القاسم البلخي المنجم قال: كان أبو الفضل عبد المسيح بن العلاء النصراني الكاتب صديقاً للوزير أبي الفضل بن سودميذ، ومختلطاً به، فاجتمعا على الرأي والسعي في نكبة الوزير فخر الملك أبي غالب، وتقلد أبو الفضل موضعه، وقبض على فخر الملك فاتفق أن كنت يوماً حاضراً عند ابن سودميذ وقد جاءه عبد المسيح، وتحدثا وأطالا السرار والإفصاح، فضرب ابن سودميذ في عرض حديثهما إلى دفتر كان بين يديه وفتحه ليتفاءل بأول ما يقع طرفه عليه منه، فوقع نظره على بيت من قصيدة لأبي تمام، على قوله: وصرتَ وزيراً والوزارةُ مكرعٌ ... يغصُّ به بعد اللّذاذة كارعه فرماه من يده، ثم أخذه بعد ساعة وفتحه، فخرج عليه البيت بعينه، فتطير منه ورماه في كانون تار كان بحضرته.

346 - وحدثنا رضي الله عنه قال: حدثني أبو طاهر الطهري حاجب فخر الملك وأبي محمد بن سهلان من بعده قال: كان في أبي محمد بن سهلان حدة من رزانة جميلة وله ألفاظ يوردها في كلامه واستراحات بين ألفاظه لا يحتملها أهل العراق، ومنها أنه كان يقول في أكثر أوقاته وضجراته: ليس تدرون من معكم في السفينة، فقال لي لما دخلنا بغداد: أنت أيها الحاجب تعرف من أخلاق البغداديين وعيوبهم ومذاهبهم في الإزراء على العجم وغيبتهم لهم وإيراد الحكايات عنهم ما لا أعلمه ولا أقف عليه ولا أخبره، وأريد أن تنبهني إلى ما أغفل عنه وأسهو فيه، وتلني على ما أتحفظ منه، ولا تراعي في ذاك هيبة الوزارة أو حشمة الرياسة، فإنها أمانة فقلت: السمع والطاعة، وكنت أشير إليه بإشارات في المواضع التي لا تحتمل الإفصاح، فيعرف ويرجع. وقلت له يوماً: هوذا تكثر من قولك "تدرون من معكم في السفينة" وهذا مما يستقبحه البغداديون ويعيبون عليه ويطعنون على قائله فيه، فقال: لم؟ فحاجزت ودافعت، وألح فقلت: نعم يقولون في الإنسان إذا استحمقوه: هو تيس في سفينة فأمسك. وكان ربما حملته الحدة والعادة على أن يقول ذاك، فإذا نظرت إليه فطن وقطع، وأمسك ورجع. ? 347 - وحدثنا رضي الله عنه قال: حدثني أبو نصر الحسن بن المصلحي الكاتب النصراني قال: كنا في يوم عيد بحضرة الوزير شرف الملك أبي سعد، والناس يدخلون إليه ويخدمونه ويهنونه، والشعراء ينشدونه ويمدحونه، إذا أنشد أحدهم فيه أنشد: وأنت حصني الذي ألوذُ به ... فما لهُ قد تهدّمت شرفه فتطيرت عليه من ذلك ومن مشاكله شرفه بشرف الملك لقبه ثم أنشده آخر قصيدة أولها: عقدُ الصيامِ بيومِ العيدِ محلولُ ... فقلّد الكأسَ فالقنديلُ معزول فازداد تطيري، وقدم الطعام، فبينا نحن نأكل إذ عثر المشاش وعلى رأسه طيفورية فيها أربعة صحون فرمى بها وكسرها، فكانت الثالثة في سوء ما اتفق، فلما كان في اليوم التاسع من شوال قبض عليه. 348 - وحدثني أيضاً قال: حدثني أبو الفتح بن المقلد الأصفهاني قال: حدثني أبو منصور الحسن الحلبي قال: كنت أكاثر الوزير شرف الملك أبا سعد بن ماكولة بالبصرة فأنشدته يوماً لعتراه الخياط، ولم أعلم أن شرف الملك أصفهاني: لم تكن أصفهانُ يوماً من الدّه ... رِ بدارٍ لنا ولا رامَ شاذا غير أني اعتمدتُ فيها كريماً ... من قريشٍ جعلتهُ لي ملاذا بلدةٌ تمطرُ الترابَ علينا ... مثلما تمطرُ السّماءُ الرّذاذا أهلها شرُّ عصبةٍ خلقَ الل ... هُ وأجفاهم للغريب وآذى ولهم لحنُ منطقِ لستُ أدري ... هِ إذا قال ذا وجاوبَ هذا ما تعلّمتُ منه إلا قليلاً ... إنّهم أبدلوا من الريح وإذا كلُّ ما يأثرونهُ من ملوك ال ... فرس فيروزَ وابنه وقباذا فإذا ما أعاذَ ربّي أناساً ... من عذابٍ كبعضِ من قد أعاذا فحمى الله أهلها أن يصيبوا ... وزراً من عقابهِ وملاذا خربت عاجلاً كما خرّبَ الل ... هُ بأعمالِ أهلها كلواذي قال: فتغير لونه، وتمعر وجهه، واستحيا حياء بان غيظه من عرضه، وضحك إلي من حضر من أهله ضحكاً مستكلفاً متعملا، فتنبهت حينئذ على غلطتي وهفوتي، واعتذرت إليه اعتذاراً لم يمح منه قبيح زلتي. 349 - وحكى الوالد قال: حدثني أبو نصر الحسن بن منصور الصلحي الكاتب النصراني قال: حدثني الوزير النفيس أبو الفتح محمد بن الفضل ابن أردشير قال: كنت بالسيرجان مع الوزير أبي غالب الحسن بن منصور الملقب ذا السعادتين، فاتفق أن شربت عنده يوماً وسكرت سكراً سقطت معه شستجتي من كمي وفيها رقاع إليه قد أعطانيها أربابها لأتنجز لهم توقيعاته فيها، ومن جملتها رقعتان قد كتبت قديماً بخطي في إحداهما: يا قليلَ موفورَ الصّلف ... والذي في البغى قد حاز السّرف كن لئيماً وتواضع تحتمل ... أو كريماً يحتمل منكَ الصّلف وفي الأخرى: يا طارقَ البابِ على عبدِ الصّمد ... لا تطرقِ البابَ فما ثمَّ أحدْ

وتقدم بأخذ الشستجة وإعطائه إياها، ووقف على الرقاع ووقع بجميع ما سأل أربابها فيها، ثم وقع في إحدى الرقعتين المتضمنة للبيتين اللذين بخطي: "يطلق له ألفا درهم" وفي الأخرى المتضمنة للبيت الواحد: "يوجب له ألف درهم مشاهرة على استقبال كذا من الشهر الشهر الذي كان فيه، ورد الجميع إلى الشستجة وأعادها إلى كمي في الموضع الذي نمت فيه، وأصبحت من غد ولا علم عندي بما جرى، واستدعاني إلى الطعام وقت الظهر ولم ير عندي أثراً لفعله ولا مني شكراً له، فقال لي: وقفت على الرقاع التي في شستجتك؟ فقلت: لا والله، فأمسك وتراجمت بي الظنون في قوله، فلما فرغنا من الأكل ونهضت لغسل يدي طلبت الرقاع وتأملتها فوجدتها على ما ذكرت وشغل قلبي حال ما وجدوه فيها بخطي وكيف سبق إلى ظنه من أن ما كتبته إيماء إليه وتعريض به، وعدت إليه فدعوت له وشكرته، واعتذرت من الشعر الذي كنت كتبته فقال: لا تعتذر فإنا نستحقه إذا لم نقض حقاً ولم نراع صاحبا. 350 - وحدث أبو الفضل الأزدي قال: أخبرنا شاه قال: مر رجل بابن المبارك، وكان يدعي النحو، فوقف عليه وهو راكب دابته يحدثه، فقال له ابن المبارك: أما بلغك الحديث: "لا تتخذوا ظهور داوابكم مجالس" فقال له: مجالساً يا أبا عبد الرحمن فضحك ابن المبارك وقال له: إن مجالس لا ينصرف لأنه على وزن مفاعل، وأنت لم تبلغ هناك بعد فخجل الرجل وانصرف، فكان إذا مر في السوق صاحوا به: لم تبلغ هذا هناك بعد يا أبا فلان فكان قلما يفاجئ الناس ويلاقيهم. 351 - وحدث محمد بن حبيب قال: أخبرني ابن الأعرابي قال: شهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال له: كذبت، فقال: الكاذب المتزمل في ثيابك فقال معاوية: هذا جزاء من عجل. 352 - وحدث محمد بن شجاع قال: قرأ الكسائي في صلاة صلى فيها بهرون الرشيد: "إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" فقال له الرشيد: يا أبا الحسن في أي لغة هذه؟ قال: يا أمير المؤمنين إنه وقع في نفسي وأنا أقرأ أنه ليس أحد يقوم بالقرآن كقيامي، ولا يقف حدوده وتقطيعه وغريبه ومعانيه وتفصيله وفصله وقوفي، فحين وقع هذا في نفسي ابتليت بما ابتليت به في لساني. 353 - شهد رجل على رجل عند بعض القضاة، فقال المشهود عليه، أيها القاضي تقبل شهادة علي ومعه عشرة آلاف دينار وما حج عمره! فقال له: فاسأله عن زمزم فلم يدر بما يجيب فقال: حججت قبل أن حفرت فلم أرها. 354 - قال الحجاج لعبد الرحمن بن أبي بكرة: ما مالك؟ فقال: لقد ختمت على ألف ألف درهم، ثم على عبد الرحمن أنها سقطة قد زلت من فمه فتداركها مسرعاً معجلاً وقال: ولقد أصبحت وما أملك إلا خاتمي. 355 - وحدث علي بن محمد بن الجهم قال: حدثني أبو العباس محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: حدثني أبي عن أحمد بن إسرائيل قال: صرت يوماً إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فلما صرت في صحن الدار رأيته مضطجعاً على مصلاه مولياً ظهره باب مجلسه، فهممت بالرجوع، فقال لي الحاجب: ادخل فإنه منتبه، فلما سمع حسي جلس، فقلت: حسبتك نائماً قال: لا، ولكني مفكراً في أمر الدنيا وصلاحها في هذا الوقت واستوائها ودرور الأموال وأمن السبل وعز الخلافة، فعلمت أنها أمكر وأنكر وأعذر من أن يدوم صفاؤها لأحد، وقد شغل قلبي حضور هذا الخاطر ببالي، وخفت عواقب ما وقع في نفسي فما مضى إلا أربعون يوماً حتى قتل المتوكل ونزل به من البغي ما نزل. 356 - وحدثني ابن عبد الله الحميدي قال: أخبرني القاضي أبو الغنائم محمد بن علي بن الدجاجي عن المعافى بن زكريا قال: حدث الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا عسل بن ذكوان قال: حدثنا المازني عن أبي عبيدة قال: تغذى أسد بن عبد الله بخراسان، فأتاه طباخه بشواء فيه يبيس، فقال له: ما هذا؟ قال: إذا كان في الشواء يبيس كان أطيب له قال: صدقت ولكنه ينفعك في الجوذابة وبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إليه خالد: "ما كنت أحب لك هذه الفطنة البخيلة في قولك، ولا أن تبديها لجلسائك، فاقسم المال على ندماتك وجلسائك، ومرهم بالكتمان عليك".

357 - وبالإسناد قال: حدث الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: حدثنا الأصمعي عن ابن أبي عرفة قال: أملي زياد بن أبيه على كتابه يوماً كتاباً إلى معاوية، وسها فقال عن خاطر خطر بقلبه: "وهذا الرجل عمران بن الفضل البرجمي" فكتب الكاتب، فلما وصل الكتاب إلى معاوية، كتب إلى زياد: "ذكرت في كتابك عمران بن الفضل البرجمي ولم تذكر لهذا الكلام ما تقدمه ولا ما اتصل به" فسأل زياد الكاتب عن ذاك، فقال: ما أعلم، أنت تملي وأنا أكتب فقال زياد. حديث نفس سقط بين كلامي وكتابي، لا تكتبوا كتاباً إلا جعلتم له نسخة في الديوان، فكان ذاك أول وضع النسخ. 358 - وبالإسناد قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثنا محمد بن المرزبان قال: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا أبو عبد الله القرشي قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: قال مالك بن أنس: إن لهؤلاء الشطار ملاحة، صلى واحد منهم خلف رجل، فلما قرأ: "الحمد لله" أرتج عليه، فجعل يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وردد ذلك دفعات، فقال له ذلك الشاطر من خلفه: والله ما للشيطان ذنب إلا أنك سخين العين ما تحسن تقرأ. 359 - وبالإسناد قال: حدثنا أبو النصر العقيلي قال: حدثنا أبو الحسن بن راهويه قال: صلى يحيى بن المعلى الكاتب فقرأ: "قل هو الله أحد" فغلظ فيها، وكان في المجلس أبو نواس ووالبة بن الحباب وعلي بن الخليل والحسين الخليع، فقال أبو نواس: أكثرَ يحيى غلطاً ... في قل هو الله أحد فقال والبة: قام طويلاً ساكتاً ... حتى إذا أعيا سجد فقال ابن الخليل: يزحرُ في محرابهِ ... زحيرَ حبلى للولد فقال الخليع: كأنما لسانهُ ... شدَّ بحبلٍ من مسد 360 - وبالإسناد قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال: حدثنا إبراهيم بن سعدان قال: حدثنا الأصمعي عن عبد الله بن صالح قال: قال لي رجل من حارثة بن لام: أضافني رجل من بني تغلب فأحسن ضيافتي، فأفلت من لساني هذا البيت: والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكَّ أسته وتمثّل الأمثالا فخجلت وسقط في يدي، فقال ما هذا بالله انبسط فإنما قلت كلمة مقولة. 361 - وبالإسناد: حدثنا أحمد بن أبي سهل بن عاصم أبو بكر الحلواني قال أبو بكر ختن المبرد: لقيني الأسباطي على الجسر وقد أخذ إسماعيل بن بلبل دور أهل الخلد فقال لي: بغى وللبغي سهامٌ تنظر أنفذ في الأكبادِ من وخزِ الإبر سهامُ أيدي القانتين في السحر قال: فو الله ما مضت أيام حتى كان من أمر إسماعيل وهلاكه ما كان. ? 363 - ذكر أعرابي أنه شهد الموقف مع عمر بن الخطاب عليه السلام فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله، ثم قال: يا أمير المؤمنين، فقال رجلي من خلفي: دعاه باسم ميت، مات والله أمير المؤمنين فالتفت إليه فإذا رجل من بني لهب، وهم من بني نضر بن الأزد، وهم أزجر قوم قال كثير: سألتُ أخا لهبٍ ليزجرَ زجرةً ... وقد صار زجرُ العالمين إلى لهبِ قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكت صلعة عمر فأدمته فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف بعدها فالتفت إليه فإذا هو اللهبي بعينه، فقتل عمر قبل الحول، قدس الله روحه، ونور ضريحه. 363 - وحكى المبرد قال: قال يزيد على المنبر، وقد ذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: وهذه الضبعة العرجاء، فتحدث الناس بزلته فيها وغلطته، لأن الأنثى يقال لها ضبع والذكر يقال له الضبعان فإذا جمعا قيل ضبعان.

364 - وحدث العباس بن المأمون قال: حدثني المتوكل على الله قال: احتجمت في اليوم الذي توفي فيه الواثق بالله وأنا لا أعلم، فقالت لي أمي: امض إلى أخيك الواثق وعده من مرضه، فقلت لها: أطعميني شيئاً بعقب الحجامة فإنني احس من نفسي بضعف، فقالت: إذا أنت أكلت لم يكن لك لابد من أن تشرب، وهي ساعة، فامض إليه وعده، وعد إلى طعامك وشرابك مطمئناً، ففعلت ودخلت الدار وجلست بحيث كنت أجلس، وفي الموضع باب، فسمعت حركة وراءه، ونظرت من ثقب فيه محمد بن عبد الملك الزيات وإيتاخ ومعهما محمد بن الواثق، وهما يلبسانه الرصافية، فيدخل رأسه فيها لسعته وصغره عنها، فقال أحدهما للآخر: وما يكون إذا لم يلبسها، نعممه وقالا: فما نعمل بجعفر يغنوني قال محمد بن عبد الملك: نقتله في التنور، وقال إيتاخ: بل ندعه في الماء البارد حتى يموت، ولا يبين عليه أثر قتل، فغشى علي لما سمعته من عزمهما في أمري، ولإخراج الدم، وأنني لم آكل شيئاً، وضعفي ثم تحاملت فجلست في موضعي، وجاء ابن أبي داود، فدخل وسمعته يخاطبها بما لم أحصله لما كنت فيه، وخرج بعد ساعة الغلمان الصغار المعروفون بالإيتاخية يتعادون إلي ويقولون لي: مولانا انهض، فلم أحفل بما سمعته ورأيته منهم، وقلت: هؤلاء يخاطبونني على العادة وما يعلمون ما قد أعتزم في حقي، ثم قمت ولم أشكك في أني أدخل لأسلم على الصبي بالخلافة وأبايعه، ثم ينفذ في ما تقرر بينهم فعله معي، ودخلت الحجرة فرأيت السرير خالياً، فسكنت نفسي قليلاً، ثم لقيني ابن أبي داود فقبل يدي وأمسكها إلى أن بلغت السرير، وقال لي: اصعد إلى المكان فقد أهلك الله تعالى له، فلما صعدت وجلست سلم علي بالخلافة، وجاء محمد بن عبد الملك وإيتاخ فسلما علي بها أيضاً، وأخذ ابن أبي داود عليهما البيعة لي، وأدخل القواد والموالي على مراتبهم يسلمون ويبايعون، ورآني ابن أبي داود متغير اللون فقال لي وقد دنا مني ما الخبر مالك؟ فخبرته بحال الحجامة وغلبة الصفراء علي، وقلت: الساعة أموت وتقعون في شغل جديد فعاد إلى موضعه الذي كان قائماً فيه، وقال: يجوز أن يتمم أخذ البيعة في غير هذا الموضع، أخرجوا الناس فأخرجوا، ودعا بصاحب المطبخ وأمره أن يقدم الطعام فقدمه، وتناولت ما أمسك رمقي وعادت به نفسي. ثم سألت عن الحال كيف جرت، فقيل لي: إن محمد بن عبد الملك وإيتاخ تطابقاً على ما سمعته منهما، ووكلا بباب الحجرة من يمنع من دخول ابن أبي داود إليهما حتى يفرغا من تدبيرهما ويحكماه، فلما حضر ابن أبي داود منع، فدفع في صدور الموكلين، وهابوه فلم يراجعوه، ودخل فسلم عليهما وقال لهما: أنا رسول المسلمين إليكما، وهم يقرأون السلام عليكما ويقولون لكما: قد بلغتنا وفاة إمامنا وعند الله نحتسبه، ورحمة الله تعالى ورضوانه، وأنتما المنظور إليكما في هذا الأمر، فمن اخترتما لإمامتنا؟ فقالا: اخترنا محمد بن الواثق! فقال: بخٍ بخٍ ابن أمير المؤمنين، وأحق الناس بميراثه، إلا أنه صغير السن لا يصلح للإمامة، فمن غيره؟ قالا: فلان وفلان وفلان، وهما يقرظان كل واحد ممن يذكرانه ويصفانه إلى أن قالا: وجعفر بن المعتصم يعنياني فقال: رضي المسلمون، اصفقا على يدي، فصفقا، ثم أرسلوا إلى فكان من الأمر ما كان، وبقي ما قاله محمد بن عبد الملك وإيتاخ في نفسي، فقلتهما بما اعتزما قتلي به، وعلمت أن ذلك القول الذي كان منهما وسمعته من القدر الطريف والاتفاق العجيب فيما بدر من لسانهما واطلعت عليه من سرهما، ووقع في نفسي أن الله تعالى وقفني عليه وأعلمنه وأسمعنيه من حيث لم أظنه ولم يظنا لأكافئهما به وأجازيهما عليه عما انتشر من لعنتهما وشرهما وتجبرهما، فقتلت ابن عبد الملك في التنور، وإيتاخ بالماء البارد، فسبحان الله ما أطرف هذا الاتفاق وأعجبه. 365 - ذكر المبرد أن يزيد بن عبد الملك قال يوماً: إن الدنيا لم تصف لأحد يوماً قط، فإذا خلوت يومي هذا فاطووا عني الأخبار، ودعوني ولذتي وما خلوت به، ودعا بحبابة فقال: اسقيني وغنيني، فخلوا في أطيب عيش، فتناولت حبابة حبة رمان فتركتها في فيها، فغصت بها، فماتت، فجزع يزيد جزعاً أذهله، ومنع من دفنها، حتى قال له مشايخ بني أمية: هذا عيب لا يستقال، وإنما هذه جيفة فأذن في دفنها، وتبع جنازتها، فلما ووريت قال: أمسيت والله فيك كما قال كثير:

فإن تسلُ عنكِ النفسُ أو تدعِ الهوى ... فباليأسِ تسلو عنكِ لا بالتجلّد وكل خليلٍ راءني فهو قائلٍ ... من أجلكِ هذا هامةُ اليومِ أو غدِ فتطير عليه من هذا التمثل، فمات بعد خمسة عشر يوماً. 366 - وحدثني أبو عبد الله الحميدي قال: أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي بمصر قال: أنبأنا أبو مسلم الكاتب قال: أنبأنا أبو بكر بن دريد قال: أنبأنا الحسن بن خضر عن أبيه عن كاتب عيسى بن علي عن إبراهيم بن خالد بن مخرمة قال: كنت يوماً عند مسلمة بن عبد الملك بن مروان وقد زاره عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وكان مصافياً له، فاستؤذن لرجل من أهل الحيرة على مسلمة، وقيل: قد حضر في مظلمة، وهو جار ضيعتك بمكان كذا فأذن له، فدخل فإذا برجل طويل القامة ضخم اللحية جهم الوجه، قد أخذ عارضاه ما بين منكبيه، وبلغ عثنونه سرته، وعليه ممطر فيه حشد ثلاثة مماطر في يوم صائف، فو الله ما هو إلا أن طلع فمشى وتقرح وخطر بيديه، فرأيت مسلمة يلاحظه ويعاتب نفسه على إيصاله، فسلم وذكر حاجته بنهر وضجيج ولغط وتخليط فقال له مسلمة: اجلس. فجلس فقال له: ما كنيتك؟ قال: أبو العجنس، فقال: ما اسمك؟ قال: صهاب ابن حيان، وأبدى يسراه فإذا فص خاتمه مثل الإبهام الغليظ، وعليه أسطار، فلما رآه مسلمة لم يصبر آن قال له: أرى فصك ضخماً كبيراً، وأرى عليه سطوراً، فما هي؟ قال: فدفعه غلي لأقرأ ما عليه، لأنه لم يعلمه ولا يحسن أن يقرأه، فإذا عليه: صهاب أبو العجنس يؤمن بالواحد الأحد الصمد، وبالنبي الأمي محمد، ويسأل الله حياة سعادة وموت شهادة، إنه على كل شيء قدير" فضحك عبد الله وضحك، وتبسم مسلمة، ثم قال لحاجبه: اقض حاجته وأحسن ضيافته، فلما انصرف قال مسلمة: ما بعد كنيته وعظم لحيته ونقش خاتمه شك لمعتبر. 367 - وحدث أبو بكر بن دريد قال: أنبأنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي أن أعرابياً كثر عياله، فتوجه بهم إلى خيبر لوبائها وقال: قلتُ لحمّى خيبر استعدّي ... هذا عيالي فاجهدي وجدّي وباكري بصالبٍ ووردِ ... أعانكِ الله على ذا الجندِ فحُمَّ هو ومات، وسلموا وعادوا إلى موضعهم ورجعوا. 368 - وحدث ابن دريد قال: أنبأنا أبو عثمان عن الثوري عن الأصمعي قال: حدثنا عيسى بن عمر قال: كان عندنا رجل لحانةٌ، فلقي لحانة مثله، فقال: من أين أقبلت؟ فقال: من عند (أهلونا)! فتعجب منه وحسده، وقال له: أنا أعلم من أين أخذتها، من قول الله تعالى: "شغلتنا أموالناوأهلونا". 369 - وذكر أبو زيد الأنصاري قال: كنت ببغداد، فأردت الانحدار إلى البصرة فقلت لابن أخي: اكتر لنا سميرية، فجعل يقول: يا معشر (الملاحون)، فقلت له: ويلك ما تقول؟ فقال: جُعلت فداك، أنا مولع بالنصب! فضحكت منه وقلت: أتقنت. فقال: ماذا؟ قلت: اللحن! 370 - وحدَّث أيوب بن محمد قال: سمعت بشر بن عبد الوهاب قال: كان يجلس إلى عمود في مسجد دمشق رجل جميل الهيئة، يظهر العبادة، فرأيته يوماً وقد سجد وهو يقول في سجوده سجد لك خضرتي وحمرتي وصفرتي وسوادي وبياضي خاضعاً ضارعاً خاشعاً ماصَّ بظر أمه! ومن أنا عبدك ابن عبدك الزاني ابن الزانية حتى لا تغفر له!. 371 - وحدَّث عيسى بن هلال بدمشق قال: حدثنا أبو حيوة شريح ابن يزيد قال: كان سعيد بن سنان أبو مهدي مؤذن الجامع بحمص، وكان شيخاً صالحاً، ويسحر الناس في شهر رمضان، ويقول في تسحيره إياهم: يا أهل حمص اسخنوا قديراتكم، وعجلوا عجلوا في أكلكم قبل أن أؤذن فيسخِّم الله وجوهكم! 372 - وحدّث النصر بن شميل قال: حدّث عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن أبيه قال: دخل عبد الله بن الزبير على معاوية وعنده جماعة من قريش، فأوسع له معاوية حتى جلس معه على سريره، فلما انصرف قال له مروان بن الحكم: لله درك من رئيس قبيلةٍ تضع كبيرهم وترفع صغيرهم! فثقلت على معاوية وقال له: نفس عصامٍ سوَّدت عصاما وعرف مروان بن معاوية ذاك فضاحكه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما قلتها إلا مازحاً! فقال: أترسلها شعثاً غبراً ثم تتبعها ضحكة يا مروان! فأخذ يعتذر إليه ويحلف له، فقال له: ما أغناك عن كلام تحتاج بعده إلى مثل هذا الاعتذار!

373 - أنفذ عبد الله بن علي إلى السفاح مشيخة من أهل الشام يطرفه بعقولهم واعتقادهم وأنهم حلفوا لأنهم ما علموا أن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرابة يرثونه غير بني أمية حتى وليتم أنتم!. 374 - وقال هرون: حدثني يعقوب عن أبي الطريح ابن اسماعيل عن أبيه قال: كان المهاجر بن عبد الله الكلابي أشرف عربي في زمانه، وكان لأم ولدٍ وعاملاً على اليمامة من قبل بني أمية وبني العباس أربعين سنة. وكان يؤتى في الدية والحمالة من كل مكان فلا يرد أحداً إلا بحاجته، فبينا هو جالسٌ يوماً في منظرة له إذ رأى خمسين راكباً من قومه قد طلعوا عليه قاصدين إليه في زي جميل ومراكب ورواحل، فسره ذلك منهم، وأمر لهم بدار كبيرة وجعلها برسمهم، وبطعامٍ كثيرٍ يُصنع لهم، ودخل عليهم، وجعل يحييهم ويقبل عليهم فرحلً بهم وسروراً بما رأى من تجملهم وهيئتهم، وأتي بالطعام فجلس معهم يؤاكلهم ويحادثهم ويؤانسهم ويبسطهم، وهو لا يشك أنهم جاؤوه في دية أو حمالة وقعت عليهم، أو مغرمٍ ثقيل لزمهم، فقال لهم: حياكم الله وأنعم بكم عيناً يا بني عمي، ما حاجتكم فقد قضاها الله تعالى؟ قالوا: إن ابن عم لك أصاب رجلاً من طائفة العشيرة فقتله، وهو ابن أم ولد، وقد خفنا أن يأخذ ابن صريحة فيكون لهم الفضل علينا، وليس بنا ابن أم ولد غيرك، فنحن نحب أن ننقاد معنا ندفعك إلى القوم فيقتلوك ويصلح الله تعالى هذا الأمر بك، ولا يكون لهم على عشيرتك فضل! فلما سمع ذلك منهم قام عنهم، ودعا صاحب الشرطة فأخبره الخبر، وأمره أن يجلس لهم الصبيان في السكك معهم البعر، ثم يحملهم على رواحلهم، محولة وجوههم إلى أذنابها، ويأمر الصبيان بأن يرجموهم بالبعر وينثروه عليهم حتى يخرجهم من البلد، ففعل ذلك بهم. 375 - وبلغ الأمين أن يعقوب بن المهدي لا يقيم نسبة، فدعاه وقال له: انتسب، فقال: أنا يعقوب بن المهدي، فقال: ابن من؟ فلم يعلم، فأمر به وحمل على الفيل، وحلف لا ينزله حتى يحفظ نسبه! 376 - وكان خارجة بن زيد إذا صلى الجمعة انصرف إلى داره فجلس فيها، وأتته الأنصار طراً، أهل العوالي وغيرهم، مسلمة عليه كما يسلم على أمير المدينة، تعظيماً له وتشريفاً، وكان يأمر ليلة الجمعة بالماء يبرد في القرب، ويسقاه الناس بالعسل بعد صلاة الجمعة في عساس عظام من خيشاني، ونضارتها من الحسن والعظم ما لا غاية بعدها؛ وكان أبو عبد الله القراظ فارسياً سبي في خلافة عمر بن الخطاب، وله جواب منكر لا يطاق، وقد اسن، وخلقته مضطربة: له أذنان عظيمتان ورأس كبير وآراب منكرة، وكان ينصرف فيمن ينصرف بعد الجمعة إلى دار خارجة، فيشرب، فإذا رآه خارجة رحب به وأمر بتعجيل الشراب عليه، وإن رآه أحد أولاده فعل به كفعل أبيهم؛ فجلس يوماً إلى جنبه فتى من الأوس من ولد عبد الله بن نفيل بن الحارث، فلم تجز له، فإنه جعل يهزأ به ويقول للساقي: اسقِ الشيخ ماء فإنه لا حاجة له في العسل، ويضحك به؛ فقال له أبو عبد الله: من أنت يا فتى؟ قال: من الأنصار، قال: مرحباً بالأنصاري، فأي الأنصار أنت؟ قال: أنا فلان بن الحارث بن عبد الله بن نفيل بن الحارث، فقال: يا فتى تدري من الأنصار؟ قال: نعم وأنا وقومي، فقال له: أما جدك فلم ينصر، أعلمت ما نزل فيه من القرآن؟ أتدري ما فعلت سورة براءة بأبيك؟ فضحته! هي الفاضحة له المبدية لمساوئه! فاستحيا الفتى وأراد أنم يقوم، فقال له: كما أنت أزيدك، اعلم أني شيخ مجرب صحبت سعد بن أبي وقاص سنين في السفر والحضر، وغيره من الصحابة! لا تهزأن بالشيوخ .. فضار الفتى إذا لقيه أكرمه واعتذر إليه وقال له: لم أعرفك! فيقول له القراظ: ليس هذا بعذرٍ، لا تسيئن إلى أحد عرفته أو أنكرته! 377 - وحدث ابن جريج قال: كان عبد الله بن صفوان يُطعم كل يوم بمكة الناس في داره سويقاً وتمراً، ويأكل معهم، ثم ينصرف إلى بيته، فجاء يوماً من ذلك وعليه ثوبان وعمامة خزقانية، وقد ضاقت المجالس، فوقف على حلقة من تلك الحلق، وجعل يأكل وهو قائم، فقال له الذي حصل قائماً على رأسه وهو لا يعرفه ما رأيت كاليوم ملانا أذيتنا، فقال له خالد: أيها المرء الأمر أيسر من ذاك، إنما هو آكل ثم انصرف عنك! وعرفه بعد ذاك فقال: هذا أشرف البشر! وندم على مابدر منه، وكان حيث يراه يعتذر إليه.

378 - وحكى ابراهيم بن إسحق الموصلي قال: غنيت بين يدي الرشيد وستارته مضروبة: وأرى الغواني لا يواصلنَ أمرأً ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا فقال: يا عاض كذا وكذا أتغني هذا وجواري أمير المؤمنين من وراء الستارة يسمعنه! لولا حرمتك لضربت عنقك! قال: فتناسيت الصوت من بعد حتى أنسيته. 379 - وحدث أبو ظبيان الحماني قال: اجتمعت جماعة من الحي على شراب فتغنى أحدهم بشعر حسان: إن التي عاطيتني فرددتها ... قتلتْ قتلتَ فهاتها لم تقتلِ كلتاهما حلبُ العصيرِ فعاطني ... بزجاجةٍ أرخاهما للمفصلِ فقال أحدهم: ما معنى قوله "إن التي" فجعلها واحدة، ثم قال "كلتاهما حلب العصير" فجعلهما اثنتين؟ فلم يكن عند أحدهم جواب، فقال: امرأته طالق ثلاثاً إن بات الليلة أو يسأل القاضي عبيد الله بن الحسن عن هذا! فأسقط في أيديهم ليمينه، واجتمعوا وقصدوا القاضي وهو في مسجده يصلي بين العشاءين، فلما سمع حسهم أوجز في صلاته، وأقبل عليهم فقال: ما حاجتكم؟ فبدأ أحدهم وكان أحسنهم هيئة فقال له: قد جرى من صاحبنا هذا زلة لسان وهفوة إنسان بطلاقٍ لزوجته أوجبه عليه، فاقتضى انطلاقنا ب نحو القاضي والقدوم عليه، فإن أذن لنا القاضي شرحنا اله ورجونا فيه تفضلك؟ فقال: قل ماهذا؟ فشرح له القصة، فقال القاضي: أما قوله "إن التي عاطيتني" فإنه عنى الخمرة، وأما قوله "كلتاهما حلب العصير" فعنى الخمر والماء الذي مزجت به، فالخمر عصير العنب، والماء عصير السحاب، قال الله تعالى: (وأنزلنا من المعصراتِ ماءَ ثجّاجا) انصرفوا إذا شئتم، فانصرفوا. 380 - حدثنا أبو منصور محمد بن عبد العزيز العكبري قال: حدثني أبو عبد الله البشير البصري، وكان صاحب خبر القادر بالله، قال: وقع بين أبي الحسن ابن سكرة الهاشمي الشاعر وزوجته بنت أبي تحفة الهاشمية لأجل خمرة المغنية وميله إليها، فاستعدت زوجته إلى أبي القاسم بن أبي تمام الزيني نقيب الهاشميين، فأحضره وألزمه إرضاءها أو طلاقها، فقال لها: مارضاك؟ قالت: أن تحلف بطلاقي أنك لا تجتمع معها ولا تقربها، فإن فعلت خلصت منك وانصرفت عنك! فاغتاظ منها وحلف بطلاقها على ذاك، وأضاف إليه أنه يهجوها كل يوم، فكانت زوجته لا تدعه يخرج من البيت حتى يهجوها، وتزوجت خمرة بإنسان يعرف بابن طومار، فاتفق أن جاء ابن طومار إلى أبي إسحق الطبري الشاهد المقرئ المحدث، ودخل ابن سكرة وهو لا يعرف ابن طومار، فقال له أبو إسحق: ما خبرك وما عندك؟ فقال: أمسكتني بنت أبي تحفة الساعة ولم تدعني أخرج حتى قلت: خمرةُ من سخنةَ عينِ أستِها ... تنتفُ من حولٍ إلى حولِ فقد غلتْ شعرتُها واغتلتْ ... فهيَ إذاً هولٌ منَ الهولِ كأنها من خشنها ليفةٌ ... شُدتْ بها قارورة البولِ فقال له أبو إسحق الطبري: هذا زوجها، وقد سمعك! فاستحيا ونكس رأسه، ثم قال له: فلي ينطح أو لك! ونهض فخرج. 381 - وحدث محمد بن اسماعيل بن موسى الهادي قال: كنت عند المعتصم وعنده علويه ومخارق ومحمد بن الحارث وعقيد، فتغنى عقيد، وكنت أضرب عليه: نام عذالي ولم أنمِ ... واشتفى الواشونَ من سقمي وإذا ما قلتُ بي ألمٌ ... شكَّ من أهواه في ألمي فطرب المعتصم وقال: لمن الشعر والغناء؟ فلم يجبه أحد، فقلت: لعلية، فأعرض عني، فتبينت غلظي، وأن القوم اعتمدوا الإمساك، وقطع بي، فتبين حالي فقال: لا ترع يا محمد، فإن نصيبك منها مثل نصيبنا! 382 - حدثني أبو منصور محمد بن محمد بن عبد العزيز العكبري قال: حدثني أبو علي الحسن بن شهاب الحنبلي ابن عم والدتي من حفظه قال: استدعى هشام بن عبد الملك بن مروان زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام وهو مكبل بالحديد، وقال له: يابن السوداء! فقال زيد: صبغة جلدها وخلقة ربها، قال: يا بن العجانة الخبازة! فقال: مهنة أهلها وخدمة بيتها، قال: يا بن الزانية! فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لها، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك! فأسقط هشام وعلم أنه أساء، وخجل ونكس رأسه، وأمر به فأعيد إلى محبسه.

383 - وحدث ابراهيم بن المهدي قال: ما خجلت قط خجلي يوماً دخلت لى عُلية أُختى عائداً فقلت: كيف أنت جعلت فداك؟ وكيف كانت حالك وما خبرك مما كنت تشكينه؟ فقالت: بخيرٍ والحمد لله، ووقعت عيني على وصيفة قائمة على رأسها تذب عنها، فأعجبتني وشغلت بالنظر إليها، وأطلت ثم استرجعت فرددت نظري إلى علية عنها، وأنسيت أني قد تعرفت أخبارها، فقلت: كيف كنت يا أختي وما خبرك وحالك مما كنت تجدينه؟ فرفعت رأسها إلى حاضنة ها قائمة على رأسها وقال لها: أليس قد مضى هذا مرة وأجبنا عنه! فخجلت خجلاً ما خجلت مثله قط، وقمت فانصرفت. 384 - وكان يعقوب بن المهدي لا يقدر أن يمسك الفساء، فاتخذت داية له مثلثة من الطيب وتنوقت فيها فلما وضعتها تحته فسا، وشمَّ المثلثة فقال لها: ماهي طيبة! فقالت له: يا سيدي لما كانت مثلثة كانت طيبة، فلما ربعتها صارت ليس بطيبةٍ!. وكان محمَّقاً مع ذلك: كان يخطر بباله شيء فيشتهيه فيثبته فيما له، فضج الخازن من ذاك، فكان ذا كتب شيئاً من ذاك كتب الخازن تحته: "ليس هذا له وإنما اشتهاه! ". ووجد له دفتر فيه ثبت ثياب: "ثبت ما في الخزانة من الثياب المثقلة الإسكندرية الهاشمية: لا شيء! أستغفر الله، بلى عندنا منها زر من جبة كانت للمهدي؛ الفصوص: الياقوت الأحمر التي من حالها وصفتها كذا وكذا: لا شيء! أسغفر الله، بلى عندنا درج كان فيه خاتم للمهدي هذه صفته .. " فحمل إلى المأمون هذا الدفتر، فضحك لما قرأه حتى فحض برجليه وقال: ما سمعت بمثل هذا قط!. 385 - وروى أحمد بن ابراهيم بن اسماعيل عن أبيه قال: كان عند المهدي رجل من بني مروان فدخل إليه وسلم عليه، فأتي المهدي بعلج فأمر المرواني بضرب عنقه، فأخذ السيف وضربه، فنبا السيف عنه، فدحا به المرواني وقال: لو كان من سيوفنا ما نبا! فسمعه المهدي فاغتاظ حتى تغير وجهه، فقام يفطين وأخذ السيف، وحسر عن ذراعيه، وضرب العلج فرمى رأسه، وقال يا أمير المؤمنين إن هذه السيوف سيوف الطاعة لا تعمل إلا في أيدي الأولياء، فلا تعمل في أيدي أهل المعصية! ثم قام أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين قد حضرني بيتان أتأذن في إنشادهما، فقال: قل، فقال: أيهذا الإمامُ سيفُك ماضٍ ... وبكفِّ الوليِّ غيرُ كهامِ فإذا ما نبا كبفٍّ علمنا ... أنها كفُّ مبغضٍ للإمامِ فقام المهدي عن مجلسه وأمر بقتل المرواني، فقتل. 386 - وحدث ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: قدم رجل من سلول على قتيبة بن مسلم بكتاب عامله بالري المعلى ابن عمرو المحاربي، فرآه قدامة بن جعدة المخزومي، وكان صديقاً لقتيبة، فدخل عليه، فقال له: ببابك الأم العرب: سلولي رسول محاربي إلى باهلي! فتبسم قتيبة مغيظاً، وكان قدامة بن جعدة يشرب الخمر ويعاشر عليا الأقيشر، فقال قتيبة: علي بمرداس بن جذام الأسدي، فدعي به، فقال له: أنشدنا ما قال الأقيشر في قدامة وهما بالحيرة، فقال: ربَّ ندمانٍ كريمٍ سيدِ ... ماجدِ الجدين من فرعي مضرْ قد سقيتُ الكأس حتى هرها ... لم يخالطْ صوها منه كدرْ قلتُ: قم صلِّ، فصلى قاعداً ... يتغشاه سماديرُ السكرْ قرنَ الظهرَ مع العصر كما ... تقرنُ الحقةُ بالحق الذكر ترك الطور فلم يقرأ بها ... وقرأ الكوثر من بينِ السورْ فتغير وجهُ قدامة وخجل، فقال له قتيبة: هذه بتلك والبادي أظلم!. 387 - وحدث جعفر بن قدامة قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال كان علويه يغني بين يدي الأمين فغنى: ليتَ هنداً أنجزتنا ما تعدْ ... وشفتْ أنفسنا مما تجدْ واستبدتْ مرةً واحدةً ... إنما العاجزُ من لا يستبِد فقال الأمين: قد عرض بأخي المأمون وقصده لي ومحاربته إياي! وقيل: بل الفضل بن الربيع قال له ذلك، فتقدم بأن يجر ن بين يديه وأن يضرب خمسين سوطاً!

388 - وحدث علويه قال: كنت مع المأمون لما خرج إلى الشام، فدخلنا إلى دمشق وطفنا فيها، وجعل يطوف على صور بني أمية ويتتبع آثارهم، فدخل صحناً من صحونها فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله، وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستانٌ على أربع زواياه أربع سرواتٍ كأنها قصتْ بمقراضٍ من التفافها أحسن ما رأيت من السرو قداً وقدراً! فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح، وقال: هاتوا إلي الساعة طعاماً خفيفاً، فأُتي ببزماوردٍ فأكله، ودعا بالشراب، وأقبل علي فقال: غنني ونشطني، فكأن الله عز وجل أنساني جميع ما أحفظه إلا هذا الصوت: لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطقْ رجالٌ أراهم نطقوا فنظر إليَّ مغضباً وقال: عليك لعنة الله وعلى بني أمية، ويلك قلت لك سرني أم سؤني! ألم يكن لك وقت تمدح فيه بني أمية إلا هذا الوقتَ! فتجلدت عليه، وعلمت أني قد أخطأت فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية، هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلامٍ مملوك له، ويملك ثرثمائة ألف دينار وهبوها له سوى الضياع والخيل والرقيق، وأنا عندكم أموت جوعاً! فقال: ما وجدت شيئاً تذكرني به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرني حين حضرتهم! فقال: اعدل عن هذا وتنبه ى إرادتي، وغنِّ، فأنسيت كل شيء كان قد علق بحفظي إلا هذا الصوت: الحينُ ساقَ إلى دمشقَ ولم أكن ... أرضى دمشقَ لأهلنا بلدا فرماني بالقدح فأخطأني، وانكسر القدح وقال: قم عني إلى لعنة الله وحرِّ سقره! وقام فركب فكانت والله تلك الحال آخر عهدي به حتى مرض ومات. 389 - وكان خالد بن عبد الله القسري قدم على هشام بن عبد الملك، فأخذ يصف له طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم، فصفق عمر ابن يزيد يده على يده الأخرى حتى سمع لها في الإيوان دوي، وقال لهشام: كذب والله يا أمير المؤمنين، ما أطاعت اليمانية ولا نصحت قط! أليسوا أعداءك وهم أصحاب يزيد بن المهلب وابن الأشعث، والله لا ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه، فاحذهم يا أمير المؤمنين! فظهر تقبل ذلك في وجه هشام، واضطغنها عليه خالد ابن عبد الله؛ وولي خالد العراق فلم يكن له هم إلا قتل عمر بن يزيد حتى قتله. 390 - ومات ابن للفرزدق صغير، فصلى عليه ثم التفت إلى الناس فقال: وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وترحلوا فمات بعد ذلك بأيام. 391 - وروى محمد بن موسى بن طلحة قال: قال أبو عبيدة: دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة فأنشده قصيدته التي يقول فيها: فإن أبا موسى خليلُ محمدٍ ... وكفَّاه يمنى للهدى وشمالُها فقال له ابن أبي بردة: هلكت والله يا أبا فراس! فقال: وكيف ذاك؟ قال: ذهب شعرك! أين مثل شعرك في سعيد بن العاص والعباس بن الوليد وفلان وفلانٍ، وأسمى قوماً .. فقال له: فجئني بأحساب مثل أحسابهم حتى أقول مثل ما قلت فيهم! فغضب بلال حتى أتى بطست وفيه ماء بارد، فوضع يده ورجليه فيه، ليذهب الغيظ عنه، وتبين الفرزدق غلطه فذهب عقله، وخاطبه جلساؤه في الفرزدق وقالوا له: لا تعجل عليه، فقد كفيت أمره، فإنه هم وصدى اليوم أو غدٍ، وأذهب عنك عار قتله! ففعل، ولم يحل على الفرزدق الحول حتى مات. 392 - قال أبو عبيدة: كان خالد بن عبد الله القسري من أجبن الناس، فخرج إليه المغيرة بن سعيد فعرف ذلك وهو على المنبر بالكوفة، فدهش وتحير وقال: أطعموني ماء! فقال الكميت بن زيد فيه، ويمدح يوسف بن عمر الثقفي: خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن ... كمن حصنُه فيه الرتاجُ المضببُ وما خالدٌ يستطعمُ الماءَ فازعاً ... بعذلكَ والدعي إلى الموتِ ينعبُ 393 - وحدث الصولي قال: حدثني أبو ذكوان قال: حدثني طماس قال: جاء ابن دنقش الحاجب إلى محمد بن عبد الملك برسالة من المعتصم يستحضره بها، فدخل يلبس ثيابه، ورأى ابن دنقش غلماناً لمحمد روقة، فقال وهو يظن أن محمداً بحيث لا يسمعه: وعلى اللواطِ فلا تؤمنْ كاتباً ... إن اللواطَ سجيةُ الكتّابِ فخرج إليه محمد، وقد لبس ثيابه، وقال له: وكما اللواطُ سجية الكتابِ ... فكذا الخلاقُ سجيةُ الحجابِ فخجل ابن دنقش واعتذر إليه، فقال له: إنما يقع الاعتذار لو لم يقع القصاص، فأما وقد كافأتك فلا!

394 - وحدثني هرون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: جلس أبي يوماً للمظالم، فلما انقضى المجلس رأى رجلاً جالساً، فقال له: ألك حاجة؟ قال: تدنيني إليك فإني مظلوم، فأدناه فقال له: أنا مظلوم قد أعوزني الإنصاف! قال: من ظلمك؟ قال: أنت، ولست أصل إليك فأذكر حاجتي! قال: ومن يحجبك عني وقد ترى مجلسي مبذولاً؟ قال: يحجبني عنك هيبتي لك وخوفي منك وطول لسانك وفصاحتك واطراد حجتك! قال: ففيم ظلمتك؟ قال: ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك مني غضباً بغير ثمن، وإذا وجب خراجها أديته أنا في الديوان عنك لئلا يثبت لك اسم في الديوان بتصرفك فيها وملكك لها فيبطل ملكي، فوكيلك يأخذ غلتها وأنا أؤدي خراجها، وهذا ما لم يسمع مثله في الظلم! فقال له: هذا قول يحتاج إلى بينة وشهود وأشياء غير ذلك! فقال له: تؤمنني من غضبك حتى أجيب؟ قال: قد أمنتك! قال: البينة أطال الله بقاءك هم الشهود، والشهود هم البينة، وأشياء غير ذلك عي منك وحصر وظلم وتغطرس! فضحك منه وقال: صدقت والبلاء موكل بالمنطق، وإني لأرى فيك مصطنعاً! ووقع له برد ضيعته عليه، وبأن يطلق له كران حنطة وشعيراً ومائة دينار يستعين بها على عمارة الضيعة، وصيره بعد ذلك من أصحابه، واصطنعه لنفسه. 395 - وذكر أبو الفرج الأصفهاني قال: كان عبد الله بن الحسن الأصفهاني يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل، وكتب إلى خالد بن يزيد ابن مزيد عن المعتصم: "إن أمير المؤمنين ينفخ منك في غير فحمٍ، ويخاطب امرأً غير ذي فهم" فقال محمد بن عبد الملك الزيات: هذا كلام ساقط سخيف جعل أمير المؤمنين ينفخ في الزق كأنه حداد! وأبطل الكتاب ولم ينفذه؛ ثم كتب من بعد محمد بن عبد الملك عن المعتصم إلى عبد الله بن طاهر: "وأنت تجري أمرك على الأربح فالأربح والأرجح فالأرجح، لا تسعى بنقصان ولا تميل برجحان" فقال عبد الله الأصفهاني: قد أظهر ابن الزيات من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته منت جارته بذكر ربح السلع ورجحان الميزان ونقصان الكيل والخسران من رأس المال! فضحك المعتصم وقال: ما اسرع ما انتصف الأصفهاني من ابن الزيات! وحقدها عليه ابن الزيات حتى نكبه. 396 - ذكر إسحق بن ابراهيم عن معبد قال: استقدمني الوليد بن يزيد، فبينا أنا يوماً في بعض حمامات دمشق إذ دخل علي رجل له هيبة ومعه غلمان له، فأطلى واشتغل به أصحاب الحمام عن سائر الناس، فقلت: والله لئن لم اطلع هذا عل بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب، فاستدبرته حتى يراني ويسمع مني، ثم ترنمت، فالتفت إلى الغلمان وقال: قدموا إليه جميع ما هاهنا، فصار جميع ما كان بين يديه عندي، وأمر القوام بخدمتي فخدمت وأخرجت، وخرج، وسألني أن أصير إلى داره معه، ففعلت، ولم يدعْ من البر والإكرام شيئاً إلا أولانيه، ثم وضع النبيذ، فجعلت أغني له، ولا آتي بحسنٍ إلا وأتبعه ما هو أحس منه، وهو لا يرتاح لغنائي ولا يحفل بما يسمعه مني، فلما طال عليه أمري قال: يا غلمان، شيخنا شخنا، فأُتي بشيخٍ، فلما رآه هش به وأدناه منه، فأخذ الشيخ العود وغنى: سلَّور في القدرِ ويلي علُوه ... جاءَ القطُّ أكلهْ ويلي علُوهْ السلورُ: السمك الجرِّي بلغة أهل الشام فجعل صاحب المنزل أن يخرج من جلده طرباً، وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي، فما رأيت مثل ذلك اليوم غناء أضيع، وشيخاً أجهل. 397 - اسماعيل بن يونس عن أبي هفان قال: حضرت يوماً مجلس بعض القواد الأتراك، وكانت له ستارة فنُصبت، فقال لها: غني لي صوت الخمار الأسود المليح! فلم ندْرِ ما أراد حتى غنت: قل للمليحةِ في الخمار الأسودِ ثم قال: غني: إني خربت وجئت أنتقله! فضحكت ثم قالت: كذا يشبهك! ولم ندْر ما أراد فغنت: إن الخليط أجدَّ منتقله 398 - أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كان جعفر بن المنصور ويعرف بابن الكردية يستخف مطيع بن إياس، وكان منقطعاً إليه وله منزلة حسنة، فذكر له مطيع حماد الرواية، وكان مطرحاً مجفوا في ايامهم، فقال له حماد دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية، ومالي عند هؤلاء خيرٌ! فأبى مطيعٌ إلا الذهاب به إليه، فاستعار سواداً وسيفاً ثم أتاه فدخل على جعفر فسلم وجلس، فقال له جعفر: أنشدني، قال لمن أيها الأمير؟ فقال: لجرير؛ قال حماد: فسلخ الله تعالى مني شعر جرير أجمع من قلبي إلا قوله:

بان الخليطُ برامتينِ فودعوا واندفعت أنشده القصيدة حتى بلغت إلى قوله: وتقول بوزعُ قد دببتَ على العصا ... هلاَّ هزئتِ بغيرنا يا بوزَعُ فقال لي جعفر: أعد هذا البيت، فأعدته، فقال: ما هو بوزع؟ قلت: اسم امرأة، قال: امرأة اسمها بوزع! أنا بريء من الله ورسوله ومن العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولة من الغيلان! تركتني والله يا هذا لا أنام الليلة من الفزع ببوزع! يا غلمان اصفعوا قفاه! فصفعت حتى لم أدر أين أنا، ثم قال: جروا برجله، فجُرَّت رجلي حتى أخرجت من بين يديه، وكان أغلظ من ذلك غرامتي ثمن السواد والسيف! فلما انصرفت إلى مطيع وأخبرته قصتي جعل يتوجع لي، فقلت: ألم أخبرك أني لا أصيب من هؤلاء القوم خيراً وأن حظي كان مع بني أمية؟ فعجب مما جرى على لساني من غلطي وزللي الذي اقتضى صفعي وحرماني! 399 - ورد كثير على يزيد بن عبد الملك، فرحب به يزيد، واستنطقه فقال: يا أمير المؤمنين ما يعني الشماخ بقوله: فما أروى وإن كرمتْ علينا ... بأدنى من موقفةٍ حرونِ تطيفُ على الرماةِ وتتقيهم ... بأوعالٍ معقَّفةِ القرونِ فغضب يزيد من ذاك وقال له: وما يضر أمير المؤمنين يا ماصَّ بظر أمه ألا يعلم هذا! وإن احتاج إلى علمه سأل عبداً مثلك عن مثله! فسكنه من حضر من أهل بيته عن كثير وقالوا: كانت له عادة بمثل هذا أن يلقيه على الخلفاء وأولاد الخلفاء فجرى على تلك السنة، وأنسي ما فيها من سوء التوفيق، ولعمرنا إنه ما كان يحب له أن يبدأ بذاك، فإن أمر بمثله وأذن له فيه قاله! وخزي كثير، ولم يلتفت عليه يزيد. 400 - جحظة عن ميمون بن هرون قال: حدثني بعض من كان مختلطاً بالبرامكة قال: كنت عند ابراهيم بن المهدي وقد اصطبحنا، وعنده عمرو بن بانة وعبيد الله بن أبي غسان ومحمد بن عمرو الرومي وعمرو الغزال، ونحن في أطيب ما كنا عليه إذ غنى عمرو الغزال، وكان ابراهيم بن المهدي يستثقله إلا أنه يتخفف بين يديه ويقصده، ويبلغه عنه تقديم له وعصبية، وكان يحتمل ذاك منه؛ قال: فاندفع عمرو الغزال فتغني في عر محمد بن أمية: ما تمَّ لي يومُ سرورٍ بمنْ ... أهواهُ، مذ كنتُ، إلى الليلِ أغبطَ ما كنتُ بما نلتهُ ... منهُ أتتني الرسلُ بالويلِ لا والذي يعلمُ كل الذي ... أقولُ ذي العزةِ والطولِ ما رمتُ مذ كنتُ لكمْ سخطةً ... بالغيبِ في فعلٍ ولا قولِ فتطير ابراهيم، ووضع القدح من يده، وقال: أعوذ بالله من شر ما قلت! فوالله ما سكت حتى دخل حاجبه يعدو، فقال له: مالك؟ فقال: خرج الساعة مسرور من دار أمير المؤمنين حتى دخل على جعفر بن يحيى فلم يلبث أن خرج ورأسه بين يديه، وقُبض على أبيه وإخوته! فقال ابراهيم: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ارفع يا غلام، ارفع! فرُفع ما كان بين أيدينا، وتفرقنا، فما رأيت عمرو الغزَّال بعدها في دار ابراهيم ةوابن المهدي. 401 - الصولي عن أبي ذكوان عن محمد بن سلام قال: وجه أبو الأسود الدؤلي إلى الحصين بن أبي الحر العنبري جد عبيد الله بن الحسن القاضي، وهو يلي بعض أعمال الخراج لزياد، وإلى نعيم بن مسعود النهشلي، وكان يلي مثل ذلك، برسول وكتب معه إليهما، وأراد منهما أن يبراه، ففعل نعيم بن مسعود ذلك، ورمى الحصن بن أبي الحر بكتاب أبي الأسود وراء ظهره ولم يجبه عنه ورد الرسول، وعاد الرسول إليه بذلك، فقال يهجو الحصين: حسبتَ كتاي إذ أتاكَ تعرضاً ... لسيبكَ، لم يذهبْ رجائي هنالكما وخبرني من كنت أرسلتُ أنما ... أخذتَ كتابي معرضاً بشمالكا نظرتَ إلى عنوانهِ فنبذْتهُ ... كنبذكَ نعلاً أخلقتْ من نعالكا نعيم بنُ مسعودٍ أحقُ بما أتى ... فأنت بما تأتي حقيقٌ بذلكا يصيبُ وما يدري ويُخطي وما درى ... وكيفَ يكونُ النوكُ إلا كذلكا قال محمد بن سلام: وتقدم رجل إلى عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحر، وهو يلي القضاء بالبصرة، مع خصمٍ له فخلط عليه في قوله وفعله، فتمثل عبيد الله بقول أبي الأسود: يصيب وما يدري ويُخطي ومادرى ... وكيف يكونُ النوكُ إلا كذلكا

آخر الكتاب

فقال له الرجل: إن رأى القاضي أن يدنيني منه لأقول شيئاً فعل! فقال: أدنُ، فدنا منه وقال: إن أحق الناس بستر هذا الشعر أنت، وقد علمتَ فيمن قيل! فتبسم عبيد الله وقال: أرى فيك مصطنعاً، فقم إلى منزلك؛ وقال لخصمه: رح إلي لتأخذ مالك، فراح إليه وغرم له ما كان يدعيه. 402 - قيل لرجلٍ: بكم تبيع شاتك؟ قال: اشتريتها بخمسة، وهي خيرٌ من ستة، وقد رأيت دونها بسبعة، وقد أُعطيت بها ثمانية، وفي نفسي أني لا أبيعها بتسعة، ولكن لا أنقصها عن عشرة، فمن وزن أحد عشر وإلا لم أبعها والسلام! 403 - ابن مهرويه عن علي بن القاسم طارمة قال: كنت مع المعتصم لما غزا الروم، فجاءه بعض سراياه فأخبره بخبر ساءه، فركب من فوره، وسار أحد سير، وأنا أسايره، فسمع منشداً ينشد في عسكره: إنَّ الأمورَ إذا انسدتْ مسالكُها ... فالصبرُ يفتحُ كل ما أرتتجا لا تيأسنَّ وإن طالتْ مطالبةٌ ... إذا استعنتَ بصبرٍ أن ترى فرجا فسرَّ بذلك، وطابت نفسه، ثم التفت إلي وقال: يا علي أتروي هذا الشعر؟ قلت: نعم، قال: من يقوله؟ قلت: محمد بن بشير، فتفاءل باسمه ونسبه، وقال: أمرٌ محمود وبشرٌ سريعٌ يعقب هذا الأمر! ثم قال: أنشدني أبيات برمتها فأنشدته: ماذا يكلفكَ الروحاتِ والدلجا ... البرَّ طوراً وطوراً تركبُ اللُّججا كم من فتىً قصرتْ في الرزق خطوتُهُ ... ألفيتهُ بسهام الرزق قد فَلَجا لا تيأسنَّ وإن طالتْ مطالبةٌ ... إذا استعنتَ بصبرٍ أن ترى فرَجا إن الأمور إ ذا انسدَّتْ مسالكها ... فالصبرُ يفتحُ منها كل ما ارتتجا أخلقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجتهِ ... ومدمنِ القرعِ للأبوابِ أن يلِجا فاطلب لرجلك قبلَ الخطوِ موقعَها ... فمن علا زلقاً عن غرةٍ زلجا فلا يغرَّنك صفوٌ أنتَ شاربُهُ ... فربما كانَ بالتكديرِ ممتزحا لا ينتجُ الناس إلا من لقاحهمُ ... يبدو لقاحُ الفتى يوماً إذا نُتجا قال: وأصاب من ذلك الوجه ما أحب، وزال ماكره، وعاد غانماً مسروراً. 404 - ذكر جحظة أن أبا الفضل بن القصار المعروف ببردِ الخيار مر يوماً على أبيه وهو يقصر في دكانه، ومعه غلامٌ يحمل قاطر ميز نبيذ وجوا مرجه مذبوحة مسموطة، وقد صار طنبورياً وأيسر، فقال: الحمد لله الذي جعل ابني وأرانيه قبل أن أموت ممن يأكل لحم الجوانيرات ويشرب نبيذ القامرطيزات يريد القاطرميزات! 405 - أبو إسحق محمد بن هرون بن عيسى بن ابراهيم المعروف بابن شبرمة قال: كنا عند عبد الله بن أيوب، وكان يحدثنا بالعشيات، فخرج فقعد للحديث، فخرج طفلان صغيران، فقال له بعض من كان معنا: يا أبا محمد هؤلاء أولادك؟ يا أبا محمد تعرف ذلك الحديث؟ قال: أي حديث؟ قال: "قيل: يولد لابن ثمانين؟ قيل: نعم، إذا كان في جواره ابن عشرين! " فأطرق ابن أيوب وغضب غضباً شديداً وقال: لأحدثتكم العشية! ماذا التهجم وسوء الأدب؟ فحلف الرجل أنه سهل وغلط، ولم يورد ذلك على أصلٍ ولا عن قصد! فقلنا له: قد جئناك من مكانٍ بعيد من المدينة! قال: قد قلتُ لا أحدثكم، ادخلوا إلى ابني فاكتبوا عنه فإنه قد سمع من سعيد بن سعيد بن محمد الحرمي! وتركنا ودخل، ولم ينتفع به أحد من بعد؛ وكنا دائماً ندم المخاطب له تلك العشية ونلومه ونوبخه. آخر الكتاب، ولواهب العقل الحمد دائماً كما هو أهله ومستحقه، وصلواته على سيدنا ومولانا محمد النبي وآله، وسلامه. ووافق الفراغ من تعليقه يوم الأحد ثامن عشر شوال سنة سبع وأربعين وستمائة.

§1/1